فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية: الحج والعمرة المجلد 7

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء السابع

الحج والعمرة

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف- 1441 ه_/2020م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

البحث الأول: إجزاء الوقوف في عرفة مع العامة عند الاختلاف في الهلال

اشارة

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الأول:

إجزاء الوقوف في عرفة مع العامة عند الاختلاف في الهلال(1)

الوقوف في عرفة من الواجبات الموقّتة بزمان معين وهو التاسع من ذي الحجة، فيشترط في صحته الإتيان به في وقته المعتبر شرعاً، وهنا توجد مشكلة إذ أن مشاعر الحج تحت سلطة حكامٍ من العامة، وهؤلاء قد يثبت الهلال عندهم على خلاف ما يثبت عندنا بحجة شرعية، فأداء المناسك تبعاً لتوقيتاتهم يوقع الأفعال في غير وقتها الصحيح ومقتضى القاعدة بطلان الفعل وعدم الاجتزاء به؛ لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به، وقد لا يتسنى للحاج مخالفتهم والإتيان بالفعل في أوقاته الشرعية ولو في صورته الاضطرارية خصوصاً في الأعصار الأخيرة حيث تتشدد السلطات في تسيير الحجاج وفق البرامج المعدّة لهم، فيكون من المتعذّر مخالفة السلطة، والمورد من أوضح مصاديق التقية، فماذا يفعل الحجاج؟.

وهنا اختلف الفقهاء في إجزاء الوقوف معهم، فمنهم من عمل بمقتضى القاعدة لعدم وجود دليل يخرج المورد منها فذهب إلى عدم الإجزاء وألزم بالإتيان بالوقوف الاضطراري وإن لم يتمكن بطل حجه وأحلّ من إحرامه بعمرة مفردة وعليه الحج من قابل إن كانت ذمته مشغولة بالحج وإن كانت استطاعته لتلك السنة فإنها تسقط، قال السيد الشاهرودي (قدس سره): ((فعليه الرواح إلى الحج في كل عام ما لم يكن حرجياً عليه حتى يحصل التوافق لأن يأتي بالحج جامعاً للشرائط وإذا لم يحصل التوافق ولم يتمكن من الوقوف أصلاً فيوصي بالحج))((2).

ص: 7


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 4/ رجب /1438 الموافق 2/4/2017.
2- تقريرات كتاب الحج بقلم الشيخ محمد إبراهيم الجناتي: 3/338.

ومنهم من قال بالإجزاء ولو في الجملة لوجود الدليل الخاص عليه فيخرجه من القاعدة، ثم اختلفوا في سعة هذا الدليل فقال بعض بالإجزاء مطلقاً وقال بعض بالإجزاء في ما إذا لم يعلم بمخالفة وقتهم للواقع وإلا فالبطلان.

ومنهم من توقف في المسألة ولم يستطع حل الإشكال فأرجع المكلفين إلى غيره فيها بحسب مراتب الأعلمية، قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: ((نحن لا نفتي بالإجزاء بالحج معهم إذا كان مخالفاً لما تقتضيه الموازين الشرعية لثبوت الهلال كما لا نفتي بعدم الإجزاء))(1).والملفت أن الأصحاب (قدس الله أرواحهم) لم يتعرضوا للمسألة أبداً حتى أن العلامة الحلي في التذكرة والمنتهى والشهيد الأول في الدروس تعرّضاً لما ذكره بعض فقهاء العامة من (الحكم بعدم الاجتزاء بالوقوف بعرفات يوم التروية معللاً ذلك بأنه لا يقع فيه الخطأ لأن نسيان العدد لا يتصور من العدد الكبير)(2)

ولم يعقبا على ذلك بأن الوقوف في يوم التروية مما يبتلى به الشيعة تقية ممن بيده أمر الموقف من العامة ولا بحثوا عن الاجتزاء وعدمه.

وأقرّ صاحب الجواهر (قدس سره) بعدم تعرضهم للمسألة، قال في ذيل مسألة الوقوف في غير التاسع غلطاً في الحساب: ((نعم بقي شيء مهم تشتد الحاجة إليه وكأنه أولى من ذلك كله بالذكر، وهو أنه لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصحّ للإمامي الوقوف معهم ويجزي أو لا يجزي؟ لم أجد لهم كلاماً في ذلك))(3).

نعم للشهيد الثاني (قدس سره) إشارة مقتضبة إلى المشكلة في باب ((الإحصار والصد)) من جهة أن من يريد الوقوف في الزمن المعتبر شرعاً مع

ص: 8


1- ملحق مناسك الحج للسيد السيستاني: 308.
2- منتهى المطلب: 11/61، تذكرة الفقهاء: 8/190.
3- جواهر الكلام: 19/32.

مخالفته لتوقيت السلطة يصدق عليه الصدّ لمنع السلطات منه، قال (قدس سره): ((ومن هذا الباب -أي الصد- ما لو وقف العامة بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم لا عندنا، ولم يمكن التأخر عنهم لخوف العدو منهم أو من غيرهم فإن التقية هنا لم تثبت))(1)

وظاهره أنه (قدس سره) اختار عدم الإجزاء ولزوم الإعادة في الوقت المعتبر، وإن لم يذكر كلامه هذا في باب الوقوف بعرفة وضمن الاستدلال على إجزاء هذا الوقوف وعدمه.

ولم تحرّك هذه الإشارة منه (قدس سره) أحداً ممن جاء بعده من الأعلام كصاحبي المدارك والحدائق (قدس الله سريهما) للبحث في المسألة حتى مطلع القرن الثالث عشر حيث نسب صاحب الجواهر (قدس سره) الحكم بالإجزاء إلى السيد بحر العلوم (قدس سره) قال: ((وقد عثرت على الحكم بذلك -أي الإجزاء- منسوباً للعلامة الطباطبائي)) وحكى عنه البعض قوله: ((في رسالة متعلقة بالحج: إذا ثبت الهلال عندهم، ولم يثبت عندنا، أو يثبت العدم، هل يلزمنا العمل على مقتضى ما عندهم من ثبوته موافقة لهم أو لزم غيرها والعمل صحيح، أم يعاد بعد التمكن أو لا بد منه مطلقاً؟ الأقرب جريان التقية في مثله، فيكون العمل على مقتضاه صحيحاً مجزياً، وإن كان الإعادة مع التمكن أحوط))(2).

وتبعه المحقق آقا محمد علي ابن الوحيد البهبهاني في مقامع الفضل قال: ((ما تعريبه: لو اشتبه الهلال في ذي الحجة، وبني العامة على طرفٍ فلو أمكن للشيعة الوقوفان، بدون أن يوجب عملهم خلافاً للتقية، إلى أن قال: وجب الإتيان بالوقوفين على النهج المقرر شرعاً، وإلا وجبت الموافقة تقية، والحج

ص: 9


1- مسالك الأفهام: 2/391.
2- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 44/114.

صحيح إلى أن قال: وهكذا حكم الصلاة والوضوء والغسل والتيمم والصوم))(1).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ولا يبعد القول بالإجزاء هنا إلحاقا له بالحكم للحرج، واحتمال مثله في القضاء)) أي ولاحتمال تكرر نفس المشكلة في العام القادم فلا يستطيع القضاء، ثم قال (قدس سره): ((ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه))، واختار القول بالإجزاء مطلقاً من المعاصرين السيد الخميني (قدس سره) وتبعه بعض تلامذته.

وقال بعضٌ بعدم الإجزاء منهم صاحب الجواهر نفسه في رسالته العملية نجاة العباد حيث قال (قدس سره): ((إنه لا يجزي الوقوف معهم على الأحوط إن لم يكن أقوى))(2)،وربما أراد بكلامه منع إطلاق القول بالإجزاء.

ووافقه الشيخ الأنصاري (قدس سره) حيث أمضى كلامه في تعليقه على الرسالة، وحكي في موسوعة رؤية الهلال عنه في مناسك الحج بالفارسية ما ترجمته بحسب بعض المصادر: ((إذا ثبت الهلال عند قاضي العامة وحكم بذلك ولم يثبت عند الشيعة فإن أمكن المخالفة معهم وأدرك الوقوف بعرفات ولو اضطراريه عمل بذلك وإن لم يمكن، فإن أمكنه الوقوف في المشعر كفى وصحّ حجّه وإلا فسد في ذلك العام، والحاصل أن التقية في هذا المقام لا تصحح العمل على الأحوط الأقوى)).

وتبعه عدد كبير من تلامذته ومن جاء بعدهم في حواشيهم المطبوعة على مناسكه كالمجدد الشيرازي وصاحبي العروة والكفاية والشيخ محمد تقي الشيرازي، وحكي القول بعدم الإجزاء أيضاً عن المحقق القمي في جامع الشتات والميرزا النائيني والسيد محمود الشاهرودي وآخرين (قدس الله أرواحهم).

ص: 10


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 44/114.
2- ملحق مناسك الحج للسيد السيستاني: 323.

وذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى التفصيل فقال بإجزاء الوقوف معهم إذا احتمل مطابقتهم للواقع وعدم الإجزاء عند العلم بمخالفتهم للواقع، ووافقه على ذلك الشهيدان الصدران والشيخ المنتظري(1)

(قدس الله أرواحهم جميعاً).ومنهم من كان له قولان أحدهما قبل رجوع الناس إليه بعدم الإجزاء وآخر بعد اتساع مرجعيته وشعوره بالحرج الذي يسببه هذا القول لعموم الحجاج فأعاد النظر في المسألة فخلص إلى القول بالإجزاء ولو في الجملة كما حكي عن السيدين أبي الحسن الأصفهاني والبروجردي (قدس الله روحيهما)، وألّف بعض تلامذة(2)

السيد الأصفهاني رسالة في الإجزاء وفاقاً لأستاذه سمّاها (إعلام العامة في صحة الحاج مع العامة).

وخلاصة الكلام أن القائل بعدم الإجزاء عمل بمقتضى القاعدة بعد عدم تمامية شيء مما ذكروه للاستدلال على الإجزاء ولو في الجملة فالبحث حقيقة في صحة ما استدل به على الإجزاء.

الاستدلال على الإجزاء في الجملة:

ويستدل على الإجزاء بوجوه يمكن جعلها في قسمين:

أولهما: الأدلة الخاصة: أي المرتبطة بالمسألة مباشرة.

ثانيهما: الأدلة العامة: وهي مجموعة القواعد التي يجري تطبيقها على المسألة كنفي العسر والحرج أو عدم سقوط الميسور بالمعسور أو حديث الرفع وأدلة التقية والاضطرار ونحوها.

ص: 11


1- موجز أحكام الحج للشهيد الصدر الأول: 183، الفقرة 146، مناسك الحج للشهيد الصدر الثاني: 146 المسألة 336، مناسك الحج والعمرة للشيخ المنتظري: 193.
2- المرحوم الشيخ عبد النبي العراقي وطبع الرسالة سنة 1364، أي في حياة أستاذه ونقل أن وفاته كانت في قم سنة 1385.

القسم الأول: الأدلة الخاصة:

اشارة

ويمكن تقريب عدة وجوه:

(الوجه الأول): قوله تعالى: «ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ» (البقرة:199) فالآية الكريمة تأمر بالإفاضة من عرفات أو من المشعر الحرام من حيث أفاض عامة المسلمين وعدم الانفصال عنهم لأي سبب كان.

وفي تفسير العياشي عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أولئك قريش كانوا يقولون: نحن أولى الناس بالبيت، ولا يفيضون إلا من المزدلفة فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفة)(1).

وتتمة الاستدلال أن الأمر بالإفاضة مع الناس مطلق شامل للمكان والزمان؛ لأن «حيث» ظرف يفيد مطلق الحيثية حتى التعليلية والتقييدية كما نتداول في علم الأصول فمثلاً يقال الإنسان من حيث أنه عاقل صحّ تكليفه ونحو ذلك، وإن كانتتستعمل للمكان أكثر كما صرّح أصحاب المعاجم، إلا أنه نقل في مغني اللبيب عن الأخفش قوله: ((وقد ترد للزمان)).

وإن أبيت دلالتها وضعاً على الزمان قرّبناها بوجه آخر وهو أن الإفاضة المكانية مع الناس تستلزم الإفاضة معهم زماناً.

ويدل عليه صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا غربت الشمس فأفض مع الناس وعليك السكينة والوقار، وأفض من حيث أفاض الناس)(2).

وإن الروايات الواردة في سبب النزول -كرواية العياشي السابقة في كون الإفاضة من عرفة- أو ذكر بعض مصاديقه لا تخصص الوارد ولا تقيد إطلاقه كما هو واضح.

ص: 12


1- تفسير العياشي: 1/97، ح 264.
2- وسائل الشيعة: 14/5، أبواب الوقوف بالمشعر، باب 1، ح1.

بل إن تفسير الإفاضة بعرفة هو من التمسك بإطلاق النص وعمومه لأن ظاهر الآية الأمر بالإفاضة من مزدلفة حيث كانت الآية السابقة «فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ» (البقرة:198) فالأمر بالإفاضة مع الناس إنما هو من مزدلفة وقد فسّرته الرواية من عرفة.

وتكفينا مؤونة الاستدلال على شمول الإفاضة للزمان والأحوال رواية الشيخ في التهذيب بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ثم أفض حين يشرق لك ثبير وترى الإبل مواضع أخفافها، قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أهل الجاهلية يقولون: أشرق ثبير، يعنون الشمس كيما نغير، وإنما أفاض رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلاف أهل الجاهلية كانوا يفيضون بإيجاف الخيل وإيضاع الإبل - أي إسراعها في السير- فأفاض رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلاف ذلك بالسكينة والوقار والدعة، فأفض بذكر الله والاستغفار)(1).

نعم قد يستشكل بأنه وردت روايات في تفسير الآية تدل على أن المراد بالناس المعصومون (عليهم السلام) كصحيحة معاوية بن عمار في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقام بالمدينة عشر سنين - وذكر حج النبي (صلى الله عليه وآله)، إلى أن قال: .. حتى أتى منى فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر ثم غدا والناس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون فأنزل الله تعالى عليه «ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ»، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم)(2).

ص: 13


1- التهذيب: 5/192.
2- الكافي: 4/247، ح4.

وفيه أيضاً بسنده عن الإمام الحسين (عليه السلام) في حديث قال: (نحن الناس فلذلك قال الله تبارك وتعالى ذكره في الكتاب «ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ» فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أفاض بالناس)(1).

وتشهد لهذا المعنى الروايات الكثيرة التي وردت في تفسير قوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً» (النساء:54) ومن تلك الروايات صحيحة بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (فنحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون الخلق جميعاً)(2).

أقول: هذا التفسير لا يضر بالاستدلال:-

أ- لأنه من التأويل وبيان حقيقة المعنى ومصداقه الكامل فلا ينافي العمل بظاهر الآية المراد به عموم الناس؛ لذا جاء في الآية التالية «فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ» (البقرة:200) وليس المراد بهم المعصومين (عليهم السلام) قطعاً.

ب- إن المعصومين كانوا يقفون مع الناس في عرفة ولم ينفصلوا عنهم فالوقوف مع عامة الناس اتباع لسيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وأخذ بهذا التفسير الخاص.

ج_- إن غاية ما يفيد الإشكال هو لزوم الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ونحن لا ننكر أن هذا هو الحكم الأولي ومقتضى القاعدة في المسألة، ومحل كلامنا هو في طروّ عنوان ثانوي وهو منع السلطات من الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً فلا تنافي.

وستأتي تفاصيل أكثر عند مناقشة الرواية التالية وإنما أردنا التبرك بالافتتاح بالآيات الكريمة بفضل الله تعالى.

ص: 14


1- الكافي: 8/224، ح 339.
2- راجع الروايات ومصادرها في تفسير البرهان: 3/74.

(الوجه الثاني): رواية الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن محمد عن العباس عن عبد الله بن المغيرة عن أبي الجارود قال: (سأل أبا جعفر (عليه السلام): إنا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وكان بعض أصحابنا يضحي، فقال: الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس والصوم يوم يصوم الناس)(1).

أقول: تقريب الاستدلال أن الصوم والإفطار والحج يكون مع عامة الناس، فنزَّل الإمام (عليه السلام) يوم الأضحى لدى الناس منزلة الأضحى الواقعي أي أن ما تؤديه من الأعمال والمناسك متابعة للناس في أضحاهم مجزٍ وصحيح شرعاً.أو بتقريب أن الشارع المقدّس وسّع زمان الأضحى ليشمل الأضحى عند الناس كما وسّع مكان المشعر الحرام في مزدلفة وأدخل فيها المأزمين عند كثرة الناس ببركة رواية سماعة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا كثر الناس بجمع وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ قال: يرتفعون إلى المأزمين)(2).

وهذا التنزيل حاكم على مقتضى القاعدة. ومقتضى الملازمة لدى العرف سريان هذا التنزيل إلى سائر المناسك ومنها الوقوف في عرفة، فيوم عرفة الفعلي الذي يقف فيه الناس ولو لاتباعهم السلطة الحاكمة هو يوم عرفة لدى الشارع المقدس ويصح الوقوف فيه.

ونوقش الاستدلال من حيث السند والدلالة.

أما السند فمن جهات بعد نفي الإشكال عن (العباس) الذي هو ابن معروف وعبد الله بن المغيرة:-

1- شبهة الإرسال في رواية عبد الله بن المغيرة عن أبي الجارود بلحاظ طبقات الرواة نظير ما قلناه في بحث إرث الزوجة من العقار بخصوص

ص: 15


1- وسائل الشيعة: 10/133، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح7.
2- وسائل الشيعة:14/19، كتاب الحج: أبواب الوقوف بالمشعر، باب 9، ح1.

رواية الحسن بن محبوب عن مؤمن الطاق وأبي حمزة الثمالي، فإن عبد الله بن المغيرة من طبقة ابن محبوب، وأبو الجارود من طبقة مؤمن الطاق والثمالي، ومن المعلوم أن الرواة لم يكونوا يرون بأساً في نسبة السماع إلى من لم يرو عنه اعتماداً على قرينةٍ ما، كقول الصدوق في موضع من الأمالي: ((وحدثنا محمد بن الحسن الصفار)) الظاهرة بالمباشرة مع أن الصفار توفي سنة 290 وولادة الصدوق بعد سنة 300 هجرية والصحيح أنه يروي عنه بواسطة شيخه محمد بن الحسن بن الوليد كما صرّح به(1)،مما يدل على وجود سقط في السند فالمقام من هذا القبيل.

هذا ولكننا أجبنا في ذلك البحث(2) عن هذا الإشكال بوجوه، والأمر هنا أبعد لعدم تصور تدليس عبد الله بن المغيرة جليل القدر، وابن المغيرة أسنّ من ابن محبوب، وقد روى عن ابن المغيرة من روى عن أصحاب الصادق (عليه السلام) كأيوب بن نوح فروايته عن أبي الجارود ليست بعيدة.

2- إجمال عنوان (محمد) صاحب الأصل الذي نقل الشيخ الرواية منه وقد فسّره صاحب الوسائل بأنه محمد بن علي بن محبوب في الرواية السابقة على هذه وقال فيها: ((محمد بن الحسن بإسناده عن محمد -يعني ابن علي بن محبوب- عن ابن أبي مسروق النهدي ..)) ثم قال: ((وعنه)) وذكر رواية أبي الجارود.

وجزم به في جامع أحاديث الشيعة بحيث ثبته في المتن والكتاب بإشراف السيد البروجردي خريت هذه الصناعة كما وصف. ولعل الوجه فيه أن الشيخ صرّح في الحديث 31 من باب الزيادات في نهاية كتاب الحج أنه ينقله عن أصل محمد بن علي بن محبوب ثم نقل الحديث 32 من كتاب علي بن جعفر ثم قال في الحديث 33: ((محمد عن الهيثم

ص: 16


1- معجم رجال الحديث: 16/265.
2- فقه الخلاف: 11/ 283، ط. الثانية.

بن أبي مسروق)) وفي الحديث 34 ((وعنه عن العباس))، فالظاهر أنها من نفس أصل ابن محبوب لذا اكتفى بذكر اسمه محمد ولم يعتن بتخلل رواية ابن جعفر لأنها ذُكرت لمناسبتها للحديث 31 استطراداً فلم تقدح عنده بتسلسل المنقول عن صاحب الأصل.

وعلى أي حال فإن هذا الإجمال لا يضر هنا لأن (محمد) المشترك في الرواية عن العباس وعن الهيثم أحد ثلاثة: (محمد بن أحمد بن يحيى، محمد بن علي بن محبوب، محمد بن الحسن الصفار) وكلهم من الثقات، وطرق الشيخ إليهم صحيحة فلا إشكال من هذه الجهة.

1- من جهة أبي الجارود فإنه لم يرد فيه توثيق، بل أورد الكشي عدة روايات في ذمه.

ويمكن رد الإشكال بأن هذه الروايات كلها ضعيفة وترجع إلى اعتناقه مذهب الزيدية وليس من حيث وثاقته وانحراف العقيدة لا يضرّ بالوثاقة وبعضها لا وجه له كصدور الذم من الإمام الباقر (عليه السلام) مع أن عقيدة الزيدية نشأت بعد استشهاده (عليه السلام).

وفي مقابل ذلك يمكن إيراد عدة قرائن على اعتماد روايته، منها:

توثيق الشيخ المفيد (قدس سره) في رسالته العددية ووصفه مع جماعة فيها بأنه ((من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم))(1)،وبنى السيد الخوئي (قدس سره) على هذا التوثيق فوصف السند بالمعتبر(2).

هذا ولكن البعض قلل من أهمية هذا الكلام وإفادته وثاقة المذكورين باعتبار وجود مجهولين لم تثبت وثاقتهم فضلاً عن كونهم من أعلام الدين فيمن سماهم فوصف الجماعة على نحو

ص: 17


1- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: 8/335.
2- المعتمد في شرح المناسك من موسوعة السيد الخوئي: 29/126.

العموم فيه مغالاة لذا يرى البعض أن الشيخ المفيد كان بصدد تقوية رده على القائلين بثبوت شهر رمضان بالعدد من خلال تقوية من يوافقونه في الرأي. ولأن أكثر المذكورين هم كذلك في الجملة، لكنه لا يفيد توثيقهم واحداً واحداً. أقول: وجود بعض المجهولين لا يسقط الكلمة عن إفادة التوثيق عنأ - الجميع، كما أن رواية ابن أبي عمير والبزنطي عن بعض الضعفاء لم يسقط كبرى أنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، لذا فإن كلام الشيخ المفيد يمكن الأخذ به ما لم يثبت الخلاف.

ب - قول ابن الغضائري المعروف بالطعن أن ((أصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الأرحبي))(1).

وهذا يعني عدم وجود مشكلة في وثاقة أبي الجارود نفسه.

وقد يجاب: بأن هذا الكلام ليس بصدد بيان توثيق المروي عنه وإنما لتفضيل بعض الرواة على بعض، وتقوية واعتماد طريق دون آخر ممن روى عنه لأمرٍ أو لآخر ككون الأرحبي ممن أخذ من أبي الجارود شفاهاً وليس من كتبه أو بواسطة أحد بعكس ابن سنان الذي لم يثبت إدراكه لأبي الجارود فإن الأرحبي أسبق طبقة من محمد بن سنان ونحو ذلك.

لكن هذه المناقشة يمكن ردها بعدم وجود وجه حينئذٍ لذكرها عند أبي الجارود لأن المفروض أنها ملاحظة عامة للراويين، ولا خصوصية لروايتهم عن أبي الجارود.

ج_- استناداً إلى بعض الكبريات كرواية محمد بن أبي عمير عنه وهو من الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، وكرواية عبد الله بن المغيرة عنه كما في المقام وهو من أصحاب الإجماع

ص: 18


1- الرجال، لابن الغضائري: 61، رقم الترجمة (51).

ونحو ذلك من المباني التامة عند البعض كبروياً وصغروياً بعد إلغاء احتمال شبهة الإرسال.

فإذا حصل الاطمئنان بالوثاقة لبعض مما ذكرناه فهو، ولو تنزلنا واعترفنا بضعف السند فإنه منجبر -عند البعض- بعمل الأصحاب بمضمونها لتسالمهم على الوقوف مع العامة واجتزائهم به حتى أنهم لم يتعرضوا للمسألة أصلاً مع أهميتها وركنية الوقوف في عبادة الحج العظيمة، ويمكن المناقشة في هذه النقطة كبروياً واحتمال استناد عمل الأصحاب إلى بعض الوجوه الأخرى كما لا يخفى على الناظر في كلماتهم.

أما عقيدته فتوجد بعض الدلائل على رجوعه إلى الإمام الحق، فقد روى الشيخ الصدوق في العيون بسند مقبول عن الحسن بن محبوب عنه أكثر من رواية في النص على الأئمة الاثني عشر وأسماءهم مما يعني رجوعه إلى العقيدة الحقة لأن ابن محبوب لم يدرك الإمام الصادق (عليه السلام) فنقْله عن أبي الجارود كان في زمان متأخر كثيراً عن حركة زيد الشهيد.

وللمحدث النوري تحقيق في توثيقه قال: ((وأما أبو الجارود فالذي يقتضيه النظر بعد التأمل في ما ورد في ما قالوا فيه أنه كان ثقة في النقل مقبول الرواية معتمداً في الحديث))(1).وعلى أي حال فالرواية قابلة للاعتماد عليها إذا وجد شاهد عليها ولم يعارضها ما هو أقوى منها، وقد وصفها بعض الأعلام بالموثقة(2).

وأما الدلالة فأشكل عليها من عدة جهات:-

1- ركاكة المتن في أكثر من موضع فتارة يقول الراوي: سأل أبا جعفر (عليه السلام) (إنا شككنا سنة) الظاهرة في كون السؤال متأخراً عن الواقعة،

ص: 19


1- خاتمة مستدرك الوسائل: 5/421 في شرح مشيخة الفقيه.
2- تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة للفاضل اللنكراني: 5/106.

وتارة يقول: (فلما دخلت على أبي جعفر (عليه السلام)) الظاهرة في كون السؤال حين الواقعة، والموضع الآخر في قوله: (شككنا سنة في عام من الأعوام).

وجوابه:-

أ- أننا لا نرى خللاً في الرواية وإنما حصل تداخل بين كلام أبي الجارود والراوي عنه، فالحادثة وقعت في بعض السنين السابقة ورواها أبو الجارود لابن المغيرة، ففقرة (سأل أبا جعفر) من كلام ابن المغيرة وبقية الكلام لأبي الجارود.

ب- ولو تنزلنا فإن هذا لا يخلّ بفهم المقصود من السؤال وهي الحالة محل البحث، وإن هذا الخلل في صياغة السؤال لا يؤثر على ما هو الحجة وهو جواب الإمام (عليه السلام) الظاهر في التنزيل.

2- إن الرواية غير ناظرة إلى محل البحث لأنها تتحدث عن تنزيل الأضحى وليس تنزيل عرفة ولا ملازمة بين التنزيلين ، قال السيد الشاهرودي (قدس سره): ((إن تنزيل التضحية الصادرة عن تقية منزلة التضحية الواقعية لا يلازم تنزيل الوقوف التقيتي منزلة الوقوف الحقيقي الذي هو المدعى))(1).

وجوابه: إن العرف لا يتردد في فهم الملازمة للارتباط بين المناسك، بل يستهجن العرف تعداد كل المناسك ويراه لغواً للاكتفاء باعتبار الأضحى وتترتب عليه بقية المناسك، وهذا المعنى مرتكز في أذهان الفقهاء لذلك فقد عنونوا المسألة بالوقوف في عرفة مع أنها جارية في بقية المناسك التالية له. كما لو اكتفى باعتبار أول الشهر مثلاً لمعرفة بقية التوقيتات، مضافاً إلى أننا لو لم نقل بهذه الملازمة فإن عرفة والعيد

ص: 20


1- تقريرات أبحاث المرحوم السيد محمود الشاهرودي في كتاب الحج بقلم الشيخ محمد إبراهيم الجناتي: 3/341.

ستكون في يوم واحد، وهو كما ترى.

ومنه يُعلم النظر في ما أفاده بعض المعاصرين من ((أن جعل شيء بالحكومة متصفاً بصفة ومحكوماً بكونه كذا لا يستلزم إعمال الحكومة بالنسبةإلى لوازمه، مثلاً إذا حكم الحاكم بأن فلاناً أخ لي هل يستلزم أن يكون الشخص الذي اعتبر كونه أخاً صيرورته وارثاً وعماً لأولاده؟ كلا))(1).

ووجه النظر أن كلامنا ليس في الكبرى وإنما في الصغرى حيث ندعي فهم العرف للملازمة في المقام لا مطلقاً، مثلاً لو ورد في الرواية أن العيد يوم يعيّد الناس لاحتملنا الخصوصية باعتبار أن العيد مناسبة دينية واجتماعية يمكن أن تكون لها خصوصيات لا تسري إلى غيرها، لكن الرواية عبّرت بالأضحية أي ذبح أو نحر الهدي، وهو من مناسك الحج التي تلازمها بقية المناسك.

1- إن الاستدلال إنما يتم بناءً على كون المراد بالناس في الحديث المخالفين خاصة لينسجم مع عنوان المسألة الذي هو الوقوف مع المخالفين كالذي ورد في خبر إسماعيل بن نجيح الرمّاح (ألا لا إثم عليه لمن اتقى إنما هي لكم والناس سواد وأنتم الحاج)(2)

وفي خبر جعفر بن عيسى قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن صوم عاشوراء وما يقول الناس فيه، فقال: عن صوم ابن مرجانة تسألني؟)(3).

وظاهر المراد في الرواية المسلمين عامة كما في روايات كثيرة مثل خبر محمد بن أحمد قال: (إذا أصبح الناس صياماً ولم يروا الهلال وجاء قوم عدول يشهدون على

ص: 21


1- مصباح الناسك للسيد تقي الطباطبائي القمي: 2/252.
2- الكافي: 4/523.
3- الكافي: 4/146.

الرؤية فليفطروا وليخرجوا من الغد أول النهار إلى عيدهم)(1)،فلا يتم الاستدلال.

وجوابه: أن هذا لا يضر بالاستدلال لأن نسبة الشيعة إلى مجموع الحجاج قد تصل إلى عشرة بالمائة تقريباً كما هو مشاهد ومعلوم فيبقى المخالفون هم الذين يحددون الحركة، مضافاً إلى أنه على هذا يكون الدليل أعم من المطلوب وهذا لا ضير فيه، والمهم توفّر النكتة في التنزيل وهي لزوم متابعة الناس الذين تسيّرهم السلطة المسيطرة على الحرمين وفق برنامجها عند تعذّر مخالفتهم والأمر لا يختص بالمخالفين، كما لو فرض أن السلطة كانت من المنتسبين لأهل البيت (عليهم السلام) ويثبت الهلال عندهم برؤيته بالعين المسلحة في أي جزء من العالم فسيكون أضحاهم قبل المخالفين أحياناً فضلاً عن الإمامية فإذا كانوا يلزمون الحجاج بمتابعة توقيتاهم وجب العمل عليها.

4- قول السيد الشاهرودي (قدس سره): ((إنه يمكن أن لا يكون هذا الحديث من أخبار حكم التقية لقوة احتمال كونه في مقام بيان حجية الشياع على ثبوت الهلال))(2)،وتبعه على ذلك بعض من حضرنا بحثه الشريف فاستشكل على الرواية من جهة المتن ((لأن المراد بكون الصوم يوم يصوم الناس من جهة استهلاله فإذا حصل لك العلم من ذلك فافعل))(3).

بيانه: أن الحديث ليس في مقام التنزيل والتوسعة على نحو الحكومة مراعاة لظرف التقية كما قرّب المستدل، وإنما هو ظاهر في كفاية الشياع لدى المسلمين لثبوت الهلال باعتبار أن القاعدة في ثبوت الهلال هي

ص: 22


1- الكافي: 4/169.
2- تقريرات السيد محمود الشاهرودي: 3/243.
3- من تقريرات بحثه في جمادى الأولى 1417 وتجدها كاملة في فقه الخلاف: 1/79.

الرؤية المباشرة أو شهادة البينة الشرعية عليها، فهذا الحديث يؤسس لأمارة أخرى وهو الشياع باعتباره كاشفاً عن ثبوت الهلال بأحد الأمرين السابقين، ولا يحتاج المكلف أن يفحص عن تحققهما، ومثل هذه الأمارية والكاشفية في أفعال المسلمين معمول بها شرعاً كأمارية اليد على الملكية وحمل الفعل على الصحة وسوق المسلمين على الحلية ونحو ذلك.

فيكون هذا الحديث نظير رواية عبد الحميد الأزدي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في الجبل في القرية فيها خمسمائة من الناس، فقال: إذا كان كذلك فصم بصيامهم وافطر بفطرهم)(1).

وقد علّق الشيخ (قدس سره) في التهذيب على هذه الرواية بهذا المعنى كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولأبي الجارود رواية أخرى تصلح شاهداً على إرادة هذا المعنى أوردها الشيخ (قدس سره) قال فيها (سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول: صم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت)(2).

فذيل الرواية شاهد على هذا المعنى فإن استدلال الإمام (عليه السلام) بمضمون آية جعل الأهلة مواقيت للناس يناسب هذا المعنى أي أنها تلزم بالعمل بالحجة الشرعية لتحديد وقت الصيام والإفطار والحج وقد ورد هذا في رواية الشيخ في التهذيب بسنده عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (في قول الله عز وجل: «قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (البقرة:189) قال: لصومهم وفطرهم وحجهم)(3) فجاءت

ص: 23


1- وسائل الشيعة: 10/293، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح3.
2- وسائل الشيعة: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح4.
3- وسائل الشيعة: 13/562، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة: باب 27، ح1.

رواية أبي الجارود لتقول أنه يمكن اكتشافتحقق الحجة الشرعية بصيام الناس وإفطارهم لحمل فعل المسلمين على الصحة كما قدّمنا.

وإيراد الآية لا يناسب حمل الرواية على معنى التنزيل الذي تمسّك به المستدل بل هو على خلافه ومناقض له بالتقريب الذي ذكرناه آنفاً.

قال صاحب الحدائق (قدس سره) عن روايتي أبي الجارود ورواية الأزدي: ((وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة الدلالة بل صريحة المقالة على وجوب الصوم والإفطار متى شاعت الرؤية بين الناس واشتهرت بحيث صاموا وافطروا من غير نظر إلى أن يكون فيهم عدلان أم لا، لأن الحكم فيها إنما علق على الكثرة والاتفاق على ذلك.

قال الشيخ (قدس سره) في التهذيب بعد نقل رواية عبد الحميد: يريد عليه السلام بذلك أن صومهم إنما يكون بالرؤية فإذا لم يستفض الخبر عندهم برؤية الهلال لم يصوموا على ما جرت به العادة في بلاد الإسلام. انتهى. وهو مؤيد لما قلناه وظاهر في ما ادعيناه))(1).

أقول: هذا الإشكال مبني على افتراض أن صوم الناس وفطرهم مستند إلى مراعاتهم للحجة الشرعية في ثبوت الهلال بالرؤية الوجدانية أو البينة العادلة فلوحظ الشياع بينهم في رواية أبي الجارود على نحو الموضوعية لكن الظاهر أنه مأخوذ على نحو الطريقية أي بلحاظ كونهم تابعين لحكم السلطة الدينية عندهم وعاملين بأمرها في تحديد المواقيت للناس لأن العمل عندهم على هذا الأساس، ولأن السلطان هو الذي يجمعهم على رأي واحد، وبدونه لا معنى للإرجاع إلى الناس لاختلافهم الشديد في هذه القضية وغيرها، مضافاً إلى الروايات الآتية الدالة على متابعة الإمام فتكون مفسّرة للمراد من الناس، ومقيّدة لإطلاق الناس فيها.

ص: 24


1- الحدائق الناضرة: 13/245.

وقد احتمل هذا المعنى عدد من الأساطين، مثل صاحب الجواهر (قدس سره) فقد قرّب دلالتها على حجية الشياع في رؤية الهلال ثم قال: ((إن لم نحملها على إرادة الصوم بصوم العامة والإفطار بفطرهم للتقية))(1) وكذا احتمله المحقق النراقي(2)(قدس سره).

وعلى هذا فتكون هذه الرواية من سنخ الروايات الدالة على أن الصيام بصيام الإمام والإفطار بإفطار الإمام، وسنجعلها وجهاً مستقلاً إن شاء الله تعالى، فجعلت رواية أبي الجارود صوم الناس وفطرهم علامة على أمر السلطان بذلك.

وقد أورد السيد الشاهرودي (قدس سره) على نفسه بما يقرب من هذا الجواب، قال: ((إن هذا الاحتمال -أي المذكور في الإشكال- متجه فيما إذا كان صومهم وإفطارهم مستندين إلى شيوع المدّعين لرؤية الهلال لكنه ليس كذلك لاستنادهم فيذلك غالباً إلى حكم القاضي ولا وجه لحمل الرواية على النادر وهو استنادهم إلى دعوى المدعين)).

ومما تقدم يتضح جواب ما أشكل به بعض الأعلام على دلالة الرواية من ((أن الظاهر من قوله: الناس، هم العامة فيلزم أن يكون جميع العامة يجعلون اليوم الفلاني يوم أضحى أو فطر أو صوم ومع عدم تحققه لا يصدق الموضوع المذكور في الدليل))(3).

وجوابه: إن الملحوظ الناس بما هم سائرون على نهج السلطة الحاكمة لا عموم الناس.

وعلى هذا فرواية أبي الجارود ليست من سنخ رواية الأزدي الظاهرة في ما قاله المستشكل من حجية الشياع وهذا يفسّر تعليق الشيخ (قدس سره) عليها

ص: 25


1- جواهر الكلام: 16/354.
2- مستند الشيعة: 10/395.
3- مصباح الناسك: 253.

دون روايتي أبي الجارود بهذا المعنى وأن صاحب الحدائق هو من وسّع التعليق لروايتي الأزدي وأبي الجارود الأخرى.

وقد قرّب البعض الاستدلال برواية أبي الجارود الأخرى (المتقدمة صفحة 23) على محل البحث وإن لم تشتمل على ما يشير إلى الأضحى لإمكان التعدي بوحدة المناط، ويرد عليه:-

أ- إن هذه الوحدة قد تكون ظنية لأن الخصوصية محتملة فلا تكون حجة، إلا أن تُقوَّى بالأولوية القطعية ونحوها.

ب- إن هذا الحديث الآخر ورد بصيغة الأمر بالصوم والإفطار وليس بلسان تنزيل يوم الصوم والإفطار فتكون دلالته على التنزيل في ما نحن فيه أضعف.

ج_- يمكن دعوى عدم دلالة رواية أبي الجارود الثانية على التنزيل أصلاً فضلاً عن تعميمها للحج، وذلك لأن الإمام (عليه السلام) بذكره للآية الشريفة كأنه قيّد صحة اتباع الناس في صومهم وإفطارهم بكونهما وفق الموازين الشرعية المعتبرة وإلا فلا قيمة لها، وبذلك أعطى الإمام (عليه السلام) الحكم الواقعي من دون مخالفة التقية التي وافقها (عليه السلام) بصدر الرواية وألغاها بذيلها.

5- لو قلنا بالتنزيل المذكور ((لكن ترتب الحكم على الموضوع يتوقف على تحقق ذلك الموضوع فقبل مجيء يوم العيد لا يمكن ترتيب الأثر عليه، وبعبارة أخرى الشارع الأقدس بالحكومة يجعل ما لا يكون متصفاً بالصفة الكذائية متصفاً بها وهذا يتوقف على تحقق ذلك الموضوع كي يجعل ويعتبر كونه كذلك فكيف يمكن أن يقال أن حكم الحاكم السني مؤثر في جعل اليوم الثامن شرعاً تاسعاً مع أن المفروض أن يوم العيد لم يتحقق بعد))(1).

ص: 26


1- مصباح الناسك في شرح المناسك: 252.

جوابه: ما قدمناه من أن تنزيل يوم الأضحى جُعل عنواناً لتنزيل المناسك1- كافة ومنها الوقوفان، وتوقيتات هذه المناسك تكون معروفة مسبقاً قبل عدة أيام فموضوع التنزيل متحقق.

6- على هذا المعنى يلزم أن يكون الصوم مع عامة المسلمين والإفطار كذلك وهو مخالف لما عليه سيرة المتشرعة فإنهم كانوا يعتمدون على الحجة الشرعية المعتبرة في إثبات الهلال حتى في زمان أشرس الطواغيت.

وجوابه: لا مانع من الالتزام بمضمون الرواية في الصوم والإفطار مع الناس إذا توفّرت نكتة تنزيل الأضحى وهي ثبوت الهلال بحكم قاضي السلطة التي تسيّر الناس على طبقه ولا ترضى بالمخالفة، وقد أفتى الفقهاء بجواز الإفطار في رمضان تقية وذهب جملة منهم إلى عدم لزوم القضاء، وقد وردت روايات عديدة في صدور هذا الفعل من الإمام (عليه السلام) وستأتي الإشارة إليها في وجه مستقل نذكر واحدة منها وهي ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن خلاد بن عمارة قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: دخلت على أبي العباس في يوم شك وأنا أعلم أنه من شهر رمضان وهو يتغدى، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا من أيامك، قلت: لم يا أمير المؤمنين؟ ما صومي إلا بصومك، ولا إفطاري إلا بإفطارك، قال: فقال: ادن، قال: فدنوت فأكلت وأنا أعلم أنه من شهر رمضان)(1).

7- إن الأضحى والناس في الرواية مطلق ولا تتعين دلالته على الناسكين في منى والذبح والنحر فيها ليتحقق التنزيل، فقد يراد به يوم الأضحى لعامة المسلمين في سائر الأمصار ويكون السؤال عن تحديد يوم الأضحى في عموم البلدان الإسلامية من أجل تقديم الأضاحي أو إقامة صلاة

ص: 27


1- وسائل الشيعة: 10/132، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح6.

العيد في ذلك اليوم مثلاً ولا ربط له بأفعال يوم النحر وتوجد قرينتان على هذا الفهم:

أ- لأنه مقتضى إطلاق الأضحى والناس ولا وجه للتقييد بالذبح والنحر في منى.

ب- على تقريب المستدل يلزم تخصيص الأكثر بإخراج الأضحى في الأمصار والاقتصار على أضحى المناسك مع أن المسلمين في منى هم الأقل عدداً.

ومما يدل على إطلاق الأضحى صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الأضحى يومان بعد يوم النحر ويوم واحد بالأمصار)(1)

وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أسأل عن الأضحى أواجب على من وجد لنفسه وعياله فقال: أما لنفسه فلا يدعه وأما لعياله إن شاء تركه)(2)

وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بنجعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الأضحى كم هو بمنى؟ فقال: أربعة أيام وسألته عن الأضحى بغير منى، قال: ثلاثة أيام)(3).

وجوابه:-

أ- إن تقديم الأضاحي لغير الناسك عمل مستحب وهو لا يناسب سياق الأحكام الإلزامية المذكورة في الرواية أي الصوم والإفطار، أي أن سياق الرواية قرينة على أن المراد بالأضحى للناس في منى.

ب- وما دام فعلاً مستحباً فإن قيام البعض به وعدم قيام البعض الآخر يكون أمراً طبيعياً لا يستحق السؤال عنه والمطالبة بحل المشكلة.

ص: 28


1- وسائل الشيعة: 14/94، كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 6، ح 7.
2- وسائل الشيعة: 14/205، أبواب الذبح، باب 60، ح 1.
3- وسائل الشيعة:14/91، أبواب الذبح، باب 6، ح1.

ج_- إن حمل الناس والأضحى على الإطلاق لا يضرّ بالاستدلال لأن نكتة التنزيل واحدة في الجميع وهي لزوم متابعة السلطة الحاكمة عند عدم إمكان المخالفة؛ لذا لم يكن مستغرباً ضم الصوم والإفطار -اللذين يعمّان المسلمين في الأمصار- إلى الأضحى، فنتيجة الإشكال تعميم القول بالإجزاء إلى الأمصار كافة فلهم أن يؤدوا أفعال الأضحى -كصلاة العيد وذبح الأضاحي- في أمصارهم على وفاق القوم إذا استلزمت التقية ذلك ولا ضير في هذا التعميم.

د- إن حمل الفقرة على هذا المعنى يستلزم كون منشأ الخلاف بين الأصحاب هو عدم ضبطهم لتأريخ ذلك اليوم هل هو التاسع أم العاشر فاختلفوا في تحقق زمن الأضحية وعدمه، ومن المستبعد حمل الرواية عليه بعد مرور عشرة أيام على ثبوت الهلال وشيوع أول الشهر لدى الأتباع.

أما التنزيل فهو مبني على الخلاف بين أتباع الحق وأتباع السلطة وإكراه السلطة لهم على أداء المناسك معهم والسؤال عن الاجتزاء به وعدمه وهو أمر غير معقول.

ه_- لو اعتبرنا أن المراد دائر بين حمل الأضحى على عموم ما في الأمصار وعدم نظره إلى خصوص مناسك الحج وأن الحكم صدر من الإمام تقية وبين إرادة خصوص مناسك الحج وصدور كلام الإمام (عليه السلام) لبيان الحكم الواقعي التنزيلي فيه، أي أن الأمر يدور بين التمسك بأصالة الجهة والإخلال بالإطلاق أو التمسك بأصالة الإطلاق والإخلال بالجهة، فإن المسألة تكون صغرى لدوران الأمر بين أصالة الجهة وأصالة الإطلاق حيث تقدّم الأولى، فيقيّد الإطلاق بخصوص التضحية في منى ويحافظ على أصالة الجهة، وقد تقدم الكلام في الكبرى في بحث سابق(1).

ص: 29


1- راجع فقه الخلاف: 10/259، من الطبعة الأولى، فقه الخلاف: 11/259، ط. الثانية.

إن قلتَ: إن منشأ اختلاف الأصحاب لو كان في المناسك بسبب الاختلاف مع السلطة لكان الأولى بالأصحاب أن يسألوا عن الوقوفين لركنيتهما في الحج فلماذا تركوا السؤال عنهما بل لماذا أجّلوا السؤال إلى اليوم العاشر بعد انقضاء الركنين؟.قلتُ: إذا سلمنا أن سؤال أبي الجارود كان في منى فإن هذا الإشكال يعزّز الاستدلال على الإجزاء لا عدمه؛ لأنه يكشف عن تسليم الأصحاب بصحة الوقوفين مع القوم والاجتزاء بهما وإنما اختلفوا في استمرار لزوم موافقتهم في توقيتات بقية المناسك فسألوا عن الذبح والنحر.

ومنه يُعلم النظر فيما قيل من أن حمل الأضحى على خصوص مناسك منى يستلزم إخراج الأكثر وتخصيص الحكم بالفرد النادر، وتقييد الإطلاق بلا وجه ونحو ذلك من الإشكالات.

الوجه الثالث: السيرة العملية للأئمة المعصومين (عليهم السلام) وأصحابهم العارفين بأحكامهم فقد جرت هذه السيرة على الوقوف مع عامة المسلمين المنقادين لأمير الحاج المعيَّن من قبل السلطة والذي يعمل بحكم قضاة السلطة، وقد وصف جملة من الأعلام هذه السيرة بالقطعية كالسيدين الحكيم(1)

والخوئي (قدس الله سريهما)، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحجون أغلب السنوات، وكان أصحابهم ومتابعوهم أيضاً يحجون مع العامة في كل سنة، وكان الحكم بيد المخالفين من بعد زمان الأمير (عليه السلام) إلى عصر الغيبة، ولا يحتمل عاقل توافقهم معهم في هلال الشهر طوال تلك السنوات وتلك المدة التي كانت قريبة من مائتين سنة وعدم مخالفتهم معهم في

ص: 30


1- دليل الناسك: 353.

ذلك أبداً، بل نقطع قطعاً وجدانياً أنهم كانوا مخالفين معهم في أكثر السنوات، ومع هذا كله لم ينقل ولم يسمع عن أحدهم (عليهم السلام) ردع الشيعة ومتابعيهم عن تبعيّة العامّة في الوقوف بعرفات وقتئذ، وقد كانوا يتبعونهم بمرأى ومسمع منهم (عليهم السلام) بل كانوا بأنفسهم يتبعون العامة فيما يرونه من الوقوف.

وعلى الجملة قد جرت سيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ومتابعيهم على التبعية في ذلك للعامّة في سنين متمادية، ولم يثبت ردع منهم (عليهم السلام) عن ذلك ولا أمر التابعين للوقوف بعرفات يوم التاسع احتياطاً، ولا أنهم تصدّوا بأنفسهم لذلك، وهذا كاشف قطعي عن صحّة الحج المتقى به بتلك الكيفية وإجزائه عن الوظيفة الأوّلية في مقام الامتثال، بلا فرق في ذلك بين كون الحج في سنة الاستطاعة وكونه في غير تلك السنة، لوجوب الحج في كليهما وعدم كونه مطابقاً للوظيفة الأولية أيضاً في كليهما، وقد عرفت أن السيرة قد جرت على التقيّة في ذلك كما جرت على الحج في سنة الاستطاعة كثيراً، وهي سيرة قطعية ممضاة بعدم الردع عنها(1)

مع كونه بمرأىمنهم (عليهم السلام) فلم يردعوهم عن ذلك ولا أمروهم بالوقوف يوم التاسع احتياطاً كما مرّ، وفي مثل ذلك إذا لم يكن عملهم مجزئاً عن الوظيفة الواقعية لوجب التنبيه على ذلك وردعهم عما يرتكبونه حسب سيرتهم))(2).

ص: 31


1- أوهم هذا التعبير البعض فأشكل عليه بعدم حاجة سيرة المتشرعة إلى ضم عدم الردع لتتحقق الكاشفية لأنها كاشفة بنفسها عن رأي المعصوم (عليه السلام)، فهي ليست كسيرة العقلاء من هذه الناحية، والإشكال مردود لأن السيد الخوئي (قدس سره) يقصد أن وقوف الشيعة مع العامة كان متشرعياً مُقرّاً من قبل المعصوم (عليه السلام) ولم يكن عن تسامح وجهل وغفلة لذا لم ينه المعصوم عنه فكان كاشفاً عن سيرة المعصوم (عليه السلام) بل إن المعصوم يفعله معهم أيضاً، وعبارات السيد الخوئي (قدس سره) السابقة واضحة في هذا المعنى.
2- التنقيح من موسوعة السيد الخوئي: 5/254.

أقول: من لطيف ما يُستدل به هنا الروايات الدالة على استمرار هذه السيرة في زمان الغيبة الكبرى أيضاً ومنها معتبرة الشيخ الصدوق في إكمال الدين عن محمد بن عثمان قال: (سمعته يقول: والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه)(1)،وحضور الموسم لا يصدق إلا عندما يحضر معهم الوقوفين.

فهذا الدليل تام صغروياً، وكذا كبروياً، إذ الاستدلال بالسيرة الجارية لدى الشيعة إذا ثبت في قضية معينة مما علّمه المعصومون (عليهم السلام) لأتباعهم، ويظهر من بعض الروايات امتعاضهم (عليهم السلام) من عدم الأخذ بها عندما تثبت لديهم في قضية معينة كما سيأتي (هامش صفحة 50) في صحيحة الوليد بن صبيح.

وأضاف السيد السبزواري (قدس سره): ((وتوهُّم: أن الإمام (عليه السلام) حيث كان معروفاً لا يمكنه مخالفتهم خوفاً على نفسه (مردود) بأنه (عليه السلام) كان محترماً لدى أمير الحاج المنصوب من قبل الحكام والخلفاء، وكان (عليه السلام) مقبول القول والشفاعة لديه، كما يظهر من التواريخ فأي مانع له (عليه السلام) أن يقول لأمير الحاج: إني أريد الوقوف بعرفة، أو المشعر أو نحو ذلك من التعبيرات وغيرها للدعاء والمناجاة مثلاً مع قصد التورية أو يستشفع في ذلك لبعض شيعته))(2).

أقول: يمكن تلخيص الدليل بأن صحته متوقفة على تمامية المقدمات التي تضمنها وهي:-

1- إن الحكام كانوا يهتمون بأمر الحج ويتولون إدارته ويحددون مسيرته.

2- إن الخلاف في أوائل الشهور كان موجوداً بحيث لا يتطابق الوقت الرسمي مع الوقت الشرعي.

ص: 32


1- وسائل الشيعة: 11/135، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 46، ح9.
2- مهذب الأحكام للسيد السبزواري (قدس سره): 14/190.

3- إن أمير الحاج لم يكن يسمح لأحد بمخالفة التوقيتات التي تحددها السلطة فلا يتمكن المختلف معهم في ثبوت الهلال أن يأتي بالمناسك حسب مواقيته الشرعية وإلا يتعرض للضرر.

إن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحجون مع العامة ولم ينفصلوا عنهم في المناسك سواء من أجل التقية الاضطرارية حيث كان الحكام يفرضون على1- الجميع متابعتهم في أداء المناسك، أو التقية المداراتية لتأليف قلوب الناس وتقريبهم إلى الحق، وإن هذه المتابعة كانت واضحة لدى الشيعة بحيث لم يسأل أي أحد عن الموقف عند الاختلاف.

فإذا تمت هذه المقدمات فإنه لا يوجد تفسير لها إلا صحة الوقوف مع العامة والاجتزاء به وهو ما كان يفعله الإمام المعصوم (عليه السلام) بنفسه ويراه شيعته فيتبعونه ولم يحتج أحدٌ منهم إلى سؤال عن الحالة لأن الإمام (عليه السلام) أجاب عملياً عنها، ولذا لم تصل لنا رواية عن علاج حالة الاختلاف مع العامة.

قد يقال: إنه حتى لو تمت هذه المقدمات جميعاً فإن النتيجة لا تتعين في القول بالإجزاء إذ لعل هذه المتابعة كانت خاصة بالإمام (عليه السلام) لأنه كان مراقباً من السلطة ومرصود الحركات فالتقية خاصة به، أو أن الإمام (عليه السلام) كان يحوِّل حجّه عند الاختلاف إلى عمرة مفردة ويحلّ إحرامه بها أو أنه كان يطبق على نفسه أحكام المصدود عند تعذّر أداء الوقوفين في وقتهما المعتبر أو أن الإمام (عليه السلام) اعتمد على الثقافة الراسخة لدى شيعته بأن الهلال لا يثبت إلا بالرؤية المعتبرة شرعاً ولا يكفي فيه الظن والحساب وأنه إذا رأته عين رأته ألف عين(1)

لمنع الوهم والاشتباه فإذا لم يكن الثبوت الرسمي مستنداً إلى مثل هذه المثبتات الشرعية فلا عبرة بها ولا تجوز متابعته ونحو ذلك.

ص: 33


1- كما في صحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظني، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر) (وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10).

وخلاصة هذا الإشكال: أن آلية الوصول من هذه المقدمات إلى القول بالإجزاء غير صحيحة بغضّ النظر عن تمامية المقدمات.

وجوابه:-

1- إن الإمام (عليه السلام) لم يكن يمثل نفسه حتى يمكن أن يكتفي بهذه الإجراءات بل كان إماماً لجماعة كبيرة من المسلمين فكان يلحظ في تصرفاته هذه الإمامة واقتداء الأمة به وأن الناس سيتابعونه في الوقوف مع العامة ولا يعرفون مثل هذه التفاصيل.

وأذكر رواية مباركة لإلفات النظر إلى هذا المعنى، فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن عبد الله بن المغيرة عن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي عليه السلام وحده، وأوصى علي عليه السلام إلى الحسن والحسين عليهما السلام جميعا، فكان الحسن عليه السلام إمامه، فدخل رجل يوم عرفة على الحسن عليه السلام وهو يتغدى والحسين عليه السلام صائم، ثم جاء بعد ما قبض الحسن عليه السلام فدخل على الحسين عليه السلام يوم عرفة وهو يتغدى وعلي بن الحسين عليهما السلام صائم، فقال له الرجل: إني دخلت على الحسن عليه السلام وهو يتغدى وأنت صائم، ثم دخلت عليك وأنت مفطر؟ فقال: إن الحسن عليه السلام كان إماماً فأفطر لئلا يتخذ صومه سنة، وليتأسى به الناس، فلما

ص: 34

أن قبض كنت أنا الإمام فأردت أن لا يتخذ صومي سنة فتتأسى الناس بي)(1).

2- إن الإحلال بعمرة مفردة وأداء الحج في سنة أخرى إذا كان متيسراً للإمام لقرب المدينة من مكة فإنه لا يتيسر للكثيرين ممن جاؤوا من كل فجّ عميق فكيف يحملهم الإمام إعادة الحج؟ ومن الذي يضمن مطابقة الهلال في السنة المقبلة عندما يعودون لأداء الحج؟ فهل يكررونها ثالثة ورابعة أم ماذا؟.

3- إن قرب المدينة من مكة يتيح للإمام (عليه السلام) فرصة عدم الخروج من المدينة للحج أصلاً إلا بعد أن يهلّ شهر ذي الحجة فإن رآه مطابقاً خرج للحج وإلا فلا؛ لتجنّب هذه الاختلافات المحرجة(2) لو لم يكن الوقوف معهم مجزياً.

4- إن النكتة التي سوّغت المتابعة للإمام (عليه السلام) -وهي التقية- تسوّغ الفعل لغيره إذا وجدت لوحدة التكليف من هذه الناحية، وفرض البحث هو تحققها.

إذن على القائل بالإجزاء إثبات صحة المقدمات جميعاً ليتم الاستدلال:

والمقدمة الأولى صحيحة فقد ثبت تأريخياً أن ولي الأمر كان يحجّ بالناس بنفسه أو يعيّن أميراً للحاج وقد بدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه السيرة بعد فتح مكة، وسجّلت كتب التأريخ اسم أمير الحاج في كل سنة بعد الانتهاء من بيان حوادث تلك السنة إلى ما بعد زمان الغيبة الصغرى (راجع مثلاً تاريخ

ص: 35


1- وسائل الشيعة: 10/467، أبواب الصوم المندوب، باب 23، ح13.
2- حُكي عن موسوعة (رؤية الهلال: 1/113) ما ترجمته: أنه كان بعض العارفين بحساب التقاويم الفلكية يحجمون عن الذهاب إلى الحج إذا كان اليوم الأول المتوقع له الجمعة لأنهم يحتملون جداً أن السلطة ستجعله الخميس حتى تكون عرفة الجمعة لأنه عندهم (الحج الأكبر) ويخلعون عليهم الهداية السنية.

الطبري والكامل لابن الأثير ومروج الذهب للمسعودي).

والمقدمة الرابعة صحيحة أيضاً فقد كان الأئمة (عليهم السلام) يهتمون بأمر الحج ويكثرون منه وقد حجّ الحسنان (عليهما السلام) عشرين حجة وكانوا ينيبون أصحابهم إذا لم يتيسر لهم ذلك، وكانوا يحثّون أصحابهم عليه، ومنهم -كالعبرتائي- من حج أكثر من خمسين حجة، ورغم ذلك كله فلم ينقل عنهم في كتب الحديث ولا التأريخ ولا السيرة أنهم خالفوا عامة الناس وانفصلوا عنهم في أداء مناسك الحج، وإنما كانوايحجّون مع الناس وضمن البرنامج الذي يقرّره الحكام، بل كان للأئمة (عليهم السلام) مكانة رفيعة لدى أمير الحاج وعامة الناس، ففي رواية صفوان بن يحيى وأحمد بن أبي نصر قالا: (سألناه -أي الإمام الرضا (عليه السلام) - عن قران الطواف السبوعين والثلاثة قال: لا إنما هو سبوع وركعتان، وقال: كان أبي يطوف مع محمد(1)

بن إبراهيم فيقرن وإنما كان ذلك منه لحال التقية)(2).

وفي رواية حفص المؤذن قال: (حج إسماعيل بن علي بالناس سنة أربعين ومائة، فسقط أبو عبد الله (عليه السلام) عن بغلته فوقف عليه إسماعيل فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): سر فإن الإمام لا يقف)(3).

ويمتد الأمر إلى العمرة أيضاً ففي رواية علي بن أبي حمزة قال: (سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يدخل مكة في السنة المرة والمرتين والأربعة

ص: 36


1- محمد بن إبراهيم الملقب بالإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كان أمير الحاج سنة 148 وهي التي استشهد فيها الإمام الصادق (عليه السلام) ثم ولاه المنصور العباسي على مكة والطائف وقيل الحجاز في العام 149 عوضاً عن عمه عبد الصمد بن علي، وكان يسكن بغداد فيخلفه ابنه إبراهيم بن محمد على مكة، روى بعض استدعاءات المنصور العباسي للإمام الصادق (عليه السلام) (راجع تأريخ الطبري والكامل لابن الأثير في حوادث هذه السنين).
2- وسائل الشيعة: 13/ 371، كتاب الحج، أبواب الطواف، باب 36، ح6.
3- وسائل الشيعة: 13/525، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 5، ح1.

كيف يصنع؟ قال: إذا دخل فليدخل ملبياً، وإذا خرج فليخرج محلاً، قال: ولكل شهر عمرة، فقلت: يكون أقل؟ فقال: في كل عشرة أيام عمرة، ثم قال: وحقك لقد كان في عامي هذه السنة ست عمر، قلت: ولم ذاك؟ قال: كنت مع محمد بن إبراهيم بالطائف، وكان كلما دخل دخلت معه)(1).

وإن سيرة الأئمة (عليهم السلام) جارية على استعمال التقية في متابعة القوم كما في رواية الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس السفاح المتقدمة (صفحة 27).

رد القائل بعدم الإجزاء:

يعترف القائل بعدم الإجزاء بصحة المقدمتين السابقتين لذا توجه بعضهم إلى مناقشة دليل السيرة من جهة المقدمة الثانية فنفى وجود الاختلاف المعروف اليوم بين التوقيت الشرعي والتوقيت الرسمي.

واعترف البعض الآخر بوجود هذا الاختلاف لكنه شكّك في الكيفية الموجودة من تسيير السلطات للحجاج وفق برنامج محدد بحيث لا يتمكن أئمة أهل البيت (عليهمالسلام) وشيعتهم وعموم المخالف لهم بالتوقيت من الوقوف في اليوم الآخر المعتبر شرعاً أو على الأقل الاحتياط بأداء الوقوف الاضطراري، وهذا يعني أنه يسلّم بوجود الاختلاف في رؤية الهلال.

مناقشة المقدمة الثالثة:

واختار هذا المسلك الثاني من الاعتراض السيد محمود الشاهرودي (قدس سره)، إذ من الممكن عنده أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحتاطون بالوقوف الاضطراري أو إعادة الحج في عام آخر وليس من الضروري أن يصل إلينا خبر ذلك حتى يستشكف من خلو الروايات منه اجتزاء الأئمة بالوقوف

ص: 37


1- وسائل الشيعة: 14/308، كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 6، ح3.

معهم فإنه لا يسلّم ((أن الاحتياط في ذلك على فرض ثبوته يكون مما يصل إلينا قطعاً)).

وربما لم يكن الأئمة (عليهم السلام) بحاجة إلى الاحتياط أصلاً لإمكان أداء المناسك في أوقاتها المعتبرة شرعاً بلا أي مانع، قال (قدس سره): ((إن احتياطهم فرع منع العامة لهم عن ترك الوقوف معهم في اليوم الذي يقفون بعرفات ولم يثبت منعهم عن ذلك، بل لعله لم يكن منع في البين، وكان كل يعمل على طبق عقيدته، لعدم كون هذا الاختلاف اختلافاً في المذهب؛ لاتفاق كلتا الطائفتين على أن الموقف هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة لا الثامن منه، فكل من كان يثبت عنده أن هذا اليوم هو التاسع كان يقف فيه، وكل من كان لا يثبت عنده ذلك كان يقف في اليوم الآتي سواء كان من العامة أو الخاصة))(1).

أقول: على هذا يمكن أن نجد تفسيراً لخلو الروايات من إشارة للموقف الشرعي من حالة الاختلاف في ثبوت الهلال: باعتبار أن الوقوف وفق التوقيتات الشرعية إذا كان متيسّراً فيكفي في الإلزام به ما دلّ على أن الأهلة مواقيت للناس والحج ولا يحتاج إلى سؤال جديد، كما أن الأصحاب لم يسألوا عن وقت الصوم والإفطار إذا اختلفت ثبوت الهلال مع السلطة لجزمهم بأن أمر السلطة لا يعنيهم وعليهم بالحجة المعتبرة شرعاً.

وربما يُذكر لعدم المنع بعض الشواهد كوقوف سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -وهو من كبار فقهائهم- مرتين حين لم يؤخذ بشهادته ومن معه، وسيأتي ذكر الحادثة إن شاء الله تعالى.

وكالذي رواه محمد بن إسحاق الفاكهي (المتوفى سنة 272 ه_) بسنده عن ابن عائشة قال: ((أشكل على الناس الهلال في أول حجة حجها عبد الملك بن مروان من خلافته، فشاور في ذلك أقواماً، فلم يجد عندهم بيانا لما يريد،

ص: 38


1- تقريرات بحث السيد محمود الشاهرودي (قدس سره) في كتاب الحج: 3/336.

فأمر، فنصب المنبر في يوم سابع وهو قبل يوم التروية بيوم، فخطب فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الله عز وجل جعل أمر الأمم من غيركم إلى أنفسهم يدبرون الأوان،ويقيمون الزمان، فيصرفون أعيادهم أنى شاءوا بظن وحسبان، ألا وإن الله عز وجل ملك عليكم أمركم، فجعل الأهلة مواقيت الناس ألا وإن الله عز وجل أخفى عليكم هذا؛ ليبتليكم فيعلم أيكم المتبع من المضيع، ألا وإني شاورت أقواماً، فلم أجد عندهم شفاء لما في الصدور، وأتاني الركب من كل وجهة يخبروني عن رؤية الهلال قبل اليوم الذي يأتي لكم، ولم أجد فيهم من أثق بشهادته عن ثبات معرفته عندي، وإنما تعبدنا الله عز وجل بإجازة شهادة المعروفين ولعله أن يكون فيهم ممن لا أعرف قوم هم أوثق ممن أعرف، ولكن الحق والسنة أولى أن تتبع، ألا إني قد رأيت رأياً، فإن أصب فمن الله تعالى وإن أخطئ فمبلغ اجتهادي، والله أسأل التوفيق، وأنا خارج بالناس من غد يومنا هذا إلى منى، وهذا اليوم الذي يزعم من سبقنا إلى رؤية الهلال أنه يوم التروية، وأقف بهم من غد ذلك اليوم، وهو الذي يزعم من تأخر في الرؤية أنه يوم التروية، ثم أفيض بهم إلى جمع، ثم أصبح بهم راجعين إلى عرفات، فأقف بهم وقفة أخرى، وأؤخر نسكهم، فيحلون وينحرون في اليوم الذي يزعم أولئك أنه يوم النفر، فإن يكن القول ما قالوا لم يضرهم تأخير مناسكهم ويكون ما فعلت زيادة في أعمالهم، وعلى الله أجر العاملين، قال : فوقف بالناس يومين))(1).

أقول: تتحلل هذه المناقشة للسيد الشاهرودي (قدس سره) إلى أطروحتين مبنيتين على مقدار الفرصة المتاحة لأداء المناسك في وقتها الشرعي:

أولاهما: بناءً على وجود التضييق والمنع إلا إن الإمام (عليه السلام) كان يستطيع أن يحتاط بالوقوف مرتين واحد مع القوم والآخر اضطراري أو إنه (عليه السلام) يحلّ من إحرامه بعمرة مفردة ويعيد الحج من قابل، ولم يصل

ص: 39


1- أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه للفاكهي: 3/132.

إلينا خبر عن ذلك، وترد عليه الوجوه التي ذكرناها (صفحة 84) للرد على مثل هذا الإشكال مضافاً إلى أن هذا الفعل من المعصوم (عليه السلام) لو كان يحصل لكان من الضروري تناقله في الروايات وتعليم الإمام (عليه السلام) شيعته هذا الإجراء الضروري لتصحيح حجهم فعدم تعرض الروايات له كاشف قطعي عن عدم وجوده.

ثانيهما: إنه لم يكن هناك منع أصلاً من وقوف كل طائفة حسب مبناها في ثبوت الهلال، ويرد عليه:-

إن الوجه الذي ذكره لعدم المنع بقوله: ((لعدم كون هذا الاختلاف اختلافاً في المذهب)) لا يغني؛ لأنهم يمنعون من المخالفة في التطبيق أيضاً فالكل متفقون على أن الإفطار في أول شوال ومع ذلك فإنهم لا يسمحون بأن يفطر المخالف لهم على مبناه، والشاهد وجود الروايات الكثيرة الدالة على متابعة الإمام (عليه السلام) للقوم في صومه وإفطاره والأمر في الحج أشد خطورة وأكثر لزوماً، ولو كان في الأمر سعة لما احتاج الإمام (عليه السلام) لاستعمال التقية، والسبب واضح؛ لأن السلطان كان يرى نفسه خليفة الله في أرضه وأمير المؤمنين والحاكم الديني فمخالفته تعني الخروج عليه والتمرد على1- سلطانه وكان أكثر ما يستفزهم ويثير انتقامهم دعوى غيرهم الإمامة واستحقاق الخلافة وكانت هذه عقدتهم الرئيسية من أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم لم يكونوا يطيقون وجود مزاحم لهم مع اعتقادهم الراسخ بأن الإمامة حق لأهل البيت (عليهم السلام)، فكانت تنتهي الأمور باستشهاد الإمام لأن السلطات لا تستطيع الخروج من هذه العقدة.

نعم قد يقال أن هذه المتابعة قد تكون خاصة بالمواسم التي تطابق فيها موعد رؤية الهلال فلا يتم الاستدلال بها.

ولكنه مردود لأن المتابعة كانت في كل عصر الأئمة ولم ينقل خلاف

ص: 40

ذلك مضافاً إلى إطلاقات ما دل على أن الحج مع الإمام -أي أمير الحج- والتي سنذكرها في وجه مستقل.

2- شهادة بعض الروايات التأريخية على تسيير الحجاج بأمر السلطة وتوقيتاتها فقد روى الطبري حصول خلاف في هلال ذي الحجة سنة 246 ه_ -أي أيام إمامة الهادي (عليه السلام)- أنه ((حج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي وحجّ فيها محمد بن عبد الله بن طاهر، فولي أعمال الموسم وضحّى أهل سامراء فيها يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء)).

ثم دخلت سنة 247 وقدم الحجاج إلى أهلهم فذكر في حوادث سنة 247 ه_ ((وقدم في هذه السنة محمد بن عبد الله بن طاهر بغداد منصرفاً من مكة في صفر فشكا مما ناله من الغم بما وقع من الخلاف(1)

يوم النحر فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة وأن يسار بها كما يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم))(2)،فقوله: ((وأن يسار بهم)) شاهد على تسيير الحجاج وفق أمر السلطان.

3- ولو تنزّلنا وقلنا بارتفاع التقية الاضطرارية لوجود سعة في أداء المناسك بناءً على هذا الفرض فإن موضوع التقية المداراتية موجود وإن انعزال الشيعة وهم أقلية عن عموم المسلمين يوجب الاستهزاء بهم وإهانتهم بل إنه يوفّر المبرر للتشكيك في دينهم وهذه كلها مما يأباه الشرع المقدس، مضافاً إلى المصالح العليا والأولويات التي حرص الشارع المقدس على تحقيقها وأن الشيعة أولى بها من غيرهم مما سنذكره لاحقاً إن شاء الله والروايات الكثيرة الواردة في الأمر بالصلاة في مساجدهم وحضور

ص: 41


1- وهذا شاهد آخر على وقوع الخلاف في الهلال.
2- تأريخ الطبري: 11/62، 69.

جنائزهم ونحو ذلك شاهدة على ذلك، مع أن المراعاة في الحج أولى لأنه عبادة جماعية ظاهرة ومتحدة الزمان والمكان، أما الصلاة فهي عبادة فردية يمكن التخفي والانفراد فيها.

مناقشة المقدمة الثانية:

وأشكل بعض من حضرنا بحثه الشريف من جهة المقدمة الثانية وأن الاختلاف الموجود اليوم بين التوقيت الشرعي والرسمي لم يكن موجوداً في زمان المعصومين (عليهم السلام)؛ لأن منشأه: إما التوسع في ما يثبت به الهلال من الشهود أو التسامح في قبول شهادات الرؤية، وكلا الأمرين لم يكن موجوداً في العصرين الأموي والعباسي الذي عاصره الأئمة المعصومون (عليهم السلام).

قال (دام ظله الشريف) في ردّ الاستدلال بالسيرة: ((إن هذه السيرة المدعاة تبتني على أساس أن الطريقة التي كانت متبعة لثبوت الهلال من قبل السلطات الحاكمة في عصر المعصومين (ع) هي نفسها الطريقة المتبعة في ذلك من قبل الجهات الرسمية في العصر الحاضر. لكن لا توجد شواهد تاريخية تؤيد هذا المعنى سواء في العصر الأموي أو العباسي، بل الظاهر أنهم كانوا يشددون في أمر الهلال ولا يحكمون بثبوت رؤيته ودخول الشهر الجديد بمجرد شهادة شخص أو شخصين مع صفاء الجو ووجود عدد كبير من المستهلين من دون أن يتيسر لهم رؤية الهلال، على خلاف النهج السائد في ذلك في هذا العصر الذي يكتنف ثبوتها فيه بملابسات أخرى أيضاً كما لا يخفى. ومن شواهد التشدد في ثبوت الهلال في العصر الأموي ما حكي من أن سالم(1) بن عبد الله بن عمر بن

ص: 42


1- أحد الفقهاء السبعة في المدينة وهم الذين إذا جاءتهم المسألة دخلوا جميعاً فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم القضية فينظرون فيها فيصدرون الحكم، دخل على سليمان بن عبد الملك الأموي (المتوفى سنة 99) فما زال سليمان يرحب به ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، توفي في المدينة سنة 106 ه_ (الأعلام للزركلي: 3/115).

الخطاب -الذي كان يعد من كبار فقهائهم في المدينة- ذهب بجمع شهدوا برؤية الهلال إلى إبراهيم بن هشام المخزومي أمير الحاج في عام 105 فلم يقبلهم فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم ثم دفع فلما كان اليوم الثاني وقف مع الناس(1).

وأما في العصر العباسي فقد جرى الأمر فيه على نفس هذا المنوال ولا سيما بعد أن عهدوا بمنصب القضاء إلى أبي يوسف أبرز تلامذة أبي حنيفة وحظي بتأييد الخليفة فيما يتعلق بشؤون التشريع وكان مذهبه في ثبوت الهلال أنه متى ما كانت السماء مصحية فلا تقبل الشهادة برؤيته إلا من جماعة يقع العلم للقاضي بشهادتهم، وقدر عددهم بعدد القسامة خمسين رجلاً. وعلى ذلك فلا يصح أن يقاس ذلك العصر بالعصر الراهن الذي يتبع فيه من بيده أمر الموقف مذهب ابن حنبل وأتباعهالقائلين بثبوت هلال رمضان بشاهد واحد وهلال سائر الشهور بشاهدين وإن كانت السماء صاحية واستهل جمع كثيرون ولم يدع الرؤية غير واحد أو اثنين.

وبالجملة لم يكن مبنى القوم في عصر المعصومين (عليهم السلام) على المساهلة والمسامحة في قبول الشهادات برؤية الهلال بل كانوا يشددون فيه وربما أدّى ذلك بهم إلى التأخير في أول الشهر عن وقته الشرعي، كما يظهر ذلك من خبر لقاء الصادق (عليه السلام) مع الخليفة أبي العباس السفاح في الحيرة في يوم الشك من رمضان عند الخليفة الذي كان أول الشهر عند الإمام (عليه السلام)، حيث دعاه إلى الأكل فاضطر (عليه السلام) إلى الإجابة تقية.

وكيف كان فلا شاهد على ما ادعي من مخالفة الوقوف الرسمي في عرفات والمزدلفة لما تقتضيه الموازين الشرعية في أكثر السنوات، بل أوضح شاهد

ص: 43


1- المحلى لابن حزم: 7/192، وحكى نظيره ابن رجب في كتابه (أحكام الاختلاف في رؤية الهلال:28).

على خلاف ذلك هو عدم ورود ذكر لهذه المخالفة في شيء من الروايات صحيحها وسقيمها مع أنها متعلقة بجملة من أهم مناسك الحج أعني الوقوفين وأعمال منى، وكيف يمكن الإذعان بوقوع الاختلاف في الموقف في غالب الأعوام وات_ّباع الشيعة فيها من بيدهم أمر الموقف طبقاً للأوامر الصادرة إليهم من قبل الأئمة (عليهم السلام) ولا يتمث_ّل ذلك في شيء من نصوص الحج، في حين أنها اشتملت على الكثير من مسائله حتى ما يقلّ الابتلاء به كجملة من مسائل الصيد وكفاراته.

هذا مع ما عُرف من حال الشيعة من أنه لم يكن يسهل عليهم اتباع غيرهم في الأمور الشرعية والاجتزاء بما يؤدى معهم من العبادات كما يظهر ذلك من النصوص الواردة بشأن الحضور في جماعتهم والصلاة خلفهم مع انه ليس فيها ما يوجب الإخلال بشيء من أركان الصلاة بل ببعض سننها فحسب، فكيف سهل على الشيعة الوقوف في عرفات وفي المزدلفة والإتيان بأعمال منى في غير وقتها الشرعي اتباعاً للعامة ولم يقع ذلك منهم مورداً للسؤال والاستفسار طوال العشرات من السنين ولا سيما في عصر الصادقين (عليهما السلام) ولو وقع لتمثل ذلك في الروايات، بل كيف كانت هذه المسألة مورداً لابتلاء الشيعة بصورة واسعة في عصر الغيبة الكبرى ولا يوجد _ حسب ما تتبعناه _ التعرض لها في كتب الفقهاء المتقدمين إلى عصر الشهيد الثاني، حتى أن العلامة الحلي في التذكرة والمنتهى والشهيد الأول في الدروس تعرضا لما ذكره بعض فقهاء العامة من (الحكم بعدم الاجتزاء بالوقوف بعرفات في يوم التروية معللاً ذلك بأنه لا يقع فيه الخطأ لأن نسيان العدد لا يتصور من العدد الكبير)(1)

ولم يعق_ّبا على ذلك بشيء مع أنه لو كان الاختلاف في الموقف مما يقع في غالب السنين لعقبوا عليه بأن الوقوف في يوم التروية مما تبتلى به الشيعة تقية ممن بيده أمر الموقف من العامة ولبحثوا عن الاجتزاء به وعدمه.

ص: 44


1- منتهى المطلب: 11/61، تذكرة الفقهاء: 8/190.

وبالجملة إننا لم نجد في من تقدم على الشهيد الثاني من طرح هذه المسألة أصلاً وأما هو (قدس سره) فقد تعرض لها على سبيل الافتراض والتقدير في بابأحكام المصدود من المسالك وحكم بعدم الاجزاء، ثم لم نجد من تعرض لها من بعده إلى القرن الثالث عشر حيث طرحها بعض فقهائه)) ثم ذكر شيئاً من تأريخ الأقوال في المسألة، وقال: ((فالنتيجة أن ما ادعي من قيام السيرة على متابعة العامة في الوقوفين مما لا يمكن المساعدة عليه))(1).

أقول: وأضاف بعض من تبعه شاهداً على تشددهم وهي حادثة عبد الملك بن مروان المتقدمة وقول ابن عبد الحكم المصري (المتوفى سنة 268 ه_) ((رأيت أهل مكة يذهبون في هلال الموسم في الحج مذهباً لا ندري من أين أخذوه، إنهم لا يقبلون الشهادة في هلال الموسم إلا أربعين رجلاً وقيل عنهم خمسين، وذكر في وجه تشددهم في هلال ذي الحجة: أنهم رأوا شأن الحج من أعظم العبادات البدنية وأعظم الحقوق يعتبر فيه خمسون رجلاً وهو القسامة في الدم فلذلك اعتبروا هذا العدد))(2).

أقول: لنا على هذا التقريب عدة ملاحظات:-

1- إنه لا شك في وقوع الخلاف في أوائل الشهور بين الموقف الشرعي والموقف الرسمي ويظهر ذلك من روايات عديدة كحادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس المتقدمة (صفحة 27) وغيرها مما دلّ على صوم الإمام (عليه السلام) وإفطاره تقية، ولو لم يكن هناك اختلاف لما تحقق موضوع التقية، وسيأتي عرضها ومناقشتها في وجه مستقل.

ومن الشواهد على وقوع هذا الاختلاف رواية ذكرها الصدوق (رحمه الله) في الخصال تصلح شاهداً على ما نقول فقد روى عن عبد الرحمن بن

ص: 45


1- ملحق مناسك الحج للسيد السيستاني: 319-323.
2- حكاه عن مواهب الجليل: 3/281، وأغلب هذه النصوص والحوادث ترجمت من موسوعة (رؤية الهلال) بالفارسية.

أبي عبد الله قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اغتسل في ليلة أربعة وعشرين، وما عليك أن تعمل في الليلتين جميعاً)(1)

فإن استحباب الغسل ليلة أربعة وعشرين لإدراك استحبابه ليلة ثلاثة وعشرين المظنون أنها ليلة القدر بدلالة الذيل وهذا الاحتياط بالجمع لاحتواء الخلاف في أول الشهر، وفيه تلميح من الإمام (عليه السلام) إلى أن الحساب الواقعي متأخر ليلة عن الحساب المعلن.

حتى أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يكرهون الصوم في عرفة من أجل هذا الاختلاف فقد روى المشايخ الصدوق والمفيد والطوسي (قدس الله أرواحهم) بالإسناد عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن صوم يوم عرفة، فقلت: جعلت فداك، إنهم يزعمون أنه يعدل صوم سنة، فقال: كان أبي لا يصومه، قلت: ولم ذاك جعلت فداك؟ قال: إن يوم عرفة يوم دعاء ومسألةوأتخوف أن يضعفني عن الدعاء، وأكره أن أصومه، وأتخوف أن يكون يوم عرفة يوم أضحى وليس بيوم صوم)(2).

أقول: التخوّف الذي منشأه الشك والتردد في اول الشهر لا يتصور وجوده عند الإمام (عليه السلام)، فلا بد أن يراد به التخوّف الناشئ من وجود الاختلاف في أول الشهر مع العامة وسلاطينهم.

قال الشيخ الصدوق تعليقاً عليه: ((إن العامة غير موفقين لفطر ولا أضحى وإنما كره (عليه السلام) صوم يوم عرفة لأنه كان يكون يوم العيد في أكثر السنين))(3).

ص: 46


1- وسائل الشيعة: 3/305، كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة، باب 1، ح5.
2- وسائل الشيعة: 10/465، كتاب الصوم، أبواب الصوم المندوب، باب 23، ح6.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2/88، باب صوم التطوع وثوابه.

أقول: فهذه شهادة حسّية من الشيخ الصدوق -وهو قريب العهد من زمان المعصومين (عليهم السلام) -بوقوع الخلاف في أكثر السنين معللاً ذلك بالدعاء عليهم الوارد في عدة روايات في الكافي والفقيه والعلل عن الإمامين الصادق والجواد (عليهما السلام) منها عن أبي جعفر الثاني عنه-، قال: (قلت له: ما تقول في الصوم فإنه قد روي أنهم لا يوفقون لصوم؟ فقال: أما إنه قد أجيبت دعوة الملَك فيهم، قال: فقلت: وكيف ذلك، جعلت فداك؟ قال: إن الناس لما قتلوا الحسين عليه السلام أمر الله تبارك وتعالى ملكاً ينادي: أيتها الأمة الظالمة القاتلة عترة نبيها، لا وفقكم الله لصوم ولا فطر)(1).

ويمكن أن يستأنس لوجود هذا الاختلاف من كثرة الروايات الواردة في ثبوت الهلال بالرؤية لا بالتظني ولا بالحساب ولا بغيرها من العلامات الظنية وأنه إذا رأته عين رأته ألف عين ونحو ذلك، تستبطن التعريض بما كان يجري من التساهل في أمر الهلال لدى السلطة الحاكمة وفقهائها ومتابعة الناس لهم، وقد تقدمت صحيحة الخزاز ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف، وإذا كان علة فأتمّ شعبان ثلاثين)(2)،وموثقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (صم للرؤية وأفطر للرؤية، وليس رؤية الهلال أن يجيء الرجل والرجلان فيقولان رأينا، إنما الرؤية أن يقول القائل: رأيت، فيقول القوم: صدق).

ص: 47


1- وسائل الشيعة: 10/295، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 13، ح1.
2- و ما بعده وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح11، 14.

بل إن نفس رواية أبي العباس التي ذكرها شاهداً على تشددهم وما أضافه البعض من ذكر فعل عبد الملك بن مروان (راجع صفحة 38) وما تقدم (صفحة 41) من حوادث سنة 246 هج_ ويأتي (صفحة 64) في الرواية عن عائشة شواهد على وجود الاختلاف في الجملة.

فكيف يقول في بحثه الشريف(1):

((وكيف كان فلا شاهد على ما ادعي من مخالفة الوقوف الرسمي في عرفات والمزدلفة لما تقتضيه الموازين الشرعية)).

2- ويظهر أن الفقهاء متسالمون على وجود هذا الاختلاف، وعدم تعرّضهم للمسألة ليس لعدم وجوده، لذا أشار الشهيد الثاني (قدس سره) إلى هذه المسألة في باب المصدود ولم يصدق عليه هذا العنوان إلا لأنه صُدّ عن الإتيان بالوقوف في وقته الشرعي وليس الرسمي. وقول صاحب الجواهر (قدس سره): ((بقي شيء مهم تشتد الحاجة إليه، وكأنه أولى من ذلك كله بالذكر، وهو أنه لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم))(2).

وتعبيره ظاهر في إلحاح هذه المسألة وكثرة الابتلاء بها.

3- إنه (دام ظله الشريف) استكشف عدم وجود الاختلاف في الهلال من عدم وجود رواية تشير إلى حكم المسألة مع وفرة روايات الحج حتى في أدق التفاصيل النادرة فاستنتج أن القضية سالبة بانتفاء موضوعها وهو الاختلاف.

ويرد عليه: أنه حدس وتخمين لا وجه له لأن عدم وجود من يسأل عن حكم هذه الحالة منشأه وجود الإمام (عليه السلام) بنفسه في موسم الحج

ص: 48


1- في مسألة ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي في جمادى /1417 وقد قررت الدروس في كتاب فقه الخلاف: المجلد الرابع الخاص بطرق ثبوت الهلال، ط. الأولى.
2- جواهر الكلام: 19/32.

وأداء المناسك مع العامة واجتزائه بالوقوف معهم فلا تبقى حاجة للسؤال، لذا فإن الأصحاب سألوا عن الصلاة مع المخالفين، واعترض مثل زرارة على ذلك(1)،وسألوا عن الصوم والإفطار وفق توقيتاتهم حتى اعترض بعضهم على الإفطار مع السلطان في شهر رمضان(2)،فما الفرق بينها وبين الحج حتى لم يسأل أحد على الوقوف معهم وهوركن هذه العبادة العظيمة الشاقة؟ والجواب: أن الفرق في أن الإمام (عليه السلام) أجابهم عملياً بالوقوف معهم، فلا غرابة حينئذٍ في خلو الروايات مع شدة تورّع الأصحاب وتدقيقهم.

4- بل يمكن أن ندّعي بأن بيان هذه الحالة قد صدر من الأئمة (عليهم السلام) تارة على نحو الخصوص من خلال الأحاديث الدالة على أن الحج مع الإمام وفسّروا الإمام بأنه أمير الحاج، وأخرى بيان على نحو العموم: كعمومات التقية ولزوم متابعتهم في الصوم والإفطار تقية ولا يتردد العرف في إدخال الحج معها بل هو أولى منها كما قدمنا، وقد وعى الأصحاب هذه البيانات لذا لم يحتاجوا إلى السؤال.

ص: 49


1- في روايته عن الإمام الباقر (عليه السلام) في الصلاة خلفهم وقول الإمام (عليه السلام): (لا تدع الصلاة معهم وخلف كل إمام، فلما خرج -الرجل- قلتُ له: جُعلتُ فداك، كبُر عليّ قولك لهذا الرجل حين استفتاك، فإن لم يكونوا مؤمنين؟ قال: فضحك عليه السلام ثم قال: ما أراك بعد إلا هاهنا، يا زرارة، فأي علة تريد أعظم من أنه لا يأتم به) (وسائل الشيعة: 8/300، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب 5، ح5).
2- ورد في رواية حادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس (فقال الرجل لأبي عبد الله (عليه السلام): تفطر يوماً من شهر رمضان؟! فقال: إي والله، أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليّ من أن يُضرب عنقي) (وسائل الشيعة: 10/132، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح4).

ومضافاً إلى ذلك فإن رواية أبي الجارود المتقدمة تشير إلى أن الأصحاب قد سألوا عن حكم هذه الحالة.

ويظهر من لحن جواب الإمام (عليه السلام) امتعاضه(1) من اختلاف الأصحاب في التضحية وعدمه مع أن الأمر مقطوع به عندهم وقد سار عليه الشيعة تبعاً لأئمتهم (عليهم السلام) وهو أن يضحّوا يوم يضحّى الناس، فأعطى الجواب حاسماً.

5- إننا لا ننفي وجود مطابقة في الهلال أحياناً، وغاية ما تثبته الشواهد التي ذكرها حصول المطابقة في الجملة ونحن لا ننفيها إلا أننا لا نحتاج أن نثبت وجود الاختلاف على نحو الكبرى الكلية ليتنجّز موضوع السؤال، بل يكفي حصوله في الجملة لتتم مقدمات دليل السيرة، فالشواهد التي ذكرها لتشددهم لا تنفي وجود الاختلاف في الجملة.

وقد اعترف (دام ظله الشريف) بوجود الاختلاف في الجملة، وإنما نفى وقوعه في غالب الأعوام، وقرّب بعض من تبعه وقوعه مرة كل عشر سنوات وهذا يعني وقوعه خمساً وعشرين مرة خلال زمن المعصومين (عليهم السلام) في شهر ذي الحجة ويتضاعف المقدار بلحاظ بقية الشهور الاثني عشر في السنة، فالموضوع إذن متحقق، وليس معدوماً حتى يكون مبرراً لعدم السؤال عن الحالة كما افترض المستشكل، وحينئذٍ نتساءل لماذا لم يتحرك

ص: 50


1- هذا الامتعاض الذي فهمناه من لحن كلام الإمام وجدناه (عليه السلام) يصرّح به في موضوع آخر جرت السيرة القطعية عليه أيضاً في باب تحريم ولاية الجائر ففي صحيحة الوليد بن صبيح قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فاستقبلني زرارة خارجاً من عنده فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا وليد أما تعجب من زرارة؟ سألني عن أعمال هؤلاء أي شيء كان يريد؟ أيريد أن أقول له: لا، فيروي ذاك علي. ثم قال: يا وليد متى كانت الشيعة تسألهم عن أعمالهم؟ إنما كانت الشيعة تقول: يؤكل من طعامهم ويشرب من شرابهم، ويستظل بظلهم متى كانت الشيعة تسأل من هذا؟) (وسائل الشيعة: 17/187، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 45، ح1).

أحد الأصحاب للسؤال عن حكم الحالة أو يبتدئهم الإمام بالبيان، وقد تضمنت الروايات أحكام حالات نادرة الابتلاء كبعض كفارات الصيد.

6- جعل تشدد فتاوى أبي حنيفة وتلامذته شاهداً على ضبط الرؤية، وأبو حنيفة ليس إلا واحداً من فقهاء كثيرين، ولم يصبح فقهه رسمياً إلا بعد وفاته، مضافاً إلى أن المشكلة ليست في الأحكام المكتوبة على الورق وإنما في الالتزام بها، أليست أحكام الشريعة مكتوبة في القرآن الكريم تتلى صباح مساء، ويروونها عن النبي (صلى الله عليه وآله)؟ فلماذا انقلبوا على الأعقاب بمجرد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبدأ مشروع نقض الإسلام عروة عروة حتى اعترفوا في صحاحهم بأنه لم يبق منه شيء، ومن ذلك ما رواه البخاري بسنده عن الزهري قال: ((دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت)(1).

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ» (الانشقاق : 19) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ولا تخطئون طريقهم، قال (عليه السلام): قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله): فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الإمامة وآخره الصلاة)(2).

وقد بدأ سلفهم الذي يقدسونه ويعتبرونه أفضل الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إحداث هذه الفتن حين أنكر الوصية لأمير المؤمنين

ص: 51


1- صحيح البخاري: 67/كتاب 9، مواقيت الصلاة، باب 7، ح 529، 630، ونفس المصدر: 822، كتاب 92، الفتن، ح 7049.
2- تفسير القمي: 2/412.

(عليه السلام) ورد شهادة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي شهد الله تعالى بعصمتها وطهارتها بشهادة إعرابي منافق زعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، في مخالفة صريحة لنصوص القرآن الكريم.

ونذكر مثالاً لورع واحتياط فقهائهم وهو ما قام به قاضي القضاة -وهو أعلى منصب ديني رسمي- ابن أبي دؤاد(1)

عند المعتصم العباسي عندما أخذ برأيالإمام الجواد (عليه السلام) في قطع يد السارق من مفصل أصول الأصابع وترك رأي فقهاء السلطة، فروى صاحب أبي دُؤاد الحميم أنه رجع مغتماً ولم يصبر حتى صار إلى المعتصم في اليوم الثالث وقال: ((إن نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار))(2)

ولفت انتباهه إلى خطورة أن يترك أقوال السائرين في ركابه كلهم ((لقول رجل

ص: 52


1- أحمد بن أبي دؤاد الإيادي (160-240 ه_)، كان يقال: أكرم من كان في دولة بني العباس البرامكة ثم ابن أبي دؤاد اتصل بالمأمون أولاً وأوصى به أخاه المعتصم حين موته فعيّنه قاضي القضاة وجعل يستشيره في أمور الدولة كلها، مات في زمان المتوكل بعد أن أصيب بالفالج سبع سنوات، كان رأس فتنة القول بخلق القرآن، قال الذهبي: حمل الخلفاء على امتحان الناس بخلق القرآن ولولا ذلك لاجتمعت الألسنة عليه. (الأعلام للزركلي: 1/120). وكما هو واضح فإنه غير ابن أبي داوود السجستاني (230-316) صاحب كتاب السنن المعروف فإنه لم يدرك الإمام الجواد (عليه السلام) واسمه عبد الله بن سليمان الأزدي (الأعلام: 4/224). ومنه يُعلم الاشتباه الذي صدر من قلم المرحوم الشيخ باقر شريف القرشي حين أضاف لقب السجستاني إلى اسم أبي داوود في قضية الإمام الجواد (عليه السلام). (موسوعة سيرة أهل البيت (عليهم السلام): 32/314) وهو قد ذُكر في المصادر بلا لقب.
2- تفسير العياشي: 1/319 ونقله عنه في بحار الأنوار: 50/5، تفسير البرهان: 3/236، وسائل الشيعة: 18/490.

يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء، قال: فتغيّر لونه وانتبه ثم بدأ التخطيط لقتل الإمام الجواد (عليه السلام).

فعن أي فتاوى وأحكام وشهادات نتحدث، وما الغرض من تلميع صورة عبد الملك بن مروان وأمثاله من أعداء الله تعالى ورسوله ومحرّفي الكتاب ومغيري السنن ومرتكبي الكبائر جهاراً وقاتلي النفوس المحترمة وعلى رأسها النفوس المطهرة لأهل البيت (عليهم السلام) وغيرها من الجرائم الشنيعة التي اعتدوا بها على كل المقدسات، فلم يسلم منه القرآن الكريم ولا الكعبة المعظمة ولا المشاهد المشرفة.

ومن الشواهد التأريخية على تلاعب السلطات بأمر الموقف ما رواه الطبري في تاريخه قال: ((حج بالناس في هذه السنة -أي سنة أربعين- المغيرة بن شعبة، قال الراوي: لما حضر الموسم -يعني في العام الذي قُتل فيه علي عليه السلام- كتب المغيرة بن شعبة كتاباً افتعله على لسان معاوية فأقام للناس الحج، ويقال أنه عرّف بيوم التروية ونحر يوم عرفة خوفاً أن يفطن بمكانه وقد قيل أنه إنما فعل ذلك المغيرة لأنه بلغه أن عتبة بن أبي سفيان مصبّحه والياً على الموسم فعجّل الحج من أجل ذلك)(1).

ولعل الروايات التي أوردها القوم في كتبهم ونقلها عنهم المستشكل كانت لتلميع صورتهم وإظهار تورعهم في أمور الدين، وربما كانوا يقومون ببعض المظاهر الدينية لخداع العامة والحفاظ على مواقعهم كخلفاء للمسلمين ولم يكن هذا ديدنهم ولا يوجد ما يؤكده من مصادرنا إلا التقريب الذي ذكرته رواية أبي العباس.

7- الاستغراب الذي ذكره (دام ظله الشريف) من سكوت الأصحاب على الوقوف في غير يوم عرفة حتى جعله كاشفاً عن عدم وجود الاختلاف

ص: 53


1- تاريخ الطبري: 6/92، آخر حوادث سنة أربعين.

أصلاً، لا وجه له لأنه بالجعل الشرعي وبالعنوان الثانوي وهم يرون فعل الإمام (عليه السلام) كما في سائر العناوين الثانوية كأكل الميتة المحرمة عند الضرورة وإفطار الصائم في شهر رمضان ومسح المتوضئ على الجبيرة عند الضرر والعسر والحرج واعتباره كالمسح على الجلد وغير ذلك كثير، ولا غرابة فيها بعد حكم الشارع المقدس بها.

8- إن وقوع الاختلاف أمر طبيعي ووجداني فلا سبيل لإنكاره؛ للاختلاف الموجود بين الفقهاء في كيفية ثبوت الهلال والأمور التي يثبت بها وكفاية الشهادات وشروطها والاختلاف في وحدة الأفق للبلاد الإسلامية وتعددها، وغير ذلك مما يوجب الاختلاف بين علماء العامة أنفسهم، كالاختلاف الذي نراه بين علماء الشيعة بحيث يثبت العيد أحياناً في ثلاثة أيام ويسبق بعضهم العامة في ثبوته، والموسوعات الفقهية للفريقين مليئة بهذه الاختلافات.

قال العلامة في التذكرة: ((ولو شهد واحد أو اثنان برؤية هلال ذي الحجة وردَّ الحاكم شهادتهما، وقفوا يوم التاسع على وفق رؤيتهم وإن وقف الناس يوم العاشر عندهما، وبه قال الشافعي، وقال محمد بن الحسن: لا يجزئه حتى يقف مع الناس يوم العاشر))(1).

أقول: وحكى روايتهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه)(2)

وقول النبي (صلى الله عليه وآله): (حجكم يوم تحجون)(3).

9- لو افترضنا صحة ما ذكره من تشددهم في رؤية الهلال حتى أنهم قد يتأخرون عن الوقت الشرعي بحسب ما استفاده من حادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس حيث فهم أن اليوم كان الثلاثين من شعبان

ص: 54


1- تذكرة الفقهاء: 8/191.
2- سنن الدارقطني: 2/223-224، سنن البيهقي: 5/176.
3- فتح العزيز: 7/364-365، المجموع: 8/292.

وقد ثبت هلال شهر رمضان عند الإمام (عليه السلام) ولم يثبت عند أبي العباس، أقول: لو افترضنا صحته فإن هذا لا يحل المشكلة بل يرسّخها، لأنه يعني أن الاختلاف ما زال موجوداً، وكل الذي حصل انتقاله من جانب التفريط -أي سبق الوقت الشرعي- إلى جانب الإفراط -أي التأخر عنه- وكلاهما خارج عن حد الشريعة، ومعناه أن الاختلاف حاصل.

10- ولا أدري كيف استنتج تشددهم في أمور الدين -كالهلال- من حادثة أبي العباس وهو يأكل في يوم الشك من شهر رمضان -بناءً على فهم المستشكل- ويجبر الإمام على أن يأكل معه ويهدده بالقتل، ولو كان من أهل الورع والتشدد لاحتاط بصيام ذلك اليوم ولو لاستحبابه أو أي أمر آخر مع علمه أو ظنه بأن الإمام صائم لذا ابتدأه بالتهديد، وهو يعلم المرتبة المقدسة للإمام (سلام الله عليه).11- وبغضّ النظر عما ذكرناه آنفاً، فإنَّ الرواية الوحيدة التي استدل بها على تشددهم من كتبنا هي حادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس السفاح وهي ظاهرة في عكس ما أفاده (دام ظله) مِن تأخُر ثبوت الهلال لدى الدولة عن الوقت الشرعي وتشددهم في أمر الهلال وتُوافِق ما ذكرناه من تساهلهم في أمره إذا فهمنا أن الخلاف كان يوم الشك في دخول الأول من شوال لا من رمضان خصوصاً وأن المذكور في الرواية (يوم شك) وليس (يوم الشك) حتى يقال أنه ينصرف بحسب الاصطلاح -على القول بثبوت الحقيقة الشرعية- إلى الثلاثين من شعبان وفي ضوء هذا تكون السلطة قد حكمت بالعيد قبل وقته الشرعي، ولا أقل من الترديد والإجمال في المراد من يوم الشك في الرواية فلا تصلح للاستدلال على تشددهم في أمر الهلال.

ويحسن الالتفات إلى جملةٌ من القرائن ترجّح ما ذهبنا إليه:

(منها) حضور الإمام عند أبي العباس السفاح وهي من مراسيم الدولة يومئذٍ أن يسلّموا على الخليفة في يوم العيد لا الأول من رمضان والمذكور في التواريخ أن العيد كان يوماً واحداً بحيث تترتب عليه الأحكام الشرعية ثم

ص: 55

وسّعت الدولة الاحتفال به إلى ثلاثة أيام ليوزّعوا عليها طبقات الدولة والشعب بحسب وجاهتهم للسلام على الخليفة.

(ومنها) اهتمام أبي العباس بإفطار الإمام (عليه السلام) معه بحيث يخشى الإمام من القتل، وهو يليق بالعيد حيث تهتم الدولة بإظهار هيبتها وقوة قرارها وبسط سلطتها وإثبات شرعيتها أما بداية الصوم فلا يشكّل للدولة معنى.

(ومنها) إن اليوم لو كان المردد بين شعبان ورمضان لكان الإمام (عليه السلام) في سعة من أمره ويستطيع أن يقول أنني صائم تأسّياً بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو لا يزوره في ذلك اليوم المشكوك أصلاً.

12- إن ما قاله (دام ظله) من صعوبة انقياد الشيعة لأوامر السلطة والمخالفين حتى فيما ورد فيه الترخيص صحيح لكن الشيعة بوقوفهم في يوم عرفة مع العامة إنما ينقادون لإمامهم الواقف معهم في الموسم ولا يحتاجون إلى سؤاله ولا يحسّون بأية حزازة لوجوده الشريف بينهم ومواظبة الأئمة الطاهرين عليهم السلام في حضور الموسم مما لا يحتاج إلى ذكر الشواهد لشهرتها وتواترها.

13- ما ذكره من احتياط فقهاء العامة وأمرائهم في الوقوف مرتين لا يحلّ المشكلة بل يخرجنا عن فرض المسألة الذي هو عدم التمكن من الوقوف في الوقت الشرعي، أما إذا كان ذلك ممكناً فلا مشكلة في البين، ولا أظن أنه يقول بوجود هذه الحرية والسعة على طول عهد الأئمة (عليهم السلام)، وقد ناقشنا هذه النقطة مع السيد الشاهرودي (قدس سره).

14- ليس دقيقاً ما ذكره (دام ظله الشريف) من أن الفقه الحنبلي المتساهل في أمر الهلال لم تعمل به السلطات إلا في الأزمنة القريبة، فقد قرّب المتوكل العباسي أحمد بن حنبل وتبنى فقهه بعد موقفه من فتنة خلق القرآن، وأن قاضيه في مصر أخرجأصحاب أبي حنيفة والشافعي من المسجد ومنعهم من

ص: 56

التدريس فيه(1) بل حكي حصول هذا الأمر في كل البلاد بما فيها المدينة المنورة(2).

بل الأمر أكثر من ذلك فإن هذا الفقه المتساهل في مسألة الهلال الذي سار عليه أحمد بن حنبل هو منهج الخليفة الثاني بعينه، كما هو المنقول في جوامعهم الحديثية لا سيما مسند أحمد، فقد روي عن عمر أنه كان يكتفي بالشاهد الواحد في هلال شهر رمضان، منه ما روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كنت مع عمر فأتاه رجل فقال: إني رأيت الهلال هلال شوال، فقال عمر: يا أيها الناس أفطروا(3).

إن قلتَ: إن رواية عبد الرحمن عن عمر لم تثبت.

قلتُ: إنهم رووا هذا المعنى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها ما رووه عن ابن عباس قال: جاء إعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني أبصرت الهلال الليلة، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذّن في الناس فليصوموا غداً(4).

وعن ابن عمر قال: ترايا الناس الهلال فأخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه(5) وغيرها.

ص: 57


1- تأريخ الإسلام للذهبي: 4/262، النجوم الزاهرة في تأريخ مصر والقاهرة: 1/245.
2- لماذا نحن مسلمون لحميد جابر القرشي: 231.
3- مسند أحمد: 1/28، الحديث 188.
4- سنن الترمذي: 2/99، ح 686، سنن البيهقي: 4/211، سنن النسائي: 4/132، سنن أبي داود: 1/525، ح 2340، سنن ابن ماجة: 1/529، ح 1652.
5- سنن البيهقي: 4/212.

تنبيهان: في ختام الحديث عن دليل السيرة ننبه إلى أمرين:-

1- إن ما اختاره السيد الشاهرودي (قدس سره) من التشكيك في إجبار السلطات الحجاج على السير وفق توقيتاتهم لنقض دليل السيرة أولى مما ذهب إليه بعض ممن حضرنا بحثه الشريف من التشكيك في حصول الخلاف في أوائل الشهور لاعترافه قبل خصمه بوجود هذا الخلاف ولو في سنين متفاوتة، أما الإجبار فيمكن أن ينفى ويقال إن ما دلّ على مصاحبة الإمام (عليه السلام) لأمير الموسم وأداءه المناسك معه كان في السنين المتطابقة وإن كنّا قد رددنا كل ذلك.

2- إن دليل السيرة وإن ردّوه نظرياً إلا أنهم يذعنون له عملياً ونستكشف ذلك من عدة أمور، منها أنهم يسلّمون ببطلان حج من ترك الوقوف مع العامة والوقوف في الوقت المعتبر شرعاً معاً، والمفروض أن أدلة التقية لا تقتضي أكثر من سقوط شرطية الوقوف يوم التاسع الشرعي إذ لا تقية في ترك الوقوف في تاسعهم إذ يمكن للحاج أن لا يخرج إلى الموقف أصلاً، وحينئذٍ يُسألون عن وجه الالتزام بالوقوف مع العامة حتى قالوا ببطلان الحجة بتركه؟ وسيأتي مزيد من التفصيل عن البحث في دليل التقية إن شاء الله تعالى.

(الوجه الرابع) الإجماع

ذكره السيد الشاهرودي (قدس سره) في تقريراته(1)

وأشكل عليه بأمرين:-

1- ((إنه ليس في ما نحن فيه إجماع)).

وفيه: إن أراد بالإجماع ما يتحصّل من كلمات الأصحاب فهذا غير موجود لخلو كتب الأصحاب من التعرض للمسألة، إلا أننا نعرض وسيلة

ص: 58


1- كتاب الحج، بقلم الشيخ محمد إبراهيم الجناتي: 3/335.

أخرى لإثبات الإجماع وذلك باستكشافه من ظاهرة معينة، وبذلك تكون عندنا وسيلتان لتحصيل الإجماع: إنّيّة ولمّيّة، والظاهرة الموجودة هنا إطباق الفقهاء المتقدمين والمتأخرين على عدم التعرض للمسألة وتقديم المعالجة لهذه القضية وكيفية تصرف الحجاج بإزائها مع أهميتها وركنيتها في أعظم العبادات الدينية التي يؤتى بها في العمر مرة، ومع تنجّز موضوعها أعني وجود الاختلاف في ثبوت الهلال وعدم التمكن من الإتيان بالوقوف في وقته الشرعي، وإذا شككوا في وقوع هذين الأمرين كما تقدم في دليل السيرة، فإن الأصحاب لم يتعرضوا للمسألة حتى في الزمن الذي ثبت فيه الاختلاف مع قضاة العامة في الهلال وثبت إجبار المسؤولين الحجاج على الوقوف معهم، بحسب ما تدل عليه النقول التأريخية، فإذا طعن القائل بعدم الإجزاء في دليل السيرة من جهة احتمال عدم وجود منع عن الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً، أو عدم وجود اختلاف في الهلال أصلاً، وبه فسّر عدم ورود رواية أو مسألة عن هذه الحالة، فبماذا يفسِّر خلوّ كتب الأصحاب من بحث هذه المسألة في الأزمنة التي ثبت فيها تحقق هذا الاختلاف وعدم تمكن الحجاج من الإتيان بالوقوف في موعده الصحيح تقية، غير تسالمهم على إمضاء الواقع الموجود في الخارج، أي الإجزاء بنحو لا يحتاج إلى البحث، وهذا الإجماع يمكن تسميته (الإجماع التقريري) لأنه يكشف عن إجماع الفقهاء على تقرير حالة معينة، فالكاشف هو هذا التقرير وليس عدم تعرضهم للمسألة فاستكشاف الإجماع هنا من قرينة خاصة وهي هذه الظاهرة، لذا ينبغي الالتفات إلى أن هذه الأطروحة لاستكشاف الإجماع بها مطلقاً بل ننفي كاشفية عدم تعرض الأصحاب لمسألة ما عن شيء خصوصاً عند القدماء الذين بنوا كتبهم الفقهية على المضامينالواردة في الروايات الشريفة، كالذي ذكره بعض المعاصرين في الاستدلال على قول المشهور في اشتراط اتحاد الأفق لثبوت الهلال(1).

ص: 59


1- راجع صفحة 508 من هذا المجلد.

ومن تلك الأزمنة ما شهده عصر المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك ومن بعدهما مثل صاحب الحدائق (قدس الله أرواحهم جميعاً) وكلهم أصحاب موسوعات فقهية تناولت أدق التفاصيل من الأحكام الشرعية ومع ذلك لم يتعرضوا لهذه المسألة ولم يعالجوا هذه المشكلة مع شدة الابتلاء بها.

حيث ذكر بعضهم في حوادث سنة 1099 بعد الإشارة إلى أن قضاة العامة يمكن أن يتعمدوا جعل أول الشهر الخميس حتى يصادف عرفة يوم الجمعة(1)

ليتحقق الحج الأكبر بحسب تفسيرهم وينالوا الخلع السنية عند السلطان بحيث وصفت أن غناها يصل إلى أعقابهم، قال: ((لقد وقعت هذه المشكلة مرات كثيرة طوال عمري وفي بعض المرات حكم قاضي مكة بثبوت الهلال استناداً إلى شهادة حاج مغربي))(2).

وحُكي في نفس المصدر ((أنه عند الاختلاف في الموقف لا يسمح للشيعة بالوقوف في عرفات في الموقف الشرعي وأضاف: إن الفاضل القزويني لما اشتبه عليه أمر الهلال ولم يتبع أهل السنة علم بذلك رؤساء مكة وحكموا بقتله فأخفى نفسه في أطراف مكة إلى العام اللاحق وأدى الحج، وإن فاضلاً آخر يسمّى بالمولى زين العابدين الكاشاني لما لم يتبعهم في الموقف قتلوه)).

1- ((إنه على فرض ثبوته، لا عبرة به، لما ذكرناه غير مرة من أن الإجماع المعتبر هو التعبدي الموجب للقطع بصدور الحكم عن المعصوم (عليه

ص: 60


1- وقيل في سبب ذلك أن المماليك والعثمانيين كانوا يتشاءمون إذا حصل الدعاء للخليفة مرتين في اليوم ويرون أن من يُدعى له في اليوم الواحد مرتين (في صلاة العيد وصلاة الجمعة) فهي إشارة إلى زوال ملكه، فإذا حصل عرفة في الجمعة صارت صلاة الأضحى يوم السبت.
2- السيد عبد الحي الرضوي الكاشاني -المتوفى بعد عام 1152- في كتابه حديقة الشيعة في حوادث سنة 1099 كما حكي عنه في موسوعة رؤية الهلال (1/113 من المقدمة) وترجمها البعض من الفارسية.

السلام) أو الكاشف عن رضاه (عليه السلام) لا المدركي، وفي المقام يحتمل أن يكون المدرك بعض الوجوب فالعبرة بالمدرك إن تم)).

أقول: المفروض عندهم عدم وجود دليل واضح على القول بالإجزاء وإذا وجد فعلى نحو ضعيف لا يصلح لإنتاج إجماع قوي فكيف تحقق هذا الإطباق من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين لو لم يكن تعبدياً متصلاً بزمان المعصومين (عليهم السلام) نظير ما ثبت في السيرة، أما عمومات التقية ونحوها فلا تكفي لتبرير الإعراض عن تناول المسألة للإشكالات الآتية على الاستدلال بعمومات التقية، وكذا لا يكفي التعويل على عمومات ثبوت الهلال بالرؤية لإنتاج الحكم بعدم الإجزاء.إذن يمكن اعتبار الإعراض التام من المتقدمين والمتأخرين على عدم تناول المسألة مع أهميتها كاشفاً عن إجماعهم وتسالمهم على حكم الإجزاء.

(الوجه الخامس) الروايات الدالة على أن الحج يكون مع الناس، ولكن لا بما هم ناس مختلفون، وإنما بما هم منقادون لأمير الحاج، وأن مناسك الحج يديرها الإمام والمراد به أمير الحاج:

(منها) رواية محمد بن سرو -وقيل ابن جزك الثقة- عن الإمام الهادي (عليه السلام) عمّن دخل مكة متمتعاً صباح يوم عرفة كيف يصنع (فوقّع (عليه السلام): ساعة يدخل مكة، إن شاء الله يطوف ويصلي ركعتين، ويسعى ويقصّر، ويخرج بحجته ويمضي إلى الموقف ويفيض مع الإمام)(1).

(ومنها) صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (على الإمام أن يصلي الظهر بمنى ويبيت بها ويصبح حتى تطلع الشمس ثم يخرج إلى عرفات)(2).

ص: 61


1- وسائل الشيعة: 11/295، كتاب الحج: أبواب أقسام الحج، باب 20، ح16.
2- وسائل الشيعة: 13/525، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 4، ح6.

وروايات صحيحة أخرى بنفس المعنى عن أجلاء الأصحاب.

(ومنها) صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فإذا شيخ كبير فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أدرك الإمام بجمع؟ فقال له: إن ظنّ أنه يأتي عرفات فيقف قليلاً ثم يدرك جمعاً قبل طلوع الشمس فليأتها، وإن ظنّ أنه لا يأتيها حتى يفيض الناس من جمع فلا يأتها وقد تم حجه).

وصحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات، فقال: إن كان في مهل حتى يأتي عرفات من ليلته فيقف بها ثم يفيض فيدرك الناس في المشعر قبل أن يفيضوا فلا يتم حجه حتى يأتي عرفات، وإن قدم رجل وقد فاتته عرفات فليقف بالمشعر الحرام فإن الله تعالى أعذر لعبده فقد تم حجه إذا أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشمس وقبل أن يفيض الناس، فإن لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحج فليجعلها عمرة مفردة وعليه الحج من قابل)(1) ومثلها روايات صحيحة أخرى.

أقول: الملفت في هذه الروايات أن الإمام (عليه السلام) كان يعلّم الواصل إلى مكة متأخراً عن عرفة الاحتياط بالوقوف الاضطراري لكنه لم يعلم أحداً هذا الاحتياط إذااختلف الوقت الشرعي عن الرسمي وهذا كاشف قطعي عن متابعة أمير الحاج في المناسك.

(ومنها) الروايات الدالة على الإفاضة مع الناس بما هم منقادون لأمير حجهم كصحيحة معاوية بن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا غربت الشمس فأفض مع الناس وعليك السكينة والوقار، وأفض من حيث أفاض الناس)(2).

(ومنها) الروايات الدالة على أن الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) يحضر الموسم مع الناس ويرونه ولا يعرفونه وحضور الموسم لا يصدق إلا

ص: 62


1- وسائل الشيعة: 14/36، أبواب الوقوف بالمشعر، باب 22، ح2.
2- وسائل الشيعة: 14/5، أبواب الوقوف بالمشعر، باب 1، ح1.

بالوقوف مع الناس، كمعتبرة الشيخ الصدوق في إكمال الدين بسنده عن محمد بن عثمان قال: (سمعته يقول: والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه)(1).

(ومنها) الروايات الواردة في الصوم وتعميمها إلى الحج بوحدة المناط بل بالأولوية والقطعية كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

كمعتبرة عيسى بن أبي منصور، قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) في اليوم الذي يُشَكّ فيه، فقال: يا غلام اذهب فانظر هل صام الأمير أم لا؟ فذهب ثم عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدينا معه)(2).

ورواية الفقيه بسنده عن عبد الكريم بن عمرو حيث سأل الصادق (عليه السلام) فقال: (إني جعلت على نفسي أن أصوم حتى يقوم القائم عليه السلام؟ فقال: لا تصم في السفر، ولا في العيدين، ولا أيام التشريق، ولا اليوم الذي تشك فيه، ومن كان في بلد فيه سلطان فالصوم معه، والفطر معه؛ لأن في خلافه دخولاً في نهي الله عز وجل حيث يقول: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة: 195) )(3).

والمراد بالإمام هنا أمير الحاج لأن حمله على الإمام المعصوم خاصة أو عليه وعلى من ينوب عنه يجعل الروايات غير واقعية؛ لأن أمر الحج كان بيد السلطات. وهذا المعنى مستفاد من الروايات أيضاً.

(فمنها) رواية قرب الإسناد بسنده عن حفص بن عمر مؤذن علي بن يقطين قال: (كنا نروي أنه يقف للناس في سنة أربعين ومائة خير الناس(4)،

ص: 63


1- وسائل الشيعة: 11/135، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 46، ح 8.
2- من لا يحضره الفقيه: 2/79، الباب 36 في صوم يوم الشك، ح5.
3- من لا يحضره الفقيه: 2/79، الباب 36 في صوم يوم الشك، ح4.
4- قد يقصد حفص ما ورد في بعض الروايات عن الأئمة (عليهم السلام) من ظهور أمرهم وقيام قائمهم على رأس مائة وأربعين، وإن الأتباع لما أذاعوه أجّله الله تعالى، والله لطيف بعباده، ولله عاقبة الأمور.

فحججت في تلك السنة فإذا إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس واقف. قال: فدخلنا من ذلك غمشديد لما كنا نرويه، فلم نلبث إذا أبو عبد الله عليه السلام واقف على بغل أو بغلة له، فرجعت أبشّر أصحابنا. ورجعت فقلنا: هذا خير الناس الذي كنا نرويه، فلما أمسينا قال إسماعيل لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول يا أبا عبد الله، سقط القرص؟ فدفع أبو عبد الله عليه السلام بغلته وقال له: نعم، ودفع إسماعيل بن علي دابته على أثره فسارا غير بعيد، حتى سقط أبو عبد الله عليه السلام عن بغله - أو بغلته - فوقف إسماعيل عليه حتى يركب فقال له أبو عبد الله عليه السلام - ورفع رأسه إليه - فقال: إن الإمام إذا دفع لم يكن له أن يقف إلا بالمزدلفة، فلم يزل إسماعيل يتقصد حتى ركب أبو عبد الله عليه السلام ولحق به)(1).

أقول: محل الشاهد في آخر الرواية حيث طبق (عليه السلام) عنوان الإمام على أمير الحاج.

(ومنها) صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج، إن شاؤوا وإن أبوا، فإن هذا البيت إنما وضع للحج)(2)

وبضميمة صحيحة حفص بن البختري وهشام بن سالم ومعاوية بن عمار وغيرهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين).

وهذا المعنى موجود في روايات العامة، فقد روى البيهقي في سننه بإسناده عن عائشة أنها قالت: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عرفة يوم

ص: 64


1- قرب الإسناد: 161.
2- والحديث الذي بعده في وسائل الشيعة: 11/24، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 5، ح1، 2.

يعرف الإمام، والأضحى يوم يضحي الإمام والفطر يوم يفطر الإمام)(1).

وروى الطبراني في المعجم الأوسط بإسناده عن مسروق (أنه دخل على عائشة يوم عرفة فقال: اسقوني، فقالت عائشة: يا غلام اسقه عسلاً، ثم قالت: وما أنت يا مسروق بصائم؟ قال: لا، إني أتخوف(2) أن يكون يوم الأضحى، فقالت عائشة: ليس ذلك، إنما يوم عرفة يوم يعرِّف الإمام ويوم النحر يوم ينحر الإمام، أوما سمعت يا مسروق أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعدله بصيام ألف يوم)(3).ونقل العلامة والشهيد(4)(قدس الله سريهما) جملة من الأحاديث التي رواها العامة في كتبهم للاستدلال على إجزاء الوقوف في عرفة مع الناس المنقادين لإمامهم إذا وقع في غير اليوم التاسع غلطاً، كقول النبي (صلى الله عليه وآله): (يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه)(5)

وقول النبي (صلى الله عليه وآله): (حجّكم يوم تحجّون)(6)

وقول النبي (صلى الله عليه وآله): (فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحّون)(7).

نعم قال العلامة: ((في الكل إشكال))(8) أي في الأحكام الفرعية التي ذكروها ولم يناقشوا في سندها، وقال بعض المعاصرين: إن هذا يعني أن

ص: 65


1- سنن البيهقي: 5/175.
2- هذا التخوف منشأه الاختلاف في ثبوت الهلال.
3- المعجم الأوسط للطبراني: 7/44.
4- تذكرة الفقهاء: 8/190، الدروس للشهيد الأول: 1/420.
5- سنن الدارقطني: 2/223-224، سنن البيهقي: 5/176.
6- فتح العزيز بهامش المجموع: 7/365، المبسوط للسرخسي: 4/57، وشكك ابن حجر في كون الحديث بهذا النص.
7- سنن أبي داوود: 2/297، ح 2324، سنن الترمذي: 3/80، ح 697، سنن الدارقطني: 2/224، ح35، سنن البيهقي: 5/175، كنز العمال: 8/488، ح 23761، 23762.
8- منتهى المطلب: 11/62.

الأصحاب تلقوا مضمونها بالقبول، وهي ظاهرة -ولو بقرينة مورد الاستدلال- أن فعل أمير الحاج- ولو اعتمد على موازين غير معتبرة عندنا في تحديد زمان الوقوف- موجب لتنزيل الموقف الشرعي على طبقه.

لكن قال صاحب الجواهر (قدس سره) بعد نقل إشكال العلامة: ((قلت: بل منع، ضرورة عدم ثبوت ما ذكروه من الروايات، وعدم انطباقه على أصول الإمامية وقواعدهم إلا على ما توهمه بعض منا من قاعدة الإجزاء في نحو بعض الفروع المذكورة))(1).

واحتمل البعض أن هذه الروايات أجنبية عن المدعى لأن معناها أن الإمام إذا قامت لديه حجة شرعية على الهلال من بينة أو شياع فليس للمكلف أن يشك أو يحتمل الخلاف وإنما عليه متابعة الإمام.

ويرد عليه حينئذٍ: أنه لا تبقى خصوصية لذكر الإمام حينئذٍ لأن المناط هو اتباع الحجة الشرعية التي تحققت عند الإمام، ومن البعيد حمل هذه الروايات على حجية البيّنة أو الشياع ونحو ذلك.

(الوجه السادس) بعض المصالح العليا التي اهتم بها الشارع المقدس:إذ أننا نعلم أن من أهم مصالح الحج والحكمة من تشريعه بعد ذكر الله تعالى وإخلاص توحيده تحقيق وحدة المسلمين واجتماعهم على حقهم وإظهار عزتهم وقوة شوكتهم، ولا يجوز نقض هذا الغرض العظيم باختلافات فرعية حول ثبوت الهلال ونحوه وإن الله تعالى يعلم أن المسلمين سيفترقون ثلاثاً وسبعين فرقة لهم رؤى متباينة فوحّدهم بهذه المناسك والشعائر والمشاعر والشعارات حتى في اللباس لكي لا يؤدي اختلافهم إلى خلاف وتمزّق وتشتت.

وقد اختصر بعض الأعاظم هذه الحكمة الجامعة بقوله: ((بني الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة)).

ص: 66


1- جواهر الكلام: 19/31.

وإن الانفصال عن بقية المسلمين في أداء المناسك يوجب نفورهم من الشيعة ويعطي المبرر لتصديق الافتراءات عليهم، ويلزم منه ((هتك حرمة الشيعة وانحطاط شأنهم وجعلهم في معرض التهمة ومظنة السوء، كما إذا كانوا مجتمعين في الحج والوقوف -كما في هذه الأزمنة- فإنه لا بد في هذه الصورة من حفظ مقامهم لئلا يقعوا في معرض الاتهام وينظر الناس إليهم بعين الابتعاد عن الإسلام والالتزام بشؤونه. فلا يجوز التخلف عنهم في الوقوف ونحوه، وإن لم يكن تقية ولا خوف في البين أصلاً))(1).

أقول: فهذه من أهم المنافع التي دعا الله تبارك وتعالى المسلمين إلى تحصيلها «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» (الحج:28) وعلى أتباع أهل البيت (عليهم السلام) أن يستثمروها بأقصى غاية الاستثمار في التعريف بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليم مدرستهم ورد الشبهات وإظهار الإسلام الأصيل الذي حمله أهل بيت النبوة وتنقيته من الشوائب، من خلال الاندماج مع عامة المسلمين وحينئذٍ تتوفر أعظم وسائل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل : 125).

وقد استدل بهذا الوجه جملة من الأعلام.

قال السيد السبزواري (قدس سره): ((إن من أهم حكم الحج اجتماع مسلمي مشارق الأرض ومغاربها في عبادة واحدة في مقابل فرق الكفر والضلال، فكأنما جعلت الحج لجمع الشمل ووحدة التفرق وتعارف فرق الإسلام بعضهم عن بعض ودفع البغضاء والتناكر عما بينهم ويكونوا يداً واحدة كلمة، وقبلة، وعملاً في مقابل غيرهم، والتفريق ولو لأجل الاختلاف في

ص: 67


1- تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة للفاضل اللنكراني: 5/104.

الهلال ينافي هذه الحكمة العظمى بل يكون موجباً لإثارة البغضاء وإيجاد التفرق التي ربما توجب ذلك إراقة الدماء))(1).

وقال الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): ((إن الموقفين من أعظم شعائر الله ومظاهره الموحدة، حيث أنه قد اجتمع فيها مئات الألوف من المسلمين من كافةفرقهم، بل الملايين بشكل موحد، بدون تمييز بين الغني والفقير، والداني والعالي، والعبد والمولى، ومن الطبيعي أن الشارع لا يرضى بتفريق صفوف المسلمين في هذه العبادة الاجتماعية في الإسلام التي هي ذات مغزى كبير روحياً ومدنياً))(2).

أقول: يمكن مناقشة هذا الوجه بأنه مجرد دعاوى استحسانية وإنشاءات خطابية لا ترقى إلى مستوى الدليل.

ويرد عليه: أنها ليست مجرد دعاوى بل هي ملاكات واقعية نقطع بمحبوبيتها لدى الشارع المقدس مطلقاً، قال تعالى: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً» (آل عمران:103)، وارتكاز المتشرعة قائم على أهمية هذا الملاكات، ويمكن تحصيل مضمونها من روايات كثيرة فهذه تقريبات لصحة الاستدلال بهذا الوجه.

ومنها رواية زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدِّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوأ

ص: 68


1- مهذب الأحكام: 14/191.
2- تعاليق مبسوطة: 10/452.

ما يؤدب أصحابه)(1).

ورواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من صلّى معهم في الصف الأول كان كمن صلّى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصف الأول)(2).

وغيرها من الروايات المشابهة في أبواب عديدة ونحن لا نقول بإطلاقها ولكن القدر المتيقن منها فرض المسألة.

(الوجه السابع) الأولوية فإن جواز الوقوف مع العامة تبعاً للسلطة أولى مما دل على جواز الصوم والإفطار في غير الوقت الشرعي مع السلطة، كرواية خلاد بن عمارة المتقدمة في حادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس السفاح، ومعتبرة عيسى بن أبي منصور قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) في اليوم الذي يُشكّ فيه، فقال: يا غلام، اذهب فانظر هل صام الأمير أم لا؟ فذهب ثم عاد، فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدينا معه)(3).وجه الأولوية: أن الحج عبادة ظاهرة وتؤدى على نحو الاجتماع، وإن المخالفة فيها أظهر في الخروج على أوامر السلطة خصوصاً من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) المرصودين من السلطة والمتهمين بعدم الاعتراف بشرعيتها، فإذا جاز الإفطار في غير وقته الشرعي: جاز الوقوف في عرفة معهم أيضاً وإن النكتة المتوفرة في الحج أقوى مما في الإفطار، سواء على مستوى التقية الخوفية أو المداراتية أو العسر والحرج وغير ذلك من النكات، ومن وجوه الأولوية أن تناول المفطر يذهب حقيقة الصوم، أما في الحج فهو إخلال بالأجزاء والشرائط.

ص: 69


1- وسائل الشيعة: 8/430، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب 75، ح1.
2- وسائل الشيعة: 8/299، أبواب صلاة الجماعة، باب 5، ح1.
3- وسائل الشيعة: 10/131، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح1.

إن قلتَ: إن هذه الروايات لا تنفع القائل بالإجزاء لأنها اقترنت مع وجوب القضاء لقول الإمام (عليه السلام) في مرسلة رفاعة: (فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يعبد الله)(1).

قلتُ: إن وجوب القضاء ليس محل وفاق لدى الأصحاب ونفاه جملة من الأعلام لضعف الدليل عليه، وسيأتي تفصيل الكلام في دليل التقية إن شاء الله تعالى.

نعم يمكن القدح في الأولوية من عدة جهات:-

1- إن إراءة الموافقة مع أداء العمل على وجهه الشرعي ممكن في الحج دون الصوم. فإذا كان اليوم يوم صوم والقوم مفطرون فلا يقبلون إلا بتناول المفطر ويلزم منه فساد الصوم، أما في الحج فيمكن أن يقف معهم ويريهم الموافقة ثم يعود ويؤدي الوقوف الاضطراري بمسمّاه إن أمكن.

2- إن الصوم مما يسهل قضاؤه في يوم آخر فتشريع الإفطار فيه تقية لا يلزم منه مؤونة كبيرة، أما عدم الإتيان بالوقوف في وقته الشرعي فإنه يلزم منه إعادة الحج وهو أمر عسير.

والخلاصة أن قياس الحج على الصوم محل نظر.

(الوجه الثامن) أطروحة حاصلها: أن الإجزاء على مقتضى القاعدة الثانوية في أمثال المورد.

بيان ذلك: أن بعض الأحكام الأولية يرتبط إجراؤها وتنفيذها بالسلطة الحاكمة لأنها المتولية لها عملياً فيتنازل الشارع المقدس عن حقه فيها، وأوضح مثال فقهي لذلك هو أداء الزكاة، فإن مورد صرفها محدَّد فإذا وضعها في غير موردها وجبت عليه الإعادة، حتى أن المخالف في المذهب إذا استبصر ليس

ص: 70


1- وسائل الشيعة: 10/132، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح5.

عليه إعادة شيء من عباداته (غير الزكاة، لا بد أن يؤديها لأنه وضع الزكاة في غير موضعها)(1).

لكن الروايات في أن ما تجبيه السلطة الجائرة المدعية للخلافة الإسلامية بعنوان الزكاة ويدخل في واردات الدولة: يكون مجزياً(2)؛

لأن الزكاة من موارد الدولةالتي تنفقها على المصالح كحفظ الأكم الداخلي والدفاع عن الحدود وبناء المستشفيات والمدارس وشق الطرق ونحو ذلك.

فمن هذا المثال ننطلق إلى ما نحن فيه إذ أن فريضة الحج عبادة جماعية واجتماعية تقتضي حركة واحدة للحجاج عندما تنظمها السلطة الحاكمة سواء كانت عادلة أو جائرة لكنها تدعي الخلافة الإسلامية كالموجودة في زمان المعصومين (عليهم السلام) فيتنازل الشارع المقدس عن لزوم الإتيان بها في وقتها المعتبر شرعاً، بحسب الفتوى خصوصاً وأن السلطات هناك لا تعتمد أول الشهر اعتباطاً وإنما وفق مبنى فقهي معين قد يوافق بعضاً ويخالف بعضاً آخر من علماء الإمامية.

نتيجة أدلّة القسم الأول:

وفي الختام نقول: إن هذه الوجوه السبعة، وإن لم تسلم من المناقشات إلا أن ضمّ بعضها إلى بعض -مضافاً إلى ما يأتي من الأدلة العامة- يحصِّل الاطمئنان بالقول بالإجزاء، وهي حالة وجدانية متبعة في عملية الاستنباط لدى الفقهاء المحققين ((كالاطمئنان الحاصل في سائر الموارد مع إمكان المناقشة في كل شيء حتى الضروريات))(3).

ص: 71


1- وسائل الشيعة: 9/216، كتاب الزكاة: أبواب المستحقين للزكاة، باب 3، ح2.
2- وسائل الشيعة: 9/252، أبواب المستحقين للزكاة، باب 20.
3- مهذب الأحكام: 14/195.

تنبيهان:

أولهما: مقارنة بين مداليل ومخرجات الوجوه السابقة:

بإجراء نظرة عامة على الوجوه المتقدمة يتضح الفرق بين مداليلها، فإن لسان الآية الشريفة والرواية هو تنزيل الوقوف يوم عرفة لدى العامة منزلة الوقوف في يوم عرفة الشرعي، أما السيرة فغاية ما تدل عليه الإجزاء ظاهراً، ويترتب على ذلك:-

1- إن الإجزاء واقعي على الأول فيكون مطلقاً حتى وإن عُلم بمخالفته للواقع، بينما هو على الثاني ظاهري يختص بما لو لم يقطع بالخلاف، فلو قطع بالخلاف أو انكشف له ذلك لاحقاً لم يجزه وسيأتي تفصيله في فرع مستقل إن شاء الله تعالى.

2- وإن السيرة دليل لبّي يقتصر منه على القدر المتيقن فلو شككنا في شمولها لغير التقية الاضطرارية كالتقية المداراتية أو الدعوتية ونحو ذلك فإن السيرة لا تقتضي الإجزاء، أما الآية والرواية ففيها إطلاق لمثل هذه الحالات.

ثانيهما: إن هذا التنزيل حكمي أي أن مقتضاه تنزيل الوقوف يوم عرفة الرسمي منزلة الوقوف يوم عرفة الشرعي ويكون مجزياً وليس التنزيل موضوعياً بمعنى جعل يوم التاسع لدى العامة تاسعاً شرعياً فلا تترتب عليه آثار الموضوعكاحتساب أول الشهر وبقية أيامه، فلو نذر أن يصوم اليوم الأول من ذي الحجة صام على الحساب الشرعي.

وكذا لا يكشف هذا التنزيل عن اعتبار حكم الحاكم الشرعي الثابت عندهم، لذا فالتعرض لهذا الفرع في مسألة ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي إذا لم يعلم خطؤه ولا خطأ مستنده على أساس ((تغير الواقع بحكم الحاكم بحيث يتبدل الحكم تبعاً لرأيه في مسألة الهلال بحيث إذا حكم أن غداً رمضان

ص: 72

فيجب صومه أو شوال فيحرم صومه وهكذا الأمر بالنسبة إلى الوقوف في عرفة))(1) لا وجه له، والمسألة ليست من صغرياته وفروعه.

وسيأتي مزيد من التفصيل عند الاستدلال بالتقية إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني: الأدلة العامة:

اشارة

حيث تجري في المسألة عدة قواعد عامة نذكرها في وجوه:

(الوجه الأول) نفي العسر والحرج(2)

الذي دلّ عليه قوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج:87) وقوله تعالى: «مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ» (المائدة:6) وقوله تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (البقرة:185) فإنها تدل على نفي وجود أحكام حرجية في الدين على مستويي التشريع والامتثال، أي أن الله تعالى لم يضمّن هذا الدين -أي على مستوى التشريع- أحكاماً تسبب حرجاً وعسراً على المكلفين، كما في الروايات عن بعض تكاليف الأمم السابقة.

وقد لا تكون الأحكام في نفسها حرجية عند تشريعها كوظيفة أولية، لكن الحرج والعسر والمشقة تحصل عند امتثالها -أي على مستوى التطبيق- بسبب بعض العوارض، كالوضوء فإنه ليس حرجياً في نفسه ولكن البرد قد يكون شديداً فيعسر على الشخص الوضوء أو يسبب له تشققاً أو إدماءً أو نحو ذلك. وحينئذٍ فإن الوظيفة الثانوية المجعولة هي سقوط هذا الحكم الحرجي والمسبب للعسر.

ص: 73


1- محاضرة البحث الخارج للسيد السيستاني بتأريخ: 16/ج1/1417.
2- حكي الاستدلال بها عن الشيخ عبد النبي العراقي (قدس سره) في رسالته (إعلام العامة: 46).

وقد استدل الأئمة (عليهم السلام) بهذه الآيات في روايات عديدة لإسقاط الأحكام الحرجية كما في رواية الكافي والتهذيب والاستبصار بالإسناد عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت علىإصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال (عليه السلام): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» امسح عليه)(1).

وتطبيق القاعدة في المقام: أن الحرج -على القول بعدم الإجزاء- يتصور من جهتين:-

1- تكليف الحاج بالاحتياط والوقوف مرة ثانية في عرفة مما قد يسبب له إهانة وتحقيراً وطرداً من السلطات خصوصاً مع توجه كل الشيعة للإتيان به فإنه يتحول إلى ظاهرة ملفتة وموجبة لغضب السلطة.

2- إعادة الحج في السنة القادمة إذا لم يتمكن من الوقوف في اليوم التالي أو الإتيان بالوقوف الاضطراري على الأقل، وفي هذه الإعادة ما لا يخفى من المشقة والضيق والعسر، وقد يحصل الاختلاف في شهر ذي الحجة في السنة القادمة فيطالب بالإعادة في الثالثة وهكذا، وحينئذٍ ينفى وجوب الحج مجدداً بدليل نفي الحرج المانع من صدق تحقق الاستطاعة ((ينبغي أن يُعَدَّ في شرائط تحقق الاستطاعة اتحاد الموقف أيضاً وهذا مستنكر))(2).

وقد استدل بالقاعدة في سائر أبواب الفقه، وقيل إن مواردها في كتاب الحج خمسون مورداً، ولا ينقض على الاستدلال بأن أصل الحج فيه عسر

ص: 74


1- وسائل الشيعة: 1/464، كتاب الطهارة: أبواب الوضوء، باب 39، ح5.
2- مهذب الأحكام: 14/191.

ومشقة لأن الكلام في جريان القاعدة عند الشك وليس في الأحكام الثابتة وإلا امتنع تطبيقها.

وحينئذٍ يكون مقتضى القاعدة سقوط وجوب الوقوف مرة ثانية سواء في الوقت الشرعي أو الاضطراري أو في السنة القادمة، ولما كان الوقوف مع العامة ثابتاً قطعاً فتعيّن الاجتزاء به، أي أن القاعدة تثبت القول بالإجزاء بضميمة ما دل على صحة أو مشروعية الوقوف مع العامة.

ولا بد أن يكون هذا تقريب مَن استدل بهذا الوجه على الإجزاء كصاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((ولا يبعد القول بالإجزاء هنا؛ للحرج، واحتمال مثله في القضاء))(1).

ويكون المورد نظير المسح على المرارة في الوضوء أو الجلوس في الصلاة إذا لم يتمكن من القيام ويجزئه الوضوء والصلاة، فكذلك من لم يتمكن من الوقوف المعتبر شرعاً يجزئه ما تيسر من الوقوف مع العامة الذي دلّ الدليل على مشروعيته بل لزومه.

إن قلتَ: ((إن مقتضى قاعدة انتفاء الكل بانتفاء جزئه والمقيد بانتفاء قيده عند حصول الاضطرار إلى ترك جزء أو قيد من واجب ارتباطي سقوط المركب رأساً لاسقوط ذلك الجزء أو القيد فقط -أي أن الوقوف في عرفة مشروط بكونه في التاسع من ذي الحجة وإذا تعذّر الوقوف في التاسع الشرعي بطل الوقوف كله، أما الوقوف مع العامة فإنه يقع في الثامن ولا قيمة له ولا يصحح الوقوف-.

نعم ثبت خلاف مقتضى هذه القاعدة في باب الصلاة بالنصوص الخاصة ولا يمكن التعدي عن موردها إلى ما نحن فيه لعدم قطع بالمناط، ولا عموم لفظي يقتضي ذلك فلا بد من العمل بما يقتضيه القاعدة المزبورة والالتزام بفوات الحج بترك الوقوف اضطراراً بل لا حاجة إلى إعمال هذه القاعدة في ما نحن فيه لدلالة

ص: 75


1- جواهر الكلام: 19/32.

نفس أخبار الباب على ركنية الوقوف المقتضية لبطلان الحج بفوات الوقوفين ولو اضطراراً))(1).

قلتُ: أولاً: إننا لا نسلّم أن مقتضى القاعدة ما ذكره (قدس سره)، ونعتقد أن مقتضاها يختلف بحسب مدخلية الشرط والجزء والقيد في تحقق ماهية المركب وسبب الفوات من حيث الجهل أو العمد أو النسيان ونحو ذلك، فشرطية الطهارة في الصلاة غير شرطية القيام فيها، لذا بطلت بفوات الأول ولو اضطراراً دون الثاني.

ثانياً: ولو تنزّلنا فإن الدليل موجود على خلاف القاعدة كالسيرة القطعية وغيرها مما أوردناه في القسم الأول.

نعم يمكن أن يوجه الإشكال بأن مفاد قاعدة نفي الحرج سقوط وجوب الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً ولا يتكفل إثبات بدلية الوقوف مع العامة عن الوقوف الشرعي.

ويجاب بأن الغرض من تطبيق القاعدة نفي وجوب الوقوف ثانياً في الوقت الشرعي، أما الوقوف مع العامة فهو ثابت بضميمة الأدلة الأخرى، كالسيرة القطعية ورواية أبي الجارود وغيرهما فلا يرد الإشكال.

وبتعبير آخر: إننا نسلّم مع المستشكل في كون قاعدة نفي الحرج نافية للتكليف لا مثبتة فلا تقتضي صحة وإجزاء الوقوف مع العامة، وإنما ثبت هذا بعد ضم ما دلّ على وقوف الأئمة (عليهم السلام) مع العامة وما تقتضيه القاعدة من نفي وجوب وقوف غيره.

بل يمكن تقريب دلالة نفس الدليل على الاجتزاء بالوقوف مع العامة بوجهين:

أولهما: قاعدة (الميسور لا يترك بالمعسور) باعتبارها مكملة لدليل نفي الحرج وليست مستقلة عنه، وهذه القاعدة تتضمن إسقاط المعسور وإثبات

ص: 76


1- تقريرات بحث السيد الشاهرودي: 3/337، كتاب الحج.

الميسور معاً وهي وإن لم تثبت على إطلاقها كما سيأتي، إلا أن المقام من القدر المتيقن لجريانها لوجود الدليل على البدل المتيسر وهو القطع بوقوف الأئمة (عليهم السلام) مع العامة، فالعمل الميسور ثابت ويتعين بعد سقوط التكليف بالمعسور وسيأتي مزيد من التفصيل إن شاء الله تعالى.

ثانيهما: دلالة رواية عبد الأعلى مولى آل سام المتقدمة على الاجتزاء بإتيان الممكن، فإن الإمام (عليه السلام) أمر بالمسح على البديل الأقرب المتيسر وهيالمرارة إذا تعذرت إزالتها وإيصال الماء متمسكاً بنفس دليل نفي الحرج، حيث أعطى الإمام (عليه السلام) قاعدة عامة (هذا وأشباهه يعرف من كتاب الله عز وجل)، وفي المقام إذا تعذر الوقوف في الوقت الشرعي ينتقل إلى البديل الأقرب المتيسر وهو الوقوف مع العامة.

وأُشكل على الاستدلال بالرواية من جهتين:

الجهة الأولى: من ناحية السند، فقد وصفها السيد الخوئي (قدس سره) ((بأنها ضعيفة السند))(1).

وليس في سندها إشكال إلا من جهة عبد الأعلى فإن عنوان عبد الأعلى آل سام لم يرد فيه توثيق. نعم قيلت عدة وجوه لتوثيقه:-

1- رواية ابن أبي عمير عنه (كما في علل الشرائع: 1/85) فيكون مشمولاً بكبرى توثيق من يروي عنه.

وأجيب ب_:-

أ- عدم تمامية الكبرى عند البعض مطلقاً أو في غير المراسيل.

ب- عدم ثبوت الصغرى لاحتمال سقوط واسطة بينهما بلحاظ طبقتهما في الحديث فإن الراوين عن عبد الأعلى أسبق طبقة من ابن أبي عمير، ويشهد له وجود واسطة بينهما في بعض الروايات كعلي بن أبي حمزة (كما في معاني الأخبار: 349).

ص: 77


1- موسوعة السيد الخوئي: 6/145، فصل في أحكام الجبائر.

ونفس الإشكال يأتي في رواية صفوان عنه فيحتمل وجود الواسطة كابن مسكان (كما في التهذيب: 10/187) بحسب ما أفاد بعض المتتبعين.

هذا ولكن تكرر حالة الرواية المباشرة في ابن أبي عمير وصفوان عن عبد الأعلى يضعف الاحتمال المذكور ولا يضر به روايتهما في موضع آخر بالواسطة.

2- اتحاده مع عبد الأعلى بن أعين العجلي الذي وثّقه الشيخ المفيد في رسالته العددية ووصفه بأنه ((من فقهاء أصحاب الصادقين عليهما السلام والذين لا يُطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم))(1).

ويستدل على الاتحاد بما ورد في الكافي والتهذيب من رواية ابن محبوب عن علي بن رئاب عن ((عبد الأعلى بن أعين مولى آل سام)) فهذا تصريح بأن عبد الأعلى مولى آل سام هو عبد الأعلى بن أعين وهو العجلي لذكر العنوانين معاً في اسمه(2).

وأجيب:-

أ- ما تقدم في الكلام عن أبي الجارود من عدم استفادة التوثيق من هذه العبارة للشيخ المفيد لكل واحد منهم للجزم بدخول أسماء مجهولين ومطعونين فيها ورددناه بإمكان استفادة توثيق المذكورين إلا من قام الدليل على ضعفه.

ب- قول السيد الخوئي (قدس سره): ((إن غاية ما يثبت بذلك: أن عبد الأعلى مولى آل سام هو ابن أعين ولا يثبت بذلك الاتحاد -لأن الكليني والشيخ لم يذكرا لقب العجلي- إذ من الممكن أن يكون عبد الأعلى

ص: 78


1- معجم رجال الحديث: 10/276، رقم 6231.
2- الكافي: ج5، كتاب النكاح، باب فضل الأبكار، 15/ح1، التهذيب: ج7، باب اختيار الأزواج، الحديث 1598 كما في معجم رجال الحديث: 10/277.

العجلي غير عبد الأعلى مولى آل سام، ويكون والد كل منهما مسمى أعين، ويكشف عن ذلك عد الشيخ كلا منهما مستقلاً في أصحاب الصادق (عليه السلام) وهو أمارة التعدد)).

ويرد عليه باستبعاد وجود شخصين مختلفين وفي طبقة واحدة باسم عبد الأعلى بن أعين، وهما اسمان نادران وتزداد الندرة بالاجتماع، أما ذكر الشيخ لهما بعنوانين مستقلين فلا يضر لأنه (رضوان الله عليه) كان يدون أسماء الرواة كما يجدهم في الروايات ثم يحقق فيوحد المشتركات (كما فعله السيد الخوئي في المعجم).

نعم يمكن أن يؤكد الإشكال بما ذكره البعض من أن الرواية المذكورة التي ورد فيها عبد الأعلى بن أعين مولى آل سام وحيدة، وقد روى الشيخ الصدوق في (كتاب التوحيد: 395) نفس الرواية وبنفس السند إلى علي بن رئاب ولكن ذكر فيه عبد الأعلى مولى آل سام من دون ذكر كونه ابن أعين، مما يولد احتمال أن وصف (ابن أعين) أضيف إلى اسم عبد الأعلى في الكافي والتهذيب من النساخ سهواً أو اجتهاداً.

لكن الذي يعيد فرض الاتحاد قوياً أمور:

(منها) أن احتمال الزيادة المذكور آنفاً على خلاف الأصل.

(ومنها) ما ذكره النجاشي في عنوان (مَعْمَر بن يحيى بن سام العجلي) فيكون عبد الأعلى مولى آل سام عجلياً بالولاء.

نعم يوجد في كتب الرجال اختلاف في ضبط اسم جد معمر ففي رجال الشيخ أنه (بسّام) وعند البرقي (سالم) وكذا في نسخة رجال النجاشي طبع جماعة المدرسين لكن الموجود في الروايات (سام) وكذا في نسخة النجاشي التي نقل منها السيد الخوئي(1)(قدس سره) وهو الصحيح عند المحققين.

ص: 79


1- معجم رجال الحديث: 19/293.

(ومنها) ضم ما رواه في (الكافي:6/274) عن ثعلبة بن ميمون عن عبد الأعلى مولى آل سام عن المعلى بن خنيس إلى ما رواه في (المحاسن:2/410) بنفس المضمون واللفظ عن ثعلبة عن عبد الأعلى بن أعين عن المعلى.(ومنها) وحدة جملة من الرواة عنهما كحماد بن عثمان ويونس بن يعقوب وثعلبة بن ميمون فإنهم رووا تارة عن عبد الأعلى مولى آل سام وأخرى عن عبد الأعلى بن أعين.

وعلى أي حال فإن الرواية تلقاها الأصحاب بالقبول واعتمدوا عليها وهذا يكفينا هنا لأننا لسنا بصدد إثبات توثيق عبد الأعلى، إلا أن يقال إن العمل بها لم يكن مستنداً إليها خاصة وإنما لوجود أدلة أخرى على بدلية المسح على المرارة، وإنما عرضنا هذه الأفكار لتقوية الملكة إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية: من حيث الدلالة حيث ناقش السيد الخوئي (قدس سره) من جهة أن ((المسح على المرارة مما لا يعرف من كتاب الله قطعاً؛ لأن العرف لا يرى المسح على المرارة ميسوراً من المسح على البشرة بل يراهما متعدداً ومن هنا لو تعذر المسح على الجبيرة والمرارة أيضاً لم يتوهم أحد وجوب المسح على الحائط - مثلاً - بدعوى أن المتعذر إنما هو خصوصية المسح على المرارة وأما أصل المسح ولو بالمسح على الجدار فهو أمر ممكن ولعله ظاهر وإنما يعرف منه سقوط الأمر بمسح البشرة لتعذره وأما أن المسح على المرارة واجب فما لا يمكن استفادته من الكتاب فقوله عليه السلام: امسح على المرارة على تقدير صحة الرواية حكم خاص أنشأه الإمام عليه السلام في مورده ولا دليل على التعدي منه إلى غيره))(1).

ويجاب بأنه خلاف الظاهر من كون المسح على المرارة جاء تطبيقاً للآية الشريفة حيث صرّح الإمام (عليه السلام) بأن هذا وأشباهه يعرف

ص: 80


1- موسوعة السيد الخوئي: 6/145.

من كتاب الله ثم استدل بالآية؛ لأن الراوي كان يسأل عن كيفية وضوئه وماذا يصنع للقيام بوظيفته الشرعية من الطهارة وهو بهذا الحال ولا وجه لحصر سؤاله بلزوم رفع المرارة وإيصال الماء إلى البشرة وعدمه، والإمام (عليه السلام) في مقام الجواب علّمه ماذا يصنع وهو المسح على المرارة ولكنّه قدَّم ذكر القاعدة والأصل الذي يستفاد منه الحكم، ولو اكتفى الإمام (عليه السلام) بذكر الآية على نحو القاعدة دون التطبيق على حكم الواقعة وطلب المسح على المرارة لما عُدّ جواباً ولم يكتف به السائل خلافاً لما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من أن قول الإمام (عليه السلام): (امسح عليه) كلام مستأنف، ولو حمل السؤال على خصوص لزوم رفع المرارة وعدمه لبقي التكليف مجهولاً بعد الإجابة بإبقاء المرارة وعدم لزوم رفعها إذا كان حرجياً.

ولو سلّمنا بأن هذا المعنى لا يستفاد من ظاهر الآية فإن قول المعصوم (عليه السلام) بيان لها فيكون الأمر بالانتقال إلى البديل المتيسر عرفاً داخلاً في معنى الآية ببركة بيان المعصوم (عليه السلام) وحينئذٍ لا يكون مفاد الآية الانتقال إلى البدل المتيسر دائماً حتى ينقض على هذا الإطلاق بعدم جريان هذهالقاعدة على نحو الكلية، وإنما نقول بها في موارد قيام الدليل على بدلية المتيسر ومنها المقام.

فالتقريب لا يعني الانتقال إلى أي بدل حتى المسح على الحائط كما أشكل السيد الخوئي (قدس سره).

وقد اعتبر البعض هذا النقض وعدم صحة الالتزام بكفاية مطلق البديل مانعاً من انعقاد ظهور الآية في البدلية، وهو مردود لما ذكرناه من بيان المعصوم (عليه السلام).

وفي ضوء هذه الرصانة في نص الرواية لا يضرّ خلو نسخة تفسير العياشي من قوله (عليه السلام): (وامسح عليه) الموجود في الكافي

ص: 81

والتهذيب، مضافاً إلى عدم صلاحية هذا التفسير لمعارضة هذين الكتابين.

إشكالات على الاستدلال بالقاعدة

وهي عديدة، منها:-

1- ((عدم ثبوت حصول الاضطرار إلى ترك الوقوف، لعدم كون فورية الحج موجبة لتوقيته حيث يكون الحج في العام القادم قضاءً لما فات عنه في العام الماضي، حتى يقال بأهمية الوقت ووجوب الوقوف في غير يوم عرفة)).

بيان ذلك ((إن في باب الصلاة إنما حصل الاضطرار لأجل أهمية الوقت ولولا ذلك لم يكن في البين اضطرار لتمكنه من إتيان الصلاة تامة بعد الوقت -كما لا يخفى-، ولذا نقول: إن من يحصل له البرء من المرض ويدرك الصلاة في آخر الوقت ليس له المسح على المرارة أو الصلاة جالساً، لما ذكرناه غير مرة من أن الواجب هو صرف الوجود من الصلاة والموضوع هو صرف الوجود من الوقت، والمفروض أنه متمكن من الإتيان بصرف الوجود من الصلاة في صرف الوجود من الوقت قائماً أو بالمسح على البشرة، فليس مضطراً إلى ترك ذلك.

هذا إذا لم يكن مرضه مستوعباً لتمام الوقت، وأما في صورة الاستيعاب ففي باب الصلاة قام دليل تعبدي على أهمية الوقت وأما في المقام فلم يقم دليل تعبدي على أهمية الفورية فتدبر)).

((إن قلت: كيف لا يتحقق الاضطرار في ما نحن فيه مع أن الأمر في جميع السنوات على نهج واحد، لعدم حصول التمكن من الوقوف فيها.

قلت: (أولاً): قد يتمكن الشخص من الاحتياط.

ص: 82

و(ثانياً): قد يتفق موافقة العامة مع الخاصة في بعض السنين فعليه الرواح إلى الحج في كل عام ما لم يكن حرجياً عليه حتى يحصل التوافق لأن يأتي بالحج جامع للشرائط وإذا لم يحصل التوافق ولم يتمكن من الوقوف أصلاً فيوصي بالحج.هذا وإذا اتفق عدم التمكن من الوقوف في العام الأول من استطاعته لم يستقر عليه الحج وكشف عن عدم استطاعته في تلك السنة كما لا يخفى))(1).

ويرد عليه:-

أ- مقتضى هذا التفكير أن نطلب من الحجاج المكث خارج المواقيت وعدم الإحرام إلى أن يهل ذو الحجة فإن كان مطابقاً أحرم وأدّى المناسك لأن الاستطاعة لا تتحقق إلا بالمطابقة، وإلا عاد إلى أهله منتظراً حصول المطابقة في السنة الآتية، وهذا ما لم نسمع بوقوعه من أحد، وقد أنكرنا دخول شرط المطابقة في الاستطاعة.

ب- لا شك أن الاضطرار متحقق للزوم الحرج في ما ذكره كما قرّبناه وهو منفي.

2- ما أورده البعض وحاصله أن الاستدلال مبني على كون الحرج المنفي في الآية هو الحرج الشخصي الذي هو المناط في رفع التكاليف الإلزامية وهو غير صحيح لأن الآية ناظرة إلى نفي الحرج النوعي في التشريعات الإسلامية، وعليه تحمل الرواية أيضاً فإن عدم لزوم رفع المرارة من جهة وجود الحرج النوعي في إزالتها فيسقط الوضوء على البشرة مباشرة، نظير العفو عن دم الجروح والقروح في البدن واللباس إذا كان التطهير أو التبديل مستلزماً للمشقة النوعية، واشترط بعض الفقهاء ذلك في العفو

ص: 83


1- تقريرات كتاب الحج للسيد الشاهرودي بقلم الشيخ الجناتي: 3/337-338.

ولا عبرة بالمشقة الشخصية، فالانتقال إلى البدل مجعول في حالات الحرج النوعي.

وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بها في المقام لأن الوقوف في عرفة وفق التوقيت الشرعي ليس فيه حرج نوعي لأن معظم المسلمين يرجعون إلى فقهاء السلطة الحاكمة ويكون وقتهم الشرعي وفقها، فيكون الحرج خاصاً بفئة من المسلمين وهم أتباع أهل البيت (عليهم السلام) أي أنه شخصي.

ويرد عليه:-

أ- إن كلا الحرجين منفيان في الشريعة، غاية الأمر أن الحرج النوعي ينفي أصل تشريع الأحكام الحرجية والحرج الشخصي ينفي الإلزام الموجود في تلك الأحكام عند التطبيق والامتثال بعد فرض عدم وجود حرج في أصل التشريع، فنفي الحرج له مرتبتان، ومثاله الوضوء، فإن الأمر بالمسح على البشرة لا حرج فيه نوعاً لذا لم يكن في تشريعه إشكال، وإنما حصل الحرج عند امتثال ذي الجبيرة له أي الحرج الشخصي، بل إن مورد رواية عبد الأعلى هو الحرج الشخصي.

ب- إن الحرج النوعي متحقق في المقام أكثر من الشخصي لأن الأشخاص يمكنهم الاحتياط كأفراد بالوقوف الاضطراري مثلاً ولو لبعض الملتفتين من المتفقهينوإنما افترض الحرج لما أريد للاحتياط بالوقوف الثاني أن يكون تكليفاً عاماً لكل أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فيتحول الوقوف إلى ظاهرة عامة مرفوضة لدى السلطة، فهذا الحرج النوعي هو الذي أسقط وجوب الوقوف الثاني.

ج_- تعريفه للنوع غير تام لأن المراد به نوع المؤمنين الملتزمين بحدود الشريعة لا الهمج الرعاع الذي ينعقون مع كل ناعق، فالحرج المشار إليه نوعي وليس شخصياً.

ص: 84

3- ما ذكره البعض من أن القاعدة لا تشمل المورد بإطلاقها لوجود المانع فلا يصح التمسك بها، والمانع هي الروايات الدالة على بطلان الحج بفوات الوقوفين ولو عن عذر، كما لو لم يسعفه السفر في الوصول إلى المشاعر في الوقت المعين، وقد تقدمت إحداها وهي صحيحة الحلبي (صفحة 62) وفيها (فإن لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحج فليجعلها عمرة مفردة وعليه الحج من قابل) ولا فرق بين ضيق الوقت والعسر والحرج في تحقق الفوات المبطل، أو يقال أن العسر والحرج داخل في عنوان ضيق الوقت عن الوصول لأن الحاج كان يتمكن من إرهاق الدابة وجسده بالسير فيصل في وقت يدرك به المشعر، لكن منعه حصول العسر والحرج والمشقة، فيصدق أن سبب فوات الوقوف حصول العسر والحرج، وقد نصّت الروايات على بطلان الحج في هذه الحالة.

أقول:-

أ- في هذا الإشكال مغالطة لا تخفى فإن من وقف في عرفة مع العامة عملاً بسيرة المعصومين (عليهم السلام) ليس كمن لم يقف أصلاً لعدم وصوله في الوقت المعين، فلا يصدق على الأول أنه لم يقف فلا تشمله الروايات، وإذا قال بأن من وقف في يوم التاسع عند العامة كان كمن لم يقف أصلاً(1)

فهذا إشكال مستقل ولا يندرج في ما نحن فيه.

ب- إن العرف لا يساعد على دخول العسر والحرج في ضيق الوقت عن إدراك الموقف.

ج_- إن لسان أدلة القاعدة آبية عن التخصيص والتقييد كما هو ظاهر.

ونتيجة البحث في هذا الوجه الأول من القسم الثاني صحة التمسك بقاعدة نفي الحرج لإسقاط وجوب الوقوف الثاني، وإن المعترضين لم يلتفتوا

ص: 85


1- قال السيد الشاهرودي (قدس سره) في تقريراته: 3/338: ((إن اليوم الثامن من ذي الحجة ليس وقتاً لوقوف عرفة، فلا محيص عن القول بالبطلان وفوات الحج)).

إلى المراد من تطبيق القاعدة فظنوا أنه لتصحيح الوقوف مع العامة وهو ليس كذلك بل لنفي وجوب الوقوف ثانياً في الوقت المعتبر شرعاً وهو موضع الخلاف مع القائل بعدم الإجزاء أما الوقوف مع العامة فثابت بالأدلة الأخرى لدى الطرفين، ولذا فإن القائل بعدم الإجزاءيحتاط بالبطلان إذا لم يأت المكلف بالوقوف مع العامة، وستأتي مناقشته في فرع مستقل، وعلى هذا يتعين الاجتزاء به.

نعم لو تمت تقريبات دلالة نفس أدلة نفي الحرج على الاجتزاء بالبديل المتيسّر الذي يفهمه العرف من الدليل أو تقوم عليه القرائن فإنه يكفي للاستدلال على الاجتزاء من دون ضميمة فضلاً عما لو تكفّل نفس الدليل ببيان البديل كالمسح على المرارة.

(الوجه الثاني) قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

(الوجه الثاني) قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور(1)

وهي رواية منسوبة في عوالي اللئالي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظ (لا يترك الميسور بالمعسور) ومثلها ما روي فيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما لا يدرك كله لا يترك كله)(2) وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة الحج من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم

ص: 86


1- حكي عن إعلام العامة: 67.
2- عوالي اللئالي: 4/58، ح 205، 207.

واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)(1).

وتقريب الاستدلال بالقاعدة على ما نحن فيه واضح، إذ الوقوف مع العامة هو المتيسر من فعل الواجب أما الوقوف في الوقت المعتبر فإنه متعذر.

ويرد عليه أن الكلمتين الأوليين لم تعرفا في جوامع الحديث وإنما نقلهما ابن أبي جمهور في كتابه عوالي اللئالي من الكتب الفقهية حيث وردت كقاعدة يستدلون بها(2)

فربما ظنها أحاديث لما رأى تطابقهم عليها.

وهوّن المستدلون بالقاعدة من قيمة هذا الإشكال باعتبار التسليم بالمضمون من الفقهاء ولم يطعن فيها الراد على المستدل بها فيظهر أنها معتبرة عندهم ((وهذه الروايات الثلاث لكثرة اشتهارها بين الفقهاء وعملهم بها لا يحتاج إلى التكلم عنسندها، أو الإشكال عليه بالضعف))(3)،ويرد عليه أنها بعد أن لم تكن أحاديث لا يجبرها الشهرة والتسالم، وغاية ما توصف به أنها معاقد إجماعات فتدخل في الوجه الآتي.

أما الحديث الثالث فهو أجنبي عن المقام لأن مورده الإتيان بالأفراد المتيسرة عند تعذر الإتيان بكل الأفراد وليس تعذّر الأجزاء والشرائط كما في المقام، والفرق بينهما جوهري لأن الأفراد مستقلة ويترتب على كل منها الأثر

ص: 87


1- صحيح مسلم: 2/975، ح 1337، باب فرض الحج مرة في العمر، وورد مثله في سنن ابن ماجة: 1/3، وسنن النسائي: 5/110، والسنن الكبرى للبيهقي: 1/ 388، ط دار الفكر.
2- راجع مثلاً إيضاح الفوائد لفخر المحققين: 1/276، الذكرى للشهيد الأول: 2/133، التنقيح الرائع للمقداد: 1/117، وكذلك في كتب العامة، بل صرح ابن حجر في (فتح الباري: 13/222) أن الكلمة من تعبيرات الفقهاء قال: ((من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور)).
3- القواعد الفقهية للسيد حسن البجنوردي: 4/136.

بغض النظر عن الآخر كالحج في كل سنة، أما المركب فإن أجزاءه مترابطة والأثر يترتب على المجموع فلا يمكن تعميم الاستدلال بالحديث إلى ما نحن فيه.

هذا ولكن يمكن تقريب الاستدلال على القاعدة بوجوه أخرى نذكر خلاصتها:

(منها) الإجماع ((على أن الأمر المتعلق بمركب لا يسقط بصرف تعذر بعض أجزائه أو تعسّره، بل يكون ما عدا ذلك الجزء المتعذر باقياً على مطلوبيته ووجوبه))(1).

ويرد عليه:-

1- عدم تمامية الصغرى، ولم يثبت لدينا بالاستقراء وجود الكلمة في كتب القدماء ليتصل الإجماع بزمان المعصومين (عليهم السلام).

2- ولو تنزلنا فإنه إجماع مدركي وقد صرح البعض بأخذ الكلمة من الرواية النبوية السابقة وبعض الآيات الكريمة(2).

3- استعملها بعض الفقهاء في الموارد التي دل الدليل فيها على عدم سقوط الميسور بالمعسور كبعض مسائل الصلاة فالدليل هو ذاك وليس القاعدة.

(ومنها) ((إطلاق دليل المركب -كالحج في مثل قوله تعالى: «وَللهِ عَلى النَاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»-، بمعنى أن دليل المركب له إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكن من الجزء أو الشرط -كالوقوف في عرفة المشروط بكونه في اليوم التاسع- وعدم التمكن منه فإذا لم يكن متمكناً منه وسقط الأمر عنه بواسطة عدم القدرة، يتمسك بإطلاق دليل وجوب الحج لوجوب الباقي وعدم سقوطه بسقوط وجوب ذلك الجزء أو ذلك الشرط))(3).

ص: 88


1- القواعد الفقهية للبنجوردي: 4/135.
2- حكي عن العجلوني في (كشف الخفاء: 2/305) قوله: ((إن (ما لا يدرك كله لا يترك كله) هو معنى آية «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ومعنى حديث: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
3- القواعد الفقهية للبنجوردي: 4/128.

ويرد عليه:-

1- إن الألفاظ موضوعة للصحيح أي تام الأجزاء والشرائط، والمركب بعد تعذر جزئه لا يكون كذلك فلا يشمله الإطلاق.2- إن هذا الإطلاق محكوم بما دلّ على وجوب الجزء -على الأقل في المقام حيث يوجد دليل على الجزء غير ما ينبسط عليه من وجوب الكل- مطلقاً حتى مع تعذره فلا يصح التمسك به كما في المقام، فإن وجوب الوقوفين مطلق لذا بطل الحج بفواتهما بسبب عدم الوصول في الوقت المعين ونحو ذلك.

3- الشك في وجود مثل هذا الإطلاق؛ لأن المولى ليس في مقام البيان من هذه الجهة ونحو ذلك.

(ومنها) الاستصحاب أي استصحاب نفس الوجوب المنتفي للمركب تام الأجزاء والشرائط لما بعد تعذّر جزئه أو شرطه وهو هنا الوقوف في عرفة يوم التاسع المعتبر شرعاً.

ويرد عليه بعدم جريان مثل هذا الاستصحاب لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة فإن الحج المتيقن الوجوب هو تام الأجزاء أو الشرائط الذي ارتفع يقيناً لتعسّره، وهو غير المتيسر مشكوك الوجوب التي هي المناسك الخالية من الوقوفين، والوحدة العرفية -لو تمت- لا تنفع هنا لأن المقام ليس مجالاً لنظره فالعبادات مجعولة من قبل الشارع المقدس وهو الذي يحدد صدقيتها والشارع المقدس يرى تبايناً حقيقياً بين الحج الواجد للوقوفين والحج الفاقد لهما، كما يرى تبايناً حقيقياً بين الصلاة الواجدة للطهارة والفاقدة لها، أما العرف فلا قدرة له على تشخيص الوحدة بين المركب التام والناقص في العبادات إلا إذا دلّ عليها دليل خاص لعدم إحاطته بالخصوصيات.

وتوجد تقريبات أخرى للاستصحاب على نحو الكلي -وهو كلي الوجوب الذي كان ثابتاً للمركب التام فارتفع ونحتمل تحققه في المركب

ص: 89

الناقص- لكنها لا تجري لأنها من القسم الثالث وبعضها لا يحقق المطلوب إلا على القول بالأصل المثبت فلا نطيل في بيانها(1).

والخلاصة: إن هذه القاعدة لم يتم دليل على إطلاقها، وإنما هي قاعدة وكلمة اشتقت من مضمون الآية الكريمة والحديث النبوي انتزعت من بعض الموارد التي دل الدليل فيها على العمل بالميسور عند تعذّر المعسور كالمسح على المرارة في الوضوء أو الصلاة من جلوس ونحو ذلك.

ويمكن تلخيص عدة موانع أخرى من صحة التمسك بالقاعدة هنا:-

1- تعذّر معرفة الميسور البديل عن المعسور لأن الحج من العبادات وهي مجعولة من قبل الشارع المقدس وهو وحده الذي يعلم الميسور الذي يصلح بديلاً عن المعسور ويحقق غرضه عند تعذره، كما أفادت رواية عبد الأعلى بدلية المسح على المرارة، وإذا وجد مثل هذا الدليل فهو الحجة وليس القاعدة.

2- ولو ثبتت القاعدة فإن المانع من إجرائها هنا موجود وهي الروايات الدالة على بطلان الحج بتعذر الوقوفين، وقد تقدم بعضها كصحيحة الحلبي (صفحة 62).

نعم يمكن الاستفادة من القاعدة بضمها إلى الوجوه الأخرى كما تقدم في الوجه السابق وليس على نحو الوجه المستقل.

(الوجه الثالث) قاعدة رفع ما اضطروا إليه

(الوجه الثالث) قاعدة رفع ما اضطروا إليه(2)

ومستندها حديث الرفع ففي التوحيد والخصال بسند معتبر عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي تسعة أشياء.. وما اضطروا إليه) ومرفوعة النهدي في

ص: 90


1- راجعها في القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/129-135.
2- حكي الاستدلال بالقاعدة عن رسالة (إعلام العامة: 58).

الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وُضع عن أمتي تسع خصال: .. وما اضطروا إليه)(1)

وغيرهما.

حيث يثبت بها أن العمل المركب من أجزاء وشروط يسقط من تركيبته ما تعلق به الاضطرار إلى تركه أو فعله، وأنه لا بد من الإتيان به فاقداً للجزء أو الشرط المضطر إلى تركه ومثاله في المقام الوقوفان.

ويرد عليه نفس ما قلناه في القواعد السابقة من أن غاية ما تفيد القاعدة سقوط وجوب الشرط وهو الإتيان بالوقوف في وقته المعتبر شرعاً ويترتب عليه بطلان الحج للروايات الدالة على ذلك بفوات الوقوفين لأي عذر، إلا ان يثبت بالدليل كفاية الوقوف مع العامة.

أو يتمم الاستدلال ببرهان السبر والتقسيم فيقال: إن وجوب الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً إذا سقط للاضطرار فإننا بين عدة احتمالات:-

1- ترك الوقوف أصلاً والاكتفاء بالحج بلا وقوفين.

2- بطلان الحج والإتيان به من قابل وتكراره حتى تحصل المطابقة.

3- الاجتزاء بالوقوف مع العامة.

والأول لا يقول به أحد لأنه مبطل للحج قطعاً ونصاً وإجماعاً، والثاني أسقطناه للزوم العسر والحرج والمشقة مضافاً إلى أن هذين الاحتمالين خلاف الامتنان الذي هو ملاك حديث الرفع، فيتعين الثالث وهو المطلوب.

وعلى أي حال فالقاعدة تصلح لإسقاط وجوب الوقوف الثاني لا إثبات وجوب الوقوف الأول كما نبهنا أكثر من مرة.

ويمكن الإيراد هنا بما ذكر في علم الأصول من أن الحديث لا يجري في الأحكام الوضعية أي أنه لا يقتضي ارتفاع الشرطية أو الجزئية بالاضطرار إلى تركهما كما لا يقتضي ارتفاع المانعية للاضطرار إلى الإتيان بها ((وذلك لأن الجزئية والشرطية والمانعية إنما تنتزع عن الأمر بالعمل المركب من الشيء المضطر

ص: 91


1- وسائل الشيعة: 15/369، أبواب جهاد النفس، باب 56، ح1-3.

إليه وغيره وهي بأنفسها مما لا تناله يد الوضع والرفع وإنما ترتفع برفع منشأ انتزاعها، مثلاً إذا اضطر المكلف إلى ترك السورة في الصلاة أو إلى الصلاة فيما لا يؤكل لحمه فمقتضى الحديث إنما هو ارتفاع الأمر عن المجموع المركب مما اضطر إليه وغيره أعني الصلاة معالسورة أو الصلاة فيما يؤكل لحمه بالنسبة إليه لأنه المنشأ لانتزاع الجزئية أو المانعية وأما الأمر بالصلاة الفاقدة للسورة أو الواجدة للمانع كما لا يؤكل لحمه فهو مما لا يمكن استفادته من الحديث بل يحتاج إثبات الأمر بالعمل الفاقد المضطر إليه إلى دليل هذا. على أن الحديث إنما يقتضي ارتفاع التكليف عند الاضطرار ولا تتكفل إثبات التكليف بوجه))(1).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

1- إن الأحكام الوضعية المذكورة تؤخذ من دليلها الخاص الدال عليها، وبها تتم كيفية المركب على نحو متمم الجعل، أما الأمر بالعمل المركب فيتعلق غالباً بأصل الفعل مجملاً كقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَلاةَ» أو «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ» أو «وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» ونحو ذلك، فلا حاجة إلى رفع الأمر بالمركب لرفع الأمر بالجزاء أو الشرط، ولا مانع من تعلق حديث الرفع بأوامرها الخاصة، وما ذكره (قدس سره) من مقتضى حديث الرفع بعيد وغير عرفي.

2- يتضمن تقريبه (قدس سره) في بعض جوانبه الإشكال الذي أوردناه (صفحة 76) وأجبنا عليه.

نعم يبقى الإشكال في الدليل على وجوب الإتيان بالفعل الفاقد للشرط الساقط بالاضطرار فلا بد من ضم شيء مما ذكرناه.

والإشكال مبحوث مفصلاً في علم الأصول، وقد ذهب جملة من الأعلام إلى شمول حديث الرفع للأحكام الوضعية، ولسنا بحاجة هنا إلى بحث

ص: 92


1- موسوعة السيد الخوئي: 5/238 ضمن بحث مفصل له في التقية تعرض له استطراداً.

التفاصيل لأن الفريقين متفقان على جريانه في الفقه وحكي عن الشيخ الأراكي المعاصر قوله: ((أن الأصحاب وإن كان لهم نوع ترديد في الأصول، بأن المرفوع هل هو خصوص المؤاخذة؟ أو الآثار الشائعة؟ أو مطلق الآثار، بل يميلون إلى الأول، ولكن بناءهم في الفقه ليس كذلك، بل كلهم قائلون بأن المرفوع هو الآثار الشرعية، فانظر إلى الرياض وكتب العلامة والشهيدين والجواهر والطهارة والمكاسب)). ثم قال: ((وكان أستاذنا النائيني (قدس سره) لا يزال يتمسك به في الآثار الوضعية))(1).

(الوجه الرابع) التقية

وهي تقتضي الوقوف مع العامة، والكبرى ثابتة حيث وردت الأحاديث الكثيرة في وجوبها والتأكيد عليها وتكرر قولهم (عليهم السلام): (لا دين لمن لا تقية له) و (لاإيمان لمن لا تقية له) حتى ورد في الرواية عن الإمام الهادي (عليه السلام): (لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً)(2).

والصغرى متحققة لأن فرض المسألة حصول الضرر على من يقف في غير تاسعهم، أما إذا أمكن الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً بلا ضرر على النفس ونحوه مما يعذر فيه الإنسان فيجب لإطلاقات ما دل على شرطية الوقت في صحته وبطلانه بغير ذلك فيجب للإطلاقات ونحوها، أما الوقوف معهم في هذه الحالة فيمكن أن يقال بوجوبه أيضاً لإطلاق الأدلة المتقدمة في القسم الأول وعدم تقييدها بحصول الضرر فيمكن أن يكون للمداراة وصون الشيعة من الاتهام والتسقيط والتكفير ونحو ذلك.

ويواجه هذا الدليل نفس الإشكال على القواعد السابقة وهو عدم كفايته لوحده لإثبات المطلوب لأن التقية لا تقتضي أكثر من سقوط الفعل

ص: 93


1- حكاه عنه في الفقه للسيد محمد الشيرازي: 44/125.
2- وسائل الشيعة: 16/211، أبواب الأمر والنهي، باب 24، ح 27.

الموجب للضرر وهو الوقوف المخالف لهم ويندفع الضرر بعدم الوقوف أصلاً ونتيجته أداء الحج بلا وقوف ولكنها نتيجة باطلة قطعاً بالنص والإجماع، فلا بد من ضم دليل على بدلية الوقوف الآخر مع العامة من الوجوه السابقة، أو أننا نبطل الاحتمالات الأخرى فيتعين الوقوف معهم، كما قربنا في الوجه السابق.

ومن هنا لا نجد حاجة للدخول في تفاصيل هذا الدليل، والإشكالات عليه، ولكن نشير إلى بعضها باختصار:

(منها) إن التقية لا تجري في الموضوعات والمقام منها كما في كلام صاحب الجواهر الآتي لأن سبب الاختلاف توهم قضاة العامة خطأ بأن هذا اليوم هو الأول من ذي الحجة والصحيح أن يكون غداً، فلا يثبت بالتقية أن اليوم الفلاني هو التاسع من ذي الحجة ويصح الوقوف فيه إن لم يكن كذلك.

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((التقية في العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي اعتقدوا تحققه في الخارج مع عدم تحققه في الواقع، كالوقوف بعرفات يوم الثامن والإفاضة منها ومن المشعر يوم التاسع، موافقاً للعامة -إذا اعتقدوا رؤية هلال ذي الحجة في الليلة الأخيرة من ذي القعدة- فإن الظاهر خروج هذا عن منصرف أدلة الإذن في إيقاع الأعمال على وجه التقية، فإن هذا لا دخل له في المذهب، وإنما هو اعتقاد خطأ في موضوع خارجي))(1).

ويرد عليه:-

1- مخالفته لإطلاقات وعمومات أدلة وجوب التقية وحرمة مخالفتها ولأخبار إفطار الإمام الصادق (عليه السلام) فإنها ظاهراً من الاشتباه في الموضوع الخارجي، ومخالفته لحكمة التقية أيضاً التي هي اتقاء الضرر والشر.2- القول بأن مورد استعمال التقية لإخفاء المذهب تضييق لها بدون دليل فقد دلت الروايات على أنها لكل ضرورة(2) ودل بعضها على رجحانها

ص: 94


1- الموسوعة الكاملة للشيخ الأنصاري: 23/80، رسائل فقهية.
2- كما في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) (التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له) (الكافي: 2/220) وفي نسخة المحاسن (التقية في كل شيء، وكل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له) (المحاسن: 1/259) ومثل صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به) (الكافي: 2/219).

للمداراة ونحو ذلك.

3- ما قلناه من أن التنزيل في المسألة حكمي وليس موضوعياً، أي أن الشارع المقدس اعتبر الوقوف مع العامة مجزياً عن الوقوف في الوقت المعتبر ولا يلزم منه اعتبار تاسعهم تاسعاً عندنا لذا فإن الأحكام الشرعية كنذر الصوم أو المناسبات الدينية لا يعتمد فيها على حسابهم بل حسابنا، فكأن الشارع المقدس وسّع مصداق التاسع من ذي الحجة ليشمل تاسعهم للتقية أو أي ملاك آخر، ولم يستبدل تاسعهم بتاسعنا، وهذا التوسيع في حدود الزمان له نظير في التوسيع المكاني عندما تضيق منى بالحجاج فإنها تتسع إلى المأزمين في رواية سماعة المتقدمة (صفحة 15).

4- ولو تنزلنا فإن عدم جريان التقية في الموضوعات ليس مطلقاً، وإنما يختص بالموضوعات الخارجية الصرفة؛ لذا فهي تجري في الموضوعات التي تؤول إلى الأحكام، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصح للإمام الوقوف معهم ويجزئ لأنه من أحكام التقية ويعسر التكليف بغيره، أو لا يجزي لعدم ثبوتها في الموضوع الذي محل الفرض منه كما يومي إليه وجوب القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الذي دلّت عليه النصوص التي منها (لئن أفطر يوماً ثم أقضيه أحبّ إليّ من أن يُضرب عنقي)؟ لا يبعد القول بالإجزاء هنا إلحاقاً له بالحكم))(1).

ص: 95


1- جواهر الكلام: 19/32.

أقول: محل الشاهد إلحاق المورد الذي هو من الموضوع ظاهراً بالحكم ولم أجد في المصادر شرح عبارة الجواهر على هذا النحو، واستثنى الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذه الصورة أيضاً قال: ((ويمكن إرجاع الموضوع الخارجي أيضاً في بعض الموارد إلى الحكم، مثل ما إذا حكم الحاكم بثبوت الهلال من جهة خبر شهادة من لا يقبل شهادته، إذا كان مذهب الحاكم القبول، فإن ترك العمل بهذا الحكم قدح في المذهب فيدخل في أدلة التقية)).

(ومنها) أن غاية ما يثبت بأدلة التقية سقوط الحكم التكليفي فيباح ما كان حراماً ويسقط ما كان واجباً كوجوب الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً أما الحكم الوضعي كإجزاء العمل المتقى به واعتباره وظيفة بالعنوان الثانوي بعد سقوط جزئيةشيء كالوقوفين أو شرطيته كشرطية الوقت في صحة الوقوف فمما لا تفيده أدلة التقية، فلو طلّق زوجته من دون حضور شاهدين عادلين تقية لم تترتب عليه آثاره أو لو اقتضت التقية غسل الثوب بالنبيذ باعتبار أن بعض العامة يرون طهارته والغسل به فإنه لا يطهر ((ولو شرب الخمر تقية فلا إشكال في سقوط حرمة شرب الخمر عنه ولكن لا ينبغي الإشكال في أنه يتنجس فمه لعدم ارتفاع نجاسته بالتقية وكذلك من كان الحج مستقراً عليه فذهب إلى الحج ولم يتمكن من الوقوف الحقيقي للتقية فإنما يسقط عنه حرمة ترك الحج في هذه السنة لا أنه يثبت له الإجزاء))(1)

((فهذا أقوى شاهد ودليل على عدم ارتفاع الشرطية أو الجزئية أو المانعية في حال الاضطرار والتقية، إذن لا يكون العمل الفاقد لشيء من ذلك، أي من الجزء أو الشرط مجزئاً في مقام الامتثال))(2).

نعم إذا دل الدليل الخاص على الإجزاء والصحة في مورد ما بتعلق أمر خاص بالعمل المتقى به، حكم بهما فيه، كغسل الرجلين في الوضوء والتكتف وقول آمين في الصلاة، وقد يكون الدليل الخاص ((عدم أمرهم (عليهم السلام)

ص: 96


1- تقريرات بحث السيد الشاهرودي (قدس سره): 3/343.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 5/244.

بالقضاء والإعادة في الموارد التي يكثر الابتلاء بها فإنه يكفي في الحكم بالصحة))(1).

فملخّص القاعدة في إجزاء الفعل المتقى به وعدمه أن الدليل عليه إن كان عمومات التقية فإنها ((لا تدل على صحة العمل تقية، لأن التقية فيها إنما هي في ترك العمل كترك الصلاة مع السورة، ولا تدل على صحة العمل الناقص لأنه ليس مورداً لها وليس مأموراً به بأمرها)).

وأما في الموارد التي جاء الأمر بها في الروايات فإنها ((تدل على صحة العمل المتقى به، لأن الأمر قد ورد متعلقاً بنفس العمل بعنوان التقية كالأمر بالصلاة معهم تقية أو الأمر بالوضوء تقية أو الصوم أو ما شاكل ذلك، وبالتالي فهو يكشف عن وجود مصلحة في هذه الصلاة وأنها محبوبة فمن أجل ذلك تكون محكومة بالصحة، وكذلك الأمر الوارد في الوضوء مع غسل الرجلين، فإن هذا الأمر يدل على أن هذا الوضوء محبوب ومشتمل على الملاك والمصلحة فلذا يحكم بصحة العمل المتقى به))(2).

ويرد عليه:-

1- إننا لا نسلّم الكبرى أي هذا التفصيل وندّعي إمكان القول بإجزاء الفعل المتقى به مطلقاً، وإن الموارد التي ورد الأمر الخاص بها ليست استثناءً وتخصيصاً حتى يقال بالإجزاء فيها دون غيرها وإنما ورد الأمر بها من باب تطبيق وإجراء العمومات، وإلا فإن الملاك فيها وفي غيرها واحد.

ولأن مقتضى الامتنان ذلك فإن الرخصة في العمل المتقى به مع المطالبة بإعاداته ينافي تمام الامتنان.

ولعدم تصور التفكيك بين وجوب العمل بالتقية وصحة الفعل المتقى

ص: 97


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 29/195.
2- تقريرات بحث الشيخ الفياض (فيض العروة الوثقى، كتاب الصوم: 1/367) وأشار إليها باختصار في تعاليق مبسوطة: 5/110.

به؛ لأن الأمر بالطبيعي كما يسقط بفرده الاختياري فإنه يسقط بالفرد الاضطراري في ظرفه، وهذا هو فحوى مبحث الإجزاء في علم الأصول، فالأمر بالتقية إذا ثبت في مورد ما فإنه يستلزم إجزاء ما أتى به على وجه التقية عن الأمر، عدا ما استثني في الروايات أو لخصوصية في المورد ونحو ذلك.

ويمكن الاستئناس له ببعض الروايات الشريفة مثل رواية الفقيه والتهذيب بالإسناد عن عطاء بن السائب عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إذا كنتم في أئمة جور فاقضوا في أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيراً لكم)(1).

وصحيحة علي بن مهزيار عن الإمام الهادي (عليه السلام) قال: (سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منا في أحكامهم؟ فكتب (عليه السلام): (يجوز ذلك إن شاء الله إذا كان مذهبكم فيه التقية منهم والمداراة لهم)(2).

2- ولو تنزّلنا فإن المقام مما تعلق به الأمر الخاص فالدليل على الإجزاء موجود وهي الوجوه المتقدمة في القسم الأول، أو في القسم الثاني مع ضم دليل السبر والتقسيم الذي ذكرناه.

3- يكفي للقول بالإجزاء عدم تعرض النصوص للقضاء والإعادة إذا وقف مع العامة مع كون المسألة مما يكثر الابتلاء بها كما في المقام، ولا يكفي التعويل على عمومات بطلان الحج بفوات الوقوفين في وقتهما الشرعي للخروج منها بجواز الوقوف مع العامة وإجزائه في الجملة.

4- ويمكن اكتشاف الإجزاء من نفي عدمه وذلك أن الأئمة (عليهم السلام)

ص: 98


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 1، ح7، وأبواب آداب القاضي، باب 11، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، باب 11، ح1.

كانوا في المدينة والمسافة بينها وبين مكة تقطع في أقل من تسعة أيام فلو كان الوقوف غير مجزٍ عند عدم المطابقة لأصبح الخروج إلى الحج عبثياً لعدم أي رجحان فيه وكان اللازم انتظار هلال شهر ذي الحجة -والأفق واحد بين مكة والمدينة- فإن كان متحداً مع قاضي السلطة خرجوا للحج وإلا فلا، مع أن شيئاً من هذا لم يحصل منهم (عليهم السلام) ولا من أصحابهم طول فترتهم المديدة.5- يمكن الاستدلال على الاجتزاء بالوقوف مع العامة بلحاظ الوقوف ووقته على نحو تعدد المطلوب فالواجب هو الوقوف في عرفة وشرطه وقوعه يوم التاسع فإذا سقط الثاني بالتقية بقي وجوب أصل الوقوف لكن لا بأدائه كيف ما اتفق وإنما ضمن الفرد الذي ثبتت مشروعيته، كسجود الصلاة المشروط بكونه على الأرض وما أنبتت فإذا تعذر العمل بالشرط للتقية لم يسقط أصل وجوب السجود وجاز على ما لا يصح السجود عليه.

واستدلوا أيضاً على عدم إجزاء الفعل المتقى به بالروايات الواردة في إفطار الإمام الصادق (عليه السلام) تقية مع أبي العباس حيث قال (عليه السلام) في ذيل بعضها كمرسلة رفاعة، قال (عليه السلام): (فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يعبد الله)(1).

ويرد عليه:-

1- لم تتفق كل روايات حادثة الإمام (عليه السلام) مع أبي العباس على القضاء وإنما اختصت بالمرسلة عن رجل فهي ضعيفة السند ولاحتمال أن جواب الإمام (عليه السلام) كان مراعاة لحال ذلك الرجل، مضافاً إلى أنه لم يعلم أن إعادة صوم ذلك اليوم يكون على نحو الوجوب أو الاستحباب، لذا لم يتفق الأصحاب على وجوب قضاء ذلك اليوم، بل

ص: 99


1- وسائل الشيعة: 10/132، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح5.

حكي عن المشهور القول بالإجزاء في غير المقام(1).

2- إن الرواية أخصّ من المدعى؛ لأنها مختصة بحال العلم بالمخالفة لقوله (عليه السلام): (وأنا أعلم أنه يوم من شهر رمضان) ولا تشمل حال احتمالها، فلا تطابق مراد القائل بعدم الإجزاء مطلقاً.

3- مقايسة المسألة مع الإفطار في شهر رمضان تقية ليست في محلها لأن تناول الطعام في نهار الصوم ينفي حقيقة الصوم -التي هي الإمساك عن المفطرات- أما الوقوف مع العامة فينافي شرط الواجب، وعدم الإجزاء في الأول لا يلزم مثله في الثاني.

وبتقريب آخر ذكره عدد من الأعلام للقياس مع الفارق أن الإمام (عليه السلام) عندما تناول المفطر ترك فعلاً وهو الصيام، أما في مسألتنا فإن من وقف مع العامة أتى بالفعل فاقد الشرط، فمن الطبيعي افتراق الأول عن الثاني في الإجزاء وعدمه ((وبالجملة: الأدلة ظاهرة في إجزاء العمل الناقص إذا كانالموجب لنقصه التقية، فيسقط الأمر به ولا يحتاج إلى الإعادة، ولا تعرض فيها لسقوط الأمر بالفعل إذا كانت التقية تقتضي تركه))(2).

أقول: يمكن الإشكال على هذه الصياغة بأن الموجب للقضاء هو ترك الصوم لا تناول المفطر فقد يحصل الثاني من دون صدق الأول، وهنا ندّعي أن ترك الصوم لم يصدق في مورد الرواية فإن الإمام (عليه السلام) أدى الفعل أيضاً وهو الصوم ولم يتركه، غاية الأمر أنه تناول المفطر بمقدار دفع التقية فيكون ممن أتى بالفعل لكنه ارتكب المانع فلا يصدق عليه ترك

ص: 100


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/321.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/322، ولخّصه في دليل الناسك: 353، وتبعه جملة من تلامذته، مثلاً في شرح تحرير الوسيلة للفاضل اللنكراني: 5/105 والشيخ جعفر سبحاني في الحج في الشريعة الإسلامية الغراء: 4/386.

الفعل وإنما هو من فعل المانع من الصحة الذي هو كترك الجزء أو الشرط في كونها من الأحكام الوضعية، فتكون مشمولة بأدلة صحة الفعل المأتي به عند التقية، لكن الفرق بين التقريبين لا يكاد يعرف خصوصاً في مثل الصوم الذي هو أمر تركي وليس وجودياً.

(ومنها) إن المورد خارج عن التقية موضوعاً فلا تجري عليه أحكامها أصلاً، فقد أدخل الشهيد الثاني (قدس سره) تعذّر الوقوفين في الوقت المعتبر شرعاً في باب الصد الذي له أحكامه المعروفة قال (قدس سره): ((ومن هذا الباب -أي الصد- ما لو وقف العامة بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم لا عندنا، ولم يمكن التأخر عنهم لخوف العدو منهم أو من غيرهم فإن التقية هنا لم تثبت))(1).

أقول: وتلقّفها بعضهم فنفى أن يكون المورد مندرجاً في باب التقية وإنما هو من باب الخوف من الملاحقة بسبب مخالفة القانون وعدم احترامه لرأي الحاكم فيصيبه الضرر وليس الأمر من جهة انكشاف هوية المكلف أو إبداء رأيه بالمخالفة وإن هذا ليس بيوم وقوف.

أقول: لا يخفى على من نظر في روايات الصد انصرافها عن مثل المورد، وإن أدلة التقية شاملة بإطلاقها له لأنها لكل ضرورة ونحو ذلك من التعليقات التي ذكرناها (صفحة 96)، ولا يظهر من عبارة الشهيد إخراج المورد من التقية موضوعاً بل حكماً لأنها لا تجري في الموضوعات.

إلفات: قد يظهر من البعض عدم إجزاء الفعل المتقى به حتى مع ورود الأمر الخاص به، قال بعض الأعلام المعاصرين ((مثلاً الوضوء على طريق الشيعة خلاف التقية ولا يجوز الإتيان به عند المخالف وهل يكون مقتضياً لكونه وضوء على طريق العامةمحبوباً ومصداقاً للطهور كلا ثم كلا، فإن الوقوف في اليوم

ص: 101


1- مسالك الأفهام: 2/391.

الذي حكم القاضي بكونه لا يجوز أن يقصد بوقوفه امتثال الواجب فإنه لا دليل عليه بل الدليل على خلافه مضافاً إلى أنه يمكن أن لا يذهب إلى عرفات ويبقى في مكة بحجة أنه معتمر عمرة مفردة أو غيره من الأعذار ولا يستلزم عدم ذهابه إلى عرفات أنه خالف السلطة كي يؤخذ ويعاقب أو يسأل عن إمساكه عن الذهاب وهذا كله ظاهر واضح))(1).

أقول: هذا مخالف للملازمة الظاهرة التي ذكرناها مضافاً إلى وجود الدليل على الإجزاء وهي الوجوه التي مرت في القسم الأول.

وإن ما ذكره من إمكان عدم الخروج إلى عرفات لا معنى له لأنه يريد العمل بالتقية في ظرف أداء مناسك الحج لا مطلقاً ولا حج لمن ترك الوقوف.

ص: 102


1- مصباح الناسك للسيد تقي القمي: 2/248.

نتيجة البحث

تحصّل لدينا عدد من الوجوه التي تصلح للاستدلال على إجزاء الوقوف في عرفة مع العامة مطلقاً أي حتى لو لم يحصل عنده احتمال المطابقة، ما دامت السلطات هناك تعمل وفق مبنى فقهي معين سواء خالفنا أو وافقنا. وليس على الحاج الوقوف -ولو بمسماه- في الوقت المعتبر شرعاً إلا على نحو الاحتياط الاستحبابي إذا كان ذلك ممكناً على مستوى الشخص من دون مخالفة التقية أو الوقوع في العسر والحرج، أما إذا كان الوقوف في اليوم المعتبر شرعاً ممكناً على مستوى الجماعة أيضاً، أي يمكن تعدد الوقوف فيجب الالتزام به.

نعم لو كانت السلطات هناك لا تعمل بمبنى فقهي وتعمدت جعل الوقوف في يوم بعيد عن الوقت المعتبر عند جميع المذاهب الفقهية فلا يكون الوقوف مجزياً لأن الأدلة على الإجزاء مهما استظهرنا منها الإطلاق فإنه لا يشمل هذه الحالة، لكن هذا الفرض غير موجود في الواقع الحالي.

وإن القول بعدم الإجزاء يجعلنا أمام احتمالات تؤدي إلى تعطيل فريضة الحج لأنها بين أداء الحج بلا وقوف أصلاً بعد تعذّر الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً أو المطالبة بتكرار الحج إلى أن تحصل المطابقة وفيه ما لا يخفى من العسر والحرج مع عدم قبول السلطة الحاكمة.

أو تعطيل فريضة الحج إذ من النادر تطابق أوائل الشهور عندهم مع ما تقتضيه الموازين الشرعية، وتعطيل فريضة الحج محرم فلا بد من الاجتزاء بالوقوف معهم.

وإن قلتَ: إنه يمكن تحقيق ذلك من خلال الوقوف الاضطراري ولو بالتظاهر بالبحث عن شيء مفقود ونحوه وهذا المقدار كافٍ لتصحيح الحج.

قلتُ: إنْ تيسَّر هذا لأفراد معدودين فإنه لا يتيسر لكل أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فإذا كان الحل هو هذا فإنه مخالف للتقية ولا يمكن تطبيقه بلحاظ المجموع كما هو المفروض ولا يغني إمكانه لعدد محدود.

ص: 103

فروع

الأول: التفصيل في القول بالإجزاء

فصّل بعض القائلين بالإجزاء فقيدوه بما إذا احتمل مطابقته للواقع، أما إذا قطع بالمخالفة فلا إجزاء لعدم شمول دليله هذه الحالة فتجري عمومات ما دل على وجوب الوقوف في وقته المعتبر شرعاً ومع الفوات لأي مانع يبطل الحج.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((إذا فرض العلم بالخلاف فلا سيرة على الاكتفاء بالوقوف معهم ولا نص في المقام، وأمّا أدلّة التقية فقد عرفت أنها لا تفي بالإجزاء، وإنما مفادها وجوب التقية بعنوانها وجوباً تكليفياً، ولو فرضنا دلالتها علىالإجزاء فإنما يتم في فرض الشك لا في مورد القطع بالخلاف، فإن العامّة لا يرون نفوذ حكم حاكمهم حتى عند القطع بالخلاف، فالعمل الصادر منه لا يكون مصداقاً للتقية.

وبعبارة أخرى: الحكم بالصحة في هذه الصورة مبني على أمرين:

الأول: دلالة الأخبار على سقوط الجزئية أو الشرطية في مورد التقية.

الثاني: لزوم متابعتهم وتنفيذ حكمهم حتى مع العلم بالخلاف، وشيء منهما لم يثبت.

والذي يسهّل الخطب أن القطع بالخلاف نادر التحقق جداً أو لا يتحقق، وعلى تقدير التحقق فوظيفته أن يأتي بالوقوف الاضطراري في المزدلفة من دون أن يترتب عليه أيّ محذور _ ولو كان المحذور مخالفة التقية _ وإن لم يتمكّن المكلف من ذلك أيضاً فهو ممّن لم يتمكّن من إدراك الوقوفين لمانع من الموانع فيعدل إلى العمرة المفردة ولا حج له، فإن كانت هذه السنة أول استطاعته ولم تبق إلى السنة الآتية فينكشف عدم استطاعته للحج أصلاً وأنه لم يكن واجباً عليه، وأمّا إذا بقيت استطاعته أو حصل على استطاعة جديدة بعد ذلك فيجب عليه الحج

ص: 104

في السنة الآتية، وكذا يجب عليه الحج في السنة القابلة إذا كان الحج عليه مستقرّاً))(1).

أقول: توجد عدة تعليقات على كلامه (قدس سره):-

1- إن أدلة الإجزاء التي تمسك بها القائلون به -ومنهم السيد الخوئي (قدس سره) وبقية القائلين بالتفصيل- مطلقة كرواية أبي الجارود بل إن لسانها يفيد الحكومة والتنزيل فيؤخذ به حتى مع العلم بالخلاف فلو قال الشارع: (الفقاع خمر) فإننا نبني عليه بمقتضى التنزيل حتى لو قطعنا بأنه ليس خمراً.

وكذلك السيرة التي هي دليل لبّي وإن مقتضى القاعدة الاقتصار على القدر المتيقن، إلا أننا نقول أن محل الكلام من القدر المتيقن، وأن لها إطلاقاً من هذه الجهة لأننا ما دمنا قد اعترفنا بوجود الخلاف في ثبوت الهلال بين الموقف الرسمي والموقف الشرعي الذي كان يمثله الأئمة المعصومون (عليهم السلام) فإننا نقطع بمخالفة قضاة العامة للواقع لأن حكم المعصوم يمثل الواقع، وهذه نكتة لم يلتفت إليها في المصادر، وكأنهم بنوا على ما نحن عليه الآن من كون الأحكام الصادرة من المجتهدين ظاهرية فنحتمل الموافقة.

فقوله (قدس سره): ((إن القطع بالخلاف نادر جداً أو لا يتحقق)) فيه غفلة عن هذه الحقيقة، وهو يتناقض مع اعترافه السابق في دليل السيرة بأن الخلاف ((مما كثر الابتلاء به قريب مائتي سنة في زمن الأئمة عليهم السلام))(2).

نعم إن أراد بندرة تحقق القطع بالخلاف في زماننا هذا فإنه ممكن لعدم معرفة الواقع والعلماء مختلفون في ما بينهم على أقوال يثبت الهلال على بعضها قبل العامة كالقول بكفاية ثبوت الهلال بالعين المسلحة في أي نقطة من العالم.

أو يريد بعدم تحقق القطع بالخلاف أن السلطات هناك تعتمد الفتاوى الفقهية المستندة إلى دليل عندهم لتحديد أول الشهر وهي تختلف مع مبانينا إلا

ص: 105


1- المعتمد في شرح المناسك من موسوعة السيد الخوئي: 29/198.
2- المعتمد في شرح المناسك: 29/196.

أننا لا نستطيع أن نجزم بمخالفة نتيجتها للواقع، نعم لو وجدت سلطة تتجاهر بمعاداة الإسلام وجعلت الوقوف في الخامس من ذي الحجة مثلاً فإننا نقطع بمخالفة الواقع لكن هذا الفرض غير محتمل وفق المعطيات الموجودة بإذن الله تعالى.

2- إن الأمرين اللذين ذكرهما (قدس سره) لصحة الاستدلال بالتقية يمكن إثباتهما:

أما الأول فقد تقدم الكلام في إمكان الاستدلال بالتقية على الإجزاء والصحة وردّ المعترضين، لا أقلّ منه في المقام أي الوقوف في عرفة.

وأما الثاني فإن العامة وإن اختلفوا في نفوذ حكم حاكمهم عند القطع بالخلاف، إلا أن هذا الخلاف لا يضر بالاستدلال لأن الملحوظ في التقية هنا موقف السلطة والقضاة المعينين منها، وهم بين قائل بالنفوذ مطلقاً أو في خصوص الحج وقد رووا عدة روايات في ذلك تقدّم بعضها (صفحة 65) ومنها ما روته عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) (عرفة يوم يعرف الإمام والأضحى يوم يضحي الإمام والفطر يوم يفطر الإمام) قال العلامة (قدس سره) في التذكرة: ((ولو شهد واحد أو اثنان برؤية هلال ذي الحجة وردّ الحاكم شهادتهما، وقفوا يوم التاسع على وفق رؤيتهم وإن وقف الناس يوم العاشر عندهما، وبه قال الشافعي، وقال محمد بن الحسن -وهو صاحب أبي حنيفة ومؤسس فقهه الذي اعتمدته الدولة ومن أئمة أهل الرأي وكان أثيراً لدى هارون العباسي- لا يجزئه حتى يقف مع الناس يوم العاشر؛ لأن الوقوف لا يكون في يومين، وقد ثبت في حق الجماعة يوم العاشر))(1).

وروايات حادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس صريحة في ملاحظة الإمام (عليه السلام) لحكم الحاكم مطلقاً لقوله (عليه السلام): (ذاك

ص: 106


1- تذكرة الفقهاء: 8/191 عن المجموع: 8/292، حلية العلماء: 3/239.

إلى الإمام، إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا)(1)،ولو كان الاختلاف في نفوذ حكم الحاكم معذراً لكان الإمام (عليه السلام) أولى باستعماله.

بل إن فرض المسألة هو عدم السماح بالمخالفة تحت أي ذريعة سواء كانت بمبرر عدم نفوذ حكم الحاكم عند العلم بالمخالفة أو غيره، ولو سمحنا بتأثير هذا الخلاف لما بقي فرض المسألة لدخول الاختلاف في حجية ثبوت الهلال فيه ولاستطاع الحجاج أن يقفوا بحسب أوقاتهم المعتبرة.

ومما تقدم يعلم النظر في إطلاق عبارة السيد الحكيم (قدس سره) ((أما مع العلم بالخلاف فلم يبق إلا عمومات التقية واقتضاؤها للإجزاء يتوقف على بنائهم على صحة حكم الحاكم مع العلم بالخلاف كما هو الظاهر))(2).3- إن ما أفاده (قدس سره) من العدول إلى العمرة المفردة مجازفة ومخالف للاحتياط لاحتمال إجزاء الوقوف مع العامة مطلقاً وهو احتمال معتد به بعد ذهاب المشهور والإجماع المدعى عليه، وإذا جاز هذا الفعل وجب عليه إتمام الحج معهم لأنه مستطيع فعلاً.

فالصحيح إجزاء الوقوف مع العامة مطلقاً ما دام لهم عذر في اعتبار أول الشهر لأنهم يجرون في أمر الهلال على مبنى فقهي معين قد يوافق وقد يخالف مبانينا الفقهية، نعم لو فرض وجود سلطة معادية للإسلام وأرادت جعل الوقوف في اليوم الخامس من ذي الحجة مثلاً فنقطع ببطلانه للقطع بعدم وجود عذر لهم، فإطلاق القول بالإجزاء لا يشمل مثل هذه الحالات.

(الثاني) في وقوف الحجاج مع العامة أو في الوقت المعتبر شرعاً وعدمهما أربع صور محتملة:

ص: 107


1- وسائل الشيعة: 10/132، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح5.
2- دليل الناسك: 353.

الأولى: في ما إذا وقف مع العامة ولم يقف في الوقت المعتبر شرعاً وهي محل البحث، وقد علمت أن بعض الأصحاب قالوا بالإجزاء وصحة الحج وادعي الإجماع عليه وقال آخرون بعدمه.

الثانية: إذا لم يقف فيهما معاً أي لم يقف مع العامة متابعة لهم ولم يقف في الوقت المعتبر شرعاً أيضاً فلا إشكال في فساد حجه؛ للعمومات الدالة على البطلان بعدم إدراك الوقوفين لأي عذر كان، ولا تصلح أدلة التقية لتخصيصها لأنها لا تتكفل بأزيد من سقوط الشرط وهو وجوب الوقوف في الوقت المخالف لهم لا سقوط مطلق الوقوف كما نبهنا في بعض التعليقات السابقة، نظير السجود على الأرض إذا كان مخالفاً للتقية فإن التقية تقتضي سقوط وجوب السجود على الأرض ولا توجب ترك سجود الصلاة رأساً، فإن الضرورات تقدّر بقدرها، فأدلّة التقية تقتضي ترك الوقوف في اليوم التاسع ولا تقتضي ترك الوقوف رأساً.

الثالثة: إذا وقفهما معاً ولا شك حينئذٍ في الإجزاء، لكن قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فإن كان الوقوف الثاني مخالفاً للتقية فهو محرّم ولكن لا تسري حرمته إلى ما أدّاه من وظيفته، ويصح حجّه ويعتبر الوقوف الأول من أعمال حجّه، وإن كان الوقوف الثاني غير مخالف للتقية كما إذا وقف في عرفة بعنوان اتخاذ الموقف طريقاً له، أو بعنوان أنه يبحث عن شيء في تلك الأراضي فلا يكون بمحرّم ولكنه عمل لغو لا يتصف بالوجوب ولا بالحرمة)).

أقول: سيأتي الكلام عن حرمة الفعل المخالف للتقية، وأما إذا كان الوقوف في الوقت المعتبر ممكناً بمسمّاه أو بصورته الاضطرارية(1)

فهو حسن وليس لغواً لعدة وجوه:-

ص: 108


1- وهذا الوقوف متيسّر اليوم للبعض حيث أنهم يعودون بعد انتهاء الوقوف في مزدلفة مع العامة صبيحة العاشر عندهم إلى منازلهم في مكة ثم يذهبون إلى منى عن طريق عرفة ويتحقق منهم مسمى الوقوف فيها ثم يقفون آناً ما من ليلة العاشر في مزدلفة ويذهبون إلى منى.

أ- لما يظهر من الروايات من الحث على العمل طبق أحكام أهل البيت (عليهم السلام) حتى في ظرف التقية إذا أمكن ذلك كما في رواية عطاء بن السائب المتقدمة (صفحة 98) عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: (إذا كنتم في أئمة جور فاقضوا في أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيراً لكم).

ب- إن هذا الفعل موافق للاحتياط ولا ينبغي تركه إذا لم يكن مخالفاً للتقية، فيكون الإتيان بالأحكام الأولية راجحاً، فهو ليس فعلاً لغوياً كما قال (قدس سره).

نعم يمكن أن نفسر تشدده بأن هذا الإمكان المفروض إنما هو على الصعيد الشخصي أما إذا تحولت المخالفة إلى ظاهرة عامة يلتزم بها كثير من الشيعة فإنها ستكون مخالفة للتقية فأراد غلق الباب من أصله.

الرابعة: إذا لم يقف معهم ووقف في الوقت المعتبر شرعاً، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فإن كان الوقوف الثاني مخالفاً للتقية فوقوفه محرّم جزماً ولا يصلح للجزئية، فان الحرام لا يصلح أن يكون جزءاً للعبادة فوقوفه في حكم العدم فيفسد حجّه قطعاً)).

أقول: أما حرمة الفعل المخالف للتقية الواجبة فقد أورد هنا بعض الأعلام المعاصرين إشكالاً قال فيه: ((غاية ما يستفاد من أدلة وجوب التقية وجوبهاً وقد ثبت في الأصول أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص، مثلاً لو كان القيام واجباً على المكلف لا يكون الجلوس حراماً عليه وإلا يلزم أنه لو جلس يعاقب لعقابين أحدهما على ترك القيام والآخر على جلوسه وهو كما

ص: 109

ترى لكن لقائل أن يقول إذا فرض حرمة الإضرار لا يمكن للمكلف امتثال الواجب والانزجار عن الحرام فالإشكال من ناحية المنتهى))(1).

أقول:-

1- هذا الإشكال غير وارد لأن الروايات دلّت على حرمة مخالفة التقية بعنوانها لورود النهي فيها وليست الحرمة مستفادة من باب المقدمية أو الضد.

2- إن ترك الواجب حرام بالملازمة فترك صلاة الفريضة مثلاً حرام، لذا فإن أدلة الوجوب تأتي تارة بلسان الأمر بالشيء وأخرى بالمنع من الترك، وكذا أدلة الحرمة تأتي تارة بلسان النهي وأخرى بلسان وجوب الترك، وإلا بم يستحق تارك الواجب العقاب والمفروض أن الوجوب لا يقتضي أزيد من البعث والتحريك نحو الفعل، فالعقوبة لأجل ارتكاب حرمة ترك الفعل.3- إن الضرر أُخذ في تحقق موضوع التقية الضررية الواجبة فالموجب الذي ذكره للحرمة في نهاية كلامه موجود.

4- المثال الذي ذكره للنقض ليس صحيحاً لأن وجوب القيام وضعي من باب الشروط فمخالفته لا توجب الحرمة وإنما عدم الصحة.

وأما بطلان الفعل المخالف للتقية فالمحكي أن الأقوال فيه ثلاثة:-

((1- القول بالبطلان مطلقاً. وهو المحكي عن شارحي الشرايع صاحبي الجواهر والمصباح قدس الله سريهما.

ثانيها القول بالصحة كذلك. وهو المحكي عن جماعة. وذهب إليه الإمام الخميني (قدس سره) وإن استشكل فيها هنا.

ثالثها: التفصيل بين الأجزاء والشرائط التي تكون متحدة مع العبادة، وبين الأجزاء والشرائط التي تكون خارجة عنها. ففي الأول ترك التقية موجب للبطلان -كالسجدة على التربة- إذا كانت التقية مقتضية لتركها، وفي الثاني لا

ص: 110


1- مصباح الناسك للسيد تقي الطباطبائي القمي: 249.

يوجب البطلان -كترك التكتف في الصلاة كذلك- وهو المحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري وتبعه المحقق النائيني وبعض آخر))(1).

أقول: يحتمل أن يكون البطلان ناشئاً من أحد وجهين:-

1- كونه عملاً منهياً عنه والنهي في العبادة يفسدها وقد تقدم الإشكال على هذه الحرمة وجوابه.

2- إنه فعل غير مأمور به؛ لأن التقية وسائر موارد الاضطرار تسقط الأمر الأولي ويسقط معه ملاكه ومصلحته كوضوء من يضره الماء، لكن هذا التقريب لا يجري في المواضع التي يصح فيها الترتب عند تقديم الأهم على المهم فإن ملاك المهم يبقى كما لو تزاحمت الصلاة مع إزالة النجاسة عن المسجد فقد قالوا بصحة الصلاة لأن ملاك الأمر موجود.

ثم قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وأمّا إذا لم يكن الوقوف الثاني مخالفاً للتقية، كما إذا تمكن من الوقوف بالمقدار اليسير بحيث لا يخالف التقية ، فهل يكفي ذلك في الحكم بصحة حجّه أم لا؟

الظاهر هو عدم الكفاية، لأن هذا الموقف غير مأمور به، ووجه ذلك: أن الواجب على المكلف هو الوقوف في يوم عرفة وجداناً أو شرعاً، والوقوف الذي صدر منه في اليوم الثاني لا دليل عليه ولا حجّة له إلاّ الاستصحاب، أي استصحاب عدم دخول اليوم التاسع، ولكنه غير جار في المقام، لعدم ترتّب الأثر عليه، فان الاستصحاب إنما يجري فيما إذا ترتب عليه حكم شرعي، وأمّا إذا لم يترتب عليه حكم وأثر شرعي فلا يجري الاستصحاب، وما نحن فيه كذلك، لأن هذا الاستصحاب لا يقتضي وجوب الوقوف في اليوم اللاّحق، لأنّا نعلم بعدم وجوب الوقوف في هذا اليوم، لأن الواجب حسب أدلّة التقية هو الوقوف في اليوم الذي يوافقهم فلا أثر لهذا الاستصحاب، فحينئذ يشك في أن الوقوف الثاني هو الوقوف في يوم عرفة - اليوم التاسع- أو أن وقوفه هذافي

ص: 111


1- تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة للفاضل اللنكراني: كتاب الحج: 5/110.

اليوم العاشر، لأن كلامنا فعلاً في الصورة الأولى وهي ما إذا احتملت مطابقة حكمهم للواقع، فالشك شك في الامتثال.

وبالجملة: الشاك وظيفته منحصرة بالمتابعة، فمن ترك الوقوف معهم يفسد حجّه، سواء وقف في اليوم اللاّحق أم لا، وسواء كان وقوفه في اليوم اللاّحق مخالفاً للتقيّة أم لم يكن مخالفاً لها، ففي جميع الصور يبطل حجّه))(1).

أقول: لنا على كلامه (قدس سره) عدة تعليقات:-

1- لا بد أنه (قدس سره) يقصد بعدم مخالفة الوقوف الثاني للتقية الإتيان بصورته الاضطرارية أي مسمى الوقوف أو في الوقت الاضطراري، وإلا لو كان الوقوف الاختياري غير مخالف للتقية وتمكن الحجاج من تعدد الموقف فإنه يجب ونخرج عن فرض المسألة أصلاً، اللهم إلا إذا ثبت وجوب الوقوف مع العامة مطلقاً ولو للمداراة وحفظ وحدة المسلمين ونحو ذلك مما عرضناه سابقاً، وهو ما لم يتقدم منه الاستدلال عليه، إذ قد يقال بأن السيرة لا تتكفل بإثباته ورواية أبي الجارود مهملة من ناحيته لعدم وجود واقع خارجي له يومئذٍ والرواية هنا ليست على نحو القضية الحقيقية المطلقة وإنما بلحاظ الواقع المماثل.

2- لا نعلم وجهاً لسقوط الأمر بالوقوف في الوقت المعتبر شرعاً مع إمكانه لعدم المزاحمة بينهما، مضافاً إلى ما ذكرناه في الصورة السابقة من الحث على العمل بالحكم الأولي إذا أمكن حتى في ظرف التقية ولو على نحو الترتب باعتبار أن المصلحة في العمل المتقى به أهم، فالدليل على الأمر بالوقوف الثاني موجود وهي نفس العمومات الآمرة بالوقوف في الوقت المعتبر شرعاً خرج منها ما كان متعذراً بالتقية وبقي المشكوك تحت العموم ومنه هذه الصورة.

ص: 112


1- معتمد العروة الوثقى في شرح المناسك: 29/196-198.

3- إن القول بعدم كفاية الوقوف الاضطراري في الوقت المعتبر شرعاً مبني على وجوب الوقوف مع العامة مطلقاً أي حتى مع إمكان الإتيان بالوقوف الاضطراري ومسمى الوقوف، ولا بد أن يكون دليله إطلاق أدلة الإجزاء كالسيرة ورواية أبي الجارود وغيرهما، وهو ليس بعيد، وذهب إليه جملة من الأعلام كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قال: ((إذا افترض أنه لا تقية في البين وكان بمقدور المكلف أن يقف بعرفات في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة فهل يجب عليه ذلك وترك المتابعة لهم؟ والجواب: لا يجب نظرياً، ولا يبعد وجوب المتابعة حتى في هذه الحالة، حيث يظهر من طريقة الأئمة (عليهم السلام) أنهم لا يرضون بشق وحدة المسلمين وشق صفوفهم فإن ضرر ذلك أكثر من نفعه))(1).

إلا أن السيد الخوئي (قدس سره) لم يحرر هذا المبنى ليمكن البناء عليه، كما أنه يسأل (قدس سره) عن الفرق حيث تمسّك بالإطلاق في هذا الفرع دون الفرع السابق والفرق بينهما غير واضح.فكان الأولى به (قدس سره) أن لا يحاول إثبات بطلان الوقوف كما فعل ولم تتم محاولته، بل يتجه في الاستدلال نحو إثبات وجوب الوقوف مع العامة مطلقاً حتى مع إمكان الإتيان بمسمى الوقوف أو الوقوف الاضطراري لاحتمال وجوب الوقوف معهم حتى في هذه الصورة بوجوه عديدة مرّت خلال البحث وملخصها:-

أ- إطلاق أدلة الإجزاء كالسيرة مثلاً فإن المدة التي عاشها المعصومون (عليهم السلام) البالغة مائتين وخمسين عاماً شهدت فترات سعة وإمكان تعدد الموقف ومع ذلك لم ينقل عن أحد الأئمة أنه وقف في غير يوم موقف العامة.

ص: 113


1- تعاليق مبسوطة: 10/451.

ب- لعدم العلم بمخالفتهم الواقع باعتبار اختلاف المباني في ثبوت رؤية الهلال في البلدان المختلفة وبالعين المسلحة مما يوجب الاتفاق بين قضاة العامة وجملة من علماء الإمامية في أول الشهر، ومع عدم العلم كيف يجوز ترك الوقوف معهم.

ج_- إن إمكان الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً وإن تحقق على المستوى الشخصي للبعض إلا أن الإفتاء به يحوِّل المخالفة إلى ظاهرة عامة توجب استفزاز السلطة واتخاذها إجراءات ضررية فمسوِّغ التقية العامة موجود وإن زال على المستوى الشخصي، أي أن فرض إمكان مخالفة التقية لا واقع له لأن إمكانه لوحظ على صعيد الفرد وليس الجماعة.

4- نفيه (قدس سره) لوجود دليل وجداني مخالف للمفروض من ثبوت الرؤية شرعاً، وإن الشك في ما عليه المخالفون، ولسنا نشك في تعيين الوقت المعتبر شرعاً فما ذكره في نهاية كلامه لا وجود له.

5- قوله (قدس سره): ((لأن الواجب حسب أدلة التقية هو الوقوف في اليوم الذي يوافقهم، وليس دقيقاً، بل مقتضى التقية عدم وجوب الوقوف في اليوم المخالف لهم فيستطيع أن لا يخرج إلى الوقوف أصلاً.

6- وبناءً على ما سبق فالاستصحاب لا موضوع له لوجود الأمارة، أما عدم إجرائه لعدم ترتب أثر عليه ففيه مصادرة على المطلوب لأنه موافق لمبناه، أما عند البعض الآخر فإن الأثر يترتب.

وبتعبير آخر: إن نفيه وجود أثر يترتب على الاستصحاب مبني على تسليمه بوجوب الوقوف معهم مطلقاً حتى مع إمكان الوقوف في اليوم التالي، وهذا عين ما يريد أن يستدل عليه، وإن الأدلة التي ذكرها (قدس سره) لإجزاء الوقوف مع العامة كالسيرة والتقية لا يثبت بها ما ذكره (قدس سره) هنا مما يعرف بتبدل التكليف أو انقلاب الوظيفة مطلقاً.

انتهى البحث فيها بتأريخ 18 محرم 1439 هج_ الموافق 9/10/2017 م

ص: 114

البحث الثاني: حرمة التظليل على المُحرم

اشارة

ص: 115

ص: 116

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثاني:

حرمة التظليل على المحرم(1)

من المعالم البارزة لشيعة أهل البيت (سلام الله عليهم) أنهم أثناء أداء مناسك الحج والعمرة وفي طريقهم من المواقيت إلى مكة يبرزون من تحت السقوف والظلال ويعرّضون أنفسهم لأحوال الجو المختلفة كالشمس والمطر والبرد والحر متبعين بذلك أئمتهم (سلام الله عليهم) وهم بلّغوا ذلك عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وأله وسلم)، وقد سجل هذا التفرد السيد المرتضى في كتابه الانتصار الذي خصصه لذكر ما انفردت به الشيعة من إحكام الشريعة فقال: ((ومما يُظّن انفراد الامامية به ولهم فيه موافق القول بأن المحرم لا يجوز له ان يستظلَّ في محمله من الشمس إلا عن ضرورة، وذهبوا إلى انه يفدي ذلك إذا فعله بدم، ووافق مالك في كراهية ذلك الا اننا ما نظنُّه يوجب فعله شيئاً، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك والحجة فيه إجماع الطائفة))((2).

ويظهر من الروايات ان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تعرضوا بسبب هذا التمييز الذي عرفوا به إلى السخرية والاستهزاء من السائرين بركاب السلطة عدة مرات:

أحدها، من أبي يوسف في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وفيها (فضحك أبو يوسف شبه المستهزئ).

وأخرى، من نفس أبي يوسف في مجلس الخليفة المهدي.

وثالثة، من محمد بن الحسن في مجلس هارون العباسي وكلها مع الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فقد (سأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بمحضر من الرشيد وهم بمكة فقال له: أيجوز للمحرم أن

ص: 117


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 20/شوال /1427 الموافق 12/11/2006.
2- الانتصار : 97.

يظلل عليه محمله؟ فقال له موسى (عليه السلام): لا يجوز له ذلك مع الاختيار، فقال له محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختاراً؟ فقال له موسى (عليه السلام) نعم. فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك، فقال له أبو الحسن (عليه السلام) أتعجب من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتستهزئ بها؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كشف ظلاله في إحرامه، ومشى تحت الظلال وهو محرم، إن أحكام الله يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضلَّ سواء السبيل، فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جواباً)(1).

وفي صحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام) (قال: قال أبو حنيفة: أيش فرقما بين ظلال المحرم والخباء؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن السنة لا تقاس)(2).

ص: 118


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، مج9، أبواب تروك الإحرام، باب 66.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب66، ح5.

الإجماع على المسألة

والحكم في الجملة مجمع عليه عدا ما نقل عن ابن الجنيد الاسكافي انه قال: ((يستحب للمحرم ان لا يظلّل على نفسه، لان السنة بذلك جرت))(1)

وهو ان أراد بالاستحباب معناه العام أي محبوبيته فهو شامل للوجوب وهو ليس ببعيد عن السياق فلا يكون مخالفاً(2)

وان أراد معناه الاصطلاحي فيكون مخالفاً لهذا الحكم الذي ستأتي الأدلة المتظافرة عليه.

واستشكل المحقق السبزواري في أصل الحكم قال: ((والمسألة عندي محل إشكال))(3).

ويبدوا ان قولهما هذا ناشئ من بعض القرائن التي فهموا منها الترخيص وحملوا عليها الروايات الصريحة بالنهي عن التظليل ووجوب الاضحاء باعتبار ان مقتضى الصناعة ذلك.

منها: صحيحة الحلبي، (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم يركب في القبّة، فقال: ما يعجبني ذلك الا ان يكون مريضاً)(4)

ومحل الشاهد قوله (عليه السلام) (ما يعجبني).

وهذا الاستدلال مردود، لان الأئمة (عليهم السلام) يعبّرون بمثل هذه التعابير كقوله (عليه السلام) (لا ينبغي) أو (لا أحب) عن الحرمة، وإذا تنزلنا وقلنا ان اللفظ مجمل بين الحرمة والكراهة فان الإجمال يرتفع بالروايات الصريحة الآتية:

ص: 119


1- نقله صاحب الحدائق 15/470 وذكره السيد الخوئي في المعتمد ج28 من مجموعته الكاملة ص491 عن المختلف 4/108..
2- وقرَّب صاحب الجواهر هذا المعنى بقوله: ((ويمكن ان يريد بالمستحب ما لا ينافي الواجب)).
3- المصدر المعتمد عن الذخيرة / 598.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح2 ، 5.

وفي ضوء ما تقدم من التقية يمكن تفهّم التجاء الامام (عليه السلام) لمثل هذه التعابير المموهة التي لا تتعارض مع الحكم الأصلي ولا تستفزّ المقابل الذي لا يؤمن شرُّه.

ومنها: صحيحة علي بن جعفر قال (سألت: أخي (عليه السلام) أظلل وأنا محرم؟ فقال: نعم، وعليك الكفارة)(1)

وتحمل على واقعة شخصية مرت بعلي بن جعفر ككونه مريضاً في حينها بقرينة الروايات الصريحة التالية.

ومنها: صحيحة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بالظلالللنساء، وقد رخّص فيه للرجال)(2)

ويضيف بان (قد) تفيد التقليل أي الترخيص في الجملة وهو ما نقول به عند وجود عذر كما سيأتي بإذن الله تعالى ولو كانت تدل على الترخيص في أصل الحكم لما كان وجه لفصله عن النساء ولقال لا بأس بالظلال للنساء والرجال فهذا التعبير يعني ان جواز التظليل هو أصل الحكم للنساء اما الرجال فيرخص لهم احياناً عند وجود العذر.

ويضاف إلى هذه الردود ان ما قيل من ان مقتضى الصناعة حمل المنع على الكراهة إذا ورد الترخيص لا يمكن جريانه هنا لصراحة الروايات في الحرمة كما سيأتي ان شاء الله تعالى فتحمل روايات الترخيص على التقية لان هذا الحكم كان من العلامات الفارقة بين اتباع المدرستين وقد تقدم تهكم واستهزاء السائرين بركاب السلطة من تصرف أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

فلا عبرة إذن بمن خالف والإجماع متحقق على أصل الحكم.

الأقوال في المسألة

وقد اختلف الفقهاء فيما يجب التظليل منه على أقوال:

1- اختصاص حرمة التظليل بالتستر من الشمس قال السيد الخميني (قدس سره): ((جلوس المحرم حال طي المنزل في المحمل وغيره مما هو مسقف

ص: 120


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب بقية كفارات الاحرام، باب 6، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب64، ح10.

إذا كان السير في الليل خلاف الاحتياط وإن كان الجواز لا يخلو من قوة، فيجوز السير محرماً مع الطائرة السائرة في الليل))(1)

وألحق بعضهم بها المطر فلا يحرم في الليل إذا لم يكن هناك مطر، وهو مختار بعض من حضرنا بحثه الشريف قال: ((المراد من التظليل التستر من الشمس، ويلحق بها المطر على الأحوط، واما الريح والبرد والحر ونحوها فالأظهر جواز التستر منها، وإن كان الأحوط تركه، فلا بأس للمحرم ان يركب السيارة المسقفة في الليل -فيما إذا لم تكن السماء ممطرة على الاحوط- وان كانت تحفظه من الرياح مثلاً))(2).

2- تعميم الحكم إلى كل ما من شأنه التظليل منه فيعم الشمس والمطر والبرد والريح ونحوها ولا تحرم إذا كان وجود التظليل كعدمه، والتزم به السيد الخوئي (قدس سره)، قال: ((المراد من الاستظلال التستر من الشمس أو البرد أو الحر أو المطر ونحو ذلك، فإذا لم يكن شيء من ذلك بحيث كان وجود المظلة كعدمها فلا بأس بها))(3).

وهو مختار سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره)(4).

وشيخنا الأستاذالفياض (دام ظله)(5)

وهم ان أرادوا بقولهم ((بحيث كان وجود المظلة كعدمها)) بلحاظ الأثر المطلوب من الاستظلال بها أي يصدق الاستظلال بها لكنه عديم الأثر فهو القول الثاني وهو الظاهر من كلام السيد الخوئي (قدس سره) قال: ((ولذا لو فرضنا فرضاً نادراً جداً بان كان رفع المظلة فوق رأسه لا يؤثر شيئاً أبداً ولا يمنع عنه شيئاً اصلاً وكان وجوده كعدمه فلا بأس به لعدم صدق الاستظلال والاستتار على ذلك، لان الممنوع كما عرفت ليس مجرد وجود المظلة على رأسه بل الممنوع هو الاستتار والتحفظ عن الشمس والريح العاصف والمطر))(6) وإن أرادوا به عدم صدق الاستظلال اصلاً كما لو

ص: 121


1- تحرير الوسيلة: 1/383، مسألة (38).
2- مناسك الحج، الطبعة الثالثة، مسألة 270.
3- المعتمد في شرح المناسك، مج28 من الموسوعة الكاملة، ص497، المسألة 270.
4- مناسك الحج / المسألة 237.
5- التعاليق المبسوطة، مج10، ص261، المسألة 270.
6- المعتمد : 28/498.

فرض ان بعض المسافة تقطع بمصعد كهربائي يتحرك في برج ذي سقف فان وجود سقف المصعد وعدمه سواء لوجود سقف البرج ولا أريد ان امثل بحركة القطارات في انفاق المترو لان سقف القطار له اثر في الوقاية من تيار الهواء فهو القول الثالث وظاهر تعبيرهم هنا المعنى الأول ولكن الشيخ الفياض ذكر ما يشعر بالقول الثالث فانه بعد ان نقل الأقوال في تحديد ما هو المحرم في التظليل قال: ((أو مطلق التظليل والتستر بظل، وان لم يكن هناك شمس، كما إذا كان في الليل ولا مطر ولا برد، كما إذا كان الجو صافياً ومعتدلاً)) ثم قواه(1)

وكذا قوله ((ان المستفاد من الروايات هو حرمة التظليل بظل ساتر وان لم تكن هناك شمس ولا علة أخرى))(2).

3- إطلاق الحكم لكل الأزمنة والأحوال ولعله مختار السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حيث أطلق حرمة التظليل على الرجال ولم يفصّل بأي شي(3).

اما القول المختار فهو مغاير لهذه جميعاً لأننا نعتقد ان المستفاد من الروايات ان المطلوب من المحرم هو وجوب الاضحاء اما حرمة التظليل فإنها من لوازمه وآثاره لذا لو أمكن تحقيق الاضحاء الذي هو بمعنى البروز والظهور من كل ما يكنّه ويضمّه ويحتويه فهو كافٍ وان تستّر من الشمس ونحوها وإنما تلاحظ حرمة الاستتار والاستظلال بمقدار منافاته للاضحاء وسيأتي تفصيله بعد عرض الروايات الدالة على الحكم بإذن الله تعالى.

والقولان الثاني والثالث وان اتحدا مصداقاً لندرة وجود مورد يختلفان فيه الا أنهما مختلفان مفهوماً لان القول الثاني اخذ حرمة التظليل بلحاظ الأشياء الخارجية ومضافاً إليها بينما أخذها الثالث ذاتية في نفسها.

ص: 122


1- تعاليق مبسوطة: 10/ 251.
2- تعاليق مبسوطة: 10/257.
3- مناسك الحج: 71.

الروايات الدالّة على الحكم

وقد دلت على الحكم روايات معتبرة كثيرة وبتعابير مختلفة فقد نهت بعضها عن الركوب في القبة والكنيسة(1)

وأمرت أخرى بالاضحاء ونهت طائفة عن التستر عن الشمس ونهت أخرى عن التظليل وهكذا.

وسنذكر جملة منها بإذن الله تعالى:

1- صحيحة محمد بن مسلم عن احدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن المحرم يركب القبة؟ فقال: لا، قلت: فالمرأة المحرمة؟ قال: نعم)(2).

2- صحيحة الحلبي المتقدمة(3).

3- صحيحة عبد الله بن المغيرة قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام) أظلِّل وأنا محرم؟ قال: لا، قلت: أفأظلل وأكفّر؟ قال: لا، قلت: فإن مرضت؟ قال: ظلّل وكفّر، ثم قال: أما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما من حاج يضحّي ملبّياً حتى تغيب الشمس الا غابت ذنوبه معها)(4).

4- صحيحة هشام بن سالم (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم يركب في الكنيسة؟ قال: لا، وهو للنساء جائز)(5).

5- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل المحرم كان إذا أصابته الشمس شقّ عليه وصدع فيستتر منها، فقال: هو أعلم بنفسه إذا علم انه لا يستطيع ان تصيبه الشمس فليستظل منها)(6).

ص: 123


1- الكنيسة: هيكل أو شيء يُغرز في المحمل أو الرحل ويلقى عليه ثوب يستظل به الراكب على الدابة، والجمع كنائس مثل كريمة كرائم. (مجمع البحرين: 4/ 76).
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح3.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح4.
6- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح6.

6- موثقة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن (عليه السلام) (قال: سألته عن المحرم يظلَّل عليه وهو محرم؟ قال: لا الا المريض أو من به علة، والذي لا يطيقحر الشمس)(1).

7- موثقة إسماعيل بن عبد الخالق (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل يستتر المحرم من الشمس؟ فقال: لا إلا ان يكون شيخاً كبيراً أو قال: ذا علة)(2).

8- صحيحة عبد الله بن المغيرة (قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الظلال للمحرم فقال: أضحَ لمن أحرمت له، قلت: إني محرور وإن الحرَّ يشتد عليَّ، فقال: أما علمت أن الشمس تغرب بذنوب المحرمين)(3).

9- معتبرة قاسم الصيقل (قال: ما رأيت أحداً كان اشد تشديداً في الظل من أبي جعفر (عليه السلام) كان يأمر بقلع القبة والحاجبين إذا احرم)(4).

10- موثقة عثمان بن عيسى الرواسي الكلابي قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام) ان علي بن شهاب يشكو رأسه والبرد شديد ويريد ان يحرم، فقال: إن كان كما زعم فليظلل، واما أنت فاضْحَ لمن أحرمت له)(5).

11- صحيحة حفص بن البختري وهشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إنه يكره للمحرم أن يجوز ثوبه انفه من أسفل، وقال: أضح لمن أحرمت له)(6).

12- صحيحة بكر بن صالح قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ان عمتي معي وهي زميلتي ويشتد عليها الحر إذا أحرمت أفترى أن

ص: 124


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح9
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح11.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح12.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح13.
6- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب61، ح2.

أظلّل عليَّ وعليها؟ فكتب ظلل عليها وحدها)(1).

وتضاف إلى هذه المجموعة من الروايات مجموعة أخرى يُفهم منها بالدلالة الالتزامية حرمة التظلل اختياراً وهي التي رخّصت بالتظليل من علة وأوجبت على المحرم الكفارة وان كنا لا نقول بالملازمة المطلقة بين وجوب الكفارة وحرمة الفعل لكننا نقول أنها مستفادة في هذا المورد وبحسب القرائن، ومن هذه الروايات:

1- صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال(سألته عن المحرم يظلّل على نفسه، فقال: أمن علة؟ فقلت: يؤذيه حر الشمس وهو محرم، فقال: هي علة يظلّل ويفدي)(2).

2- صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت للرضا (عليه السلام): المحرم يظلل على محمله ويفدي إذا كانت الشمس والمطر يضَّران به، قال: نعم، قلت: كم الفداء؟ قال: شاة)(3).

3- صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) قال (سأله رجل عن الظلال للمحرم من أذى مطر أو شمس وأنا اسمع، فأمره ان يفدي شاة، ويذبحها بمنى)(4).

4- صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن مثله إلا انه قال: في أذى من مطر أو شمس أو قال: من علّة وزاد وقال: نحن إذا أردنا ذلك ظلّلنا وفدينا)(5).

ص: 125


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 68، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب بقية كفارات الاحرام، الباب6، ح4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب بقية كفارات الاحرام، الباب6، ح5.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب بقية كفارات الاحرام ، الباب6، ح6.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب بقية كفارات الاحرام ، الباب6، ، ح7.

الحكم المستفاد من استقراء الروايات

تضمنت الروايات حكمين: وجوب الاضحاء وحرمة التظليل، فالكلام في جهتين:

الأولى: في وجوب الإضحاء وحاصلها:

ان المأمور به في الروايات أي الحكم الأصلي الصادر من المعصوم (عليه السلام) بحق المحرم هو وجوب الاضحاء (راجع الروايات 3، 8، 10، 11).

اما حرمة التظليل بتفاصيلها فكانت من التفريعات والملازمات والموارد الجزئية لأصل الحكم ومثلها لا يحدد الحكم ولا يقيّده وهذا شأن طبيعي حينما يلقى حكم كلي فان الناس يسألون عن تطبيقاته وجزئياته والمفروض ان يؤخذ الحكم من أصل الأمر لا من الأسئلة التي يلقيها المكلفون، وأمامك الروايات التي تجاوزت العشرة لا تتضمن ولا واحدة أن الامام (عليه السلام) كان يلقى حرمة التظليل وإنما كان السؤال عنها من قبل الأصحاب لمعرفة التفاصيل والموارد الجزئية عدا رواية المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يستتر المحرم من الشمس ولا بأس ان يستر بعضه ببعض)(1)

وهي ضعيفة سنداً ولا تأبى الحمل على أوضح المصاديق خصوصاً مع ملاحظتها مع الروايات الأخرى، وربما كانت جواباً عن سؤال غير مذكور فتكون كقريناتها، بينما تجد أمراً من الامام (عليه السلام) بوجوب الاضحاء، وفي عدد من الروايات (الثامنة والعاشرة) كان الامام (عليه السلام) يعدل من الحالة الجزئية في السؤال عن التظليل إلى القاعدة الكلية وهو الأمر بوجوب الاضحاء.

واستفادة الحكم من الفرع (أي حرمة التظليل) لا من الأصل (أي وجوب الاضحاء) هو احد مناشئ الاختلاف والتشتت والابتعاد عن المفاد الصحيح للروايات حيث ذهبوا إلى معاجم اللغة لمعرفة معنى التظليل وحدوده وهل هو خاص بالتستر من الشمس أم أعم من ذلك ونحوها، بينما المطلوب

ص: 126


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح2.

وجوب الاضحاء وإنما كان التظليل محرماً لمنافاته لوجوب الإضحاء وإخلاله به، ولو لم يكن كذلك فلا حرمة كما لو تعمد السير تحت الغيمة الحاجبة عن الشمس ويتحرك بحركتها أو كان يسير في ظل المحمل أو يستر بعض جسده ببعض كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والاضحاء يعني البروز والظهور واعتزال الظل والكِن، قال ابن الأثير (ومنه حديث ابن عمير: (رأى محرماً قد استظل، فقال: أضح لمن أحرمت له) أي اظهر واعتزل الكن والظل) وذكر شواهد أخرى على ان الاضحاء يعني الظهور والبروز وانتفاء الحائل ولا يختص بالظهور والتعرض للشمس وإنما تم التركيز عليه لأنه أوضح الأفراد والمصاديق.

فالواجب هو البروز والظهور للسماء واستشعار عدم وجود حاجب بينه وبين الله تعالى لأنس الإنسان بالماديات والأمر غير مرتبط بما يظلَّل منه حتى يحصل الاختلاف في دائرته سعة وضيقاً ولا حاجة إلى تحكيم كلام اللغويين في المقام بعد وضوح المعنى المراد من الروايات. وإنما المطلوب الاضحاء بنفسه لله تبارك وتعالىمن دون ملاحظته بالنسبة لأي شيء آخر.

اما ما ورد من حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثواب الاضحاء فقد ذكر للترغيب والحث على الفعل لما فيه من الثواب وليس للتقييد بالتعرض للشمس خاصة كما قيل.

وممن التفت إلى هذا المعنى الشهيد الأول في الدروس قال ((فرع، هل التحريم في الظل لفوات الضحى أو لمكان الستر؟ ففيه نظر لقوله (عليه السلام) (أضح لمن أحرمت له) والفائدة فيمن جلس في المحمل بارزاً للشمس، وفيمن تظلّل به وليس فيه) وفي كشف اللثام (يعني يجوز الأول على الثاني دون الأول والثاني وبالعكس).))(1).

ولم يرض صاحب الحدائق على هذا التردد من الشيخ الشهيد (قدس سره) فقال ((ظاهره (قدس سره) التردد في هذا المقام، ولا اعرف له وجهاً، وأنت خبير بان الظاهر من الأخبار المتقدمة هو المعنى الأول، وقد تكرر فيها

ص: 127


1- جواهر الكلام: 18/401.

الأمر بقوله: (أضح لمن أحرمت له) كما في رواية عثمان وصحيحة عبد الله بن المغيرة أو حسنته، ومثله في روايات العامة))(1).

وردَّ صاحب الجواهر عليه بقوله ((ولكن فيه ان الأمر بالاضحاء قد جاء في صحيح حفص وهشام عن الصادق (عليه السلام) على نحو التعليل للمكروه (الرواية الحادية عشرة) فلا يبعد القول بالكراهة، فيما نافى الاضحاء من التستر بما لا يكون فوق الرأس، والحرمة بما كان فوقه)) وفيه:

1- إن الأمر بالإضحاء ورد في عدة روايات معتبرة (3، 8، 10، 11).

2- إن الاستشهاد بالكبرى في أمر مكروه لا يعني أنها مختصة بالمكروه بالمعنى الأخص فيمكن ان تكون بالمعنى الأعم الشامل للحرمة كما لو استشهد بذيل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) في موضعين تارة وجوب الوضوء كمقدمة للصلاة وأخرى لاستحباب الوضوء على الوضوء أو للكون دائماً على الطهارة باعتبار ان الذيل يتضمن المحبوبية المطلقة.

3- من الواضح ان الذيل فقرة مستقلة عن الصدر وتخبر عن مطلوب آخر.

الثانية: التظليل هو الآخر يعني في اللغة مطلق التستر والتغطية، قال ابن فارس ((إن هذا الأصل يدل على ستر شيء لشيء وهو الذي يسمى الظل وكلمات الباب عائدة إليه))(2)

ولا تختص بالتستر من الشمس وإنما ارتبط التظليل بها لأنها الفرد الأغلب فيما يتستر منه.

ولو سلمنا اختصاصها بالشمس فقد قلنا ان الملحوظ في الحكم هو وجوب الاضحاء وهو عام اما حرمة التظليل فقد كانت من التطبيقات.

كما ان الروايات تضمنت إطلاق حرمة التظليل الشاملة للشمس ولغيرها فلا تختص بها.

فهذه وجوه ثلاث تصلح للرد على مختار السيد السيستاني (دام ظله) في حرمةالتظليل من الشمس خاصة.

ص: 128


1- الحدائق الناضرة : 15/485.
2- مقاييس اللغة : 3/461.

ومن الروايات المطلقة الأولى والثانية والرابعة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة.

ويمكن الاستدلال بمثل الرواية السادسة حيث ذكر الامام (عليه السلام) عدم إطاقة الشمس في عرض من به علّة فيظهر ان الأذى المطلوب تحمله أوسع من الشمس كالمطر والبرد والريح وهو المطلوب.

وإن كان يمكن المناقشة فيه بعدم الملازمة إذ يمكن ان يكون المطلوب هو عدم التظليل من الشمس لكنه لا يستطيع الامتثال لعدم قدرته على تحمل البرد أو الريح فهذا لا يعني ان المطلوب منه التعرض لها، وسيأتي إيضاح عدم الملازمة هذه.

ومثلها الرواية الثامنة وروايات المجموعة الثانية ومنه يعلم ان الخدشة في استدلال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) بمثل هذه الروايات على التعميم(1)

فهذه الرواية ليست كالروايات المانعة من الاستتار عن الشمس كالرواية السابعة ولا يستفاد منها بالدقة حرمة التظليل من هذه الأمور وغاية ما يستفاد منها ان عدم القدرة على تحمل البرد أو الريح تجعله يظلّل مع وجود الشمس التي يفترض عدم التستر منها فتحصل المخالفة.

وعلى أي حال فالتمسك بإطلاق الروايات المشار إليه كاف لوضوحه ولأنه في مقام البيان ولعدم وجود دليل صالح للتقييد لا من كلام اللغويين ولا من الروايات، وان ذكر الشمس في عددٍ منها كان من باب انه أوضح المصاديق والأكثر ابتلاءً وذكرها في مثل الرواية الثالثة من باب الحث والتحفيز نحو العمل بذكر ثوابه أو بعض ثوابه ولا تفيد التقييد.

ولو كان الحكم مختصاً بالشمس لوجدنا الامام (عليه السلام) يعلّم بعض أصحابه هذا الحل والعلاج لمشكلة من به أذى أو علة أو انه لا يطيق حر الشمس فيقول له سر في الليل وكان متعارفاً في ذلك الزمان لان الاضطرار لا يصدق الا مع عدم المندوحة فمع وجودها بالسير ليلاً لا يجوز الترخيص في التظليل.

واحياناً يكون الإطلاق خللاً في الجواب إذا كان المطلوب هو المقيد كما في

ص: 129


1- تعاليق مبسوطة : 10/253.

سؤال القبة والكنيسة فالجواب الصحيح -لو كانت حرمة التظليل خاصة بالشمس- يكون بالمنع في النهار والجواز في الليل الا ان يُدعى بوجود قرائن كالارتكاز لدى السائل بررَّ الاستغناء عن ذكر التفصيل وهو كما ترى.

ويمكن استفادة الإطلاق بما يشمل الليل بوجه دّقي من مثل الرواية العاشرة لورود البرد الشديد فيها وهو يتحقق في الليل في تلك البلاد دون النهار.

ونسأل هنا السيد السيستاني (دام ظله) عن وجه الاقتصار في التعميم على المطر فان كانت روايات المجموعة الثانية فيرد عليه:

1- ما قلناه من عدم الملازمة بين كون المطر أو غيره عذراً للتظليل وكونه بنفسه مما يحرم التظليل منه.

2- ان معتبرة عثمان بن عيسى الكلابي ذكرت البرد الشديد ولا نجد فرقاً بين لساني الروايتين.فان قلت: ان الذيل (فاضح... الخ) يصلح قرينة على كون الأذى من البرد في النهار لاختصاص الاضحاء به فتكون كفارة التظليل من الشمس وان كان العذر البرد لعدة وجوه:

منها: ان التكليف ومورد السؤال مختلف بين الصدر والذيل لاختلاف الأشخاص.

ومنها: ما تقدم ان البرد يكون شديداً في تلك الديار في الليل.

ومنها: ما قلناه من ان معنى الاضحاء مطلق البروز ولذلك فانه (دام ظله) جزم بوجوب الفدية إذا ظلّل بسبب المطر(1)

–ولو كان في الليل- لكن فتواه بحرمة التظليل من المطر -في الليل- مبنية على الاحتياط(2)

وقال في وجه ذلك ((ورد النص الصحيح بثبوت الكفارة في التستر من المطر ولم يرد في حرمة التستر منه ذلك وحيث ان الملازمة بين ثبوت الكفارة وحرمة الفعل غير مؤكدة

ص: 130


1- مناسك الحج، ط3، مسألة 273، ص135.
2- مناسك الحج، ط3، المسألة 270.

احتطنا في التستر من المطر بالاجتناب عنه ولم نفتِ بالحرمة))(1).

وهو ان كان يريد مطلق الملازمة بين ثبوت الكفارة وحرمة الفعل فنحن لا نقول بثبوتها كذلك لتخلفها في قتل الخطأ مثلاً، وإن أراد بها في المقام فكان الأنسب ان يصوغها بأوضح من هذا البيان كالذي قلناه في الرد الأول، وحينئذٍ ما وجه الاحتياط إذا انتفت الملازمة وان الموافق لمبناه ان الكفارة لارتكاب التظليل من الشمس بسبب وجود المطر لا للتظليل من المطر نفسه؟ ولماذا لم يحتط في أمثاله كالبرد الشديد وقد ورد في رواية معتبرة ايضاً؟ على ان الظاهر من الروايات في المقام كصحيحة ابن بزيع الثالثة ثبوت الملازمة في المقام.

وقد قال (دام ظله) كلاماً في موثقة الرواسي في التظليل بسبب البرد الشديد مثل الذي قاله في المطر وهذا نصه ((الرواية معتبرة ولكنها لا تدل على حرمة تستر المحرم من البرد بل عدم جواز التظليل بالتستر من الشمس بدخول القبة ونحوها الا إذا كان لعذر كالتأذي من البرد في خارجها))(2).

ص: 131


1- الملحق الثاني في مناسك الحج، السؤال 195، ص94.
2- الملحق الثاني في مناسك الحج، السؤال 202، ص98.

فروع

الأول: حرمة التظليل اختياراً حتى لو بنى على دفع الكفارة، وإنما يجوز التظليل اضطراراً لعذر وقد ذكرت الروايات جملة من الأعذار ومع وجود العذر فقد حثت على تحمل الأذى مهما أمكن لمحبوبية الاضحاء عند الله تبارك وتعالى وللأثر المبارك الذي فيه على المحرم وعدم الاكتفاء بمطلق العذر فان الاضحاء وعدم التظليل لا يخلو من صعوبة وأذى، روي عن زرارة (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم أيتغطى؟ فقال: اما من الحر أو البرد فلا)(1)

((ولعله لذا كان المحكي عن الشيخين وكذا ابن إدريس اعتبار الضرر العظيم بناءً على إرادة ما يسقط معه التكليف من العظيم كما في غير المقام))(2).

وحينئذٍ فإطلاق بعض النصوص الاكتفاء بمطلق الأذية كصحيح سعد بن سعد وصحيح ابن بزيع وإبراهيم ابن أبي محمود محمول على ما ذكرنا.

وقد دلت عليه بالتفصيل الرواية الثالثة من المجموعة الأولى وروايات المجموعة الثانية فلا نكرر.

الثاني: لا بأس بالتظليل للنساء والأطفال لعدة روايات وردت تنص على ذلك منها الرواية الأولى والرابعة المتقدمة، ومنها صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بالظلال للنساء)(3)

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (لا بأس بالقبة على النساء والصبيان وهم محرمون)(4).

الثالث: ان وجوب الاضحاء مختص بحالة السير وطي المسافة ولا تشمل

ص: 132


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح14.
2- جواهر الكلام: 18/398.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 64، ح10.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 65، ح1.

المنزل وفيما لو توقف للاستراحة مثلاً وهذا الذي استعصى فهمه على أهل مدرسة القياس فتساءلوا بتهكم عن الفرق كما في صحيحة البزنطي عن الرضا (عليه السلام) (قال: قال أبو حنيفة: أيش فرق ما بين ظلال المحرم والخباء؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) ان السنة لا تقاس)(1).

وقد اشترطوا في الساتر المحرم ان يكون متحركاً بحركة المحرم لطي المسافة حيث قسم السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)(2)

والسيد السيستاني(3)

(دام ظله الشريف) الساتر إلى ثابت كالأنفاق والأشجار والجدران ومتحرك بحركة المحرم لطي المسافة فحرموا الثاني دون الأول وقال مثل ذلك الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) ((لا يجوز أن يتظلل بظل ويتستر بساتر متحرك بحركته))(4)

وهذا شاهد على تركيزهم على الفرع وهي حرمة التظليل دون الأصل وهو وجوب الاضحاء وإلا فالمعيار هو صدق الاضحاء عرفاً بغض النظر عما ذكروه فيحرم على المحرم اتخاذ خباء على طول المسافة ويسير بداخله باعتباره ظلاً ثابتاً لا يتحرك بحركته وسبب الحرمة هو عدم صدق الاضحاء كما لا بأس بالتستر بغيمة متحركة باتجاه سيره لصدق الاضحاء إضافة إلى ما سيأتي من جواز الاستظلال بظل المحمل إذا كان جانبياً.

الرابع: وجوب الاضحاء لا يختص بالراكب وإنما يشمل الراجل ايضاً لان موضوع الحكم في الروايات المتقدمة مطلق هو المحرم وهو يشملهما كالروايات الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والعاشرة والحادية عشرة وإنما ذكر الراكب في بعضها من باب ذكر المورد كروايات القبة والكنيسة ولا يلزم الاختصاص به.

على ان السائرين مشياً إلى بيت الله الحرام كانوا كثراً يومئذٍ فلو لم يكن الحكم شاملاً لهم لأشار الامام إلى ذلك في جوابه فإطلاق الجواب في مثل هذا المورد خللٌ لا يناسب صدوره من المعصوم.

ص: 133


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 66، ح5.
2- موجز احكام الحج : ص71.
3- مناسك الحج : ط3، ص133.
4- تعاليق مبسوطة : 10/256.

وقال بعضهم بجوازه للراجل ونقل صاحب الحدائق قول الشهيد الثاني (قدس سره) وغيره ((بان التظليل إنما يحرم حالة الركوب، فلو مشى تحت الظلال -كما لو مشى تحت الجمل والمحمل- جاز)) واستدلوا لذلك بصحيحة ابن بزيع قال (كتبت إلى الرضا (عليه السلام): هل يجوز للمحرم ان يمشي تحت ظل المحمل؟ فكتب: نعم)(1)

بعد تعميمها وكون المحمل مذكوراً من باب المثال فجواز الاستظلال مطلق، قال السيدالخوئي (قدس سره) ولذا عطف الشهيد الثاني قوله (ونحوه)(2)

على ظل المحمل.

لكن الإنصاف ان هذه الكلمة لا يريد بها الشهيد الثاني (قدس سره) الإطلاق التام لما يشمل فوق الرأس فلا يتم تقريب السيد الخوئي (قدس سره) وإنما أراد إلحاق أشباه المحمل بجواز الاستظلال به جانباً كالسيارة في زماننا الحاضر وهو ما استظهره صاحب الحدائق من كلام الشهيد في نفس كتابه الروضة البهية بقوله ((فلا يحرم -يعني التظليل- نازلاً إجماعاً ولا ماشياً إذا مرَّ تحت المحمل ونحوه فهو نظير كلام العلامة في المنتهى انه يجوز للمحرم ان يمشي تحت الظلال وان يستظل بثوب ينصبه إذا كان سائراً أو نازلاً، لكن لا يجعله فوق رأسه سائراً خاصة))(3).

وهذا الحكم على ما قدمناه من ان المطلوب وجوب الاضحاء فهذا على القاعدة لكن من يركّز على حرمة التظليل وقع في صعوبة تطبيقه على القاعدة لذا أوكَلها إلى التعبد بالنص، قال السيد الخوئي (قدس سره) ((وإنما جوّز النص الخاص التظليل له بظل المحمل حال المشي وهذا مما نلتزم به للتعبد بالنص ولا يدلّ على جواز الاستظلال مطلقاً ولو بظل غير المحمل، والأحكام تعبدية وملاكاتها مجهولة عندنا فيجب الاقتصار على موارد النص))(4) رغم وجود نص يمكن تقريبه على جواز الاستظلال بغير المحمل ذكره الطبرسي في الاحتجاج

ص: 134


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح1.
2- الروضة البهية : 1/365 طبعة قم.
3- الحدائق الناضرة : 15/484.
4- المعتمد في شرح المناسك : 28/494.

عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري (انه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام) يسأله عن المحرم يرفع الظلال هل يرفع خشب العمارية أو الكنيسة ويرفع الجناحين أم لا؟ فكتب إليه في الجواب: لا شيء عليه في تركه رفع الخشب)(1) لكنه ضعفها بالإرسال مضافاً إلى اننا غير مطلعين على مقدار صدق الاستظلال على هذا الخشب الذي جوز الامام (عليه السلام) تركه.

وأوكل صاحب الحدائق الحكم إلى النص الخاص دون القاعدة العامة المستفادة من الروايات فقال معرّضاً بمن عمم دلالة صحيحة ابن بزيع على جواز التظليل للماشي ((وبالجملة فالظاهر الاقتصار على مورد الصحيحة المذكورة، وتخصيص الأخبار بخصوص ما اشتملت عليه)) وقال ايضاً ((واما المشي في ظلال المحمل ونحوه فإنما قلنا به من حيث النص وإلا فعموم الأخبار المشار إليها يشمله))(2).

وهذا الفهم إذا بررناه في ضوء مبنى السيد الخوئي (قدس سره) فانه غير مبرر من صاحب الحدائق (قدس سره) لأنه اختار وجوب الاضحاء فمفاد صحيحة بن بزيع على القاعدة.

وفي الحقيقة فان صحيحة ابن بزيع استفيد منها تفصيلان:الأول: بين الراجل والراكب فجواز التظليل للراجل دون الراكب وهو الذي ناقشناه مع السيد الخوئي (قدس سره) حيث استدلوا على الجواز بالتعميم.

الثاني: بين التظليل على الرأس والجانبين فمنعوا من الأول وأجازوا الثاني واستدلوا بالتعميم ايضاً وبأن معنى التظليل هو ما كان فوق الرأس.

وممن اختار هذا التفصيل بعض من حضرنا بحثه الشريف قال بعد أن ذكر التظليل بالأجسام السائرة ((وهذا محرم على الرجل المحرم، راكباً كان أو راجلاَ، إذا كان ما يظلله فوق رأسه واما إذا كان ما يظلّله على احد جوانبه، فالظاهر انه لا بأس به للراجل مطلقاً فيجوز له السير في ظل المحمل والسيارة

ص: 135


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح6.
2- الحدائق الناضرة : 15/485 ، 487.

ونحوها.

واما الراكب فالاحوط ان يجتنبه الا إذا كان بحيث لا يمنع من صدق الاضحاء (أي البروز للشمس) عرفاً، كأن كان قصيراً لا يستر به رأسه وصدره كجدران بعض السيارات المكشوفة))(1).

وهذه من مشاكل الالتفات إلى حرمة التظليل وما تفرع عنه من التعبد بالمعنى اللغوي واختصاصه بالظلال على الرأس بينما المعيار صدق الاضحاء بلا فرق بين الراكب والراجل وما ورد في صحيحة ابن بزيع ليس فيه شيء زائد عن القاعدة حتى يفرّق بين الراجل والراكب. ويصدق التظليل على الساتر الجانبي كما على الرأسي.

الخامس: لا مانع من ان يتجنب المحرم أشعة الشمس المباشرة بوضع يده دون رأسه أو يستر بعض جسده ببعض أو يسير في ظل المحمل أو السيارة مما لا يتنافى مع وجوب الاضحاء والبروز والظهور دلت عليه صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال لا بأس بان يضع المحرم ذراعه على وجهه من حر الشمس، ولا بأس ان يستر بعض جسده ببعض)(2)

وصحيحة ابن بزيع المتقدمة قال (كتبت إلى الرضا (عليه السلام) هل يجوز للمحرم ان يمشي تحت ظل المحمل؟ فكتب نعم)(3)

وخبر جعفر بن المثنى عن أبي الحسن (عليه السلام) وجاء فيه (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يركب راحلته فلا يستظل عليها وتؤذيه الشمس فيستر بعض جسده ببعض وربما يستر وجهه بيده)(4)

ولذا تحمل صحيحة سعيد الأعرج (انه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن المحرم يستتر من الشمس بعود وبيده؟ قال لا إلا من علة)(5)

على الكراهة أو على كون حالة الاستتار بالعود مما يتنافى ووجوب الاضحاء لذا أفادت مكاتبة

ص: 136


1- مناسك الحج: 133.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح3 ، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب66، ح1.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب67، ح5.

الحميري الجواز عند عدم المنافاة فقد روى الحميري انه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام) يسأله عن المحرم يرفع الظلال هل يرفع خشب العماريةأو الكنيسة ويرفع الجناحين أم لا؟ فكتب إليه في الجواب، لا شيء عليه في ترك رفع الخشب)(1).

اما بالنسبة للاستتار من أشعة الشمس بالثوب بالشكل الذي لا ينافي الاضحاء فقد أجازته صحيحة عبد الله بن سنان (قال: سمعت أبا عبد الله يقول لأبي وشكى إليه حر الشمس وهو محرم وهو يتأذى به، فقال: ترى ان استتر بطرف ثوبي، قال: لا بأس بذلك ما لم يصب رأسك)(2)

وفي نسخة أخرى (ما لم يصبك) وتؤدي نفس المعنى إذا جعلنا رأسك بدلاً من الكاف ومنعت منه رواية المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: لا يستتر المحرم من الشمس بثوب، ولا بأس أن يستر بعضه ببعض)(3)

والرواية المانعة غير معتبرة(4)

ويمكن حملها على ما ينافي الاضحاء كما وجّهت صحيحة عبد الله بن سنان في الذيل.

ولكن السيد الخوئي (قدس سره) أبى ان نفهم الجواز من صحيحة بن سنان جرياً مع ما التزم به من ان الحكم بجواز التظليل بظل المحمل تعبدي خاص لا يتجاوز مورده فقال في الرد (لان السائل كان يتأذى من حرّ الشمس فجوّز له الاستظلال للضرورة ونهاه عن التغطية وستر رأسه فان ذلك محرم آخر غير الاستظلال فمورد الرواية هو الاضطرار لا الاختيار، فمعنى الرواية انه يجوز لك الاستظلال للضرورة ولكن لا تستر رأسك ولا تغطيه، فلا تدل الرواية على جواز الاستظلال اختياراً بأحد الجانبين)(5)

وتبع ذلك صاحب الوسائل في

ص: 137


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب67، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح2.
4- وصفها السيد الخوئي (قدس سره) بالمعتبرة في المعتمد 28/496 من المجموعة الكاملة.
5- المعتمد : 28/495.

تعليقه على الرواية.

وفيه: إن لسان الرواية لا يختلف عن صحيحة معاوية بن عمار ورواية جعفر بن المثنى وان ذكر الأذى من باب الداعي إلى السؤال ولا يفيد التقييد به فلا ظهور في الرواية على ان جواب الامام كان بلحاظ حالة العذر والاضطرار.

السادس: كفارة التظليل شاة لصحيحتي إسماعيل بن بزيع وصحيحة ابن أبي محمود المتقدمة، ولا فرق في ذلك بين حالتي الاختيار والاضطرار وإذا تكرّر التظليل فيكفّر لكل إحرام لموثقة أبي علي بن راشد قال: (قلت له (عليه السلام) جعلت فداك انه يشتد عليّ كشف الظلال في الإحرام، لأني محرور يشتد علي حر الشمس، فقال: ظلّل وأرق دماً، فقلت له: دماً أو دمين، قال: للعمرة، قلت: إنا نحرم بالعمرة وندخل مكةفنحلّ ونحرم بالحج، قال: فأرق دمين)(1).

وقد ورد في صحيحتي ابن بزيع المتقدمتين ان ذبحها يكون في منى والتزم بها بعضٌ وقال آخرون بان الشاة إذا لزمت في إحرام العمرة فيجب ذبحها في منى واما إذا لزمت في إحرام الحج فيمكن ذبحها في البلد وربما كان وجهه انه مقتضى الجمع بينها وبين موثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: الرجل يخرج من حجه وعليه شيء يلزمه فيه دم، يجزيه ان يذبح إذا رجع إلى أهله، فقال: نعم، وقال فيما اعلم يتصدق به)(2)

إذ ان النسبة بينهما عموم من وجه لان صحيحتي ابن بزيع شاملة للحج والعمرة لكنها خاصة بكفارة التظليل في حالة الإحرام وموثقة إسحاق شاملة لكل الكفارات بسبب التظليل وغيره لكنها خاصة بإحرام الحج فيتعارضان في إحرام الحج ويتساقطان والمرجح حينئذٍ أصالة البراءة عن الوجوب والنتيجة جواز ذبحها في بلده إذا رجع ويلتزم بوجوب ذبحها في منى لكفارة إحرام العمرة.

هذا هو مقتضى الجمع لكن شيخنا الأستاذ الفياض بعد ان بين شكل النسبة بينهما وهي العموم من وجه جمع بينهما بسقوط كلا الاطلاقين من جهة المعارضة والرجوع إلى أصالة البراءة مطلقاً في الحج والعمرة وهو على خلاف الصناعة التي تقتضي ما تقدم.

ص: 138


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب بقية كفارات الاحرام، باب7، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب كفارات الصيد، باب50، ح1.

هذا ولكن الظاهر ان موثقة إسحاق لا تختص بفرض الحج وإنما هي شاملة لنسكي الحج والعمرة فقوله (يخرج من حجه) كقولنا (قدم فلان من الحج) أو (ذهب لأداء فريضة الحج) بمعناها العام الشامل للعمرة ومقتضى ذلك ان تكون صحيحتا ابن بزيع مخصصة لها فيلتزم بمفادها الا ان ظاهرها محمول على النصيحة وجزئية المورد بقرينة كلمة (أرى) العائدة إلى ذبحها في منى وليس أصل التكفير بشاة وإن تقدم ذكرها على ذكر الكفارة.

ابتدأنا بتحرير البحث يوم الخامس من رمضان المبارك 1427

وانتهينا منه يوم العاشر منه بفضل الله تبارك وتعالى

ص: 139

ص: 140

البحث الثالث: رمي الجمرات للمعذورين ليلاً

اشارة

ص: 141

ص: 142

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثالث:

رمي الجمرات للمعذورين ليلاً(1)

من أحكام الحج وجوب الوقوف في المشعر الحرام المزدلفة بين الطلوعين يوم العاشر من ذي الحجة وعدم جواز الإفاضة منها قبل الفجر، وقد ورد في نصوص عديدة معتبرة الترخيص للنساء والشيوخ والصبيان في الإفاضة من المشعر الحرام قبل الفجر والذهاب إلى منى لرمي جمرة العقبة ليلاً أيضاً استثناءً من وجوب رمي هذه الجمرة نهار اليوم العاشر.

أما رمي الجمرات في يومي الحادي عشر والثاني عشر الواجبة نهاراً فقد رُخِّصَ للعبد والخائف والراعي والمدين الذين لا يتمكنون من التواجد نهاراً في منى بأن يرموا في الليل، ولم يرد استثناء للشيوخ والصبيان والنساء الذين يخافون من شدة الازدحام؛ نعم، ورد في المريض الذي لا يتمكن من الرمي فإنه يستنيب من يرمي عنه بمحضر منه.

فهنا - أي في رمي الجمار يومي الحادي عشر والثاني عشر- حالتان:-

الأولى: من لم يتمكن من التواجد في منى نهاراً فهذا حكمه تقديم الرمي في الليل.

الثانية: من لم يتمكن من الرمي لعذر كالمريض أو العاجز من شدة الازدحام فإنه يستنيب بمحضر منه.

وقد وجدتُ أكثر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لم يُظهِروا الفرق بين الحالتين حيث يُرخّصون للنساء والصبيان والشيوخ الذين يعيقهم شدة الزحام عن الرمي نهار الحادي عشر والثاني عشر في الرمي ليلاً مع أنه من المحتمل أن حكمهم الحضور قرب الجمرة والاستنابة للرمي بمحضر منهم وهذا ما سنحقق فيه بإذن الله تعالى.

ص: 143


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 23/شوال/1428 الموافق 4/11/2007.

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((يجب أن يكون رمي الجمرات - الثلاث الأولى والوسطى وجمرة العقبة- يومي الحادي عشر والثاني عشر في النهار، ويستثنى من ذلك العبد والراعي والمديون الذي يخاف أن يُقبض عليه، وكل من يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله، ويشمل ذلك الشيخ والنساء والضعفاء الذين يخافون على أنفسهم من كثرة الزحام فيجوز لهؤلاء الرمي ليلة ذلك النهار))(1).

وقال مثله السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ومما قال: ((ويستثنى من ذلك -أي الرمي نهاراً- من يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله فإنه يجوز له الرمي في الليلة السابقة على النهار فيرمي مثلاً في ليلة الحادي عشر ما يجب في نهار الحاديعشر من الرمي، وهذه الرخصة تشمل الشيوخ والنساء والضعفاء الذين يخافون على أنفسهم من كثرة الزحام فيجوز لهؤلاء الرمي ليلة ذلك النهار))(2).

وقال مثله شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله)(3)

وكذا سيدنا الأستذا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)(4).

لكنهم جميعاً قالوا - والنص للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)-: ((وكل من يتمكن من مباشرة الرمي من دون مشقّة وحرج يجب عليه ذلك ولا يجوز له أن يستنيب، وإذا كان غير متمكن للمرض ونحوه من الموانع التي لا يُرجى زوالها إلى المغرب استناب غيره))(5).

ص: 144


1- معتمد العروة الوثقى في شرح المناسك (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره)): 29/406.
2- موجز أحكام الحج للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) بتعليق السيد كاظم الحائري (دام ظله)، ص180.
3- مناسك الحج: المسألة 281، ص259.
4- مناسك الحج: المسألة 397، ص174.
5- موجز أحكام الحج: ص182.

وكان المفروض أن يُلحِقَ النساء والصبيان والشيوخ بهذا الحكم - أي الاستنابة- لأن في الرمي مشقةً عليهم ولا يتعذر عليهم التواجد في منى نهاراً.

وقد وجدت تعبير السيد السيستاني (دام ظله الشريف) خالياً من هذا الإلحاق، فقال: ((يجب أن يكون رمي الجمرات في النهار ويستثنى من ذلك الرعاة وكل معذور عن المكث في منى نهاراً لخوفٍ أو مرضٍ أو علّة أخرى، فيجوز له رمي كل نهار في ليلته))(1).

ثم قال: ((المعذور الذي لا يستطيع الرمي بنفسه - كالمريض – يستنيب غيره، والأولى أن يحضر عند الجمار مع الإمكان ويرمي النائب بمشهد منه، وإذا رمى عنه مع عدم اليأس من زوال عذره قبل انقضاء الوقت فاتفق زواله فالأحوط أن يرمي بنفسه أيضاً))(2).

وعلى أي حال فهنا عدة مطالب:-

المطلب الأول:

في جواز الإفاضة من المشعر الحرام قبل الفجر للمعذورين ورمي جمرة العقبة ليلاً

وقد دلّت عليه روايات معتبرة عديدة:-

(منها) صحيحة سعيد الأعرج قال (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جُعلتُ فداك معنا نساء فأُفيضُ بهنَّ بليل؟ فقال: نعم، تريد أن تصنع كما صنع رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلم)؟ قلت: نعم، قال: أَفِضْ بهنّ بليل، ولا تُفِض بهنّ حتى تقف بهن بجمع، ثم أفِض بهنّ حتى تأتي الجمرة العظمى فترمي الجمرة)(3)

الحديث.

(ومنها) صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال :(رخّص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم للنساء والصبيان أن يفيضوا بليل، وأن يرموا

ص: 145


1- مناسك الحج: ط3، المسألة 433، ص216.
2- مناسك الحج: ط3، المسألة 436، ص218.
3- والروايتان بعدها تجدها في وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب الوقوف بالمشعر، باب17، ح2، 3، 7.

الجمار بليل، وأن يصلّوا الغداة في منازلهم) الحديث.

(ومنها) صحيحة أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله يقول: (لا بأس بأن يقدّم النساء إذا زال الليل فيُفِضنَ عند المشعر الحرام في ساعة، ثم ينطلق بهنَّ إلى منى فيرمين الجمرة) الحديث.

(ومنها) صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (في الخائف لا بأس بأن يرمي الجمار بالليل ويضحّي بالليل ويفيض بالليل)(1).(2)

(ومنها) صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بأن يرمي الخائف بالليل ويضحّي ويفيض بالليل)(2).

(ومنها) خبر علي بن عطيّة قال (أفضنا من المزدلفة بليل أنا وهشام بن عبد الملك الكوفي فكان هشام خائفاً فانتهينا إلى جمرة العقبة طلوع الفجر، فقال لي هشام: أي شيء أحدثنا في حجنا، فنحن كذلك إذ لقيَ_نا أبو الحسن موسى قد رمي الجمار وانصرف فطابت نفس هشام)(3).

فالروايات ناظرة إلى رمي جمرة العقبة يوم العاشر، وقد رخّصت للنساء والصبيان والخائف بالإفاضة من المزدلفة ليلاً ورمي جمرة العقبة ليلاً أيضاً.

والظاهر من النصوص أن التخفيف بلحاظ ضعفهم الذاتي النوعي وإن كانوا كأفراد قادرين على المكث كالترخيص للشيخ والشيخة في الإفطار.

المطلب الثاني:

في من رُخِّص لهم برمي الجمار الثلاث ليلاً بدل نهار الحادي عشر والثاني عشر

وردت عدة روايات بهذا الصدد:-

(منها) موثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (رُخِّصَ

ص: 146


1- و (2) و (3) وسائل الشيعة:، كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب14، ح4، 1، 3.
2-

للعبد والخائف والراعي في الرمي ليلاً)(1).

(ومنها) موثقة سماعة أيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إنه كره رمي الجماربالليل ورخّص للعبد والراعي في رمي الجمار ليلاً)(2).

(ومنها) صحيحة أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: رخّص رسول الله صلى الله عليه وآله لرعاة الإبل إذا جاؤوا بالليل أن يرموا)(3).

(ومنها) خبر أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذي ينبغي له أن يرمي بليل من هو؟ قال: الحاطبة، والمملوك الذي لا يملك من أمره شيئاً، والخائف والمدين، والمريض الذي لا يستطيع أن يرمي يُحمَل إلى الجمار، فإن قدِر على أن يرمي وإلا فارمِ عنه وهو حاضر)(4).

والروايات تعرّضت لعناوين يمكن أن يكون جامعها عدم التمكن من التواجد في منى نهاراً للرمي أما للخوف على نفسه أو ماله.

ويُتَمسك بإطلاقها للترخيص في كل أيام الرمي وعدم الاختصاص باليوم العاشر.

المطلب الثالث:

هل يُرخّص للنساء والشيوخ برمي الجمار الثلاث ليلاً في غير اليوم العاشر

لم تتعرض الروايات المتقدمة لذكر النساء والشيوخ والصبيان والضعفاء الذين يخافون من شدة الزحام عند الرمي، ويمكن أن نذكر أكثر من وجه:-

الأول: ما قاله السيد الخوئي (قدس سره): ((وقد وردت روايات صحيحة في جواز الرمي بالليل لطوائف كالخائف والراعي والعبد وجامعها المعذور ومن كان عليه المشقّة ولو من كثرة الزحام؛ فإن المستفاد من مجموع هذه الروايات سقوط هذا الحكم عند المشقة والخوف، فالحكم بالترخيص ثابت لمطلق المعذور))(5).

ص: 147


1- وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب14، الأحاديث 2، 5، 6، 7.
2- وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب14، الأحاديث 2، 5، 6، 7.
3- وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب14، الأحاديث 2، 5، 6، 7.
4- وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب14، الأحاديث 2، 5، 6، 7.
5- المعتمد في شرح المناسك: 29/406.

وفيه: إن هذا الجامع غير مانع لأن المناط في الترخيص هو عدم التمكن من التواجد في منى ولا يشمل ما إذا تمكن من ذلك لكنه لم يتمكن من الرمي لشدّة الزحام وهو المفروض في النساء والشيوخ.

وعلّل التعميم بمثله شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) فقال: ((إن مورد هذه الروايات الخائف على نفسه أو عرضه أو ماله، وهل يمكن التعدي عن مورد هذه الروايات إلى الشيوخ والنساء والضعفاء الذين يخافون على أنفسهم من كثرة الزحام؟ والجواب: نعم، يمكن التعدي، لأن ملاك الترخيص الخوف، وهو موجود في هؤلاء أيضاً))(1).

وفيه: إنه لا يخلو من مغالطة فالخوف المسوّغ في الروايات والحرج والمشقة على الراعي متعلق بالتواجد في منى نهاراً، بينما الخوف الذي عمّم به هو من شدّة الزحام لا من التواجد فيمكن أن يتواجد ويستنيب كما هو صريح خبر أبي بصير وعموم التعليل في صحيحة حريز التالية: (إذا كان لا يستطيع).

الثاني: تعميم الروايات الدالة على الترخيص للنساء والصبيان للرمي في الليل التيذكرناها في المطلب الأول.

قال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله): ((إن الروايات التي تنصّ على ترخيص هؤلاء –أي الشيوخ والنساء والضعفاء- بالإفاضة ليلاً، ورمي جمرة العقبة ليلاً تدلُّ على جواز رمي الجمار ليلاً أيضاً بعين الملاك، إذ لا يفهم العرف خصوصية لرمي جمرة العقبة ليلاً إلا خوف هؤلاء من الزحام في النهار))(2).

وفيه: إنها صريحة أو ظاهرة بمعونة القرائن في جواز رمي جمرة العقبة ليلة العاشر بدل يومه وتعميمها الى اليومين الآخرين قياس مع الفارق إذ أن الترخيص في هذه الروايات ورد بلحاظ الإفاضة من المشعر الحرام وتبعه الترخيص بالرمي ولا يوجد مثله في اليومين الآخرين.

وقد ورد صريحاً في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في صفة حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن التعجيل في

ص: 148


1- تعاليق مبسوطة: 10/640.
2- تعاليق مبسوطة: 10/640.

الليل هو لتخفيف مؤونة الوقوف في المشعر الحرام؛ قال (عليه السلام): (ثم أقام حتى صلى فيها الفجر، وعجّل ضعفاء بني هاشم بالليل، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة جمرة العقبة حتى تطلع الشمس)(1) الحديث.

فالصحيح ما ذكرناه من التفصيل بأنَّ من خاف من شدة الزحام فليس له الرمي ليلاً إذ لم يرد فيه ترخيص وإنما عليه الاستنابة لأداء الفعل كما هو -أي الرمي نهاراً- تمسكاً بعموم الروايات الدالة على الإنابة في الحج لغير المتمكن في أصل الحج أو تفاصيله كصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن علياً عليه السلام رأى شيخاً لم يحجّ قط، ولم يطق الحج من كبره، فأمره أن يجهّز رجلاً فيحجَّ عنه)(2)،وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وإن كان موسراً وحال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله فيه فإن عليه أن يحجَّ عنه من ماله صرورة لا مال له)(3)، وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أمر شيخاً كبيراً لم يحجّ قط ولم يطق الحج لكبره أن يجهّز رجلاً يحج عنه)(4).

والأخبار الخاصة بالمقام كصحيحة معاوية بن عمار وعبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الكسير والمبطون يُرمى عنهما، قال: والصبيان يُرمى عنهم)(5)وموثقة إسحاق بن عمار أنه سأل أبا الحسن

ص: 149


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب2، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، ج8، أبواب وجوب الحج، باب24، الأحاديث 1، 2، 6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، ج8، أبواب وجوب الحج، باب24، الأحاديث 1، 2، 6.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، ج8، أبواب وجوب الحج، باب24، الأحاديث 1، 2، 6.
5- وما بعدها: من لا يحضره الفقيه، ج2، كتاب الحج، باب الرمي عن العليل والصبيان. وطريق الصدوق إلى إسحاق فيه علي بن إسماعيل المشترك وإن كان الراجح من القرائن أنه علي بن إسماعيل بن عيسى الذي وثّقه السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث (11/294) باعتباره من رجال كامل الزيارات وهو غير تام كبروياً، ورجّح آخرون أنه علي بن السندي الذي هو لقب إسماعيل ولم يثبت فالموقف منه التوقف، لكن الذي يهوّن الأمر أن نفس الرواية وردت بطريق صحيح عن إسحاق في التهذيب، ج5، باب الرجوع إلى منى ورمي الجمار، ح28، ورواها أيضاً في طريق مصحح في نفس الباب، ح32.

موسى (عليه السلام)(عن المريض يُرمى عنه الجمار؟ قال: نعم يحمل إلى الجمرة ويرمى عنه، قلت: لا يطيق ذلك، فقال: يترك في منزله ويرمى عنه).

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يُطاف به ويرمى عنه؟ قال: فقال: نعم إذا كان لا يستطيع)(1).

وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المريض المغلوب والمغمى عليه يرمى عنه ويطاف به)(2).

وصحيحة رفاعة بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل أغمي عليه فقال: يرمى عنه الجمار)(3)

ويستدل أيضاً على هذا التفصيل -أي أن المريض والعاجز عن الرمي يستنيب وليس يرمي في الليل كالراعي والخائف- بخبر أبي بصير الأخير في المطلب الثاني الذي رواه الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في الفقيه بسنده عن وهيب بن حفص عن أبي بصير الذي نقلناه بناءً على فهم الواو التي تسبق (المريض) أنها استئنافية وليست عاطفة كما هو ظاهر السياق ولأن السائل لم يسأل عن هذه الحالة وإنما سأل عمّن يرمي في الليل فتبّرع الإمام (عليه السلام) بذكر حالة أخرى.

وسند الخبر ضعيف لضعف طريق الشيخ الصدوق إلى وهيب بن حفص إلا أنه يصلح للتأييد.

وتلخّص من الروايات المتقدمة أن العاجز عن الرمي يُرمى عنه وخصوصاً صحيحة حريز الصريحة في ذلك لقوله (عليه السلام): (نعم إذا كان لا يستطيع).

إن قلتَ: إن عدم الاستطاعة هي بلحاظ المكلف في نفسه كالمريض الذي يستمر عجزه حتى في الليل وليست بلحاظ عامل خارجي كشدّة الزحام فلا تنفع

ص: 150


1- التهذيب: ج5، كتاب الحج، باب الطواف، ح74، 72.
2- التهذيب: ج5، كتاب الحج، باب الطواف، ح74، 72.
3- التهذيب: ج5، كتاب الحج، باب الرجوع الى منى ورمي الجمار، ح29.

المستدل في التعميم للعاجز عن الرمي بسبب الزحام.

قلتُ:-

1- إن هذا ليس ظاهراً من الرواية بل الظاهر مطلق العجز تمسكاً بالإطلاق.

2- إنه منقوض بالمغمى عليه في صحيحة حريز الأخرى فإن عذره ليس دائمياً وكان يمكن أن يكون تكليفه الرمي ليلاً إذا أفاق من إغمائه.

3- إنه تقدّم من كلامهم أن الاستنابة مشروعة ما دام المرض متوقع الاستمرار حتى المغرب فليس هو مستمر العذر فكان يجب التفصيل بأنه إذا برئ بعد المغرب يرمي ليلاً.

لو تصورنا عدم انتفاع المستدل على التعميم به لكل عاجز عن الرمي فإن1- القائل بالترخيص للنساء والشيوخ بالرمي ليلاً لا دليل عليه.

إن قلتَ: إننا الآن بعد فرض عجز النساء والشيوخ عن مباشرة الرمي بين خيارين (أحدهما) أن يرمي بنفسه ليلاً و(ثانيهما) أن ينيب غيره نهاراً ونعتقد أن المحافظة على شرطية المباشرة أولى من المحافظة على شرطية الوقت فنحكم بوجوب مباشرتهم الرمي ليلاً.

قلتُ:-

1- إن هذه الأولوية استحسانية لا دليل عليها، بل الدليل على خلافها وهو ما استظهرناه من الروايات.

2- قد يقال العكس بأن المحافظة على شرطية الوقت أهم لما فيه من الحرص على اجتماع الناس في رمي الجمرات بينما الترخيص بالرمي في الليل يؤدي إلى توزّعهم على وقتين بحيث أن موثّقة إسحاق اشترطت حمل المريض العاجز إلى موضع الجمار.

3- إن استقراء أحكام الحج يقضي بأن الحكم بالاستنابة عن العاجز مقدَّم على تأخير الفعل إلى حين التمكن.

إن قلتَ: إن التفصيل في عدم التمكن بين التواجد في منى والرمي مما لا معنى له لأن الأول غير مطلوب في نفسه وإنما هو مقدمة للثاني فإذا تعذّر الرمي

ص: 151

فلا حاجة لافتراضه.

قلتُ:-

1- إن هذا التفصيل استظهرناه من الروايات فمن أُجيز له الرمي ليلاً هو من لا يتمكن من التواجد في منى نهاراً كالخائف على نفسه أو ماله، أما من أمر بالاستنابة فهو العاجز عن الرمي.

2- إن الثمرة متصورة وهي ما ذكرته موثقة إسحاق بأن يتواجد ليشهد رمي النائب.

3- إن هذا الإشكال لو سُلِّم فإنه لا يدل على لزوم الرمي ليلاً وإنما يسقط عنه وجوب الحضور في منى.

المطلب الرابع:

إن رمي النائب يكون بمشهد المنوب عنه

ورد في موثّقة إسحاق (يحمل إلى الجمرة ويرمى عنه، قال: لا يطيق، قال: يترك في منزله ويرمى عنه) ذيل خبر أبي بصير (وإن قدر على أن يرمي وإلا فارمِ عنه وهو حاضر) أي أنه ما دامت له القدرة على الرمي فليحضر وليرم وإن لم تكن له القدرة لمرضه أو لخوفه من شدة الزحام فليحضر وليستنيب غيره للرمي بمحضر منه.

ويُقرّب هذا الحكم بأن الواجب على المكلف الحضور إلى الجمار ورميها فلما لم يتيسّر له الرمي خاصة سقط عنه واستناب وعليه أداء بقية الفعل من باب تعدد المطلوب.

لكنّه قابل للمناقشة لأن المطلوب هو الرمي وأما الحضور فهو مقدمة له فإذا سقط ذو المقدمة سقطت المقدمة أيضاً.وعلى أي حال فالنصّان المتقدمان ظاهران في كون الحضور وجوبياً ولا يسقط إلا عند العجز، ولا أعلم لماذا جعله السيد السيستاني (دام ظله) استحبابياً وحمله على الأولى ولعله لضعف خبر أبي بصير والإشكال المتقدم على التقريب وعدم وقوع نظره على موثّقة إسحاق لعدم وجودها في هذا الباب من وسائل الشيعة وضعف طريقها في الفقيه وقد نقلتُها وغيرها عن التهذيب.

ص: 152

وكذا صاحب الحدائق إذ قال: ((ويظهر من موثقة إسحاق استحباب حمل المريض إلى الجمرة والرمي بحضوره))(1)

وهو خلاف الظاهر الدال على الوجوب.

المطلب الخامس:

هل المراد بالليل هو خصوص الليل السابق على يومه أم مطلق الليل الأعمّ من سابقه ولاحقه

قال كاشف اللثام وصاحب الرياض: ((ولا فرق في الليل بين المتقدم والمتأخر، لعموم النصوص والفتاوى))(2)

واختاره صاحب الجواهر لكنه نقل عن صاحب المدارك قوله: ((والظاهر أن المراد بالرمي ليلاً رمي جمرات كل يوم في ليلته، ولو لم يتمكن من ذلك لم يبعُد جواز رمي الجميع في ليلة واحدة).))(3)،وعلّق السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((وهذا -أي قول صاحب المدارك- هو الصحيح)) وقال (قدس سره) في وجهه: ((لأن الروايات المجوّزة للرمي في الليل ناظرة إلى أن تقديم الرمي على وقته إنما هو ممنوع في حق المختار، وأما المعذور فالمنع مرتفع عنه ويجوز له التقديم ولا نظر في الروايات إلى مطلق الليل.

ويؤكّد ذلك ما ورد في جواز إفاضة النساء ليلة المشعر إلى منى ورميهنّ جمرة العقبة بليل، أي ليلة العيد فليس لكلمة الليل إطلاق يشمل الليل اللاحق، بل النصوص كما قلنا ناظرة إلى رفع المنع عن الرمي بالليل السابق وجواز التقديم على النهار.

ويشهد لما ذكرنا أيضاً ما في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم: (أنه قال في الخائف: لا بأس بأن يرمي الجمار بالليل ويضحّي بالليل ويفيض بالليل) فإن الإفاضة بليل والخروج من منى وأنه يذهب إلى حيث يشاء شاهد على أن المراد بالليل هو الليل السابق، فليس للمريض والمعذور التأخير إلى الليل

ص: 153


1- الحدائق الناضرة: 17/309.
2- كشف اللثام: 6/252، رياض المسائل: 7/158.
3- جواهر الكلام :20/20.

اللاحق))(1).

وما ذكره (قدس سره) مما لا يمكن المساعدة عليه:-1- لأن الأمر بالرمي نهاراً للمختار له لازم وهو المنع من الرمي في أي وقت غيره سواء في الليل السابق أو اللاحق ولا يختص بالليل السابق خاصة حتى يقول (قدس سره) أنه كان ممنوعاً ثم ارتفع بمقتضى الروايات.

2- إن الترخيص بالرمي للمضطر ليلاً ليس لارتفاع المنع وإنما لورود الروايات فيه.

3- إن تعيّن رمي جمرة العقبة بليلة العاشر قد ثبت بمقتضى القرينة وهي الإفاضة من المشعر الحرام ليلاً إلى منى، لذا فقد استظهرنا هذا التعين في روايات المطلب الأول، أما رمي اليومين الحادي عشر والثاني عشر فإن ليله مطلق في نصوص المطلب الثاني.

4- توجد روايات مطلقة ذكرناها في المطلب الثاني يمكن التمسك بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

وعرَض شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) وجهاً آخر لاختصاص الليل بالسابق فقال: ((ولا يبعد ظهوره -أي موثّقة سماعة الثانية في المطلب الثاني- في الليل السابق، باعتبار أن رمي الجمار في الليل اللاحق قضاءً لا أداءً، وظاهر الموثقة أنها في مقام بيان وظيفتها الأولية لا الثانوية كالقضاء))(2).

وفيه: إنه مصادرة على المطلوب إذ أن اعتبار الرمي في الليل اللاحق من القضاء أول الكلام بعد الذي قلناه من التمسك بالإطلاق.

ثم عقّب (دام ظله) بكلام موهم فقال: ((ويؤكد ذلك أن التقديم مكروه لغيرهما، مع أنه لا معنى لكراهة القضاء، سواء أكان في الليل أم في النهار)) وتقديم الرمي إلى الليل ليس مكروهاً بل هو محرم وغير صحيح بدون عذر، فالظاهر انه أراد بالكراهة ما ورد من لفظ (كره) في موثقة سماعة المشار إليها والمحمولة هنا على الحرمة.

ص: 154


1- المعتمد في شرح المناسك: 29/407.
2- تعاليق مبسوطة: 10/640.

وحاصل كلامه أنه يتعين حمل الليل في الموثقة على السابق لحرمة الرمي فيه على غير العبد والراعي ولو أريد شموله للّيل اللاحق فلا معنى للحرمة لأنه من القضاء ولا حرمة للقضاء في الليل أو النهار.

وهو منه غريب لأن قضاء الرمي للناسي مثلاً يكون نهاراً أيضاً ويقدّم على الأداء في اليوم التالي ودلّت عليه عدة روايات معتبرة والتزم(1)

هو (دام ظله) وغيره بذلك.

فلا ينفعه هذا الاستدلال لأننا حتى لو قلنا بأن الرمي اللاحق يكون قضاءً فلا بد أن يكون في النهار.

والصحيح في الجواب عن هذا المطلب أن يقال بالتفصيل فإن الترخيص للنساء والصبيان والشيوخ والخائف برمي جمرة العقبة ليلاً مختصّ بالليل السابق على يوم العاشر لاقترانه بالإفاضة ليلاً من المشعر الحرام.

أما رمي اليوم الحادي عشر والثاني عشر لغير المتمكن من التواجد في منى فيمكن أن يقع في الليل السابق أو اللاحق لإطلاق الروايات التي سردناها في المطلبالثاني.

لكن الأحوط استحباباً اختصاص رمي كل نهار بليلته لأنه أحد فردي التخيير وهو المعيّن لو لم يتم إطلاق أو شككنا فيه فيدور الأمر بين التعيين والتخيير.

وإنما ذكرنا الأصل لأن في النفس شيئاً من الإطلاق وإن كان ظاهراً فإن المظنون أن الليل الذي جاء به رعاة الإبل في صحيحة أبي بصير هو الليل السابق حيث وردوا منى ليلاً ويتعذّر عليهم البقاء إلى النهار خوفاً على أموالهم ولا يتصور تأخرهم عن الواجب ومجيئهم في الليل اللاحق.

وقد اختار القول بتعيين الليل بالسابق الفقهاء الذين نقلنا أقوالهم في بداية البحث.

أما من لم يتمكن من الرمي لشدة الزحام فهو غير مرخّص له أصلاً بالرمي ليلاً وإنما يستنيب للرمي بمشهد منه.

ص: 155


1- تعاليق مبسوطة: 10/641.

لذا قلنا في كتاب المناسك عن رمي الجمرات يومي الحادي عشر والثاني عشر ((يجب إيقاع رمي الجمرات في النهار ولا يجزي في الليل اختياراً إلا لمن يمنعه الخوف من المكث في منى نهاراً كالراعي أو من به مرض أو علّة تمنعه من ذلك فيرمي حصة كل نهار في ليلته، ولو لم يتمكن من ذلك جاز الجمع في ليلة واحدة.

أما من استطاع المكث في منى نهاراً لكن منعه شدة الزحام من الرمي كالنساء والأطفال والشيوخ فإنهم يرمون ليلاً -إذا تيسّر- ويستنيبون غيرهم بالرمي، وعليهم أن يحضروا عند الجمرات مع الإمكان ويشاهدوا رمي النائب)).

ولكن الاحتياط حسن بأن يرموا الجمار ليلاً مضافاً إلى الاستنابة في النهار، كالعاجز عن الطواف بنفسه حول البيت الحرام فيتردد تكليفه بين الإنابة بالطواف حول البيت أو الإطافة بالعاجز محمولاً في الطابق العلوي، وحكمه الاحتياط بالجمع.

ص: 156

البحث الرابع: هل يجوز للمتمتع أن يخرج من مكة قبل الحج؟

اشارة

ص: 157

ص: 158

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الرابع:

هل يجوز للمتمتع أن يخرج من مكة قبل الحج؟ (1)

من المسائل الخلافية في الحج: أن من دخل مكة محرماً لعمرة التمتع إلى حج التمتع ثم أحلّ من إحرامه بعد أدائه العمرة فهل يجوز له الخروج من مكة قبل الحج أم لا؟

قال صاحب العروة (قدس سره): ((المشهور أنه لا يجوز الخروج من مكة بعد الإحلال من عمرة التمتع قبل أن يأتي بالحج وأنه إذا أراد ذلك عليه أن يحرم بالحج فيخرج محرماً به، وإن خرج محلاً ورجع بعد شهر فعليه أن يحرم بالعمرة، وذلك لجملة من الأخبار الناهية عن الخروج، والدالة على أنه مرتهن ومحتبس بالحج، والدالة على أنه لو أراد الخروج خرج ملبّياً بالحج، والدالة على أنه لو خرج محلاً فإن رجع في شهره دخل محلاً وإن رجع في غير شهره دخل محرماً، والأقوى عدم حرمة الخروج وجوازه محلاً حملاً للأخبار على الكراهة -كما عن ابن إدريس (رحمه الله) وجماعة أخرى-)).

ثم قال (قدس سره) بعد استدلال مختصر: ((بل يمكن أن يقال: أن المنساق من جميع الأخبار المانعة أن ذلك للتحفظ عن عدم إدراك الحج وفوته لكون الخروج في معرض ذلك، وعلى هذا فيمكن دعوى عدم الكراهة أيضاً مع علمه بعدم فوات الحج منه؛ نعم، لا يجوز الخروج إلا بنيّة العود أو مع العلم بفوات الحج منه إذا خرج)).

وقال (قدس سره): ((وحينئذٍ فيكون الإحرام إذا رجع بعد شهر على وجه الاستحباب لا الوجوب لأن العمرة التي هي وظيفة كل شهر ليست واجبة)).

ص: 159


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 21/ ذ. ق./1428 الموافق 2/12/2007.

وعلق السيد الخوئي (قدس سره) على قوله (قدس سره) بالجواز: ((بل لا يبعد الحرمة، وما استدل به على الجواز لا يتم))(1).

واستشكل السيد الحكيم (قدس سره) على البناء على مختار المصنف (قدس سره) لضعف المستند واختار ما ذكره كاشف اللثام ((إن الأحوط القصر على حال الضرورة -يعني الخروج- وأن لا يخرج معها إلا محرماً بالحج. إلا أن يتضرَّر بالبقاء على الإحرام، لطول الزمان، خروجاً عن مخالفة الأخبار المطلقة))(2).

وقال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): ((ويجوز له خلال ذلك - أي بعد إحلاله من عمرة التمتع منتظراً الحج- الخروج من مكة إلى الأماكن القريبة من مكةكجدة والطائف ونحوها مع الوثوق بالرجوع وإدراك الحج، والأحوط عدم الابتعاد إلى مسافات أبعد ولو كان واثقاً بالرجوع والإدراك))(3).

وقال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف): ((يجوز له -أي من فرغ من أعمال عمرة التمتع وقبل الإحرام بالحج -الخروج إلى المناطق القريبة، كجدة والطائف ونحوهما إذا كان واثقاً ومطمئناً بالتمكن من الرجوع إلى مكة وإدراك الحج، بل لا يبعد جواز الخروج منها إلى المناطق البعيدة أيضاً شريطة أن يكون جازماً ومتأكداً بالتمكن من الرجوع إلى مكة المكرمة، وعدم فوت الحج منه. نعم، من يريد الخروج من مكة لحاجة أو غيرها فالأولى والأحوط له أن يحرم للحج أولاً ثم يخرج منها)) ثم قال (دام ظله): ((من خرج من مكة بعد عمرة التمتع بدون إحرام للحج، فإذا رجع إلى مكة في شهر آخر، وجب عليه أن يدخل فيها بإحرام جديد وهو إحرام لعمرة التمتع)).

وقال (دام ظله): ((من خرج من مكة بعد العمرة وبدون إحرام ثم رجع في الشهر الآخر وأحرم بنيّة العمرة المفردة غافلاً أو جاهلاً بأن وظيفته الإحرام

ص: 160


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/208-212.
2- مستمسك العروة الوثقى: 11/212.
3- موجز أحكام الحج، ط2 سنة 1424، الفقرة 20 ص45.

لعمرة التمتع وأتى بها لا تنقلب متعة ولا موجب لبطلانها، ولكن حينئذٍ تصبح المتعة الأولى لاغية فيجب عليه الإتيان بعمرة التمتع ثانياً))(1).

وقال السيد السيستاني (دام ظله الشريف): ((إذا فرغ المكلف من أعمال عمرة التمتع لم يجز له الخروج من مكة لغير الحج على الأحوط، إلا أن يكون خروجه لحاجة -وإن لم تكن ضرورية- ولم يخف فوات أعمال الحج، وفي هذه الحالة إذا علم أنه يتمكن من الرجوع إلى مكة والإحرام منها للحج فالأظهر جواز خروجه محلاً، وإن لم يعلم بذلك أحرم للحج وخرج لحاجته، والظاهر أنه لا يجب عليه حينئذٍ الرجوع إلى مكة، بل له أن يذهب إلى عرفات من مكانه)) ثم قال (دام ظله): ((إذا خرج من مكة بعد الفراغ من أعمال العمرة من دون إحرام ففيه صورتان:-

الأولى: أن يكون رجوعه قبل مضي الشهر الذي اعتمر فيه، ففي هذه الصورة يلزمه الرجوع إلى مكة بدون إحرام، فيحرم منها للحج، ويخرج إلى عرفات.

الثانية: أن يكون رجوعه بعد مضيّ الشهر الذي اعتمر فيه، ففي هذه الصورة يلزمه الإحرام بالعمرة للرجوع إليها))(2).

أقول: إن تفاصيل المسألة يمكن أن يكون بعضها على نحو المقدمات لها وبعضها على نحو التفريعات اللاحقة، أما المقدمات فهي:-

(الأولى) في أشهر الحج:

أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة، دلّت عليه صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله تعالى يقول: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ» (البقرة:197) وهيشوال وذو القعدة وذو الحجة)(3).

ص: 161


1- مناسك الحج، طبعة سنة 1426، ص 91-92.
2- مناسك الحج، ط3، المسألتان 151، 154، ص72، 74.
3- والروايتان بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب11، ح1، 2، 8.

وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» (والفرض: التلبية والإشعار والتقليد، فأي ذلك فعل فقد فرض الحج، ولا يُفرض الحج إلا في هذه الشهور التي قال الله عزّ وجل: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ» وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ» قال: (شوال وذو القعدة وذو الحجة، ليس لأحد أن يحرم بالحج فيما سواهنّ)، وفي موثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) (لأن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة)(1).

وبعد وضوح هذا لا تبقى فائدة في نقل أقوال الفقهاء المختلفة من كون أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة أو هما وتسعة أيام من ذي الحجة وقيل غيرها فإنهم لاحظوا زمن التمكن من التلبس بالحج أما من أدرك الحج فإن بعض مناسكه ممتدة إلى نهاية شهر ذي الحجة. لذا وصفوا الاختلاف بأنه لفظي(2)

قال العلامة (قدس سره): ((والتحقيق أن هذا النزاع لفظي، فإنهم إن أرادوا ب_((أشهر الحج)) ما يفوت الحج بفواته، فليس كمال ذي الحجة من أشهره، لما يأتي من فوات الحج دونه، على ما يأتي تحقيقه. وإن أرادوا بها ما يقع فيه أفعال الحج فهي الثلاثة كملاً، لأن باقي مناسك الحج يقع في كمال ذي الحجة، فقد ظهر أن النزاع لفظي))(3).

(الثانية) دخول عمرة التمتع في الحج:

دلّت عليه روايات عدة:-

(منها) صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل: (ثم شبَّك أصابعه بعضها إلى بعض وقال: دخلت العمرة في الحج إلى

ص: 162


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب10، ح2.
2- جواهر الكلام: 18/13، المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/191.
3- مختلف الشيعة: 4/55.

يوم القيامة)(1).

و(منها) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال ابن عباس: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)(2).

و(منها) صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (إنالمتعة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، ثم شبّك أصابعه بعضها في بعض)(3).

و(منها) صحيحة نجبة بن الحارث عن أبي جعفر (عليه السلام) من حديث: (لأن المتعة دخلت في الحج، ولم تدخل العمرة المفردة في الحج)(4).

ومعناها أن عمرة التمتع جزء من فريضة الحج وداخلة فيه ولا ينفصلان، وقد عُدَّ الإهلال بعمرة التمتع إهلالاً بالحج في جملة من الروايات:-

(منها) صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها: (فقلت: وما المتعة؟ فقال: يهلّ بالحج في أشهر الحج)(5)الحديث.

ص: 163


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب2، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب3، ح12.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب4، ح24.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب5، ح5.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب5، ح3. تنبيه: روى الشيخ الطوسي (قدس سره) هذه الرواية بسنده عن موسى بن القاسم البجلي وطريقه إليه: الشيخ المفيد عن الشيخ الصدوق عن محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد الله، عن الفضل بن غانم وأحمد بن محمد، عن موسى بن القاسم، ولئلا يتوهم بعض المبتدئين بأن الطريق ضعيف لجهالة الفضل بن غانم واشتراك أحمد بن محمد. أقول: لقد ذكر الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) -الواقع في طريق الشيخ الطوسي (قدس سره)- طريقه إلى موسى بن القاسم وفيه الفضل بن عامر (وهو الموافق لما في الاستبصار) وأحمد بن محمد بن عيسى الثقة صاحب النوادر ويكفي صحة أحد الطريقين، فطريقا الشيخ الصدوق والطوسي إلى موسى بن القاسم صحيحان.

و(منها) موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام): (من حجّ معتمراً في شوال)(1)

الحديث.

و(منها) صحيحة حمران بن أعين قال: (دخلت على أبي جعفر عليه السلام فقال لي: بما أهللت؟ فقلت: بالعمرة، فقال لي: أفلا أهللت بالحج ونويت المتعة، فصارت عمرتك كوفية وحجّتك مكية؟ ولو كنت نويت المتعة وأهللت بالحج كانت حجتك وعمرتك كوفيتين)(2).

فهو نوى العمرة مفردة ويحرم للحج من أدنى الحل لكن الإمام (عليه السلام) تمنى لو أحرم بعمرة التمتع لينال فضلاً أكبر وسمّى (عليه السلام) عمرة التمتع حجاً.

واستدلّ الشهيد الثاني (قدس سره) على دخول عمرة التمتع في الحج بالحكم في مسألتنا فقال (قدس سره): ((هذا - أي عدم جواز خروج المتمتع من مكة حتى يأتي بالحج إلا على وجه لا يفتقر إلى تجديد عمرة- من جملة الوجوه الدالة على دخولعمرة التمتع في الحج))(3).

(الثالثة) لا تكون عمرة التمتع إلا في أشهر الحج:

دلت عليه صحيحة ابن أذينة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (من أحرم بالحج في غير أشهر الحج فلا حج له)(4)

الحديث.

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (في قول الله عزّ وجلّ «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ» قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة، ليس لأحد أن

ص: 164


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب10، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب21، ح5.
3- مسالك الأفهام: 2/199.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب11، ح4.

يحرم بالحج فيما سواهن)(1).

وصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس تكون متعة إلا في أشهر الحج)(2).

وموثقة سماعة بن مهران التي تضمنت فروعاً فقهية عديدة حيث روى سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من حج معتمراً في شوال ومن نيّته أن يعتمر ويرجع إلى بلاده فلا بأس بذلك، وإن هو أقام إلى الحج فهو يتمتع، لأن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن اعتمر فيهن وأقام إلى الحج فهي متعة، ومن رجع إلى بلاده ولم يقم إلى الحج فهي عمرة، وإن اعتمر في شهر رمضان أو قبله أو أقام إلى الحج فليس بمتمتع، وإنما هو مجاور أفرد العمرة، فإن هو أحب أن يتمتع في أشهر الحج بالعمرة إلى الحج فليخرج منها حتى يجاوز ذات عرق، أو يجاوز عسفان، فيدخل متمتعاً بالعمرة إلى الحج، فإن هو أحب أن يفرد الحج فليخرج إلى الجعرانة فيلبي منها)(3).

ويمكن الاستدلال على هذا المطلب بضم مقدمتين:-

1- إن الحج لا يكون إلا في أشهر الحج.

2- إن عمرة التمتع داخلة في الحج.

وهما تامّتان ولا يخرجان عمّا تقدم.

(الرابعة) إمكان الإتيان بعمرة مفردة في أشهر الحج:

وقد دل عليها صدر موثقة سماعة الآنفة الذكر (من حج معتمراً في شوالومن نيّته أن يعتمر ويرجع إلى بلاده فلا بأس بذلك).

وصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من دخل

ص: 165


1- من لا يحضره الفقيه، ج2، كتاب الحج، باب: أشهر الحج وأشهر السياحة والأشهر الحرام، الحديث 2960.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 15، ح1، وذكره في أبواب العمرة، باب7، ح5.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب10، ح2.

مكة معتمراً مفرداً للعمرة فقضى عمرته فخرج كان ذلك له، وإن أقام إلى أن يدركه الحج كانت عمرته متعة)(1)

بتقريب أن العمرة المفردة في صدر الرواية كانت في أشهر الحج بقرينة الاجتزاء بها للحج مع ما تقدم من أنه لا عمرة تمتع إلا في أشهر الحج.

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (المفرد للعمرة إن اعتمر ثم أقام للحج بمكة كانت عمرته تامة، وحجته ناقصة مكية)(2)

والنقص المقصود معنوي في درجات الكمال لأن حج التمتع أفضل.

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بالعمرة المفردة في أشهر الحج ثم يرجع إلى أهله)(3).

وصحيحة إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه (سئل عن رجل خرج في أشهر الحج معتمراً ثم خرج إلى بلاده، قال: لا بأس وإن حج من عامه ذلك وأفرد الحج فليس عليه دم، وإن الحسين بن علي عليهما السلام خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً)(4).

والدم المشار إليه كفّارة على من لم يحج في سنة اعتماره، ففي خبر سعيد الأعرج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (من تمتع في أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى يحضر الحج من قابل فعليه شاة، ومن تمتع في غير أشهر الحج ثم جاور حتى يحضر الحج فليس عليه دم وإنما هي حجة مفردة، وإنما الأضحى على أهل الأمصار)(5).

ص: 166


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب15، ح1، ونحوه في أبواب العمرة، باب7، ح9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح2.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب10، ح1.

وخبر(1)

معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من أينافترق المتمتع والمعتمر؟ فقال: إن المتمتع مرتبط بالحج، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين (عليه السلام) في ذي الحجة ثم راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج)(2).

وفي مقابل هذه الروايات توجد أكثر من رواية يظهر منها عدم مشروعية العمرة المفردة في العشر الأوائل من ذي الحجة كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العمرة في العشر متعة)(3)،وصحيحة عبد الله بن سنان أنه (سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن المملوك يكون في الظهر يرعى وهو يرضى أن يعتمر ثم يخرج، فقال: إن كان اعتمر في ذي القعدة فحسن، وإن كان في ذي الحجة فلا يصلح إلا للحج)(4).

ومقتضى الجمع العرفي حملها على استحباب الإتيان بعمرة التمتع والحج في هذه الأيام.

وسنذكر حملاً آخر للصحيحة الأولى وغيرها في الفرع الرابع الملحق بالبحث.

ص: 167


1- وصفها السيد الخوئي (قدس سره) بالمعتبرة (المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/186)، وكذا في (الجواهر: 20/461) وفي سندها إسماعيل بن مرار، ولم تثبت وثاقته عنده (معجم رجال الحديث: 3/177)، نعم، ربما بنى (قدس سره) على ما نقل عن محمد بن الحسن بن الوليد أن كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلها صحيحة إلا ما استثني، ولم تستثن روايات إسماعيل عن يونس التي تجاوزت المائتين، والرواية في المقام منها. أقول: هذا غير كافٍ:- 1- لأنه اجتهاد من ابن الوليد. 2- لم يثبت أنَّ الرواية من كتب يونس بعد أن لم تثبت وثاقة الرجل على طبق قواعدهم.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح10، 11.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح10، 11.

(الخامسة) إن الإحرام في شهر كافٍ للخروج والدخول إلى مكة في ذلك الشهر:

دلت الروايات المعتبرة على عدم جواز دخول مكة إلا محرماً كصحيح محمد بن مسلم: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) هل يدخل الرجل مكة بغير إحرام؟ قال: لا إلا مريضاً أو من به بطن)(1).

ومثله صحيحه الآخر(2) وصحيح عاصم بن حميد (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيدخل أحد الحرم إلا محرماً؟ قال: لا إلا مريض أو مبطون)(3).

وقد استثني منه جملة عناوين منهم من خرج وعاد في شهره الذي تمتّع فيه وقد دلت عليه صحيحة حمّاد الدالة على عدم جواز خروج من أحل من عمرة التمتع من مكة قبل الإحرام للحج وفيها (قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثم رجع في إبان الحج في أشهر الحج يريد الحج فيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً)(4) الحديث.

وموثقة إسحاق بن عمار (قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتمتع يجيء فيقضي متعة ثم تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة وإلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن، قال: يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه، لأن لكل شهر عمرة)(5) الحديث.

وخبر حفص بن البختري وأبان بن عثمان عن رجل عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (في الرجل يخرج في الحاجة من الحرم، قال: إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام، فإن دخل في غيره دخل بإحرام) (6)

(السادسة) في أقل الفصل بين عمرتين

(السادسة) في أقل الفصل بين عمرتين(7):

قال صاحب العروة (قدس سره): ((واختلفوا في مقدار الفصل بين العمرتين، فقيل: يعتبر شهر، وقيل: عشرة أيام، والأقوى عدم اعتبار فصل

ص: 168


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب 50، ح4، 2، 1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب 50، ح4، 2، 1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب 50، ح4، 2، 1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب22، ح6، 8.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب22، ح6، 8.
6- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب 51، ح4.
7- عقد بحث مستقل لهذه المسألة في نهاية هذا المجلد.

فيجوز إتيانها كل يوم))(1)

وهو مختار صاحب الجواهر قال (قدس سره): ((بل لا يبعد جوازه -أي التوالي بين العمرتين- في كل يوم))(2)

وحمل المدد المذكورة على الاستحباب ودفع الكراهة المناسبة للعبادات.

واختاره أيضاً السيد الشهيد الصدر الأول فقال: ((ولا بأس بالإتيان بعمرتين في شهر واحد بل في خلال عشرة أيام، بمعنى أنه لا يعتبر فاصل زمني بين عمرتين)) ثم قال (قدس سره): ((ويصح أن يعتمر عمرة مفردة ثم يخرج إلى أحد المواقيت لعمرة التمتع ويحرم له ولو وقع ذلك في نفس اليوم))(3).

وقال السيد الخوئي (قدس سره) في تعليقته على العروة: ((الظاهر هو اختصاص كل شهر بعمرة فلا تصح عمرتان مفردتان عن شخص واحد في شهر هلالي، نعم لا بأس بالإتيان بغير العمرة الأولى رجاءً)).

وتبعه تلامذته كالسيد السيستاني (دام ظله) وأجازهما في شهر واحد فيما إذا كانت إحدى العمرتين عن نفسه والأخرى عن غيره، أو كانت كلتاهما عن شخصين غيره))(4)،واختار شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) نفس المدة للفصل ومنع منها مطلقاً حتى إذا كانت عن غيره فقال ((ولا يسوغ له الإتيان بعمرتين في شهر إذا كانتا كلتاهما من شخص واحد، سواء أكانتا عن نفسه أو عن غيره))(5).

والاختلاف في الأقوال مرجعه اختلاف الروايات:-

القول الأول: اعتبار الفصل بسنة؛ دلّت عليه صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال: (العمرة في كل سنة مرة)(6)

وصحيحة حريز عن أبي عبد

ص: 169


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/138.
2- جواهر الكلام: 20/466.
3- موجز أحكام الحج، الطبعة الثانية، الفقرة 148، ص191.
4- مناسك الحج، الطبعة الثالثة، ص63، المسألة 137.
5- مناسك الحج، ص76، المسألة 7.
6- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 6، ح 6. (1) مختلف الشيعة: 4/368، الجواهر: 20/462.

الله (عليه السلام) وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا يكون عمرتان في سنة)(1).

لكن الإجماع التعبدي قائم على الإعراض عن مضمونها عدا ما نسب إلى العماني من القول به ومعارضته لا تضر، إضافة إلى معارضتها للروايات المعتبرة المتظافرة الدالة على استحباب العمرة في أقل من ذلك فلا بد من طرحها أو حملها على ما لا ينافي تلك الروايات كالذي قاله الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب: ((فالمراد بهذين الخبرين أنه لا يكون في السنة عمرة يتمتع بها إلى الحج إلا دفعةً واحدة، فأما العمرة المبتولة التي لا يتمتع بها إلى الحج فهي جائزة في كل شهر حسب ما قلناه))((2).

وذُكرت وجوه أخرى كتأكّد استحبابها في السنة مرة إن عجز عن الإتيان بها في الشهر مرة، أو أن الإمام (عليه السلام) كان يتحدث عن وظيفة نفسه؛ قال صاحب الرياض (قدس سره): ((وربما حُملا على التقية، لأنه رأي بعض العامة(3)،أو على أن المراد فيهما أني لا أعتمر في كل سنة إلا مرة))(4).

القول الثاني: اعتبار الفصل بعشرة أيام؛ واستدل له برواية الشيخ الكليني والطوسي (قدس سرهما) عن إسماعيل بن مرار عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): (ولكل شهر عمرة، فقلت: يكون أقل؟ فقال: في كل عشرة أيام عمرة)(5).

وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة الذي هو البطائني أو أنه مشترك بين الثقة وغيره، ولأن إسماعيل لم يوثق وإن ذهب إلى توثيقه بعض ((لأجل أن محمد بن الحسن بن الوليد قال: كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلها صحيحة معتمد عليها، إلا ما ينفرد به محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس،

ص: 170


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 6، ح 7، 8.
2- التهذيب، ج5، كتاب الحج، باب 36: من الزيادات في فقه الحج، ذيل الحديثين 157، 158.
3- في هامش المصدر: ((كما في الأم : 2/133، وبداية المجتهد: 1/338)).
4- رياض المسائل: 7/208.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب6، ح3.

ولم يرده غيره، فإنه لا يعتمد عليه ولا يفتى به، ذكره الشيخ في ترجمة يونس))(1)

إلا أنه اجتهاد من ابن الوليد ولا تدل على التوثيق وإنما قبول الرواية، ولا يُعلم أن الرواية هذه هي من كتب يونس ولا يكفي في إثباته ما قاله السيد الخوئي (قدس سره): ((إن إسماعيل بنمرار تبلغ رواياته عن يونس بن عبد الرحمن مائتين وزيادة فالظاهر أن رواياته هي من كتب يونس)).

ورواها الصدوق بسنده عن علي بن أبي حمزة(2)

وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة، وبضعف طريقه إليه لعدم النص على توثيق محمد بن علي بن ماجيلويه لكن السيد الحكيم (قدس سره) وصف الرواية بالاعتبار لرواية الشيخ الصدوق له بسنده إلى علي بن أبي حمزة ((وسنده صحيح وهو إن كان الثمالي فهو ثقة وإن كان البطائني فالظاهر اعتبار حديثه، لرواية جمع كثير من الأعاظم عنه، وفيهم جمع من أصحاب الإجماع، وجماعة ممن نصّوا على أنهم لا يروون إلا عن ثقة))(3).

وهو مردود بما تقدم من ضعف الطريق وعدم كفاية ما استُدل به على اعتبار حديث البطائني وقد ناقشنا هذه الكبرى في مراسيل ابن أبي عمير كما تقدم(4)،فرواياته غير مقبولة خصوصاً إذا انفرد بها.

وقال السيد الخوئي (قدس سره) في معرض الرد على هذا الوجه: ((وربما يحتمل اعتبار رواية الصدوق لأن علي بن أبي حمزة الذي روى عنه الصدوق هو الثمالي الموثق، لأنه (قدس سره) يروي عنه في كتابه، ولكن يبعده أن الثمالي لا رواية له في باب الأحكام على أن الصدوق ذكر في مشيخة الفقيه أن ما رويته عن علي بن أبي حمزة فقد رويته عن محمد بن علي ماجيلويه عن

ص: 171


1- معجم رجال الحديث: 3/178.
2- ذكر صاحب الوسائل في ذيل رواية الكليني أن الشيخ الصدوق رواها بسنده عن القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة. ولا يوجد هذا في الفقيه والموجود ما نقلناه عن الفقيه، ج2، كتاب الحج، باب العمرة في كل شهر وفي أقل ما يكون، ح2. ونقلها في الوسائل مستقلة في أبواب العمرة، باب6، ح10.
3- مستمسك العروة الوثقى: 11/146.
4- فقه الخلاف: 6/ 209، ط. الثانية.

محمد بن يحيى العطار عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن علي بن أبي حمزة. ولا يمكن رواية البزنطي عن الثمالي لأن الثمالي من أصحاب الباقر (عليه السلام) والبزنطي من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام)))(1).

ووجه الاستبعاد الذي ذكره (قدس سره) غير تام فإن البزنطي وأولاد أبي حمزة الثمالي من طبقة واحدة وقد روت عن البزنطي وأحد أولاد أبي حمزة - وهو محمد بن أبي حمزة الثمالي- معاً الطبقة التي تليهما كأحمد بن محمد بن عيسى فإنه روى عنهما.

فالصحيح في الرد أن يقال: إن غاية هذا الاحتمال هو الاشتراك بين الثقة وغيره إضافة إلى ضعف الطريق علماً أن الصدوق ذكر طريقاً واحداً إلى عنوان علي بن أبي حمزة فإن كان هو البطائني -كما هو الصحيح لأن الثمالي لا رواية له في الأحكام- فلا طريق له إلى الثمالي فيبعد الاحتمال المذكور بعدم الطريق إليه.

ولا ينفع أيضاً في تصحيحها تعويض السند -لو قلنا به- للتخلص من ضعف الطريق برفع هذا السند إلى أحمد بن أبي نصر بطريق الصدوق إليه وهو صحيح لكنتبقى مشكلة ابن أبي حمزة.

واستدل صاحب الجواهر (قدس سره) لهذا القول بما عبّر عنه بالموثق (السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة، قال: فقلت: أيكون أقل من ذلك؟ قال: لكل عشرة أيام عمرة)(2)

ولا وجود لمثل هذه الرواية وإنما ركّبها قلمه الشريف من موثّقة إسحاق بن عمار التي ذكرها في الصدر وخبر علي بن أبي حمزة الذي ذكره في الذيل وذكر الصدوق كلتا الروايتين(3).

فهذا القول غير تام كسابقه ويحتمل في جواب الإمام (عليه السلام) أنه في مقام دفع توهم لدى السائل بأن الفصل لا بد أن يكون ثلاثين يوماً فقال الإمام (عليه

ص: 172


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/139.
2- جواهر الكلام: 20/463.
3- الفقيه: ج2، كتاب الحج، باب العمرة في كل شهر، ح1، 2.

السلام) قد يكون عشرة أيام وربما أقل لأن المهم وقوعهما في شهرين هلاليين ولو كانت إحداهما في آخر الأول والثانية في أول الثاني.

القول الثالث: اعتبار الفصل بشهر وهو المشهور؛ وقد دلّت عليه روايات معتبرة كثيرة:-

(منها) صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (فقال: إن علياً (عليه السلام) كان يقول: لكل شهر عمرة)(1).

و(منها) صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في كتاب علي (عليه السلام) في كل شهر عمرة)(2).

و(منها) موثقة يونس بن يعقوب قال: (سمعت أبا عبد الله أن علياً (عليه السلام) كان يقول: في كل شهر عمرة)(3).

ونحوها صحيحته الأخرى(4).

و(منها) موثقة إسحاق بن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): (السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة)(5).

و(منها) صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: (لكل شهر عمرة)(6).

و(منها) ما ورد في موثّقته الأخرى (لأن لكل شهر عمرة)(7).(7)

وخبر علي بن أبي حمزة المتقدم.

ويستدل على هذا القول بما تقدم في المقدمة السابقة من لزوم الدخول بإحرام جديد إذا خرج ودخل مكة بعد شهر من إحرامه السابق، بل إن موثّقة إسحاق (صفحة168) صريحة في بيان أن العلة في هذا الحكم هو اعتبار الفصل بشهر بين عمرتين وقد جعل صاحب الجواهر (قدس سره) تبعاً للعلامة (قدس

ص: 173


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب4، ح18.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، الباب 6، الأحاديث 1، 2، 5، 9، 11.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، الباب 6، الأحاديث 1، 2، 5، 9، 11.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، الباب 6، الأحاديث 1، 2، 5، 9، 11.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، الباب 6، الأحاديث 1، 2، 5، 9، 11.
6- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، الباب 6، الأحاديث 1، 2، 5، 9، 11.
7- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب22، ح8.

سره)(1)

تلك المسألة مؤيداً لهذا القول وذكر مؤيداً ثانياً وهو أنّ ((من أفسد عمرته قضاها في الشهر التالي))(2).

وأوضحه العلامة (قدس سره) بقوله: ((ولو كان كل وقت صالحاً للعمرة، لما انتظر في القضاء الشهر الداخل)).

والمؤيد الأول الذي يدلّ على كفاية الإحرام للعمرة للدخول والخروج من مكة في شهر الاعتمار يكون دليلاً إذا كانت هذه الكفاية إلزامية وبمثابة الشرط وليست ترخيصاً، ويدل على إلزاميته وقوع الجواب بصيغة الخبر كما في صحيح حمّاد (دخل بغير إحرام) وموثّقة إسحاق (يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه) وقد ذُكر في الأصول أن هذه الصيغة أبلغ في الوجوب من صيغة افعل وتكون حينئذٍ دليلاً على ما نحن فيه مع الالتفات إلى أنها لا إطلاق لها لتشمل كل إحرام بعد ضمّها إلى الأدلة الأخرى وإنما هي بلحاظ الإحرام عن نفسه، فلو كان عن غيره أو إحراماً لعمرة تمتع بعد عمرة مفردة أو لعمرة بعد إتمام الحج جاز كما ورد في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام)؛ قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المعتمر بعد الحج، قال: إذا أمكن الموسى من رأسه فحسن)(3)

ومثلها صحيحة معاوية بن عمار(4).

وأما المؤيد الثاني فأشار (قدس سره) به إلى صحيحة بريد بن معاوية قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل اعتمر عمرة مفردة فغشى أهله قبل أن يفرغ من طوافه وسعيه، قال: عليه بدنة لفساد عمرته، وعليه أن يقيم إلى الشهر الآخر فيخرج إلى بعض المواقيت فيحرم بعمرة)(5) ومثله صحيحة مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وهو إنما يكون مؤيداً إذا قلنا بفساد العمرة واعتبارها كالعدم وأن

ص: 174


1- مختلف الشيعة: 4/370.
2- جواهر الكلام: 20/464.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب8، ح2،1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب8، ح2،1.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب كفارات الاستمتاع، باب 12، ح 1

التأجيل إلى الشهر المقبل نحوٌ من العقوبة ولا ربط له بالمسألة، إذ أن الفصل المعتبر إنما هو بلحاظ عمرتين صحيحتين.

وأما إذا استظهرنا أنَّ الفساد هنا ليس بمعنى البطلان وإلغاء الأثر وإنما بمعنى النقص ولذا ترتب عليها بعض الآثار وهو الفصل بينها وبين متممتها بشهر فستكون دليلاً على ما نحن فيه لتحقق العلة.

فهذان دليلان آخران على القول.

وكذلك يمكن تأييد هذا القول بما ورد في كثير من الروايات المعتبرة من الاعتمار في آخر رجب ثم عمرة في شعبان فيكون قد حصل على عمرتين في أقصر فترة ممكنة مع فضيلة الاعتمار في رجب ولو كانت العمرة جائزة في شهر واحد لمااحتاج إلى هذه الكيفية.

و(منها) صحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إني كنت أخرج ليلة أو ليلتين يبقيان من رجب فتقول أم فروة: أي أبه: إن عمرتنا شعبانية؟ فأقول لها: أي بنية إنها فيما أهللت، وليست فيما أحللت)(1).

فهذا القول تام.

القول الرابع: عدم اعتبار الفصل ويمكن الإتيان بالعمرة في كل حين.

ويمكن تلخيص الاستدلال على هذا القول من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) بوجهين:

(الأول): مكون من وجود المقتضي وعدم المانع؛ أما المقتضي فإطلاق أدلة الحث على العمرة، قال (قدس سره): ((للإطلاق المزبور منه أنها الحج الأصغر بل في النبوي (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) ونحوه))(2)،في إشارة إلى صحيحة عمر بن أذينة وفيها (والحج الأصغر العمرة)(3)،وما رواه الصدوق عن النبي

ص: 175


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح10.
2- جواهر الكلام: 20/465.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج، باب1، ح2.

(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في حديث (والعمرة كفارة لكل ذنب)(1) وما رواه عن الرضا (عليه السلام) (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)(3).

وفيه: إن الإطلاق غير تام من هذه الجهة وإن الروايات بصدد بيان فضل أصل العمرة من دون نظر إلى التفاصيل ومنها الفصل بين العمرتين.

وأما المانع المتصور فهي الروايات التي حدّدت الفصل بالشهر أو عشرة أيام باعتبار ((أنها -أي العمرة- لا تصح بدونه -أي الفصل المعتبر- لأنها عبادة لا تصح إلا متلقاة من الشارع ولم تتلقَ إلا مشروطة بالفصل به))(2)وهذا

المانع غير مؤثر ل_((عدم صراحة نصوص الشهر والعشر في التحريم، بل وظهورها)).

وفيه: إن الظاهر من الروايات أنها في مقام التحديد كما يقال ((الصلاة في اليوم خمس مرات)).

(الثاني): إنه أشبه ((بأصول المذهب وقواعده التي منها التسامح في المستحبات))(3)

وفيه: لا حاجة إلى القاعدة في إثبات أصل الاستحباب لقيام الدليل عليه كما تقدم وأما الاستدلال بالقاعدة لإلغاء الفصل بين عمرتين فهذا مما لا سبيل إليه لأنالعبادات توقيفية فإذا ورد محدِّد من الشارع فيجب الالتزام به.

أقول: ربما كان دليل أصحاب هذا القول تضارب الحد المعتبر في الفصل بين السنة والشهر وعشرة أيام، وهي متنافية فتحمل على مراتب الفضل بمعنى أن العمرة مستحبة على الدوام فإن لم يتمكن ففي كل عشرة أيام وإن لم يتمكن ففي كل شهر وإلا ففي السنة مرة وهذا الوجه ((يقتضيه الارتكاز العرفي في باب الطاعات والخيرات فإنها كلما طال العهد بها اشتدّ تأكّدها، والجمع بين الشهر والعشر -في خبر ابن أبي حمزة- لا بد أن يحمل على ذلك، ولأجله يمكن الجمع بينها وبين صحيح الحلبي المتقدم في أخبار السنة بذلك، فيحمل أيضاً على التأكد

ص: 176


1- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح6، 7.
2- جواهر الكلام: 20/464.
3- جواهر الكلام: 20/464.

في السنة، على نحو يكون أشد تأكداً فيها من الشهر))(1).

وعلّق صاحب الجواهر على قول المحقق صاحب الشرائع: ((يكره أن يأتي بعمرتين بينهما أقل من عشرة أيام)) بقوله: ((كراهة عبادة جمعاً بين ذلك وبين ما دلّ على استحباب العمرة على الإطلاق)) وقال أيضاً ((ولا ينافيه -أي القول بعدم اعتبار أي فصل بين العمرتين- نصوص الشهر والعشر التي أقصاها عدم ترتب الاستحباب المخصوص أو الكراهة))(2).

وفيه: أنه لم يتم دليل على اعتبار الفصل بالسنة أو عشرة أيام وإنما دلّ الدليل على اعتبار الفصل بشهر فلا ينافيه غيره حتى نعدل عنه، نعم، لا بأس بحمل أخبار السنة على هذا المعنى وهو لا ينافي ما اخترناه.

ثم قال (قدس سره) ((نعم، ينبغي القطع بجوازها في كل شهر، ويبقى الكلام في العشر فما دونها لضعف المستند فيهما، فتركها فيهما أحوط وأولى، ولا تجوز المسامحة هنا في الفتوى باستحبابها فيهما، لوجود القول بالتحريم والمنع عنهما، إذ هو كما ترى لأن القول بالتحريم الناشئ من دعوى التشريع في العبادة لا ينافي القول بثبوتها بأدنى دليل صالح لإثبات الاستحباب فيها، فضلاً عما عرفت من المطلقات وغيرها على أن نصوص الشهر تحتمل إرادة جوازها في كل شهر على وجه لا يحصل الفصل بينها بغيره، كما إذا كانت إحداهما في آخر شهر والأخرى في أول آخر))(3).

وفي كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر بعد التسليم بصحة ما قال أولاً من عدم جواز تطبيق قاعدة التسامح بأدلة السنن في مورد حصل المنع فيه لأنه من التشريع المحرم ولا يكفي أدنى دليل ضعيف للخروج من دليل التحديد ولإثبات الاستحباب بلا فصل، والإطلاق المدعى غير تام كما قدّمنا، وما احتمل من المعنى لروايات اعتبار الشهر غير محتمل الانطباق عليها.

نعم، يمكن أن يستظهر معنىً آخر لروايات الشهر بأنَّ في التعبير بالعمرة

ص: 177


1- مستمسك العروة الوثقى: 11/146.
2- جواهر الكلام: 20/465.
3- جواهر الكلام: 20/466.

كناية عن الإحرام بمعنى أن الإحرام مجزٍ للدخول والخروج من مكة على طول شهر الإحرام فإذا خرج الشهر ودخل شهر جديد فلا بد لدخول مكة من إحرام جديد بعمرةجديدة وتكون بمعنى الروايات التي ذكرناها في المقدمة الخامسة.

وهذا معنى لطيف واحتمال وارد وينسجم مع ما استظهرناه من الأدلة على اعتبار الفصل بشهر.

(فرع): الظاهر من الروايات أن اعتبار هذا الفصل بين العمرتين إنما هو بلحاظ أدائهما عن نفسه، فلا مانع من الإتيان بعمرتين أو أكثر من شهر واحد إذا كانت عن أشخاص متعددين.

كما أن الظاهر منها أن المقصود هي العمرة المفردة كقوله (عليه السلام) في موثق إسحاق: (السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة) فإن عمرة التمتع لا تكون في غير أشهر الحج ولا تشرع في السنة إلا مرة واحدة، فالمقصود هي العمرة المفردة فلا تتكرر في شهر واحد، أما ضمّ عمرة التمتع إليها فلا بأس، كما لو دخل مكة بعمرة مفردة ثم خرج في نفس الشهر إلى أحد المواقيت وأتى بعمرة التمتع.

وقد استظهر شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) هذا المعنى أيضاً في كتابه الاستدلالي فقال: ((إن المستفاد من الروايات أن اعتبار هذا الفصل إنما هو بين عمرتين مفردتين لشخص واحد، ولا يعتبر إذا كانت إحداهما لشخص والأخرى لآخر، وعلى هذا لا مانع من أن يأتي شخص واحد بعمرة مفردة لنفسه في شهر وبعمرة مفردة أخرى عن شخص آخر نيابة أو تبرّعاً في نفس ذلك الشهر وبعمرة مفردة ثالثة عن ثالث وهكذا))(1).

ولا ينافيه ما قال في رسالته العملية في مناسك الحج: ((لا يسوغ له الإتيان بعمرتين في شهر إذا كانتا كلتاهما من شخص واحد، سواء أكانتا عن نفسه أم عن غيره))(2)؛إذ إن مراده (دام ظله) أن العمرتين معاً عن الفاعل أو إنهما معاً عن شخص آخر غيره، لكن تعبيره (دام ظله) لا يخلو من عدم ملاءمة

ص: 178


1- تعاليق مبسوطة: 10/84.
2- مناسك الحج، ص76، المسألة7.

مع مختاره إذ إن ظاهره أن الإشكال في صدورهما معاً عنه بغضّ النظر عن المستفيد منهما، بينما هو لا يستشكل في كلامه المتقدم في صدور عمرتين أو أكثر من شخص واحد والمهم أن لا يكون المستفيد منهما واحداً.

نكتة: ربما كانت الحكمة من التشريع حثّ المسلم على أداء العمرة نيابة عن غيره من إخوانه المؤمنين لندرة من يوفّق للحضور في تلك المشاهد المشرّفة ويحصل النائب على أجر العمرة كاملاً ومثله للمنوب عنه وزيادة، دلّت عليه موثّقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يحجّ فيجعل حجته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله وهو عنه غائب ببلد آخر، قال: قلت: فينقُصُ ذلك من أجره؟ قال: لا هي له ولصاحبه وله أجرٌ سوى ذلك بما وصل، قلت: وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال: نعم، حتى يكون مسخوطاً عليه فيغفر له، أو يكون مضيَّقاً عليه فيوسّع عليه، قلتُ: فيعلم هو في مكانه أنَّ عمَلَ ذلكَ لَحِقه؟ قال: نعم، قلت: وإن كان ناصبياًينفعه ذلك؟ قال: نعم، يُخفَّف عنه)(1).

وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يُشرك أباه وأخاه وقرابته في حجه؟ فقال: إذاً يُكتب لك حجٌ مثل حجّتهم وتُزاد أجراً بما وصلت)(2) لذا ورد في الخبر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو أشركت ألفاً في حجتك لكان لكل واحد حَجةٌ من غير أن تنقص حجتك شيئاً)(3).

وأفضل ما تكون النيابة عن المعصومين (عليهم السلام) فقد روى موسى بن القاسم قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك فقيل لي: إن الأوصياء لا يطاف عنهم، فقال: بلى طف ما أمكنك، فإن ذلك جائز، ثم قلت له بعد ذلك بثلاث سنين إني كنت

ص: 179


1- الكافي، ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة، الأحاديث، ح4، 6، 10.
2- الكافي، ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة، الأحاديث، ح4، 6، 10.
3- الكافي، ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة، الأحاديث، ح4، 6، 10.

استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك، فأذنت لي في ذلك، فطفت عنكما ما شاء الله، ثم وقع في قلبي شيء فعملت به، قال: وما هو؟ قلت: طفت يوماً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ثلاث مرات: صلى الله على رسول الله، ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام)، والرابع عن الحسين (عليه السلام)، والخامس عن علي بن الحسين، واليوم السادس عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، واليوم الثامن عن أبيك موسى (عليه السلام)، واليوم التاسع عن أبيك علي (عليه السلام)، واليوم العاشر عنك يا سيدي، وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم، فقال: إذاً والله تدين الله بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره، قلتُ: وربما طفتُ عن أمك فاطمة (عليه السلام) وربما لم أطف، فقال: استكثر من هذا فإنه أفضل ما أنت عامله إن شاء الله)(1).

(السابعة) المراد من الشهر:

احتمل صاحب العروة (قدس سره) أن يكون المراد من الشهر: ((إما بمعنى ثلاثين يوماً، أو أحد الأشهر المعروفة))(2)

والظاهر من موثقة إسحاق بن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة)(3)وصحيحة حماد (إن رجع في شهره) وصحيحة بريد (وعليه أن يقيم إلى الشهر الآخر فيخرج إلى بعض المواقيت فيحرم بعمرة) وقد تقدم ذكرها.

وهو الذي يفهمه العرف من الروايات الواردة في المقام كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وغيرها (في كل شهر عمرة).

ص: 180


1- الكافي، ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: الطواف والحج عن الأئمة (عليهم السلام)، ح2.
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/217.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب6، ح9.

ويمكن الاستدلال بصحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إني كنت أخرج ليلة أو ليلتين يبقيان من رجب فتقول أم فروة: أي أبه: إن عمرتنا شعبانية؟ فأقول لها: أي بنيّة إنها فيما أهللت، وليست فيما أحللت)((1).

بتقريب أن هذه العادة من الإمام (عليه السلام) كانت لتحصيل عمرتين في شهرين في أقل مدة ممكنة ولو كان الشهر ثلاثين يوماً لما فرّق عنده الخروج في أول رجب أو آخره.

نعم، قد يكون ذيل ما ورد في خبر علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (لكل شهر عمرة، قال: وقلت له: يكون أقلَّ من ذلك؟ قال: لكل عشرة أيام عمرة)(2)

قرينة على أن المراد بالشهر ثلاثين يوماً، كما ورد في عدة الوفاة لكنه مردود بضعف الخبر لما تقدّم بل يمكن تقريبه دليلاً على مختارنا لأنه بعد أن ثبت أن الفصل بين عمرتين هو شهر فيكون الذيل منافياً له لأن العشرة تنافي الثلاثين بينما لو أريد به الشهر الهلالي أمكن أن يكون الفصل بعشرة أيام بين عمرة في أواخر الشهر السابق وأخرى في بداية اللاحق، وهذا ما أراد الإمام (عليه السلام) أن يؤكده للسائل ويرفع عنه توهم الفصل بثلاثين يوماً فقال بإمكان كونه أقل لأن الشهر هو ما بين الهلالين وليس ثلاثين يوماً.

(الثامنة) في تحديد مبدأ الشهر:

الأقوال في المسألة ثلاثة: فقد قيل بأن مبدأ الشهر الإهلال بالعمرة أي الإحرام لها، أو الإحلال منها، أو الخروج من مكة.

وقد اختار السيد الخوئي (قدس سره) الثاني، وصاحب الجواهر (قدس سره) الثالث، والأقوى هو الأول، أما صاحب العروة (قدس سره) فقد احتمل الثلاثة ثم احتاط في النهاية بعدم مرور شهر على الإهلال بالعمرة الذي يتحقق

ص: 181


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح10.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب6، ح 10.

قبل مرور شهر على الإحلال منها أو الخروج، قال (قدس سره): ((فلا يُترك الاحتياط بالإحرام إذا كان الدخول في غير شهر الخروج، بل(1)القدر

المتيقن من جواز الدخول محلاً صورة كونه قبل مضي شهر من حين الإهلال أي الشروع في إحرام العمرة، والإحلال منها، ومن حين الخروج))(1).

وإنما كان قدراً متيقناً لأن الشهر من حين الإهلال أول الثلاثة وقوعاً فإذا اشترطنا فيه الدخول محرماً فسيكون الإحرام بعد شهر من الإحلال أو الخروج واقعاً مسبقاً.قال السيد الخوئي (قدس سره): ((هل العبرة في العمرة الأولى التي يعتبر مضي الشهر عنها بإهلالها والشروع في إحرامها، أو بإحلالها والفراغ من إحرامها وأعمالها؟ فيه كلام.

اختار المصنف (قدس سره) الأول بدعوى أنه القدر المتيقن من جواز الدخول محلاً، فإن أحرم للعمرة ثم بعد الأعمال خرج فإن رجع بعد مضي شهر من زمان إهلاله وإحرامه للعمرة يرجع محرماً ثانياً، وإن كان بالنسبة إلى إحلاله وفراغه من الأعمال أقل من شهر، إذ قد يحرم للعمرة ويبقى محرماً ولا يحلّ إلا بعد يومين أو أكثر.

أقول: ما ذكره وإن كان أحوط))(2)

أقول: هذا هو أحوط وموافق لما ثبت في علم الأصول من جريان العام في الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص، ويوجد عام هنا وهو عدم جواز دخول مكة إلا محرماً استثني منه من دخل قبل مضي شهره فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو زمن الإحرام فلو أهلّ بالعمرة في أواخر رجب وأحلّ منها في شعبان وخرج من مكة في شعبان فإنه يحرم لو رجع إلى مكة في شعبان نفسه.

لكن صاحب الجواهر (قدس سره) جعل الأحوط كون مبدأ الشهر من الإحلال وهو تام إذا كان حكم الفصل بين عمرتين بأقل من شهر إلزامياً وليس على نحو الرخصة، وأُخِذَ وحده من دون النظر إلى العام الذي ذكرناه.

ص: 182


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/215.
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/217.

واختار (قدس سره) اعتباره من زمن الخروج ((لا شهر نسكه السابق كي يستشكل فيه أنه من حين الإهلال أو من حين الإحلال))(1)

مستدلاً بنصوص لا تخلو من ضعف في السند كخبر أبان وحفص بن البختري: (إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام) الضعيف بالإرسال ومرسلة الصدوق: (وعاد في الشهر الذي خرج فيه)، أو غير دالة على المطلوب كصحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يخرج إلى جدة في الحاجة، قال: يدخل مكة بغير إحرام)(2)،وشكك في دلالة موثقة إسحاق على كون الشهر من العمرة السابقة واصفاً إياها بالإجمال وهي ليست كذلك بل هي صريحة في اعتبار الشهر الذي (تمتع) فيه.

ويضاف إلى ضعف هذا الدليل ما ورد في معتبرة إسحاق وغيرها من قوله (عليه السلام): (لكل شهر عمرة) فالشهر يفصل بين العمرتين وإذا اعتبرنا مبدأه الخروج الذي هو متأخر عن العمرة فسيكون بين العمرتين أكثر من شهر.

فالقول بجعل مبدأ الشهر هو الخروج أضعف الأقوال.

ونقض صاحب الرياض على هذا القول بأن إطلاقه ((يشمل صورة ما إذا كان شهر الخروج بعد الإحرام المتقدم بأزيد من شهر، ولا أظنهم يقولون به ولا صرّح به أحد))(3).وردّ صاحب الجواهر ب_((عدم بدعٍ بالتزام ذلك الذي هو مقتضى إطلاق ما سمعته من النصوص))(4).

لكن تقدم أن النصوص غير وافية بالمطلوب فنقض صاحب الرياض وارد ولا علاج له إلا الاحتياط.

وقد اختار السيد الخوئي (قدس سره) أن مبدأ الشهر من حين الإحلال

ص: 183


1- جواهر الكلام: 18/446.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب51، ح3.
3- رياض المسائل: 6/327.
4- جواهر الكلام: 18/447.

من العمرة، لأن ((كلمة (تمتع)(1)

فعل ماضٍ ظاهره التحقق والفراغ في قبال فعل الاستقبال، فالمراد بالشهر الذي تمتع فيه هو الشهر الذي فرغ من عمرته، وأما إذا أهلَّ بالعمرة ولم يفرغ منها فلا يصدق عليه أنه تمتع فيه بل هو مشغول بأداء أعمال العمرة، كما استظهرنا ذلك في سائر الموارد كقولنا: صلى أو صام وغير ذلك))(2).

وفيه:-

1- إن التمتع يصدق بمجرد الشروع في العمل بالإحرام نظير ما ورد في الصلاة من أن من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت كله.

2- يمكن ادعاء أن النسك الرئيسي في العمرة والذي هو شرط لدخول مكة إنما هو الإحرام خاصة، فالعمرة الإحرام وأما بقية الأفعال فهي للإحلال منه فلو شاء المعتمر أن يبقى على إحرامه فلا يجب عليه طواف أوسعي وغيرهما.

3- مخالفة هذا الوجه لظهور عدة روايات في كون اعتبار شهر العمرة بلحاظ الإحرام، كصحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إني كنت أخرج ليلة أو ليلتين يبقيان من رجب فتقول أم فروة: أي أبه: إن عمرتنا شعبانية؟ فأقول لها: أي بنية إنها فيما أهللت وليست فيما أحللت)(3).

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن عمرة رجب ما هي؟ قال: إذا أحرمت في رجب وإن كان في يوم واحد منه فقد أدركت عمرة رجب وإن قدمت في شعبان، فإنما عمرة رجب أن تحرم في رجب)(4).

ولو نوقش في دلالة الصحيحة الثانية باعتباره حكماً خاصاً كاعتبار من

ص: 184


1- الواردة في موثقة إسحاق بن عمار الآتية (صفحة 190) تحت الرقم (8) وفيها: (يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه).
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/217.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح10، 14.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح10، 14.

أدرك ركعة من الوقت كمن أدرك الوقت كله، فإن الصحيحة الأولى واضحة الدلالة على المطلوب لأن الإمام (عليه السلام) بصدد تطبيق الحكم بأن زمن العمرة يكون بلحاظ الإحرام إذ لو كان شهر العمرة يُعتبر بلحاظ الإحلال فإن يوماً أو يومين لا يكفيان للوصول إلى مكة وأداء مناسك العمرة يومئذٍ إذ كانت الرحلة تستغرق ما لا يقل عن سبعة أيام، وفي صحيحة علي بن جعفر قال: (خرجنا مع أخي موسى في أربع عُمَريمشي فيها إلى مكة بأهله وعياله واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً، وأخرى خمسة وعشرين يوماً، وأخرى أربعة وعشرين يوماً، وأخرى إحدى وعشرين يوماً)(1)

والصحيحتان تعالجان الترديد في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) (عن رجل أحرم في شهر وأحلّ في آخر، فقال: يكتب في الذي قد نوى، أو يُكتب له أفضلهما)(2)أو يحمل الذيل على كرم الله تبارك وتعالى في اختيار الأفضل كالذي ورد في من صلى منفرداً ثم أعاد الفرض في جماعة.

وعليه يحمل خبر عيسى الفرّاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أهلَّ بالعمرة في رجب وأحلّ في غيره كانت عمرته لرجب، وإذا أهلّ في غير رجب وطاف في رجب فعمرته لرجب)(3).

فيكون دليلنا على القول الأول الذي قوّيناه صحيحة أبي أيوب الخزاز وعلي بن جعفر ومعتبرة إسحاق بن عمار بالوجه الذي فسّرنا به كلمة (تمتع) الواردة فيه مع عدم قوة القولين الأخيرين.

وقد أيّد صاحب الرياض(4) هذا المعنى باحتمال عودة ضمير (شهره) في صحيحة حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: (قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام، ثم رجع في إبان الحج، في أشهر

ص: 185


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 10، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح12.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب3، ح11.
4- رياض السائل: 6/327.

الحج، يريد الحج، فيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً)(1)

إلى الإحرام ولا بأس به.

(التاسعة) من اعتمر متمتعاً للحج فهو مرتهن في مكة بالحج:

دلّت عليه صحيحة معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنهم يقولون في حجة التمتع حجة مكية وعمرة عراقية، فقال: كذبوا، أوليس هو مرتبطاً بالحج لا يخرج منها حتى يقضي حجه)(2).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كيف أتمتع؟ فقال: يأتي الوقت فيلبي بالحج، فإذا أتى مكة طاف وسعى وأحل من كل شيء وهو محتبس، وليس له أن يخرج من مكة حتى يحج)(3)

ورويتبطريق صحيح آخر(4).

ونحوها الروايات التي دلّت على عدم جواز خروج المتمتع من مكة حيث يقضي حجه، ومنها صحيحة حماد بن عيسى الآتية (صفحة 189) عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (من دخل مكة متمتعاً في أشهر الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج).

وخبر معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال: إن المتمتع مرتبط بالحج والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء)(5).

وورد التعليل في خبر وهيب بن حفص عن علي بن أبي حمزة قال: (سأله أبو بصير وأنا حاضر عمن أهل بالعمرة في أشهر الحج أله أن يرجع؟ قال: ليس في أشهر الحج عمرة يرجع منها إلى أهله، ولكنه يحتبس بمكة حتى يقضي حجه لأنه إنما أحرم لذلك)(6).

ص: 186


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 21، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب4، ح6، 18.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب5، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب22، ح3.
5- و (6) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح3، 7.

وتحمل على عمرة التمتع لما تقدم من جواز العمرة المفردة في أشهر الحج ويعود إلى أهله.

وخبر أبان بن عثمان عمّن أخبره؛ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المتمتع محتبس لا يخرج من مكة حتى يخرج إلى الحج إلا أن يأبق غلامه، أو تضلَّ راحلته، فيخرج محرماً، ولا يجاوز إلا على قدر ما لا تفوته عرفة)(1).6(1)

وخبر موسى بن القاسم قال: (أخبرني بعض أصحابنا أنه سأل أبا جعفر في عشر من شوال فقال: إني أريد أن أفرد عمرة هذا الشهر، فقال له: أنت مرتهن بالحج)(2).

(العاشرة) الظاهر أن سقوط الإحرام لعمرة جديدة عمّن رجع إلى مكة....

(العاشرة) الظاهر أن سقوط الإحرام لعمرة جديدة عمّن رجع إلى مكة في نفس شهر متعته السابقة التي خرج بعدها هو سقوط عزيمة لا سقوط رخصة، دلَّ على ذلك قوله (عليه السلام) في صحيحة حماد: (إن رجع في شهره دخل بغير إحرام وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً) وقد قالوا في علم الأصول أن الجواب إذا كان بصيغة الخبر فإنه أأكد في الدلالة على الوجوب، وكذا مفهوم معتبرة إسحاق بن عمار: (يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه).

وفي ضوء هذا يُعلم ما في كلام صاحب العروة (قدس سره): ((وأيضاً سقوطه-أي وجوب الإحرام- إذا كان بعد العمرة قبل شهر إنما هو على وجه الرخصة))(3)،نعم يمكن أن يأتي بالعمرة قبل مرور شهر رجاء المشروعية.

ص: 187


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب22، ح9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح8.
3- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/224.

المسألة محل البحث

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((المعروف والمشهور أو الأشهر أنه لا يجوز للمتمتع بعد الإتيان بعمرته الخروج من مكة وأنه محتبس ومرتهن بالحج إلى أن يأتي بالحج إلا مع الاضطرار والحاجة إلى الخروج فيخرج محرماً للحج))(1).

واستدل على المنع بالروايات المتقدمة في المقدمة التاسعة وبروايات معتبرة عديدة دلّت على عدم جواز خروج المتمتع من مكة حتى يقضي حجه، وفيها تفاصيل أوجبت اختلاف الفقهاء في المسألة، وسنذكر مجموعة الروايات لنتعرف على مناشئ تلك الأقوال:-

1- صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: كيف أتمتع؟ قال: تأتي الوقت فتلبي - إلى أن قال - وليس لك أن تخرج من مكة حتى تحج)(2).

2- صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) -في حديث- قال: (تمتع فهو والله أفضل، ثم قال: إن أهل مكة يقولون: إن عمرته عراقية وحجته مكية، كذبوا أوَليس هو مرتبطاً بالحج لا يخرج حتى يقضيه).

3- خبر(3) موسى بن القاسم عن (بعض أصحابنا أنه سأل أبا جعفر (عليه

ص: 188


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/208.
2- الأحاديث من تسلسل (1-) إلى (12-) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 21، الأحاديث من ح1 إلى ح12.
3- وصف في المصادر بالمرسل (مستمسك العروة الوثقى: 11/209، جواهر الكلام: 18/24، كشف اللثام: 5/46، رياض المسائل: 7/219) وهو كذلك بلحاظ وروده في الوسائل في الباب (22) من أبواب أقسام الحج، الحديث 3. لكن هذا الحديث هو الجزء الثالث من حديث رواه صاحب الوسائل في الباب (7) من أبواب أقسام الحج، الحديث (1) وقد رواه موسى بن القاسم عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمن بن الحجاج وعبد الرحمن بن أعين قالا: (سألنا أبا الحسن (عليه السلام)...) إلى آخر الحديث، فهو مسند وصحيح. وفي جزئه الثاني (ورأيت من سأل أبا جعفر (عليه السلام)...) إلى آخره، وفي جزئه الثالث (فسأله بعد ذلك رجل من أصحابنا فقال...) إلى آخره. فإذا وُجد إشكال في السند ففي الجزئين الثاني والثالث من حيث عدم ثبوت أن سؤال الإمام (عليه السلام) كان بمحضرهما إذ الظاهر من ملاحظة الطبقة أن السائل روى لهما ولم يحضرا مجلس السؤال، هذا إذا افترضنا أن أبا جعفر هو الباقر (عليه السلام) وأن الكلام هو لعبد الرحمن، ويحتمل أن الكلام في الجزئين الثاني والثالث لموسى بن القاسم وإنه رأى من سأل أبا جعفر الثاني أي الجواد (عليه السلام) وهو ما فهمه الأصحاب الذين نقلوا هذه الرواية في المصادر المذكورة وغيرها، والإشكال من هذه الجهة باقٍ، اللهم إلا أن يعتبر وصف (من أصحابنا) قرينة على التوثيق.

السلام) في عشر من شوال فقال: إني أريد أن افرد عمرة هذا الشهر، فقال: أنت مرتهن بالحج، فقال له الرجل: إن المدينة منزلي، ومكة منزلي ولي بينهما أهل، وبينهما أموال، فقال له: أنت مرتهن بالحج، فقال له الرجل: فإن لي ضياعاً حول مكة، وأحتاج إلى الخروج إليها، فقال: تخرج حلالاً، وترجع حلالاً إلى الحج).

4- صحيحة حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل قضى متعته وعرضت له حاجة أراد أن يمضي إليها، قال: فقال: فليغتسل للإحرام وليهلّ بالحج وليمض في حاجته، فإن لم يقدر على الرجوع إلى مكة مضى إلى عرفات).

5- صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كيف أتمتع؟ فقال: تأتي الوقت فتلبي بالحج، فإذا أتى مكة طاف وسعى وأحلّ من كل شيء وهو محتبس ليس له أن يخرج من مكة حتى يحج).

6- صحيحة حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من

ص: 189

دخل مكة متمتعاً في أشهر الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج، فإن عرضت له حاجة إلى عُسفان أو إلى الطائف أو إلى ذات عرق خرج محرماً ودخل ملبياً بالحج، فلا يزال على إحرامه، فإن رجع إلى مكة رجع محرماً ولم يقرب البيت حتى يخرج مع الناس إلى منى على إحرامه، وإن شاء وجهه ذلك إلى منى، قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام، ثم رجع في إبان الحج، في أشهر الحج، يريد الحج، فيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً، قلت: فأي الإحرامين والمتعتين، متعة الأولى أو الأخيرة؟ قال: الأخيرة هي عمرته، وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته، قلت: فما فرق بين المفردة وبين عمرة المتعة إذا دخل في أشهر الحج؟ قال: أحرم بالعمرة ((بالحج)) وهو ينوي العمرة، ثم أحل منها ولم يكن عليه دم، ولم يكن محتبساً بها، لأنه لا يكون ينوي الحج).

7- صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يتمتع بالعمرة إلى الحج يريد الخروج إلى الطائف؟ قال: يهلّ بالحج من مكة، وما أُحب أن يخرج منها إلا محرماً، ولا يتجاوز الطائف إنها قريبة من مكة).

8- معتبرة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتمتع يجيء فيقضي متعة، ثم تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة وإلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن، قال: يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه، لأن لكل شهر عمرة، وهو مرتهن بالحج، قلت: فإنه دخل في الشهر الذي خرج فيه، قال: كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقى بعض هؤلاء، فلما رجع فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحج ودخل وهو محرم بالحج).

9- خبر أبان بن عثمان، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المتمتع محتبس لا يخرج من مكة حتى يخرج إلى الحج إلا أن يأبق غلامه، أو تضل راحلته، فيخرج محرماً، ولا يجاوز إلا على قدر ما لا تفوته

ص: 190

عرفة).

10- مرسلة(1)

الصدوق في الفقيه قال: (قال الصادق (عليه السلام): إذا أراد المتمتع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك لأنه مرتبط بالحج حتى يقضيه، إلا أن يعلم أنه لا يفوته الحج، وإن علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج دخل مكة محلاً، وإن دخلتها (دخلها) في غير ذلك الشهر دخلتها (دخلها) محرماً).

11- صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل قدم متمتعاً، ثم أحلّ قبل يوم التروية، ألَهُ الخروج؟ قال: لا يخرج حتى يحرم بالحج، ولا يجاوز الطائف وشبهها).

12- صحيحته الأخرى عن أخيه، قال: (وسألته عن رجل قدم مكة متمتعاً فأحلّ، أيرجع؟ قال: لا يرجع حتى يحرم بالحج، ولا يجاوز الطائف وشبهها مخافة أن لا يدرك الحج، فإن أحب أن يرجع إلى مكة رجع، وإن خاف أن يفوته الحج مضى على وجهه إلى عرفات).

13- خبر موسى بن القاسم في حديث: (فسأله بعد ذلك رجل من أصحابنا فقال: إني أريد أن أفرد عمرة هذا الشهر -يعني: شوال-، فقال له: أنت مرتهن بالحج، فقال له الرجل: إن أهلي ومنزلي بالمدينة، ولي بمكة أهل ومنزل، وبينهما أهل ومنازل، فقال له: أنت مرتهن بالحج، فقال له الرجل: فإن لي ضياعاً حول مكة، وأحتاج إلى الخروج إليها، فقال: اخرجْ حلالاً، فإذا كان إبان الحج حججتَ)(2).

14- خبر عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من دخل مكة بعمرة فأقام إلى هلال ذي الحجة فليس له أن يخرج حتى يحجّ مع

ص: 191


1- لا ينفع في دفع الإرسال ما قيل من التمييز بين قول الصدوق (قال) وقوله (روي) فإن الأول يكون مسنداً دون الثاني، إذ غاية هذه الكبرى ثبوت كون الحديث مسنداً ولا يثبت صحّة السند وإن اعتمدها الشيخ الصدوق (قدس سره) لقرائن اجتمعت عنده.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب7، ح1.

الناس)(1).

15- خبر علي بن أبي حمزة، قال: (سأله أبو بصير وأنا حاضر عمن أهلّ بالعمرة في أشهر الحج له أن يرجع؟ قال: ليس في أشهر الحج عمرة يرجع منها إلى أهله، ولكنه يحتبس بمكة حتى يقضى حجه لأنه إنما أحرم لذلك).

16- صحيحة عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من اعتمر عمرة مفردة فله أن يخرج إلى أهله متى شاء إلا أن يدركه خروج الناس يوم التروية).

والأقوال هي:-

(الأول) المنع مطلقاً؛ فحكى ((الشهيد في الدروس عن الشيخ في النهاية وجماعة أنهمأطلقوا المنع من الخروج من مكة للمتمتع، لارتباط عمرة التمتع بالحج، فلو خرج صارت مفردة))(2).

واستدل له العلامة (قدس سره) أيضاً ب_((قوله (عليه السلام): (دخلت العمرة في الحج هكذا) وشبّك بين أصابعه، فإذا فعل عمرة التمتع، فقد فعل بعض أفعال الحج، فيجب عليه الإتيان بالباقي لقوله تعالى «وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ» (البقرة: 196) وكما لو فعل بعض أفعال الحج))(3).

ص: 192


1- الأحاديث من تسلسل (14) إلى (16) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 7، الأحاديث 6، 7، 9.
2- الحدائق الناضرة: 14/362.
3- مختلف الشيعة: 4/371، وذكره في الحدائق الناضرة: 16/307، وغيره.

واختاره السيد الحكيم (قدس سره)(1) واقتبس نص كاشف اللثام الذي قال: ((والأحوط القصر على الضرورة وأن لا يخرج معها إلا محرماً بالحج، إلا أن يتضرر كثيراً بالبقاء على طول الإحرام لطول الزمان، خروجاً عن مخالفة الأخبار المطلقة، ولاحتمال من لا يمكنه العود إلى مكة للإحرام به))(2).

واختاره أيضاً السيد الخوئي (قدس سره) وقال: ((وقد دلّت على هذه الأحكام روايات كثيرة معتبرة واضحة الدلالة))(3)

وذكر صحيحتي زرارة (الأولى والخامسة) وصحيحة الحلبي (السابعة) ثم قال (قدس سره): ((قد عرفت عدم إمكان رفع اليد عن ظهور تلك الروايات في المنع بل صراحتها في ذلك))(4)

وقال (قدس سره) في تعليقته على العروة الوثقى: ((بل لا يبعد الحرمة -أي حرمة الخروج من مكة- وما استدل به على الجواز لا يتم)).

فالدليل عندهم:-

1- إطلاقات المنع في الروايات كصحيحة زرارة وصحيحة معاوية بن عمار، وعدم تمامية ما استدل به على الترخيص.

2- إن العمرة مرتبطة بالحج فلا يجوز الفصل بينهما بالخروج.

3- إن عمرة التمتع داخلة في الحج كبعض أجزائه ومن أتى ببعض أفعال الحج وجب عليه إتمام الباقي.

لكن الاستدلال بهذا المقدار غير كافٍ ما لم يُبيّن وجه الروايات المرخّصة في الخروج، لذا قال صاحب الرياض (قدس سره): ((الأظهر في الجمع بينهما -أي ما دلّ على المنع من الخروج وما دلّ على جواز الخروج محرماً- أن يبقى القضاء فيها على حاله -أي بمعنى إتمام الحج-، ويقيد إطلاقها بصورة الاختيار، ويحمل الاكتفاء بالإحرامفي هذه الصحاح على حال الضرورة وحصول الحاجة كما هو مورد أكثرها، والمطلق منها يقبل التقييد بها، للصحيحة المفصلة المتقدمة -كصحيحة حماد بن عيسى وهي السادسة- وهي أوضح شاهد على هذا الجمع حيث اشترط فيها في جواز الخروج ولو محرماً عروض الحاجة، وصرّح قبله بالمنع عن الخروج حتى يقضي الحج ويكمله كالصحاح السابقة، وقريب منها المرسل -الرواية التاسعة-.

وبالجملة: فمقتضى الجمع بين هذه الأخبار المعتبرة - بعد ضم بعضها ببعض- المنع عن الخروج عن مكة اختياراً حتى يقضي الحج ويكمله إلا مع

ص: 193


1- مستمسك العروة الوثقى: 11/212.
2- كشف اللثام: 5/45.
3- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/208.
4- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/211.

الضرورة، فيخرج محرماً إلى ما لا يفوت معه عرفة كما في المرسلة، ونحوها الأخبار المرخصة للخروج محرماً، لاختصاصها بالأماكن القريبة منها، بل اشترط ذلك في الصحيحة الأخيرة.

وكل هذه الأخبار متفقة في المنع مطلقاً أو من غير ضرورة من غير تفصيل فيها بين ما إذا خرج ودخل في الشهر الذي أحرم فيه للعمرة أو غيره))(1).

ولا يخفى على المتأمّل في الروايات أنها لم تتعرض لذكر الضرورة وإنما ورد فيها ذكر الحاجة وهي أعم مطلقاً من الضرورة.

(الثاني) المنع المقيد؛ قال صاحب الشرائع (قدس سره): ((ولا يجوز للمتمتع الخروج من مكة حتى يأتي بالحج لأنه صار مرتبطاً به إلا على وجه لا يفتقر إلى تجديد عمرة)) وشرحه صاحب الجواهر (قدس سره): ((بأن يخرج محرماً بالحج باقياً على إحرامه حتى يحصل الحج منه، أو يعود للحج قبل مضي شهر كما في القواعد جمعاً بين النصوص السابقة -الناهية عن الخروج- ومرسل موسى بن القاسم (وهي الرواية الثالثة) بناءً على كون السؤال منه عن إفراد العمرة بعد أن قصد التمتع بها، وإطلاقه الحل خارجاً وراجعاً مقيد بما إذا رجع قبل شهر لخبر إسحاق بن عمار ومرسل الصدوق وحسن حماد -الرواية الثامنة والعاشرة والسادسة-))(2).

وذكر صاحب الرياض (قدس سره) وجهاً لطيفاً ب_((أن يجمع بينهما -أي الروايات الناهية عن الخروج حتى يقضي حجه وصحيحتي علي بن جعفر الحادية عشرة والثانية عشرة- بحمل القضاء في الصحاح على ما يعمّ الدخول في الإحرام. كما في الخبرين -أي خبري علي بن جعفر- بعدها لكنهما قاصرا السند وحمل القضاء في الصحاح على ذلك في غاية البعد))(3).

والرد الأول غير تام لأنهما صحيحتا السند، لكن الثاني وجيه فإن العرف يفهم من قضاء الحج إتمام أفعاله ولا يكفي مجرد التلبّس بالإحرام.

ص: 194


1- رياض المسائل: 7/217.
2- جواهر الكلام: 18/24.
3- رياض المسائل: 7/217.

وقد وجّه الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس القول الأول بما ينطبق على القول الثاني فقال (قدس سره): ((ولعلهم أرادوا الخروج المحوج إلى عمرة أخرى -كما قال في المبسوط- أو الخروج لا بنية العود))(1)

ونتيجته عدم وجود قائل بالمنع المطلق.

وردّه صاحب الجواهر (قدس سره) بأنه ((لا داعي إلى ذلك بل يمكن أن يكون لحرمة الخروج مطلقاً عندهم))(2).

(الثالث) الجواز على كراهة؛ قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((نعم، عن السرائر والنافع والمنتهى والتذكرة وموضع من التحرير وظاهر التهذيب وموضع من النهاية والمبسوط كراهة الخروج لا حرمته. للأصل والجمع بين النصوص بشهادة قوله (عليه السلام): (ما أحب) في خبر حفص –والصحيح أنها رواية الحلبي وهي السابعة- منها، وهو لا يخلو من وجه))(3).

وقوّاه صاحب العروة (قدس سره) لنفس القرينة ولمرسلة الصدوق ومرسلة أبان -العاشرة والتاسعة- بتقريب أن المنع عن الخروج من جهة احتمال فوت الحج، فلو علم بعدم فوت الحج فلا يحرم الخروج.

وردّ السيد الخوئي (قدس سره) على القرينة بأن ((جملة (لا أحب) غير ظاهرة في الكراهة بالمعنى الأخص بل استعملت في القرآن المجيد في الموارد المبغوضة المحرمّة كثيراً كقوله تعالى: «واللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ» (البقرة:205) وقوله عز وجل: «لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ» (النساء: 148) وهي الغيبة المحرمة وكذلك ما نُسب إلى الذوات كقوله عزَّ من قائل: «إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعتَدينَ» (البقرة: 190) «واللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (آل عمران: 57) «فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» (آل عمران: 32).

وبالجملة: جملة (لا أحب) غير ظاهرة في الجواز مع الكراهة، بل إما تستعمل في المبغوضية المحرمة أو الأعم منها ومن الكراهة، فلا تكون هذه الجملة

ص: 195


1- الحدائق الناضرة: 14/362.
2- جواهر الكلام: 18/26.
3- جواهر الكلام: 18/26.

صالحة لرفع اليد عن ظهور تلك الروايات في الحرمة)).

وردّ على تلك الروايات الثلاث بضعف السند

وبالاستغراب من التقريب ((إذ كيف يمكن استفادة ذلك من تلك الروايات مع التصريح فيها بعدم جواز الخروج محلاً مطلقاً وجوازه محرماً مع الحاجة))(1).

وعرّض شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) بردّ السيد الخوئي وغيره (قدس الله أسرارهم) على هذه القرينة إذ أن هذه المناقشة موجودة في آثار كثيرة من الكتب الاستدلالية فقال: ((إن جملة (لا أحب) بنفسها لا تدل على أكثر من كراهة الخروج وعدم رجحانه بدون الإحرام. نعم، قد تستعمل في الحرمة والمبغوضية ولكن بقرينة خارجية، كما في قوله تعالى: «واللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ» وقوله تعالى: «لاَّ يُحِبُّ اللهُالْجَهْرَ بِالسُّوَءِ»))(2).

(الرابع) الجواز من غير كراهة ما دام واثقاً من عدم فوات الحج، واختاره صاحب العروة (قدس سره) فإنه بعد أن قوّى الجواز على كراهة قال: ((بل يمكن أن يقال: إن المنساق من جميع الأخبار المانعة أن ذلك للتحفظ عن عدم إدراك الحج وفوته، لكون الخروج في معرض ذلك، وعلى هذا فيمكن دعوى عدم الكراهة أيضاً مع علمه بعدم فوات الحج منه، نعم لا يجوز الخروج لا بنية العود أو مع العلم بفوات الحج منه إذا خرج)).

واستغرب السيد الخوئي (قدس سره) من هذا القول وتساءل: ((كيف يمكن استفادة ذلك من تلك الروايات مع التصريح فيها بعدم جواز الخروج محلاً مطلقاً وجوازه محرماً مع الحاجة))(3).

تقييم الأقوال في ضوء قراءة الروايات

يمكن تصنيف الروايات بحسب دلالتها على حكم المسألة إلى طوائف:

(الأولى) ما دلّ على المنع مطلقاً من دون تعليل الحكم كصحيحتي زرارة

ص: 196


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/209-211.
2- تعاليق مبسوطة: 9/127.
3- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/211.

وصحيحة معاوية بن عمار وصدر صحيحة حماد (الأولى والثانية والخامسة والسادسة).

(الثانية) ما دلّ على جواز الخروج محرماً بالحج إذا عرضت له حاجة كصحيحة حفص بن البختري (الرابعة) وخبر أبان بن عثمان (التاسعة).

(الثالثة) ما دل على جواز الخروج محرماً بالحج مطلقاً وإن لم تعرض له حاجة كصحيحتي علي بن جعفر (الحادية عشرة والثانية عشرة).

(الرابعة) ما دلّ على كراهة الخروج إلا أن يخرج محرماً من غير تعرّض للحاجة وعدمها كصحيحة الحلبي (السابعة) ولا يضرّ في ظهور (ما أحب) في الكراهة استعمالها في الحرمة في جملة من الموارد لأنه مع القرينة.

(الخامسة) ما دل على جواز الخروج محلاً إذا عرضت له حاجة كمعتبرة إسحاق بن عمار (الثامنة) وخبر موسى بن القاسم (الثالثة) وخبر عبد الرحمن بن الحجاج وعبد الرحمن بن أعين -الثالثة عشرة-.

(السادسة) ما دل على تعليل المنع بخوف فوات الحج كصحيحة علي بن جعفر (الثانية عشرة) وخبر أبان (التاسعة) ومرسلة الصدوق (العاشرة) وخبر علي بن أبي حمزة (الخامسة عشرة) وظاهر صحيحة الحلبي (السابعة) لقوله (عليه السلام) فيها: (ولا يتجاوز الطائف إنها قريبة من مكة) وصحيحة علي بن جعفر (الحادية عشرة) وفيها (ولا يجاوز الطائف وشبهها) إذ يفهم العرف منها ان هذا للاحتراز من فوات الحج. ولذا لم يأذن الإمام (عليه السلام) بالخروج إلى المدينة في خبر موسى بن القاسم لكنه (عليه السلام) أذن بالخروج قريباً من مكة ويشاركها في العلة صحيح عمر بن يزيد -السادسة عشرة- الصريحة في العمرة المفردة وخبره (الرابعة عشرة) الظاهر فيها.

وبضم بعض الروايات إلى بعضها نستنتج ما يلي:-إن روايات الطائفة الأولى دلّت على المنع مطلقاً إلا أنه لا يمكن الالتزام بحمله على الحرمة لعدة قرائن:

(منها) ورود الترخيص بالخروج من مكة محرماً إذا عرضت حاجة (الطائفة الثانية) بل مطلقاً (الثالثة) بل جواز الخروج محلاً إذا عرضت له حاجة

ص: 197

(الخامسة) فلا يبقى تحت هذه الحرمة مورد يذكر إلا الخروج محلاً من دون حاجة وهو ما نسميه بالخروج اختياراً.

(ومنها) ظهور لفظ (ما أحب) في صحيحة الحلبي (الرابعة) في الكراهة؛ قال صاحب الرياض (قدس سره): ((فإن (لا أحب) كالصريح في الكراهة، وأظهر دلالة عليها من (ليس له) على التحريم في الأخبار السابقة، مع أنه صريح في جواز الخروج بعد الإحرام قبل قضاء الحج))(1).

(ومنها) تعليل المنع في روايات الطائفة السادسة بأنه للاحتراز من فوت الحج فتكون الحرمة مقيدة بهذه العلة ولا يكون الخروج ممنوعاً إذا كان واثقاً من إدراك الوقوف، ولو خالف المكلف وفاته الحج فإنه يأثم لا للخروج من مكة وإنما لتفويته الواجب وهو الحج.

ولا يضرّ ما قيل من أن مخافة فوت عرفة ((حكمة التشريع لا علة الحكم حتى يدور مدارها فهو من قبيل لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك فخوف المولى أوجب تحريم الخروج وإن لم يخف العبد بل تيقن عدمه))(2)

لأمرين:-

1- إننا ذكرناه من جملة قرائن فيصلح مؤيداً إن ترددنا في استظهار تقييد الحكم بهذه العلة.

2- إن التعليل ظاهر من بعضها كمرسلة الصدوق (الرواية العاشرة).

(ومنها) إن الخروج لو كان ممنوعاً إلا لضرورة لنبّه الإمام (عليه السلام) في معتبرة إسحاق بن عمار (الثامنة) إلى ذلك ((إذ مجرد الحاجة غير كافٍ إذا لم يبلغ حد الضرورة، مضافاً إلى أنه يلزم حينئذٍ الإحرام، لأن الاضطرار إلى الخروج لا إلى ترك الإحرام))(3).

ولم يشر السيد الخوئي (قدس سره) إلى كل هذه القرائن الصارفة عن القول بالحرمة حين علّق على العروة بقوله: ((بل لا يبعد الحرمة، وما استدل به

ص: 198


1- رياض المسائل: 7/217.
2- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 41/192.
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 41/192.

على الجواز لا يتم)) واكتفى بذكر صحيحة الحلبي وناقشها بأن (ما أحب) غير مختصة بالكراهة المعروفة وإنما تستعمل في المحرمات وذكر مرسل الصدوق وخبر أبان وناقشها بضعف السند(1).

ويأتي نفس النقاش مع السيد الحكيم حيث استبعد أن يكون المدار في المنعهو فوات الحج وعدمه واقتصر على مناقشة مرسلة الصدوق والرضوي وصحيح الحلبي وانتهى إلى مختار صاحب اللثام من حرمة الخروج من مكة إلا لضرورة ويخرج محرماً(2).

وقد ذكر شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) وجهاً لصرف ظهور الطائفة الأولى في الحرمة إلى غيرها فقال: ((إن المتفاهم العرفي منها على أساس مناسبات الحكم والموضوع الارتكازية عدم جواز الخروج المنافي للحج لا مطلق الخروج وإن لم يكن منافياً له، إذ احتمال أن يكون عدم جواز الخروج حكماً تعبدياً صرفاً بعيد جداً عن الارتكاز العرفي، فإن قوله (عليه السلام) (حتى يحج) يمنع عن ذلك، ويدل على أن الحج هو الغاية النهائية فالمناط إنما هو بحصولها))(3).

وفيه:-

1- لو كنا نحن والطائفة الأولى فإن العرف لا يرى مانعاً من الالتزام بهذا الحكم التعبدي الصرف وهو إلزام المتمتع بالبقاء في مكة حتى يقضي حجه، بل الحكم كذلك لما دلّ على دخول العمرة في الحج وأن المتمتع محتبس في مكة ومرتهن بالحج ولولا الترخيص الذي ورد في الطوائف الأخرى لما جاز الخروج، وحتى حينما يجوز الخروج فإنه يأتي بالشهر اللاحق بعمرة جديدة لتتصل بالحج فلا مانع عرفاً من الحكم بالمكث في مكة حتى يقضي حجه.

2- إن كلمة (حتى) الواردة في الطائفة الأولى إذا فهمناها بمعنى (لكي) صح

ص: 199


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/209.
2- مستمسك العروة الوثقى: 11/211.
3- تعاليق مبسوطة: 9/125.

ما ذكره (دام ظله) وإذا كانت بمعنى (إلى أن) أفادت الحكم التعبدي الصرف الذي أنكره، والثاني أظهر عرفاً من الروايات خصوصاً مع اقترانها بكلمة (يقضي) في صحيح حمّاد.

ولا أقل من الترديد والإجمال المبطل للاستدلال.

وعلى أي حال فيحمل المنع على الكراهة في الموارد التي ورد الترخيص فيها بالخروج وهو ظاهر صحيحة الحلبي ولأنه مقتضى القواعد عند اجتماع النهي والرخصة.

ويمكن أن نتصور لهذه الكراهة منشأين:-

1- منع المقدمات التي يحتمل أنها تؤدي إلى تفويت الواجب الذي علم اهتمام الشارع به مثل الحج.

2- أنه لو خرج ودخل في شهر جديد فستجب عليه عمرة تمتع جديدة لدخول العمرة في الحج وستكون حجته ميقاتية أو مكية وليست آفاقية من سائر بلاد الأرض كالكوفية الواردة في الروايات وغيرها وفي ذلك نقص في الكمال.ومن تلك الروايات ما تقدم كصحيحة معاوية بن عمار(1)

(صفحة 188) وصحيحة حمران بن أعين قال: (دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقال لي: بما أهللت؟ فقلت: بالعمرة، فقال لي: أفلا أهللت بالحج ونويت المتعة، فصارت عمرتك كوفية وحجّتك مكية؟ ولو كنت نويت المتعة وأهللت بالحج كانت حجتك وعمرتك كوفيتين)(2).

لذا فيجوز للمتمتع الخروج من مكة لو عرضت له حاجة عقلائية على

ص: 200


1- ذكر صاحب الحدائق (قدس سره) (14/358) وجهاً آخر لفهم مثل صحيحة معاوية بن عمار بأن الإمام (عليه السلام) بصدد الرد على العامة الذين ينفون حج التمتع ويشكلون على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بأن حجهم ليس حج تمتع وإنما حج إفراد حيث يُحرمون من مكة ويفردون حجّهم فبيّن الإمام (عليه السلام) جواب الإشكال.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب 2، ح5.

كراهة وترتفع الكراهة بالإهلال بالحج وخروجه محرماً ويشترط بالإذن بالخروج وثوقه بإدراك الحج ويراعي في عودته أحكام الإحرام من حيث عودته في نفس الشهر وعدمه.

ويمكن أن نعرض الجمع بين الروايات بصياغة أخرى وذلك في إبقاء المنع على ظاهره ولكنه منعٌ في طول إرادة المعتمر المحافظة على عمرة التمتع التي دخل بها لتكون حجته آفاقية من حيث الثواب التي تستلزم اتصال العمرة التي دخل بها بالحج، فلو لم يرد ذلك ورضي بحجة ميقاتية أو مكية فله الخروج وان ترتب عليه الإتيان بعمرة تمتع جديدة.

نظير تروك الاعتكاف في اليومين الأولين فهي محرمة عليه في طول إرادته لإتمام الاعتكاف وإلا فإنه له أن يبطل العمل من أساسه لأنه مستحب فيهما فصحيحتا زرارة باقيتان على ظاهر المنع وصحيحة الحلبي ناظرة إلى كراهة إبطال تمتعه بالعمرة الأولى وحاجته إلى عمرة جديدة.

وبمقتضى هذه القرائن نحمل قوله (عليه السلام): (فليغتسل للإحرام وليهلّ بالحج في صحيحة حفص بن البختري (الرابعة) وقوله (عليه السلام): (خرج محرماً ودخل ملبّياً بالحج) في صحيحة حماد (السادسة) على الاستحباب لحفظ حجته آفاقية وللاحتراز عن فوات الوقوف بعرفة فيما لو رجع إلى مكة وجدد إحرامه منها فإذا خرج من مكة محرماً لقضاء حاجته فإنه يعود ويذهب إلى عرفات مباشرة.

وفي ضوء هذا يظهر النقاش في عدول صاحب العروة (قدس سره) عن القول بالكراهة ونفيها إذا كان واثقاً من عدم فوات الحج كما تقدم في القول الرابع فإنه (قدس سره) ناظر إلى المنشأ الأول دون الثاني الذي يفسّر وجه الكراهة.

ص: 201

فروع ومسائل ملحقة

(الأول) إذا خرج من مكة محلاً؛ فإن عاد في شهر إحرامه السابق عاد مُحلاً وإن عاد في غيره عاد محرماً بعمرة جديدة وإحرام جديد، وتكون عمرته الثانية هذه هي عمرة التمتع حتى تكون متصلة بالحج ولما ورد في صحيحة حماد (قلت: فأي الإحرامين والمتعتين؛ متعة الأولى أو الأخيرة؟ قال: الأخيرة هي عمرته وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته).

(الثاني) وإذا لم تعد الأولى عمرة تمتع؛ فهل تحتاج إلى طواف النساء كما هو شأن العمرة المفردة؟

قال كاشف اللثام (قدس سره): ((وهل عليه حينئذٍ طواف النساء للأولى؟ احتمال كما في الدروس من انقلابها مفردة، ومن إحلاله منها بالتقصير. وربما أتى النساء قبل الخروج، ومن البعيد جداً حرمتهن عليه بعده من غير موجب، وهو أقوى))(1).

وذكر صاحب الرياض (قدس سره) أن ((أحوطهما الأول وإن كان الثاني بظاهر النص والفتاوى أوفق، مضافاً إلى الأصل، وعدم دليل صالح على وجوبه هنا عدا الإطلاق، والمتبادر منه العمرة المبتولة ابتداءً، لا المنقلبة إليها قهراً شرعاً))(2).

فالصحيح عدم الحاجة إلى طواف النساء لعدم الدليل على وجوبه فإنها ليست عمرة مفردة حتى تشملها أدلة وجوب طواف النساء في العمرة المبتولة أي المفردة، وإنما هي بحكمها بعد أن جُرِّدَت من قابليتها لأن تكون عمرة تمتع بفصلها عن الحج، والأصل يقتضي عدم الوجوب.

(الثالث) هل إن العمرة الجديدة التي دخل بها مكة بالشهر اللاحق واجبة أم

ص: 202


1- كشف اللثام: 5/47، ونقله عن الدروس للشهيد الأول (قدس سره): ج1/335، الدرس 87.
2- رياض المسائل: 7/222.

مستحبة؟

قال صاحب العروة (قدس سره): ((وحينئذٍ فيكون الحكم بالإحرام إذا رجع بعد شهر على وجه الاستحباب لا الوجوب لأن العمرة التي هي وظيفة كل شهر ليست واجبة))(1).

نظر (قدس سره) بذلك إلى ما ورد في معتبرة إسحاق (يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه لأن لكل شهر عمرة).

وهو غير تام:-

1- لأن العمرة وإن كانت في نفسها مستحبة ابتداءً لكن الإحرام لدخول مكة واجب مطلقاً إلا في موارد وليس منها ما إذا كان دخوله بعد شهر من إحرامه الأول.

قد ورد صريحاً في صحيحة حمّاد أن عمرة تمتعه تكون الثانية لا الأولى قال (عليه1- السلام): (الأخيرة هي عمرته، وهي المحتبس بها التي وُصِلت بحجّته) فتكون واجبة لأنها جزء من الحج الواجب وداخلة فيه. وتضمنت نفس معتبرة إسحاق معنى الارتهان بالعمرة الثانية.

2- إن التعليل الذي ورد في كلام الإمام (عليه السلام) في معتبرة إسحاق (لأن لكل شهر عمرة) يمكن أن لا يكون لتفسير الإحرام الجديد بعد شهر حتى يتوهم الاستحباب، بل لتفسير عدم لزوم الإحرام قبل شهر اكتفاءً بالإحرام السابق وهو سؤال يُتوقع أن ينقدح عند السائل لارتكاز حرمة دخول مكة من غير إحرام، فلا يصح الاستناد إلى التعليل للقول بالاستحباب فلاحظ وتأمل فإنه دقيق.

3- ظاهر قوله (عليه السلام) في صحيحة حماد: (وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً) ومعتبرة إسحاق (يرجع إلى مكة بعمرة وإن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه) الوجوب بل دلالته على الوجوب أأكد كما قالوا، والتعليل الذي ذكره (قدس سره) غير كافٍ لصرف الوجوب عن ظاهره.

(الرابع) قال صاحب العروة (قدس سره): ((إذا ترك الإحرام مع الدخول في

ص: 203


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/212.

شهر آخر -ولو قلنا بحرمته- لا يكون موجباً لبطلان عمرته السابقة، فيصحّ حجه بعدها))(1).

وسبقه صاحب الجواهر (قدس سره) فقال: ((ليس في كلامهم تعرض لما لو رجع حلالاً بعد شهر ولو آثماً، فهل له الإحرام بالحج ثانياً على عمرته الأولى، أو أنها بطلت للتمتع بالخروج شهراً؟ ولكن الذي يقوى في النظر: الأول، لعدم الدليل على فسادها))(2).

أقول: تقدم منا أنه إذا دخل في غير شهر عمرته السابقة فعليه أن يدخل مكة بإحرام جديد كما ورد في صحيحة حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً، قلت: فأي الإحرامين والمتعتين متعة الأولى أو الأخيرة؟ قال: الأخيرة هي عمرته، وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته)، ومعتبرة إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام) (يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه، لأن لكل شهر عمرة، وهو مرتهن بالحج).

ولو نُظر إلى هذا الوجوب على أنه تكليفي فيكون واجباً مستقلاً لا تضرّ مخالفته بالحج كما قال المصنف (قدس سره) وإن كان المخالف آثماً. ولا تفسد عمرته الأولى ولكن صحيحة حماد صريحة بأن عمرة تمتعه هي الثانية فإذا كان فرضه حج التمتع وهو مشروط بعمرة التمتع فسيفسد الحج لعدم إتيانه بعمرة التمتع التي هي الثانية. فالأمر هنا إرشادي إلى الشرطية.

واختار القول بفساد الحج السيدان الحكيم والخوئي (قدس سرهما)(3) وهو صحيح لكنه مختص بمن كان عليه فرض حج التمتع.

(الخامس) قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((المعروف من كلام الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) أن من دخل مكة بعمرة مفردة في غير أشهر الحج فليس له أن يتمتعبها وإن كان في أشهر الحج فإن له أن يتمتع بها، وإن شاء ذهب حيث شاء والأفضل أن يقيم حتى يحج ويجعلها متعة. ونُقلَ عن

ص: 204


1- مستمسك العروة الوثقى: 11/217.
2- جواهر الكلام: 18/29.
3- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/218.

ابن البراج أن من اعتمر بعمرة غير متمتع بها إلى الحج في شهور الحج ثم أقام بمكة إلى أن أدرك يوم التروية، فعليه أن يحرم بالحج ويخرج إلى منى ويفعل ما يفعله الحاج، ويصير بذلك متمتعاً. ومن دخل مكة بعمرة مفردة في أشهر الحج جاز له أن يقضيها ويخرج إلى أي موضع شاء ما لم يدركه يوم التروية))(1).

وقد تضمن المقطع عدة أحكام:-

1- من دخل مكة بعمرة مفردة في غير أشهر الحج فليس له أن يجعلها عمرة تمتع فيما لو بقي إلى موسم الحج.

2- من دخل مكة بعمرة مفردة في أشهر الحج غير قاصد الحج ثم قصده انقلبت عمرته المفردة إلى عمرة تمتع من حين قصده.

3- إنَّ قصْد الحج مستحبٌ للمعتمر إذا بقي في مكة إلى يوم التروية وليس واجباً كما ذهب إليه القاضي بن البرّاج.

وقد تقدم منا جواز الإتيان بعمرة مفردة في أشهر الحج حتى في العشرة الأولى من ذي الحجة، وأن من أفرد العمرة إذا فرغ منها فله أن يذهب إلى أهله متى شاء، وقد دلّت جملة من الروايات ذكرناها في المقدمة الرابعة (صفحة 165) كموثقة سماعة وصحيحة عمر بن يزيد وصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة إبراهيم بن عمر اليماني، وخبر معاوية بن عمار في المقدمة التاسعة (صفحة 186) وصحيحة نجبة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا دخل المعتمر مكة غير متمتع فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وصلى الركعتين خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) فليلحق بأهله إن شاء)(2).

واستشهد الإمام (عليه السلام) في صحيحة إبراهيم بن عمر اليماني وخبر معاوية بن عمار (في المقدمة الرابعة) بخروج الإمام الحسين (عليه السلام) يوم التروية ونُسبَ إلى بعض المحققين أن خروج الحسين (عليه السلام) كان لضرورة فلا يكون حجة في الدلالة على جواز الخروج مطلقاً(3).

ص: 205


1- الحدائق الناضرة: 16/333.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب5، ح5.
3- ذكره في الحدائق الناضرة: 16/335 وردَّ عليه.

وهو مردود بوجوه:-

1- إن الاستدلال ليس مختصاً بخروج الإمام الحسين (عليه السلام) وإنما بقول الإمام (عليه السلام): (لا بأس) في الصحيحة و (ذهب حيث شاء) في الخبر.

2- إن الإمام (عليه السلام) ذكر خروج الحسين (عليه السلام) كشاهد على الجواز، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) الكبرى في ذيل رواية معاوية بن عمار (ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج) وذكر قضية الإمام (عليه السلام) من باب التطبيق فالاعتراض على الشاهد اعتراض على الإمام (عليه السلام).1- لا دليل على صدور مثل هذا الخروج يوم التروية مرة واحدة في حياة الإمام الحسين (عليه السلام) والذي كان إلى كربلاء قبيل استشهاده (عليه السلام) فربما حصل هذا مرة أخرى بلا تلك الضرورة وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال.

وقد دلّت على التفصيل المذكور في هذه المسألة موثقة سماعة التي تقدمت في المقدمة الثالثة (صفحة 164) عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ودلّ على الشقّ الأول منه ما تقدم في المقدمة الثالثة (صفحة 165) من عدم صحة عمرة التمتع في غير أشهر الحج ودلّ على الشق الثاني -وهو انقلاب عمرته المفردة متعة- صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من دخل مكة معتمراً مفرداً للعمرة ثم خرج كان له، وإن أقام إلى أن يدركه الحج كانت عمرته متعة. وقال: ليس تكون متعة إلا في أشهر الحج)(1)،وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (المفرد للعمرة إن اعتمر ثم أقام للحج بمكة كانت عمرته تامة وحجته ناقصة مكّية)(2) بتقريب أن مما يستلزم كون العمرة تامة الاجتزاء بها للحج.

ص: 206


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 7، ح5، 6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 7، ح5، 6.

وكذلك صحيحة حمران بن أعين المتقدمة (صفحة 200) فإنه نوى العمرة المفردة واجتزأ بها للحج.

وصحيحة معاوية بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل لبّى بالحج مفرداً، ثم دخل مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، قال: فليحل وليجعلها متعة إلا أن يكون ساق الهدي فلا يستطيع أن يحل حتى يبلغ الهدي محله)((1)، بتقريب أنه يحتمل أنه أراد بالحج مفرداً العمرة المفردة لما تقدّم من التعبير عن الإهلال بالعمرة إهلالاً بالحج.

أما قول ابن البرّاج فاستدل له بصحيحة عمر بن يزيد المتقدمة وبصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من اعتمر عمرة مفردة فله أن يخرج إلى أهله متى شاء إلا أن يدركه خروج الناس يوم التروية)((2).

وموثقة سماعة بن مهران المتقدمة إذ ورد فيها (وإن هو أقام إلى الحج فهو متمتع) وصحيحة يعقوب بن شعيب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المعتمر في أشهر الحج؛ قال هي متعة)(3)،بتقريب أن إطلاقها يقتضي ((أن من اعتمر في أشهر الحج ولو عمرة مفردة ليس له الخروج من مكة، لأن عمرته تحسب متعة، والمعتمر بعمرة التمتع محتبس بالحج ليس له الخروج إلى أن يحج))((4)

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العمرة في العشر متعة)(5).

وأيّدوها برواية علي بن أبي حمزة قال: (سأله أبو بصير وأنا حاضر عمّنأهلَّ بالعمرة في أشهر الحج ألهُ أن يرجع؟ قال: ليس في أشهر الحج عمرة يرجع منها إلى أهله، ولكنه يحتبس بمكة حتى يقضي حجه لأنه إنما أحرم لذلك)(6).

وبخبر موسى بن القاسم؛ قال: (أخبرني بعض أصحابنا أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) في عشر من شوال فقال: إني أريد أن أفرد عمرة هذا

ص: 207


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب22، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح 4، 10، 7.
4- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/183.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح 4، 10، 7.
6- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح 4، 10، 7.

الشهر، فقال له: أنت مرتهن بالحج)(1).5).

بتقريب أنه إن شاء أن يخرج خرج، وإن أقام إلى الحج -أي بداية خروج الناس للحج يوم التروية- فهو متمتع وتجري عليه أحكامه من عدم جواز الخروج حتى يقضي حجه.

وخبر(2)

عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) المتقدم.

وفيه:-

1- إنه يمكن حمل صحيحة عمر بن يزيد على جواز التمتع بتلك العمرة المفردة التي أدّاها ما دامت قد وقعت في أشهر الحج وهو ما عقدنا هذا المطلب لأجله فتكون الصحيحة دليلاً على الجواز ومثلها صحيحة يعقوب بن شعيب وصحيحة عبد الرحمن المتقدمتان؛ أما قول الإمام (عليه السلام) في صحيحة عمر بن يزيد (إلا أن يدركه خروج الناس يوم التروية) فيحمل على الاستحباب بقرينة ما ذكرناه، وروى صاحب الوسائل صحيحة عمر بن يزيد وصحيحة يعقوب بن شعيب في (أبواب أقسام الحج، باب 15) أيضاً وفي كلا البابين عنونها بنفس العنوان وهو: أن من اعتمر في أشهر الحج ثم أقام إلى وقت الحج جاز أن يجعلها متعة. أما خبر علي بن أبي حمزة فهو ضعيف السند وهو في عمرة التمتع بدليل قول الإمام (عليه السلام) في الذيل: (إنما أحرم لذلك) أي للحج. وأما خبر موسى بن القاسم فضعيف السند وغير محتمل في نفسه لمعارضته الروايات المعتبرة الكثيرة التي ذكرناها.

2- النقض عليه بخروج الإمام الحسين (عليه السلام) يوم التروية الذي ورد في صحيحة إبراهيم.

3- أما خبر عمر بن يزيد فيمكن فهمه في ضوء المسألة التي حررناها وهي عدم

ص: 208


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح 8.
2- وصفه السيد صاحب العروة (قدس سره) بالصحة (المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/183) وهو ليس كذلك من جهة واحدة على الأقل وهي وقوع الحسين بن حمّاد في السند وهو مجهول الحال.

جواز خروج المتمتع من مكة إذا خشي فوت عرفة وهذه الخشية متحققة إذا خرج بعد هلال ذي الحجة.

ومقتضى الجمع حمل الروايات على الاستحباب إذا دخل شهر ذي الحجة وتأكّده إذا دخل يوم التروية وهو قول المشهور، أما الوجوب الذي قال به ابن البرّاج فغير محتمل قبل يوم التروية لدلالة صحيحة عمر بن يزيد وموثقة سماعة، وأما إذا بلغ يوم التروية ففيه ما تقدم والصحيح ما ذهب إليه المشهور.

(السادس) استظهر السيد الخوئي (قدس سره) فرعاً وقال عنه: ((لم أرَ من تعرّضلذلك)) وحاصله أنَّ ((ما دلّ على انقلاب العمرة المفردة إلى المتعة هل يختص بمن لم يكن قاصداً للحج ولكن من باب الاتفاق بقي إلى أيام الحج أو يشمل الأعم منه ومن القاصد للحج؟

وبعبارة أخرى: من كان مأموراً بالحج متعة هل يجوز له الإتيان بالعمرة المفردة ثم يكتفي بها عن عمرة التمتع أو أنه يلزم عليه الإتيان بعمرة التمتع؟ فمن كان قاصداً للحج وكان مأموراً بالحج متعةً لا تكون عمرته المفردة مورداً للانقلاب إلى المتعة، ويترتب على ذلك آثار منها: أنه لو كانت عمرته مفردة يجوز له الخروج بعدها، وأما إذا انقلبت إلى المتعة وكانت عمرته متعة لا يجوز له الخروج بعدها، لأنه مرتهن ومحتبس بالحج))(1).

واستدل (قدس سره) لذلك بما ورد في موثقة سماعة (قال: من حج معتمراً في شوال ومن نيّته أن يعتمر ويرجع إلى بلاده فلا بأس بذلك، وإن أقام إلى الحج فهو متمتع)(2).

وبخبر معاوية بن عمار الذي مرَّ وصفه بالصحة (صفحة 167) وذكر ذيله (ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج)(3).

وقال (قدس سره): ((إن المستفاد منها عدم الاكتفاء بالعمرة المفردة عن المتعة إذا كان مريداً للحج وقاصداً إليه)).

وبصحيحة الحسن بن علي الوشا ابن بنت إلياس عن أبي الحسن الرضا

ص: 209


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/187.
2- و(3) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح 13، 3.

(عليه السلام) أنه قال: (إذا أهل هلال ذي الحجة ونحن بالمدينة لم يكن لنا أن نحرم إلا بالحج لأنا نحرم من الشجرة وهو الذي وقَّتَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنتم إذا قدمتم من العراق فأهلَّ الهلال فلكم أن تعتمروا، لأن بين أيديكم ذات عرق وغيرها مما وقّت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))(1).

وقرّب دلالتها ب_((أنهم حيث يقصدون الحج لا يشرع لهم العمرة المفردة وإنما عليهم العمرة إلى الحج، فالحكم بالانقلاب يختص بمن لم يكن قاصداً للحج ولكن أراد الحج بالاتفاق، وأما أهل العراق فيتمكنون من الإحرام للحج متعة من ذات عرق ونحوها ويتمكنون من الرجوع إليها، فيجوز لهم أن يعتمروا عمرة مفردة ثم يرجعوا إلى ذات عرق وغيرها ويحرمون منها للتمتع.

وأما أهل المدينة حيث يقصدون الحج ولبعد الطريق بينهم وبين مكة وقلة الوقت فلا يتمكنون من الرجوع إلى ميقاتهم فليس لهم إلا أن يحرموا من الشجرة، كما أن ليس لهم أن يعتمروا عمرة مفردة بل عليهم أن يعتمروا للحج متعة))(2).

ويوجد هنا أكثر من تعليق:-1- أن ما قاله (قدس سره) بعنوان العبارة الأخرى هي مسألة أخرى بحسب صياغة كلامه؛ فهنا مسألتان: الأولى: إن انقلاب العمرة المفردة إلى تمتع هل هو حكم مطلق أم مختص بمن لم يكن قاصداً للحج؟ الثانية: إن هذا الحكم خاص بالحج الندبي أم يعمّ الحج الواجب ومن كان مأموراً بالحج.

والثانية متفرعة عن الأولى وقد عقد (قدس سره) لها جهة مستقلة من البحث (صفحة 167). نعم، يمكن توجيه كلامه (قدس سره)بأنه أراد من ذكر المأمور بالحج

ص: 210


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب7، ح 14.
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/187-189.

متعة لازمه وهو كونه قاصداً الحج عند نية العمرة.

2- يمكن القول أن المسألة موجودة في كلام صاحب العروة (قدس سره) ويظهر منه إطلاق الاجتزاء بها فإنه بعد أن ذكر الروايات ومقتضاها الاجتزاء بالعمرة من غير حاجة إلى نيّة التمتع بها بعدها قال (قدس سره): ((بل يمكن أن يستفاد منها أن التمتع هو الحج عقيب عمرة وقعت في أشهر الحج بأي نحو أتى بها ولا بأس بالعمل بها))(1)

فيمكن أن يشمل الإطلاق كلامه (قدس سره) ما لو أتى بالعمرة المفردة وكان يريد للحج.

3- إن الانقلاب مختص بمن كانت (نيّته أن يعتمر ويرجع إلى بلاده) كما في موثّقة سماعة ولا يكفي فيه ((عدم نية الحج)) كما ذكر (قدس سره) وبينهما فرق إلا أن يقول بالملازمة.

4- إن استدلاله (قدس سره) بصحيحة الوشا مبني على تمامية الإطلاق بلحاظ كون الحج الذي يقصدونه وجوبياً أو ندبياً وإلا يمكن القول أن منع الإمام من الاجتزاء بالعمرة المفردة لعدم شمول حكم الانقلاب للحج الوجوبي واختصاصه بالحج الندبي كما يأتي إن شاء الله تعالى فإنه (عليه السلام) لما كانت وظيفته حج التمتع ولا يستطيع أن يدخل مكة بعمرة مفردة ثم يخرج لعمرة تمتع لضيق الوقت فعليه أن يدخلها بعمرة تمتع أما هم فقادرون على فعل ذلك لذا جاز لهم الدخول بعمرة مفردة. وعلى أي حال فما استظهره (قدس سره) من الاختصاص صحيح بناءً على تمامية الإطلاق في صحيحة الوشا فإنها دليله الوحيد وهو غير بعيد أما موثقة سماعة وخبر معاوية فإنهما وإن كانتا ظاهرتين فيما قال إلا أنهما لا تدلاّن على الاختصاص إلا بناءً على ثبوت مفهوم لها وهو غير ثابت. نعم، يمكن أن تتحقق نتيجة المفهوم، باعتبار أن الفرد الآخر وهو الانقلاب في حالة قصد الحج ابتداءً مما لا دليل عليه فينفى بالأصل. ويمكن أن نستدل على الاختصاص بأنه مقتضى مفروض المسألة لأن الانقلاب يحصل عندما يقصد الشخص الحج وهذا يعني أنه لم يكن

ص: 211


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/186.

قاصداً من قبل، وينضم هذا الدليل إلى موثقة سماعة بناءً على نتيجة المفهوم لها وإلى إطلاق صحيحة الوشا الذي تممناه.

والنتيجة أن الانقلاب مختصّ بمن دخل مكة بعمرة مفردة قاصداً العودة إلىأهله ثم قصد الحج بعد إتمام عمرته.

(السابع) ذكر صاحب العروة (قدس سره) أن الحكم بالانقلاب مختص بالحج الندبي لأنه القدر المتيقن من الأخبار(1).

وهو غير كافٍ للاستدلال لأن وجود قدر متيقن لا يمنع من التمسك بالإطلاق، فمن اعتمر عمرة مفردة في شهر شوال وبقي بصورة أو بأخرى إلى يوم التروية وأراد الحج فإنه يكتفي بعمرته تلك وتجزيه عن عمرة التمتع.

واستدل السيد الحكيم (قدس سره) على الاختصاص بالحج الندبي بأنّ ((النصوص إنما تضمنت الأمر بجعل العمرة المفردة متعة وإلحاقها بحج التمتع، وليس لها نظر إلى تنزيله منزلة حج التمتع الواجب وكونه مصداقاً له مطلقاً، فتفرُغ به الذمة. وحينئذٍ يتعين الاقتصار على الندب لا غير. وبالجملة: الفرد المذكور لمّا لم يكن فرداً حقيقياً وإنما كان تنزيلياً، فشموله للواجب يتوقف على عموم نظر التنزيل وهو غير ثابت))(2).

أقول: كلامه (قدس سره) محجوج بإطلاق الروايات كصحيحة يعقوب بن شعيب قال: (سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن المعتمر في أشهر الحج؟ قال (عليه السلام): هي متعة)(3)

وصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (وإن أقام إلى أن يدركه الحج كانت عمرته متعة)(4).

(الثامن) بمقتضى صحيحة الوشا المتقدمة فإنه يمكن لمن كان فرضه حج التمتع أن يدخل مكة محرماً بعمرة مفردة ما دام في الوقت سعة، ثم يخرج إلى الميقات ويُحرم بعمرة تمتع متّصلة بالحج، ولا تنقلب عمرته المفردة الأولى إلى تمتّع قهراً لما ذكرنا هناك بأن الانقلاب مختصّ بمن لم يكن قاصداً الحج.

ص: 212


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/186.
2- مستمسك العروة الوثقى: 11/195.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 7، ح 4، 5.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 7، ح 4، 5.

أما إذا لم يكن في الوقت سعة للعودة إلى الميقات والإحرام بعمرة التمتع وكان قاصداً الحجّ فليس له إلا التمتع وهو أحد وجوه فهم صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العمرة في العشر متعة)(1)، وهذه الحالة قد تنفعه من جهة تمكّنه من الإتيان بعمرة مفردة أخرى أو أكثر مع مراعاة الفصل المعتبر، إذ لو دخل مكة بعمرة التمتع لم يكن له الإتيان بعمرة متخللة، إلا أنّ في عمله نقصاً في الأجر لأن عمرته ستكون عراقية وحجته مكية بحسب تعبير الإمام (عليه السلام).

(التاسع) نقل صاحب الحدائق (قدس سره) عن العلامة (قدس سره) في كتاب المنتهى والتذكرة: ((بأن من أحرم بالعمرة المتمتع بها إلى الحج في غير أشهر الحج، كانت صحيحة وإن لم يجز التمتع بها، بل تصير عمرة مفردة، قال في المنتهى: ولا ينعقدالإحرام بالعمرة المتمتع بها إلا في أشهر الحج، فإن أحرم بها في غيرها انعقد للعمرة المبتولة)).

واستغرب منه ذلك ورد عليه بأنه ((لا دليل عليه، وبناء العبادات على التوقيف من الشارع، وبأن ما نواه من التمتع باطل، لعدم حصول شرطه الذي هو وقوعه في أشهر الحج كما اعترف به، والعمرة المفردة غير منوية ولا مقصودة، وبالجملة فما ذهب إليه (قدس سره) لا أعرف له وجهاً))(2).

أقول: يمكن أن نذكر أكثر من وجه فكّر فيه العلامة (قدس سره):-

1- إن النسبة بين العمرة المفردة وعمرة التمتع ليست هي التباين، وإنما العمرة المفردة بحسب مصاديقها الواسعة هي الحالة المطلقة أما عمرة التمتع فهي حالة خاصة منها أُسقط من واجباتها طواف النساء كونها مرتبطة بالحج ولا تكون إلا في أشهر الحج فإذا وجد فرد جامع للشرائط إلا قيود الحالة الخاصة وقع مطلقاً نظير ما ذهب إليه المشهور من وقوع العقد المنقطع دائماً إذا لم يذكر الآجل ولم تذكر المدة.

ص: 213


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 7، ح10.
2- الحدائق الناضرة: 16/309.

2- إن هذه العمرة لا يمكن القول ببطلانها لأنها تامة الأجزاء والشرائط بما فيها نية العمرة ولا تكون عمرة تمتع لأنها وقعت في غير أشهر الحج فلا يبقى إلا أن تكون عمرة مفردة ويكملها بطواف النساء.

3- إن دائرة العمرة المفردة أوسع مما يُنوى بها العمرة المفردة فتضم فيما تضمّ المسألة التي نحن فيها، فإن عمرة التمتع التي نواها أولاً لما قطع ارتباطها بالحج لخروج المتمتع من مكة لم تبق عمرة تمتع وانقلبت قهراً إلى عمرة مفردة أو ما بحكمها وإن لم يكن نواها أولاً عمرة مفردة فلا مانع إذن من دخول الفرد الذي ذكره العلامة (قدس سره) فيها.

4- إن نية عمرة التمتع مأخوذة على نحو تعدد المطلوب فهي عمرة متمتع بها إلى الحج فإذا بطل المطلوب الثاني بقي الأول وهو كونها عمرة.

هذا بحسب القواعد أما بحسب الأخبار فيمكن أن نستدل بموثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من حج معتمراً في شوّال...) إلى أن قال (عليه السلام): (وإن اعتمر في شهر رمضان أو قبله وأقام إلى الحج فليس بمتمتع، وإنما هو مجاور أفرد العمرة)(1)

فهو نوى عمرة التمتع في غير أشهر الحج بقرينة أول كلام الإمام (عليه السلام) وبقرينة نفي الإمام (عليه السلام) التمتع عنه لاحقاً، وقد وقعت مفردة.

وقد استَدل صاحب العروة (قدس سره) على وقوعها عمرة مفردة ب_((خبر الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل فرض الحج في غير أشهر الحج.قال: يجعلها عمرة)(2)

وقد يُستشعر ذلك من خبر سعيد الأعرج: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): من تمتع في أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى يحضر الحج من قابل فعليه شاة، وإن تمتع في غير أشهر الحج ثم جاور حتى يحضر الحج فليس عليه دم، إنما هي حجّة مفردة، إنما الأضحى على أهل الأمصار)(3) ثم

ص: 214


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب10، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب11، ح7.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 10، ح1.

نفى البأس فيه للخبرين))(1).

وردّ السيد الحكيم (قدس سره) على الاستدلال بكلا الخبرين: ((أما خبر الأحول فالمفروض فيه الحج في غير أشهر الحج، لا العمرة. ولا ينافيه تأنيث الضمير في قوله (عليه السلام) (فليجعلها عمرة) لجواز رجوعه إلى الحجة فلا يكون مما نحن فيه. اللهم إلا أن يتعدى عن مورده إلى ما نحن فيه. وأما خبر الأعرج فدلالته على انقلاب عمرة التمتع إلى العمرة المفردة ظاهرة، لكن من جهة عدم وجوب حج التمتع على المجاور، لا من جهة وقوعها في غير أشهر الحج، فيكون منافياً للنصوص والإجماعات السابقة))(2).

وفيه:-

1- إننا وجّهنا الحكم على طبق القواعد فحتى لو لم تتم دلالة الروايات على المطلب فإنه تامّ ما دامت لا تنافيه.

2- إن خبر أبي جعفر الأحول ظاهر الدلالة في مراد السيد صاحب العروة (قدس سره) فإن الحج هنا بمعنى عمرة التمتع وقد ذكرنا في مقدمات المسألة أن هذه التسمية واردة في كلام المعصومين (عليهم السلام) مراراً كموثقة سماعة بن مهران: (من حجّ معتمراً في شوّال) الحديث؛ ولأنه لا يوجد مسلم يحجّ في غير أشهر الحج لو حملناه على الحجّ فالمراد به مجموع عمرة التمتع والحج لأنهما لا ينفكّان والمحرم بعمرة التمتع وليس بالحج. أما خبر سعيد الأعرج فإنه غير ظاهر في المطلوب بالشكل الذي قاله المستشكل (قدس سره) لأن معناها أن هذا الذي اعتمر في غير أشهر الحجّ لا يكون حجه تمتعاً وإنما تكون حجته مفردة لعدم صحة عمرة التمتع في غير أشهر الحج، أما وجه استشعار السيد صاحب العروة (قدس سره) فمن جهة وقوع العمرة التي تمتع بها عمرة مفردة بقرينة كون حجّته مفردة. ويدلّ على هذا المعنى ما ورد في موثّقة سماعة بن مهران: (وإن اعتمر في شهر رمضان أو قبله وأقام إلى الحج فليس بمتمتع، وإنما هو

ص: 215


1- مستمسك العروة الوثقى: 11/198.
2- مستمسك العروة الوثقى: 11/199.

مجاور أفرد العمرة)(1).

3- إن المجاورة بمكة التي ينقلب بها الفرض تتحقق بمرور سنتين على ما هو المشهور المنصور لصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة لا متعة له)(2)

وصحيح عمر بن يزيد قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): المجاور بمكة يتمتع بالعمرة إلى الحج إلى سنتين فإذا جاوز سنتين كان قاطناً وليس له أن يتمتع)(3) وظاهر الرواية في المقام أن المتمتع أقام أشهراً فلا يصح تفسير السبب بأنه انقلاب الفرض، ولعل هذا ما عناه السيد الحكيم (قدس سره) في منافاته للنصوص والإجماعات.

(العاشر) الظاهر من المقدمة الثانية (صفحة 162) التي تقتضي دخول عمرة التمتع في الحج وارتباطها به أن من نوى الحج المندوب وأتمّ تمتعه، وجب عليه إكمال الحج ((وعلى ذلك نصّ الشيخ (قدس سره) وجملة من الأصحاب))(3)

والمسألة غير مبتنية على القول بعدم جواز خروج المتمتع من مكة، إذ القائل بالجواز يشترط الوثوق بعدم فوت الحج، خلافاً لما قاله صاحب الحدائق (قدس سره): ((قيل: ويحتمل عدم الوجوب -أي وجوب إتمام الحج- لأنهما نسُكان متغايران. وهو ضعيف. وهذا الاحتمال متّجه على قول من يقول بكراهة الخروج كما قدّمنا عن ابن إدريس والعلامة))(4).

(الحادي عشر) قال صاحب العروة (قدس سره): ((الظاهر أنه لا إشكال في جواز الخروج أثناء عمرة التمتع قبل الإحلال منها))(6)،(5)وساق السيد الخوئي

ص: 216


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 10، ح2.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 9، ح1، 2.
3- الحدائق الناضرة: 14/368.
4- الحدائق الناضرة: 14/368.
5- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/226.

(قدس سره) دليلاً لصاحب العروة حاصله ((إن الروايات المانعة عن الخروج كلّها وردت بعد الفراغ من العمرة، وأما الخروج في الأثناء فلا تشمله الروايات، ومقتضى الأصل هو الجواز)).

واختار السيد الخوئي (قدس سره) القول بعدم الجواز ((لإطلاق النصوص المانعة، فإن عمدة النصوص الواردة في المقام إنما هي صحيحة الحلبي وصحيحة حمّاد، وموضوع المنع فيهما هو الدخول إلى مكة وعدم الخروج منها إلا للحج وأنه مرتهن بحجّه، فلا بد من إتمام العمرة والبقاء في مكة حتى يأتي بالمناسك.

ففي صحيح حمّاد (من دخل مكة متمتعاً في أشهر الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج، فإن عرضت له حاجة إلى عسفان، إلى أن قال: خرج محرماً ودخل ملبّياً بالحج) وفي صحيح الحلبي (عن الرجل يتمتع بالعمرة إلى الحج يريد الخروج إلى الطائف، قال: يهلّ بالحج من مكة وما أحبّ أن يخرج منها إلا محرماً) فإنه لم يفرض فيهما الفراغ من العمل، بل الظاهر منهما أن موضوع السؤال والجواب هو الاشتغال بالأعمال وأنه يخرج وهو مشغول بالأعمال، خصوصاً أن قوله (يتمتع) في صحيح الحلبي ظاهر جداً في كون موضوع الحكم مجرد الدخول في مكة والاشتغال بالأعمال وعدم الفراغ منها، لأنه فعلٌ استقبالي يدلّ على الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف الفعل الماضي فإنه يدل على الفراغ من العمل)).ويوجد أكثر من تعليق على كلام السيد الخوئي (قدس سره):-

1- إننا خرجنا بنتيجة جواز خروج المتمتع من مكة لحاجة وإذا وجدت كراهة في ذلك للمنشأين اللذين ذكرناهما سابقاً فإنهما هنا غير موجودين لخروجه محرماً. فأصل مبناه غير تام في ضوء ما تقدّم.

2- إن ما استظهرناه من معاني الأفعال وإن كان محتملاً في نفسه إلا أنه توجد قرينة على أن السؤال والجواب إنما هو عن الخروج بعد إكمال عمرة التمتع وهي إن الإمام (عليه السلام) أجاب بالخروج محرماً والدخول محرماً وهذا يعني الفراغ من إحرام العمرة وإلا لا معنى لوجوب الإحرام للحج ما دام

ص: 217

متلبساً بإحرام المتعة، فاستظهاره (قدس سره) ممنوع.

3- إن طبيعة السؤال عن الخروج أثناء العمرة لا يكتفي فيه السائل والمجيب بهذه الاستظهارات وإنما يصرّح في السؤال بأن المتمتع هل يجوز له أن يخرج أثناء متعته؟ وهذا أمر وجداني.

4- إن قوله (عليه السلام): (حتى يقضي الحج) وأنه مرتهن بالحج قرينة أخرى على أن مورد المنع هو بعد إتمام العمرة وإلا لكان الجواب: حتى يقضي العمرة والحج أو أنه مرتهن بالعمرة والحج.

وفي ضوء هذه القرائن يُعلم ما في كلامه (قدس سره) من أنه ((لم يفرض فيهما الفراغ من العمل)).

فالصحيح جواز الخروج أثناء عمرة التمتع محرماً بشرط عدم الإخلال بالموالاة في المواضع المشروطة فيها.

ص: 218

البحث الخامس: رمي الجمرات إلى الجدار المستحدث ومن الطوابق العلوية

اشارة

ص: 219

ص: 220

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الخامس:

رمي الجمرات إلى الجدار المستحدث ومن الطوابق العلوية(*)

استحدث في الجمرات الثلاث التي ترمى في منى في السنوات الأخيرة أمران:-

1- بناء جدار طويل يتوجه إليه الحجاج بالرمي بعد أن كانوا يوجهون حصاهم إلى شاخص لا تتجاوز مساحة مقطعه متراً مربعاً.

2- بناء طوابق متعددة فوق الطابق الأرضي وفي كل منها جدار يرميه الحجاج.

ومن هنا انفتح السؤال حول إجزاء الرمي إلى هذا الجدار على طوله الذي قيل أنه يبلغ 26 متراً والرمي الذي في الطوابق العليا غير الطابق الأرضي.

وإذا كان الحكم هو الإجزاء فلا شك أنه يساهم كثيراً في فك الزحام عند رمي الجمرات الذي تسبّب في المئات من الضحايا بسبب التدافع والاختناق لحرص الحجاج على إصابة الأعمدة الشاخصة في مواضع الجمار باعتبار أن المرتكز في أذهانهم هو أن الواجب في الرمي إصابة العمود الشاخص بحيث لو أخطأه لم يُجزِه وعليه الإعادة، وقد نشأ هذا الارتكاز من ذهاب عدد من الفقهاء المتأخرين (قدس الله أرواحهم) إلى أن الجمرة الواجب رميها هو العمود أو البناء كما سننقل عنهم بإذن الله تعالى.

ولكن الفقهاء المعاصرين في الحجاز أفتوا بأن الموضع الواجب رميه هو أرض الجمرة التي يقع الشاخص في وسطها والتي يجتمع فيها الحصى فهم يعتبرون مجتمع الحصى هو موضع الجمرات، وإنما اختلفوا من جهتين:-

1- هل إن العمود الشاخص من الجمرة التي يصحّ رميها بحيث أن العمود لو أزيل فهل يجزي الرمي إلى موضعه؟

ص: 221

2- مساحة الموضع الذي يصح رميه.

قال بعض أعلامهم: ((وقد اتفق الفقهاء على أن الجمرة هي مجتمع الحصا الذي تحت العمود، فإذا وقع الحصا تحت العمود أجزأ.

ولكنهم اختلفوا فيما خرج عن مجتمع الحصا، أو وقع على الشاخص ولم تنزل فذهب بعض علماء الحنفية إلى أن الحصاة إذا وقعت قريباً من الجمرة أجزأت، والقرب حسب العرف فما عُدّ قريباً فهو قريب، وما عد في العرف بعيداً فهو بعيد)).

((وجاء في إرشاد الساري: (والبعد والقرب بحسب العرف، ولذا قال في الفتح فلو وقعت بحيث يقال فيه ليس بقريب منه ولا بعيد فالظاهر أنه لا يجوز احتياطاً).

فبناءً على ما ذهب إليه الحنفية لا يلزم إصابة مجتمع الحصا بالرمي بل لو رمى ووقع قريباً منه أجزأ.وأما بالنسبة للشاخص فليس موضعاً للرمي عند الحنفية، ولكنه علامة للجمرة، ولكن لو وقع على أحد جوانب الشاخص أجزأه للقرب، ولو وقع على قبة الشاخص ولم ينزل عنها لا يجزئه للبعد.

وذهب المالكية في القول المعتمد عندهم إلى أن الشاخص موضع للرمي لأنه يقع عليه اسم الجمرة فيصح للرمي فيه ويجزئ ولو لم تقع الحصاة على مجتمع الحصى، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالجمرة مجتمع الحصى فلا يجزئ ما خرج عنه قال الدردير: (الجمرة هي البناء وما حوله من موضع الحصى، وهو أولى، فإن وقعت الحصاة في شق من البناء أجزأت على التحقيق)، قال الصاوي: (وقيل إن الجمرة اسم للبناء الذي حول المكان فقط محل اجتماع الحصى، وعليه فلا يجزئ ما وقف في البناء ولكن التحقيق الإجزاء).

وعند جمهور الشافعية –كما ذكر النووي-: (الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى فمن أصاب الحصى بالرمي أجزأه، ومن أصاب سائل الحصى الذي ليس هو بمجتمعه لم يجزه، والمراد بمجتمع الحصى في موضعه المعروف).

ص: 222

وأما الشاخص فلا يصح رميه قال ابن حجر الهيتمي: (وعلم من عبارته –يعني النووي- أن الجمرة اسم للمرمى حول الشاخص، ومن ثم لو قلع لم يجز الرمي إلى محله، ولو قصده لم يجزئ).

ويرى بعض علماء الشافعية الإجزاء إذا قصد الشاخص ولو لم تسقط في مجتمع الحصى لأن العامة لا يقصدون بذلك إلا فعل الواجب، والرمي إلى المرمى، وقد حصل فيه بفعل الرمي، قال الشرواني: (وهذا هو الذي يسع عامة الحجيج اليوم).

ويرى الحنابلة أن المرمى مجتمع الحصى لا نفس الشاخص ولا مسيله فلا يجزي عندهم رمي الشاخص.

ويفهم مما سبق أن جمهور العلماء يرون أن محل الرمي هو مجتمع الحصى ويزيد الحنفية جواز وقوع الحصى قريباً من المرمى، ويرى المالكية وبعض الشافعية جواز رمي الشاخص أو محله))(1).

ونقل بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) عن مقال بعنوان (الجمرات) نُشر في العدد (49) سنة (1421 ه_) من مجلة (البحوث الفقهية المعاصرة) قوله: ((أما العلم الشاخص في وسط الجمرات، فقد اختلف الفقهاء في احتسابه جزءاً من المرمى، أو خارجاً عنه، نظراً لاختلافهم في وجوده على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)ويترتب على هذا خلاف فقهي في صحّة رمي مكان الشاخص لو أُزيل، وفي بقاء حصى الجمار عليه بشقوق جداره في حالة وجوده أو على قمته. فمن يذهب إلى وجود الشاخص على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعدّ مكانه جزءاً من المرمى في حالي بقائه أو زواله، يصحّ الرمي إلى مكانها، وما بقي من الجمار بين شقوق الجدار.

ص: 223


1- من مقال بعنوان (توسعة أحواض الجمرات) مؤرخ في 3/ذو الحجة/1426 للأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد الواحد الخميس الأستاذ بالدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

ومن يرى استحداثه بعد عهد النبوّة يرى أنّه _ أي الشاخص _ لا يعدّ من المرمى، فلا يصحّ الرمي إلى مكانها بعد زوالها، أو بقاء حصى الجمار عليه، أو بين شقوق جدارها.

فمن ثَمّ يطرح الفقهاء عند هذا الموضع السؤال التالي: هل أرض العلم (الشاخص) من أصل المرمى بحيث يجزئ الرمي إلى محلّه لو أزيل، أو لا؟ خلاف.

ذهب ابن حجر إلى أنّها ليست من المرمى، فلا يجزئ الرمي إليها لو أُزيل العَلَم، وقال العلاّمة إبراهيم الباجوري تبعاً لابن قاسم: هي منه، ويجزي الرمي إليه لو أُزيل، وأما ذات العلم المبني فليس بمرمى، فلا يكفي الرمي إلى العلم المنصوب في الجمرة.

وعند العلاّمة محمد الرملي: يجزئ الرمي إلى العَلَم إذا وقع في المرمى، قال: لأنّ العامة لا يقصدون بذلك إلاّ فعل الواجب.

وتتعدّد اجتهادات العلماء في عدّ مكان الشاخص لو أُزيل من الجمرة أم لا، وهل يصح الرمي إليه؟

تعرض لهذا الموضوع أيضاً العلاّمة الشيخ محمود الشكري بن السيد إسماعيل حافظ كُتب الحرم المكي قائلاً:

واختلف في أرض الشاخص، قيل: إنّها مجتمع الحصى، وقيل: لا، والأوّل هو الأرجح والأقوى، وعلى كلا القولين يجوز الرمي إليه لو أُزيل الشاخص; لأنّها من المرمى الحقيقي على القول الأول، ومن المرمى الحكمي على القول الثاني))(1).

وأما من حيث مساحة الرمي فقد ورد عندهم تحديدها بدائرة نصف قطرها ثلاثة أذرع (أي متر ونصف تقريباً) مركزها الشاخص؛ قال محب الدين الطبري المتوفى سنة 494 ه_: ((لم يذكروا في المرمى حدّاً معلوماً، غير أنّ كلّ

ص: 224


1- الجمرات بين الماضي والحاضر، لسماحة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله الشريف)، وهو منشور على موقعه الإلكتروني: http://www.makaremshirazi.org/arabic

جمرة عليها عَلَمٌ، فينبغي أن يرمي تحته على الأرض، ولا يبعد عنه احتياطاً، وحدَّهُ بعض المتأخرين بثلاثة أذرع من سائر الجوانب إلاّ في جمرة العقبة فليس لها إلاّ وجه واحد))(1).

والظاهر أن التحديد اجتهاد منه وتخمين، فقد حُكي عن حواشي الشيرواني قوله: ((الجمرة: مجتمع الحصى، حدَّه الجمّال الطبري بأنّه ما كان بينه وبين أهل الجمرة ثلاثة أذرع فقط، وهذا التحديد من تفقّهه وكأنه قرب به مجتمع الحصى غير السائل، والمشاهدة تؤيده فإنّ مجتمعه غالباً لا ينقص عن ذلك.تنبيه: لو فرش في جميع المرمى أحجاراً فأثبتت، كفى الرمي عليها، كما هو ظاهر; لأن المرمى وإن كان هو الأرض إلاّ أنّ الأحجار المثبتة فيه صارت تعدّ منه ويعدّ الرمي عليها رمياً على تلك الأرض))(2).

المسألة في كلمات الأصحاب (قدس الله أرواحهم):

في ضوء ما تقدم يكون الأساس الذي ننطلق منه للإجابة عن السؤال محل البحث هو تحديد الموضع الواجب رميه هل هو العمود الشاخص والبناء القائم أم هو الأرض حوله التي تجتمع فيها الحصى وهذا لا يعني الملازمة بين الإجزاء وكون محل الرمي هي الأرض مثلاً، فإن بعض من عرّف الجمرة هو العمود ومع ذلك قال بإجزاء الرمي من الطبقة العليا(3)،وعلى أي حال فإن تحديد الموضع الواجب رميه تترتب عليه ثمرات عديدة:

(منها) أنه لو أصابت الحصاة العمود وذهبت بعيداً عن مجتمع الحصى أو ثبتت في بعض شقوقه ولم تسقط على الأرض فهل هذا الرمي مجزٍ؟

ص: 225


1- المصدر السابق، وقد نقله عن كتاب مرآة الحرمين لإبراهيم رفعت باشا: 1/48، نقلاً عن كتاب الموسوعة الفقهية، طبع الكويت: 15/276.
2- حكاه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في المصدر السابق عن حواشي الشيرواني: 4/134.
3- مناسك الحج والعمرة للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 213، المسألة (549)، ولم يبيّن (دام ظله) الكيفية المجزية.

(ومنها) أن الرامي لو نوى إصابة العمود لا الأرض فهل في ذلك إخلال بالفعل.

والذي يظهر من كلمات فقهائنا أن الأقوال في المسألة عديدة:

(القول الأول) أنه العمود الشاخص أو البناء القائم:

ويستفاد هذا القول من كلمات جملة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) مطابقةً أو اقتضاءً فقد صرّح بذلك سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بقوله: ((والجمرة عبارة عن حائط أو اسطوانة، محاطة بحوض أو جدار دائري يقف الحجاج أمامه ويرمون الاسطوانة بالأحجار السبعة))(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((إذا زيد على الجمرة في ارتفاعها ففي الاجتزاء برمي المقدار الزائد إشكال فالأحوط أن يرمي المقدار الذي كان سابقاً، فإن لم يتمكن من ذلك رمى المقدار الزائد بنفسه على الأحوط استحباباً واستناب شخصاً آخر وجوباً لرمي المقدار المزيد عليه))(2).ووافقه السيد السيستاني(3)

(دام ظله الشريف)، وكذا سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلا أنه احتاط استحباباً في رمي المقدار الزائد بنفسه(4).

أقول: يمكن توجيه هذه الكلمات بما يناسب القول الثاني كما سيأتي عند الاستدلال عليه بإذن الله تعالى.

وقال الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): ((الجمرات الثلاث هي اسطوانات مبنية من الحجر، وهذه الجمرات الثلاث مثال للشيطان، لأنه لعنه الله تعالى عرض لإبراهيم (عليه السلام) بمنى في مكان الجمرة))(5)،وقال في مسألة

ص: 226


1- ما وراء الفقه: 2/239، طبعة بيروت.
2- مناسك الحج للسيد الخوئي (قدس سره)، المسألة 379.
3- مناسك الحج للسيد السيستاني: 194، المسألة 379.
4- منهج الصالحين: 1/380، المسألة 2102.
5- هامش المسألة 532 من مناسك الحج والعمرة، صفحة 209.

أخرى: ((فلو كان قريباً من الجمرة اسطوانة أو حائط مثلاً فرماها اشتباهاً لظنه أنها جمرة يجب عليه الرمي مرة أخرى))(1).

وفي حدود تتبعي لأقوال الفقهاء فإن أول من قطع بوجوب إصابة البناء هو السيد صاحب المدارك (قدس سره) فإنه بعد أن نقل قول الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس: ((والجمرة اسم لموضع الرمي، وهو البناء أو موضعه مما يجتمع من الحصى، وقيل: هو مجتمع الحصى لا السائل منه، وصرح علي بن بابويه بأنه الأرض))(2)

قال (قدس سره): ((وينبغي القطع باعتبار إصابة البناء مع وجوده لأنه المعروف الآن من لفظ الجمرة، ولعدم تيقن الخروج من العهدة بدونه، أما مع زواله فالظاهر الاكتفاء بإصابة موضعه))(3).

وتبعه الفاضل الهندي في كشف اللثام، قال (قدس سره): ((وهي –أي الجمرة- الميل المبني أو موضعه إن لم يكن، من الجمار بمعنى الأحجار الصغار))(4).

وقال الشيخ النراقي (قدس سره): ((وهي –أي جمرة العقبة- منصوبة اليوم في جدار عظيم متصل بتلّ بحيث تظهر جهتها الواحدة))(5).(القول الثاني) إنه الأرض التي وضع الشاخص علامة عليها ويجتمع فيها حصى الجمار:

وقد نسبه الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس إلى علي بن بابويه والد الصدوق (رضي الله عنهما) في النص المنقول آنفاً، ولعله يشير بذلك إلى ما ورد في فقه الرضا الذي رجحنا أنه رسالة لوالد الصدوق (رضي الله عنهما)

ص: 227


1- المصدر السابق: 213 المسألة 542.
2- الدروس: 124.
3- مدارك الأحكام: 8/9.
4- كشف اللثام: 6/114.
5- مستند الشيعة: 12/283.

فقد جاء فيه: ((فإن رميت ودفعت في محمل وانحدرت منه إلى الأرض أجزأت عنك، وإن بقيت في المحمل لم تجز عنك وارم مكانها أخرى))(1).

وممن صرّح بذلك أبو الصلاح الحلبي (قدس سره) في الكافي: ((فإن رمى حصاة فوقعت في محمل أو على ظهر بعير ثم سقطت على الأرض أجزأت، وإلا فعليه أن يرمي عوضاً عنها))(2).

وحكى السيد ابن زهرة (قدس سره) الإجماع عليه بقوله: ((وإذا رمى حصاة فوقعت في محمل أو على ظهر بعير ثم سقطت على الأرض أجزأت ... كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه))(3).

وقال الشيخ الطريحي (قدس سره) (ت 1085 هج_) في مجمع البحرين مادة (جمر): ((والجمرات مجتمع الحصى بمنى فكل كومة من الحصى جمرة، والجمع جمرات)).

واستوجه هذا القول صاحب الجواهر (قدس سره) فإنه بعد أن نقل كلامَي الشهيد الأول في الدروس وكاشف اللثام (قدس الله روحيهما) المتقدمين نقل كلام صاحب المدارك (قدس سره) المتقدم وقال: ((وإليه يرجع ما سمعته من الدروس وكشف اللثام إلا أنه لا تقييد في الأول بالزوال، ولعله الوجه، لاستبعاد توقف الصدق عليه، ويمكن كون المراد بها المحل بأحواله التي منها الارتفاع ببناء أو غيره أو الانخفاض، لكن ستسمع ما في خبر أبي غسان(4)،بناءً على إرادة الأخبار بحيطان فيه عن الجمار كما هو محتمل، بل لعله الظاهر، إلا أنه محتمل البناء على المعهود الغالب))(5).

ص: 228


1- جامع أحاديث الشيعة: 14/231، أبواب رمي الجمار، باب 12، ح2.
2- الكافي: 199.
3- غنية النزوع، قسم الفروع: 189.
4- خبر أبي غسان ستأتي الإشارة إليه عند الاستدلال على القول الأول بإذن الله تعالى.
5- جواهر الكلام: 19/107.

وحكى السيد السبزواري (قدس سره) عن صاحب الجواهر (قدس سره) أنه ((صرّح بكفاية الرمي إلى المحل في النجاة –أي رسالته العملية نجاة العباد- أيضاً))(1).

ويستفاد هذا القول ظهوراً أو اقتضاءً من كلمات عدد آخر، كالعلامة (قدس سره) في التذكرة والمنتهى، قال (قدس سره): ((إذا رمى بحصاة فوقعت على الأرض ثم مرّت على سنتها(2)،أو أصابت شيئاً صلباً كالمحمل وشبهه، ثم وقعت في المرمى بعد ذلك أجزأه، لأن وقوعها في المرمى بفعله ورميه))(3).

وقال الشيخ الصدوق (قدس سره): ((فإن سقطت منك حصاة في الجمرة أو في طريقك ...))(4)

بتقريب ((أن التعبير بالسقوط في الجمرة دليل على أن الجمرة هي بقعة الأرض ومحل اجتماع الحصى))(5).

وقال الشيخ (قدس سره) في المبسوط: ((فإذا وقعت على مكان أعلى من الجمرة وتدحرجت إليها أجزأه))(6).

وعبّر المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع عن نفس المعنى بقوله: ((فلو وقعت على شيء وانحدرت على الجمرة جاز))(7)

وقال مثل ذلك العلامة (قدس سره) في القواعد وابن فهد الحلي (قدس سره) في المحرر، والشهيد الثاني

ص: 229


1- مهذب الأحكام: 14/255، طبعة النجف.
2- أسنتت الأرض إذا أجدبت ولم يصبها المطر، فلعل المراد بسنتها سطحها الأجرد.
3- المنتهى: 2/731، الطبعة القديمة، تذكرة الفقهاء: 8/221.
4- من لا يحضره الفقيه، ج2، باب: سياق مناسك الحج، عنوان: الرجوع إلى منى ورمي الجمار.
5- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في المصدر المتقدم.
6- المبسوط: 1/369.
7- شرائع الإسلام: 1/192.

(قدس سره) في المسالك والمحقق الثاني (قدس سره) في المسالك والسيد صاحب الرياض (قدس سره)(1).فائدة: أورد بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) قولاً ثالثاً بالتخيير في الرمي، قال (دام ظله): ((المجموعة الخامسة وتشمل بعض متأخري الفقهاء الذين قالوا بكفاية الرمي إلى الشاخص أو محل اجتماع الحصى، وبعبارة أخرى إنه يستفاد التخيير من كلامهم))(2)

وذكر قول الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس وكلمة كاشف اللثام.

وفيه: إنه ليس قولاً مستقلاً أي لا يصح افتراض قول ثالث في المسألة بالتخيير لأن من يقول بإجزاء الرمي إلى مجتمع الحصى لا يجعله بشرط لا عن رمي العمود أي أنه لا يجعل العمود خارج محل الرمي بل هو في وسطه فذكر البناء إشارة إلى الواقع الخارجي ومن ذكر الجزء ثم الكل.

أما كلمة كاشف اللثام فقد نقلها مبتورة ((وهي الميل المبني أو موضعه)) والصحيح نقلها كاملة كما قدّمنا لتدل على القول الأول.

ص: 230


1- قواعد الأحكام: 1/439، سلسلة الينابيع الفقهية: 3/528، مسالك الأفهام: 2/292، جامع المقاصد: 3/235، رياض المسائل: 6/412.
2- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في المصدر المتقدم.

مقدمتان: لغوية وتأريخية

وقبل الدخول في الاستدلال نؤسس مقدمتين:

(المقدمة الأولى) لغوية، في معنى الجمرة:

من خلال استقراء المعاجم اللغوية والكتب الشارحة لمفردات الأحاديث الشريفة(1)

يتحصل للجمرة عدة معانٍ:-

1- الجَمْرة بفتحٍ فسكون: النار المتقدة والقطعة الملتهبة من النار وإذا برد فهو فحم والجمع: جَمْرٌ.

2- الجمرة: القبيلة انضمت فصارت يداً واحدة، وكل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم، لا يخالفون أحداً ولا ينضمون إلى أحد، وتكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لقراع القبائل.

3- تجمّر القوم على الأمر تجميراً أي تجمعوا عليه وانضموا، وهذا جمير القوم أي تجمعهم، وجمّرت المرأة شعرها أي جمعته وعقدته في قفاها ولم ترسله، والمجمر الذي عليه الحلق هو الذي يضفر رأسه.

4- الجمرة: الحصاة واحدة الجمار، والعرب تسمي صغار الحصى جماراً، وجمار المناسك وجمراتها الحصيات التي يرمى بها في مكة، والتجمير: رمي الجمار، ومنه سمي التطهير بالحجارة استجماراً وورد في الخبر (إذا استجمرت فأوتر) أي قف على الفرد.

5- أجمر الرجل أو البعير: أسرع في السير وعدى، وورد في الحديث أن آدم (عليه السلام) رمى إبليس (عليه اللعنة) بمنى فأجمر بين يديه أي أسرع.

6- جمر الجند تجميراً أي حبسهم وأبقاهم في ثغور الأعداء ولم يقفلهم إلى أهاليهم وقد ورد النهي عنه لأن فيه فتنة لهم.

7- أجمرتُ الثوب إذا بخّرته بالطيب، وفي الحديث: إذا أجمرتم الميت فجمّروه ثلاثاً؛ أي إذا بخّرتموه بالطيب، ومنه نعيم المُجمِّر الذي كان يلي إجمار

ص: 231


1- راجع مجمع البحرين للطريحي، وتاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي، والنهاية لابن الأثير الجزري، ولسان العرب لابن منظور، والمصباح المنير للفيومي.

مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

8- عن لسان العرب لابن منظور: سُئل أبو العباس عن الجمار بمنى فقال: أصلها من جَمَرْتُهُ و دَهَرْتُهُ إذا نحّيتُه، باعتبار أن إبراهيم (عليه السلام) رمى إبليس عليه اللعنة في تلك المواضع لتنحيته.

9- الجمرة: موضع الجمار بمنى سمي جمرة لأنها ترمى بالجمار أي الحصى، وقيل لأنها مجمع الحصى التي يرمى بها من الجمرة وهي اجتماع القبيلة على من ناوأها، فالجمرات مجتمع الحصى بمنى، فكل كومة من الحصى جمرة وكل شيء جمعته فقد جمرته، وقيل سميت به من قولهم أجمر إذا أسرع.

وفي معجم مقاييس اللغة لابن فارس ((الجيم والميم والراء: أصل واحد يدل على التجمع)).

أقول: مما تقدم يظهر أن الوجه الأرجح الذي أجمعوا عليه لتسمية الجمرة هو كونها مجتمع الحصى لأن الأصل في الجمر هو التجمع، وذكرت وجوه أخرى: (منها) من الجمار أي الحصى لأنها ترمى بها، (ومنها) من الإسراع للرواية المذكورة، أو لما ورد من أن الناسك يرمي جمرة العقبة ويذهب ولا يتوقف(1)،(ومنها) من التنحية لأن إبراهيم (عليه السلام) نحى إبليس برميه كما تقدم.

ويذكر أستاذنا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وجهاً آخر بقوله: ((ولعل من المستطاع أن تستفيد رمزية الجمرة عن الشيطان من تسميتها بهذا الاسمنفسه، باعتبار أن الجمرة من النار، وخلقة الشيطان من النار كما نص عليه القرآن الكريم))(2).

(المقدمة الثانية) تأريخية، في المراحل التي مرت على هذا النسك:

ص: 232


1- في الخبر (رمى أبو عبد الله (عليه السلام) الجمرة العظمى فرأى الناس وقوفاً فقام في وسطهم، ثم نادى بأعلى صوته: أيها الناس إن هذا ليس بموقف، ثلاث مرات، ففعلت) (وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 10، ح4، 6.
2- ما وراء الفقه: 2/284، طبعة بيروت.

تصرّح الروايات بأن تأريخ رمي الجمرات يعود إلى أبي البشر آدم (عليه السلام)، ففي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أول من رمى الجمار آدم (عليه السلام)، وقال: أتى جبرئيل (عليه السلام) إبراهيم (عليه السلام) فقال: ارمِ يا إبراهيم، فرمى جمرة العقبة وذلك أن الشيطان تمثّل له عندها)(1)

وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رمي الجمار لمَ جُعل؟ قال: لأن إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم (عليه السلام) في موضع الجمار فرجمه إبراهيم فجرت السنة بذلك)(2).

ومن هنا كان ((رمي الجمرات بمنى من مناسك الحج وشعائره، وهو من شعائر الحج كذلك المعروفة في المحجات الأخرى من جزيرة العرب، كما كان معروفاً عند غير العرب أيضاً، وقد أشير إليه في التوراة))(2).

ولم يتحدث المؤرخون عن أي تغيير وقع على الجمرات في عهد النبي إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) أو عندما تولت قبيلة جرهم أمر البيت بعده (عليه السلام) ويرجح أن تكون الجمرات معلومة الموضع في هذا الوقت بشارات معينة أو بمعالم تُعرف بها أو بدلالة العارفين بالمواضع فقد ((كان أمر الإفاضة بيد رجل من أسرة تناوبت هذا العمل أباً عن جد، وقد اشتهر منهم رجل يعرف ب_(أبي سيارة) كان يجيز الناس من المزدلفة إلى منى أربعين سنة))(3).

ص: 233


1- و (2) رواهما الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) بسند صحيح في علل الشرائع: 437، باب علة رمي الجمار، وأرسلهما في الفقيه ومنه أخرجهما صاحب الوسائل (أبواب رمي جمرة العقبة، باب 1، ح5،6) لذا وصمهما بعض المصادر بالإرسال.
2- (3) المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي: 6/385، وفيه عن سفر التكوين، الإصحاح الحادي والثلاثين: (وقال لابان ليعقوب: هو ذا هذه الرجمة، وهو ذا النصب الذي وضعت بيني وبينك). أقول: ظاهر النص أنه بعيد عن معنى رمي الجمرات وإن ورد اللفظ فيه.
3- المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام: 6/387

لكن ((تطوراً هاماً طرأ على الجمرات في عهد قبيلة خزاعة التي أخرجت قبيلة جرهم من الحرم وحلّت محلها في ولاية البيت الحرام وقد جاء هذا التطور عندما قام عمرو بن لحي الخزاعي(1)

بتغيير دين الحنيفية –دين إبراهيم (عليه السلام)- إذ نصبالأوثان (الأصنام) حول الكعبة وأمر قومه بعبادتها. وفضلا ًعن ذلك فقد نصب بمنى سبعة أصنام منها صنم على الجمرة الصغرى وصنم على الجمرة الوسطى وصنم على الجمرة العظمى، وقسّم على الأصنام السبعة حصى الجمار وهي إحدى وعشرون حصاة يرمى كل وثن منها بثلاث حصيات ويقال للوثن حين يرمى: أنت أكبر من فلان الصنم الذي يرمى قبله. وقد عرفت بذلك جمرات منى الثلاث في الجاهلية بالجمرة الصغرى ثم الجمرة الوسطى ثم الجمرة الكبرى أو العظمى.

هذا وقد فسر وضع تلك الأصنام على الجمرات بأن العرب قاموا بتشخيص الشيطان بها حتى يرجم. ويرجح أن يكون ذلك سبب إطلاق كلمة شاخص على الدعامة التي تعلو الجمرات مما يوجب استبدال هذا الاسم بآخر))(2).

في ضوء هذا يكون من الوهم ما قيل ((إن رمي الجمرات استمرار إسلامي لرجم قبر (أبي رغال) الذي دل أبرهة الأشرم –الذي كان قاصداً لهدم الكعبة- على مكة، وإن باء ذلك التخطيط بالفشل إلا أن العرب رجمت قبر أبي رغال وفي ذلك يقول جرير عن الفرزدق:

إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما ترمون قبر أبي رغالِ

ص: 234


1- الذي انتقلت إليه الرئاسة وولاية البيت حتى انطوت العرب تحت لوائه تأتمر بأمره وتمتثل إليه في كل ما يبتدعه من أمور، وكان أمره مطاعاً بمكة لا يعصى، فكان لا يبتدع بدعة إلا اتخذوها ديناً متبعاً.
2- د. طه عبد القادر عمارة الأستاذ المساعد في مركز أبحاث الحج التابع لوزارة التعليم العالي في المملكة: (تأريخ الجمرات بوادي منى في مكة المكرمة: 6).

وأقرّ الإسلام ذلك الرجم فأصبح بشكله الجديد رمياً للجمرات))(1).

وما قاله آخر من أن ((أهل الأخبار يُرجِعون مبدأ رمي الجمرات إلى عمرو بن لحي))(2).

وقد بقيت هذه الأصنام حتى أزيلت بعد عام الفتح وإبلاغ أمير المؤمنين (عليه السلام) سورة براءة ولا شك أنها لم تكن موجودة حينما حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وجدد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العمل بسنن التوحيد الخالص «مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (النحل: 123).

وقد ورد(3)

وصف مواضع الجمرات في حج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلامات كوصف الأولى بأنها ((التي تلي مسجد منى)) أو ((التي

ص: 235


1- حكاه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في كتاب (فلسفة الحج) و (ما وراء الفقه: 2/240) وردّ عليه بوجوه.
2- المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي: 6/386.
3- الوقائع التأريخية من هنا إلى آخر المقدمة التأريخية ملخّصة من كتاب (تأريخ الجمرات بوادي منى في مكة المكرمة) المتقدم ذكره وقد أخذها من عدة مصادر نذكر أهمها لمن يريد تفاصيل أوسع:- 1- (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه) محمد بن إسحاق الفاكهي المكي. 2- (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) لابن عقبة بن الأزرق الشهير بالأزرقي. 3- (التأريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) محمد بن طاهر الكردي. 4- (قرة العين في أوصاف الحرمين الشريفين) محمد المحجوبي المغربي – مخطوط. 5- (الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة) للجزيري. 6- (مرآة الحرمين) إبراهيم رفعت باشا. 7- (رمي الجمرات) للدكتور شرف بن علي الشريف، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث، جامعة أم القرى. 8- (حدود حمى المشاعر) مقال للشيخ عبد الله البسّام نُشر في مجلة العرب، محرم –صفر/1408، الرياض.

تلي المنحر))ووصف الكبرى بأنها ((الجمرة التي عند الشجرة))(1)

أو ((التي عند العقبة)) لأنها كانت تقع في مكان ضيق بين الجبلين –وهو معنى العقبة-، وأصبح من السنة عدم الوقوف عندها، ولم يرد ذكر لأعلام كانت قائمة على مرمى الجمرات ولا عن تحديدات لشكل أو مساحة أو هيأة أو ارتفاع الجمرات التي أمر فيها المسلمين أن يأخذوا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مناسكهم.

وورد في بعض المصادر أن الخليفة الثاني أصعد في بعض البنيان –بنيان العقبة- فرمى الجمرة من ثم، لكن عبد الله بن مسعود أنكر ذلك ورمى من بطن الوادي وقال: (من هاهنا والذي لا إله غيره رماها الذي أنزلت عليه سورة البقرة) ويظهر من النصوص عدم وجود علامات غير هذه وأمثالها، كرواية عطاء بن أبي رباح قال: (سألت ابن عباس فقلت: إني توسطت الجمرة فرميت من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ...) وعن نافع أنه قال: (كان ابن عمر يقوم عند الجمرة الوسطى هذه الصخرة السابلة(2)

التي في الجبل) وهذا يعني ارتفاع مرمى هذه الجمرة عن مستوى وادي منى وهو مطابق لوصف الشافعي في القرن الثاني حيث ذكر أن الرامي ((يترك الجمرة الوسطى بيمين لأنها على أكمة لا يمكنه غير ذلك)) ويبدو أن كثرة الأتربة التي جلبتها السيول غطت تلك الصخرة في زمنه فأصبحت الجمرة على شكل تل صغير وأفتى

ص: 236


1- في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن يزيد (أنه كان مع عبد الله بن مسعود فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى بالشجرة اعترضها فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة). وبقيت الشجرة معلماً للجمرة حتى قطعت، ولم يحدد المصدر (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه للفاكهي: ج4) تأريخ قطعها لكنه روى الحادثة بسنده عن قتادة (كانت شجرة عند الجمرة، وكانت تعبد –يعني في الجاهلية- قال: فأمر السلطان بها فقطعت) وقد توفي قتادة بن دعامة في العقد الثاني من القرن الثاني فيكون الحدث قبل ذلك.
2- السابلة تعني الصخرة التي تقع في وادي منى في أسفل جبلها الشمالي (ثبير) وهي منه كالستر إذا أرسل وأرخي، ويمكن أن تسلك لأن السابلة من الطرق المسلوكة (من المصدر عن القاموس المحيط للفيروز آبادي).

الشافعي أنه ((من رمى الجمرة بحصاة فأصابت إنساناً أو محملاً ثم استنت(1)

حتى أصابت موضع الحصى من الجمرة أجزأت عنه)).((ومما ورد عن الجمرة الأولى التي تقع إلى الغرب مباشرة من مسجد الخيف أن الطريق الأعظم (الطريق الوسطى) يقع حيالها، وهو الطريق الذي سلكه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم النحر عند قدومه من المزدلفة عبر منى ليرمي جمرة العقبة وورد أن الدكان الذي يقع في حد الجمرة يقوم بينها وبين ذلك الطريق. ويعني ذلك أن دكاناً كان يقع في محاذاة الجمرة الأولى بين تلك الجمرة وبين البداية الشرقية لذلك الطريق الأعظم.

ومن ثم كان ذلك الدكان وبداية الطريق الأعظم معلمين يحددان موقع تلك الجمرة في هذه الفترة ويُسترشد بهما عند رميها.

ولأن موضع جمرة العقبة –وهو طريق العقبة (المسيل)- كان ضيقاً يلاقي فيه الحجاج مشقة كبيرة عند المرور منه، ولذلك أمرت السيدة زبيدة أم الخليفة العباسي محمد الأمين بن الخليفة هارون الرشيد الذي حكم فيما بين سنتي (193-198 ه_/808-813 م) بزيادة سعة هذا الموضع وتبليطه بالحجارة. وقد نتج عن ذلك اتساع طريق العقبة (المسيل) الذي يقع في النهاية الغربية لبطن وادي منى إلى الجنوب الغربي من جمرة العقبة عما كان عليه من قبل.

ومن ثم فإن توسعة هذا الطريق كانت أول توسعة أحدثت في وادي منى لإيجاد المساحة الكافية لتيسير حركة الحجاج عند أدائهم لنسك رمي الجمار.

ووقع في سنة (228 ه_/842 م) مطر شديد بمنى لم يشهد مثله، وكان الناس يقفون عند جمرة العقبة يرمونها، فسقطت صخرة من أعلى الجبل الذي يقع خلف الجمرة قتلت جماعة من الحجاج. ويتضح من ذلك الحدث مدى تأثير الأمطار والسيول السلبي على تأدية الحجاج لمناسكهم خاصة في وادي منى الذي تكتنفه الجبال من جهتيه الشمالية والجنوبية. وفضلاً عن ذلك فقد ذكر

ص: 237


1- استنت: تغير اتجاه حركتها، ومنها استن الفرس: تقمّص، من المصدر عن الصحاح في اللغة والعلوم للأخوين مرعشلي.

التأثير السلبي للسيول في هذا القرن وما نتج عنه من تهدم لعمائر بمنى عندما وقع سيل في سنة (240ه_/855 م) هدم مسجد الخيف ودار الإمارة بمنى والعقبة المعروفة بجمرة العقبة، والهدم يستدعي تقدم البناء. وتجدر الإشارة إلى أنه قد قصد بالعقبة التي هدمت هنا الجدار الذي بني عليها والذي تقدم ذكره عند رمي عمر بن الخطاب لجمرتها.

وقد ورد أن جمرة العقبة كانت في سنة (241 ه_/854 م) زائلة عن موضعها، أزالها جهال الناس برميهم الحصى، وغفل عنها حتى أزيحت (أزيلت) عن موضعها شيئاً يسيراً منها ومن فوقها.

ويتضح من النص السابق أن مرمى الجمرة قد أزيح أو أزيل عن موضعه أي أنه قد أصبح في موضع آخر غير مكانه الأصلي. ومن ثم أرسل الخليفة العباسي المتوكل على الله (232 ه_ - 247 ه_/846 م-861م) في سنة (241 ه_/855 م) رجلاً من أهل الصناعة يدعى إسحاق بن سلمة الصائغ ومعه مجموعة من الصناع لعمل تجديدات في الكعبة المشرفة ومنى. ومن بين تلك التجديدات قيامه برد جمرة العقبة إلى موضعها الذي كانت عليه والذي ظلت بعد ذلك عليه، وبنى من ورائها جداراً أعلى عليها ومسجداً متصلاً بذلك الجدار لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها. وكان بناء هذا الجدار والمسجد للحيلولة دون رمي الجمرة من أعلاها إتباعاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رمي جمرة العقبة.ومما هو جدير بالذكر أن الجدار الذي بناه إسحاق بن سلمة الصائغ خلف جمرة العقبة لم يكن إحداثاً أو ابتداعاً منه أضافه إلى جمرة العقبة وإنما كان بمثابة إعادة بناء للجدار الذي كان على العقبة من قبل والذي صعد عليه عمر بن الخطاب ليرمي الجمرة من فوقها، وهو الجدار نفسه الذي أطلق عليه العقبة وهدمه سيل سنة (240 ه_ /855 م) كما ذكر من قبل. أما إضافة إسحاق بن سلمة في هذا التجديد ولم تذكر من قبل فإنها تكمن في شيئين أولهما بناؤه لمسجد متصل بالجدار الذي بناه وثانيهما ذكره الفاكهي بقوله: (.. وجعل على ذلك كله أعلاماً بناها بالجص والنورة).

ص: 238

ويبدو أن إسحاق بن سلمة قد وضع تلك الأعلام للإشارة إلى موضع الجمرة حتى لا تزاح أو تزال عن موضعها كما أزيحت أو أزيلت من قبل، فضلاً عن إرشاد الحجاج إلى مرمى الجمرة الأصلي. أو قد يكون إسحاق بن سلمة قد وضع تلك الأعلام لغرض بيان نهاية حدود منى عند هذه الجمرة التي تمثل حد منى الغربي.

ومن ثم تكون الأعلام التي وضعها إسحاق بن سلمة على الجدار الذي شيده خلف الجمرة هي أول أعلام أقيمت عند تلك الجمرة بعد ظهور الإسلام في نفس الوقت الذي شيد فيه ذلك الجدار سنة (242 ه_/856 م).

كما قام إسحاق في نفس السنة بوضع أنصاب على الطريق التي سلكها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه عمه العباس بن عبد المطلب (رضوان الله عليه) إلى شعب علي أو شعب البيعة للأنصار. وقد كان ذلك الشعب يقع في الجبل حيال جمرة العقبة، ثم اختفت معالمه فعمره إسحاق بن سلمة وجدده، وجعل عليه أنصاباً.

وتجدر الإشارة إلى أن الحربي الذي توفي في أواخر القرن الثالث الهجري، والذي وصف مشعر منى وصفاً مفصلاً لم يذكر أعلاماً وضعت على مرمى جمرات منى خاصة عند وصفه للعقبة وذكره لجمرتها حيث قال: (وأول حد منى من ناحية مكة جمرة العقبة فإذا جئت من مكة فأنت في هبطة حتى ترقى في العقبة إلى منى، ومنى في ارتفاع ولا تزال في استواء في ارتفاع ذاهباً تريد المزدلفة فإذا صرت (لعله يقصد أردت) أن تهبط فذلك آخر منى، ومى بين واديين).

أقول: إلى هنا تنتهي فترة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الظاهرين باستشهاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عام (260 ه_) فيكون للنظر فيه مدخلية في الاستدلال، لكننا نستمر في بيان خلاصة تأريخ الجمرات وما حصل لها من تطورات حتى التوسعة الأخيرة إتماماً للفائدة والله الموفق.

ووصف الرحال ابن جبير جمرة العقبة في القرن السادس بأنها تقع على قارعة الطريق مرتفع عنه نتيجة لتراكم حصى الجمار، ويعلو الجمرة مسجد

ص: 239

مبارك، كما أنها تحتوي على علم منصوب شبه أعلام الحرم وأعلام الحرم يبلغ ارتفاعها بحسب المصادر ثلاثة أذرع.

وأول من وصف الجمرة بالبناء المحجوبي المغربي الذي حج سنة (820 ه_) حيث قال: ((جمرة العقبة بناء كالبرج أو كصومعة صغيرة عريضة لكنها مصمتة لا جوف لها، وقد بنيت على رأس شرف من حجر صلد ينحدر الناس منه إلى أرض مكة ويصعدون فيه إلى أرض منى)) ويضيف المحجوبي: وصفت الجمرتين الباقيتين هكذا في البناء إلا أن جمرة العقبة أعظم بناءً من الجمرتين الأخيرتين فيما شاهدناه، وهو بناء لا يزال يجدد كلما احتاج إلى تجديد.وفي ضوء هذا نفهم ظهور الإشارة إلى البناء في موضع الجمرة في كلمات الشهيد الأول (قدس سره) المتوفى سنة (786 ه_)، وتحولت هذه الإشارة إلى تعريف الجمرة بالبناء لأول مرة في كلمات فقهائنا (قدس الله أرواحهم) عند صاحب المدارك المقارب لذلك العصر فقد توفي عام (1009 ه_). ومن تلك الفترة أصبح اسم الجمرة يطلق على العلم الذي بني فوقها، وهو من باب إطلاق اسم المحل على الحال ويعني ذلك أن الجمرة قد اختفى مفهومها الأصلي وهو مجمع الحصى ليعرف بالعلم الذي فوقها والجدار الذي في ظهرها، وفي ذلك بعد عن المعنى الحقيقي للجمرة حتى أن الرمي هنا صار يوجه إلى هذا العلم وليس إلى مجمع الحصى من الجمرة.

وفي العقد الأخير من القرن الثالث عشر الهجري حدث تطور مهم في إحداث أحواض دائرية حول أعمدة الجمرات لتحديد مساحة المرمى الذي نقلنا خلافهم فيه حيث حدد بعضهم نصف القطر بثلاثة أذرع وقدره آخرون بأقل من ذلك.

وقد ظهرت بدايات إحاطة مرمى الجمرات الثلاث على أثر اقتراح من الشيخ محمد شكري إسماعيل حافظ في رسالته (الأنهار الأربعة في مرمى جمرة العقبة) بعمل شباك حول جمرة العقبة لإزالة الزحمة عندها. وقد وافقه على هذا الاقتراح عدد من العلماء بمكة المكرمة والمدينة المنورة الذين قالوا بوجوب إزالة الزحمة بالشباك.

ص: 240

وتم بالفعل إحداث شباك حديدي في آخر شهر ذي القعدة من شهور سنة (1291 ه_/1874 م) وكان الدافع الأساسي لعمل هذا الشباك هو دفع معظم زحمة الرامين لجمرة العقبة لا لتحديد مرماها.

وقد اعترض على إحداث هذا الشباك بعض العلماء لأنه في رأيهم يوهم العوام بأن جميع ما أحاط به ذلك الشباك مرمى، وليس الأمر كذلك. ومن ثم أزيل هذا الشباك بعد مناقشة طويلة حول وضعه والتحقق من أن وجوده يوهم بأن ما حواه كله مرمى.

وقد صدرت فتوى بعمل أحواض للجمرات الثلاث في سنة (1292 ه_/1875 م) وهي السنة التالية لعمل الشباك الحديدي سالف الذكر حول جمرة العقبة. وتم عمل هذه الأحواض بعد مشاورة الفقهاء واتفاقهم على ذلك.

ويذكر الشيخ البسّام أن أحواض الجمار لما بنيت عام (1292 ه_/1875م) بنيت بشكل واسع، ثم اختصرت أحواضها على ما هي عليه الآن، ويتضح مما ذكره الشيخ البسام أنه نظراً لعدم وجود نصوص من الكتاب والسنة تحدد مساحة مرمى الجمرات فقد بنيت الأحواض حولها متسعة في أول الأمر ثم ضيقت مساحتها بعد ذلك لتصبح ثلاثة أذرع من جميع جوانب العلم المقام لوسطها في الجمرتين الأولى والوسطى. أما بالنسبة لجمرة العقبة فقد جعل لها نصف حوض حيث كان لها جهة واحدة فقط خالية وهي الجهة الجنوبية الغربية ذلك لأن الجانب الشمالي الشرقي منها كان يشغله جبل.

وفي عام (1375 ه_) صدرت فتوى شرعية أزالت الحكومة بموجبها الجبل الواقع خلف جمرة العقبة لإيجاد المساحة الكافية لتيسير حركة الحجاج الذين ازدادت أعدادهم عند أدائهم هذا النسك، وجعل وراء الجمرة من الجهة الشمالية الشرقية قاعدة بناء مربعة لاصقة بالجمرة حتى يمنع من يريد الرمي من خلفها، وهدمت المنطقة الممتدة من الجمرة الوسطى إلى جمرة العقبة لتوسعة الشارع عام (1383 ه_/1963 م) لتصل المسافة بين الجبلين الذين يكتنفان وادي منى من الجهتينالشمالية والجنوبية إلى ألف متر، ثم بني جسر أعلى سنة

ص: 241

(1395ه_/1975م) وطوّل علم الجمرات ليراه الرامي من أعلى الجسر وأبقي حوض الجمرات السفلي كما هو.

هذا وقد حاولت الحكومة توسيع أحواض الجمرات عام (1405 ه_) وعليه استشارت هيأة كبار العلماء، فعقدوا اجتماعاً لهم وقرر المجلس بالأكثرية إبقاء ما كان على ما كان وعدم إحداث شيء مما ذكر سواء عمل مستودعات لحصى الجمار تحت حوض كل جمرة أو توسعة جوانب جدار دوائر الرجم من أعلى.

لكن توصيات صدرت بإجراء هذه التوسعة في الأحواض عمل بها أخيراً باعتبار أن تحديد الأحواض بدائرة نصف قطرها ثلاثة أذرع لم يرد به نص صريح في الكتاب والسنة، ولم يشر إليه الخلفاء الراشدون أو الصحابة أو التابعون أو الأئمة الأربعة أو التابعون أو العلماء المتقدمون. ومن المعروف أن المعنى الحقيقي للجمرة هو مجتمع الحصى كما ورد في صفحات البحث. ويزداد الحصى بطبيعة الحال بتجمعه في المرمى مع ازدياد أعداد الرامين الذين أصبح عددهم يحصى بمئات الآلاف. وبازدياد أعداد الحصى في المرمى تزداد مساحة مجتمع الحصى مما ينتج عنه اتساع دائرة الرمي فتستوعب أعداداً أكثر من الحجاج مما ييسر أداء هذا النسك على الأعداد المتنامية من حجاج بيت الله الحرام.

ص: 242

الاستدلال على كل من القولين

الاستدلال على القول الأول:

يمكن تقريب عدة وجوه للاستدلال على اشتراط إصابة عمود الجمرة بالحصاة، ومنها:

(الوجه الأول) ما ورد في كلام صاحب المدارك (قدس سره) بقوله: ((وينبغي القطع باعتبار إصابة البناء مع وجوده لأنه المعروف الآن من لفظ الجمرة)).

وفيه:-1- إنه يلزم الترديد في ماهية الجمرة وهو مستحيل، لأنه يعرّف الجمرة بالعمود في حال وجوده وبموضعه في حال عدم وجوده –بحسب ظاهر كلامه (قدس سره) وصرّح به كاشف اللثام واعترف صاحب الجواهر (قدس سره) برجوعه إليه كما تقدم (صفحة 228)-، ولعله وجه البعد الذي أراده صاحب الجواهر (قدس سره) حين استوجه التخيير مطلقاً الذي اختاره الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس وعدم التقييد بالزوال وعلله ((لاستبعاد توقف الصدق عليه))(1) –أي الزوال-.

2- لا اعتبار بهذه المعروفية –كأمر واقع- إلا أن يثبت امتداد وجودها إلى زمن المعصومين (عليهم السلام) وإلزامهم بإصابتها وهذا الامتداد يُقرَّب بتقريبين:

أحدهما: الاستصحاب القهقرائي وهو غير تام لأكثر من وجه:

أ- لعدم صحته كبروياً.

ب- إن من أركان الاستصحاب الشك اللاحق وهنا قد يقال بأنه في ضوء العرض التأريخي المتقدم فإن الأعمدة والبناء أمر مستحدث.

ثانيهما: ما قرّبه بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) من التمسك ((بأصالة عدم النقل الذي هو أصل عقلائي حيث يمكن القول بأنّ ما

ص: 243


1- جواهر الكلام: 19/107.

نفهمه في العصر الحاضر بمعنى الجمرة هو العمود، ونشك في المعنى الموضوع لها في السابق هل أنّه كان هذا المعنى أو نقل إلى معنى جديد، فالأصل هو عدم تبدل المعنى، أي أن يكون المراد هو هذا المعنى.

ولذلك نرى أنّ الألفاظ القديمة المستعملة في الوثائق والأسناد الرسمية للموقوفات وغيرها تحمل على ما يفهم منها في العصر الحاضر)).

ورد عليه بأنه ((مما ينبغي الالتفات إليه هو أنّ التمسّك بمثل هذه الأصول والقواعد يتعلق بموارد الشك فقط في حين أننا مع شهادة اللغويين وعلماء الشيعة وأهل السنّة ودلالة الرّوايات لا يبقى لدينا شك في أنّ المراد من الجمرة هو (مجتمع الحصى) فلا محل حينئذٍ لإجراء الأصل (حتّى لو كان أصلاً لفظياً) ))(1).

(الوجه الثاني) ما ورد في كلام صاحب المدارك المتقدم بقوله: ((ولعدم تيقن الخروج من العهدة بدونه))(2).

بتقريب: إن رمي العمود مجزٍ قطعاً للقطع بكونه مما يصح رميه ونحوه، أما رمي مجتمع الحصى فمشكوك الإجزاء، واشتغال الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً ولا يتحقق إلا بإصابة العمود.

وفيه:-

1- إن مقتضى الاحتياط إصابة العمود ووقوع الحصاة في مجتمع الحصى لا إطلاق الاكتفاء بإصابة العمود وإن علقت الحصاة بين شقوقه أو ذهبت بعيداً في مجتمع الحصى.

2- إذا تم الدليل على الاجتزاء بإصابة مجتمع الحصى –كما يدعي الفريق الثاني- فلا معنى للتمسك بالأصل.

ص: 244


1- الجمرات بين الماضي والحاضر للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
2- مدارك الأحكام: 8/9.

3- إن الأصل الجاري في المقام هي البراءة وليس الاحتياط، لأن المورد صغرى لمسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين وحينئذٍ تجري البراءة، وسيأتي التفصيل حين تنقيح الأصل العملي (صفحة 265) بإذن الله تعالى.

(الوجه الثالث) ما ورد في كلام السيد الخوئي (قدس سره) في المسألة التي نقلناها عنه (صفحة 226) من التقييد بكلمة (سابقاً) مما يشعر باعتقاده أن الجمرة الموجودة الآن هي الموجودة في زمن المعصومين (عليهم السلام) مع إجراء تغييرات عليها كإطالتها أو ترميمها ونحوه، قال (قدس سره): ((قد عرفت أنه لابد من وصول الحصيات إلى الجمرة وإصابتها ولا ريب أن الجمرة الموجودة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لا يمكن بقاؤها إلى يوم القيامة ولا ريب في تغييرها وتبديلها، فشخص تلك الجمرة الموجودة في زمانهم (عليهم السلام) لا يلزم رميها جزماً، لعدم إمكان بقائها إلى آخر الدنيا مع أن الدين باقٍ إلى يوم القيامة وقيام الساعة، فلا بد من تنفيذ هذا الحكم الإسلامي، ولذا لو فرضنا هدمت الجمرة وبنيت في مكانها جمرة أخرى أو رممت أو طليت بالجص والسمنت بحيث يعد ذلك جزء منها عرفاً لا بأس برميها، ولا يمنع الجص ونحوه من صدق وصول الحصى إلى الجمرة، ولكن إذا فرض أنه بني على الجمرة بناء آخر مرتفع أعلى من الجمرة السابقة الموجودة في زمانهم (عليهم السلام) كما في زماننا هذا فلا يجتزئ برمي المقدار الزائد المرتفع لعدم وجود هذا المقدار في زمانهم (عليهم السلام) فلم نحرز جواز الاكتفاء برمي هذا المقدار، فتبدل المواد لا يضر في الجمرة إذ لا يلزم رمي الجمرة الموجودة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فإن ذلك أمر لا يمكن بقاؤه إلى زماننا، لعروض الخراب والتغيير والتبديل على الجمرة قطعاً في طيلة هذه القرون، إلا أن اللازم رمي مقدار الجمرة الموجودة في

ص: 245

الزمان السابق، وإن تغيرت وتبدلت بحيث كانت الزيادة جزءاً من الجمرة عرفاً))(1).

أقول: هذا الوجه لا يزيد على الوجه الأول الذي تقدم عن صاحب المدارك (قدس سره) ويحتاج إلى تقريباته وقد ناقشناه.

نعم يمكن تقريبه بشكل آخر وهو الوجه الذي طالما استدل به السيد الخوئي (قدس سره) ولكنه لم يذكره هنا وعنوان هذا الوجه (لو كان لبان) وقرّبه بعض طلبتنا الأعزاء بقوله: ((فلو كانت الجمرة هي الأرض أو مجتمع الحصى ثم تحولت إلى عمودعلى فرض أنه وضع علامة على الجمرة ومن ثم تحوّل تدريجياً إلى مرمى في فهم الناس حتى أصبحت الجمرة هي العمود الشاخص هناك، فمثل هذا الأمر لا بد وأن يثير الناس المتشرعة نحو السؤال والفقهاء نحو الجواب وإصدار الفتوى حتى لو كان من قبل العامة من جهة كونها بدعة أو ما شابه، خصوصاً وأنه قد حصل سنة (240 ه_) –بحسب نقل الأزرقي في أخبار مكة وهو متوفى حدود سنة (250ه_)- أي في زمن الإمامين العسكريين (عليهما السلام) ولم يرد ما يدل على رد الفعل ولو برواية ضعيفة)) كما وردت روايات في ما يتعلق بمقام إبراهيم وحجر إسماعيل (سلام الله عليهما).

وقد ردّ العلم المعاصر (دام ظله الشريف) على هذا الوجه بأنه ((لقد ثبت من خلال قرائن عديدة أن الأعمدة لم تنصب هناك بحيث تكون بمثابة تغيير في مناسك الحج وشعائره بل هي بمثابة العلامة فقط، وقد رأينا في سفراتنا السابقة للحج أنهم كانوا يضعون مصباحاً في ذلك المكان كعلامة لمن يريد الرمي في الليل. وفي هذا الوقت أيضاً هناك علائم ولوحات متعددة لتعيين حدود عرفات، منى، المشعر، وهذه العلامات لا تثير أية حساسية لدى الأشخاص لأنها ليست سوى علائم لتلك المناطق))(2)

وضرب آخر مثلاً لذلك حجم

ص: 246


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 29/227-228.
2- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في المصدر المتقدم.

الكعبة التي كانت أقل علوّاً مما هي عليه اليوم وربما كان سبب عدم الإثارة أن التغيير يحدث تدريجياً وليس دفعياً.

(الوجه الرابع) تقريب بعض الروايات:

(الأولى) عن أبي غسان حُمَيد بن مسعود قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رمي الجمار على غير طهور قال: الجمار عندنا مثل الصفا والمروة حيطان إن طفت بينهما على غير طهور لم يضرك والطهر أحبّ إلي فلا تدعه وأنت قادر عليه)(1).

وهو الخبر الذي أشار إليه صاحب الجواهر (قدس سره) في كلامه المتقدم (صفحة 228) وقال: ((لكن ستسمع ما في خبر أبي غسان بناءً على إرادة الإخبار بحيطان فيه عن الجمار كما هو محتمل، بل لعله الظاهر))(2).

وتقريب الاستدلال: أن كلمة (حيطان) جمع حائط وقد عرّف الإمام (عليه السلام) الجمرة بهذا البناء الذي سماه حائطاً.

وفيه:-

1- إن أبا غسان ليس حميد بن مسعود بل حميد بن راشد فالصحيح في سياق السند أن يكون: عن أبي غسان عن حميد بن مسعود –كما في التهذيب- وكلاهما مجهولان.

2- إن الحائط يطلق على ما يحيط بالشيء لذا يطلق على البستان حائط باعتبار ما يحوطه، والأصل فيها الحفظ، فالحائط يحفظ ما بداخله، ومنه الاحتياط، وعلى هذا ((فإن هذه الرواية إن لم تدل على خلاف المطلوب فإنها لا تدل عليه، إذ لا معنى لأن يقال للعمود الذي يشبه أعمدة الجمرات الفعلية أنه

ص: 247


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 2، ح5.
2- جواهر الكلام: 19/107.

حائط، ولو كان هناك حائط فإنه لا يعدو كونه شبيهاً بحائط الحوض الحالي للجمرات الذي يحيط ببقعة الأرض المعينة للرمي ولا يتعلق بالعمود))(1).

3- إن الرواية مجملة من هذه الناحية لأن الصفا والمروة جبلان لا حائط فيهما إلا أن يقال أن ذلك باعتبار اكتنافهما للمسعى والناسكين بينهما وعلى أي حال فإن كل ما يُفهم من الرواية أن الجمرات كالصفا والمروة ليست مساجد ولا يكون نسكها مشروطاً بالطهارة كالطواف.

4- من المحتمل أن حيطان خبر للصفا والمروة بقرينة ما يتلوه من السياق بقوله (عليه السلام): (إن طفت بينهما) وهذا الاحتمال وإن لم يرجّحه صاحب الجواهر (قدس سره) وأرجع الخبر إلى الجمار، إلا أنه على أي حال احتمال مبطل للاستدلال.

5- ما قاله السيد السبزواري (قدس سره) من ((أنه –أي الخبر- ليس في مقام بيان كون الحائط لها موضوعية خاصة في الجمرة وغاية ما يستفاد منه كونها علامة مثل كون الصفا والمروة علامة، فلو فرض زوالهما لا يزول السعي بين العلامتين))(2).

(الثانية) خبر عبد الأعلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: رجل رمى الجمرة بست حصيات فوقعت واحدة في الحصى قال: يعيدها إن شاء من ساعته، وإن شاء من الغد إذا أراد الرمي، ولا يأخذ من حصى الجمار)(3).

بتقريب: إن الرواية تدل على عدم إجزاء الرمي لو وقعت الحصاة في مجتمع الحصى مما يعني اشتراط إصابة العمود.

أقول: قد نوقش السند من جهة وقوع سهل بن زياد فيه.

ونوقش الاستدلال بالرواية على المطلوب من عدة جهات:-

ص: 248


1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في المصدر المتقدم.
2- مهذب الأحكام: 14/255، طبعة النجف.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العود إلى منى، باب 7، ح3.

1- إن المذكور في نسختي الكافي والتهذيب (ووقعت) ورواها صاحب الوسائل بالواو في موضع آخر(1)

مما يعني أنه وقعت من يد الرامي من دون قصد الرمي وهو المناسب لذكر الست فتكون التي وقعت هي السابعة، وعليه فيكون عدم الإجزاء لعدم القصد وليس لعدم إصابة العمود وهو المناسب.

2- إن الرواية تقول (في الحصى) وليس في مجتمع الحصى فيكون من المحتمل عدم الإجزاء لعدم وقوعها في مجتمع الحصى وإنما في السائل منه.

فائدة: هاتان الروايتان هما الرئيسيتان في الاستدلال، وقد استدل على هذا القول الأول من تقريبات لروايات أُخر.

(منها) صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (ثم ائتِ الجمرة القصوى التي عند العقبة فارمها من قبل وجهها، ولا ترمها من أعلاها)(2).

وقد قرّب بعض طلبتنا الأعزاء الاستدلال بتقريبين وردّ عليهما:

((الأول: إن التعبير بأعلاها وأسفلها لا معنى له ما لم تكن الجمرة جسماً وهو يناسب كون الجمرة عموداً.

وفيه: إنه لم يقل: (ولا ترمِ أعلاها) بل قال: (ولا ترمِ من أعلاها) وهو يعني أنه يتحدث عن جهة وقوف الرامي بالنسبة للجمرة لا محل إصابة الحصاة من الجمرة، فيكون المعنى هو النهي عن الوقوف في مكان أعلى من الجمرة ورميها وهو محل التل في جمرة العقبة حيث ورد النهي عنه، ودليلنا قرينة المقابلة فهو لم يقل: (ارمها من أسفلها ولا ترمها من أعلاها) بل قال: (ارمها من قبل وجهها) أي من أمامها وهي جهة الوادي.

الثاني: إن التعبير من قبل وجهها يعني كونها بناءً إذ لا وجه للأرض أو مجتمع الحصى إذا كان هو معنى الجمرة.

ص: 249


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3، ح1.

وفيه: إن قرينة المقابلة المتقدمة تبيّن أن المراد منه الرمي من جهة الوادي لا من جهة التل، مضافاً إلى أن العمود لا وجه له حتى يقال من وجهها)).

أقول: هذا الرد صحيح وهو المناسب لوضع جمرة العقبة فأحد طرفيها أعلى والآخر أسفل كما تقدم وصفها وتقدم أيضاً أنه بُني جدار لمنع الناس من التوجه إلى أعلى لرميها كما فعل الثاني ((ولعل الحكمة في ذلك أنه لو وقف بعض الناس إلى الجهة العليا والبعض الآخر إلى الجهة السفلى ورموا الجمرة فيحتمل أن تصيب بعض الأحجار الأشخاص الواقفين في الطرف الأسفل))(1).

وهذا يفسّر كلام العلامة الحلي (قدس سره) في المنتهى: ((عن الجمهور أن عمر جاء والزحام عند الجمرة فرماها من فوقها))(2)

فلا يتوهم أحد وجود عمود صعد عمر عليه ورمى الجمرة من أعلاه، إذ من غير المعقول فعل ذلك وسط الكم الهائل من الحجارة المتساقطة.(ومنها) رواية سعيد الأعرج(3)

عن أبي عبد الله (عليه السلام) ووصف فيها جمرة العقبة بالعظمى، وهذا الوصف يشعر بوجود عمود أعظم من الموجودين في الوسطى والصغرى.

وفيه: أنه لا يغني من الحق شيئاً لأن وصف كل شيء بالعظمة بما يناسبه ولا يفرّق فيه بين كون محل الرمي عموداً أو أرضاً، كما أن المحتملات في وصفها بالعظمى عديدة كزيادة رميها لاختصاصها برمي اليوم العاشر فكأنها كناية عن الشيطان الأكبر أو لوقوعها في حافة الجبل والأخريان في الوادي فتبدو بالنسبة إليهما عظيمة وهكذا.

ولا حاجة للإطالة أكثر من هذا في انتزاع التقريبات من الروايات.

لا يقال: إنه وردت في النص المنقول عن الأزرقي المكي المعاصر للإمامين العسكريين (عليهما السلام) عن سيل (241 ه_) فقرات تشير إلى

ص: 250


1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في المصدر المتقدم.
2- المنتهى: 2/732.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 1، ح1.

وجود الأعمدة يومئذٍ كقوله: ((وهدم –أي السيل- العقبة المعروفة بجمرة العقبة)) والهدم لا يكون إلا مع البناء ولا يعبر عن كومة الحصى أن السيل هدمها، وقوله: ((فردّها إلى موضعها الذي لم تزل عليه)) فلو كانت كومة الحصى لاكتفى بتشخيص المكان الصحيح لها، لا أن يرد الحصى ويحملها إلى ذلك المكان.

فإنه يقال: إننا لم ننفِ وجود بناء كالجدار الذي يحد جمرة العقبة من الخلف أو الصخرة أو الأعلام ونحوها ولكنها لا تدل على وجود الأعمدة المعروفة فضلاً عن كونها هي الجمرة.

الاستدلال على القول الثاني:

كتب بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) رسالة(1)

بذل فيها وسعه للاستدلال على هذا القول وردّ ما يمكن من الإشكالات التي وردته عندما أثار المسألة، وهي لم تكن مبحوثة باستدلال مفصل كما هو واضح من المصادر، فجزاه الله خير جزاء المحسنين.

وبالرغم من أن كل ما ساقه من الأدلة قابلة للمناقشة إلا أن له فضل تحرير المسألة ولا ينقص منه كثرة المناقشة.

ونحن نستعرض ما أورد من الأدلة –التي سماها محاور- وتقييمها ونحافظ على ترتيبه (دام ظله الشريف).

(الدليل الأول) قول اللغويين:

فإنه بعد أن ذكر أن للجمرة أربعة معانٍ، قال: ((لكننا نرى أن أغلب علماء اللغة اعتمدوا المعنى الأول –وهو الاجتماع وسميت الجمرة به لكونها محلاً لاجتماع الحصى- معتبرين الجمرات محل اجتماع صغار الحصى)) وبعد أن نقل مجموعة منكلمات اللغويين قال: ((يستفاد من مجموع الأقوال والمطالب المتقدّمة ومن تعبيرات طائفة أُخرى من أعلام اللغة أنّه قيل للجمرات هذا الاسم

ص: 251


1- الجمرات بين الماضي والحاضر لسماحة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله).

لكونها موضع اجتماع الحصى، أو لكونها كُومة من الجمار، وهكذا نرى أنّ علماء اللغة لم يذكروا الجمرة بمعنى الأعمدة، بل اعتبروها بمعنى الأرض التي يجتمع فيها الجِمار، وبعبارة أُخرى أنّها مجتمع الحصى.

الأقوال المتقدّمة تشير أيضاً إلى عدم بناء تلك الأعمدة في عصر أغلب أولئك اللغويين، وإذا كان ثمة بناء فهو مجرّد شاخص وعلامة، علاوة على ذلك فإنّ علّة تسمية الجمرات وجذرها اللغوي يطرحان مسألة اجتماع الحصى بقوّة)).

ثم قال: ((من اليقين أنّ الجمرات ليست من الألفاظ ذات الحقيقة الشرعيّة أو المتشرعية، وبناءً على ذلك يجب الرجوع إلى كتب اللغة لغرض فهم معناها، وإطلاقها على المواضع الثلاثة من قبيل إطلاق الكلّ على الفرد، وبالتدريج أصبح هذا المصطلح علماً لتلك الأماكن.

من هنا إذا كنا نعتبر قول اللغوي صحيحاً طبقاً لسيرة العقلاء في مورد أهل الخبرة بالخصوص، فحيثما يوجد مطلب متداول بين أُولئك يمتلك الشهرة، فهو بشهادتهم ثابت، وهو الحقّ لأنّنا في كتاب (أنوار الأصول) أثبتنا حجية القول اللغوي في مثل هذه الموارد، وتجري عملية أيضاً سيرة العقلاء، وفي غير هذه الصورة فان تلك الشهادات تُعدّ مؤيداً جيداً لإثبات المقصود)).

أقول:-

1- لا ينفع الرجوع إلى اللغوي في المقام لأننا لسنا أمام مفردة لغوية نريد فهم معناها وإنما أمام حقيقة خارجية أشير إليها باللفظ فلا بد من الاستدلال عليها بالقرائن المعرّفة لها، فإذا أردنا أن نعرّف (الكوفة) أو (الأقصى) أو (الحرم) لا نرجع إلى معانيها اللغوية بل حقائقها الخارجية.

2- إنه (دام ظله) أنكر أن يكون للجمرة حقيقة شرعية وهذا غير دقيق لأنها ذات وجود خارجي يُشار إليه باللفظ، وقد أثبت بنفسه هذه الحقيقة في المحور الثالث الذي عنونه: ((الجمرات في الروايات الإسلامية)) حين قال: ((ولكن مع التدقيق والتحقيق يمكننا أن نستوحي من روايات عديدة

ص: 252

إشارات عميقة مؤيدة للنظرية أعلاه حيث تدلّ على أن الجمرة هي محل اجتماع الحصى)).

أقول: وهل الحقيقة الشرعية إلا هذه؟

3- قوله: ((إن علماء اللغة لم يذكروا الجمرة بمعنى الأعمدة)) لا ينفع في شيء لأن هذا ليس من شأنهم واختصاصهم، ويكفي للإشكال أنهم فسّروا الجمرة بموضع رمي الجمار الذي يمكن انطباقه عليها.

4- إن اللغويين مختلفون في ترجيح وجه تسمية الجمار فقد رجح ابن الأثير في النهاية أن ((الجمار هي الأحجار الصغار ومنها سمّيت جمار الحج للحصى التي يُرمى بها، وأما موضع الجمار بمنى فسمي جمرة لأنها ترمى بالجمار، وقيل لأنها مجمع الحصى التي يرمى بها)).

5- إن إرجاع معنى الجمرة إلى الاجتماع والتجمع مما يحتاج إلى تأويل بعيد وإلا كيف نرجع معنى الجمرة بمعنى الحصى أو النار المتقدة أو التنحية ونحوها من المعاني التي قدمناها.فالصحيح هو إخراج هذا الوجه من الاستدلال وجعله مقدمة يُستأنس بها كما فعلنا.

(الدليل الثاني) شهادة فقهاء وعلماء الإسلام:

قال (دام ظله): ((وهي –أي أقوال العلماء- تشير إلى أن الجمرات هي بقعة الأرض التي يجتمع فيها الحصى، وليست هي الأعمدة المنصوبة التي يرميها الحجيج اليوم، يعني يجب رمي الجمار إلى تلك البقعة التي جعلوها اليوم على شكل حوض لا إلى غيرها)).

ونقل (دام ظله) قول أكثر من (50) عالماً من الفريقين دلّت صريحاً على ذلك أو بالدلالة الالتزامية أو قالوا بالتخيير.

ويرد عليه أنه حشد أقوال من لا حجية في قولهم ودمجها مع أقوال بعض فقهائنا الأساطين (قدس الله أرواحهم)، والمفروض أنه في مقام

ص: 253

الاستدلال فلا قيمة لهذا الحشد سوى خلق أجواء نفسية لقبول القول وهذا مما لا يمكن الاعتماد عليه.

نعم، يمكن الاستئناس بكلمات فقهاء العامة كشهادات تأريخية ضمن مقدمة تأريخية كما قدمنا.

أما فقهاؤنا فلم يبحثوا المسألة أو يتعرضوا لها إلا في كلمات بعضٍ منهم مما لا يحقق شهرة فضلاً عن الإجماع فلا ينفع الاستدلال بها.

(الدليل الثالث) الروايات:

وقد اعترف (دام ظله الشريف) في البداية بأن ((موضوع الجمرة لم يرد بصراحة في الروايات الإسلامية)) ولكنه قال: ((هناك إشارات في هذه الروايات إلى أن الجمرات يراد بها محل اجتماع الحصى، وكنموذج نلفت النظر إلى هذه الروايات:-

1- ورد في حديث معتبر عن معاوية بن عمار عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (فإن رميتَ بحصاة فوقعت في محمل فأعد مكانها وإن أصابت إنساناً أو جملاً ثم وقعت على الجمار أجزأك)(1).

فنرى أن التعبير بقوله: (وقعت على الجمار) يدل على أن الجمرة هي قطعة الأرض المليئة بالحصى والجمار تقع عليها، فإن الجمار بمعنى الحصى وعليه فإن وقوع الحصى على الجمار يعني وقوعها على الحصى الكثير المتجمعة، إذن فالعبارة المذكورة تدل بصورة جيدة على المقصود.

ومضافاً إلى ذلك فإن الحجر الذي يصيب بدن الإنسان أو يصيب بعيراً فإنه حين العودة لا تكون له تلك القوة بحيث يصيب العمود (إذا كان هناك عمود في البين) فغاية ما هناك أنه سوف يقع على مجمع الحصى)).

أقول: لا يمكن اعتبار كلا التقريبين دليلاً.

ص: 254


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، ح1.

أما الأول: فلأنه من المحتمل أن يراد بالجمار جمع الجمرة باعتبارها ثلاث جمار ويراد بالجمرة الموضع –سواء كان عموداً أو أرضاً- وليس الحصى المجتمع، وهذا الاحتمال هو الأرجح بقرينة تعبير الإمام (عليه السلام) عن الحصاة بلفظها فمقتضى السياق أن المراد بالجمار غيرها، بل إن الرجوع إلى النص الكامل للرواية في الكافي التي قطّعها صاحب الوسائل (قدس سره) –بناءً على كون فقراتها رواية واحدة- يثبت هذا الاحتمال.

وعلى أي حال فهذا المعنى هو المعروف في الروايات كقول أبي عبد الله (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (خذ حصى الجمار)(1)

وقول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحة زرارة: (حصى الجمار إن أخذته..)(2).

فالمراد بالجمار موضع الرمي لا الحصى، فيصدق على كلا الاحتمالين لذا لم يجد القائلون بكون الجمرة هي العمود حزازة في إيراد هذه المسألة كصاحب المدارك(3) (قدس سره).

وأما الثاني فإنه يحتمل الصدق على العمود بلحاظ قلة الحجاج الرامين وقربهم من المرمى وكون بعضهم يرمي من على ظهر البعير، مضافاً إلى أن مسائل الفقه تتعرض لحالات افتراضية وإن لم تقع خارجاً.

وعليه فالرواية مجملة من هذه الناحية.

((2- في حديث البزنطي (أحمد بن محمّد ابن أبي نصر) عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: (وَاجْعَلْهُنَّ عَلَى يَمِينِكَ كُلَّهُنَّ وَلا تَرْمِ عَلَى الْجَمْرَةِ).

ص: 255


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 4، ح1.
3- مدارك الأحكام: 8/9.

وهذا الحديث يدلُّ أيضاً على أنّ الجمرة هي مجمع الحصى لأنّ البعض يقف على طرف منها ويرمي نحو الطرف الآخر، ويرى بعض علماء العامة أنّ في ذلك كفاية، ولكننا نرى الحرمة أو الكراهة في ذلك، والإمام (عليه السلام) هنا ينهى عن هذا العمل، ومن البديهي أن أيُّ عاقل عندما يرمي الجمرة لا يقف على العمود.

ورأينا في كلمات فقهاء العامّة في البحث السابق أيضاً هذا المعنى حيث يقول البعض: (لا يجوز الوقوف على الجمرة) فتدبّر)).

أقول: لعل في تسميته حديثاً تضعيفاً لسنده لوجود سهل بن زياد فيه على ما في الكافي، ولكن الحميري رواه في قرب الإسناد بسند صحيح فلا إشكال من هذه الناحية.

ومن حيث الدلالة فإن التقريب هنا أبعد من سابقه لوجوه:-

1- إن تقريبه يحتاج إلى تقدير (من) والأصل عدمه.

2- إنه على المعنى الذي قربه ينبغي استعمال (في) أي (وأنت في الجمرة).

3- إن الرواية تحتمل الانطباق على القولين فتكون مجملة لإمكان أن يكون الشخص على العمود، وإذا كان الوقوف على العمود للرمي أثناء رمي الحجاج بعيداً، فإن الوقوف على مجتمع الحصى والرمي إليه بعيد كذلك، ومهما استبعدنا هذا الاحتمال فإنه ليس مستحيلاً وفرض المحال ليس بمحال.

4- إن تفسير الرواية بالقول الأول أولى لأن النهي عن الرمي على العمود يمكن تعقله لعدم صدق الرمي حينئذٍ ونحوه، أما على القول الثاني فلا موجب للنهي لإمكان أن يكون في طرف الأرض ويرمي الطرف الآخر كما روى الأزرقي (المعاصر للإمامين العسكريين (عليهما السلام) ) في تأريخ مكة في الرواية عن ابن عباس التي نقلناها (صفحة 236).

ص: 256

5- إنه (دام ظله) بنى استدلاله على كون الموجود في الرواية (على الجمرة) مع أننا نحتمل سقوط حرف الألف والصحيح (أعلى) فتكون من روايات النهي عن رمي جمرة العقبة من أعلاها التي تقدمت (صفحة 249) ولدى التحقيق وجدناها في نسخة التهذيب (أعلى) ولله الحمد.

((3- وجاء في كتاب فقه الرضا (عليه السلام): (وإن رميت ووقعت في محمل وانحدرت منه إلى الأرض أجزأك)(1)

ومن الواضح أن المراد من هذه العبارة أن تتدحرج الحصى وتقع على الأرض محل الرمي)).

أقول: كتاب فقه الرضا (عليه السلام) كتاب فقه كالرسالة العملية وليس من جوامع الحديث فهو يمثل فتاوى مؤلفه الذي رجّحنا أنه والد الصدوق، والغريب هو أنه نفسه (دام ظله الشريف) يعتقد ذلك أيضاً لذا أدرج هذا النص ضمن كلمات الفقهاء وقال: ((على أنه توجد قرائن كثيرة في كتاب (فقه الرضا) تشير إلى أنه كتاب فقهي يتعلق ببعض أجلاء الصحابة)) فكيف يستدل به كرواية؟ ولو تنزلنا باعتبار ما قيل من كون القدماء يفتون بمتون النصوص فإنها رواية مرسلة، ولعل مستنده خبر أبي البختري الآتي (صفحة 263).

ثم قال (دام ظله الشريف): ((نتيجة البحث الروائي: بالرغم من أننا لا نلاحظ في أية رواية من الروايات المذكورة آنفاً بل في جميع الروايات الواردة في باب رمي الجمرات، كلاماً صريحاً عن موضوع (الجمرة) ولكن يمكن تحصيل الاطمئنان من خلال العبارات الموجودة في هذه الروايات أن المراد من (الجمرات) ليس سوى محل اجتماع الحصى في تلك القطعة من الأرض المعيّنة، وعلى فرض وجود عمود فيها فإنه ليس أكثر من علامة على محل الرمي.

وبعبارة أُخرى أنّ العمود لا يطلق عليه اسم الجمرة في منى حتّى يجب رميه بالجمار، بل يجب على الحجاج رمي الجمرات باتجاه المحل الموجود هناك

ص: 257


1- مستدرك الوسائل: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، ح1.

والذي يكون على شكل حوض بني حول مكان الجمرات، ولكن بالتدريج وبمرور الزمان اتخذ الناس العمود المذكور هدفاً لرمي الجمرة بدلاً من المحل الحقيقي بالرمي، ويحتمل قوياً أنّ هذه المسألة قد حدثت في العصور المتأخرة وأصبحت عرفاً متداولاً بين المسلمين، لأننا لا نجد كلاماً عن ذلك في كلمات القدماء)).

أقول: ظهر من مناقشة تلك الروايات إنها لا تحصّل ما هو دون الاطمئنان بالنتيجة المذكورة فكيف به؟.

ثم تمسك (دام ظله الشريف) ببعض القرائن:

(منها) ما ورد في الروايات في شرح كيفية رمي الحصاة بأن يكون خذفاً وذلك بأن تضع الحصاة على الإبهام وتدفعها بظفر السبابة(1)

و ((رمي الأحجار بهذه الصورة ينسجم مع عدم وجود العمود أكثر، لأنّ إصابة العمود بهذه الصورة ومن مسافة (10) أو (15) ذراع كما ورد في الرواية يكون عسيراً في أغلب الأحوال أو غير ممكن، ولكن الرمي بهذه الصورة باتجاه الحوض ومحل اجتماع الحصى يكون ممكناً في الغالب)).

(ومنها) ((رجم قبور الخونة في الجاهلية والإسلام:

يستفاد من المصادر التأريخية المعروفة كتأريخ (مروج الذهب) للمسعودي و (الكامل في التأريخ) لابن الأثير أنّ الناس كانوا في عصر الجاهلية يرمون قبور بعض الخونة والأشخاص المنفورين.

يقول المسعودي في (مروج الذهب):

(سار أبرهة بأصحاب الفيل إلى مكة لإخراب الكعبة، فعدل إلى الطائف، فبعثت معه ثقيف بأبي رغال ليدلّه على الطريق السهل إلى مكة، فهلك أبو رغال في الطريق بموضع يقال له المغمّس بين الطائف ومكة، فَرُجِم قبره بعد ذلك، والعرب تتمثل بذلك، وفي ذلك يقول جرير بن الخطفي في الفرزدق:

إذا مات الفرزدق فارجموهُ *** كما ترمون قبر أبي رغالِ

ص: 258


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 7، ح1.

وقيل: إنّ أبا رغال وجّهه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه ثقيف فقتله قتلة شنيعة لسوء سيرته في أهل الحرم،... قال مسكين الدارمي:

وأرجمُ قبره في كلّ عامٍ *** كرجم الناس قبر أبي رغالِ)

ويحتمل أيضاً أنّ (أبا رغال) اسم لشخصين، أحدهما كان يعيش في زمان (أبرهة) والآخر في زمان حكومة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في المدينة، وكان كليهما من الخونة وكان الناس يرمون قبريهما بالحجارة.

ويقول (الطبري) في كتابه التأريخي المعروف بعدما ينقل قصة أبرهة وأبي رغال وبعد ذكر حادثة موته في محل باسم (المغمّس) يقول: (فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي يُرجم) وجاء في (سفينة البحار) في قصة أبي لهب:

(أنّ جسد أبي لهب بقي بعد موته مدّة ثلاثة أيّام مطروحاً على الأرض حتّى أنتن فجاء بعض الأشخاص فدفنوه في أعالي مكّة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه،ولعلّ في كلام أمير المؤمنين عن أبي لهب إشارة إلى رمي الحجاج إليه بالحجارة عند مرورهم عليه).

ويستفاد من هذه العبارات أنّ العرب قبل الإسلام وبعده كانوا يرمون قبور الأشخاص المنفورين بالحجارة، والظاهر أنّ ذلك مقتبس من رمي الجمرات، ولم يرد في هذه التواريخ أنّهم كانوا يضعون عموداً على القبور المذكورة ويرمونها، بل كانت على شكل مجموعة من الأحجار الصغيرة أو الحصى، ونظراً إلى وجود احتمال قوي بأنّ هذا الأُسلوب مقتبس من (رمي الجمرات) فلو كان هناك عمود واقعاً في ذلك الزمان في محل الجمرات فإنّ من المناسب أن يقوم العرب تقليداً لذلك بنصب أعمدة على القبور المذكورة ويرمونها.

ومن هذه الملاحظة يفهم جيداً عدم وجود الأعمدة في تلك الأعصار، ويمكن أن يكون هذا المعنى مؤيداً للمطلوب)).

(ومنها) ما ورد ((في كثير من كلمات الأعاظم كالمحقق الحلي في (شرائع الإسلام) والعلامة في (المنتهى) أنه ينبغي على الحجاج جمع سبعين حصاة

ص: 259

للرمي من داخل منطقة الحرم (سواء كانت هي المشعر الحرام أو منى) ويرمون سبعة منها في اليوم الأول على جمرة العقبة، ويرمون في اليوم الثاني (21) حصاة حصاة للجمار الثلاثة كلها، و (21) حصاة لليوم الثالث (فيما لو بقوا ثلاثة أيام في منى) بحيث يكون المجموع سبعين حصاة صغيرة.

ولم يقل أحد إلا قليل بأن على الحجاج أن يحملوا معهم أكثر من هذا المقدار، وهذا يدل على أن رمي الجمرات كان سهلاً جداً بحيث يندر احتمال عدم إصابة الهدف، فإذا قلنا بأن الجمرة هي مجتمع الحصى فسيكون رميها ميسوراً، ولكن إذا قلنا أن محل الرمي هو الأعمدة المنصوبة ويتم الرمي في ذلك الزحام الشديد فمن الواضح أن الحاج يحتاج إلى أكثر من هذا المقدار من الحصى لأن احتمال عدم الإصابة كبير جداً، وهذه قرينة أخرى على المطلوب)).

(ومنها) ((التصاوير القديمة الموجودة للأعمدة:

وهناك قرينة أُخرى لذلك، وهي الصور القديمة للأعمدة التي تشير إلى وجود مصابيح إلى جانب الأعمدة لتضيء المحل في الليل لتسهيل عملية الرمي، فلو أنّ الرمي كان يستهدف الأعمدة فإنّ هذه المصابيح ستتعرض للكسر من اليوم الأوّل لأنّه كما رأينا أنّ الناس في رميهم لا يصيبون الهدف بدقة وقد يصيبوا المصباح المعلّق إلى جواره.

ويتّضح هذا البحث أيضاً بما ورد في كتاب (تاريخ مكّة) حيث يذكر في المجلد السادس من (التأريخ القويم لمكّة وبيت الله الكريم) لمؤلفه (محمّد طاهر الكردي المكّي)، الذي يعتبر من أهم الكتب في عصرنا الحاضر عن تأريخ مكّة وقد طبع تحت نظر المسؤولين الرسميين في الحجاز، فنقرأ فيه قوله: ((وبوسط كلّ جمرة من الجمرات الثلاث علامة كالعامود المرتفعة نحو قامة، مبنية بالحجارة، إشارة إلى موضع الرمي، وهذه العلامات على الجمرات لم تكن في صدر الإسلام وإنّما أحدثت فيما بعد)).

أقول: ما دام قد جعلها (دام ظله الشريف) قرائن لا ترقى إلى الدليل فلا داعي للتعرض لمناقشتها وتقييمها.

ص: 260

الرأي المختار:

والذي نرجّحه أن الواجب رميه هو الموضع المخصوص والمعين من الأرض والذي عرف عبر التأريخ بعلامات عديدة كالصخرة أو الأكمة أو الأعلام أو الأعمدة، ودليلنا على ذلك:-

1- إن هذا هو ما يفهمه العرف من أمثال هذه الأمور كما يفهمه من الأفعال المتعلقة بالمواضع الأخرى التي عليها بناء ونحوه فضلاً عما لم يثبت وجود شيء عليه كالطواف حول الكعبة أو السعي بين الصفا والمروة أو زيارة قبور المعصومين (سلام الله عليهم)، فإن الكعبة –كبناء- قد تُزال بهدم ونحوه- كما حصل هذا أكثر من مرة بسبب السيول وعدوان الطغاة- ولكن محلها يبقى هو قبلة المصلين ومحور الطائفين، وإن جبلي الصفا والمروة قد يزالان –كما أزيل جزء كبير منهما اليوم- ويبقى السعي بين موضعيهما وهكذا.

2- إن الحقائق التأريخية التي لخّصناها تشير إلى أن بناء الأعمدة هو أمر مستحدث بعد عصر المعصومين (سلام الله عليهم) لذا لا نجد له أثراً في الروايات الشريفة ولا في كلمات القدماء (قدس الله أرواحهم)، لكن هذا لا ينفي وجود علامات أخرى سابقة عليها كالصخرة أو الشجرة أو الأعلام ونحوها وإلا لضاعت البقعة المخصوصة –وهي عدة أمتار مربعة- بين بقاع وادي منى، ولذا نقل علماء الحجاز أنفسهم اختلافهم في وجود العلم والشاخص على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (صفحة 222) مع اتفاقهم على أن البناء أمر مستحدث، لكن هذا لا يخرجها عن كونها علامات على الجمرة وليس أنها هي، وعلى هذا فلا حجية في اشتراط إصابتها، نعم هي جزء من الموضع الواجب رميه لأنها أنشئت فيه.

3- إن العوارض الطبيعية تقتضي كون موضع الرمي الأصلي مدفوناً تحت الأرض بعمق عدة أمتار لمرور عدة قرون عليه مع تراكم التراب والحصى

ص: 261

وتحولها إلى طبقات بفعل السيول الواصلة إليها، وقد نقلنا في الخلاصة التأريخية شواهد على ذلك.

قال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف): ((إن الجمرة الموجودة في زمن المعصومين (عليهم السلام) لم تبقَ جزماً بل الجمرة الموجودة قبل سنين غير باقية، لأنها دفنت تحت الأرض، وبنيت عليها بناية حديثة بارتفاع عدة أمتار باسم الجمرة))(1).

وقد حكى بعض طلبتنا الأعزاء أنه خلال عمليات التوسعة الأخيرة –وعرض صوراً لها مؤرخة عام (2006)- تم العثور في أثنائها على مسجد كامل مدفون تحت الأرض بالقرب من جمرة العقبة، وقد كتب على الواجهة التي تعلو بابه اسم أبي جعفر المنصور ولعله هو المسجد الذي جدده وبناه إسحاق بن سلمة الصائغ متصلاً بالجدار الذي بناه خلف جمرة العقبة في سنة (241 ه_) كما نقلنا عنالفاكهي المكي وهو ممن شهد الحدث وتوفي سنة (272(2)

ه_) بعد الأزرقي المكي المعاصر له.

فالإصرار على كون الأعمدة هي موضع الرمي يجعل هذا النسك بلا موضوع، لاختفاء تلك الأعمدة تحت الأرض، ولا حجية في المقام منها اليوم، بينما يصدق المحل عرفاً على الأرض حتى إذا ارتفع سطحها بتراكم الحصى والتراب.

وفي ضوء هذا لا يبقى موضوع للمسألة التي ذكرها السيد الخوئي (قدس سره) والسيد الشهيد الصدر (قدس سره) والسيد السيستاني (دام ظله الشريف) والتي أوردناها (صفحة 226) لعدم وجود العمود الذي كان سابقاً، نعم بلحاظ الطابق تحت الأرضي قد يكون للمسألة موضوع إذا ثبت ذلك، وحينئذٍ يقال أن الرمي على العمود إذا عُدَّ عرفاً رمياً للموضع فيكون مجزياً ويؤخذ من طوله ما يحقق هذا الصدق.

ص: 262


1- تعاليق مبسوطة: 10/491.
2- الأعلام للزركلي: 6/252.

لكن السيد السبزواري (قدس سره) أطلق القول بالإجزاء، قال (قدس سره): ((إن البناء إنما هو علامة فقط، فيكون الرمي عليه رمياً على المحل طال البناء أو قصر ولا موضوعية له، ولو فرض أنه أطيل البناء وجعلت أطرافه درجات متعددة ورميت من تلك الدرجات وأصاب البناء، فالظاهر الإجزاء، فالبناء بأي حد كان رمز خاص لمحل مخصوص وطريق محقق إليه))(1).

أقول: إن العرف لا يساعد على هذه السعة.

4- ويؤيد هذا القول خبر أبي البختري في قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن علي (عليهما السلام): (إن الجمار إنما رميت لأن جبرئيل حين أرى إبراهيم المشاعر برز له إبليس فأمره جبرئيل أن يرميه، فرماه بسبع حصيات فدخل عند الجمرة الأخرى تحت الأرض فأمسك، ثم برز له عند الثانية فرماه بسبع حصيات أخر، فدخل تحت الأرض موضع الثانية، ثم إنه برز له في موضع الثالثة فرماه بسبع حصيات فدخل في موضعها)(2).

وجوه أخرى: ذكر السيد السبزواري (قدس سره) وجهاً حاصله: ((إن الرمي بالحصى تحقير ومهانة ويناسب انخفاض المرمى عرفاً))(3).

أقول: هذا الوجه يليق بالجوانب المعنوية أي (ما وراء الفقه) وليس بحسب القواعد المعمول بها.

وذكر شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) وجهاً آخر قال فيه: ((وجوب رمي الجمرة الجديدة المبنية فوق ذلك الموضع عمودياً ليس إلا أنه رمز وشعار للإسلام، ومن هنا إذا فرض عدم بناء جمرة جديدة فيه، أو فرض نصب شاخص مكانهمن خشب أو حديد، فهل يحتمل أن لا يجب على الحجاج رمي ذلك الموضع أو الشاخص؟ والجواب: كلا، ويجب عليهم ذلك، ولا يحتمل سقوط هذا الحكم الإسلامي عنهم.

ص: 263


1- مهذب الأحكام: 14/256، طبعة النجف.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العود إلى منى، باب 4، ح6.
3- مهذب الأحكام: 14/256، طبعة النجف.

وتؤكد ذلك صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: إن أول من رمى الجمار آدم (عليه السلام)، وقال: أتى جبرئيل إبراهيم (عليه السلام) فقال: ارمِ يا إبراهيم، فرمى جمرة العقبة، وذلك أن الشيطان تمثل له عندها(1)

بتقريب أن الظاهر منها أن تشريع رمي الجمرة في الحقيقة إنما هو من أجل رجم الشيطان عندها بالحصى رمزياً، وأظهر منها رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رمي الجمار لم جعلت؟ قال: لأن إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم (عليه السلام) في موضع الجمار فرجمه إبراهيم (عليه السلام) فجرت السنة بذلك)(2) ومثلها روايته الأخرى(3)، وعلى هذا فالأظهر كفاية رمي الجمرة الحالية من أسفلها إلى أعلاها، وإن كان الأولى والأجدر رمي وسطها))(4).((2).

أقول: إن الرمزية المذكورة ثابتة إلا أنها لا تعني الحرية في اختيار الموضع أو الكيفية، بل لا بد من استنطاق النصوص، والظاهر أنه بنى قوله على كون الجمرة الأصلية مدفونة والموجودة مستحدثة فلا تفرّق فيها، قال (دام ظله الشريف): ((إنه لا موضوعية للجمرة السابقة ولا لموضعها الطبيعي من الناحية المكانية التي كانت الجمرة فيه، لأنه مدفون تحت الأرض، وإلا فلازمه سقوط هذا الحكم عن المسلمين، وهو كما ترى))(3).

أقول: اتضح الرد مما تقدم وحاصله إننا وإن كنا نسلّم غياب الموضع الأصلي تحت الأرض إلا أن العرف يرى صدق الموضع على الطبقة التي تعلوه في الطابق الأرضي فالرمي يكون على هذا الموضع لصدق العنوان وليس أنه بديلٌ من باب الرمزية ونحوها.

ص: 264


1- و(2) و(3) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العود إلى منى، باب4، ح4،3،7.
2- تعاليق مبسوطة: 10/491-492.
3- تعاليق مبسوطة: 10/491.

ملاحظة: أورد البعض هنا وجهاً للاستدلال على القول الثاني بنفي اشتراط إصابة الجمرة أصلاً وحاول الاستدلال عليه، وحينئذٍ يزول موضوع مسألتنا من الأساس.

وفيه: إنه إن أراد بنفي الاشتراط الاكتفاء بمجرد رمي الحصاة كيفما اتفق من دون الحاجة إلى استهداف الموضع المخصوص –عموداً أو أرضاً- فهذه أشبه بالوسوسة التي لا تحتاج إلى رد.

وإن أراد عدم اشتراط إحراز الإصابة والاكتفاء بعدم العلم بعدم الإصابة فهذا قابل للمناقشة إلا أنه لا يفيد في الاستدلال على مسألتنا لأنه يتضمن تحديد ما يجب رميه أولاً والقصد إلى إصابته ولا يشترط بعد ذلك العلم بالإصابة فعاد الإشكال جذعاً أن الذي يجب رميه هل هو العمود أو الأرض؟.

مقتضى الأصل العملي:

لو تنزلنا وافترضنا حصول حالة الشك، فإن الأصل الجاري في المقام هو البراءة من تعيّن وجوب إصابة العمود حصراً، والاكتفاء بإصابة موضع اجتماع الحصى.

وتقريبه: إننا بعد أن قربنا كون العمود بطوله المناسب جزءاً من الموضع المخصوص عرفاً كما أن عمود الحصى فوق تلك الأرض هو موضع للرمي مهما كثر وارتفع رأسه ولا يقول أحد بوجوب كشف الحصى وإصابة نفس الأرض.

وحينئذٍ فإن وجوب إصابة العمود (تارة) يُنظر إليه على أنه قيد زائد على وجوب إصابة الموضع المخصوص فيكون الواجب إصابة خصوص العمود من هذا الموضع، وهو وجوب مشكوك للوجوه التي ذكرناها وأحدها عدم إحراز وجودها في زمن المعصومين (عليهم السلام) فينفى هذا القيد الزائد ويكتفى بإصابة كل أجزاء الموضع المخصوص، ويمكن تنظير المورد بمن علم بوجوب أداء صلاتي الظهر والعصر في الوقت الممتد من الزوال إلى الغروب

ص: 265

لكنه شك في كون الامتثال مقيداً بكونه في أول الوقت أي وقت الفضيلة فينفى هذا القيد بأصالة البراءة.

و (تارةً) يُنظر إليه على أنه وجوبٌ ثانٍ مستقل عن الأول على نحو تعدد المطلوب، أي أنه علم بوجوب إصابة الموضع المخصوص من الأرض لكنه شك بوجوب ثانٍ يتعلق بإصابة خصوص العمود من هذه البقعة، نظير من علم بوجوب صوم يومٍ لنذرٍ ونحوه وشك في كونه متعيناً بأول خميس من الشهر، فحينئذٍ يكون المورد صغرى لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، ومختارنا فيها جريان أصالة البراءة، والأقل هنا إجزاء إصابة أي جزء من الموضع، والأكثر كون الواجب متعيناً بإصابة خصوص العمود.

ص: 266

نتيجة البحث

يمكن الخروج في نهاية البحث بعدة أمور:

(الأول) إن محل الرمي هو الموضع المخصوص من الأرض، وإن العمود والبناء ونحوهما علامات عليه.

(الثاني) لو فرض بقاء العلامات والأعلام الأصلية فلا يقتصر محل الرمي على موضعها لأنها توضع عادة في وسط المحل فيجتمع حولها الحصى، أو في أطرافه لتحديده، وإلا فليس لمساحة موضع الرمي حد محدود والمهم صدق الرمي عرفاً إلى الموضع المخصوص، ويختلف الصدق بحسب كبر مجتمع الحصى الذي يقتضيه عدد الحجاج –كصدق الطواف حول البيت الذي تتسع دائرته بزيادة عدد الحجاج-، ولا يجزي الرمي إلى الحصى السائل إلى غير هذا المجتمع.

(الثالث) إن أرض الرمي الأصلية وما عليها من علامات توجد تحت سطح الأرض الموجودة اليوم، ويوجد طابق تحت الأرض مشيد وله طريق خاص يوصل إليه لكنه غير متيسّر لعامة الحجاج، وهذا يكون هو الأرض الأصلية أو قريباً منها باعتبار أن مقتضى فعل الطبيعة والعوامل المناخية وتراكم التراب والحصى وما تجرفه السيول والأمطار هو تراكم الطبقات بمرور الزمن.

فالمشكلة محل البحث شاملة للطابق الأرضي كالطوابق العلوية.

(الرابع) مع تعذّر إصابة الموضع الأصلي لما ذكرناه أعلاه، يجزي الرمي إلى الجزء الذي فوقه، لصدق الرمي عرفاً إلى الموضع المخصوص، نظير إجزاء الرمي إلى كومة الحصى على الأرض كالرمي إلى الأرض.

لكنه لا يتعين إصابة العمود ونحوه للقطع بأنه بناء مستحدث بديل عن الموضع الأصلي لإقامة هذا النسك الواجب باعتبار عدم سقوط وجوب رمي الجمرات من مناسك الحج بأي حال من الأحوال.

(الخامس) يتحرى الحاج الرمي من الطابق الأرضي بالصورة التي ذكرناها آنفاً، فإذا تعذّر عليه فلا مانع من رمي الجمار من الطوابق العلوية ما دامت تقع في الحوض الذي شكله كالقمع فتنزل إلى موضع الرمي في الطابق الأرضي، بل

ص: 267

نُقل أن حوض الطابق الأرضي مفتوح إلى طابق تحت الأرض الذي يكون قريباً إلى الأرض الأصلية.

وسبب تقديم الطابق الأرضي على الطوابق العلوية مع كونها جميعاً مستحدثة، أن الطابق الأرضي يصدق عليه عرفاً محل الرمي بعد دفن الموضع الأصلي وهكذا كل مكان يدفن بمرور الزمن وتتراكم عليه الطبقات –كالمراقد مثلاً-، وهذا لا يصدق على الطبقات العليا، ومن هنا افترق الطابق الأرضي عن الطبقات العليا.نعم إذا لم يصدق عرفاً وحدة الموضع على الطابق الأرضي لكونه بكامله مستحدثاً ومفصولاً عن الأرض الأصلية وليس أنه من الطبقات المتراكمة عليها، فلا فرق في الإجزاء حينئذٍ بين الطابق الأرضي والطوابق العلوية من هذه الناحية، ولعل الموجود خارجاً هو هذا.

(السادس) إن الرمي إلى جزء الجدار الواقع في أرض الرمي لا بأس به باعتبار أن العرف يراه جزءاً من المرمى ولأن الموضع لم يخلُ عبر التأريخ من صخرة أو بناء أو أكمة. والأحوط مراعاة أن تضرب الحصاة به وتسقط في موضع الرمي الصحيح، ولا يصح الرمي إلى الأجزاء العالية أو الأطراف البعيدة من الجدار بحجة أنها ستتدحرج في القمع المخروطي وتقع في الموضع الصحيح؛ للشك حينئذٍ في تحقق القصد لرمي الموضع، ولأن الواجب إصابة الجمرة بالرمي لا مطلق إيصال الحصاة إليها، خلافاً لما يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((نعم لو وقعت على شيء فانحدرت على الجمرة أو مرّت على سنتها حتى أصابت الجمرة جاز، وكذا إن أصابت شيئاً صلباً فوقعت بإصابته على الجمرة للصدق بعد أن كانت الإصابة على كل حال بفعله))(1).

وبعبارة أخرى إننا نقول بالإجزاء حينما تضرب الحصاة جزء الجدار المذكور وتقع في مجتمع الحصى، لأننا نرى أن هذا البناء جزء من موضع الرمي

ص: 268


1- جواهر الكلام: 19/105.

عرفاً وليس لأن الواجب قد تحقق بوصول الحصاة إلى مجتمع الحصى على أي نحو كان ولو برميها إلى الجدار ووقوعها في مجتمع الحصى.

وما سمعنا من أقوال الفقهاء (صفحة 229) وتدل عليه صحيحة معاوية بن عمار (صفحة 254) ظاهر فيما لو قصد رمي الموضع الصحيح فأصابت شيئاً آخر في طريقها ثم وقعت فيه فهذه الإصابة العرضية لا تضرّ.

وفي ضوء هذا ينبغي للحجاج المحترمين (زادهم الله شرفاً) أن يقتربوا من الموضع المذكور من الجدار، وأن تكون النية امتثال الواجب الموجه إليهم من رمي الجمار وليس خصوص رمي الجدار.

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 269

ص: 270

البحث السادس: حكم الصلاة في عرفة لمن أقام في مكة

اشارة

ص: 271

ص: 272

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث السادس:

حكم الصلاة في عرفة لمن نوى الإقامة في مكة(1)

وهي صغرى لمسألة ما ((إذا عزم المسافر على الإقامة في غير بلده عشرة أيام ثم خرج إلى ما دون المسافة))((2)،لأن المسافة بين مكة وعرفة اليوم أصبحت أقل من حد التقصير، وإنما جعلنا هذه المسألة عنواناً للبحث من جهة كونها الفرد الأكثر ابتلاءً اليوم من تطبيقات هذه المسألة، وتثير الجدال والخلاف بين الحجيج في كل موسم مع ما سنجده من احتمال الخصوصية للخروج إلى عرفة.

وهنا قد يقال بالاستغناء عن البحث في المسألة لوجود روايات معتبرة تصرح بأن حكم أهل مكة التقصير في عرفة، فالمقيم كذلك إما لأن الخروج إلى عرفة سفر شرعي أو لأجل سفره الأول من وطنه الأصلي –كما يبني عليه البعض- أو لأنه بمنزلة أهل مكة فحكمه التقصير، وليس من المحتمل أن يكون حكمه التمام.

ومن الروايات في أهل مكة صحيحة معاوية بن عمار (أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات، فقال: ويلهم أو ويحهم وأي سفر أشد منه! لا تتم)(3)

وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم ثم رجعوا إلى منى أتموا الصلاة، وإن لم يدخلوا منازلهم قصروا) باعتبار تقصيرهم عند خروجهم إلى عرفات، وموثقته قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في كم أقصر الصلاة؟ فقال: في بريد ألا ترى أن أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم

ص: 273


1- (*) ابتدأ إلقاء البحث يوم 7/ربيع الأول/ 1431 الموافق 19/2/2010.
2- النص للمحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع.
3- الأحاديث الخمسة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 3، ح1، 4، 5، 8، 3.

التقصير) وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجاً قصروا، وإذا زاروا ورجعوا إلى منزلهم أتموا).

ودلت صحيحة زرارة على تنزيل المقيم منزلة أهل مكة وقد رواها عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر).

وحينئذٍ يقال إن باب البحث في هذه المسألة مسدود لوضوح الحكم بالتقصير.

وجوابه: إن مكة اليوم اتسعت ولا تبلغ المسافة بينها وبين عرفة حد التقصير، بينما كانت في زمن المعصومين (عليهم السلام) تبلغ المسافة الشرعية فالروايات المتقدمة تكون أجنبية عن محل البحث.

فينبغي قبل الإجابة على المسألة محل البحث أن نحرر المسألة الأصلية –أي خروج المقيم إلى ما دون المسافة-.وهذه المسألة ((من مهمات المسائل وأمهات المعاضل قد اختلف فيها علماؤنا السابقون ومشايخنا المعاصرون))(1)

وسماها صاحب الجواهر (قدس سره) في بعض كلماته بالمعركة العظمى(2)

وأنها قد ((اضطربت فيها الأفهام، وزلّت فيها أقدام كثير من الأعلام))(3)، ومن مظاهر هذا الاضطراب: الخروج عن مفروض المسألة والاستدلال بما هو أجنبي عنها، وعدم الانسجام بين المباني في المسائل المرتبطة بها، التي يبحثها الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في مواضع مختلفة، وقد تتقاطع مبانيهم فيها لكن ذلك قد لا يُلتفت إليه على طبق منهجيتهم في البحث، وهذه من ثمرات منهج هذا البحث والله المتفضل المنان. فنسأل الله تعالى التسديد وأن يلهمنا الصواب، إنه هو الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 274


1- مفتاح الكرامة: 6/1941.
2- جواهر الكلام: 14/307.
3- جواهر الكلام: 14/363.

تمهيد

نحرر فيه أموراً ستة لها ارتباط بالمسألة المبحوثة وتلقي الضوء على عناصرها:

(الأمر الأول) في معنى الإقامة ومقتضياتها:

لم يرد في النصوص الشرعية تفسير لمعنى الإقامة التي أخذت موضوعاً للحكم بالتمام، فلا توجد حقيقة شرعية لهذا اللفظ، وإنما أوكل الأمر إلى ما يعرفه أهل هذه اللغة من معناها والذي يفهمه العرف من معناها هو الاستقرار، قال تعالى: «إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً» (الفرقان: 66) وقال تعالى: «لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» (الأحزاب: 13).

فالإقامة لها معنى واحد، لكن مصاديقها وحدود هذه المصاديق تختلف بلحاظ متعلقها فالإقامة في البيت غير الإقامة في المحلة أو البلد ونحوها فالخلاف حقيقة في محل الإقامة، وليس فيها. وكلامنا في إقامة المسافر، ومتعلقها بحسب ما نصت عليه الروايات(1):

البلد والضيعة والأرض والمكان، وإقامة المسافر في بلد تعني استقراره فيه ومكثه متخلياً عما هو شأن المسافرين وهو السير وقطع المسافات وبتعبير القرآن الكريم: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ» (النساء: 101»، بغضّ النظر عن طبيعة هذا السير وآلته ومقدار المسافة التي يقطعها يومياً، وهذا لا ينافي توقفهم للاستراحة والنوم والتزود بالطعام ونحوها، فإن هذه التوقفات تعتبر جزءاً من الحالة العامة وهو السير.فالإقامة في بلد هو التوقف في ذلك البلد عن هذه الحالة العامة، فيفهم منها العرف ما يقابل السير والضرب في الأرض، وتشير إليه بعض التعابير الواردة في الأحاديث الشريفة كقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (وإن لم تدرِ ما مقامك بها تقول: غداً أخرج أو بعد

ص: 275


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15.

غد)(1).

فمحل الإقامة هو ذلك البلد الذي يستقر فيه ويمكث ويلبث ولا ينشغل فيه بقطع المسافة.

وقد فسّر بعضٌ محل الإقامة بأنه محط الرحل وردّ عليه السيد الخوئي (قدس سره) بأنه ((ربما لا يكون له رحل أصلاً))(2)

وهو غير كافٍ إذ قد يكون المراد به المعنى المجازي أي إلقاء ثقل السفر، كما يقال: ألقى عصا الترحال وقد لا يكون عنده عصاً، أو يحمل على النحو الغالب إذ الغالب أن يكون للمسافر رحل كقوله تعالى: «وَرَبَائِبكمُ اللاتِي في حِجُورِكُمْ» (النساء: 23) إذ الغالب في الربائب أن تكون في الحجور. نعم يصح ردّه (قدس سره) ((بما هو ظاهر اللفظ بحسب المتفاهم العرفي من كونه محلاً لإقامة المسافر نفسه لا لرحله)).

وفسّره بعض ب_((اختيار مكان مخصوص للاستراحة والبيتوتة ليلاً))(3)،وينقض عليه بمن اتخذ مكاناً للمبيت ويخرج في النهار إلى ما فوق المسافة ويعود للمبيت، إذ لا يفرق على هذا التفسير بين الخروج إلى ما دون المسافة (كأربعة فراسخ إلا ذراعاً) والى المسافة نفسها مع رجوعهما في الليل للمبيت، ولا يصح في التفريق أن يقال: إن السفر إلى المسافة يوجب القصر فيقطع الإقامة؛ لأن الكلام في الفهم العرفي لمعنى الإقامة.

ومما تقدم تُعلم المناقشة في تعريف السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله الشريف)، قال (قدس سره): ((ونقصد بالمكث في الأيام العشرة أن يكون مبيته ومأواه ومحط رحله ذلك البلد، وأن لا يمارس خلال هذه المدة سفراً شرعياً))(4).

نعم إذا أخذت هذه العناصر كلوازم للتعريف اللغوي والعرفي الذي هو

ص: 276


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح9.
2- السيد الخوئي (قدس سره) في الموسوعة الكاملة: 20/270.
3- حكاه عن الأصحاب في البدر الزاهر: 226، وهي تقريرات المرحوم السيد حسين البروجردي (قدس سره) بقلم المرحوم الشيخ المنتظري (قدس سره).
4- الفتاوى الواضحة: 319، الفقرة (137) طبعة النجف.

الاستقرار واللبث والمكث فلا بأس به إذ من لوازم الاستقرار والمكث في مكان أن يكون فيه محط رحله ومأواه ومبيته.

وقد اشترطوا في صحة الإقامة عشرة أيام الموجبة للتمام إذا عزم عليها المسافر أموراً منها:

أولاً: أن تكون متواليات لكي تصدق إقامة عشرة أيام عرفاً، وهو محل اتفاقالفقهاء (قدس الله أرواحهم) فلو أقام بضعة أيام ثم سافر وعاد ليقيم باقي العشرة فإنها لا تكون إقامة موجبة للتمام. وقد ذكروا هنا رواية تنافي ذلك وهو خبر الحضيني قال: (استأمرت أبا جعفر في الائتمام والتقصير قال: إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيام وأتم الصلاة، فقلت له: إني أقدَمُ مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة (أيام) قال: انو مُقام عشرة أيام وأتم الصلاة)(1)،إذ كيف تُتصور نية الإقامة وهو يخرج إلى عرفة في الموسم، وقد أجيب بضعف الخبر لجهالة الحضيني وإعراض الأصحاب عنه(2)

واحتمل الشيخ (قدس سره) اختصاصها بموردها وهي مكة. وأضاف صاحب المستند: ((مع أن لزوم خروج كل من يرد مكة إلى عرفات ممنوع، ومن أين عُلم خروج الراوي))(3).

أقول: قد نكون في غنى عن تلك الوجوه التي لا تخلو من مناقشة كبروياً وصغروياً وننفي معارضة الرواية بأن نفهم منها أن الإمام (عليه السلام) يحث السائل على أن يقدم سفره إلى مكة ليصل قبل التروية بعشرة أيام لتصح منه الإقامة، ومثل هذا الحث على أن يحقق المكلف الموضوع وإن لم يكن واجباً عليه موجود في سيرة الأئمة (عليهم السلام) كتوفير المال لتحقيق الاستطاعة على الحج.

وقد غفل بعض السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) عن هذا الشرط حينما رخّصوا للمقيم أموراً تنافيه، كمن أجاز له الخروج إلى ما دون المسافة

ص: 277


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 25، ح15.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/120، جواهر الكلام: 14/310، المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/270.
3- مستند الشيعة: 8/249.

مطلقاً ولو كل يوم، مع أن هذا الخروج يستغرق مسيرة نهار فلا تتم له عشرة أيام.

والأغرب من ذلك ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) من أنه ((لا ينبغي التأمل في عدم انقلاب الحكم ولزوم البقاء على التمام في البلد وخارجه، سواء أكمل العشرة في محلّ الإقامة أم لا، كما لو أقام في النجف يوماً وبعدما صلّى أربعاً خرج إلى الكوفة وبقي فيها ثمانية ثمّ رجع وبقي يوماً آخر في النجف، فإنّه يبقى على التمام في جميع ذلك بلا إشكال فيه ولا خلاف ظاهراً))(1).

وهذا يعني عدم تمام العشرة في محل الإقامة الذي هو شرط في صحتها، ولا نتوقع منهم الجواب بكفاية إيقاع العشرة في كل ما دون المسافة ولا يشترط أن تكون في محل الإقامة ذاته، لأنهم لا يرتضون أن تكون على هذا المدى الواسع وهي دائرة نصف قطرها المسافة الشرعية ومركزها بلدة الإقامة. قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ثم إن ظاهر اعتبار قصد الإقامة عشراً في المحل هو أنه لو نوى الخروج في أثنائها إلى ما هو خارج عن مصداق ذلك العنوان لم يتحقق نية الإقامة عشراً، بل المتحقق نية الإقامة في بعض العشر، إلا أن يكون المحل في غاية القرب بحيث لا يعدخروجاً عن محل الإقامة، وكان زمان الخروج في غاية القصور بحيث لا يعد نقصاً في العشرة.

ومنه يظهر ضعف ما يحكى عن بعض: من أنه لا يقدح الخروج إلى ما دون المسافة مع الرجوع ليومه أو ليلته.

وقد ضعّفه جماعة من الأصحاب بعدم حصول التوالي في العشرة، ولا يخلوا من تأمل؛ لعدم ابتنائه على مسألة تواليها، بل على مسألة نقص العشرة، والمبتني على مسألة التوالي هو ما لو قصد الخروج في الأثناء إلى ما دون المسافة أو فوقها زماناً ثم العود وإكمال ما قبل الخروج عشرة))(2).

ثانياً: وحدة محل الإقامة بلا خلاف ولا إشكال؛ لأن ظاهر النصوص

ص: 278


1- الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي (قدس سره): 20/271.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 8/47.

الواردة في الإقامة الموجبة للتمام أنها إقامة واحدة مستمرة وتعدد البلدان يوجب تعدد الإقامة فلا تكون موجبة للتمام، فلو عزم على الإقامة عشرة أيام في أكثر من بلد –كالكوفة والنجف أو بغداد والكاظمية- من غير عزم على الإقامة في واحدة منها عشرة أيام: استمر على التقصير. والوحدة المقصودة هي الوحدة العرفية بلحاظ محل الإقامة –وهو البلد كما قدّمنا- فلا ينافيها الخروج إلى المسجد والسوق وبيوت الأصدقاء.

وبعد الذي عرفناه من مدخلية متعلق الإقامة في فهم حدودها يكون مما لا حاجة إليه أن نقول: ((إن المراد من الوحدة المكانية ليس الوحدة الحقيقية ضرورة جواز تردد المقيم في بلد من داره إلى المسجد وإلى السوق، ولا الوحدة الاعتبارية مطلقاً لاختلاف مقتضى الاعتبار جداً مثل العراق وإيران وآسيا))(1).

لأن ذلك كله يحدده متعلق الإقامة، وقد يصحّ الذي قاله على بعض الوجوه كالإقامة في الدولة لمنح الجنسية والرخصة، والإقامة في البيت على نحو الإقامة الجبرية والاعتقال والإقامة في القارة حينما يجري الحديث عن لون البشرة للمقيمين في أفريقيا.

ولا يضر سعة المدينة مع وحدة المقام عرفاً وقد يكون ما بين أحيائها أكثر مما بين بلدين مختلفين كالنجف والكوفة.

وتوجد رواية استظهر منها خلاف ذلك وهي موثقة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون له الضياع بعضها قريب من بعض يخرج فيقيم فيها، يتم أو يقصر؟ قال: يتم)(2).

كذا رواها في الكافي ونوقشت من جهة ورود (يطوف) بدل (يقيم) عند الصدوق والطوسي (قدس الله روحيهما)، وعدم تعيّن الإقامة بالعشرة لورود لفظ (يقيم) في أيام أقل منها في الضيعة، أو تحمل على نية الإقامة في إحدى الضياع والتردد إلى البواقي وما لا ينافي صدق الإقامة، كمن ينوي الإقامة في النجف ويتردد على

ص: 279


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/118.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح2.

الكوفة والسهلة ونحوها.

وينبثق هنا سؤال عن الحدود التي يمكن للمقيم أن يخرج إليها من دون أنينافي عزمه على الإقامة في بلد ما الذي هو شرط في صحتها.

وقد اختلفت أقوال الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في المسألة ومنشأ الاختلاف مضافاً إلى قراءة الروايات؛ الاختلاف في فهم معنى البلدة عرفاً وهي التي جُعِلت متعلقاً ومحلاً للإقامة الموجبة للحكم بالتمام، وتأثير زمان الخروج في صدقها. فإن لفظ البلد مما ((لا شك في صدقه على ما أحاط به سور البلدة أو القرية أو ما تجمعه حدود بنيانها ودورها، ولكن قد يقتصر على ذلك في العرف كما يقال لمن أقام عند درب بغداد: ما دخل بغداد واجتاز منها، ولذا لو نذر أحد أن لا يدخل بغداد لا يحنث لو ذهب إلى قرب سوره.

وقد استعمل ذلك في بعض الأخبار الآتية في بيان حد الترخص، بل هذا هو الاستعمال الأكثري كما يستفاد من الأخبار أيضاً، ولذا اعتبروا ابتداءً المسافة من خارج البلد بهذا المعنى، ولذا يصح أن يقال: فلان خرج من البلد، إذا تجاوز عن دربه وسوره.

وقد يتجاوز عن ذلك فيستعمل فيما ذكر وفي حدوده المتصلة به وبساتينه، كما مرت الإشارة إليه.

وقد يتجاوز عن ذلك أيضاً فيستعمل في بلدة وقراها وقرية ومزارعها البعيدة، فيقال: فلان ساكن بغداد، وإن سكن بعض قراها.

ونحن لا نعلم المراد من البلدة والقرية التي أضيفت إليها الإقامة، ولا شك أن ذلك ليس منوطاً إلى قصد المقيم حتى لو نوى المقام بالبلدة بالمعنى الأخير لم يضر الخروج إلى قراها البعيدة التي منها إليها عشرة فراسخ وأكثر ويكون المجموع في حكم الوطن، بل القدر الثابت أن قصد الإقامة في البلدة والقرية موجب للإتمام، والبلدة تستعمل في معان، والقدر المعلوم أن قصدها بالمعنى الأول – وهو ما جمعته الدور والبنيان وحفته السور والجدران - يوجب

ص: 280

الإتمام قطعاً، والباقي غير معلوم لنا، فلا يعلم تعلق الحكم به أيضاً))(1).

وعلى أي حال فإنه يمكن إرجاع الأقوال إلى أربعة:

أولها: البقاء داخل سور البلدة وعدم تجاوزه، وحكي عن الشيخ مهدي الفتوني (قدس سره) –أستاذ السيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء (قدس الله روحيهما)-، وقد عرّض به صاحب الحدائق (قدس سره) بقوله: ((وأما ما اشتهر في هذه الأوقات المتأخرة والأزمنة المتغيرة: من أن من أقام في بلد أو قرية - مثلاً فلا يجوز له الخروج عن سورها المحيط بها، أو عن حدود بنيانها ودورها، فهو ناشئ عن الغفلة))(2).

وقال في مفتاح الكرامة: ((هذا تعريض بمولانا الشيخ الفاضل الفتوني))(3)،وضعّفه السيد الحكيم (قدس سره) من جهة ((عدم منافاة الخروج عن السور في الجملة لصدق الإقامة في البلد عرفاً، التي أخذت موضوعاً لأدلة وجوبالتمام، لأن خارج السور القريب منه معدود عرفاً متحداً مع البلد، فلا تكون الإقامة فيه مغايرة للإقامة في البلد، فضلاً عن الخروج إليه آناً ما))(4).

ثانيها: ((أن لا يخرج عن محل الإقامة إلى حد الترخّص فما فوقه كما عن الشهيدين))(5)

واستدل له بأن ((معنى الإقامة في البلد أن لا يخرج عن حدود ذلك البلد، والمستفاد من الأخبار أن الحدود الشرعية لكل بلد منتهى سماع أذانها ورؤية بيوتها وجدرانها، وهو الذي يحصل به الترخص من جميع أطرافها، فما دام يكون فيما دون حد الترخص يكون في البلد، وإذا تجاوز عنه يكون خارجاً عنه.

أو يقال: ليس المراد بالإقامة معناها اللغوي، ولم تثبت فيه حقيقة شرعية، فيقتصر فيه على موضع الإجماع، وهو ما لم يتجاوز حد الترخص.

ص: 281


1- مستند الشيعة: 8/251-252.
2- الحدائق الناضرة: 11/344.
3- مفتاح الكرامة: 6/1884.
4- مستمسك العروة الوثقى: 8/118-119.
5- مستند الشيعة: 8/246.

أو يقال: معنى الإقامة في البلد الإقامة فيه عرفاً، وعدم الخروج عن حد الترخص عن بلد أقام فيه عرفاً، دون ما تجاوز عنه.

ويرد على الأول: منع كون الحدود لبلد هو حد الترخص. واعتباره في كل من الخروج والدخول من السفر لا يستلزم اعتباره في معنى الإقامة أو البلد أو الموضع، فإنه أمر شرعي لا مدخل له في أمر عرفي مستفاد من اللفظ المترتب عليه الحكم الشرعي. وتقديم الشرع على اللغة أو العرف إنما هو فيما إذا أفاد الشرع حقيقة شرعية لذلك اللفظ الذي نيط به الحكم، دون ما إذا أفاد شرطاً شرعياً لحكم في بعض الموارد كما نحن فيه، فإن غاية ما يستفاد من الشرع اعتبار حد الترخص حال خروج المسافر ودخوله في القصر والإتمام، لا صيرورة الإقامة حقيقة شرعية فيما لم يحصل معه الخروج إلى حد الترخص للفظها.

وعلى الثاني: منع عدم إرادة المعنى اللغوي عن الإقامة في موضع، بل هو المراد، وهو ما يصدق عليه ذلك عرفاً فإنه لا يعلم للإقامة في موضع لغة معنى سوى ما يفهمه العرف، وعلى هذا فلا حاجة إلى الاقتصار على موضع الإجماع، بل يرجع إلى العرف، مع أن أصل الإجماع الذي ادعاه ممنوع.

وعلى الثالث: أنه بعد الإناطة إلى العرف لا يتفاوت فيه التجاوز عن حد الترخص بقليل أو عدم البلوغ إليه كذلك، والحاصل أنه لا وجه لإناطة العرف بخصوص حد الترخص))(1).

ثالثها: أن لا ينشئ سفراً شرعياً بالخروج إلى المسافة فما فوقها، فلا يضر فيها أن يخرج إلى ما دون المسافة بشرط أن يرجع ليبيت في محل الإقامة، كما عن فخر المحققين، ووافقه الكاشاني في الوافي، وهو ما اعتبره صاحب الجواهر (قدس سره) إفراطاً في القول، قال (قدس سره): ((أفرط الفخر فيما يحكى عنه في بعض الحواشي المنسوبة إليه من عدم البأس في خروج المقيم إلى ما دون المسافةسواء كان ذلك في نيته من ابتداء الإقامة أو عرض له في الأثناء، وسواء نوى إقامة عشرة أيام مستأنفة أو لا، ووافقه عليه الكاشاني في الوافي والأستاذ

ص: 282


1- مستند الشيعة: 8/247.

الأكبر في مصابيحه على ما حكي عنه))(1).

واستدل له بأن ((الإقامة إنما تنقطع بالسفر الشرعي، والسفر إلى ما دون المسافة ليس سفراً شرعياً فلا يقدح في اتصال الإقامة، وبعبارة أخرى: المراد بالإقامة ترك السفر، فلا ينافي قصد ما دون المسافة فيه))(2).

ويرد على هذا القول:-

1- إنه منافٍ لمعنى الإقامة الذي هو الاستقرار والمكث.

2- يلزم منه مخالفة شرط توالي العشرة؛ لأن الذهاب إلى حد المسافة والعودة إلى محل الإقامة يستغرق يوماً أي بياض نهار، فلو عمل هذا المقيم بهذا القول فإنه سوف لا يبقى عشرة أيام بل عشر ليالٍ فقط.

3- وتبعاً لذلك فإنه سينافي وحدة محل الإقامة التي هي محل إقامته هو وليس محل رحله ومبيته.

4- إننا اتفقنا على أن الإقامة ومحلها مفهومان عرفيان ولا حقيقة شرعية فيهما، فلا يصح جعل حدٍ شرعي معياراً لهما.

وقرب في المستند الاستدلال لهذا القول بعدة روايات كرواية الحضيني المتقدمة بتقريب أنه ((لا ريب أن القادم بيومين أو ثلاثة قبل التروية من نيته الخروج إلى عرفة قبل العشرة، ولا يتم معه الحكم بالتمام إلا على هذا القول))(3).

وفيه: مضافاً إلى ما تقدم من المناقشات في خبر الحضيني، إن هذا التقريب لا يتم لأن عرفه خارج المسافة الشرعية يومئذٍ –كما في الروايات التي ذكرناها أول البحث- فتكون الرواية أجنبية عن المقام.

ونفس الإشكال يأتي على تقريب الاستدلال ((بصحيحة ابن مهزيار وفيها: (إذا توجهت من منى فقصر الصلاة، فإذا انصرفت عن عرفات إلى منى

ص: 283


1- جواهر الكلام: 14/305.
2- مستند الشيعة: 8/247-248.
3- مستند الشيعة: 8/248.

وزرت البيت ورجعت إلى منى فأتم الصلاة تلك الثلاثة الأيام).

فإن إتمام الصلاة في منى في الأيام الثلاثة لا يتم إلا على عدم ضرر ما دون المسافة في قصد الإقامة؛ لأنه بعد الثلاثة يقصد مكة.

وصحيحة زرارة: (من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة، وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر).

فإن إتمام الصلاة في منى لا يتم إلا على القول المذكور، ولذا قال في الوافي بعد ذكر الرواية والكلام فيها: (إلا أن يقال إرادة ما دون المسافة لا تنافي عزم الإقامة،وعليه الاعتماد). انتهى))(1).

أقول: ويمكن أن يكون مستند هذا القول تفسير محل الإقامة بمحط الرحل ومكان المبيت فلا ينافيه الخروج المذكور، وتظهر هذه المبنائية صريحاً في كلام الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) بقوله: ((إن المراد من مكان الإقامة في بلد أو قرية هو محل مبيته ومأواه ومسكنه ومحط رحله، فإن هذا المعنى هو المتفاهم عرفاً من روايات الباب، وهذا لا ينافي خروجه من البلد إلى ضواحيه وبساتينه، بل إلى ما دون المسافة شريطة أن لا يبيت فيه، كما إذا نوى الإقامة في النجف الأشرف وفي الأثناء خرج إلى الكوفة للزيارة أو لغاية أخرى ساعة أو ساعتين أو أكثر ثم رجع إلى النجف، فإنه لا يمنع عن صدق أن محل إقامته هو النجف، بل لا يمنع عن ذلك الخروج إلى ما دون المسافة كما مر.

ومن هنا يظهر أنه لا مانع من أن ينوي الذهاب إلى الكوفة في كل يوم حين ينوي الإقامة في النجف شريطة أن لا يبيت في الكوفة، إذ ما دام يكون مبيته ومأواه ومحط رحله في النجف فلا تضر النية المذكورة، ولذا لو سأله سائل أين نزلت في سفرك هذا؟ لقال نزلت في بيت فلان أو الفندق الفلاني في النجف الأشرف.

فالنتيجة: إن الخروج عن محل الإقامة بما دون المسافة في مدة محدودة

ص: 284


1- مستند الشيعة: 8/248.

كساعة أو ساعتين أو أكثر ثم الرجوع إليه لا يضر بعنوان المقيم عشرة أيام في بلدة أو قرية))(1).

وفيه:-

1- ما ناقشنا به مبنى هذا القول –أعني تعريف محل الإقامة بمحط الرحل ومكان المبيت- وقلنا أنه خلاف المتفاهم العرفي وأن محل الإقامة هو موضع استقرار المسافر وليس رحله.

2- مناقشة البناء –وهو جواز الخروج إلى ما دون المسافة- لأن هذا الأمر موكول إلى العرف، وقطع المسافة أمر شرعي لا يدخل في تعريفه، كالذي مر عن حد الترخّص.

3- إن العرف لا يجد فرقاً بين المسافة الشرعية وما دونها بذراع حتى يكون الخروج منافياً في الأول دون الثاني.

4- قوله: ((لا مانع من أن ينوي الذهاب إلى الكوفة في كل يوم حين ينوي الإقامة في النجف شريطة أن لا يبيت في الكوفة))، لا يساعد العرف على إطلاقه وهو ينافي شرط وحدة محل الإقامة، كما ينافي شرط إقامة عشرة أيام في البلد أي عشرة نهارات مع لياليها المتخللة، فإن هذا سيقضي عشر ليالٍ فقط، وقد تقدمت الإشارة إلى مخالفة هذا الشرط (صفحة 277).

5- قوله: ((ولذا لو سأله ..)) من التسامح في التعبير فإن النزول غير الإقامة.ولا أستبعد أن قبولهم بهذا المعنى ناشئ من أحد أمرين:-

1- محاولة التوفيق بين موردين للخروج، أحدهما الخروج المنافي للإقامة الذي نحن بصدده، والآخر: الخروج الموجب لانتفاء الحكم بالتمام للمقيم في صحيحة أبي ولاد الآتية بإذن الله تعالى، فلاحظوهما بنظرة واحدة والمفروض أن مورديهما مختلفان كما سيأتي توضيحه بإذن الله تعالى.

2- التخلص من المفارقة التي تواجههم، فبينما هم يمنعون من الخروج المنافي

ص: 285


1- تعاليق مبسوطة: 4/426-427، وقد اقتبسه من السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في (الفتاوى الواضحة: 319 من طبعة النجف).

لصدق الإقامة عرفاً ولو كان دون المسافة الشرعية بكثير: تراهم يفترضون المسألة محل البحث، الشاملة بإطلاقها لكل ما دون المسافة ويوسعونها لتشمل من هو بحكم المقيم أي من عزم على الإقامة وصلى فريضة تماماً مع وجوه أخرى سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى.

رابعها: إن ذلك موكول إلى العرف، فيجوز الخروج إلى ما لا ينافي صدق الإقامة في البلد عرفاً، وذهب إليه جملة من الفقهاء كصاحب المدارك والبحار والحدائق والرياض (قدس الله أرواحهم)، قال الأول: ((ينبغي الرجوع في صدق الإقامة إلى العرف، فلا يقدح فيها الخروج إلى بعض البساتين والمزارع المتصلة بالبلد مع صدق الإقامة فيها عرفاً))(1).

أقول: هذا القول هو الصحيح بعد أن أوكلنا فهم معنى الإقامة وحدود محلها إلى العرف، ويمكن إرجاع الأقوال المتقدمة إلى هذا القول بأن يكون اختلافهم في فهم العرف لمحل الإقامة.

ودافع صاحب المستند بهذا التوجيه عن القول الأول وصاحبه (قدس سره) واعتبره الحق الحقيق، قال (قدس سره): ((إن ما نقله صاحب الحدائق ناسباً له إلى الغفلة، هو الحق الحقيق بالاتباع وعليه الفتوى والاعتماد، ولا يتوهم أن ذلك قول مغاير للقول الأخير بل هو عينه، إلا أنا نقول: إن هذا هو المعنى العرفي لإقامة البلد))(2).

أقول: ويدخل في فهم العرف عنصر الزمان أي مدة الخروج فيجب أن لا تزيد عن بضع ساعات كأربع أو خمس، وأن لا تتمادى المسافة كثيراً بحيث تصل إلى ما يقارب المسافة الشرعية؛ لأننا سوف لا نجد حينئذٍ جواباً عن الفرق بين أربعة فراسخ إلا ذراعاً وأربعة فراسخ ليكون الثاني منافياً للإقامة دون الأول.

ومنه يُعلم أن قول صاحب العروة (قدس سره) هو المختار مع عدم الأخذ بترقيه الأخير على سعته، قال (قدس سره): ((لا يعتبر في نيّة الإقامة قصد

ص: 286


1- مدارك الأحكام: 4/460.
2- مستند الشيعة: 8/253.

عدم الخروج عن خطّة سور البلد على الأصح بل لو قصد حال نيّتها الخروج إلى بعض بساتينها ومزارعها ونحوها من حدودها ممّا لا ينافي صدق اسم الإقامة في البلد عرفاً جرى عليه حكم المقيم حتّى إذا كان من نيّته الخروج عن حدّ الترخّص، بل إلى ما دون الأربعة إذا كان قاصداً للعود عن قريب بحيث لا يخرج عن صدق الإقامة في ذلك المكانعُرفاً، كما إذا كان من نيّته الخروج نهاراً والرجوع قبل اللّيل))(1).

(الأمر الثاني) هل الإقامة قاطعة لحكم السفر فقط أم لموضوعه أيضاً؟ وهل المقيم كالمسافر أم كالحاضر؟

اشارة

لا شك أن المسافر الذي حكمه التقصير إذا نوى الإقامة في بلد ما فإنه يتم الصلاة فيه، وحينئذٍ فهل إن حكم التمام هذا مبني على عدول عن حكم التقصير الذي كان ثابتاً له فقط مع بقاء عنوان المسافر عليه، أم أنه كاشف عن انتفاء صفة السفر عنه فأصبح كالحاضر أو كالذي مرّ بوطنه فالحكم بالتمام لتغير الموضوع؟.

وبتعبير آخر: هل إن الحكم بوجوب التمام في محل الإقامة خارج عن عمومات القصر تخصيصاً أم تخصصاً؟.

ومن لوازم هذا الأمر التي يرسلونها إرسال المسلّمات أنه على الأول يكون السفر ما قبل محل الإقامة متحداً مع ما بعدها، وعلى الثاني يكون السفر متعدداً، وهذا يعني ضم ما قبل الإقامة إلى ما بعدها في حساب المسافة على الأول، بينما يلحظ كل من السفرين مستقلاً على الثاني، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) في توجيه قول من ذهب إلى وجوب القصر على المقيم بمجرد الخروج عن موضع الإقامة إلى ما دون المسافة: ((لعل نظر هذا القائل إلى أن الإقامة قاطعة لحكم السفر، بمعنى أنها توجب التمام في المقام، لا لنفس السفر

ص: 287


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/269.

حتى لا ينضمّ الواقع بعدها إلى ما قبلها)) (1).

على أي حال فقد نُسب (القول الثاني) إلى المشهور، بل نفى السيد صاحب المدارك (قدس سره) الخلاف عنه(2)،وقال السيد صاحب الرياض (قدس سره) معلقاً على قول المحقق الحلي (قدس سره) في المختصر النافع: ((الثاني –من شروط التقصير- أن لا يقطع سفره بعزم الإقامة)) قال (قدس سره): ((بلا خلاف بيننا، بل عليه الإجماع في عبائر جماعة حد الاستفاضة))(3)

وحكى (قدس سره) في موضع آخر ((الاتفاق على جعل الإقامة عشراً من القواطع، وكون البلد بها بمنزلة الوطن))(4)،واستدل صاحب مفتاح الكرامة (قدس سره) ب_((ما أجمعوا عليه من أن إقامة العشرة من قواطع السفر)).

واستدل له بوجوه:

الأول: الإجماع المذكور، ويمكن التشكيك فيه لأكثر من وجه:-1- إنه إجماع مدركي مستند إلى روايات عموم المنزلة ونحوها من الوجوه الآتية، وبحسب تعبير بعض من قاربنا عصره: إن ((الإجماع في مثل هذه المسألة غير مفيد، لعدم كونها من المسائل المأثورة والمتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يداً بيد، بل هي من المسائل التفريعية الاستنباطية.

نعم، أصل ثبوت الإتمام في الوطن ومحل الإقامة بقسميها من المسائل الأصلية المتلقاة عنهم (عليهم السلام)، ولأجل ذلك لم يتعرض الشيخ (قدس سره) لمسألتنا هذه في كتاب نهايته الذي ألّفه على طريقة القدماء من أصحابنا لنقل خصوص المسائل الأصلية المتلقاة عنهم (عليهم السلام)، وتعرض لها في مبسوطه الذي ألّفه على طريقة المتأخرين من خلط التفريعات الاستنباطية بالأصول المتلقاة. نعم، ببالي أن ابن البراج

ص: 288


1- الموسوعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 8/71.
2- مدارك الأحكام: 4/441.
3- رياض المسائل: 4/345.
4- رياض المسائل: 4/406.

أيضاً تعرض للمسألة في المهذب))(1).

2- الشك في كون مراد كل المجمعين هذا –عدا من صرّح- لأن موضوع إجماعهم هو اشتراط عدم نية الإقامة عشرة أيام في بلد قبل قطع المسافة، فنيّة الإقامة قاطعة لقصد المسافة فلا تكون موجبة للقصر، ولا صراحة في كونها قاطعة للسفر، لذا ذكروه في شروط الحكم بالتقصير، فلا يصح الاستدلال به.

بيان ذلك: أنه وفقاً للتبويب المعاصر والقريب من عصرنا للرسائل العملية وشروحها –كشروح العروة الوثقى- فإن الإقامة تذكر في موضعين: (أولهما) شروط الحكم بالتقصير حيث اشترطوا في ثبوت القصر أن يكون من حين ابتداء السفر ناوياً للمسافة الشرعية من دون انقطاعها بالإقامة أو المرور بالوطن، وهو ما ذكرناه آنفاً. (ثانيهما) قواطع السفر بعد تحققه بشروطه الموجبة للتقصير، فالثاني متأخر عن الأول، وعدم الالتفات إلى هذه النكتة عند البعض أوجب الإشكال بالتكرار.

لذا يمكن أخذ أقوالهم بوضوح في المسألة من المورد الثاني، أما السابقون (قدس الله أرواحهم) فقد عنونوا الأول ولم يعنونوا الثاني حتى تعرف أقوالهم وإنما ذكروا في المسائل التفصيلية أن الحكم على المسافر بالتقصير ينتفي في محل الإقامة ويصبح حكمه التمام وهذا المقدار غير كافٍ لمعرفة أنه لانقطاع السفر أو حكمه إلا أن يصرحوا به كما فعل بعضهم.

ولذا شكك صاحب المستند (قدس سره) في الإجماع المذكور، قال (قدس سره): ((الشرط الثالث –من شروط القصر-: أن لا ينقطع سفره في أثناء الطريق بأحد القواطع، فلو انقطع أتم.

وهذا الشرط تارة يكون لأصل شرعية التقصير، والأخرى لاستمراره.

فعلى الأول يكون المراد أنه يشترط في شرعية التقصير أن ينوي مسافة لا ينقطع سفره في أثنائها قبل وصوله حد مسافة التقصير. فلو نوى مسافة منقطعة في

ص: 289


1- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 242-243.

الأثناء بأحد القواطع لا يجوز له التقصير لا في الطريق ولا في المنزل.

وعلى الثاني يكون المراد: أنه يشترط في استمرار التقصير أن لا ينقطع سفره في أثنائه بعد بلوغ المسافة بأحد القواطع. فلو انقطع يتم حين الانقطاع هذه إلى أنيستأنف قصد مسافة جديدة، ويقصّر قبله.

ومراد الأكثر في هذا المقام حيث ذكروا هذا الشرط هو المعنى الأول، ولذا لم يذكروا في القواطع هنا تردد ثلاثين يوماً، لأنه في الأول غير متصور، إذ لا معنى لعزم التردد في الأثناء ثلاثين يوماً، بل اقتصروا على عدم دخوله الوطن أو موضعاً يعزم فيه إقامة العشرة.

وأما المعنى الثاني فقد ذكروه في مطاوي أحكام السفر، لأنه ليس حقيقة من شروط التقصير بل شرط استمراره))(1).

نعم صرّح بانقطاع السفر جملة من الأساطين، كالعلامة (قدس سره) في التذكرة والنهاية، قال (قدس سره): ((لو نوى مقام عشرة أيام في بعض المسافة انقطع سفره)) ويعرف ذلك من لازم كلام بعضهم كالشهيد في الدروس قال: ((لو خرج بعد عزم الإقامة وقد صلى تماماً اشترط مسافة أخرى)) ولازمه –بحسب ما قدمنا- انقطاع سفره وإلا لضُمَّ الجزءان ما قبل محل الإقامة وما بعده.

الثاني: التمسك ببعض الروايات:

كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر)(2)،وموثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن أهل مكة إذا زاروا عليهم إتمام الصلاة؟ قال: نعم، والمقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم)(3)

ولا منافاة مع الصحيحة لأنها مبنية على تحقق المفهوم للموثقة

ص: 290


1- مستند الشيعة: 8/222-223.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المسافر، باب3، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المسافر، باب15، ح11.

وهو غير ثابت، ولو فرضت فتعالج بحمل إقامة الشهر على نحو التردد في الخروج وعدمه وحكمه كإقامة عشرة أيام.

قال صاحب الرياض (قدس سره) في تقريب الاستدلال: ((وعموم المنزلة يقتضي الشركة في جميع الأحكام، ولا يخصصه خصوص المورد لو كان))(1).

ولكن هذا التقريب نوقش من جهة كفاية الاتحاد من جهة واحدة لصحة التنزيل، وهي هنا وجوب التمام فيهما، ويطالب بالدليل على الأزيد عن ذلك.

الثالث: ما حكاه صاحب المستند (قدس سره) عن بعضهم من أن الإقامة تعدِّد السفر فيكون ما قبلها سفراً وما بعدها سفراً آخر.

ويرد عليه: أنه عين المدعى فإن الإقامة إذا كانت قاطعة للسفر موضوعاً فإنها توجب تعدد السفر وإلا فلا، مضافاً إلى ما أورده صاحب المستند (قدس سره)بالمنع من هذا الحكم لدى العرف، قال (قدس سره): ((منع تعدد السفر عرفاً، فإنه لا وجه لكون المسافة المتخللة في أثنائها إقامة تسعة أيام ونصف سفراً واحداً وإقامة عشرة أيام سفرين عرفاً)) لكنه (قدس سره) ألحقها بقوله: ((وكذا لا يفرق العرف بين ما إذا مر بمنزله الذي يتوطنه سيما إذا مر راكباً عن حواليه، وبين ما إذا لم يمر))(2)

وهذا الذيل مما لا يساعد عليه العرف لليقين بانقطاع السفر بالعودة إلى الوطن.

أما (القول الأول) فقد نسبه صاحب الجواهر (قدس سره) إلى المحقق –ويلقّبه أحياناً المقدس البغدادي(3)-

قال (قدس سره): ((ظاهر المحقق البغدادي أو صريحه أنه ليس من القواطع للسفر، بل هو من الأحكام اللاحقة للمسافر

ص: 291


1- رياض المسائل: 4/346.
2- مستند الشيعة: 8/224.
3- بحسب ما أفاد بعض المحققين من القرائن أن المراد به السيد محسن الأعرجي الكاظمي صاحب كتاب المحصول في الأصول توفي سنة 1227 كما في معارف الرجال.

كالإتمام في مواضع التخيير، فلا ينقطع قصد المسافة حينئذٍ به، ولا يحتاج في تجدد الترخص إلى مسافة جديدة))(1).

واحتمله له ولغيره السيد الحكيم (قدس سره) فقال معلقاً على مسألة المقيم إذا خرج إلى ما دون المسافة وعاد ناوياً إقامة جديدة في نفس البلد ((وعن بعض وجوب القصر، ونسب إلى المقدس البغدادي (قدس سره) والشيخ محمد طه نجف (قدس سره)، وكأنه لبنائهم على كون الإقامة رافعة لحكم السفر لا قاطعة لنفسه))(2).

أقول: هذا الاستدلال يستبطن الاعتقاد بصحة اللوازم التي ذكرناها سابقاً ومنها ضم جزئي المسافة ما قبل محل الإقامة وما بعدها. وقد أخذ هذا التوجيه من كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي نقلناه عنه (صفحة 287).

ويظهر أن السيد صاحب العروة (قدس سره) يذهب إليه لقوله في الشرط الرابع من شروط التقصير في العروة الوثقى وهو أن لا يكون من قصده في أول السير أو في أثنائه إقامة عشرة أيام قبل بلوغ الثمانية، قال (قدس سره): ((لأن الإقامة قاطعة لحكم السفر، والوصول إلى الوطن قاطع لنفسه))، وقد حاول السيد الحكيم (قدس سره) توجيه عبارته بما يوافق قول المشهور فعلق عليها: ((إنها قاطعة له نفسه شرعاً، في قبال الوطن القاطع له عرفاً حقيقةً، لا أنها رافعة لحكم السفر نظير التردد –أي التردد ثلاثين يوماً- وإلا لم يصلح تعليلاً للحكم المذكور، ولا مما تساعده الأدلة))(3).

أقول: هذا التوجيه وإن كان صحيحاً في نفسه وهو ما يعتقده المشهور، إلا أن الكلام في حمل العبارة عليه فإنه تبرع من السيد الحكيم (قدس سره) لا ينسجم مع ظاهرالعبارة، فهي تأبى الحمل على قاطعية الإقامة لموضوع السفر حكماً أي بحكم الشارع، لتصريحه بمقابلة قاطعيتها لقاطعية الوطن لموضوع السفر، نعم لا

ص: 292


1- جواهر الكلام: 14/243.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/132.
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/43.

يمكن الجزم بأن مراده (قدس سره) قاطعية الإقامة لحكم السفر فقط دون موضوعه لاحتمال إرادته عدم تحقق شرط التقصير وهو قصد المسافة بنية الإقامة قبلها كما بينا سابقاً أي أن المسافة الموجبة للتقصير لا تتحقق بقرينة ورود كلامه هذا في الشرط المذكور بل يظهر ذلك صريحاً من تفريعه على هذه العبارة بقوله: ((فلو كان من قصده ذلك من حين الشروع أو بعده لم يكن قاصداً للمسافة)) هذا إن لم نقل بذهابه إلى قول المشهور لأنه عنون هذا الفصل بقواطع السفر وقال (قدس سره): ((الثاني من قواطع السفر: العزم على إقامة عشرة أيام)) مع ما قاله السيد الحكيم (قدس سره) من عدم صلاحية قوله (قدس سره) لتعليل الحكم ببطلان قصد قطع المسافة إلا على القول بقاطعية الموضوع، أما على القول بقاطعية الحكم فقط فلا تضر بقصد المسافة إلا إذا تحققت كما سنبينه بإذن الله تعالى (صفحة 320).

واختار هذا القول السيد الخوئي (قدس سره) واستدل عليه بصدق المسافر على المقيم عرفاً وعدم وجود ما يدل على تصرف الشارع المقدس في موضوع السفر، ووصف القول الآخر بأنه ((بعيد عن الصواب، إذ لم يظهر من شيء من الأدلة تنزيل المقيم منزلة الحاضر ليكون من قبيل التصرف في الموضوع نظير قوله: الفقاع خمر، بل الظاهر منها أنه مع وصف كونه مسافراً محكوم بالتمام، كما في المتردد بعد الثلاثين، وكما في سفر الصيد أو المعصية ونحوهما، فإن الكل محكوم بالتمام تخصيصاً لا تخصصاً كما هو ظاهر))(1).

أقول: أما صدق المسافر عرفاً على المقيم فستأتي مناقشته، وأما التنزيل فإن الخصم يدّعي وجود الدليل عليه، وهي صحيحة زرارة وموثقة إسحاق، فلو تم فإنه حاكم على فهم العرف لكنه (قدس سره) ناقش في الصحيحة كما سيأتي بإذن الله تعالى.

وتشعر بعض كلمات الشهيد الصدر الأول (قدس سره) باختياره وإن كان لا يمكن الجزم بذلك، قال (قدس سره): ((والإقامة تنهي حكم السفر،

ص: 293


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/90.

فالمسافر المقيم يتم ولا يقصر)) وهذا المقدار لا يفيد الجزم لأن انتهاء حكم السفر وهو وجوب التقصير متفق عليه، لكن قوله (قدس سره): ((المسافر المقيم)) ربما يشعر بعدم تنزيله منزلة الحاضر، لكنه (قدس سره) وصف السفر المقطوع بالإقامة بأنه ((ليس له أثر شرعاً)) ولا نعلم وجهاً لذلك على القول بأن الإقامة قاطعة لحكم السفر دون موضوعه؛ لأن المفروض أن لازم عدم انقطاع موضوع السفر ضم ما قبل الإقامة إلى ما بعدها باعتباره سفراً واحداً وإلا فلا يبقى معنى لعدم انقطاع موضوع السفر.

لكن يمكن توجيه كلامه (قدس سره)، بأنه لم يكن بصدد بيان هذه المطالب ولم يقصدها بقوله لأنه ليس في بحث استدلالي وإنما في رسالة عملية كتبها بلغة واضحة ليفهمها عامة الناس، فيقصد بعدم الأثر أن السفر الذي يقطعه بقصد الإقامة قبل المسافة الشرعية لا يترتب عليه الأثر الشرعي للسفر وهو التقصير.

ثم إنه (قدس سره) تبع الفقهاء بتسمية الإقامة كالمرور بالوطن ((بقواطعالسفر))(1)

وذكر (قدس سره) فروعاً سننقلها عنه في فرع (صفحة 321) بإذن الله تعالى.

وأخذ منه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) كل ذلك حتى وصْفه السفر قبل الإقامة بأنه لا أثر له، قال (دام ظله الشريف): ((إن الإقامة وإن كانت تنهي حكم السفر دون نفسه، إلا أن السفر بما أنه منتهٍ حكماً فلا أثر له))(2).

أقول: قد عرفنا أن لازم كون الإقامة قاطعة لحكم السفر دون موضوعه استمرار تلبّسه بوصف السفر من بداية خروجه من الوطن فيكون ما قبل محل الإقامة وما بعده سفراً واحداً متصلاً على مبناهم، فالبناء على هذه الكلمة غير دقيق ولا

ص: 294


1- الفتاوى الواضحة: 318، 306 بحسب الترتيب، والفروع (صفحة 316) من الطبعة الأولى في النجف، الفقرة (129) و (130).
2- تعاليق مبسوطة: 4/440.

معنى له.

وقد صرح (دام ظله الشريف) بقاطعية الإقامة للحكم دون الموضوع فقال: ((الإقامة إذا تحققت انقطع حكم السفر وهو القصر لا موضوعه، لأن الإقامة لا تكون قاطعة للسفر، فالمقيم مسافر غاية الأمر أنه محكوم بحكم المتواجد في الوطن، وبذلك تفترق الإقامة عن قصد التوطن، فإنه قاطع للسفر ورافع لحكمه بارتفاع موضوعه دونها))(1).

وأفاد في كتابه الاستدلالي بأن ((قصد الإقامة في بلد قاطع لحكم السفر دون موضوعه وهو السفر)) وذكر وجهاً له وهو ((إن المقيم في بلد مسافر حقيقة ولا يعد من أهل ذلك البلد، غاية الأمر أن المسافر إذا قصد الإقامة في بلد عشرة أيام كان حكمه حكم أهل ذلك البلد لا أنه صار من أهله وخرج عن كونه مسافراً، ولا دليل على أن محل الإقامة كالوطن من تمام الجهات))(2).

أقول: للخصم أن يقيم الدليل على كون المقيم كالحاضر في مقابل المسافر كما سنقرّبه إن شاء الله تعالى فيكون هذا التنزيل الشرعي حاكماً على نظر العرف.

إلفات: بعد هذا الخلاف الصريح بين الأصحاب في هذا الأمر، يأتي السيد السبزواري (قدس سره) لينفي وجوده فقد علق على قول صاحب العروة (قدس سره): ((لأن الإقامة قاطعة لحكم السفر)) قال (قدس سره): ((ولا يبعد أن يكون قاطعاً لموضوعه أيضاً، لأن قطع موضوع السفر مراتب شتى، فليكن قصد الإقامة من أدناها، وبذلك يجمع بين الكلمات، فمن ذهب إلى عدم قطعه لموضوعه أي ببعض مراتبه، ومن أثبته أراده في الجملة))(3).ولم يبين (قدس سره) في هذا الموضع ولا في غيره معنى ذلك.

ومقتضى التحقيق: القول بالتفصيل بين من عزم على الإقامة ولم يتم العشرة بعدُ فتكون الإقامة قاطعة لحكم السفر دون موضوعه، وبين من أتمَّ

ص: 295


1- منهاج الصالحين: 1/376، الثاني من قواطع السفر.
2- تعاليق مبسوطة: 4/347-348.
3- مهذب الأحكام: 9/183-184.

العشرة فتكون قاطعة لموضوع السفر.

أما الشق الأول فيستدل له بوجهين:

(الأول) صدق عنوان المسافر عليه عرفاً، وعدم وجود دليل يخرجه من هذا العنوان، نعم دلّت الروايات على أن حكمه التمام إذا عزم على الإقامة عشرة أيام، فيخرج بذلك من عمومات ما دلّ على وجوب التقصير للمسافر.

(الثاني) إن الإقامة لو كانت قاطعة لموضوع السفر لكان قصدها ينافي قصد قطع المسافة، فلا يقصّر من نواها قبل أن يقطع المسافة، ولذلك اشترط المشهور في وجوب التقصير عدم قصد قطع السفر بالإقامة أو المرور بالوطن، مع أن هذا كله مردود بصحيحة أبي ولاد الحناط الآتية (صفحة 322) التي أوجبت التقصير على من كان عازماً على الإقامة وبدأ بها في محل الإقامة إلا أنه عدل عنها قبل أن يصلي تماماً، فوجوب التقصير بمجرد عدوله يعني أن الإقامة ليست قاطعة لموضوع السفر، وقصدها لا ينافي قصد قطع المسافة.

أما الشق الثاني فإنه يمكن الاستدلال على كون الإقامة قاطعة لموضوع السفر بوجوه:

(الأول) ما يعرف عند الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بمناسبات الحكم والموضوع، وهي تفيد أن الحكم بالتمام للمسافر الذي يقيم عشرة أيام كاشف بدلالة الاقتضاء عن خروجه عن عنوان المسافر، أي أن الموضوع بُيِّنَ هنا بلسان بيان الحكم الذي يدور مدار الموضوع، فالإقامة قاطعة لموضوع السفر وبالتبع لحكمه.

بيان ذلك: إن الروايات عللت جعل المسافة الشرعية للتقصير ثمانية فراسخ بأنها (مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال)(1)

أي مسيرة (بياض نهار). وهذا يعني أن الشارع المقدس لاحظ الحالة الطبيعية لحركة المسافرين وهي السير نهاراً والاستراحة ليلاً لاستعادة النشاط وتجديد القوى، عدا ما يفعله المجدّون من السير ليلاً حتى قيل: (عند الصباح يحمد القوم السرى)، فيكون مثل هذا

ص: 296


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 1، ح 1.

التوقف أمراً طبيعياً لا ينافي حركة المسافر.

لكن المكث في المكان أكثر من هذا يثير التساؤل حول صدق كون هذا الشخص مسافراً، وبقاء اتصافه بهذا العنوان للمنافاة بين السفر والمكث في المكان عرفاً؛ لأن السفر يتضمن معنى الحركة والضرب في الأرض، قال تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ» (النساء: 101)، ومن هنا فقد بدأ هذا السؤال يثار في وقت مبكر من صدر الإسلام، واختلف الصحابة والتابعون في تحديد ما يخرج به المسافر عن صدق هذا العنوان.

قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف: ((المسافر إذا نوى المقام في بلد عشرة أيام وجب عليه التمام، وإن نوى أقل من ذلك وجب عليه التقصير، وبه قالعلي (عليه السلام) وابن عباس، وإليه ذهب الحسن بن صالح بن حي.

وقال سعيد بن جبير: إن نوى مقام أكثر من خمسة عشر يوماً أتم.

وعن ابن عمر ثلاث روايات:

إحداها: إن نوى مقام خمسة عشر يوماً أتم، فجعل الحد خمسة عشر يوماً، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.

والثانية: قال: إن نوى مقام ثلاثة عشر يوماً أتم، ولم يقل بهذا أحد.

والثالثة: إن نوى مقام اثني عشر يوماً أتم، وعليه استقر مذهبه، وبه قال الأوزاعي.

وقال الشافعي: إن نوى مقام أربعة سوى يوم دخوله وخروجه أتم، وإن كان أقل قصر، وبه قال عثمان، وسعيد بن المسيب، وفي الفقهاء مالك، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

وقال ربيعة، إن نوى مقام يوم أتم.

وقال الحسن البصري: إن دخل بلداً فوضع رحله أتم.

وقالت عائشة: متى وضع رحله أتم أي موضع كان، فكأنها تذهب إلى التقصير ما دام لم يحط الرحل، فمتى حط رحله أي موضع كان أتم، وإذا كانت

ص: 297

القافلة سائرة أو واقفة والرحل عليها لم يحط كان له التقصير، وإن حط لم يقصر))(1).

وقد نقل الأصحاب هذا السؤال إلى الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ككثير من المسائل المثارة في أوساط المسلمين، فأجابوا (عليهم السلام) كما في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: أرأيت من قدم بلدة إلى متى ينبغي له أن يكون مقصراً؟ ومتى ينبغي له أن يتم؟ فقال: إذا دخلت أرضاً فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام فأتم الصلاة، وإن لم تدر ما مقامك بها تقول: غداً أخرج أو بعد غد فقصّر ما بينك وبين أن يمضي شهر، فإذا تم لك شهر فأتم الصلاة وإن أردت أن تخرج من ساعتك)(2).

وصحيحة(3)

محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن المسافر يقدم الأرض، فقال: إن حدثته نفسه أن يقيم عشراً فليتم، وإن قال: اليوم أخرج أو غداً أخرج ولا يدري فليقصر ما بينه وبين شهر، فإن مضى شهر فليتم، ولا يتم في أقل من عشرة إلا بمكة والمدينة، وإن أقام بمكة والمدينة خمساً فليتم)(4).وصحيحة أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا عزم الرجل أن يقيم عشراً فعليه إتمام الصلاة وإن كان في شك لا يدري ما يقيم فيقول: اليوم أو غداً فليقصر ما بينه وبين شهر، فإن أقام بذلك البلد أكثر من شهر فليتم الصلاة)(5).

فيظهر من الروايات أن منشأ السؤال هو ما ذكرناه من بقاء المسافر إذا أقام على الاتصاف بعنوان السفر أو انتفائه عنه، فإن من عزم على الإقامة

ص: 298


1- الخلاف: 1/573-574، المسألة (326).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح9.
3- في السند علي بن السندي وهو لم يوثق لكن الرواية متحدة مع صحيحته الأخرى رقم (12) في نفس الباب.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح16.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح13.

يتجرد عن هيأة السفر ومستلزماته فينتفي العنوان عنه ويبدأ بصلاة التمام مباشرة، أما المتردد في نية الخروج فإنه يُبقي استعداده للسفر وتحضير مستلزماته فيبقى اتصافه به.

والخلاصة: أن ظروف صدور هذه الروايات ومناسبتها تشير إلى أن المسافر يخرج من عنوان السفر بإقامة عشرة أيام في البلد أو أي مكان، لكنه يتم بمجرد عزمه عليها وتلبسه بها، كالتقصير المشروط بمسافة أربعة فراسخ إلا أن المسافر يبدأ بالتقصير بمجرد شروعه وتلبسه بعنوان السفر المعرَّف بالوصول إلى حد الترخص.

ولعل السيد الحكيم (قدس سره) أراد هذا التقريب بقوله: ((إن الظاهر مما دلّ على وجوب التمام على المقيم –بقرينة مناسبة الحكم لموضوعه- كون التمام بعناية خروجه بالإقامة عن عنوان المسافر))(1).

وذكر بعض من قاربنا عصره ما يقرب من بياننا(2).

(الثاني) ما دل على تنزيل المقيم منزلة أهل البلد وهي عدة روايات:-

1- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر)(3).

2- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن أهل مكة إذا زاروا عليهم إتمام الصلاة؟ قال: نعم، والمقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم)(4).

وقد عالجنا التنافي ظاهراً بين الصحيحة ومفهوم الموثقة، بعدم وجود المفهوم لها، أو يحمل الشهر على المتردد في نيته بين السفر والخروج

ص: 299


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/43.
2- البدر الزاهر: 245-247.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 3، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب6، ح6.

بقرينة روايات الحكم بالتمام، بل إن صحيحة أبي بصير المتقدمة (صفحة 268) صريحة في ذلك.

3- صحيحة علي بن مهزيار عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (إذا توجهت من منى فقصّر الصلاة فإذا انصرفت من عرفات إلى منى وزرت البيت ورجعت إلى منى فأتمَّ الصلاة تلك الثلاثة أيام، وقال بإصبعه ثلاثاً)(1).

والرواية وإن لم تذكر لفظ التنزيل، إلا أن الراوي ليس من أهل مكة، بل هو أهوازي مقيم فيها عشرة أيام كما يشير إليه الحديث الموجود في موضع آخر ويسأل فيه عن حكم المقيم عشرة أيام في الحرمين مكة والمدينة واختلاف الروايات عنهم (عليهم السلام) في القصر والتمام.

وتقريب الاستدلال بالموثقة لا إشكال فيه، فإن الإمام (عليه السلام) نزّل المقيم منزلة أهل البلد في حكم مختص بهم وهو الإتمام فيه مطلقاً عند العودة إليه، فنتمسك بإطلاق الرواية إذ لم يشترط الإمام (عليه السلام) نية إقامة جديدة عند العودة إلى مكة، مضافاً إلى أن الإمام (عليه السلام) تبرع بهذا التنزيل من غير سؤال وكأنه لإلقاء هذا الحكم ابتداءً، وقد انشغل الأصحاب (قدس الله أرواحهم) في مناقشة صحيحة زرارة مع وضوح الاستدلال بالموثقة وصحيحة ابن مهزيار على ما نحن فيه.

نعم قيل في تطبيق الموثقة على فتاوى المشهور بتفسير الشهر أنه ((عشرة أيام قبل أيام الحج وعشرة أيام بعد أيام الحج لتكون صلاته تامة في كلا طرفي الحج، وإضافة العشرة الثالثة إنما هي لغلبة أن الناس لا يأتون قبل التروية بعشرة ولا يبقون بعد زيارة البيت عشرة بل يزيدون في كل جانب بما يكون مقدار شهر

ص: 300


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 27، ح3 والحديث بتمامه في الباب 25، ح4.

تقريباً فالتحديد تقريبي لا تحقيقي))(1).

أقول: هذا القائل كما وصف أمثاله بأنه حاطب ليل.

وقيل في تضعيف الأخذ بها غرابة صدور السؤال من إسحاق لوضوح أن أهل مكة يتمون فيها.

ويجاب: بأن غرابة السؤال لا تؤثر في حجية الرواية، على أن السؤال ليس غريباً لأن إسحاق لم يسأل عن حكم صلاتهم إذا رجعوا إلى منازلهم بل إذا زاروا البيت وعادوا إلى أداء مناسكهم في منى، وهذه مسألة تعددت الروايات(2)

فيها وأن المسافر إذا مر ببلده دون إنهاء سفره فما هو حكمه؟

وتقريب صحيحة ابن مهزيار كالموثقة فإنها صريحة في كون أحكام المقيم عشرة أيام كأحكام أهل مكة المذكورة.

أما الصحيحة فقد نزلت المقيم منزلة أهل مكة فيما هو متفق عليه وهو الإتمام في محل الإقامة، ولذا شكك كثيرون في عموم التنزيل باعتبار كفاية جهة اشتراك واحدة لصحته. ونحن وإن لم نقل بعموم التنزيل لكل الأحكام ليشمل مثلاً انتقال فرض الحج من التمتع إلى القران والإفراد فإن المختار أنه لا ينتقل إلا بالمجاورة سنة، إلا أنالظاهر من الصحيحة أن التنزيل أوسع من قضية اتحادهما بحكم التمام بقرينتين:

أولاهما: إن هذا الحكم –أي التمام في محل الإقامة- قد ذكره الإمام (عليه السلام) في صدر الرواية فيكون ذكر التنزيل لا معنى له وإذا قيل بأنه للتأكيد، قلنا أنه خلاف الأصل بل خلاف الظاهر، فالظاهر أن التنزيل جاء كإضافة وإعطاء القاعدة ليكون بمثابة التعليل لوجوب التمام عليه بأنه كالحاضر فالحكم بالتمام أحد تطبيقات هذا التنزيل. وأقرب اشتراك بين الحاضر والمقيم بعد صلاة التمام هو انقطاع السفر، إن لم نقل بعموم التنزيل.

ثانيهما: الأحكام المتفرعة عن التنزيل والتي هي من خصوصيات

ص: 301


1- حكاه المرحوم السيد محمد الشيرازي (قدس سره) في الفقه: 28/94.
2- راجع وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أباب صلاة المسافر، الباب 7.

المتوطن، فقد أطلقت الصحيحة الحكم بالتمام عند عودته إلى مكة من دون اشتراط نية إقامة جديدة وكذا الإتمام بمنى عندما يخرج إليها من مكة، مع أن إقامته قد انتفت بالخروج إلى عرفة الموجب للتقصير، فهذه الأحكام دليل على عموم التنزيل ولذا اعترف السيد الخوئي (قدس سره) بهذه القرينة، قال (قدس سره): ((ولكن الذيل يشهد بأنّ نطاق التنزيل أوسع من ذلك، وأنّ المراد أنّه بمنزلة المتوطِّن، لأنّه بعدما حكم (عليه السلام) بالتقصير في خروجه إلى منى – لكونه في طريق عرفات، وهي مع العود إلى مكّة مسافة تلفيقية- حكم (عليه السلام) بالإتمام إذا زار البيت، وكذا في رجوعه إلى منى وهي دون المسافة.

وهذا كلّه من شؤون المرور على الوطن، وإلاّ فلماذا يتمّ في مكّة لدى عودته إليها مع عدم قصد الإقامة، وهكذا في منى مع أنّه في طريق السفر. فيكشف ذلك عن تنزيل مكّة منزلة الوطن لمن قدمها قبل التروية بعشرة أيام قاصداً الإقامة فيها، وأنّها قاطعة للموضوع لا للحكم))(1).

لكن الأصحاب (قدس الله أرواحهم) أعرضوا عن ذيل الصحيحة ثم جعلوا الإعراض مانعاً عن العمل بها، وأوّلوها بعدة تأويلات، قال بعض الأساطين (قدس سره): ((إلا أن هذه الفقرة –أي الذيل- من الرواية غير معمول به، ولذا أولوها بتأويلات تقرُب من سبعة أوجه كما ذكره بعض الأساطين (قدس سرهم) في رسالته المعمولة في الرجوع ليومه))(2) ويرد على

ص: 302


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/90-91.
2- صلاة الجماعة والمسافر للمحقق الأصفهاني (قدس سره): 483. وذكر بعض الأعلام المعاصرين أحد تلك التأويلات قال (قدس سره): ((إن ظاهر الصحيحة أنه أقام عشرة أيام في مكة قبل التروية ثم ذهب إلى منى في طريقه إلى عرفات فصلاته قصر حيث نوى مسافة أربعة فراسخ. أما إذا زار البيت بعد عرفات فإنه يتم الصلاة لكونه من مواضع التخيير والتمام أفضل ويبقى حكم التمام في منى لأنه من الحرم، والحرم كله موضع التخيير للمسافر مع كون التمام أفضل)) (الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 28/266. وحُكي مثله عن الكاشاني في الوافي (رياض المسائل: 4/401) وحكاه في (فقه الصادق: 9/354) عن الوافي واستقربه. أقول: الحمل على التخيير مخالف للوجوب التعييني الذي صرحت به الصحيحة وعبر (عليه السلام) عنه بقوله: (عليه)، كما أن التمام لو كان بمنى للتخيير فلماذا لم يكن كذلك في الذهاب وألزم بالتقصير. وذكر صاحب الجواهر (قدس سره) وجوهاً أخرى للحمل والتأويل (جواهر الكلام: 14/311).

هذا:-

1- إن الإعراض إنما يكون مانعاً لو كان تعبدياً كاشفاً عن قول المعصوم وموضوعه هنا مسألة اجتهادية، فالأصحاب هنا أصل الإعراض، والإعراض أصلهم.

2- إن الإعراض الذي جعلوه مانعاً عن قبول الرواية إذا كان عنها، ولم يعرض الأصحاب عن الصحيحة، وإنما لم يعملوا بها وبينهما فرق.

نعم يكون الإعراض موجباً لترك العمل بالذيل لو كان له منشأ معتبر، ويوجد هنا احتمال نذكره كأطروحة للتشييد الفني حاصله أن النصف الثاني من الحديث خاص بأهل مكة وهو حديث آخر غير الصدر وجمعهما الراوي، وهذا –أي جمع الأحاديث المتشابهة في الموضوع والمتحدة في الراوي والمروي عنه- معروف عند أصحاب الكتب وإن لكل من حريز الذي روى عن زرارة وحماد الذي روى عن حريز كتاباً في الصلاة، ومما يدفع باتجاه هذا الاحتمال وجود هذا الذيل في روايات أُخر كصحيحة علي بن مهزيار المتقدمة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (إذا توجهت من منى فقصّر الصلاة فإذا انصرفت من عرفات إلى منى وزرت البيت ورجعت إلى منى فأتم الصلاة تلك الثلاثة أيام)(1).

وبناءً على هذا الاحتمال تكون هذه الأحكام –لو قلنا بها- متفرعة عن

ص: 303


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 27، ح3. والحديث بتمامه في الباب 25، ح4.

شمول التنزيل لها وليست دليلاً عليه فيكون معنى الصحيحة أن المقيم عشرة أيام في مكة يُنزَّل منزلة أهلها، وأهل مكة هذه أحكامهم، فالمقيم له تلك الأحكام، فهذه نتيجة للتنزيل وليست دليلاً عليه وإلا فستكون من الدور الباطل.

لكن الكلام في حجية هذا الاحتمال خصوصاً وأن صحيحة ابن مهزيار ليست مستقلة وإنما هي جزء من حديث، وأن ابن مهزيار في طبقة متأخرة عن حماد وحريز. وعلى أي حال فإنه لو اعتبرنا هذا الاحتمال فإنه مسقط لقرينية الذيل لا لأصل التنزيل الثابت في أصل الرواية مع دلالة صحيحة ابن مهزيار والموثقة عليه وعلى الأحكام المذكورة، لذا فنحن في غنى عن الاستدلال بالذيل، ومع ذلك نمضي في مناقشة ما أشكل به على الاستدلال بالصحيحة، لأن بعض تلك الإشكالات قد يُوجّه إلى صحيحة ابن مهزيار وموثقة إسحاق.

إشكالات على الاستدلال بصحيحة زرارة:

أُشكل على الاستدلال بصحيحة زرارة على عموم التنزيل من عدة جهات:الأولى: اختصاصها بمكة، وهذا الإشكال يأتي على صحيحة ابن مهزيار وموثقة إسحاق أيضاً، وذكره صاحب الجواهر (قدس سره) كوجه(1)

للتخلص من معارضة الصحيحة لما عليه المشهور فهم (قدس الله أرواحهم) لم يقولوا بالاختصاص لمانع عن ظهور الصحيحة في التعميم والتجريد عن الخصوصية –كما سيأتي بإذن الله تعالى- وإنما لتوجيهها بما لا يعارض مختارهم لذا لم يعملوا بها حتى في مكة.

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((ولكن الصحيحة موردها خصوص مكة، وحينئذ فإن كان هناك إجماع على خلاف مضمونها وأنّه لا فرق بين مكّة وغيرها في أنّ من خرج عن محلّ الإقامة إلى المسافة وعاد يحتاج إلى تجديد

ص: 304


1- جواهر الكلام: 14/311.

قصدها وإلاّ بقي على التقصير، فلا مناص حينئذ من طرح الرواية وردّ علمها إلى أهله.

وإن لم يتم الإجماع عملنا بالرواية واقتصرنا على موردها، أعني خصوص مكّة، من غير أن يتعدّى إلى سائر البلدان، لعدم الدليل، ولا غرو فإنّ لهذه البقعة المقدّسة من أجل شرافتها ورفعة شأنها أحكاماً خاصّة مثل التخيير بين القصر والتمام للمسافر ونحو ذلك، فليكن هذا الحكم أيضاً من هذا القبيل فيلتزم بالقطع الموضوعي والتنزيل منزلة الوطن في خصوص مكّة))(1)،وانتهى (قدس سره) إلى القول: ((فهي على تقدير الحجية تختص بموردها، والتعدي يحتاج إلى القطع بعدم الفرق بين مكة وغيرها، وأنى لنا بذلك)).

ويرد على أصل الإشكال:-

1- القاعدة المعروفة أن المورد لا يخصص الوارد خصوصاً مع وجود القرائن الآتية على عدم اختصاص الأحكام بالمقيم في مكة، وإنما كان موضوعاً للسؤال لأنها مورد الابتلاء بالمسألة، ولو التزمنا بتخصيص الأحكام بمواردها لما تأسس لدينا فقه.

2- إن الإجماع الذي طالب به (قدس سره) متحقق إذ لم يفرّق أحد بين مكة وغيرها في ثبوت هذه الأحكام للمقيم أو عدم ثبوتها، حتى المستشكل نفسه (قدس سره) المدعى اختصاصها بمكة لم يلتزم بها في مكة ولا في غيرها، ولو كان يُعتقد بصحة الإشكال لعمل بها في خصوص مكة على الأقل.

وهذا التعميم قد فهمه الأصحاب (قدس الله أرواحهم) وقطعوا به وإن احتمل بعضهم خصوصية لمكة في غير هذا المورد، والشاهد على ذلك استدلالهم بروايات خروج المقيم من مكة إلى عرفة عندما يبحثون مسألة خروج المقيم إلى المسافة أو ما دونها، ومنهم المستشكل نفسه (قدس سره)، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وإن كان المفروض

ص: 305


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/91.

في عبارات الشيخ والقاضي والسرائر المقيم في مكة إذا أراد الخروج إلى عرفات ومنى لقضاء نسكه إلا أنه من المقطوع إرادتهم المثال من ذلك وأنه لا خصوصية له كما يومي إليه تعليلهم الحكم المزبور، بل هو كصريح كلماتهم، كما لا يخفى علىمن لاحظ عباراتهم))(1).

3- إن اختصاص الحكم بمكة خلاف ظاهر الصحيحة، لأن ظاهرها أن الإمام (عليه السلام) بصدد تطبيق قواعد كلية على جزئياتها، فحكم بالتقصير في منى عند الذهاب إلى عرفة لأنها خارج حدود الترخص والناسك قاصد لقطع المسافة، وأوجب التمام في منى نفسها إذا خرج إليها بعد زيارته البيت لأنها لا تبلغ المسافة، ولو كان هناك اختصاص بمكة لكان الحكم بالتمام واحداً في الحالتين مثلاً.

4- إن الدليل على انقطاع موضوع السفر لا يختص بروايات عرفة، فقد استدللنا بمناسبات الحكم والموضوع وهي تقتضي التعميم وما سيأتي من تقريب لبعض الروايات كصحيحة علي بن جعفر.

5- إن هذا الاختصاص لا يضر في المسألة محل البحث التي تتعلق بالمقيم في مكة إذا خرج إلى عرفة.

مضافاً إلى ما يرد على بعض تعابيره (قدس سره) كقوله: ((فإن كان هناك إجماع على خلاف مضمونها وأنه لا فرق بين مكة وغيرها)) فإن الإجماع المذكور ليس على خلاف مضمونها وإنما لتوسيع العمل بها إلى غير مكة من البلدان، فلو تم هذا الإجماع فلا يوجب طرح الرواية وإنما تعميم العمل بها، كما إن جعله مضمونها ((في أن من خرج عن محل الإقامة ..)) غير دقيق كما هو واضح إذ لم يرد في الصحيحة تجديد قصد الإقامة بعد العودة، بل هو تأويل منه بعد تعسّر فهمها على المشهور، ولعل الخلل من مقرر البحث وليس منه (قدس سره).

وعلى أي حال فإن من يتردد في تعميم الحكم لغير المقيم بمكة عليه أن

ص: 306


1- جواهر الكلام: 14/364.

يلتزم بهذه الأحكام للمقيم بمكة ويحتاط وجوباً في غيرها من المدن كمن أقام في النجف عشرة أيام ثم خرج لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وعاد إليها. وليس أن يعرضوا عن الصحيحة كلياً.

الثانية: ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) من لزوم طرح الرواية ((فإن هذه المسألة ، أعني الإقامة بمكّة قبل يوم التروية عشرة أيام كثيرة الدوران ومحلّ للابتلاء جدّاً، ولا سيما في الأزمنة السالفة الفاقدة للمراكب السريعة المتداولة في العصر الحديث، فكانوا يضطرّون للإقامة المزبورة طلباً للاستراحة من وعثاء السفر، كما أُشير إليه في الأخبار.

فلو كان الحكم الذي تضمّ_نته الصحيحة ثابتاً لكان شائعاً ذائعاً ومن الواضحات، من غير أيّ خلاف فيه، مع أنّه لم يقل به أحد فيما نعلم، بل لعلّ الإجماع على خلافه كما عرفت، ولأجله تسقط الرواية عن درجة الاعتبار ويرد علمها إلى أهله))(1).وفيه:-

1- ورود عدة روايات معتبرة في هذه الأحكام ذكرنا ثلاثة منها وليس الأمر مقتصراً على الصحيحة، ومثل هذا العدد من الروايات وصدوره من أجيال متعددة من المعصومين (عليهم السلام) كاشف عن شيوع هذه الأحكام في زمانهم (سلام الله عليهم).

2- إن الإعراض عن العمل بالصحيحة متأخر عن زمان المعصومين (عليهم السلام) بكثير كما أوضحنا، فلا يمكن التعرف من خلاله على عدم شيوع هذه الأحكام في زمانهم (عليهم السلام).

3- إن الإمام (عليه السلام) كان يستوطن مدينة جده (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي قريبة من مكة ولم يثبت أنهم (عليهم السلام) كانوا يقيمون عشرة أيام قبل التروية وكان الرواة عنهم (عليهم السلام) إما من المدينة أو من الأمصار الذين يزورون الإمام (عليه السلام) فيها ويصاحبونه إلى

ص: 307


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/91-92.

الحج كما تدل عليه الكثير من الروايات فبناؤه (قدس سره) على كثرة الابتلاء بالمسألة محل نظر.

الثالثة: ما أشكل به بعض من قاربنا عصره (قدس سره) على الاستدلال بذيل صحيحة زرارة بأنه ((إن أريد إثبات ذلك منها بسبب تفريعه (عليه السلام) ثبوت التقصير في سفر عرفات على كون المقيم بمكة بمنزلة أهلها، ففيه: أن هذا التفريع لا يمكن أن يؤخذ بظاهره، بداهة عدم تفرع القصر في سفر عرفات على كون المقيم بمنزلة الأهل وكون الإقامة قاطعة للسفر موضوعاً، إذ القصر ثابت في عرفات على أي حال، سواء كان المقيم بمكة بمنزلة أهلها أم لم يكن، غاية الأمر أنه على الأول يستند إلى نفس السفر إلى عرفات ذهاباً وإياباً، وعلى الثاني يستند إلى السفر الامتدادي كما لا يخفى. فلعل التفريع في الحديث بلحاظ الحكم بالإتمام بعد الرجوع إلى مكة لزيارة البيت وبعد الرجوع إلى منى، وإنما ذكر السفر إلى عرفات توطئة لبيان حكم الرجوع. هذا إذا سلِّم كون سفر عرفات بقدر المسافة، وأما إذا لم نسلّم ذلك أو قلنا باعتبار الرجوع ليومه في السفر التلفيقي فالرواية على خلاف مطلوب المستدل أدلّ، لدلالتها حينئذٍ على عدم قاطعية الإقامة وانضمام الطرفين كما لا يخفى.

وإن أريد إثبات ذلك منها بعموم المنزلة الذي يستفاد من الحديث، حيث يشمل حكم القاطعية أيضاً، ففيه: أن عموم المنزلة في المقام غير معمول به، إذ مقتضاه كون الرجوع إلى محل الإقامة موجباً للإتمام بلا احتياج إلى إقامة جديدة، كما هو المستفاد أيضاً من التفريع الثاني في الحديث، وهذا مما لم يفت به أحد. وإذا صارت فقرة من الحديث غير معمول بها سقطت عن الحجية رأساً، إذ عمدة الدليل عليها بناء العقلاء وليس بناؤهم على التبعيض في الحجية))(1).

أقول: لقد قرّبنا الاستدلال بكلا الشقين اللذين ذكرهما من دون أن يرد عليهما شيء مما ذكر (قدس سره) مع إمكان المناقشة في عدة مواضع من كلامه (قدس

ص: 308


1- البدر الزاهر: 247-248.

سره):

قوله: ((إن أريد إثبات ذلك بسبب تفريعه)) هذه إحدى القرينتين اللتين استدللنا1- بها، والتفريع المقصود هو لكل الأحكام المذكورة وليس بخصوص التقصير في عرفة حتى يرد عليه، وذكر هذا الحكم على نحو التمهيد والتوطئة لما بعده لتكون منظومة الأحكام كاملة.

2- قوله: ((هذا إذا سُلّم كون سفر عرفات بقدر المسافة)) لا معنى لهذا التردد بعد ورود الروايات الكثيرة المعتبرة على لزوم التقصير فيها وشهادة الوثائق التأريخية بذلك.

3- قوله: ((فالرواية على خلاف مطلوب المستدل أدل)) ليس مطرداً، لأن بعض من قال بقاطعية الإقامة للحكم دون الموضوع يجعل السفر السابق عليها لا أثر له ويشترط إنشاء سفر جديد للتقصير.

4- قوله: ((وإن أريد إثبات ذلك منها بعموم المنزلة)) هذه هي القرينة الأخرى التي استدللنا بها وقد وردت في أكثر من رواية معتبرة كما تقدم.

5- قوله: ((إن عموم المنزلة في المقام غير معمول به)) وقوله: ((وهذا مما لم يفت به أحد)) فقد أجبنا عن هذا الإعراض، ولم نجد مانعاً من العمل بما ورد في الصحيحة.

6- قوله: ((وإذا صارت فقرة من الحديث ..)) إلى آخر كلامه ليس تاماً على إطلاقه وإنما في الموارد التي يضرّ التفكيك بالحجية والوثوق عرفاً وعقلائياً، والمورد ليس منه لإمكان التفكيك بين صدرها وذيلها كما قرّبنا في أطروحة سابقة.

الرابعة: ما ذكره بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) من ((أن الصحيح نزل المقيم منزلة الأهل لا محل الإقامة منزلة الوطن ومن الواضح أن الحكم يدور مدار العنوان المأخوذ في الدليل موضوعاً حدوثاً وبقاءً، وهو في المقام المقيم، فإذا خرج وسافر فقد زال هذا العنوان، فلو رجع إليه لا يصدق عليه عنوان المقيم ما لم يقصد إقامة عشرة أيام، فلا وجه للحكم بوجوب الإتمام

ص: 309

عليه))(1).

ويرد عليه:-

1- إن فيه مخالفة صريحة لمنطوق الصحيحة فإنها تضمنت وجوب الإتمام على المقيم مطلقاً إذا عاد إلى محل الإقامة بعد قطعه المسافة الشرعية إلى عرفات ومبيته أياماً في المشاعر من دون اشتراط العزم على إقامة جديدة.

2- إن عنوان المقيم ومحل الإقامة معنيان إضافيان، إذا انتفى أحدهما انتفى الآخر، فلا مقيم بلا محل إقامة، ولا محل إقامة بلا مقيم فكيف فرّق بينهما؟

فالنتيجة: أن الصحيحة تامة الدلالة على أن المقيم كالحاضر إذا أتم عشرة أيام ينقطع سفره بمحل الإقامة ويصلي تماماً إذا سافر أياماً وعاد إليه ما دام متخذاً إياه محلاً لإقامته.

تتميم: كل ما تقدم مبني على تجريد الصحيحة وأختيها عن الخصوصية بمكة والخروج إلى عرفة لقضاء النسك فيها وفي منى، وإلا فإنه قد تُحتمل الخصوصية في المكان أو الزمان، وإذا احتملت الخصوصية لقرينة أو أكثر احتمالاً معتداً به فإنه يمنعمن الظهور في التعميم، ويوجد أكثر من منشأ لهذا الاحتمال من حيث المكان كتعيين مكة في المعتبرات جميعاً أو أهلها ولو وردت واحدة فيها (أهل البلد) لأمكن التمسك بإطلاقه حتى لو كان السؤال عن من أقام بمكة.

بل إن موضوع صحيحة ابن مهزيار كان عن الإتمام والتقصير في الحرمين مكة والمدينة، ولكن الإمام (عليه السلام) أضاف هذا الذيل في خصوص الخروج إلى عرفات ومنى مما يشعر بالخصوصية وإلا لعمم للإقامة بالمدينة ومكة كما هو مورد السؤال.

أما اختصاص الأحكام من حيث الزمان بأيام النفر وليس في غيرها من الأيام بمكة لقوله (عليه السلام) فيها: (فأتم الصلاة تلك الثلاثة أيام وقال بإصبعه

ص: 310


1- فقه الصادق: 9/354.

ثلاثاً)(1)،ولا يخفى ما في هذه الإشارة من الخصوصية.

كما أن الصحيحة صريحة بأن حكمه التقصير إذا خرج من منى وليس في منى حتى يُجعل اختلاف الحكم في منى بين الذهاب والإياب دليلاً على أنها تؤسس لقاعدة كما تقدم منا، وتكون صحيحة ابن مهزيار مبيّنة لإجمال هذه الفقرة في صحيحة زرارة (وجب عليه التقصير إذا خرج إلى منى) وهذه الخصوصية متصورة بلحاظ شرف المكان والزمان.

كما يمكن أن يقال أن السفر ضد الحضور، فمع تحقق السفر الشرعي لا يمكن بقاء عنوان المقيم عليه فضلاً عن تنزيله منزلة الحاضر، لذا فمما ورد في الصحاح من تنزيل المقيم بمكة منزلة أهلها حكم على خلاف مقتضى القاعدة فيُقتصر فيه على القدر المتيقن من حيث الزمان والمكان والحال كما ذكرنا.

وقد تضاف قرينة على الاختصاص وهو خلو المعتبرات من بيان مدة انتهاء التنزيل مع عدم تصور بقائه مطلقاً، وهو ما سنتناوله في الأمر الخامس بإذن الله تعالى.

وعلى أي حال فإن العمل يكون على طبق القرائن الأقوى، ومع الشك والتردد تجري أحكام المعتبرات في مكة أيام النفر وفي خصوص الخروج إلى عرفة التي كانت خارج المسافة الشرعية يومئذٍ، وأصبحت اليوم دونها؛ لأنها مورد النص، والاحتياط في غيرها من الأزمان والبلدان.

(الثالث) تقريبات متنوعة لعدة روايات:

منها: صحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يدركه شهر رمضان في السفر فيقيم الأيام في المكان، عليه صوم؟ قال: لا حتى يجمع على مقام عشرة أيام، وإذا أجمع على مقام عشرة أيام صام وأتم الصلاة، قال: وسألته عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان وهو مسافر يقضي إذا أقام في المكان؟ قال: لا حتى يجمع على مقام

ص: 311


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 27، ح3.

عشرة أيام)(1).وتقريب الاستدلال: أن السائل يعلم أن المسافر يقصّر ويفطر، وأن الحاضر يتم ويصوم لكنه لم يعلم أين يضع المسافر إذا أقام، هل مع المسافر أم مع الحاضر، فأجاب الإمام (عليه السلام) بضمّه إلى الحاضر إذا عزم على المقام عشرة أيام.

وقرّب السيد الحكيم (قدس سره) الاستدلال بقوله: ((إن ظاهر السؤال – صدراً وذيلاً - كون منشئه تخيل أن المراد بالمسافر ما يقابل المقيم والحاضر معاً، لا ما يقابل الحاضر فقط، ولأجل ذلك سأل عن جواز الصوم في حال الإقامة أداءً وقضاءً، فيكون الجواب ظاهراً في الإقرار على ذلك إذا كانت مدة الإقامة عشرة))(2).

ومنها: ما ورد في من عمله السفر –كالمكاري – بأنه إذا أقام عشرة أيام يقصر ويفطر كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (فإن كان له –أي المكاري- مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام قصّر في سفره وأفطر)(3).

بتقريب أن زوال حكم التمام لانتفاء عنوان عمله في السفر بانتفاء جزئه وهو السفر أما جزؤه الآخر وهو عمله في المكاراة فإنه ثابت له حتى يتحول عن هذه المهنة.

ومنها: ما حكي عن المحقق الهمداني (قدس سره) من الاستدلال ب_((الروايات التي وقع فيها الاستشهاد لكفاية بريد ذاهباً وجائياً بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه قصّروا حين خرجوا من مكة إلى عرفات، قال الفقيه الهمداني (قدس سره): (فلولا انقطاع سفرهم بنزولهم في مكة –إما لكونها وطناً لهم أو بنية الإقامة التي هي بمنزلته كما ستعرف- لم يكن

ص: 312


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح1.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/42.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 12، ح5.

للاستشهاد بها وقع))(1).

أقول: هذا التقريب غير تام لوجوه:-

1- إن الخروج إلى عرفة موجب للتقصير على كلا القولين كما ذكرنا في أول البحث ويكون للاستدلال بها وقعٌ لكفاية الاستدلال بهذا السفر دون السفر الأول.

2- إن الروايات التي وردت في التقصير ببريد لم تطبق ذلك على حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل على خروجه من المدينة(2).

لم يثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام في مكة عشرة أيام في حجة الوداع وليست مكة وطناً له بعد إعراضه عنها، وبيع عقيل لدور بني هاشم1- كما في الخبر(3).

مقتضى القواعد الأولية في المسألة:

لو أغمضنا النظر عن الأدلة المتقدمة، وأردنا تحقيق مقتضى القواعد والأصول الأولية الجارية في المسألة ولو للتشييد العلمي، فنقول: إن البحث فيها يكون على مستويين أحدهما أصولي، والآخر فقهي، لأن الشك في أن الإقامة قاطعة للموضوع أو للحكم، يعني أن خروج المقيم –وهو مسافر- من عمومات وجوب التقصير على المسافر هل هو بالتخصص أم بالتخصيص:

(المستوى الأول) الأصولي وهو أنه إذا خرج فرد من حكم عام، فهل الأصل في خروجه التخصص أم التخصيص؟ فيقال في الجواب أن الأصل هو التخصص لأن الأصل أن الأحكام تتبع موضوعاتها، فما دام الحكم قد تغير فهو يكشف أن الموضوع قد انتفى إلا أن يدل الدليل على أن هذا الفرد داخل في موضوع العام إلا أنه خرج حكماً بالتخصيص.

ص: 313


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 28/93.
2- راجع وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 2 الأحاديث 12، 13، 15، 16.
3- السيرة الحلبية، للحلبي: 1/ 102، السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 34.

ويمكن في مستوى من مستويات التفكير دعوى أن الكثير من موارد التخصيص هي أيضاً تخصص في الحقيقة، فعندما يقول المولى: (أكرم العلماء) ثم يقول: (لا تكرم زيداً) المعدود من العلماء فإن الخطاب الثاني يعتبر قرينة على أن المراد من الموضوع في الخطاب الأول ليس كل العلماء وإنما هم باستثناء زيد وأنه ليس عالماً حقيقة، فخروجه تخصصي.

وفي ضوء كل ما تقدم يمكن التشكيك في ما قاله السيد الخوئي (قدس سره): ((بل الظاهر منها –أي روايات الإقامة- أنّه مع وصف كونه مسافراً محكوم بالتمام، كما في المتردِّد بعد الثلاثين، وكما في سفر الصّيد أو المعصية ونحوهما، فإنّ الكلّ محكوم بالتمام تخصيصاً لا تخصصاً كما هو ظاهر))(1).

وفيه: إنه يمكن اعتبار خروج الكل تخصصاً فسفر اللهو والمعصية ألغاه الشارع المقدس وجعله كاللاسفر، ومن عمله السفر كمن لا وطن له فلا يصدق عليه السفر أصلاً، ومن عمله في السفر فإن محل عمله كالوطن له، والمقيم عشرة أيام والمتردد ثلاثين يوماً يسلب عنه عنوان السفر عرفاً أو تنزيلاً وهكذا.

فأصالة التخصيص التي تعني انتفاء الحكم تثبت انقطاع موضوع السفر عند الحكم بالتمام وانتفاء حكم التقصير بالإقامة إلا أن يدل دليل على التخصيص كما سيأتي بإذن الله تعالى.

وإذا تم لدينا دليل لفظي مضمونه (كل مسافر يقصّر، وكل حاضر يتم) فإن الأصل المذكور يثبت لوازمه ومنها المسألة محل البحث، ولسنا بصدد الدخول في التفاصيل.

قال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في فصل بعنوان (جواز التمسك بالعام لإثبات التخصص) قوله (قدس سره): ((إن مقتضى أصالة العموم أو الإطلاق في القضية الكلية ثبوت عكس نقيضها وهو انتفاء موضوعها عند انتفاء محمولها فإذاثبت بدليل انتفاء المحمول في مورد ثبت بالملازمة انتفاء

ص: 314


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/90.

الموضوع وهو معنى التخصص))(1).

(المستوى الثاني) الفقهي أي في خصوص المسألة ويمكن تقريبه بنحوين:

أحدهما: طبق الكبرى المتقدمة فيقال أن موضوع صلاة القصر ليس المسافر الذي قطع المسافة مطلقاً ليقال بتخصيصه بالمقيم ومن عمله السفر ونحوهما، وإنما الموضوع هو المسافر بكافة القيود أي المسافر الذي قطع المسافة الشرعية ولم يعزم على الإقامة في أثنائها وليس عمله السفر ولم يكن سفره معصية ونحوها فخروج هذه العناوين تخصصاً لعدم دخولها في موضوع الحكم بالتقصير أصلاً.

ثانيهما: على ذوق المشهور فيقال: إن الأصحاب تسالموا على أن الأصل في صلاة المسافر إلى المسافة الشرعية هو القصر، والتمام هو الاستثناء ويحتاج إلى دليل، وهم (قدس الله أرواحهم) بين مصرّح بذلك أو أن كلامه يقتضيه كمطالبته بالدليل عند دعوى التمام في مورد قطع المسافة.

وحينئذٍ يقال أنه إذا ضممنا إلى هذا الأصل كبرى أن الأحكام تتبع موضوعاتها وعناوينها، فالمسافر يقصّر والحاضر يتم، فتكون النتيجة أن أصالة القصر للمسافر تعني على نحو الشك المسببي أصالة ثبوت عنوان السفر له، وينتفي عنوان السفر بالإقامة بكاشفية حكم التمام عن ذلك ويكون المقيم كالحاضر وليس كالمسافر؛ لأنه لو كان مسافراً لكان الأصل فيه القصر وإلا فهو خلف الأصل الأول.

وتأسيس الأصل في هذه المسألة وإن لم يبحث في محله من الفقه، إلا أن مستنده مركوز في أذهان الفقهاء (قدس الله أرواحهم).

فنجد مثلاً في مسألة المقيم إذا عدل عن قصد الإقامة قال السيد الخوئي (قدس سره): ((مقتضى القاعدة الأوّلية مع قطع النظر عن النصّ الخاص الوارد في المقام هو لزوم العود إلى القصر متى ما عدل عن القصد، سواء أتى برباعية

ص: 315


1- بحوث في علم الأصول: 3/353 تقريرات السيد محمود الهاشمي (دام ظله).

تامّة أم لا، لظهور نصوص الإقامة في دوران الحكم مدار قصد الإقامة ونيّتها حدوثاً وبقاءً، كما هو الشأن في سائر الأحكام المتعلّقة بالعناوين الخاصّة مثل الحاضر والمسافر ونحو ذلك ممّا هو ظاهر في دخل العنوان في ثبوت الحكم للمعنون ودورانه مداره نفياً وإثباتاً ، فلا يكون الحدوث كافياً في البقاء ما لم يدلّ عليه دليل بالخصوص.

فلو كنّا نحن وتلك النصوص لم يكن شكّ في ظهورها في أنّه يتم ما دام كونه ناوياً للإقامة ، الذي لازمه الحكم بالتقصير لو عدل عنها))(1).

نتيجة التحقيق: إن مقتضى الروايات الثلاث (صحيحة ابن مهزيار وصحيحة زرارة وموثقة إسحاق) الدالة على تنزيل المقيم منزلة أهل البلد الاقتصار في التنزيل على من أقام عشرة أيام فعلاً، وليس كل من عزم على الإقامة، حتى من صلى فريضة تماماً وأصبح حكمه البقاء على الإتمام إلى أن يخرج بمقتضى صحيحة أبي ولاد الآتية،فهذان وإن تطابقا في الحكم وهو التمام إلا أن دليل عموم التنزيل لا يشمل الثاني، فيبقى عنوان المسافر جارياً عليه لصدقه عليه عرفاً ويكون خروجه عن عموم ما دل على تقصير المسافر بالتخصيص.

لا يقال: إن مقتضى الوجه الأول هو التنزيل من حين العزم على الإقامة والتخلي عن هيأة السفر.

فإنه يقال: لا يقتضي الوجه الأول ذلك بل يقتضي انقطاع السفر بعد مرور عشرة أيام، فغايته انقطاع حكم المسافرين عنه وهو التقصير والإفطار فيكون حكمه إتمام الصلاة والصيام، إلا أنه لا يُنزّل منزلة أهل البلد في بقية الأحكام –ومنها الخروج المنافي لطبيعة الإقامة في البلد- إلا بعد تحقق إقامة العشرة خارجاً على نحو الشرط المتأخر، لذا فإنهم اشترطوا لصدق الإقامة عدم الإتيان بالمنافي كالمبيت خارج محل الإقامة أو الابتعاد عنه لوقت طويل ولو كان دون المسافة، فيكون هذا القاصد للإقامة بحكم المقيم فيصلي تماماً مع وجود

ص: 316


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/283-284.

شأنية واقتضاء أن يكون مقيماً بمنزلة المتوطن.

فالصحيح هو القول بالتفصيل بين من عزم على الإقامة ولم يتم العشرة فتكون الإقامة قاطعة للحكم فقط لوجوب التمام عليه، وبين من أتمها فتكون الإقامة قاطعة لموضوع السفر تنزيلاً واعتباراً وإن صدق عليه عنوان المسافر عرفاً.

والدليل على بقاء عنوان المسافر عليه وإن كان حكمه التمام مضافاً إلى ما سنقوله من صدق العنوان عليه عرفاً قبل إتمام عشرة أيام: صحيحة أبي ولاد التي دلت على انتقال حكمه إلى التقصير بمجرد عدوله عن نية الإقامة. ولو كانت الإقامة قاطعة لموضوع السفر، وإن السفر ينقطع بها لما عاد إلى التقصير إلا بعد أن ينشئ سفراً جديداً، فصحيحة أبي ولاد دالة على قاطعية الإقامة للحكم دون الموضوع إلى أن يتم العشرة.

وهذا نقض يوجه إلى المشهور الذي ادعي عليه الإجماع من انقطاع السفر بالعزم على الإقامة، وهنا يجيب المشهور بأن الموجب لانقطاع السفر ليس مجرد العزم على الإقامة وإنما هو متبوعاً بصلاة فريضة تماماً قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لعدم تأثير نية الإقامة في قطع السفر إذا رجع عنها قبل فعل الصلاة تماماً))(1)

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((إن ناوي الإقامة بعد الصلاة تماماً قد انقطع سفره، فلا يجدد له حكم المسافر إلا بإنشاء سفر جديد))(2)

واستدلوا بنفس صحيحة أبي ولاد أنه إذا صلى فريضة تماماً فإنه يبقى على التمام حتى يخرج.

ويرد على هذا الجواب:-

1- إنه يلزم على هذا أن يقولوا بالتفصيل بين من عزم على الإقامة ولم يؤد صلاة تماماً فتكون الإقامة حينئذٍ قاطعة لحكم السفر فقط وبين من صلى تماماً فتكون قاطعة لموضوع السفر، وهذا ما لم يقولوا به ولم يرتبوا عليه

ص: 317


1- جواهر الكلام: 14/327.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 8/149.

آثاره.

فمثلاً لو عزم على الإقامة في بلد دون المسافة الشرعية من وطنه وقبل أن يصلي تماماً في محل الإقامة خرج إلى ما يجوز للمقيم الخروج إليه بحسب الأقوال المتقدمة، وكان مجموع جزئي المسافة قبل محل الإقامة وبعدها يبلغ المسافة الشرعية فإنه يجب عليه التقصير على هذا اللازم لأن موضوع السفر لم ينقطع قبل أداء صلاة تماماً ولازمه ضم جزئي المسافة كما صرّحوا، لكنهم لم يقولوا بهذه النتيجة حيث اشترطوا إنشاء سفر جديد للعود إلى القصر.

وينقض عليهم بما لو أتمّ عشرة أيام ولم يصلّ تماماً جهلاً أو عمداً فلا تكون الإقامة قاطعة لموضوع السفر، مع أن روايات التنزيل تثبت ذلك.

2- إن صدق عنوان المسافر وعدمه موكول إلى العرف، وما ورد في الصحيحة حكم شرعي خاص لا يغيّر من العناوين الجارية على مقتضى القاعدة ودليل التنزيل لا يشمله فلا يتأثر عنوان المسافر بحكم التمام هذا، ولأنه خلاف القاعدة فلم يطّرد في من أفسد إقامته بالمبيت في خارج محل الإقامة مثلاً –كما سنشير إليه بإذن الله تعالى- فإن حكمه العودة إلى عمومات وجوب التقصير بمجرد ذلك، ويمكن أن يستأنس لعدم الاطراد بما في مقابله أي وجوب التقصير على قاصد المسافة بمجرد بلوغ حد الترخّص، مع أنه قد يعدل عن قصده قبل قطعها، ويرجع حكمه إلى التمام حتى لو صلى قصراً قبل عدوله.

3- إنهم (قدس الله أرواحهم) ذكروا في شروط التقصير أن لا يقصد إقامة عشرة أيام قبل قطع المسافة، وإلا لم يتم قصد المسافة، وهذا مبني على قطع العزم المذكور لموضوع السفر، وإلا لم يتم التعليل المذكور وقد قرّبناه (صفحة 294 و صفحة 321).

4- ما سيأتي من عدم الحاجة إلى إنشاء سفر جديد للعود إلى القصر حتى بعد أن صلى تماماً، بل يعود إلى القصر بما هو دون ذلك إذا أضرّ بصدق الإقامة من حيث مسافة الخروج أو زمانه، وهذا يعني أن سفره لم

ص: 318

ينقطع.

5- لزوم الدور بحسب ما قرّب بعض الأعاظم (قدس سره) قال: ((وأما إناطة تأثير حدوث الإقامة في انقطاع السفر بفعل صلاة تامة فهو في حكم إناطته وجوب الإتمام بفعل الإتمام))(1).

أقول: هذا المقدار من التقريب قد لا يكون كافياً؛ لإمكان الرد بأن صلاة التمام متوقفة على عزم الإقامة، أما المتوقف على صلاة التمام فهي الإقامة الموجبة لانقطاع السفر.

نعم يمكن تتميم إشكال الدور بناءً على إطلاقهم القول بقاطعية الإقامة لموضوع السفر وعدم تبنيهم التفصيل الذي ذكرناه في النقطة الأولى أعلاه لأن عندهم إقامة واحدة موجبة لانقطاع السفر بقول مطلق وليس عندهم إقامتين لتحل إشكال الدور.

فالمفروض على مبانيهم أن مجرد العزم على الإقامة موجب لانقطاع السفركما أوجب الحكم بالتمام، وحينئذٍ يأتي الإشكال السابق وهو رجوعه إلى التقصير بمجرد العدول بالنية عن الإقامة من دون الحاجة إلى سفر جديد مع أن سفره الأول قد انقطع بحسب مبانيهم.

ولذا وقع بعض الأساطين في إرباك بسبب ذلك، ففي مسألة ((هل يعتبر بقاء مسافة أو قصدها في رجوعه إلى التقصير عند رجوعه عن الإقامة قبل فعل الصلاة تماماً، أو أنه يكفي فيه السفر الأول)) قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((احتمل في الروض اشتراط بقاء مسافة تمسكاً بإطلاق النص والفتوى بأن نية الإقامة من القواطع للسفر فيبطل حكم ما سبق بمجرد النية وإن لم يصل تماماً، كما لو وصل إلى وطنه، وربما أيد بأنه لا منافاة في إطلاق خبر أبي ولاد لذلك، لظهور أن السائل كوفيّ ويريد السفر إلى الكوفة، ولذا أطلق فيه القصر عند الرجوع، كإطلاقه ذلك بعد الخروج إذا صلى تماماً، إذ لا بد حينئذ من

ص: 319


1- صلاة الجماعة والمسافر للشيخ محمد حسين الأصفهاني: 469 طبعة النجف، وأشار إلى الدور السيد العاملي (قدس سره) في مفتاح الكرامة: 6/1933.

المسافة باعتراف الخصم))(1).

أقول: منافاته للصحيحة صريحة لأنها صرحت بوجوب القصر عليه بمجرد عدوله عن الإقامة قبل أن يصلي تماماً، وإن لم يخرج من محل الإقامة، وتأويله بأن السائل كوفي بعيد وغير مفيد.

ولذا أيضاً كان ما في العروة الوثقى –تبعاً لجملة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم)- هو الأصح قال (قدس سره): ((العدول عن الإقامة قبل الصلاة تماماً قاطع لها من حينه، وليس كاشفاً عن عدم تحققها من الأول، فلو فاتته حال العزم عليها صلاة أو صلوات أيام ثم عدل قبل أن يصلي صلاة واحدة بتمام يجب عليه قضاؤها تماماً))(2)

لأن نية الإقامة كافية لوجوب التمام وليست مشروطة باستمرار العشرة كما قيل، أما صلاة فريضة تماماً فهو موجب للبقاء على التمام.

فتكون نتيجة التحقيق إلى الآن أن نية الإقامة والعزم عليها موجبة لانقطاع حكم السفر وهو التقصير ويكون حكمه التمام حتى إذا أتم عشرة أيام أصبح كالمتوطن وانقطع سفره.

إن قلتَ: في هذا القول المختار خروجٌ عن الإجماع المركب.

قلتُ:-

1- إننا لا نرى فيه بأساً لأنه إجماع استنباطي مدركي، فلا يضر الخروج عليه مضافاً إلى الطعن في أصل الكبرى.

2- إنه لا بد من المصير إلى القول بالتفصيل لأن إطلاق القول بقاطعية الحكم ينقض عليه بالروايات الدالة على التنزيل وإطلاق القول بقاطعية الموضوع ينقض عليه بما دل على عود المسافر إلى التقصير إذا عدل عن قصد الإقامة في صحيحة أبي ولاد التي تصلح دليلاً على قاطعية الحكم بهذا المقدار كما سيأتي، ولو كان سفره قد انقطع لما عاد إلى التقصير إلا

ص: 320


1- جواهر الكلام: 14/327.
2- العروة الوثقى: فصل في قواطع السفر موضوعاً أو حكماً، المسألة (19).

بإنشاء سفر جديد.

وهنا تواجه المشهور مشكلة أخرى إذ أنه بنى على أن قصد الإقامة تقطع نيةالسفر كما تقدم في ما نقلناه عن مستند النراقي (قدس سره) (صفحة 289)، مع أن صحيحة أبي ولاد تفيد أن العزم على الإقامة ومباشرتها فعلاً لا تضرّ بقصد السفر فما إن يعدل عن نية الإقامة فإنه يقصّر فوراً إذا لم يصلِّ تماماً.

وما دل على أن المسافر يبقى على التمام وإن عدل عن قصده إذا صلى فريضة تماماً لا يقدح في ما ذكرناه لأنه حكم شرعي خاص على خلاف مقتضى القاعدة. مضافاً إلى صدق المسافر عليه عرفاً قبل إتمام عشرة أيام وعدم وجود دليل على تنزيله بمنزلة المتوطن خلالها.

فإن أبيت إلا التوفيق مع المشهور القائل بانقطاع موضوع السفر مطلقاً فتقول في تقريبه: إن شخص السفر الذي بدأه قد انقطع بالعزم على الإقامة إلا أن تلبّسه بنوع السفر باقٍ اقتضاءً لا فعلاً لصدق العنوان عليه عرفاً حتى يتم عشرة أيام، ونوع السفر كافٍ للتقصير إذا أصبح فعلياً، فمن قصد المسافة طالباً بلداً معيناً وقبل إكمالها عدل بنيته إلى بلدٍ آخر حتى قطع المسافة كفى في وجوب القصر، وفي المقام يمكن أن يكون نوع السفر فعلياً فيما لو عدل عن قصد الإقامة.

ولتقريب هذه الفكرة أقول: إنه نظير سقوط التكليف عن الميت فإنه سقوط لنوع التكليف، أما سقوطه عن المجنون فهو لشخص التكاليف الموجهة إليه خلال جنونه، فلو نوى مسافرٌ إقامة عشرة أيام يعلم أنه سيموت قبل إكمالها أو سيُجنّ صحّت النية في الثاني لوجود نوع التكليف الكافي في تصحيحها دون الأول.

وسيأتي مزيد من الإيضاح بإذن الله تعالى.

فرع: بعد الانتهاء من التحقيق إلى نتيجة مفادها أن الإقامة قاطعة لحكم السفر حتى يتم العشرة، فإن المسافر إذا قصد الإقامة فهذا القصد لا ينافي قصد السفر، فلو قصد المسافر المسافة ونوى الإقامة دونها ثم تردد في نيته أو عدل عنها وواصل سفره: قصّر.

ولكن المشهور لا يعتد هنا بالمسافة التي قطعها مع نية الإقامة أو التردد

ص: 321

فيها، ويحتسب المسافة من حين إلغاء نية الإقامة، للتنافي عندهم بين قصد المسافة وقصد الإقامة، لهذا جعلوا من شروط التقصير في السفر أن لا ينوي الإقامة.

قال صاحب العروة (قدس سره): ((الرابع –من شروط التقصير- أن لا يكون من قصده في أوّل السير أو في أثنائه إقامة عشرة أيام قبل بلوغ الثمانية، وأن لا يكون من قصده المرور على وطنه كذلك وإلاّ أتمّ، لأنّ الإقامة قاطعة لحكم السفر، والوصول إلى الوطن قاطع لنفسه فلو كان من قصده ذلك من حين الشروع أو بعده لم يكن قاصداً للمسافة وكذا يتمّ لو كان متردّداً في نيّة الإقامة أو المرور على الوطن قبل بلوغ الثمانية نعم لو لم يكن ذلك من قصده ولا متردّداً فيه إلاّ أنّه يحتمل عروض مقتض لذلك في الأثناء لم يناف عزمه على المسافة فيقصر، نظير ما إذا كان عازماً على المسافة إلاّ أنّه لو عرض في الأثناء مانع من لصّ أو عدوّ أو مرض أو نحو ذلك يرجع، ويحتمل عروض ذلك، فانّه لا يضرّ بعزمه وقصده))(1).

وقال (قدس سره) في المسألة التي تلي ذلك: ((لو كان حين الشروع في السفر أو في أثنائه قاصداً للإقامة أو المرور على الوطن قبل بلوغ الثمانية لكن عدلبعد ذلك عن قصده، أو كان متردّداً في ذلك وعدل عن ترديده إلى الجزم بعدم الأمرين.

فإن كان ما بقي بعد العدول مسافة في نفسه أو مع التلفيق بضمّ الإياب قصّر وإلاّ فلا ، فلو كان ما بقي بعد العدول إلى المقصد أربع فراسخ وكان عازماً على العود ولو لغير يومه قصّر في الذهاب والمقصد والإياب))(2).

أقول: قد عرفت عدم المنافاة لأن الإقامة –إذا تحققت- تكون قاطعة لحكم السفر دون موضوعه، وهي بحسب الفرض لم تتحقق، مضافاً إلى أن مختارهم هذا مخالف صريحاً لصحيحة أبي ولاد الآتية (صفحة 324)، وفيها أنه يعود إلى القصر بمجرد عدوله عن نية الإقامة، فنتمسك بإطلاقها الشامل لمن قصد الإقامة

ص: 322


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/89.
2- المصدر السابق: 20/92-93.

ابتداءً ثم عدل عنها، فألزمه بالتقصير مع استمرار قصده الإقامة إلى تحققها في محلها ما لم يؤدِ فريضة تماماً من دون الحاجة إلى ضم أي مسافة جديدة أو استثناء مسافة سابقة. فعلى المشهور أن يحذف هذا الشرط، ويقول إن الإقامة إذا تحققت فهي قاطعة للسفر حكماً –كما هو الصحيح- أو موضوعاًً –كما هو المشهور-.

والتفت إلى ما قلناه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حيث قال: ((وقد تسأل: وإذا سافر الإنسان وهو يشك في أنه هل سيقيم في بلد إقامة، ثم انصرف عن ذلك في أثناء السير وواصل سفره إلى أن أكمل المسافة، فماذا يصنع بعد أن أكمل المسافة؟.

والجواب: الحكم أنه يقصر، وكذلك أيضاً لو كان عازماً عند ابتداء السفر على أن يقيم عشرة أيام في نصف الطريق ثم انصرف عن ذلك وأكمل المسافة المحددة.

وكذلك الأمر أيضاً لو وصل إلى موضع في أثناء سفره وأعجبه وحدث نفسه في الإقامة هناك عشرة أيام ثم انصرف واصل سفره، فإن حكمه القصر))(1).

ويلاحظ هنا أن الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) الذي تبع الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في مبناه وفروعه التي ذكرها، أورد نفس الشرط الذي ذكره المشهور، قال (دام ظله الشريف): ((الثالث: أن لا يكون ناوياً في أول السفر إقامة عشرة أيام قبل بلوغ المسافة، فإذا كان ناوياً الإقامة في الطريق أو متردداً فيها فمعناه أنه لم يكن قاصداً من ابتداء الأمر السفر بقدر المسافة الشرعية، فلذلك يكون وظيفته التمام))(2).

أقول: التهافت واضح بين الالتزام بالشرط، والفروع التي ذكرها، أما السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فإنه لم يعتبر هذا الشرط، لكنه اعتبر في

ص: 323


1- الفتاوى الواضحة: 316 الفقرتان 129، 130، من طبعة النجف.
2- منهاج الصالحين: 1/358، الشرط الثالث.

وجوب التقصير عدم تحقق أحد القواطع ومنها إقامة عشرة أيام(1)

وبينهما فرق.نعم من المشهور المنصور استمرار قصد المسافة فلو نوى العدول عنه أو تردد فيه لم تحسب المسافة خلال ذلك وإنما تحسب مع عزمه على قصدها. نعم لا يضر في قصد المسافة احتمال عروض ما ينافيه كما لو احتمل حصول مانع صحي له عن الاستمرار في قطع المسافة أو إعجابه بمكان في الطريق يوجب نية الإقامة فيه.

ولذا فرّق المشهور –ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره)- ((بين التردد في نفس القطع من أول الأمر وبين التردد في عروض ما يقتضي العزم على القطع معه، لمنافاة الأول قصد المسافة دون الثاني))(2)

ولا مجال هنا للبسط في التفاصيل.

(الأمر الثالث) متى ينتفي حكم التمام للمقيم:

ينتفي حكم التمام عن المقيم في ثلاث حالات:

الأولى: إذا عدل عن قصد الإقامة، وهذا واضح وعلى القاعدة لانتفاء الشرط وهو العزم على الإقامة كما ورد في الروايات المتقدمة (صفحة 298-299)، ولانتفاء العنوان الموجب للتمام وهو عنوان المقيم، والأحكام تدور مدار العناوين.

نعم دلت صحيحة أبي ولاد على أن المسافر إذا عزم على إقامة عشرة أيام وصلى بناءً على ذلك فريضة تماماً بقي على التمام في ذلك المحل إلى أن يخرج، وهو حكم على خلاف مقتضى القاعدة من الرجوع إلى القصر بمجرد العدول عن نية الإقامة، لما ذكرناه أعلاه، فعن أبي ولاد الحنّاط قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيام وأُتم الصلاة ثم بدا لي بعد أن أقيم بها فما ترى لي أتم أم أقصر؟ فقال: إن

ص: 324


1- الفتاوى الواضحة: 306، الفقرة 100.
2- جواهر الكلام: 14/242.

كنت دخلت المدينة وصلّيت بها فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها، وإن كنت حين دخلتها على نيتك التمام فلم تصلِّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار إن شئت فانو المقام عشراً وأتم، وإن لم تنو المقام فقصر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة)(1).

وتوجد رواية في نفس الباب معارضة لها ظاهراً عن حمزة بن عبد الله الجعفري قال: (لما أن نفرت من منى نويت المقام بمكة فأتممت الصلاة حتى جاءني خبر من المنزل فلم أجد بداً من المصير إلى المنزل ولم أدرِ أتم أم أقصر، وأبو الحسن (عليه السلام) يومئذٍ بمكة فأتيته فقصصت عليه القصة، فقال لي: ارجع إلى التقصير)(2).

أقول: الرواية لا تصلح لمعارضة الصحيحة لضعفها بجهالة الجعفري، ولإعراضالأصحاب طراً عن العمل بها وإعراضهم هنا معتبر، ولعدم احتمال الإلزام بالتقصير لأن مكة من أماكن التخيير.

مع إمكان حملها على ما لا ينافي الصحيحة كحمل التقصير على أنه حكمه إذا خرج من مكة كما هو ظاهر قوله: (فلم أجد بداً من المصير إلى المنزل) فكأنه قد سأل الإمام (عليه السلام) وقد شدّ رحله للسفر وتحلّ عليه الصلاة بعد الخروج من مكة، ويقرب السؤال حينئذٍ عن التمام مع معلومية وجوب التقصير عليه: من جهة ظن السائل أن عليه إتمام العشرة وإن سافر لبقاء حكم الإقامة عليه –حكي عن صاحب الحدائق الناضرة (قدس سره) وهو قريب وإن استبعده المحقق الهمداني (قدس سره) في المصباح-. أو أن إتمامه الصلاة الذي ذكره في مكة كان من جهة التخيير فيها وليست بسبب الإقامة أو كون الإقامة غير محددة بالعشرة كما استعمل في بعض الروايات.

الثانية: فيما لو أفسد إقامته بالخروج من محل الإقامة إلى ما ينافيها، أو

ص: 325


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 18، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 18، ح 2.

بالمكث طويلاً خارج محل الإقامة مما يقدح بشرط إتمام العشرة، فضلاً عن المبيت خارج محل الإقامة، فإن مثله يعود إلى القصر لشمول عمومات وجوب التقصير له بعد خروجه منها بنية الإقامة، والمفروض أنها قد فسدت.

ولا يقاس هذا المورد على من عدل عن عزم الإقامة فيحكم عليه بالتفصيل الذي ذكرته صحيحة أبي ولاد لأن الصحيحة خاصة بمن عدل عن الإقامة، والتفصيل الوارد فيها على خلاف مقتضى القواعد فيُقتصر على القدر المتيقن؛ ولأن هذه الأبحاث لم يتعرض لها المشهور بالشكل الذي رسمناه بفضل الله تبارك وتعالى، نذكر أحياناً بعض النصوص للأنس بهذه المطالب.

قال الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): ((وإن كان خروجه منه –أي محل الإقامة- في أثناء العشرة فحكمه القصر لما مر من أن الإقامة لا بد أن تكون في مكان واحد طيلة عشرة أيام، فإذا بات في المقصد ليلة أو ليلتين أو أكثر فمعناه أنه لم يقم في مكان واحد تمام العشرة، فإذن هو مسافر غير مقيم في الواقع فحكمه القصر))(1).

الثالثة: مغادرة محل الإقامة، ووجهه واضح لأنه بهذه المغادرة ينتفي عنه عنوان المقيم الموجب لحكم التمام، باعتبار أن المقيم ومحل الإقامة عنوانان إضافيان، ينتفي أحدهما بانتفاء الآخر، والأحكام تدور مدار العناوين.

والمغادرة هذه تتحقق بالخروج المنافي لصدق الإقامة لمن لم يتم العشرة، وبالارتحال عن محل الإقامة لمن لم يتمها، ويجب أن يفسَّر الخروج الذي جُعل غاية للحكم بالتمام في صحيحة أبي ولاد إذا أريد الاستدلال بها في المقام بهذا التفسير.

لا يقال: إن تفسير الخروج بمعنيين من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممنوع.

فإنه يقال:-

1- إن هذه الكبرى ليست تامة عندنا في علم الأصول.

ص: 326


1- تعاليق مبسوطة: 4/440.

إن هذا المعنى بنيناه على مقتضى القواعد وليس على تفسير لفظ الخروج في1- الصحيحة حتى يشكل عليها.

2- إنه ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لأن الخروج فُسِّر بمعنى واحد وهي المغادرة كما عنونّاه، إلا أن المغادرة تختلف مصاديقها بحسب حال المقيم في التفصيل المتقدم حيث دلّت المعتبرات الثلاث على تنزيل من أتم العشرة منزلة الحاضر فتوسع معنى إقامته.

وقال المشهور (قدس الله أرواحهم) قولاً مطلقاً أن من تحققت إقامته سواء أتمّ العشرة أم لم يتمها لكنه صلى فريضة تماماً، فإنهم لا يعودون إلى حكم التقصير إلا إذا أنشأ سفراً شرعياً، واستدلوا بعدة أدلة كما يظهر من كلماتهم:-

1- إن الإقامة قاطعة لموضوع السفر، وبذلك ينتفي تأثير جزء السفر ما قبل محل الإقامة، ولا يعود إلى القصر إلا بإنشاء سفر جديد.

وفيه: إن مقتضى التحقيق المتقدم أن الإقامة قاطعة لحكم السفر قبل إتمام العشرة.

2- استصحاب حكم التمام الثابت في محل الإقامة ولا ينقطع إلا ببلوغ المسافة الشرعية.

وفيه: ما سيأتي من المناقشات عند استدلال صاحب الجواهر (قدس سره).

3- صحيحة أبي ولاد بعد تفسير الخروج فيها بالخروج السفري.

وهنا يأتي إشكال، لأن موضوعها من عدل عن الإقامة وكلامنا في المقيم إذا خرج فالموضوعان متغايران، إلا أنه يمكن تتميم الاستدلال على مختارنا بأن يقال: إن المقيم محكوم قبل إتمام العشرة بعدم الخروج المنافي للإقامة فإذا خرج فسدت إقامته، ومن عدل عن الإقامة لا يكون أولى منه في مقدار المسافة الموجبة للتقصير لأن استثناء صحيحة أبي ولاد له على خلاف القاعدة فيقتصر منه على القدر المتيقن.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا خلاف ولا إشكال في احتياج التقصير بعد الخروج منهما –أي الوطن ومحل الإقامة- إلى اعتبار مسافة جديدة،

ص: 327

ولا يكفي التلفيق بعد تخلل القاطع وإن كان لا صراحة في النصوص بذلك بالنسبة إلى محل الإقامة، إلا أنه يكفي فيه – بعد الإجماع المحكي بل الإجماعات إن لم يكن محصلاً - استصحاب حكم التمام الثابت له في محل الإقامة السالم عن معارضة نصوص المسافة بعد انسياق غير الفرض منها، وتنزيل المقيم عشراً منزلة الأهل في الصحيح السابق))(1).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر تتضح من مناقشتنا السابقة لمباني المشهور، منها:-

1- قوله (قدس سره): ((لا خلاف ولا إشكال في احتياج..)) منقوض طرداً وعكساً فقد يجب التقصير فيما لو خرج إلى ما دون المسافة كما قربنا أعلاه وسيأتي إن شاء الله تعالى، وقد لا يجب فيما إذا خرج إلى المسافة وعاد إلى محل الإقامة كما في صحيحة زرارة وأختيها.

2- عدم تفريقهم بين من أقام عشرة أيام فعلاً الذي نُزِّل في صحيحتي زرارة وابن مهزيار وموثقة إسحاق منزلة أهل البلد، ومن هو بحكمه ممن عزم على الإقامة وصلى تماماً مع أن صحيحة زرارة وأختيها دلت على بقاء الأول على حكم التمام في محل الإقامة وإن خرج إلى سفر شرعي بل وإن بقي خارج محل الإقامة أياماً – وهي أيام التشريق بحسب الروايات المذكورة -، وبذلك يفترق عن الثاني المتفق على انتفاء حكم التمام عنه إذا خرج بسفر شرعي، بل هو محكوم بعدم الخروج المنافي لصدق الإقامة، وإن كان إلى ما دون المسافة.

3- إن هذا المبنى –أعني الحاجة إلى إنشاء سفر جديد للعودة إلى القصر- يجعل خلافهم السابق فيما يجوز للمقيم أن يخرج إليه عقيماً إذ لا يحتاج المقيم إلا أن يصلي فريضة تماماً ليجوز له الخروج إلى ما دون المسافة مطلقاً. مع أنه مهم عندهم ورتّبوا عليه آثاراً.

4- الإجماع الذي استدل به اجتهادي غير معتبر لأنه مبني على قاطعية

ص: 328


1- جواهر الكلام: 14/242.

الإقامة لموضوع السفر أو تفسير الخروج في صحيحة أبي ولاد بالخروج السفري وهو أول الكلام وستأتي مناقشته بإذن الله تعالى.

5- استدلاله (قدس سره) باستصحاب حكم التمام الثابت له في محل الإقامة مبني أيضاً على انقطاع موضوع السفر وانتفاء عنوانه مع أن التحقيق على خلافه في مورد الصحيحة كما تقدم، ولو سلمناه فإن المنقطع هو شخص السفر الذي بدأه، أما نوع السفر فموجود ويكون فعلياً عند خروج المقيم إلى ما ينافي صدق الإقامة عرفاً، فالصحيح جريان حكم العام –أي حكم سفره الأول- وهو القصر إذا خرج إلى ما ينافي صدق الإقامة؛ بمقتضى صحيحة أبي ولاد بتقريبين: أحدهما التمسك بإطلاق الخروج الوارد فيها إذ أنها دلت على بقائه على التمام إذا عدل عن نية الإقامة ما دام لم يخرج، وثانيهما أن الصحيحة على خلاف القاعدة كما ذكرنا فيقتصر منها على القدر المتيقن وهو الخروج غير المنافي للإقامة، وهنا يجري العام (وهو عموم التقصير) في الزائد عن القدر المتيقن من الخاص.

وبتعبير آخر: إن لدينا هنا عاماً هو وجوب التقصير على المسافر، وقد ورد عليه مخصص وهو المقيم فإنه يتم، لكن هذا المخصص كان مجملاً مفهوماً في الأزيد من القدر المتيقن وهو الخروج غير المنافي لصدق الإقامة، والمختار في علم الأصول الاقتصار من هذا الخاص على القدر المتيقن، وشمول العام للأزيد المشكوك من الخاص إذا كان على نحو الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر.

وحينئذٍ لا مجال لاستصحاب الخاص وفق ما قربوه في تنبيهات الاستصحاب(1)؛ لصدق موضوع العام وهو المسافر عرفاً، خصوصاً على

ص: 329


1- راجع التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب في فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (قدس سره) وقد قرّب جريان الاستصحاب السيد الحكيم (قدس سره) –كما سنذكر- تبعاً لأستاذه النائيني (قدس سره) فيما حكي عن تقريراته للخونساري في منية الطالب: 3/171.

مختارنا من التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع فيجري وبين الشك في المقتضي فلا يجري، وهنا الشك في المقتضي أي كون الإقامة التي خرج منها إلى ما ينافيها فيها اقتضاء استمرارية التمام.

ومنه يُعلم النظر فيما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((إن إيجاب المسافة للقصر حتى إذا تخلل فيها الإقامة محل الشك بالنسبة إلى منصرف أخبار القصر، فانضمام ما بعد الإقامة إلى ما قبلها لا يستفاد من الأخبار، فيبقى استصحاب التمام وعدم حصول موجب القصر سليماً))(1).

وفيه:-

1- إن صدق عنوان المسافر عليه يجعله موضوعاً لعمومات القصر، وضم ما قبل محل الإقامة وما بعدها، ما دام موضوع السفر لم ينقطع كما لو مكث يوماً أو يومين للاستراحة في طريق السفر، أما الانصراف إلى غير المورد وعدم وضوح الانطباق فلا ينافي الإطلاق.

2- إن مبناه (قدس سره) في حجية الاستصحاب ما اخترناه فكيف يجري الاستصحاب وهو ليس بحجة عنده، ونفس الإشكال يأتي على المحقق النائيني (قدس سره) لاختياره نفس المبنى.

واعترف بما ذكرناه بعض الأساطين لولا صحيحة زرارة قال (قدس سره): ((إن نية الإقامة قاطعة لموضوع السفر اعتباراً وتنزيلاً بمقتضى صحيحة زرارة فهو بمنزلة أهلها، وعليه يبتني هذا البحث، وإلا فهو مسافر حقيقة وإنما ارتفع حكمه في برهة من الزمان، فإذا خرج من محل الإقامة كان خروجه خروج المسافر بسفره الأول، وهذا متمم سفره فيجب عليه القصر بمجرد خروجه ذهاباً وإياباً إلى أن يصل إلى وطنه، ويوافقه الظهور البدوي من صحيحة أبي ولاد حيث جعل غاية وجوب الإتمام بمجرد الخروج عن محل الإقامة))(2).

ص: 330


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 8/72.
2- صلاة الجماعة والمسافر للشيخ محمد حسين الأصفهاني: 481، طبعة النجف.

أقول: اتضح مما سبق أن مورد صحيحة أبي ولاد غير مورد صحيحة زرارة التي أفادت التنزيل، ولا دليل على تنزيل من لم يتم عشرة أيام منزلة أهل البلد فالعام جارٍ.

ومنه يظهر وجه الإشكال فيما قاله السيد الحكيم (قدس سره) في المقيم إذا خرج إلى ما دون المسافة: ((بل لو قلنا بكونها قاطعة لحكمه تعيّن أيضاً البناء على التمام بناءً على الرجوع في مثل المقام إلى استصحاب حكم المخصِّص، لا عموم أدلة القصر))(1).

فتحصّل إن إطلاقهم هذا ينافي من جهة صحيحة أبي ولاد في من عزم على الإقامة عشرة أيام ولم يتمها بعدُ في العود إلى التقصير بمجرد الخروج المنافي لصدق الإقامة، وينافي من جهة أخرى صحيحة زرارة وموثقة إسحاق وصحيحة ابن مهزيارالتي تقتضي جواز الخروج إلى عرفة وهي خارج المسافة الشرعية والبقاء في منى أيام التشريق ثم يعودون إلى التمام كأهل البلد فالصحيح التفريق بين موضوعي الطائفتين من الروايات. فإن موضوع صحيحة أبي ولاد من عزم على الإقامة ثم عدل عنها ولم يتمها، وموضوع صحيحة زرارة والأخريين هو من أتم عشرة أيام فعلاً، فلا بد من وضع الأمور في نصابها، فتؤخذ أحكام كل منهما من دليله. وسيأتي مزيد من التفصيل في الأمر الآتي بإذن الله تعالى.

والمهم الآن هو تفسير الخروج الموجب للقصر، إذ يرد فيه عدة احتمالات:-

الأول- مطلق الخروج من محل الإقامة.

الثاني- الخروج المنافي لصدق الإقامة وإن كان دون المسافة الشرعية.

الثالث- إنشاء سفر جديد والخروج إلى المسافة الشرعية.

ولا سبيل إلى الأول لما قدمناه من عدم منافاة الإقامة للخروج إلى ضواحي البلد في زمان قصير، نعم من يشك في كونه من القدر المتيقن فيحسُن له الاحتياط، فضلاً عمن يبني على منافاة مطلق الخروج كالمحقق الأصفهاني (قدس

ص: 331


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/132.

سره) في النص المتقدم.

فيدور الأمر بين الثاني والثالث، والموافق للقواعد كما قرّبنا آنفاً الثاني، لكن المشهور الذي ادعي عليه الإجماع هو الأخير كما نقلنا عن صاحب الجواهر (قدس سره)، ومستنده معلوم عند من يعتبر الإقامة قاطعة لموضوع السفر الأول إذ التقصير يقتضي إنشاء سفر جديد بعد انتفاء موضوع السفر الأول، وقد تقدمت مناقشته من جهات عديدة.

أما من ذهب إلى أن الإقامة قاطعة لحكم السفر فقط مع بقاء موضوعه، فمقتضى مبناه أن المقيم إذا خرج إلى ما ينافي الإقامة –ولو إلى ما دون المسافة الشرعية- فقد رجع إليه حكمه الأول وهو التقصير لخروجه عن المغيى في صحيحة أبي ولاد فيكون مشمولاً بالعام كما قربنا آنفاً، أو لضم جزئي المسافة ما قبل وما بعد محل الإقامة إذا أصبح المجموع مسافة شرعية، لكن السيد الخوئي (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله الشريف) –وهما ممن ذهبا إلى قاطعية الحكم- التزما بنفس ما ذهب إليه المشهور مما يشعر بعدم الانسجام بين المبنى والبناء، فما هو توجيهه؟

أما السيد الخوئي (قدس سره) فوجهه ((التصريح في صحيح أبي ولاد بوجوب الإتمام ما لم يخرج، والمراد به الخروج السفري كما مرّ، فما دام لم يُنشئ سفراً جديداً يبقى على التمام))(1)

وكان (قدس سره) قال عن الصحيحة أنها تضمنت أن المحكوم بالتمام ((يحتاج العود إلى القصر إلى إنشاء سفر جديد))(2).

أقول: يرد عليه:-

1- إن الاستدلال بصحيحة أبي ولاد يبدو أجنبياً عما نحن فيه أو أخص منه، لأن كلامنا وكلامه (قدس سره) في المقيم إذا خرج، وموضوع الصحيحة المقيم الذي عدل عن إقامته ثم خرج، فالاستدلال يحتاج إلى تتميم ذكرناه (صفحة 327) بأن يُعمم حكم الصحيحة إلى كل مقيم إذا خرج

ص: 332


1- و (2) الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/92، 284.

بالأولوية، لكن هذه الأولوية قد تعود عليه بعكس مطلوبه، لأنه (قدس سره) بنى جواز خروج المقيم من محل الإقامة على تفسير لفظها فقال (قدس سره): ((وإن فُسِّر بما هو ظاهر اللفظ بحسب المتفاهم العرفي من كونه محلاً لإقامة المسافر لا لرحله، إذ ربما لا يكون له رحل أصلاً، فحينئذٍ يضرّه أدنى الخروج وإن كان قليلاً))((1).

وحينئذٍ يقال إن موضوع صحيحة أبي ولاد ليس أولى من المقيم فكيف يجوز له الخروج إلى ما دون المسافة مطلقاً؟

2- إن هذا التفسير للخروج يبقى مجرد دعوى لا دليل عليها، بل الدليل على خلاف هذا التفسير بعد ما عرفناه من مقتضى مبناه من لزوم التقصير بما هو دون المسافة إذا كان منافياً لصدق الإقامة.

3- عدم تعيّن الخروج بالخروج السفري أي إن اللفظ مطلق لا ينحصر معناه بهذا التفسير، وتوجد عدة روايات ورد فيها لفظ الخروج بغير الخروج السفري مما يدل على عموم ظهوره في غيره، ومنها موثقة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل له الضياع بعضها قريب من بعض فيخرج فيطوف فيها أيتم أم يقصر؟ قال: يتم)(2)

موثقة عمار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج في حاجة وهو لا يريد السفر)(3)

الحديث وخبر صفوان قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلاً على رأس ميل)(4) الحديث.

4- لزوم الدور، لأنه بنى تفسير الخروج بالخروج السفري على جواز خروج المقيم إلى ما دون المسافة وأنه لا ينافي الإقامة، وبنى هذا الجواز على التفسير المذكور فيلزم الدور.

ص: 333


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/269.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 14، ح12.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 4، ح1، 2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 4، ح1، 2.

5- النقض عليه بمن عدل عن الإقامة وخرج من محلها مغادراً إياه إلى ما دون المسافة فإن حكمه التقصير لانطباق الصحيحة عليه ولا مسوِّغ لعدم جريانها فيه.

وأضاف (قدس سره) وجهاً آخر في غير موضع، قال (قدس سره): ((وليس له التقصير وإن خرج إلى ما دون المسافة بمقتضى إطلاق الصحيحة، هذا.

مضافاً إلى الكبرى الكلّية والضابط العام المتكرّر ذكره في غير مقام من أنّ من كان محكوماً بالتمام لا تنقلب وظيفته إلى القصر إلاّ عند قصد المسافة ولو ملفّقة على ما استفدناه من صحيحة ابن مسلم: في كم التقصير؟ قال (عليه السلام): ثمانية فراسخ، حسبما تقدّم بيانه سابقاً، والمفروض في المقام عدم قصد المسافة فتشمله هذه الكلّية.

فعلى تقدير التشكيك في دلالة الصحيحة المتقدّمة وإجمالها من حيث إرادةالخروج السفري وعدمه تكفينا هذه الكبرى))(1).

أقول: يرد عليه (قدس سره) نقضاً وحلاً، أما نقضاً فبصحيحة أبي ولاد التي أوجبت العدول من حكم التمام إلى حكم القصر بمجرد العدول عن نية الإقامة.

وأما طرداً فلأن مسافة التقصير متحققة هنا بسفره الأول من وطنه الذي لم ينقطع على مبناه (قدس سره) فإذا خرج عن محل الإقامة إلى ما ينافيها ولو دون المسافة عاد إليه حكم سفره الأول بعد تحقق المسافة بضم الجزئين.

مضافاً إلى عدم تمامية الإطلاق الذي تمسك به لأن صحيحة ابن مسلم بصدد بيان المسافة الموجبة للتقصير وليست بصدد بيان كبرى كلية لموارد التقصير لوجود شروط أخرى فالمسافر سفر معصية لا يقصر وإن قطع المسافة الشرعية.

واختار الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) الاحتمال الثالث أيضاً بقوله: ((وبما أن الإقامة تقطع حكمه فعليه أن يتم ولا يقصر إلا إذا بدأ سفراً

ص: 334


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/299.

جديداً))((1)

وقال في جواب الإشكال الذي أثرناه: ((إن الإقامة وإن كانت تنهي حكم السفر دون نفسه، إلا أن هذا السفر بما أنه منتهٍ حكماً فلا أثر له، فإذن وجوب القصر عليه مرة أخرى يتوقف على سفر جديد منه بقدر المسافة))(2).

أقول: وهذه أيضاً مجرد دعوى لا تنسجم مع لازم مبناه، لأن معنى قاطعية الإقامة لحكم السفر دون موضوعه، أن عنوان السفر مستمر، وتعبيره بأنه: ((لا أثر له)) يعني انقطاع موضوعه، وقد مرّت (صفحة 294) المقارنة بين ورود العبارة في كلامه وفي كلام الصدر الأول (قدس سره). ومناقشة مبانيه في تفسير محل الإقامة ومقدار الخروج الجائز منه.

وأصل هذا التعبير موجود في كلمات الشيخ الأنصاري (قدس سره) فقد احتمل أن يكون مستند من ذهب إلى وجوب القصر على المقيم بمجرد الخروج عن محل الإقامة وإن لم يقطع المسافة الشرعية من محل الإقامة، أنه لأحد أمرين، الأول قاطعية الإقامة لحكم السفر وقد تقدم (صفحة 287) ثم قال (قدس سره): ((الثاني: أنه وإن كانت الإقامة قاطعة للسفر بحيث لا ينضم ما بعدها إلى ما قبلها، لكن مجرد قصدها في أثناء المسافة لا يؤثر حتى يتحقق فعلاً))(3).

أقول: الأمر الأول شاهد على أن القول بقاطعية الإقامة للحكم يلزم منه ضم جزئي المسافة، وعدم الحاجة إلى إنشاء سفر جديد، والأمر الثاني شاهد على أن كون السفر ما قبل الإقامة مما لا أثر مورده قاطعية الإقامة لموضوع السفر.فائدة: يمكن أن نتبرع للمشهور بوجه للاستدلال على كون السفر الشرعي موجباً لانقطاع الإقامة حتى لو كان عازماً على العود إلى محل الإقامة من دون إقامة مستأنفة طبعاً فيكون حكمُه القصر حينئذٍ فيه، وحاصل الوجه: أن السفر ضد للإقامة والحضور، فمع تحققه تنتفي الإقامة حتى لو كان عازماً على

ص: 335


1- تعاليق مبسوطة: 4/424، وقال مثله (صفحة 339).
2- تعاليق مبسوطة: 4/ 440.
3- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 8/71.

الاستمرار بها بعد قضاء وطره في السفر، وبتعبير آخر: إننا بعد أن ثبّتنا أن الارتحال والمغادرة ينهي حكم التمام، فإن السفر الشرعي يعتبر ارتحالاً ومغادرة تعبداً وتنزيلاً وإن لم يكن قصده ذلك.

(الأمر الرابع) هل خروج المقيم إلى ما دون المسافة مطلق؟ وهل تشمل المسألة من هو بحكمه؟

أطلق الأصحاب (قدس الله أرواحهم) الخروج في عنوان المسألة إلى ما دون المسافة ولو بشيء يسير كذراع، وصرّحوا به في كلماتهم.

كما أطلقوا العنوان ليشمل المقيم الذي أتمّ عشرة أيام، ومن هو بحكمه: أي من تحققت منه الإقامة بصلاة فريضة تماماً كما سيظهر من بعض كلماتهم الآتية.

وقد بنى المشهور إطلاقه فيهما على ما اختاره من عدم عودة المقيم إلى القصر إلا إذا أنشأ سفراً جديداً، وقد انتهينا في الأمر السابق إلى عدم كونه هو المعيار. والإطلاقان محل إشكال، فإننا نتفق معهم في إمكان خروج من أتم الإقامة فعلاً إلى المقدار المذكور وأزيد منه، إلا أننا نختلف معهم في الدليل، فنحن نستند إلى صحيحة زرارة وأختيها، وهم استدلوا بتفسير الخروج في صحيحة أبي ولاد بالخروج السفري، وقاطعية الإقامة لموضوع السفر، مع وضوح المناقشة فيهما، فصحيحة أبي ولاد أجنبية أو أخص من المدّعى كما قرّبنا (صفحة 330)، أما الثاني فسنشير إليه أدناه بإذن الله تعالى.

وقد وقع المشهور في إشكال بسبب تعميمه العنوان للثاني أي من هو بحكم المقيم ولم يتم العشرة لأن المشهور يحدده بعدم الخروج إلى ما ينافي الإقامة عرفاً أو حد الترخص وهما حدان دون ما تفترضه المسألة فإطلاق عنوان المسألة محل إشكال، ومنشأه من جهة منافاة بعض صور هذا الخروج لمعنى الإقامة ومقتضياتها كوحدة محل الإقامة أو اشتراط توالي العشرة كما تقدم (صفحة 277، 282، 285)، فإذا خرج إلى ما ينافيها عرفاً وإن كان دون المسافة أو كان خروجه طويلاً –كنهار كامل كما هو لازم من جوّز الخروج إلى ما دون المسافة

ص: 336

وهي مسيرة يوم- وهو يضر بصدق توالي العشرة فقد فسدت إقامته وعاد إليه حكمه الأول وهو التقصير الذي خرج منه بسبب الإقامة والمفروض انتفاؤها كما قرّبنا، وهذا المعنى موجود في كلماتهم وإن اختلفوا معنا فيما تفسد به الإقامة(1).

إن قلتَ: المفروض أنهم يبنون على انقطاع سفره الأول فلا يعود حكمه.

قلتُ:-

1- إن مقتضى التحقيق الذي قدمناه هو عدم انقطاع السفر قبل إتمام عشرة أيام وإن صلى تماماً لصدق المسافر عليه عرفاً وعدم شمول دليل التنزيل له.

ولو تنزلنا وقلنا بانقطاع السفر فإنه معلق على نحو الشرط المتأخر على إتمام1- العشرة، فلو لم تتم بارتكاب المنافي ونحوه لم ينقطع.

2- ما قلناه على نحو الأطروحة أن الذي انقطع من السفر –لو سلّمناه- هو شخص السفر الأول، أما نوع السفر فإن حكمه باقٍ لكنه معلق على الإتيان بما ينافي الإقامة، فمتى ما صدر منه عاد حكمه إلى التقصير.

3- إنهم (قدس الله أرواحهم) قد اشترطوا في صحة الإقامة وحدة محل الإقامة وتوالي العشرة وقد قرّبنا أكثر من مرة أن إطلاق فرض المسألة ينافيها كما سيعترفون أدناه، وصحيحة أبي ولاد لا تجري هنا لأنها خاصة بمن عدل عن الإقامة إذا خرج، ولا تشمل كل مقيم.

وقد دفعهم ضغط هذا الإشكال إلى تبني محاولات للتخلص منه:

الأولى: الالتزام بأن ما يقدح في صحة الإقامة العزم على مثل هذا الخروج المنافي في ابتداء نية الإقامة فيقدح في صحتها للمنافاة، أما لو حصل الخروج بعد تحقق الإقامة بصلاة فريضة تماماً فلا يضرّ فيها لأن حكمه حينئذٍ التمام حتى ينشئ سفراً شرعياً جديداً، لذا عبّروا في عنوان المسألة بمن بدا له الخروج، أي أنهم فصّلوا بين من كان ناوياً الخروج من أول الأمر أي حين نية

ص: 337


1- راجع كمثال ذيل كلام الشيخ الفياض المذكور (صفحة 339) بقوله: ((فإذا بات..)).

الإقامة فإن إقامته لا تصح، وبين من بدا له الخروج بعد أن نوى الإقامة وصلى تماماً.

قال النراقي (قدس سره): ((لو نوى المسافر الإقامة وأقام العشرة أو صلى فيها صلاة تامة، ثم بدا له الخروج))(1)

وقال صاحب العروة (قدس سره) في المسألة (24) من فصل (قواطع السفر): ((إذا تحققت الإقامة وتمت العشرة أوْ لا وبدا للمقيم الخروج إلى ما دون المسافة)) وهذا تصريح منه (قدس سره) بإطلاق العنوان لذا علق السيد الخوئي (قدس سره): ((أي سواء تمت العشرة أم لم تتم، وذلك لأن في حكم الإتمام ما لو صلى رباعية بتمام))(2).

وقد صرّح في نهاية المسألة بالتفصيل الذي جعلناه معالجة لهذا الإشكال، قال (قدس سره): ((هذا كلّه إذا بدا له الخروج إلى ما دون المسافة بعد العشرة أو في أثنائها بعد تحقّق الإقامة، وأمّا إذا كان من عزمه الخروج في حال نيّة الإقامة فقد مرّ أنّه إن كان من قصده الخروج والعود عمّا قريب وفي ذلك اليوم من غير أن يبيت خارجاً عن محلّ الإقامة فلا يضرّ بقصد إقامته ويتحقّق معه، فيكون حاله بعد ذلك حال من بدا له، وأمّا إن كان من قصده الخروج إلى ما دون المسافة في ابتداء نيّته مع البيتوتة هناك ليلة أو أزيد فيشكل معه تحقّق الإقامة)) (3).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن موضوعها –أي مسألتنا- من اتصف بوصف الإقامة والعزم عليها ثم بدا له الخروج إلى ما دون المسافة، لا أنه كان ذلك منعزمه في ابتداء النية، فإنه لم يخالف أحد في عدم اعتبار مثل هذه الإقامة إلا ما سمعته من تلك النسبة إلى الفخر والكاشاني والأستاذ الأكبر فيما حكي عنهما، ولا ريب في ضعفه، لعدم صدق الإقامة في البلد على مثله عرفاً قطعاً، وعدم ثبوت مشروعية نية الإقامة في البلد وما دون المسافة، ولذا صرح في

ص: 338


1- مستند الشيعة: 8/254.
2- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/298.
3- المصدر السابق: 20/307.

المحكي عن المنتهى بأنه لو عزم على إقامة طويلة في رستاق منه من قرية إلى قرية ولم يعزم على الإقامة في واحدة منها لم يبطل حكم سفره، إلى آخره، ودعوى تناول الإطلاقات لمثل ذلك واضحة المنع، ضرورة انسباق غير ذلك منها إلى الذهن إن لم تكن صريحة فيه، واستصحاب القصر محكم))(1).

واعترف السيد الخوئي (قدس سره) أيضاً بمنافاة هذا الخروج لصدق الإقامة إلا أنه (قدس سره) تبنّى المعالجة المذكورة لحل الإشكال، قال (قدس سره): ((ثمّ إنّ جميع ما ذكرناه من الصور إنّما هو فيما إذا بدا له الخروج إلى ما دون المسافة إمّا بعد العشرة أو في أثنائها بعد تحقّق الإقامة برباعية تامّة، من غير فرق بين ما لو رجع إلى محلّ الإقامة ليومه أو ليلته أو بعد أيام.

وأمّا إذا كان عازماً على الخروج حال نيّة الإقامة من أوّل الأمر فقد مرّ حكمه سابقاً، وعرفت أنّه إن كان الخروج في زمن يسير كساعتين أو ثلاث ساعات بحيث لا يضرّ عرفاً بصدق الإقامة في مكان واحد لم يكن به بأس.

وأمّا إذا كان بمقدار يقدح في الصدق المزبور كما لو خرج طول النهار فضلاً عن مبيت الليل أيضاً، أو كان في زمان يشكّ معه في الصدق كما لو خرج بمقدار خمس ساعات أو ست، كان المرجع حينئذ عموم أدلّة القصر))(2).

أقول: هذه المحاولة غير تامة لأكثر من وجه:-

1- من حيث المبنى الذي اعتمدوه لفرض الإطلاق في عنوان المسألة، وهو أن العودة إلى القصر تحتاج إلى إنشاء سفر جديد، فدليله غير تام سواء كان تفسير الخروج في صحيحة أبي ولاد، أو بناءً على قاطعية الإقامة لموضوع السفر وقد ناقشناها.

2- لأن هذا الخروج إن كان قادحاً في نية الإقامة ابتداءً فهو قادح في الأثناء أيضاً ما دمنا قد أرجعنا تفسير الإقامة إلى العرف، لأن نيته لم تكن قادحة في نية الإقامة إلا لكونه قادحاً في صدقها فالملازمة ثابتة عرفاً. مضافاً إلى أن

ص: 339


1- جواهر الكلام: 14/307.
2- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/308.

هذه الملازمة مما يقتضيها اشتراطهم وحدة محل الإقامة.

ومما يلفت النظر هنا أن السيد الحكيم (قدس سره) أقر بهذه الملازمة إلا أنه أمضى التعميم الموجود في المسألة محل البحث، قال (قدس سره) في ضابطة الخروج عن محل الإقامة أنها ((كون المكان الذي يخرج إليه المقيم معدوداً عرفاً مغايراً لموضع الإقامة، بحيث تكون الإقامة فيه إقامة أخرى، غير الإقامة في موضعها. أو معدوداً معه واحداً. فما يكون من قبيل الأول لا تجوز نية الخروج إليه، لأن الخروجإليه إذا كانت منافياً لاستمرار الإقامة كانت نية الخروج إليه منافية لنية الإقامة الواحدة المستمرة، بل كانت نية الإقامة حينئذ من قبيل نية الإقامة في القرى المتعددة، التي لا تكون موضوعاً لوجوب الإتمام. وما يكون من قبيل الثاني تجوز نية الخروج إليه، لعدم منافاتها لنية الإقامة الواحدة المستمرة))(1).

الثانية: ما ذهب إليه فخر المحققين (قدس سره) والكاشاني (قدس سره) في الوافي والسيد بحر العلوم (قدس سره) في مصابيحه من عدم منافاة قصد الخروج إلى ما دون المسافة لقصد الإقامة مما اعتبره صاحب الجواهر (قدس سره) إفراطاً فيما نقلناه عنه سابقاً وتبعه آخرون. وكأنه لأجل عدم إيمانهم بصحة التفريق المذكور في المحاولة الأولى.

ووصْف صاحب الجواهر (قدس سره) له بالإفراط في محله في نظر العرف وقد ناقشناه (صفحة 282) وتبيّن أنه مخالف لمقتضى الإقامة من عدة جهات: كمعناها المستلزم للاستقرار والمكث، ولمحلها المنافي لهذا الخروج، ولشرط توالي العشرة لاستلزام هذا القول صحة قضاء النهار في خارج محل الإقامة، وقد بالغ السيد الخوئي (قدس سره) أكثر منهم فيما نقلناه عنه (صفحة 278) وغيرها.

الثالثة: معالجتنا التي انتهينا إليها كنتيجة للتحقيق في الأمر الثاني وحاصلها: أن من عزم على الإقامة وصلى فريضة تماماً فإنه كمن أقام عشرة أيام

ص: 340


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/119.

فعلاً من ناحية وجوب التمام حتى يخرج، إلا أنهما مختلفان من حيث عدم جواز خروج الأول إلى ما ينافي الإقامة وإن كان دون المسافة، وارتكاب مطلق ما يُفسد الإقامة كقضاء وقت طويل مخلٌّ بشرط إتمام العشرة، أو المبيت خارج محل الإقامة (لاحظ اعتراف الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) بذلك في النص الذي سننقله عنه أدناه بقوله: ((وإن كان خروجه منه في أثناء ..)) )، أما الثاني فيجوز له ذلك لأنه ينزل منزلة أهل البلد من هذه الناحية دون الأول.

وتبنى الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) نفس المحاولة لفخر المحققين (قدس سره) وقد ناقشناها، إلا أنه التزم بالتفريق الذي اخترناه بين من عزم على العشرة وصلى تماماً وبين من أقام العشرة فعلاً لأمر آخر وهو جواز المبيت خارج محل الإقامة الذي عرّفه بمحل مبيته ومأواه ومحط رحله، قال (دام ظله الشريف): ((وجوب القصر عليه –أي المقيم- مرة أخرى يتوقف على سفر جديد منه بقدر المسافة، ولا فرق من هذه الناحية بين الخروج عن محل الإقامة والخروج عن الوطن، هذا إذا لم يبت في المقصد ليلة أو ليلتين أو أكثر، وأما إذا بات فيه كذلك فحينئذٍ إن كان خروجه عن محل الإقامة بعد تمامية عشرة أيام لم يقدح المبيت فيه، فإنه سواء أبات أم لم يبت فحكمه التمام ما لم يقصد السفر بقدر المسافة، وإن كان خروجه منه في أثناء العشرة فحكمه القصر لما مر من أن الإقامة لا بد أن تكون في مكان واحد طيلة عشرة أيام، فإذا بات في المقصد ليلة أو ليلتين أو أكثر فمعناه أنه لم يقم في مكان واحد تمامالعشرة، فإذن هو مسافر غير مقيم في الواقع فحكمه القصر))(1).

أقول: بغضّ النظر عن مناقشاتنا لتعريفه محل الإقامة ومعناها، فإنه لم يبين وجهاً لهذا التفريق فإن المبيت خارج محل الإقامة إن كان قادحاً في صدقها خلال العشرة حتى مع تحقق الإقامة، فهو كذلك إذا أتمها، إلا أن يعمل بصحيحة زرارة وأختيها، كما أن جملة من كلماته لا يمكن توجيهها إلا بناءً على العمل بالمعتبرات الثلاث، كقوله (دام ظله الشريف): ((إذا خرج منه –أي محل

ص: 341


1- تعاليق مبسوطة: 4/440.

الإقامة- بعد تمامية العشرة ولم يكن ناوياً للسفر الشرعي وهو ثمانية فراسخ، وإنما نوى الخروج إلى بلد كان دون المسافة فعليه أن يتم سواء أبات فيه ليلة أو ليلتين أو أكثر أم لا، بل وإن كان يبقى فيه عشرة أيام، لأن وجوب التمام فيه مستند إلى بقائه في محل الإقامة الأولى طيلة عشرة أيام، وعدم إنشاء سفر جديد بقدر المسافة لا إلى قصده الإقامة في ذلك البلد الذي هو دون المسافة، فإنه سواء أكان قاصداً الإقامة فيه أم لا فحكمه التمام ما دام لم ينشئ سفراً شرعياً جديداً آخر من محل إقامته الأول))(1).

أقول: هذا كلام صحيح ومستنده واضح وهي الروايات المعتبرة الثلاثة، إلا أنه (دام ظله الشريف) لم يبنِ –كما بنينا- على تنزيل المقيم منزلة أهل البلد كما يظهر من كلامه الذي نقلناه عنه (صفحة 324)، أو لم يصرّح ببنائه على الالتزام بالصحيحة. فإشكاله على مبيت المقيم خارج محل الإقامة قبل تمام العشرة صحيح وقد تقدم وجهه فيما نقلناه عنه في الصفحة السابقة، إلا أنه لم يبيّن لنا سبب ارتفاع الإشكال بعد أن يتم العشرة، وإن كان وجهه تحقق الإقامة فعلاً فلا يعود إلى القصر إلا بإنشاء سفر شرعي جديد، فهذا الأمر يتحقق بالعزم على الإقامة وصلاة فريضة تامة، فما وجه التفريق؟ وإن بنى على المعتبرات الثلاث فعليه أن يلتزم بجواز قطع المسافة وإنشاء السفر من دون انقطاع الإقامة إذا عاد إلى محلها وليس فقط المبيت خارج محل الإقامة.

(الأمر الخامس) في الفروق بين من أقام عشرة أيام فعلاً ومن هو بحكمه:

تحصّل من الأبحاث المتقدمة جملة فروق بين من أقام عشرة أيام فعلاً، وبين من هو بحكمه أي من عزم على الإقامة عشرة أيام، وإن اشتركا في الوظيفة وهي صلاة التمام، بعد البناء على العمل بصحيحة زرارة وأختيها التي هي عمدة الأدلة على تنزيل المقيم منزلة أهل البلد، وقاطعية الإقامة لموضوع السفر، والبناء على تجريدها عن خصوصية الزمان والمكان، وقد تقدمت مناقشتها

ص: 342


1- تعاليق مبسوطة: 4/441.

(صفحة 308) ومن هذه الفروق:

أولاً: إن الإقامة عشرة أيام فعلاً قاطعة لموضوع السفر، بينما في الثاني تكون قاطعة لحكم السفر دون موضوعه.

ثانياً: إن الأول كالمتوطن في الأحكام ما دام متخذاً للبلد الجديد محلاً لإقامته، فلو خرج إلى المسافة وعاد صلى تماماً وإن لم ينو إقامة جديدة، فلا يضر البقاء ثلاثةأيام أو أربعة مع المبيت خارج محل الإقامة بحسب ما دلت عليه المعتبرات الثلاث.

أما الثاني فليس له الخروج إلى المسافة بل إلى ما دونها مما ينافي صدق الإقامة عرفاً أو الخروج زمناً طويلاً أو المبيت خارج محل الإقامة، ولو فعل كان حكمه التقصير.

ثالثاً: إن المقيم عشرة أيام فعلاً ثبتت إقامته وتكون وظيفته التمام حتى لو عدل عن عزم الإقامة ولم يصلّ فريضة تماماً، لأنه مقتضى المعتبرات الثلاث الجارية في الأول، أما من هو بحكمه فتنقلب وظيفته إلى القصر إذا عدل عن نية الإقامة إلا أن يكون قد أدى فريضة تماماً بمقتضى صحيحة أبي ولاد الجارية في الثاني.

وقد التفت صاحب الجواهر (قدس سره) إلى هذا الفرق واحتمله، وإن لم يستند فيه للروايات المتقدمة، قال (قدس سره): ((الظاهر كون ذلك –أي مقتضى صحيحة أبي ولاد- كله في الرجوع قبل العشرة، أما إذا أتمها ولم يكن قد صلى تماماً لعذر مسقط للتكليف بالقضاء كالحيض مثلا فقد يقال بوجوب التمام عليه وإن لم يكن من نيته إقامة عشرة أيام، بصدق إقامة العشر منوية الموجب للتمام، واعتبار فعل الصلاة تماماً إنما هو في الرجوع قبلها، وإن كان قد يحتمل ذلك حتى لو أقام العشرة أيضاً، فتأمل جيداً والله العالم))(1).

ويبقى أن نجيب عن سؤال: وهو أن من أقام عشرة أيام فعلاً إذا نُزِّل منزلة أهل البلد وأنه يصلي تماماً إذا عاد إلى محل الإقامة وإن أنشأ سفراً شرعياً،

ص: 343


1- جواهر الكلام: 14/328.

فمتى ينتهي هذا التنزيل، إذ لا يعقل بقاؤه مطلقاً.

والجواب: إنه يجب الالتفات أولاً إلى أننا آثرنا (صفحة 310) بعض القرائن على اختصاص مكة بهذا الحكم دون غيرها من البلدان وعلى اختصاص أيام التشريق دون غيرها من الأزمنة، وقلنا أن تعميم الحكم لكل البلدان والأزمان مبني على أقوائية قرائن التجريد عن الخصوصية، ومع الشك والتردد يُعمل بالاحتياط.

فإذا قلنا بعموم التنزيل، فإن هذا العنوان ينتفي في حالتين:

أولاهما: الارتحال عن محل الإقامة لانتفاء عنوان المقيم الذي هو موضوع التنزيل، لأن المقيم ومحل الإقامة عنوانان إضافيان فينتفي أحدهما بانتفاء الآخر.

ثانيهما: ترك محل الإقامة عشرة أيام، سواء جعلها إقامة مستأنفة في بلد آخر أو لا، أما على الأول فواضح لأنه حينئذٍ سيُنزَّل منزلة أهل ذلك المحل الجديد لإقامته بحسب الفرض، ومن غير المحتمل تنزيله منزلة أهل عدة بلدان في آن واحد. وأما على الثاني فلاستقراء نظائره من الموارد الفقهية كانقلاب حكم المكاري إلى القصر إذا أقام عشرة أيام وقد مرّت الإشارة إليه (صفحة 310)، بل إن نفس روايات التنزيل دالة على كفاية عشرة أيام لانتفاء العنوان، وإن كان موضوعها انتفاء عنوان السفر خاصة، فانتفاء عنوان الإقامة مثله بحسب الاطمئنان الحاصل من هذا الاستقراء، ومن عدم احتمال كون بقاء التنزيل مفتوحاً بلا حدٍ زمني ولا يوجد غير الأيام العشرة.

وقد ورد هذا المعنى في كلمات الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) فيما نقلناه عنه ومنها قوله: ((فعليه أن يتم سواء أبات فيه –وهو مقصد خروجه- ليلة أو ليلتينأو أكثر أم لا، بل وإن كان يبقى فيه عشرة أيام)).

إلا أنه خصّه بالخروج إلى ما دون المسافة طبقاً لمبانيه، مضافاً إلى ما قلناه هناك من عدم بيان وجه الرخصة هذه ما لم يبنِ على المعتبرات الثلاث وتجريدها عن خصوصية الزمان والمكان.

ص: 344

(الأمر السادس) تأريخ المسألة والأقوال فيها:

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((لم يرد في المسألة نص بالخصوص)) وقال بعض من قاربنا عصره (قدس سره) عن هذه المسألة أنها ((من المسائل التفريعية المستنبطة منها بإعمال الاجتهاد والنظر، ولذا لم تذكر في الكتب المعدة لنقل خصوص المسائل الأصلية المأثورة، كالمقنعة والمقنع والهداية والنهاية وأمثالها؛ وأول من تعرض لها هو الشيخ (قدس سره) في مبسوطه الذي صرح بكونه موضوعاً لذكر المسائل التفريعية واستنباطها من الأصول المتلقاة))(1).

ونسبة أول ذكر للمسألة إلى الشيخ (قدس سره) قالها جملة من السلف الصالح(2)

(قدس الله أرواحهم) وذكروا قوله في المبسوط: ((إذا خرج حاجاً إلى مكة وبينه وبينها مسافة يقصر فيها الصلاة ونوى أن يقيم بها عشراً قصر في الطريق فإذا وصل إليها أتم فإن خرج إلى عرفة يريد قضاء نسكه لا يريد مقام عشرة أيام إذا رجع إلى مكة كان له القصر لأنه نقض مقامه لسفر بينه و بين بلده يقصر في مثله، وإن كان يريد إذا قضى نسكه مقام عشرة أيام بمكة أتم بمنى وعرفة ومكة حتى يخرج من مكة مسافراً فيقصر))(3).

أقول: المسألة أجنبية عن مسألتنا كما قدمنا في أول البحث لأن بين مكة وعرفة مسافة تلفيقية يومئذٍ لمريد الرجوع كما في مفروض المسألة، نعم مشهور القدماء ومنهم الشيخ (قدس الله أرواحهم جميعاً) عدم تعيّن القصر على غير مريد الرجوع ليومه(4)

وإنما يتخيّر بين القصر والتمام، لذا قال (قدس سره) فيمن لا يريد الإقامة عشرة أيام إذا عاد إلى مكة: ((كان له القصر)) الظاهرة بل الصريحة في التخيير.

ويرد على ذيل عبارة الشيخ (قدس سره) أنه أفتى بالتمام في عرفة إذا

ص: 345


1- البدر الزاهر: 258.
2- مفتاح الكرامة: 6/1942.
3- المبسوط: 1/138.
4- راجع النهاية للشيخ (قدس سره): 122.

نوى الإقامة في مكة عند عودته إليها مع أن الروايات صرّحت بوجوب التقصير على أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفة فضلاً عن غيرهم.

وقد دافع عدد من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) عن الاستدلال بهذه الفقرة من كلام الشيخ (قدس سره) عن المسألة محل البحث مع أنها أجنبية بحسب ما قدمناه،منهم السيد صاحب مفتاح الكرامة بقوله: ((ولا يذهب عليك أن إيجابه الإتمام على تقدير قصد الإقامة في الرجوع يدفع ما عساه يقال: إن الخروج إلى عرفة لا يدخل في الخروج إلى ما دون المسافة وإن خلا عن قصد الرجوع ليومه لأنها أربعة فراسخ، إذ لو كان كذلك لما كان للتفرقة وجه))(1).

أقول: هذا الدفاع غير مجدٍ بل هو مخالف للنصوص الصريحة؛ لأن الوظيفة في عرفة هي التقصير دائماً على أهل مكة فضلاً عن غيرهم، أما وجه التفريق فإنه على نية الإقامة في مكة عند الرجوع يأتي الكلام في اشتراط الرجوع ليومه وعدمه، لأن المسافة إلى عرفة لا تبلغ الحد الشرعي إلا بالتلفيق، أما على عدم نية الإقامة في مكة فلا حاجة إلى النظر في الرجوع ليومه وعدمه، لأن سفره سيكون امتدادياً في طريق عودته من عرفة إلى مكة ثم منها إلى وطنه، والمرور بمكة بعد عرفة لا يضر لزوال عنوان الإقامة بسفره إلى عرفة وتكون مكة كمنزل من منازل طريق العودة كما سيأتي في الصور المحتملة، و((ظاهرهم أن نية إقامة مما دون العشر في رجوعه كلا نية))(2).

ودافع صاحب الجواهر (قدس سره) بأن ((بناء المسألة في الفرض على كون الخروج إلى عرفات دون المسافة، لعدم ضم الذهاب إلى الإياب لغير يومه المعلوم انتفاؤه في المقام لمكان قضاء النسك، أما بناء على اعتبار الضم مطلقاً كما سمعته سابقاً فليس الفرض مما نحن فيه قطعاً))(3).

وفيه: إنهم يقولون بالضم لكنه لا يعتبرونه كافياً لتعين التقصير إذا لم

ص: 346


1- مفتاح الكرامة: 6/1942.
2- الذكرى للشهيد الأول (قدس سره): 262.
3- جواهر الكلام: 14/365.

يكن ليومه وإنما يكون مخيراً بين القصر والتمام.

وقرب بعض من قاربنا عصره جريان النص في مسألتنا بقوله: ((لا يخفى أن حكمه (قدس سره) بالقصر في سفر عرفات ليس لكونه بنفسه سفراً ملفقاً من الذهاب والإياب، بل لكونه سفراً بينه وبين بلده، كما صرح به. فيكون السفر إلى عرفات عنده (قدس سره) من أفراد ما نحن فيه, وأنت ترى أنه (قدس سره) لم يعتنِ في المسألة بصحيحة زرارة السابقة الحاكمة بكون المقيم بمكة بمنزلة أهلها مع كونها صحيحة ولم يعتمد عليها غيره من الأصحاب أيضاً، فتصير معرضاً عنها، وتسقط بذلك عن الحجية))(1).

أقول:لتوضيح تقريبه (قدس سره): أن هذا الناسك قد نقض مقامه في مكة بعدم العزم على إقامة مستأنفة إذا عاد إليها، وبقاء يوم أو بضعة أيام عند العودة لا أثر له كما نقلنا عن الشهيد (قدس سره) في الدروس آنفاً، وحينئذٍ فإن الخروج إلى عرفة وحدهليس مسافة امتدادية –وهذا واضح- ولا تلفيقية لعدم وجود رجوع أصلاً بعد نقض المقام في مكة وإنما تصبح كبقية البلدان، فيكون الخروج إلى عرفة من الخروج إلى دون المسافة فيدخل في محل النزاع.

لكن هذا التقريب لا يمكن المساعدة عليه؛ لأن الخروج إلى عرفة سوف لا يكون مستقلاً وإنما هو جزء من سفر امتدادي من مكة إلى عرفة ثم إلى مكة –باعتبارها منزلاً من منازل العودة إلى وطنه- ثم إلى وطنه، وإلا لماذا كان له التقصير فيها إذا لم يبلغ بخروجه المسافة، والمفروض انقطاع سفره بالإقامة في مكة، وقد كرر الشيخ (قدس سره) أكثر من مرة في المسائل السابقة على هذه بأن السفر الأول قد انقطع.

وحينئذٍ ينقض على إطلاق كلام الشيخ (قدس سره) بأن وجود مسافة بين وطنه ومكة لا يلزم منه وجودها بين وطنه وعرفة إذ قد يقع بلده في الجهة الأخرى لعرفة المقابلة لمكة على مسافة تقل عن حد التقصير عن عرفة فيتحقق فيها مفروض المسألة لكن شرط القصر لم يتحقق.

ص: 347


1- البدر الزاهر: 259.

فعلى جميع التقادير لا يمكن جريان النص في مسألتنا، لكن للشيخ (قدس سره) في المبسوط كلام يمكن تطبيقه على المسألة محل البحث وهو قوله: ((إذا قصد بلداً وبينه وبين ذلك البلد بلد آخر في طريقه فسافر عن وطنه بنية أنه يقيم في البلد الأول عشرة أيام. ثم يسير إلى الثاني نظرت فإن كان بين بلده وبين البلد الأول مسافة يقصر فيها قصر وإلا أتم، فإذا وصل إليه انقطع قصره لعزمه منه على المقام عشرة أيام فيه سواء قام فيه أو لم يقم. فإذا أراد السفر إلى البلد الثاني فإن كانت المسافة إليه يقصر فيها الصلاة قصر، وإلا أتم لأنه ابتدأ بالسفر منه. فإذا حصل في البلد الثاني وأراد العود إلى وطنه نظرت فإن كانت المسافة يقصر فيها الصلاة قصر، وإلا فعليه التمام، وإذا قصد وطنه من الثاني والمسافة يقصر فيها قصر سواء دخل البلد الأول أو لم يدخل لأنه طريقه ولم ينو المقام به في رجوعه))(1).

وعلى أي حال فقد كان للأصحاب (قدس الله أرواحهم) إلى عصر الشهيد الثاني (قدس سره) قولان ((فلو ادعى مدعٍ وقوع الإجماع المركب كانت دعواه في محلها، وهو صريح الشهيد الثاني في (نتائج الأفكار)؛ قال في أثناء كلام له ستسمعه: إن أقوال الأصحاب منحصرة في هذا القسم في قولين: أحدهما القصر مطلقاً، والثاني القصر في العود مطلقاً، فالتفصيل بالتمام في بعض الأقسام إحداث قول ثالث رافع لما وقع عليه الإجماع المركب، انتهى))(2)

((فعن الشيخ ومتابعيه وجوب القصر بصرف الخروج ذاهباً وعائداً وفي المقصد وفي محل الإقامة وبعد الخروج منه ثانياً إلى أن يصل إلى وطنه مثلاً، وعن الشهيد الأول ومتابعيه متابعة الشيخ في العود ومحل الإقامة دون الذهاب فحكموا فيه بالإتمام. وأما حكم المقصد فلم يصرّح به في كلام الشهيد، ولكن يمكن أن يقال: إن الالتزام بثبوت الإتمام في الذهاب يقتضي الالتزامبثبوته في المقصد بطريق أولى، إذ القصر يدور مدار تحقق السفر خارجاً، والمفروض عدم كفاية المسافة

ص: 348


1- المبسوط: 1/137.
2- مفتاح الكرامة: 6/1942.

الذهابية في ذلك، والكون في المقصد أيضاً ليس بنفسه سفراً، فيتوقف القصر على الشروع في العود))(1).

ونبّه صاحب الجواهر (قدس سره) إلى الفرق بين كلام الشهيد (قدس سره) ومتابعيه بتفصيل أكثر فقال (قدس سره): ((نعم بين ما ذكره الشهيد منهم خاصة وبين غيره فرق من وجهين: أحدهما أنهم صرحوا بوجوب الإتمام لغير ناوي الإقامة بعد العود في المقصد أيضاً كما في الذهاب، وأن التقصير إنما هو في العود خاصة، بخلاف الشهيد فألحق المقصد بالعود في التقصير أيضاً، حيث قال في الدروس: (ولو خرج ناوي الإقامة عشراً إلى ما دون المسافة عازماً على العود والمقام عشراً مستأنفة أتم ذاهباً وعائداً ومقيماً، وإن عزم على المفارقة قصر، وإن نوى العود ولم ينو العشر فوجهان أقربهما القصر لا في الذهاب) وقال في البيان: (وإذا عزم على الإقامة في بلد عشراً ثم خرج إلى ما دون المسافة عازماً على العود وإقامة عشرة أخرى أتم في ذهابه وإيابه وإقامته، وإن عزم على مجرد العود قصر، وإن عزم على إقامة دون العشر فوجهان، أقربهما الإتمام في ذهابه خاصة) إلى آخره.

ويمكن أن يقال إن المقصود من وجوب القصر في غير الذهاب وجوبه في العود والبلد، ومن وجوب الإتمام فيه خاصة عدم وجوبه فيهما بقرينة حكمه بالإتمام في صورة العزم على الإقامة في الذهاب والعود والبلد، فان التخصيص في صورة عدم العزم ينبغي أن يكون في مقابلة التعميم في تلك الصورة، فلا دلالة حينئذ في العبارة على القصر في المقصد وإن كانت قاصرة عن إفادة الإتمام فيه أيضاً إلا أن دليل التفصيل على تقدير تمامه يقتضي عدم الفرق بين الذهاب والمقصد، فتبعد التفرقة فيه بينهما، ويقرب أن يكون سكوته عن حكم المقصد صريحا تعويلاً على إفادة الدليل له) وعلى هذه فلا مخالفة بين قولهم وبين قول الشهيد من هذه الجهة، كيف وقد صرحوا بموافقتهم فيما اختاروه مع تصريحهم بوجوب الإتمام في المقصد أيضاً، ولولا ما قلناه لم يكن ما ذكروه موافقاً لحصول

ص: 349


1- البدر الزاهر: 257.

المخالفة بينهما في حكم المقصد، بل كان ذلك قولاً ثالثاً في المسألة.

وفيه مع ما ذكر أنه مخالف لتصريحهم بانحصار الأقوال فيما ذهب إليه الأكثرون من القصر مطلقاً وما ذكره الشهيد من التفصيل.

وثانيهما أنهم أطلقوا التفصيل بوجوب القصر في العود والإتمام فيما عداه بحيث يتناول العازم على إقامة ما دون العشر بعد العود والعازم على مجرد العود والمرور بمحل الإقامة، وخصّه الشهيد في البيان بالقسم الأول، وأوجب القصر على قاصد العود من غير إقامة مطلقاً، قيل: وكلامه في الذكرى يشعر بذلك أيضاً حيث ذكر ما يقتضي تمريض قول الشيخ ومن تابعه في حكمهم بالقصر في القسم الأول مؤذناً بأن إطلاق القصر في القسم الثاني مما لا ينبغي التأمل فيه، وكيف كان فهذا التفصيل من خواصه لم نعرفه لأحد قبله ولا بعده كما اعترف به بعض مشائخنا، بل قال إنه قدنص بعضهم كالشهيد الثاني على عدم الفرق، وهو الذي يقتضيه إطلاق غيره))(1).

ومن عصر الشهيد الثاني (قدس سره) ((حدث قولان آخران يكون كل منهما تفصيلاً بين صور الإياب بعد اختيار الإتمام في الذهاب والمقصد، أحدهما: ما اختاره الشهيد، وثانيهما ما اختاره كثير من متأخري المتأخرين))(2).

ولخّص الشيخ الأنصاري (قدس سره) حصيلة الأقوال في المسألة وأصحابها وأوصلها إلى سبعة، قال (قدس سره): ((اختلفوا فيما إذا خرج المسافر بعد قصد الإقامة في محل والصلاة فيه تماماً إلى ما دون المسافة ونوى العود إليه دون الإقامة، على أقوال:

أحدها: القصر من حين الذهاب، ذهب إليه الشيخ والحلي ونسبه في الذكرى إلى من تأخر عن الشيخ.

ثانيها: الإتمام ذهاباً وفي المقصد والقصر من حين الإياب، ذهب إليه الشهيد في جملة من كتبه والمحقق الثاني وجماعة.

ص: 350


1- جواهر الكلام: 14/371-372.
2- البدر الزاهر: 14/258.

ثالثها: الإتمام مطلقاً، حكي عن العلامة في جواب المسائل المهنائية، وعن الفخر في بعض الحواشي المنسوبة إليه وجماعة من متأخري المتأخرين.

الرابع: التفصيل بين ما إذا نوى مجرد العود فالقصر مطلقاً، وبين ما إذا نوى إقامة دون العشرة فالقصر من حين الإياب، ذهب إليه الشهيد في البيان.

وربما يستظهر من المختلف التفصيل بين ما إذا عزم بعد العود على إتمام العشرة المنوية أولاً فيتم كالناوي لعشرة مستأنفة، وبين غيره فيقصر. وفيه نظر وإن كان عبارة المختلف لا تخلو عن شيء.

والخامس والسادس والسابع: التفصيل بين صور المسألة بحسب أوضاع محل الإقامة والمقصد والوطن، وأول من فصّل هو الشهيد الثاني في رسالته المعمولة في هذه المسألة المسماة ب_(نتائج الأفكار) ))(1).

البحث في المسألة

اشارة

يمكن تصوّر فروع عديدة ذكرها المشهور في مسألة خروج القيم إلى ما دون المسافة في ضوء العناصر المؤثرة فيها، وتزداد هذه الصور بلحاظ التفصيل الذي اخترناه بين من أقام عشرة أيام فعلاً، ومن هو بحكمه، وسنتعرض لعدد من الصور ويعرف حكم غيرها منها.قال صاحب العروة (قدس سره) في المسألة (24) من (فصل: في قواطع السفر موضوعاً أو حكماً): ((إذا تحقّقت الإقامة وتمّت العشرة أو لا وبدا للمقيم الخروج إلى ما دون المسافة ولو ملفّقة فللمسألة صور)).

أقول: توجد عدة تعليقات:-

1- قوله (قدس سره): ((وتمت العشرة أو لا)) وعلق السيد الخوئي (قدس سره): ((أي سواء تمّت العشرة أم لم تتم كما سيصرّح بهذه التسوية في

ص: 351


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 8/148-149، المسألة (12) من المسائل الملحقة بنهاية كتاب الصلاة.

أواخر المسألة ، وذلك لأنّ في حكم الإتمام ما لو صلّى رباعية بتمام))(1).

أقول: إطلاق هذه التسوية ليس دقيقاً لما ذكرناه من الفروق بين من أتم العشرة وبين من هو بحكمه من حيث وجوب التمام لكنه لم يتم العشرة فلا بد من التفريق بينهما في الأحكام.

2- قوله (قدس سره): ((وبدا للمقيم الخروج)) هذه هي إحدى محاولات التخلص من إشكال يوجه إلى المشهور وناقشناها (صفحة 339) ولم تكن مجدية، وإن تبناها جملة من الأساطين كصاحب المستند(2) (قدس سره).

3- قوله (قدس سره): ((إلى ما دون المسافة)) سيظهر من بعض الصور أنه افترض الخروج إلى المسافة فخالف فرض المسألة.

الصورة الأولى:

قال (قدس سره): ((الأولى: أن يكون عازماً على العود إلى محلّ الإقامة واستئناف إقامة عشرة أخرى، وحكمه وجوب التمام في الذهاب والمقصد والإياب ومحلّ الإقامة الأولى، وكذا إذا كان عازماً على الإقامة في غير محلّ الإقامة الأولى)).

وعلق السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: ((إجماعاً، كما عن الروض، والمقاصد العلية، والمصابيح. وعن الغرية: عليه عامة الأصحاب. وعن الصيمري في كشف الالتباس: أنه لا شك ولا خلاف فيه. وعن مجمع البرهان: إن دليله واضح لا إشكال فيه. ووجهه: ما عرفت، من كون الإقامة قاطعة لموضوع السفر، فالرجوع إلى القصر بعدها محتاج إلى سفر جديد، وهو غير حاصل في الفرض. بل لو قلنا بكونها قاطعة لحكمه تعين أيضاً البناء على التمام، بناء على الرجوع في مثل المقام إلى استصحاب حكم المخصص، لا عموم أدلة القصر))(3).

ص: 352


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/298.
2- مستند الشيعة: 8/254.
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/132.

أقول: الإجماع هنا –لو سلّمناه- فإنه غير معتبر لأنه مدركي، وقاطعية الإقامة لموضوع السفر مختصة بمن أتم العشرة بحسب ما حققناه، والحاجة إلى سفر جديد لوجوب التقصير غير ثابتة، أما قوله (قدس سره): ((بل لو قلنا بكونها قاطعة..)) فهو على خلاف التحقيق الذي تقدم: إذ الجاري حكم العام لصدق عنوان المسافر عليه حينئذٍوليس استصحاب الخاص.

واستدل السيد الخوئي (قدس سره) على وجوب التمام بصحيحة أبي ولاد بعد تفسير الخروج فيها بالخروج السفري، وقد ناقشنا هذا التفسير، مع ما يمكن أن يقال بأن الصحيحة أجنبية عن المورد لأن موضوعها من عزم على قطع الإقامة ومفروض الصورة الأولى عكس ذلك، فلا بد من تتميم الاستدلال بالأولوية ونحوها مما لم يذكره (قدس سره) وذكرناه (صفحة 327).

وحكي عن بعض –منهم المقدس البغدادي (قدس سره)- وجوب القصر(1) واحتمل الشيخ الأنصاري (قدس سره) أن يكون مستنده أحد أمرين ذكرناهما (صفحة 287، 335).

أقول: إطلاق كلامهم (قدس الله أرواحهم) جميعاً محل إشكال، فلا بد من التفصيل بين من أتم العشرة ومن لم يتمها، فحكم الأول التمام كما أفاد الماتن (قدس سره) ما دام عازماً على العود وهو بمنزلة أهلها، وأما الثاني ففيه تفصيل بين كون خروجه قادحاً في صحة الإقامة من حيث المكان والزمان وعدمه فعلى الثاني يتم كما أفاد الماتن (قدس سره)، وعلى الأول يُنظر فإن كان مجموع ما خرج إليه مع ما قطعه قبل محل الإقامة موجباً للتقصير قصّر وإلا فلا، وإذا عاد إلى محل الإقامة واستأنف إقامة جديدة أتم لها وليس للإقامة الأولى.

ثم قال (قدس سره): ((وكذا إذا كان عازماً على الإقامة في غير محلّ الإقامة الأولى مع عدم كون ما بينهما مسافة)).

أقول: وهو أيضاً مبني على مختارهم في حاجة المقيم إلى السفر الشرعي ليعود إلى القصر، وهنا يبرز تفصيل جديد بالنسبة لمن أتم العشرة، لأن صحيحة زرارة

ص: 353


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 8/71.

وأختيها وإن دلت على تنزيل المقيم منزلة أهل البلد في هذه الأحكام إذا عاد إليه، أما إذا ذهب إلى غيره فإنه تجري عليه أحكام ذلك البلد الجديد.

وفي مفروض المسألة: يتم هذا المقيم لأنه لم يخرج إلى المسافة الشرعية وهو منزَّل منزلة أهل البلد، ويتم في البلد الجديد للإقامة التي نواها، أما لو لم ينوِ الإقامة فيلاحظ مجموع سفره بعد خروجه من محل الإقامة، وهي الصورة الثانية.

الصورة الثانية:

قال (قدس سره): ((الثانية: أن يكون عازماً على عدم العود إلى محلّ الإقامة وحكمه وجوب القصر إذا كان ما بقي من محلّ إقامته إلى مقصده مسافة، أو كان مجموع ما بقي مع العود إلى بلده أو بلد آخر مسافة، ولو كان ما بقي أقل من أربعة على الأقوى من كفاية التلفيق ولو كان الذهاب أقل من أربعة)).

أقول: فرض الصورة كون المسافة من محل إقامته إلى مقصده مسافة شرعية، وقوله: ((ما بقي)) بلحاظ ما قبل محل الإقامة، وهذه الصورة خارجة عن مفروض المسألة الذي هو الخروج إلى ما دون المسافة، ولم يخالف أحد في وجوب القصر لقطعهالمسافة الشرعية الموجبة له.

نعم أشكلوا(1) على ذيل المسألة وهو قوله: ((ولو كان ما بقي ..)) لأن كفاية ثمانية فراسخ ملفقة من الذهاب والإياب مشروطة بأن لا يقل الذهاب عن أربعة، ونحن نوافقهم على هذا الشرط، إلا أن مورده صدق العود كالخروج من الوطن والعود إليه، أما إذا كان بلحاظ الخروج من محل الإقامة إلى المقصد ثم إلى الوطن فضلاً عما لو كان إلى بلد آخر غير وطنه، فالأدلة منصرفة عنه لأنه يعتبر عرفاً سفراً امتدادياً وليس تلفيقياً. فما في المتن صحيح، إلا أنه ليس بحاجة إلى أن يطبق كبرى التلفيق بين ذهاب أقل من أربعة والإياب، لأن الفرض ليس مورداً لها، ويتجنب بذلك الإشكال المبنائي الذي ذكروه.

ص: 354


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/133.

ولعله لأجل ما ذكرنا تردد الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) فاحتاط وجوباً بالجمع بين القصر والتمام في حال العود إلى وطنه وجزم بالقصر في حال العود إلى غيره(1) ولا حاجة إلى الاحتياط في ضوء ما قدمنا إلا على نحو الاستحباب.

الصورة الثالثة:

قال (قدس سره): ((الثالثة: أن يكون عازماً على العود إلى محلّ الإقامة من دون قصد إقامة مستأنفة لكن من حيث إنّه منزل من منازله في سفره الجديد، وحكمه وجوب القصر أيضاً في الذهاب والمقصد والإياب ومحلّ الإقامة)).

أقول: وجهه تحقق الخروج الموجب للتقصير بمقتضى صحيحة أبي ولاد مضافاً إلى عمومات وجوب التقصير بعد انتفاء المخصص وهو عنوان المقيم، فهذا قد أنشأ سفراً من محل إقامته إلى المقصد ثم إلى وطنه ماراً بمحل الإقامة السابق باعتبار وقوعه في طريقه، وهو لم يعد مقراً له بعد مغادرته إياه وإنما أصبح ممراً له، كمن أقام في النجف وخرج منها معرضاً عنها قاصداً الكوفة ثم بغداد، لكنه يحتاج العودة من الكوفة إلى النجف ليذهب إلى بغداد، وقد حكى هذا القول عن الشيخ والقاضي والحلبي والعلامة في كثير من كتبه وغيرهم.

وأشكلوا(2) عليه من جهة ابتنائه على ضم الذهاب إلى الإياب في المسافة التلفيقية مطلقاً، ولو كان أقل من أربعة فراسخ؛ لأن المفروض أن خروج المقيم إلى مقصد واقعٍ دون المسافة، وهذا المبنى ليس صحيحاً لاشتراط أن لا يكون الذهاب أقل من أربعة فراسخ.

وهذا الإشكال ليس تاماً وإن اتفقنا معهم في الشرط المذكور، إلا أن المورد ليس صغرى له؛ لأن المفروض أنه في سفر امتدادي من محل الإقامة إلى المقصد ثم إلى الوطن مروراً بمحل الإقامة الذي تغير عنوانه من المقر إلى الممر وهما عنوانان متغايران اعتباراً، ولا تعتبر مسافة الإياب عودة بل هي جزء من

ص: 355


1- تعاليق مبسوطة: 4/442.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/133.

المسافة الامتدادية،فحكم السيد صاحب العروة (قدس سره) بالقصر لا يحتاج أن يُبنى على مسلكه من الضم مطلقاً كما أورد المستشكل، بل مبني على تحقق مسوغ العودة إلى التقصير في صحيحة أبي ولاد وهو الخروج، وشموله بعمومات التقصير.

نعم يرد هنا إشكال وهو عدم مساعدة العرف على اعتبار مسافة الذهاب جزءاً من طي المسافة باعتبار رجوعه فيها فلا يضمّ الذهاب إلى الإياب.

وقد يجاب هذا الإشكال بأنه ناشئ من عدم دقة حكم العرف بإبقائه الاعتبار لمحل الإقامة وتسمية الإياب بالعود، مع أن الاعتبار قد انتفى عنه بالخروج، ولا يصدق العود، كما لو كان قطع المسافة من النجف إلى بغداد يقتضي أن يذهب باتجاه الكوفة ليتزود بالوقود أو ليقطع تذكرة أو ينفذ إلى الجزء الآخر من الطريق من خلال الاستدارة والفتحة الوسطية أو ليعبر جسراً فإن الذهاب والإياب يعدان من المسافة ويصدق على هذه الحركة عنوان السفر من حين الخروج من النجف، فهو بحكم من لم ينو العود أصلاً وقد حكموا عليه بالتقصير، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ولو لم ينو العودة أصلاً، فالظاهر وجوب القصر عليه بمجرد خروجه عن محل الإقامة أو عن محل ترخّصه على الخلاف؛ للعمومات، وحكي الإجماع عليه عن غير واحد))(1).

وعلى أي حال فقد نشأ بسبب الإشكال المتقدم قولان آخران:

أحدهما: ما اختاره جماعة منهم الشيخ الأنصاري (قدس سره) من التفصيل؛ فخصّوا وجوب التقصير في الإياب ومحل الإقامة ووجوب التمام في الذهاب والمقصد ((بناءً على قاطعية الإقامة لنفس السفر دون مجرد حكمه؛ إذ بعد الحكم بقاطعية الإقامة لنفس السفر لا بد من قصد مسافة شرعية جديدة؛ لأن المفروض صيرورة ما قبل الإقامة كالمعدوم، ولا ريب أن مجرد قصد المسافة لا يجدي في القصر ما لم يتلبس بالضرب فيه، والمفروض أن المسافة المقصودة مبدؤها العرفي من الشروع في العود عن المقصد وأن ما قبل العود لا يحتسب من

ص: 356


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري: 8/64.

المسافة))(1).

أقول: اتضح الإشكال عليه من جوابنا آنفاً على حكم العرف الذي عبّر عنه بقوله: ((مبدؤها العرفي ..)) وإن الضرب يتحقق بخروجه من محل الإقامة، والتعبير بالعود غير دقيق.

وتبعهم السيد الخوئي (قدس سره) مع أنه يقول بأن الإقامة قاطعة لحكم السفر وقال (قدس سره) في وجه عدم التقصير في الذهاب: ((أن الذهاب المتعقّب بالإياب لا يعدّ من المسافة الشرعية إلاّ إذا كان أربعة فراسخ، المفقود في مفروض المسألة، فذهابه هذا يلغى ولا يحسب جزءاً من السفر وإن خرج معرضاً عن المحلّ. فلا مناص من الإتمام فيه))(2).

أقول: أجبنا عن مثل هذا الإشكال وأن المورد ليس صغرى للشرط المذكور، مضافاً إلىأن إلغاءه الذهاب مع صدق الخروج والإعراض عن محل الإقامة مخالف لإطلاق صحيحة أبي ولاد.

واستدل (قدس سره) على التقصير في الإياب بصدق الخروج الذي جعله (عليه السلام) غاية في التقصير في صحيحة ابي ولاد على الإياب، لكنه (قدس سره) التفت إلى إشكال يرد عليه وهو أن ظاهر الصحيحة أن الخروج يكون من محل الإقامة، ومقتضى استدلاله اعتبار مبدأ الخروج من المقصد، فأجاب (قدس سره) عن هذا الإشكال بقوله: ((إذ لا دلالة في الصحيحة على اختصاص الغاية بالسفر الذي يكون مبدؤه محلّ الإقامة، بل ظاهر قوله (عليه السلام): (حتّى تخرج) هو التلبّس بالخروج السفري ولو كان ابتداؤه من مكان آخر، وإلاّ فلو فرضنا أنّه خرج عن محلّ الإقامة كالنجف مثلاً إلى الكوفة لا بقصد السفر، بل لغاية من الغايات كزيارة مسلم (عليه السلام) بانياً على الرجوع، ثمّ بدا له السفر من الكوفة إلى الحلّة، أفهل يمكن القول بعدم التقصير لأنّه ليس سفراً من محلّ الإقامة؟ لا يحتمل ذلك جزماً، فيكشف ذلك عن أنّ

ص: 357


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري: 8/66.
2- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/303.

الغاية مطلق الخروج السفري، أي حتّى ينشئ سفراً جديداً، سواء أكان من محلّ الإقامة أم من غيره))(1).

أقول: كان عليه (قدس سره) أن يحكم بصدق الخروج من حين مغادرة محل الإقامة في الذهاب إلى المقصد، لأن المرور عليه في الإياب لا أثر له بعد أن انتفى عنه عنوان الإقامة كما قرّبنا في الاستدلال على القول الأول.

أما المثال الذي نقض به فهو غير صالح للنقض لاتفاق الفريقين على وجوب القصر لو خرج إلى الحلة لأنها خارج المسافة عن المقصد (الكوفة) ومحل الإقامة (النجف). وإنما يتم نقضه لو أثبت القصر في خروج يحقق المسافة عن محل الإقامة ولا يحققها عن المقصد –كناحية العباسية-، وثبوت القصر فيها محل النزاع، إذ للخصم أن يقول بالتمام لأن الخروج إلى العباسية من الكوفة يكون على نحو سفر المراحل ولا يوجب جزؤه القصر، وإن كان المجموع بالغاً المسافة.

ثم قال (قدس سره): ((ومع التنزل وتسليم أنّ الصحيحة مجملة من هذه الجهة فتكفينا إطلاقات القصر في السفر، خرج عنها ناوي الإقامة، وأمّا غيره فيبقى تحت الإطلاق وبما أنّ الخارج من الكوفة بقصد السفر إلى الحلّة أو إلى كربلاء من طريق النجف المستلزم للعود إلى محلّ الإقامة شارع في السفر فهو محكوم بالقصر لا محالة بمقتضى الإطلاقات السليمة عمّا يصلح للتقييد)).

أقول: ليته طبّق هذه العمومات على المسافر من حين ذهابه لانتفاء عنوان الإقامة عنه وإلا فإن صاحب القول الآتي يرى عدم صدق الخروج ما دام عائداً إلى محل إقامته حتى يخرج منها.

ووصف السيد الحكيم (قدس سره) هذا القول بأنه أقرب مما في المتن إلى القواعد ونقل ((أنه استشكل فيه أيضاً جماعة: بأن جعل الشروع في الإياب شروعاً في السفر يتوقف على ضم الإياب إلى الخروج ثانياً عن محل الإقامة، وكونهما سفراً واحداً عرفاً، وهو لا يطرد في جميع الصور. ولذا فصل – في المتن وغيره - بين الصورةالثالثة –التي فيها عدم العود إلى محل الإقامة على أنه

ص: 358


1- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/304.

محل إقامة- والرابعة –التي فيها هذا الاعتبار-، فأوجب القصر في الإياب في الأولى، والتمام فيه في الثانية، لأنه يصدق على الإياب والخروج عن محل الإقامة أنهما سفر واحد عرفاً في الأولى، ولا يصدق ذلك عليهما في الثانية)).

أقول: لا يأتي هذا الإشكال على صاحب العروة (قدس سره) لأنه لا يقول باطراد الضمّ وإنما خصّه بالصورة الثالثة وفرّقها عن الرابعة.

وقد أجاب السيد الحكيم (قدس سره) على هذا الإشكال بقوله: ((وفيه: أن عدم الصدق في الثانية مبني على المسامحة، إذ لا ينبغي التأمل في كون المسافر عند شروعه في الإياب قاصداً للسفر إلى بلده حقيقة، غاية الأمر أنه – بلحاظ كونه لمّا لم يقض وطره من محل الإقامة - يقال – بنحو من العناية- إنه ذاهب إلى محل الإقامة، لا إلى بلده. وهذا المقدار لا يدور عليه الحكم)) ((فإذاً التفصيل المذكور –أي بين الصورتين الثالثة والرابعة وليس بين الذهاب والإياب- لا يخلو من إشكال)).

أقول: جوابه (قدس سره) غير تام لأن اعتباره التفريق بين الصورتين مبنياً على المسامحة وبنحو من العناية فهو غير دقيق، لوضوح الفرق بين الصورتين حيث يصدق الخروج والمغادرة والارتحال على المقيم في الصورة الثالثة دون الرابعة، ويترتب عليه أن من أتم العشرة في محل الإقامة يقصّر فيه على الصورة الثالثة ويتم على فرض الصورة الرابعة لجريان المعتبرات الثلاث فيه.

لكنه (قدس سره) أشكل على مجمل القولين السابقين بقوله: ((مضافاً إلى ما يمكن أن يشكل به على أصل الحكم بالتقصير في الإياب بجميع صوره، وذلك أنه بناءً على كون الإقامة قاطعة لنفس السفر المأخوذ موضوعاً لوجوب التقصير، لا بد في جواز التقصير من قصد السفر عن محل الإقامة، بحيث يكون الكون في محل الإقامة خارجاً عنه. وهذا المعنى إنما ينطبق على الخروج عن محل الإقامة كلية بعد العود إليه، ولا ينطبق على الإياب إليه، لأن انطباقه على الإياب يلازم كون المرور بمحل الإقامة جزءاً من السفر عنه، وقد عرفت أنه غير جائز)).

أقول: ظهر النقاش مما تقدم في جملة من فقراته كعدم التفصيل في قاطعية الإقامة

ص: 359

لموضوع السفر، وحاجة التقصير إلى إنشاء سفر جديد، أما قوله: ((لا بد في جواز التقصير من قصد السفر عن محل الإقامة)) فقد استظهرناه من صحيحة أبي ولاد وذكرنا ردّ السيد الخوئي (قدس سره) عليه.

والمهم هنا قوله (قدس سره): ((بحيث يكون الكون في محل الإقامة خارجاً عنه)) فإنه صحيح ولكننا نعتقد أنه قد تحقق بمجرد الخروج من محل الإقامة في مفروض هذه الصورة، لانتفاء هذا العنوان عنه بمغادرته، أما المرور عليه في الإياب فلا أثر له في الأحكام بعد تغيّر العنوان، لأن المؤثر ليس البلد بذاته، بل بعنوانه محل الإقامة وقد انتفى فلا أثر للمرور فيه.

ثانيهما: ما استظهره صاحب الحدائق (قدس سره) من العلامة (قدس سره) ((في أجوبة مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني اختيار قول ثالث وهو وجوب الإتمام في الذهاب والإياب والمقصد وبلد الإقامة بعد الرجوع إليها حتى يخرج منها قاصداً للسفر ويصل إلى محل الترخّص فيجب عليه القصر حينئذ تنزيلاً لبلد إقامته منزلة بلد الوطن، فيصير اعتبار قصد المسافة إنما هو من بلد الإقامة لا ما قبله منالذهاب أو الرجوع. وهو من حيث الاعتبار لا يخلو من وجه))(1).

أقول:-

1- استدلاله بالتنزيل غير تام، لأنه ينتفي حين الخروج من محل الإقامة معرضاً عنه كما هو مفروض المسألة، والمرور عليه في الإياب باعتباره منزلاً من منازله لا أثر له.

2- لو سلمنا جريان التنزيل فإنه مختص بمن أتمّ العشرة كما حققناه، وهم قد أطلقوا العنوان.

واختاره السيد الحكيم (قدس سره) للوجه الذي أشكل به آنفاً على القولين المتقدمين أي على القول بالتقصير جملةً وتفصيلاً، حيث فرّع عليه قوله: ((فالقول بالتمام في الذهاب والمقصد، والإياب، ومحل الإقامة، إلى أن يخرج

ص: 360


1- الحدائق الناضرة: 11/487.

عنه كلية – كما عن غير واحد من متأخري المتأخرين، وفاقاً لما عن العلامة في جواب المسائل المهنائية ونسب إلى ولده في بعض الحواشي- في محله))(1).

أقول: ذكرنا جوابه عند نقل الإشكال.

والمختار في هذه الصورة هو ما اختاره صاحب العروة (قدس سره) من وجوب القصر مطلقاً في الذهاب والمقصد والإياب ومحل الإقامة للوجهين اللذين ذكرناهما، مع الاحتياط بالجمع في خصوص الذهاب والمقصد للإشكال العرفي الذي ذكرناه.

الصورة الرابعة:

قال (قدس سره): ((الرابعة : أن يكون عازماً على العود إليه من حيث إنّه محلّ إقامته بأن لا يكون حين الخروج معرضاً عنه بل أراد قضاء حاجة في خارجه والعود إليه ثمّ إنشاء السفر منه ولو بعد يومين أو يوم بل أو أقل ، والأقوى في هذه الصورة البقاء على التمام في الذهاب والمقصد والإياب ومحلّ الإقامة ما لم ينشئ سفراً ، وإن كان الأحوط الجمع في الجميع خصوصاً في الإياب ومحلّ الإقامة)).

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فلم يخرج معرضاً، بل لقضاء حاجة وبعده يعود ويبقى يوماً أو يومين بحيث يكون هذا البقاء متمّماً للإقامة السابقة وجزءاً منها، ثمّ بعد ذلك ينشئ السفر منه. ولا ريب حينئذ في البقاء على التمام في الذهاب والإياب والمقصد ومحلّ الإقامة كما أفاده في المتن ما لم ينشئ سفراً جديداً، لأنّه وإن كان بانياً على السفر إلاّ أنّه بانٍ عليه بعد العود إلى محلّ الإقامة لا من هذا الحين، فلا يكون خروجه هذا خروجاً سفرياً، فلو خرج وإن بات ليلة أو ليلتين ثمّ رجع يقال بحسب الصدق العرفي إنّه رجع إلى محلّ الإقامة لاستكمال إقامته، وإنّما ينشئ السفر بعد ذلك. فلا مناص من الإتمام في جميع تلك الحالات، إذ لا قصر إلاّ مع قصد السفر فعلاً، المنفيحسب الفرض))(2).

ص: 361


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/134-135.
2- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 20/305.

إلا أنه (قدس سره) احتاط استحباباً بالجمع في الإياب ومحل الإقامة في الطبعة الأخيرة من رسالته العملية، عندما ذكر الصورتين الثالثة والرابعة مع عكس الترتيب بين الصورتين، فذكر الرابعة أولاً، قال (قدس سره): ((إذا استقرت الإقامة ولو بالصلاة تماماً، فبدا للمقيم الخروج إلى ما دون المسافة، فإن كان ناوياًُ الرجوع إلى محل الإقامة والسفر منه قبل العشرة أتم في الذهاب والمقصد وأما في الإياب ومحل الإقامة فالأحوط الأولى الجمع بين القصر والتمام فيهما وإن كان الأظهر جواز الاقتصار على التمام حتى يسافر من محل الإقامة، نعم إذا كان ناوياً السفر من مقصده وكان رجوعه إلى محل إقامته من جهة وقوعه في طريقه قصّر في إيابه ومحل إقامته أيضاً))(1).

أقول: اتضح من أبحاثنا المتقدمة أن إطلاق هذه الأحكام على من عزم على الإقامة ولم يتم عشرة أيام مشكل لأنه مطالب بعدم ارتكاب ما ينافي الإقامة سواء من حيث المكان أو الزمان، وإلا عاد إليه حكم قصره الأول. أما من أتم العشرة فحكمه التمام حتى يرتحل ومفروض هذه الصورة عدم الارتحال والمغادرة والإعراض عن محل الإقامة.

وقد دلّت تلك الأبحاث على أن الأحكام التي قالوا بها لا تنسجم مع جملة من المباني التي التزموا بها. أما وجه الاحتياط فلعله من جهة أن البقاء يوماً أو أياماً لا تبلغ العشرة في محل الإقامة بعد العودة إليه لا أثر لها في وجوب التمام لكنه احتياط استحبابي لأن فرض المسألة عدم قطعه المسافة.

ولتعقيد المسألة واختلاف المباني فيها فقد احتاط صاحب العروة (قدس سره) في النهاية في جميع الصور، والاحتياط حسن.

ص: 362


1- منهاج الصالحين للسيد الخوئي (قدس سره): 1/252، المسألة (938)، الطبعة 29.

فروع فقهية تمخّض عنها البحث

ذكر المشهور أن من شروط التقصير ((أن لا يكون من قصده في أول السير أو في أثنائه إقامة عشرة أيام قبل بلوغ الثمانية، فلو كان من قصده ذلك من حين الشروع أو بعده لم يكن قاصداً المسافة، وكذا يتم لو كان متردداً في نية1- الإقامة))(1)، وهذا الشرط يجب حذفه؛ لأن الإقامة لا تقطع حكم السفر إلا إذا تحققت، فنيتها لا تنافي قصد قطع المسافة، ومن باب أولى لا يضر بهذا القصد التردد في نية الإقامة أو العدول عنها في الأثناء؛ لأن صحيحة أبي ولاد دلت على أن استمرار قصد الإقامة مع حصولها خارجاً لا تضر بقصد المسافة فيعود إلى القصر بمجرد العدول عنها قبل صلاة فريضة تماماً فكيف تضر قبل ذلك؟

2- لا يصحّ للمقيم أن يخرج قبل إتمام العشرة إلى ما ينافي صدق الإقامة عرفاً، مما يعدُّ عرفاً أنه سفر وخروج كالوصول إلى ما يقارب المسافة الشرعية ولو لزمن قصير، أو المكث خارج محل الإقامة زمناً طويلاً يضرّ بشرط إتمام العشرة كعشر ساعات من النهار فضلاً عن المبيت خارجه.

أما من أتم العشرة فله الخروج إلى ما دون المسافة مطلقاً.

ويجوز له على وجه المبيت خارج محل الإقامة، بل قطع المسافة من دون أن تبطل إقامته إذا عاد إلى محل الإقامة لمواصلة الإقامة، وإن لم ينوِ عشرة مستأنفة فيه، فيصلي حينئذٍ تماماً. لكن الأحوط الاقتصار بدليل الحكمين الأخيرين على من أقام عشرة أيام في مكة دون غيرها من البلدان وأيام موسم الحج للناسكين دون غيرها من الأزمان، وحالة الخروج إلى عرفة ومنى دون غيرها من الأحوال. لكن هذا الاستثناء أصبح لاغياً اليوم لدخول عرفة اليوم في المسافة.

ومقتضى الاحتياط الجمع في غير هذا الاستثناء مراعاة لاحتمال

ص: 363


1- العروة الوثقى: فصل في صلاة المسافر، الشرط الرابع.

التجريد عن الخصوصية في دليل التعميم، فمن نوى الإقامة في النجف الأشرف عشرة أيام وأتمها ثم ذهب إلى كربلاء المقدسة يوماً أو بضعة أيام مع استمراره على اتخاذ النجف مقراً لإقامته، جمع بين القصر والتمام عند عودته إلى النجف حتى يغادرها أو ينوي عشرة مستأنفة فيتم لأجلها.

3- إذا نوى المسافر الإقامة عشرة أيام في بلد كان حكمه التمام، ولو عدل عن نية الإقامة قبل أن يصلي فريضة تماماً رجع إلى القصر، وإن كان بعد أن صلى فريضة تماماً فحكمه البقاء على التمام حتى يخرج.

ومعنى الخروج هنا هو الخروج إلى ما ينافي صدق الإقامة عرفاً من حيث المكان أو الزمان لمن لم يتم العشرة، فإن أتمها كان معنى الخروج الارتحال عن محل الإقامة حقيقة، أو تنزيلاً فيما لو نوى إقامة عشرة أيام في بلد آخر.

4- من قدم مكة قبل الخروج إلى عرفة بعشرة أيام ونوى الإقامة فيها، أتم عند ذهابه إلى عرفات لقضاء نسكه، وكذا في منى طيلة أيام التشريق، سواء عاد إلى مكة خلال هذه الأيام لإتمام مناسك الحج أو بقي في منى.

ومن قدم مكة قبل خروجه إلى عرفة بأقل من عشرة أيام لم تصحّ منه نية الإقامة لعلمه بارتكاب ما ينافي صحة الإقامة بالخروج إلى عرفة والمبيت في المزدلفة.

من نوى الإقامة في بلد، وارتكب ما ينافي صدق الإقامة قبل إتمام العشرة: ينظر1- فإن كان مجموع المسافة التي خرج إليها مع المسافة التي قطعها قبل محل الإقامة تبلغ المسافة الشرعية قصر، وإلا بقي على التمام.

2- من نوى الإقامة في بلد وأتم العشرة، ثم خرج إلى ما دون المسافة، فإن كان ناوياً الإقامة في المقصد أو في محل الإقامة بعد عودته أو في غيرهما مما هو دون المسافة: أتمّ.

وإن لم يكن ناوياً الإقامة في أحدهما حين خروجه إلى المقصد، فإن لم يكن ناوياً العود إلى محل الإقامة: قصّر من حين خروجه من محل الإقامة، وإن كان ناوياً العود إلى محل الإقامة ولم يعرض عن اعتباره محلاً لإقامته لحاجته للمكث فيه يوماً أو أياماً من دون أن ينوي إقامة جديدة فيه: بقي

ص: 364

على التمام في الذهاب والمقصد والإياب ومحل الإقامة، وإن كان عوده إلى محل الإقامة باعتباره محطة في سفره الجديد وليس باعتباره محلاً للإقامة: قصّر من حين خروجه من مقصده، أما في الذهاب والمقصد فيعمل بمقتضى الاحتياط.

ص: 365

ص: 366

البحث السابع: هل يجوز تقديم طوافي الحج والنساء على الوقوفين؟

اشارة

ص: 367

ص: 368

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث السابع:

هل يجوز تقديم طوافي الحج والنساء على الوقوفين؟ (1)

يزدحم الحجيج في البيت الحرام بعد الانتهاء من أعمال منى يوم العاشر لأداء طواف الحج وصلاته والسعي بين الصفا والمروة وطواف النساء، ومن هنا اشتدت الحاجة لإمعان النظر في إمكان الأخذ بالرخصة الواردة في تقديم هذه الأعمال على الوقوفين بعد عقد الإحرام للحج في مكة المكرمة.

وتكون الفرصة مؤاتية لذلك ليلة عرفة حيث يكون أكثر الحجاج من العامة قد توجهوا إلى منى لقضاء ليلتهم هناك على ما هو المستحب، ويتواجد الباقون في منازلهم للاستعداد لعقد الإحرام والتوجه إلى عرفة فتكون الحركة في الحرم سلسة وميسّرة، وتأتي منسجمة مع فعل مستحب آخر باعتبار استحباب عقد الإحرام للحج في المسجد الحرام وعند مقام إبراهيم بالذات وبذلك ينجز الحاج مجموعة مباركة من الأعمال في تلك الليلة الشريفة.

والمشهور أنه ((لا يجوز للمتمتع تقديم طواف حجه وسعيه على الوقوفين وقضاء المناسك في منى يوم النحر بإجماع العلماء كافة كما عن المعتبر والمنتهى والتذكرة، وفي الغنية الإجماع، وهذا الحكم ثابت مطلقاً إلا لمعذور كامرأة تخاف الحيض المتأخر أو مريض يضعف عن العود أو شيخ عاجز يخاف على نفسه الزحام، فيجوز لهم التقديم حينئذٍ بلا خلاف.

إلا من الحلي فمنع عنه أيضاً، وهو نادر بل في الغنية على خلافه الإجماع.

ص: 369


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 9/ ربيع الأول /1432 الموافق 13/2/2011.

فما يوجد في كلمات جملة من متأخري المتأخرين(1)

من الميل إلى الجواز مطلقاً لولا الإجماع ليس بصواب وإن ظهر الميل إليه من الفاضل في التحرير والتذكرة.

وأظهر منه الشيخ في الخلاف حيث قال: وروى أصحابنا رخصة في تقديم الطواف والسعي قبل الخروج إلى منى وعرفات، والأفضل أن لا يطوف طواف الحج إلا يوم النحر إن كان متمتعاً ولا يؤخره، فإن أخّره فلا يؤخره عن أيام التشريق(2).لندورهما جداً مع عدم ظهور فتواهما بذلك ظهوراً كاملاً إذ ليس في التحرير إلا روي ساكتاً عليها))(3).

وقال العلامة (قدس سره) في التذكرة: ((أول وقت هذا الطواف: طلوع الفجر من يوم النحر –وبه قال أبو حنيفة- لوجوب فعله بعد أداء المناسك المتعلقة بيوم النحر، فلا يتحقق له وقت قبله)) إلى أن قال: ((إذا عرفت هذا، فقد وردت رخصة في جواز تقديم الطواف والسعي على الخروج إلى منى وعرفات - وبه قال الشافعي – لما رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: (من قدم شيئاً قبل شيء فلا حرج).

ومن طريق الخاصة: رواية يحيى الأزرق أنه سأل أبا الحسن (عليه السلام): عن امرأة تمتعت بالعمرة إلى الحج ففرغت من طواف العمرة وخافت الطمث قبل يوم النحر، أيصلح لها أن تعجل طوافها طواف الحج قبل أن تأتي منى؟ قال: (إذا خافت أن تضطر إلى ذلك فعلت).

إذا ثبت هذا، فالأولى التقييد للجواز بالعذر))(4).

ص: 370


1- حكي –كما سيأتي- عن صاحب المدارك (قدس سره) والشيخ حسن في المنتقى والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع.
2- الخلاف: 2/350.
3- رياض المسائل: 7/96-98.
4- تذكرة الفقهاء: 8/350-351.

أقول: بعد أن اعترف صاحب الرياض (قدس سره) بظهور كلمات الشيخ في الخلاف والعلامة في التذكرة بالرخصة مطلقاً وجّه كلامهما بما لا ينافي المشهور، قال (قدس سره): ((والسكوت ليس علامة الرضا، ويأتي الأولى مرادفاً للأقوى كثيراً، وما في الخلاف وإن كان ظاهراً لكن يحتمل الاختصاص بالضرورة، قيل: كما فهمه الحلي، أي الأفضل مع العذر التأخير)).

أقول: القائل هو كاشف اللثام(1)

(قدس سره) الذي استظهر منهما القول بالجواز مطلقاً لكنه احتمل الاختصاص وذكر فهم ابن إدريس. وقال صاحب المدارك (قدس سره): ((لولا الإجماع المدعى على المنع من جواز التقديم اختياراً لكان القول متجهاً؛ لاستفاضة الروايات الواردة بذلك مع صحة سندها ووضوح دلالتها وقصور الأخبار المنافية لذلك من حيث السند أو المتن –ومع ذلك فالجواز غير بعيد-))(2).

ونقل المحقق صاحب الحدائق (قدس سره) قول المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بعد نقله صحيحة علي بن يقطين الآتية –الدالة على الجواز مطلقاً- تعليقاً على طريقة الشيخ الطوسي (قدس سره) في الجمع التي ستأتي ((ذكر الشيخ أن هذا الحديث ورد رخصة للشيخ الكبير والمرأة التي تخاف الحيض. وحاول بذلك الجمع بينه وبين عدة أخبار تضمن بعضها عدم الاعتداد بما يقع من الطواف قبل إتيان منى، وفي جملة منها نفى البأس عن التقديم والإذن فيه للشيخ ومن في معناه وطرقها غير نقية، ولولامصير جمهور الأصحاب إلى منع التقديم مع الاختيار واقتضاء الاحتياط للدين تركه لكان الوجه في الجمع – إن احتيج إليه- حمل ما تضمن المنع على التقية، لما يحكى من إطباق العامة عليه، وكثرة الأخبار الواردة بالإذن مطلقاً. انتهى. وهو جيد))(3).

ص: 371


1- كشف اللثام: 5/487.
2- مدارك الأحكام: 8/188 وما بين الشارحتين غير موجود في إحدى النسخ كما أفاد محققو الكتاب.
3- الحدائق الناضرة: 14/380.

ومن هذه الكلمات يُعلم أن القول بالجواز مطلقاً قوّاه صريحاً السيد صاحب المدارك والشيخ حسن واستجوده صاحب الحدائق وهو ظاهر الشيخ في الخلاف والعلامة في التحرير والتذكرة (قدس الله أرواحهم جميعاً).

لكن صاحب الجواهر (قدس سره) وصفه بأنه ((وسوسة المحقق الشيخ حسن في المحكي من منتقاه والسيد في مداركه))(1).

وتلخّص مما تقدم أن الأقوال في المسألة ثلاثة:-

1- جواز التقديم مطلقاً وهو صريح جماعة وظاهر آخرين.

2- عدم جواز التقديم إلا لضرورة كالمرأة تخاف الحيض لو أخّرت الأعمال أو الشيخ الذي يخاف الزحام ، وهو قول المشهور الذي ادعى عليه الإجماع.

3- عدم جواز التقديم مطلقاً، وهو لابن إدريس (قدس سره).

وتوقف صاحب الحدائق (قدس سره) بعد أن استجود كلام الشيخ حسن في المنتقى، قال (قدس سره): ((وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب إشكال، والاحتياط فيها لازم على كل حال، وهو في جانب القول الذي عليه الأصحاب))(2).

ومنشأ هذه الأقوال اختلاف النظر في الروايات.

وقبل عرض الروايات نلفت النظر إلى أن بحثنا فعلاً في ما يقتضيه حج التمتع لأنه فرض الغالبية العظمى. أما القارن والمفرد فيجوز لهما تقديم طواف الحج وسعيه مطلقاً ويستحب التأخير وهو المشهور بين الأصحاب، وتدل عليه روايات عديدة منها:-

1- صحيحة حماد بن عثمان قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مُفرد الحج أيعجل طوافه أو يؤخره؟ قال: هو والله سواء عجّله أو

ص: 372


1- جواهر الكلام: 18/63.
2- الحدائق الناضرة: 14/380.

أخّره)(1).

2- موثقة زرارة قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المفرد للحج يدخل مكة يقدّم طوافه أو يؤخره؟ فقال: سواء).

3- موثقته الأخرى قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن مفرد الحج يقدّم طوافه أو يؤخره؟ قال: يقدمه، فقال رجل إلى جنبه: لكن شيخي لم يفعل ذلك، كان إذا قدم أقام بفخّ حتى إذا رجع الناس إلى منى راح معهم، فقلت له: من شيخك؟ فقال: علي بن الحسين، فسألت عن الرجل، فإذا هو أخو علي بن الحسين (عليه السلام) لأمه(2).

4- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المفرد للحج، إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أيعجل طواف النساء؟ قال: لا، إنما طواف النساء بعدما يأتي من منى).

5- موثقته الأخرى عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (هما سواء عجَّل أو أخّر).

6- صحيحة معاوية عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في القارن: (لا يكون قران إلا بسياق الهدي، وعليه طواف بالبيت، وركعتان عند مقام إبراهيم، وسعى بين الصفا والمروة، وطواف بعد الحج، وهو طواف النساء) وفيه (وأما المفرد للحج فعليه طواف بالبيت وركعتان عند مقام إبراهيم، وسعى بين الصفا والمروة، وطواف الزيارة، وهو طواف النساء

ص: 373


1- الأحاديث (1-5) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج أبواب أقسام الحج، باب 14، ح1، 2، 3، 4، 5.
2- روى الصدوق (قدس سره) في العيون عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: أن أم الإمام علي بن الحسين ماتت نفساء به، فكفله بعض أمهات ولد أبيه .. فكان الناس يسمونها أمه وزعموا إنه زوّجَ أمه ومعاذ الله إنما زوج هذه على ما ذكرناه..). أقول: فلعل المتحدث في الرواية ابن هذه الأم.

وليس عليه هدي ولا أضحية)(1).

7- رواية موسى بن عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتمتع يقدم مكة ليلة عرفة، قال: لا متعة له يجعلها حجة مفردة ويطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويخرج إلى منى ولا هدي عليه، وإنما الهدي على المتمتع)(2).

الروايات في المسألة:

وبالعودة إلى الروايات الواردة في مسألتنا نقول: إنه يمكن تصنيفها إلى عدة طوائف:

(الطائفة الأولى) ما دل على جواز التقديم مطلقاً وهي:-

1- صحيحة ابن بكير وجميل جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما سألاه عن المتمتع يقدم طوافه وسعيه في الحج، فقال: هما سيان قدمت أو أخّّرت)(3).

2- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج(4)

قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يتمتع ثم يهلّ بالحج فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى منى، فقال: لا بأس).

3- صحيحة علي بن يقطين قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل

ص: 374


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 2، ح1.
2- المصدر، باب 21، ح10.
3- الروايات (1-4) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 13، ح1، 2، 3، 7.
4- قوّى السيد الخوئي (قدس سره) في التنقيح اتحادها مع صحيحة علي بن يقطين التي رواها عبد الرحمن عنه، ورواهما صفوان عن عبد الرحمن، لاستبعاد أن يروي عبد الرحمن لصفوان روايتين عن قضية واحدة تارة يرويها عن الإمام مباشرة وأخرى عن ابن يقطين فإما أن يكون اسم ابن يقطين زائداً في الثانية أو ناقصاً في الأولى.

المتمتع يهل بالحج ثم يطوف ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى منى، قال: لا بأس به).

أقول: دلالة الروايات على جواز التقديم مطلقاً ظاهرة، وهي صحيحة السند، ويراد بالطواف طواف الحج لإتيانه بعد الإهلال بالحج وللإتيان بالسعي بعده.

4- موثقة إسحاق بن عمار قال: (وسألته عن الرجل يحرم بالحج من مكة ثم يرى البيت خالياً فيطوف به قبل أن يخرج، عليه شيء؟ فقال: لا).

أقول: يمكن المناقشة في دلالتها على المطلوب إذ الظاهر منها الطواف المستحب وأما قوله (عليه السلام): (لا شيء عليه) فلَعله بلحاظ ما قيل من بطلان إحرامه بالطواف كما سيأتي بإذن الله تعالى.

5- رواية الحسن بن(1)

علي عن أبيه قال: (سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول: لا بأس بتعجيل طواف الحج وطواف النساء قبل الحج يوم التروية قبل خروجه إلى منى، وكذلك من خاف أمراً لا يتهيأ له الانصراف إلى مكة أن يطوف ويودّع البيت، ثم يمر كما هو من منى إذا كان خائفاً)(2).

6- صحيحة حفص بن البختري عن أبي الحسن (عليه السلام) في تعجيل الطواف قبل الخروج إلى منى، فقال: هما سواء أخّر ذلك أو قدّمه، يعني للمتمتع).

7- ما رواه الشيخ الصدوق بسند صحيح عن ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وبإسناده عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما سألاهما عن المتمتع يقدم طوافه وسعيه في الحج فقالا: (هما سيان

ص: 375


1- العنوان مشترك بين كثيرين فيهم الثقة وغيره، فيمكن أن يكون ابن يقطين الثقة هو وأبوه ويمكن أن يكون ابن علي بن أبي حمزة البطائني الضعيف هو وأبوه ويمكن أن يكون غيرهما، وسيأتي البحث في التمييز.
2- الروايات (5-7) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الطواف، باب 64، ح1، 3، 4.

قدّمت أو أخّرت).

8- خبر(1)

عبد الحميد بن سعيد عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل أحرم يوم التروية من عند المقام بالحج، ثم طاف بالبيت بعد إحرامه وهو لا يرى أن ذلك لا ينبغي أينقض طوافُه بالبيت إحرامَه؟ فقال: لا، ولكن يمضي على إحرامه)(2).

أقول: يرد على الاستدلال بالخبر هنا ما ذكرناه في ذيل الرواية الرابعة.

9 و 10- موثقة إسحاق بن عمار وصحيحة محمد بن حمران الآتية (رقم 7، 9 من1- المجموعة الثانية من الطائفة الثالثة) بالتقريب الذي سنذكره في الفرع الأول للملحق بالبحث (صفحة 406).

(الطائفة الثانية) ما دل على جواز التقديم عند الضرورة ومنها:-

1- صحيحة معاوية بن عمار وحفص بن البختري وابن أبي عمير عن الحلبي جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: لا بأس بتعجيل الطواف للشيخ الكبير والمرأة تخاف الحيض قبل أن تخرج إلى منى)(3).

2- صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس أن يعجل الشيخ الكبير والمريض والمرأة والمعلول طواف الحج قبل أن يخرج إلى منى).

3- معتبرة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتمتع إذا كان شيخاً كبيراً أو امرأة تخاف الحيض تعجّل طواف الحج قبل أن تأتي منى؟ فقال: نعم، من كان هكذا يُعجل، قال: وسألته عن الرجل يُحرم بالحج من مكة ثم يرى البيت خالياً فيطوف به قبل أن يخرج، عليه شيء؟

ص: 376


1- الرواية بسند صحيح عن صفوان بن يحيى عن عبد الحميد الذي هو مجهول فإن بنينا على وثاقته برواية صفوان عنه فالرواية معتبرة.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الطواف، باب 83، ح6.
3- الأحاديث من (1-3) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 13، ح 4، 6، 7.

فقال: لا) الحديث.

4- رواية يحيى الأزرق(1) عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة تمتعت بالعمرة إلى الحج ففرغت من طواف العمرة وخافت الطمث قبل يوم النحر أيصلح لها أن تعجل طوافها طواف الحج قبل أن تأتي منى؟ قال: إذا خافت أن تضطر إلى ذلك فعلت)(2).

5- خبر علي بن أبي حمزة قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل يدخل مكة1- ومعه نساء قد أمرهن فتمتعن قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة، فخشي على بعضهن الحيض فقال: إذا فرغن من متعتهن وأحللن فلينظر إلى التي يخاف عليها الحيض فيأمرها فتغتسل وتهل بالحج من

ص: 377


1- في متن الوسائل (صفوان بن يحيى الأزرق) وفي الهامش في هذا الموضع وفي الباب 84، ح9 أنه في بعض نسخ التهذيب (صفوان عن يحيى الأزرق) وهو الصحيح لعدم وجود صفوان بن يحيى الأزرق في كتب الرجال، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ويحيى الأزرق اسم لعدة أشخاص فيهم الثقة والضعيف، فيكون يحيى الأزرق المذكور في السند مردداً بين الثقة والضعيف ولكنه ينصرف إلى الثقة وهو يحيى بن عبد الرحمن لاشتهاره)) (المعتمد في شرح المناسك: 29/347). أقول: الظاهر أن يحيى الأزرق واحد وهو ابن عبد الرحمن الكوفي الثقة حسب ما عنونه الشيخ والنجاشي وهو المعروف في الروايات. أما يحيى بن حسان فلم يرد له ذكر في الكتب الأربعة وإنما ذكره الشيخ الصدوق في المشيخة، قال (قدس سره): ((وما كان فيه عن يحيى الأزرق فقد رويته عن أبي .. عن يحيى بن حسان الأزرق)) ولعله من تصحيف النساخ أو استئناس الذهن وإن استبعده جداً السيد الخوئي (قدس سره) ((للبون البعيد بين عبد الرحمن وحسّان وظاهر كلام الشيخ)) (المعتمد: 29/276) يعني من جهة تعدد ذكر العناوين في أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام) لكن البعد مستبعد وتعدد الذكر وارد في كلام الشيخ (قدس سره)، فالأقوى أن يحيى الأزرق هو ابن عبد الرحمن الثقة أو ينصرف إليه لأنه المعروف بالعنوان.
2- الرواية والتي بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الطواف، باب 64، ح2، 5.

مكانها، ثم تطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فإن حدث بها شيء قضت بقية المناسك وهي طامث، فقلت: أليس قد بقي طواف النساء؟ قال: بلى، فقلت: فهي مرتهنة حتى تفرغ منه؟ قال: نعم، قلت: فلم لا يتركها حتى تقضي مناسكها، قال: يبقى عليها منسك واحد أهون عليها من أن يبقى عليها المناسك كلها مخافة الحدثان، قلت: أبى الجمال أن يقيم عليها والرفقة، قال: ليس لهم ذلك تستعدي عليهم حتى يقيم عليها حتى تطهر وتقضي مناسكها).

(الطائفة الثالثة) ما دلّ على كون زيارة البيت بعد مناسك منى.

كون زيارة البيت بعد مناسك منى من الواضحات والتي عليها العمل، وإنما الكلام في لزوم مراعاة هذا الترتيب بنحو ينافي الرخصة في التقديم، فلا نحتاج إلى سرد جميع الروايات المنتشرة في أبواب عديدة كالروايات التي نقلت صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع من أمرهم بالتمتع(1)

من أصحابه بضميمة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (خذوا عني مناسككم)(2)

ومنها صحيحة سعيد الأعرج قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك معنا نساء فأفيض بهن بليل؟ فقال: نعم، تريد أن تصنع كما صنع رسول

ص: 378


1- لأن حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حج قران وقد طاف بالبيت وسعى عند دخوله مكة بحسب صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (فلما وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمروة بعد فراغه من السعي أقبل على الناس بوجهه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا جبرئيل (وأومأ بيده إلى خلفه) يأمرني أن آمر من لم يسق هدياً أن يحلّ ولو استقبلت من أمري مثل الذي استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم، ولكني سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه) الحديث (وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 2، ح4).
2- عوالي اللئالي: 1/215، نقله عن مسند أحمد ولفظ الحديث هناك: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله يرمى على راحلته يوم النحر، يقول لنا: خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) (مسند أحمد بن حنبل: 3/318).

الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قلت: نعم، قال: أفض بهن بليل، ولا تُفض بهن حتى تقف بهن بجمع، ثم أفض بهن حتى تأتي الجمرة العظمى فيرمين الجمرة، فإن لم يكن عليهن ذبح فليأخذن من شعورهن ويقصّرنَ من أظفارهن، ويمضين إلى مكة في وجوههن ويطُفن بالبيت ويسعين بين الصفا والمروة ثم يرجعن إلى البيت ويطفن أسبوعاً ثم يرجعن إلى منى، وقد فرغن من حجهن، وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل معهن أسامة)(1)

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: رخّص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للنساء والضعفاء أن يفيضوا من جمع بليل وأن يرموا الجمرة بليل، فإذا أرادوا أن يزورواالبيت وكّلوا من يذبح عنهن) والروايات المبينة لأفعال الحج كخبر عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: ثم احلق رأسك واغتسل وقلّم أظفارك وخُذ من شاربك وزر البيت وطُف أسبوعاً تفعل كما صنعت يوم قدمت مكة)(2)

وغيرها من الروايات الواردة في بيان أحكام ومسائل الحج.

وإنما نذكر جملة منها لنكات معينة بإذن الله تعالى، وهي على مجاميع بحسب مضامينها:

(الأولى) ما دل على أن زمن زيارة البيت هو يوم النحر أو ما بعده:-

1- صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في زيارة البيت يوم النحر، قال: زره فإن شغلت فلا يضرك أن تزور البيت من الغد، ولا تؤخر أن تزور من يومك، فإنه يكره للمتمتع أن يؤخره، وموسع للمفرد أن يؤخره)(3) الحديث.

ص: 379


1- الرواية والتي بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الوقوف بالمشعر، باب 17، ح2، 6.
2- المصدر، أبواب زيارة البيت، باب 2، ح2.
3- الأحاديث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب زيارة البيت، باب 1 ما عدا الحديث (4) من الباب.

2- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل نسي أن يزور البيت حتى أصبح؟ قال: لا بأس أنا ربما أخرته حتى تذهب أيام التشريق، ولكن لا تقرب النساء والطيب).

3- صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: لا بأس إن أخّرت زيارة البيت إلى أن يذهب أيام التشريق إلا أنك لا تقرب النساء ولا الطيب).

4- صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن المتمتع متى يزور البيت؟ قال: يوم النحر).

5- صحيحة منصور بن حازم قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يبيت المتمتع يوم النحر بمنى حتى يزور).

6- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ينبغي للمتمتع أن يزور البيت يوم النحر أو من ليلته ولا يؤخر ذلك اليوم).

7- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن المتمتع متى يزور البيت؟ قال: يوم النحر أو من الغد، ولا يؤخر، والمفرد والقارن ليسا بسواء موسع عليهما).

8- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: لا بأس أن تؤخّر زيارة البيت إلى يوم النفر إنما يستحب تعجيل ذلك مخافة الأحداث والمعاريض).

9- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن زيارة البيت تؤخّر إلى يوم الثالث؟ قال: تعجيلها أحبّ إلي، وليس به بأس إن أخّرها).

10 - صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل أخّر الزيارة إلى يوم النفر؟ قال: لا بأس ولا يحلّ له النساء حتى يزور البيت ويطوف طواف النساء).

(الثانية) ما دل على أن زيارة البيت بعد مناسك منى:-

ص: 380

1- صحيحة صفوان بن يحيى قال: (سأله أبو حارث عن رجل تمتع بالعمرة إلى الحج فطاف وسعى وقصّر هل عليه طواف النساء، قال: لا، إنما طواف النساء بعد الرجوع من منى)(1).

2- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (في رجل زار البيت قبل أن يحلق، فقال: إن كان زار البيت قبل أن يحلق وهو عالم أن ذلك لا ينبغي له، فإن عليه دم شاة)(2).

3- صحيحة محمد بن حمران قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل زار البيت قبل أن يحلق، قال: لا ينبغي إلا أن يكون ناسياً).

4- صحيحة علي بن يقطين قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المرأة رمت وذبحت ولم تقصّر حتى زارت البيت فطافت وسعت من الليل، ما حالها؟ وما حال الرجل إذا فعل ذلك؟ قال: لا بأس به، يقصّر ويطوف بالحج ثم يطوف للزيارة ثم قد أحلّ من كل شيء)(3).

5- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إذا ذبح الرجل وحلق فقد أحلّ من كل شيء أحرم منه إلا النساء والطيب، فإذا زار البيت وطاف وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل من كل شيء أحرم منه إلا النساء، وإذا طاف طواف النساء فقد أحلّ من كل شيء أحرم منه إلا الصيد)(4).

6- صحيحة سعيد بن يسار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتمتع قلت: إذا حلق رأسه قبل أن يزور البيت(5) يطليه بالحناء؟ قال: نعم، الحناء

ص: 381


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الطواف، باب 82، ح6.
2- الرواية والتي تليها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 2، ح1، 2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 4، ح1.
4- الأحاديث من (5-9) تجدها في المصدر السابق، باب 13، ح1، 6، 7، 8، 10.
5- هذه الفقرة (قبل أن يزور البيت) موجودة في رواية الكليني وغير موجودة في رواية الشيخ (قدس سره) وستأتي مناقشتها (صفحة 401) إن شاء الله تعالى.

والثياب والطيب وكل شيء إلا النساء رددها عليّ مرتين أو ثلاثاً، قال: وسألت أبا الحسن (عليه السلام) عنها قال: نعم، الحناء والثياب والطيب وكل شيء إلا النساء).

7- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن المتمتع إذا حلق رأسه ما يحل له؟ فقال: كل شيء إلا النساء).

8- صحيحة أبي أيوب الخزاز قال: (رأيت أبا الحسن (عليه السلام) بعدما ذبح حلق، ثم ضمّد رأسه بسك(1)

(بمسك خ ل) وزار البيت وعليه قميص، وكان متمتعاً).

9- صحيحة(2)

محمد بن حمران قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحاج (غير المتمتع) يوم النحر ما يحل له؟ قال: كل شي إلا النساء، وعن

ص: 382


1- نوع من الطيب يصنع بخلط عدة مواد.
2- رواها الشيخ (قدس سره) بسنده عن موسى بن القاسم عن عبد الرحمن عن محمد بن حمران، وعبد الرحمن الذي يروي عنه موسى بن القاسم هو ابن أبي نجران الثقة كما هو معروف، أما محمد بن حمران فقد اعتبره جمع –ومنهم المحقق البحراني (الحدائق الناضرة: 17/256) ابن أعين المجهول فتكون الرواية غير معتبرة بناءً على ما ورد في فهرست الشيخ من أن ابن أعين له كتاب يرويه ابن أبي عمير وابن أبي نجران إلا أن الصحيح ما ذكره النجاشي من أن صاحب الكتاب هو محمد بن حمران النهدي الثقة لقرينتين:- أ - إن الشيخ الصدوق (قدس سره) ذكر طريقاً مشتركاً إلى عنوان محمد بن حمران وجميل بن دراج ولم يحدد من هو المقصود بالعنوان وينتهي إلى ابن أبي عمير عنه وكذا ذكر طريقين آخرين خاصّين بمحمد بن حمران ولم يحدده أيضاً وينتهيان بابن عمير عنه، وجاء في مورد في الفقيه (وسأل محمد بن حمران النهدي وجميل بن دراج أبا عبد الله (عليه السلام) ) ((وهذا يدل على أن محمد بن حمران الذي ذكر في المشيخة ويروي عنه ابن أبي عمير هو محمد بن حمران النهدي)) (معجم رجال الحديث: 16/49). ب - إن محمد بن حمران بن أعين لم يوجد له ولا رواية واحدة)) (المعجم) مع كثرة ورود عنوان محمد بن حمران.

المتمتع ما يحل له يوم النحر؟ قال: كل شيء إلا النساء والطيب)(1).

10- مقطوعة(2)

علي قال: لا يحلق رأسه، ولا يزور حتى يضحي فيحلق رأسه ويزور متى شاء)(3).

(الثالثة) ما دل على المنع من الطواف بالبيت قبل الخروج إلى الموقف:-

1- صحيحة الحلبي قال: (سألته عن رجل أتى المسجد الحرام، وقد أزمع بالحج أيطوف بالبيت؟ قال: نعم، ما لم يحرم)(4).

خبر(5)

أبي بصير قال: (قلت: رجل كان متمتعاً وأهل بالحج، قال: لا يطوف1- بالبيت حتى يأتي عرفات، فإن هو طاف قبل أن يأتي منى من غير علة فلا يعتد بذلك الطواف)(6).

2- موثقة إسحاق بن عمار (في حديث) قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المفرد للحج، إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أيعجل طواف النساء؟ قال: لا، إنما طواف النساء بعدما يأتي من منى)(7).

التعارض بين الروايات ومعالجته:

يقع التعارض البدوي هنا بين الطائفة الأولى المجوزة للتقديم مطلقاً والطائفة الثانية النافية للبأس عن التقديم عند الضرورة ومفهومه عدم جوازه

ص: 383


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 14، ح1.
2- هو علي بن جعفر كما صرّح به العلامة في المنتهى وبقرينة الراوي عنه وتكون الرواية معتبرة إذا افترضنا أن علي بن جعفر لا يروي إلا عن المعصومين (عليهم السلام).
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 39، ح9.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الطواف، باب 83، ح4.
5- في السند إسماعيل بن مرار وعلي بن أبي حمزة.
6- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 13، ح5.
7- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 14، ح4.

حال الاختيار، وبينهما وبين الطائفة الثالثة المانعة من التقديم مطلقاً إما بالدلالة المطابقية كخبر أبي بصير في المجموعة الثالثة، أو بالدلالة الالتزامية والمفهوم كالتي حددت زمان زيارة البيت بيوم النحر وما بعده المانع من كونه قبل ذلك، وقد عولج التعارض بوجوه:

(الأول) حمل الطائفة الأولى على الثانية وتقييد الثالثة بها، فتكون النتيجة قول المشهور من عدم جواز التقديم إلا لعذر كالمرأة التي تخاف الحيض، والخائف من الرجوع إلى مكة، والشيخ الكبير الذي يضرّه الزحام.

قال الشيخ (قدس سره): ((ولا يجوز للمتمتع أن يقدِّم طواف الحج قبل أن يأتي منى وعرفات، ومتى فعل ذلك فإنه لا يعتدّ بذلك الطواف، ويجوز للشيخ الكبير والضعيف والمرأة التي تخاف الحيض أن يقدموه)) ثم قال (قدس سره) عن صحيحة علي بن يقطين –مما يدل على الرخصة مطلقاً- بأنه ((ليس بمنافٍ لما ذكرناه لأن هذه الرواية وردت رخصة لمن قدمنا ذكره من الشيخ الكبير والمريض والمرأة التي تخاف الحيض))(1)

واستشهد لذلك برواية إسماعيل بن عبد الخالق.

وهذا ما سار عليه العلامة (قدس سره) في المختلف حيث حمل الرخصة على مورد الضرورة وأورد على نفسه إشكالاً وأجابه، قال (قدس سره): ((لا يقال: تخصيص العام ببعض أفراده باطل، وكذا تقييد المطلق بقيد يوافقه في الحكم.

لأنا نقول: قد روى أبو بصير))(2)

ثم ذكر الخبر المتقدم (رقم 2 من المجموعة الثالثة من الطائفة الثالثة).

أقول: تقدم (صفحة 369) ردّ السيد صاحب المدارك (قدس سره) والشيخ حسن في المنتقى على هذا الجمع وحاصله قصور الأخبار المنافية لذلك من حيث السند أو المتن. ويريد بالقاصرة متناً الطائفة الثانية لأنها لا تصلح لتقييد الطائفة

ص: 384


1- التهذيب: ج5/ 130، كتاب الحج، باب 9، الطواف، ح 100، ح 102.
2- مختلف الشيعة: 4/220.

الأولى كما أوردالعلامة (قدس سره) على نفسه والثالثة لأنها لا تنافي الرخصة بالتقديم، وأما القاصرة سنداً فخبر أبي بصير المتقدم.

(الثاني) الأخذ بمقتضى قواعد الجمع العرفي بين النهي والترخيص من حمل الأخبار المانعة على الكراهة برفع اليد عن ظهورها في الحرمة بقرينة الروايات المجوزة.

ورجّح هذا الوجه المحقق النراقي (قدس سره) فإنه بعد أن قال عن الروايات التي استدل بها على وجوب التأخير بأنها ((بجملتها قاصرة عن إفادة الوجوب وإن كان بعضها ظاهراً فيه)) ذكر الروايات الدالة على جواز التقديم مطلقاً، قال: ((وهذه الروايات أصح إسناداً وأوضح دلالة.

ويمكن الجمع بينها وبين الأخبار الأولى، بحمل الأولى على الكراهة بشهادة العرف، وبحمل الثانية على المعذور بشهادة الأخبار الآتية المجوزة له التقديم، وليس هذا التخصيص بأولى من ذلك المجاز، كما حققناه في موضعه، بل الأول أولى لفهم العرف، ولولاه أيضاً لرجحه الأصل.

ولذا حكي عن جملة من متأخري المتأخرين الميل إلى الجواز لولا الإجماع، وهو ظاهر الخلاف والتذكرة، ومحتمل التحرير))(1).

واستبعد السيد الخوئي (قدس سره) هذا الوجه معللاً ((لأن مفهوم قوله: (لا بأس بتعجيل الطواف للشيخ الكبير) (رقم 1 من الطائفة الثانية) ثبوت البأس لغيره، وفي الروايات المجوزة نفي البأس، والجمع بين لا بأس وفيه البأس من الجمع بين المتناقضين بحيث لو اجتمعا في كلام لكان مما اجتمع فيه المتناقضان))(2).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

1- إن استبعاده (قدس سره) في غير محلّه لعدم حصول محذور التناقض؛ لأن

ص: 385


1- مستند الشيعة: 13/15-16.
2- المعتمد في شرح المناسك: 29/348.

متعلق نفي البأس هو التعجيل وهذا ظاهر بوضوح في الصحيحتين (2، 3) من الطائفة الأولى و (1، 2) من الطائفة الثانية، فلازمه المفروض وجود البأس في التأخير وهو ثابت البطلان للقطع بجواز التأخير بل رجحانه.

2- إن نفي البأس وارد في مقام توهم المنع من التقديم فيكون دالاً على نفي المنع ولا يدل على وجود البأس في التأخير أي أن الجملة لا مفهوم لها.

وبتعبير آخر: إننا نتعامل في الاستظهارات من النصوص مع الدلالات السياقية وليس دلالة الألفاظ فقط، والسياق الوارد لا مفهوم له، فإن نفي البأس عن تقديم الطواف للشيخ الكبير لا ينافي الرخصة في التقديم مطلقاً بل هو تطبيق له.

إن الجمع العرفي المعروض في هذا الوجه إنما هو بين الطائفة الثالثة المانعة، والطائفة الأولى المرخصة كما هو واضح من كلام المحقق النراقي (قدس سره) الذي نقلناه وغيره، بينما افترضه السيد الخوئي (قدس سره) بين الطائفة الأولى1- والثانية.

2- إذا كان لا يمكن الجمع بين قوله (عليه السلام): (لا بأس ..) ومفهومه فكيف جمع بين الثانية والثالثة حيث استثنى المعذورين من التأخير أي قيّد الثالثة بالثانية؟.

هذا مع أن السيد الخوئي (قدس سره) التزم بنفس نتيجة المشهور وهي تقييد الرخصة بالمعذورين ولكن من غير طريقة الجمع المذكورة.

(الثالث) تحقق التعارض المستقر واللجوء إلى المرجحات:

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((الصحيح تحقق التعارض بين الطائفتين فلا بد من العلاج وتقديم إحداهما على الأخرى، فاللازم تقديم الأخبار المانعة، والوجه في ذلك: أنا علمنا من كثير من الروايات البيانية لكيفية الحج حتى الروايات الحاكية لحج آدم (عليه السلام) تأخر الطواف عن الوقوفين وأعمال منى.

وكذلك يستفاد التأخر من صحيح سعيد الأعرج الوارد في إفاضة النساء

ص: 386

ليلاً قال فيه (فإن لم يكن عليهن ذبح فليأخذن من شعورهن ويقصرن من أظفارهن ثم يمضين إلى مكة في وجوههن ويطفن البيت ويسعين بين الصفا والمروة) الحديث.

وقد تقدم قريباً أخبار كثيرة ذكر فيها أنه يزور البيت يوم النحر أو من غده أو يزور البيت إلى آخر يوم من أيام التشريق أو إلى طول ذي الحجة وأيضاً ورد في النصوص عدم تقديم الطواف على أعمال منى الرمي والذبح والحلق كما ذكرنا كل ذلك في محله، فمن جميع ذلك يعلم أن المرتكز هو تأخير الطواف عن الوقوفين بل عن أعمال منى فيكون الترجيح للأخبار المانعة لكونها موافقة للسنة فلا بد من طرح الأخبار المجوزة ورد علمها إلى أهلها.

مضافاً إلى أنه لو كان التقديم جائزاً مع كون المسألة مما يبتلى به كثيراً لظهر الحكم بالجواز وبان وشاع مع أنه ادعي الإجماع على المنع ولم يذهب إلى الجواز إلا بعض متأخري المتأخرين فالتقديم غير جائز اختياراً وإنما يجوز للعاجز ولذي الأعذار))(1).

أقول: الوجهان لا ينفعان في الترجيح.

أما الروايات البيانية –بحسب تسميته- ويريد بها الروايات(2)

التي بيّنت تفصيل حركة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع بقرينة ذكره حج نبي الله آدم (عليه السلام) وقد وردت في نفس الباب فإنها لا تنفع في المقام لأن حج رسول الله الذي قال: (خذوا عني مناسككم) كان حج قران وليس حج تمتع وقدم فيه الطواف على الوقوف بعرفة وقد نقلنا موضع الشاهد في هامش (صفحة 376)، ولو تنزلنا فغاية ما تدل عليه جريان السيرة على ذلك وهو مما لا شك فيه، لكنه أعم من وجوب الالتزام به فلعله لكونه الترتيب الأفضل للمناسك وأنه مقتضى الحالة الطبيعية ولا ينافي ورود الروايات الصحيحة المرخّصة بالتقديم.

وأما قوله: ((لو كان التقديم جائزاً)) إلخ فهذا لا يصلح للإلزام، إذ أن

ص: 387


1- المعتمد في شرح مناسك الحج: 29/348.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 2.

الرخصةليست واجبة الأخذ، فقد يكون عدم العمل بها مراعاة للاحتياط أو المشهور أو سيرة الأئمة والعلماء أو لأن التأخير أفضل ونحوها مما يحرص الحجاج عليه لأنه فرض في العمر مرة وليس لعدم ثبوتها، وكم من رخصة في الشريعة يطبق الناس على عدم الأخذ بها إلا ما ندر كزواج المتعة.

نعم للسيد الخوئي (قدس سره) أن يقول إن الطائفة الأولى بعد أن سقطت بالتعارض تبقى هذه الروايات البيانية بلا معارض على نحو المرجح المساوي بحسب ما طرحناه في مسألة سابقة.

ويرد عليه: أنه لو سلمناه فإن السيرة دليل لبّي تثبت القدر المتيقن وهو كون موضع زيارة البيت بعد مناسك منى، ولا تنفي جواز تقديمه، وإنما يُمنع التقديم لسقوط ما يدل عليه بالتعارض، وحينئذٍ يكون منع التقديم لعدم الدليل عليه وليس للمرجح المذكور.

واتخذ المحقق النراقي (قدس سره) مسلكاً آخر لترجيح قول المشهور فإنه بعد أن رجّح الجمع العرفي المتقدم قال: ((إلا أن موافقة الأخبار الأخيرة للعامة ومخالفتها للشهرة العظيمة القديمة والحديثة يوجب مرجوحيتها وترجيح الأولى –أي الموجبة للتأخير- فعليه الفتوى))(1).

أقول: يرد عليه:-

1- إن الجمع العرفي إذا أمكن –وقد تم عنده (قدس سره)- فإنه يحل التعارض ولا يبقى موضوع لاستعمال المرجحات.

2- إن المرجح في باب التعارض هي الشهرة الروائية وهي متحققة في الطائفة الأولى، أما الشهرة الفتوائية فليست من المرجحات مع أنها مدركية كما هو واضح.

3- إن المشهور عند العامة هو تأخير طواف الحج والنساء عن مناسك منى ويسمّونه طواف الإفاضة قال ابن قدامة في المغني: ((إذا رمى ونحر وحلق وأفاض إلى مكة طاف طواف الزيارة لأنه يأتي من منى فيزور البيت ولا

ص: 388


1- مستند الشيعة: 13/16.

يقيم بمكة بل يرجع إلى منى، ويسمى طواف الإفاضة لأنه يأتي به عند إفاضته من منى إلى مكة))(1).

وحكى القول بجواز التقديم مطلقاً عن الشافعي كما في نص التذكرة المتقدم.

(الرابع) وهو ما نرجحه من وجه للجمع، ويمكن عرضه من خلال عدة نقاط:-

1- إن إطلاق الرخصة في الطائفة الأولى صريح، وهو أوسع من موارد الأعذار التي ذكرتها الطائفة الثانية، فلا يصحّ تقييدها بها، بل هي –أي الطائفة الثانية- لا تصلح لتقييد الطائفة الأولى لعدم التنافي بينها.

2- لكن هذا الإطلاق لا يمكن أخذه على سعته بحيث يشمل من يريد التقديم تشهيّاً أو1- لمجرد التقديم أو لمخالفة الآخرين ونحوها، إذ لا يبقى معنى حينئذٍ لذكر الإمام (عليه السلام) لبعض عناوين الرخصة في الصحيحتين الأولى والثانية في الطائفة الثانية وذيل الرواية الخامسة في الطائفة الأولى، ويصبح ذكرها لغواً وهو لا يصدر عن المعصوم (عليه السلام) مع أنها ليست أفراداً خفية حتى يعتني الإمام (عليه السلام) بذكرها بل العكس فإنها أولى بالرخصة من أي فرد آخر، ولخبر أبي بصير في المجموعة الثالثة من الطائفة الثالثة الصريح في عدم الاعتداد بالطواف إذا أتى به قبل مناسك منى. وهذا التقييد لسعة الرخصة هو من باب الاستظهار، أي استظهار عدم سعة الإطلاق، وليس هو من باب تقييد الإطلاق في المصطلح حتى يمكن أن يُرَدّ عليه بعدم وجود المبرر وهو التنافي، ومن الشواهد عليه ما في رواية الحسن بن علي فإن قوله (عليه السلام) في الذيل (وكذلك) مبيِّن لعدم سعة الإطلاق في صدر الرواية وسيأتي توضيحه في التتميم إن شاء الله تعالى.

3- ولا يمكن أيضاً الاقتصار بالرخصة على العناوين التي وردت في روايات الطائفة الثانية واقتصر عليها المشهور لإطلاق الطائفة الأولى، ولصريح قوله

ص: 389


1- المغني لابن قدامة: 3/473.

(عليه السلام) في موثقة إسحاق من الطائفة الثانية: (من كان هكذا يعجّل) الظاهر في توسعة الأعذار وعدم الاقتصار على ما ورد في السؤال.

4- والنتيجة أن الرخصة في جواز التقديم تتحقق عند وجود أي مسوِّغ عقلائي يكون مبرراً كافياً عند ذكره. وما الموارد المذكورة في روايات الطائفة الثانية إلا مصاديق له، وعلى هذا يُحمل خبر أبي بصير في المجموعة الثالثة من الطائفة الثالثة، فإن قوله (عليه السلام): (فإن هو طاف قبل أن يأتي منى من غير علة فلا يعتد بذلك الطواف) فالعلة أعم من الموارد المذكورة ويراد بها كل سبب مقبول لدى العقلاء، ومنها تخفيف الزحام الحاصل في زيارة البيت الحرام بعد أداء مناسك يوم النحر في منى.

وهو معنى قوله (عليه السلام) في موثقة إسحاق: (من كان هكذا يعجّل)، بل إن الروايات نفسها تبيّن أن ما كان ظاهره الرخصة مطلقاً فهو مقيّد بما إذا وجد سبب معقول، كرواية الحسن بن علي عن أبيه (الخامسة من الطائفة الأولى) فبعد أن نفى (عليه السلام) البأس عن الرخصة مطلقاً شرحه (عليه السلام) بقوله: (وكذلك) فهي تقيد إطلاق الصدر بوجود مسوِّغ.

5- ولا يعارض هذه النتيجة ما ورد في الطائفة الثالثة، فبعضها الآمر بزيارة البيت يوم النحر (كالصحيحتين الأولى والثانية من المجموعة الأولى) ناظرة إلى من لم يزر البيت ولم يقدِّم الطواف.

وبعضها الذي حدد زيارة البيت بيوم النحر (كالصحيحة الرابعة من المجموعة الأولى) فهو بلحاظ التأخير عن يوم النحر كما توضحه الصحيحتان بعدها فهو حصر إضافي.

وأما الناهية عن زيارة البيت قبل أن يحلق (كالصحيحتين الثانية والثالثة من المجموعة الثانية) فإنها تبين حكم من أتى بالرمي والنحر في منى وذهب لزيارة البيت قبل أن يأتي بالنسك الثالث وهو الحلق، وليست ناظرة إلى ما من قدّم الطواف على الوقوفين وأعمال منى كلها.وأما ما يتعلق بتأخير طواف النساء فسيأتي الحديث عنه إن شاء الله

ص: 390

تعالى.

وأما الصحيحة الأولى من المجموعة الثالثة فلا دلالة فيها على أن المقصود هو طواف الحج فلعله الطواف المستحب –وهو ظاهر- والمنع لعلة تأتي في ملحق البحث بإذن الله تعالى.

ص: 391

تتميم:هل يجوز تقديم طواف النساء أيضاً؟

يمكن القول بوجود الروايات الدالة على جواز التقديم مطلقاً وهي على أنحاء:

(الأول) ما يشمل بإطلاقه طواف النساء كصحيحة حفص بن البختري (رقم 6 من الطائفة الأولى).

(الثاني) ما دل على جواز تقديم طواف النساء بعينه كرواية الحسن بن علي عن أبيه (رقم 5 من الطائفة الأولى) وهي وإن كانت ضعيفة سنداً بحسب الظاهر لاشتراك الحسن بن علي وأبيه بين الثقة والضعيف، إلا أنه يمكن تقريب كون المراد به الحسن بن علي بن يقطين عن أبيه وهما ثقتان لقرينتين على الأقل:-

أ - الراوي عنه وهو إما أحمد بن محمد بن عيسى أو محمد بن عيسى الذي هو ابن عبيد بن يقطين على ما في بعض النسخ وكلاهما رويا عن الحسن بن علي بن يقطين.

ب - ما يقتضيه طبع الرواة الثقات وخصوصاً في مثل جلالة الراوي عن الحسن –وهما من ذكرنا- من عدم الإيهام وعدم إجمال الاسم إذا كان مشتركاً إلا مع انسباق الذهن إلى الثقة ومعروفية ذلك عند المتلقي.

وقد وصفها بالصحة كاشف اللثام(1)

ونسب صاحب الرياض (قدس سره) إلى البعض القول بصحتها(2)،واحتمل(3)

ذلك صاحب الجواهر (قدس سره) بعد أن وصفها بالصحيحة في موضع سابق(4)،وسماها السيد الخوئي

ص: 392


1- كشف اللثام: 5/488.
2- رياض المسائل: 7/99.
3- جواهر الكلام: 19/394.
4- جواهر الكلام: 18/63.

(قدس سره) صحيح علي بن يقطين(1)

ولم يذكروا وجهاً لذلك، ومن لم يقل بصحتها فقد جبر ضعف سندها بعمل المشهور.

واعتمدوا عليها في الاستدلال على جواز التقديم عند الضرورة كما سيأتي بإذن الله تعالى.

(الثالث) ما دل على إجزاء طواف النساء إذا وقع بعد طواف الحج وقبل سعيه بضميمة الرخصة في تقديم طواف الحج وسعيه وهي موثقة سماعة بن مهران (عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل طاف طواف الحج وطواف النساء قبل أنيسعى بين الصفا والمروة، قال: لا يضره يطوف بين الصفا والمروة وقد فرغ من حجه)(2).

أقول: الرواية وإن كانت ظاهرة في ما بعد مناسك منى إلا أننا نستدل بأصل جواز التقديم ولا قائل بالفصل أي بين كون هذا التقديم على السعي في حالة تقديم طواف الحج على الوقوفين أو تأخيره.

هذا على مستوى وجود المقتضي لجواز التقديم، وأما على مستوى عدم المانع فإنه لا ينافي هذه الرخصة مطلقاً قوله: (إنما طواف النساء بعد الرجوع من منى) لأن الحصر فيها إضافي بلحاظ السؤال عن وجوب الإتيان به في عمرة التمتع فأجاب (عليه السلام) بأن طواف النساء يأتي به مع مناسك الحج وأجاب بموضعه الطبيعي منها، كما هو صريح صحيحة صفوان (الرواية 1 من المجموعة الثانية من الطائفة الثالثة). وأما موثقة إسحاق بن عمار (رقم 3 من المجموعة الثالثة من الطائفة الثالثة) فهي خاصة بالمفرد، ولو قيل بالتعميم –كما عن صاحب الرياض (قدس سره) وغيره- فهي لا تأبى الحمل على الاستحباب بمقتضى الجمع العرفي مع ما دل على الرخصة، ولو قالوا بإطلاق الحصر فإنها تمنع من التقديم مطلقاً حتى للمعذورين وهو خلاف ما أجمعوا عليه.

ص: 393


1- المعتمد في شرح المناسك: 29/352.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الطواف، باب 65، ح2.

هذا ولكن المشهور الذي قيل ببلوغه الإجماع هو عدم جواز تقديم طواف النساء إلا لضرورة، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((لا يجوز تقديم طواف النساء على الوقوفين وسائر المناسك للمتمتع وغيره اختياراً، بلا خلاف، بل بالإجماع كما قيل، بل محققاً))(1).

واستدل (قدس سره) على عدم جواز التقديم بوجهين:-

1- ((وجوب تأخيره عن السعي المتأخر عن سائر المناسك)).

وفيه: إن هذا هو مقتضى الترتيب الطبيعي للمناسك، وهو لا ينافي الرخصة في التقديم كطواف الحج، مضافاً إلى إجزاء التقديم الوارد في موثقة سماعة.

2- ((لموثقة إسحاق –المتقدمة في الطائفة الثالثة-: المفرد للحج إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أيعجّل طواف النساء؟ قال: (لا، إنما طواف النساء بعد ما يأتي منى) ولا يضر اختصاص السؤال بالمفرد، لعموم قوله: (إنما) إلى آخره مضافاً إلى عدم القول بالفصل)).

وفيه: ما أجبنا به عن هذا الإشكال آنفاً وقربنا كون الحصر إضافياً، ولو سلمناها فإنها تمنع من التقديم مطلقاً حتى لذوي الأعذار على خلاف ما بنوا عليه.

وقال (قدس سره): ((وأما رواية الحسن بن علي عن أبيه فلشذوذها بالإطلاق لا تعارض ما مر)).وفيه: ما لا يخفى فإن المعتمد هو ما يستفاد من الروايات وإن خالف المشهور فعدوه شاذاً، وقد اعترف (قدس سره) بظهورها في الإطلاق.

وأما جواز التقديم عند الضرورة والعذر فقد اعترف المشهور بعدم وجود نص عليه بالخصوص، ولكن يمكن تقريب أكثر من وجه للاستدلال على مطلوبهم:

ص: 394


1- مستند الشيعة: 13/20.

(الأول) ما قاله صاحب الحدائق (قدس سره) من ((أن ظاهرهم الاتفاق على عدم جواز التقديم اختياراً وجواز ذلك مع الضرورة لما رواه الشيخ عن الحسن بن علي عن أبيه)) وذكر الرواية المتقدمة. ثم اعترف بأنه يدل على عكس مطلوبهم، قال (قدس سره): ((وظاهر هذا الخبر –كما ترى- إنما هو جواز التقديم اختياراً، فهو غير دال على ما ادعوه، بل هو إلى الدلالة على خلاف ما ادعوه أقرب)) ثم ذكر (قدس سره) وجه حمله على الضرورة فقال (قدس سره): ((والظاهر أنهم حملوا إطلاق الخبر على العذر والضرورة جمعاً وبينه وبين موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة الصريحة في أنه لا يجوز تقديمه على الخروج إلى منى))(1).

ويعني الموثقة أعلاه وهي الرواية الثالثة من المجموعة الثالثة من الطائفة الثالثة).

أقول: تقدم عرض هذه الموثقة وتقريب عدم منافاتها للرخصة في التقديم مطلقاً، ولو سرنا معهم فإن مقتضى الجمع العرفي بين رواية الحسن بن علي وموثقة إسحاق بن عمار هو كراهة التقديم أما الضرورة فلم تذكر حتى يحمل عليها.

(الثاني) التمسك بإطلاق (الطواف) في صحيحة معاوية بن عمار والآخرين –الأولى من الطائفة الثانية- وهذا الوجه لم يذكروه.

وفيه: احتمال كون اللام عهدية والإشارة به إلى طواف الحج كما تشهد له الروايات الأخرى في الطائفة.

(الثالث) ما ذكروه في جواز تقديم طواف النساء على السعي التالي لطواف الحج، فإن عموم التعليل شامل لما نحن فيه، كاستدلال صاحب المدارك (قدس سره) بالحرج والمشقة اللازمين من إيجاب تأخيره مع الضرورة، ((وفحوى صحيحة أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخزاز قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل فقال: أصلحك الله إن معنا امرأة حائضاً، ولم تطف طواف النساء، ويأبى الجمال أن يقيم عليها، قال: فأطرق وهو يقول: لا تستطيع

ص: 395


1- الحدائق الناضرة: 14/383.

أن تتخلف عن أصحابها ولا يقيم عليها الجمال) ثم رفع رأسه إليه فقال: (تمضي فقد تم حجها) وإذا جاز ترك الطواف من أصله للضرورة جاز تقديمه بطريق أولى))(1).

أقول: يمكن رد التقريبين معاً:-

إن الحرج والمشقة غير لازم في حق البعض كالشيخ الذي يخاف الزحام أو المرأة التي تخاف الحيض فإنهم يتخلصون من ذلك بتأخير الإتيان بالطواف1- خصوصاً على مختارهم بامتداد وقته إلى نهاية ذي الحجة. والاستنابة فيه إذا تعذرت مباشرته.

2- مورد صحيحة الخزاز هو عدم التمكن من الأداء، والحكم حينئذٍ ليس الترك أصلاً وإنما الاستنابة فيه وإن لم تذكره الرواية لمعلوميته من الروايات الأخرى، فقياس مورد الضرورة عليها ليس في محله.

فلم يبق حينئذٍ للمشهور دليل على مختاره، إذ أن ما استدل به – أعني رواية الحسن بن علي عن أبيه- تدل على الرخصة مطلقاً، وقيّدوها لذوي الأعذار بالإجماع وقد ظهر من كلماتهم أنه مدركي. وحينئذٍ عليهم الرجوع إلى مقتضى الترتيب الطبيعي للمناسك وهو لزوم تأخير طواف النساء، ويؤيده خبر علي بن أبي حمزة (رقم 5 من الطائفة الثانية) حيث رخّص الإمام (عليه السلام) بتقديم طواف الحج دون طواف النساء، بضميمة قرينة وهي إعراض السائلين والإمام (عليه السلام) في جوابه عن حكم طواف النساء للمضطرين والمعذورين الذي رُخِّص لهم بتقديم طواف الحج وسعيه (راجع الروايات 2، 3، 4 من الطائفة الثانية) مع أن الحال يقتضي التنبيه لو كان طواف النساء مشمولاً بالرخصة مما يكشف عن وجود فرق في الرخصة بالتقديم بين الطوافين.

وهذا ما دعا البعض إلى الاقتصار في جواز التقديم على الخائف فقط كالسيد الخوئي (قدس سره) أو المنع من التقديم مطلقاً كما عن ابن إدريس (قدس سره).

ص: 396


1- مدارك الأحكام: 8/191.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وأما طواف النساء فلم يدل دليل على جواز تقديمه، والنصوص المتقدمة خالية عن ذلك، فإن وقته ممتد بل لا وقت له وإنما هو واجب مستقل يؤتى به في أي وقت شاء ولو بعد ذي الحجة ولو فُرِضَ عدم تمكنه منه أصلاً يستنيب. نعم يجوز تقديمه للخائف على نفسه من دخول مكة فيمضي بعد أعمال منى إلى بلده أو إلى حيث أراد، ولا يجب عليه دخول مكة، وذلك للنص وهو صحيح علي بن يقطين))(1)

ثم ذكر رواة الحسن بن علي عن أبيه.

أقول: يرد عليه (قدس سره) أن بعض المعذورين لا ينفعهم اتساع الوقت كالمرأة التي تخاف الحيض ولا تطهر حتى رحيل الرفقة، فما أجاب به (قدس سره) من اتساع الوقت لا يشمل الجميع.

مضافاً إلى ملاحظات تفصيلية كعدم ذكر وجه تصحيح رواية الحسن بتطبيقه على ابن يقطين، ومخالفته لمختاره في كون وقت طواف النساء لا يتجاوز ذا الحجة.

وقال ابن إدريس (قدس سره): ((وأما طواف النساء فإنه لا يجوز إلا بعد الرجوع من منى مع الاختيار، فإن كان هناك ضرورة تمنعه من الرجوع إلى مكة أو امرأة تخاف الحيض، جاز لهما تقديم طواف النساء، ثم يأتيان الموقفين ومنى ويقضيان مناسكهما، ويذهبان حيث شاءا، على ما روي في بعض الأخبار والصحيحخلاف ذلك، لأن الحج مرتب بعضه على بعض، لا يجوز تقديم المؤخر، ولا تأخير المقدم))(2).

وحكى صاحب الجواهر (قدس سره) هذا القول عن الحلي إلا أنه أضاف إلى دليله وجوهاً أخرى سبقه إلى ذكرها والرد عليها السيد صاحب الرياض(3)

(قدس سره)، قال صاحب الجواهر(قدس سره): ((يجوز تقديم

ص: 397


1- المعتمد في شرح المناسك: 29/352.
2- السرائر: 1/581.
3- رياض المسائل: 7/101.

طواف النساء للضرورة لفحوى ما تقدم –من الروايات الدالة على الرخصة في تقديم طواف الحج للضرورة- وخصوصاً قول الإمام الكاظم (عليه السلام) في صحيح ابن يقطين أو خبره المنجبر بما عرفت –أي الشهرة-)) وذكر رواية الحسن بن علي عن أبيه.

ثم قال (قدس سره): ((خلافاً للحلي فلم يجوّزه للأصل واتساع وقته، والرخصة في الاستنابة فيه، وخروجه عن أجزاء المنسك، وعموم قوله (عليه السلام) لإسحاق بن عمار (إنما طواف النساء بعد أن يأتي منى) وخصوص خبر علي بن أبي حمزة –المتقدم-))(1).

وردّ عليه بقوله (قدس سره): ((لكن فيه أن الأصل مقطوع بما عرفت، والعموم مخصص به أيضاً، والخبر المزبور قاصر عن المعارضة سنداً وعملاً، بل قيل(2)

ومتناً، لظهوره في قدرتها على الإتيان بطواف النساء بعد الوقوفين، ولو بالاستعداء المخالف للأصول، بل والصحيح الوارد في مثل القضية المتقدم سابقاً المتضمن لمضيّها وإنه قد تم حجها، واتساع الوقت مخالف للفرض الذي هو الضرورة الموجبة لعدم القدرة على الإتيان به مطلقاً، والرخصة إنما هي في صورة النسيان خاصة، وإلحاق الضرورة به قياس فاسد))(3).

أقول: اتضح مما تقدم الإشكال على عدة مواضع من كلامه (قدس سره)، فإن ما انقطع به الأصل –وهي رواية الحسن- تدل على الرخصة مطلقاً ولا دليل على تقييدها، وأما مناقشته لخبر علي فيرد عليه: أن الاستعداء ليس مخالفاً للأصول لأن من مسؤولية الجمال إعطاؤهم الفرصة لإتمام حجهم ولو بالشرط الضمني والمتعارف، ولا لصحيح الخزاز –المتقدم- لأن مورد الصحيحة هو عدم استجابة الجمال حتى بالاستعداء عليه، أي أن موردها تكليف المرأة بعد عدم التمكن من الأداء بأي شكل، أما مورد خبر علي فإنه قبل ذلك.

ص: 398


1- جواهر الكلام: 19/394.
2- أقول: عرضه المحقق البحراني (قدس سره) في الحدائق الناضرة: 14/384، والسيد الطباطبائي (قدس سره) في رياض المسائل: 7/101.
3- جواهر الكلام: 19/395.

والمختار في هذه المسألة هو تقييد الرخصة بتقديم طواف النساء بالعذر المانع من الأداء بعد مناسك منى كالخوف الذي يمنع صاحبه من العودة إلى مكة، أو الحيض الذي يمتد زمنه إلى رحيل الرفقة ونحوها فالرخصة في تقديمه أضيق من الرخصة في تقديم طواف الحج.

والوجه في ذلك هو قصور الأدلة التي قربناها (صفحة 390) عن إفادة سعة الرخصة:

أما صحيحة حفص بن البختري فللمناقشة في إطلاقها لاحتمال كون اللام عهدية ويراد بالطواف فيها طواف الحج، أو أن الانصراف الذهني إليه على نحو لا يشمل طواف النساء كما هو صريح الروايات الأخرى.

وأما رواية الحسن بن علي فللمناقشة في سندها فإن الحسن بن علي بن يقطين لم يروِ عن أبيه مباشرة وإنما بواسطة أخيه الحسين(1)،ولوجود محمد بن عيسى في بعض النسخ بين أحمد بن محمد بن عيسى والحسن بن علي وهو مشترك.

ويمكن دفع الإشكال الثاني (تارة) بتعيين كون محمد بن عيسى هو ابن عبيد بن يقطين الثقة جليل القدر، وإذا لم يتم هذا فيمكن الجواب (وتارة أخرى) بكون الرواية مروية بطريقين أحدهما عن أحمد بن محمد بن عيسى عن

ص: 399


1- بحسب استقراء من روى عنهم الحسن الموجود (راجع ترجمته في معجم رجال الحديث: 5/60) وبمقتضى طبقته في الحديث، إلا أنه توجد روايتان نقلهما ابن إدريس (قدس سره) في آخر السرائر من كتاب الجامع للبزنطي عن الحسن بن علي بن يقطين عن أبيه عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) (وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمام، باب 28، ح4، وباب 60، ح9). وهو لا يصلح لمعارضة ما ذكرناه ويحتمل فيها السهو والخطأ لأمور:- 1- لأن الجوامع التي نقل منها ابن إدريس (قدس سره) لم يثبت بالطرق المعتبرة. 2- منافاته لطبقة الحسن في الحديث. 3- إن الحسن لو كان راوياً عن أبيه لكثرت روايته بحسب ما تقتضيه العادة فلماذا اقتصرت على هذه؟

الحسن مباشرة والآخر بواسطة محمد بن عيسى عن الحسن والطريق الأول كافٍ لتجاوز هذه المشكلة ولعله لهذا قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((صحيح ابن يقطين أو خبره)) بناءً على كون (أو) مفيدة لتعدد الخبر بمعنى الواو وليس البدلية، لكنهم عادة يستبعدون مثل هذا الاحتمال أي أن يروي أحمد عن الحسن بن علي مباشرة تارة وبواسطة محمد بن عيسى تارة أخرى، مع بقاء الإشكال الأول.

مضافاً إلى الإشكال في الاستدلال بمتنها لأن الإطلاق في صدرها مبيَّن في ذيلها بقوله (عليه السلام): (وكذلك) المقيِّد للرخصة بالخوف من عدم التمكن من العود لأدائه.

وأما موثقة سماعة فلا إطلاق لها يشمل ما نحن فيه لأنها ناظرة إلى الترتيب الطبيعي للمناسك المقتضي لتأخير الطوافين عن الوقوفين.

مضافاً إلى وجود المانع من إطلاق الرخصة وهو خبر علي والقرينة التي ذكرناها معه في (صفحة 394).فائدة: حاول بعض الأعلام المعاصرين(1)

تصحيح رواية الحسن بن علي عن أبيه بما حاصله ((احتمال كون المراد من حسن بن علي هو الوشاء، لكن يبعّده كون المروي عنه هو أبا الحسن الأول الكاظم (عليه السلام) )).

أقول: مقتضى الرواية أن الحسن يروي عن أبيه وليس عن الإمام الكاظم (عليه السلام) فلا مورد لهذه المناقشة.

ثم قال (قدس سره): ((توضيحه: أن الأمر يدور بين كون المراد هو حسن بن علي بن زياد الوشاء، أو حسن بن علي بن النعمان، أو حسن بن علي بن يقطين. وذانك كانا من أصحاب الرضا (عليه السلام) بخلاف علي بن يقطين، لكونه ممن يروي عن أبي الحسن الأول فيمكن نقل ابنه وهو حسن بن

ص: 400


1- الشيخ عبد الله الجوادي الآملي (دام ظله الشريف) في تقريرات بحث أستاذه السيد محمد المحقق الداماد (قدس سره) في كتاب الحج: 4/242

علي عنه، فبهذه القرينة الخارجية يحكم بأنه المراد دونهما فلا نقاش في السند من هذا الحيث)).

أقول: في الروايات ثلاثة معطيات لا بد من توفرها في من يحتمل كونه هو المراد بالحسن بن علي وهو كونه يروي عن أبيه، ويروي أبوه عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، ويروي عنه أحمد بن محمد بن عيسى أو محمد بن عيسى.

والأسماء التي قال (قدس سره) أن الأمر يدور بينها لا تتوفر فيها هذه المعطيات، فالوشاء لم يروِ عن أبيه، وعلي بن نعمان لم يروِ عن الإمام الكاظم (عليه السلام) والحسن بن علي بن يقطين لم يروِ عن أبيه، وقد أغفل (قدس سره) احتمال كون المراد ابن أبي حمزة البطائني الذي روى عن أبيه الذي روى عن الإمام الكاظم (عليه السلام) وقد روى أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن عيسى عن عنوان الحسن بن علي القابل للانطباق عليه.

ثم نقل (قدس سره) قول صاحب الجواهر (قدس سره) ((صحيح ابن يقطين أو خبره)) جاعلاً الواو وليس (أو) في العبارة، واستظهر من ذلك وجود روايتين لابن يقطين (إحداهما) يرويها أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن مباشرة وهي صحيحة بعد تسليمه كون الحسن بن علي بن يقطين، (والثانية) بوساطة محمد بن عيسى وهو ((غير خالٍ عن الحزازة، لعدم ثبوت وثاقة محمد بن عيسى)).

وفيه مضافاً إلى مناقشاتنا السابقة:-

1- إن الموجود في النسخ المطبوعة (أو) وهو ما أثبتناه وليس الواو.

2- إن المناقشة في محمد بن عيسى من جهة الاشتراك وليس الوثاقة وإلا فلو ثبت كونه ابن عبيد بن يقطين فإنه ثقة جليل القدر ولا يلتفت إلى القدح فيه.

3- ما ذكرناه من أنهم يستبعدون عادة أن يروي أحدهم بوساطة ثم يروي نفس الخبر مباشرة، والمقصود هنا رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي.

هذا مع الإشكال الذي ذكرناه في كون الحسن بن علي هو ابن يقطين.

ص: 401

فروع

(الأول) المعروف أن مواطن التحلل من تروك الإحرام في الترتيب الطبيعي للمناسك(1)

ثلاثة: بعد الحلق أو التقصير يوم النحر حيث يحل له كل ما أحرم منه إلا الطيب والنساء، وبعد طواف الحج يحل له الطيب، وبعد طواف النساء تحل له النساء وقد صرّحت بذلك صحيحة معاوية بن عمار (رقم 5 من المجموعة الثانية من الطائفة الثالثة).

إلا أنه يظهر من بعض الروايات التحلل بعد الحلق من كل شيء إلا النساء (رقم 6، 7، 8 من المجموعة الثانية من الطائفة الثالثة) وأدخل البعض غيرها في دائرة الإشكال كصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سئل ابن عباس هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتطيب قبل أن يزور البيت؟ قال: رأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يضمّد رأسه بالمسك قبل أن يزور البيت) وأجاب الشيخ(2)

(قدس سره) بأنها لم تحدد نوع الحج فتحمل على غير المتمتع، مع أن من الواضح كون حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حج قران فلا يحتاج الحمل إلى مؤونة.

وكذا حمل غيرها مما لم يذكر فيها نوع الحج كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج في تقديم الخبيص فيه زعفران لهم: قال (عليه السلام): (ألستم قد حلقتم رؤوسكم)(3) فتحمل على من أفرد الحج.

لكن توجد روايات بهذا المعنى صرحت بكون الحج تمتعاً فكيف نتعامل مع هذه الروايات؟.

ص: 402


1- سيأتي بإذن الله تعالى (صفحة 407) إمكان كون التحلل في موطنين أو واحد بحسب محل طواف الحج وطواف النساء.
2- التهذيب، ج5، باب 17: في الحلق، ح27.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 14، ح3.

قال السيد الخوئي (قدس سره) بعد أن أورد ما يدل على حرمة الطيب قبل زيارة البيت: ((وبإزائه ما يدل على التحلل من الطيب قبل الطواف في حج التمتع، ولذا ذهب بعضهم إلى الكراهة جمعاً بين الطائفتين، وما دل على التحلل من الطيب أيضاً قبل الطواف إنما هو روايتان.

الأولى: صحيحة سعيد بن يسار (رقم 6) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتمتع، قال: إذا حلق رأسه قبل أن يزور البيت يطليه بالحناء قال: نعم الحناء والثياب والطيب وكل شيء إلا النساء رددها علي مرتين أو ثلاثاً، قال: وسألت أبا الحسن (عليه السلام) عنها قال: نعم الحناء والثياب والطيب وكل شيء إلا النساء).ورواه الشيخ في التهذيب والاستبصار وترك فيهما قوله: (قبل أن يزور البيت) وحملها الشيخ على من حلق وزار البيت وهو بعيد جداً لأن السائل يسأل عما بعد الحلق وأنه هل يجوز له ارتكاب هذه الأمور بعد الحلق فالحلق منظور وملحوظ في سؤاله لا زيارة البيت على أن نسخة الكافي صرحت بأنه إذا حلق قبل أن يزور البيت يجوز له هذه الأمور))(1).

أقول:-

1- ظهر مما أوردناه أن الروايات لا تنحصر باثنتين كما يظهر من عبارته (قدس سره) فقد أضفنا موثقة إسحاق بن عمار.

2- يمكن أن نفهم مراد الشيخ الطوسي (قدس سره) الذي ذكره المستشكل (قدس سره) بوجه لا يأتي عليه إشكال السيد الخوئي (قدس سره) بأن يكون مراده الحمل على من رمى وذبح ثم زار البيت قبل أن يحلق فإنه إذا حلق حلّ له الطيب لاجتزائه بزيارة البيت السابقة (راجع صحيحتي محمد بن مسلم ومحمد بن حمران في المجموعة الثانية من الطائفة الثالثة).

ص: 403


1- المعتمد في شرح المناسك: 29/334.

وهذا الاحتمال وإن كان ممكناً وفق ما عرضه السيد الخوئي (قدس سره) إلا أنه بعيد عن ظاهر كلام الشيخ الطوسي(1)

(قدس سره).

3- إن ترك الشيخ (قدس سره) لفقرة (قبل أن يزور البيت) إما اجتهاد منه لتنسجم الرواية مع الروايات المعتبرة الدالة على حرمة الطيب قبل زيارة البيت وهذا الاحتمال يدخل في باب التدليس ويُنزَّه عنه الشيخ (قدس سره)، أو أنه اعتمد في نقل الرواية على نسخة من الكافي سقطت منه هذه الفقرة؛ لأنه (قدس سره) رواها في التهذيب بسنده عن محمد بن يعقوب، والفقرة موجودة في رواية الكليني في الكافي ولم يروها عن طريق آخر حتى يمكن أن نرجّح بين النصين بأصالة عدم الزيادة(2)

ونحوها.

((الثانية معتبرة يونس مولى علي عن أبي أيوب الخزاز – رقم 8- وقد يناقش في السند بأن في السند مولى علي وهو مجهول ولكن صرح في الكافي والوسائل بيونس مولى علي وهو علي بن يقطين ويونس مولاه ثقة بلا كلام، وله روايات عن أبي أيوب الخزاز.

وربما يناقش في الدلالة كما في الجواهر بأن إخبار الراوي بأنه (عليه السلام) كان متمتعاً زعماً منه فلعله كان (عليه السلام) غير متمتع.وفيه: ما لا يخفى فإن الراوي إذا كان ثقة يسمع كلامه حتى في الأخبار عن كونه متمتعاً، ونحو ذلك)).

أقول: هذا الجواب منه (قدس سره) غير كافٍ لأن هذا الاحتمال الذي ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) ناقلاً إياه عن كاشف اللثام(3) ليس من باب

ص: 404


1- قال (قدس سره) في التهذيب معلقاً على الصحيحة: ((ليس ينافي ما ذكرناه لأنه ليس في ظاهر هذا الخبر أنه إذا حلق رأسه حلّ له هذه الأشياء وإن لم يطف، بل يحتمل أن يكون أراد متى حلق وطاف طواف الحج وسعى فقد حلّ له هذه الأشياء، وإن لم يذكره باللفظ لعلمه بأن المخاطب عالم بذلك)) تهذيب الأحكام، ج5، باب 17: الحلق، ح25.
2- فقه الصادق: 18/19.
3- كشف اللثام: 6/224.

كذب الراوي حتى يُدفع بأصالة عدمه في الثقة، وإنما من جهة الاشتباه والتوهم كظنّه أن حج الإمام (عليه السلام) كان تمتعاً لأنه آفاقي لكن حجّه (عليه السلام) كان إفرادياً لأنه ليس حجة الإسلام ونحوه أي أن إخبار الخزاز كان حدسياً وليس حسياً فلا يكون حجة، ولا يدفع هذا الاحتمال بأصالة الحس لأن المقام ليس مورداً لها.

نعم لا ينفع هذا الجواب في المعتبرتين الأخريين.

فالتعارض بين الروايات ثابت إلى الآن، ولا بد من معالجته، وقد احتمل صاحب المدارك (قدس سره) جواز الطيب له على كراهية وحينئذٍ يكون له تحللان، وحكي عن ظاهر ابن أبي عقيل العمل بما في هذه النصوص من حل الطيب للمتمتع أيضاً(1).

لكن السيد الخوئي (قدس سره) ردّ هذا الوجه من الجمع وقال: ((والأولى أن يقال: في مقام الجمع بين الطائفتين المتعارضتين أن الطائفتين متعارضتان وليس حمل الإحلال على الكراهة من الجمع العرفي لأن الإحلال وعدمه من المتناقضين ولا يمكن الجمع بينهما إذا كانا في كلام واحد، ويعد ذلك من المتنافيين. نعم: لو اجتمع النهي والترخيص يمكن حمل النهي على الكراهة إلا أن الإحلال وعدمه مما لا يمكن الجمع بينهما بل هما من المتنافيين)).

أقول: إن النهي في مثل هذه الموارد إرشاد إلى عدم الإحلال منه والاختلاف في التعبير فقط، فما دام قد قبل (قدس سره) بهذا النحو من الجمع العرفي في النهي فيلزم قبوله في التعبير بالإحلال ويكون مقبولاً عرفاً، وليس من الجمع بين المتنافيين، كحمل الروايات الواردة في النهي عن لبس الثياب وتغطية الرأس بعد مناسك منى قبل طواف الحج، والنهي في مثل هذه الموارد ظاهر في عدم الإحلال منه كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله عن رجل تمتع بالعمرة فوقف بعرفة ووقف بالمشعر ورمى الجمرة وذبح وحلق أيغطي رأسه؟

ص: 405


1- جواهر الكلام: 19/254.

فقال: لا حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة)(1)

الحديث، وصحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل رمى الجمار وذبح وحلق رأسه أيلبس قميصاً وقلنسوة قبل أن يزور البيت؟ فقال: إن كان متمتعاً فلا، وإن كان مفرداً للحج فنعم)(2).

فما الفرق بين الموردين؟ثم قال (قدس سره): ((فلا بد من رفع اليد عما دل على التحلل لموافقته للتقية وإلا فيتساقطان والمرجع بعد ذلك إطلاق ما دل على حرمة استعمال الطيب إلى أن يطوف طواف الحج))(3).

أقول: الحمل على التقية مذهب جمع من الأساطين، قال صاحب الرياض (قدس سره): ((يمكن حمل هذه الأخبار على التقية لموافقتها لما عليه أكثر العامة كما يفهم من المنتهى، ومنهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة))(4)وقال

صاحب الجواهر (قدس سره): ((المحكي عن الشافعي وأحمد وأبي حنيفة حِلّ كل شيء له إلا النساء))(5).

أقول: ويرد عليه:-

1- وجود الخلاف عندهم في المسألة ومعه لا يكون الحمل على التقية مبرراً، فالقول بحل كل شيء إلا النساء ((قول ابن الزبير وعائشة وعلقمة وسالم وطاووس والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي، وروي أيضاً عن ابن عباس وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج، وقال عمر بن الخطاب: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب، وروي ذلك عن ابن عمر وعروة بن الزبير وعباد بن عبد الله بن الزبير)) ((وروت عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم الطيب

ص: 406


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 18، ح2، 5 وغيرهما في نفس الباب.
2- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 18، ح2، 5 وغيرهما في نفس الباب.
3- (3) المعتمد في شرح مناسك الحج: 29/ 335-336.
4- رياض المسائل: 6/489.
5- جواهر الكلام: 19/254.

والثياب وكل شيء إلا النساء) )) ((وعن سالم عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم فقد حلّ لكم كل شيء إلا الطيب والنساء فقالت عائشة: أنا طيّبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق أن تُتّبع))(1).

أقول: ربما يكون منشأ الخلاف نظرهم إلى موضوعين مختلفين فحجُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حج قران فيحل له الطيب إذا أكمل مناسك منى يوم النحر، أما من أَهلَّ بعمرة فقد أفتوا –كما عندنا- بأن عليه طوافين وسعي بعد مناسك يوم النحر، قال في المغني: ((وإن كان –أي من أكمل مناسك منى- متمتعاً فيطوف بالبيت سبعاً وبالصفا والمروة سبعاً كما فعل بالعمرة ثم يعود فيطوف طوافاً ينوي به الزيارة. فأما الطواف الأول فهو طواف القدوم لأن المتمتع لم يأتِ به قبل ذلك والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها))(2).

إن ألسنة جملة من الروايات تأبى هذا الحمل لتكرار الجواب مرتين أو ثلاث –كما في صحيحة سعيد بن يسار- أو لفعل الإمام (عليه السلام) ذلك مع عدم الحاجة إليه –كما في صحيحة الخزاز-، ولجواب الإمام (عليه السلام) في موثقة إسحاق بنفي الكل عدا النساء، مع أن جواب التقية لا يكون كذلك بل يقول مثلاً: ((لا تحل1- له النساء)) الذي يحقق المطلوب من التقية من دون أن ينفي غيره من تروك الإحرام.

وذكرت هنا وجوه أخرى لدفع التعارض:

(منها) ما ذكره الشيخ الصدوق (قدس سره) قال: ((وروي أنه يجوز أن يضع الحناء على رأسه إنما يكره المسك وضربه، إن الحناء ليس بطيب))(3).

ص: 407


1- المغني لابن قدامة: 3/470-471.
2- المغني لابن قدامة: 3/475.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 18، ح5.

أقول: ورد ما يدل على أن الحناء ليست من الطيب الممنوع كما في صحيحة العلاء قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني حلقتُ رأسي وذبحت وأنا متمتع، أطلي رأسي بالحناء؟ قال: نعم، من غير أن تمس شيئاً من الطيب، قلتُ: وألبس القميص وأتقنع؟ قال: نعم، قلتُ: قبل أن أطوف بالبيت؟ قال: نعم)(1).

ولكن هذا الجواب أخص من المدعى لأن صحيحة الخزاز ذكرت السُك أو المسك وهو من الطيب قطعاً.

(ومنها) ما في كشف اللثام من احتمال ((خطأ أبي أيوب في زعمه أنه (عليه السلام) متمتع وكون الزيارة التي ذكرها طوافاً مندوباً)) وقد استبعده (قدس سره).

(ومنها) ما حكي عن الشهيد في الدروس واصفاً صحيح الخزاز ((بأنه متروك، مؤذناً بشذوذه ومخالفة الإجماع))(2).

(ومنها) ما يمكن أن نعرضه كوجه للجمع يجعل التعارض سالبة بانتفاء الموضوع بأن نحمل هذه الروايات على من أدى طواف الحج وصلاته وسعيه قبل الوقوفين، وهذا الحمل وإن لم يكن ظاهراً من النصوص إلا أن نفس جواب الإمام (عليه السلام) بل فعله في صحيحة الخزاز قرينة عليه بضميمة الروايات المعتبرة الأخرى الدالة على عدم حلية الطيب إلا بعد زيارة البيت.

ولا يوجد في الروايات ما ينافي هذا الاحتمال إلا تصريح صحيحة الخزاز بكون وضع الطيب قبل زيارة البيت، ويمكن رفع التنافي بحمل إخبار الخزاز عن كون الإمام (عليه السلام) متمتعاً على التوهم كما قربناه سابقاً، أو بالاحتمال الذي ذكره كاشف اللثام من كون الزيارة للطواف المندوب وقد استبعده (قدس سره) إلا أنه ورد هذا الاستعمال في الروايات كصحيحة العيص بن القاسم الآتية (صفحة 412).

ص: 408


1- المصدر السابق، باب 13، ح5.
2- رياض المسائل: 6/488.

وعلى أي حال فإنه بهذا الحمل تصلح هذه المجموعة من الروايات للاستدلال على جواز تقديم طواف الحج مطلقاً بدلالة الاقتضاء، وإلا كيف حلّ لهم كل شيء حتى الطيب بمجرد الحلق وهم متمتعون؟

وقد قالوا أن من قدم طواف الحج وسعيه كان له تحللان أحدهما عقيب الحلق أو التقصير والثاني بعد طواف النساء، ومن قدّم الطوافين كان له تحلل واحد عقيب الحلق أو التقصير بمنى(1).ونلفت النظر إلى أن الفرق بين هذا الوجه وما وجهنا به كلام الشيخ الطوسي (قدس سره) أن كلامه يحتمل إرادة من طاف وسعى قبل أن يحلق، ونحن حملناها هنا على من قدمهما قبل الوقوفين أصلاً.

إن قلتَ: على هذا الوجه لا يبقى مسوِّغ للسؤال لوضوح حلّية الطيب بعد الحلق وزيارة البيت وقد أدّاهما.

قلتُ: مسوغات السؤال كثيرة كتوهم وجوب الانتظار على من قدّم الطواف والسعي حتى انتهاء وقت الطواف لمن لم يقدّم فيأتي بعد الحلق، ونحوه من الأمور.

وعلى أي حال فإذا لم يتم الجمع العرفي واستحكم التعارض ولا مرجح في البين فالمرجع هو العمومات الدالة على حرمة الطيب على المحرم واستصحابها إلى حين تحقق الرافع لها بعد زيارة البيت.

(الثاني) نُسب إلى المشهور القول بعدم جواز تأخير طواف الحج عن اليوم الحادي عشر وإن كان التقديم إلى يوم النحر أفضل جمعاً بين صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة معاوية بن عمار وصحيحة منصور بن حازم وصحيحة الحلبي (الروايات 1، 4، 5، 6، 7 من المجموعة الأولى من الطائفة الثالثة).

لكن صريح صحيحة عبد الله بن سنان وموثقة إسحاق بن عمار (8، 9 من نفس المجموعة) إمكان التأخير إلى يوم الثالث عشر وأن التقديم استحبابي

ص: 409


1- راجع جواهر الكلام: 19/260.

وإرشادي خوف حصول عوارض، وهو مختار آخرين كما نُسب إلى المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع.

واختار جماعة إمكان التأخير إلى نهاية ذي الحجة لقوله تعالى: «الحَجُّ أَشهرٌ مَعلُمَاتٌ» (البقرة: 197) ولصحيح الحلبي وهشام بن سالم (رقم 2، 3 من نفس المجموعة).

أقول: الأقوى هو الجمع بين الروايات بجواز التأخير عن أيام التشريق بمقتضى الصحيحين الأخيرين. وحمل الروايات المتقدمة على الاستحباب والنصيحة مخافة الفوت.

ولكن التأخير المذكور لا يؤخذ على التراخي والامتداد إلى نهاية ذي الحجة لأن العرف يفهم من قوله (عليه السلام): (حتى تذهب أيام التشريق) الإتيان بالطواف بعد ذهاب أيام التشريق من دون فصل طويل كيوم أو يومين ليخفَّ الزحام أو لينتهي من مناسك منى في أيام التشريق ونحوها، أما الاستدلال بالآية فهو غير كافٍ للدلالة على امتداد الوقت إلى نهاية الشهر، لأن شهر ذي الحجة أخذ فيه ظرفاً للحج وليس غاية.

ويؤيد هذا الوجه ما في معتبرة يحيى الأزرق (رقم 4 من الطائفة الثانية) فقد اعتبر (عليه السلام) خوف الطمث قبل يوم النحر عذراً مع أنه ينتهي في أقصاه خلال عشرة أيام، ولو كان الوقت الاختياري ممتداً إلى أواخر ذي الحجة لأمرها الإمام (عليه السلام) بالانتظار حتى زوال العذر، فتأمل!.(الثالث) لو قدم المعذور الطواف خوف طرو العذر ثم بان عدمه بعد مناسك منى فهل عليه الإعادة أم لا؟

الصحيح هو الإجزاء لأن موضوع الرخصة هو الخوف وهو متحقق حين الأداء، وليس تحقق العذر واقعاً فالحكم بجواز التقديم للمعذورين واقعي وليس ظاهرياً حتى يقال بعدم الإجزاء عند انكشاف الخلاف ولو في الجملة.

ص: 410

وهو مختار صاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((الظاهر الإجزاء لمن قدمه لخوف العارض ثم بان عدم حصوله لقاعدة الإجزاء))(1).

لكنهم لم يفصّلوا فهذا الإجزاء في ما كان موضوعه خوف العذر في طواف الحج، أما إذا كان الموضوع خوف الفوات –كما في طواف النساء- فإن عليها الإعادة إذا ظهر إمكان الإتيان به بعد مناسك منى.

وعلينا أن نلتفت هنا إلى أن بعض موارد التقديم على نحو الرخصة وبعضها على نحو العزيمة، ومن موارد العزيمة ما لو علمت المرأة أو الخائف بعدم التمكن من الإتيان بالطواف بعد مناسك منى، لأن التقديم مقدم على النيابة المتأخرة وليس هو مخيَّراً بينهما.

نعم إذا لم يكن له علم بعدم التمكن من الطواف بعد مناسك منى، ولم تنتظره القافلة جاز له الاستنابة.

(الرابع) السقف الزمني الملحوظ في العذر:-

وهنا يرد سؤال وهو عن تحديد الوقت الذي يتحقق العذر بعدم إمكان الإتيان بالطواف فيه؟ فمثلاً إذا كانت المرأة لا تطهر من الحيض يوم الحادي عشر أو خلال أيام التشريق، وكذا الخائف إذا كان سبب خوفه يزول يوم الحادي عشر أو نهاية أيام التشريق فهل يرخَّص لمثلها بالتقديم؟

نقول في الجواب أنه يُبنى على المختار في الفرع الثاني المتقدم، فمن اختار كون زمن الطواف يوم الحادي عشر اعتبر العذر متحققاً بعدم إمكان أدائه في ذلك اليوم وهكذا الباقي.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لم أر من تعرض لذلك سوى شيخنا النائيني (رحمه الله) فإنه ذكر في مناسكه أن مناط التعذر هو كونه متعذراً إلى آخر أيام التشريق لا خصوص يوم النحر ولا مطلقاً فلو علم بالتمكن من الطواف في أواخر ذي الحجة وبعد أيام التشريق يجوز التقديم فلا خصوصية

ص: 411


1- جواهر الكلام: 19/394.

ليوم النحر ولا إطلاق له إلى آ خر ذي الحجة فإذا علم بعدم التمكن من الطواف في أيام التشريق يجوز له تقديمه وإن علم بالتمكن من الطواف بعد أيام التشريق))(1).ثم علّق (قدس سره) بقوله: ((ولم يظهر لما ذكره وجه فإنه (عليه الرحمة) استشكل في امتداد وقت الطواف اختياراً إلى طول ذي الحجة وهنا ذكر بنحو الجزم أن مناط التعذر الموجب لجواز التقديم كونه متعذراً في أيام التشريق، مع أن ذلك يبتني على مسألة امتداد وقت الطواف اختياراً فإن قلنا بالامتداد إلى آخر ذي الحجة فتعذر وقوعه في آخر ذي الحجة يوجب جواز التقديم وإن قلنا بأن وقت الطواف آخر أيام التشريق فعدم تمكنه من الإتيان به في تلك الأيام يجوز التقديم فلا وجه للإشكال هناك أي في امتداد أصل وقت الطواف والجزم هنا بأن مناط التعذر الموجب لجواز التقديم تعذره في أيام التشريق.

أقول: لا نرى تنافياً في كلامه (قدس سره) فإن مقتضى استشكاله بامتداد الوقت اختياراً إلى نهاية ذي الحجة الأخذ بالقدر المتيقن والاحتياط الوجوبي بالإتيان به في أيام التشريق لعدم وجود توقيت آخر عندهم، فلذا جعله وقتاً لمعرفة العذر.

إن قلتَ: بناءً على المختار فإنه يوجد توقيت آخر، وهو بعد أيام التشريق بلا فصل طويل فالتعذر في أيام التشريق غير كافٍ لتنجّز الرخصة في التقديم.

أقول: لا يوجد مثل هذا التوقيت عندهم، ومع أن نص كلام الشيخ النائيني (قدس سره) ليس تحت يدي إلا أنه يمكن بيان وجه ندافع به عنه (قدس سره) بناءً على ما اخترناه من امتداد الوقت إلى ما بعد أيام التشريق من دون فصل معتد به عرفاً، وعليه فيثبت موضوع حكم الرخصة بالتقديم بضمّ الوجدان إلى الأصل، فإن التعذر إلى آخر أيام التشريق ثابت بالوجدان بحسب الفرض وفيما بعده بالأصل وهو استصحاب التعذّر، أو أصالة عدم التمكن

ص: 412


1- المعتمد في شرح مناسك الحج: 29/351-352.

ونحوها، فيتحقق العذر ويجوز له التقديم مع مراعاة ما قلناه من التفصيل في الإجزاء وعدمه.

ثم قال (قدس سره): ((واحتمل بعضهم أن الوجه لما ذكره هنا ما يستفاد من رواية يحيى الأزرق المتقدمة لأن خبر الأزرق جوز التقديم لخائفة الحيض قبل يوم النحر، فإذا كان حيضها ثلاثة أيام يصادف أيام حيضها أيام التشريق فيعلم أن العبرة بخوف فوت الطواف في أيام التشريق)).

أقول: نحتمل أن هذا القائل أراد من الاستدلال برواية الأزرق نفي إمكان تأخير الطواف إلى نهاية ذي الحجة لأن الطمث لا يستمر أكثر من عشرة أيام فتوجد سعة للإتيان به بعد أيام التشريق، ولم يتحدث السائل عن عذر آخر كرحيل القافلة ونحوه، وليس مقصود المستدل إثبات لزوم الإتيان بالطواف في أيام التشريق وكفاية العذر خلالها لجواز التقديم.

وفي ضوء هذا يعلم النظر في جوابه (قدس سره) على التقريب بقوله: ((وفيه: أنه لا دلالة فيها على ما ذكر بوجه فإن المراد بقوله: وخافت الطمث قبل يوم النحر ليس المراد به حدوث الحيض من يوم النحر ليصادف حيضها أيام التشريق بل المراد أنها حائض في يوم النحر ولو بسبق حيضها قبل يوم النحر بيوم أو يومين فالمقصود أن المرأة حائض يوم النحر، وإنما قيد بيوم النحر لأنها لو لم تكن حائضاً يوم النحر لكانت متمكنة من الطواف يوم النحر وليس لها الطواف قبل ذلك. ويؤكد ماذكرنا جواب الإمام (عليه السلام): (إذا خافت أن تضطر إلى ذلك فعلت) إذ يعلم من ذلك أن الموضوع لجوز التقديم هو الاضطرار.

وبالجملة: لا شاهد في الرواية أن ابتداء حيضها من يوم النحر ليصادف حيضها أيام التشريق بل الظاهر منها كون المرأة حائضاً يوم النحر ولو يسبق حيضها. فالمراد بعدم التمكن من الطواف عدم التمكن منه في مجموع الوقت ولو بعد أيام التشريق فلو علم بالتمكن من الطواف في أواخر ذي الحجة لا يجوز له التقديم. فالتحديد بأيام التشريق لا وجه له أصلاً)).

ص: 413

(الخامس) تقدم استحباب تقديم زيارة البيت إلى يوم النحر أو يوم الحادي عشر، وقد روي عن المعصومين (عليهم السلام) قولهم: (المقام بمنى أحبُّ إلي)، وبناءً عليه يفتي الفقهاء باستحباب المكث بمنى أيام التشريق وعدم الاكتفاء بالمكث بمقدار أداء واجباتها، فكيف يوفق بينهما؟

والجواب يعرف من مراجعة الروايات فإن استحباب المكث وعدم الخروج ليس بلحاظ زيارة البيت لأداء طواف الحج وما بعده، وإنما بلحاظ الأغراض الأخرى ومنها الطواف المستحب كصحيحة عيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الزيارة بعد زيارة الحج في أيام التشريق، فقال: لا)(1)

وخبر أبي بصير أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) (عن الرجل يأتي مكة أيام منى بعد فراغه من زيارة البيت فيطوف تطوعاً، فقال: المُقام بمنى أحب إلي).

(السادس) إنما يتحلل المحرم من الطيب بعد طواف الحج وركعتيه والسعي وليس بالطواف وحده كما هو صريح صحيحة معاوية بن عمار (الخامسة من المجموعة الثانية من الطائفة الثالثة) وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: (فإذا أتيت يوم النحر) إلى أن قال: (ثم طف بالبيت سبعة أشواط) إلى أن قال: (ثم اخرج إلى الصفا فاصعد عليه واصنع كما صنعت يوم دخلت مكة، ثم ائت المروة فاصعد عليها، وطف بينهما سبعة أشواط.. فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كل شيء أحرمت منه إلا النساء، ثم ارجع إلى البيت وطف به أسبوعاً آخر، ثم تصلي ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام) ثم قد أحللت من كل شيء وفرغت من حجك كله وكل شيء أحرمت منه)(2)،وصحيحة منصور بن حازم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل

ص: 414


1- الحديثان تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العود إلى منى، باب 2، ح6، 5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب زيارة البيت، باب 4، ح1.

رمى وحلق أيأكل شيئاً فيه صفرة؟ قال: لا حتىيطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قد حلّ له كل شيء إلا النساء حتى يطوف بالبيت طوافاً آخر، ثم قد حلّ له النساء)(1).

وقيل بكفاية الطواف وحده للتحلل ونقل السيد صاحب الرياض (قدس سره) عنهم استدلالهم بإطلاق النص(2)

ورواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله قال (عليه السلام): (إذا كنت متمتعاً فلا تقربَنَّ شيئاً فيه صفرة حتى تطوف بالبيت)(3)

والخبر المروي في بصائر الدرجات بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه (إذا أردت المتعة في الحج) إلى أن قال: (ثم أحرمت بين الركن والمقام بالحج، فلا تزال محرماً حتى تقف بالمواقف، ثم ترمي الجمرات، وتذبح وتغتسل، ثم تزور البيت، فإذا أنت فعلت ذلك أحللت)(4).

وفيه: بغضّ النظر عن المناقشة في السند خصوصاً الثاني: إمكان حمل عنوان الطواف فيها على ما يعم صلاة الطواف والسعي وجعل الطواف عنواناً لها جميعاً باعتبار التلازم بينها وهو استعمال معروف مضافاً إلى أن رواية منصور قد رويت بنفس سند صحيحته المتقدمة فتشرح الأولى الثانية بما ذكرناه، وعلى هذا المعنى يحمل الإطلاق المذكور.

(السابع) لو قدّم طواف الحج وصلاته وسعيه على الوقوفين فهل يحل له الطيب من حين إتمامها أم بعد إكمال مناسك منى؟ وكذا حلية النساء بعد الإتيان بطواف النساء ولو قدّمه قبل الوقوفين؟.

الصحيح عدم الحلية إلا بعد إتمام أعمال يوم النحر؛ لأن ما دلّ على حلية الطيب بعد طواف الحج وسعيه لوحظ فيه موقعه الطبيعي من المناسك

ص: 415


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الحلق والتقصير، باب 13، ح2.
2- رياض المسائل: 6/489، ولعله (قدس سره) أراد به ما ذكره الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك وسيأتي في الفرع التالي.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 18، ح12.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 2، ح30.

كصحيحة معاوية بن عمار (رقم 5 من المجموعة الثانية في الطائفة الثالثة) وما معها وصحيحة منصور بن حازم المتقدمة ورواية بصائر الدرجات المتقدمة وغيرها.

ولو حصل الشك فإن مقتضى الأصل استصحاب الحرمة على المحرم حتى يتم مناسك يوم النحر.

لكن الشهيد الثاني (قدس سره) استوجه الحل حتى لو قدمهما قال (قدس سره): ((أما لو قدمهما –أي الطواف والسعي- كالمفرد والقارن مطلقاً، والمتمتع معالاضطرار ففي حله من حين فعلهما وجهان، أجودهما ذلك عملاً بإطلاق النصوص))(1).

أقول: تقدم أن الإطلاق المدعى ظاهر في المتأخر مع صريح بعض النصوص فيه، والإشكال على الشهيد الثاني (قدس سره) أوضح من غيره؛ لأنه التزم بأن المحرم إذا طاف وسعى أحل من إحرامه –كما سيأتي في الفرع التالي- إلا أن يلبي، فالمفروض بهذا الذي قدّم طواف الحج أن يلبي ليعقد إحرامه للحج فكيف يحل له الطيب وقد أحرم مجدداً؟.

(الثامن) دلت بعض الروايات كموثقة زرارة قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحلَّ، أحبَّ أو كره)(2)

ومرسلة يونس بن يعقوب عمن أخبره عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (ما طاف بين هذين الحجرين الصفا والمروة أحد إلا أحل إلا سائق الهدي) وخبر الفضل بن شاذان في العلل وعيون الأخبار عن الرضا (عليه السلام) وفيه (وأن لا يكون الطواف بالبيت محظوراً لأن المحرم إذا طاف بالبيت أحلّ إلا لعلة، فلولا التمتع لم يكن للحاج أن يطوف لأنه إن طاف أحلّ وأفسد إحرامه ويخرج منه قبل أداء الحج)(3) الحديث.

ص: 416


1- مسالك الأفهام: 2/325.
2- والتي بعدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 5، ح5، 6.
3- المصدر، باب 2، ح27.

دلّت على أن من طاف بعد أن أحرم وأهلّ بالحج قبل الوقوفين سواء كان الطواف مستحباً أم واجباً فإن عليه تجديد التلبية عقب كل طواف وصلاته، والحكم وإن كان موجهاً في أكثر النصوص إلى المفرد وأحياناً القارن إلا أن بعضها مطلق –كالروايات المتقدمة- فقد يقال بأنه يشمل بحسب الظاهر المتمتع الذي قدّم طواف الحج وطواف النساء فيكون حكمه وجوب الإتيان بالتلبية وإلا فقد أحلّ من إحرامه.

قال الشيخ (قدس سره) في النهاية والمبسوط: ((القارن إذا دخل مكة وأراد الطواف تطوعاً فعل، إلا أنه كلما طاف بالبيت لبّى عند فراغه من الطواف ليعقد إحرامه بالتلبية، لأنه لو لم يفعل ذلك دخل في كونه مُحلاً وبطلت حجته وصارت عمرة)).

وقال (قدس سره) في موضع آخر منهما: ((من لبّى بالحج مفرداً، ودخل مكة وطاف وسعى جاز له أن يقصّر ويجعلها عمرة ما لم يلبِّ بعد الطواف، فإن لبّى بعده فليس له متعة وليمضِ في حجته))(1).

وقال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((ولو دخل القارن أو المفرد مكة وأراد الطواف جاز، لكن يجددان التلبية عند كل طواف لئلا يُحلاّ على قول، وقيلإنما يُحلّ المفرد دون السايق، والحق أنه لا يُحل إلا بالنية، لكن الأولى تجديد التلبية عقيب كل طواف))(2).

ومن تلك الروايات:-

1- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أريد الجوار فكيف أصنع؟ قال: إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة فاخرج إلى الجعرانة فأحرم منها بالحج، فقلت له: كيف أصنع إذا دخلت مكة أقيم إلى التروية لا أطوف بالبيت؟ قال: تقيم عشراً لا تأتي الكعبة، إن عشراً لكثير، إن البيت ليس بمهجور، ولكن إذا دخلت مكة

ص: 417


1- مختلف الشيعة: 4/61، 94.
2- شرائع الإسلام: 1/176.

فطُفْ بالبيت واسعَ بين الصفا والمروة، قلت له: أليس كل من طاف وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل؟ فقال: إنك تَعقِد بالتلبية، ثم قال: كلما طُفت طوافاً وصليت ركعتين فاعقد بالتلبية)(1).

2- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن المفرد للحج هل يطوف بالبيت بعد طواف الفريضة؟ قال: نعم ما شاء ويجدد التلبية بعد الركعتين، والقارن بتلك المنزلة يعقدان ما أحلا من الطواف بالتلبية).

3- موثقة زرارة المتقدمة.

4- صحيحة ابن أذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (وهؤلاء الذين يفردون الحج إذا قدموا مكة فطافوا بالبيت أحلوا، وإذا لبّوا أحرموا، فلا يزال يحل ويعقد حتى يخرج إلى منى بلا حج ولا عمرة)(2).

ومثلها ذيل صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه (ما يفعله الناس اليوم يفردون الحج، فإذا قدموا مكة وطافوا بالبيت أحلّوا، وإذا لبّوا أحرموا، فلا يزال يُحِلّ ويعقد حتى يخرج إلى منى بلا حج ولا عمرة)(3).

وغيرها من الروايات الآتية.

وهل أن الحكم تكليفي فحسب لظاهر قوله (عليه السلام) في الرواية الثانية: (ويجدد التلبية)، أم أنه وضعي بحيث أنه لو لم يلبّ فقد أحل من إحرامه كما هو ظاهر جملة من الروايات؟

في المسألة أقوال، بل عدّها المحقق النراقي (قدس سره) وجوهاً، هي:-

1- ((حصول التحلل بالطواف للمفرد والقارن، حكي عن المبسوط والنهاية والخلاف، وهو مختار الشهيدين في اللمعتين والمسالك والمحقق الثاني

ص: 418


1- الرواية والتي تليها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 16، ح1، 2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 3، ح 18.
3- المصدر، باب 4، ح 23.

للصحيحتين المتقدمتين، وموثقة زرارة (تقدمت في الصفحة السابقة)، والمروي في العلل، وفيه: (المحرم إذا طاف بالبيت أحل إلا لعلة)(1)

قال الشهيد (قدس سره) في المسالك: ((إن الفتوى به مشهورة، ودليله ظاهر والمعارض منتفٍ)).

2- حصوله للمفرد خاصة دون القارن، حكي عن الشيخ في التهذيب، واستظهره في الذخيرة، وقوّاه بعض مشايخنا المعاصرين. للأخبار المصرحة بأن السائق لا يحل ما لم يبلغ الهدي محله(2)،وخصوص صحيحتي زرارة وابن عمار، ومرسلة يونس بن يعقوب المتقدمة، وموثقة زرارة.

3- عكس الثاني، حكي في التنقيح عن المفيد والسيد، ولكن كلامهما لا يدل عليه، ومستنده غير واضح كما صرح به غير واحد.

ص: 419


1- المصدر، باب 2، ح27.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 5، والأخبار المشار إليها صحيحة معاوية بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل لبّى بالحج مُفرداً فقدم مكة وطاف بالبيت، وصلى الركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام)، وسعى بين الصفا والمروة، قال: فليُحلّ وليجعلها متعة إلا أن يكون ساق الهدي) ح4. وصحيحة زرارة قال: (جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) وهو خلف المقام فقال: إني قرنت بين حجة وعمرة، فقال له: هل طفت بالبيت؟ فقال: نعم، فقال: هل سُقت الهدي؟ قال: لا، قال: فأخذ أبو جعفر (عليه السلام) بشعره ثم قال: أحللت والله) ح7. وصحيحته الأخرى (ربما قصد بها صحيحة عبد الله بن زرارة قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اقرأ مني على والدك السلام، وقل: .. إلى قوله (عليه السلام): وإنما أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على إحرامه للسوق الذي ساق معه، فإن السائق قارن، والقارن لا يحل حتى يبلغ الهدي محله) ح11. أما موثقة زرارة فهي الحديث 5 في الباب قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحل، أحب أو كره).

4- عدم حصول الإحلال مطلقاً إلا بالنية، وإن كان الأولى تجديد التلبية، حكي عن الحلي والفاضل وولده))(1).

أقول: يظهر مما سبق اضطراب الأقوال في المسألة واعتبرها صاحب الجواهر (قدس سره) ((مشوشة غاية التشويش))(2)

ولسنا بصدد البحث في هذه المسألة تفصيلاً؛ لأنها فرع هنا ومحل كلامنا في المتمتع وإمكان شمول الحكم له.

والذي نفهمه من هذه الروايات أنها جاءت تعريضاً بمن لا يؤمنون بمتعة الحج، مع أنهم إذا جاؤوا طافوا بالبيت وسعوا فإن عمرة التمتع قد حصلت منهم وليس عليهم إلا أن يقصّروا فيحلّوا من إحرامهم، ثم يعقدوا إحراماً جديداً للحج ولا يخفى لسان التعريض في بعض الروايات كقوله (عليه السلام) في موثقة زرارة: (أحلّ، أحبّ أو كره) وفعله (عليه السلام) في صحيحة زرارة حيث أخذ أبو جعفر (عليه السلام)بشعره ثم قال: أحللت والله) الكاشف عن غضب الإمام (عليه السلام) من عدم رجوعهم إلى طريق الحق وهم أهل البيت (عليهم السلام)، وهم قد رووا ذلك في كتبهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا أهلّ الرجل ثم قدم مكة وطاف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد أحل وهي عمرة)(3)

وهو ما أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) به أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي معهم من أصحابه.

قال ابن قدامة: ((ومن كان مفرداً أو قارناً أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة إلا أن يكون معه هدي فيكون على إحرامه. أما إذا كان معه هدي فليس له أن يُحلَّ من إحرام الحج ويجعلها عمرة بغير خلاف نعلمه. وقد روى ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم مكة قال للناس: (من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه

ص: 420


1- مستند الشيعة: 13/106-108.
2- جواهر الكلام: 18/70.
3- سنن البيهقي: 4/356 مع اختلاف في اللفظ.

ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصّر وليحلل ثم ليهلّ بالحج وليهد) متفق عليه)).

وقال: ((وكان ابن عباس يرى أن من طاف بالبيت وسعى فقد حل وإن لم ينوِ، وبما ذكرناه قال الحسن ومجاهد وداود.

وأكثر أهل العلم على أنه لا يجوز له ذلك لأن الحج أحد النسكين)) ثم قال: ((ولنا أنه قد صحَّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا وقرنوا أن يحلّوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي وثبت ذلك في أحاديث كثيرة متفق عليهن بحيث يقرب من التواتر والقطع))(1)

ثم ذكر احتجاج أحمد بن حنبل على من خالفه وتسخيفه لعقولهم بمخالفتهم لأحاديث جياد كثيرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

أما الإحلال والعدول فلا يحصل تلقائياً لمجرد الطواف خصوصاً المندوب وإنما يكون بحاجة إلى النية ولا يتحقق إلا بالتقصير، ويمكن استظهار ذلك من عدة روايات كصحيحة أبي بصير قال: (قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل يفرد الحج فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يبدو له أن يجعلها عمرة، فقال: إن كان لبّى بعدما سعى قبل أن يقصر فلا متعة له)(2)

وصحيحة معاوية بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل لبى بالحج مفرداً فقدم مكة وطاف بالبيت وصلى ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام) وسعى بين الصفا والمروة قال: فليحلّ وليجعلها متعة إلا أن يكون ساق الهدي) وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سألته عن رجل أفرد الحج فلما دخل مكة طاف بالبيت ثم أتى أصحابه وهميقصرون فقصّر معهم ثم ذكر بعد ما قصّر أنه مفرد، قال: ليس عليه شيء إذا صلى فليجدد التلبية)(3).

ص: 421


1- المغني لابن قدامة: 3/421-422.
2- الرواية والتي تليها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 5، ح9، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب التقصير، باب 11، ح1.

وعلى هذا فالمسألة تخص المفرد دون القارن لأنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله كما في بعض الروايات السابقة، وما ورد في بعضها –كذيل صحيحة معاوية بن عمار (صفحة 416)- من لفظ القارن يمكن حمله على من قرن بين حج وعمرة كما في صحيحة زرارة قال: (جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) وهو خلف المقام فقال: إني قرنت بين حجة وعمرة، فقال له: هل طفت بالبيت؟ فقال: نعم، فقال: هل سُقت الهدي؟ قال: لا، قال: فأخذ أبو جعفر (عليه السلام) بشعره ثم قال: أحللت والله)(1).

وهو المعنى المعروف عند العامة للقران ومستعمل عندنا، قال الشيخ (قدس سره) في الخلاف: ((وقال جميع الفقهاء: إن القارن هو من قرن بين الحج والعمرة في إحرامه فيُدخل أفعال العمرة في أفعال الحج)) وقال (قدس سره): ((إذا قرن بين الحج والعمرة في إحرامه لم ينعقد إحرامه إلا بالحج))(2).

أما المتمتع فهو خارج تخصصاً لأنه يأتي بعمرة التمتع عند دخوله مكة، نعم الأحوط له تجديد التلبية إذا قدَّم الطواف والسعي في موارد الرخصة.

ولذا ورد في أكثر من رواية نفي أي تبعة على المحرم للحج إذا طاف كما في معتبرة إسحاق بن عمار عن الإمام الكاظم (عليه السلام) (الثالثة من الطائفة الثانية) وفيها (وسألته عن الرجل يحرم بالحج من مكة ثم يرى البيت خالياً فيطوف به قبل أن يخرج، عليه شيء؟ فقال: لا) وخبر عبد الحميد بن سعيد عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) (الثامنة من الطائفة الأولى) قال: (سألته عن رجل أحرم يوم التروية من عند المقام بالحج، ثم طاف بالبيت بعد إحرامه وهو لا يرى أن ذلك لا ينبغي أينقض طوافه بالبيت إحرامه؟ فقال: لا، ولكن يمضى على إحرامه).

هذا وقد حكي عن جمع من الأصحاب –منهم الشهيد الثاني (قدس سره)- القول بوجوب التلبية على المتمتع إذا طاف وإلا أحلّ من إحرامه،

ص: 422


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 5، ح7.
2- الخلاف: 2/264 المسألتان (29) و(30).

وتردد السيد صاحب المدارك (قدس سره) في شمول الحكم للمتمتع ومقتضاه لزوم الاحتياط، قال (قدس سره): ((ذكر جمع من الأصحاب أن المتمتع لو قدّم طوافه للضرورة وجب عليه التلبية(1)،وكذا لو طاف ندباً قبل الوقوف إن سوغنا له ذلك كما هو الظاهر ويدل عليه إطلاق قوله (عليه السلام) في رواية زرارة: (من طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة أحلأحب أو كره) لكنها قاصرة من حيث السند، والمسألة محل تردد وطريق الاحتياط واضح))(2).

أقول: قد يقال بأن مراده الوجوب التكليفي لا الوضعي، لكن استدلاله بالرواية صريح في الثاني وأنه يحل لو لم يلبِّ. وعلى أي حال فالصحيح في الجواب ما ذكرناه، أما المناقشة في السند فهي غير تامة لأن هذه الرواية معتبرة كما قدمنا، مضافاً إلى أنه يمكن التخلص منها بالتعويل على روايات أخر مما تقدم، وإنما قال (قدس سره) ذلك لأنه ذكر هذه وروايتين أخريين مختصتين بالمفرد والقارن.

(التاسع) هل أن الرخصة في التقديم مختصة بالطواف فقط أم أنها تشمل السعي أيضاً؟

صرّحت جملة من النصوص بشمول الرخصة للسعي كصحيحة ابن بكير وجميل وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وصحيحة علي بن يقطين وصحيحة زرارة (رقم 1، 2، 3، 7 من الطائفة الأولى).

لكن السيد الخوئي (قدس سره) استشكل في ذلك فأوجب الاحتياط بالإتيان بالسعي مرتين، قال (قدس سره): ((ظاهر المشهور جواز تقديمهما –أي الطواف والسعي- معاً للمريض والعاجز.

ولا يخفى أن ما ذكروه إنما يتم بناءً على تقييد الأخبار المجوِّزة المطلقة بصورة العجز وحملها عليها، لأن تلك الأخبار المجوِّزة جوزت تقديمهما معاً

ص: 423


1- أقول: ممن قال بذلك الشهيد الثاني (قدس سره) في مسالك الأفهام: 2/205.
2- مدارك الأحكام: 7/203.

على الوقوفين، فإذا حملناها على صورة العجز من باب حمل المطلق على المقيد فالنتيجة جواز تقديمهما في صورة العذر.

ولكن قد عرفت أن تلك الأخبار المطلقة المجوّزة مطروحة لمخالفتها للسنة، فالمتبع حينئذ الأخبار المجوزة لذي الأعذار والمذكور فيها خصوص الطّواف، فاللازم الاقتصار على جواز تقديم الطواف دون السعي فيقدم الطّواف، وأمّا السعي فيؤتى به في وقته لعدم الزحام فيه، بخلاف الطّواف فإن فيه الزحام للإتيان به تطوعاً أيضاً بخلاف السعي فإنه لا تطوع فيه والقادم لا يسعى إلاّ مرة واحدة، وأمّا الطّواف فيستحب الإتيان به مكرراً والإكثار فيه. على أن السعي لا تعتبر فيه الطهارة ويمكن صدوره من الحائض بخلاف الطّواف الذي تعتبر فيه الطهارة.

وبالجملة فالحكم بجواز التقديم يختص بالطواف، ولكن الأحوط تقديم السعي أيضاً خروجاً عن مخالفة المشهور وإعادته في وقته))(1).

أقول: لا حاجة إلى هذا الاحتياط لدلالة النصوص على جواز تقديم السعي، وقد ناقشنا (صفحة 385) ما ذكره من وجه لطرح روايات الطائفة الأولى واعتمدناها، مضافاً إلى ما دل على جواز تقديم طواف النساء وهو لا يكون إلا بعد طواف الحج وسعيه بلا خلاف فلازمه تقديم السعي.أما الفرق الثبوتي الذي ذكره (قدس سره) بين الطواف والسعي، فلا أثر له بعد دلالة النصوص، مضافاً إلى أنه مختص بمن تخاف الحيض، أما الضعيف الذي يشق عليه الزحام، والخائف من العود إلى مكة ونحوهما فيتساويان فيه.

ص: 424


1- المعتمد في شرح العروة، المناسك: 29/350.

خاتمة

تبيّن من تفاصيل البحث إمكان تقديم طواف الحج وصلاته وسعيه قبل الخروج إلى عرفة لأي مسوّغ عقلائي، ومنه بالتأكيد تزايد عدد الحجيج حتى قارب أربعة ملايين في موسم 1431 ه_، فيستفاد من هذه الرخصة لتخفيف الزحام ودفع مشقته بتقديم الطواف.

ويوجد حل آخر لمن يتوقف عن الأخذ بهذه الرخصة لغير الصرورة بأن يجعل حجَّه إفرادياً؛ لأن وجوب التمتع على الآفاقي إنما هو في حجة الإسلام الواجبة، أما الحج المندوب فله الإتيان به بأي نحو وإن كان التمتع أفضل بحسب ما ورد في الروايات، فإذا جعل حجّه إفرادياً كان له تقديم الطواف والسعي اختياراً.

وقد كان الأئمة (عليهم السلام) –وهم سكان مدينة جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)- ربما جعلوا حجهم المندوب إفرادياً لأمر أو لآخر كما في صحيحة البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: (قلتُ له: جعلت فداك كيف تصنع بالحج؟ فقال: أما نحن فنخرج في وقت ضيق يذهب فيه الأيام فأفرد بالحج) الحديث وصحيحة ابن بزيغ عنه (عليه السلام) وفيها (أما نحن فإذا رأينا هلال ذي الحجة قبل أن نحرم فاتتنا المتعة)(1).

ورواية عبد الملك بن عمرو أنه (سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال: تمتعْ، فقُضي أنه أفرد الحج في ذلك العام أو بعده، فقلت: أصلحك الله سألتك فأمرتني بالتمتع وأراك قد أفردت الحج العام، فقال: أما والله إن الفضل لفي الذي أمرتك به، ولكني ضعيف فشقّ علي طوافان بين الصفا والمروة، فلذلك أفردت الحج).

ص: 425


1- الحديثان في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 21، ح14، 16.

ورواية جميل قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما دخلت قط إلا متمتعاً إلا في هذه السنة فإني والله ما أفرغُ من السعي حتى تتقلقل أضراسي، والذي صنعتم أفضل)(1).

ص: 426


1- الحديثان في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 4، ح10، 22.

البحث الثامن: الفاصل الزماني بين عمرتين

اشارة

ص: 427

ص: 428

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثامن(1):

الفاصل الزماني بين عمرتين (2)

الحج والعمرة واجبان مفروضان في العمر مرة واحدة، ويستحب تكرارهما والإدمان عليهما، ووردت في ذلك روايات عديدة تبين الآثار المباركة لهما، نذكر جملة منها تبركاً وتذكرة وللحاجة إليها في بعض المطالب الآتية بإذن الله تعالى:-

1- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من مات في طريق مكة ذاهباً أو جائياً أمِنَ من الفزع الأكبر يوم القيامة)(3).

2- المرسل في الكافي والتهذيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الحاج والمعتمر في ضمان الله، فإن مات متوجهاً غفر الله له ذنوبه وإن مات محرماً بعثه الله ملبياً، وإن مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين وإن مات منصرفاً غفر الله له جميع ذنوبه).

3- موثقة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): للحاج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما يقال له: قد غُفر لك ما مضى وما بقي، وإما يقال له: قد غُفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإما يقال له: قد حُفظت في أهلك وولدك وهي أخسّهن).

ص: 429


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 3/ ذ. ق./1432 الموافق 2/10/2011.
2- بحثنا المسألة باختصار في (صفحة 168) من هذا المجلد.
3- الأحاديث الأربعة الأُول تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 38، ح46، 15، 41، 43، بحسب ترتيبها.

4- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكيرُ خبَث الحديد).

5- رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة اللازم لهما في ضمان الله إن أبقاه أدّاه إلى عياله، وإن أماته أدخله الجنة) (1).

6- خبر خالد القلانسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال علي بن الحسين (عليه السلام): حجوا واعتمروا تصحّ أبدانكم، وتتسع أرزاقكم، وتكفون مئونات عيالاتكم، وقال: الحاج مغفور له وموجب له الجنة، ومستأنف له العمل، ومحفوظ في أهله وماله)(2).وموضوع بحثنا هو جواز إلحاق عمرة مفردة بعمرة أخرى بلا فصل، أو اشتراط مدة زمنية بينهما.

والجواز الذي نتحدث عنه هو الجواز الوضعي أي الصحة مقابل الحرمة التشريعية، إذ لم يقل أحد ممن اشترط الفصل الزماني بالحرمة الذاتية فيما لو أتى بعمرة أخرى بأقل منه إلا إذا كانت على نحو التشريع المحرَّم.

وقد اختلف العلماء (قدس الله أرواحهم) في ذلك، قال العلامة (قدس سره): ((قال السيد المرتضى: الذي يذهب إليه أصحابنا أن العمرة جائزة في سائر السنة، وقد روي أنه لا يكون بين العمرتين أقل من عشرة أيام، وروي أنها لا تجوز إلا في كل شهر مرة.

واستدل في (المسائل الناصرية) عليه بقوله (صلى الله عليه وآله): (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) ولم يفصّل (عليه السلام) بين أن يكون ذلك في سنة أو سنتين، أو شهر أو شهرين.

ص: 430


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج، باب 45، ح 2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج، باب 1، ح 7.

وقال الشيخ في (النهاية): يستحب أن يعتمر كل شهر إذا تمكن من ذلك. وقد روي أنه يجوز أن يعتمر في كل عشرة أيام، فمن عمل على ذلك لم يكن به بأس.

وفي المبسوط: (أقل ما يكون بين العمرتين) عشرة أيام.

وفي الخلاف: يجوز أن يعتمر في كل شهر، بل في كل عشرة أيام.

وقال ابن الجنيد: لا يكون بين العمرتين أقل من عشرة أيام.

وقال ابن أبي عقيل: لا يجوز عمرتان في عام واحد.

وقد تأول بعض الشيعة هذا الخبر على معنى الخصوص، فزعمت أنها في المتمتع خاصة، فأما غيره فله أن يعتمر في أيِّ الشهور شاء وكم شاء من العمرة.

فإن يكن ما تأولوه موجوداً في التوقيف عن السادة آل الرسول (عليهم السلام) فمأخوذ به، وإن كان غير ذلك من جهة الاجتهاد والظن فذلك مردود عليهم، وراجع في ذلك كله إلى ما قالته الأئمة (عليهم السلام).

وقال ابن البراج: يستحب أن يعتمر في كل شهر أو في كل عشرة أيام.

وقال أبو الصلاح: وكل منهم مرغب بعد تأدية الواجب عليه إلى الاعتمار في كل شهر مرة أو في كل سنة مرة.

وقال سلار: وأما العمرة فلا وقت لها مخصوص، وأفضل الأوقات لمفرديها رجب، وروي أنه لا يكون بين العمرتين أقل من عشرة أيام، وروي أنها لا تكون في كل شهر إلا مرة.

وقال ابن حمزة: العمرة إما مرتبطة بالحج (وهي) إما متقدمة، وهي عمرة التمتع، أو متأخرة وهي عمرة القران والإفراد. وغير المرتبطة إما واجبة بالنذر فيلزم الإتيان بها على ما نذر، والمندوب إليها يصح الإتيان بها في كل شهر، وروي في كل عشرة أيام.

وقال ابن إدريس: اختلف أصحابنا في أقل ما يكون بين العمرتين، فقال بعضهم: شهر، وقال بعضهم: يكون في كل شهر يقع عمرة، وقال بعضهم:

ص: 431

عشرة أيام، وقال بعضهم: لا أوقّت وقتاً ولا أجعل بينهما مدة، وتصح في كل يوم عمرة.وهذا القول يقوى في نفسي وبه أفتي، وإليه ذهب السيد المرتضى في (الناصريات).

وما روي في مقدار ما يكون بين العمرتين أخبار آحاد لا يوجب علماً ولا عملاً.

والأقرب أنه لا يكون بين العمرتين أقل من شهر))(1).

وفي ضوء ذلك فالأقوال في المسألة أربعة:-

1- عدم صحة أكثر من عمرة واحدة في السنة، حكاه العلامة (قدس سره) في المختلف عن العماني خاصة.

2- أن يفصل بين العمرتين شهر ((وهو أحد قولي الشيخ (قدس سره) وابن حمزة والحلبي وابن زهرة، لكنهما قالا: في كل شهر، أو في كل سنة مرة، وهو يحتمل التردد والتوقف في جوازها في كل شهر))(2)

وهو قول المحقق الحلي في المختصر النافع والعلامة في المختلف، ورجّحه صاحب الحدائق (قدس سره).

3- أن لا يقل الفصل بينهما عن عشرة أيام، ((والقائل جماعة كالشيخ في قوله الثاني، بل جميع كتبه كما قيل والمهذب والجامع والإصباح، وهو خيرة الفاضل في التحرير والتذكرة والمنتهى والإرشاد)).

4- إمكان الإتيان بها في أي وقت من دون التقيد بفاصل زماني بينهما، ولا بأس بالاعتمار ((في كل يوم مرة فصاعداً، حكي ذلك عن السيد والحلي والديلمي، وكثير من المتأخرين، وعن الناصريات نسبته إلى أصحابنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه))(3) وجعله في الشرائع أشبه وفي

ص: 432


1- مختلف الشيعة: 4/367-369، المسألة (314).
2- رياض المسائل: 7/207.
3- مستند الشيعة: 11/162.

كشف اللثام أقرب(1)،ووصفه المحقق النراقي (قدس سره) بأنه ((في غاية الجودة والمتانة)) واستقربه صاحب الجواهر (قدس سره)، وقال صاحب العروة (قدس سره): ((والأقوى عدم اعتبار الفصل، فيجوز إتيانها كل يوم)).

وتردد البعض بين أكثر من قول –كالحلبي وابن زهرة- وتوقف بعض آخر، قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): ((إن إثبات المشروعية يتوقف على ورود الأمر بذلك خصوصاً أو عموماً، ولم أقف في ذلك على نص يُعتدّ به، والمسألة محل تردد، وإن كان اعتبار الشهر لا يخلو من قوة))(2)

وقال السيد صاحب الرياض (قدسسره): ((إن المسألة محل إشكال، لعدم وضوح دليل على شيء مما فيها من الأقوال، فلا يترك فيها الاحتياط على كل حال))(3).

أقوال علماء العامة

قال ابن قدامة: ((ولا بأس أن يعتمر في السنة مراراً، روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي(4)،وكره العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين ومالك وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله.

ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما متفق عليه.

ص: 433


1- كشف اللثام: 6/299.
2- مدارك الأحكام: 8/466.
3- رياض المسائل: 7/211.
4- وبه قال أبو حنيفة، راجع الخلاف: 2/260، الفقه الإسلامي وأدلته: 3/2072.

وقال علي رضي الله عنه: في كل شهر مرة وكان أنس إذا حمم(1)

رأسه خرج فاعتمر رواهما الشافعي في مسنده.

وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره، وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين.

فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام، وقال في رواية الأثرم: إن شاء اعتمر في كل شهر، وقال بعض أصحابنا: يستحب الإكثار من الاعتمار.

وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما وإنما نقل عنهم إنكار ذلك والحق في اتباعهم، قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون قيل له: فلم يعذبون قال: لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء.وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر في أربع سفرات، لم يزد في كل سفرة على عمرة واحدة ولا أحد ممن معه ولم يبلغنا أن أحداً منهم جمع بين عمرتين في سفرة واحد معه إلا عائشة حين حاضت فأعمرها من التنعيم لأنها اعتقدت أن عمرة قرانها بطلت ولهذا قالت: يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع أنا بحجة فأعمرها لذلك، ولو كان في هذا فضل لما اتفقوا على تركه))(2).

ص: 434


1- قال ابن الأثير في النهاية: ((حمم أي اسودّ، من الحُمَمة: الفحمة، ومنه حديث أنس (كان إذا حمَّم رأسُه بمكة خرج فاعتمر) أي اسوَدّ بعد الحلق بنبات شعره، والمعنى أنه كان لا يؤخر العمرة إلى المحرم، وإنما كان يخرج إلى الميقات ويعتمر في ذي الحجة)). إه_.
2- المغني: 3/178-179.

الاستدلال على الأقوال في المسألة

منشأ اختلاف الأقوال تنوع الروايات الواردة في المسألة كما يلي:

(القول الأول) لا تصح العمرة إلا مرة واحدة في السنة.

وحكي القول عن العماني خاصة لكن عبارته المتقدمة غير صريحة في ذلك، ودليله: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العمرة في كل سنة مرة)(1)

وصحيحة حريز (لا يكون عمرتان في سنة) وصحيحة زرارة بن أعين مثلها.

أقول: ضُعِّف هذا الاستدلال بإعراض الكل عدا العماني عن العمل بمضمونها مع معارضتها بالأخبار الصريحة الكثيرة الآتية، ومخالفتها للسيرة الثابتة عن الأئمة (عليهم السلام) من الاعتمار في رجب والإتيان بعمرة التمتع مع الحج فيعتمرون مرتين في السنة ورواية علي بن أبي حمزة الآتية (صفحة 446)، وفيها أن الإمام الكاظم (عليه السلام) اعتمر ست عمر في سنة واحدة.

فتحمل على ما لا ينافي تلك الروايات كحملها على عمرة التمتع باعتبارها لا تكون إلا مرة واحدة في السنة لارتباطها بالحج، ويمكن حمل صحيح الحلبي على تأكيد استحباب الاعتمار في كل سنة، وصحيحتي حريز وزرارة على أن الإمام (عليه السلام) لا يعتمر في سنة إلا مرة(2).

لذا قال العلامة (قدس سره): ((إنه محمول على عمرة التمتع، جمعاً بين الأدلة، واتباعاً للمشهور بين الأصحاب، وتخلصاً من تناقض الأخبار))(3)

وسبقه إلى ذلك الشيخ (قدس سره) في كتابي الأخبار وغيره.

ص: 435


1- الروايات الثلاث في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 6، ح6، 7.
2- قاله في كشف اللثام: 6/297.
3- مختلف الشيعة: 4/370.

وقال صاحب الرياض (قدس سره): ((وربما حملاً على التقية، لأنه رأي بعض العامة، أو على أن المراد فيهما أنني لا أعتمر في كل سنة إلا مرة))(1).وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل يمكن القطع بفساده ولو للسيرة والعسر والحرج، ضرورة شدة احتياج الدخول إلى مكة والخروج منها لجملة من الناس في السنة مراراً متعددة، بل وفي الشهر الواحد))(2).

أقول: لا يخلو ذيل كلامه (قدس سره) من إشكال لأن تكرر الدخول في الشهر الذي أحرم فيه لا يحتاج إلى إحرام جديد فيدخل مُحلاً ولا يوجد عسر.

(القول الثاني) لا تصح العمرة إلا في الشهر مرة.

واستدل عليه بعدة روايات:-

1- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في كتاب علي (عليه السلام) في كل شهر عمرة)(3).

2- موثقة يونس بن يعقوب وصحيحته (ح 2 في هذا الباب) قال: (سمعت أبا عبد الله أن علياً (عليه السلام) كان يقول: في كل شهر عمرة).

3- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان علي (عليه السلام) يقول: لكل شهر عمرة).

4- موثقة إسحاق بن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة).

5- صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: (لكل شهر عمرة).

ص: 436


1- رياض المسائل: 7/208.
2- جواهر الكلام: 20/465.
3- الروايات الخمس تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 6، ح1، 2، 4، 5، 8، 11 بنفس ترتيبها.

6- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتمتع يجيء فيقضي متعته ثم تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة وإلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن، قال: يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه؛ لأن لكل شهر عمرة، وهو مرتهن بالحج)(1).

7- صحيحة معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ونحن بالمدينة: إني اعتمرت في رجب وأنا أريد الحج فأسوق الهدي أو أفرد الحج أو أتمتع؟ قال: في كلٍّ فضل، وكلٌّ حسن، قلت: فأي ذلك أفضل؟ فقال: إن علياً (عليه السلام) كان يقول: لكل شهر عمرة، تمتع فهو والله أفضل)(2)

الحديث.

أقول: هذا على نسخة التهذيب والاستبصار، أما على نسخة الكافي فلم يرد فيه محل الشاهد، ولكنه لا يضر؛ لأن الكليني رواها عن ابن أبي عمير عن معاوية، ورواها الشيخ (قدس سره) عن صفوان بن يحيى وحماد بن عيسى وابن المغيرة مضافاً إلى ابن أبي عمير كلهم عن معاوية فتكفينا الطرق الأخرى.

أقول: يمكن المناقشة في دلالة الروايات على المطلوب من عدة جهات:-

1- لا ظهور في الروايات على التحديد والحصر واشتراط المدة، فيمكن أن تُفهم على عدة وجوه لا تنافي الإتيان بها في أقل من شهر، وتكون هذه الاحتمالات موجبة لعدم تعيّن ظهور الفقرة في مطلوبهم، وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال، ومن تلك الوجوه المحتملة:-

أ- تأكد استحباب العمرة في كل شهر بحيث يكره تركها هذه المدة ((ويقتضيه الارتكاز العرفي في باب الطاعات والخيرات فإنها كلما طال العهد بها اشتد تأكدها))(3).

ص: 437


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 22، ح8.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 4، ح18.
3- مستمسك العروة الوثقى: 11/146.

ب- أن تُفهم هذه الفقرة على أن من العبادات المسنونة المرسومة لكل شهر هي العمرة فتنضم بذلك إلى صلاة أول الشهر وصوم ثلاثة أيام وختمة قرآن بحسب ما ورد في الروايات، كما أن للأيام برامج تتضمن أدعية وصلوات وكذا الأسبوع، وهذا ما يحتاج إلى بيان في فرصة أخرى بإذن الله تعالى.

فمن أراد أن يعتمر عمرتين في سفرة واحدة فالأفضل له أن يأتي بواحدة منهما في كل شهر والأخرى في الشهر الآخر ليحصل على أجر الإتيان بهذه السنّة الشريفة، لا أن يأتي بهما في شهر واحد فيحصل على أجر السُنَّة في شهر واحد. كمن يريد أن يصوم ستة أيام فإن الأفضل له أن يصوم ثلاثة أيام في كل شهر امتثالاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس صومها في شهر واحد.

وفي ضوء هذا نفهم حرص الإمام (عليه السلام) على السفر لإتيان العمرة في أواخر رجب ليحصل على عمرة رجبية وأخرى شعبانية بسفرة واحدة كما في صحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (في حديث) قال (عليه السلام): (إني كنت أخرج ليلة أو ليلتين يبقيان من رجب فتقول أم فروة: أي أبه: إن عمرتنا شعبانية؟ فأقول لها: أي بنية إنها في ما أهللت، وليس (وليست) في ما أحللت)(1).

ومن الشواهد على عدم استفادة اشتراط المدة للفصل بين عمرتين.

رواية علي بن أبي حمزةالآتية، فإنه سمع هذه الفقرة من الإمام (عليه السلام) ولم يفهم منها الحصر والتحديد، لذا سأل

ص: 438


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 3، ح10.

عن إمكان الإتيان بها في أقل من ذلك وأجابه (عليه السلام) بالجواز.

بل إن الإمام (عليه السلام) نفسه تدخّل لرفع توهم عدم مشروعية أكثر من عمرة في الشهر الواحد في الروايات كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الآتية (صفحة 444) فإن منشأ السؤال توهم عدم إمكان الإتيان بعمرتين بشهر واحد فأجابه الإمام (عليه السلام) بإمكان ذلك واستحسانه.

1- إنها حتى لو كانت للحصر، فإنه حصر إضافي لا إطلاق له فتدلّ على إمكان الاعتمار وجوازه هذه المدة، ويمكن أن تكون هذه الإضافة بلحاظ أكثر من معنى:-

أ- في مقابل القول بأنها لا تشرع في السنة إلا مرة وقد ذهب إليه بعض علماء العامة، فالإمام ينقض عليه بإمكانها في كل شهر فضلاً عما هو أقل، ولعل في تضمّن أكثر روايات هذا القول نقله عن علي (عليه السلام) إشعاراً بذلك لإلقاء الحجة عليهم باعتبارهم يروون في كتبهم ذلك كما تقدم. ويشهد لذلك أيضاً وقوعها في سياق صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (صفحة 435، رقم 7) فإن منشأ السؤال هو ما اعتقده السائل من عدم صحة أكثر من عمرة في السنة إما لوجود القائل به عند العامة أو للروايات المعتبرة الثلاث المتقدمة من أجلاء الأصحاب، فيسأل عن إمكان الإتيان بحج التمتع لأن فيه عمرة تمتع، وأمثالها عديدة(1) وكأن السائل يظن أن عليه حج الإفراد لأنه قد أتى بما عليه من العمرة.

ص: 439


1- منها صحيحة الحلبي قال: (سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال: إني اعتمرت في المحرم وقدمت الآن متمتعاً، فسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نعم ما صنعت إنا لا نعدل بكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا بعثنا ربنا (أو وردنا ربنا) قلنا: يا رب أخذنا بكتابك وسنة نبيّك، وقال الناس رأينا رأينا، صنع الله بنا وبهم ما شاء) (وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 3، ح16)، وعلّق صاحب الوافي في ذيلها فقال: ((بيان: وقدمت الآن متمتعاً يعني بعمرة أخرى وإنما ذكر اعتماره في المحرم لما قد سمعه من اشتراط مدة بين العمرتين إما شهراً أو عاماً ولم يعلم المدة بعينها، والترديد بين البعث والورود من الراوي)) (الوافي: ج12، باب 41: أصناف الحج والعمرة وأفضلها، ح15).

ب- في مقابل ما ذهب إليه بعض العامة من كراهتها في بعض الأوقات، قال في الشرح الكبير: ((فأما العمرة فكل الزمان ميقات لها ولا يكره الإحرام بها في يوم النحر وعرفة وأيام التشريق في أشهر الروايتين وعنه يكره وبه قال أبو حنيفة))(1)،والرواية منقولة عن عائشة وذكرها العلامة فيالتذكرة(2)،ويمكن أن يعمِّمَ أحد الكراهة إلى أوسع من ذلك باعتبارها لازم استحبابها المؤكد في رجب والعشر الأواخر من شهر رمضان.

وتُستشعر هذه الإضافة من موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة عن الإمام الصادق (عليه السلام) (السنة اثنا عشر شهراً، لكل شهر عمرة) أي أن العمرة ممكنة وجائزة في جميع أشهر السنة.

ومثلها في أداء هذا المعنى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن العمرة متى هي؟ قال: يعتمر في ما أحبَّ من الشهور)(3).

3- يمكن ادعاء أن الروايات غير ناظرة إلى المسألة محل البحث فضلاً عن استفادة المعنى الذي ذكروه، ونحتمل أن المراد من قوله (عليه السلام): (لكل شهر عمرة) اللازم- وهو الإحرام- وذكر فيها الملزوم –وهي العمرة- على نحو الكناية، فيكون معنى (لكل شهر عمرة) أي لكل شهر

ص: 440


1- جواهر الكلام: 20/464.
2- تذكرة الفقهاء: 8/435.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 6، ح10.

إحرام.

ويكون المعنى أن الإحرام مرة كافٍ للدخول والخروج والعودة إلى مكة على طول شهر الإحرام، فإذا خرج الشهر ودخل شهر جديد وأراد الدخول إلى مكة فلا بد من إحرام جديد، وربما يشهد لذلك وقوع هذه الفقرة في سياق هذا الحكم في موثقة إسحاق بن عمار (رقم 6).

ويقوى هذا الاحتمال بناءً على أن هذه الفقرة في الروايات أو بعضها مقتطعة من مثل هذه الموثقة وصحيحة معاوية بن عمار (رقم 7)، فلا بد من ملاحظتها في سياقها لمعرفة المراد منها.

4- النقض على هذا القول بما دلَّ(1)

على إمكان الإتيان بالعمرة المفردة وعمرة التمتع في شهر واحد وهما عمرتان، وإطلاق (لكل شهر عمرة) يقتضي عدم صحة الثانية(2).

إن قلتَ: إنهم قالوا: ((الظاهر عدم اعتبار الفصل بين العمرة المفردة وعمرة التمتّع ، فمن اعتمر عمرة مفردة جاز له الإتيان بعمرة التمتّع بعدها ولو كانت في نفس الشهر، وكذا يجوز له الإتيان بالعمرة المفردة بعد الفراغ من أعمال الحج، فإن الروايات المانعة عن إتيان العمرتين ناظرةإلى تكرار العمرة المفردة في شهر واحد، فإن قوله (عليه السلام): (يعتمر لكل شهر عمرة) في موثق إسحاق المتقدّم (مرّت: في صفحة 434، الرواية رقم 4) منصرف إلى العمرة المفردة ولا يشمل

ص: 441


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 7، 8، وسنورد صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله (صفحة 444).
2- لا يأتي النقض على جميع من ذهب إلى أن لكل شهر عمرة؛ لأن بعضهم يشترط أن لا تقع العمرة المفردة في الشهر الذي أدى فيه عمرة التمتع وبالعكس أيضاً، وإن كان يأتي عليهم إشكال عدم الأخذ بالإطلاق.

عمرة التمتّع، لأنّ عمرة التمتّع لا يجوز الإتيان بها إلاّ في أشهر الحج ولا تشرع إلاّ مرّة واحدة في السنة))(1).

قلتُ: الانصراف –لو سلمناه- لا يصلح للتقييد، وإن قوله (عليه السلام): (لكل شهر عمرة) ليس على نحو العموم الاستغراقي أي لزوم الإتيان بها في كل شهر حتى تخرج عمرة التمتع لعدم إمكان الإتيان بها في غير أشهر الحج، بل يُفهم منه الإمكان على نحو العموم البدلي أي إمكان الإتيان بعمرة في الجملة في كل شهر فيمكن أن تكون هذه العمرة عمرة تمتع أو عمرة مفردة، فيكون لقوله (عليه السلام): (لكل شهر عمرة) مصداقان في أشهر الحج، ومصداق واحد في بقية أشهر السنة، كما أن صحيحة معاوية بن عمار وموثقة إسحاق بن عمار المتقدمتين (صفحة 435) كالصريحتين في شمول العنوان للعمرتين.

فإطلاق قوله (عليه السلام): (لكل شهر عمرة) لا مقيِّد له ويكون نقضاً على من فهم منه الاشتراط وتحديد الفصل الزماني.

تتميم: قوّى العلامة هذا القول بشاهدين من مسألتين أخريين، قال (قدس سره): ((إن أصحابنا – رحمهم الله - نصّوا على أنّ المفسد للعمرة يجب عليه الكفارة وقضاؤها في الشهر الداخل، ولو كان كل وقت صالحاً للعمرة لما انتظر في القضاء الشهر الداخل.

وأيضاً حكموا على الخارج من مكة بعد الاعتمار بأنه إذا دخل مكة في ذلك الشهر اجتزأ بعمرته، ولو دخل في غيره وجب عليه عمرة أخرى ويتمتع بالأخيرة، وكل ذلك يدل على اعتبار الشهر بين العمرتين))(2).

واستجوده صاحب الحدائق(3)(قدس سره) واعتبرهما صاحب الجواهر (قدس سره) مؤيدين(4)،والسيد الخوئي (قدس سره) مؤكدين(5).

ص: 442


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/142.
2- مختلف الشيعة: 4/370.
3- الحدائق الناضرة: 16/323.
4- جواهر الكلام: 20/464.
5- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/141.

وتقريب الاستدلال بالشاهد الثاني أن علة عدم تكليفه بإحرام جديد للدخول في نفس الشهر؛ لأن الإحرام تتبعه عمرة للإحلال منه، والمفروض عدم صحة العمرة الثانية في نفس الشهر فسقط عنه وجوب الإحرام لعدم إمكان الإحلال منه.أقول: يشير (قدس سره) بالحكم الأول إلى ما في عدة روايات منها صحيحة مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يعتمر عمرة مفردة، ثم يطوف بالبيت طواف الفريضة، ثم يغشى أهله قبل أن يسعى بين الصفا والمروة، قال: أفسد عمرته وعليه بدنة وعليه أن يقيم بمكة حتى يخرج الشهر الذي اعتمر فيه، ثم يخرج إلى الوقت الذي وقّته رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهله فيحرم منه ويعتمر)(1).

ويشير بالحكم الثاني إلى موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة وصحيحة حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من دخل مكة متمتعاً في أشهر الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج، فإن عرضت له حاجة إلى عسفان أو إلى الطائف أو إلى ذات عرق خرج محرماً ودخل ملبياً بالحج، فلا يزال على إحرامه، فإن رجع إلى مكة رجع محرماً ولم يقرب البيت حتى يخرج مع الناس إلى منى على إحرامه وإن شاء وجهه ذلك إلى منى، قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثم رجع في إبان الحج في أشهر الحج يريد الحج فيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً، قلت: فأي الإحرامين والمتعتين متعته الأولى أو الأخيرة؟ قال: الأخيرة هي عمرته، وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته، قلت: فما فرق بين المفردة وبين عمرة المتعة إذا دخل في أشهر

ص: 443


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب كفارات الاستمتاع في الإحرام، باب 12، ح2.

الحج؟ قال أحرم بالعمرة (بالحج) وهو ينوي العمرة، ثم أحل منها ولم يكن عليه دم، ولم يكن محتسباً؛ لأنه لم يكون ينوي الحج)(1).

أقول: رُدّ الشاهدان بأنهما ((حكمان دلَّ عليهما الدليل في خصوص المورد))(2) أي أن الحكم في الموردين تعبدي محض دلَّ عليه الدليل الخاص ولا علاقة له بالحكم محل البحث، وإن هذا الاستئناس منهما لا يعدو كونه ظناً.

ومما يرجح كون الشاهد الأول حكماً تعبدياً خاصاً بالمورد أنه تضمّن الخروج إلى الميقات، مع أن مقتضى القاعدة كفاية الإحرام من أدنى الحل كالجعرانة أو الحديبية فلعله عقوبة ونحوها.

وينبغي الالتفات هنا إلى أمر لم يبينوه مع مدخليته في الاستدلال بكلا الشاهدين، ولا يتم تقريب الاستدلال إلا بهما:

أما الشاهد الأول فلا بد أن يُفهم الفساد فيه على أنه نقصٌ في العمرة قابل للتدارك والإصلاح، وليس بمعنى البطلان واعتبارها كالعدم، ووجه الاشتراط أن الفصل الزماني الذي ذكروه إنما هو بين عمرتين مفردتين صحيحتين، فلكي تكون شاهداً على محل البحث لا بد من افتراض العمرة الأولى موجودة وتترتب عليها الآثار كوجوب الفصل ويتدارك نقصها بالعمرة الثانية.أما إذا كانت الأولى باطلة ومنتفية فيكون الحكم فيها بانتظار دخول الشهر القادم تعبدياً خاصاً لا يرتبط بما نحن فيه، والمسألة محل خلاف، لذلك اختلفوا في وجوب إتمام هذه العمرة الفاسدة، قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((اعلم أن الشيخ وأكثر الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) لم يتعرضوا للحكم بوجوب إتمام العمرة الفاسدة، كما صرحوا به في الحج، وقطع

ص: 444


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 22، ح6.
2- مستمسك العروة الوثقى: 11/147.

العلامة في القواعد والشهيدان بالوجوب، ومستنده غير ظاهر، فإن أخبار المسألة المذكورة خالية منه، بل ظاهرها العدم لتصريحها بفساد العمرة))(1).

أقول: لعل الذي يُرجِّح الأولَ أمورٌ:-

1- موافقته للمصطلح المتشرعي –لو بني على الاستقراء وتتبع الموارد-؛ لأن الفرق بين الفساد والبطلان –بحسب فهمي- أن الفساد منشأه وجود مانع أو انخرام شرط مع بقاء المقتضي لكمال العمل وصحته فيمكن إتمامه بإزالة المانع أو توفير الشرط. أما البطلان فمنشأه خلل في المقتضي فيكون قاصراً عن بلوغ الصحة والتمام.

2- صحة إحرام الثانية ولو كانت الأولى ساقطة من الأساس لوجب الإتيان بما يحلّه من إحرامه الأول قبل تكليفه بإتيان عمرة جديدة، ولا يكفي في سقوط إحرام العمرة الأولى انتهاء شهره وهو ما سنبينه لاحقاً بإذن الله تعالى.

3- استقراء النظائر كصحيحة زرارة قال: (سألته عن محرم غشي امرأته وهي محرمة، قال: جاهلين أو عالمين؟ قلت: أجبني في الوجهين جميعاً، قال: إن كانا جاهلين استغفرا ربهما ومضيا على حجّهما وليس عليهما شيء، وإن كانا عالمين فرق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه وعليهما بدنة وعليهما الحج من قابل، فإذا بلغا المكان الذي أحدثا فيه فرق بينهما حتى يقضيا نسكهما، ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا، قلت: فأي الحجتين لهما قال: الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والأخرى عليهما عقوبة)(2).

ويلاحظ هنا أن الفساد وإن لم يُصرَّح به في كلام الإمام (عليه السلام) إلا أن ظاهر السياق ذلك، ويترتب على هذا آثار وردت في روايات أخر كموثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)

ص: 445


1- الحدائق الناضرة: 15/390.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب كفارات الاستمتاع في الإحرام، باب3، ح9.

(في رجل حج عن رجل فاجترح في حجه شيئاً يلزمه فيه الحج من قابل أو كفارة؟ قال: هي للأول تامة وعلى هذا ما اجترح)(1).

لا يقال: حتى لو قيل ببطلان العمرة الأولى فيمكن تقريب الاستدلال بالأولوية، فيقال: إن الإتيان بعمرة ثانية في شهر العمرة الأولى إذا كان غير مشروع مع كونها باطلة، فعدم الجواز على القول بصحتها أولى.فإنه يُقال: إن الأولوية ممنوعة، وإن هذا قياس، وإن المقيس عليه على خلاف ما بنوا عليه من كون الموضوع العمرة الصحيحة.

أما الشاهد الثاني فلا بد أن يُتمّم الاستدلال به بحمل سقوط الإحرام عمن دخل مكة في الشهر الذي أحرم فيه على أنه سقوط عزيمة بحيث لا يصح منه الإحرام ليصلح كونه مانعاً عن جواز الإتيان بعمرة جديدة في نفس الشهر، ولو كان السقوط سقوط رخصة فإنه لا يمنع من الإتيان به مرة أخرى في نفس الشهر.

قد يقال بأن السقوط عزيمة لقوله (عليه السلام) في صحيحة حماد (صفحة 441) (دخل بغير إحرام) ومفهوم موثقة إسحاق (صفحة 435) (يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه) وقد قالوا في علم الأصول: إن وقوع الجملة الخبرية في الجواب يفيد اللزوم بل هي أأكد.

لكن الذي يضعّف هذا الاحتمال أمور:-

1- سوق الحكم للامتنان، فهو في الرخصة أظهر؛ لأن سقوط العزيمة يعني الحرمان من طاعة كبيرة وهي العمرة وهو خلاف الامتنان.

2- عدم تعرض الأصحاب للإشارة إليه ولو كان حكماً إلزامياً لذكروه، بل إن كلماتهم ظاهرة في الرخصة، وفتاواهم صريحة في البناء عليها كجواز الإتيان بعمرتين مفردتين في شهر واحد عن شخصين مختلفين.

3- مضافاً إلى ما دلّ على جواز الإتيان بعمرة مفردة بعد إتمام مناسك الحج ولو في نفس شهر ذي الحجة كما في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد

ص: 446


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب النيابة في الحج، باب 15، ح2.

الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المعتمر بعد الحج، قال: إذا أمكن الموسى من رأسه فحسن)(1)

فنتمسك بإطلاقها من حيث الزمان فتشمل من أحرم لعمرة التمتع في ذي الحجة وأتى بالعمرة المفردة في نفس الشهر فهذان إحرامان في شهر واحد فالظاهر أن السقوط رخصة ولا يتم الاستدلال بهذا الشاهد.

فهذا الشاهد لا يصح الاستدلال به لما نحن فيه، بل هو ناظر إلى أمر آخر وهو وجوب دخول مكة بإحرام، استثني منه من خرج ودخل في الشهر الذي أحرم فيه، وبقي من عاد إلى مكة في الشهر اللاحق مشمولاً بوجوب الإحرام، فيكون معنى قوله (عليه السلام): (لكل شهر عمرة) أي لكل شهر إحرام لا يحل منه إلا بعمرة، ولما كانت عمرة التمتع مرتبطة بالحج كانت الثانية هي عمرة التمتع لا الأولى.

وهذا هو مقتضى السياق ولا مسوغ لفهم المعنى الذي أرادوه، ولا يستقيم التعليل لأن الحكم بعمرة لكل شهر ليس إلزامياً، والمفروض أنه قد أدى ما عليه من عمرة التمتع.

إلفات: قال السيد الحكيم (قدس سره): ((إن ظاهر الفتاوى إن الحكم في المقامين –أي الشاهدين- رخصة لا عزيمة))(2).أقول: قد عرفت صحة ذلك في الشاهد الثاني، أما الأول فليس كذلك لظهور النص في الإلزام، بل هو صريح قوله (عليه السلام): (عليه).

هذا كله مضافاً إلى أصل الإشكال الذي قيل وهو كون الحكم في الموردين تعبدياً وردّ بالدليل الخاص.

ونتيجة البحث في هذا القول عدم تمامية ما استدلوا به على التحديد والاشتراط، ولا أقل من عدم تعيّنه، قال السيد صاحب الرياض (قدس سره)

ص: 447


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 8، ح2.
2- مستمسك العروة الوثقى: 11/147.

في روايات الشهر: ((غايتها الدلالة على جواز الاعتمار في كل شهر وأن لكل شهر عمرة، وهو لا يدل على النهي عن الزيادة وقد اعترف بذلك من المتأخرين جماعة))(1).

(القول الثالث) اشتراط الفصل بما لا يقل عن عشرة أيام أو (في كل عشرة أيام عمرة).

ودليله رواية بعدة طرق تنتهي إلى علي بن أبي حمزة:-

1- رواية الكليني (قدس سره) في الكافي والطوسي في التهذيب والاستبصار بسند ينتهي إليه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن علي بن أبي حمزة قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل يدخل مكة في السنة المرة والمرتين والأربعة كيف يصنع؟ قال: إذا دخل فليدخل مُلبيّاً، وإذا خرج فليخرج محلاً، قال: ولكل شهر عمرة، فقلت: يكون أقل؟ فقال: في كل عشرة أيام عمرة، ثم قال: وحقّك لقد كان في عامي هذه السنة ست عمر، قلت: ولم ذاك؟ قال: كنت مع محمد بن إبراهيم(2)

بالطائف، وكان كلما دخل دخلت معه)(3).

2- رواية الشيخ الصدوق (قدس سره) بإسناده عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (لكل شهر عمرة، قال: وقلت له:

ص: 448


1- رياض المسائل: 7/209.
2- محمد بن إبراهيم الملقب بالإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كان أمير الحاج سنة 148 وهي التي استشهد فيها الإمام الصادق (عليه السلام) ثم ولاه المنصور العباسي على مكة والطائف وقيل الحجاز في العام 149 عوضاً عن عمه عبد الصمد بن علي، وكان يسكن بغداد فيخلفه ابنه إبراهيم بن محمد على مكة، روى بعض استدعاءات المنصور العباسي للإمام الصادق (عليه السلام) (راجع تأريخ الطبري والكامل لابن الأثير في حوادث هذه السنين).
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 6، ح3.

يكون أقلّ من ذلك؟ قال: لكل عشرة أيام عمرة)(1)،وتوهم البعض(2)

وجود طريق ثالث للرواية سنشير إليه بإذن الله تعالى.أقول: بغضّ النظر عن الكلام في علي نفسه فقد نوقش الطريق الأول من جهة وجود إسماعيل بن مرار(3)

وفي وثاقته خلاف، وقد قيل في قبول روايته عن يونس –والمورد منها- بغض النظر عن وثاقته أنه أخذها من كتبه وقد قال ابن الوليد عنها: ((كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلها صحيحة معتمد عليها إلا ...))(4)

ولم يستثن ما رواه إسماعيل.

ونوقش طريق الصدوق (قدس سره) بوجود شيخه محمد بن علي ماجيلويه ولم يوثّق، ورُدَّ بأن ترضّي الشيخ الصدوق عليه كافٍ في توثيقه كما ربما يُفهم من ذوق القدماء، أي أننا لا نقول بأن مجرد كونه شيخاً للصدوق يجعله موثقاً ليرد السيد الخوئي (قدس سره) هذه الكبرى(5).

ويمكن دعوى حصول الاطمئنان بصدور الرواية عن علي بن أبي حمزة لتعدد الطرق واختلاف طبقات الرواة كما سيأتي بإذن الله تعالى، فالمناقشة في الطرق إلى علي ليست مجدية:

(أما) علي بن أبي حمزة فقد تردد البعض في كونه هو الثمالي أو البطائني، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((وهو إن كان الثمالي فهو ثقة، وإن كان البطائني فالظاهر اعتبار حديثه))(6).

أقول: لا مجال لهذا الترديد خصوصاً على ما قيل من أنه لم ترد عن الثمالي رواية في الأحكام بحسب الاستقراء، وما ورد بهذا العنوان فهو من خطأ النسّاخ

ص: 449


1- المصدر السابق: باب 6، ح10.
2- كما في (الحدائق الناضرة : 16/320)، وأيضاً ورد في تقريرات كتاب الحج للسيد محمود الشاهرودي (قدس سره) بقلم الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، ج2: 157.
3- راجع كتاب فقه الخلاف: 1/34، في وثاقة إسماعيل بن مرار.
4- معجم رجال الحديث: 3/177.
5- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/139.
6- مستمسك العروة الوثقى: 11/146.

بحسب المقابلة بين النسخ(1)،ومع ذلك فإن الاسم متعين بالبطائني لعدة وجوه:-

1- إن طريق الصدوق إلى علي بن أبي حمزة ينتهي بالبزنطي عن علي، وهو وإن لم يحدد أنه البطائني إلا أن البزنطي روى عدة روايات عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير فيتعين بالبطائني لأنه كان قائداً لأبي بصير ومكثراً للرواية عنه لا الثمالي(2).1- إن الرواية ذكرها بأكملها الشيخ الكليني في الكافي كما أوردناها، أما في الفقيه فقد قطعت في موضعين:

(أحدهما) صدر الرواية فقال (قدس سره): ((وروى القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل يدخل مكة في السنة المرة والمرتين والثلاث كيف يصنع؟ قال: إذا دخل فليدخل ملبيّاً، وإذا خرج فليخرج محلاً)(3).

(ثانيهما) محل البحث من الرواية، قال (قدس سره): ((وروى علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (لكل شهر عمرة، قال: فقلتُ له: أيكون أقلّ من ذلك؟ قال: لكل عشرة أيام عمرة).))(4).

وتقريب القرينية على كون علي هو البطائني من هذه الملاحظة من جهتين:

ص: 450


1- معجم رجال الحديث: 11/247.
2- حصلت غفلة من قلم تقريرات السيد الخوئي (قدس سره) فقال: ((ولا يمكن رواية البزنطي عن الثمالي لأن الثمالي من أصحاب الباقر (عليه السلام) والبزنطي من أصحاب الرضا والجواد (عليهم السلام) )) (المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/139). وهذا الكلام جارٍ في أبي حمزة الثمالي الأب والرواية عن الابن علي وأشرنا إلى هذا بما تقدم (صفحة 171).
3- من لا يحضره الفقيه: ج2، باب: المتمتع يخرج من مكة ويرجع، ح2755.
4- المصدر السابق: باب العمرة في كل شهر وفي أقل ما يكون، ح2966.

(أولاهما) انتهاء طريق الجزء الأول إلى القاسم بن محمد وهو الجوهري وهو يروي عن البطائني لا الثمالي.

(ثانيهما) اتحاد روايتي الكليني والصدوق، وقد انتهى طريق الكليني إلى يونس الذي له روايات عديدة عن عنوان علي بن أبي حمزة عن أبي بصير فيتعين كون الذي يروي عنه يونس هو البطائني أيضاً.

تنبيه: يوهم قول صاحب الوسائل (قدس سره) في ذيل رواية الكافي: ((ورواه الصدوق بإسناده عن القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة مثله)) أن الصدوق قد رواها في موضعين، وقد ذكرناهما وتبيّن أن الموضع الأول أجنبي عما نحن فيه.

كما ينبغي التنبيه إلى ما في الجواهر من الاستدلال على هذا القول بما سماه: ((الموثق عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (السنة اثنا عشر شهراً، يعتمر لكل شهر عمرة، قال: فقلت له: أيكون أقل من ذلك؟ قال: لكل عشرة أيام عمرة) ))(1).

أقول: لا توجد مثل هذه الموثقة بل هي مركبة من موثقة إسحاق بن عمار ورواية علي بن أبي حمزة المتقدمتين، ولذا لم يذكر أحدٌ من المتقدمين مثل هذه الموثقة عند الاستدلال على هذا القول، فانحصر الاستدلال بالروايات على هذا القول برواية ابن أبي حمزة فينبغي التحقيق في حاله.

لم يتعرض النجاشي في رجاله، ولا الشيخ الطوسي في كتابيه (الفهرست) و(الرجال) له بمدح ولا قدح، سوى دعوته إلى الوقف، ووصف ابن فضال له بأنه كذاب متهم ووردت روايات في ذمه، إلا أنها جميعاً ترتبط بقضية وقفه على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وعدم اعتقاده بإمامة خلفه الإمام الرضا (عليه السلام)وتسليمه أموال أبيه (عليه السلام)، وهذا لا يكفي لرد روايته في الأحكام، إلا إذا وجدت قرائن مانعة عن الأخذ بها، وقد

ص: 451


1- جواهر الكلام: 20/463.

روى عنه أجلاء الأصحاب كابن أبي عمير والبزنطي وصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن وعبد الله بن المغيرة وأضرابهم.

ولعل في تشبيه الإمام الكاظم (عليه السلام) له بالحمار في رواية أبي داوود المسترق قال: (كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة، فسمعته يقول: قال لي أبو الحسن موسى (عليه السلام): إنما أنت يا علي وأصحابك أشباه الحمير، قال: فقال عيينه: أسمعت؟ قال: قلت: إي والله، قال: فقال: لقد سمعت، والله لا أنقل قدمي إليه ما حييت) دلالة إلى ما حمله علي من العلم إلا أنه لم يستفد منه كالحمار الذي يحمل أسفاراً إشارة إلى الآية الكريمة في سورة الجمعة.

ومثل هذه الانحرافات التي منشأها التعصب لجهةٍ ما، أو الركون إلى الدنيا موجودة في كل زمان، ولم تخرج أصحابها عن تصديق إخباراتهم كما يشهد به الواقع المعاش، وهذا ما يفسّر استغراب يونس بن عبد الرحمن في روايته قال: (دخلت على الرضا (عليه السلام) فقال لي: مات علي بن أبي حمزة؟ قلت: نعم، قال: قد دخل النار، قال: ففزعت من ذلك، قال: أما أنه سئل عن الإمام بعد موسى أبي فقال: لا أعرف إماماً بعده، فقيل لا؟ فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً)(1).

ويظهر من رواية صحيحة في قرب الإسناد عن البزنطي أن منشأ وقف البطائني غير المشهور من الخيانة المالية، والرواية طويلة وفيها (ولولا ما قال أبو جعفر (عليه السلام) حين يقول لا تعجلوا على شيعتنا إن تزل قدم تثبت أخرى، وقال: من لك بأخيك كله، لكان مني من القول في ابن أبي حمزة وابن السراج وأصحاب ابن أبي حمزة.

أما ابن السراج فإنما دعاه إلى مخالفتنا والخروج من أمرنا أنه عدا على مال لأبي الحسن عليه السلام عظيم، فاقتطعه في حياة أبي الحسن وكابرني عليه وأبى أن يدفعه، والناس كلهم مسلمون مجتمعون على تسليمهم الأشياء كلها إلي

ص: 452


1- معجم رجال الحديث: 11/233.

فلما حدث ما حدث من هلاك أبي الحسن عليه السلام اغتنم فراق علي بن أبي حمزة وأصحابه إياي وتعلل، ولعمري ما به من علة إلا اقتطاعه المال وذهابه به. وأما ابن أبي حمزة فإنه رجل تأول تأويلاً لم يحسنه ولم يُؤتَ علمه، فألقاه إلى الناس فلجّ فيه، وكره إكذاب نفسه في إبطال قوله بأحاديث تأولها، ولم يحسن تأويلها ولم يؤت علمها، ورأى أنه إذا لم يصدق آبائي بذلك لم يدر لعل ما خبر عنه مثل السفياني وغيره أنه كان لا يكون منه شيء، وقال لهم: ليس يسقط قول آبائه بشيء ولعمري ما يسقط قول آبائي شيء ولكن قصر علمه عن غايات ذلك وحقائقه، فصار فتنة له وشبهة عليه، وفرّ من أمر فوقع فيه)(1).

قال الشيخ (قدس سره) في العدة عن روايات الفطحية ونظائرهم: ((وإن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه، وجب أيضاً العملبه إذا كان متحرجاً في روايته موثوقاً في أمانته، وإن كان مخطئاً في أصل الاعتقاد. ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران، وعلي بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم، فيما لم يكن عندهم فيه خلافه))(2)،وقد عمل (قدس سره) في التهذيب بهذه الرواية والآخرون الذين اختاروا هذا القول وبنوا على إمكان الإتيان بعمرة مفردة أخرى بعد عشرة أيام من الأولى.

هذا الكلام كله في سند الرواية وحاصله إمكان قبولها، أما من حيث المتن فهي كروايات الشهر لا دلالة فيها على التحديد واشتراط الفصل بعشرة أيام، وغاية ما تدل عليه إمكان ذلك ولا تنافي الأقل.

نعم يمكن صياغة وجهين للاستدلال على هذا القول:

(أحدهما) ما دلّ على جواز الاعتمار بعد الحج إذا نبت الشعر على رأسه كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام)

ص: 453


1- بحار الأنوار: 49/267.
2- عدة الأصول: 1/150.

قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المعتمر بعد الحج، قال: إذا أمكن الموسى من رأسه فحسن)(1).

بتقريب: إن هذا الشرط للفصل الزمني ليس لكي يتمكن من الحلق؛ لأن نسك المعتمر لا يتعين بالتقصير بل هو مخير بينه وبين الحلق الذي هو أفضل(2)،ويمكن التقصير من لحيته ونحوه، فهذا الشرط كناية عن لزوم الفصل بين الإحرامين بهذا المقدار الذي يقارب بحسب المتعارف عشرة أيام، وقد ورد مثل هذا التقريب في روايات العامة وكلماتهم التي نقلناها (صفحة 431)، أما قوله (عليه السلام): (فحسن) فهو للإتيان بمثل هذه العمرة بعد الحج وليس للتربص هذه المدة.

(ثانيهما) أنه من مجموع روايات الأقوال المتقدمة يحصل علم إجمالي بلزوم الفصل بين عمرتين من دون تحديد مقداره تفصيلاً، فإذا حصل الفصل بعشرة أيام انحل العلم الإجمالي وأجري الأصل في الزائد عليه.

(القول الرابع) جواز اتباع العمرة بالعمرة مطلقاً.

واستدل له بوجود المقتضي للجواز مطلقاً وعدم وجود المانع.

أما المقتضي فهو –بحسب صاحب الجواهر(3)

(قدس سره) وغيره- كمرسلة الصدوق عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)(4)ومرسلته الأخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (والعمرة كفارة لكل ذنب)(5)

وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله

ص: 454


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 8، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب التقصير، باب 5، ح1.
3- جواهر الكلام: 20/456.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 3، ح6.
5- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 3، ح7.

(عليه السلام) (والحج الأصغر هو العمرة)(1)

مضافاً إلى ما أوردناه في أول البحث.

وأُشكل(2)

عليه من جهة عدم تمامية الإطلاق، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((والإيراد(3)

عليه: بأن الإطلاقات بالنسبة إلى تحديد المدة بينهما مجملة غير واضحة الدلالة، وإنما هي مسوقة لبيان الفضيلة.

مردود بكفاية الفضيلة؛ لحسنها في كل مرة، ولا يحتاج إلى تحديد المدة؛ مع أن المقام مقام الاستحباب المتحمل للمسامحة، فتكفي فيه فتوى الأجلّة وظاهر الإجماع المحكي، والله العالم))(4).

وأجاب صاحب الجواهر (قدس سره) على الإشكال بأن الخبر النبوي وغيره ((ظاهر بمقتضى إطلاقه في عدم اعتبار المدة إلا أنه مجمل بالنسبة إليها، وكذا ما دل على طلبها والحث عليها حتى شُبّه غيرها من العبادات بها وبالحج كما لا يخفى على ذي مسكة))(5).

أقول: مقتضى الإنصاف عدم ظهور هذه النصوص التي ذكروها في الإطلاق من حيث اشتراط الفصل بزمان، لأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة بل من جهة أصل الاستحباب والحث عليها.

نعم يمكن إثبات الإطلاق بوجوه (منها) ما ورد في خبر أبي محمد الفراء الحث على التكرار قال: (سمعت جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: قال

ص: 455


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 1، ح4.
2- قال العلامة (قدس سره): ((وقول السيد المرتضى لا حجة فيه، واستدلاله غير ناهض، إذ حكمه (عليه السلام) بكون العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، لا دلالة فيه على التقدير ولا على عدمه)) (مختلف الشيعة: 4/370).
3- صاحب الإيراد السيد الطباطبائي (قدس سره) في رياض المسائل: 7/210.
4- مستند الشيعة: 11/164.
5- جواهر الكلام: 20/465.

رسول الله (صلى الله عليه وآله): تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)(1)

فيتمسك بإطلاق (تابعوا).

(ومنها) الإجماع على وجوده حتى عند النافين له وبيانه أن المعترضين على الإطلاق يعتقدون به في ارتكازهم ويبنون عليه وإن نفوه في كلماتهم، والشاهد علىذلك أنهم قيدوا حكمهم بعدم صحة أكثر من عمرة في الشهر بكونهما عن نفس الشخص، ونحوه الذي منشأه الرجوع إلى إطلاقات الجواز بعد إخراج الفرد المتيقن.

كما يمكن أن تتحقق بالروايات المتقدمة نتيجة الإطلاق بتقريب أن مفاد الروايات كونها عبادة مستحبة، ولما كانت غير مؤقتة بزمان كالصلاة وتلاوة القرآن وزيارة المعصومين (عليهم السلام) فيمكن الإتيان بها مكرراً ما لم يمنع منها الشارع، فلا بد أن يتمم الاستدلال بعدم المانع.

والمانع المتصور هو وجود ما دل على اشتراط الفصل بين عمرتين مما تقدم بأن تكون لكل سنة عمرة أو لكل شهر أو لكل عشرة أيام باعتبار ((أنها –أي العمرة- لا تصح بدونه –أي الفصل المعتبر- لأنها عبادة لا تصح إلا متلقاة من الشارع ولم تُتلقَّ إلا مشروطة بالفصل به))(2).

وقد أُيِّد هذا –عند العامة كما تقدم (صفحة 431)- بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتمر ثلاث مرات(3)

لم يزد في أي منها على عمرة واحدة ولو كان فعلاً راجحاً لأتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونقلنا قول طاوس في تعليل ذلك.

ص: 456


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج، باب 45، ح1.
2- جواهر الكلام: 20/464.
3- في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث عمر متفرقات: عمرة ذي القعدة أهلّ من عسفان وهي عمرة الحديبية، وعمرة أهلّ من الجحفة وهي عمرة القضاء، وعمرة من الجعرانة بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب 2، ح2.

أقول: لقد تقدم منا عدم صلاحية تلك الروايات للاشتراط، هذا إذا نظرنا إلى كل دليل على حدة، ولكن قد يقال بإمكان تصوير المانع بلحاظ المجموع حيث يحصل من مجموع الأقوال المتقدمة إجماع مركب على اشتراط فاصل وعدم صحة الاتباع مطلقاً وإن اختلفوا في مقداره، فيكون هذا الإجماع مانعاً عن القول بالجواز مطلقاً.

وبصياغة أخرى نقول: إنه من مجموع روايات الأقوال المتقدمة يحصل علم إجمالي بلزوم الفصل بين العمرتين وإن حصلت مناقشات في دلالة كل منها بنفسها، وهذا العلم الإجمالي يمنع من الإتيان بالعمرة الثانية بلا فصل.

وبصياغة ثالثة نقول: إن المانع عن الأخذ بالجواز مطلقاً هو الارتكاز لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بلزوم الفصل بين عمرتين، والذي كان منشأ لعدة أسئلة أشرنا إلى بعض رواياتها (صفحة 435)، كصحيحة معاوية بن عمار والحلبي حيث قرّبنا بناء السائل عدم صحة عمرتين في السنة، وقوله (عليه السلام): (إذا أمكن الموسى فحسن) في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله (صفحة 444) المبنية على اعتقاد السائل على عدم صحة عمرتين في الشهر ولم ينفِ الإمام (عليه السلام) هذا الارتكاز وإنما وقّته بالمدد المذكورة (لكل شهر عمرة) و (لكل عشرة أيام).وذكرت هنا وجوه أخرى للاستدلال على هذا القول منها(1):-

1- ((إنه مقتضى الجمع بين الأخبار، فإنها تحمل جمعاً على بيان تأكد الاستحباب، فيقال: إن العمرة بنفسها مستحبة في كل يوم لكنها تؤكد في كل عشرة أيام ويصير أأكد في كل شهر، ويزداد التوكيد بعد ذلك في كل سنة)).

وفيه: إن تلك الأخبار إن حملناها على التحديد والاشتراط فإنها تكون متعارضة ولا مجال للجمع العرفي بينها، وإن لم تكن كذلك،

ص: 457


1- الوجوه الثلاثة الأولى نقلناها عن تقريرات بحث السيد محمود الشاهرودي (قدس سره) المشار إليها سابقاً: 2/156-157.

فاستحباب تكرار العمرة ثابت ولا حاجة إلى إثباتها بهذا الجمع بعد سقوط المانع.

2- ((إنه بعد تعارض الأخبار وتساقطها يُرجع إلى الإطلاقات الدالة على أصل محبوبيتها واستحبابها، فإن مقتضى إطلاق استحبابها في كل يوم وفي اليوم أكثر من مرة أيضاً)).

وفيه: على تقدير تمامية الإطلاق فإنه على فرض المعارضة فإن هذه الروايات طرف فيها وتسقط بالتعارض فلا مجال للرجوع إليها والمرجع غيرها، مضافاً إلى ما قربناه من عدم التعارض لأنها ليست في مقام التحديد.

3- ((أنه بعد تعارض الأخبار وتساقطها نرجع إلى البراءة عن اعتبار الفصل بينهما)).

وفيه: بعد التسليم بالتعارض فإن الإطلاقات طرف فيه فتسقط ولا يبقى دليل على الجواز مطلقاً، وتوقيت العمرة أمر توقيفي لا بد فيه من بيان للشارع المقدس، والمرجع في هذه الحالة أصالة الاحتياط ومقتضاه الأخذ بالقدر المتيقن وهو (لكل سنة عمرة).

4- قاعدة التسامح في أدلة المستحبات، قاله المحقق النراقي (قدس سره) في المستند كما تقدم وصاحب الجواهر (قدس سره).

وفيه: عدم الحاجة إلى القاعدة بعد وجود ما دلّ على استحباب العمرة وتكرارها وإدمانها، وأن المشكلة ليست في المقتضي وإنما في وجود المانع.

5- ومما يمكن أن يقرَّب كشاهد على الجواز مطلقاً الروايات التي دلّت على أن القادم إلى مكة إذا طاف بالبيت وسعى أحلَّ من إحرامه وإذا لبّى أحرم وهكذا فتتابع العمرات لديه، وإن ورد الإحرام الثاني قبل

ص: 458

التقصير من العمرة الأولى، إلا أن مثله صحيح في من نسي التقصير في عمرة التمتع وأحرم للحج صح إحرامه(1).

وقد ذكرنا الروايات وتقريباتها في (صفحة 415) من هذا المجلد).

تقييم الأقوال والمختار منها:

بعد أن استعرضنا أدلة الأقوال ومناقشاتها، فالذي نخرج به من النظر في مجموع الروايات الشريفة: أنها ليست بصدد اشتراط الفصل بين عمرتين بحسب التشريع، وأن المدد المذكورة هي لجواز التكرار واستحبابه بحسب بلد الإنسان أو قلْ لكراهة الترك، فالمقيم في مكة وضواحيها يستحب له الإتيان بعمرة كل عشرة أيام أي يكره له تركها هذه المدة، والأبعد منه شهر، والأبعد منه مرتين في السنة إحداهما عمرة مفردة في رجب فإنها تلي الحج في الفضل وأخرى عمرة التمتع مع الحج، ولا يقل عن عمرة في السنة، فهذه المدد المذكورة للاعتمار تشير إلى مراتب في الفضل والاستحباب للأشخاص بلحاظ أماكنهم.

وقد وردت كراهة ترك زيارة البيت للمجاور بمكة عشرة أيام في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني أريد الجوار بمكة فكيف أصنع؟ فقال: إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة فاخرج إلى الجعرانة فأحرم منها بالحج، فقلت له: كيف أصنع إذا دخلت مكة أقيم إلى التروية لا أطوف بالبيت؟ قال: تقيم عشراً لا تأتي الكعبة؟ إن عشراً لكثير، إن البيت ليس بمهجور، ولكن إذا دخلت مكة فطف بالبيت واسع بين الصفا والمروة، قلت له: أليس كل من طاف وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل؟ فقال: إنك تعقد بالتلبية، ثم قال: كلما طفت طوافاً وصليت ركعتين فاعقد بالتلبية) الحديث(2).

ص: 459


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الإحرام، باب 54.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أقسام الحج، باب 16، ح1.

ولا نتوقع استحباب العمرة في عشرة أيام أو شهر للجميع على حد سواء لأن المسافة بين المدينة ومكة تقطع يومئذٍ بعشرة أيام في المعدل ذهاباً ومثلها إياباً فضلاً عما هو أبعد من البلدان فكيف يمكن توجيه هذا الخطاب إليهم؟

أما من مكث في مكة أياماً فإنه يستحب له الإكثار من الطواف وعدم صرف الوقت في الذهاب إلى أدنى الحل والإياب بعمرة جديدة إلا إذا أهل عليه شهر جديد أو مضت عشرة أيام على عمرته الأولى.

ونحن ننصح هنا من أراد أن يعتمر عمرة بعد عمرة بلا فاصل أن ينويها نيابة عن المعصومين (سلام الله عليهم) لما فيها من الأجر المضاعف أو ينويها عن والديه وأقربائه؛ لأنه سينال نفس الأجر وزيادة مع وصول مثله إلى الآخرين، ويتخلص من احتمال اشتراط الفصل.

وقد قلنا في موضع سابق (صفحة 179) أن من حكمة اشتراط الفصل حث المؤمنين على النيابة عن العناوين المتقدمة لندرة من يتمكن من الوصول إلى الديار المقدسة خصوصاً في ذلك الزمان.

ومما ورد في ذلك ((موثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يحجّ فيجعل حجته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله وهو عنه غائب ببلد آخر، قال: قلت: فينقُصُ ذلك من أجره؟ قال: لا هي له ولصاحبه وله أجرٌ سوى ذلك بما وصل، قلت: وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال: نعم، حتى يكون مسخوطاً عليه فيغفر له، أو يكون مضيَّقاً عليه فيوسّع عليه، قلتُ: فيعلم هو في مكانهأنَّ عمَلَ ذلكَ لَحِقه؟ قال: نعم، قلت: وإن كان ناصبياً ينفعه ذلك؟ قال: نعم، يُخفَّف عنه)(1).

وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يُشرك أباه وأخاه وقرابته في حجه؟ فقال: إذن يُكتب لك حجٌ مثل حجّتهم وتُزاد أجراً بما وصلت) لذا ورد في الخبر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قال أبو

ص: 460


1- والروايتان بعدها تجدها في الكافي، ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: من يشرك قرابته وإخوته في حجته أو يصلهم بحجة، الأحاديث، ح4، 6، 10.

عبد الله (عليه السلام): لو أشركت ألفاً في حجتك لكان لكل واحد حَجةٌ من غير أن تنقص حجتك شيئاً).

وأفضل ما تكون النيابة عن المعصومين (عليهم السلام) فقد روى موسى بن القاسم قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك فقيل لي: إن الأوصياء لا يطاف عنهم، فقال: بلى طف ما أمكنك، فإن ذلك جائز، ثم قلت له بعد ذلك بثلاث سنين إني كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك، فأذنت لي في ذلك، فطفت عنكما ما شاء الله، ثم وقع في قلبي شيء فعملت به، قال: وما هو؟ قلت: طفت يوماً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال ثلاث مرات: صلى الله على رسول الله، ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام)، والرابع عن الحسين (عليه السلام)، والخامس عن علي بن الحسين، واليوم السادس عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، واليوم الثامن عن أبيك موسى (عليه السلام)، واليوم التاسع عن أبيك علي (عليه السلام)، واليوم العاشر عنك يا سيدي، وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم، فقال: إذن والله تدين الله بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره، قلتُ: وربما طفتُ عن أمك فاطمة (عليها السلام) وربما لم أطف، فقال: استكثر من هذا فإنه أفضل ما أنت عامله إن شاء الله)(1).

وهذه النتيجة التي انتهينا إليها في المدة المستحبة للعمرة ورد مثلها في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ففي كامل الزيارات بسنده عن حنان بن سدير قال: (كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال لرجل من أهل الكوفة:

ص: 461


1- الكافي، ج2 من الفروع، كتاب الحج، باب: الطواف والحج عن الأئمة (عليهم السلام)، ح2.

تزور الحسين كل جمعة؟ قال: لا، قال: ففي كل شهر؟ قال: لا، قال: ففي كل سنة؟ قال: لا، فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنك لمحروم من الخير..)(1).فائدة: قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن القول بالتحريم الناشئ من دعوى التشريع في العبادة لا ينافي القول بثبوتها بأدنى دليل صالح لإثبات الاستحباب فيها))(2).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((المستفاد من النصوص أن كل شهر له عمرة، نعم لا بأس بالإتيان بها متكررة في شهر واحد رجاءً وباحتمال المطلوبية الواقعية))(3).

وفيه:-

1- إن مورد نية رجاء المطلوبية هو احتمال المطلوبية واقعاً، والمفروض أنه (قدس سره) انتهى إلى نتيجة الاشتراط لكل شهر عمرة، اللهم إلا أن يكون غير مطمئن إلى النتيجة ويرى أن الروايات غير ظاهرة في الاشتراط إلا أنه أخذ بها للاحتياط ونحوه وهذا فيه كلام آخر.

2- يوجد مانعان هنا عن إمضاء هذه النية:

أحدهما: احتمال وجود حرمة ذاتية في الإتيان بعمرتين في شهر واحد وليس التشريعية فقط ولو من باب كونه تشريعاً محرماً، وإذا دار الأمر بين احتمال الحرمة واحتمال الاستحباب قدم الأول.

ثانيهما: احتمال أن سقوط الإحرام عن الخارج من مكة والعائد إليها في الشهر الذي أحرم فيه سقوط عزيمة وليس سقوط رخصة فلا يجوز له الإحرام مرة أخرى في نفس الشهر ولو في خصوص القدر المتيقن أعني كونهما عن نفسه أو شخص واحد، وقد تقدم (صفحة 444) ما يفيد كون السقوط عزيمة.

ص: 462


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المزار وما يناسبه، باب 38، ح18.
2- جواهر الكلام: 20/466.
3- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/141.

وفي ضوء هذا تترجح النصيحة التي ذكرناها آنفاً مع ما فيها من مضاعفة الأجر، ولله الحمد أولاً وآخراً.

ص: 463

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.