فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية: الخمس والنكاح المجلد 6

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف

بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء السادس

الخمس والنكاح

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف - 1441 ه-/2020م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

البحث الأول: هل يجوز تسليم نصف الخمس المصطلح عليه (حق السادة) إليهم مباشرة؟

اشارة

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الأول: هل يجوز تسليم نصف الخمس المصطلح عليه (حق السادة) إليهم مباشرة؟(1)

قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((نصّ القرآن الكريم على قسمة الخمس ستة أقسام: لله ولرسوله ولذوي القربى ولليتامى وللمساكين ولأبناء السبيل. غير أنه دلَّ الدليل على أن الثلاثة الأولى هي للإمام المعصوم (عليه السلام) وهو في عصورنا الحاضرة، الإمام الحجة المهدي المنتظر (عجل الله فرجه). والثلاثة الأخيرة لبني هاشم بنفس العناوين المنصوصة في الآية الكريمة. فما هو راجع إلى الإمام (عليه السلام) يملكه ملك ولاية أو ملك منصب لا ملك عين. ويُسمّى في المصطلح الفقهي بحق الإمام أو سهم الإمام ويرجع هذا النصف اليوم إلى نائب الإمام وهو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى ولا يجوز التصرف فيه بدون إذنه على الأحوط، ويرجع النصف الثاني لبني هاشم، وهم من انتسب إلى هاشم بن عبد مناف بالأب، فلو انتسب بالأم لم يجز له أخذ الخمس وحلّت له الصدقة على المشهور المنصور))(2).

ولما كان النصف الثاني راجعاً إلى الهاشميين قال (قدس سره): ((يجوز استقلال المالك في توزيع نصف الخمس العائد إلى الهاشميين. وإن كان الأحوط استحباباًً الدفع إلى الحاكم الشرعي أو استئذانه في الدفع إلى المستحق ولكن إن طلبه وجب على المالك دفعه إليه))(3).

ص: 7


1- انتهى إلقاء البحث يوم 3/صفر/1429 الموافق 11/2/2008.
2- منهج الصالحين: 1/320.
3- منهج الصالحين: 1/320، المسألة (1764).

وقال مثله -ولكن بتفصيل أقل- السيد السيستاني (دام ظله)(1)،

أما شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) فقد وافقهما في التقسيم لكنه ألزم بإرجاع أمر النصفين إلى الفقيه الجامع للشرائط، قال (دام ظله): ((قد تسأل: أنَّ المالك هل يستقلّ في التصرف في سهم السادة وإيصاله إلى مستحقيه أو أن أمره بيد الفقيه الجامع للشرائط؟ والجواب:لا يبعد أن يكون أمره بيده كسهم الإمام (عجل الله فرجه) أو لا أقل أنه الأحوط))(2)

وظاهر العبارة أن الاحتياط فتوائي إلا أنه يظهر من كلامه في موضع آخر خلاف ذلك فقد علّق على الاحتياط الاستحبابي لصاحب العروة (قدس سره) بدفعه إلى المجتهد أو التصرف به بإذنه بقوله: ((بل على الأقوى إذا طلب المجتهد دفعه إليه وكان بعنوان الحكم وإعمال الولاية، وإلا لم يجب لعدم الدليل، ومقتضى إطلاقات أدلة الخمس المتوجهة إلى المالك أنّ له الولاية على إفرازه من ماله ودفعه إلى مستحقيه بلا حاجة إلى الاستئذان من المجتهد))(3)

ومقتضاه أن للمالك الاستقلال في دفع نصف الخمس إلى السادة وإن الأمر بدفعه إلى الفقيه الجامع للشرائط هو بالولاية العامة للفقيه، بل يذهب أبعد من ذلك ويراه حقاً للسادة الموجودين في بلد الدافع، قال (دام ظله): ((الأقوى عدم جواز نقل سهم السادة من بلدة السهم إلى بلدة أخرى مع وجود المستحق فيها إلا إذا كان هناك مرجّح، فإذا نقل والحال هذه وتلف في الطريق ضمن للتفريط))(4) ثم عاد وأكّ-د المعنى الأول فقال: ((لا يجب بسط سهم السادة على الأصناف الثلاثة، بل أمره في زمن الحضور بيد الإمام (عجل الله فرجه)، فله أن يتصرف فيه حسب ما يراه، وفي زمن الغيبة بيد الفقيه الجامع

ص: 8


1- منهاج الصالحين: 1/410.
2- منهاج الصالحين: 2/85، المسألة (180).
3- تعاليق مبسوطة: 7/197.
4- تعاليق مبسوطة: 7/217.

للشروط ومنها الأعلمية، وله أن يتصرف فيه على ما يراه))(1) ومنع من ((التصرف فيه بدون إذنه))(2).

وسبقه إلى هذا المعنى السيد الخميني (قدس سره) فقال: ((النصف من الخمس الذي للأصناف الثلاثة المتقدمة أمره بيد الحاكم على الأقوى، فلا بد إما من الإيصال إليه أو الصرف بإذنه وأمره))(3)

وشرح (قدس سره) وجهه من ناحية فكرية واجتماعية وليس من ناحية استدلالية فقال (قدس سره): ((إن الإسلام قد جعل على محاصيل الإنتاج المالي بعد وضع المصاريف والمؤن فرضاً مالياً عادلاً: هو الخمس، يؤديه المجتمع من أبسط فرد يحترف بيع البقول إلى أثرى شخص يتداول الملايين، كلٌّ يقوم حسب إمكانياته بتأمين ميزانية الدولة تقسيماً عادلاً لا يئنُّ تحت وطأته أحد على الإطلاق.والخمس - على هذا التفصيل الذي يقول به الإمامية - مالية ضخمة إذا ما قيست التجارات والصناعات العالمية الكبرى لو فرض يوماً - وسيكون إن شاء الله تعالى- أن طُبِّقَ الإسلام على أرجاء المعمورة بكاملها فإن الخمس عند ذلك يصبح ذا شأن كبير وباستطاعته إدارة شؤون أكبر دولة قائمة على وجه الأرض)).

وأضاف متهكماً: ((ويا لقصر النظر لو قلنا أن تشريع الخمس جاء لتأمين معايش ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) فحسب! إنه يكفيهم ويزيدهم جزء ضئيل من آلاف جزء هذه المالية الضخمة(4)،

بل تكفيهم أخماس سوق واحدة -

ص: 9


1- تعاليق مبسوطة: 7/218.
2- تعاليق مبسوطة: 7/223.
3- تحرير الوسيلة، طبعة دار التعارف، سنة 1424ه-: 1/329، المسألة (7) من فصل (القول في قسمته ومستحقيه).
4- في البحار بالسند عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: (قال لي هارون: أتقولون إن الخمس لكم؟ قال: نعم، قال: إنه لكثير، قال: قلت: إن الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير) (مستدرك الوسائل: ج7، أبواب قسمة الخمس، باب1، ح5).

كسوق بغداد مثلاً- من تلك الأسواق التجارية الكبرى، كأسواق طهران ودمشق وإسلامبول وما أشبه. إذن فماذا يصبح حال بقية المال؟

ولذلك نقول: أن الخمس ضريبة إسلامية عادلة جُعلت على أرباح مكاسب المسلمين تأميناً لميزانية الدولة الإسلامية في مصاريف شؤونها الداخلية والخارجية وفي عمارة البلاد وإصلاح شؤون العباد))(1).

وقبل النظر في المسألة والتقديم لها بأمور مرتبطة بها، نسرد مجموعة من الروايات المرتبطة بعنوان المسألة والتي تتكرر الإشارة إليها خلال البحث لنكتفي بذكر التسلسل فقط عند الحاجة وهي:-

1 – عن(2)

عبد الله بن مسكان، عن زكريا بن مالك الجعفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأله عن قول الله عز وجل: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»؟ فقال: (أما خمس الله عز وجل فللرسول يضعه في سبيل الله، وأما خمس الرسول فلأقاربه وخمس ذوي القربى فهم أقرباؤه، واليتامى

ص: 10


1- محاضرات (الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه) المحاضرة الثانية المؤرخة في 16/ذي القعدة/1389، ص2، وقد ألقاها (قدس سره) على طلبته في النجف الأشرف.
2- رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح إلى عبد الله بن مسكان عن زكريا بن مالك الجعفي الذي لم يُعرف حاله في كتب الرجال ويوجد مبنى لتصحيح الرواية باعتبار أن ابن مسكان من أصحاب الإجماع الذين صُحِّح ما صحَّ عنهم، ولعله لهذا وَصفت جملة من المصادر الرواية بالصحة ومنها مستمسك العروة الوثقى: 9/567، 569، وقد ذكرت مصادر ترجمة ابن مسكان خصوصيةً له بأنه لم يروِ عن الإمام الصادق (عليه السلام) وإنما روى عن أصحابه لأنه كان لا يدخل على أبي عبد الله (عليه السلام) شفقة أن لا يوفيه حق إجلاله وكان يسمع من أصحابه ويأبى أن يدخل عليه إجلالاً له وإعظاماً، ولكن توجد أحاديث في جوامع الحديث نقلها عنه مباشرة.

يتامى أهل بيته، فجعل هذه الأربعةأسهم فيهم وأما المساكين وابن السبيل فقد عرفت أنا لا نأكل الصدقة ولا تحل لنا فهي للمساكين وأبناء السبيل)(1).

2 – عن عبد الله بن بكير(2)، عن بعض أصحابه، عن أحدهما (عليهما السلام) في قول الله تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» قال: (خمس الله للإمام، وخمس الرسول للإمام، وخمس ذوي القربى لقرابة الرسول الإمام، واليتامى يتامى آل الرسول، والمساكين منهم، وأبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم).

3 – صحيحة ربعي بن عبد الله بن الجارود، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه، ثم قسم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس يأخذ خمس الله عز وجل لنفسه، ثم يقسم الأربعة أخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل يعطى كل واحد منهم حقاً، وكذلك الإمام أخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ).

4 - عن سليم بن قيس(3) قال: (سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (نحن والله الذين عنى الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيه فقال: «مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى

ص: 11


1- الأحاديث من تسلسل (1) إلى (18) في وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، الباب 1، الأحاديث من ح1 إلى ح13، و ح15، ومن ح17 إلى ح 20.
2- رواه الشيخ الطوسي بسند موثّق إلى عبد الله بن بكير وقد عُدَّ في أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.
3- رواه الكليني في (أصول الكافي: باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه، ح4) بسند صحيح إلى أبان عن سليم بن قيس، وأبان هو ابن أبي عياش لم يوثّق.

وَالْمَسَاكِينِ» منا خاصة، ولم يجعل لنا سهماً في الصدقة أكرم الله نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس).

5 – عن محمد بن مسلم(1)، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى» قال: (هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله والخمس لله وللرسول صلى الله عليه وآله ولنا).6 – صحيحة البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: (سئل عن قول الله عز وجل: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى» فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ فقال: لرسول الله صلى الله عليه وآله، وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو للإمام، فقيل له: أفرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر وصنف أقل ما يصنع به؟ قال: ذاك إلى الإمام، أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يصنع أليس إنما كان يعطي على ما يرى؟ كذلك الإمام).

7 – عن سليم بن قيس الهلالي(2) قال: (خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر خطبة طويلة يقول فيها - نحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله فقال: «فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ

ص: 12


1- رواه الشيخ الكليني (قدس سره) في الكافي عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الوشا عن أبان عن محمد بن مسلم، والحسين بن محمد بن عامر وهو نفسه ابن عمران الثقة، ومعلى بن محمد البصري، قال عنه النجاشي: أن ((كتبه قريبة)) ووصفه بأنه ((مضطرب الحديث)) ربما لأنه يروي عن الضعفاء أو أنه يروي ما يُنكر، وبقية السند صحيح فإن أبان هو بن عثمان.
2- رواه الكليني (قدس سره) في الروضة بسند صحيح إلى حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عثمان عن سليم بن قيس، و إبراهيم بن عثمان هو اسم أبي أيوب الخزاز الثقة ولعل في الاسم تصحيفاً وأن إبراهيم هو ابن عمر كما في الحديث الرابع وعلى أي حال فهما لا يرويان مباشرة عن سُليم فلعل اسم أبان بن أبي عياش ساقط.

وَابْنِ السَّبِيلِ» فينا خاصة - إلى أن قال: - ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً، أكرم الله رسوله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس، فكذبوا الله وكذبوا رسوله، وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا)... الحديث.

8 – عن حماد بن عيسى(1)،

عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: (الخمس من خمسة أشياء من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس، فيجعل لمن جعله الله تعالى له ويقسم الأربعة الأخماس بين من قاتل عليه وولي ذلك ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم سهم لله وسهم لرسول الله وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل. فسهم الله وسهم رسول الله لأولي الأمر من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة وسهم مقسوم له من الله وله نصف الخمس كملاً ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء، فهو للوالي وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به في سنتهم، وإنما صار عليه أن يموّنهم لأن له ما فضل عنهم. وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم، عوضاً لهم من صدقات الناس، تنزيهاً من الله لقرابتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وكرامةً من الله لهم عنأوساخ الناس، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيّرهم في موضع الذل والمسكنة، ولا بأس بصدقات بعضهم على بعض وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي صلى الله عليه وآله

ص: 13


1- رواها الكليني (قدس سره) في أصول الكافي (كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس، ح4) بسند صحيح عن حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا، وحماد ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم وتصديقهم لما يقولون والإقرار لهم بالفقه.

الذين ذكرهم الله فقال: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ» وهم بنو عبد المطلب أنفسهم، الذكر منهم والأنثى، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم وقد تحلّ صدقات الناس لمواليهم وهم والناس سواء ومن كانت أمه من بني هاشم و أبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له وليس له من الخمس شيء لأن الله تعالى يقول: «ادْعُوهُم لآبائِهِم» وللإمام صفو المال: أن يأخذ من هذه الأموال صفوها الجارية الفارهة والدابة الفارهة والثوب والمتاع بما يحب أو يشتهي فذلك له قبل القسمة وقبل إخراج الخمس وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم وغير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله وقسم الباقي على من ولي ذلك وإن لم يبق بعد سد النوائب شيء، فلا شيء لهم وليس لمن قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر) الحديث، إلى أن قال: (فقال: لو عدل في الناس لاستغنوا، ثم قال: إن العدل أحلى من العسل ولا يعدل إلا من يحسن العدل. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم صدقات البوادي في البوادي وصدقات أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسم بينهم بالسوية على ثمانية حتى يعطي أهل كل سهم ثمناً ولكن يقسمها على قدر من يحضره من أصناف الثمانية على قدر ما يقيم كل صنف منهم يقدر لسنته، ليس في ذلك شيء موقوت ولا مسمى ولا مؤلف، إنما يضع ذلك على قدر ما يرى وما يحضره حتى يسد فاقة كل قوم منهم وإن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة إلى غيرهم) الحديث، إلى أن قال: (وليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس على ثمانية أسهم، فلم يبق منهم أحد وجعل للفقراء قرابة الرسول (صلى الله عليه وآله) نصف الخمس فأغناهم به عن صدقات الناس وصدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وولي الأمر، فلم يبق فقير من فقراء الناس ولم يبق فقير من فقراء قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا وقد استغنى فلا فقير ولذلك لم يكن على مال النبي (صلى الله عليه وآله)

ص: 14

والوالي زكاة لأنه لم يبق فقير محتاج ولكن عليهم أشياء تنوبهم من وجوه ولهم من تلك الوجوه كما عليهم).

9 – عن أحمد بن محمد(1)،

عن بعض أصحابنا رفع الحديث قال: (الخمس من خمسة أشياء - إلى أن قال: - فأما الخمس فيقسم على ستة أسهم: سهم لله، وسهم للرسول (صلى الله عليه وآله)، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، فالذي لله فلرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فرسول الله أحق به فهو له خاصة، والذي للرسول هو لذي القربى والحجة في زمانه فالنصف له خاصة والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد (عليهم السلام) الذين لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة عوضهم الله مكان ذلك بالخمس فهو يعطيهم على قدر كفايتهم، فإن فَضلَ منهم شيء فهو له وإن نقصعنهم ولم يكفهم أتمّه لهم من عنده، كما صار له الفضل كذلك يلزمه النقصان)... الحديث.

ص: 15


1- التهذيب: ج4، كتاب الزكاة، باب 36، تمييز أهل الخمس ومستحقه، ح5.

10 – عن الريّان بن الصلت(1)،

عن الرضا (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: (وأما الثامنة فقول الله عز وجل: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى» فقرنَ سهم ذي القربى مع سهمه وسهم رسول الله (صلىالله عليه وآله) - إلى أن قال: - فبدأ بنفسه ثم برسوله ثم بذي القربى، فكل ما كان من الفيء والغنيمة وغير ذلك مما رضيه لنفسه فرضيه لهم - إلى أن قال: - وأما قوله: «وَاليَتَامَى والمَسَاكِينَ» فإن اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من الغنائم ولم يكن له فيها نصيب وكذلك المسكين إذا انقطعت مسكنته لم يكن له نصيب من الغنم ولا يحل له أخذه، وسهم ذي القربى قائم إلى يوم القيامة فيهم للغني والفقير لأنه لا أحد أغنى من الله ولا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجعل لنفسه منها سهماً، ولرسوله سهماً فما رضيه لنفسه ولرسوله رضيه لهم، وكذلك الفيء ما

ص: 16


1- رواه الشيخ الصدوق (قدس سره) في الأمالي وعيون الأخبار عن جعفر بن محمد بن مسرور عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن الريان بن الصلت، والسند صحيح إلا أن جعفر بن محمد بن مسرور لم يعرف حاله بهذا العنوان ونقل السيد الخوئي (قدس سره) في المعجم (4/122) عن الوحيد في تعليقته ((أن جعفر بن محمد بن قولويه اسمه مسرور، فإن النجاشي ذكر في ترجمة علي بن محمد بن جعفر بن موسى بن مسرور: أنه روى عنه أخوه جعفر بن محمد بن قولويه)) واستبعد (قدس سره) هذا الاحتمال جداً لأن ((جعفر بن محمد بن قولويه لم يروِ عن علي بن محمد بن جعفر بن موسى بن مسرور، وإنما روى كتابه عن أخيه علي، كما روى عن أخيه، وعليه فلم يثبت أن قولويه اسمه مسرور، بل الثابت خلافه)). أقول: ما احتمله الوحيد قريب بعد ضم عدة مقدمات (الأولى) إن اسم جعفر بن محمد بن قولويه هو جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه (معجم رجال الحديث: 4/99، 108، 118) (الثانية) إن جعفر بن محمد بن قولويه روى عن أخيه علي بن محمد (معجم رجال الحديث: 4/100، 429) فيكون الاسم الكامل لأخيه علي بن محمد بن موسى بن قولويه. (الثالثة) ورد في رجال النجاشي علي بن محمد بن جعفر بن موسى بن مسرور ولا يوجد غيره. فالنتيجة التي يحصل الاطمئنان بها أن قولويه هو مسرور.

رضيه منه لنفسه ولنبيه رضيه لذي القربى - إلى أن قال: - فلما جاءت قصة الصدقة نزّه نفسه ورسوله ونزه أهل بيته فقال: «إنَّمَا الصَدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ» الآية، ثم قال: فلما نزّه نفسه عن الصدقة ونزّه رسوله ونزّه أهل بيته لا بل حرّم عليهم لأن الصدقة محرّمة على محمد وآله وهي أوساخ أيدي الناس لا تحل لهم لأنهم طهروا من كل دنس ووسخ).

11 – رواية محمد بن الحسن الصفار في (بصائر الدرجات) عن عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر قال: (قرأت عليه آية الخمس فقال: ما كان لله فهو لرسوله وما كان لرسوله فهو لنا)... الحديث.

12 – رواية النعماني (في تفسيره) عن علي (عليه السلام) قال: (الخمس يخرج من أربعة وجوه: من الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين، ومن المعادن، ومن الكنوز، ومن الغوص، ويجري هذا الخمس على ستة أجزاء فيأخذ الإمام منها سهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربى ثم يقسم الثلاثة السهام الباقية بين يتامى آل محمد ومساكينهم وأبناء سبيلهم).

13 – رواية العياشي في (تفسيره) عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن قول الله عز وجل: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى» قال: هم قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسألته: منهم اليتامى والمساكين وابن السبيل؟ قال: نعم).

14 - وروايته أيضاً عن أبي جعفر الأحول قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ما تقول قريش في الخمس؟ قال: قلت: تزعم أنه لها، قال: ما أنصفونا والله، لو كان مباهلة لتُباهِلنَّ بنا ولئن كان مبارزة لتبارزن بنا، ثم يكونون هم وعلي سواء).

15 – وروايته أيضاً عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى»؟ قال: (هم أهل قرابة نبي الله (صلى الله عليه وآله) ).

ص: 17

16 – وروايته أيضاً عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن قول الله: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ»؟ قال: الخمس لله والرسول وهو لنا).

17 – وروايته أيضاً عن إسحاق، عن رجل قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سهم الصفوة؟ فقال: كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة أخماس للمجاهدين والقوام، وخمس يقسم (فيه سهم) رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونحن نقول: هو لنا، والناس يقولون: ليس لكم، وسهم لذي القربى وهو لنا وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل يقسمه الإمام بينهم، فإن أصابهم درهم درهم لكل فرقة منهم نظر الإمام بعد فجعلها في ذي القربى، قال: يردها إلينا).18 – وروايته أيضاً عن المنهال بن عمرو، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (قال: ليتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا).

19 – عن أبي خالد الكابلي(1) قال: (قال: إن رأيت صاحب هذا الأمر يعطي كل ما في بيت المال رجلاً واحداً فلا يدخلن في قلبك شيء فانه إنما يعمل بأمر الله)(2).

20- موثقة محمد بن مسلم(3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه: (فما كان لله فهو للرسول ويضعه حيث يشاء).

21- كتاب عاصم بن حميد الحناط(4) عن أبي بصير، قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الخمس، قال (عليه السلام): (هو لنا، هو لأيتامنا

ص: 18


1- السند صحيح لكن أبا خالد لم يذكر عمّن روى الحديث.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، الباب 2، ح3.
3- رواه الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده الى علي بن الحسن بن فضال عن ابراهيم بن هاشم عن حماد بن عيسى عن محمد بن مسلم، والسند معتبر إلا من جهة طريق الشيخ إلى ابن فضال فإنه غير تام.
4- الأحاديث من (21) إلى (23) في مستدرك الوسائل: ج7، كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، باب1، ح7، 9، 10.

ومساكيننا ولابن السبيل منّا، وقد يكون ليس فينا يتيم ولا ابن السبيل وهو لنا).

22- دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: (والخمس لنا أهل البيت، في اليتيم منا والمسكين وابن السبيل، وليس فينا مسكين ولا ابن السبيل اليوم بنعمة الله، فالخمس لنا موفّراً، ونحن شركاء الناس فيما حضرناه في الأربعة أخماس).

23- السيد حيدر الآملي في الكشكول عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث: (فأنزل الله «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...» فقسّم الخمس خمسة أقسام ... فما كان لله فهو لرسوله، وما كان لرسوله فهو لذي القربى، ونحن ذو القربى).

ص: 19

مقدمات

قبل الدخول في المسألة نذكر بعض المقدمات الممهدة لها بلطف الله تبارك وتعالى:-

(الأولى): أصناف مستحقي الخمس

اشارة

وقد ذكرتهم الآية الشريفة، قال الله تبارك وتعالى: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» (الأنفال: 41) والآية صريحة في التقسيم ستة أقسام وهي العناوين المذكورة فيها.

وتؤكده روايات شريفة عديدة كرواية ابن بكير (الثانية) وخبر حمّاد بن عيسى (الثامنة) ومرفوعة أحمد بن محمد (التاسعة) وصحيحة الريّان بن الصلت (العاشرة) وخبر النعماني في تفسيره (الثانية عشرة).

وهذا القول هو ((المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعاً بل هي كذلك في صريح الانتصار وظاهر الغنية وكشف الرموز أو صريحهما))(1)

((وعن مجمع البيان وكنز العرفان أنه مذهب أصحابنا وعن الأمالي للصدوق: أنه من دين الإمامية))(2).

قول آخر

يوجد قول آخر بأن الأصناف خمسة، وتنوع السهم المسقط فبعضٌ ((أسقط منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا القائل غير معروف كما في المسالك وإن حكى بعضٌ استظهار كونه ابن الجنيد إلا أن المحكي عنه في المختلف: موافقة المشايخ الثلاثة وباقي علمائنا))(3).

ص: 20


1- جواهر الكلام: 16/84.
2- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الخمس، ج11، ص286.
3- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره): كتاب الخمس، ج11، ص288.

واستدل له بصحيحة ربعي بن عبد الله (الثالثة) ففيها: (ثم يُقسَّم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس) ولم يذكر فيها سهماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبخبر المفضل (الثالثة والعشرون).

ورُدّ هذا الاستدلال بعدة وجوه:-

1- ما قاله العلامة: ((في المختلف كما عن جماعة ممن تبعه، أنه حكاية فعل، فلعله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ دون حقه توفيراً للباقي على باقي المستحقين)).

2- واستبعده جماعة؛ منهم صاحب المدارك بمنافاة ذلك لقوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: (وكذلك الإمام أخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) )(1).

والوجه الأول محتمل وقد دلّ كثير من الأخبار على أنه إن نقص سهمهم عن كفايته أعطاهم ما يكفيهم من عنده(2)

فيضعف من قدرة الرواية على التصرف في ظاهر الآية الشريفة، لكن الوجه الثاني وهو الاستبعاد لا ينفع في ردّ الاستدلال بل هو يؤكده إذ ظاهره أن الإمام (عليه السلام) يفعل كرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أخذ سهم الله ولم يذكر سهم الرسول (صلى الله عليه وآله).

3- وردّ أيضاً بأنَّ ((الصحيحة تحتمل التقية، لأن مذهب أبي حنيفة إسقاط حق الرسول. بل في منتهى المقاصد أنه موافق لأكثر العامة ومنهم أبو حنيفة والشافعي، بل في كنز العرفان أن عليه اتفاق علماء الجمهور))(3).

4- ويضعّف أيضاً بإعراض الأصحاب عنه بشكل كاد أن يكون إجماعاً ولا يضر فيه مخالفة مجهول النسب لأنه مخالف للكتاب والروايات الشريفة وموافق للعامة.

أما الاستدلال بخبر المفضل فمردود لمنافاته لذيله.

ص: 21


1- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره): كتاب الخمس، ج11، ص289.
2- كصحيح البزنطي (السادسة) ورواية حماد ن عيسى (الثامنة).
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 33/381.

وقال بعض: ((بحذف سهم الله تعالى وإن افتتح به تيمناً وبركة، وإلا فالأشياء كلها له، فالمراد حينئذٍ أن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسه، أو المراد أنمن حق الخمس أن يكون متقرباً به إلى الله تعالى لا غير، وإن قوله تعالى: «وَلِلرَسُولِ وَلِذِي القُربَى» من قبيل التخصيص بعد التعميم تفضيلاً لهذه الوجوه على غيرها كقوله تعالى: «وَمَلائِكَتِهُ وَرُسُلِهُ وَجِبرِيلَ وَمِيكَالَ» (البقرة: 92) )) ووصف صاحب الجواهر هذا الكلام ب-: ((اللغو الذي لا يستحق أن يسطر))(1)

وهو خلاف ظاهر الآية الكريمة والروايات الشريفة هنا وفي أصناف الزكاة الثمانية.

(الثانية): سهم الله ورسوله وذي القربى للإمام (عليه السلام)

دلّت عليه صحيحة البزنطي (السادسة) وفيها (فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ فقال: لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو للإمام) أما سهم ذي القربى فهو للإمام بدلالة الرواية الأخرى أو أن الإمام هو القدر المتيقن من ذوي القربى.

ودلت عليه مرسلة ابن بكير (الثانية) ومرفوعة أحمد المرسلة (التاسعة) ورواية حماد بن عيسى (الثامنة) وفيها (فسهم الله وسهم رسول الله لأولي الأمر من بعد رسول الله وراثة، وله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، وسهم مقسوم له من الله، وله نصف الخمس كملاً).

وخبر النعماني في تفسيره عن علي (عليه السلام) (الثاني عشر) وخبر محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) (السادس عشر) وخبر المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام) (الثالث والعشرون) وكلها تدل على أن سهم الله تبارك وتعالى للرسول (صلى الله عليه وآله) وسهم الرسول (صلى الله عليه وآله) للإمام الذي هو المعني بذي القربى.

ولا ينافيه ما في رواية زكريا بن مالك الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أما خمس الله عز وجلّ فللرسول يضعه في سبيل الله، وأما خمس

ص: 22


1- جواهر الكلام: 16/89.

الرسول فلأقاربه وخمس ذوي القربى فهم أقرباؤه) لأن الروايات المتقدمة تفسّر الأقارب بأنه الإمام (عليه السلام) وهو الذي يضع حقه حيث يشاء.

واستشكل على تفسير ذي القربى بالإمام من جهة وروده بلفظ الجمع في بعض الروايات كرواية زكريا الآنفة فيراد به مطلق أقرباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا الإمام خاصة.

وهو مردود إذ يمكن أن يراد به مجموع الأئمة (عليهم الصلاة والسلام)، على أنه قد ورد في الآية الشريفة بلفظ المفرد، قال في المعتبر: ((إن لفظ ذي القربى في الآية مفرد لا يتناول أكثر من واحد فينصرف إلى الإمام لأن القول بأن المراد منه واحد هو غير الإمام منفي بالإجماع)) ونوقش هذا من جهة ((احتمال إرادة الجنس منه كابن السبيل)) وفُرق بينهما ((بأنه مجاز صِير إليه في الثاني -أي ابن السبيل- للقرينة، إذ ليس هناك واحد متعين يمكن حمل اللفظ عليه دون الأول، فإنه لا قرينة، بل قد عرفتمما تقدم وجودها بخلافه، بل لعل عطف اليتامى والمساكين وابن السبيل مع أن المراد منه أقرباؤه أيضاً يعين إرادة الإمام من الأول))(1).

وفي دلالة الروايات المتقدمة غنى عن الخوض في هذه التفاصيل إلا للتشييد العلمي.

فهذه الأسهم الثلاثة تذهب للإمام الذي هو اليوم المهدي الموعود (عجل الله فرجه) وهو المسمى بحق الإمام (أرواحنا له الفداء) وبلحاظ غيبته فالمتصرف بهذا النصف الفقيه الجامع لشرائط النيابة عن الإمام (عليه السلام) لأنها ليست له بعنوان شخصي وإنما بعنوان منصبه لذا وردت التعابير بألفاظ (الإمام) و (الوالي) و (أولي الأمر) فتنتقل الوظيفة إلى من يتحمل مسؤولية الموقع.

(الثالثة): هل يجب بسط الخمس على مستحقيه من الأصناف الثلاثة

يراد بالبسط الاستيعاب والشمول لجميع المستحقين، ويتصور على نحوين:

ص: 23


1- جواهر الكلام: 16/86.

(أحدهما) استيعاب أفراد كل صنف بسهم ذلك الصنف فيُقسّم سهم المساكين على كل المساكين وهكذا.

(ثانيهما) استيعاب الأصناف بأن يُوزّع نصف الخمس على ثلاثة أسهم فسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل وسهم لليتامى.

فالكلام في جهتين:-

الأولى: استيعاب أفراد الصنف الواحد و ((المعروف من مذهب الأصحاب أنه لا يجب استيعاب كل طائفة من الطوائف الثلاث بل لو اقتُصر من كل طائفة على واحدٍ جاز))(1)

وادعي ((نفي الخلاف فيه، بل قد يُفهم من المنتهى الإجماع عليه))(2).

ويمكن الاستدلال له بأكثر من وجه:-

1- إن المراد من العناوين الثلاثة في الآية الشريفة الجنس كابن السبيل لا العموم، وحتى لو أريد به الجميع فبلحاظ مخاطبة الجميع، أي على جميع المكلفين أن يعطوا هذا السهم لجميع المساكين وليس أن كل واحد من المكلفين مخاطب بالدفع إلى جميع المساكين مثلاً.

2- إن الاستيعاب متعذّر وتكليف بما لا يطاق.

3- صحيحة البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام) (السادسة).

4- ولو شككنا فتجري أصالة البراءة من وجوب استيعاب الأفراد لأنه شك في أصل التكليف.ويمكن ردّها جميعاً؛ فيُردّ الأول بأن الظاهر من الجمع الاستيعاب كما لو قال شخص: أعط هذا المال للموجودين في المدرسة، فإن المفهوم منه توزيعه عليهم بالسويّة، ولا يحمل على الجنس إلا بقرينة وهي مفقودة، ويرد الثاني بأن تعذّر الاستيعاب يُقتصر فيه على حدوده لا مطلقاً، وأما الثالث فإن صحيحة البزنطي لم تنفِ وجوب الاستيعاب وإنما أوكلت أمر التصرف إلى الإمام، وأما

ص: 24


1- الحدائق الناضرة: 12/379.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/573.

الرابع فإن الأصل لا يُعمل به مع وجود الدليل وهي الآية والروايات الظاهرة في الاستيعاب.

الثانية: استيعاب الأصناف الثلاثة.

((المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز تخصيص النصف الذي للطوائف الثلاث بواحدة منها، وظاهر الشيخ في المبسوط المنع حيث قال: والخمس إذا أخذه الإمام ينبغي أن يقسّمه ستة أقسام: سهم لله وسهم لرسوله (صلى الله عليه وآله) وسهم لذي القربى، فهذه الثلاثة أقسام للإمام القائم مقام النبي يصرفه في ما شاء من نفقته ونفقة عياله وما يلزمه من تحمّل الأثقال ومؤن غيره، وسهم ليتامى آل محمد (صلى الله عليه وآله) وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم وليس لغيرهم من سائر الأصناف شيء على حال، وعلى الإمام أن يقسم هذه السهام بينهم على قدر كفايتهم ومؤونتهم في السنة على الاقتصاد، ولا يخص فريقاً منهم بذلك دون فريق بل يعطي جميعهم على ما ذكرناه من قدر كفايتهم ويسوّي بين الذكر والأنثى، فإن فضل شيء كان له خاصة وإن نقص كان عليه أن يتم من حصّته خاصة، انتهى. ونُقل عن أبي الصلاح أنه قال: يلزم من وجب عليه الخمس إخراج شطره للإمام (عليه السلام) والشطر الآخر للمساكين واليتامى وأبناء السبيل لكل صنف ثلث الشطر))(1)

ووافقهما صاحب الحدائق (قدس سره).

واستدلوا على وجوب البسط بظاهر الآية الشريفة وجملة من الروايات كمرسلة حماد بن عيسى (الثامنة) ومرفوعة أحمد بن محمد (التاسعة) وقال صاحب الحدائق إنه ((الظاهر الذي لا ينكر)) بتقريب أن اللام تدل على الملك.

ورد المشهور بوجوه:-

1- إن الآية مسوقة لبيان المصرف كما في آية الزكاة.

2- صحيحة البزنطي الصريحة بعدم التسوية في القسمة.

ص: 25


1- الحدائق الناضرة: 12/379.

3- وجود قرائن تمنع من الأخذ بظاهر الآية بعد أن سلّموا بأن ظاهرها وجوب البسط.

4- ((إن الخطاب في الآية الشريفة لما كان متوجهاً إلى آحاد المكلفين كل بالنسبة إلى ما غنمه فالحكم طبعاً مما يبتلى به كثيراً. فعليه لو وجب البسط لظهر وبان وشاع وذاع، بل أصبح من الواضحات، فكيف ذهب المشهور إلى عدم الوجوب))(1).ورد صاحب الحدائق (قدس سره) على الأول بأنه قياس ممنوع لوجود الدليل المخصص لآية الزكاة مما أوجب صرف ظهورها في البسط ولا يوجد مثله في المقام.

ويردّ الثاني بأن دلالتها على وجوب الاستيعاب أظهر لأن السائل فهم ذلك ولم يردعه الإمام (عليه السلام) فيكون ((الظاهر من معناها هو أنه لما كان ظاهر الآية البسط على الطوائف الثلاث أثلاثاً سأله السائل أنه لو كانت طائفة من هذه الطوائف الثلاث كثيرة متعددة والطائفة الأخرى واحداً أو اثنين فهل الواجب أن يدفع إلى إحداها كما يدفع إلى الأخرى ويساوي بينها كما هو الظاهر من الآية؟ أجاب الإمام (عليه السلام) بأن ذلك إلى الإمام(2)

وما يراه كان يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسّم بما يراه من المساواة إن رأى المصلحة فيها أو العدم والزيادة والنقيصة من الوجوه المرجّحة. وحملها على ما هو أعم -من أنه يجوز أن يخصَّ بذلك السهم الذي للطوائف الثلاث واحداً من طائفة كما هو المدّعى في الجهة الثانية- بعيد غاية البعد عن ظاهرها))(3)

واعترف السيد الحكيم (قدس سره) بعدم صحة الاستدلال

ص: 26


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/320.
2- وقد شرح أمير المؤمنين سيرته في توزيع العطاء، فمن كلام له (عليه السلام) لما عُوتب على التسوية في العطاء قال: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور في مَن وُلّيت عليه، والله ما أطور به ما سمرَ سمير وما أمّ نجمٌ في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله) (نهج البلاغة: ج2، صفحة 6).
3- الحدائق الناضرة: 12/381.

بصحيح البزنطي لأن ((ظاهره السؤال عن لزوم مساواة السهام وعدمه، لا جواز الحرمان وعدمه. مع أن مورده صورة اختلاف أفراد ذوي السهام - كثرة وقلة – لا مطلقاً))(1).

وأما الوجه الرابع فيردّه أن عدم شيوع البسط لأن سيرة أتباع اهل البيت (عليهم السلام) جرت بتسليم الخمس إلى الإمام أو التصرف فيه بإذنه كما سيظهر من روايات عديدة ولم يكونوا يستقلون هم بصرفه حتى يشيع عنهم البسط في التوزيع ومن تلك الروايات صحيحة عمر بن يزيد قال: (رأيت أبا سيّار مسمع بن عبد الملك بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله مالاً في تلك السنة فردّه عليه، فقلت له: لِمَ ردّ عليك أبو عبد الله المال الذي حملته عليه؟ فقال: إني قلت حين حملت إليه المال: إني كنت وليت البحرين الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم، وكرهت أن أحبسها عنك، وأعرض لها وهي حقك الذي جعل الله تعالى لك في أموالنا، فقال: وما لنا من الأرض وما أرخ منها إلا الخمس، يا أبا سيّار الأرض كلها لنا فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا، قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كله، فقال لي: يا أبا سيّار قد طيّبناه لك وحللناك منه فضمّ إليك مالك)(2).وأما القرائن المشار إليها في الوجه الثالث وأنها مانعة من ظهور الآية ((في ملكية كل صنف من هذه الأصناف وبحيث يكون الطبيعي من كل صنف مالكاً لسدس المجموع حتى يجب التوزيع من باب وجوب إيصال المال إلى مالكه))(3)،

فهي:-

1- ((إن من تلك الأصناف ابن السبيل، ولا ينبغي الشك في قلة وجوده بالنسبة إلى الصنفين الآخرين، بل قد لا يوجد أحياناً، فهو نادر التحقق.

ولازم القول بالملكية تخصيص سدس المغنم من كل مكلف - لوضوح كون الحكم انحلالياً- لهذا الفرد الشاذ النادر الذي ربما لا يوجد له

ص: 27


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/572.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح12.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/317.

مصداق بتاتاً، فيُدّخر له إلى أن يوجد، وهو كما ترى. بخلاف ما لو كان مصرفاً وكان المالك هو الطبيعي الجامع كما لا يخفى))(1).

وهو مردود لأن انتفاء موضوع أحد الأصناف لا يغيّر استحقاقات الآخرين بل يرجع أمره إلى الإمام كما في رواية حماد بن عيسى (فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي) على أن مصاديق هذا العنوان موجودة ولو كانت قليلة.

2- ((- وهي أوضح وأقوى- أن الآية المباركة دالة على الاستغراق لجميع أفراد اليتامى والمساكين، لمقتضى الجمع المحلّى باللام المفيدة للعموم.

وعليه، فكيف يمكن الالتزام باستغراق البسط لآحاد الأفراد من تلك الأصناف بحيث لو قُسِّم على بعضٍ دون بعض يضمن للآخرين، فإن هذا مقطوع العدم، فهذه قرينة قطعية على عدم إرادة الملك وأن الموارد الثلاثة مصاريف محضة))(2).

وهو مردود من جهة عدم الملازمة بين دلالة اللام على الملك ودلالة العموم على الاستغراق، فقد تُنفى الدلالة الثانية باعتبار أن الظاهر من العناوين الثلاثة الجنس لا الاستغراق ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال لحصول الإجمال، من دون أن تُنفى الدلالة الأولى فإن ظاهر اللام الملك أي ملك الجنس وليس الأفراد لولا صحيحة البزنطي وخبر الكابلي كما تقدم، على أن من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) من التزم بوجوب استيعاب الأفراد لكل صنف كصاحب الحدائق، واحتاط فيه صاحب الجواهر (قدس سره)(3) إذا لم يكن متعذّراً وعدم الوجوب في حالة التعذّر لا ينفيه مطلقاً.

ص: 28


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/318.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/318، والفكرة مأخوذة من كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره). (راجع المجموعة الكاملة لتراث الشيخ الأنصاري، ج11، كتاب الخمس، صفحة 313).
3- جواهر الكلام: 16/102.

3- ((إن هناك روايات تنصّ على أن الله تعالى جعل للفقراء في مال الأغنياء ما يكفيهم، وقد قيد إطلاق هذه الروايات بالفقراء غير الهاشميين على أساس ما دلّ على حرمة زكاة غير الهاشميين على فقرائهم، فمن أجل ذلك جعل للفقراء الهاشميين نصف الخمس بدلاً عنها، وتدل على ذلك مجموعة من الروايات منها صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إنه لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطّلبي إلى صدقة، إن الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم)(1).

بتقريب أنها ظاهرة في أن نصف الخمس مجعول للمحتاجين من الهاشميين والمطّلبيّين فيكون المالك طبيعي المحتاج منهم، وعليه فيكون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من المصاريف باعتبار أنهم أفراد المالك ومصاديقه، لا نفس المالك، فإذن يدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور الآية الكريمة في ذلك - أي الملك-، ورفع اليد عن ظهور الصحيحة في أن المالك هو طبيعي الفقراء والمحتاجين منهم بلا خصوصية للأصناف الثلاثة بعناوينها المخصوصة، ولكن لا بد من رفع اليد عن ظهور الآية على أساس أن ظهور الصحيحة حاكم عليه ومبيّن للمراد منه بجعل نصف الخمس فيها للأصناف الثلاثة، وإنه إنما جعل لهم بملاك الفقر والاحتياج بلا موضوعية لهم بعناوينهم الخاصة وإن تمام الموضوع والملاك إنما هو الفقر والحاجة))(2).

أقول: ما قاله (دام ظله) غير تام لأن الرواية مجملة من ناحية كيفية التوزيع وهي بصدد بيان أصل الاستحقاق، أما الآية الكريمة فهي مبيّنة

ص: 29


1- وسائل الشيعة، ج6، كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 33، ح1.
2- تعاليق مبسوطة: 7/189.

للتفاصيل كما اعترف (دام ظله) فالآية حاكمة على الرواية وليس العكس.

اللهم إلا أن يتمّم البيان بالقياس على مصارف الزكاة فيقال أن عناوين مستحقي الزكاة مصرف لها فهذه مثلها، وفيه أنه قياس فلا يؤخذ به مضافاً إلى وجود الدليل الخاص في الزكاة الذي صرف ظهور الاستحقاق من الملك إلى المصرف ولا يوجد مثله في المقام بحسب الفرض. ولو فرض القياس فإن الزكاة كلها يمكن إعطاؤها لصنف واحد من مستحقي الزكاة لأن المصرف هو الجامع ولا قائل بأن الخمس يمكن إعطاؤه كله لصنف واحد من الستة.

نعم يمكن أن نقرّب كلام شيخنا الأستاذ على شكل مقدمتين:-

1- إن الله تبارك وتعالى جعل الخمس لبني هاشم عوضاً عن الزكاة.1- إن مستحقي الخمس لهم عناوين بعضها غير موجود في عناوين مستحقي الزكاة وبعضها موجود، أما غير الموجود فواضح العوضية، وأما الموجود فلا بد أن تكون فيه هذه الخصوصية أي العوضية، وهذه الأصناف هي المساكين وابن السبيل ولذا خصّهما الإمام (عليه السلام) بالذكر في رواية زكريا بن مالك الجعفي (الأولى) وقال: (إنا لا نأكل الصدقة)، أما اليتامى فقد وردت أكثر من رواية على أنهم يتامى آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا وجه آخر لفهم الرواية، وعلى أي حال فهذا لا يزيد عن كون هذه العناوين الثلاثة هم من بني هاشم وأنهم يستحقون الخمس وهم مصرف له.

فالقرائن الثلاث التي ذكروها غير مانعة وحينئذٍ فلا يبقى ما يرد به على القائلين بوجوب البسط، لذا فإن المشهور بين خيارين (إما) أن يلتزم بوجوب البسط على الأصناف (أو) يلتزم بوجوب دفع الخمس كاملاً إلى الإمام وهو الذي يضعه أين يشاء كما دلّت عليه صحيحة البزنطي وغيرها.

ص: 30

ولذا فقد احتاط البعض باستيعاب أفراد كل صنف إذا فرض التمكن لكونه اللازم للاستغراق حقيقة ((وسقوط الوجوب في المتعذر والمتعسر لا يستلزم إرادة الجنسية منه التي هي معنى مجازي له))(1).

ولأنه ((الموافق لحكمة الخمس والغرض الباعث لوجوبه، وإلا لو خص به بعض الطائفة بقيت أطفال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مساكينه أو أبناء سبيله حيارى، ولعله من ذلك كله مال في الحدائق إلى القول بوجوب الاستيعاب بل صرّح بضعف المشهور)).

أقول: يرد على الأول بأن التعذّر دائمي وعلى الثاني بأنه قد تكون حكمة التشريع متحققة في القول بعدم البسط إذ إعطاء الحق كله لواحدٍ وسدّ حاجته وبقاء الآخر محتاجاً أولى من إعطاء نصف الحق لكل منهما وبقائهما محتاجين معاً، أو لوجود خصوصية في المعطي كما في رواية أبي خالد الكابلي (التاسعة عشرة) بأنه (إن رأيتَ صاحب هذا الأمر يعطي كل ما في بيت المال رجلاً واحداً فلا يدخلن في قلبك شيء فإنه يعمل بأمر الله).

(الرابعة): هل تختلف موارد الخمس في كيفية تقسيمه على مستحقيه؟

اشارة

موارد وجوب الخمس عديدة كغنائم الحرب والفاضل عن المؤونة من أرباح المكاسب والمال المخلوط بالحرام والأرض التي اشتراها الذمي من المسلم وغيرها فهل إن الخمس المستخرج من جميع هذه الموارد يقسّم بنفس الكيفية أم لا؟

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((واعلم أن التقسيم على ستة أقسام لا يختصّ بخمس الغنائم، بل عامّ في كل ما فيه الخمس من المعادن والكنوز والغوص والمكاسب والأرض المشتراة والحلال المختلط وهو المشهور بل عن السيدين (السيد المرتضى في الانتصار وابن زهرة في الغنية) دعوى

ص: 31


1- والذي يليه في جواهر الكلام: 16/102.

الإجماع عليه، وعنالمنتهى والتذكرة: نسبته إلى علمائنا، وهو ظاهر إطلاق المحكي عن كنز العرفان ومجمع البيان ومجمع البحرين والأمالي))(1).

واستدل الشيخ الأنصاري (قدس سره) بصدر مرسلة حماد بن عيسى ومرفوعة أحمد بن محمد (الثامنة والتاسعة) لكن الملاحظ أن كل الروايات التي ذكرت تقسيم الخمس على الأصناف الستة كانت بصدد تفسير آية الغنيمة وتوزيع غنائم الحرب حتى مرسلة حماد بن عيسى ومرفوعة أحمد بن محمد اللتين استدل بهما الشيخ الأنصاري (قدس سره) ففي الأولى بقرينة قوله (عليه السلام): (ويقسّم الأربعة الأخماس بين من قاتل عليه وولي ذلك ويقسّم بينهم الخمس على ستة أسهم) فقوله (عليه السلام): (قاتل عليه) قرينة على الاختصاص، نعم يمكن رده بأن (ولي ذلك) يراد بها بقية الأقسام بناءً على عودة (ذلك) على البقية أي الغوص والكنز وغيرها من باب اللف والنشر المرتب فيكون التقسيم شاملاً للجميع، وقد يُردّ بأن العطف للبيان هنا وليس للمغايرة وإن (ذلك) ترجع إلى القتال.

فلا بد من تتميم دلالة الروايات بأحد تقريبين:

(الأول) مكون من مقدمتين:-

1- إن الآية الشريفة ذكرت الأصناف الستة كمصرف لخمس الغنيمة.

2- إن الغنيمة وإن كانت بحسب سياق الآية تنصرف إلى غنائم الحرب، إلا أن الروايات المعتبرة دلّت أن معناها أوسع من ذلك فيشمل كل ما أفاده ففي صحيحة علي بن مهزيار عن الإمام الجواد (عليه السلام) بعد أن ذكر الآية الشريفة قال (عليه السلام): (فالغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أبٍ ولا ابن)(2) الحديث.

ص: 32


1- موسوعة الشيخ الأنصاري: ج11، كتاب الخمس، صفحة 297.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح5، 6، 7.

وموثقة سماعة قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير)(1).

وصحيحة ابن يزيد قال: (كتبت: جعلت لك الفداء تعلمني ما الفائدة وما حدّها؟ رأيك أبقاك الله أن تمن عليّ ببيان ذلك لكي لا أكون مقيماً على الحرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة مما يفيد إليك في تجارة من ربحها، وحرث بعد الغرام، أو جائزة)(2).

ولكن يمكن الاستشكال بأن يقال إن هذا التعميم بلحاظ أصل وجوب الخمس فيجب في هذه الموارد كما يجب في غنائم الحرب ولا إطلاق له ليشمل كيفية التوزيعأصناف مستحقي الخمس، اللهم إلا أن يقال بعدم الفصل وهو أول الكلام إذ هو عين المطلوب.

قال السيد الحكيم: ((ثم إنه لا فرق بين الموارد في وجوب قسمة الخمس على النحو المذكور، وفي المدارك: (الأصحاب قاطعون بتساوي الأنواع في المصرف...) وعن جماعة: دعوى الإجماع - صريحاً وظاهراً- عليه. ويقتضيه: ظاهر مرسل حماد، ومرفوع أحمد بن محمد بل إطلاق الآية بناءً على عمومها لجميع الأنواع -كما تقتضيه جملة من النصوص مضافاً إلى الإطلاق المقامي لنصوص تشريع الخمس في موارده، فإن عدم التعرض فيها لمصرفه ظاهر في إيكال معرفته إلى ظاهر الآية ونحوها من النصوص المتعرضة لذلك))((3).

وفيه: إن الإجماع منقول ولو سلّمناه فإنه مدركي مستند إلى فهم النصوص، وأما الرواية فقد ناقشنا دلالتها بأنها في مورد غنائم الحرب وأما إطلاق الآية فلا يكفي إلا بعد تتميم دلالتها بما تقدم وقد ناقشناه وأما الإطلاق المقامي فسنناقشه في الوجه الثاني بتقريب السيد الخوئي (قدس سره).

وينقض على القول بعدم الفصل بموردين:

الأول: خمس الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، وتقريبه أن الخمس المعهود جعلوه من العبادات كالزكاة التي يشترط فيها قصد القربة وهذا القصد

ص: 33


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح5، 6، 7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح5، 6، 7.
3- (1) مستمسك العروة الوثقى: 9/570.

لا يتأتى من غير المسلم، قال السيد الشهيد الصدر (قدس سره): ((دفع الزكاة من العبادات، فلا يصح إلا مع نيّة القربة والتعيين وغيرهما مما يعتبر في صحة العبادة))(1)

فلا بد أن يكون هذا الخمس غير الخمس المعهود ولعل هذا الوجه هو الذي دفع السيد السيستاني (دام ظله الشريف) إلى أن يقول في هذا المورد من وجوب الخمس: ((ولكن ثبوت الخمس فيها بمعناه المعروف لا يخلو عن إشكال))(2)

ولعله يميل إلى ما نُقل عن المدارك وعن المنتقى من ((احتمال إرادة تضعيف العشر الذي هو الزكاة على الذمي من النص -أي نصوص وجوب الخمس في هذا المورد- تبعاً للمحكي عن مالك من القول بمنع الذمي من شراء الأرض العشرية، وأنه إذا اشتراها ضوعف عليه العُشر فيجب الخمس))(3)،

ولعله لهذا أيضاً قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره): ((الأحوط توسيط قبض الحاكم الشرعي في دفع هذا الخمس إلى مستحقيه وهو الذي يتولى النية. وإن كان المالك هو الدافع))(4).ولم يحتج السيد الخوئي (قدس سره) لهذا الاحتياط لأنه لا يرى أصلاً اعتبار نية القربة ((لعدم الدليل على عبادية هذا النوع من الخمس لكي يحتاج إلى القربة غير الممكن صدورها من الكافر حتى يُبحث عمن ينويها عنه من الحاكم أو غيره، لافتراقه عن بقية الأنواع في عدم كونه من قبيل الغنائم، وإنما هي كضريبة مالية متعلقة بما يشتريه من المسلم نظير الضرائب الحكومية.

على أن عبادية الخمس في سائر الأنواع أيضاً لم تثبت بدليل لفظي لكي يُتمسك بإطلاقه، وإنما استندنا فيها إلى الإجماع والارتكاز والسيرة القطعية بما تقدّم في كتاب الزكاة من حديث المباني المتضمن أن مباني الإسلام خمسة وعد منها الزكاة -ومعلوم أن الخمس بدل الزكاة-))(5).

ص: 34


1- منهج الصالحين: طبعة دار الأضواء، ج1، صفحة 289، المسألة (1584).
2- منهاج الصالحين: ج1، صفحة 389.
3- جواهر الكلام: 16/67.
4- منهج الصالحين: ج1، صفحة 300، المسألة (1645).
5- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/183.

الثاني: خمس المال المخلوط بالحرام إذا جهل مقداره ومالكه فقد روي في الوسائل عن الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه والطوسي في التهذيب والبرقي في المحاسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: إني كسبت مالاً أغمضت في مطالبه حلالاً وحراماً، وقد أردت التوبة ولا أدري الحلال منه والحرام وقد اختلط عليّ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) تصدّق بخمس مالك فإن الله قد رضي من الأشياء بالخمس وسائر الأشياء لك حلال)(1)

فإنها صريحة بأن خمس المال المخلوط بالحرام يكون صدقة.

كما أن الحكم بالتصدق بهذا الخمس الذي رضيه الله تبارك وتعالى محللاً للمال المخلوط بالحرام الذي لم يعرف صاحبه ولا مقداره هو الأوفق بالقواعد الجارية في نظائره كمجهول المالك من التصدق به عن صاحبه عند العجز عن إيصاله إليه فيوصل له ثوابه فيكون نحواً من أنحاء الإيصال إليه.

لذا فإنهم لم يقولوا بالحكم على إطلاقه وإنما خصّوه بالمورد الذي تقتضيه القاعدة. فلا يجزيه دفع الخمس لو علم إجمالاً أنه أزيد من الخمس.

وقد تردد الشهيد الثاني (قدس سره) بين صرفه خمساً أو صدقة فقال في هذا المورد: ((وهل هو خمس أو صدقة؟ وجهان، ولا ريب أن جعله خمساً أحوط))(2)

وهذا الاحتياط يكون وجيهاً إذا بنينا على أن الصدقة المحرم دفعها من غير الهاشمي مختصّة بالزكاة وزكاة الفطرة وإلا فسيكون التعامل مع هذا المورد على أنه خمس ويعطى منه لبني عبد المطلب مشكلاً.

وقرّب الشيخ الأنصاري (قدس سره) عدم منافاتها باعتبار أن التصدق ((ينسب إلى الخمس في بعض الأخبار))(3) لكنه ردّ هذا التقريب ((لأن إطلاقه

ص: 35


1- وسائل الشيعة: ج6، كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 10 ، ح4.
2- مسالك الأفهام: 1/467.
3- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري: كتاب الخمس: 11/258، ونقل السيد الخوئي (قدس سره) عن المحقق الهمداني بأنه لم تحضرنا من ذلك ولا رواية واحدة (المستند في شرح العروة الوثقى: 25/128، مصباح الفقيه: 14/154). أقول: يمكن الإشارة إلى أكثر من رواية تقرّب المعنى الذي قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره) منها خبر الصدوق في الفقيه والخصال عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) (في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) قال: (يا علي إن عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام) إلى أن قال: (ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله: «وَاعلَمُوا أنَّ مَا غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ» ) (وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 5، ح3). وذيل رواية زكريا بن مالك الجعفي (الأولى) التي وصفت سهمي المساكين وابن السبيل بالصدقة، بل إطلاق الآية الشريفة «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (التوبة:103) شامل لكل الإنفاق المالي ومنه الخمس.

منصرف إلى الصدقة المقابلة للخمس، بل انصرافه أقوى من انصراف لفظ الخمس المذكور بعده إلى الحق الخاص، بل أمره (عليه السلام) بالتصدق من دون طلب نصفه المختص به قرينة على عدم إرادة الحق الخاص. واحتمال إذنه (عليه السلام) في صرف حقه المختص إلى شركائه مدفوع - مضافاً إلى ظهور الكلام في الفتوى دون الإذن- بأن التعليل ظاهر في كون الحكم من باب الفتوى لا الإذن لخصوص السائل)).

ثم دفع كل ذلك ((بظهور قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية (فإن الله قد رضي من الأشياء بالخمس) ومن المعلوم أن غير الخمس المصطلح غير معهود في الأشياء))، وهو معنى ذكره غيره ممن سبقه ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره) حيث سلّم ب-((ظهور لفظ الخمس في النصوص والفتاوى في ذلك بل لعله حقيقة شرعية فيه بل ينبغي القطع بالمتشرعية التي تحمل عليها الفتاوى وبعض النصوص))(1).

وتبنّى هذا الكلام السيد الخوئي (قدس سره) فقال: ((فيكون المراد من الخمس هنا ذاك الخمس المقرر المجعول في الشريعة المقدسة الذي رضي الله به في موارده الخاصة فهذا الذيل قرينة واضحة على استظهار إرادة الخمس المصطلح

ص: 36


1- جواهر الكلام: 16/72.

ولا أقل من صلوحه للقرينية بحيث ينثلم معه ظهور لفظ الصدقة ولأجله تصبح الرواية الأولى بلا معارض، فيكون الخمس هنا كالخمس في بقية الأقسام))(1)

يريد بالرواية الأولى معتبرة عمار بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سُئلَ عن عمل السلطان، يخرج فيه الرجل؟ قال (عليه السلام): لا، إلا أن لا يقدر على شيء يأكل ويشرب ولا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت)(2).وأكّد هذا المعنى في موضع آخر فقال (قدس سره): ((وكيفما كان، فالالتزام بالتصدق والاكتفاء به في مقام التفريغ إنما كان من أجل تلك الروايات -أي التي أمرت بالتصدق بمجهول المالك-، وعليه فإذا فرضنا ورود رواية معتبرة دلّت في مورد خاص -كالمقام- على وجوب التخميس فبطبيعة الحال تكون هذه الرواية مخصّصة لتلك الأخبار ومقيّدة لإطلاقها بمقتضى صناعة الإطلاق والتقييد، وقد عرفت أن معتبرة عمار دلّتنا على ذلك صريحاً، وبعد ورودها كيف يسعنا الأخذ بإطلاق نصوص الصدقة لولا رواية السكوني))(3).

وفيه: -

1- إن الرواية لا ظهور لها في المال المخلوط بالحرام فربما شملها الخمس من جهة تعلقه بمطلق الغنيمة والفائدة.

2- إن الخمس المعهود إن أراد به النسبة والكسر المخصوص فهو صحيح ولكنه لا ينفعه وإن أراد به الخمس الذي يوزّع على الأصناف الستة فهو أول الكلام، واستدلاله (قدس سره) ومن قبله الشيخ الأنصاري (قدس سره) مستبطن لضميمة عدم القول بالفصل وهو عين المطلوب.

فتبقى رواية الصدقة بلا معارض فضلاً عن ترجيح غيرها عليها الذي قاله السيد الخوئي (قدس سره) ونفى عنه الريب.

ص: 37


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/128.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 10، ح2.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/131.

أقول: ما ذكرناه من معتبرة عمار بن مروان هو الموجود في كتاب المستند، ولعل السيد الخوئي (قدس سره) أراد بالمعتبرة رواية أخرى وهي صحيحة عمار بن مروان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) في ما يخرج من المعادن والبحر، والغنيمة، والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه،والكنوز: الخمس)(1)

ولا يرد عليها الأمران فهي صريحة في المال المخلوط بالحرام وذكرته في سياق واحد مع خمس الغنيمة مما يشعر بإرادة الخمس المعهود، لكن يرد حينئذٍ ما قلناه من أن هذه الوحدة بلحاظ أصل وجوب الخمس وتحتاج كيفية توزيعه إلى بيان آخر.

ولا أدري إن كان هذا مراد السيد الخوئي (قدس سره) ووقع الاشتباه من قلم المقرر (قدس سره) أو غير ذلك.

نعم يمكن الإشكال من جهة أخرى وهي أن الرواية في المصادر المذكورة غير متطابقة في المتن فقد رواها الصدوق(2):

(أخرِج خمس مالك) و (قد رضي من مال الإنسان بالخمس) فلا ذكر فيها للتصدّق، والرواية واحدة أكيداً لأن طريق الكليني يتحد مع طريق الصدوق في كون الطريق إلى السكوني هو إبراهيم بن هاشم عن النوفلي عنه فتكون الرواية مجملة لعدم العلم بصدور أي منهما، ولا ترجيح لأحد النصّين فيسقطان عن الاعتبار والحجية، إن لم نقل بترجيح نصّ الصدوق لتأييده بخبر الحسنبن زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن رجلاً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إني أصبت مالاً لا أعراف حلاله من حرامه، فقال له: أَخرج الخمس من ذلك المال، فإن الله عز وجلّ قد رضي من ذلك المال بالخمس)(3) الحديث.

نعم لو كانت الرواية متعددة فيجمع بينهما بعدم التنافي لأن (أخرج) لا تنافي (تصدّق) فيمكن الجمع بينهما ب-(أخرج وتصدق بخمس مالك).

وعلى أي حال فإن هذين الموردين (المال المخلوط بالحرام والأرض التي اشتراها الذمي من المسلم) يمكن إخراجهما تخصّصاً لأنهما ليسا من الغنيمة

ص: 38


1- الخصال للصدوق: باب الخمسة، حديث 51.
2- الفقيه: ج3، كتاب المعيشة، باب الدين والقرض، ح3715.
3- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 10، ح1.

حتى على المعنى الواسع الذي ذكرناه وإن الروايات التي استُدل بها على وحدة كيفية التقسيم كرواية حماد بن عيسى اقتصرت على ذكر الخمسة الأخرى فلا يكونان مشمولين بكيفية التوزيع السداسي.

(الثاني) -من تقريبات تتميم الدلالة على وحدة كيفية التقسيم-: ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) في تقريب اتحاد موارد وجوب الخمس في كيفية الصرف ومستحقيه بأن ((الدليل المتكفّل لثبوت الخمس في سائر الموارد من الغوص والكنز والمعدن ونحوها مع عدم التعرض لبيان المصرف يظهر منه بوضوح أن المراد به هو الخمس المعهود المقرّر في الشريعة المقدسة المشار إليه وإلى مصرفه في الآية المباركة كما هو ظاهر جداً))(1).

وفيه مزيد بيان لما قاله السيد الحكيم (قدس سره) من الإطلاق المقامي.

أقول: هذا غير كافٍ أيضاً لأن الروايات الشريفة تكفّلت ببيان المصرف وهو الدفع إلى الإمام وهو الذي يضعه حيث يشاء وكصحيحة البزنطي التي أوكلت كيفية الصرف إلى ما يرى الإمام وغيرها.

فالقدر المتيقن هو دفع الخمس إلى الإمام أو نائبه في جميع موارد الخمس ما عدا خمس الغنيمة. بل فيه أيضاً من جهة أن الإمام هو الذي يتولى تقسيم الغنيمة.

(الخامسة) إجزاء دفع الخمس كاملاً إلى الإمام

اشارة

وهو متفق عليه ودلّت عليه الروايات الشريفة بالدلالة المطابقية وبدلالة الاقتضاء كما جرت عليه سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في قبض الخمس كله والتصرف فيه أو أمر شيعتهم بالدفع إلى وكلائهم.

فمن الطائفة الأولى من الروايات صحيحة علي بن مهزيار عن الإمام الجواد (عليه السلام) بعد أن شرح آية الخمس وأن وجوبه يشمل مطلق الفائدة والغنيمة قال (عليه السلام): (فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصله إلى

ص: 39


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/ 310.

وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقة فليتعمّد لإيصاله ولو بعد حين)(1)

ومعتبرة عمار بن مروان الآنفة عن أبيعبد الله (عليه السلام) وفيها: (فليبعث بخمسه إلى أهل البيت) وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن أربعة أشياء) إلى أن قال: (وأما الخمس فإنّا نزعم أنه لنا، وزعم قومٌ أنه ليس لنا فصبرنا)(2)

الحديث، ومرسلة الصدوق (رضوان الله عليه) قال: (جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أصبت مالاً أغمضت فيه، أفَلي توبة؟ قال: ائتني خمسه فأتاه بخمسه، فقال: هو لك إن الرجل إذا تاب تاب ماله معه)(3)

ومحل الشاهد قوله (عليه السلام): (ائتني خمسه) أما قوله (عليه السلام): (هو لك) فهو شاهد من الطائفة الثانية، وصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس)(4)

وما دلّ على أن الخمس لهم (عليهم السلام) حتى إذا لم يوجد ابن السبيل واليتيم فيهم كخبر أبي بصير (الحادي والعشرون) وخبر الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (الثاني والعشرون).

ومما يدلّ اقتضاءً على المطلب عدة طوائف من الروايات كالتي دلّت على أن الإمام يكمل لهم من حقه إذا نقصوا، ويأخذ الفاضل عن مؤونتهم كرواية حماد بن عيسى: (فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به في سنتهم)، وهذا يعني أنه هو الذي يقبض الخمس ويوزّعه، وروايات التحليل التي تقتضي تصرّف الإمام بالخمس كاملاً كصحيحة عمر بن يزيد التي تقدمت (في صفحة 27)، ومثل صحيحة البزنطي (السادسة) كاشفة عن أن قبضه والتصرف فيه بيد الإمام (عليه السلام)، وقد استدل شيخنا الأستاذ الفياض

ص: 40


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح5.
2- الخصال: باب الأربعة، ح75، صفحة 235.
3- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 10، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 2، ح6.

(دام ظله) بصحيحة البزنطي على عدم جواز التصرف في حق السادة إلا بإذن الإمام، أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط(1).

ص: 41


1- تعاليق مبسوطة: 7/223.

البحث في المسألة

وهي هل يجوز للمكلف فرز نصف الخمس المعروف ب-(حق السادة) والاستقلال بإيصاله إلى المحتاجين من ذرية عبد المطّلب من دون مراجعة الفقيه الجامع لشروط النيابة عن الإمام المعصوم (عجل الله فرجه الشريف)؟

اختار جماعة من المتأخرين جواز دفع المكلف حق السادة إليهم مباشرة، قال صاحب العروة: ((وأما النصف الآخر الذي للأصناف الثلاثة فيجوز للمالك دفعه إليهم بنفسه)) واحتاط استحباباً بالدفع ((إلى المجتهد أو بإذنه لأنه أعرف بمواقعه والمرجّحات التي ينبغي ملاحظتها)) واستدلّوا بأن هذا حقّهم في ذمة المكلف وعليه إيصاله إليهم من دون الحاجة إلى وساطة أحد وهو المجتهد الجامع للشرائط وإطلاق الآية والروايات الدالة على الاستحقاق ينفي التقييد بهذه الوساطة والأصل ينفيه أيضاً، واستدلوا أيضاً ((بالسيرة الجارية من المسلمين في إعطاء خمسهم بأنفسهم))(1)

وبالإجماع.

والأدلة كلها مردودة إذ السيرة غير ثابتة بل الثابت عكسها لما تقدم من تسليم الخمس كله للإمام، والأصل لا يعتمد عليه مع وجود الأخبار وسنذكر أن الأصل الجاري في المقام غيره، والآية مجملة لم تبين أن مستحقي هذه الأسهم الثلاثة هم من بني عبد المطّلب خاصة والإجماع مدركي وهو غير متحقق فيما يتعلق بملكية السادة لنصف الخمس وإنما هم من موارد صرفه، بل ناقش بعضٌ في كونهم مصرفاً له في زمن الغيبة، والشاهد على عدم تحقق الإجماع تعدد الأقوال في المسألة فقد جزم الديلمي بسقوطه وإباحته للشيعة وقوّاه في الذخيرة ونسبه في الحدائق إلى شيخه الشيخ عبد الله بن صالح وإلى جملة من معاصريه وقال بعض بوجوب دفنه إلى زمان ظهوره (عجل الله فرجه) وقيل بوجوب الوصية به كما عن التهذيب، وقيل بالتخيير بين قسمته بين الأصناف الثلاثة

ص: 42


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 33/436.

وعزله وحفظه والوصية به، كما عن المقنعة، أو بين ذلك والدفن كما عن المبسوط(1).

أما الروايات التي دلّت على أن المراد بالأصناف الثلاثة (ابن السبيل، المسكين، اليتيم) هم من بني عبد المطّلب هي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (الرابعة والسابعة) في الأصناف الثلاثة الذين ذكرتهم الآية قال (عليه السلام): (منّا خاصة)، ورواية حمّاد بن عيسى (الثامنة) وفيها (ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهمٌ ليتاماهم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم) ومرفوعة أحمد بن محمد (التاسعة) وفيها (والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد عليهم السلام)، ورواية النعماني في تفسيره عن علي (عليه السلام) (الثانية عشرة)وفيها (ثم يقسّم الثلاثة السهام الباقية بين يتامى آل محمد ومساكينهم وأبناء سبيلهم) وما ورد في كتاب عاصم بن حميد الحناط (الحادية والعشرون) ودعائم الإسلام (الثانية والعشرون).

والروايات كلها غير نقية السند وإن حاول بعضهم تصحيحها برواية ((المحمدين الثلاثة الذي يكفي اتفاقهم على روايته جبراً لإرساله - أي خبر حمّاد بن عيسى))(2)،

لكن هذا المبنى غير تام، وعلى أي حال فإن تظافرها ومتون بعضها خصوصاً مرسلة حماد بن عيسى ونظائرها يحصِّلُ الاطمئنان بصدور هذا المعنى في الجملة(3) عنهم (صلوات الله عليهم) مؤيدة بما دلّ على

ص: 43


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/584.
2- جواهر الكلام: 16/91.
3- للمحقق الحلي في المعتبر وجه في قبول هذه المراسيل، قال (قدس سره): ((وإذا سلم النقل من المعارض ومن المنكر لم يقدح إرسال الرواية الموافقة لفتواهم، فإنّا نعلم مذهب أبي حنيفة والشافعي وإن كان الناقل عنه واحداً، وربما لم يُعلم الناقل عنه بلا فصل وإن علمنا نقل المتأخرين له، وليس كل ما أسند عن مجهول لا يعلم نسبته إلى صاحب المقالة، ولو قال إنسان لا أعلم مذهب أبي هاشم في الكلام ولا مذهب الشافعي في الفقه لأنه لم ينقل مسنداً كان متجاهلاً، وكذا مذهب أهل== == البيت (عليهم السلام) يُنسب إليهم بحكاية بعض شيعتهم سواء أرسل أو أسند إذا لم ينقل عنهم ما يعارضه ولا ردّه الفضلاء منهم)) (الحدائق الناضرة: 12/384). وهو في الحقيقة جبر للخبر الضعيف بعمل الأصحاب واتفاقهم على الأخذ به والحجة حينئذٍ هذا الاتفاق، وهذا الكلام كبروياً صحيح إذا رجع إلى الاستدلال باتفاق قوم جيلاً بعد جيل على رأي معيّن على كونه رأي إمامهم ورئيسهم وهو مناط حجية الإجماع فإن مذهب إمام قومٍ يؤخذ من إجماع أتباعه واتفاقهم على العمل به، لكن الكلام قد يكون في كون هذا المقام أو ذاك صغرى له، وإذا رجع إلى أمر آخر كجبر حجية الخبر الضعيف بعمل الأصحاب فهو غير تام.

أن الله تبارك وتعالى قد عوّض أهل بيت النبي عن الصدقة بالخمس كخبر الصدوق في الخصال عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (إن الله الذي لا إله إلا هو لما حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام، والخمس لنا فريضة، والكرامة لنا حلال)(1)

واستدلوا أيضاً بالإجماع ((وإن حكي عن ابن الجنيد ذلك مع استغناء ذي القربى، لكن خلافه غير قادح في محصّل الإجماع فضلاً عن محكيه))(2).

لكن الاستدلال بهذا المقدار غير كافٍ لإثبات استقلال المكلف بدفع الخمس من دون مراجعة الفقيه المبني على اختصاصهم به وملكيتهم لهذا النصف، فلم يثبت إذَنعلى مستوى المقتضي ما يدل على ملكية هذه العناوين الثلاثة من بني هاشم لنصف الخمس وكل الذي ثبت أنهم أحد مصارف الخمس في الجملة.

وعلى مستوى ثانٍ يمكن ذكر جملة من الاستبعادات للقول باستقلال المالك في دفع نصف الخمس إلى الأصناف الثلاثة، وهي في عين الوقت تقرّب النتيجة التي نعتقد بصحّتها وهي لزوم دفع الخمس كاملاً إلى الإمام أو نائبه

ص: 44


1- الخصال: باب الخمسة، ح51. ورواه مرسلاً في الفقيه: ج2، كتاب الخمس، ح1650.
2- جواهر الكلام: 16/88.

الفقيه الجامع للشرائط وهو الذي يقوم على رعاية بني هاشم والصرف عليهم:-

1- إن الروايات التي وردت في تقسيم بيان مستحقي الخمس من الأصناف الستة كلها كانت في تفسير الآية الشريفة التي هي مختصة بغنائم الحرب بحسب سياقها من الروايات المتقدمة أو خبر(1)

زرارة في حديث قال: (إنه لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطّلبي إلى صدقة إن الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم)(2)

فجعل الخمس لبني هاشم في كتاب الله يعني في الغنيمة خاصة، ولم تتم التقريبات التي ذكرناها في المقدمة الرابعة لتتميم الدلالة على التعميم.

فالقدر المتيقن أن هذا التقسيم مختص بخمس غنائم الحرب ولا دليل على تعميمه إلى كل موارد وجوب الخمس التي ورد فيها ذكر الخمس ولكن لم يتضمن دليل وجوبها الإشارة إلى كيفية تقسيم خمس تلك الموارد أو الإشارة إلى مستحقيها كخمس غنائم الحرب.

ويؤيد هذا أن الغنيمة ذكرت كقسيم لموارد وجوب الخمس الأخرى في عدة -مما يعني أنها موارد مبنائية- روايات كصحيحة عمّار بن مروان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) في ما يخرج من المعادن والبحر، والغنيمة، والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه، والكنوز: الخمس)(3)

وفي ضوء هذا التفريق يحصل لنا وجه لفهم صحيحة عبد الله بن سنان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة)(4) أي ليس الخمس الذي فيه هذه الكيفية المعهودة للتقسيم إلا في الغنائم خاصة.

ص: 45


1- الذي أشرنا سابقاً إلى أن شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) وصفه بالصحة (تعاليق مبسوطة: 7/207).
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 33، ح1.
3- الخصال للصدوق: باب الخمسة، حديث 51.
4- وسائل الشيعة: ج6، كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب2، ح1.

وقد نقضنا في المقدمة الرابعة على القول بعدم الفصل بموردين هما خمس الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم، والمال المخلوط في الحرام، ولذا نقل عن بعضٍ ((التأمل في مصرفه - أي خمس الأرض التي اشتراها الذمي منمسلم- لاحتمال كون المراد من الخمس الخراج الخمسي، فيكون مصرفه مصرف بيت المال))(1).

وإذا أردنا أن نمضي في الإشكال خطوة أخرى فنقول: إن الأمر بالتصدق بخمس هذا المورد - وهو المال المخلوط بالحرام- يوجب إشكالاً في فرز نصفه بعنوان حق السادة لحرمة الصدقة من غير الهاشمي على الهاشمي.

2- إن الروايات التي فسّرت الأصناف الثلاثة ببني عبد المطّلب كلها غير نقية السند وقد قبلنا المعنى في الجملة وهو كونهم مصرفاً لهذا الحق أما اختصاصهم به وملكيتهم له فلا يبقى دليل تام عليه، بل الدليل على خلافه لورود التقسيم في الروايات المعتبرة على العناوين الثلاثة مطلقاً من دون اختصاصه ببني عبد المطلب كصحيحة ربعي بن عبد الله (الثالثة) وفيها: (ثم قسّم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس يأخذ خمس الله عز وجلّ لنفسه، ثم يقسّم الأربعة أخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل يعطي كل واحد منهم حقاً) وذيل رواية زكرياً بن مالك الجعفي (الأولى) وفيها: (وأما المساكين وابن السبيل فقد عرفت أنا لا نأكل الصدقة ولا تحلّ لنا فهي للمساكين وأبناء السبيل) وكذا مصححة الريان بن الصلت (العاشرة) فلا تصلح الروايات الأولى لتقييد هذه وتكون خصوصية الخمس عن الزكاة بشمول بني المطلب بهذه العناوين من دون اختصاصهم بالأسهم.

3- إنهم وإن قالوا بأن الأصل في اللام أنها للملك إلا أن ذلك لم يثبت فقد قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) ب-((منع كون اللام للملكية لمنع كونها

ص: 46


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/508.

حقيقة فيه، بل المحكي عن محققي أهل العربية كونها حقيقة في الاختصاص، فالمراد -هنا – اختصاص أرباب الخمس في مقابل غيرهم بمعنى أنه لا يخرج منهم إلى غيرهم))(1).

ولو سلّمنا فإنها في المقام تفيد المصرف بحسب ما يفهم العرف، كما لو سُئل الفقيه اليوم عن مصرف حق الإمام (عليه السلام) فيقول لشؤون الحوزات العلمية وترويج الدين وتزويج الشباب المؤمنين ومساعدة الفقراء فإن المتلقي لا يفهم تقسيمه إلى أربعة أسهم بالتساوي وإنما يفهمها مصاريف للحق حتى لو أنفقه كله في صنف واحد، فالآية الشريفة تجري هذا المنحى.

نعم ورد التركيز في الروايات على الصرف على هذه الأصناف من بني عبد المطّلب لأمور:- أ. حرمانهم من الزكاة فيكون هذا عوضاً لهم. ب. مظلوميتهم وقيام الطواغيت بمحاصرتهم ومصادرة أموالهم. ج-.تحمّلهم أكثر من غيرهم لمسؤولية نشر تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) والدفاع عنها والتضحية من أجلها وهذا واضح تأريخياً حتى اليوم.

فتكون لهم أولوية الصرف لا الاختصاص أو الملكية.

4- إن المشهور الذي ادعي عليه بالإجماع هو عدم وجوب البسط على الأصناف، ودليلهم على ذلك صحيح البزنطي كما تقدم (في صفحة 40) عن شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله)، وهو لم يتضمن دفع النصف إلى العنوان الجامع للأصناف الثلاثة كالهاشمي المحتاج ونحوه، وإنما أوكلت الأمر للإمام، فالمشهور إذن إما أن يلتزم بالبسط على جميع الأصناف أو يقول بلزوم دفعها إلى الإمام أو نائبه وهو يرى كيفية الصرف وليس ما ذهبوا إليه.

ص: 47


1- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الخمس، ج11، ص311.

5- لو سلّمنا بأن نصف الخمس هو لذريّة عبد المطلب فإنه ليس لهم بعنوانهم الشخصي وإنما بعنوان تصدّيهم لقيادة الأمة وحفظ الشريعة ونشر تعاليم الإسلام وإنصاف المظلومين والقيام على المصالح العامة؛ دلّ عليه خبر أبي بصير (الحادي والعشرون) وخبر الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (الثاني والعشرون).

وإلا كيف نتصور أن خمس الغنائم التي بلغت ملايين الدنانير الذهبية في عصر الفتوحات الإسلامية تكون ملكاً لبني عبد المطلب وهم يومئذٍ لا يتجاوزون العشرات عدداً أما من تنطبق عليه العناوين الثلاثة فقد يكون معدوماً والله تبارك وتعالى يقول: «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأَغنِيَاءِ منكُم» (الحشر: 7) فهذا الاستحقاق لهم بلحاظ المسؤولية لا الأشخاص.

وهذا ما لم يفهمه هارون العباسي حينما اعترض على الإمام الكاظم بحسب ما روي عن الإمام الكاظم(عليه السلام) قال: (قال لي هارون: أتقولون أن الخمس لكم؟ قال: قلت: نعم، قال: إنه لكثير، قال: قلت: إن الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير)(1).

وفي موثقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (إني لأأخذ من أحدكم الدرهم وإني لَمِن أكثر أهل المدينة مالاً، ما أريد بذلك إلا أن تطهروا)(2).

6- ذهب المشهور إلى عدم وجوب البسط على الأصناف فضلاً عن أفراد كل صنف لأن العناوين مصرف للخمس وليست مالكة له؛ قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فأفراد هذه الأصناف كنفسها مصارف للخمس كما هو الحال في مصارف الزكاة الثمانية))(3)، وعدم البسط هذا جارٍ في كل الأصناف الستة، إذ لا وجه لافتراضه بين الثلاثة فقط كأصناف الزكاة الثمانية، فلا اختصاص لهم إذن وإنما هم مصرف كالآخرين ويؤيد هذا المعنى ما ورد من أن الزائد عن نصف الخمس يذهب إلى الوالي لأنه يسدُّ

ص: 48


1- مستدرك الوسائل: كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، باب 1، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 1، ح3.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/318.

حاجتهم إذا لم يفِ بها الحق كما في رواية حماد بن1- عيسى (الثامنة) وفيها: (يقسّم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به في سنتهم، وإنما صار عليه أن يموّنهم لأن له ما فضل عنهم)، ويترتب على ذلك إمكان إعطاء الخمس كله لواحد من الأصناف الثلاثة ولا قائل به.

إن قلتَ: إن التنصيف ورد في الروايات كمرسلة حماد (الثامنة) وفيها (وله نصف الخمس كملاً).

قلتُ: هذا التنصيف اعتباري فللإمام ثلاثة أسهم وهي نصف الستة ولا يعني أنها خارجاً كذلك كما لو قيل يقسم اليوم إلى ليل ونهار وهذا لا يعني تساويهما.

7- إن جعل استحقاق أيتام ومساكين وأبناء سبيل بني عبد المطلب للخمس مقابل استحقاق هذه الأصناف من غيرهم للزكاة يعني أن هذه الأصناف من بني عبد المطلب مصرف له كما أن تلك الأصناف مصرف للزكاة وليس هذا من القياس وإنما هو استظهار بقرينة مناسبة الحكم والموضوع.

8- لقد ذكرنا الاتفاق على إجزاء تسليمه إلى الإمام أو نائبه أو وكيله بينما يوجد خلاف في دفعه مباشرة إلى بني عبد المطلب فتكون المسألة صغرى لدوران الأمر بين التعيين والتخيير وتجري فيها قاعدة الاشتغال التي تقتضي تسليمه إلى الإمام أو نائبه لأنه مجزٍ على التقديرين.

إن قلتَ: إن إجراء هذا الأصل ينتج اختصاص السادة بنصف الخمس لأن صرفه على السادة مجزٍ يقيناً وصرفه على غيرهم غير متيقن الإجزاء فيتعيّن صرفه على السادة خاصة.

قلتُ: هذا الأصل لا يجري في حق المكلف وإنما في حق الفقيه الذي يقع بيده الخمس، أما المكلف فيجري في حقه الأصل بالتقريب الذي ذكرناه.

9- إن عدداً من الروايات التي فسّرت هذه العناوين ببني عبد المطلب كانت في معرض الاحتجاج على المتسلطين المتقمّصين للخلافة الذين حرموا

ص: 49

أهل البيت (عليهم السلام) من حقّهم كخبر الحارث بن المغيرة النضري عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه: (جعلت فداك ما تقول في فلان وفلان؟ قال: يا نجبة إن لنا الخمس في كتاب الله، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال، وهما والله أول من ظلمنا حقنا في كتاب الله)(1)،

وحينئذٍ فإنها نظير الأمر الوارد في مقام الحظر أو توهمه فإنه يدل على رفع الحظر لا الوجوب.

10- إن مما يدل على أن الخمس كله للإمام، إن شاء أسقطه وإن شاء أخذه وهو الذي يعطي منه لبني هاشم: إسقاطه من قبل الإمام (عليه السلام) كالذي ورد في صحيحة علي بن مهزيار عن الإمام الجواد (عليه السلام): (وإنما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضة التي حال عليهما الحول، ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة ولا ضيعة إلا في ضيعة سأفسّر لك أمرها تخفيفاً مني عن مواليّ ومنّاً مني عليهم لما يغتال السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذاتهم)(2)

وخبر يونس بن يعقوب: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من القمّاطين، فقال: جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابت، وإنّا على ذلك مقصرون، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم)(3)

ومرسلة الصدوق قال: (جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين: أصبتُ مالاً أغمضت فيه، أفلي توبة؟ قال: ائتني خمسه، فأتاه بخمسه، فقال: هو لك، إن الرجل إذا تاب تاب ماله معه)(4).

ص: 50


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح14.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح5.
3- من لا يحضره الفقيه: كتاب الخمس، باب 10، ح1660.
4- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 10، ح3.

ومحل الشاهد أن هذا الحق لو كان ملكاً لبني هاشم لما جاز لأحد إسقاطه.

أقول: ذكر بعض الفقهاء شاهداً من سيرة المعصومين (عليهم السلام) على عدم فرز الحقين فقال: ((إنك قد عرفت من مرسلة حمّاد ومرفوعة أحمد بن محمد وغيرهما أن الإمام يأخذ الخمس كله ويصرفه في المصارف المذكورة، وكذلك حال الفقيه، فلا يحتاج إلى فرز حصة الإمام وحصة السادة وتخصيص كل مصرف حتى لا يجوز إعطاء نصف السادة لغيرهم أو لسائر الأمور التي يجوز صرف حق الإمام (عليه السلام) فيها كالمشاريع الدينية، ولذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام لا يفرزان الحصتين بل يبذلانهما جميعاً في مطلق الجيش والفقراء وما أشبه. وهذا هو الذي كان يفعله بعض الفقهاء المعاصرين من عدم الإفراز))(1).

وفيه: إن غاية ما تدل عليه هذه الروايات والسيرة هو قبض المعصوم للخمس وهو ما اتفقنا عليه أما عدم إفرازه وكيفية صرفه فهذا مما لا سبيل إلى معرفته فكيف نستدل به.

11- ظهور جملة من الروايات في وجوب دفعه إلى الإمام وليس على نحو التخيير وقد تقدّمت جملة منها في المقدمة الخامسة (صفحة 39)، وبعضها صريح بوجوب ذلك حتى لو استلزم التأخير أو تحمّل الصعوبات ولم يرخّص في توزيعها كصحيحة علي بن مهزيار.

12- ما تقدم من شرح وجه كون الخمس كرامة لبني هاشم بنسبته إلى الله ورسوله والإمام، فالإمام هو الذي يقبضه ويوزّعه عليهم، ولو كان الدفع من المالك إليهم مباشرة، فما الفرق بين الخمس والزكاة؟ حتى ينزّه الله تبارك وتعالى بني هاشم من الزكاة التي هي أوساخ الناس ويشرّع لهم الخمس.

ص: 51


1- الفقه للسيد الشيرازي: 33/436.

فالأقوى والأحوط دفع الخمس كاملاً إلى الفقيه الجامع لشرائط النيابة أو استئذانه في صرفه حتى في النصف المسمى بحق السادة و ((في محكي زاد المعاد -للمجلسي- نسبته إلى المشهور، لأنه من وظيفة الإمام فيكون من وظيفة نائبه))(1).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل لولا وحشة الانفراد عن ظاهر اتفاق الأصحاب لأمكن دعوى ظهور الأخبار في أن الخمس جميعه للإمام وإن كان يجب عليه الإنفاق منه على الأصناف الثلاثة الذين هم عياله، ولذا لو زاد كان له ولو نقص كان الإتمام عليه من نصيبه وحلّلوا منه من أرادوا))(2).

وفي ضوء هذه النتيجة يصحّ فهم قوله تعالى: «فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ ولِلرَسُولِ ولِذِي القُربَى» واضحاً، إذ لا يمكن أن نتصور ملك الذات المقدسة للخمس، ولا أن المقصود أن دفع الخمس يكون لوجه الله لأن كل الموارد الأخرى كذلك، فيكون معناه أن هذا الخمس يكون ملكاً لعنوان خاص بالله تبارك وتعالى وهي الحاكمية «إنِ الحُكمُ إلا للهِ» وهذه الحاكمية تكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده للأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم) واحداً بعد واحد.

أما العناوين الثلاثة الأخرى فهي مصارف لهذا الحق المالي وإنما خصّها بالذكر للأمور التي قدمناها، والشاهد على ذلك حذف اللام منها.

ص: 52


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/586.
2- جواهر الكلام: 16/155.

البحث الثاني: وجوب الخمس في الميراث

اشارة

ص: 53

ص: 54

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثاني:

وجوب الخمس في الميراث(1)

لو استقرأنا أقوال الفقهاء في المسألة لوجدناها ثلاثة:

(الأول) الوجوب مطلقاً أي سواء كان محتسباً أو غير محتسب، وقد نقله العلامة (قدس سره) وابن إدريس عن أبي الصلاح الحلبي، قال ابن إدريس (قدس سره): ((وقال بعض أصحابنا: إن الميراث والهدية والهبة، فيه الخمس، ذكر ذلك أبو الصلاح الحلبي في كتاب الكافي الذي صنّفه))(2).

وفي فقه الرضا الذي أثبت البعض بالتتبع أنه رسالة والد الشيخ الصدوق (قدس سره) والذي يرجع إليه الفقهاء إذا أعوزتهم النصوص، قال: (وكل ما أفاده الناس فهو غنيمة) إلى أن قال: (وسائر الفوائد من المكاسب والصناعات والمواريث وغيرها لأن الجميع غنيمة وفائدة من رزق الله تعالى)(3).

وعدّه ابن الجنيد من الأرباح والفوائد إلا أنه بنى الحكم بوجوب الخمس في هذا القسم أي الفاضل منها عن مؤونة السنة على الاحتياط فقد نقل عنه العلامة قوله: ((فأما ما استفيد من ميراث أو كدّ بدنٍ أو صلة أخ أو ربح تجارة، أو نحو ذلك فالأحوط إخراجه))(4).

وقوّاه صاحب الحدائق(5) (قدس سره)، وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا يخفى عليك قوّته من جهة الأدلة، بل مال إليه في اللمعة، فالاحتياط لا ينبغي أن يترك))(6).

ص: 55


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 10/ ذ. ق./1429 الموافق 9/11/2008.
2- السرائر: 1/496.
3- جامع أحاديث الشيعة، مج10، كتاب الخمس، أبواب فرضه وفضله، باب12، ح8.
4- مختلف الشيعة: 3/185.
5- الحدائق الناضرة: 12/352.
6- جواهر الكلام: 16/56.

وقواه الشيخ الأنصاري (قدس سره) ونسبه إلى المحقق في المعتبر ((واختاره في اللمعة، ومال إليه في شرحها))(1).

(الثاني) عدم الوجوب مطلقاً، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ولعله المشهور))(2).(الثالث) التفصيل بين الإرث المحتسب وغيره فيجب في الثاني دون الأول، واختاره السيد صاحب المدارك (قدس سره)، ومشهور المعاصرين كالسيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك والسيد الخوئي (قدس سره) وتلامذتهم واحتاط السيد صاحب العروة (قدس سره) وجوباً في غير المحتسب واستحباباً في المحتسب.

ونسبة القول بعدم الوجوب إلى المشهور لعلها مجافية للحقيقة، فإن عبارات القدماء مطلقة، قال السيد في الغنية: ((ويجب الخمس أيضاً في الفاضل عن مؤونة الحول على الاقتصاد من كل مستفاد بتجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أي وجه كان))(3)

وذكر الشيخ (قدس سره) في النهاية: ((ويجب الخمس أيضاً في جميع ما يغنمه الإنسان من أرباح التجارات والزراعات وغير ذلك بعد إخراج مؤونته ومؤونة عياله))(4).

فقولهم (غير ذلك) ظاهر في التعميم ولم يستثنوا الميراث، وذِكرهم التجارات والزراعات دون غيرها إما متابعة للنصوص أو لأن المصادر الرئيسية لكسب الناس هي هذه، أو ((من أجل بيان الفرد الأخفى لثبوت الخمس فيه بعد وضوح ثبوته في الغنيمة والفائدة المطلقة بالكتاب الكريم، فما كان يحتمل

ص: 56


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الخمس: 11/192.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/215.
3- الغنية، صفحة 129، طبعة قم، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام).
4- النهاية: 196.

عدم ثبوت الخمس فيه إنما هو ما يستحصل بالكسب والجهد والطاقة من التجارات والزراعات والصناعات))(1).

فلعل نسبة القول بعدم وجوب الخمس في الميراث إلى المشهور مبنية على استظهار الإجماع أو الشهرة من كلمة ابن إدريس بعد أن حكى قول أبي الصلاح المتقدم فإنه قال: ((ولم يذكره أحد من أصحابنا إلا المشار إليه)) أو اعتبروا عدم التعرض لذكر الميراث ونظائره في عنوان ما يجب فيه الخمس دليلاً على عدم شموله بوجوب الخمس مع أنه لازم أعم ويكفي دخوله في (غير ذلك) وأن وجوب الخمس عندهم مختص بغير العناوين المذكورة.

الاستدلال على وجوب الخمس في الميراث

استدل على وجوب الخمس في الميراث المحتسب بصحيحة علي بن مهزيار الآتية بإذن الله تعالى، واستدل على وجوبه في الميراث مطلقاً (سواء كان محتسباً أو غير محتسب) بعموم وجوبه في كل غنيمة وفائدة والميراث من الفوائد وعدم وجود ما يصلح لاستثناء الميراث من هذا العموم، فالكلام في عدة جهات:(الأولى) عموم وجوب الخمس لكل فائدة يستفيدها الإنسان من أرباح المكاسب وغيرها ولا تختصّ بالموارد المعينة كغنائم الحرب والكنز والغوص ونحوها.

(الثانية) أن الميراث فائدة.

(الثالثة) عدم صلاحية ما استدل به على استثناء الميراث من وجوب الخمس.

وسنتكلم فعلاً في المطلب الأول عن الجهة الأولى فقط أما الثانية والثالثة فسنتناولها ضمن المطلب الثاني ضمن نقاش الوجوه التي استدل بها على استثناء الميراث من وجوب الخمس.

ص: 57


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/110.

المطلب الأول : عموم وجوب الخمس لكل فائدة

اشارة

واستدل عليه بعدة أدلة:

(الدليل الأول) من القرآن الكريم

وهو عموم لفظ (غنمتم) في قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال:41).

وأشكل على الاستدلال بالآية بأن لفظ (الغنيمة) خاص بغنائم الحرب كما تشهد استعمالاته في القرآن الكريم فينصرف إليه اللفظ في هذه الآية خصوصاً وأنها واردة ضمن مجموعة آيات تتناول معركة بدر فيُظنّ أن المراد بالغنيمة ما يؤخذ بالحرب إلا أن هذا الظن غير صحيح لعدة وجوه:-

1- القاعدة المعروفة أن (المورد لا يخصّص الوارد) ولو خُصّصت كل آية بمورد نزولها لخرج القرآن عن كونه كتاباً خالداً يأخذ بأيدي البشر نحو الكمال حتى قيام يوم الدين، فمثلاً لا يكتفى بتخصيص الآية بغنائم الحرب بل بغنائم معركة بدر خاصة.

2- إن الآية وقعت في سياق آيات لا يُشكّ في عمومها، ولنأخذ الآيتين اللتين قبلها، قال تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نعم، الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (الأنفال:39-40) نعم، تضمّن ذيل الآية الانتقالة إلى التذكير بالمورد الخاص بقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ» وهذا المقدار لا يصلح للتخصيص قطعاً.

3- عدم اختصاص المعنى اللغوي للفظ (الغنم) بما يؤخذ في الحرب، قال الراغب في المفردات: ((الغَنَم معروف، قال تعالى: «وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) والغُنم: إصابته والظفر به ثم استُعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم)) وقال الطريحي في مجمع البحرين: ((الغنيمة في الأصل هي

ص: 58

الفائدة المكتسبة، ولكن اصطلح جماعة على أن ما أُخذ من الكفار مع القتال فهو غنيمة)).واعترف غير واحدٍ من العامة أيضاً بعموم الآية، ولكنهم ادّعوا الاختصاص بغنائم الحرب بالإجماع، راجع تفسير القرطبي(1).

4- إن غاية ما تدل عليه كلمات المستشكل هو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طبق الآية في مرحلة التنفيذ والإجراء على خصوص غنائم الحرب وهي لا شك من مصاديق الغنيمة، لكن هذا لا يقيد إطلاقها ويمنع شمولها للمصاديق الأخرى إذ قد يجد ولي الأمر مصلحة في تنفيذ القانون على بعض المصاديق وتأجيله في المصاديق الأخرى.

5- استدلال الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بالآية على وجوب الخمس في كل ما أفاد الناس فقد حُكي عن العماني: ((أن الخمس في الأموال كلها حتى الخياط والنجار وغلة البستان والدار والصانع في كسب يده، لأن ذلك إفادة من الله وغنيمة))(2).

وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في الاستدلال على وجوب الخمس في الميراث: ((لظهور كونها غنيمة بالمعنى الأعم، فتلحق بالمكاسب، إذ لا يشترط فيها حصوله اختياراً، فيكون الميراث منه))(3).

واشتهرت لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) القاعدة العقلائية ((من كان له الغنم فعليه الغرم) مما يعني تسليمهم بسعة معنى الغنم لكل فائدة ليقابل الغرم.

6- لو سلّمنا ظهور لفظ (الغنيمة) كحقيقة شرعية في غنائم الحرب خاصة، فإن الوارد في الآية هو الفعل (غنم) فلا بد من الرجوع إلى أصل معناه.

ص: 59


1- حكاه السيد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة الوثقى: 25/196 عن الجامع لأحكام القرآن.
2- حكاه المحقق في المعتبر وذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب الخمس: 11/192.
3- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 2/268.

7- الروايات التي وردت في تفسير الآية مضافاً إلى الروايات التي يستفاد منها عموم الوجوب إذا اعتبرناها مفسّرة ومبيّنة للآية الشريفة باعتبار أن وظيفة الأئمة (سلام الله عليهم) بيان أسرار وتفاصيل ما أودع في القرآن الكريم، وإلا فإنها دليل مستقل ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

ومن الطائفة الأولى خبر حكيم مؤذن بني عبس (ابن عيسى) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» قال: هي والله الإفادة يوماً بيوم) الحديث(1).

وصحيحة عبد الله بن سنان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة)(2)

بتقريب أننا نعلم بوجوب الخمس في غير غنائمالحرب فلا بد أن تكون الغنائم شاملة لها لرفع التنافي وأجاب به صاحب المدارك (قدس سره) لرفع التنافي فقال: ((أو بالتزام اندراج الجميع في اسم الغنيمة، لأنها اسم للفائدة فتتناول الجميع))(3)،

وقيل في معناه أكثر من وجه(4).

ص: 60


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح8. رواها الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب والاستبصار.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 2، ح1.
3- مدارك الأحكام: 5/363.
4- فقيل في معناه أنه لا يجب الخمس بحسب ظاهر الكتاب إلا في الغنائم باعتبار أن وجوبه في الموارد الأخرى أُخذ من السنة (قاله الشيخ في التهذيب)، وقال في الوسائل إن الحصر إضافي بمعنى أن الخمس لا يجب في كل ما أخذ من الكفار فهناك الفيء مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب والأنفال فلا يجب فيه الخمس إلا في الغنائم المأخوذة بقتال فإنها يطلق عليها الغنيمة مقابل الفيء فتكون كرواية ابن سنان الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول في الغنيمة يخرج منها الخمس ويقسّم ما بقي بين من قاتل عليه وولي ذلك، وأما الفيء والأنفال فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ) (وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، باب1، ح14).

ومنها صحيحة علي بن مهزيار المطوّلة المعروفة في هذا الباب وهي (الثالثة) في المجموعة الآتية، وفيها (فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام، قال الله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» إلخ)(1)

بتقريب ذكره بعض الأعلام المعاصرين: ((حيث يقال بدلالته على أن المراد بالغنائم في الآية الشريفة مطلق الفائدة، وذلك:

أولاً- لأن نفس عطف الإمام (عليه السلام) للفوائد على الغنائم مرتين بل ثلاث مرات ظاهر في العطف التفسيري، وأن المراد بالغنائم هو الفوائد.

وثانياً- باعتبار الاستشهاد بالآية المباركة الظاهر في أن الإمام (عليه السلام) يريد الاستدلال بها على ثبوت الخمس في الفوائد على المكلفين في كل عام في قبال ما أوجبه عليهم في هذا العام بالخصوص.

وثالثاً- عدم اكتفاء الإمام (عليه السلام) بذلك، بل تصديه بنفسه لبيان بعض الأمثلة للفوائد والغنائم التي يجب فيها الخمس في كل عام، وليست كلها غنائم دار الحرب.

وعلى هذا الأساس يقال بصراحة الصحيحة في إمكان استفادة العموم من الغنيمة في الآية المباركة))(2).

أقول: هذا التقريب كافٍ للخروج من اختصاص معنى الغنائم بغنائم الحرب لكن استظهار معنى عموم الفائدة كما ورد في التقريب وحكي عن الشهيد في البيان ((أنهذه السبعة كلها مندرجة في الغنيمة))(3)

محل تأمل سنشير إليه في الإيضاح الآتي إن شاء الله تعالى.

ويمكن تقريب هذا المعنى مما ورد في كتب العامة (أن رجلاً من بني عبد قيس جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أراد الانصراف أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة والزكاة وإعطاء الخمس مما غنم) قال

ص: 61


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح5.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/19.
3- مدارك الأحكام: 5/360.

السيد الخوئي (قدس سره): في تقريبه ((فإن من الواضح عدم إرادة الخمس من غنائم الحرب، لعدم فرض قتال أو غزو، بل المراد خمس الأرباح والمتاجر كما لا يخفى))(1).

وأضاف السيد الخوئي (قدس سره) وجهاً آخر لدلالة الآية على التعميم بقوله: ((ولعل في التعبير بالشيء –الذي فيه من السعة والشمول ما ترى- إيعازاً إلى هذا التعميم، وأن الخمس ثابت في مطلق ما صدق عليه الشيء من الربح وإن كان يسيراً جداً –كالدرهم – غير المناسب لغنائم الحرب كما لا يخفى)).

أقول: هذا الوجه لا يصلح دليلاً على تفسير معنى الغنيمة لأنه يأتي في المرتبة اللاحقة لتفسيرها فبعد أن يعرف معنى الغنيمة، يؤخذ بإطلاق شيء لما يناسب ذلك المعنى، فإذا كانت الغنيمة مختصّة بما يؤخذ في الحرب فان إطلاق (شيء) يشمل حتى الملعقة أو عود الثقاب مثلاً، وإن كانت عامة لكل فائدة فإن إطلاق (شيء) يشمل المقدار اليسير حتى الدرهم.

إيضاح: إننا وإن استظهرنا من (الغنيمة) في الآية الشريفة معنى أوسع من غنائم الحرب إلا أنه لا يشمل كل ربح وفائدة حتى ما يرد من التكسب وأرباح التجارة والحرف والصناعات، حكى في لسان العرب عن التهذيب قول الكسائي: ((الغُنم: الفوز بالشيء من غير مشقة)) وقال مثله الخليل بن أحمد في كتاب (العين)، وهذا التعبير قد يكون غير واضح للإشكال بأن أي مشقة أكبر مما يواجهه المحاربون؟، فلعله أراد أن معنى الغنيمة يتضمن عدم بذل شيء بإزائها كحيازة المباحات ويمكن تسميتها كما في بعض المصادر بالفائدة المطلقة، ولا تشمل مطلق الفائدة كأرباح التجارة وسائر التكسبات فإنه يبذل شيئاً بإزائها كالمال أو الجهد.

ولعله لذلك فسّرها في المنجد بقوله: ((غَنِم - غُنماً الشيء: فاز به وناله بلا بدل.

ص: 62


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/199 ونقل الحديثين عن صحيح البخاري: 2/131 وسنن الترمذي: 5:8/2611.

ومن هنا يعلم ما في قول السيد الخوئي (قدس سره): ((إن كلمة (غنم) بالصيغة الواردة في الآية المباركة ترادف (ربح) و(استفاد) وما شاكل ذلك، فتعمّ مطلق الفائدة))(1)

ومثله قول الشيخ الفياض(2)

(دام ظله الشريف) فإن الربح يطلق على ماحصل عليه زيادة عن رأس المال المصروف فلا يكون من الغنيمة وهو ما سنزيده إيضاحاً بإذن الله تعالى.

وهو معنى مقارب للظفر الذي ذكره الراغب. وقد ورد في بعض الروايات عنوان (الغنم) قسيماً للتكسب كخبر عبد الله بن سنان قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): على كل امرئٍ غنم أو اكتسب الخمس)(3)

إلخ.

ومما يدل على اختلافهما اختلاف مصرف خمسهما، فإن مصرف خمس الغنائم هي العناوين الستة المذكورة في كتاب الله تعالى، بينما مصرف خمس الأرباح هو الإمام باعتبار موقعه وتدل عليه روايات التحليل ولو لم يكن هو صاحب الحق كاملاً لم يفعل ذلك.

ويبدو أن هذا الفهم -أي عدم شمول معنى الغنيمة للاكتساب- موجود لدى جملة من السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) كالشيخ الطوسي (قدس سره) فإنه جعل المعادن من الغنائم دون أرباح التجارة وفوائد الكسب، قال (قدس سره): ((المعادن كلها يجب فيها الخمس من الذهب والفضة والحديد)) إلى أن قال : ((دليلنا قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ» وهذه الأشياء كلها مما غنمه الإنسان))(4)

ثم قال (قدس سره) في المسألة التالية: ((يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلات... دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم)) ولم يستدل بالآية ولا عموم معنى الغنيمة لها.

وقد التفت إلى هذا التفريق أحد الأعلام المعاصرين حيث ردّ على من استدل بصحيحة ابن مهزيار المتقدمة على عموم معنى الغنيمة في الآية الشريفة

ص: 63


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/196.
2- تعاليق مبسوطة: 7/110.
3- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح8.
4- الخلاف: 2/116 المسألة 138.

بالنكات الثلاث المتقدمة لكل ربح وفائدة بقوله (دام ظله الشريف): ((إن مفاد آية خمس الغنيمة ثبوته في الغنيمة بالمعنى الأخص أو بالمعنى الوسط، وهو الفائدة المطلقة لا الحاصلة بالكسب أو الجهد أو الطاقة، وأن النكات الثلاث المتقدمة في هذا التقريب ليس شيء منها تاماً، لأنها مبنية على أن يراد بالفائدة مطلق الربح ولو في قبال جهد أو كسب مع أن الفائدة بقول مطلق ظاهر في الفائدة المحضة التي تكون بلا عوض، وأما ربح الكسب أو أجرة العمل فهو فائدة نسبية وبالإضافة إلى وضعه السابق وإلا فليست الأجرة مجانية وبلا مقابل بخلاف الغنيمة ونحوها من الفوائد المجانية غير المتوقعة والمنتظرة، وهذا نظير الماء المطلق والماء المضاف، فعطف الفوائد على الغنائم في الصحيحة وإن كان عطفاً تفسيرياً إلا أنه يؤكد المعنى الخاص المتقدم عن اللغويين للغنيمة، كما أن الأمثلة المذكورة تشخص نفس المعنى للفائدة والغنيمة))(1).

ثم قال (دام ظله الشريف): ((من يلاحظ مجموع الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) في باب الغنيمة وكيفية تقسيمها وأخذ الخمس منها وتقسيمه ليطمئن بأن عنوان الغنيمة تطلق عندهم في قبال الفيء، فالغنيمة معناها ماكان يؤخذ بالقتال من الكفار، والفيء ما يكون بدون قتال، وإن المغنم في الآية أيضاً استعمل في ذلك، بل نفس الروايات المستفيضة التي تحصر الخمس في العناوين الخمسة ومنها الغنيمة تكون شاهدة على أن المراد بالغنيمة في الكتاب الكريم أيضاً نفس ذلك المعنى الخاص، لا مطلق الربح والفائدة حتى المكتسبة، فراجع وتأمل)).

أقول: يشير إلى جملة من الروايات ذكرت عنوان الغنيمة في عرض الموارد الأخرى كمصححة حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: (الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة)(2) إلخ، وظاهر كلامه العدول عن تفسيره المتقدم وهو في غير

ص: 64


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/27.
2- وسائل الشيعة: كتاب أبواب قسمة الخمس، باب 1، ح8.

محله، لأننا لا ننكر استعمال لفظ (الغنيمة) في غنائم الحرب في القرآن والسنة وانصرافها إليها لكننا ننكر تقييدها بهذا المعنى -حتى في الآية الشريفة- إذ الانصراف لا يصلح للتقييد.

وذهب جملة من العلماء (قدس الله أرواحهم) إلى اختصاص معناها في الآية الشريفة بغنائم الحرب، وقال صاحب المدارك (قدس سره): ((إن المتبادر من الغنيمة الواقعة فيها غنيمة دار الحرب كما يدل عليه سوق الآيات السابقة واللاحقة، فلا يمكن التجوز بها في غيره إلا مع قيام الدلالة عليه))(1)

وقد تقدم النقاش فيه، إلا أن مبررهم (قدس الله أرواحهم) في الاستغناء عن الالتزام بعموم معنى الغنيمة في الآية اكتفاؤهم بالروايات الشريفة، وهي كافية فعلاً في إثبات التعميم إلا أن هذا التحقيق له آثار ستظهر لاحقاً بإذن الله تعالى.

والنتيجة أن معنى (الغنيمة) في الآية هو معنى وسط فهو أوسع من التخصيص بغنيمة الحرب وأخص من مطلق الفائدة كأرباح التجارات والأجارات وقد سميناها بالفائدة المطلقة.

وقد عبّر الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) عن هذه الخصوصية بقوله: ((لا يخفى أن الغنم لا يصدق على كل ما يظفر به الإنسان وإن كان بتبديل ماله بلا حصول ربح وفائدة، فلا محالة يعتبر في صدقه خصوصية. ولعل الخصوصية التي أشربت في معناه هو عدم الترقب والتوقع المباشر فهو عبارة عما ظفر به الإنسان بلا توقع لحصوله وتصدٍّ مباشر لتحصيله، فما يتصدى الإنسان لتحصيله في الحرب مباشرة هو خذلان العدو والغلبة عليه، لا اغتنام الأموال، وكذلك الكنوز والمعادن وما يحصل بالغوص. نعم، غير مترقبة بحسب العادة قد تحصل وقد لا تحصل، وما يتصدى الإنسان لتحصيله بحسب العادة في مكاسبه وحرفه اليومية هو إمرار المعاش ورفع الحوائج اليومية، فالزائد على ذلك نعمة غير مترقبة))(2).

ص: 65


1- مدارك الأحكام: 5/381.
2- كتاب الخمس للشيخ المنتظري (دام ظله): 17.

أقول: لو اقتصرنا على المعنى الذي ذكرناه لكان أولى فإن استنباط مثل هذه الخصوصيات قد يجعله عرضة للنقض، كمثال غنائم الحرب فإن الهدف الأساسوالمباشر للحرب هو تحقيق المصالح والغنائم المادية والمعنوية فهي مقصودة ومترقبة الحصول وما القتال إلا وسيلة لتحقيق الهدف وإزالة المانع عن طريقه. ومع ذلك فالخصوصية التي أضافها (دام ظله الشريف) لمعنى الغنم وهو عدم الترقب والتوقع مضافاً إلى ما ذكرناه شيء حسن.

إشكال ودفع:

ويوجد هنا إشكال لا يزال يردده المشككون في وجوب الخمس لنقض هذه الركيزة الأساسية لديمومة المشروع الإسلامي المبارك، ننقله ببيان السيد الخوئي (قدس سره) قال: ((إن الآية لو كانت مطلقة وكان هذا النوع من الخمس ثابتاً في الشريعة المقدسة فلماذا لم يعهد أخذه من صاحب الشرع؟! حيث لم ينقل لا في كتب الحديث ولا التأريخ أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحداً من المتصدّين بعده حتى وصيّه المعظم في زمن خلافته الظاهرية تصدى لأخذ الأخماس من الأرباح والتجارات كما كانوا يبعثون العمال لجباية الزكوات، بل قد جعل سهم خاص للعاملين عليها، فإنه لو كان ذلك متداولاً كالزكاة لنقل إلينا بطبيعة الحال.

وإن تعجب فعجب أنه لم يوجد لهذا القسم من الخمس عين ولا أثر في صدر الإسلام إلى عهد الصادقين (عليهما السلام)، حيث إن الروايات القليلة الواردة في المقام كلها برزت وصدرت منذ هذا العصر، أما قبله فلم يكن منه اسم ولا رسم بتاتاً حسبما عرفت))(1).

ووصف الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) هذه المشكلة بأنها ((معضلة قوية في هذه المسألة))(2)

ومع ذلك فإنه يُجاب هذا الإشكال على كلا الاحتمالين المتصورين:

ص: 66


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/197.
2- كتاب الخمس للشيخ المنتظري: 201.

(الاحتمال الأول): أن نفترض أن هذا التشريع -أي وجوب الخمس في كل فائدة- لم يكن ثابتاً في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما جعل تشريعه على يد الصادقين (عليهما السلام) ومن بعدهما من الأئمة الطاهرين، وهذا مما لا ضير فيه إذ إننا نعتقد أن الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) مشرّعون كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه (فُوِّضَ إليهم أمر الدين)(1)

بعد جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ونعلم أيضاً أن جملة من الأحكام أوكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانها إلى الأئمة من أهل بيته بحسب الظرف المناسب فان أحكام الإسلام لم ترد جملة واحدة وإنما بيّنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده بالتدريج، وينقل عن أبي حنيفة قوله: ((لولا سيرة علي (عليه السلام) في أهل الجمل وصفين لما عرفنا حكم البغاة من المسلمين إلى قيام يوم الدين))(2)

فلا ضير إذن في أن يكون تشريع الخمس في غير غنائم الحرب متأخراً خصوصاً بناءً على ما قيل من أن تحديد الضرائب المالية بيد ولي الأمر، كالزكاة فان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرضها على التسعة وعفى عن غيرها، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) وضعها على الخيل ونحوه.

ص: 67


1- دلّت على ذلك أخبار عديدة كخبر عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن الله عز وجل أدّب رسوله حتى قوَّمه على ما أراد ثم فوَّض إليه فقال عز ذكره «ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوُا» فما فوض الله إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فوّضه إلينا) وخبر موسى بن أُشيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه: (يا ابن أشيم إن الله عز وجل فوّض إلى سليمان بن داوود فقال: «هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» وفوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوُا» فما فوض إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فوضه إلينا) (أصول الكافي، كتاب الحجة، باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ).
2- راجع كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

(الاحتمال الثاني) أن يكون وجوب الخمس ثابتاً منذ زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعموم الآية والأحاديث الشريفة وهو المناسب لما قرّبناه ويجاب الإشكال حينئذٍ بعدة وجوه:-

1- ((على تقدير تسليم عدم بعث العمال لأخذ الأخماس فهذا لا يكشف عن عدم الوجوب بوجه، كيف؟! ووجوب الخمس في الركاز مما أصفقت عليه العامة ورووا فيه روايات كثيرة(1)،

ومع ذلك لم ينقل ولا في مورد واحد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من بعده بعث أحداً لجبايته، فعدم البعث والحث للأخذ لازم أعمّ لعدم الوجوب فلا يكشف عنه أبداً.

على أن العامة قد رووا هذا الخمس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد ورد في صحيح البخاري والترمذي: أن رجلاً من بني عبد قيس جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أراد الانصراف أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة والصيام والزكاة وإعطاء الخمس مما غنم(2).

فان من الواضح عدم إرادة الخمس من غنائم دار الحرب، لعدم فرض قتال أو غزو، بل المراد خمس الأرباح والمتاجر كما لا يخفى)).

أقول: الجواب صحيح، ثم قال (قدس سره): ((والإنصاف انه لم يتّضح لدينا بعد، ماذا كانت الحالة عليه في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالإضافة إلى أخذ هذا النوع من الخمس وعدمه، كيف؟! والعهد بعيد والفصل طويل، وقد تخلل بيننا عصر الأمويين الذين بدلوا الحكومة الإسلامية حكومة جاهلية،ومحقوا أحكام الدين حتى أن كثيراً من الناس

ص: 68


1- روى الشيخ الطوسي (قدس سره) قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (في الركاز الخمس) من مصادرهم كصحيح البخاري وصحيح مسلم وموطّأ مالك ومسند أحمد بن حنبل وسنن الترمذي والنسائي وأبي داوود والبيهقي. (الخلاف: ج2، صفحة 117 المسألة 138).
2- صحيح البخاري: 2/131، سنن الترمذي: 5/8/2611. (من المستند).

لم يعرفوا وجوب الزكاة الثابت بنصّ القرآن كما يحكيه لنا التأريخ والحديث.

بل في صحيح أبي داود وسنن النسائي: أن أكثر أهل الشام لم يكونوا يعرفون أعداد الفرائض.

وعن ابن سعد في الطبقات: أن كثيراً من الناس لم يعرفوا مناسك حجهم. وروى ابن حزم عن ابن عباس: أنه خطب في البصرة وذكر زكاة الفطرة وصدقة الصيام فلم يعرفوها حتى أمر من معه أن يعلم الناس.

فإذا كان الحال هذه بالإضافة إلى مثل هذه الأحكام التي هي من ضروريات الإسلام ومتعلقة بجميع الأنام فما ظنك بمثل الخمس الذي هو حق خاص له ولقرابته ولم يكن من الحقوق العامة كما في الزكاة، بل لخصوص بني هاشم زادهم الله عزاً وشرفاً، فلا غرابة إذن في جهلنا بما كان عليه أمر الخمس في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذاً وصرفاً))(1).

أقول: هذه الإضافة يرد عليها:-

أ- إن الظلمة إنما محقوا وأهملوا الأحكام التي لا تصبّ في مصالحهم أو تتعارض معها، وحكم وجوب دفع الخمس مما يناسب أهواءهم في الاستئثار بخيرات الأمة فلا يُتوقع منهم إخفاؤه.

ب- التحفظ على ما قاله (قدس سره) أخيراً فإن الخمس حق خاص لمنصب ولي الأمر وهو الذي يرعى به شؤون بني هاشم، وليس أنه حق خاص بهم، لكن خصوصية بني هاشم في الخمس مما لا تُنكر فإنه عوض لهم عن الزكاة.

2- إن عدم جباية الخمس في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لو سلّمناه فإنه لا يعني عدم ثبوت حكم الوجوب، فالحكم ثابت بالآية الشريفة لكنهم (صلوات الله عليهم)

ص: 69


1- مستند العروة الوثقى: 25/198.

توقفوا عن تنفيذه لمصلحةٍ ما ككون الناس حديثي عهد بالإسلام مما يدفعهم إلى التمرد والعصيان كما حصل في قضية بيعة الغدير، أو للتخفيف عن الأمة والرفق بهم ليطيب منكحهم ومطعمهم كما دلّت عليه روايات التحليل وكما في معتبرة يونس بن يعقوب -بطريق الصدوق- قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من القماطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابت، وأنا عن ذلك مقصرون، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم)(1)

فأخّر تنفيذه إلى الأئمة المتأخرين (سلام الله عليهم).

3- إنه قد ورد في الكتب والرسائل التي كان يبعثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الملوك والزعماء ورؤساء العشائر (ككتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قبائل اليمن) المروي في كنز العمال، ج3 ما يشمل بإطلاقه غير غنائم الحرب لأنه غير مقترن بالحرب ولأن الحروب يفترض أنها تدار من قبل قيادة يعيّنها ولي الأمر وليست كيفية، وقد ورد التعميم إلى غير غنائم الحرب صريحاً في بعضها كالذي ورد في كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) لوائل بن حجر الحضرمي ولقومه: (وفي السُيوب الخمس) والسيب –على ما في المنجد- ماء المطر أو الماء الجاري أو الركاز لانسيابها في الأرض، وكالذي ورد في كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) لأكيدر(2).

4- إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) كانوا يعلمون أن السلطة ستؤول إلى أعدائهم وسيدّعي أولئك الخلافة الشرعية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامة

ص: 70


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح6.
2- تجد هذه الكتب والرسائل في كتاب (كلمة الرسول الأعظم) للسيد حسن الشيرازي صفحة 252 نقلها عن ناسخ التواريخ.

المسلمين وسيجعلون لأنفسهم كل الحقوق والامتيازات المفروضة لولاة الأمر، فلو قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجباية الخمس فإن أولئك سيجدون في العملية مورداً ضخماً لملء خزائنهم وتقوية سلطتهم، وعنواناً ومصدراً لشرعية حكومتهم، لذا فإن الفصل بين الإمامة الشرعية المتمثلة بالأئمة (عليهم السلام) وبين الحكومات المتسلطة لمّا أصبح واضحاً في عصر الصادقين (عليهما السلام) ومن بعدهم لم يعُد هذا الخوف موجوداً لانفصال السلطة الدينية عن الدنيوية -إن صح التعبير- فبدأ الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ببيان هذا التشريع، وممن اعترف بهذا الفصل هارون العباسي حيث قال لولده المأمون مشيراً إلى الإمام الكاظم (عليه السلام): ((أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق والله))(1).

وقد التفت إلى هذه النكتة أحد الأعلام المعاصرين حيث قال: ((فلعله أخفي بيانه وإظهاره إلى فترة لمصالح وحِكم لعل منها ما كان يعرفه أئمة الهدى (عليهم السلام) من أن الحكم الإسلامي وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سيُزوى عن أهله وأصحابه الحقيقيين المؤهلين له بنص من الله ورسوله، ومعه فلا داعي لإظهار مثل هذا الحكم الذي يزيد في قوة الغاصبين وقدرتهم على الظلم والاستيلاء على الأمة ومقدرات المسلمين، وقد ورد في بعض الروايات الإشارة إلى أن الخمس حق الإمارة والحكم فبعد إقصاء الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عن ذلك لم يكن في الإفصاح عن هذا الحكم الشرعي وإعلانه أو التأكيد عليه إلا المزيد من تقوية وتعزيز ظلم الظالمين، وإعطائهم فرصة أكبر، وذريعة شرعية أخرى لابتزازهم أموال المسلمين، الأمر الذي كانيفعله الخلفاء الجائرون ظلماً وجوراً وكان يرزح تحته المسلمون من دون ذلك، فكيف إذا ما أعطي بيدهم مثل هذه الذريعة الشرعية؟))(2).

ص: 71


1- عيون أخبار الرضا: 1/ 85.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/45.

(الدليل الثاني) الروايات الواردة عن أهل البيت (سلام الله عليهم)

اشارة

الدالة على وجوب الخمس في عموم الفائدة وتشمل الميراث بإطلاقها أو بمعونة قرائن كعدم القول بالفصل ونحوه، وهي كثيرة ومعتبرة تقرب من حد التواتر منها:-

1- صحيحة علي بن مهزيار قال: (قال لي أبو علي بن راشد، قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأي شيء حقه؟ فلم أدرِ ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس، فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم، قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم)(1).

2- صحيحته الأخرى قال: (كتب إليه –أي الإمام الهادي (عليه السلام)- إبراهيم بن محمد الهمداني: أقرأني علي كتاب أبيك –وهو الإمام الجواد (عليه السلام)- فيما أوجبه على أصحاب الضياع أنه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة، وأنه ليس على من لم يقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله، فكتب -وقرأه علي بن مهزيار- : عليه الخمس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان).

3- صحيحته الأخرى قال: (كتب إليه -أبو جعفر (عليه السلام) وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكة- قال: إن الذي أوجبت في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومائتين، فقط لمعنى من المعاني(2)،

أكره تفسير المعنى كله خوفاً من الانتشار، وسأفسر لك بعضه إن شاء الله إن موالي -أسأل الله صلاحهم- أو بعضهم قصروا فيما يجب عليهم، فعلمت ذلك فأحببت أن أطهرهم

ص: 72


1- الروايات العشر في وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8.
2- والمعنى هو استشهاده في تلك السنة فأراد (عليه السلام) أن يطهرهم كما طهر جده رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمة قبل وفاته فاستشهد بالآية الشريفة: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا».

وأزكيهم بما فعلت في عامي هذا من أمر الخمس (في عامي هذا)، قال الله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».ولم أوجب ذلك عليهم في كل عام، ولا أوجب عليهم إلا الزكاة التي فرضها الله عليهم، وإنما أوجبت عليهم الخمس في سنتي(1)

هذه في الذهب والفضة التي قد حال عليهما الحول، ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة ولا ضيعة إلا ضيعة سأفسّر لك أمرها(2)،

تخفيفاً مني عن مواليّ، ومنّاً مني عليهم لما يغتال السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذاتهم.

فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام، قال الله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى مواليّ من أموال الخرمية الفسقة، فقد علمت أن أموالاً عظاماً صارت إلى قوم من مواليّ، فمن كان عنده شيء من ذلك

ص: 73


1- أي أن هذا التفصيل لحكم الخمس المتضمن لإسقاطه في بعض الموارد مختص بتلك السنة، وبيّن (عليه السلام) وجه هذا الإسقاط بقوله (عليه السلام): (تخفيفاً..).
2- وقد بيّن (عليه السلام) التفسير في ذيل الرواية وحاصله أن من كانت ضيعته لا تقوم بمؤونته فليس عليه شيء ومن زاد حاصل ضيعته عن مؤونته فيجب عليه إخراج الحق المعين.

فليوصل إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقة فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين، فإن نية المؤمن خير من عمله.

فأما الذي أوجب من الضياع والغلات في كل عام فهو نصف السدس ممن كانت ضيعته تقوم بمؤونته، ومن كانت ضيعته لا تقوم بمؤونته فليس عليه نصف سدس ولا غير ذلك).

أقول: ذُكرت عدة إشكالات على متن الرواية مما دعى البعض إلى إسقاطها من الاعتبار وهو عمل غير مبرَّر لأن الرواية صحيحة السند، وسنذكر تلك الإشكالات وأجوبتها (صفحة 91) بإذن الله تعالى.

الصحيحة إلى علي بن مهزيار عن ابن شجاع(1)

النيسابوري (أنه سأل أبا الحسن الثالث (عليه السلام) عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كر ما1- يزكى، فأخذ منه العشر عشرة أكرار وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كراً وبقي في يده ستون كراً، ما الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شيء؟ فوقع (عليه السلام): لي منه الخمس مما يفضل من مؤونته).

5- الصحيحة إلى علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن الأشعري(2) قال: (كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أخبرني عن

ص: 74


1- رواها الشيخ بسنده عن ابن مهزيار عن ابن شجاع النيسابوري وهو لم يوثق، وصحح بعضهم الرواية باعتبار ((أن ابن مهزيار كان واثقاً بصدور المكاتبة عن المعصوم وثوقاً حسّياً وإلا لم يكن ينقلها)) (كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/31). وهو وجه حدسي لا يمكن الاعتماد عليه وفق القواعد المعمول بها، إلا أن العرف لا يستبعدها لأن مثل ابن مهزيار لا يمكن أن ينسب هذه المكاتبة لابن شجاع إذا لم يكن واثقاً منها، كما يمكن تأييده بأن نستظهر من قوله: (فوقّع) أن ابن مهزيار رأى التوقيع فشهد به.
2- رواها ابن مهزيار عن محمد الحسن الأشعري وهو لم يرد فيه توثيق إلا أن الوحيد (قدس سره) استظهرها من وصية سعد بن سعد الأشعري إليه ونحوه. (معجم رجال الحديث: 15/227).

الخمس، على جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصناع؟ وكيف ذلك؟ فكتب بخطه: الخمس بعد المؤونة).

6- موثقة سماعة قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس؟ فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير).

7- مصححة أحمد بن محمد بن عيسى عن(1)

(ابن) يزيد قال: (كتبت جعلت لك الفداء، تعلمني ما الفائدة وما حدها؟ رأيك أبقاك الله أن تمن علي ببيان ذلك لكي لا أكون مقيماً على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة مما يفيد إليك في تجارة من ربحها، وحرث بعد الغرام، أو جائزة).

أقول: عدم ذكر الخمس في الرواية غير مضرّ بالاستدلال لأن ذكر الفائدة قرينة عليه بعد وضوح وجوب الخمس على الفائدة لدى السائل فاستفسر عن معنى الفائدة وحدودها.

8- خبر عبد الله بن سنان(2) قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): على كل امرئ غنم أو اكتسب الخمس مما أصاب لفاطمة (عليها السلام)، ولمن يلي أمرها من بعدها من ذريتها الحجج على الناس، فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاؤوا، وحرم عليهم الصدقة، حتى الخياط يخيط قميصاً

ص: 75


1- في بعض نسخ الكافي (عن) يزيد وفي بعضها (بن) يزيد ولا تصح قراءة (بن) لأن جد أحمد هو عيسى بن عبد الله وليس ابن يزيد وأما قراءة (عن) فبعيدة وإن رجّحها جملة من الأعلام كالشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) (كتاب الخمس: 216) لعدم وجود من اسمه (يزيد) فيمن يروي عنهم أحمد بن محمد بن عيسى، إلا يزيد بن إسحاق (معجم رجال الحديث: 2/311) وهو لم يوثّق، إلا أن هذا الاحتمال بعيد لأن يزيد عُدّ من أصحاب الصادق (عليه السلام) فلا يمكن لأحمد أن يروي عنه لأنه من أصحاب الجواد والهادي (عليهما السلام) وعاصر أزيد من عشرين سنة من الغيبة الصغرى، فالمظنون وجود سقط في الرواية والصحيح عن ابن يزيد وهو إما يعقوب بن يزيد أو عمر بن يزيد وهما ثقتان علمان مشهوران.
2- السند صحيح إلا من جهة عبد الله بن القاسم الحضرمي فإنه ضعيف وإن ورد في إسناد كامل الزيارات والتهذيبين والكافي.

بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلا من أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة، إنه ليس من شيء عند الله يوم القيامة أعظم من الزنا، إنه ليقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب، سل هؤلاء بما أبيحوا).

9- صحيحة الريان بن الصلت قال: (كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام): ما الذي يجب علي يا مولاي في غلة رحى أرض في قطيعة لي، وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب: يجب عليك فيه الخمس، إن شاء الله تعالى).

10- موثقة أبي بصير(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كتبت إليه في الرجل يهدي إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر هل عليه فيها الخمس؟ فكتب (عليه السلام): الخمس في ذلك، وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال إنما يبيع منه الشيء بمائة درهم أو خمسين درهماً، هل عليه الخمس؟ فكتب: أما ما أكل فلا، وأما البيع فنعم، هو كسائر الضياع).

ص: 76


1- أوردها ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن هلال عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي بصير، وقال ابن إدريس أن كتاب ابن محبوب وصل إليه بخط الشيخ (قدس سره) وطريق الشيخ (قدس سره) إلى ابن محبوب صحيح، وأحمد بن هلال وثّقه النجاشي وإن كان فاسد العقيدة، فالرواية معتبرة. وذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) وجهاً آخر فقال: ((واشتمالها على أحمد بن هلال لا يقدح بعد إيراد ابن محبوب إياه في كتابه، وهو أعلم منا بحال ابن هلال، مع أن روايات ابن أبي عمير في ذلك الزمان ما كان يحتاج إلى تلك الواسطة الواحدة، لاشتمال الكتب عليها، فذكر (أحمد) من جهة اتصال السند)) (كتاب الخمس من المجموعة الكاملة): 11/194) وهو وجه حدسي إلا أن يحصل الاطمئنان بأن ابن محبوب رواها عن جماعة واكتفى بذكر أحمد بن هلال بحيث يطمأن بصدورها عن ابن أبي عمير.

أقول: أُشكل(1) على دلالتها من جهة أن عنوان (مولاه) ينصرف إلى الحكام والولاة وإن أكثر ما بأيديهم هو من الفيء والأنفال التي ثبت فيها الخمس فيكون وجوب الخمس من هذه الناحية لا من جهة أرباح المكاسب، وذكر شاهداً على ذلك ما رواه العياشي عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير أنهم قالوا: (ما حق الإمام في أموال الناس؟ قال: الفيء والأنفال والخمس، وكل ما دخل منه فيء أو أنفال أو خمس أو غنيمة فإن لهم خمسه فإن الله يقول: «وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَسُولِ ولِذي القُربَى» )(2).

وفيه: إن هذه القرينة غير كافية، وإن الإمام (عليه السلام) عمّم الحكم في الذيل لسائر الضياع، وإن المورد لو كان من الفيء لما استثنى مؤونة العيال، ولا دليل على وحدة الرواية فربما كان قوله (وعن) رواية أخرى، وإن الجزء الثاني منها واضح الانطباق على مسألتنا.

11- خبر حكيم مؤذن بني عبس (ابن عيسى) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: «وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَسُولِ» قال: هي والله الإفادة يوماً بيوم إلا أن أبي جعل شيعتنا في حلٍّ ليزكوا)(3).

مضافاً إلى روايات أُخر يمكن تقريب الاستدلال بها:-

(ومنها) معتبرة يونس بن يعقوب المتقدمة (صفحة 70) بتقريب أن الحق المذكور فيها يشمل الخمس بدليل ذكر التجارات ومثلها رواية الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: إن لنا أموالاً من غلات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أن لك فيها حقاً، قال: فلِم أحللنا إذن لشيعتنا لتطيب ولادتهم)(4) إلخ.

ص: 77


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/35.
2- وسائل الشيعة: أبواب الأنفال، باب 1، ح33.
3- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح8.
4- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح9.

(ومنها) روايات التحليل التي تتضمن ثبوت الحق كخبر داوود بن كثير الرقِّي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: الناس كلهم يعيشون في فضل مظلمتنا إلا أنا أحللنا شيعتنا من ذلك)(1).

وذكر بعض الأعلام المعاصرين ضمن الروايات صحيحة البزنطي قال: (كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام): الخمس أُخرجه قبل المؤونة أو بعد المؤونة؟ فكتب: بعد المؤونة)(2)

وصحيحة إبراهيم بن محمد الهمداني: أن في توقيعات الرضا (عليه السلام) إليه: (إن الخمس بعد المؤونة)(3).

والاستدلال بهما غير تام لأنهما مجملتان إذ لا يُعلم عن أي مورد للخمس تتحدثان؟ وعن أي مؤونة؟ هل مؤونة الكسب والتحصيل الشاملة لموارد أخرى أم المؤونة الشخصية له ولعياله المختصة بهذا القسم، نعم، إذا اعتبرنا لفظ (المؤونة) ظاهر في الشخصية، وأن استثناءها خاص بالقسم السابع كانت قرينة على هذا القسم.

رواية معارضة:

ادُّعِيَ أن وجوب الخمس في هذا القسم تعارضه صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (صفحة 60): (ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة) وقد قربنا دلالتها بوجوه لا تنافي وجوب الخمس في أرباح المكاسب.

وذكر بعض الأعلام المعاصرين(4) أن مما يُستدل به على نفي الخمس في أرباح المكاسب رواية ابن مهزيار قال: (كتبت إليه سيدي: رجل دفع إليه مال يحج به هل عليه في ذلك المال حين يصير إليه الخمس، أو على ما فضل في يده بعد الحج؟ فكتب (عليه السلام): ليس عليه الخمس) (5).

أقول: إنما يمكن جعل الرواية معارضة وتقريب الاستدلال بها على ثبوت الخمس في الفوائد مطلقاً بالتجريد عن الخصوصية في المال الذي يحج به ليشمل

ص: 78


1- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب12،ح1، 2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب12،ح1، 2.
4- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/41.
5- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 11، ح1.

كل فائدة يحصل عليها الإنسان، ولم يقل أحد بمثل هذا التجريد فلا تصلح الرواية للمعارضة.

نعم، قيل بدلالتها على استثناء أجرة الحج أو عموم الإجارات أو ما يستفاد من غير التكسب فيكون موضعها هناك (راجع صفحة 92).

نعم يمكن أن يندرج في الروايات المعارضة ما دلّ على وجوب الخمس في موارد محصورة كمعتبرة عمار بن مروان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز الخمس)(1)

ومعتبرة ابن أبي عمير عن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الخمس على خمسة أشياء: على الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة ونسي ابن أبي عمير الخامس))(2).

وهي لا تأبى الحمل على بعض الوجوه غير الحصر بعد وجود الأدلة القطعية على وجوب الخمس في مورد مسألتنا.

روايات التحليل

أما روايات التحليل فهي ليست معارضة وإنما هي -لو تمت- حاكمة لأنها تثبت وجوب الخمس لكن قيل بدلالتها على إسقاط الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لحقّهم في الخمس، والبحث فيها ينبغي أن يكون مستقلاً لحاجته إلى التفاصيل، لكن المناسبة هنا تقتضي الإشارة إلى الرأي المختار فيها، إذ المتحصل مما يعرف بروايات التحليل أنها واردة في رفع الحرج عن الشيعة في معاملاتهم مع الناس فإنهم يشترون البضائع والأمتعة من السوق والخمس فيها ثابت لإعراض الناس عن دفعه قصوراً أو تقصيراً ويشترون المساكن فيصلّون فيها ولعل حق الخمس فيها ثابت أو يشترون الجواري وهي من الغنائم أو الفيء وحق أهل البيت (عليهم السلام) لم يصل إليهم، فأباح الأئمة لشيعتهم هذا المقدار من الحق لتصحيح معاملاتهم وتحليل مأكلهم ومسكنهم ونكاحهم.

ص: 79


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 3، ح6،7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 3، ح6،7.

وبعبارة أخرى: إن روايات التحليل ناظرة إلى ما ينتقل إلى المؤمن من مال الغير فلا خمس عليه بإذن ولاة الأمر، وإنما تشتغل به ذمة ذلك الغير، فيتعلق ببدله إن كان له بدل، أو بذمته إن انتقل منه بلا بدل كالهبة أو المهر، وهي –أي روايات التحليل- غير ناظرة إلى ما يتعلق في ذمة الشخص نفسه من خمس.

ومن هذا القبيل معتبرة ضريس الكناسي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): أتدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري. فقال (عليه السلام): من قبل خمسنا أهل البيت. إلا شيعتنا الأطيبين فإنه محلّل لهم ولميلادهم)(1)

ومعتبرة يونس بن يعقوب: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه رجل من القماطين، فقال:جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقَّك فيها ثابت، وإنا عن ذلك مقصّرون، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم) وخبر أبي حمزة (إن الله تعالى جعل لنا أهل البيت سهاماً ثلاثة في جميع الفيء فقال تبارك وتعالى: «وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَسُولِ ولِذي القُربَى» فنحن أصحاب الخمس والفيء، وقد حرّمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا، والله يا أبا حمزة ما من أرض تفتح، ولا خمس يخمّس، فيضرب على شيء منه إلا كان حراماً على من يصيبه، فرجاً كان، أو مالاً، أو أنفالاً) وخبر الحارث الآخر: (يا نجية إن لنا الخمس في كتاب الله، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال...-إلى أن قال (عليه السلام)-: اللهم إنا قد أحللنا ذلك لشيعتنا) وصحيح عمر بن يزيد في الأرض الموات.

وورد بعضها في معانٍ خاصة كالترخيص بتأجيل دفع الخمس إلى ما بعد استيفاء مؤونة السنة وعدم دفعه يوماً بيوم كخبر حكيم مؤذن بني عبس عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له: «وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ

ص: 80


1- هذه والروايات السبع التالية في وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، الأحاديث: 3، 6، 19، 14، 13، 8، 2، 1 على الترتيب.

وَلِلرَسُولِ ولِذي القُربَى» قال (عليه السلام): هي والله الإفادة يوماً بيوم، إلا أن أبي (عليه السلام) جعل شيعتنا من ذلك في حل ليزكوا).

وورد بعضها في حالات خاصة كالإعواز ففي صحيحة ابن مهزيار (قرأت في كتاب لأبي جعفر (عليه السلام) من رجل يسأله أن يجعله في حلٍّ من مأكله ومشربه من الخمس فكتب (عليه السلام) بخطّه: من أعوزه شيء من حقي فهو في حلّ).

وما كان من الروايات مطلقاً فيحمل على بعض هذه المعاني كصحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدّوا إلينا حقنا، ألا إن شيعتنا من ذلك وآباءهم في حل).

وعلى أي حال فإن روايات التحليل لا يمكن أن تكون حاكمة على الروايات الدالة على وجوب الخمس لعدة وجوه:-

1- لأنها مختصة بموارد وحالات محددة فلا تصلح لنفي وجوب الدفع.

2- لأن عدداً من الروايات المثبتة لوجوب الخمس متأخرة زماناً عن روايات التحليل وفي مثلها يُتّبع المتأخر وهي كبرى تقدّم الكلام فيها في مسألة سابقة(1).

نعم، ورد في مكاتبة إسحاق بن يعقوب المعروفة في بحث ولاية الفقيه عن الإمام المهدي (عليه السلام): (وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران، وأما الخمس فقد أُبيح لشيعتنا وجُعلوا منه في حلٍّ إلى أن يظهر أمرنا، أو لتطيب ولادتهم ولا تخبث)(2).

وهي –بعد تصحيح سندها لوجود إسحاق بن يعقوب- مجملة إذ أنها وردت في مقام إجابة أسئلة إسحاق، ولا يُعلم سؤاله فلا نستطيع الجزم بكون لامالخمس للجنس وتفيد الإطلاق إذ لعلها مرتبطة بالسؤال عن

ص: 81


1- فقه الخلاف: 1/ 216، ط. الثانية.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح16.

موضوع خاص ويرجح هذا الاحتمال تعليل الإمام (عليه السلام) في ذيلها بطيب الولادة، مضافاً إلى نقض الإطلاق بما دلّ على أن وكلاء الإمام (عليه السلام) وسفراءه كانوا يجبون الخمس من الشيعة، ولمخالفته لصدرها المتضمن لتهديد من أكل أموالهم (عليهم السلام) وهي غالباً خمس الأرباح.

3- وجود روايات تصحح هذا الفهم وتلزم الشيعة بدفع الخمس كرواية محمد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسأله الإذن في الخمس فكتب إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم إن الله واسع كريم، ضمن على العمل الثواب، وعلى الضيق الهم، لا يحل مال إلا من وجه أحلّه الله، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته. فلا تزووه عنا، ولا تحرموا أنفسكم دعانا ما قدرتم عليه فإن إخراجه مفتاح رزقكم، وتمحيص ذنوبكم، وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي لله بما عهد إليه، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب والسلام)(1).

ومما تقدم يظهر الرد على من يشكّك اليوم بصحة فعل الشيعة في دفع خمس أموالهم إلى الفقيه الجامع للشرائط محتجّاً بروايات التحليل هذه.

(الدليل الثالث) الإجماع

أجمع علماء الطائفة على وجوب الخمس في الفاضل عن المؤونة من كل ما يستفيده الإنسان، ولم تنقل المخالفة إلا عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل، ومخالفتهما لا تضر، مع أن الأول احتاط بالوجوب وربما كان مرادهما إسقاط الأئمة (عليهم السلام) له لا نفي وجوبه أصلاً.

وقد يناقش الإجماع من جهة أنه مدركي مستند إلى الروايات المتقدمة.

ص: 82


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 3، ح2.

لكن هذه المناقشة غير صحيحة فإن الإجماع تعبدي متصل بعصر المعصومين (عليهم السلام) وسابق على عصر صدور كثير من النصوص لذا رأينا في جملة من الروايات أن ثبوت الخمس وحق الإمام (عليه السلام) في ذمة المكلفين كان مفروغاً منه عند السائل، كما يظهر من جملة منها أن سيرة أصحاب الأئمة كانت جارية على نقل أخماس أرباح تجاراتهم وحاصل ضياعهم إلى الأئمة (عليهم السلام).

(دليل آخر)

ذكره السيد الخوئي (قدس سره) وذكر أصله صاحب الجواهر(1)

(قدس سره) حاصله ((أنه لا خلاف بيننا وبين العامة في عدم جواز دفع الزكاة لبني هاشم وأنالصدقة عليهم حرام، حتى أنه لا يجوز استعمالهم عليها والدفع من سهم العاملين، وقد رووا في ذلك روايات متواترة، كما وردت من طرقنا أيضاً حسبما تقدم في كتاب الزكاة(2)،

وفي بعضها: أن الله تعالى قد عوّض عنها الخمس إكراماً لهم وتنزيهاً عن أوساخ ما في أيدي الناس(3).

وفي صحيح مسلم وغيره: أن الفضل بن العباس وشخصاً من بني هاشم كانا محتاجين إلى الزواج ولم يكن لديهما مهر فاشتكيا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبا منه أن يستعملهما على الزكاة ليحصلا على المهر من سهم العاملين فلم يرتض (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، بل أمر شخصين أن يزوجا ابنتيهما منهما، وجعل مهرهما من الخمس بدلاً عن الزكاة(4). والروايات بذلك متظافرة بل متواترة من الطرفين كما عرفت.

ص: 83


1- جواهر الكلام: 16/51.
2- شرح العروة: 24/179. (من المستند).
3- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، الباب1، ح8. (من المستند).
4- صحيح مسلم 2: 752/167. (من المستند).

ومن الواضح الضروري أن الحرب ليست قائمة بين المسلمين والكفار مدى الدهر ليتحقق بذلك موضوع الخمس من غنائم دار الحرب فتدفع إليهم:

إما لاستيلاء الكفار كما في هذه الأعصار وما تقدمها بكثير، ولعل ما سيلحقها أيضاً بأكثر، حيث أصبح المسلمون مستعمرين وإلى الله المشتكى.

أو لاستيلاء الإسلام كما في عهد الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) وجعلنا من أنصاره وأعوانه.

وعليه، فلو كان الخمس مقصوراً على غنائم دار الحرب ولم يكن متعلقاً بما له دوام واستمرار من الأرباح والتجارات فكيف يعيش الفقراء من بني هاشم في عصر الهدنة الذي هو عصر طويل الأمد بعيد الأجل كما عرفت، والمفروض تسالم الفريقين على منعهم عن الزكاة أيضاً كما مرّ؟! إذن فما هو الخمس المجعول عوضاً عنها في هذه الظروف؟!

فلا مناص من الالتزام بتعلقه كالزكاة بما له دوام واستمرار وثبات وقرار في جميع الأعصار، لتستقيم العوضية وتتم البدلية الأبدية، ولا يكون الهاشمي أقل نصيباً من غيره، وليس ما هو كذلك إلا عامة الأرباح والمكاسب حسبما عرفت))(1).

أقول: يصلح الوجه أن يكون دليلاً على عدم اختصاص الخمس بغنائم الحرب كما استظهرنا من الآية، ولكنه لا يصلح للاستدلال على وجوب الخمس في أرباح المكاسب وعموم ما يستفيده الإنسان إذ يرد عليه بأن للخمس موارد عديدة غير غنائم الحرب كالغوص والمعادن والمال المختلط بالحرام وهي –بل واحد منها وهو المعدن الشاملللنفط والذهب والحديد واليورانيوم وغيرها-كافية لرفع حاجات بني هاشم، هذا على فرض أن بني هاشم لا مورد لهم إلا الخمس.

ص: 84


1- المستند في شرح العروة الوثقى:25/200-201.

المطلب الثاني: أدلة استثناء الميراث من وجوب الخمس

اشارة

وهي على نوعين:

(الأول) ما ينتج استثناء الميراث مطلقاً من وجوب الخمس وهو القول الثاني في المسألة الذي نسب إلى المشهور.

(الثاني) ما يقتضي وجوب الخمس في الميراث غير المحتسب ويستثنى المحتسب، وهو القول الثالث في المسألة بالتفصيل.

(النوع الأول) وهي عدة وجوه:

(الوجه الأول): ما ذهب إليه جملة من الأساطين من أن موضوع وجوب الخمس هي الفائدة الحاصلة بالتكسب خاصة فلا يشمل الميراث لأنه فائدة قهرية؛ قال السيد الحكيم (قدس سره): ((اختلفت عبارات الأصحاب في تحديد موضوع الخمس في هذا القسم، فعن بعضها: الاقتصار على أرباح التجارات، وعن الآخر: الاقتصار على المكاسب، وعن ثالث: الاقتصار على حاصل أنواع التكسبات، من التجارة والصناعة والزراعة، وعن رابع: الاقتصار على أرباح التجارات والغلات والثمار، وقريب منها غيرها، ومع هذا الاختلاف فهي مشتركة في اعتبار التكسب، الذي هو القصد إلى حصول المال))(1)

وبالغ المحقق جمال الدين الخوانساري في حاشيته على اللمعة فأضاف إلى اشتراط صدق التكسب ((اعتبار كون الاكتساب صنعة المكتسب))(2).

وفي ضوء هذا لا يصح أن يقال: ((إن مراد الجميع واحد بقرينة دعوى الإجماع على كل من العبارتين، واشتمال الكتاب الواحد عليهما، بحمل الثانية على المال ولذا اقتصر بعضهم على خصوص المكاسب وآخر على أرباح التجارة، بل لا يبعد دعوى أن مراد الجميع وجوب الخمس في كل فائدة وإن لم تكن بقصد))(3).

ص: 85


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/521.
2- كتاب الخمس من مجموعة الشيخ الأنصاري (قدس سره): 11/190.
3- فقه الصادق، كتاب الخمس: 11/74.

ونقل بعض الأعلام المعاصرين ((دعوى الإجماع على اختصاص الخمس بالمكاسب من الزراعات والتجارات وأنواع الاستثمارات، لأن هذه العناوين هي الواردة في فتاوى قدماء الأصحاب، ولو كان موضوع الخمس مطلق الفائدة لم يكن وجه للاقتصار على هذه العناوين، ولهذا استظهر ابن إدريس من كلماتهم نفي الخمس فيالميراث والهدية والهبة عندهم، فيقيد بذلك إطلاقات النصوص الدالة على الخمس))(1).

وفيه:-

1- إننا ناقشنا فيما تقدم (صفحة 56) وجود شهرة على هذا القول فضلاً عن حصول الإجماع عليه ((ولذا نسب في المعتبر إنكار ذلك إلى بعض المتأخرين، ولعله أراد ابن إدريس، ولم ينسبه إلى الأصحاب كما صنع ابن إدريس. وكذا في الدروس نسب المنع إلى ابن إدريس خاصة))(2).

2- لو سلّمنا وجود مثل هذا الإجماع فنحتمل عدم كونه تعبّدياً لاحتمال استنادهم إلى الروايات التي ذكرت هذه العناوين، فتكون فتاواهم مطابقة لنصوص الأحاديث.

3- ولو سلّمنا أنه تعبدي فلا يمكن الاحتجاج به لاحتمال عدم إرادة التقييد بهذه العناوين وإنما ذكروها باعتبارها الوسائل المتعارفة للاستفادة، أو لبيان الفرد الأخفى باعتبار المفروغية من ثبوته في الفائدة المطلقة أي التي لا غرم فيها بموجب الآية الشريفة وغيرها والسؤال عن ثبوت الخمس فيما فيه غرم.

4- استثناء بعضهم الميراث والصداق والهبة من وجوب الخمس في هذا القسم وهو دال على شمول المستثنى منه لها باعتبار أن المتبادر من الاستثناء هو المتصل، قال السيد صاحب المدارك: ((المشهور بين

ص: 86


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/108.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/523.

الأصحاب وجوب الخمس في جميع أنواع التكسب من تجارة وصناعة وزراعة وغير ذلك، عدا الميراث والصداق والهبة))(1).

وممن التزم بشرط الاكتساب النراقي (قدس سره) حيث عنون هذا القسم من موارد وجوب الخمس ب-((أرباح التجارات والزراعات والغرس والضرع والصناعات، وجميع أنواع الاكتسابات من الصيد والاحتطاب والاحتشاش والاستقاء وغير ذلك)) ثم قال (قدس سره) بعد أن استدل بالروايات الواردة في هذا القسم -أي الفاضل عن المؤونة من أرباح السنة- قال (قدس سره): ((مورد الخمس في ذلك القسم: الأرباح والمكاسب والمنافع، وبعبارة أخرى: الفوائد المكتسبة)) ثم قال (قدس سره): ((وبالجملة: كل فائدة ومنفعة حاصلة من الاكتساب عرفاً، بخلاف ما لم يستفده المالك)) وذكر مثالاً على ذلك بقوله (قدس سره): ((وزيادة القيمة السوقية قبل البيع ليس فائدة مكتسبة تحصل، كما ذكره في المنتهى والتحرير، لعدم حصول زيادة له بعد، والزيادة إنما هي فرضية، أي لو باع السلعة تحصل له الفائدة)).

ثم قال (قدس سره) في المسألة الرابعة: ((لا يجب الخمس في الميراث، والصداق والهبة ونحوها على الحق المشهور، بل في السرائر: إنه شيء لم يذكره أحدمن أصحابنا غير أبي الصلاح، لما عرفت من اختصاص ثبوت الخمس في الفوائد المكتسبة، وصدقها على هذه الأمور غير معلوم.

وتدل عليه أيضاً في الجملة رواية ابن مهزيار (عمّن دُفع إليه مالٌ ليحج) وإثبات الخمس في بعض الروايات في الجائزة أو الميراث غير مفيد، لضعف البعض سنداً، والكل بمخالفة الشهرة القديمة والجديدة والشذوذ خلافاً للمحكي عن الحلبي، واستحسنه في اللمعة، ويميل إليه كلام بعض المتأخرين -كصاحب الحدائق- لعموم الفوائد))(2).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

ص: 87


1- مدارك الأحكام: 5/384.
2- مستند الشيعة: 10/31، 33، 52.

1- إنه (قدس سره) لم يذكر دليلاً على اختصاص وجوب الخمس بالاكتساب وإنما هو مناط استقرأه من العناوين التي ذكرتها الروايات ووردت في كلمات الأصحاب، وهذا غير كافٍ لتقييد ما دلّ على وجوب الخمس في عموم الفائدة إذ أن هذه العناوين لا مفهوم لها أو أنها ذكرت باعتبارها المصاديق الغالبة لتحصيل الفائدة، ونردّ عليه (قدس سره) بما رد به على من اقتصروا على عناوين أضيق، قال (قدس سره): ((ولا يضرّ اقتصار بعض كلمات القوم في ذلك القسم ببعض أنواعه -كمجرد الأرباح أو مع الغلاّت أو مع الصنائع- لأنه إما من باب التمثيل أو عدم الالتفات إلى التعميم))(1).

2- وإذا كان دليله (قدس سره) صيغة الاستفعال في كلمة (المستفاد) التي وردت في كلمات الفقهاء(2)

(قدس الله أرواحهم) بتقريب أن هذه الصيغة تدل على طلب الفعل نحو (استغفرَ) أي طلب المغفرة، فالاستفادة تعني طلب الفائدة وقصد تحصيلها.

ففيه:-

أ- إن هذه الصيغة تستعمل لأغراض أخرى كوجدان المفعول نحو (استعظم الأمر واستحسنه) أي وجده عظيماً وحسناً، وللتكلف كقولنا (استقتل) وقد يكون بمعنى الفعل المجرد نحو (استقرّ) أي (قرّ) والمعنى الظاهر من الاستفادة هنا حصول الفائدة ووجدانها.

ب- قد ورد في موثقة سماعة (السادسة) لفظ (أفاد) وليس (استفاد)، وهذه الصيغة تفيد الصيرورة نحو (أقفر البلد) أي أصبح قفراً والوجود نحو (أثمرت الشجرة) أي وُجِدَ فيها الثمر فتكون بمعنى حصول الفائدة ووجدانها.

ص: 88


1- مستند الشيعة: 10/32.
2- مثلاً قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف: ((يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلاّت، والثمار على اختلاف أجناسها)) ثم قال: ((دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم)) (الخلاف: 2/118، المسألة 139).

ومما تقدم يُعلم الجواب على التقريب الذي ذكره علم معاصر آخر بصيغة إشكال وجوابه، قال (دام ظله الشريف): ((لا يقال: الموارد المذكورة - في كلمة الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف- وإن كانت ذلك لكن عبارة: جميع المستفاد: عام لكل فائدة.

لأننا نقول: ذكر الموارد الخاصة المتناسقة في نسق واحد يدل على المراد من العام بل لا يطلق على الهبة ونحوها عنوان الاستفادة بل ولا عنوان الفائدة))(1)

مضافاً إلى منافاتها لعبارات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) كعبارة الغنية (صفحة 56) وعبارة النهاية حيث جعل المقسم ما يغنمه الإنسان لا ما يكتسبه.

3- يُنقض عليه (قدس سره) بصحيحة ابن مهزيار التي دلّت على وجوب الخمس في الميراث غير المحتسب والجائزة الخطيرة وبما دلّ على وجوب الخمس في الهدية كالروايتين السابعة والعاشرة من المجموعة المتقدمة وخبر علي بن الحسين بن عبد ربه قال: (سرّح الرضا (عليه السلام) بصلة إلى أبي فكتب إليه أبي: هل عليَّ فيما سرّحت إليه خمس؟ فكتب إليه: لا خمس عليك فيما سرّح به صاحب الخمس)(2)

بتقريب أن الهدية التي سرّح بها الإمام (عليه السلام) لو لم يكن فيها خمس كان الأولى التعليل بعدم وجوبه فيها لا بكونها من صاحب الخمس. فتشكيك صاحب المستند (قدس سره) في وجوب الخمس في الهدية غير مقبول، وقد تخلص البعض من هذا النقض بجعل قبول الهدية نوعاً من التكسب كما في الروضة وغيرها، وهو كما ترى.

4- وأما استشهاده بمسألة عدم وجوب الخمس في زيادة القيمة السوقية قبل البيع فإن عدم الوجوب لعدم تحقق الربح عرفاً إلا بالبيع لا لعدم صدق

ص: 89


1- المعلقات على العروة الوثقى للشيخ محمد علي الگرامي (دام ظله الشريف): 3/724.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 11، ح2.

التكسب عليه كما أراد (قدس سره).

5- أما رواية الحج التي أشار (قدس سره) إليها فهي التي ذكرناها (صفحة 78) وقد فهم منها صاحب الوسائل (قدس سره) أن المال المجعول كان أجرة الحج وجعلها دليلاً على استثناء أجرة الحج من سائر الإجارات من حيث وجوب الخمس، لذا جعل السيد الخوئي (قدس سره) منافاتها لما تقدم من جهة استثناء أجرة الحج من بقية الإجارات(1).

و ((بإلغاء الخصوصية قد يتعدى إلى مطلق الإجارات أو الإجارة على الواجبات والعبادات على الأقل، فتكون الرواية مخالفة لقول المشهور أيضاً، ومخصصة لثبوت الخمس في هذا الضرب من التكسبات لو لم يدّع وقوع التعارض حينئذٍ بينها وبين ما دلّ من الروايات المتقدمة على ثبوت الخمس في الإجارات، كما في صحيحة ابن مهزيار الأخرى (أو التاجر عليه والصانع بيده)بناءً على استظهار الإجارة على العمل منه، فإنه عندئذٍ بعد التساقط يرجع إلى عموم الخمس في مطلق الفائدة، لكونه بمثابة العام الفوقاني الذي يرجع إليه بعد سقوط الخاصين))(2).

وهي بهذا التقريب لا تنفع صاحب المستند (قدس سره) أما تقريب الاستدلال بها على ما ذهب إليه فيكون بحملها على ما هو المنصرف منها وهو حج المرء عن نفسه لأن حجه عن غيره يحتاج إلى بيان زائد وهو غير موجود فلا يحمل المال على أجرة الحج وإنما على إباحة التصرف أو الهبة أو الصدقة ونحوها باعتبار استحباب تمكين الآخرين من الحج ولو كان مستحباً، فتكون الرواية دليلاً على عدم الخمس في ما يملكه الإنسان بلا تكسّب وبالتجريد عن الخصوصية تكون دليلاً على عدم ثبوت الخمس في مطلق الفوائد التي تحصل من دون اكتساب ومنها الميراث.

ويرد على هذا التقريب:-

ص: 90


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/220.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي (دام ظله الشريف): 2/118.

أ- إن سند الخبر غير تام وإن وصفه السيد الخوئي (قدس سره) ((بالصحيح –في أحد طريقيه-))(1)

في أحد طريقيه باعتبار أن السند ورد في الوسائل هكذا (محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين، وعن علي بن محمد بن عبد الله عن سهل بن زياد جميعاً عن علي بن مهزيار) فكأن الكليني رواها بطريقين (أولهما) عن محمد بن الحسين (ثانيهما) عن علي بن محمد بن عبد الله عن سهل بن زياد، وهما جميعاً عن علي بن مهزيار، والمفروض أن الطريق الأول صحيح، لكن الموجود في الكافي غير هذا فقد ورد فيه (محمد بن الحسين وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن مهزيار)(2)

فيشترك الطريقان في الرواية عن سهل، ويلاحظ أن صاحب الوسائل أضاف محمد بن يحيى قبل محمد بن الحسين الذي اعتبره أنه ابن أبي الخطاب لأن الكليني لا يروي عنه بلا واسطة مثل محمد بن يحيى العطار كما أن محمد بن الحسين لا يروي عن سهل وإنما العكس، لكن هذه المحاولة من صاحب الوسائل (قدس سره) مبنية على ما اعتقده في محمد بن الحسين فظن سقوط محمد بن يحيى وهو احتمال بعيد، والأقرب للاعتقاد عدم وجود سقط بل تحريف حيث ذكر محمد بن الحسين والصحيح محمد بن الحسن الذي هو من شيوخ الكليني ويروي عن سهل.

ب- إن وجوب الخمس مفروغ منه عند السائل وإنما سأل عن وقت وجوبه هل هو من أول الأمر أي حين تسلّم المبلغ أم على الفاضل بعد أداء الحج، فلعل جواب الإمام (عليه السلام) كان نفي وجوب الخمس على المال كله وإنما يجب الخمس على الفاضل منه فلا ينافي المختار.

وببيان آخر: إن الاستدلال مبني على إطلاق نفي وجوب الخمس لكلا الحالين وهو غير ظاهر إذ لعل النفي لخصوص الشق الأول من السؤال

ص: 91


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/220.
2- أصول الكافي، ج1، آخر كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال، ح22.

أو على الأقل يكون الجواب مجملاً ولا يصح الاستدلال به.

وببيان ثالث: إن الاستدلال متوقف على كون الضمير في (عليه) عائداً إلى الشخص القابض للمال فيفيد الجواب عدم وجوبه عليه مطلقاً، لكن يحتمل -وهو الأقرب- عودة الضمير إلى المال، أي لا يجب الخمس على المال وإنما يجب على الفاضل منه.

وذُكرت وجوه أخرى للجواب:

(منها) ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) من ((أن السؤال ناظر إلى جهة الوجوب الفعلي، إذ لم يسأل أنه هل في المال خمس أو لا حتى يكون ظاهراً في الحكم الوضعي ليلتزم بالاستثناء، بل يقول: هل عليه خمس؟ ولا ريب أن كلمة (على) إذا دخلت على الضمير الراجع إلى الشخص ظاهرة حينئذٍ في التكليف وغير ناظرة إلى الوضع وعليه فلو سلّمنا أن الدفع كان بعنوان الإيجار فالسؤال ناظر إلى وقت الإخراج وأنه هل يجب الخمس فعلاً أو بعد العودة من الحج؟ فجوابه (عليه السلام): بأنه ليس عليه الخمس، أي ليس عليه ذلك فعلاً، لا أن هذا المال لم يتعلق به الخمس))(1).

وفيه ما قلناه قبل قليل من أنّ الضمير لو أرجعناه إلى الشخص فإنها تفيد عدم الوجوب عليه مطلقاً.

(ومنها) ما قاله (قدس سره) من أنه ((لم يفرض فيها أن المال المدفوع إليه كان بعنوان الأجرة، ومن الجائز أن يكون قد بذل للصرف في الحج كما هو متعارف ومذكور في الروايات أيضاً من غير تمليك ولا عقد إجارة، بل مجرد البذل وإجازة الصرف في الحج. ومن الواضح عدم وجوب الخمس في مثل ذلك، إذ لا خمس إلا فيما يملكه الإنسان ويستفيده والبذل المزبور ليس منه حسب الفرض))(2).

وقال قريباً منه العلم المعاصر المتقدم وعلله بأنه ((لا يكون تكسباً فلا

ص: 92


1- المستند في شرح العروة الوثقى:25/221.
2- المستند في شرح العروة الوثقى:25/220.

يمكن أن يستفاد من نفي الخمس في مثله نفيه في أرباح المكاسب)) وأضاف ((أو لأنه كان يعلم بأنه لا يتبقى له بعد الحج والصرف من ذلك المال على الحج شيء معتد به عادة))(1).

وفيه: أنها جميعاً خلاف الظاهر، لأن السائل يفترض بقاء شيء بيده.

(الوجه الثاني) وهو أوسع من السابق بجعل المناط كون الفائدة اختيارية للمكلف، والميراث فائدة قهرية فلا تكون مشمولة بأدلة وجوب الخمس، حكى هذا القول الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) ضمن الأقوال التي قيلت في تحديد موضوع وجوب الخمس وهي أربعة (اعتبار صدق التكسب بحيث يكون له مهنة وهو المحكي عنجمال الدين الخوانساري في شرحه على اللمعة، اعتبار التكسب مطلقاً وهو الوجه الأول الذي ناقشناه، عموم الحكم للتكسب وللفائدة الاتفاقية مع حصولها بالاختيار كالهبة وهو الوجه الثاني الذي نحن بصدده، عموم الحكم لكل فائدة حتى لو كانت قهرية وهو ما اخترناه).

وممن استند إلى هذا الوجه في استثناء الميراث من وجوب الخمس الشيخ الفياض (دام ظله الشريف)، فقد تساءل عن ((موضوع وجوب الخمس هل هو مطلق الفائدة المالية التي وصلت إلى شخص وإن لم يكن وصولها مستنداً إليه بنحو من الأنحاء، أو الفائدة المالية التي يكون وصولها مستنداً إليه ولو بنحو الجزء الأخير من العلة التامة؟ فعلى الأول يكون الميراث داخلاً في موضوع وجوب الخمس، وعلى الثاني فلا)) ثم أجاب (دام ظله الشريف): ((الظاهر من الأدلة هو الثاني)) واستدل بقوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مهزيار (يفيدها) و (أفاد) في موثقة سماعة ((وهذا العنوان لا يصدق على الميراث، فإنه وإن كان فائدة تصل إلى الوارث إلا أنه لا يصدق عليه أنه فائدة يفيدها الوارث، بل هو فائدة أفادها الله تعالى للوارث))(2).

أقول: قد تحصلت عدة أجوبة عن الوجه الأول وهي باختصار:-

ص: 93


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/42.
2- تعاليق مبسوطة: 7/118.

1- عدم ظهور هذا المعنى من كلمة (أفاد).

2- النقض على المناط بالميراث غير المحتسب مع أن المناط الذي ذكره غير قابل للتقييد.

3- النقض على الحكم بوجوب الخمس في حاصل الوقف الخاص كما اختار (دام ظله) وهي فائدة لم يقم المستفيد بإيجادها ولا إحداثها حتى بالواسطة ((على أساس أن الحاصل ملك للموقوف عليه تبعاً للوقف، ولا يتوقف على القبض))(1) الذي يمكن أن يحقق أدنى مراتب المناط الذي ذكره (دام ظله).

(الوجه الثالث) ((التمسك بالسيرة المتشرعية العملية، وأن الخمس لو كان ثابتاً في مثل الميراث والهدية والجائزة لاشتهر وشاع بين الشيعة لكثرة الابتلاء بها، وكونها من الموضوعات التي تعم البلوى، مع أنّ عكسه لعله المشتهر عملاً وفتوى، فيكشف ذلك كشفاً قطعياً عن عدم الخمس في غير أرباح المكاسب))(2).

وفيه: أنه إذا أُريد بالسيرة المتشرعية جريان سيرة عموم المتشرعة على عدم إخراج خمس الميراث، فيرد عليها:-

1- لو سلّمنا وجود مثل هذه السيرة فلا يمكن الاستدلال بها لوجود عدة احتمالات في نشأتها تمنع كونها تعبدية كاشفة عن حكم المعصوم (عليه السلام).(منها) أنها نشأت بسبب إفتاء الكثير من الفقهاء بعدم وجوب الخمس في الميراث إما مطلقاً أو في خصوص المحتسب –وهو الغالب-.

(ومنها) أنها نشأت بسبب فهم روايات التحليل على أنها تبيح الخمس للشيعة ولا تلزمهم بإخراجه.

ص: 94


1- تعاليق مبسوطة: 7/119.
2- نقله السيد محمود الهاشمي في كتاب الخمس: 2/110 عن مصباح الفقيه، كتاب الخمس والزكاة، صفحة 127 وذكره جملة من الأساطين.

(ومنها) أن أمر هذا القسم من الخمس –أي الفاضل عن المؤونة من الأرباح والفوائد- بُني من أول الأمر على الإجمال والإخفاء كما تقدم ولم يتصدَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومون (عليهم السلام) لجبايته فحصلت غفلة عنه، ولم تظهر معالمه وتفاصيله إلا في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) وحتى بعد تشريعه فقد كان الأئمة (عليهم السلام) متكتمين في جبايته في حدود ضيقة وربما امتنعوا عن قبضه أو أسقطوا حقهم فيه أو أذنوا للمكلفين بصرفه مباشرة، هذا كله في أصل هذا القسم من الخمس فكيف في الميراث الذي هو أخفى أفراده.

2- لو تنزلنا وقلنا بتعبديتها فإن السيرة دليل لبّي يُقتصر منه على القدر المتيقن وهو عدم وجوبه في الميراث المحتسب، أما غير المحتسب فإن عدم ذيوع إخراجه لندرته وليس لعدم وجود سيرة متشرعية على إخراجه.

ولو أُريد بالسيرة المتشرعية الجارية بين الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بتقريب أنهم لم يتعرضوا لوجوب الخمس في الميراث في فتاواهم مما يعني عدم الوجوب لكثرة الابتلاء بالمسألة ففيه:-

1- إن الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بين من صرّح بالوجوب كأبي الصلاح وفقه الرضا وابن الجنيد، وبين من ذكر كلاماً يشمل بإطلاقه الميراث كقولهم (غير ذلك)، حتى زمان ابن إدريس فإنه صرّح بعدم الوجوب، فلا توجد سيرة إذن على عدم الوجوب وقد نقلنا عن المحقق في المعتبر والشهيد الأول في البيان أنهما نسبا القول إلى ابن إدريس ولم ينسباه إلى الأصحاب.

2- إن عدم التعرّض لا يعني عدم الوجوب بل هو أعم منه.

3- لو سلّمنا مثل هذه السيرة فإنها ليست تعبدية لتكشف عن رأي المعصوم لتصريحهم بالدليل على عدم الوجوب كعدم صدق الفائدة على الميراث ونحوها مما ذكروه.

4- إن هذا التقريب أدلّ على عكس مطلوبهم أي أن نتيجته عدم الوجوب، إذ يقال أن الدواعي متظافرة لبيان عدم الوجوب –لو كان- لكثرة الابتلاء

ص: 95

بالمسألة، ولوجود عمومات وإطلاقات وجوب الخمس في كل فائدة فتشمل الميراث، ولوجود صحيحة علي بن مهزيار التي أوجبت الخمس في الميراث غير المحتسب وهو حصة من الميراث مما يولّد احتمالاً بالتجريد عن الخصوصية وتعميم الوجوب للحصة الأخرى. ومع توفّر هذه الدواعي يكون بيان عدم وجوب الخمس في الميراث –لو كان- ضرورياً، فعدم التعرض لعدم الوجوب يكون دليلاً على دخوله تحت عمومات وإطلاقات الوجوب.

بينما على القول بوجوبه لا يرد هذا الإشكال لأن الفقهاء بين من صرح بوجوبه أو ذكر كلاماً يتضمنه كقولهم ((وغير ذلك)).(الوجه الرابع) ((ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) من أن مقتضى الجمع بين الروايات المشتملة على عنوان التجارات والزراعات والاستفادة من ضروب المكاسب وبين الروايات المطلقة هو التقييد من باب حمل المطلق على المقيّد، لأنهما وإن كانا مثبتين في المقام، إلا أنه حيث يحرز وحدة الجعل وعدم تعدده جزماً، كيف وإلا لزم تعلق خمسين بالأرباح نظراً إلى انطباق عنوانين عليه وليس كذلك جزماً، فلا محالة تقع المعارضة بين العنوانين، لأن الحكم الواحد ليس له إلا موضوع واحد، فيتعين الجمع بالتقييد، لأن ظهور القيد في الدخالة أقوى من إطلاق المطلق على ما قرر في محله))(1).

وفيه:-

1- إن الروايات التي ذكرت العناوين الخاصة كالتجارة والزراعة ذكرت معها عنواناً عاماً كالاستفادة والإفادة والمتاع مما يعني أن ذكر هذه العناوين الخاصة لم تؤخذ على نحو التقييد وإنما على نحو المثال والمصاديق، لاحظ كمثال مصححة أحمد بن محمد بن عيسى (السابعة) فإنه (عليه السلام) ذكر موضوع الخمس وهو (الفائدة) عموماً ثم بيّن بعض مصاديقها.

ص: 96


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/112، ونقل كلام العراقي عن شرح التبصرة: 3/183.

نعم، ورد في بعضها سؤال الراوي عن أشياء محددة بحسب ابتلائه كصحيحة الريان بن الصلت (العاشرة) وهي لا تعني التقييد قطعاً.

2- لو تنزلنا وسلمنا ظهور العناوين الخاصة في التقييد فإن هذا الظهور بدوي، إذ يوجد بإزائه في الروايات ((ما كان ناظراً إلى التعميم وصريحاً في ثبوت الخمس على مطلق الفائدة ، ولا شك في أن هذا الظهور أقوى من ظهور ذكر العناوين المذكورة في التقييد حتى إذا سلّمنا أصل الظهور المذكور من ورودها في لسان الروايات، فيكون الجمع العرفي في خصوص المقام برفع اليد عن هذا الظهور وحمل العناوين المذكورة على بيان المصاديق المتعارفة للفائدة.

وإن شئت قلت: قاعدة حمل المطلق على المقيد إنما تصح فيما إذا كانت دلالته بالإطلاق ومقدمات الحكمة لا بالصراحة والنظر إلى العموم فضلاً عن التنصيص على ثبوت الحكم في مورد الافتراق، فإن هذا الظهور يكون عندئذٍ أقوى من ظهور العنوان الخاص في التقييد))(1).

3- لا يوجد عندنا تعدد في الجعل وإنما هو جعل واحد لكن موضوعه تارة يذكر بالعنوان الجامع له ولغيره وتارة يذكر بعنوانه الخاص لنكتة أو غيرها، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثم قال: (أكرم زيداً العالم) فإن الجعل واحد وإن زيداً داخل في العنوان العام لكن ذكره خاصة ببيان آخر قد يكون لنكتة ما.

4- لو سلّمنا بتعدد الجعل فإن ((غايته ثبوت الخمس في المال الواحد من جهتين، من جهة كونه فائدة، ومن جهة كونه كسباً، ولا يلزم تعدد الخمس، لأن ثبوت الخمس مفاد وضعي قابل للتداخل وليس حكماً تكليفياً، فيثبت خمس واحد في المال الواحد بسببين وعنوانين، نظير ثبوت النجاسة في الملاقي لنجاستين.

ص: 97


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/114.

بل سوف يأتي من الماتن (قدس سره) وهو المشهور والصحيح أيضاً كفاية خمس واحد لمن يتخذ الغوص أو استخراج المعدن كسباً لنفسه، مع أن عنوان المعدن والغوص غير عنوان التكسب جزماً))(1)

فلا يتعين الجمع بالتقييد الذي ذكره (قدس سره).

(الوجه الخامس) بعض الروايات التي قيل أنها تنفي ثبوت الخمس في الميراث.

وذكر فيها بعض الأعلام المعاصرين رواية ابن مهزيار في الحج(2)

التي ناقشناها فيما سبق.

وفيه: إن جعلها وجهاً مستقلاً غير صحيح وإنما هي من أدلة الوجه الأول كما ذكره النراقي في المستند.

وذكر أيضاً صحيحة علي بن مهزيار (الثالثة) بتقريب سنذكره عند مناقشة الصحيحة ونجيب عليه لاحقاً بإذن الله تعالى.

(ومنها) رواية علي بن الحسين بن عبد ربه قال: (سرّح الرضا (عليه السلام) بصلة إلى أبي فكتب إليه أبي: هل عليَّ فيما سرّحت إليه خمس؟ فكتب إليه: لا خمس عليك فيما سرّح به صاحب الخمس)(3).

بتقريب: أنها ((واردة في الصلة التي سرح بها الإمام (عليه السلام)، وبعد إلغاء الخصوصية تعمم إلى مطلق الهبة والفائدة المجانية))(4).

وفيه بعد ضعف السند، وكونها من أدلة الوجه الأول وليست دليلاً مستقلاً:-

1- إننا قربنا فيما سبق دلالتها على ثبوت الخمس في الهبة غاية الأمر سقوطه إذا كانت من صاحب الخمس إما لإسقاط حقه أو للزوم اللغوية في مقداره إذ أنه يهب مالاً ثم يرجع إليه خمسه.

2- إن الخصوصية في الهبة محفوظة ولا يمكن إلغاؤها ولا أقل من الشك في إمكان التجريد عن الخصوصية، فتعميم الحكم لكل الفوائد المجانية غير

ص: 98


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/114.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/117.
3- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 11، ح2.
4- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/119.

تام، والخصوصية هي الحزازة في فرض الخمس على الهدايا التي يتعارفها الناس خصوصاً إذا لم تكن خطيرة.

(ومنها) رواية أحمد بن محمد بن عيسى المتقدمة عن يزيد (السابعة).

بتقريب ((ظهور هذا الجواب في التحديد والحصر فيما ذكره، وقد ذكر ثلاثة عناوين: التجارات والاستثمارات والجوائز، فيقال إن الجامع فيما بينها ما يكون فائدةاختيارية لا قهرية كالإرث ونذر النتيجة مثلاً، فيكون لها مفهوم الحصر والتحديد، فيقيد به المطلقات بل نحكم عليها، لكونها ناظرة إلى تحديد ما هو موضوع الخمس))(1).

وفيه بعد معالجة الإشكال الذي ذكرناه في السند أن الإمام (عليه السلام) إنما ذكر هذه العناوين من باب المثال والتوضيح للفائدة وإنّ (من) بيانية أما موضوع الحكم وهو عنوان الفائدة فهو مطلق ولو كان مراده (عليه السلام) هذه العناوين خاصة لما كانت حاجة لذكر المقسم.

(الوجه السادس) عدم صدق الفائدة على الميراث، وقال السيد الخوئي (قدس سره) في تعليله: ((لانصراف كلمة الغنيمة أو الفائدة عن مثل الإرث كما لا يخفى))(2).

وقرّبه بعض أعلام العصر بتقريب آخر هو: ((إن الاغتنام إنما يصدق مع تبدل الأموال وانتقالها وما هو المتحقق في المواريث بنظر العرف هو تبدل الملاك لا الأموال، فالأموال ثابتة باقية بحالها وإنما المتبدل هم الملاك بحسب ما يقتضيه نظام الوجود))(3)

وقيل بلسان آخر حاصله: ((إن الإرث عبارة عن قيام الوارث مقام الموروث فهو من تبدل المضاف أي المالك لا تبدل الإضافة أو المضاف إليه))(4).

ص: 99


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/120.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/216.
3- كتاب الخمس للشيخ المنتظري: 422.
4- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/122 ونقله عن كتاب الخمس للسيد الميلاني (قدس سره): 92.

وفي كل التقريبات نظر:

أما صدق الفائدة على الميراث فمما لا يتردد فيه العرف، بل هو من أسهل الفوائد وأوضحها لحصول الفرد عليه من دون مشقة وقد يتحول الفرد به من الفقر إلى الغنى في لحظة.

أما ما قيل من تبدل الملاك بالميراث لا الأموال فمما لا دخل له بمسألتنا بعد تحقق الموضوع وهو عنوان الفائدة، مضافاً إلى أن تبدل الملاك جارٍ في غير الميراث كالهبة بل كل المعاملات حتى البيع ونحوه غاية الأمر أن سبب تبدل الملاك مختلف فهو تارة الوفاة في الميراث وأخرى المعاوضة في البيع ونحوها.

وينقض على جميع التقريبات تطبيق الإمام (عليه السلام) عنوان الغنيمة على الميراث المحتسب في صحيحة ابن مهزيار (الثالثة).

إن قلتَ: إن صحيحة ابن مهزيار جعلت الميراث غير المحتسب من الغنيمة ولا يلزم منه اعتبار كل ميراث منها كما هو واضح.

قلتُ: إن المناط الذي ذكروه غير قابل للتخصيص، ولو سلمناه فهو من أدلة استثناء الميراث المحتسب فقط لا مطلق الميراث.(الوجه السابع) الأصل؛ استدل به ابن إدريس (قدس سره) وهو يقتضي ((براءة الذمة، فلا نشغلها ونعلق عليها شيئاً إلا بدليل))(1).

وفيه: أنه لا معنى للاستدلال بالأصل مع وجود الدليل.

(النوع الثاني) ما استدل به على التفصيل بين الميراث المحتسب فلا يجب فيه الخمس وغير المحتسب فيجب، ويكاد استدلالهم ينحصر بصحيحة علي بن مهزيار (الثالثة).

ولكننا سنضيف وجهاً آخر عند بيان الرأي المختار مستنداً إلى روايات التحليل التي أباحت كل مال منتقل إلى الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) فتشمل الميراث.

ص: 100


1- السرائر: 1/496.

وقبل تقريب الاستدلال بها نشير إلى أن هذه الصحيحة أشكل على متنها بعدّة وجوه حتى رموها بالاضطراب، قال الأردبيلي: ((فيها أحكام كثيرة مخالفة للمذهب مع اضطراب وقصور)) وبعد أن ذكر بعض الإشكالات قال (قدس سره): ((وبالجملة هذا الخبر مضطرب بحيث لا يمكن الاستدلال به على شيء))(1)

وقال عنها صاحب الحدائق (قدس سره) أنها ((في غاية الإشكال ونهاية الإعضال))(2)

وقال السيد صاحب المدارك (قدس سره) عنها أنها ((متروكة الظاهر))(3)

فلا بد من معالجة هذه الإشكالات قبل الاستدلال بها، وقد ذكرها صاحب المدارك (قدس سره) والمحقق الأردبيلي (قدس سره)، وذكرها الشيخ حسن بن الشهيد الثاني (قدس الله سريهما) في المنتقى وأجاب عنها(4)،

ومن هذه الإشكالات:-

1- وجوب الخمس في الذهب والفضة إذا حال عليهما الحول مع أنه لا يجب فيهما إلا الزكاة بالإجماع.

ويمكن جوابه بأن المراد من الذهب والفضة ما اتخذ للاسترباح في التجارة ونحوها، فيكون الإمام (عليه السلام) قد استثناها من إسقاط الخمس في غيرها، وحتى لو افترضنا أنها ظاهرة في الذهب والفضة بذاتهما لا بعنوانهما أموالاً تجارية فلا ضير في أن يفرض ولي الأمر الخمس فيها لمصلحة يراها، وهذا ظاهر من كون الإمام (عليه السلام) في مقام بيان إعطاء حكم مؤقت في سنته تلك مع ملاحظة تقييد الحكم بدوران الحول الكاشف عن عدم الحاجة.

2- إن مقتضى الأمثلة التي وردت في الرواية للغنائم والفوائد دخول الجائزة الخطيرة والميراث ممن لا يحتسب والمال الذي لا يعرف صاحبه وما يحل تناوله من مال العدو في اسم الغنائم.

ص: 101


1- مجمع الفائدة والبرهان: 4/315.
2- الحدائق الناضرة: 12/355.
3- مدارك الأحكام: 5/383.
4- الحدائق الناضرة: 12/355-359.

وجوابه عدم الضير في ذلك فإن الجائزة والميراث من أظهر الفوائد بل والغنائم أيضاً بالمعنى الذي قرّبناه، وأما ما تناوله من مال العدو فهو داخل في الغنائم بلا إشكال، نعم، ربما يشكل في (المال الذي لا يعرف له صاحب) من جهة كونه مجهول المالك وحكمه التصدق به وليس للآخذ تملكه حتى يكون مصداقاً للفائدة والغنيمة وقد استدل البعض بالصحيحة على جواز تملك مجهول المالك بعد دفع الخمس، ولكن هذا الإشكال مردود لأن العنوان ليس (مال لا يعرف صاحبه) التي تتضمن معنى وجود صاحب له غير معروف، وإنما ذكرت الرواية (مالاً لا يعرف له صاحب) فهي لا تفترض وجود صاحب له فلا يكون من مجهول المالك وإنما هو شبيه بالمباحات العامة التي تملك بالحيازة.

3- ما أورد صاحب المدارك (قدس سره) على ذيل الصحيحة (فأما الذي أوجب من الضياع) بما نصّه ((وأما مصرف السهم المذكور في آخر الرواية وهو نصف السدس في الضياع والغلات فغير مذكور صريحاً مع أنا لا نعلم بوجوب ذلك على الخصوص قائلاً)).

وجوابه ((إن الصحيحة من بدايتها إلى نهايتها تنادي بأعلى صوتها بأنه (عليه السلام) في مقام تخفيف الخمس إما بالإلغاء محضاً كما في المتاع والآنية والخدم والربح ونحوها، أو بالإلغاء بعضاً كما في الضيعة، حيث أشار (عليه السلام) في صدرها بقوله: (إلا في ضيعة سأفسر لك أمرها) فما ذكره هنا تفسير لما وعد، ومعناه أنه (عليه السلام) خفف الخمس واكتفى عنه بنصف السدس، فكيف لا يكون مصرفه معلوماً؟! فإنه هو مصرف الخمس بعينه.

وأما ما ذكره (قدس سره) أخيراً من أنه لم يعرف له قائل، فحق، لكنه (عليه السلام) لم يكن بصدد بيان الحكم الشرعي ليقال: إنه لا قائل به، بل في مقام التخفيف عن حقه الشخصي والاكتفاء عن الخمس بنصف السدس كما عرفت فيختص بزمانه ولا ينافيه قوله (عليه السلام): (في كل

ص: 102

عام)، إذ الظاهر أن المراد: كل عام من أعوام حياته وما دامت الإمامة لم تنتقل إلى إمام آخر كما مر.

ويدل على ذلك صريحاً صحيحته السابقة المتضمنة لمكاتبة إبراهيم بن محمد الهمداني إلى الهادي (عليه السلام) –وهي الثانية في المجموعة- وسؤاله عن كتاب أبيه الجواد (عليه السلام) فيما أوجبه على أصحاب الضياع من نصف السدس، واختلاف الأصحاب في ذلك، وجوابه (عليه السلام) بعد المؤونة الكاشف عن اختصاص نصف السدس بزمان أبيه (عليه السلام)، وأن حكم الضيعة هو الخمس، غير أنه (عليه السلام) اكتفى عنه بهذا المقدار))(1).

4- ما أشكل به المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه من أن ظاهر قوله (عليه السلام): (فأما الغنائم والفوائد...) أن الأرباح غير داخلة في الغنائم وأنهما متقابلان ولأجله أسقط الخمس في الأول وأثبته في الثاني فيظهر التغاير من المقابلة واختلافهما من حيث المصرف، وأن خمس الأرباح يختص بالإمام (عليه السلام) ولأجله تصرف (عليه السلام) فيه تكليفاً وتخفيفاً. والمفروض أن نصف الخمس هو لبني هاشم.

وجوابه على مبانينا واضح لأننا نرى فعلاً أن خمس الأرباح هو حق خاص بمنصب ولي الأمر وله أن يسقطه، أما بنو هاشم فهم مصرف له وإن ولي الأمر هو الذي يتولى رعاية شؤون بني هاشم بما يرى.

5- التهافت بين قوله (عليه السلام): (ولم أوجب ذلك عليهم في كل عام...) وقوله (عليه السلام): (فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام...) إلخ وما تبعه في ذيل الصحيحة من وجوب نصف السدس في الضيعة التي تقوم بالمؤونة.

ويمكن أن يجاب بأن قوله (عليه السلام): (فأما الغنائم..) ناظر إلى الحكم الثابت في الشريعة بمقتضى الآية الكريمة والسنة الشريفة أما قوله

ص: 103


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/206.

(عليه السلام): (ولم أوجب...) فهو تخفيف منه (عليه السلام) وإسقاط لحقه الثابت في هذه الأمور المذكورة فلا تهافت.

وببيان آخر نقول إن الإمام (عليه السلام) بيّن في هذه الصحيحة حكمين (أحدهما) الحكم الثابت في الشريعة وهو قوله (عليه السلام): (فأما الغنائم والفوائد..) ويكون العطف فيها من باب عطف العام على الخاص (ثانيهما) الحكم الإجرائي التنفيذي الذي يريد الإمام (عليه السلام) تطبيقه بمقتضى ولايته لأمور الأمة وهو قوله (عليه السلام): (ولم أُوجب..) حيث أسقط الخمس عمّا سوى الذهب والفضة ونصف السدس في الضيعة، وهذا حكم خاص بتلك السنة وهي سنة استشهاده بصريح عبارته (عليه السلام): (في سنتي هذه)، لذا فإن الإمام الهادي (عليه السلام) أعاد الإجراء إلى الأصل في صحيحة ابن مهزيار الأخرى (الثانية).

وذكر بعض الأعلام المعاصرين وجهاً آخر وهو ظهور قوله (عليه السلام): (فأما الغنائم والفوائد) في ((اختصاص الخمس المفروض في كل عام بمقتضى آية الخمس بالغنائم بالمعنى الوسط، لأن الإمام (عليه السلام) بعد ذكر عدم الخمس في الفوائد المكتسبة لمواليه إلا ما فرضه عليهم في هذا العام في الذهب و الفضة بالخصوص تصدى في المقطع الثاني لما هو واجب عليهم في كل عام بإيجاب و فرض من قبل الله سبحانه،و عبَّر عنه بالغنائم و الفوائد، وجعله مقابلاً لما يكتسبه الناس، مما يعني أن المراد بالفائدة هنا الفائدة الخطيرة المطلقة المساوقة مع الغنيمة بالمعنى الوسط والذي هو أقرب المعاني للغنيمة وهو الفائدة المجانية، والتي يحصل عليها الإنسان بلا مقابل حتى التكسب والعمل، ومما يشهد على ذلك بنحو لا يدع مجالاً للشك الأمثلة التي ذكرها الإمام (عليه السلام)، فإنها جميعاً من الغنيمة بمعنى الفائدة المطلقة المغتنمة لا مطلق الفائدة)) والنتيجة هي ((حمل المقطع الثاني على إرادة بيان ثبوت الخمس في الفوائد المجانية، أعني الفائدة المطلقة المساوقة مع الغنيمة فهي التي يهتم الإمام بلزوم إيصالها على كل حال وفي كل عام، كان ذلك -بحكم الاستشهاد بالآية المباركة وبقرينة المقابلة مع

ص: 104

المقطعين الآخرين- دليلاً على أن المراد من الغنيمة فيالآية المباركة الفائدة بهذا المعنى لا مطلق الربح))(1).

أقول: ما ذكره (دام ظله الشريف) وإن كان وجهاً لطيفاً إلا أن الذي يبعّده أمور:-

1- إن حمل المراد من الفائدة في هذا المقطع على الغنيمة بمعنى الفائدة المطلقة لا مطلق الفائدة، هو حمل على الموارد النادرة كغنائم الحرب والميراث غير المحتسب فلا يكون مناسباً للاهتمام الذي أحاط (عليه السلام) به الحكم.

2- إن هذا التفصيل إذا أمكن قبوله في الميراث بجعل غير المحتسب من الغنيمة باعتباره غير مترقب الحصول وبلا مقابل فهذا التفصيل لا يمكن قبوله في الجائزة إذ لا قائل بالفصل بين الخطيرة وغيرها موضوعاً وحكماً حتى هو (دام ظله).

3- إن الغنائم إذا أمكن حملها على هذا المعنى وهو صحيح –كما حررنا في بداية البحث- فإن الفوائد مطلقة تشمل كل ما استفاد المرء فما المبرر لتقييدها بهذا المعنى؟ وما ذكره (دام ظله) من القرائن كعطفها على الغنائم، ونوع الأمثلة المذكورة بتقريب أنها ((لم تذكر لمجرد المثال بل في سياق توضيح ما هو موضوع الخمس الثابت بفرض الله سبحانه في كل عام وهو الغنيمة والفائدة المطلقة))(2)

غير كافٍ فإن العطف يمكن أن يكون من باب عطف العام على الخاص، والأمثلة لا تصلح لتقييد الموضوع بعد أن ثبت إطلاقه، كما أنه (دام ظله) منع من تقييد (الفائدة) في مصححة أحمد بن محمد بن عيسى (السابعة) فقد قال: ((إن موضوع الخمس مطلق الفائدة التي ذكرها أولاً لا العناوين الثلاثة المذكورة، فإنه لم يذكرها ابتداءً في مقام التحديد، وإنما ذكر مطلق الفائدة مما يفيد إلى الإنسان ثم عدّد العناوين المذكورة)) وقال: ((كيف ولو كان المراد التقييد

ص: 105


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/24.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/26.

لزم الاقتصار على العناوين المذكورة فقط))(1).

فالجواب الأول يكون هو الأقرب ولا يبعده قوله (دام ظله): ((وكيف يمكن أن يحمل لسان الوجوب في كل عام. والاستشهاد بالآية الكريمة والمبالغة والتأكيد والإلزام بإيصاله على إرادة بيان أصل تشريع الخمس في كل فائدة وربح، الأعم من إسقاطه عنهم أو أخذه منهم؟))(2)

لما ذكرناه من أن الإمام (عليه السلام) كان في مقامين (أحدهما) مقام حفظ الحكم وتثبيته (وثانيهما) الإجراء والتنفيذ بما يرى من المصلحة، والأول له من الأهمية ما يقتضي التشديد المذكور.

عود على بدء

وهو الاستدلال على القول بالتفصيل، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((المذكور في صحيح ابن مهزيار: التفصيل بين الذي لا يحتسب وغيره، ولأجله فصّل في المتن (أي العروة الوثقى) بين المحتسب فجزم بعدم الخمس فيه اعتماداً على مفهوم الوصف، وغيره فتوقف فيه، إذ لا شبهة في عدم صدق التكسب فيه، وبذلك افترق عن الهبة))(3).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((وأما التفصيل المزبور فلا بأس به، وقد دلّت عليه صريحاً صحيحة علي بن مهزيار))(4).

أقول: إن الصحيحة إنما دلّت صريحاً على وجوبه في غير المحتسب ولا سبيل إلى نفي الوجوب عن الميراث المحتسب إلا على القول بالمفهوم، مع أنه (قدس سره) اعترف بأن هذا التقييد في الصحيحة لا يدل على المفهوم عندما تناول الجائزة الخطيرة وقد وردت في نفس السياق، قال (قدس سره): ((والتقييد بالخطير لا

ص: 106


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/121.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/25.
3- مستمسك العروة الوثقى: 9/524.
4- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/216.

يدلّ على المفهوم بالمعنى المصطلح، بل غايته الدلالة على عدم تعلّق الحكم بالطبيعي الجامع، وإلا لأصبح القيد لغواً))(1).

أقول: ما ذكره (قدس سره) وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يحقق نتيجة المفهوم لأن القيود وإن كان الأصل فيها الاحترازية وأنها ظاهرة فيها وإلا لزم لغوية ذكره، إلا أن وجود القيد يدل على أن موضوع الحكم في القضية هي الحصة المقيدة وليس كل الطبيعي الجامع، ففي المورد يكون (الميراث غير المحتسب) موضوع الحكم بوجوب الخمس لا طبيعي الميراث، ونتيجة ذلك انتفاء هذه الحصة من الحكم بانتفاء القيد من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه وهو حكم عقلي ليس من مفهوم الوصف بشيء، والانتفاء بهذا المقدار لا يعني انتفاء طبيعي الحكم وهو وجوب الخمس عن الحصة الأخرى من الموضوع وهي غير المقيدة في الجملة إذ يمكن أن يكون الوجوب فيها بدليل آخر وهو موجود في المقام وأعني بها عمومات وجوب الخمس في كل فائدة التي ذكرناها في المطلب الأول فيتعلق الخمس بالميراث المحتسب من جهة كونه فائدة لا من جهة صحيحة علي بن مهزيار.

إن قلتَ: على هذا لا يبقى فرق بين الميراث المحتسب وغيره فما فائدة التقييد به.

قلتُ: ليس مهماً أن نعرف الفرق ما دام الحكم في الحصة غير المقيدة قد استفيد من دليل آخر، ومع ذلك فالفرق موجود وهو عد الميراث غير المحتسب من الغنيمة فيكون تعلق الخمس فيه من باب وجوب الخمس في الغنيمة أما المحتسب فمن مطلق الفائدة ووجوب الخمس فيه من باب وجوبه في عموم الفائدة، ولهذه الخصوصية آثار، منها أن دفع خمس الغنيمة فوري ولا تستثنى منه مؤونة السنةبعكس الآخر، ومنها أن مصرف الأول هي العناوين التي ذكرت في الآية الشريفة بينما الثاني كله للإمام على تفصيل تقدم في مسألة سابقة.

ص: 107


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/212.

كما أن تقييد الهبة بالخطيرة لوحظت فيه خصوصيةٌ ما ككون الهبة اليسيرة تستعمل في المؤونة سواء مع تلف العين كالمال أو بقائها كالكتاب.

وعلى هذا فلا يجب المصير إلى القول بالتفصيل بناءً على الرواية وبالوجه الذي رفعنا به الإشكال الخامس وهو التهافت عنها خلافاً لما قاله بعض الأعلام المعاصرين من ((أنه بناءً على حمل هذا المقطع (فأما الغنائم والفوائد...) في الصحيحة على خمس مطلق الفائدة لا خمس الغنيمة لا جواب على التقريب المتقدم بل يتعين المصير إلى التفصيل في خمس الميراث والهدايا بين الميراث المحتسب وغيره والهدية الخطيرة وغيرها))(1).

ويقصد بالتقريب المتقدم ما ذكره من الاستدلال بالرواية على استثناء مطلق الميراث والهدية من وجوب الخمس فإنه بعد أن سلم بظهور القيد في الاحترازية، قال (دام ظله الشريف): ((ومدلوله المفهوم بنحو السالبة الجزئية لا الكلية، ومقتضاه عدم ثبوت الخمس في مطلق الهدية والميراث وإلا كان القيد المذكور لكل منهما لغواً محضاً، ويثبت بذلك انتفاء الخمس عن الجائزة غير الخطيرة أو الميراث غير(2)

المحتسب في الجملة، وهذا يكفي في المقام لتقييد الإطلاقات المتقدمة بإخراج مثل الميراث والجائزة منها، إما بدعوى أن ثبوت السالبة الجزئية في خصوص المورد يساوق السالبة الكلية لعدم احتمال الفرق بينه وبين موارد الجوائز غير الخطيرة أو المواريث المحتسبة، أو لإجمال المطلق بعد إجمال مخصّصه الدائر بين المتباينين، حيث لا يوجد قدر متيقن خروجه عن الخمس في المواريث المحتسبة أو العطايا غير الخطيرة ليكون الدوران بين الأقل والأكثر، وليصح التمسك بالمطلق في غير المتيقن))(3).

وكلا التقريبين باطلان جملةً وتفصيلاً؛ أما جملةً: فلأنهما مخالفان لصريح الصحيحة في وجوب الخمس على الميراث غير المحتسب، وبالتفصيل: أما

ص: 108


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/117.
2- هذه الكلمة موجودة في الأصل ولعلها زائدة كما هو واضح.
3- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/116.

(الأول) فلأن السالبة الجزئية لا تساوق السالبة الكلية في المقام لثبوت الفرق بين الميراث المحتسب وغيره فهذه مصادرة على المطلوب وأما (الثاني) فلعدم وجود مخصِّص أصلاً فإن الصحيحة تكفّلت ببيان حكم فرد (وهو الميراث غير المحتسب) يجري فيه حكم العام وهو وجوب الخمس. أما المخصِّص المدعى فإن كان هو المفهوم فلا مفهوم للوصف وإن كان احترازية القيد فهي تنفي الحكم الخاص بالحصة ولا تَعرّض لها للطبيعي الجامع فيجري حكم العام فيه.أما هو (دام ظله الشريف) فقد أجاب عن إشكال احترازية القيد بما ينسجم مع الوجه الذي ذكره للإجابة على الإشكال الخامس فنفى كون القيد احترازياً أصلاً ((وذلك لما تقدم في شرح هذا المقطع في الرواية من أنه ليس بصدد بيان الخمس في مطلق الفوائد بل في فائدة خاصة وهي الفائدة المطلقة المساوقة للغنيمة الثابت فيها الخمس في كل عام بفرض الله سبحانه وتعالى في آية الخمس)) ((فيكون ذكر القيدين من أجل صدق موضوع خمس الغنيمة في الآية الذي أصبح الإمام (عليه السلام) بصدد شرحه وتحديد موضوعه، فلا ينافي ثبوت الخمس بجعلٍ ثانٍ أو دليل آخر على الفوائد التي لا يصدق عليها الغنيمة بالمعنى المذكور))(1).

أقول: هذا جواب صحيح بناءً على ما اختاره (دام ظله) وقد ناقشناه.

إضافة: ذهب عدد من الفقهاء –سنذكرهم في هامش الصحيحة- إلى وجود إطلاق في صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرّم (الآتية صفحة 111) وهو غير تام لورودها في قضية الفروج خاصة كما صرّح به السائل فلا إطلاق لها، وعلى فرض وجوده فلازمه عدم وجوب الخمس في الميراث فكان الأولى بهم الاستدلال بإطلاق الصحيحة على عدم وجوب الخمس في الميراث، قال الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): ((إن صحيحة سالم بن مكرم ناصة في تحليل الميراث المتعلق بالخمس للوارث، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين أن الميت ممن

ص: 109


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/115.

كان ملتزماً بالخمس ولكن مات في أثناء السنة، أو كان غير ملتزم به وإن كان معتقداً، أو أنه ممن كان لا يعتقد به))(1).

إن قلتَ: إنهم يريدون بنفي وجوب إخراج الخمس بلحاظ إبراء ذمة الميت لا بلحاظ وجوبه على الوارث.

قلتُ:-

1- إن كلامهم مطلق حتى إذا كان الميت ممن لا يعتقد الخمس فالميت غير ملحوظ في الكلام.

2- إنه لا يظهر من كلماتهم وجوبان أحدهما على الميت والآخر على الوارث حتى يمكن أن يقال أنهم لا يريدون الأول ويريدون الثاني.

3- إن روايات التحليل ناظرة إلى تكليف المنتقَل إليه لا المنتقل عنه.

نعم، يمكن أن يقولوا أن مفاد روايات التحليل عدم وجوب إخراج الخمس المتعلق بالمال عندما كان ملكاً للمنتقل عنه على المنتقل إليه فور انتقال الملكية، وهو لا ينافي وجوبه في نهاية السنة في ما فضل منه بعد صرف المؤونة.

ص: 110


1- تعاليق مبسوطة: 7/124.

الرأي المختار

اتضح من خلال المناقشات السابقة أن كل الوجوه التي قيلت لاستثناء الميراث مطلقاً من وجوب الخمس لا تنهض بالمطلوب، فتكون العمومات الدالة على وجوب الخمس في كل فائدة –ومنها الميراث- محكمة.

لكن الذي يبعد وجوب الخمس في الميراث المحتسب أمور:-

1- إن الأئمة (عليهم السلام) ذكروا فيما ذكروا من العناوين التي يجب فيها الخمس كل شيء تقريباً فذكروا التجارة والصناعة والزراعة والجائزة ولم يذكروا الميراث مع أنه مسالة ابتلائية لكل شخص ولا يكفي في بيان وجوبه العمومات فإن العرف لا يكتفي في مثله بالعمومات كما لم يكتفِ في غيره، ويفهم من عدم التعرض له الإعراض عن بيان وجوبه، خصوصاً في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) من بعده حيث أعلنوا وجوب هذه الفريضة وبيّنوا تفاصيلها.

2- ما قالوه من شمول بعض روايات التحليل للميراث فيُتمسّك بإطلاقها وقد ورد الميراث بعنوانه في بعضها فقد روى أبو خديجة بسند معتبر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال له رجل وأنا حاضر: حلل لي الفروج، ففزع أبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنما يسألك خادماً يشتريها أو امرأة يتزوجها أو ميراثاً يصيبه أو تجارة أو شيئاً أُعطيه، فقال: هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب والميت منهم والحي، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال)(1)

حيث ذَكر عددٌ من الأعلام إطلاق التحليل فيها(2) ولم يأتِ دليل لاحق

ص: 111


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال، باب 4، ح4.
2- كالسيد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة الوثقى: 25/354، والشيخ الفياض في تعاليق مبسوطة: 7/124، والسيد محمود الهاشمي في كتاب الخمس: 2/161.

على الوجوب إلا في غير المحتسب بمقتضى صحيحة علي بن مهزيار، فيكون التحليل في الميراث المحتسب جارياً.

لكن هذا التجريد يبدو بعيداً لاختصاصها بالفروج كما هو واضح من السؤال، فلا إطلاق لها، وإن غاية ما تدل عليه روايات التحليل عدم وجوب إخراج الخمس على المنتقل إليه وهو الوارث بلحاظ تعلّقه في ذمة المنتقل منه وهو الميت، ولا ينافي وجوبه عليه إذا فضل منه شيء بعد صرف المؤونة.

3- إغفال الفقهاء (قدس الله أرواحهم) التعرض لوجوب الخمس في الميراث مع عموم البلوى به والحاجة إلى البيان، وإن ((عدم تعرضهم –أي الفقهاء (قدس الله أرواحهم)- لمثل الميراث وأخويه في كتبهم المعدة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام) مع عموم الابتلاء بها يكشف كشفاً قطعياً عن خروجها عندهم عن موضوع الخمس وعن تلقّيهم ذلك من الأئمة (عليهم السلام) يداً بيد))(1).

وهذا ما ناقشناه سابقاً إلا أن الجديد الذي نضيفه هو عدم إمكان التعويل على قولهم ((وغير ذلك)) بعد ذكر عناوين ما يجب فيه الخمس لشمول الميراث لأنه مسألة عامة الابتلاء ولا يكتفى في مثلها بهذا البيان.

4- جريان سيرة المتشرعة على عدم إخراج الخمس من الميراث، قال المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه: ((لا ينبغي الارتياب في عدم تعارفه بين المسلمين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا بين الشيعة في عصر أحد الأئمة (عليهم السلام) وإلا امتنع عادة اختفاء مثل هذا الحكم، أعني وجوب صرف خمس المواريث، بل وكذلك العطايا مع عموم الابتلاء به على النساء والصبيان من المسلمين فضلاً عن صيرورته خلافياً بين العلماء، أو صيرورته خلافه مشهوراً لو لم يكن مجمعاً عليه فوقوع الخلاف في مثل المقام أمارة قطعية على عدم معروفيته في عصر

ص: 112


1- كتاب الخمس للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 222.

الأئمة (عليهم السلام) بل ولا في زمان الغيبة الصغرى وإلا لقضت العادة بصيرورته من ضروريات الدين لو كان في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المذهب لو كان في أعصار الأئمة (عليهم السلام) ))(1).

5- تقييد ما يجب فيه الخمس من الميراث في صحيحة ابن مهزيار بغير المحتسب، والأصل في القيود الاحترازية فيكون من المحتمل إرادة إخراج الإرث المحتسب من الوجوب، ولا ينقض عليه بتقييد الجائزة بالخطيرة وهي لا مفهوم لها بعد ضم عدم القول بالفصل، لأن غير الخطيرة تدخل غالباً في المؤونة إما بإتلاف العين كما لو كان نقداً أو مع بقائها كما لو كان كتاباً مثلاً، فيكون وجوب الخمس في غير الخطيرة منتفياً بانتفاء موضوعه وليس بالمفهوم.

6- إن الفقهاء الذين قالوا بوجوب الخمس في الميراث لم يرتّبوا أثراً عملياً على الحكم ومن الشواهد على ذلك عدم ظهور فرق بينهم وبين من قال بالتفصيل في الفروع التي سيأتي بعضها بإذن الله تعالى، فالمفروض أنه بناءً على قولهم: يجب على الوارث تخميس التركة حتى لو كانت من مخمّس لتبدّل المالك، مع أنهم خصّوا الوجوب بمن مات ولم يؤدِّ خمس ماله، وهذا خمس عن الميت لا عن الوارث.

وفي الحقيقة نستطيع أن نقول إن مرادهم من وجوب الخمس في الميراث غير واضح فإن كانوا يريدون وجوب الخمس على الوارث بلحاظ الملك الجديد الذي حصل له بسبب وفات مورّثه وإن كان المورث مخمساً، فهذا ما لا يلتزمون به عملياً، وإن كانوا يريدون وجوب إخراج الوارث خمس التركة الذي لم يؤده المورّث فهذا مما يتفق معه القائل بعدم الوجوب في المسألة لأنه لإبراء ذمة الميت كما سيأتي في الفرع الثاني وهو أجنبي عن مسألتنا.

ص: 113


1- نقلناه بواسطة كتاب الخمس للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 223.

7- يمكن التشكيك في صدق عنوان الفائدة على الميراث المحتسب لنكتة وهي وجود فرق بينه وبين أرباح التجارات والهدية وغيرها باعتبار أن مقتضي الملكية موجود لدى الوارث ولكن فعليتها معلقة على زوال المانع وهو موت المورّث، وقد ورد في الحديث الشريف: (إن لك في مالك ثلاث شركاء: أنت، والتلف، والورّاث، فإن استطعت أن لا تكون أعجزهم فافعل)(1)

وقال الشريف الرضي:

خُذ من تراثك ما استطعت فإنما *** شركاؤك الأيام والورّاثُ(2)

أما في العناوين الأخرى فلا يوجد مقتضي التمليك إلا بحصول سببه، والخلاصة: إن أسباب الملك مختلفة بين الميراث وغيره من الفوائد فإن سبب تملّك الميراث –أعني الوفاة- على نحو زوال المانع أما في غيرها فعلى نحو تحقق المقتضي، والعرف يرى صدق الفائدة في الثاني دون الأول.

8- إن الأحكام الشرعية مبنية على المصالح ودرء المفاسد الواقعية، وهي هنا تقتضي عدم الوجوب للزوم الحرج والضرر غالباً على الورثة لو أُمروا بدفع الخمس فإنه يؤدي إلى ضياعهم وتشتتهم إذ يجب عليهم بيع دار سكناهم أو أثاثهم للوفاء بالخمس وهو يستلزم غالباً الحرج والعسر والضرر وهي منفية في أحكام الشريعة.

9- وإن الأحكام الشرعية لوحظ في جعلها الحالات النوعية وهي في المقام تقتضي عدم الوجوب إذ أن الميراث المحتسب هو للطبقة الأولى وهي غالباً تسكن دار مورّثهم وتستعمل أثاثه وتعمل معه في أمواله كالزراعة والتجارة فهم مشتركون مع مورّثهم في تطبيق الأحكام الشرعية من حيث عدم تعلق الخمس بما صدقت عليه المؤونة وخمس الزائد من الأرباح وغيرها فتنتقل إليهم وقد امتثلوا الأحكام الشرعية فيها بلحاظ تبعيتهم لمورّثهم، وهو وإن كان لا يكفيهم للامتثال عن أنفسهم لأنهم لم يكونوا

ص: 114


1- ميزان الحكمة للريشهري: 4/2993.
2- ديوان الشريف الرضي: 1/178.

مالكين، لكن الشارع يلاحظ هنا مصلحة التخفيف عنهم فيكتفي بذلك الامتثال.

10- أن يقال إن الظاهر من مجموع الروايات وصريح خبر عبد الله بن سنان (الرواية رقم 8) أن موضوع وجوب الخمس عنوانان هما (الغنيمة) و(الاكتساب) والميراث ليس من الثاني كما هو واضح لأنه فائدة قهرية، والميراث المحتسب خارج من الأول موضوعاً لأنه مترقب الحصول فلا ينطبق عليه تعريف الغنيمة وخارج حكماً بمقتضى ما قرّبناه من صحيحة ابن مهزيار، فالميراث المحتسب لا يتحقق فيه موضوع وجوب الخمس.

11- وبمقتضى بعض الوجوه يحصل الشك في كون الميراث فائدة فلا تجري فيه عمومات وجوب الخمس في كل فائدة لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيكون خروج الميراث تخصصاً، وبمقتضى البعض الآخر يكون خروجه تخصيصاً وبعد حصول الشك في شمول عمومات وجوب الخمس للميراث المحتسب نرجع إلى الأصل الجاري في المقام وهي البراءة.

ولذا فإننا ترددنا في الرسالة العملية في وجوب الخمس في الميراث المحتسب لأجل الأمور أعلاه وأعطينا الإذن للمكلفين بالرجوع إلى مجتهد آخر جامع للشرائط وإن كان الأقرب هو عدم الوجوب لبعض الوجوه التي ذكرناها.

تنبيه: هنا لا يمكن للفقيه أن يحتاط وجوباً بالدفع لأنه تصرّف في أموال الغير.

إن قلتَ: إن الدافع هو المالك نفسه فلا يكون الفقيه متصرفاً فيها.

قلتُ: إن الدافع المباشر وإن كان هو المالك إلا أن السبب هو فتوى الفقيه والسبب هنا أقوى من المباشر لامتثال المكلفين لفتوى الفقيه فينسب التصرف إليه.

أما الميراث غير المحتسب فيجب فيه الخمس لصحيحة علي بن مهزيار والأحوط أن يكون وجوبه من باب وجوب الخمس في الغنيمة لا مطلق الفائدة

ص: 115

وقد تقدّم ذكر الفرق في الآثار. وذهب عدد من الأعلام المعاصرين إلى هذا النحو من الوجوب على الميراث غير المحتسب(1).

فروع

(الأول) في تعريف الميراث غير المحتسب

قال السيد صاحب العروة (قدس سره) فيه: ((كما إذا كان له رحم بعيد في بلدٍ آخر لم يكن عالماً به فمات وكان هو الوارث له)) وفهم المعلّقون والشرّاح أن كونه بعيداً وفي بلد آخر، وعدم العلم به قيود للتعريف، فعلّقوا بالمنع من اعتبارها في التعريف.واكتفى السيد الحكيم (قدس سره) لصدق عدم الاحتساب بقيد ((عدم العلم بوجود الرحم وإن كان قريباً، ما لم يكن أباً أو ابناً، كما قيّده به في النص)) (2)

أما السيد الخوئي (قدس سره) فنفى اعتبارها جميعاً وذهب إلى إمكان ((فرضه حتى مع اجتماعهما في بلد واحد ومع العلم بالوجود، كما لو فرض أخوَان أحدهما أصغر وله أولاد كثيرون بحيث لا يحتمل عادةً موته بجميع أولاده ليرثه الأكبر ولا سيما إذا كان شيخاً عمره ثمانون سنة –مثلاً- والأصغر كهلاً عمره خمسون، فصادف أن وقعت زلزلة أو صاعقة أو حرب فأهلكت الأصغر بجميع أولاده، إما مع تأخر موته عن أولاده أو مع اشتباه الحال، وقد بقي الأكبر، فكان طبعاً هو الوارث. فإن مثل هذا الإرث لم يكن بالحسبان))(3).

أقول: إن الحاكم في تحديد مفهوم عدم الاحتساب ومصاديقه هو العرف والوجدان لأنه من الشبهات الموضوعية، والنص إنما ذكر (من غير أب ولا ابن)

ص: 116


1- كتاب الخمس للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 214، كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي (دام ظله الشريف): 2/121.
2- المستمسك في شرح العروة الوثقى: 9/524.
3- المستند في شرح الروة الوثقى: 25/217.

لتوضيح معنى غير المحتسب وليس للتقييد، وإلا فإنه يجب استثناء الأم والبنت والزوج، والظاهر أن ما ذكره السيد صاحب العروة (قدس سره) هو مثال جليّ لإيضاح الفكرة ولا يريد التقييد به، فلا يصح الاعتراض عليه بإنكار اعتبار تلك القيود.

أما المثال الذي ذكره السيد الخوئي (قدس سره) فكان يمكنه ذكر مثال أقرب منه للنقض، كما لو كان أب وله عدة أولاد فمات هو وجميع أولاده بقصف أو عمل إرهابي أو زلزلة فورثهم جميعاً الابن الوحيد الباقي، فإن الزائد عن حصته من أبيه لو لم يتعرضوا للحادث هو من غير المحتسب.

ويلاحظ هنا عدم الإشارة في كلماتهم إلى أن عدم الاحتساب والتوقع هل هو بلحاظ النوع أو الشخص؟ إذ على الأول يمكن أن يقال أن كل ميراث من غير الطبقة الأولى هو غير متوقع لأن مقتضى الحالة النوعية وجود الورثة من الطبقة الأولى غالباً، فلا تصل النوبة إلى غيرها.

أما إذا لوحظت الحالة الشخصية فستكون لكل شخص بحسبه والمهم تحقق عنوان عدم الاحتساب والتوقع وقد يتحقق حتى في ميراث المرتبة الأولى كما في المثال الذي ذكرناه.

وسياق كلمات السيد صاحب العروة (قدس سره) والمعلّقين والأمثلة التي ذكروها هو المعنى الثاني وأن ((المعيار في ذلك إنما هو بعدم كون وصول الميراث منه إليه في حسبانه وتصوره يوماً من الأيام))(1).

ولكن يمكن أن يقال أن قوله (عليه السلام): (من غير أب ولا ابن) ليس لمجرد توضيح المعنى العرفي وإنما فيه إلفات نظر إلى أن الاحتساب وعدمه يلاحظمن جهة طبقة الميراث دون غيرها من الحالات، فما كان من الطبقة الأولى كالابن والأب ومثلهما الأم والبنت فإنه محتسب باعتبار أن الغالب في الميراث هو من هذه الطبقة، وما كان من غيرها فهو غير محتسب لأنه غير متعارف والذي

ص: 117


1- تعاليق مبسوطة: 7/119.

يقرب هذا المعنى ذكر (الابن) في النص مع أن ميراث الأب من ابنه غير متوقع عادةً، وبين المعنيين عموم من وجه كما هو واضح.

((فيكون بحسب النظر العرفي غنيمة وفائدة مطلقة له وإن كان بحسب علمه الشخصي معلوماً له من أول الأمر أنه سوف يرثه، فإن الميزان عدم التوقع بحسب نظام الإرث واستحقاقه النوعي العقلائي في نفسه لا علم المكلف أو جهله به.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال: بأن القيد المذكور الوارد في الرواية من ناحية يشمل غير الأب والابن من الطبقة الأولى اللصيقة بالمورّث والمستحقة لإرثه بحسب نظام الإرث كالأم والزوج والزوجة، كما أنه يشمل الأب وإن علا والابن وإن نزل لأن هذه الجملة إذا كانت عطف بيان لعدم الاحتساب كان مفادها ذلك لا محالة كما هو الواضح.

ومن ناحية أخرى يشخص المراد من الاحتساب وعدمه في الاحتساب من ناحية القرب والبعد في طبقات الإرث، لا من سائر النواحي، كعدم توقع موت المورث لكونه أصغر مثلاً من الوارث، أو من ناحية كثرة المال الموروث، أو عدم علم الوارث بوجود المال لدى المورث، أو من ناحية عدم علمه بوجود المورث أصلاً، فإن هذه المناشئ لعدم الاحتساب والتوقع منفية بمقتضى ما ورد في الصحيحة من تفسير عدم الاحتساب بكونه من غير أب ولا ابن، فإنه بإطلاقه يشمل تمام موارد الإرث من الأب والابن حتى إذا كان غير معلوم للوارث أو غير متوقع الموت، بل الابن غالباً يكون موته بعد والديه ومع ذلك جعل من المحتسب، والفهم العرفي أيضاً يساعد على ذلك، فإن مجرد جهل الشخص بالمال الذي ملكه بالإرث إذا كان طبقاً للنظام الطبيعي للإرث في أمثاله، أي إذا كان من الطبقة الأولى الذي هو الوارث المستحق للمال عادة ونوعاً لا يكفي لصدق عنوان الغنم والفائدة عليه، وإلا للزم أخذ قيد الجهل وعدم التوقع من ناحيته في الجائزة أيضاً بل في مطلق الغنائم))(1).

ص: 118


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/124.

أقول: الإنصاف في تعريف غير المحتسب هو ما يفهمه العرف من كونه غير متوقع بلحاظ الحالة الشخصية مع استثناء ميراث الطبقة الأولى مطلقاً بموجب النص حتى لو كان غير متوقع كالمثال الذي ذكرناه.

(الثاني) قال صاحب العروة (قدس سره): ((إذا علم أن مورّثه لم يؤدِّ خمس ما تركه وجب إخراجه، سواء كانت العين التي تعلّق بها الخمس موجودة فيها أم كان الموجود عوضها، بل لو علم باشتغال ذمته بالخمس وجب إخراجه من تركته مثل سائر الديون)).

أقول: لا يخلو مرادهم من إجمال إذ لم يعرف أن وجوب الإخراج بلحاظ ذمة الميت أم الوارث وسنبيّن تأثير ذلك بإذن الله تعالى، وعلى الأول –وهو الظاهر- تكون المسألة أجنبية عن كتاب الخمس، لأن هذا الخمس الذي يجب إخراجه إنما هو عن الميت لإبراءذمته فيجب الوفاء به فتدخل المسألة في ذلك الباب، أي ما يتعلق بوصية الميت وديونه.

لكن يمكن تصور إدراجها هنا على كلا القولين (إما) على القول بعدم وجوب الخمس في الميراث فلدفع توهم سقوط الخمس عن الميراث مطلقاً حتى لو لم يؤدِّه الميت (وإما) على القول بوجوب الخمس في الميراث فلاحتمال وجوب الخمس مرتين أحدهما عن الميت إبراءً لذمته والثاني عن الوارث للوجوب المذكور، لكن من قال بوجوب الخمس في الميراث لم يقل بهذا لذا جعلناه مما يبعّد القول بوجوب الخمس في الميراث.

ولا شك أن موضوع هذا الفرع مجمل فهو غير كافٍ للحكم عليه، لوجود تفاصيل تؤثر في الحكم، منها كون الميت ممن يعتقد بوجوب الخمس، أو لا، وعلى الأول فهل كان عدم الأداء لوفاته قبل نهاية السنة فلا يكون عاصياً، أم لعصيانه؛ ومنشأ التأثير شمول روايات التحليل لبعض الصور والعنصر المؤثر الآخر هو كون الميراث محتسباً أو غير محتسب(1).

ص: 119


1- ذكر سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذا الفرق فقال في المحتسب إذا كان متعلقاً ((للخمس منذ حياة المورّث فيجب تخميسه قبل التوزيع بين== ==الورثة. وإن لم يُخمَّس وجب على الوارث تخميس ما وصل إليه)) وإذا كان ((ميراثاً غير محتسب وكان متعلقاً لوجوب الخمس في حياة المورِّث ففي مثله يجب التخميس مرتين: عن ذمة الميت قبل التقسيم. والأخرى عن ذمة الوارث فيما وصل إليه)) (منهج الصالحين، طبعة دار الأضواء، ج1، صفحة 304 المسألة 1664).

وقد استدل بعض أعلام العصر (دام ظله الشريف) ب-((عدم المقتضي لسقوطه، وكفى بالاستصحاب دليلاً على بقائه))(1)

والاستصحاب يمكن تصوره بلحاظ اشتغال ذمة الميت، أما بلحاظ الوجوب على الوارث فلا يُتصور لتغيّر الموضوع –أعني المالك- وهذا شاهد على إجمال مرادهم من المسألة بل قد يقال بوجود الدليل على عدم وجوب الخمس على الوارث بسبب تعلقه في ذمة الميت بمقتضى روايات التحليل.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((قد يكون الخمس ديناً في ذمة الميت، وأخرى عيناً في تركته إما مع بقائها أو مع تبدّلها بعين أخرى كما هو المتعارف خارجاً، حيث يربح أول السنة مقداراً ثم يشتري به شيئاً آخر ثم يبيعه ويشتري به آخر وهكذا، فيكون الثاني بدلاً عما يتعلق به الخمس أولاً.

أما في الدين: فلا ينبغي الشك في وجوب الإخراج من التركة، إذ لا إرث إلا بعد الدين، بمقتضى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أوْ دَينٍ».

وأما في العين: فإن كان الميت ملتزماً بالخمس ولكن لم يحن أوانه فمات أثناء السنة أو أنه تساهل وتسامح قليلاً في أدائه فصادف حتفه، فلا ينبغي الإشكال أيضاً في وجوب الإخراج، إذ لم يدل دليل على السقوط بالموت، فإن المال كان مشتركاً بين المالك وأرباب الخمس، ولا دليل على رفع الاشتراك وانقلابه إلى الاختصاص بالورثة.

وأما إذا لم يكن ملتزماً بالخمس، أو لم يكن معتقداً، فهل تشمل أدلّة التحليل مثل ذلك، أو لا؟))(2) وأحال الجواب إلى البحث في روايات التحليل وهناك تساءل (قدس سره): ((إن ذلك –أي تحليل الشيعة من الخمس- هل

ص: 120


1- كتاب الخمس للشيخ المنتظري: 2/231.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/223-224.

يختص بما إذا كان المنتقل عنه ممن لا يعتقد الخمس بتاتاً كالمخالف والكافر، أو يعم مطلق من لم يخمس ولو عصياناً مع كونه معتقداً كفسّاق الشيعة؟

المذكور في كلمات الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو الأول، حيث قيّدوا الحكم بما انتقل ممن لا يعتقد.

ولكنا لا نعرف وجهاً لهذا التقييد بعد أن كانت الروايتان المتقدمتان(1)

–صحيحتا يونس بن يعقوب وسالم بن مكرم- مطلقتين من هذه الجهة، وهما العمدة في المسألة كما عرفت، فإن المذكور فيهما وقوع الأموال في الأيدي، أو الشراء، أو إصابة الإرث ونحوه، ويجمعها انتقال ما فيه الخمس من الغير، سواء أكان ذلك الغير الممتنع عن دفع الخمس معتقداً فاسقاً، أم مخالفاً منكراً.

ودعوى أن جميع الشيعة كانوا يخمّسون أموالهم في زمانهم (عليهم السلام) غير مسموعة، إذ هي غير بينة ولا مبينة، بل الظاهر أن الأزمنة متشابهة والقرون متقاربة، ويتضمن كل عصر مع هداية السبيل شاكراً وكفوراً، فيؤدي الخمس طائفة ولا يؤدّيه طائفة أخرى، كما هو المشاهد في العصر الحاضر.

وعليه، فإطلاق الروايتين هو المحكّم بعد سلامته عما يصلح للتقييد، ويقيد بذلك ما دل على وجوب إيصال الخمس إلى مستحقيه حسبما عرفت.

هذا كله فيما إذا كان المال المنتقل من الغير بنفسه متعلقاً للخمس، وقد عرفت أنه حلال لمن انتقل إليه بمقتضى نصوص التحليل، والتكليف بالأداء باقٍ على عهدة من انتقل عنه.

وأما إذا انتقل مال لم يكن بنفسه متعلقاً للخمس، بل الخمس ثابت في ذمة من انتقل عنه لا في عين ماله، فالظاهر خروجه عن نصوص التحليل.

وهذا كما لو وجب الخمس على المكلف فأتلفه ولو بمثل الهبة فانتقل الخمس إلى ذمته ثم مات وانتقلت أمواله إلى وارثه الشيعي، فإن مثل هذا النقل المستند إلى الإرث غير مشمول لدليل التحليل، إذ لا يصدق عليه أن فيه حقهم.

ص: 121


1- تقدمت صحيحة يونس بن يعقوب صفحة (70) وسالم بن مكرم أبي خديجة صفحة (111).

وقد ذكرنا في محله أن حق الديّان غير متعلق بالأعيان، بل تنتقل التركة إلى الورثة، لكن فيما زاد على مقدار الدين، لتأخر مرتبة الإرث عنه على ما نطقت به الآية الكريمة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أوْ دَينٍ».

أما مقدار الدين فهو باقٍ على ملك الميت يصرف في تفريغ ذمته عنه، ولم ينتقل إلى الوارث لكي يتوهم اندراجه في نصوص التحليل.وعلى الجملة: حال الخمس من هذه الجهة حال الزكاة وغيرها من سائر الديون المحكومة بلزوم إخراجها عن التركة أولاً ثم التقسيم بين الورثة، فمقدار الخمس لم ينتقل إلى الوارث بتاتاً، بل هو دين باقٍ على ملك الميت، ومورد روايات التحليل هو المال الخارجي الذي فيه حقهم. وأما المال الذي ليس فيه الخمس وإنما هو معدّ لتفريغ الذمة عن الخمس أو غيره من سائر الديون فهو غير مشمول لتلك النصوص بوجه حسبما عرفت، والله سبحانه أعلم))(1).

أقول: ينبغي التعليق هنا بأمور:-

1- عدم صحة التمسك بإطلاق صحيحة أبي خديجة ويونس بن يعقوب خلافاً لما أفاده (قدس سره) وغيره(2)

لوضوح اختصاصها بالفروج والتجريد عن الخصوصية في غير محله لاختصاص الفروج بنكتة طيب الولادة. وأما معتبرة يونس فلاختصاصها بزمن الإمام (عليه السلام) كما صرح به في الذيل.

2- الخلط بين تكليف الوارث من جهة ما انتقل إليه وتكليفه بإبراء ذمة الميت، وهو الذي أوجب التفصيل بين الخمس المتعلق بالأعيان أو بالذمة، والحق عدم الفرق بينهما في وجوب الإخراج لإبراء ذمة الميت، وفي عدم الخمس على الوارث لشموله بأدلة التحليل لذا نجد أن مَن أوجب إخراجه لاحظ

ص: 122


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/354-355.
2- الشيخ الفياض في تعاليق مبسوطة: 7/124، والسيد محمود الهاشمي في كتاب الخمس: 2/161.

ذمة الميت لذا استدل بالاستصحاب ونحوه(1)

ومن منع من وجوبه لاحظ ذمة الوارث وشمول أدلة التحليل (كالشيخ الفياض (دام ظله) ) فنتيجتهما واحدة وإنما اختلفوا في اللحاظ.

استطراد: الكلام في أشباه الميراث كالمهر وعوض الخلع وأروش الجنايات:

قيل بعدم تعلق الخمس في عدة عناوين واستدلوا عليها بوجوه شبيهة بما تقدم في الميراث، منها:

(الأول) المهر: واستدل السيد الخوئي (قدس سره) على عدم وجوب الخمس فيها بوجهين:

(أولهما): ((إن موضوع الحكم في وجوب الخمس هو الفائدة وما يغنمه الإنسان ويحصله وهذا لا ينطبق على المهر، لأنه إنما يقع بإزاء الزوجية، حيث إن الزوجة تجعل نفسها تحت تصرف الزوج وسلطانه وطوع رغبته وإرادته، فتمنحه اختيار نفسها وزمام أمرها في مقابل ما تأخذه من المهر، فهو شبه معاوضة وإن لم يكن المهر ركناً في العقد، نظير ما لو بدّل مالاً بمال كالكتاب بالفرس، إذ قد أعطت شيئاًبإزاء شيء، ولا يصدق على مثل ذلك الفائدة، بل هو كما عرفت من قبيل تبديل مال بمال))(2).

أقول: إن المهر مال يُبذل بإزاء تنازل المرأة عن بعض حقها في السلطنة على نفسها وهو المتعلق بالتمكين الجنسي وعدم الخروج من بيت زوجها إلا بإذنه –أو بيع لمنافع البضع كما سنقرّب إن شاء الله تعالى-، وهذا الحق ليس مالاً لذا لا يخرج به صاحبه عن حد الفقر إلى الغنى ولا يحسب ضمن أمواله لكنه يقوّم بالمالية، فالمعاوضة ليست بين مالٍ ومال وإنما بين حق ومال، والعرف لا يتردد في اعتبار ثمن بيع الحق فائدة كحق التحجير مثلاً أو حقوق التأليف والنشر وغيرها، فما ذكره (قدس سره) من عدم صدق الفائدة غير تام.

بل إن القرآن الكريم سمى المهر نحلة في قوله تعالى: «وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً» (النساء:4) وصدقاتهن مهورهن وسماه نحلة ((والنحلة عطية

ص: 123


1- راجع كتاب الخمس للشيخ المنتظري وللسيد محمود الهاشمي (دام ظلهما).
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/218-219.

على سبيل التبرع وهو أخص من الهبة)) ((وسمّى الصداق بها من حيث أنه لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوضٍ مالي)) قاله الراغب.

ولو تنزلنا وقبلنا كونها معاوضة بين مال ومال فإنه ليست كل معاوضة لا يصدق عليها الاستفادة كيف والبيع وغيره كلها معاوضات، وإنما لا تصدق الفائدة إذا كان تبديلاً للمال بنفس المال.

وقد تعرض القرآن الكريم لحق المرأة المالي على زوجها وسمّاه أجراً، وقد ورد بمعنيين، فتارة يراد به المهر باعتباره عوض البضع وحق التمكين الجنسي والتنازل عن بعض سلطتها على نفسها، كقوله تعالى: «فَمَا استَمتَعتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ فَريضَةً» (النساء: 24) وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَبيُّ إنَّا أَحلَلنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيتَ أُجُورَهُنَّ» (الأحزاب: 50) وورد هذا المعنى في الأحاديث الشريفة كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة أينظر إليها؟ قال: نعم، إنما يشتريها بأغلى ثمن)(1)

ومثلها صحيحة عبد الله بن سنان(2).

وتارة يراد بها الأجر على خدمتها في بيت زوجها كإرضاع الأطفال، قال تعالى: «وَإِنَّ أَرضَعْنَ لَكُمْ فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (الطلاق: 6) والنحو الأول حالة كالبيع كما هو صريح الصحيحتين أو هو كالصلح وعلى الثاني فهي من الإجارة، والمهر من النحو الأول.

لكنه (قدس سره) لحظ تسمية المهر بالأجر فحاول (قدس سره) جواب إشكال بأن المهر أجر –كما نصّت عليه الآية الشريفة- وقد دلّت الروايات على تعلق الخمس بالإجارات فكيف حكم بعدم وجوبه في المهر؟ فأجاب (قدس سره): ((ولا يقاس ذلك بباب الإجارة ضرورة أن متعلق الإجارة من عمل أو منفعة ليس له بقاء أو قرار ولا يمكن التحفظ عليه، فلو لم ينتفع منه هو أو غيره يتلف ويذهب سدى فإن الخياط لولم يخط في الساعة الكذائية ثوب زيد ولا ثوب نفسه فعمله في هذه المدة تالف لا محالة كما أن الدار لو بقيت خالية

ص: 124


1- (2) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 36، ح1، 7.

فمنفعتها تالفة، فليس للعامل أن يبقي نفس العمل لنفسه، إذ ليس له بقاء في اعتبار العقلاء، بل هو تالف –طبعاً- سواء أعمل أم لا. وعليه فلو آجر نفسه أو داره من زيد وأخذ الأجرة فيصح أن يقال: أنه استفاد وربح، إذ لو لم يفعل يتلف ويذهب سدى كما عرفت.

وهذا بخلاف الزوجية، إذ للزوجة أن تبقي السلطنة لنفسها وتكون هي المالكة لأمرها دون غيرها، وهذه السلطنة لها ثبات وبقاء، كما أن لها بدلاً عند العقلاء والشرع وهو المهر، فما تأخذه من الزوج يكون بدلاً عما تمنحه من السلطنة، فيكون من قبيل تبديل مال بمال، ولا ينطبق على مثله عنوان الغنيمة والفائدة.

على أن الخمس في باب الإجارة منصوص بالخصوص كما في صحيحة ابن مهزيار المتضمنة لوجوب الخمس على الصانع وغيرها مما تضمنت الخمس في إجارة الضيعة))(1)

مع عدم الدليل على وجوب الخمس فيه بالخصوص.

أقول: في كلامه (قدس سره) أكثر من ملاحظة:-

1- ما تقدم من أن المهر هو من باب المعاوضة على البضع فهو كالبيع وقد صرّحت بذلك الصحيحتان المتقدمتان، وليس هو من باب الإجارات فالإشكال منتفٍ أساساً.

وتوضيح ذلك ما تقدم من كون المهر عوض عن الحق الذي أشرنا إليه أو يكون بيعاً لمنافع البضع خلال مدة النكاح كالدار التي تُستأجر مدة معينة بمبلغ معين فإنه في الحقيقة بيع لمنفعتها في تلك المدة، ومما يقرّب هذا المعنى وجوب مهر المثل على من زنى بالمرأة مكرهاً إياها فلا يوجد هنا بيع لحق السلطنة ولكنه استلاب للمنفعة المضمونة، وحينئذٍ يمكن النظر إليها على أنها مالٌ ولكن ذلك لا يمنع من صدق الفائدة على عوضه لأنه مال اعتباري وليس خارجياً حتى لا تصدق الفائدة على عوضه.

ص: 125


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/219.

2- إن قياسه (قدس سره) استئجار منفعة العامل على الدار غير صحيح لأن منفعة العامل لا وجود لها إلا بنفس الاستئجار، أما منفعة الدار فهي قائمة بنفسها. فهي كمنفعة البضع القائمة في نفس المرأة. وعلى هذا يكون وجوب الخمس في أجرة الدار نقضاً عليه (قدس سره).

3- إن المناط الذي ذكره (قدس سره) للتمييز بجعل الأجرة مقابل ما ليس له قرار ربحاً دون غيره غير تام، والمناط هو صدق الفائدة عرفاً.

وأجاب تلميذه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) عن هذه الدعوى ((بأنه لا فرق بين المقام وباب الإجارة، وذلك لأن المهر إنما هو بإزاء الانتفاع من بضع المرأة، والفرض أنه ليس له بقاء وثبات كالمنفعة والعمل في باب الإجارة، كما أن الأجير فيه يقوم بتمليك عمله أو منفعة داره لقاء أجر معين، كذلك المرأة في باب النكاح تقوم بتمليك منفعة بضعها لقاء مهر، فلا فرق، ولازم هذا التمليك في الأول ارتفاع سلطنةالأجير على نفسه أو ماله وانتقالها إلى المستأجر، وفي الثاني ارتفاع سلطنة المرأة على بضعها وانتقالها إلى زوجها.

فالنتيجة أن المهر ليس في مقابل رفع الزوجة يدها عن سلطنتها على بضعها مباشرة، كما أن الأجر في باب الإجارة ليس بإزاء رفع الأجير يده عن سلطنته على عمله مباشرة وإن كان ذلك لازم صحة الإجارة والنكاح في كلا البابين))(1).

مضافاً إلى الجواب الذي ذكره بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) على النكتة التي ذكرها (قدس سره): ((فإن حيثية التلف للمنفعة لو لم يملكها للغير لا تمنع من كون الأجرة عقلاً وعرفاً بإزاء ما كان يملكه من المنفعة أو المال فلا تكون فائدة، ولهذا إذا فرضنا وجود مال له يتلف إذا لم يبعه كالثلج في الصيف مثلاً فإنه لا يصدق على ثمنه أنه فائدة، هذا مضافاً إلى أن هذه النكتة لو فرض تماميتها في عمل الأجير فهي غير تامة يقيناً في أجرة الدار ونحوه، لأن منافعها فعلية وثابتة عرفاً كالعين سواء استوفاها أحد أم لا، ومن هنا يحكم

ص: 126


1- تعاليق مبسوطة: 7/122.

بضمانها لو غصبها غاصب ولو لم ينتفع بها، بل الأمر في الأجير الكسوب أيضاً كذلك، ومن هنا حكم (دام ظله) فيما إذا آجر داره لمدة طويلة وأخذ الأجرة بعدم تعلق الخمس بتمام الأجرة، لعدم كونها بتمامها فائدة وربحاً بل الربح عبارة عما يبقى منها بعد كسر ما نقص من قيمة داره بسبب صيرورتها بالإجارة مسلوبة المنفعة لتلك المدة، فليس الميزان تلف المنفعة وعدم استقرارها، وإنما الميزان أن ما حصل عليه الإنسان هل يكون بدلاً عما كان يملكه مما له مالية أو قيمة اعتبارية في المرتبة السابقة، أو أنه مال جديد حصل عليه الإنسان ولو كان ذلك بجهده وتعبه فإن جهده وتعبه سبب تكويني لحصول الفائدة لا أن الفائدة بدل عنه))(1).

وقد ذكر (دام ظله) وجهاًَ لعدم شمول المهر بوجوب الخمس من جهة كونه ((بإزاء حق الزوجية التي لها نحو مالية عرفاً وعقلائياً فهو تعويض في قبال التنازل عما له مالية وقيمة عرفاً وعقلائياً، والتعويض لا يعتبر فائدة بل هو تدارك))(2)

وذكر (دام ظله الشريف) الشريف نكتة الفرق بين المهر والأجرة على الأعمال كالخياطة بأنها ((وإن كانت حاصلة في قبال بذل جهد وعمل إلا أن المنفعة والمال إنما يحصل في طول ذلك الجهد، وليس لنفس الجهد المبذول مع قطع النظر عن النتيجة الحاصلة منه مالية عرفاً وعقلائياً.

فتكون الأجرة عوضاً عن نتيجة الجهد والعمل لا عن نفسه، ونتيجة العمل فائدة حاصلة بعمل الإنسان تكويناً، فتكون عائدة إليه كسائر التكسبات وليس تعويضاًعن خسارة أو في قبال التنازل عن مال أو حق ثابت في المرحلة السابقة كي لا تكون فائدة))(3).

أقول: ما ذكره (قدس سره) من نكتة الفرق صحيح لذا استشكلنا على أصل المقايسة، أما افتراض كون حق الزوجية مالاً عرفاً ليخرج عوضه وهو المهر عن

ص: 127


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/157-158.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/156.
3- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/156.

صدق الفائدة عرفاً فهو ليس تاماً، لأن حق الزوجية والتمكين الجنسي من جزئيات حق سلطنة المرأة على نفسها، وهو ليس مالاً لكنه يقابل بالمالية ولذا فإن الأمة لما لم تملك هذه السلطنة لم يكن عوض لبضعها أمام سيدها، وللنقض عليه بسلطنة الرجل الحر على نفسه فإنها لا تقوم بالمالية إذا سُلبت، لذا لم يقولوا بضمان منافعه فيما لو حُبس مثلاً.

(ثانيهما): قيام ((السيرة القطعية على خلافه، إذ المسألة مما تعمّ بها البلوى في جميع الأعصار والأمصار، فلو كان الوجوب ثابتاً لكان واضحاً ولم يقع فيه أي إشكال، مع أنه لم يصرّح بوجوب الخمس فيه ولا فقيه واحد))(1).

أقول: لقد ناقشنا هذا الدليل كبروياً في الميراث ثم عالجناه ليصبح مبعداً للقول بالوجوب ومؤيداً لعدم الوجوب وهو هنا أوضح لعدم ورود جملة من الإشكالات عليه، ونضيف هنا مؤيدين آخرين:-

1- عدم تعرّض الأئمة لذكر المهر في الروايات الشريفة رغم ذكرهم لتفاصيل كثيرة وهي مسألة عامة البلوى فإعراضهم يشعر بعدم الوجوب.

2- إن في وجوب الخمس على مهر المرأة حزازة نفسية واجتماعية لأنها تراه حقاً خالصاً لها مقابل تمكين الزوج من نفسها ولذا سُمي في القرآن الكريم «نِحْلَةً» واستقطاع شيء من النحلة لا يخلو من حزازة.

فالأقرب في المهر كالميراث هو عدم الوجوب.

إلفات: بعد أن استثنى الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) الميراث من وجوب الخمس للمناط الذي نقلناه عنه (صفحة 93) قال (دام ظله): ((إن المهر وإن كان فائدة، ولكن مع ذلك لا يجب على المرأة إخراج الخمس منه شريطة أن يكون بقدر شؤونها ومكانتها في المجتمع فإنه حينئذٍ يكون من المؤونة المستثناة من الفوائد. نعم، إذا كان زائداً على شؤونها ومكانتها الاجتماعية وجب عليها أن تخمّس الزائد))(2).

ص: 128


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/219.
2- تعاليق مبسوطة: 7/123.

أقول: لا ربط لاستثناء المهر من وجوب الخمس بالمؤونة كما هو واضح فإنه مستثنى بعنوانه فالمفروض –بحسب دليله- أن الاستثناء مطلق. فتعبيره لا يمكن المساعدة عليه.

نعم، يمكن توجيه عبارته (دام ظله) بأن الزائد من مقدار المهر على اللائق بها اجتماعياً هو من الغنيمة لأنه مالٌ مظفور به وغير مترقب الحصول فيكون مشمولاً بوجوب الخمس.وهذه نتيجة صحيحة إلا أن دليله لا يوصل إليها.

كما يمكن توجيه عبارته (دام ظله) بأنه نظر إلى تكليف الزوج بإعفائه من خمس المهر الذي دفعه لأنه من المؤونة وعليه خمس الزائد إذا دفع أزيد من المتعارف لأنه ليس من المؤونة، وهذا معنى صحيح إلا أنه غير مقصود بعنوان المسألة، وأن الضمائر التي استعملها تعود على المرأة.

(الثاني) عوض الخلع:

ألحق جملة من الفقهاء (قدس الله أسرارهم) عوض الخلع بالمهر لنفس الملاك وهو كونه من تبديل مال بمال وعلله بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله) بأنه ((تعويض في قبال التنازل عما له مالية عرفاً وعقلائياً، والتعويض لا يعتبر فائدة بل هو تدارك كما في عوض الخلع فإنه عوض ما يؤخذ من الزوج من حق الزوجية والاستمتاع بالبضع، فلا يجب فيهما الخمس إلا إذا كان زائداً على المتعارف، فتكون الزيادة فائدة عرفاً ويكون فيها الخمس))(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((إنه –أي عوض الخلع- بإزاء رفع الزوج يده عن سلطانه، عكس المهر، فالزوجة تأخذ المهر بإزاء إعطاء السلطنة، وهنا يأخذ الزوج العوض بإزاء إزالة السلطنة، فهما من وادٍ واحد))(2).

ص: 129


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/156.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/220.

أقول: ناقشنا هذه النكتة في الحديث عن المهر ونفينا أن يكون تبديل مالٍ بمال وإنما هو تبديل حق بمال فتصدق عليه الفائدة. فلا يتم هذا الدليل على استثناء عوض الخلع ولا يأتي هنا الدليل الثاني الذي ذكره السيد الخوئي (قدس سره) في المهر فيمكن القول بوجوب الخمس في عوض الخلع.

إلا أن يقال بعدم الفصل بينه وبين المهر واتحاد النكتة فيهما باعتبارهما حقين متبادلين، أو أنه استرجاع الزوج لما دفعه، وقد استقربنا عدم وجوب الخمس في المهر فعوض الخلع مثله إلا إذا زاد على ما دفعه من المهر.

وأن الوجه الثاني لا يأتي هنا لعدم عموم الابتلاء بحالة الخلع فلا يمكن ادعاء وجود سيرة على عدم وجوب الخمس فيه. ولذا احتاط بعض أعلام العصر وجوباً فيه، قال (دام ظله الشريف): ((لا يترك الاحتياط في عوض الخلع لاشتراكه مع الهدية والجائزة في صدق الفائدة والحصول باختيار)) ولكنه استدرك قائلاً: ((نعم، يمكن أن يقال: بأنه ليس مصداقاً للغنيمة عند العرف فإنه عوض عن فوات البضع الحلال نظير المهر الذي قلنا بأنه عوض البضع واخترنا عدم الخمس فيه))(1).

(الثالث) أرش الجناية:

واستدل بعض الأعلام المعاصرين دام ظله الشريف على عدم الوجوب بما ذكره في المهر وعوض الخلع من كونه تعويضاً فلا يعتبر فائدة بل هو تدارك.

أقول: لعل الأمر هنا أوضح من سابقيه لأن العرف يساعد على اعتباره عوضاً عما له مالية وقيمة فلا يكون فائدة فإن الشرع المقدس قدّر أجزاء البدن بالمال وجعلها عوضاً عنها إذا تعرّضت للاعتداء.

ص: 130


1- كتاب الخمس للشيخ المنتظري: 231.

البحث الثالث: من تزوج امرأة قد طُلقت طلاقاً غير صحيح

اشارة

ص: 131

ص: 132

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثالث:

من يتزوج امرأة قد طلقت طلاقاً غير صحيح(1)

ابتلي المجتمع بمشاكل كبرى بسبب جهله بأحكام دينه وابتعاده عن علمائه وسعي الطغاة للفصل بينهما بقتل العلماء أو تهجيرهم أو اعتقالهم وكذا فعلوا برجال الحوزة والشباب الرسالي الذين هم حلقة الوصل بين المرجعية والأمة.

ومن تلك المشاكل مراجعتهم المحاكم الوضعية لإجراء الطلاق وهو -عدا حالات نادرة- غير جامع لشروط الصحة فتبقى المرأة في عصمة زوجها((2)وهما

يبنيان على انتهائها فتتزوج آخر على هذا الحال وهو زواج غير صحيح فعندما يلتقيان ويرتبان آثار الزوجية من اللقاء الجنسي أو قبله ثم يلتفتان إلى حالهما يقعان في حرج من تطبيق ما يترتب على هذه الحالة من أحكام شرعية كالانفصال بين الزوجين والحرمة المؤبدة -على المشهور- أي عدم إمكان إعادة العلاقة الزوجية بينهما خصوصاً عند تحقق الدخول حيث لا يعذر الجاهل.

وخالف سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) -على ما نسب إليه أو فهم من كلامه (قدس سره)- فلم يقبل بالحرمة المؤبدة مع الجهل.

ومن هنا احتاجت المسألة إلى التحقيق وفيها صورتان من حيث العلم -بالموضوع أنها ذات بعل وبالحكم أي حرمة التزويج بذات البعل- وعدمه، وصورتان من حيث الدخول وعدمه فالحالات أربع، بعد إغفال التفريق بين الجهل بالحكم والجهل بالموضوع لأن كليهما مشتركان في المعذورية وان كانت

ص: 133


1- انتهى إلقاء البحث يوم 15/صفر/1428 الموافق 5/3/2007.
2- ففي صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) (إنما الطلاق الذي امر الله عز وجل به فمن خالف لم يكن له طلاق) وصحيحة الحلبي عن الامام الصادق (عليه السلام) (الطلاق على غير السنة باطل) (وسائل الشيعة: ج15، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته وشرائطه، باب7، ح4، 7.

في احدهما أشد من الأخرى كما يستفاد من صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الآتية (صفحة 140) :

1و2- من تزوج بذات البعل عالماً سواء دخل أم لا وقد اتفقوا على الحرمة المؤبدة.

3- من تزوج جاهلاً ولم يدخل، بطل العقد ولم تحرم عليه.

4- من تزوج جاهلاً ودخل فقد قال المشهور بالحرمة المؤبدة ولم يظهر ذلك من كلمات سيدنا الأستاذ (قدس سره) فقد قال: اعتدت من الثاني ورجعت إلى الأول(1) ويستفاد من الإطلاق السكوتي -لو تم لأصالة الحل- عدم الحرمة مؤبداً.أما السيد السيستاني فقد قال(2)

((تحرم عليه مؤبداً على الأحوط)).

وقال السيد الخوئي (قدس سره) ((فان دخل حينئذٍ حرمت عليه أبداً))(3).

ولابتناء الحكم في هذه المسألة على مسألة (من تزوج امرأة في عدتها) -لدى المشهور- وقياسها عليها في الجملة -أي في بعض الصور- لوجود أدلة مستقلة على المسألة في الصور الأخرى ولذلك عبّر في العروة الوثقى ((يلحق بالتزويج في العدة في إيجاب الحرمة الأبدية تزويج ذات البعل)) واعترض السيد الخوئي (قدس سره) على التعبير بالإلحاق وقال ((لا يخفى ما في التعبير باللحوق من مسامحة واضحة فان التزويج بذات البعل موضوع مستقل للحرمة له أدلته الخاصة من النصوص فلا وجه لجعله من لواحق التزويج في العدة في إيجاب الحرمة الأبدية، ولعل الأصل في هذا التعبير ما ورد في القواعد من انه (لو تزوج بذات البعل ففي إلحاقه بالمعتدة إشكال ينشأ من عدم التنصيص ومن أولوية التحريم)، وتبعه على ذلك جماعة منهم الشهيد الثاني (قدس سره) في الروضة وولده العلامة (قدس سره) في الإيضاح إلا انه من غير الخفي انه ناشئ من

ص: 134


1- منهج الصالحين: ج4، مسألة 50، سطر (6)، طبعة النجف.
2- منهاج الصالحين: ج3، مسألة 197.
3- منهاج الصالحين: ج2، مسألة 1275، طبعة (28).

غفلتهم عن النصوص الواردة في المقام، وإلا فلا وجه للقول بعدم وجود النص ومحاولة إثبات الحكم عن طريق إلحاقه بالتزويج من المعتدة لكونه أولى بثبوت الحرمة نظراً لإقوائية العلقة الزوجية في ذات البعل)) (1)

لكن إشكال السيد الخوئي (قدس سره) عليهم غير صحيح واتهامهم بالغفلة في غير محله لأن كلامهم (قدس سره) بعدم وجود النص لا يعني مطلقاً وإنما في خصوص بعض الصور وهي ما لو تزوجها جاهلاً ودخل بها -وهي محل البحث- كما سيظهر من كلماتهم بإذن الله تعالى.

أقول: لأجل هذا لا بد من تحرير مسألة (من تزوج امرأة في عدتها) أولاً ثم النظر في مسألتنا.

ص: 135


1- مباني العروة الوثقى: 1/230.

حرمة التزويج بالمرأة في عدتها

وهو مما لا شك فيه دلّت عليه:

في الكتاب الكريم: قوله تعالى في عدة الوفاة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:234) وقوله تعالى في عدة الطلاق (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة:228) وأوضح مصاديق التربص في الموردين هو اجتناب التزويج بقرينة قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) فببلوغ الأجل وهو انتهاء العدة حلَّ لهن التزويج مما يعني انه كان محظوراً عليهنَّ.

وقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ).

وفي السنة: روايات كثيرة جداً بدلالات شتى كالتصريح أو بالدلالة الالتزامية حيث أذنت لمن لا عدة عليها كالصغيرة واليائسة ولمن وصل إليها خبر الطلاق بعد مضي عدتها أن تتزوج من ساعتها أو بالأولوية كمنعها من الخروج من البيت إلا بإذن الزوج في فترة عدة الطلاق، بل يحرم التصريح بالخطبة من المرأة التي في العدة(1)وإنما

له التعريض بها وهو معنى قوله تعالى (وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفا وَلا تَعزِمُوا عُقدَةَ النِكَاحِ حَتّى يَبلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ).

والإجماع قائم على ذلك.

وإطلاق الحكم شامل لعدة جهات:

1- الزواج الدائم والمنقطع.

2- عدة الوفاة وعدة الطلاق.

3- العدة البائنة والرجعية.

ص: 136


1- راجع الوسائل: ج14، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب37.

استقراء الروايات وتصنيفها

وإذا استقرأنا الروايات الواردة في المقام لمعرفة حكم من تزوج امرأة في عدتها فسنجد لها عدة مضامين لذا سنقسمها إلى طوائف بحسب مدلولاتها:

الطائفة الأولى: ما دل على الحلّية -أي حلّية التزوج بها لاحقاً- مطلقاً: أي بغض النظر عن الدخول وعدمه وسواء كان عالماً أو جاهلاً كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال (سألته عن امرأة تزوجت قبل أن تنقضي عدتها قال: يُفّرق بينها وبينه ويكون خاطباً من الخطاب)(1)

وأخذها على الإطلاق مما لا يمكنحيث لا يبقى مورد مشمولاً بالحرمة المستفادة من القرآن الكريم والسنة الشريفة فلا بد من صرفها عن إطلاقها بحملها على التفاصيل الآتية.

الطائفة الثانية: ما دل على الحرمة مطلقاً: مثل رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يتزوج المرأة المطلقة قبل أن تنقضي عدتها قال: يفرق بينهما ولا تحل له أبداً ويكون لها صداقها بما استحل من فرجها أو نصفه إن لم يكن دخل بها)(2)

وهي صريحة في عدم التفريق بين الدخول وعدمه ومطلقة من حيث العلم وعدمه لكن ذيلها مضطرب لان المرأة لا تستحق نصف المهر مع عدم الدخول إلا في النكاح الصحيح وهذا ليس كذلك.

ورواية محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها قال: يفرّق بينهما ولا تحل له أبدا)(3).

وهما لا يأبيان الحمل على التفاصيل الآتية وربما قطعها صاحب الوسائل ليأخذ منها مراده وفي الجزء المقطوع ما يفصل هذا الحكم كما يشير إليه الهامش في ذيل الروايتين بل إن الإمام الكاظم (عليه السلام) شرح كلام أبيه (عليه السلام)

ص: 137


1- وسائل الشيعة: مج14، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب17، ح19.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب17، ح21.
3- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب17، ح22.

هذا في موثقة إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام) بلغنا عن أبيك إن الرجل إذا تزوج المرأة في عدتها لم تحلّ أبدا فقال: هذا إذا كان عالماً فإذا كان جاهلاً فارقها وتعتد من زوجها ثم يتزوجها نكاحاً جديداً)(1).

الطائفة الثالثة: ما دل على التفصيل بلحاظ الدخول وعدمه فتحرم مؤبداً مع الدخول وتحلّ له مع عدمه بغضّ النظر عن العلم والجهل:

ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته في المرأة الحبلى يموت زوجها فتضع وتزوج قبل أن تمضي لها أربعة أشهر وعشراً فقال: إن كان دخل بها فرّق بينهما ولم تحلّ له أبداً واعتدت ما بقي عليها من الأول واستقبلت عدة أخرى من الآخر ثلاثة قروء وإن لم يكن دخل بها فرّق بينهما واعتدت بما بقي عليها من الأول وهو خاطب من الخطاب)(2).

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال (سألته عن امرأة توفي زوجها وهي حامل فوضعت وتزوجت قبل إن يمضي أربعة أشهر وعشراً ما حالها؟ قال: إن كان دخل بها زوجها فرّق بينهما فاعتدت ما بقي عليها ثم اعتدت عدة أخرى من الزوج الآخر ثم لا تحل له أبدا وان تزوجت من غيره ولم يكن دخل بها فرّق بينهما فاعتدت ما بقي عليها من المتوفى الأول وهو خاطب من الخطاب)(3).وروايات أخرى تجدها في نفس الباب.

الطائفة الرابعة: ما دل على التفصيل بلحاظ العلم والجهل وأطلقت من حيث الدخول وعدمه:

منها: صحيحة زرارة وداود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث انه قال (والذي يتزوج المرأة في عدتها وهو يعلم لا تحل له أبدا)(4).

ومنها: موثقة اسحق بن عمار التي ذكرناها في ذيل الطائفة الثانية وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال (سألته

ص: 138


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الباب 17، ح10.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح6.
3- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب17، ح2.
4- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح1.

عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال: لا أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعدما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأي الجهالتين يعذر بجهالة أن ذلك محرم عليه؟ أم بجهالة أنها في العدة؟ فقال: أحدى الجهالتين أهون من الأخرى: الجهالة بان الله حرم ذلك عليه وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: وهو في الأخرى معذور. قال: نعم، إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها. فقلت: فان كان احدهما متعمداً والآخر يجهل. فقال: الذي تعمد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبداً)(1).

وموثقة إسحاق بن عمار الأخرى من حديث (قلت: فأين ما بلغنا عن أبيك في الرجل إذا تزوج المرأة في عدتها لم تحلّ له أبدا؟ قال: هذا جاهل)(2).

ص: 139


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح4.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح5.

تحليل العلاقة بين الروايات

ومما تقدم يظهر حصول عدة حالات للتعارض:

1- بين إطلاق الطائفتين الأولى القائلة بالحلّية مطلقاً والثانية القائلة بالحرمة مطلقاً.

2- بين إطلاق الأولى وتفصيل الثالثة وبينه وبين تفصيل الرابعة.

3- بين إطلاق الثانية وتفصيل الثالثة وبينه وبين تفصيل الرابعة.

4- بين تفصيل الثالثة والرابعة.

أما التعارض الأول فيحلّ بحمل الإطلاقين على التفصيلات اللاحقة وكذا الثاني والثالث، أما التعارض الرابع فيمكن إخراج صورتين منه وهما الحرمة في حالة اجتماع الدخول والعلم والحلية في حالة انتفائهما ويبقى التعارض محكماً في صورتي الدخول مع الجهل وعدم الدخول مع العلم حيث يتعارض إطلاقا الطائفتين فالطائفة الثالثة تدل على الحلّية مع عدم الدخول مطلقاً سواء كان عالماً أو جاهلاً والحرمة مع الدخول كذلك.

والطائفة الرابعة تدل على الحلّية مع الجهل مطلقاً سواء حصل دخول أم لا والحرمة مع العلم كذلك.

وأنت كما ترى من نصوص الروايات فان التفصيلين يستفادان من إطلاق صريح العبارات وليس أن احد شقي التفصيل مستفاد من المنطوق والآخر من المفهوم لان المفهوم قد ذكر في المنطوق فلا يحلّ التعارض بتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر كما ذهب إليه السيد الخوئي (قدس سره)(1)

نظير الجمع بين (إذا خفي الأذان فقصر) و(إذا خفيت الجدران فقصر).

وربما كان مراده أن كلاً من الدليلين يصلح مانعاً عن انعقاد الإطلاق في الدليل الآخر ويقربه قوله بعد ذلك ((فيقيَّد ما دل على عدم البأس في حالة الجهل بصورة عدم الدخول وما دلَّ على الجواز في حالة عدم الدخول بصورة

ص: 140


1- مباني العروة الوثقى: 1/206.

الجهل وعدم العلم)) وقد اكتفى (قدس سره) بهذا الجمع لحل التعارض والخروج بأحكام الصور الأربع بدليل جعله الاستدلال بالصحيحة الآتية في الطائفة الخامسة تنزلياً فقال (وبعد التنزل) لكنك ترى أن الصورتين اللّتين أنتجهما الجمع لا قيمة علمية لهما فإنهما القدر المتيقن من الحلية بل هما في الحقيقة صورة واحدة كما هو واضح وهي الحلية في حالة الجهل وعدم الدخول، وكان المفروض أن تكون الصورة الثانية التي يستنتجها هي الحرمة بالدخول مع العلم لكنها أيضاً لا قيمة علمية لها لأنها القدر المتيقن من الحرمة.

وبقيت الصورتان الأكثر أهمية وهما عدم الدخول مع العلم والدخول مع الجهل.

ص: 141

المختار في الجمع بين الروايات

والصحيح في الجمع بحسب ما يفهمه العرف أن يأخذ بالجزء الايجابي من كل من الطائفتين ويقيد الجزء السلبي من كل منهما بالجزء الايجابي من الآخر كما لو لم يبين في المنطوق وإنما أخذ من المفهوم فالطائفة الثالثة تؤول إلى قضية (إذا تحقق الدخول تحرم) والطائفة الرابعة تؤول إلى (إذا تحقق العلم تحرم) وفي مثلها تكون نتيجة الجمع بين السببين ب-(أو) أي (إذا تحقق الدخول أو العلم فتحرم) نظير الجمع بين خطابي (إذا خفيت الجدران فقصر) و(إذا خفي الآذان فقصر) ويكون الموجب للحرمة احد الأمرين (الدخول، العلم) فضلاً عن انضمامهما وتكون حينئذٍ ثلاث حالات محرمة هي حالة اجتماعهما أو وجود أحدهما وحالة

غير محرمة وهي صورة انتفائهما معاً وهو مضمون الطائفة الخامسة الآتية ولحن الروايات لا يأبى ذلك فصحيحة علي بن جعفر في الطائفة الثالثة التي قالت بالحلية في صورة عدم الدخول يلوح منها جهل المرأة فإنها اعتدّت بوضع الحمل ولم تكن تعلم أن عدة الوفاة ليست كعدة الطلاق وان الآية الشريفة (وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: من الآية4) خاصة بعدة الطلاق أما الوفاة فعدتها ابعد الأجلين.

الطائفة الخامسة: ما دل على التفصيل لجميع الحالات المتقدمة وبها ترتفع كل المشاكل المتقدمة واشملها صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (إذا تزوج الرجل المرأة في عدتها ودخل بها لم تحل له أبدا عالماً كان أو جاهلاً وان لم يدخل حلت للجاهل ولم تحل للآخر)(1)

وصحيحة حمران قال (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة تزوجت في عدتها بجهالة منها بذلك، قال: فقال لا أرى عليها شيئاً ويُفرَّق بينها وبين الذي تزوّج بها ولا تحلّ له أبدا، قلت فان كانت قد عرفت أن ذلك محرم عليها ثم تقدّمت على ذلك فقال: إن كانت تزوجته في عدة لزوجها الذي طلّقها عليها الرجعة فإني أرى أنّ

ص: 142


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح3.

عليها الرجم فان كانت قد تزوجته في عدة ليس لزوجها الذي طلقها عليها فيها الرجعة فاني أرى عليها حد الزاني ويُفرَّق بينها وبين الذي تزوجها ولا تحل له أبدا)(1)

فقد حرمت عليه مع الدخول وان كان بجهالة ويُستظهر تحقق الدخول من إقامة الحد عليها أما قوله (عليه السلام) (لا أرى عليها شيئاً) فهو إشارة إلى تحقق الدخول من دون ترتّب الحد للجهالة والحدود تدرأ بالشبهات.

ويستفاد من صحيحة ابن الحجاج المذكورة في الطائفة الرابعة عدم الفرق في الجهل المعذّر بين أن تكون متعلقة الحكم (أي حرمة التزويج بالمعتدة) أو الموضوع(أي كون المرأة في عدة) وقد استفاد(2)

السيد الخوئي (قدس سره) التعميم من وجه آخر وهو أن المستفاد من الروايات أن متعلق العلم والجهل هو الموضوع إلا أن العلم بالحكم لا ينفك عنه لان المفهوم العرفي للعدة إنما هو عدّ أيام معينة وعدم التزوج فيها.

أقول: إن هذا وحده لا يكفي فان العرف قد لا يرى ذلك وإنما يرى أن العدة أمر تعبدي لاحترام الزوج -في حالة الوفاة- ولإعطاء فرصة للرجوع -في حالة الطلاق مثلاً- أو يرى كفاية قرء واحد لا ثلاثة إذا كانت الحكمة استبراء الرحم فإذن يمكن أن ينفكّ العلم بالموضوع عن العلم بالحكم ويبقى الدليل على التعميم هي صحيحة ابن الحجاج المتقدمة.

ص: 143


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح17.
2- مباني العروة الوثقى: 1/207.

حرمة التزويج بذات البعل

وهي من ضروريات الدين واتفاق العقلاء فمن تزوج بذات بعل كان ذلك العقد باطلاً وهل تحرم عليه مؤبداً أم لا؟

الروايات الواردة في المسألة اقل تغطية للتفاصيل من سابقتها، ويمكن أن تصنف بحسب مضامينها إلى عدة طوائف.

الطائفة الأولى: ما دلّ على الحرمة مطلقاً سواء حصل الدخول أم لا وسواء كان التزويج بعلم أو بجهل:

منها: موثقة أديم بن الحر قال (قال أبو عبد الله (عليه السلام) التي تتزوج ولها زوج يفرّق بينهما ثم لا يتعاودان أبدا)(1)

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في امرأة بلغها أن زوجها توفي فاعتدت وتزوجت ثم بلغها بعدُ أن زوجها حي، هل تحلّ للآخر؟ قال: لا)(2)

والاعتداد ذكرناها من باب المشاكلة وإلا فان الوفاة لم تتحقق واقعاً فلا عدة.

الطائفة الثانية: ما دل على الحرمة مع الدخول مطلقاً سواء كان بعلم أو بجهل.

منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (في المرأة فقد زوجها أو نعي إليها فتزوجت ثم قدم زوجها بعد ذلك فطلقها قال: تعتد منهما جميعاً ثلاثة أشهر عدة واحدة وليس للآخر أن يتزوجها)(3).

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا نعى الرجل إلى أهله أو اخبروها انه قد طلقها فاعتدت ثم تزوجت فجاء زوجها الأول فان الأول أحق بها من هذا الأخير دخل بها الأول أم لم يدخل بها وليس للآخر أن

ص: 144


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 16، ح1.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 16، ح9.
3- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 16، ح2.

يتزوجها أبدا ولها المهر بما استحل من فرجها)(1).

واستحقاق المهر شاهد على الدخول.

الطائفة الثالثة: ما دل على الحلّية مع الجهل مطلقاً سواء حصل الدخول أم لا:

منها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوّج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم فطلّقها الأول أو مات عنها ثم علم الأخير أيراجعها؟ قال: لا، حتى تنقضي عدتها)(2)

وتستفاد الحلية من مفهوم الغاية الذي حاصله جواز المراجعة بعد انقضاء عدتها.

ومنها: صحيحة عبد الرحمن قال (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوج امرأة ثم استبان له بعد ما دخل بها أنَّ لها زوجاً غائباً فتركها ثم أن الزوج قدم فطلّقها أو مات عنها أيتزوجها بعد هذا الذي كان تزوجها ولم يعلم أنَّ لها زوجاً؟ قال: ما أحبُّ له أن يتزوجها حتى تنكح زوجاً غيره)(3)

وهي -لو تمت دلالتها على المطلوب- تنتج حلية الزواج للجاهل حتى مع الدخول وقد استفيدت هذه الدلالة من قرينتين:

1- قوله (عليه السلام) (ما أحب) الظاهرة في الكراهة وليس الحرمة.

2- مفهوم الغاية فانه يدل على ارتفاع المنع بعد أن تتزوج غيره.

ومنها: موثقة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة نعي إليها زوجها فاعتدت وتزوجت فجاء زوجها الأول ففارقها الآخر، كم تعتد للثاني؟ قال: ثلاثة قروء وإنما يستبرئ رحمها بثلاثة قروء وتحلّ للناس كلهم، قال زرارة وذلك أن أناساً قالوا تعتد عدتين من كل واحد عدة فأبى ذلك أبو جعفر (عليه السلام) وقال: تعتد ثلاثة قروء وتحل للرجال)(4)4) ودخول الثاني ظاهر من الاعتداد له أما حليتها له فلشمول عنوان (الناس) و(الرجال) له.

ص: 145


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 16، ح6.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح3.
3- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح4.
4- 4) وسائل الشيعة: الباب السابق، ح7.

نتيجة الجمع بين الروايات

وبضمّ الطائفتين الثانية والثالثة تنتج حالة محرمة أكيداً وهي الدخول مع العلم وحالة محللة أكيداً وهي عدم الدخول مع الجهل مع قطع النظر عن ملاحظة إطلاق الطائفة الأولى. ويتعارضان في صورتين:

الأولى: الدخول مع الجهل حيث تفيد الطائفة الثانية الحرمة للدخول وتفيد الطائفة الثالثة الحلية للجهل.

الثانية: عدم الدخول مع العلم حيث يستفاد من الطائفة الثانية الحلية لعدم الدخول ويستفاد من الطائفة الثالثة الحرمة للعلم.

ويكون حل التعارض بالجمع العرفي ميسراً لو كان لسان الطائفة الثانية هو التحريم بالدخول ومفهومها الحلية بعدم الدخول ولسان الطائفة الثالثة التحريم بالعلم ومفهومها الحلية بعدم العلم فيكون التعارض بين المفهومين والمنطوق أقوى ظهوراً من المفهوم ويصلح لتقييده فحينئذ نأخذ بمنطوق كل منهما ونقيد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر فتصبح الطائفة الثانية بلسان (الدخول محرم وعدمه محلل إلا مع العلم) وتصبح الطائفة الثانية بلسان (العلم محرم وعدمه محلل إلا مع الدخول) ويمكن الجمع بين المنطوقين ب-(أو) كما أسلفنا في مسألة التزويج بذات العدة.

لكن التحريم بالعلم لم يذكر هنا في المنطوق وإنما استفيد من المفهوم لو سلمناه -لان النصوص الواردة في المقام ليست مما له مفهوم- فانه لا يلزم أن يكون له إطلاق كالمنطوق أي لا يلزم أن يكون للمفهوم إطلاق كالمنطوق بحيث يكون مفاده الحرمة مع العلم سواء حصل الدخول أم لا إذ لا ملازمة بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وإنماغايته وجود المفهوم في الجملة وقد مرّ في المسألة السابقة في صحيح الحلبي أن العلم محرِّم مطلقاً بينما الجهل ليس كذلك.

أما هنا فالتعارض بين إطلاق المنطوقين (الدخول محرم، الجهل محلّل) بالنسبة للمسألة محل البحث وبما أن النصوص الواردة في المسألة لا يوجد فيها

ص: 146

نص خاص يحلّ تعارضها كصحيح الحلبي في المسألة السابقة فيكون لنا أكثر من طريق لحل التعارض:

الطريق الأول: أن نقيّم قوة ظهور كل منهما فإذا رجح أحدهما فهو المقدَّم ويؤخذ بإطلاقه ويقيد الآخر.

وهنا قد يقال بان الطائفة الثانية اقوي ظهوراً في الدلالة على الحرمة بالدخول ولو مع الجهل من دلالة الطائفة الثانية على الحلّية بالجهل ولو مع الدخول فقد ضمّت الطائفة الثالثة ثلاث روايات غير واضحة الدلالة على المطلوب.

أما صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج فلوجهين:

1- إنها لم تذكر حصول الدخول فهي مجملة من هذه الناحية ولا يصح الاستدلال بها.

2- أن الغاية المذكورة في جواب الإمام (عليه السلام) لا يستفاد منها الحلّية بعد انقضائها وإنما هو تأجيل وتسويف لتبليغ الحكم للمتورط بهذه المشكلة مراعاة لحاله حيث أن إبلاغه به مباشرة يكون كالصاعقة عليه فهو تدريج بالتبليغ من حالة الإجمال إلى حالة البيان من دون إيقاعه بمخالفة الحكم الشرعي طبعاً وهذا ديدن معروف في طريقة القرآن الكريم وسيرة المعصومين (عليهم السلام) والفقهاء الصالحين في تربية الأمة وإصلاحها.

وأما صحيحة عبد الرحمن الأخرى فلوجوه:

1- أن كلمة (لا أحب) تتعلق بالحرام كما تتعلق بالمكروه فلا تعيّن لها في الثاني حتى تستفاد الحلّية ككلمة (أكره) غير الخاصة بالكراهة بمعنى المرجوحية الخاصة وإنما تأتي بمعنى التحريم والمنع.

2- إن ما استفاده المستدل على الحلّية من مفهوم الغاية لا يمكن الأخذ به لعدم احتمال أن التزويج بالغير له مدخلية في حلّيتها له نظير المطلّقة ثلاثاً التي تحل لزوجها الأول بعد أن تنكح زوجاً آخر فقوله (عليه السلام) (حتى تنكح زوجاً غيره) لا يفيد الغاية وإنما يعني أن هذا الرجل عليه أن يبتعد عن هذه المرأة ويعطيها الفرصة لتنكح أي رجل آخر غيره ممن يحلّ عليها.

ص: 147

وطبعاً، فان المستدل لا يريد من قوله (عليه السلام) (حتى تنكح زوجاً غيره أي أنها تحلّ لهذا الزوج الداخل بها جهلاً إذا ضمّت له زوجاً غيره فان هذا لا يمكن احتماله فضلاً عن البناء عليه حتى يرد عليه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله(1)((إذ

كيف يمكن أن يكون تزوجها من الغير مجوزاً لتزوجها منه بل ذلك إنما يوجب عظم حالها وشدة أمرها به حيث تصبح به ذات بعل إذ لم يذكر فيها كون تزوجه منها ثانياً بعد طلاق الزوج الجديد لها وانقضاء عدتها منه)) فهذا مما لا يحتاج إلى بيان، نظير ما لو مثّلنا في المطلّقة ثلاثاً فان الشرط (حتى تنكح زوجا غيره) يفهم منه ثم يطلّقها هذاالمحلل أو يموت عنها.

3- ما قاله صاحب الوسائل تعليقاً على الحديث ((أقول: لعل الدخول هنا بمعنى الخلوة)) فتكون الرواية غير ناظرة إلى حالة الدخول المقصودة، لكن السيد الخوئي (قدس سره) استبعده غاية البعد فقال ((إلا أن هذا التوجيه بعيد غايته فانه لا اثر لمجرد الخلوة بها كي يسأل عنه بخصوصه بل لا يحتمل أن يكون لذلك دخل في الحكم)) لكن الرواية لا تأبى هذا الفهم فمن المحتمل أن يكون معنى (دخل بها) أن الزوج بعد أن دخل على زوجته ودار بينهما حديث جرى على لسانها ما يدل على أنها ذات زوج شرعاً وإن لم يكن موجوداً معها في البلد، على أن التعبير بكلمة الدخول للإشارة إلى الخلوة بالزوجة موجوداً في الروايات كما في صحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول إذا تزوج الرجل المرأة الثيب التي تزوجّت غيره فزعمت انه لم يقربها منذ دخل بها ... الخ)(2)

الحديث، فالدخول هنا بمعنى الخلوة بدليل قوله انه (لم يقربها).

لا يقال: أن الدخول بمعنى الخلوة يتعلق بحرف الجر (على) لا الباء فلا يمكن حمله على هذا المعنى.

فانه يقال: انه ينقض عليه بكلام الإمام في صحيحة أبي حمزة المتقدمة فانه (عليه السلام) قال (دخل بها) بتقدير اختلى بها.

ص: 148


1- مباني العروة الوثقى: 1/234.
2- وسائل الشيعة: ج14، كتاب النكاح، أبواب العيوب والتدليس، باب15، ح1.

وأما موثقة زرارة فإنها ظاهرة في غير هذا الداخل بها من الرجال ولو كان مشمولاً بالحلية لخصّه بالجواب لأنه الفرد المهم والمعني بالسؤال أما غيره من الرجال فلا سؤال عنهم لوضوح الحلّية بالنسبة لهم ومثل هذا التعبير متداول لاستثناء شخص المعني بل يمكن عد هذه الرواية من الطائفة الثانية لاستثنائها هذا الداخل جهلاً.

فروايات الطائفة الثالثة كلها لا يُستظهر منها بوضوح الحلية بالنسبة للجاهل عند تحقق الدخول وإذا كانت لها دلالة فبمقدار إخراج الجاهل غير الداخل ويساعد عليه الإجماع إذ لا قائل بالحرمة المؤبدة في هذه الحالة.

وفي مقابل ذلك ضعفت دلالة الطائفة الثانية على الحرمة بالنسبة للجاهل مع الدخول لان الظاهر منها جهل الزوجة لا الزوج فربما كان عالماً بأنها ذات زوج، كما لو كان رفيقاً لزوجها في سفره وعلم عزمه على الاستقرار في تلك البلاد البعيدة فكذب عليها بادعاء وفاته ونحوها. لكن هذا الفرض نادر خصوصاً وانه ليس هو الذي أخبرها حتى يمكن اتهامه فالغالب عدم انفكاك جهل مثل هذا الرجل عن جهل الزوجة خصوصاً وانه رآها قد اعتدت وتعاملت مع الحادث بشكل صادق ولا توجد اتصالات سريعة كاليوم ليمكنه استعلام الخبر الصحيح دونها.

فظهور الطائفة الثانية اقوي وعليه فالصحيح هو الحرمة المؤبدة على من تزوج بذات بعل ودخل بها ولو جهلاً وتوجَّه روايات الطائفة الثالثة بما يناسب ذلك.

الطريق الثاني: أن يفترض استقرار التعارض وعدم اقوائية ظهور أحداها فنحكم بأصالة الحل ونتمسك بعموماته ولكن السيد الخوئي (قدس سره) رد قائلاً(1): ((وحينئذٍ فقد يقال بان المرجع هو عمومات الحل وذلك لتساقط دليلي الجوازوالحرمة بالمعارضة إلا أن إشكاله واضح فانه لا مجال للرجوع إلى عمومات الحل بعد أن دلّت معتبرة أديم بن الحر على الحرمة الأبدية مطلقاً بل مقتضى القواعد الرجوع إلى إطلاقها عند ابتلاء المخصص -

ص: 149


1- مباني العروة الوثقى: 1/232.

وهو ما دلَّ على الحلّية في حال الجهل- بالمعارض)) لكن المطمأن به أن إطلاق المعتبرة ليس لحاظياً حتى يصح التمسك به ويكون مرجعاً عند التعارض أي ليس هو بلحاظ تفاصيل أحكام الصور جميعاً ولا أن هذا هو مراد المتكلم وإنما هو بصدد بيان الحكم في الجملة ولا اقل من الشك في إحراز اجتماع مقدمات الإطلاق فلا يتم والشاهد على ذلك أن هذا المقدار من كلام الإمام (عليه السلام) هو جزء من رواية تناولت ذكر عدة عناوين من المحرمات المؤبدة على نحو الإجمال من دون تفاصيل ولكن صاحب الوسائل قطّعها ووزّعها على أبواب متعدد بحسب تصنيفه للمسائل فذكر في الباب (16) من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث الأول (التي تزوج ولها زوج يفرق بينهما أبدا) وذكر في الباب (17)، الحديث الأول (والذي يتزوج المرأة في عدتها وهو يعلم لا تحلّ له أبدا) وذكر في الباب (31)، الحديث الأول الحرمة المؤبدة للملاعنة والمحرم الذي إذا تزوج وهو يعلم بالحرمة وذكر في الباب الرابع من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه، الحديث الرابع من يطلّق تسع مرات وبعد كل ثلاث تنكح زوجاً غيره وقال في الهامش أن الحديث بتمامه مذكور في التهذيبين وهي رواية واحدة مروية بطريق صحيح عن زرارة وداود بن سرحان وطريق موثق عن أديم بن الحر الهروي.

الثانية: وجود مطلقات في المقام لم يُمضِ الإمام إطلاقها وإنما اعتبرها مجملة وشرح تفصيلها وهي وان جاءت في المعتدة إلا أنها تصلح شاهداً لأمثالها في منع انعقاد إطلاقها ففي موثقة إسحاق بن عمار قال (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الأَمة يموت سيدها قال: تعتد عدة المتوفى عنها زوجها قلت: فان رجلاً تزوجها قبل أن تنقضي عدتها قال: فقال: يفارقها ثم يتزوجها نكاحاً جديداً بعد انقضاء عدتها، قلت: فأين ما بلغنا عن أبيك في الرجل إذا تزوج المرأة في عدتها لم تحلّ له أبدا؟ قال: هذا جاهل)(1)

وموثقته الأخرى قال: (قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): بلغنا عن أبيك أن الرجل إذا تزوج المرأة في عدتها لم تحل له أبدا، فقال: هذا إذا كان عالماً فإذا كان جاهلاً فارقها ويعتد ثم

ص: 150


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح5.

يتزوجها نكاحاً جديداً)(1).

وعلى أي حال فليست هي الوحيدة في المقام إذ توجد صحيحة علي بن جعفر التي ذكرناها في الطائفة الأولى، ويدعم هذه النتيجة أنها موافقة لما توصلنا إليه عبر الطريق الأول فتكون كافية للخروج من أصالة الحل خصوصاً وأنها موافقة للاحتياط المعروف من ذوق الشارع المقدس في الفروج، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد ونحن نحتاط)(2).

لكن المشهور قالوا بالحرمة في هذه الصورة إلحاقاً لهذه المسألة بالمسألة السابقة لأولوية ذات البعل من المعتدة في الحكم بالحرمة وقد قال بالإلحاق جماعةمنهم صاحب العروة الوثقى قال في المسألة التاسعة من فصل المحرمات بالمصاهرة ((يلحق بالتزويج في العدة في إيجاب الحرمة الأبدية تزويج ذات البعل فلو تزوجها مع الجهل لم تحرم إلا مع الدخول بها)) وقال صاحب الجواهر ((وبذلك يتساوى حكم ذات البعل بذات العدة على حكمها أيضا كما صرح به جماعة من المتأخرين منهم المحقق الثاني بل لعله ظاهر الجميع وإن لم يتعرضوا له بالخصوص اتكالاً على معلومية اتحاد حكمها لحكم ذات العدة الرجعية ومنه يعلم ما في نسبة عدم الإلحاق إلى المشهور باعتبار قصر الحكم على ذات العدة)) لكن من الواضح أن اتحاد الحكم شيء والإلحاق شيء آخر فهم قالوا باتحاد الحكم ولا يلزم منه قولهم بالإلحاق بل لعلهم استفادوا من النصوص أحكام ذات العدة(3) كما فعل السيد الخوئي (قدس سره) فانه أنكر الإلحاق لكن الأحكام التي خرج بها متحدة بين ذات البعل والمعتدة، قال (قدس سره) ((ولعل الأصل في هذا التعبير -أي الإلحاق- ما ورد في القواعد من انه (لو تزوج بذات البعل ففي إلحاقه بالمعتدة إشكال ينشأ من عدم التنصيص ومن

ص: 151


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب17، ح10.
2- وسائل الشيعة: ج14، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 157، ح1.
3- ومنه يعلم ما في تعليق السيد السبزواري (قدس سره) على كلام صاحب الجواهر بانه حسن جداً. (المهذب: 24/107).

أولوية التحريم وتبعه على ذلك جماعة منهم الشهيد الثاني (قدس سره) في الروضة وولده العلامة (رحمه الله) في الإيضاح)) (1) ثم ردَّ عليهم بقوله ((إلا انه من غير الخفي انه ناشئ من غفلتهم عن النصوص الواردة في المقام وإلا فلا وجه للقول بعدم وجود النصوص ومحاولة إثبات الحكم عن طريق إلحاقه بالتزويج من المعتدة لكونه أولى بثبوت الحرمة نظراً لإقوائية العلقة الزوجية في ذات البعل)).

وإذا أردنا الجري مع السيد الخوئي (قدس سره) في وصف هؤلاء الأعاظم بالغفلة فنقول: أن منشأ الغفلة مجيء كلمة (اعتدت) ونحوها في الرواية مما يوحي بان النص يتعلق بذات العدة لا بذات البعل نظير صحيحة زرارة المتقدمة في الطائفة الثانية فتبقى ذات البعل بلا نص دالٍ على الحرمة لكن الاعتداد هنا ليس بمعناه الشرعي لان زوجها لم يمت فعودته كاشفة عن كونها ذات بعل أما التعبير بالاعتداد فهو من باب المسامحة إما لأجل ملاحظة الصورة الظاهرية بالإخبار عن وفاة الزوج أو لأجل المشاكلة أو بلحاظ اعتقاد الزوجة قبل انكشاف الخلاف.

لكن الصحيح أن هؤلاء الأعاظم (قدس سرهم) لم يغفلوا عن النصوص وها هو ذا صاحب الوسائل افرد هذه الروايات في باب مستقل بعنوان (ذات البعل) وجعلها مستقلة عن باب (ذات العدة) ولم يوهمه هذا التعبير الظاهري.

فما هو مراد هؤلاء من عدم التنصيص؟ أو قل ما حاجتهم إلى الإلحاق إذا كانت النصوص متوفرة كما يقول السيد الخوئي (قدس سره)؟

وللجواب نقول: أن منشأ احتياجهم إلى الإلحاق يعود إلى عدة وجوه:

الأول: عدم كفاية نصوص الباب لاستنباط الحكم في جميع الصور كصورة العلم مع عدم الدخول ولا يكفي الاتكال على مفهوم حكم الجاهل بالحلّية مطلقاً فقد قلنا أن الجملة لو كان لها مفهوم فإنما هو في الجملة ولا دليل على كون المفهوم مطلقاً كالمنطوق لكن الذي يهوِّن الخطب أن القدر المتيقن منه صورة العلم، نعم، يمكن استفادة حكم هذه الصورة من وجوه تقدمت الإشارة

ص: 152


1- مباني العروة الوثقى: 1/230.

باختصار إلى بعضها ومنها:

1- خبر احمد بن محمد رفعه (أن الرجل إذا تزوج امرأة وعلم أن لها زوجاً فرق بينهما ولم تحل له أبدا)(1)

بتقريب فهم أن الواو حالية أي انه تزوجها حال كونه عالماً بوجود زوج لها لكن يرد عليه أنها مرفوعة ومضمرة فلم ينسبها إلى الإمام (عليه السلام) فلا تكون حجة على أن هذا الفهم غير متعين إذ يمكن أن يراد بالواو الدلالة على التراخي الزماني كما أن هذا الاستدلال مبني على كون (علم) مبنياً للمعلوم ويحتمل فيه انه مبني للمجهول بقرينة كلمة (فُرِّق) التي هي مبنية للمجهول جزماً فلا تدل على العلم المقارن للعقد.

2- الرجوع إلى إطلاق معتبرة أديم بن الحر التي ذكرناها في الطائفة الأولى وهو ما يظهر من كلمات السيد الخوئي (قدس سره) قال بصدد حلّ التعارض المذكور آنفاً ((بل مقتضى القواعد الرجوع إلى إطلاقها -أي المعتبرة- عند ابتلاء المخصص -وهو ما دل على الحلّية في صورة الجهل- بالمعارض)) ثم قال بصدد بيان النتيجة ((إذن فالمتحصل مما تقدم: أن الخارج من إطلاق معتبرة أديم الدالة على عدم جواز التزويج بها إنما هو فرض جهل الزوج مع عدم الدخول بها خاصة وبذلك فيكون الحال في ذات البعل كالحال في المعتدة حيث تحرم أبدا بالتزويج بها مع العلم أو الجهل مع الدخول)).

لكن تقدّم منا: أن هذا الإطلاق غير تام بلحاظ تفاصيل الأحكام ولا أظنه غافلاً عن هذه ولكنه (قدس سره) أراد استفادة الأحكام جميعاً من النصوص رداً على الإلحاق المذكور.

3- التمسك بمفهوم عموم التعليل الوارد في صحيحة ابن الحجاج فقد بين الإمام (عليه السلام) علة معذورية الجاهل في الحكم بأنه لا يقدر على الاحتياط معها أما العالم فلا يعذر لأنه قادر على الاحتياط وعلى تعبيره (عليه السلام) (الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبدا) وإذا أمكن تصور الجهل في الحكم في باب المعتدة فانه لا يمكن تصوره في ذات البعل فلا أحد يجهل حرمة التزوج بامرأة هي في حصانة رجل آخر، نعم، قد يتصور الجهل بالموضوع

ص: 153


1- مباني العروة الوثقى: 1/233.

أي أنها ذات بعل.

وعلى كل حال فالمسألة أجماعية ولا قائل بالخلاف فلا حاجة إلى الإطالة في الاستدلال.

الثاني: عدم وجود نص يحلّ التعارض في صورة الجهل مع الدخول كما أفادتنا صحيحة الحلبي في المسألة المتقدمة.

فمرادهم (قدست أسرارهم) من عدم التنصيص ليس العدم المطلق وإنما عدم الكفاية لاستنباط أحكام فروع المسألة كلها. وما دامت النصوص غير كافية فلم يبق دليل على الحرمة إلا الإلحاق بالمعتدة.

والأولوية المدعاة منشؤها أن ملاك الحرمة في ذات البعل اقوي من المعتدة لان علقة الزوجية فيها اقوي.

ومن يرد على الأولوية يقول: أن الأولوية لا تكون حجة إلا إذا بلغت قوة الظهور لأن الظواهر حجة أما إذا كانت أولوية عقلية وحدسية فلا يكون حجة وليست اقوي أولوية من نقصان دية المرأة عند قطع أربع أصابع عن الدية بقطع ثلاث أصابعالواردة في صحيحة أبان بن تغلب فان هذه الأحكام تعبدية محضة ولا نص يكشف عن علة الحكم وملاكه حتى نتمسك بعموم التعليل خصوصاً وان حكم الحرمة المؤبدة بالدخول بذات العدة ولو جهلاً غير خاص بذات العدة الرجعية حتى يمكن أن نقول أنها بلحاظ بقاء العلقة الزوجية وإنما هي شاملة لكل عدة حتى مع عدم احتمال الزوجية كالمعتدة من الطلاق الثالث وكل طلاق بائن فيه عدة أو من الوفاة وغيرها.

ورغم هذا فقد كان المفروض بالسيد الخوئي (قدس سره) أن يقبل الإلحاق حتى لو وجد دليلاً آخر ويضمّه إليه لأنه يرى ذات العدة زوجة حقيقية وليست بحكم الزوجة كما ذهب إليه المشهور وقد صرح بذلك في التعليقة الرابعة في الصفحة (209) من الجزء الأول من مباني العروة الوثقى وهو لا يقول بالفصل في الحكم بين حصص الزوجية بالتأكيد فبضمّ هاتين المقدمتين ينتج إلحاق ذات البعل بالمعتدة على مبانيه (قدس سره).

ص: 154

الخلاصة

تحصّل مما تقدم عدة وجوه للقول بالحرمة المؤبدة لذات البعل إذا دخل بها ولو كان جاهلاً ومنها:

1- الاحتياط وهو حسن في نفسه ويتأكد في الفروج وقد تقدم قول الإمام (عليه السلام) فيه.

2- إلحاق هذه المسألة بمسألة المعتدة لأكثر من وجه:

أ- أن من حصص عنوان (ذات العدة) هي المعتدة الرجعية وهي زوجة حكماً فتشملها أحكامها بل أن المعتدة الرجعية ورد ذكرها بالنص في صحيحة حمران ومحل الحاجة منها قوله (عليه السلام) (إذا كانت تزوجته في عدة لزوجها الذي طلقها ... ويفرّق بينها وبين الذي تزوجها ولا تحل له أبدا)(1)

وما دام الإلحاق قد تم بخصوص المعتدة الرجعية فلا تأتي النقوض التي ذكرناها على الإلحاق.

وهذه الأولوية يمكن أن تكون استظهارية لان كل الأحكام التي رتبها الشارع على ذات العدة كحرمة تزويجها للغير وحرمة التزويج بأختها وحرمة التزوج بالخامسة إنما لحقتها لأنها بحكم الزوجة أو زوجة حقيقية -كما اختاره السيد الخوئي- فلا بد أن تكون هذه الأحكام مترتبة على الأصل وهي ذات البعل لتترتب على الفرع وهي المعتدة.

ب- أن المناط في الإلحاق ليس هو اقوائية العلقة الزوجية وإنما هو مراعاة حرمة الزوج الأعم من مائه أو شخصه.

ولكن الأول يبقى قياساً لإجمال أن الحكم لحقها لأنها معتدة لا لأنها رجعية بدليل مشاركة ذوات العدد غير الرجعية لها وهذه نكتة مهمة يجب أن يلتفت إليها القائلون بالإلحاق والثاني لا دليل عليه.

3- التمسك بإطلاقات الحرمة كمعتبرة أديم بن الحر بعد خروج الحصة

ص: 155


1- الوسائل: مج14، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح17.

المجمع عليها فقط وهي الجهل مع عدم الدخول واعتبار هذه العمومات هي المرجع الفوقاني بعد استقرار التعارض.

4- ترجيح ظهور الطائفة الثانية الدالة على الحرمة مع الدخول ولو جهلاً على الطائفة الثالثة التي يستفاد منها الحلّية مع الجهل للمناقشة في دلالة رواياتها على المطلوب فلا تعارض.

5- يستأنس هذا الحكم من فقه أهل البيت (عليهم السلام) من خلال بعض الروايات كصحيحة يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا (عليه السلام) ورواها إسحاق بن عمار عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال (قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) رجل تزوج امرأة متعة ثم وثب عليها أهلها فزوجوها بغير إذنها علانية والمرأة امرأة صدق كيف الحيلة؟ قال: لا تمكّن زوجها من نفسها حتى ينقضي شرطها وعدّتها، قلت: أن شرطها سنة ولا يصبر زوجها ولا أهلها سنة فقال: فليتقِ الله زوجها الأول، وليتصدق عليها بالأيام فإنها قد ابتليت والدار دار هدنة، والمؤمنون في تقية، قلت فانه تصدّق عليها بأيامها وانقضت عدتها كيف تصنع؟ قال: إذا خلا الرجل بها فلتقل هي يا هذا أن أهلي وثبوا عليَّ فزوجوني منك بغير أمري ولم يستأمروني وإني الآن قد رضيت فاستأنف أنت الآن فتزوجني تزويجاً صحيحاً فيما بيني وبينك)(1)

وتقريب الاستدلال يتم بضم مقدمتين:

الأولى: أن الإكراه كالجهل من حيث المعذورية والمسؤولية الشرعية.

الثانية: أن المشكلة التي حاول الإمام (عليه السلام) إنقاذ المرأة منها هي الحرمة المؤبدة على الزوج الجديد التي تحصل بالدخول ولو مع الإكراه أما بقية الأمور فيمكن قبولها مع الإكراه حتى عدم صحة العقد تعالج بإعادته بعد انقضاء العدة فالإمام (عليه السلام) منع منعاً باتاً التمكين حتى مع الإكراه لأنه ينتج الحرمة المؤبدة فالجهل مع الدخول كذلك أي أن الإكراه كما لم ينفع في دفع الحرمة المؤبدة فكذلك الجهل.

لكن المناقشة في المقدمة الأولى لان الإكراه وان كان كالجهل رافعاً

ص: 156


1- وسائل الشيعة: مج14، كتاب النكاح، أبواب المتعة، ب41، ح1.

للتكليف إلا انه لا يشابهه في كل شيء لان المكره عالم فيكون مشمولاً بأدلة الحرمة مع العلم دون الجهل.

والنتيجة في مجموع هذه القرائن ودراسة النصوص في ذات البعل وذات العدة يحصل الاطمئنان بوحدة أحكامها وعدم قبولها للتفكيك ولذا جمع كثير من الفقهاء ذات البعل والمعتدة في مسألة واحدة وتناولوا أحكامهما سوية.

قال السيد المرتضى (قدس سره) في الانتصار ونقله في الوسائل(1)

((ومما انفردت به الأمامية القول بأنَّ من زنى بامرأة ولها بعل حرم عليه نكاحها وإن فارقها زوجها وباقي الفقهاء يخالفون ذلك والحجة في ذلك إجماع الطائفة)) إلى أن قال (وقد ورد من طرق الشيعة في حظر ما ذكرناه أخبار معروفة)) ثم قال ((ومما ظنّ انفراد الأمامية به القول بان من زنى بامرأة وهي في عدة من بعلٍ له فيها عليها رجعة حرمت عليه بذلك ولم تحل له أبدا والحجة لأصحابنا في هذه المسألة الحجة التي قبلها والكلامفي المسألتين واحد)).

وقد جعلها صاحب الوسائل تحت عنوان واحد من حيث حكم الزنا وهو الباب (11) مما يحرم بالمصاهرة رغم عدم ذكر حديث فيهما وإنما ذكر كلام السيد المرتضى المتقدم وإنما استفاد الوحدة من أحاديث المسألتين محل البحث في البابين (16،17).

ولما كانت النصوص قد ترد لمعالجة حالة معينة هنا وحالة معينة هناك لكن هذا مما لا يوجب الاقتصار عليها بعد استظهار الوحدة المذكورة -لو تمت- ومن هذه الوحدة تُسدَّ ثغرات الأحكام في كل منهما كالزنا بالمعتدة فلم يلحقوها بالزنا بذات البعل المنصوص على حصول الحرمة المؤبدة له وكالدخول جهلاً بذات البعل فلم يُلحقوه بالدخول جهلاً بالمعتدة المنصوص على حصول الحرمة المؤبدة به.

لكن الإلحاق لما كان قابلاً للمناقشة وكذا الوجوه الأخرى التي ذكرناها حكم سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) بالحلّية متمسكاً بأصالة الحل لكن الالتزام بهذا القول مجازفة للاطمئنان إلى بعض الوجوه خصوصاً مع ورود

ص: 157


1- أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب11، ح10.

الحث من أهل البيت (عليهم السلام) على الاحتياط في الفروج فالاحتياط حسن ولكن قد يكون الالتزام به حرجياً في بعض الحالات كمن تزوج امرأة قد طلقت بطلاق غير جامع للشروط جهلاً منهم بعدم صحته وهي تعيش مع زوجها الجديد بمودةٍ ووئام وربما أنجبا ذرية فالحكم بالانفصال الدائم بينهما يكون حرجياً.

ص: 158

أقوال الفقهاء المعاصرين

لو رجعنا إلى أقوال الفقهاء المعاصرين لوجدنا أن السيد الخوئي (قدس سره) جزم بالحرمة مع الدخول عالماً أو جاهلاً في المعتدة وذات البعل أما مع عدم الدخول فتحرم على العالم دون الجاهل فيبطل العقد فقط(1).

وقال الشيخ الفياض ((يحرم العقد على ذات البعل أو المعتدة ما دامتا كذلك ولو تزوجها جهلاً بالحكم أو الموضوع بطل العقد، فان دخل حينئذٍ حرمت عليه مؤبداً))(2).

وهنا ملاحظتان:

الأولى: إن الجزم بهذه الأحكام مما لا دليل عليه من النصوص في بعض الصور وإنما استفيد بنحو وآخر مما تقدم ذكره فلا بد أن تكون صيغة الفتوى مناسبة لقوة الدليل.

الثانية: الجمع بين ذات البعل وذات العدة في مسألة واحدة غير تام لاختلاف أدلتهما فليستا في مرتبة واحدة حتى تجمع بلسان واحد.

أما السيد الصدر (قدس سره) فليس في كلامه ما يدل على الحرمة المؤبدة على من تزوج بذات البعل ودخل بها جهلاً، قال (قدس سره)(3)

((يحرم العقد على ذات البعل أو المعتدة مطلقاً حتى تنتهي العدة، ولو تزوجها جاهلاً بالحكم أو الموضوع بطل العقد، فان دخل بها ملتفتاً إلى الحرمة فهو زانٍ وتحرم عليه أبداً وان دخل عليها جاهلاً بالعدة فهو من وطء الشبهة والولد له، ولو عقد عالماً بالحكم والموضوع حرمت عليه أبداً بالعقد وان لم يدخل بها)) فهل تقسيمه (قدس سره) بلحاظ الالتفات إلى الحرمة وذكره الحرمة المؤبدة في الأول دون الثاني دليل على عدمها في الثاني بالمفهوم؟ أم أن ذلك لا علاقة له فالحرمة

ص: 159


1- منهاج الصالحين: ج2، مسألة 1257.
2- منهاج الصالحين: ج3، مسألة 43.
3- منهج الصالحين: ج3، مسألة 1354، طبعة دار الأضواء.

المؤبدة متحققة على أي حال؟! لا سبيل إلى الأول لأنه (قدس سره) قد جمع ذات البعل والمعتدة في عنوان واحد وقد تقدّم الدليل الصحيح على الحرمة المؤبدة بالدخول بذات العدة ولو كان جاهلاً على أن الجهل بالحرمة لا يمكن تصوره في ذات البعل فما من أحدٍ يجهل المنع من التزويج بامرأة ذات زوج وإنما الجهل المتصور هو بالموضوع أي أن الجهل بأنها ذات زوج ولو حكماً -كالغائب عنها زوجها غيبة منقطعة أو التي نعي إليها زوجها فبان خلاف الواقع.

لكن المنقول عنه شفهياً والمذكور في رسائله المطبوعة(1)

عدم الحرمة المؤبدة مع الجهل وإن دخل بها أي عدم إلحاقها بذات العدة.

وهو كما أسلفنا قول فيه مجازفة لوجود أكثر من وجه للاستدلال على الحرمةالمؤبدة غير الإلحاق مما يمنع من التمسك بأصالة الحل.

إضافة إلى ما أشكلناه على جمع عنواني (ذات البعل وذات العدة) في مسألة واحدة.

وقال السيد السيستاني(2)

((لو تزوج بامرأة عالماً بأنها ذات بعل حرمت عليه مؤبداً دخل بها أم لم يدخل، ولو تزوجها مع جهله بالحال فسد العقد ولم تحرّم عليه لو لم يدخل بها حتى مع علم الزوجة بالحال، وأما لو دخل بها فتحرم عليه مؤبداً على الأحوط)).

والتعبير على الحكم الأخير مناسب للأدلة وهو خير من الجزم به كما تقدم من غيره، كما أن فصله ذات الزوج في مسألة مستقلة غير مسألة ذات العدة شيء صحيح إلا أن جزمه بالحرمة في صورة العلم وعدم الدخول لم يكن واضحاً من النصوص إلا أن الذي يهون الخطب أن الإجماع قائم عليه إلا أن الخشية من أن يكون الإجماع مدركياً لاستناده إلى الإلحاق بذات العدة فكان التعبير بالاحتياط الوجوبي أوفق.

فالمختار حرمة التزوج بالمرأة التي عقد عليها ودخل بها ولو جهلاً وكانت ذات بعل ومنها المطلقة طلاقاً غير صحيح في المحاكم الرسمية.

ص: 160


1- سلسلة مسائل وردود، الجزء الأول، مسألة 292 ص56.
2- منهاج الصالحين: ج3، مسألة 197.

إن قلت: أن أدلة الحرمة منصرفة عن المقام وهي المرأة المطلقة طلاقاً غير جامع للشروط فإنها ليست ذات بعل في نظر العرف فلا تكون مشمولة بالحرمة.

قلت:

1- أن العرف وإن كان محكماً في فهم مداليل الألفاظ إلا انه مقيد بالالتفات أما مع الغفلة فلا يُعبأ بقوله وحكم العرف بان هذه المرأة ليست ذات بعل ناشئ من الغفلة بدليل عدوله عند الالتفاف.

2- أن هذه المرأة ذات بعل واقعاً لبقاء الزوجية وعدم حصول ما ينقضها فمناقشة العرف وغيره في صدق العنوان يكون بمثابة الشبهة مقابل البديهة وما دام العنوان صادقاً فالحكم جار.

3- أن النصوص سمّت المطلقة لغير السنة بذوات الأزواج فتكون شارحة للعنوان فعن محمد بن الفيض في حديث قال (سألت أبا عبد الله رضي الله عنه عن المتعة قال نعم وإياكم وذوات الأزواج، قلت وما ذوات الأزواج، قال: المطلقات على غير السنة)(1)

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال: (إياكم وذوات الأزواج المطلقات على غير السنة)(2)

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إياك والمطلقات ثلاثاً في مجلس واحد فإنهن ذوات أزواج)(3).

ص: 161


1- وسائل الشيعة: ج14، أبواب المتعة، باب8، ح3.
2- وسائل الشيعة: ج14، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب35، ح2.
3- وسائل الشيعة: ج14، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب35، ح1.

فروع ملحقة

الفرع الأول : هل لعلم الزوجة مدخلية

قال السيد الخوئي (قدس سره) وتبعه تلامذته(1)

انه لا اثر لعلم الزوجة في الحكم وإنما المعول على علم الزوج فقد علق على قول صاحب العروة الوثقى ((ولو تزوجها مع الجهل لم تحرم إلا مع الدخول)) قال (قدس سره) ((حتى لو كانت الزوجة عالمة بالحال، لعدم الدليل على تأثير علمها بالحرمة، بل مقتضى إطلاق الأخبار لا سيما صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج أن المدار في ثبوت الحرمة الأبدية إنما هو علم الزوج من دون أن يكون لعلم الزوجة أو جهلها دخل فيه فما دام الزوج جاهلاً لا تثبت الحرمة الأبدية كانت الزوجة عالمة أم كانت جاهلة مثله وبهذا يظهر الفرق بين المعتدة وذات البعل)) (2).

وفيه مناقشة من عدة جهات لان كلامه (قدس سره) يتحلل إلى مستويين، عدم الدليل، والدليل على العدم، واعني بالثاني ما ذكره من إطلاق صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج:

الجهة الأولى: أن المراد بصحيحة ابن الحجاج ما رواه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم فطلّقها الأول أو مات عنها ثم علم الأخير أيراجعها؟ قال: لا حتى تنقضي عدتها)(3).

وتوجد صحيحة أخرى عن عبد الرحمن قال (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوج امرأة ثم استبان له بعد ما دخل بها أن لها زوجاً غائباً فتركها ثم أن الزوج قدم فطلقها أو مات عنها أيتزوجها بعد هذا الذي كان

ص: 162


1- ارقام المسائل المتقدمة.
2- مباني العروة الوثقى: 1/235.
3- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب16، ح3.

تزوجها ولم يعلم أن لها زوجاً قال: ما أحبُّ له أن يتزوجها حتى تنكح زوجاً غيره)(1).

ويقرب استدلاله بالروايتين بعدم الحرمة لجهل الزوج رغم أن الظاهر علم الزوجة أو لا اقل من استفادته من الإطلاق.

وفيه:

1- إننا قد ناقشنا في دلالة الروايتين على الحلّية أصلاً، نعم، الذي يفيده في المقام هو الحديث الأول لان المناقشة فيه من حيث عدم دلالته على الدخول -وهو ماقلناه في أصل المسألة- لا تأتي هنا لان الفرض عدم الحرمة المؤبدة مع علم الزوجة ما دام الزوج جاهلاً ولم يدخل بها إلا أن المناقشة فيه من عدة جهات:

أ- أن الغاية لا تعني الحلية بعد انقضاء العدة وإنما هو شكل من إشكال التهرب من الجواب الكامل وتأجيله إلى بعد انقضاء العدة لرفع الحرج عنه من تبليغه المفاجئ.

ب- انه لا دليل على علم الزوجة بأنها ذات بعل فان الظاهر من الرواية غيبة الزوج وانقطاع أخباره فظنّت الزوجة أن هذا كافٍ في سقوط زوجيته وإمكان تزوجها بغيره ولم تكن تعلم وجوب التربص إلى مدة معينة، ولا يعقل أن المراد من الرواية وجود زوج ظاهرٍ للمرأة وإلا فكيف جاز لهذا الرجل أن يتزوجها فيكون معنى (ولها زوج) أي واقعاً وشرعاً وان لم يكن كذلك ظاهراً كالغائب والمفقود والمحبوس مدة طويلة مما أوجب عند الزوجة الظن المذكور.

2- لأجل الاحتمال السابق فان الإطلاق لا يمكن الركون إليه لعدم تمامية مقدماته وتكون الرواية مجملة من حيث علم الزوجة وجهلها.

الجهة الثانية: قوله (قدس سره) ((لعدم الدليل على تأثير علمها في الحرمة)) ويمكن تقريب أكثر من دليل:

1- إطلاق معتبرة أديم بن الحر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) (التي

ص: 163


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب16، ح4.

تتزوج لها زوج يُفرق بينهما ثم لا يتعاودان أبدا)(1).

وقد تمسك (قدس سره) بهذا الإطلاق لملء الفراغات في تفصيلات المسألة مما لم تتعرض له النصوص وهذا الفراغ منها.

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (في امرأة بلغها أن زوجها توفي فاعتدت وتزوجت ثم بلغها بعدُ أنَّ زوجها حي هل تحلّ للآخر؟ قال: لا)(2).

فاستفيد شمول الحرمة للدخول وعدمه من الإطلاق وللعلم بالأولوية من الجهل الظاهر من النص.

2- قاعدة الاشتراك بين الذكر والأنثى في الأحكام وإن كانت غالباً ترد في النصوص الشريفة والرسائل العملية للفقهاء بصيغة الخطاب للمذكر كأن يقول (يجب على مكلف التقليد) و(يحرم على كل مكلف شرب الخمر) و(يجب على كل مكلف خمس فرائض في اليوم) وغيرها ولا يشك احد في شمولها للأنثى إلا ما خرج بدليل ولا دليل يخرج علم المرأة عن الحكم بالحرمة في المقام.

ونحن نعلم بالاستقراء أن الأحكام المشتركة كلها توجه إلى الذكور ولا توجه إلى النساء إلا الأحكام الخاصة بها فحينما تتحدث الروايات عن الرجل وتفصل بينه وبين علمه وجهله فإنها غير نافية لمدخلية هذا التفصيل بالنسبة للزوجة بل هي ساكتة عنه ويستفاد من قاعدة الاشتراك إلا ما خرج بدليل.

3- صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا (عليه السلام) التي تقدمت(صفحة 158) بالتقريب الذي ذكرناه لتحقق الحرمة المؤبدة لعلم الزوجة مع جهل الزوج.

4- ما ورد من التصريح في روايات ذات العدة من تأثير علم الزوجة في الحكم كقوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الإمام الكاظم (عليه السلام) (فقلت: فان كان احدهما متعمداً والآخر يجهل فقال:

ص: 164


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب16، ح1.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب16، ح9.

الذي تعمد لا يحلُّ له أن يرجع إلى صاحبه أبدا)(1) من غير فرق أن يكون العالم هو الزوج أو الزوجة رغم أن الروايات في الباب أيضاً كانت تخاطب الذكر ولم يتعرض الإمام (عليه السلام) لتوجيه الخطاب إلى الأنثى إلا عندما أثاره السائل مع ضم مقدمة وهي الاطمئنان بعدم وجود فرق بين المسألتين من هذه الناحية.

وهذا الاستئذان المقارب للاستظهار هو غير قياس الأولوية الذي يمسك به بعضهم في المقام ورد عليهم السيد الخوئي (قدس سره) فقال ((نعم قد يستدل لثبوت الحرمة الأبدية عند علم الزوجة بالموضوع أو الحكم بالأولوية القطعية وذلك لان العلقة الزوجية في المعتدة على ضعفها إذا كانت توجب الحرمة الأبدية عند علمها فهي توجب ذلك في المقام بطريق أولى لإقوائيتها)).

ثم رد عليه (قدس سره) بقوله ((أن غاية ما يمكن أن يقال عن هذه الأولوية أنها مظنونة وليست بقطعية فان هذه الأحكام تعبدية محضة ولا يمكن كشف الملاك منها وإحراز انه العلقة الزوجية)) وأضاف ومعه حق جزاه الله خير جزاء المحسنين ((بل يمكن دعوى العلم بعدم كونها هي الملاك في ثبوت الحرمة في التزويج من ذات العدة، وذلك لثبوت الحرمة الأبدية في موارد لا يوجد فيها أي نوع من العلقة الزوجية كالتزويج من المعتدة عدة وطء الشبهة أو المعتدة عن الطلاق التاسع أو المعتدة عن فسخ النكاح لرضاع أو ما شابهه مع العلم بالموضوع أو الحكم فإنها تثبت مع أن العلقة الزوجية فيها مفقودة بالمرة، فان ذلك يكشف عن عدم كون وجود العلقة الزوجية ملاكاً لثبوت الحرمة الأبدية))(2).

وهذا نظير توسيعهم الحكم من الجهل بالموضوع الذي وردت فيه الروايات إلى الجهل بالحكم رغم عدم النص عليه إلا أنهم لا يختلجهم الشك في هذا التعميم، قال السيد الخوئي (قدس سره) ((ثم أن مقتضى الأخبار الواردة في المقام اختصاص الحرمة بصورة علم الزوج بالموضوع خاصة حيث لم يرد في شيء منها التعرض لصورة علمه أو جهله بالحكم، إلا أن الظاهر عدم

ص: 165


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 17، ح4.
2- مباني العروة الوثقى: 1/236.

اختصاصها بها وكون الملاك في المقام هو الملاك في المعتدة اعني علم الزوج بالموضوع أو الحكم ولعل الوجه في عدم التعرض إليه في النصوص كونه مما لا يخفى على احد من المسلمين بل وغيرهم أيضا، فان عدم الجواز واضح للكل إلى حد لا يظن خفاؤه على أحد)).

وفيه:

1- أن وضوحه لا يعني عدم لزوم بيانه للتأكيد ولإلفات النظر وقد وردت النصوص بحرمة تزوج المرأة أكثر من واحد رغم أن وضوحه أكثر مما نحن فيه.فروى سعد الجلاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال (إنما جعل الله الغيرة للرجال، لأنه أحلّ للرجل أربعاً وما ملكت يمينه، ولم يحلّ للمرأة إلا زوجها، فإذا أرادت معه غيره كانت عند الله زانية)(1).

2- أن عدم بيانه قد يكون معذراً للمكلف فيتشبث بعدم الدليل على الحرمة كما في المقام.

3- أن هذا الوضوح في الحرمة في حالة الزوجة التي تعيش مع زوجها وهي التي نظر إليها (قدس سره) وتوجد حالات ليست بهذا الوضوح كالمطلقة طلاقاً غير صحيح والغائب عنها زوجها غيبة منقطعة فهن ذوات أزواج ولا يوجد وضوح في حرمة التزويج بغيره وهو من الجهل بالحكم وإن كان منشؤه الجهل بالموضوع ويؤول إليه.

ونحن معه في هذا التعميم إلا أننا نقول انه كما استأنسه هنا كان عليه أن يستأنسه هناك وان عدم البيان لا يضرّ في مثل هذه الحالات.

4- قوله (قدس سره) ((الملاك في المقام -أي ذات الزوج- هو الملاك في المعتدة اعني علم الزوج بالموضوع أو الحكم)) وقوله في الصفحة اللاحقة(2) (ومن هنا يتحصل أن الملاك في المقام كالملاك في التزوج بالمعتدة فيدور الحكم ثبوتاً وعدماً مع علم الزوج وجهله بالموضوع أو الحكم) وقد تقدم منه ومنا أن علم الزوجة المعتدة مؤثر أيضا في الحرمة ودلّت عليه صحيحة عبد الرحمن بن

ص: 166


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما يحرم باستيفاء العدد، الباب7، ح1.
2- مباني العروة الوثقى: 1/237.

الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام) وورد فيه (فقلت: فان كان احدهما متعمداً والآخر يجهل فقال: الذي تعمد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبدا)(1)

وإنما الخلاف في علم الزوجة ذات البعل. فهذا الكلام خلاف ما التزم به (قدس سره).

انتهينا من تحرير هذه المسألة يوم الخميس 16 رجب 1425 المصادف 2/9/2004

وقد ابتدأنا بها بعد إتمام مسألة وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة 3 رجب مستغلين عدم وجود مراجعين بسبب ما عرف بأزمة النجف والحمد لله أولاً وآخراً وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ص: 167


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب17، ح4.

الفرع الثاني: وطء المعتدة من غير عقد زواج كالشبهة والزنا

اشارة

قال صاحب العروة الوثقى (قدس سره) ((لا يلحق بالتزويج في العدة وطء المعتدة شبهة من غير عقد بل ولا زنا، إلا إذا كانت العدة رجعية)) ووجهه عدم التنصيص والإلحاق ممنوع وإنما وردت الحرمة في من تزوج، فوطء الشبهة والزنا غير مشمولين بعنوان التزويج وإنما استثنى ذات العدة الرجعية لأنها زوجة حكما -على المشهور- أو حقيقة -على مختار السيد الخوئي-(1)

فيكون الزنا بها من الزنا بذات البعل وهو موجب للحرمة الأبدية عندهم فهنا مسألتان:

الأولى: أن الزنا بذات البعل موجب للحرمة الأبدية.

الثاني: الزنا بالمعتدة هل يلحق بالزنا بذات البعل أم لا.

المسألة الأولى: الزنا بذات البعل
اشارة

قال صاحب العروة في المسألة التاسعة عشرة(2)

((إذا زنا بذات بعل دواماً أو متعة حرمت عليه مؤبداً)) وهو حكم مشهور بين الأصحاب وقد توقف فيه المحقق الحلي (قدس سره) ووافقه السيد الخوئي (قدس سره) فقال ((والظاهر انه -أي توقف المحقق عن القول بالحرمة- في محله لعدم تمامية شيء مما استدل به لمذهب المشهور)) وقد احتاط فيه سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) وجوباً(3) وكذا السيد السيستاني(4)

لكن الشيخ الفياض يستفاد منه الاحتياط

ص: 168


1- مباني العروة الوثقى: ج1، ذيل صفحة 209 وأول صفحة 218.
2- مباني العروة الوثقى: 1/279.
3- منهج الصالحين: ج2، مسألة 1345.
4- منهاج الصالحين: ج3، مسألة 180.

الاستحبابي(1) أما صاحب الوسائل فقد تردد وعنون الباب الحادي عشر من أبواب ما يحرم بالمصاهرة بالسؤال (حكم من زنى بذات بعل أو ذات عدة هل تحرم عليه مؤبداً أم لا) ولم يذكر أي نص حول الموضوع وإنما نقل دعوى السيد المرتضى الإجماع على الحكم فقال ((وقال السيد المرتضى في (الانتصار) مما انفردت به الإمامية القول بأن من زنى بامرأة ولهابعل حرم عليه نكاحها أبدا وإن فارقها زوجها وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك والحجة في ذلك إجماع الطائفة ... إلى أن قال ... وقد ورد من طرق الشيعة في حظر ما ذكرناه أخبار معروفة))(2).

وقد نقل السيد الخوئي (قدس سره) الاستدلال لقول المشهور بأمور ثلاثة وناقشها فقال:

الأول: ما ذكره الشهيد (قدس سره) في المسالك من الأولوية القطعية ببيان أن العقد على ذات البعل مع العلم إذا كان موجباً لثبوت الحرمة الأبدية فثبوتها في حال زنا الرجل مع العلم يكون بطريق أولى فإن الفعل أشد وأقوى من الإنشاء المجرد وكذلك إذا كان الدخول بذات البعل مع العقد حتى مع الجهل موجباً للحرمة الأبدية فثبوتها في حال الزنا يكون بطريق أولى.

وفيه:

أن الأولوية المدعاة غير محرزة ولا سيما بعدما كانت الأحكام تعبدية، فان كلاً منهما موضوع مستقل، ومن الممكن أن يكون للتزويج موضوعية للحكم فلا مجال لإثبات حكمه في المقام.

ولنا على كلام الشهيد في المسالك عدة تعليقات:

1- أن ما قاله الشهيد من أن الفعل أشد وأقوى من الإنشاء المجرد صحيح إذا أريد منهما مؤدى واحد لهذا أجاز بعضهم وقوع عقد النكاح بالمعاطاة من دون إنشاء اللفظ أما في المقام فالمراد من اللفظ والفعل مختلف إذ إن الفعل هنا أريد منه الزنا أما اللفظ فأريد منه النكاح.

ص: 169


1- منهاج الصالحين: ج3، مسألة 51.
2- وسائل الشيعة: مج14، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب11، ح10.

2- انه ذكر مسألة الحرمة المؤبدة بالتزويج والدخول بذات البعل ولو جهلاً وكأنها مفروغ منها رغم أنها لا تخلو من تجاذبات تقدمت واختلف فيها الأصحاب وإن كنا مثله قد رجحنا القول بالحرمة.

أما ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) فهو دقيق إلا أن قراءة الروايات تُشعر أن الإمام (عليه السلام) علق الحرمة على الدخول ولا موضوعية للتزويج في الحكم وإنما هو مجرد سبب للاتصال الجنسي كالزنا ونحوه فكأن الإمام (عليه السلام) أجاب بالتعميم أي انه (عليه السلام) يريد أن يقول للسائل انه بغض النظر عن منشأ الاتصال الجنسي بينهما إذا حصل الدخول حرمت مؤبداً ويؤيده عدم الفرق بين العالم والجاهل خصوصاً في الحالات التي لا يكون معنى للعقد فيها كمن تزوج ذات بعل أو معتدة عالماً عامداً فأي قيمة لمثل هذا العقد حتى يكون له مدخلية في الحكم، إنه الزنا بعينه، نعم، للتزويج مدخلية عند عدم الدخول إذا كان عالماً، فالدخول عن زنا كالدخول عن تزويج في الحكم وهذا الإشعار كافٍ لإيجاب الاحتياط.

الثاني: ما ورد في الفقه الرضوي: (ومن زنى بذات بعل محصنا كان أو غير محصن ثم طلقها زوجها أو مات عنها وأراد الذي زنى بها أن يتزوج بها لم تحل لهأبدا)(1).

وفيه:

ما مرَّ منا غير مرة من أن الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلاً عن كونه حجة.

أقول: وهو ليس بعيداً لكنه على هذا الفرض فلا يبعد أن تكون فتاواه وهي نصوص مقتبسة من كلام المعصومين (عليهم السلام) فهي شكل من إشكال الرواية التي لم يذكر سندها وهي وإن لم تكن معتبرة إلا أنها توحي بوجود رواية.

الثالث: دعوى الإجماع والأصل فيه ما ذكره السيد المرتضى (قدس سره)

ص: 170


1- في المهذب: 24/132. خرج الحديث في مستدرك الوسائل، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب11، ح8.

وقد نقلناه.

وفيه:

((أن الإجماع إنما يكون حجة فيما إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم وحيث أن هذا ليس من ذلك القبيل نظراً إلى أن السيد (قدس سره) كثيراً ما يدعي الإجماع وهو غير ثابت بلا قائل بما ادعى الإجماع عليه غيره فلا تفيد دعواه هذه الظن فضلاً عن العلم برأي المعصوم (عليه السلام) ومن ثم فلا يكون حجة، ومما يؤيد ذلك انه (قدس سره) ذكر بعد دعواه الإجماع، انه قد ورد من طرق الشيعة في حظر ما ذكرناه أخبار معروفة، والحال انه لا أثر لذلك بالمرة حيث لم ترد ولا رواية ضعيفة تدل على مدعاه.

فمع ذلك كيف يمكن قبول دعواه (قدس سره) الإجماع، والظاهر أن ما ذكرناه مبني على ما تخيله من الدليل)).

أقول: وهنا ملاحظتان:

الأولى: ما ذكره (قدس سره) في مناقشة الإجماعات التي يدعيها السيد المرتضى صحيح كبروياً إلا أن السيد ادعى هنا استناده إلى أخبار معروفة فالمناقشة فيها كما أشار إليه السيد الخوئي (قدس سره) في نهاية كلامه.

الثانية: ربما أراد السيد المرتضى من الأخبار المعروفة ما ورد في الفقه الرضوي ولو بالتقريب الذي ذكرناه من سلوك فقهائنا الأقدمين فلا يصح ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) من انه لا أثر لتلك الأخبار.

وقد تحصل من مجموع المناقشات المتقدمة أكثر من وجه للحكم بما التزم به المشهور:

1- أن المناط في الحرمة المؤبدة على من تزوج ذات بعل أو معتدة ودخل بها ولو جهلاً هو الدخول لا العقد -بحسب ما يستفاد من الروايات- وهو متحقق في الزنا.

2- أن بعض صور الحرمة المؤبدة التي ذكرت في مسألة التزويج بذات البعل هي الزنا بعينه كمن عقد عالماً عامداً ولا قائل بالتفصيل بين صور الزنا فنتيجة هاتين المقدمتين حرمة ذات البعل إذا زنى بها حرمة مؤبدة اللهم إلا أن

ص: 171

يقال أن هذه الصورة من الزنا إنما أوجبت الحرمة لان فيه عقداً وهذا العقد له موضوعية في الحكم وعلى أي حال فالعمل هو الالتزام بما قاله المشهور.

3- صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا (عليه السلام) بالتقريبالذي ذكرناه (صفحة 158) فإن المرأة لما كانت زانية لعلمها بأنها ذات بعل ترتب عليها الحكم بالحرمة والتعلم كان لها لا للزوج حتى يقال أن المسألة من صغريات من تزوج ذات بعل ودخل بها ولو جهلاً حرمت عليه مؤبداً.

ص: 172

إلحاق

وألحق صاحب العروة الوثقى فرعاً بالمسألة فقال ((ولو كان الواطئ مكرهاً على الزنا فالظاهر لحوق الحكم وإن كان لا يخلو عن إشكال)) وذكر السيد الخوئي (قدس سره) أن دليل اللحوق هو إطلاق معقد الإجماع، ثم قال(1)

(قدس سره) أن منشأ الإشكال على هذا اللحوق ثلاثة وجوه:

((1- الخدشة في أصل التمسك بالإطلاق في المقام نظراً لكون الإجماع دليلاً لبياً))

وفيه:

أن هذه المناقشة صحيحة لو كان دليلهم منحصراً بهذا وقد ذكرنا أكثر من وجه وهو مستفاد من الروايات فيمكن التمسك بإطلاقه.

((2- أن المحتمل قوياً بل من المطمئن به كون الحرمة الأبدية عقوبة للفاعل وحيث أن المكره لا يستحق العقوبة نظراً لعدم الإرادة والإكراه فلا مجال للعقل بثبوتها في المقام)).

وفيه:

انه اطمئنان بغير محله فان ممن حرمت عليه مؤبداً من دخل جهلاً وهو معذور كالمكره فلا يستحق عقوبة، نعم، أن مثل هذه الأحكام تكون غالباً عقوبة للفاعل ولكن ليس دائماً لان الملاك قد يكون في المجعول وليس في الجعل كالكفارة التي يُفهم منها معنى العقوبة ومع ذلك فإنها تجب على من قتل خطأ ومن ثمراتها تشديد الحذر في هذه الموارد يعني مراعاة المقدمات خشية الوقوع في النتائج ولو خطأ.

((3- أن الإكراه لما كان يقتضي رفع الآثار المترتبة على الفعل المكره عليه -على ما دل عليه حديث الرفع- وكانت الحرمة الأبدية من آثار الفعل المكره عليه، فهي ترتفع بمقتضى حديث الرفع)).

ص: 173


1- مباني العروة الوثقى: 1/285.

وفيه:

أن حديث الرفع لا يشمل الأحكام الوضعية كالحرمة المؤبدة نظير الضمان فانه يثبت حتى مع صدور سببه خطأ أو نسياناً أو إكراهاً أو جهلاً وقد تقدم في النقطة السابقة أن الحرمة المؤبدة تثبت حتى مع الدخول جهلاً والجهل من أفراد حديث الرفع كالإكراه اللهم إلا أن يريد الحرمة التكليفية وهي مشمولة بحديث الرفع إلا أن هذا غير محتمل بقرينة وصفها بالأبدية ولأنها ليست محل البحث.

فان قلت: أن حديث الرفع امتناني ورفع الضمان ليس منّة لتعلق حق الغير به أما رفع الحرمة الأبدية فهو امتنان فلا مانع من شموله لحديث الرفع وهو ليس كالضمان.

قلت: يكفي أن ينقض عليه بثبوت الحرمة في حالة الدخول جهلاً.

ثم قال (قدس سره): ((إذن فلا وجه للقول بثبوت الحرمة الأبدية فيما لو كانالواطئ مكرهاً على الزنا)) وقد ظهر عدم صحة ما قاله (قدس سره) بل إننا قد استفدنا الحرمة المؤبدة مع الإكراه من صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا (عليه السلام) بالتقريب المتقدم (صفحة 158) فتكون دليلاً في المقام.

ص: 174

المسألة الثانية: الزنا بذات العدة

قال في العروة الوثقى والتعليق للسيد الخوئي ((إذا زنى بامرأة في العدة الرجعية حرمت عليه أبداً (لما تقدم من أنها زوجة فيترتب على الزنا بها جميع الأحكام المترتبة على الزنا بذات البعل) دون البائنة وعدة الوفاة وعدة المتعة. (وكل ذلك لعدم شمول معقد الإجماع أو ما ذكر في الفقه الرضوي لها، فتكون مشمولة لأدلة الحل لا محالة، نعم، لصاحب الرياض (قدس سره) كلام في المقام:

حاصله: أن دليل الحرمة في الزنا بذات البعل إذا كان هو الأولوية القطعية لم يكن هناك محيص عن الالتزام بثبوتها في المقام أيضا وذلك لأن مجرد العقد على ذات العدة غير الرجعية مع العلم إذا كان موجباً لثبوت الحرمة الأبدية فثبوتها بالزنا يكون بطريق أولى قطعاً.

وما أفاده (قدس سره) صحيح ومتين في حد نفسه إلا انك قد عرفت منّا المناقشة في أصل المبنى))(1).

أقول: قد تقدم أكثر من وجه بالقول بالحرمة في المقام ومنها:

1- أن النظر في الرواية الواردة في الحرمة المؤبدة على من عقد على ذات عدة -مطلقاً- ودخل بها ولو جهلاً تشعر بان المناط في الحكم هو الدخول وليس التزويج وان الإمام (عليه السلام) علق الحكم عليه ولا يوجد نظر إلى التزويج وان كان السائل قد ذكره وقد مرت روايات الطائفة الثالثة (صفحة 140).

2- أن بعض تلك الروايات سمت العملية زناً وأوجبت حد الزاني إذ لا قيمة للعقد لمن كان عالماً عامداً وهي صحيحة حمران قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة تزوجت في عدتها بجهالة منها بذلك، قال: فقال: لا أرى عليها شيئاً ويفرق بينها وبين الذي تزوج بها ولا تحل له أبدا، قلت: فان كانت قد عرفت أن ذلك محرم عليها ثم تقدمت على ذلك، فقال: أن كانت قد

ص: 175


1- مباني العروة الوثقى: 1/286.

تزوجته في عدة لزوجها الذي طلقها عليها (فيها) الرجعة فاني أرى أن عليها الرجم فان كانت قد تزوجته في عدة ليس لزوجها الذي طلقها عليها فيها الرجعة فاني أرى أن عليها حد الزاني ويفرق بينها وبين الذي تزوجها ولا تحل له أبدا)(1).

ولا قائل بالفصل بين أقسام الزنا اللهم إلا أن يقال أن خصوص هذا الفرد من الزنا خارج لأنه فيه عقد ولهذا العقد موضوعية في الحكم.

ولكن لما كانت هذه التقريبات غير كافية لوحدها للخروج من أصالة الحل ولا إجماع أو شهرة في المسألة فيكون الحكم بالحرمة هو الأحوط الأولى.25 رجب 1425

ص: 176


1- الوسائل: مج14، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب17، ح17

البحث الرابع: من لاط بغلام فأوقب حرمت عليه أمه وبنته وأخته

اشارة

ص: 177

ص: 178

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الرابع: من لاط بغلام فأوقب حرمت عليه أمه وبنته وأخته

إن كثيراً من أبناء المجتمع بسبب غفلتهم عن تعاليم الشريعة فإنهم لا يراعون آداب الفصل في الفراش عند النوم فينامون سوية وتحصل بين الذكور حالات من اللواط -والعياذ بالله- وهم أقرباء أو أصدقاء وبعد مدة قد يتزوج اللائط أخت الملوط به ثم يلتفت إلى أنها من المحرمات الأبدية عليه بسبب ذلك الفعل الشنيع.

فما مدى هذه الحرمة وتفاصيل أحكامها وهل يختلف الحكم فيما لو وقع الفعل قبل العقد أو بعد العقد؟

قال في العروة الوثقى ((من لاط بغلام فأوقب ولو بعض الحشفة حرمت عليه أمه أبداً وإن علت وبنته وإن نزلت وأخته من غير فرق بين كونهما كبيرين أو صغيرين أو مختلفين، ولا تحرم على الموطوء أم الواطئ وبنته على الأقوى، وهو محرِّم إذا كان سابقاً، والأحوط حرمة المذكورات على الواطئ وإن كان ذلك بعد التزويج خصوصاً إذا طلقها وأراد تزويجها جديداً، والأم الرضاعية كالنسبية وكذلك الأخت والبنت، والظاهر عدم الفرق في الوطء بين إن يكون عن علم وعمد واختيار أو مع الاشتباه كما إذا تخيَّله امرأته أو كان مكرهاً أو كان المباشر للفعل هو المفعول، ولو كان الموطوء ميتاً ففي التحريم إشكال، ولو شك في تحقيق الإيقاب وعدمه بني على العدم، ولا تحرم من جهة هذا العمل الشنيع غير الثلاثة المذكورة فلا بأس بنكاح ولد الواطئ ابنة الموطوء أو أخته أو أمه وإن كان الأولى الترك في ابنته)).

فهنا عدة مطالب:

المطلب الأول: أصل الحكم، وهو أن من لاط بغلام فأوقب حرمت عليه بعض قريبات الموطوء في الجملة وقد استدل عليه بدليلين:

ص: 179

الأول: الاجماع: قال في الجواهر ((بلا خلاف اجده بل عن الانتصار والخلاف وغيرهما الاجماع عليه، بل هو في أعلى درجات الاستفاضة والتواتر، وهو الحجة بعد المعتبرة))(1)

ونفى صاحب الحدائق وجود خلاف في أصل الحكم(2)

وهو إجماع مدركي لذلك قال في المسالك ((هذا الحكم متفق عليه بين الأصحاب على ما يظهر منهم ومستنده الروايات))(3).

وسيأتي (صفحة 186) ضمن الحديث عن مراسيل ابن أبي عمير تحليل هذا الإجماع وتقييم حجيته بإذن الله تعالى.

الثاني: الروايات، وهي عديدة:الأولى: معتبرة إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل لعب بغلام هل يحلّ له أمه؟ قال: إن كان ثقب فلا)(4).

وقد نوقش في سند الرواية من عدة جهات:

1- إن إبراهيم بن عمر قد وصفه ابن الغضائري بأنه ((ضعيف جداً))(5)

ويردّه أن الكتاب الموجود لم تثبت نسبته إلى الغضائري الأب (الحسين بن عبيد الله شيخ الطوسي والنجاشي الذي لم يعرف له كتاب في الرجال) ولا لابنه (أحمد الذي ينسب له) نعم ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مقدمة فهرسته فقال ((أبو الحسين أحمد بن الحسين بن عبيد الله، فإنه عمل كتابين، أحدهما ذكر فيه المصنفات، والآخر ذكر فيه الأصول، واستوفاهما على مبلغ ما وجده وقدر عليه، غير أن هذين الكتابين لم ينسخهما أحد من أصحابنا، وأخترم هو- رحمه الله- وعمد بعض الورثة إلى إهلاك الكتابين وغيرهما من الكتب، على ما حكى بعضهم عنه))(6)،

ورجّ-ح البعض أن له كتاباً ثالثاً في

ص: 180


1- جواهر الكلام: ج29، ص447
2- الحدائق الناضرة: 23/596.
3- مسالك الأفهام: 7/343.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب15، ح7.
5- معجم رجال الحديث: 1/126.
6- قواعد الحديث، السيد محيي الدين الغريفي: 1/198.

(الضعفاء) وهو الذي ذكره السيد ابن طاووس واعتمد عليه العلامة في تضعيف البعض مما عُدّ دليلاً على اعتبار الكتاب لكن السيد ابن طاووس الذي يرجع إليه إظهار الكتاب تبرأ من نسبته ونفى وجود طريق إليه ووهّن تضعيفاته وان العلامة أيضاً خالف تضعيفاته ومنها في ترجمة إبراهيم بن عمر الصنعاني الذي نحن بصدده ((حيث قبل روايته وذكره في القسم الأول من خلاصته))(1).

وخلاصة رد الإشكال أنه لم يثبت لأحمد بن الحسين كتاب في الرجال لعدم خفاء ذلك على زميليه في الدرس الطوسي والنجاشي عند أبيه ولو ثبت فإنه تلف مع باقي كتبه والموجود منسوب إليه والمرجح أنه من دسائس أعداء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لتضييع تراثهم الثرّ، والتفاصيل في محلها.

والصحيح وثاقة إبراهيم بن عمر الصنعاني فقد وثقه النجاشي وقال عنه: ((شيخ من أصحابنا ثقة))(2).

وللسيد صاحب الرياض وجه آخر في قبول هذه الرواية من إبراهيم بن عمر حيث قال ((انه روى هنا حمّاد بن عيسى وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه))(3)

وهو ما سنناقشه بإذن الله تعالى في الملحق الرجالي.2- يوجد في نسخة أخرى (إبراهيم بن عثمان)(4)

وهذا لا يضر لأنه أبو أيوب الخزاز وهو ثقة.

3- إن الشيخ نقل الرواية بطريقه إلى ابن فضال وهو ضعيف بعلي بن محمد بن الزبير، بناءً على من يقول بذلك. وجوابه بوجهين:

أ- إن الشيخ تلقّى كتب ابن فضال من شيخه ابن عبدون عن ابن الزبير(5)

عن ابن فضال وكذا تلقاها النجاشي عن ابن عبدون شيخه ويأتي عليه نفس الإشكال إلا أن النجاشي له طريق آخر إلى كتب ابن فضال عن محمد بن جعفر

ص: 181


1- المصدر: 203.
2- معجم رجال الحديث: 1/126.
3- رياض المسائل: 11/237.
4- كما في التهذيب وأشار اليها في هامش الوسائل.
5- معجم رجال الحديث : 11/353.

عن أحمد بن محمد بن سعيد عن ابن فضال وهو طريق صحيح فتصحّ رواية النجاشي كتب ابن فضال ومن المستبعد أن تكون رواية ابن عبدون للشيخ غير رواية النجاشي فتصحّ رواية الشيخ كتب ابن فضال(1).

ب- إن إبراهيم بن عمر له كتاب يرويه عنه حمّاد بن عيسى وغيره وطريق الشيخ الذي يروي عنه الكتاب صحيح.

الثانية: خبر حمّاد بن عثمان قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل أتى غلاماً أتحلُّ له أخته؟ قال: فقال: إن كان ثقب فلا)(2)

وقد وصفها السيد الخوئي (قدس سره) بالمعتبرة(3)

بناءً على ما أختاره من توثيق رجال كامل الزيارات وقد ورد ذكر المعلّى بن محمد في أسانيده لذا حاول توجيه قول النجاشي في المعلى أنه ((مضطرب الحديث والمذهب)) بأنه ليس مانعاً عن وثاقته بتقريب ذكره(4)،

لكن الكبرى غير تامة ولم يرد في المعلى توثيق صريح وإنما ذكرت تقريبات لقبول روايته(5)

لذا ذكره عددمن أرباب الرجال في قسم

ص: 182


1- ذكر هذا الوجه السيد الخوئي (قدس سره) في مباني العروة الوثقى: 32/236.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 15، ح4.
3- مباني العروة الوثقى: 32/235.
4- معجم رجال الحديث: 18/295.
5- منها : 1- رواية الصدوق عنه في (عيون أخبار الرضا) في موردين، فبقرينة عنوان الكتاب وان الصدوق حينما كان يروي فيه عن ضعيف فإنه كان يذكر مبرر النقل عنه كمحمد بن عبد الله المسمعي. 2- إن الحسن بن علي هو الوشّاء، وللصدوق إليه طريق صحيح. 3- إن الكليني روى عنه في (628) موضعاً وهو كاشف عن قبول روايته. 4- إن المعلى ليس رجلاً مجهولاً وذكره النجاشي ولم يذكر له تضعيفاً وهو يذكر حتى التضعيفات الضعيفة على نحو (قيل). 5- أنه سلم من تضعيف ابن الغضائري على قسوته في التجريح، اما وصف النجاشي له بأنه مضطرب الحديث والمذهب فإنها مبنية على اجتهادات دقّية ولم يصمد كثير منها لدى التحقيق.

الضعفاء كالعلامة وابن داود(1)، نعم قال النجاشي ((وكتُبه قريبة)) حيث إن له عدة كتب أي أن أكثر مضامينها صحيحة يجوز العمل بها لذا تصلح أن تكون شاهداً ومؤيداً وهو مما قاله فيه ابن الغضائري ((ويجوز أن يخرج شاهداً))(2).

الثالثة: مرسلة الصدوق في (عقاب الأعمال) والبرقي في (المحاسن) قال: (روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل لعب بغلام قال: إذا أوقب لم تحل له أخته أبداً)(3).

وتوجد في الباب ثلاثة مراسيل لابن أبي عمير نذكرها مع المحافظة على التسلسل.

الرابعة: ما رواه الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل يعبث بالغلام قال: إذا أوقب حرمت عليه ابنته وأخته)(4).

الخامسة: بنفس الإسناد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل يأتي أخا امرأته فقال: إذا أوقبه فقد حرمت عليه المرأة)(5).

السادسة: عن ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يعبث بالغلام قال: إذا أوقب حرمت عليه أخته وابنته)(6).

قد ناقش السيد الخوئي (قدس سره) في سند هذه الروايات من جهة الإرسال(7) ومنع من الاعتماد عليها لعدم إيمانه بصحة الكبرى المشهورة لدى الأعاظم (قدس سره) وهي أن مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده لا تناقش من هذه الجهة -أي جهة الإرسال- لذا اقتضت الإشارة.

ص: 183


1- الضعفاء من رجال الحديث، حسين الساعدي، 3/307.
2- الضعفاء من رجال الحديث، حسين الساعدي، 3/307.
3- وسائل الشيعة، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الباب 15، ح5.
4- وسائل الشيعة، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 15، ح1.
5- وسائل الشيعة، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 15، ح2.
6- وسائل الشيعة، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 15، ح6.
7- مباني العروة الوثقى: 32/235.

والأصل في هذه الدعوى ما قاله النجاشي: ((انه حبسه المأمون حتى ولاه قضاء بعض البلاد وقيل إن أخته دفنت كتبه فهلكت الكتب وقيل بل تركها في غرفةفسال عليها المطر فهلكت فحدث من حفظه ومما كان سلف له في أيدي الناس فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله))(1).

وقال الكشي عنه أنه أخذه المأمون وحبسه بعد شهادة الرضا (عليه السلام) وذهبت كتب ابن أبي عمير فلم يخلص كتب أحاديثه فكان يحفظ أربعين مجلداً فسماه نوادر فلذلك توجد أحاديث منقطعة الأسانيد(2).

وقال الشيخ في العدة في أواخر بحثه عن خبر الواحد ((وإذا كان احد الراوِيَين مسنداً والآخر مرسلاً نظر في حال المرسل فان كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى واحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به وبين ما اسنده غيرهم))(3)

وقال الشهيد في المسالك إن الأصحاب قبلوا مراسيل ابن أبي عمير(4).

وقد أبطل هذه الدعوى السيد الخوئي بوجوه سنفرد لها ملحقاً بإذن الله تعالى لئلا يخرج البحث عن الحدود المتعارفة.

ولكني اذكر هنا وجوها لقبول مراسيل ابن أبي عمير ، ويمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الأولى: ما هو عام لكل مراسيله، وهي :

1- إن شيوخ ابن عمير الذين روى عنهم يتجاوز عددهم (80)(5)

وقد عد

ص: 184


1- معجم رجال الحديث: 14/296.
2- معجم رجال الحديث: 14/298.
3- المدخل إلى معجم رجال الحديث: 75.
4- مسالك الافهام: 7/343.
5- راجع أسماءهم في المعجم : 14/303-304

الضعفاء منهم فلم يتجاوز عددهم الخمسة(1)

فنسبة كون المرسل عنه ضعيفاً هي نسبة وهو احتمال ضعيف لا يعتد به ومن هنا تعرف الرد على كلام المحقق في المعتبر.

((ولو قال قائل: ان مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب منعنا ذلك لان في رجاله من طعن الأصحاب فيه فإذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم))(2).

فان هذا الاحتمال ضعيف كما تقدم هذا غير ما سيأتي من الردود بإذن الله تعالى .

فإن قلت: إن العلم الإجمالي بوجود الضعفاء في من روى عنهم كاف لتنجز وجوب الاجتناب عن مراسيله.

قلت:-أ- إن هذا العلم غير منجز لان النسبة المذكورة ستجعل الشبهة غير محصورة.

ب- إن هذا العلم منحل بطرح بعض روايات ابن أبي عمير التي ذكر فيها اسم الراوي وكان ضعيفاً أو أنها معارضة بما هو أكثر اطمئناناً كرواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ذكرها الشيخ في كتابي التهذيب والاستبصار ثم قال في كلا الكتابين ((فأول ما فيه أنه مرسل وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة))(3).

2- إن ابن أبي عمير قد صرح باسم الراوي إن كان ضعيفاً ولذلك استطعنا معرفة الضعفاء فيمن روى عنهم وهذا يشعر بان من سواهم هم من الثقات ولو راجعت أسماء شيوخه لوجدت أكثرهم من عظماء الرواة وفقهائهم ولا اقل من أنَّ هذا الإشعار يقلل من احتمال كون الراوي ضعيفاً فلا يعمل به .

3- إن المحذور في الإرسال إنما يقع لو كان المرسل عنه مجهولاً أما رواة

ص: 185


1- المدخل إلى معجم رجال الحديث: 78-79.
2- قواعد الحديث للغريفي: 75 نقلها عن مقباس الهداية: 49.
3- المدخل إلى معجم رجال الحديث: 76 عن التهذيب في باب العتق وأحكامه والاستبصار : باب ولاء السائبة.

ابن أبي عمير فهم معلومون عنده إلا أنه أخفى أسماءهم تقية فهو دليل على كونهم ممن يخاف (عليهم) لا (منهم) لذا فقد صرح بالأسماء التي لا يخاف عليها كالضعاف المعدودين .

الثانية: ما يخص المراسيل في المقام هي:-

1- أنه عبر في أكثر من رواية عمن روى عنه بأنه (من أصحابنا) وهو ظاهر في التوثيق خصوصاً إذا صدرت الكلمة من مثل ابن أبي عمير في جلالة قدره وتثبته وحكمته بينما يعبر في غيرها (عن رجل) ولا بد أن أختلاف التعبير إنما هو لخصوصية .

2- إن لابن أبي عمير ثلاث مراسيل تقدم ذكرها. ويكفي صحة إحداها لإثبات المطلوب وهو أصل الحكم فالروايات الثلاث تدل عليه فإذا كان احتمال الضعف في كل واحدة كما قدمنا .

واحتمال الاعتبار فإن وجود مرسلة واحدة يعطي احتمالاً للاعتماد

عليها مقداره ×100 =

93.75 % وإذا انضمت إليها ثانية أضيف إليه

احتمال مقداره × (1- ) = 0.0586 ومجموعهما 99.61 % وإذا انضمت

إليها ثالثة أضيف إليه

احتمال مقداره (1- 0.9961)× 100= 0.37% فالمجموع 99.98 % وهو احتمال كبير لا يعتد بخلافه ويحصل منه ومن القرائن المتقدمة اطمئنان بالصدور وهو الحجة(1).3- انجبارها بالشهرة عند من يقول بهذه الكبرى.

4- إن المرسلة الأولى بالذات قد تلقاها الأصحاب وصححوها فهي (مقبولة) وان لم تثبت الكبرى. وقد استدلوا بها على إضافة البنت للمحرمات

ص: 186


1- قلنا في كتاب الرياضيات للفقيه/ ص324 من طبعة بيروت ما ملخصه: إن درجة الاحتمال مهما تصاعدت حتى لو بلغت 100% فإنها لا تكون حجة حتى يحصل منها ولو بضميمة غيرها الاطمئنان الذي يعني سكون النفس إلى الشيء أما قوة الاحتمال فهي حالة عقلية.

كما سيأتي إن شاء الله تعالى واستند إليها الإجماع في الحكم بحرمة البنت وحينئذٍ يُقَرَّب الاستدلال بعدة وجوه:

أ- إطباق الأصحاب بمن فيهم القدماء على قبولها واستنادهم اليها مما يحصّل الاطمئنان بصدورها عن المعصوم (عليه السلام) وهذا الإجماع كاشف عن نص المعصوم وليس فقط عن رأيه الذي جعلوه مناط حجية الإجماع.

وإذا منع الأصوليون من حجية مثل هذا الإجماع باعتباره مدركياً فإنه لا تبقى للإجماع حجية لعدم إمكان تحصيل مناط الإجماع الذي ذكروه لاحتمال استناده إلى مثل هذه النصوص أو التي لم تصل كما تقدم في الحديث عن الفقه الرضوي فأنّى لهم إثبات كونه كاشفاً عن رأي المعصوم؟

فلا بد من تحليل الإجماع المدركي وفهم وجوهه وتمييز الحجة من غيره.

ب- أو يقال ان وصف الإجماع بأنه مدركي من خلال وجود نص استند إليه المجمعون لا بد أن يلحظ فيه كون قوة الإجماع بقوة المدرك ولا تطلق دعوى المدركية جزافاً وفي المقام يبلغ الإجماع ذروته حتى أنه لا يوجد مخالف كما نقلنا والمدرك المدعى عبارة عن مرسلة لم تثبت حجيتها فإما ان تكون المرسلة مطمأنة الصدور عن المعصوم (عليه السلام) وهو الوجه الأول أو ان الحصة الزائدة من الإجماع هي من الإجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) وهو الوجه الثاني.

وهذه الكبرى الأخيرة مما كان يأخذ بها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وفي بالي أنه أخذها من استاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره).

والنتيجة امكان الاستناد إلى هذه المراسيل.

وقد توفرت لدينا في نهاية المطلب عدة روايات للاستدلال على أصل الحكم.

المطلب الثاني: ما هي العناوين المحرمة من اقرباء الموطوء بعد ضم الروايات التي اعتبرناها إلى بعضها يتحصّل لدينا ان العناوين المحرمة من قريبات الموطوء هي الأم والبنت والأخت دون غيرها.

ص: 187

إذ لم ترد هذه العناوين في رواية واحدة.

أما السيد الخوئي (قدس سره) الذي لم يعتمد على مراسيل ابن أبي عمير واستند إلى المعتبرتين عنده (رواية إبراهيم بن عمر ورواية حمّاد بن عثمان) وهما لم تتضمنا عنوان البنت، لذا فإنه استدل على إلحاق البنت بدليلين(1):

1- الأولوية القطعية، حيث أنها أقرب نسباً من الأخت، وهو كما ترى فانه من غير المعلوم ان المناط في الحكم هو القرب النسبي وإنما هو التعبد بالدليل.

2- عدم القول بالفصل وهو (قدس سره) لا يريد بهذا التعبير الإجماع المركب وهو مقتضى تعبيرهم في غير المقام لعدم وجود مخالف في الحكم بالحرمة وإنما يريدبقوله هذا عدم وجود مفصل بين العناوين الثلاثة فكل من قال بالحرمة عممها لها جميعاً، لكن هذا الإجماع معلوم الاستناد إلى مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (في رجل يعبث بالغلام قال إذا أوقب حرمت عليه ابنته وأخته)(2).

وقد صرّح الشهيد الثاني (قدس سره) باستناد المجمعين إلى هذه الرواية بعد ان صححوها في حين إن السيد الخوئي (قدس سره) لم يصححها فكيف يتابعهم في الإلحاق؟ ولما لم يصحّحها جعلها مؤيداً للدليلين المذكورين.

وبما أنَّ الدليل منحصر بها فيحصل عدم انسجام بين إنكار حجيتها مع القول بالتعميم كما التزم السيد الخوئي (قدس سره) لعدم تمامية ما أضاف من أدلة إلا أن يتمسك بالإجماع على الوجه الثاني الذي ذكرناه وهو غير موجود في أبحاثه الأصولية.

وهنا وقع الخلاف في شمول عنوان البنت لها وإن نزلت وكذا الأم وإن علتْ واتفقوا على أختصاص الأخت بعنوانها فلا يشمل أخت الأخت أو بنت الأخت.

ص: 188


1- مباني العروة الوثقى: 32/236.
2- وسائل الشيعة، ابواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 15، ح1.

قال الشهيد الثاني في المسالك ((ويتعدى الحكم إلى الأم وإن علت، والبنت وإن سفلت، أما من حيث شمولها لذلك حقيقةً، أو للاتفاق عليه كالأصل، وإلا فللكلام في التعدي مجال، لما عرفت من أنهما حقيقتان في المتصلتين دون المنفصلتين بالوسائط، أما الأخت فلا يتعدى إلى بنتها اتفاقاً، لأن اسم الأخت لا يقع على بنتها مطلقاً))(1).

فيتضمن كلامه (قدس سره) في التعميم دليلين:

1- شمول لفظ الأم لها وإن علت ولفظ البنت لها وإن نزلت حقيقة، ويردّه صحة السلب وعدم صحة الحمل إذ تسمى أم الأم جدّة وبنت الابن حفيدة وهذا واضح في الميراث فالأم المباشرة من الطبقة الأولى وأم الأم من الطبقة الثانية والمتبادر من لفظ البنت هي المباشرة والتبادر علامة الحقيقة. وهو ما اعترف به الشهيد الثاني (قدس سره) في ذيل كلامه المنقول. ولم تثبت الحقيقة الشرعية صغروياً على الأقل(2)

ومنه يُعرف النقاش في كلام صاحب الحدائق حين قال: ((لا يخفى أن المستفاد من الآيات والروايات الواردة في الميراث والنكاح هو العموم والشمول في الأمهات والبنات، والآباء والأولاد لمن ارتفع من الآباء والأمهات، ومن نزل من الأولاد والبنات، فلو ادعى كون ذلك حقيقة شرعية- لاستعمال الشارع لهما في هذا المعنى- لم يكنبعيداً))(3)

لأن الحقيقة الشرعية نحو من أنحاء الظهور الذي ينعقد من كلام الشارع المقدس بسبب بعض

ص: 189


1- مسالك الافهام: 7/343.
2- أما كبروياً فمختارنا أن الشارع المقدّس قد أسس معانٍ خاصة به إزاء بعض الألفاظ لكن لا على أساس الوضع بل على نحو الظهور بموجب قرائن حافّة بالاستعمال وقد يكون لنفس اللفظ ظهور في باب معين مغاير لظهور نفس اللفظ في باب آخر من أبواب الفقه بحسب القرائن فالمسألة تندرج في باب الظهورات ومراد المتكلم لا في باب الوضع المستفاد من اللفظ ويجب تصحيح وضع المسألة في أبحاث علم الأصول وهي من المدلول التصديقي لا التصوري وتجري فيها قواعد الاستظهار لا علامات الوضع وقواعده.
3- الحدائق الناضرة: 23/598.

القرائن ولا وجود له هنا في المقام.

2- الاتفاق على التعميم كأصل الحكم وفيه:

أ- أنه غير متحقق فقد تنظر صاحب كشف اللثام(1).

ب- أنه غير ملزم لاحتمال استناده إلى فهمه من اللفظ وقد قلنا بعدم صحته أو لأنهم أرادوا تأكيد التزامهم بما قالوه في كتاب الخمس وغيره من ان الحسن والحسين (عليهما السلام) ابنان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاضوا فيه جدلاً عقائدياً مع مخالفيهم والمسألتان مختلفتان. فلا دليل إذن على التعميم ويمكن التمسك بأصالة الحل.

المطلب الثالث: في معنى الثقب والإيقاب المحرمين وهل يكفي في تحققه دخول بعض الحشفة.

قال صاحب الجواهر : ((والمراد به -أي الإيقاب- إدخال بعض الحشفة لأنه لغة إدخال القضيب فيصدق بمسماه) وقال في المسالك: (ويتحقق الإيقاب بإدخال بعض الحشفة وان لم يوجب الغسل لأن أصله الإدخال وهو متحقق بذلك))(2).

واستشكل السيد الخوئي على ذلك فقال: ((فإن النصوص المعتبرة الواردة في المقام إنما تضمنت عنوان الثقب وهو لا يتحقق بإدخال تمام الحشفة خاصة فضلاً عن إدخال بعضها وذلك لأن الثقب إنما هو عبارة عن إيجاد الفرجة في الشيء فلا يصدق إلا بإدخال تمام الذكر أو ما يقاربه.

نعم، لما كان إدخال تمام الحشفة موجباً لثبوت الحرمة قطعاً لم يكن لنا محيص عن الالتزام بها وأما إيجاب إدخال بعضها للحرمة فمشكل جداً ولا سيما أن مقتضى عمومات الحل هو الجواز.

نعم، لو كان المستند في المقام هو مراسيل ابن أبي عمير وغيرها مما لا مجال للاعتماد عليها سنداً كان الالتزام بكفاية إدخال بعض الحشفة في ثبوت الحرمة في محله إذ أنها تتضمن ترتيب الحرمة على الإيقاب وهو صادق على إدخال

ص: 190


1- كشف اللثام: 7/188.
2- مسالك الافهام: 7/343.

بعضها))(1).

فهو (قدس سره) يوافق من تقدمه بكفاية دخول بعض الحشفة في تحقق معنى الإيقاب المحرم وإنما أختلف معهم في اعتبار روايات الإيقاب وقد تقدمت وجوه عديدة لقبولها وان كانت مراسيل. وبهذا المقدار يتحقق الإدخال الموجب للغسل بل إن الاكتفاء في الغسل بدخول بعضها أولى لأن الألفاظ الواردة فيه تتحقق بأقل مما يتحقق فيه عنوان الثقب والإيقاب كقوله (عليه السلام) (إذا التقى الختانان) وإنما لم يجب إلابغيبوبة الحشفة للنص(2)

فهذا تفسير (حكمي) لالتقاء الختانين لا حقيقي ومن حق الشارع إضافة ما يريد من القيود على الموضوع ليوجب الحكم.

ولدى مراجعة قواميس(3)

اللغة وجدنا أن ((الثقب: الخرق النافذ وهو مقابل الشق)) فإذا كان هو ما يقابل الشق فدخول بعض الحشفة كاف أما وقب فبمعنى دخل(4) في الوقب الذي هو كالنقرة في الشيء وقد فسر الوقب بالغيبة، فيقال: وقبت الشمس أي غابت ولعله تعريف باللازم فإن الأصل فيها أي دخلت الشمس في موضعها ولازمها غيبوبتها وفي ضوء هذا فإن حكم الإيقاب يتحقق ببعض الحشفة.

المطلب الرابع: هل يختص الحكم بما إذا كان الواطئ كبيراً والموطوء صغيراً؟

لم يفرق صاحب العروة بين كونهما صغيرين أو كبيرين أو مختلفين أما السيد الخوئي (قدس سره) فقال: ((الظاهر أختصاص الحكم بما إذا كان

ص: 191


1- مباني العروة الوثقى: 32/235.
2- ففي صحيحة ابن بزيع قال (سألت الرضا عليه السلام عن الرجل يجامع المرأة قريباً من الفرج فلا ينزلان متى يجب الغسل؟ فقال: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقلت: التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال: نعم) (وسائل الشيعة، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب6، ح2).
3- تاج العروس في جواهر القاموس2/96، مادة ثقب.
4- تاج العروس : 4/355، المفردات للراغب.

الواطئ كبيراً والموطوء صغيراً وذلك لاخذ عنوان الرجل في الواطئ وعنوان الغلام في الموطوء في الروايات الواردة في المقام ولا سيما المعتبرتين اللتين كانتا هما العمدة في القول بالحرمة وحيث ان من الواضح ان عنوان الرجل لا يصدق على غير البالغ كما ان عنوان الغلام غير صادق على من بلغ من العمر الثلاثين سنة أو ما قاربها فلا مجال للقول بثبوتها عند وطىء غير البالغ للبالغ بل في مطلق فرض كون الواطئ غير رجل أو الموطوء غير غلام))(1).

وكما يبدو من كلامه (قدس سره) فإن المدعى غير الدليل، لأن الروايات التي استدل بها واستدللنا بها (عدا واحدة من مراسيل ابن أبي عمير يأتي الحديث عنها) أطبقت على وصف الواطئ بالرجل والموطوء بالغلام وهما عنوانان غير الكبير والصغير حيث يراد بالكبير فقهياً من بلغ سنّ التكليف والصغير من هو دونه فالرجل حصة من الكبير لأن الرجولة مرحلة ما بعد الغُلمة، والغلام هو (الطارُّ الشارب، ولما كان من بلغ هذا الحد كثيراً ما يغلب عليه الشبق قيل للشبق غلمة، واغتلم الفحل)(2)

فهي تمثل آخر مرحلة من مراحل الصغير عندما يقارب البلوغ وتستمر إلى أن يتجاوزه بقليل أي ما نسميه اليوم بفترة المراهقة، هذا بحسب ما يفهمه العرف أما المستفاد من الآية الشريفة (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) (الكهف:82) وبضميمة الحديث الشريف (لا يُتمَ بعد احتلام) ان الغلام ما كان دون ذلك، ولكن الآية لا مفهوم لها فلاتنافي فهم العرف، وعلى أي حال فإن هذه الفترة تشهد ثوران الشهوة وهيجانها وتجاوزها الحد لذا ورد وصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للخارجين عليه بالمغتلمين أي المتجاوزين لحدود تكليفهم مع إمامهم.

فالرجل لا يشمل كل كبير والغلام لا يشمل كل صغير، لأنه يشمل حصة من عنوان الكبير وهم من كانوا أوائل البلوغ ولا بد من الالتزام بمقدار ما دلت عليه النصوص والرجوع في غيره إلى أصالة الحل.

وفي ضوء هذا فالمثال الذي أختاره السيد الخوئي (قدس سره) وهو عمر

ص: 192


1- مباني العروة الوثقى: 32/236.
2- المفردات للراغب.

ثلاثين سنة للكبير لينقض به على عدم شمول الغلام له غير كافٍ إذ قد يردّ بأختيار عمر 15 سنة فإنه كبير شرعاً لكنه ليس رجلاً بل هو غلام.

لا يقال: إن عنوان (الرجل) و (الغلام) وردا في كلام السائل لا الإمام (عليه السلام) حتى يصلحا لتقييد الحكم بهما على نحو ينفي شمول الحكم لغيرهما. بل يمكن القول بعدم مدخلية عنوان (الرجل) في الحكم إلى جنب الإيقاب لذا لم يذكره الإمام (عليه السلام) في سياق تعليل الحكم وإنما ذكر الإيقاب فقط فهو علة الحكم ويدور الحكم مدارها ويعم كل الحالات.

فإنه يقال: ان هذا الإشكال يؤدي إلى نفس النتيجة لأن ما سواهما يبقى بلا دليل على دخوله في الحكم فتجري فيه أصالة الحل.

أما استفادة التعميم من عدم ذكر الإمام (عليه السلام) في جوابه عنوان الرجل والاكتفاء بالإيقاب فمردود لأكثر من وجه:

أ- عدم الدليل على هذا الاستنباط إذ يمكن أن يستفاد عكس ذلك بأن يقال ان التحريم في المقام من الآثار الشرعية الاعتبارية ويستشم منها رائحة العقوبة فيستشعر أختصاصها بالمكلف البالغ وليست كحرمة الرضاعة مثلاً التي هي من الآثار التكوينية لذا عممت آثارها ومن المنبهات إلى هذا التفريق أن حصول الإيقاب بعد العقد لا يحرم- وسيأتي بحثه- بينما حصول الرضاع بعد العقد يحرم.

ب- إن الإمام (عليه السلام) إنما ذكر ما لم يذكره السائل فعدم ذكره اكتفاء بمفروض السؤال.

وقد استدل للقول بالتعميم من جهة الواطئ بعدة أدلة منها ما عن المحقق والشهيد الثانيين وغيرهما حيث نقل عنهم صاحب الجواهر والسيد الحكيم (قدس سره) فقال: ((فالأقوى عندهم عدم الفرق لعدم الفرق في حكم المصاهرة بين البالغ وغيره، ولصدق عنوان الرجل عليه بعد البلوغ، فيقال (أنه رجل أوقب) وإن كان إيقابه سابقاً، ولأن التحريم في النص خارج مخرج الغالب))(1) وكلها قابلة للمناقشة.

ص: 193


1- مستمسك العروة الوثقى: 14/161.

أما الأول وهو عدم الفرق في حكم المصاهرة بين البالغ وغيره فهو مستند إلى كبرى صحيحة وهي شمول الأحكام الوضعية للبالغ وغيره وهو ما قاله الشهيد الثاني (قدس سره) ((جعلاً للفعل من باب الأسباب التي لا تشترط بالتكليف))(1)

لكن هذا متوقف على إفادة الدليل للعموم والإطلاق وليس هو كذلك في مسألتنا لما قدمناه، فماذكره هؤلاء الأعاظم ينفع في رفع المانع عن الشمول لا إثبات المقتضي المستفاد من دليل المسألة وهو غير متحقق.

وأما الثاني وهو صدق عنوان الرجل عليه بعد البلوغ فخلاف الظاهر الذي مفاده أنه كان رجلاً حينما أوقب، كما يقال (صائم ارتمس في الماء) أي حال كونه صائماً وكذا كل عنوان أُخذ موضوعاً للحكم.

وأما الثالث فهي دعوى غير ثابتة ويكفي الشك في صحتها لإجراء أصالة الحل.

وأما ما قاله الشهيد الثاني (قدس سره) من عدم اشتراط التكليف في الأحكام الوضعية فهو صحيح لكن أختصاص الحكم بالرجل إنما هو لأجل الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المنصوص وعدم الدليل على الأزيد لا لأن الصغير غير مشمول بالأحكام الوضعية. ولعل صاحب الجواهر كان يعرّض بالشهيد الثاني (قدس سره) حين علل عدم شمول الحكم للواطئ الصغير بقوله ((لا لعدم تكليفه فإن الحكم الوضعي يشمل المكلف وغيره))(2).

واستدل أيضاً بالإطلاق ونقل هذه الدعوى عن قائلها السيد الخوئي (قدس سره) قال: ((إن المراد من الرجل إنما هو مطلق الذكر، وإنما ذكر هذا العنوان في النصوص نظراً لغلبته في جانب الواطئ، وكذا الحال في جانب الغلام))(3)

واستدل به السيد السبزواري (قدس سره) على التعميم بقوله ((للإطلاق الشامل للجميع وذكر الرجل فيما مر من الأخبار إنما هو من باب

ص: 194


1- مسالك الافهام: 7/343.
2- جواهر الكلام: 29/447.
3- مباني العروة الوثقى: 32/237.

الغالب والطريقية))(1).

ويحتمل في فهم هذا الإطلاق وجهان:

أ- ما ذكره أهل اللغة ومنهم الراغب في المفردات مادة (رجل) أنه: ((مختص بالذكر من الناس)) ففهموا منه مطلق الذكر من الناس.

وفيه: إن هذا الكلام لا إطلاق له لأنه بصدد تمييز ذكر الإنسان عن غيره من الحيوانات فليس الذكر من كل حيوان يسمى رجلاً بل ذكر الإنسان خاصة وهو مجمل من ناحية المرحلة العمرية لعنوان الرجل.

ب- مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة عن الصادق (عليه السلام) (في رجل يأتي أخا امرأته فقال: إذا أوقبه فقد حرمت عليه المرأة) والأخ مطلق.

وفيه: أولاً أنه يجيب عن احد شقي التعميم وهو في جانب المفعول به، وثانياً إن مخالفتها لما أطبقت عليه روايات الباب يحصّل الاطمئنان بعدم خروجها عنها ولذلك لم يخرج أكثر الفقهاء من عموم (لا يفسد الحرام الحلال) بكلمة (يأتي) الواردة فيها والدالة على تحقق الحرمة بالوطء اللاحق على العقد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.وأما التعميم في الموطوء فقد صرّح به البعض كما في القواعد(2)

ونقل الإجماع عليه، قال السيد الحكيم ((قد استظهر من عبارة جامع المقاصد: أنه من معقد إطباق الأصحاب، ومن عبارة الروضة: أنه إجماع)) ثم تنظّر (قدس سره) في دعوى الإجماع معللاً ((لاحتمال رجوع الإجماع في الثاني إلى النسب مقابل الرضاع، ورجوع الإطباق في الأول إلى أصل الحكم)) وهو الظاهر من عبارة القواعد.

واستدل أيضاً له بفهم ورود عنوان الغلام على نحو المثال والمراد مطلق الذكر، وهي دعوى بلا دليل والمعول على النصوص.

واستدل ثالثاً بما قرّبه صاحب الجواهر بأن يقال ((إن اسم الغلام مما يقع

ص: 195


1- مهذب الأحكام: 24/135.
2- كشف اللثام: 7/187.

على حديث العهد بالبلوغ ولا قائل بالفصل بينه وبين من زاد عن ذلك))(1)

ولم يثبت عدم القول بالتفصيل بعد أن شككنا بالإجماع المدعى إضافة إلى ما قلناه بالالتزام بمفاد النصوص التي ذكرت الغلام وقد يستدل رابعاً بمرسلة ابن أبي عمير المتقدمة وقد ناقشناها.

فالمختار أن القدر المتيقن من الحكم بالحرمة فيما لو كان الواطئ رجلاً والموطوء غلاماً فلا دليل على التعميم وتكون فيما سوى ذلك أصالة الحل محكمة إلا احتياطاً.

وجهه أن الرجل والغلام وردا في كلام السائل ولا يعلم مدخليتها في الحكم بل ظاهر التعليل في جواب الإمام (عليه السلام) تعليق الحكم على الإيقاب نفسه وهو يعني الإطلاق فنتمسك بعموم التعليل خصوصاً في جانب الموطوء ويعززه اطلاق الاخ في مرسلة ابن أبي عمير (في رجل يأتي أخا امرأته)(2)

لكنه لا يرقى إلى الاحتياط الوجوبي ويبقى الكلام في تعميم الواطئ إلى الصغير لا دليل عليه إلا التمسك بعموم التعليل الذي ذكرناه آنفاً ويكون استحبابياً.

المطلب الخامس: هل يشمل الحكم قريبات الواطئ؟

والجواب أنه لا تحرم على الموطوء ام الواطئ وبنته وأخته:

1- لأختصاص السؤال- والجواب تبعاً له- بالوطء فإثبات حكمه للموطوء لا دليل عليه ولا يفهم من النص بأي وجه من الوجوه .

2- ولو شككنا فأصالة الحل جارية في المقام .

وهذا واضح إلا أن في الجواهر: ((قيل(3)

أنه حكى الشيخ عن بعض الأصحاب التحريم على الموطوء أيضاً ولعله لاحتمال عودة الضمير في الأخبار لكل من الفاعل والمفعول ولذا كان التجنب أحوط))(4)

ورد عليه بأن ((المحدّث

ص: 196


1- جواهر الكلام: 29/447.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة،باب، 15، ح2.
3- قاله السيد الطباطبائي في رياض المسائل: 11/239.
4- جواهر الكلام: 29/448.

عنه فيها (الرجل)على أن الظاهر عدم جواز مثل ذلك لغة إلا على ضرب من المجاز المقطوع بعدمه هنا)).

وجعله السيد الخوئي (قدس سره) بعيداً جداً(1)

بحيث يكون معناها ((حرمت على كل منهما أم الآخر وأخته)) ولا مجال للمصير إليه بعد ما كان السؤال عن الرجل اللاعب بالغلام(2).

أقول: إننا يجب أن ننصف هذا القائل وان لم نعتقد بصحة قوله فانه ما أراد هذا الذي قاله السيد الخوئي (قدس سره) بل أراد أن مرجع الضمير في جواب الإمام (عليه السلام) مجمل فيكون مورداً لجريان قاعدة الاشتغال ومقتضاها الحكم بالحرمة فيهما معاً نظير ذاك الذي سئل عن أفضل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن يستطيع البوح بالحقيقة فقال : (أفضلهم من كانت بنته عنده) فأجملَ مرادَه في بنت من وعند من؟ وهذا الإجمال وإن لم يكن واضحاً في المقام إلا أنه يصلح منشأً للاحتياط يحسن الالتزام به ما دام العقد ومقدماته لم تحصل بعد وهو مثال آخر على كبرى العلم الإجمالي في الانطباق على المدلول الذي ذكرناه في مسألة سابقة.

المطلب السادس: لو حصل الوطء بعد العقد، فهل تحرم زوجة الواطئ عليه؟

قال في المسالك: ((وإنما تحرم المذكورات مع سبق الفعل على النكاح كالزنا، أما مع تأخره فيستصحب الحل ولا يحرِّمُ الحرام الحلال))(3)

فتضمن كلامه (قدس سره) وكذا غيره ككشف اللثام والحدائق دليلين:

1- الاستصحاب فإن زوجة الموطوء كانت محللة حين العقد ويشك في تحريمها بحصول وطء زوجها أخاها فتستصحب الحلِّية.

2- ما ورد في عدة روايات معتبرة من (أن الحرام لا يفسد الحلال)(4)

ص: 197


1- مباني العروة الوثقى : 1/290.
2- مباني العروة الوثقى: 32/237.
3- مسالك الافهام: 7/343.
4- الوسائل : ابواب ما يحرم بالمصاهرة، باب6، ح6، 10 وراجع ايضاً باب 4، ح4.

فالوطء اللاحق لا يفسد الزوجية السابقة، وتكون هذه حاكمة على اطلاق الروايات التي يستدل بها على الحرمة في المقام.

وعليه فلا حاجة إلى الاستصحاب إلا على وجه تنزلي أي من باب تأسيس الأصل عند عدم الدليل لوجود الدليل الذي هو إما هذه القاعدة لو قلنا بحكومتها على إطلاق الروايات التي استدل بها في المقام على أصل الحكم فيكون الحكم هو الحلية أو إن الدليل هو إطلاق روايات الحرمة في المقام لو لم نقل بحكومة القاعدة وإنما لم نقل لوجود رواية عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا (عن أبي عبد الله (عليه السلام)في رجل يأتي أخا امرأته فقال: إذا أوقبه فقد حرمت عليه المرأة)(1)

وهي واضحة الدلالة أن الإيقاب قد حصل في زمان الزوجية.

لكن الاستناد إلى الرواية فرع الالتزام بقبول مراسيل ابن أبي عمير ونحن وإن قلنا بذلك إلا أننا اشترطنا عدم وجود قرائن توجب عدم الاطمئنان بالحجية والاعتبار وهنا توجد عدة قرائن:-

أ- إعراض الأصحاب عن الأخذ بهذا الحكم رغم قبولهم لمراسيل ابن أبي عمير: لذا قال صاحب الرياض عن المرسل ((لكنه لا يعارض الأصل المتفق عليه، فليحمل بما يؤول إليه)). وقد نقل السيد الحكيم (قدس سره) الاتفاق عليه ونفى في الحدائق الإشكال فيه، نعم نقل في كشف اللثام(2)

عن ابن سعيد في الجامع القول بانفساخ نكاح المرأة بالإيقاب وهو ظاهر جماعة ممن أطلق ((كالمقنعة وصريح النهاية قال: ومن فجر بغلام فأوقب، حرم عليه العقد على أمه وأخته وبنته على جميع الأحوال))(3).

ب- إن الذين قالوا بالحرمة ربما كان منشأ قولهم موافقة الاحتياط لا عملاً بالرواية كصاحب الجواهر الذي قال بعد نقل كلام ابن سعيد المتقدم (وهو أحوط) وهذا لا يعني أنه ممن يقول بالحرمة بل هو يلتزم بالجواز كما يظهر من

ص: 198


1- الوسائل: ابواب ما يحرم بالمصاهرة،باب15,ح2.
2- كشف اللثام: 7/188.
3- رياض المسائل: 11/238.

المطلب التالي.

ج-- يوجد احتمال في النفس ان النقل بالمضمون قد تسبب في تغييرٍ ما في نص كلام المعصوم (عليه السلام) كأن يكون قبل كلمة (يأتي) توجد كلمة (كان) غير مذكورة أو ان الفعل بالزمن الماضي ولم يلتفت الراوي إلى أهمية الفرق وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال واسقط الظهور عن الحجية.

ويمكن أن يُقرَّب عدم الأخذ بمرسلة ابن أبي عمير بأن يقال: أن المناط في تقديم الخاص على العام هو قوة الظهور، ولا قوة للخاص (أعني مرسلة ابن أبي عمير) في المقام ليخرج هذا المورد من العام وهو قاعدة (إن الحرام لا يفسد الحلال) فإن العام أقوى ظهوراً وعملاً وفتوى ورواية.

فقاعدة (إن الحرام لا يفسد الحلال) محكمة والاحتياط الذي ذكر في المتن وإن كان حسناً في نفسه وسبيلاً للنجاة إلا أنه استحبابي ولا يرقى إلى هدم الزوجية التي وصفها الحديث عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)(1)

ووصفها الله تبارك وتعالى بأعظم الأوصاف «وأخَذْنَ منكم ميثاقاً غليظاً» (النساء:21).

ومما يمكن أن يستدل به على عدم ارتفاع الحلية ضم مقدمتين:

الأولى: إن مرسلة ابن أبي عمير لو دلّت على حرمة الزوجة على زوجها فإنها خاصة بأخت المفعول به ولا تشمل أمه وبنته فتبقيان على الحلية.

الثانية: لا قائل بالفصل بين العناوين الثلاثة والإجماع قائم على وحدة الحكمفيها جميعاً فما دامت ثبتت الحلية في اثنتين فتثبت في الثالثة وهي الأخت ويتم التعامل مع مرسلة ابن أبي عمير بأحد الوجوه المتقدمة ولا معنى ل-((صرف ظهور الخاص عن الإلزام إلى الكراهة))(2).

ملاحظة: ورد في كلام الماتن هنا قوله (قدس سره) ((كما مر)) والصحيح (كما سيأتي) حيث ذكر في المسألة الثامنة والعشرين من الفصل التالي ((الزنا

ص: 199


1- وسائل الشيعة: ابواب مقدمات النكاح وآدابه، باب1، ح4.
2- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 63/116.

الطارئ على التزويج لا يوجب الحرمة، فلو تزوج امرأة ثم زنى بأمها لم تحرم عليه امرأته، وكذا لو زنى الأب بامرأة الابن لم تحرم على الابن. وكذا لو زنى الابن بامرأة الأب لا تحرم على أبيه، وكذا الحال في اللواط الطارئ على التزويج، فلو تزوج امرأة ولاط بأخيها أو أبيها أو ابنها لم تحرم عليه امرأته إلا إن الاحتياط فيه لا يترك)).

والسيد الخوئي (قدس سره) لما لم يلتزم بقبول مراسيل ابن أبي عمير فقد حكم بعدم ارتفاع الحلية الفعلية مباشرة ولم يبين لنا وجهاً لعدم الأخذ بإطلاقات روايات الباب الدالة على الحرمة والتي اعترف (قدس سره) بأنها مخصصة لما دل على أن (الحرام لا يحرم الحلال) فظهر كلامه (قدس سره) وكأنه متناقض، قال (قدس سره): ((إن أدلة حرمة المذكورات وإن كانت مخصصة لما دلّ على أن (الحرام لا يحرم الحلال)) فكأن مقتضاه ثبوت الحرمة وارتفاع الحلية الفعلية بمقتضى الإطلاق في مفروض المسألة، إلا أن هذا الإطلاق غير سليم عن المعارض والمقيد، إذ قد دلت المعتبرتان اللتان تقدم ذكرهما(1)

على عدم ارتفاع الحلية الفعلية نتيجةً لهذا الفعل الشنيع، ومن هنا فلا محيص عن تقييد ذلك الإطلاق بهما، والالتزام بعدم ارتفاع الحلية الثابتة بالفعل.

المطلب السابع: بناء على عدم ارتفاع الحلية الفعلية في المطلب السابق فهل ترتفع الحلية الشأنية -كما سماها السيد الخوئي (قدس سره)- بمعنى أن الزوج لو طلقها مثلاً فهل يحل له التزويج بها بعدئذ ام لا؟

قال صاحب الجواهر: ((الأحوط عدم تجديد العقد لو طلق مثلاً بعد الإيقاب بل مال بعض الأفاضل إلى عدم الجواز ولكن يقو ى الجواز للاستصحاب الذي لا يقدح في انقطاع ذلك النكاح بالطلاق))(2).

وقد شرح السيد الخوئي (قدس سره) هذا الاستصحاب فقال ((والظاهر ان مراده (قدس سره) من الاستصحاب إنما هو الاستصحاب التعليقي ببيان: أن للزوج قبل أن يرتكب هذا الفعل أن يطلق زوجته ثم يتزوج بها ثانياً فإذا

ص: 200


1- المتضمنتان لقاعدة (ان الحرام لا يحرم الحلال).
2- جواهر الكلام: 29/449.

ارتكب ذلك وشك في بقاء الجواز وعدمه كان مقتضى استصحاب الجواز الثابت قبل الفعل هو الحكم بالجواز بعد الفعل أيضاً.

إلا أن ما ذكره (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه وذلك لانا لا نقول بحجيةالاستصحاب التعليقي))(1)

وفيه:-

1- لا ينفع الرد بعدم حجية الاستصحاب التعليقي إذ قد يصوّر الاستصحاب غير تعليقي كما هو الراجح من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) وهو استصحاب صحة الزوجية وأهلية المرأة لها أو حلية المرأة وعدم حرمتها عليه بالوطء اللاحق للعقد بأن يقال إن هذه الزوجة بعد أن حصل الوطء بقيت على زوجيتها ولم تحرم على زوجها بعد أن طلقها وأراد العقد عليها مجدداً نشك في حليتها وأهليتها للزواج فنستصحب هذه الأهلية للزوجة.

2- إن سبب الشك في الاستصحاب الذي صوّره (قدس سره) حصول الوطئ بينما السبب فيما صورناه حصول الطلاق وهو الظاهر بل صريح كلام صاحب الجواهر (قدس سره) وهو أيضاً مفروض المسألة المبحوثة.

3- إن عدم جريان الاستصحاب لا لانه تعليقي والتعليقي ليس بحجة كما قرب (قدس سره) وإنما لا يجري لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة فإن المتيقن هو حلية المرأة وصحة الزوجية بقاءً واستدامة أو ما سماها (قدس سره) الزوجية الفعلية، أما المشكوكة فهي إنشاء الزوجية الابتدائية التي يراد عقدها بعد الطلاق أو ما سماها الزوجية الشأنية أي أنه حينما حصل اللواط لم يكن عليه حراماً الإمساك بزوجته وعدم انفساخ الزوجية لا حلية العقد عليها والتزوج منها لأنها زوجة فعلاً وبعد الطلاق نشك في إمكانية العقد عليها وإنشاء زوجية جديدة معها.

4- إن الاستدلال بالأصل لا معنى له مع وجود الدليل وهذا المورد مشمول بأدلة الحرمة فإن هذا الزوج حينما يقدم على التزويج مرة ثانية يصدق عليه أنه قد لاط بغلام فتحرم عليه أخته التي هي زوجة الواطئ سابقاً فالمورد عين ما جاءت النصوص بحرمته.

ص: 201


1- مباني العروة الوثقى: 32/240.

وقد عاد السيد الخوئي (قدس سره) إلى هذا التقريب تنزلاً أي بناءاً على التسليم بصحة الاستصحاب التعليقي.

وبتقريب آخر نقول ان مقتضى إطلاقات روايات الباب حرمة المذكورات على اللائط وقد خرجت من سبق عقدها على الوطء وكانت زوجة فعلية حين وقوعه بقاعدة (إن الحرام لا يحرّم الحلال) وبقيت الحالات الأخرى مشمولة بإطلاق الحرمة.

ومثله في المنع ما لو لاط بأخ امرأته بعد طلاقها فلا يحل له التزويج بها مرة أخرى لصدق العنوان وقال السيد الخوئي (قدس سره) عن هذا الفرض الثاني أنه ((أوضح من هذا الفرض حكماً)) في حين أنه لا يوجد فرق بينهما حتى يستعمل صيغة التفضيل وانطباق الحكم عليهما واحد فلا ينبغي أن يفهم منه (قدس سره) وجود احتمال لصحة الاستصحاب ونحوه.

والظاهر أن الحكم مما لا خلاف فيه والدليل عليه ما تقدم في الفرض السابق.

المطلب الثامن: لا تحرم من جهة هذا الفعل الشنيع غير الثلاثة المذكورة على الواطئ ولا المذكورات وغيرهن على غير الواطئ لعدم الدليل على الحرمة في جميع هذه الفروض وللإجماع على ذلك.

قال صاحب الجواهر: ((ولا يحرم غير الثلاثة فلا بأس بنكاح ولد الواطئ ابنةالموطوء أو أخته أو أمه بلا خلاف أجده فيه)) ولكنه (قدس سره) استدرك بذكر حالة وردت في رواية موسى بن سعدان وهي التي احتاط فيها صاحب المتن استحباباً قال (قدس سره) ((وإن كان الأولى الترك في ابنته لرواية موسى بن سعدان عن بعض رجاله :(قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له رجل: ما ترى في شابين كانا مصطحبين فولد لهذا غلام وللآخر جارية أيتزوج ابن هذا ابنة هذا؟ قال: فقال: نعم، سبحان الله لم لا يحل؟ فقال: أنه كان صديقاً له. قال: فقال: وان كان فلا باس. قال: فانه يكون بينهما ما يكون بين الشباب. قال: لا بأس. فقال: أنه كان يفعل به. قال: فاعرض بوجهه ثم أجابه وهو مستتر بذراعه فقال: ان كان الذي كان منه دون الإيقاب فلا بأس إن

ص: 202

يتزوج وإن كان قد أوقب فلا يحل له أن يتزوج)))(1) وعلّق (قدس سره) ((إلا أني لم أجد به قائلاً مع أنه فاقد لشرائط الحجية، فلا بأس بحمله على الكراهة)).

وقد نوقشت سنداً ودلالة:

أما من حيث السند فلإرسالها ولعدم ثبوت وثاقة موسى بن سعدان بل ضعفه النجاشي أما ما أشكل به السيد الخوئي (قدس سره) من وجود محمد بن علي الضعيف في الطريق فلا يضر:

أ- لنقل الشيخ الطوسي الرواية بطريق آخر صحيح إلى موسى بن سعدان مذكور في الوسائل.

ب- في الطبعة القديمة للكافي وفي المرآة أيضاً (وعن محمد بن علي)(2)

فهما طريقان ويكفي صحة أحدهما.

وأما من حيث الدلالة فلأن جواب الإمام (عليه السلام) ظاهر في تطبيق الحكم على الواطئ لا ابنه لوحدة الفاعل ومرجع الضمير ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال فكأنه (عليه السلام) عدل عما سئل عنه وأعطى السائل ما هو موضوع الحكم في الحالة المسؤول عنها.

وقد ناقش السيد الخوئي في الدلالة من جهة أخرى فقال (قدس سره): ((إنه لم يفرض في النص أن الذي يريد التزويج من ابنة الآخر إنما هو ابن الواطئ حيث لم يذكر فيه إلا ابن هذا يريد التزويج من ابنة هذا من دون تحديد لذلك))(3)

فإن كان يريد التعيين المطلق فهو واضح البطلان لان (هذا) الأولى والثانية تدور بين الواطئ والموطوء لا غير وأما إن كان يريد بين كون (هذا) الأولى والثانية أيهما تعود للواطئ وأيهما للموطوء فهو وارد، إلا أنه لا ينفعه في الرد لأنه لا يقول بالحرمة على كلا التقديرين.

وعلى أي حال فأولوية الترك التي ذكرها الماتن لا بأس بها دون أن تفسخ

ص: 203


1- وسائل الشيعة : أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 15، ح3.
2- معجم رجال الحديث: 19/55
3- مباني العروة الوثقى: 32/243.

زواجاً قائماً.

المطلب التاسع: هل يشترط في الوطء المحرم أن يكون عن عمدٍ؟لم يفرّق في المتن بين كون الواطئ عن علم وعمد واختيار أو مع الإكراه والاشتباه. وقال السيد الخوئي (قدس سره) في وجهه أنه ((التمسك بإطلاق دليل الحرمة حيث لم يُقيد بالعلم والعمد والاختيار))(1)

وكان الأحرى به أن يوجهه بالتمسك بعموم التعليل المذكور في جواب الإمام (عليه السلام) فقد علقه على الإيقاب فحسب فإذا حصل فقد تحققت الحرمة من غير فرق بين وجوه الفعل، ولعله (قدس سره) أراد بالإطلاق هذا المعنى.

وقال (قدس سره) في رده: ((إلا أن للمناقشة فيه مجالاً واسعاً وذلك فان ظاهر التعبير ب-(اللعب) و(العبث) المذكور في النصوص هو صدور الفعل عن علم منه بحيث يكون على علمٍ بان من يلعب به غلام ومع ذلك يرتكب الفعل الشنيع وإلا فلا يصدق عليه اللعب بالغلام على اننا لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بصدق اللعب حتى مع الجهل والاشتباه يكفينا حديث الرفع في عدم ثبوت الحرمة الأبدية بالنسبة إلى الواطئ.

كما أن ذيل معتبرة عبد الصمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه)(2)

يكفينا في عدم ثبوتها بالنسبة إلى الجاهل فإن الحرمة لما كانت شيئاً على المكلف وأمراً عليه ترتفع بمقتضى هذا النص.

ومن هنا يظهر الحال في الإكراه فإنه وإن صدق على المكره أنه لعب بالغلام وعبث به إلا أن الحرمة الثابتة للعابث بالغلام ترتفع عن المكره بمقتضى حديث الرفع.

فالحاصل أن الحكم بثبوت الحرمة في صورة الجهل أو الخطأ أو الإكراه مشكل جداً بل مقتضى الأدلة هو عدم ثبوتها)) أه-.

أقول: كان يمكنه (قدس سره) لو أراد أختيار عدم التعميم أن يقول بأن دليل

ص: 204


1- مباني العروة الوثقى: 32/241، وقد سقطت منه الاشارة إلى معتبرة عبد الصمد التي نقلناها من الطبعة الاولى في النجف الاشرف: 1/295.
2- وسائل الشيعة : مج9 ، ابواب بقية كفارات الاحرام، باب8، ح3.

الحرمة منصرف عن حالتي الجهل والإكراه لأن الظاهر عرفاً من اللعب والعبث الإرادة والقصد وهما غير متحققين في الحالات المذكورة.

وهذا الكلام وإن لم يكن تاماً لقوة الظهور في عموم التعليل الذي ذكرناه إلا أنه أفضل أكيداً مما قاله (قدس سره) الذي تضمّن ثلاثة أدلة:

1- إن اللعب والعبث لا يصدق على غير حالة العمد والعلم.

2- حديث الرفع.

3- معتبرة عبد الصمد.

وكلها قابلة للمناقشة:

1- إن اللعب والعبث بالغلام يصدق عرفاً حتى لو كان جاهلاً أو مشتبهاً فيكون مشمولاً بالحرمة. وهذا غير ما ذكرناه من تعلّق الحرمة أصلاً بالإيقاب.

2- إن الحرمة المقصودة في المقام ليست الحرمة التكليفية بل الحرمة الوضعية، أي عدم الصحة وعدم الجواز الوضعي كقولنا لا يجوز الوضوء بالماء المضاف ومن المعلوم أن حديث الرفع لا يتناول الأحكام الوضعية.3- إن معتبرة عبد الصمد:

أ- مخصصة بكثير من المحرمات خصوصاً في باب المحرمات بالمصاهرة، كمن دخل جهلاً بذات العدة فإنها تحرم عليه مؤبداً أو المحرمات بالرضاعة كما لو أرضعت أم الزوجة ابن زوج بنتها فتحرم عليه زوجته مؤبداً ولو كان جاهلاً، فإذا ثبت عموم التعليل في المقام فهو مخصص للمعتبرة المذكورة.

ب- على أن المتبادر من كلمة (عليه) التبعة والعقوبة أي أثر الحرمة التكليفية لا الوضعية لو قلنا بعموم الذيل.

ج-- مضافاً إلى أن المعتبرة ليس فيها شيء أزيد مما في حديث الرفع فلا تصلح دليلاً مستقلاً.

د- إن مراجعة الرواية وبقرينة الروايات الأخر في الباب نجدها متعلقة بالفعل الذي سُئل عنه الإمام (عليه السلام) وهي بعض تروك الإحرام.

ومما تقدم تظهر المناقشة فيما قاله عن المكره وارتفاع الحرمة بحديث الرفع.

ص: 205

المطلب العاشر: هل تتحقق الحرمة إذا كان الموطوء ميتاً؟

الظاهر العدم لانصراف دليل الحرمة بوطء الغلام عن الميت فلا يشمله الدليل وقال صاحب الجواهر بعد نقله نصوص التحريم: ((نعم، المنساق منها الغلام الحي فيبقى غيره على عمومات الحل، لكن في القواعد الإشكال فيه من ذلك ومن الإطلاق، بل في جامع المقاصد لم يبعد التحريم، ولا ريب في ضعفه))(1)،

لكن الانصراف والانسياق إلى الحي لا يقيد الإطلاق فكان على صاحب الجواهر أن يعبر بما ذكرنا فإن الانصراف عن عنوان لا يجعله فرداً للمطلق.

وقال السيد الخوئي (قدس سره) في وجه اختصاص الحكم بالحي: ((لأن الحكم بالحرمة على خلاف القاعدة، حيث أن مقتضاها هو الحل والجواز مطلقاً، وإنما خرجنا عنها فيما إذا كان المفعول غلاماً للدليل، وأما في غيره فالمرجع هو عمومات الحل، ومن هنا فحيث أن الغلام حقيقة في الحي خاصة ولا يطلق على الميت إلا مجازاً فلا موجب للالتزام بثبوت الحرمة بوطئه))(2).

وفيه:-

1- إن إطلاقات دليل الحرمة - لو تمت- فإنها تخرج المورد من القاعدة فكان عليه أن يشكك في شمول الإطلاق للمورد كما فعلنا.

2- لا أدري لماذا تسلب عن الغلام هذه الصفة بالموت حتى يصبح اتصافه بها مجازاً فهل الرجل لا يبقى رجلاً بعد الوفاة ام المرأة لا تبقى امرأة بعد الوفاة، فالصحيح ما ذكرناه من أنه غلام إلا ان دليل الحرمة منصرف عنه فلا يشمله إطلاقه.

المطلب الحادي عشر: حرمة العناوين المذكورة من الرضاعة:

وتشمل الحرمة هذه العناوين إذا كانت من الرضاعة فتحرم الأم والأخت والبنت الرضاعية للموطوء على الواطئ وليس ذلك من اجل شمول هذه العناوين الواردة في الأدلة للرضاعيات فإنها ظاهرة بوضوح في النسبيات إلا أن

ص: 206


1- جواهر الكلام: 29/447.
2- مباني العروة الوثقى: 32/242.

هذه العناوين وُسِّعتلتشمل الرضاعيات بالروايات الصحيحة الدالة على الالحاق ومنها صحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)(1).

وقد نقل السيد الخوئي (قدس سره) الإجماع على ذلك إلا ما نُسب إلى العلامة من الاستشكال في القواعد فيه بدعوى ظهور الروايات في النسبية ورد عليها بما تقدم فقال: ((إن الحكم بحرمة الرضاعية ليس من جهة شمول أدلة التحريم لها مباشرة كي يرد ما ذكره (قدس سره) وإنما هو من جهة التنزيل الثابت بأدلته))(2).

ولا يرد هذا على العلامة (قدس سره) لأن وجه استشكاله هو حكومة أدلة إلحاق الرضاعيات بالنسبيات من جهة وظهور الأدلة هنا في النسبيات، وقد استقرب في التحرير الأول(3).

ص: 207


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالرضاع باب1 ح1.
2- مباني العروة الوثقى: 32/241
3- كشف اللثام: 7/187.

دراسة مقارنة للنتائج

اشترط السيد الصدر (قدس سره) للحرمة دخول تمام الحشفة(1)

وجعل القول بالحرمة في اصل الحكم احتياطياً ولا أدري منشأ التردد عنده حتى يحتاط وقد احتاط كذلك في الاجتناب مع سبق العقد كما أنه (قدس سره) لم يقل بالتعميم فيما إذا كان الواطئ صغيراً أو كان الموطوء كبيراً.

لكن السيد السيستاني اكتفى ببعض الحشفة لتحقق الحرمة(2)

واحتاط لزوماً -وهو أقل من الاحتياط الوجوبي- في تعميم الحكم إلى صورة كون اللائط غير بالغ وعدم كون الملوط غلاماً واحتاط وجوباً في الاجتناب مع سبق العقد ولا بد ان هذا الاحتياط الوجوبي مستند إلى قوة الظن باعتبار مرسلة ابن أبي عمير التي ذكرناها في المطلب السابع فتكون مخصصة لقاعدة (أن الحرام لا يفسد الحلال).

وذكر الشيخ الفياض(3)

المسألة وجعل الاحتياط مع سبق العقد استحبابياً كما أنه لم يعمم الحكم إلى الصور الأخرى.

ص: 208


1- منهج الصالحين : 4/24 مسألة 52.
2- منهاج الصالحين : 3/63 ، المسائل 185-188.
3- منهاج الصالحين : 3/22 مسألة 45.

بسم الله الرحمن الرحيم

ملحق:بحث رجالي في مراسيل ابن أبي عمير

توجد دعوى ترتبط بمراسيل محمد بن أبي عمير بأنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة واستنتجوا من هذه الدعوى نتيجتين:

الأولى: أن كل من يروي عنهم ابن أبي عمير هم ثقات أي أن رواية ابن أبي عمير عن شخص دليل على وثاقته وإن لم يرد شيء من ذلك في كتب الرجال.

الثانية: التسوية بين مسانيد ابن أبي عمير ومراسيله بل بين مراسيله ومسانيد غيره أو قل إنها لا يضرها الإرسال.

وهم طبعاً لا يقصدون هاتين النتيجتين على نحو الموجبة الكلية لرواية ابن أبي عمير عن أشخاص ثبت كذبهم وعدم وثاقتهم ولو كانوا قليلين فيكون تفسير هذه الدعوى بأن الأصل في مراسيل ابن أبي عمير هاتان النتيجتان إلا أن يقوم دليل على الخلاف.

ولا ملازمة بين النتيجتين فقد تثبت الثانية وهي التسوية بين مراسيله ومسانيده دون الأولى باعتبار أن الإرسال وعدم ذكر الاسم قد يثبت أنه دليل على توثيق ابن أبي عمير للمروي عنه إلا أن ذكر اسمه يعني -فيما يعني- إلقاء ابن أبي عمير عهدة وثاقة المروي عنه إلى المروي إليهم.

وعلى أي حال فلا بد من الدخول في البحث بإذن الله تعالى لنتحقق من النتائج.

وقد صرّح الشيخ الطوسي بأن هناك جماعة من الرواة عرفوا بأنهم لا

ص: 209

يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة ولذا عمل بمراسيلهم ونص على ثلاثة منهم(1)

وقد نقلنا نص كلامه في أصل البحث.

فالدليل على هذه الكبرى هي هذه (المعروفية) بين الأصحاب ووصلت إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) وسجلها وهي الدليل الرئيسي على توثيق الرجال فإن كتب الرجال المعتمدة يفصل بين أصحابها وبين أصحاب الأئمة أكثر من مائة عام فهم لم يعايشوهم ويستعلموا حالهم وإنما سجّلوا آراءهم استناداً إلى هذه (المعروفية) كما أننا لو كتبنا الآن معجماً للرجال فسوف نصف الشيخ الأنصاري بأعلى درجات الوثاقة رغم أن بيننا وبينه حوالي مائة وخمسين عاماً.

وقد حار الكثيرون في معرفة منشأ حجية توثيق الرجاليين كالكشي والطوسي والنجاشي وبينهم وبين الرواة هذه المدة الطويلة فهل بنوا على الحدس والاجتهاد وهو ليس بحجة أم على نقل الآحاد وهو كالمراسيل في الحجية.

ويقول بعض ممن ألف في هذا المجال من المعاصرين أنه عرض الإشكال على الأساطين من أساتذته كالخوئي والحكيم والخميني والميلاني (قدس الله أسرارهم)، فلم يجد جواباً حتى قال: ((ولو أجد من حلَّ لي المعضلة المذكورة لقدّمت له مبلغاً من المالوكنت له شاكراً))(2)

وإذا ناقشنا في حجية هذه (المعروفية) فيعني هذا عدم الاعتماد على كتب الرجال لذا فإن هذا المؤلف المعاصر وقع في تناقض مع نفسه فقال: ((فإذا لم يُدفع الإشكال المذكور فلا بد من الالتزام بدليل الانسداد والجري على وفقه في الفقه، لكن العجيب إنني- نفسياً- لا أرى في الانسداد وأصوله إثبات الحلال والحرام بل الذي تطيب به نفسي هو العمل بصحاح الروايات وحسانها وموثقاتها حسب توثيق وتحسين

ص: 210


1- قواعد الحديث للغريفي : ج1، ص41.
2- بحوث في علم الرجال، للشيخ محمد آصف المحسني الأفغاني: 58.

هؤلاء الرجاليين)).

وعلى أي حال فإن أول من نقل هذه الدعوى الكشي في كتاب (الرجال) المعروف فقد قال تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم (عليه السلام) وأبي الحسن الرضا (عليه السلام): ((أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح من هؤلاء وتصديقهم))(1)

وعدَّ منهم محمد بن أبي عمير وهم ستة.

وقال مثله في ستة من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) واقتصر على التصديق في ستة من أصحاب أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وقد نظم ذلك السيد بحر العلوم في أرجوزته:

قد أجمع الكل على تصحيح ما *** وهم أولو نجابة ورفعة

يصحّ عن جماعة فليعلما *** أربعة وخمسة وتسعة(2)

وقد جعل السيد محيي الدين الغريفي (قدس سره) الأصل في هذه الدعوى مقالة الكشي وأن الشيخ الطوسي والنجاشي تبعاه على ذلك وكذا من تأخّر عنهما وليس أنهما ادعيا الإجماع مستقلاً وبينهما فرق فقال: ((فهو -أي الكشي- أول من ادعاه ونقله الجماعة عنه ولذا كان من التسامح نسبة دعواه إلى جميع من ذكره وتعرض له))(3)

وهو بذلك يرد على الشيخ المامقاني (قدس سره) الذي نسب الدعوى إليهم جميعاً.

وهذا الرأي من السيد الغريفي (قدس سره) غير صحيح لثلاث قرائن على الأقل وسيأتي بإذن الله تعالى بقية البحث وهي:-

1- إن ظاهر كلام الشيخ الطوسي أنه ينقل قضية معروفة ومتداولة بين

ص: 211


1- قواعد الحديث : ج1، ص39.
2- قواعد الحديث.
3- قواعد الحديث: ص41-42.

الأصحاب وليس أنه ينقلها عن شخص.2- اقتصاره على الثلاثة فقط دون الثمانية عشر، بل إنه ناقش في بعض أصحاب الإجماع عند الكشي كعبد الله بن بكير حيث سوّى بينه وبين الفطحية ((ولم يميزه عنهم واشترط فيه ما اشترط برواياتهم أمرين: عدم وجود المعارض لخبرهم، وعدم إعراض الطائفة عن مضمونه بالإفتاء بخلافه، فلو تم هذا الإجماع عند الشيخ لم يبق وجه للتسوية بين ابن بكير، وسائر الفطحية)) وكشاهد على ذلك فإن الشهيد الثاني نقل عن الشيخ الطوسي عند ذكر حديث له أسنده إلى زرارة ((إن إسناده إلى زرارة وقع نصرة لمذهبه الذي أفتى به لما رأى أن أصحابه

لا يقبلون ما يقوله برأيه، وقع منه من العدول عن اعتقاد مذهب الفطحية ما هو معروف، والغلط في ذلك أعظم من الغلط في إسناد فتياً يعتقد صحته لشبهة دخلت عليه إلى بعض أصحاب الأئمة عليهم السلام))(1).

3- التعبير بغير ما عبر به الكشي حيث قال الشيخ: ((بأن الثلاثة عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة)) وقال الكشي بتصحيح ما يصح عنهم فكلام الشيخ مرتبط بالراوي وكلام الكشي مرتبط بالمروي فأين هذا من ذاك.

وعلى أي حال فقد ناقش السيد الخوئي (قدس سره) في كفاية هذا الكلام لإثبات الدعوى ((بأنها اجتهاد من الشيخ قد استنبطه من اعتقاده تسوية الأصحاب بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم)) (2)

والظاهر أنه كان ملتزماً بهذا الإشكال في بحثه قبل كتابه(--(3)

فقد نقل عنه السيد الغريفي (قدس سره) قوله بأن هذا ((ليس شهادة منه بوثاقة من يروون عنه وإنما هو استعلام من

ص: 212


1- قواعد الحديث : ج1، ص43.
2- معجم رجال الحديث: 1/75.
3- («3») تأريخ طبع قواعد الحديث 1388 ومعجم الرجال 1390 إضافة إلى عدم نسبة السيد الغريفي الكلام إلى مصدر فيظهر أنه أخذه شفهياً أو من بحثه.

حالهم بحسب اجتهاده فلا يكون حجة في حقنا، لقوله: (فإن كان ممن يعلم بأنه لا يرسل إلا عن ثقة ....))(1)

وأورد عليه السيد الغريفي ((بأنه مناف لما نقله الشيخ الطوسي من تسوية الأصحاب بين مراسيل الثلاثة ونظائرهم وما أسنده غيرهم لظهوره في أن عدم إرسال الثلاثة عن غير الثقة كان معروفاً لدى الطائفة ولأجله اعتمدت على مراسيلهم فلا يكون اجتهاداً منه)) ونقل جواب أستاذه الخوئي (قدس سره) على ذلك بقوله: ((إن الشيخ الطوسي وإن نقل عن الطائفة التسوية بين مراسيل الثلاثة ومسانيد غيرهم إلا أنه اجتهد في أن سبب ذلك عدم إرسالهم عن غير الثقة ولم ينقله لنا عن الطائفة)).

ويرد على دعواه (أنه اجتهاد) بأن الأصل في الإخبار أنه عن حسّ وهو ظاهر من تعبيره (بأن المعروف عند الأصحاب) فهو كإخباره عن وثاقة الرجال، فلو أوكلناالأمر إلى الحدس لما أخذنا بتوثيقات الرجاليين.

وقد ناقش السيد الخوئي (قدس سره) لاحقاً هذا الاجتهاد من الشيخ بحسب رأيه في مقدمة كتابه (معجم رجال الحديث) بعدة وجوه فقال:

أولاً: ((إن التسوية المزبورة لم تثبت وإن ذكرها النجاشي في ترجمة ابن أبي عمير وذكر أن سببها ضياع كتبه وهلاكها إذ لو كانت هذه التسوية صحيحة وأمراً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحد من القدماء لا محالة وليس منها في كلماتهم عين ولا أثر)).

ويرد عليه أن هذا غير ضائر:-

1- لندرة ما وصل إلينا من كتب الرجال من القدماء.

2- إن كثيراً من القضايا ذكرها رجاليون ولم يكن لها في العصر السابق عليهم عين ولا أثر، كنقل الكشي الإجماع على تصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع وما جاء في عدة الطوسي من معروفية السكوني بالوثاقة ولا نجد

ص: 213


1- قواعد الحديث للسيد محيي الدين الغريفي: 1/67.

لذلك عيناً ولا أثراً في كتب الرجال(1).

ثم قال، بعد أن أرجع منشأ هذه الدعوى إلى دعوى الكشي: ((ويؤكد ما ذكرناه أن الشيخ لم يخصّ ما ذكره بالثلاثة المذكورين بل عمّمه لغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون إلا عمن يوثق به ومن الظاهر أنه لم يُعرف أحد بذلك من غير جهة دعوى الكشي الإجماع على التصحيح)) وهي قرينة غير كافية على مدّعاه فغاية ما يستفاد من كلام الشيخ أن هذه كبرى لا تختص بهذه الثلاثة وإنما يمكن تطبيقها على كل راوٍ ملتزم بها فكيف يجعلها مؤكداً لما ذكره من المنشأية.

ثم استشهد على أن نسبة الشيخ التسوية المذكورة إلى الأصحاب مبتنية على اجتهاده وهي غير ثابتة في نفسها بنقض الشيخ بنفسه لها ((حيث ذكر رواية محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)))(2)

ثم قال في كلا الكتابين: ((فأول ما فيه أنه مرسل وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة))(3).وقد أجاب العلامة المعاصر عرفانيان(4)

عن هذا النقض بجوابين:-

1- إن كتاب العدة متأخر تأليفاً عن التهذيب والاستبصار فلعله التفت في الزمن الثاني إلى تسوية الأصحاب.

2- إن مبنى الشيخ في التهذيب والاستبصار الاعتذار عن تعارض الأخبار تارة بالجمع وأخرى بإسقاط أحد السندين وذلك أمام من طعن علينا

ص: 214


1- كتاب القضاء، للسيد كاظم الحائري (دام ظله): 29-30.
2- التهذيب : ج6، باب العتق وأحكامه، الحديث 932، الاستبصار : ج2، باب ولاء السائبة، الحديث 87.
3- معجم رجال الحديث: ج1/76.
4- مشايخ الثقات للشيخ عرفانيان : 30. (أخذناه عن كتاب السيد الحائري المتقدم).

بكثرة التعارض في أخبارنا فلعل المناقشة بالإرسال كانت بهذه النكتة.

ونضيف نحن جواباً آخر فنقول:-

3- إننا حينما نقول إن مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده ومسانيد غيره فإننا نريد أن القاعدة فيها ذلك. وهذا لا يمنع أن نسقط بعض المراسيل لوجود قرائن تفيد عدم الاطمئنان بالصدور نظير قولنا إن خبر الواحد الثقة حجة أي أنه بنفسه والأصل فيه ذلك وهذا لا يمنع سقوط بعض أخبار الآحاد عن الحجية ولا يضر في حجية ذلك، بل قد تقدم أن هذه النقوض لكبرى التسوية ضرورية لحل العلم الإجمالي خصوصاً وإننا حينما نقول أنهم لا يرسلون ولا يروون إلا عن ثقة فإن الوثاقة المقصودة إنما هي بنظر ابن أبي عمير نفسه لا واقعاً وقد لا نتفق معه في التوثيق مما يتسبب طرح الرواية.

ثانياً: قال (قدس سره): ((فرضنا أن التسوية المزبورة ثابتة وأن الأصحاب عملوا بمراسيل ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي وأضرابهم ولكنها لا تكشف عن أن منشأها هو أن هؤلاء لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة بل المظنون قوياً أن منشأ ذلك هو بناء العامل على حجية خبر كل إمامي لم يظهر منه فسق وعدم اعتبار الوثاقة فيه كما نسب هذا إلى القدماء، وعليه فلا أثر لهذه التسوية بالنسبة إلى من يعتبر وثاقة الراوي في حجية خبره))(1).

ويرد عليه:-

1- لو كان المنشأ هذا المبنى فلا فرق حينئذ بين هؤلاء الثلاثة وغيرهم فلماذا اختصوا بهذه الدعوى.

2- إن الشيخ لم ينسب الدعوى لنفسه حتى نحملها على المبنى المذكور بل قال عنها أنها معروفة بين الأصحاب.

ثالثاً: قال (قدس سره): ((إن هذه الدعوى وإن هؤلاء الثلاثة واضرابهم من الثقات لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة دعوى دون إثباتها خرط القتاد،

ص: 215


1- معجم رجال الحديث: ج1، ص77.

فإن معرفة ذلك في غير ما إذا صرح الراوي بنفسه أنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة أمر غير ميسور، ومن الظاهر أنه لم يُنسب إلى أحد هؤلاء إخباره وتصريحه بذلك وليس لنا طريق آخر لكشفه، غاية الأمر عدم العثور برواية هؤلاء عن ضعيف لكنه لا يكشف عن عدم الوجود على أنه لو تمت هذه الدعوى فإنما تتم في المسانيد دون المراسيل،فإن ابن أبي عمير بنفسه قد غاب عنه أسماء من روى عنهم بعد ضياع كتبه فاضطر إلى أن يروي مرسلاً على ما يأتي في ترجمته فكيف يمكن لغيره أن يطَّلع عليهم ويعرف وثاقتهم فهذه الدعوى ساقطة جزماً))(1).

ويرد عليه:-

1- إن عدم وصول تصريح لهم بذلك لا يعني عدم صدوره منهم كما اشتهر بينهم (إن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود) وقد استدل هو (قدس سره) بهذا المعنى في كلمته المنقولة.

2- إن معرفة كون هذا الراوي لا ينقل إلا عن ثقة لا تنحصر بتصريحه بل إنه أمر يعرف من حالهم وتثبتهم في الأمور وقرائن أخرى يعرفها من عاشرهم مدة كافية وينقل هذه القناعة إلى غيره كالوثاقة والعدالة فإنها لا تعرف بتصريح صاحبها وإنما بمخالطته وملاحظة سيرته.

3- إن هذه المعرفة لو كانت منحصرة بهذا المنشأ -أي التصريح- وعدم وجود مثله فعلى الشيخ الطوسي بيان ذلك فإما أن لا ينحصر المنشأ بهذا أو أنه يوجد مثل هذا التصريح وقد وصل إلى الشيخ ولم يذكره وإلا كيف جاز للشيخ تثبيت هذه الدعوى.

4- إن هذه المعروفية لو افترضناها موجودة في عصر ابن أبي عمير -كما لا يبعد لأن منشأها إما تصريحه أو اطمئنان أصحابه والراوين عنه المستفاد من طول مخالطته- فسيكون سكوت ابن أبي عمير إمضاءً لها واقراراً بصحتها وإلا

ص: 216


1- معجم رجال الحديث: 1/77.

لكان غاشاً والعياذ بالله إذ سيعلم من الناس بناءهم على وثاقة من يروي عنه والواقع غير ذلك.

5- إن ابن أبي عمير لم تغب عنه أسماء الرواة وإنما أخفاها خوفاً عليهم بعد أن لاقى صنوف التعذيب والسجن من أجل التعريف بهم ولم يؤثر على ذاكرته تلف كتبه كغيره من أصحاب الأئمة الذين كانوا يعتمدون الحفظ في نقل الرواية والقليل منهم كانوا يدوّنون فمن المعلوم أن أصحاب الأصول هم أربعمائة بينما الرواة عن الأئمة هم أُلوف حتى أن الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) بلغوا أربعة آلاف فإخفاء ابن أبي عمير للأسماء كان لأنهم ممن يخاف (عليهم) وليس يُخاف (منهم) لعدم الوثاقة ونحوها لذلك فإنه لم يتوقف عن التصريح ببعض الأسماء التي لا يخشى عليها من السلطة.

6- إن هذه الصفة لعلها قد عرفت عن ابن أبي عمير قبل سجنه حينما كان يسند أخباره فلا يضرها إرسالها المتأخر.

رابعاً: قال (قدس سره): ((قد ثبت رواية هؤلاء عن الضعفاء في موارد ذكر جملة منها الشيخ بنفسه ولا أدري أنه مع ذلك كيف يدعى أن هؤلاء لا يروون عن الضعفاء فهذا ابن أبي عمير روى عن علي بن أبي حمزة البطائني كتابه، ذكره النجاشي والشيخ، وروى الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير عن الحسين بن أحمد المنقري وقد ضعّفه النجاشي والشيخ وروى الشيخ بسند صحيح عن ابن أبي عميرعن علي بن حديد وقد ضعفه الشيخ في موارد من كتابيه وبالغ في تضعيفه، وتقدمت روايته عن يونس بن ظبيان)) (1).

ويرد عليه ما قلناه:-

1- إننا وإن قلنا أن هؤلاء لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة إلا أن هذا لا يضر فيه روايتهم عن غير الثقات كما في قولنا أن خبر الواحد الثقة حجة ولا ينافيه سقوط بعض أخبار الثقات عن الحجية لعدم الاطمئنان بالصدور.

ص: 217


1- معجم رجال الحديث: 1/78. وقد اقتطعت من كلامه ما يرتبط بابن أبي عمير.

2- إن الوثاقة المذكورة في هذه الدعوى يراد بها الوثاقة عند الراوي لا في الواقع فتكون شهادة منه على الوثاقة باعتبار تصريحه بأنه لا يروي إلا عن ثقة أو أن نفس نقل أحدهم عن شخص وسكوتهم عن القدح فيه رغم علمهم بأن الناس تراهم لا يروون إلا عن ثقة(1).

ص: 218


1- وقد اعترض السيد الخوئي على هذا فقال: ((إن قلت: إن رواية هؤلاء الضعفاء لا تنافي دعوى الشيخ أنهم لا يروون إلا عن ثقة فإن الظاهر أن الشيخ يريد بذلك أنهم لا يروون إلا عن ثقة عندهم، فرواية أحدهم عن شخص شهادة منهم على وثاقته. وهذه الشهادة يؤخذ بها ما لم يثبت خلافها. وقد ثبت خلافها كالموارد المتقدمة. قلت: لا يصح ذلك بل الشيخ أراد بما ذكر: أنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة في الواقع ونفس الأمر، لا من يكون ثقة باعتقادهم إذ لو أراد ذلك لم يكن الحكم بالتسوية بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم، فإنه إذا ثبت في موارد روايتهم من الضعفاء -وإن كانوا ثقات عندهم- لم يكن الحكم بصحة مراسيله إذ من المحتمل أن الوساطة هو من ثبت ضعفه عنه فكيف يمكن الأخذ بها)) (المعجم : 1/80). وجوابه: إن التسوية لو كانت من ادعاء الشيخ الطوسي -كما يذهب إليه (قدس سره)- لكان ما قاله صحيحاً لكنها معروفة بين الأصحاب ونقلها الشيخ ومرجعها إلى نفس ابن أبي عمير وأصحابه، أما الاحتمال الذي ذكره فرددناه وأنه غير ضائر بالتسوية لضعفه بل ربما فهم الأصحاب ما فهمناه أن حذف الاسم كان لوثاقة الشخص والخوف عليه من السلطة بدليل تصريحه بأسماء الضعفاء فلم يكن الحذف عن إهمال أو نسيان. ثم نقل (قدس سره) كلام المحقق في المعتبر في آداب الوضوء وجعله شاهداً على ما يقول وهو قوله: ((ولو احتج بما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا كان الجواب الطعن في السند لمكان الإرسال ولو قال مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب منعنا ذلك لأن في رجاله من طعن الأصحاب فيه وإذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم)) وقد تحصلت وجوه عديدة لردّه:- == == 1- إن احتمال كون الراوي ضعيفاً احتمال غير معتد به وقد تقدمت وجوه تقليله. 2- إن المحقق لم يناقش في مقتضى صحة التسوية -وهي المعروفية بين الأصحاب- وإنما تذرع بوجود المانع الذي هو ليس بمانع فلو لم يوجد دليل ولا مقتضى لهذه التسوية لاستدل به على ترك مراسيل ابن أبي عمير فإن الاستدلال بوجود المانع قبيح مع عدم وجود المقتضي. 3- إن الالتزام بالتسوية بين مراسيل بن أبي عمير ومسانيد غيره لا ينافي رد بعض المراسيل حينما لا يحصل الاطمئنان بالصدور أو قل إن رد بعض المراسيل لا يلزم منه نفي هذه التسوية كما أن سقوط بعض أخبار الثقات عن الاعتبار لأمر أو لآخر لا ينافي حجية الخبر الواحد.

لكنها يمكن ان تطرح عند وجود ما يكذبها كما في هذه الموارد أما عند عدم وجود ما يكذبها فتبقى شهادته حجة، نعم، لو كانت روايته عن الضعفاء كثيرة لاختلت هذه الدعوى ولكن تقدم أنها لا تتجاوز نسبة وهي قليلة لا تضرّ بقبول الشهادات الأخرى بل احتمال كون المرسل عنه من الضعفاء أضعف من ذلك لكثرة رواية ابن أبي عمير عن الثقات وندرة روايته عن الضعفاء فدرجة الاحتمال لا بد أن تلحظ بنسبة عدد الروايات عن الضعفاء إلى مجموع الروايات لا عدد الرواة الموثقين وهي نسبة ضعيفة لا تكاد تذكر وعلى هذا فلا يضر الإرسال حتى لو قلنا أن المعروفية لم تحصل بأحد المنشأين المذكورين وإنما حصلت بملاحظة ظاهر حالهم فلا تختل بالرواية النادرة عن الضعفاء.

3- إن تصريح ابن أبي عمير بهذه الأسماء دليل على وثاقة غيرهم فإنه بهذا التصريح يلقي مسؤولية هذه الموارد على الآخرين ويتحمل مسؤولية من لم يصرح بأسمائهم.

ص: 219

وهنا إشكال آخر ذكره أحد الفقهاء المعاصرين(1)

وأجاب عليه ملخّصه أن نقل الشيخ لتسوية الأصحاب بين مراسيل هؤلاء الثلاثة ومسانيد غيرهم وأنهم عرفوا بأنهم لا يروون إلا عن ثقة يشبه نقل الإجماع فكما أن الإجماع المنقول غير حجة كذلك هذا النقل لا يكون حجة.

والجواب: إن نقل الإجماع ليس إلا نقلاً لآراء حدسية لا نستكشف من المقدار الذي نستخلصه عن طريق النقل رأي الإمام وهذا بخلاف معرفة الأصحاب الحسية أو القريبة من الحس بأن هؤلاء الثلاثة لا يروون إلا عن ثقة.

ثم ذكر هذا الفقيه إشكالين يرتبطان بمراسيل هؤلاء الثلاثة وأجاب عنهما بعد أن وصل إلى نتيجة أن الذي يروي عنه أحد الثلاثة لو لم يردنا بشأنه تضعيف نحكم بوثاقته قال (دام ظله): ((أما إذا حذف اسم الرجل فقال مثلاً (عن رجل عن الإمام) فقد يستشكل في توثيقه بأحد وجهين:

الأول: أن توثيقه بعموم أنهم لا يروون إلا عن ثقة بعد أن عثرنا على نقلهم أحياناً من المجروحين تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية إذ أن ذاك الفرد المجروح قد خرج من تحت العام ونحن نحتمل كون هذا الفرد المحذوف هو ذاك فكيف يمكن التمسك بعام من هذا القبيل؟والجواب: أولاً: إن مفردات موضوع هذا العام هي الروايات لا الرواة فالشهادة تقول: إن هؤلاء لا يروون رواية عن غير الثقة فلو روى أحدهم رواية عن غير الثقة ثم روى رواية أخرى عن نفس ذاك الشخص فهذا يعني تخلف فردين عن هذا القرار العام لا تخلف فرد واحد)) وفيه:-

1- إن هذا سيزيد الإشكال لأنه سيكثر الأفراد الخارجة من تحت العام فيقلل من احتمال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

2- إن الرواية هي ساحة عمل هذا العام ومجال تطبيقه لا أنها موضوع

ص: 220


1- كتاب فقهي استدلالي في القضاء لسماحة السيد كاظم الحائري (دام ظله) راجع ص30 وما بعدها.

العام فإن موضوع العام هو الراوي لا الرواية.

قال (دام ظله):

وثانياً: إنه حتى لو فرض أن مفردات الموضوع هي الرواية فحينما نرى أحدهم روى عمن ضُعّف فهذا لا يعني أن تضعيف من ضعف تخصيص للعام كما يأتي الكلام بأن فرض رواية أخرى عنه هل هو تخصيص زائد يدفع بالعموم أو لا وإنما يعني أن تضعيف من ضُعّف شهادة معارضة لهذه الشهادة بالوثاقة إذ ليس هذا مراده الجدي من العام وإنما هي شهادة معارضة من قبل شاهد آخر) وفيه:-

1- إن كون تضعيف من ضعف شهادة معارضة لتوثيق ابن أبي عمير لا ينافي كون الضعيف ممن خرج من تحت العام بل هو منشأ وسبب له.

2- إن دعوى عدم الرواية والإرسال إلا عن ثقة لم يثبت تصريح بها من ابن أبي عمير حتى نبحث عن سعة وضيق مراده الجدي وإنما اكتشفت من حالهم ونحن الذين نريد أن نطبقها فنحن مسؤولون عن فهمها سعة وضيقاً.

فما ذكره (دام ظله) لا يحل الإشكال والصحيح في جوابه أن يقال: إن المورد ليس من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بل هو من تطبيق العام على مصاديقه والكبرى على صغرياتها فعندنا كبرى: أن هؤلاء الثلاثة لا يروون إلا عن ثقة، وصغرى: أنهم قد رووا عن هذا المحذوف والمجهول فيكون هذا المروي عنه ثقة ونحن إنما نؤسس القواعد للاستفادة منها في الأفراد المجهولة والمشكوكة فإننا لا نحتاج هذه القاعدة إذا كنا نعلم وثاقة المروي عنه وإنما نحتاجها في موارد الجهل والشك بحاله.

وفي الحقيقة فإن هذا الإشكال يعود إلى أن احتمال كون المروي عنه من الضعفاء هل يمنع من التمسك بالعام أم لا، وقد تقدم الجواب عنه وحاصله:-

1- أن الراوي المحذوف اسمه وإن كان يحتمل كونه ضعيفاً إلا أنه احتمال ضعيف لا يعتد به لأنه كما قلنا أي 6.25 بالمئة ويزيد ضعفه كثيراً حينما

ص: 221

نعلم أن رواية ابن أبي عمير عن الضعفاء قليلة جداً بالنسبة لروايته عن الثقات فإذا كان يروي عشر روايات عن الثقة فإنه يروي واحدة عن غيره فيقل هذا الاحتمال إلى العشر ليصبح 6.25 بالألف.

2- إننا بعد أن استنتجنا أن ابن أبي عمير لا يروي إلا عن ثقة فتكون روايته عن رجل -ولو كان اسمه محذوفاً- شهادة بوثاقته لا نتخلى عنها إلا إذا ثبت القدح فيهوالمفروض عدم ثبوته فتبقى الشهادة سارية المفعول.

مضافاً إلى أجوبة أخرى تقدمت وتأتي إن شاء الله تعالى.

قال (دام ظله): ((الثاني: إن أصالة عدم الاشتباه التي هي أحد جزئي معنى حجية خبر الثقة -إذ معناها نفي الكذب ونفي الاشتباه- لا تجري في المقام بعدما رأيناه في أخبار ابن أبي عمير مثلاً المسندة من أنه روى أحياناً عن فلان الضعيف إذ لو كان اعتقد اشتباهاً بوثاقة فلان وكان الشخص المحذوف في الرواية المرسلة عبارة عن نفس هذا الشخص الضعيف لم يكن هذا اشتباهاً جديداً ينفى بأصالة عدم الاشتباه))(1).

والجواب على ذلك هو ما جاء أصله في نفس الكلام الذي نقله الشيخ عرفانيان عن أستاذه الشهيد الصدر الأول (رضوان الله عليه) نذكره هنا مع قليل من الفرق وهو أن ندرة مشاهدتنا لرواية ابن أبي عمير مثلاً عمن وصلنا تضعيفه تجعلنا نطمئن في كل رواية مرسلة له بأنها ليست عن أولئك الذين وصلنا تضعيفهم فمثلاً حينما لم نر في مشايخه من وصلنا تضعيفه إلا بمقدار واحد من المائة أو اثنين من المائة بل سيكون أقل من ذلك:

أولاً: لاحتمال كونها مروية عن إنسان آخر غير أولئك المشايخ الذين عرفناهم ولم يصلنا طبعاً تضعيف ذلك الإنسان المجهول اسمه لدينا.

ثانياً: لاحتمال كون المحذوف هو أحد الأشخاص الذين كثرت روايات ابن أبي عمير عنهم -وهم جملة من الثقات- أقوى من احتمال كونه هو ذاك

ص: 222


1- مشايخ الثقات، عرفانيان : ص42.

الضعيف الذي قلّت رواية ابن أبي عمير عنه.

وهذا الجواب يصلح جواباً للوجه الأول من الإشكال أيضاً إلا أن أستاذه السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) حسب نقل الشيخ عرفانيان أورد على ذلك ((بأن هذا الجواب إنما يتم لو لم يكن هناك مقوٍّ لاحتمال كون هذه الرواية المرسلة مروية عن ذاك الضعيف يجعله أقوى من سائر البدائل المحتملة مما قد يخلّ بحصول الاطمئنان والمقوّي الذي يمكن دعوى وجوده في المقام هو نفس حذف اسم الوسيط إذ يحتمل نشوء ذلك من درجة من عدم الاعتناء بالوسيط وعدم الوثوق به، نعم، يستثنى من هذا الإشكال ما لو عبّر ابن أبي عمير مثلاً بتعبير: عن غير واحد أو عن جماعة أو عن رهط ونحو ذلك لا بتعبيره عن رجل أو عن بعض أصحابه ونحو ذلك فإن هذا التعبير يتناسب مع الاهتمام لا مع عدم الاهتمام بل في هذا الفرض يشتد الاطمئنان لبعد كون كل المحذوفين العرضيين -وهم ثلاثة على الأقل- من أولئك الذين وصلنا ضعفهم))(1).

أقول: إن هذا الإشكال غريب في المقام فترك ذكر اسم الوسيط لا أعرف كيف ينشأ -في احتمال معقول- من عدم الوثوق به وإنما ينشأ عادة من نسيانه ولو لم يكن ناسياً لهفعدم ذكره لعله أنسب بوثوقه من عدم وثوقه به باعتبار أنه لو لم يكن واثقاً به كان ينبغي له ذكره كي يتكفل السامع بنفسه بحسب الوثوق بالرواية أو عدم الوثوق بها.

وتوجد على مجموع الكلمات عدة تعليقات:

1- قوله: ((إلا بمقدار واحد من المائة ...الخ)) قد علمت أن النسبة أكثر من ذلك أي أو 6.25 بالمئة، نعم، لو لاحظنا النسبة بلحاظ عدد الروايات لا الرواة فإنها ستقل لسبب تقدم ذكره.

2- قوله: ((أولاً: لاحتمال ...)) هذا الاحتمال لا يقلل النسبة بل

ص: 223


1- مشايخ الثقات : ص45.

يزيدها أو يبقيها على حالها على الأقل لمجهوليته، نعم، يتم هذا الكلام بلحاظ (ثانياً) التي تلتها فهي ليست نقطة مستقلة عنها.

3- ما قاله الأستاذ من مقوي كون الراوي ضعيفاً ليس بصحيح إذ لا يعقل من ابن أبي عمير أن يهمل اسم الراوي إذا كان ضعيفاً لأنه غِشّ وتدليس على الراوين عنه وإيقاع لهم في المخالفة خصوصاً مع علمه بوجود فكرة عند الرواة عنه أنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة مضافاً إلى أن ابن أبي عمير نفسه قد صرح بأسماء الضعفاء الذين روى عنها صريحاً وهذا شاهد على ورعه وتثبته واحتياطه لمن يروي عنه أما إغفاله الاسم فكان اتكالاً على المعروفية المدعاة وخشيته على هؤلاء الأصحاب من الوقوع في قبضة السلطة ونحوها.

4- قوله: ((نعم يستثنى ...)) يناقض الإهمال المدعى للراوي فلو كان الراوي غير معتنى به فما فائدة ضم مهمل إلى مهمل فإنه لا ينتج الوثاقة كضم اللاحجة إلى اللاحجة فإنه لا يصيره حجة.

5- قوله: ((وإنما ينشأ من نسيانه ...)) أن الرواة عن الأئمة وحملة علومهم كانوا يعتمدون على الحفظ لمتون وأسانيد الأحاديث والقليل كانوا يدونون فمن المعلوم أن أصحاب الأصول هم أربعمائة بينما الرواة عن الأئمة هم أُلوف حتى أن الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام) بلغ أربعة آلاف، ومحل الشاهد أن تلف كتب ابن أبي عمير لا يعني نسيانه الإسناد ولو أصيب بفقدان الذاكرة لنسي حتى المتون وليس فقط الأسانيد وإنما لم يذكر الأسانيد خوفاً عليهم غالباً، وأحد الشواهد على ذلك ذكره الضعفاء الذين لا يخشى عليهم بل منهم كما قلناه.

6- قوله: ((لو لم يكن واثقاً به ...)) هذا يناقض كونه ناسياً فكيف تطالب ابن أبي عمير أن يذكر الاسم -سواء كان ثقة أو غيره- إذا أصيب بالنسيان.

ص: 224

نتيجة البحث:-

1- إن الإرسال لا يضر بروايات ابن أبي عمير من هذه الجهة، نعم، هي قابلة للقدح من جهات أُخر، أي لو حصلت قرائن على الخلاف كما تقدم مثاله في أصل البحث.

2- لا يمكن الجزم بأن رواية ابن أبي عمير عن شخص مصرحٍ باسمه دليلٌعلى وثاقته لاحتمال أن التصريح بالاسم هو للخروج من عهدة وثاقة الراوي ولما كانت كبرى (أن ابن أبي عمير لا يرسل ولا يروي إلا عن ثقة) عبارة عن ارتكاز متشرعي و(معروفية) بين الأصحاب فهو دليل لبّي يُقتصر منه على القدر المتيقن وهو ما لو أرسل عن الراوي ولم يصرح باسمه فهو دليل تعهده بالوثاقة خصوصاً إذا عبّر عنه بما يؤيد ذلك كقوله: (من أصحابنا) أو بما يعزز الاحتمال كقوله (عن جماعة) ونحوها، أما صورة التصريح بالاسم فهي خارجة عن القدر المتيقن.

ص: 225

ص: 226

البحث الخامس: حكم العقد المنقطع على البنت الباكر من دون إذن وليها

اشارة

ص: 227

ص: 228

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الخامس:

حكم العقد المنقطع على البنت الباكر من دون إذن وليها(1)

اتفق الفقهاء (قدس الله أرواحهم) على عدم ثبوت ولاية لأحد على الثيِّب الرشيدة التي افتُضَّت بكارتها بنكاح شرعي صحيح واستقلال البنت البالغة الرشيدة إذا لم يكن لها أب أو جد للأب أو كانت ولايتهما ساقطة لبعض العوارض كعدم الرشد، واختلفوا في ولايتهما على البالغة العاقلة الرشيدة إذا كانت بكراً ومن بحكمها قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((وإن كانت بكراً كاملة لم تتزوج، أو تزوجت ولم توطأ. أو وطئت دبراً، أو ذهبت بكارتها بغير جماع قبل البلوغ، أو بعده على قولٍ، فلا خلاف أيضاً في انتفاء الولاية عنها في مالها، وإنما الخلاف في استمرار الولاية عليها بالنسبة إلى النكاح خاصة، وجملة ما ذكره المصنف- أي المحقق الحلي في الشرائع- من الاقوال في ذلك خمسة:-

الأول: سقوط الولاية عنها رأساً وثبوتها لها مطلقاً

الثاني: استمرار الولاية عليها مطلقاً.

الثالث: التشريك بينها وبين الولي.

الرابع: استمرار الولاية عليها في الدائم دون المتعة.

الخامس: عكسه وهو مجهول القائل.

وسئل المصنف –حيث نقله هنا قولاً- عن القائل فلم يُجِب))(2).

((وقد عدّها الأصحاب من أمهات المسائل ومعضلات المشاكل))(3) وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: ((هذه المسألة من المهمّات والفتوى فيها من المشكلات بسبب اختلاف الروايات، وقد اضطربت لذلك أقوال الأصحاب

ص: 229


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 10/ جمادى الأولى/1428 الموافق 27/5/2007.
2- مسالك الأفهام: 7/120.
3- الحدائق الناضرة: 23/212.

فيها))(1).

يكون الاستدلال في هذه المسألة على مستويين:

الأول: عام حيث نحقق في العمومات والاطلاقات التي موضوعها الولاية على تزويج الباكر البالغة الرشيدة- وهي محل كلامنا لا المولّى عليها لعارض- مطلقاً سواء كان العقد دائماً أو منقطعاً وهل أنها مستقلة في ذلك أو أن وليّها مستقل في ذلك أو غيرها من الأقوال، ويكون هذا العموم مرجعاً فوقانياً عند تعارض الدليل الخاص أو إجماله.الثاني: خاص حيث نبحث في الأدلة على ولاية تزويج الباكر العاقلة الرشيدة في خصوص العقد المنقطع فإذا تمّ الدليل عليه نأخذ به بغضّ النظر عن موافقته للأول أو مخالفته لأنه مقدَّم عليه، وإن لم يتم فإن الأول يشمله بإطلاقه لأن المورد حصة منه فالكلام في جهتين:

الجهة الأولى: الولاية على تزويج الباكر العاقلة الرشيدة

اشارة

تعددت أقوال الفقهاء في المسألة تبعا للروايات والمستفاد منها عدة وجوه:

الأول: استقلال الأب بالأمر(2) وعدم وجود أي ولاية للبنت على نفسها وقد استدل له بادلة عديدة:

من القرآن الكريم قوله تعالى: «وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ واللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (النور:32) وقوله تعالى: «فَانْكِحُوهُنَّ بإذن أَهْلِهِنَّ» (النساء: 25) حيث أن ((اطلاق الآية يشعر باستبداد الأب بذلك وإن كرهت كالمولى بالنسبة إلى العبد والجارية وبذلك قال كثير من الأصحاب وهو الأظهر))(3)وقوله تعالى: «الَّذِي

ص: 230


1- مسالك الأفهام: 7/120.
2- ونقصد بالاستقلال في مقابل البنت وإلا فإنه ليس مستقلا بمعنى من المعاني في مقابل الجد للأب.
3- قلائد الدرر: 3/41.

بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ» (البقرة: 237) حيث أضافت عقدة النكاح إلى ولي الأمر وورد في معتبرة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الذي بيده عقدة النكاح هو وليّ أمرها)(1) وأوضح منها معتبرة العلاء بن رزين ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) حيث عرّف الأب على أنه ممن بيده عقدة النكاح.

ومورد الآية البكر التي لم يدخل بها «وَإِنْ طَلَّقتُموهنَّ مِن قَبلِ أنْ تَمَسّوهُنَّ» ويرد على الاستدلال بهذه الآية أن موردها غير الرشيدة بدليل الإذن لوليها بالتصرف بأموالها «إلاّ أنْ يَعْفُونَ أو يَعفوَ الذي بيَدهِ عُقدةُ النِكاحِ» بينما الرشيدة مستقلة في تصرفاتها المالية.

وعلى أي حال فإنه مع وجود الروايات المبينة للآيات ولتفاصيل الحكم لا داعي لتكلف فهمها وظهورها.

وقد دلت عليه عدة طوائف من الروايات:

منها ما هو صريح أو ظاهر في ذلك كموثقة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أرادا أن يزوجاها هو أنظرُ لها، وأما الثيِّب فإنها تُستأذن وإن كانت بين أبويها إذا أرادا أن يزوجاها)(2).وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر؟ فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب)(3).

ومعتبرة عبد الله بن الصلت قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجارية الصغيرة يزوّجها أبوها لها أمر إذا بلغت؟ قال: لا ليس لها مع

ص: 231


1- الوسائل: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 8، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 3، ح6، 11.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 3، ح6، 11.

أبيها أمر، قال: وسألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تكبر ((تُثيَّب خ ل)))(1).(1)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام): (قال: لا تستأمر الجارية إذا كانت بين أبويها ليس لها مع الأب أمر) (وقال: يستأمرها كل احد ما عدا الأب)(2).

وصحيحة أخرى للحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الجارية يزوجها أبوها بغير رضاء منها، قال: ليس لها مع أبيها أمر إذا أنكحها جاز نكاحه وإن كانت كارهة)(3).

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل هل يصلح له أن يزوج ابنته بغير إذنها؟ قال: نعم ليس يكون للولد أمر إلا أن تكون أمرأة قد دُخل بها قبل ذلك فتلك لا يجوز نكاحها إلا أن تستأمر)(4).

وتوجد روايات أخرى قابلة للمناقشة في السند كرواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (لا تستأمر الجارية في ذلك إذا كانت بين أبويها فإذا كانت ثيّباً فهي أولى بنفسها) (5) ومفهوم مرسلة ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس أن تزوّج المرأة نفسها إذا كانت ثيّباً بغير إذن أبيها إذا كان لا بأس بما صنعت)(6) ورواية ابراهيم بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا كانت الجارية بين أبويها فليس لها مع أبويها أمر وإذا كانت قد تزوّجت لم يزوّجها إلا برضاً منها)(7).

((وإطلاق الجارية في مثل هذه الروايات الشامل للبكر والثيب مقيد بما دلّ على عدم لزوم استئذان الثيِّب أو دعوى انصراف لفظ الجارية إلى البكر

ص: 232


1- (1) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 6، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 4، ح 3.
3- الوسائل: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد،باب 9،ح 7، 8.
4- الوسائل: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد،باب 9،ح 7، 8.
5- الوسائل: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح13، 14.
6- الوسائل: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح13، 14.
7- الوسائل: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الباب 9، ح3.

التي يزوجها أبوها لأول مرة انصرافاً بالغاً حد الظهور الحجة))((1).

(ومنها) الروايات التي دلّت على أن الولي إذا زوج ابنته وهي صغيرة جاز وليس لها نقضه إذا بلغت وكرهت النكاح فلو كان لها من الأمر شيء لجاز لها نقضه،كرواية علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) (أَتُزوَّج الجارية وهي بنت ثلاث سنين أو يُزَوَّج الغلام وهو ابن ثلاث سنين وما أدنى حدّ ذلك الذي يزوجان فيه، فإذا بلغت الجارية فلم ترض فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليها)(2) فنفى البأس عن جميع فقرات السؤال.

وصحيحة ابن بزيع(3) قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصبية يزوجها أبوها ثم يموت وهي صغيرة فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها يجوز عليها التزويج أو الأمر إليها؟ قال يجوز عليها تزويج أبيها).

وقد يقال إن صحيحة الحلبي الثانية الدالة على جواز إنكاح الأب ابنته وإن كانت كارهة هي الرواية الصريحة الوحيدة الدالة على استقلال الأب أما الروايات الأخرى فلا يستفاد منها ذلك لاحتمال أن المراد بالنفي هو استقلالها بالولاية فلا تنافي هذه الروايات ما دلّ على تشريكها في الولاية مع الأب.

لكن هذا الاحتمال بعيد فإن العرف يفهم من عدم جعل شيء من الولاية لها مع أبيها النفي المطلق الشامل للاستقلال والتشريك، والوجدان قاض بذلك؛ ومن القرائن المفيدة لذلك ورود عبارة (وإن كانت كارهة) التي فهموا منها استقلال الأب في سياق جوابه (عليه السلام) بنفس النص وهو (ليس لها مع أبيها أمر)، نعم لو ورد (ليس لها في أمرها شيء) من دون ذكر (مع أبيها) لأمكن حمله على نفي الاستقلال فلا ينافي التشريك كقولنا: (ليس لنا مع الله تبارك وتعالى شيء) النافي للحصتين، اللهم إلا أن يفهم قوله (عليه السلام) (مع الأب) جملة اعتراضية بتقدير (مع وجود الأب) ويكون المعنى ليس لها أمر مع

ص: 233


1- (1) ما وراء الفقه: 6/255.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 6، ح7، 1.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 6، ح7، 1.

وجود الأب فلا تأبى الحمل المذكور إلا أن الأصل عدم التقدير وعدم كون الجملة اعتراضية.

ويوجد فهم آخر للكلام بأن يكون معناه أنه ليس للبنت بعد أن قضى أبوها شيئاً في أمر تزويجها أن تنقض ذلك الشيء ويشهد له ما في معتبرة عبد الله بن الصلت قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجارية الصغيرة يزوجها أبوها لها أمر إذا بلغت؟ قال: لا ليس لها مع أبيها أمر)(1).

وحينئذٍ ستدل على مساحة أضيق من المدّعى وهي أنه ليس لها أن تنقض قرار أبيها إذا تدخل ولا اختيار لها مع اتخاذه قراراً لا مطلقاً.

وقد ورد هذا المعنى في الطائفة الأخرى وهي ما دلَّ على نقض الأب لتزويجها نفسها ففي صحيح زرارة: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لا ينقض النكاح إلاالأب) وكذا صحيحة محمد بن مسلم عنه (عليه السلام)(2) وهذا المعنى يدل على ما استظهرناه من استقلال الأب ولو كان لها شيء مع أبيها لجاز لها النقض فبضمّ مقدمتين وهما حق الأب في نقض نكاحها وعدم حقها في نقض نكاح الأب ينتج استقلال الأب في نكاحها؛ نعم، في صحيحة الحلبي معلومة جديدة وهي أن الأب مستقل في تزويج ابنته ولو كانت كارهة في حين إن الروايات الأخرى ساكتة عن ذلك إلا أن يستفاد من الاطلاق.

وقد أتعب الشهيد الثاني نفسه الشريفة في مناقشة هذه الروايات متناً أو سنداً بما لا جدوى في نقلها كورود حماد في طريق الشيخ إلى صحيحة الحلبي وهو مشترك بين الثقة وغيره وجوابه: إن نفس الرواية وردت في الكافي وطريقها صحيح وفيها حماد بن عثمان الثقة.

وورود علي بن الحكم في طريق صحيحة ابن أبي يعفور(3) الآتية (صفحة 239) على نقل الكليني، وهو مشترك بين الثقة وغيره وجوابه: إنه الكوفي الثقة

ص: 234


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 6، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد،باب 4، ح1، 5.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب6، ح5، 6.

بقرينة الراوي عنه وإن الصدوق رواها عن العلاء عن ابن أبي يعفور وطريقه إلى العلاء صحيح وليس فيه علي بن الحكم.

وإن (من) في نفس الصحيحة يحتمل فيها التبعيضية لا البيانية والفريقان متفقان على أن بعض الأبكار لا تُزوَّج إلا بإذن الآباء وهو بعيد عرفاً وخلاف الظاهر ونحوها.

نعم قد تناقش دلالة هذه الروايات بأنها أخص من المدعى الذي هو استقلال الأب بالولاية على تزويج الباكر البالغة الرشيدة وعدم صحة تزويجها نفسها من عدة جهات:-

1- إنها تسلب من البنت حق نقض قرار أبيها إذ ليس لها مع أبيها أمر حتى إذا كانت كارهة أما إذا لم يكن لأبيها أمر أو قرار في المسألة فهي حرة في تزويج نفسها، نعم له النقض على قرارها كما أفادت الرواية.

2- إن الروايات مختصة بالبنت حديثة العهد بالبلوغ وليس كل بالغة ما دامت بكراً وإن كانت رشيدة كما هو المدعى لعدة قرائن ومناسبات بين الحكم والموضوع:

ورود لفظة (الجارية) في أكثرها والمنصرف منها هذا العمر من البنت ولأنها سميت بالجارية لأنها ((تُستَجرى للخدمة)) فهي مناسبة لهذا العمر ولمقابلتها مع الغلام ففي رواية بريد (يزيد خ ل) الكناسي في حديث طويل قال فيه (قلت: فالغلام يجري في ذلك مجرى الجارية، فقال: يا أبا خالد إن الغلام إذا زوجه أبوه ولم يدرك كان له الخيار إذا أدرك وبلغ خمسة عشر سنة أو يشعر في وجهه أو ينبتأ- في عانته قبل ذلك)(1).

ب- ما ورد في موثقة الفضل بن عبد الملك (هو أنظر لها) وهو مناسب لهذه المرحلة من العمر حيث تكون قليلة الرشد.

ج-- ما ورد في صحيحة عبد الله بن الصلت (وسألته عن البكر إذا

ص: 235


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب6، ح9.

بلغت مبلغ النساء) ولا يضرّ في هذه القرينة ورود (ما) بعدها في قوله (عليه السلام) (ما لم تُثَي-َّب) الدالة على التراخي الزماني لأن هذه دلالتها في نفسها أما هنا فهي متعلقة بموضوع خاص وهي حديثة البلوغ.

3- إن عدداً منها ذكرت في صفة البنت أنها (بين أبويها) وفيها إشارة إلى وضع اجتماعي تكون البنت فيه في رعاية وليّها ومسؤوليته اجتماعياً فيكون من الطبيعي استئذانه في تزويجها فإذا اعتبرنا هذا قيداً فستكون ولاية الأب خاصة بالبنت التي تكون تحت مسؤوليته الاجتماعية أما غيرها فلا ولاية له عليها؛ نعم، قد يشكل في اعتباره قيداً باعتبار أن ذكره جرى مجرى الغالب وليس قيداً كالذي قيل في وصف ربائبكم بأنها في حجوركم فهو ليس قيداً لأن الربيبة مطلقاً محرمة وإن لم تكن في حجر زوج أمها.

(ومنها) الروايات التي جعلت الولاية على تزويج البنت للجد للأب أو فاضلت بين ولايتيهما من غير أن تتطرق لحقّ البنت في نفسها كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: (إذا زوّج الرجل ابنة ابنه فهو جائز على ابنه، ولإبنه أيضاً أن يزوجها)(1) الحديث، بل إن بعضها ظاهر في جريان تزويجهما حتى لو كانت كارهة كموثقة عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل ويريد جدها أن يزوجها من رجل آخر فقال: الجد أولى بذلك ما لم يكن مضاراً إن لم يكن الأب زوجها قبله ويجوز عليها تزويج الأب والجد)(2) ومحل الشاهد الفقرة الأخيرة فإنها ظاهرة في صحة العقد وإن كانت كارهة.

وموثقة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الجد إذا زوّج ابنة إبنه وكان أبوها حياً وكان الجد مرضياً جاز) الحديث(3).

لكن الاستدلال ببعض فقرات هذه الطائفة يمكن أن يناقش بأن هذه

ص: 236


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب11، ح1، 2، 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب11، ح1، 2، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب11، ح1، 2، 4.

الروايات لا يستفاد منها عدم مدخلية رضا البنت لأنها ساكتة عن هذه الجهة وهي بصدد بيان ولاية الأب والجد فلا إطلاق لها من هذه الناحية حتى يتمسك به لنفي التقييد برضاها.

واستدل بوجوه أخرى ك-((الاستصحاب لحالها قبل البلوغ وظهور الحكمة في سلبها الولاية في ذلك لقصور رأي المرأة سيما الباكرة وكونها عيلة على الولي غالباًفجعلت له الولاية لأنه أعرف بالصالح والأصلح غالباً))(1).

والاستصحاب مردود لعدم وحدة الموضوع ولا مجال للتمسك بالأصل مع وجود الدليل وأما الحكمة فهي ليست مطردة في كل النساء ثم إنها ((لا تصلح للتعليل لعدم انضباطها، ونقضها باستلزام إثبات الولاية للأقارب عند عدم الأب))(2) وبقية الوجوه استحسانية.

الثاني: ولاية الأب من دون تعرض لكونها مستقلة أو بالتشريك مع البنت مثل صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال :(لا تنكح ذوات الآباء من الأبكار إلا بإذن آبائهن)(3).

ومثلها معتبرة العلاء بن رزين إلا أنه قال (لا تُزوَّج)(4).

ورواية الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إذا زوّج الرجل ابنه فذاك إلى ابنه وإذا زوج الابنة جاز)(5).

إذا فهمنا جاز بمعنى الجواز الوضعي اما إذا فهمناها بمعنى المضي والثبات وعدم جواز نقضه من قبل المرأة فسيكون بإطلاقه الشامل لحالة كره البنت دليلاً على القول الأول ورواية أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال الجارية البكر التي لها أب لا تتزوج إلا بإذن أبيها)(6).(6)

ومما يصلح دليلاً على هذا القسم مفهوم الروايات التي دلت على أن

ص: 237


1- قلائد الدرر: 3/42.
2- المختلف للعلامة: 7/116.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، باب 6، ح5، 6، 4.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، باب 6، ح5، 6، 4.
5- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، باب 6، ح5، 6، 4.
6- (6) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب4، ح2.

الثيِّب تملك أمر نفسها ولا ولاية للأب عليها فتدل بالمفهوم على أن الأب له الولاية على البكر ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)

أنه قال في المرأة الثيِّب تخطب إلى نفسها قال: (هي أملك بنفسها تولي أمرها من شاءت إذا كان كفواً بعد أن تكون قد نكحت رجلاً قبله)(1) قال صاحب الحدائق (قدس سره) في تقريبها: ((ودلالة الرواية وإن كانت بالمفهوم إلا أنه في معنى مفهوم الشرط))(2) من مفهوم اللقب ولا نقول به، نعم مرسلة ابن بكير ظاهرة في مفهوم الشرط حيث روى عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس أن تُزوِّج امرأة نفسها إن كانتثيّباً بغير إذن أبيها إذا كان لا بأس بما صنعت)(3).

ومما يستدل به أيضاً الروايات التي أوصت الأب باختيار الكفؤ لزواج كريمته والمنع من تزويج الفاسق فلو لم تكن له ولاية لما صحّ توجيه الخطاب إليه وسيأتي ذكر هذه الرواية في الوجه السادس من وجوه الجمع بين الروايات، وفي بعضها يكتب السائل إلى الإمام (عليه السلام) وكأنه المتصرف المستقل في شأن البنت ويمضيه الإمام (عليه السلام) كرواية الحسين بن بشار الواسطي الآتية ورواية علي بن مهزيار قال كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر (عليه السلام) في أمر بناته وأنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر (عليه السلام): (فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وأنك لا تجد أحداً مثلك فلا تنظر في ذلك رحمك الله فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(4).

الثالث: استقلال البنت واستدل عليه ب-:

1- أنه ((المشهور نقلاً وتحصيلاً بين القدماء والمتأخرين، بل عن المرتضى في

ص: 238


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 3،ح4.
2- الحدائق الناضرة: 23/217.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح14.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 28، ح1.

الانتصار والناصريات الإجماع عليه))(1). لكن الشهرة ليست بحجة وإجماعات السيد المرتضى يعلم الجواب عليها في محلها، وهو على أي حال مدركي.

2- إطلاق الآيات والنصوص الواردة في النكاح فإن العقد إنما هو الصيغة التي تقع بين الرجل والمرأة فيجب الوفاء به سواء أرضي الأب أو الجد أم لم يرضيا بذلك كما يقتضيه إطلاق قوله تعالى: «وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ» (النساء: 24) والآيات الدالة على إضافة النكاح إليهن من غير تفصيل كقوله تعالى: «حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (البقرة: 230) وقوله تعالى: «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ» (البقرة: 232) وقوله تعالى: «فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» (البقرة: 234)) وهذا مفيد للعموم الشامل لغير المدخول بها(2).

لكن هذه الإطلاقات قابلة للنقاش من حيث أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة وإنما من جهات أخرى.

وكذلك اطلاق ما دلّ على جواز نكاح المرأة بعد انقضاء عدتها فإن مقتضاهعدم اعتبار إذن الولي من غير فرق في ذلك بين البكر والثيب(3) كقوله تعالى: «حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» وقوله تعالى: «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ» وقوله تعالى: «فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» وهذا مفيد للعموم الشامل لغير المدخول بها(4).

وكذلك إطلاق الروايات الدالة على جواز التزويج من المرأة التي تدعي خلوها من البعل كمعتبرة ميسرة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد، فأقول لها: ألكِ زوج؟ فتقول: لا،

ص: 239


1- جواهر الكلام: 29/175.
2- قلائد الدرر للجزائري: 3/43.
3- بناءً على تفسير الثيِّب بالمدخول بها لا المزوجة سابقاً وإن لم يدخل بها، وسيأتي تفصيله في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
4- قلائد الدرر: 3/43.

فأتزوجها؟ قال: نعم هي المصدقة على نفسها)(1).

وكذلك إطلاق الروايات التي دلت على الاكتفاء بسكوت البنت دليلاً على رضاها كصحيح البزنطي عن أبي الحسن (عليه السلام): (في المرأة البكر إذنها صماتها، والثيّب أمرها إليها)(2) بتقريب أن أمرها لو لم يكن بيدها لا يبقى معنى لهذا الاعتبار.

فهذه عدة طوائف من الآيات والروايات.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فهذه الإطلاقات وغيرها تقتضي استقلال البنت مطلقاً في أمرها بحيث لو كنا نحن وهذه الآيات والنصوص ولم يكن هناك نص خاص يقتضي الخلاف لكان القول باستقلالها هو المتعين)) (3) لكن من الواضح أن ما ذكره لا إطلاق له لأنها ليست في صدد البيان من هذه الجهة وإنما هي واردة لبيان أمور أخرى كجواز أصل التزويج وإن سكوتها رضاها فيما يعتبر فيه إذنها لا مطلقاً وهكذا. وإذا أردنا التنزّل فإنها لا تدل على الاستقلال ولا تنفي التشريك كما أن بعضها خاص ببعض الحالات كالعضل.

3- بعض الأصول والعمومات كعموم السلطنة على النفس و((أصالة عدم اشتراط إذن الولي في صحة العقد مؤيداً بأن البلوغ والرشد هو مناط التصرف فتخصيص بعض التصرفات (كالنكاح) دون بعض (كالتصرفات المالية) تحكّم))(4) وفيه:-

أ- إن الأصل لا يستند إليه مع وجود الأمارة.

ب- إن الخروج عن الأصل بإضافة بعض الشروط لبعض التصرفات دون غيرها إذا كان بدليل فهو ليس تحكماً وإنما التحكم هو القول بلا دليل.

ص: 240


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد،باب 3،ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الباب5، ح1.
3- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/210.
4- قلائد الدرر:3/43.

4- الروايات الخاصة بالمقام وقال عنها السيد الخوئي(1) ((إلا أن هذه النصوص لا تخلو أجمعها من الضعف في الدلالة أو السند)) والتحقيق في دعواه يتطلب النظر فيها تفصيلاً:

فمنها: صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة ولا المولى عليها تزويجها بغير ولي جائز)(2) والولي المنفي عنها هو الولي عن غير النكاح وإلا أصبحت قضية بشرط المحمول وهي لا معنى لها إذ سيصبح معناها أن من لا ولاية عليها في النكاح فنكاحها بلا إذن الولي جائز، أما ما فهمناه فيجعل القيد بياناً شارحاً لمعنى ملكت نفسها.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((إلا أن المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة تكاد أن تكون واضحة فإن الموضوع فيها هي الجارية وهي أعم من البكر والثيب ومن هنا فلا تكون هذه الصحيحة صريحة في المدّعى ومن النصوص الخاصة في المقام وإنما هي مطلقة فيكون حالها حال الآيات والنصوص المتقدمة لا تصلح لمعارضة ما دلّ على اعتبار إذن الولي – لو تمت دلالة وسنداً))(3).

وفيه: إنه لا ذكر للجارية فيها بل إن الموضوع المذكور فيها المرأة فلعله من سهو القلم وهي أيضاً كما قال أعم من البكر والثيب وهذا العموم لمصلحة المستدل لا ضده كما يوحي كلامه (قدس سره) وبالعموم والشمول للبكر يستدل صاحب هذا القول فكان الأولى به (قدس سره) أن يصفها بأنها مجملة إذ قد يراد بالمرأة التي ملكت نفسها الثيّب. وعلى أي حال فإنها قابلة للتخصيص بما دلّ على اشتراط الإذن لو تم وربما كان يشير (قدس سره) إليه بقوله إنها لا تصلح للمعارضة.

لكن الظاهر من الرواية أن علة سقوط ولاية الأب كونها مالكة لأمرها بلا

ص: 241


1- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/210
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح1.
3- مباني العروة الوثقى: 2/259

فرق بين كونها بكراً أو ثيباً فبعموم التعليل يستدل على استقلال البنت المتصفة بهذه الصفة لا بعموم المرأة حتى تكون قابلة للتخصيص وهذه نكتة يجب الالتفات إليها.

وتضاف هنا نكتة أخرى وهي أن هذه الطائفة من الروايات ورد فيها التعبير ب-(المرأة) وهي الكبيرة الناضجة الرشيدة مقابل الرجل، أما البنت الصغيرة حديثة العهد بالبلوغ فأطلقت عليها الروايات في الطائفة الأولى (الجارية) وهي مقابل الغلام فهذا التنوع يشير إلى العلة التي ذكرناها والتفريق بلحاظ رشد المرأة ونضجها.

فإن قلت: إن هذه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو ممنوع، بيانه:أن الموضوع هنا مركب من جزئين المرأة المالكة أمرها وأخذ عموم المرأة للبكر والثيب جزءاً للموضوع ليثبت الحكم وهو استقلالها بالولاية خصص بروايات اشتراط إذن الأب فخرجت البكر من الموضوع فلا يجوز التمسك بالعام فيها ويعود الموضوع إلى الثيِّب المالكة نفسها ويكون القيد توضيحياً لا احترازياً.

قلت: إن الذي أوجب التخصيص هي المعارضة بين عموم المرأة واشتراط إذن ولي الأمر وسيأتي بإذن الله تعالى أن هذه المعارضة لا واقع لها لأن موضوع الحكم الأول (هو استقلال المرأة) غير موضوع الحكم الثاني (وهو اشتراط إذن ولي الأمر) فإذا ارتفع المانع من التمسك بعموم المرأة تنقح موضوع حكم العام وهو استقلالها بالتصرف وجاز التمسك به.

وبتعبير آخر: إن الموضوع هنا واحد وهي (المرأة المالكة نفسها) وتصلح أن تخصّص روايات اشتراط إذن الولي خصوصاً مع ضميمة القرائن التي أقمناها على أن مفاد روايات الاشتراط أخصّ من المدّعى. مع أن الأصل في القيود أنها احترازية.

وقد فسّر صاحب الوسائل في تعليقه على الحديث المالكة أمرها بالثيب أو تخصيص الولي بغير الأب لكي ينسجم الحكم مع مبانيه وهو كما ترى لا دليل عليه.

ص: 242

ومنها: رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال: إذا كانت المراة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي مالها ما شاءت فإن أمرها جائز تزوج إن شاءت بغير إذن وليها وإن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بإذن وليها)(1) فيتمسك بعموم المرأة وشمولها للبكر والمناقشة فيها كما تقدم قال في المباني ((إلا أنها مطلقة كالصحيحة المتقدمة فحالها حالها)) (2) وقد علمت ردها بالنكتة المذكورة، مع وجود شيء فيها أزيد مما في الصحيحة التي سبقتها سوى إيضاح معنى كونها مالكة لأمرها وهو مستفاد من الرواية الأولى ولكن ليس بهذا الوضوح وإنما بتقريب أن مالكيتها لأمرها ليس من جهة التزويج وإلا فإن القضية تصبح ضرورية كما قلنا وإنما في سائر شؤونها ومعاملاتها ومن أمثلتها ما ذكرته رواية زرارة فلا مانع من الاستفادة من رواية زرارة في فهم مالكية المرأة لأمرها.

إلا أن المناقشة تبقى في السند فإن علي بن إسماعيل الميثمي وموسى بن بكر لم يوثقا لكن الأصحاب تلقوها بالقبول ولم يناقشوا في سندها.

ومنها: رواية سعدان بن مسلم قال: (قال ابو عبد الله (عليه السلام): لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت بغير إذن أبيها)(3) وهي صريحة الدلالة على المطلوب إلا أنها غير آبية الحمل على ما لا ينافي اشتراط إذن ولي الأمر في الجملة (أي استقلالاً أو اشتراكاً) كما لو حملناها بقرينة الصحيحةالمتقدمة على المالكة أمرها ومع هذا الحمل فهي ليست كما وصفها السيد الخوئي (قدس سره) بأنها ((شاذة لا يمكنها معارضة الأخبار الكثيرة جداً بحيث تكاد تبلغ حد التواتر الدالة على اعتبار رضا الأب في الجملة- استقلالاً أو اشتراكاً- للجزم بصدورها ولو بعضاً، منهم (عليهم السلام) ))(4).

ص: 243


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 9، ح6.
2- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/211.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 9، ح4.
4- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/212.

وقد حملها في الوسائل على المتعة أو من عضلها أبوها أو التقية لأن أبا حنيفة ممن يرى استقلال البنت(1) لكن هذا مما لا حاجة إليه بل إن الحمل على التقية بعيد فإن فقه أبي حنيفة لم يتبلور وتتبناه الدولة إلا بعد عصر الإمام الصادق (عليه السلام) بل على العكس فإن الظاهر أن الاتجاه العام لفقههم يومئذٍ من خلال ما يروون هو اشتراط إذن أبيها ويشهد له ما في رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني لذات يوم عند زياد بن عبد الله إذ جاء رجل يستعدي على أبيه فقال: أصلح الله الأمير إن أبي زوج ابنتي بغير إذن فقال زياد لجلسائه الذين عنده: ما تقولون فيما يقول هذا الرجل؟ فقالوا: نكاحه باطل.... الحديث)(2).

وقد نوقشت سنداً من جهتين:-

أ- عدم توثيق سعدان بن مسلم ورده في المباني من أنه من رواة تفسير علي بن إبراهيم وهذا كافٍ في توثيقه. ويمكن توثيقه من جهة رواية محمد بن أبي عمير عنه(3) وهو من أصحاب الإجماع ورواية صفوان بن يحيى عنه في طريق الشيخ اليه(4) بناءً على كبرى أنهما لا يرويان إلا عن ثقة، وقد تقدم مختارنا في هذه الكبرى، ((وعدّه ابن داوود في القسم الأول من رجاله وعن السيد الداماد: أن سعدان بن مسلم شيخ كبير القدر، جليل المنزلة له أصل))(5).

وعلى أي حال فرواية سعدان مما لا ينبغي الإعراض عنها وإن لم يوثق لمجموع القرائن المتقدمة.

قال السيد الحكيم (قدس سره) عن سعدان أنه ((معتبر الرواية في نفسه، وإن لم ينصّ عليه توثيق، فإن ملاحظة أحواله المسطورة في كتب الرجال

ص: 244


1- هامش الوسائل :14/215.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 11،ح5.
3- معجم رجال الحديث: 8/103.
4- معجم رجال الحديث: 8/101.
5- معجم رجال الحديث: 8/102.

تستوجب الوثوق به واعتبار حديثه))(1).

ب- ((إن الشيخ (قدس سره) روى الحديث عن سعدان بن مسلم بطريقين أحدهما فيه (العباس بن معروف عن رجل عن سعدان) والآخر (العباس عن سعدان) ولما كان من المقطوع به أن النصّين رواية واحدة ولم يروها سعدان للعباس مرة عن الإمام (عليه السلام) مباشرة والأخرى عن رجل عنه (عليه السلام) فتكون الرواية غير محرزة السند لعدم إحراز كونها مسندة لا مرسلة فتسقط عن الحجية لا محالة))(2) وذكره في معجم الرجال(3).

أقول: إن الظاهر هو التعدد إثباتاً لاختلاف الطريق فقد رواها الشيخ (قدس سره) بسنده عن محمد بن علي بن محبوب عن العباس عن سعدان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (الوسائل: أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب9، ح4)، ورواها بسنده عن محمد بن أحمد بن عيسى عن العباس بن معروف عن سعدان بن مسلم عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أبواب المتعة، باب11، ح8). ولاختلاف النص ففي الأولى (بغير إذن أبيها) وفي الثانية (أبويها) ولأجل هذا جعل صاحب الوسائل كلاً منها في باب حيث اعتبر الثانية واردة في المتعة.

وقال السيد الحكيم (قدس سره): ((وكذا الطعن فيها بأنها عين المرسلة فلا تكون حجة، إذ فيه أنه خلاف الأصل بعد أن رواهما الشيخ في التهذيب معاً، مع اختلاف في المتن من جهة إفراد الأب في المسند وتثنيته في المرسلة)) إلا أنها ثبوتاً يحتمل أن يكون النقل من سعدان إلى العباس واحداً لكنه لم يبلغ درجة القطع كما قال (قدس سره) حتى نخالف الظاهر بموجبه.

ومنها: رواية أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: الجارية البكر التي لها الأب لا تتزوج إلا بإذن أبيها، وقال: إذا كانت مالكة لأمرها

ص: 245


1- مستمسك العروة الوثقى: 14/447.
2- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/212
3- معجم رجال الحديث: 8/102.

تزوجت متى ما شاءت)(1).

وقد قرّب السيد الخوئي (قدس سره) دلالتها على المطلوب: ((بدعوى حملالجملة الأولى على الصغيرة والثانية على البالغة الرشيدة)) وناقشها ((بأن الموضوع فيها ليس هو الجارية فقط ومن غير قيد وإنما هو الجارية البكر وهو مما يكشف عن وجود خصوصية للبكارة ومن هنا فلا يمكن حمل الجملة الأولى على خصوص الصغيرة وحمل الجملة الثانية على البالغة لأنه يستلزم إلغاء خصوصية البكارة باعتبار أن أمر الصبية بيد أبيها سواء كانت باكراً أم ثيباً)) ثم قال: ((وعلى هذا الأساس فلا بد من حمل الجملة الثانية أما على فرض موت الأب أو تثيّب البنت بعد ذلك)) (2)، وفي الجميع نظر:

أما الدعوى التي قرّب بها الاستدلال فهي غير صحيحة ولا نحتاج أن نحمل الفقرة الأولى على موضوع والثانية على غيره إذ الثانية حصة خاصة من الأولى فأعطى حكم الجارية البكر عموماً بأنها غير مستقلة عن أبيها ثم أخرج حصة خاصة من الأبكار وهي التي ملكت أمرها فإنها مستقلة بالتزويج فكأنه قال: أكرم العلماء وإذا كان فاسقاً فلا تكرمه فموضوع الفقرة الثانية نفس موضوع الأولى مع إضافة قيد وهو الفسق وفي الرواية فإن موضوع الثانية هي الجارية البكر بإضافة وصف أنها مالكة لأمرها وهذا واضح في عرف أهل المحاورة وهو عين ما أفادته الروايات السابقة.

وأما مناقشته ففيها: إن الموضوع هي الجارية البكر التي لها أب فيمكن أن يكون علة الحكم كون لها أب يعتني بشؤونها ويدبر أمورها وليس البكر لذا فقد حمل الجملة الثانية بعدئذ على فرض موت أبيها أما الحمل الآخر فلا مبرر له بعد ما قلنا في تقريب الاستدلال بالرواية على أن فيه الغاءً لخصوصية (مالكة لأمرها) أو جعله بمعنى موت الأب أو تثيب البنت وهو إلغاء للعنوان أيضاً، كما

ص: 246


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 3،ح7. وفي سندها المعلّى بن محمد وقد تقدّم تقييم وثاقته في (صفحة 182).
2- مباني العروة الوثقى من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 33/212.

أن رواية زرارة المتقدمة قد شرحت معنى مالكيتها لنفسها بغير ما ذكر (قدس سره) بالثيبوبة، كما أننا لو قبلنا تفسير مالكية الأمر بموت الأب فلا نقبله في الثاني أي أن الثيبوبة تعني مالكية الأمر إلا أن تخصص بالتزويج خاصة فيكون المعنيان (الثيبوبة، مالكية الأمر) متلازمين كما ورد في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثيِّب تخطب إلى نفسها؟ قال: نعم، هي أملك بنفسها تولي أمرها ما شاءت إذا كانت قد تزوجت زوجاً قبله)(1) إلا أن القضية تصبح بشرط المحمول كما تقدم في صحيحة الفضلاء المتقدمة.

فنحن لا نريد أن نكون مع صاحب الدعوى الذي أطلق استقلال البالغة الرشيدة إذ نقيّدها بالمالكة أمرها ولا مع السيد الخوئي (قدس سره) الذي ألغى خصوصية أنهامالكة لأمرها وحمل الجملة الثانية على موت الأب أو الثيبوبة التي يعلم استقلالها فيها.

ومنها: معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: تزوج المرأة من شاءت إذا كانت مالكة لأمرها فإن شاءت جعلت ولياً)(2).

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وفيها إنه لو سلمنا صحة حمل قوله (عليه السلام) (مالكة لأمرها) على البالغة فدلالتها على المدعى إنما هي بالإطلاق ومن هنا فيكون حالها حال الأخبار المطلقة المتقدمة))(3)وقد عرفت المناقشة فيه فإن المستدل تمسك بعموم التعليل بخصوصية كونها مالكة أمرها فتكون حصة خاصة من البكر ويرتفع بها التنافي مع أدلة اشتراط ولاية الأب على البكر غير المالكة لأمرها فلا وجه لتخصيص موضوع المالكة لأمرها بالثيب.

واستدل صاحب الجواهر لهذا القول أيضاً بالروايات التي دلّت على جواز التمتع بالبكر من دون إذن أبيها كصحيح الحلبي عنه عليه السلام: (سألته

ص: 247


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب3،ح12، 8.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب3،ح12، 8.
3- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/212.

عن المتعة بالبكر بلا إذن أبويها، قال: لا بأس)(1) ((بعد إتمامها بعدم القول بالفصل إلا من المحكي عن جمع الشيخ في كتابي الأخبار اللذَين لم يعدا للفتوى بسقوط الولاية عنها في المنقطع دون الدائم))(2).

ثم قال (قدس سره): ((هذه هي الأخبار التي يمكن الاستدلال بها على المدعى وقد عرفت أنها جميعا لا تخلو من الضعف في الدلالة أو السند أو هما معاً)) لكنك قد عرفت العكس فإن عدداً منها معتبرات سنداً وإنما ضعف دلالتها لعدم الالتفات إلى النكتة التي ذكرناها والضعيفة سنداً لا نحتاجها.

ثم قال (قدس سره): ((نعم، هي موافقة للكتاب وعمومات السنة حيث قد عرفت أن مقتضاها نفوذ العقد مطلقاً وعدم ثبوت سلطنة لأحد على غيره)) وردّه سيدنا الأستاذ (قدس سره) بأنه ((لا يوجد في القرآن الكريم ما يدل على استقلال المرأة في النكاح وما دلّ على جواز نكاح المؤمنات ونحوه لا إطلاق فيه لأنه ليس بصدد البيان من هذه الناحية))((3) وقد تقدم في أدلة القول الثالث بعض هذه الآيات والمناقشة في إطلاقها.

أما إنكار سيدنا الأستاذ (قدس سره) لوجود ما يدل على استقلال البنت فيالقرآن فيمكن أن نرد عليه بما ذكرناه من الآيات في بداية الاستدلال على القول الثالث مضافاً إلى أن موافقة الكتاب قد تعني الأوسع من ذلك فتشمل الانسجام مع روح ومضامين الكتاب وقد نفى القرآن ولاية أحد على أحد إلا لله وللرسول وللمؤمنين بالمعنى الأخص «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (المائدة: 55)؛ نعم، يرد على السيد الخوئي (قدس سره) بأن هذه عمومات عالية وبعيدة قد خرجت منها عمومات أخص منها وأقرب إلى المقام وهي المرجع دلت على ولاية الأب وقد ذكرناها ضمن أدلة القول الأول كقوله تعالى: «فَانْكِحُوهُنَّ بإذن أَهْلِهِنَّ»

ص: 248


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح9.
2- جواهر الكلام: 29/179.
3- ((«4» ما وراء الفقه: 6: 188 من طبعة بيروت.

(النساء: 25) وقوله تعالى: «أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ» (البقرة: 237) وقوله تعالى: «وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ» (النور: 32).

على أن الترجيح بموافقة الكتاب ونحوه فرع حصول المعارضة بين الروايات وهو ما لم يثبت كما سيأتي إن شاء الله تعالى كما أنه (قدس سره) لم يستدل بطائفة أخرى من الروايات وهي التي تضمنت اشتراط إذن ولي الأمر إذا كانت (بين أبويها) كرواية إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إذا كانت الجارية بين أبويها فليس لها مع أبويها أمر)((1) وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) وموثقة فضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد أبوها أن يزوجها هو أنظر لها)(2) الحديث، فهذه الروايات تدل بالمفهوم على أن البنت إذا لم تكن بين أبويها فلا تستأذن ولي أمرها ولجملة (بين أبويها) معنيان:

الأول: أن تكون كناية عن وجود أبيها وحياته بغض النظر عن المعنى الثاني ويكون مفهوم الجملة أنه إذا لم يكن أبوها موجوداً فلا ولاية له عليها فتصبح الولاية حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع وليس للجملة حينئذ مفهوم لأن الشرط يكون مسوقاً لبيان تحقق الموضوع.

الثاني: أن يكون بمعنى المسؤولية الاجتماعية للاب عن البنت وكونها في أحضانه وتحت رعايته ويدبر جميع شؤونها كما هو المتعارف في بنات المسلمين ويكون مفهوم الجملة أنها إذا لم تكن في مسؤوليته بل كانت هي تدبّر شؤونها مستقلة عن أبيها إما لأنه قد تخلى عنها كما لو تزوج امرأة أخرى وترك الزوجة الأولى مع بناتها أو لأن نمط الحياة الاجتماعية التي يعيشونها تفترض استقلال البنت في تصرفاتها بعد البلوغ كما ينقل عن المجتماعات الغربية ومقلّديهم من المسلمين فحينئذ لا يصدق عليها أنها بين أبويها وعلى هذا المعنى يتم الاستدلال للمطلوب فإنه بمعنى كونها مالكة لأمرها وإن كان الأب موجوداً وقد دلّ مفهوم

ص: 249


1- ( وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 9، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب3، ح6.

الروايات المتقدمة على عدم ولاية الأب عليها.

والمعنى الثاني أظهر من الأول، وتوجد أكثر من رواية عامية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤيد ذلك كالمرسل عن ابن عباس (أن جارية بكراً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت: إن أبي زوّجني من ابن أخٍ له ليرفع خسيسته، وأنا له كارهة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أجيزي (اختري خ) ما صنع أبوك، فقالت: لا رغبة لي فيما صنع أبي، قال: فاذهبي فانكحي من شئتِ فقالت: لا رغبة لي في ما صنع أبي ولكن أردت أن أُعلِم النساء أن ليس للآباء في أمور بناتهم شيء)(1) وخبره الآخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاًً (الأي-ِّم أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها)(2)، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((والمراد بالأي-ِّّم من لا زوج لها قال الجوهري: ((الأيامى: الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، وامرأة أي-ِّّم بكراً كانت أو ثيّباً)) (الصحاح: 5/1868 مادة أيم) والدلالة في الرواية من صدرها وعجزها، وإعادة ذكر البكر مع دخولها في الأي-ِّّم للتنبيه على اختصاصها بكون سكوتها كافياً عن الجواب اللفظي)).

كما يمكن الاستدلال لهذا القول بصحيحتي زرارة ومحمد بن مسلم الآتيتين في القول الرابع بالتقريب الذي يذكر في حينها.

الرابع: ما دل على أن لها حقاً في نفسها أعم من أن تكون مستقلة فيه أو مشتركة مع أبيها:

فمنها: معتبرة صفوان قال: (استشار عبد الرحمن موسى بن جعفر (عليه السلام) في تزويج ابنته لابن أخيه فقال: افعل ويكون ذلك برضاها فإن لها في نفسها نصيباً قال واستشار خالد بن داود موسى بن جعفر (عليه السلام) في تزويج ابنته علي بن جعفر فقال: افعل ويكون ذلك برضاها فإن لها في نفسها

ص: 250


1- ذكره الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك (7/123) وفي الهامش انه موجود في سنن ابن ماجة (1/602) والبيهقي (7/117) وغيرهما.
2- مسالك الأفهام:7/122، وأشار محققو الكتاب إلى مصادره في (سنن الدارمي: 2/138)، و(سنن أبي داود:2/232)، و(صحيح مسلم:2/1037).

حظاً)(1) .

ومعتبرة عبد الله بن الصلت المتقدمة وفيها (وسألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تكبر)(2) فإن ذيلها يدلّ على أنها إذا كبرت كان لها مع أبيها أمر، ولا يراد بكبرها بلوغها سن التكليف لأن هذا مما افترضه السائل وإنما أُريد به درجة من النضج والرشد ومعرفة الصالح.

وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليهالسلام): (قال: تستأمر البكر وغيرها ولا تنكح إلا بأمرها)(3) .

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وأما صحيحة منصور بن حازم فلا تصلح للاستدلال بها على المدّعى لكونها مطلقة فتتقيد بقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: (يستأمرها كل أحد عدا الأب)))(4).

وفيه:-

1- إن كلامه (قدس سره) – لو أمكن قبوله- ففي صدر الرواية أما الذيل فإنه يفيد الحصر بها وهو غير قابل للتقييد.

2- إن حمل المطلق على المقيد فرع حصول المعارضة بينهما ونحن لسنا بصدده وإنما نحن بصدد استعراض الأقوال ويكفينا إلى هنا التمسك بالإطلاق على أن المعارضة يمكن أن تنتفي أساساً عندما نحمل صحيحة منصور على البكر المالكة أمرها وصحيحة ابن مسلم على البكر التي بين أبويها بالمعنى الذي ذكرناه.

وسيأتي (صفحة 263) بإذن الله تعالى الاستدلال بمفهوم ما دلّ على أن البكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها.

ص: 251


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب9، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب6، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب6: ح1.
4- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 33/216.

الخامس: التشريك بينهما لكن لا بالمعنى الذي ذكروه وإنما بمعنى أن للبنت الولاية المستقلة على تزويج نفسها وليس إذن الأب شرطاً في صحته ((ولكن للأب فسخ عقد البنت وإن كان صحيحاً بغير إذنه، فإن فسَخَه انفسخ وإن لم يفسخه بقي على صحّته، فإن النقض إنما يكون بعد الإبرام))(1).

وقد احتمل السيد الحكيم (قدس سره) أن تكون هذه الطائفة خامسة وجعلها مستقلة عن سابقتها.

ولكن الإنصاف أن هذه الطائفة لا إطلاق لها لأنها بصدد بيان من له حق نقض نكاح البنت في الجملة من دون التعرض للتفاصيل فهي لا تشير إلى أزيد مما أشارت إليه الطوائف السابقة.

نعم يمكن أن تكون مطلقة بضميمة ما دلّ في رواية أخرى عن الثيّب (فتلك التي ليس للأب أن ينقض نكاحها) وهي ظاهرة في إخراج الثيب خاصة وشمول الباقي بحق النقض للأب.

وقد دلّت على هذا المعنى صحيحة زرارة قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لا ينقض النكاح إلا الأب)(2) ومثلها صحيحة محمد بنمسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أيضاً، وقد قرب في الوسائل في تعقيبه على صحيحة زرارة الاستدلال بها على التشريك قائلاً: ((هذا فيه دلالة ما على اشتراك الولاية بين الأب والبنت وإلا لكان العقد الواقع منها غير صحيح ولا حاجة إلى نقضه)).

وأوضحَه السيد الخوئي (قدس سره) على غير هذا المعنى بقوله: ((فإنه وبعد الالتفات إلى أنه – أي النقض – إنما يكون بالنسبة إلى الأمر المبرم وإن المقصود من العقد المبرم في المقام لا يمكن أن يكون العقد الصحيح بالفعل لأنه غير قابل للنقض مطلقاً إذ ليس لأحد الخيار في فسخ النكاح الصحيح جزماً وإجماعاً من المسلمين قاطبة لا بد من الحمل على الإبرام الشأني والصحة

ص: 252


1- مستمسك العروة الوثقى: 14/447.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 4، ح1.

التأهيلية أي ما يكون صادراً من أهله وواقعاً في محله بحيث له قابلية الإتمام والصحة عند استكمال سائر الشروط المعتبرة، واستعمال الإبرام في هذا المعنى ثابت في غير هذا المورد أيضاً فقد ورد في أبواب الصلاة أن من جهر في موضع الإخفات أو أخفت في موضع الجهر فقد نقض صلاته(1) فإنه من الواضح أنه ليس المقصود بذلك هو نقض الصلاة المحكومة بالصحة بالفعل))(2)، وفيه:-

1- إن تسمية الواقع فعلاً نكاحاً لا يعني بالضرورة صحته لا فعلاً ولا شأناً - بغضّ النظر عما يأتي- بل يعني أن هذا الذي بصورة النكاح أو أن ما سماه المتعاقدان نكاحاً منقوض بعد إجازة الأب فهو تسامح صححه الجري مع المتكلم وأمثاله في الروايات كثيرة فعندما يقول صلاته باطلة أو العقد فاسد أو الصوم غير صحيح فتسمية الفعل الخارجي صلاة أو صوماً أو عقداً لا يعني صحته وإلا لوقع التهافت كما هو واضح وهو كتسميتنا لهارون العباسي بالرشيد جرياً مع الكتّاب والمتحدثين وإلا فهو ليس برشيد وقصدنا هذا الذي يسمونه رشيداً وبهذا رد من قال بوضع الألفاظ للأعم مستدلاً بتقسيمه إلى صحيح وفاسد(3).

2- إن سلطنة الأب على النقض لا تعني أن إذنه شرط فهما أمران متباينان ونظيره في الفقه موجود في نذر الابن والزوجة فهو نذر صحيح فعلاً وليس شأناً فقط ولكن للأب والزوج نقضه من دون أن يكون إذنهما شرطاً في الصحة.

3- جزمه بعدم إمكان نقض العقد المبرم فعلاً وهو صحيح لو لم يدل دليل على التخصيص فلتكن هاتان الصحيحتان دليلاً على التخصيص وأن كل عقد

ص: 253


1- ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه (فقال عليه السلام: أي ذلك فعل متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة. (الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 26، ح1).
2- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 33/215.
3- راجع كفاية الأصول: المجلد الأول، مبحث الصحيح والأعم.

نكاح مبرم لا يمكن نقضه إلا للأب بالنسبة للجارية البكر وما الضير في ذلك كما دل الدليل على جواز نقض النذر المبرم في الموارد الخاصة المذكورة.4- حمله قول الإمام (عليه السلام): (فقد نقض صلاته) على الصحيحة شأناً وهو ليس كذلك بل هي تعني أنه نقض صلاته التي هي إلى حين ارتكاب هذا الخطأ كانت صحيحة فعلاً وترتبت عليها سائر أحكامها من أفعال وتروك فهو نقض للصحيح فعلاً وينقسم حال صلاته بين الصحة الفعلية إلى حين تعمده الخطأ والبطلان بعد ذلك.

ثم شرح (قدس سره) معنى العقد الشأني من وجهة نظره فقال (قدس سره): ((فإن العقد أي عقد البكر بغير إذن أبيها- محكوم بالصحة حينئذٍ، لأنه صادر من أهله وواقع في محله، غاية الأمر أن الصحة هذه شأنية وتأهيلية متوقفة على رضا الأب، فإن رضي به صحّ الفعل، وإلا انتقضت الصحة الشأنية أيضاً))، وفيه:-

1- إن هذا كما هو واضح معنى العقد الفضولي وبهذا المقدار لا يصبح الفضولي شريكاً مع المالك أو الولي.

2- إنه حينئذٍ لا يصدق عليه أنه صادر من أهله وواقع في محله.

3- إن التعبير عن مثل هذه العقود يكون بالإجازة أو الرد وليس بالنقض.

4- إن النقض مقابل الإبرام كما قال (قدس سره) ولا يصدق الإبرام على مثل هذا العقد فالصحيح في معنى النقض ما تقدّم وأشار إليه السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك.

ثم قال ((إن ما يدلنا على أن المراد بالنقض في هاتين المعتبرتين هو ما يقابل الإبرام الشأني لا الإبرام الحقيقي إطلاقهما الشامل للولد والبنت البكر والثيب إذ لو كان المراد به الثاني لكان مقتضاه أن للأب أن ينقض كل عقد صحيح وتام صادر من ابنه أو بنته البكر والثيب وهو مقطوع البطلان ولا موجب لحملهما على خصوص البكر إذ لا قرينة تساعد عليه وهذا بخلاف ما لو كان المراد به الأول فإنهما حينئذ تختصان بالبكر ولا تعمّان الولد والثيب لكون

ص: 254

عقدهما محكوماً بالصحة والإبرام الفعليين))(1) وفيه:-

1- إنه لو كان هناك جزم بعدم إمكان حمل الإبرام على الفعلي فلا داعي للاستدلال على الشأني لأن المقابل لغير الممكن في قضية مانعة الخلو يكون ضرورياً.

2- إننا لو قصرنا النظر على هاتين الروايتين لكان الإطلاق المستفاد منها شاملاً للولد والبنت والبكر والثيّب ولا مانع منه وإنما خرج ما خرج من هذه العناوين بأدلة خارجية كما أخرج هو (قدس سره) الولد والثيب بأدلّة خارجية واعتبر عقديهما فعليين فلا ضير في التخصيص فما المشكلة في المقام؟

وملخص القول: إن النقض يحمل على المبرم فعلاً في المقام لعدم المانع منه وهو يعني أن للأب السلطنة على نقض العقد الذي تبرمه البنت ولا يعني أن إجازته شرط لصحة العقد فإذا كان مرادهم من التشريك هذا المعنى فمعهم حق أما إذا أرادوا اشتراط إذنه منضماً إلى إذنها فلا تدل عليه هاتان الصحيحتان ومنه تعلم المناقشة في قوله (قدس سره) بعدئذٍ: ((وعلى هذا الأساس تدل هاتان المعتبرتان على اشتراك الأمر في التزويج بين البنت وأبيها))، بل على هذا تكون هاتان الصحيحتان دليلاً علىاستقلال البنت في العقد مع وجود حق نقض نكاحها للأب.

ص: 255


1- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 33/216.

الجمع بين الروايات

لا يوجد تنافي حقيقي بين الثاني والرابع أي ما دلّ على اعتبار رضا الأب والبنت في الجملة لأن كلاً منهما مأخوذ على نحو (لا بشرط) فيمكن أن يجتمع مع غيره بنحو من الأنحاء التالية وكذا القسم الخامس لا مشكلة فيه بل يمكن أن يكون وجهاً للحل كما سيأتي بإذن الله تعالى وإنما التعارض الرئيس بين القسمين الأول (الدالّ على استقلال الأب وعدم اعتبار إذن البنت) والثالث الذي هو عكسه.

وقد ذكر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) وجوهاً لرفع التعارض ابتنت عليها أقوالهم في المسألة، ومنها:

الأول: إلغاء حجية ما دلّ على استقلال البنت وتقديم ما دلّ على لزوم استئذان الأب أما الأول فللمناقشة في روايات القسم الثالث من حيث السند أو الدلالة كتفسير (المالكة أمرها) بالتي لا أب لها بقرينة المقابلة في رواية أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الجارية البكر التي لها الأب لا تتزوج إلا بإذن أبيها، وقال: إذا كانت مالكة لأمرها تزوجت متى شاءت)(1) والمقابلة غير واضحة لأن النصّين مختلفان ولأن هذا التفسير مخالف لما ورد في رواية زرارة ولأنه يجعل القضية ضرورية في صحيحة الفضلاء ولا معنى للإخبار عنه أو تفسيرها بالثيّب وهو لا دليل عليه ويرد عليه بعض ما تقدم.

مضافاً إلى كل ذلك وضوح رواية سعدان بأن الباكر لها أن تزوج نفسها من دون إذن أبيها بعد أن رددنا الإشكالات من حيث السند وعلى أي حال فقد تقدمت المناقشات في هذا القسم من الروايات وهو الثالث والردود على هذه المناقشات وإمكانالتمسك بهذه الطائفة في موردها المستفاد بقرينة روايات أخرى.

ص: 256


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب3، ح7.

وأما الثاني فلبقاء ما دلّ على لزوم استئذان الأب في الجملة (أعمّ من كونه مستقلاً أو مشتركاً) بلا معارض وقد استقرَبَه سيدنا الأستاذ (قدس سره) معللاً ((لأن روايته أكثر عدداً وأصحّ سنداً طبقاً لقوله (عليه السلام) في بعض روايات الترجيح: خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، والمسلم به أن المراد من الشهرة هنا هي الشهرة الروائية))(1)

واستجوده (قدس الله سره) ((لولا أن دليله خاص بما إذا كان المعارض شاذاً أو نادراً على حين أن الشهرة الفتوائية على طبق الطائفة الثانية - أي ما دلّ على ولاية البنت- إلا أن يقال بعدم الترجيح بعمل الأصحاب أو يقال: استفاضة الطائفة الأولى بحيث يكون الاطمئنان الفعلي على طبقها وكلا الأمرين غير بعيد)) وفيه:-

1- إن هذا الترجيح فرع استقرار التعارض وعدم إمكان الجمع العرفي بين الطائفتين وهو ما سنتبين أمره لاحقاً بإذن الله تعالى.

2- لا حاجة إلى إقحام الشهرة الفتوائية فإن ما قاله أولاً كافٍ من أن دليل الترجيح بالشهرة الروائية مختص بما إذا كان المقابل شاذاً ونادراً والمقام ليس كذلك فإن الروايات الدالة على استقلال البنت عديدة ومعتبرة اللهم إلا أن يقال أن معنى الشاذ والنادر هو ما لم يجرِ العمل عليه فتكون مدخلية الشهرة الفتوائية في الترجيح ليست مباشرة وإنما لتنقيح معنى الشاذ النادر وهو صحيح إلا أنك قد علمت شهرة العمل بهذه الروايات حتى ادعي الإجماع ثم أنه بناءً على هذا تعرف المناقشة في قوله: ((إلا أن يقال بعدم الترجيح بعمل الأصحاب)) فإن الترجيح ليس به مباشرة.

3- إن الترجيح بالشهرة الروائية متأخر عن الترجيح بموافقة الكتاب كما حقق في محله وقد يقال هنا أن موافقة الكتاب موجودة لمصلحة اشتراط إذن ولي الأمر وقد ذكرناها في ضمن القول الثالث وقلّلنا من شأن التمسك بالموافقة هنا للعلم بتخصيص تلك العمومات بالروايات الشريفة والخروج عن عموماتها.

ص: 257


1- ما وراء الفقه :6/188، من طبعة بيروت.

الثاني: ترجيح ما دل على استقلال البنت لأنه المشهور روائياً عند القدماء حتى ادعي عليه الإجماع ولموافقته للكتاب وللمناقشة في روايات القسم الأول الدالة على ولاية الأب حيث ناقشها الشهيد الثاني (قدس سره) واحدة واحدة من حيث السند والدلالة(1).

وعن أوضحها دلالة وهي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الجارية يزوّجها أبوها بغير رضاً منها، قال: (ليس لها مع أبيها أمر، إذا أنكحها جاز نكاحه وإن كانت كارهة) قال (قدس سره) في معناها: ((إنه ينبغي لها أن لا تجعل لها مع أبيها أمراً يخالف أمره، وأن تُجيز ما يختاره لها من النكاح وإن كانت كارهة)) وهو إذا كان مقبولاً في الصدر فيصعب قبوله في الذيل حيث يتطلب حمل الأخبار علىالإنشاء كالذي ورد في حديث ابن عباس، وقال (قدس سره) في بيان نتيجة الجمع: ((يحمل نهي استبدادها هنا على الكراهة، والنفي على نفي الكمال والبطلان على المبالغة في عدم اعتدادها برأيها، بحيث يعد ما يُرتب عليه كالباطل فلا تُنكح إلا بإذنه))

وقال صاحب الجواهر في تقييمها: ((وأما النصوص فجميعها أو أكثرها قاصر السند ولا جابر، مخالِفة لظاهر الكتاب، موافقة لمذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق والقاسم بن محمد وسليمان بن اليسار وسالم بن عبد الله ونحوهم من كبار العامة غير صريحة في المخالفة باعتبار احتمالها الأبكار التي لم يحصل لهن رشد في أمر النكاح وإن بلغن بالعدد ورشدن في حفظ المال أو النهي كراهة عن الاستبداد وعدم الطاعة والانقياد خصوصاً الأب الذي هو غالباً أنظر لها، وأعرف بالأمور منها، وأدعى لما يصلحها، وهو المتكلف بأمورها، وبالخصومة مع زوجها لو حصل بينهما نزاع وشقاق، فالذي يليق بها إيكال أمرها إليه كما هو الغالب والمعتاد في الأبكار من تبعية رضاهن لرضا الوالد ولو بالسكوت عند نقله، ولذا لا يستأمرها خصوصاً بعد أن كان

ص: 258


1- مسالك الأفهام: 7/132-137.

إذنها صماتها))(1).

وقد ناقشنا كل هذه الوجوه والتقية لا يمكن التعويل عليها لعدم وجود رأي موحد عندهم ونقلنا روايتين من مصادرهم عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تجعل ولاية تزويج البكر إليها.

أما مناقشته (قدس سره) في دلالتها فقد نقلناه للحاجة إليه لاحقاً بإذن الله تعالى.

وقد تقدم ترجيح السيد الخوئي (قدس سره) له لولا نصوص القسم الأول، قال (قدس سره): ((فهذه الإطلاقات وغيرها تقتضي استقلال البنت مطلقاً في أمرها، بحيث لو كنا نحن وهذه الآيات والنصوص، ولم يكن هناك نص خاص يقتضي الخلاف لكان القول باستقلالها هو المتعين))(2). وقد ناقشه سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) وناقشناهما ضمن القول الثالث.

الثالث: التفصيل بين الزواج الدائم والمنقطع فقيل باستقلال أبيها في الأول واستقلالها في الثاني ((تمسكاً بإطلاقات أدلة النكاح المنقطع(3)، بعد فرض انصراف ما دل على اعتبار رضا الأب إلى العقد الدائم))(4) وتحصيلاً ل-((الجمع بين الأخبار بتخصيصها في الجانبين، كل جانب بنوع من النكاح، ووجه تخصيص الدائم بأخبار الولاية عليها أنه- لكثرة حقوقه وأحكامه من النفقة والميراث واستمراره وغيرها- أهم من المتعة،والمرأة قاصرة النظر عن تحصيل المناسب، فوكل أمره إلى الولي، لتعذر استدراك فائته، بخلاف المتعة))(5) فهنا

ص: 259


1- جواهر الكلام: 29/180.
2- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/210.
3- كرواية الحلبي قال: (سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا إذن أبويها، قال: (لا بأس ما لم يقتض ما هناك لتعف بذلك) (الوسائل: أبواب المتعة، باب11، ح9).
4- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/213.
5- مسالك الأفهام: 7/139.

دعويان:

الأولى: استقلال أبيها في الزواج الدائم واستدلّوا عليه بما تقدّم في القسم الأول بعد فرض انصراف الإطلاقات فيه إلى الدائم.

والانصراف ممنوع صغرىً وكبرى:

أما الصغرى: فإن لفظ النكاح ينطبق على الدائم والمنقطع سواء بسواء وتجري عليهما أحكام النكاح إلا ما خرج بدليل.

وأما كبرى: فلأن الانصراف لا يصلح للتقييد.

الثانية: استقلالها في المنقطع واستدلوا عليه بعدة روايات كرواية الحلبي قال: (سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا إذن أبويها، قال: (لا بأس ما لم يقتض ما هناك لتعف بذلك)(1).

وستأتي البقية في الجهة الثانية إن شاء الله. وسنجد هناك بإذنه تعالى روايات معارضة لهذه كصحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: (البكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها)(2) وغيرها فالمسألة مؤجلة إلى هناك.

الرابع: عكس الثالث باستقلالها في الدائم وثبوت ولاية أبيها عليها في المنقطع واستدلوا للدعوى الأولى بروايات القسم الثالث بعد حمل النكاح فيها على الدائم ((لأن اللفظ عند التجرد إنما يُحمل على الحقيقة. ووجه حقيقة الدائم مبادرته إلى الذهن عند إطلاق لفظه، واستغناؤه عن القرينة، ولأنه لولاه لزم الاشتراك، والمجاز خير منه))(3) وقد ناقشنا مثل هذا التبادر والانصراف ثم إن لفظ النكاح وارد في روايات القسمين فلماذا يحمل هكذا في إحداها دون الأخرى.

واستدلوا أيضاً بمفهوم ما دلّ على اشتراط الإذن في المنقطع أي الدعوى

ص: 260


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح9.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح5.
3- مسالك الأفهام: 7/140

الثانية في صحيح البزنطي وأبي مريم المتقدمتين آنفاً عن الرضا (عليه السلام) (قال: البكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها)(1) وصحيح أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: العذراء التي لها أبلا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها(2) فمفهومهما أن الزواج الدائم لا يشترط فيه إذن أبيها وهو مردود:

1- لأنه من الجملة الوصفية وهي لا مفهوم لها.

لا يقال: إنها من الجملة اللقبية.

فإنه يقال: إن منشأ توهمها من اللقبية عدم ذكر الموصوف لكننا لم نرتض هذا المائز بين الجملة الوصفية واللقبية(3) وهو على أي حال تفريق غير مؤثر على مختارنا لأن كلتا الجملتين ليس لها مفهوم.

2- إن كون الجملة لها مفهوم غير كاف في المقام وإنما يجب أن تنضمّ إليها كبرى أخرى وهي إمكان تقييد المنطوق المطلق (وهو ما دل على اشتراط إذن الولي) بالمفهوم المقيّد (وهو محل الكلام) أي أن لفظ النكاح الذي اشترط فيه إذن ولي الأمر والشامل للدائم والمنقطع يقيّد بهذا المفهوم الذي أخرج النكاح الدائم من اشتراط إذن ولي الأمر للبكر فتكون مستقلة بتزويج نفسها. والمطلب من حيث الكبرى لم نعترض عليه(4) إن كان المفهوم أظهر من المنطوق لكنه غير متحقق في المقام إذ أن قيد المتعة هنا لم يذكر للاحتراز وإنما لبيان حكم هذه الحالة من دون تعرّض لغيرها كما لو قال: بعض الماء سائل وهو ساكت عن البعض الآخر.

واستدلوا للدعوى الثانية بالروايات التي دلت على ولاية الأب عليها في المنقطع كصحيحة البزنطي المتقدمة وب-((إن استقلالها بالمتعة إضرار بالأولياء لما يشتمل على الغضاضة والعار بسبب الإباء الطبيعي، أو لإنكار الأكثر

ص: 261


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11، ح12.
3- ذكرنا ذلك في شرح الكفاية وهو مقرر عند الطلبة الذين حضروا الدرس خلال الأعوام 1422-1424.
4- نفس الملاحظة السابقة.

مشروعيتَه))(1) وقد قلنا آنفاً إن المسألة ليست محسومة وهي مؤجلة إلى الجهة الثانية من البحث بإذن الله تعالى، وبحمل ما دلّ على اشتراط إذن الأب في روايات القسم الأول على المنقطع بقرينة صحيح البزنطي وغيرها.

وفيه:-

1- ما تقدم من وجود روايات تدل على عدم اشتراط إذن ولي الأمر في المنقطع وستأتي بإذن الله تعالى.

2- إن الحمل لا موجب له، لأن تطبيق الحكم العام (وهو اشتراط إذن الأب) على فرد (وهو المنقطع) لا يعني تقييد إطلاق الحكم به، كما لو قال (أكرم العلماء) ثم قال (أكرم زيد العالم) فإنه لا يحصر وجوب الإكرام بزيد.

إلفات نظر

يوجد تشويش في تقريرات بحث السيد الخوئي (قدس سره) في هذا المطلب إذ أنه ذكر في المتن التفصيل بين الدوام والانقطاع باستقلالها بالأول دون الثاني لكن الدليل الموجود في الشرح هو على العكس أي ولايتها على المنقطع وولايته على الدائم(2).

الخامس: التشريك بينهما واشتراط إذنهما معاً بحمل ما دل على استقلال البنت على الاشتراك في الولاية أي استقلالها في الجملة دون الاستقلال التام، قال سيدنا الأستاذ (قدس سره): ((فإنه هو الظاهر من قوله: فإن لها في نفسها نصيباً وإن لها في نفسها حظاً إذ لو كانت لها الولاية خالصة لما جاز تنكير النصيب والحظ وبذلك تكون الرواية الثانية (وهي التي فيها قوله (عليه السلام): فإن لها في نفسها حظاً) مقيدة للأولى (وهي معتبرة منصور بن حازم) وبعد التقييد تكون

ص: 262


1- مسالك الأفهام: 7/141.
2- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/213.

هذه الطائفة مقيدة للطائفة الأولى (الدالة على اختصاص الأمر بالأب) )) ثم ناقشه (قدس سره) بقوله: ((وهذا الوجه واضح لولا أن في الطائفة الأولى -كما سمعنا- ما هو صريح بنفي لزوم رضاها كقوله (عليه السلام): (وهي كارهة) وهو غير قابل للتقييد بالاشتراك))(1) ولو رجعتَ إلى ما قلناه في القول الأول لعرفت أن ما دل على نفي التشريك ليس هذه فقط وإن كانت صريحة وواضحة إلا أن الروايات الأخرى تدل على نفيه أيضاً بمعنى إعطاء الاستقلال للأب كما أن بعض روايات القول الثالث كصحيحة الفضلاء تدل على نفي التشريك بمعنى استقلال البنت.

وقد اختار القول بالتشريك عددٌ من الفقهاء كصاحب العروة الوثقى فقال في وجه اختياره: ((والمسألة مشكلة فلا يترك مراعاة الاحتياط بالاستئذان منها))(2) وقال عنه السيد الخوئي (قدس سره): ((إنه المتعين جمعاً بين النصوص ولخصوص ظهور قوله (عليه السلام) في معتبرة صفوان: (فإن لها في نفسها نصيباً) أو (فإن لها في نفسها حظاً) فإنهما ظاهران في عدم استقلالها وكونبعض الأمر خاصة لها))(3).

وفيه: إن الجمع بين النصوص ليس منحصراً بهذا الأسلوب وتحكيم معتبرة صفوان في بقية الطوائف من الروايات وتقديمها عليها تحكم، وإن هذا الجمع يأباه كلا القسمين لدلالتهما على استقلال الأب واستقلال البنت مع نفي اعتبار إذن الآخر كما في صحيح الحلبي (وإن كانت كارهة) ورواية سعدان.

ثم قال (قدس سره): ((والحاصل أن الصحيح في الاستدلال على الاشتراك هو التمسك بهاتين الصحيحتين المتضمنتين لحق الأب في نقض العقد وموثقة صفوان))(4) وقد تقدّم الرد على فهم هذا المعنى للتشريك من

ص: 263


1- ما وراء الفقه: 6/189.
2- العروة الوثقى: كتاب النكاح، فصل في أولياءالعقد، مسألة 1.
3- مباني العروة الوثقى من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي:2/215.
4- مباني العروة الوثقى من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 33/216.

الصحيحتين.

واختاره سيدنا الأستاذ (قدس سره)(1) احتياطاً لعدم جزمه بما استقربه في الوجه الثالث أعلاه فقال: ((وإلا كان الاحتياط وجوبياً في الاشتراك في الولاية بين البكر وأبيها واعتبار رضاهما معاً)) والاحتياط صحيح في الجملة إلا أنه متعذر أحياناً كما لو أجاز الأب العقد وكرهته البنت. وعلى أي حال فإن الذين اختاروا هذا القول لهم مباني مختلفة كلها قابلة للنقاش.

السادس: أن تكون كل من ولايتهما مستقلة وإجازة كل منهما علة تامة لصحة العقد وهو الظاهر عرفاً في مثل هذه الحالات حينما تكون كل منهما سبباً مستقلاً للحكم ونظيره في الفقه الترخيص في القصر والإفطار للمسافر إذا خفيت الجدران وإذا خفي الأذان فيدور الأمر بين عطف بعضهما على بعض بالواو بسلب العلية التامة من كل منهما وجعله جزء السبب (وهو تصرف الوجه الخامس المتقدم القائل بالتشريك) أو العطف بينهما ب-(أو) وإبقاء عليتهما التامة ولكن بسلب الانحصار وقد اختاروا الثاني هناك ومعهم حق ولكنهم لم يتطرقوا إلى تطبيق هذا الشكل من الجمع ضمن محتملات المسألة لوجود ما ينافي الاستقلال في روايات الطائفة الأولى.

قال السيد الحكيم (قدس سره): ((والجمع بين الأولى والثالثة يمكن بدواً بالبناء على استقلال كل منهما في الولاية، فإذا تصرف أحدهما نفذ إلا أنه تأباه الطائفة الأولى جداً، فإن قوله (عليه السلام): (ليس لها مع أبيها أمر) ظاهر جداً في أنها لا استقلال لها، ولا اشتراك، وإن كان لا تأباه الطائفة الثالثة))(2).

أقول: إن هذا لا ينافي الاستقلال فيمكن أن يراد بقوله (عليه السلام) المذكور حقالنقض للأب وقد ورد مثله في قوله (عليه السلام): (لا يمين للولد مع والده)


1- ما وراء الفقه: 6/189.
2- مستمسك العروة الوثقى: 14/445.

والده، ولا للمملوك مع مولاه، ولا للمرأة مع زوجها) الحديث. وسائل الشيعة: مج16 كتاب الأيمان ، باب 10، ح2.(1) قلائد الدرر: 3/44.(2) مستمسك العروة الوثقى: 14/447.


1- بمعنى وقوع العقد كاليمين صحيحاً ولكن للأب نقضه فينفسخ وإن لم ينقض مضى كما وقع صحيحاً. نعم؛ للأب نقض عقد البنت وليس لها نقض عقد الأب للدليل الخاص وللأمانة العلمية أقول إن الشيخ الجزائري (قدس سره) صاحب قلائد الدرر التفت إليه وإن لم يعرضه بهذا الشكل ولم يطبقه على القواعد فقال: ((وهاهنا وجه آخر للجمع بينها وهو أن يقال إن الأب والجد لهما الاستبداد بإنكاحها للكفؤ وليس لها أمر أي سلطان على نقض ما فعلا وإن كرهت لكن يستحب لهما استئمارها وأما هي فيجوز لها الاستبداد أيضاً بنكاحها إلا أنه يشترط عدم كراهتهما لذلك ولهما نقض ما فعلت وإبطاله))
2- . وهو بذلك يتجنب عدداً من الإشكالات المتقدمة خصوصاً فهمه عدم الملازمة بين سلطنة الأب على نقض العقد وبين اشتراط إذنه في العقد ورجع إليه السيد الحكيم (قدس سره) بعد أن قلّب عدة محاولات للجمع فقال (قدس سره): ((والذي يتحصّل من جميع ما ذكرنا: نفوذ عقد الأب بدون إذن البنت، ونفوذ عقد البنت بدون إذن الأب، وإن الأفضل أن يكون بإذنهما معاً حملاً لما دلّ على اعتبار إذن الأب واعتبار إذن البنت على الاستحباب، وأنه إذا عقدت البنت صحّ عقدها، لكن يجوز للأب نقضه، فإذا نقضه انتقض)) وقال (قدس سره) عنه: ((هذا والقول بالولاية على النهج المذكور وإن لم ينسب لأحد لا بأس به إذا دلّت عليه الأدلة))

الآتي:

السابع: إن المرأة وبحسب نمط التربية الذي سار عليه المسلمون تكون غالباً في البيت ولا تدخل معترك الحياة لذا فهي قليلة الخبرة بالرجال ولا تعرف دخائلهم ولا خططهم في إيقاع النساء في حبائلهم.

كما أن تكوينها النفسي يجعلها تنساق وراء الوعود المعسولة وكلمات الإطراء على الجمال أو الحب المصطنع مما يجعلها ضحية في كثير من الأحيان، وخطؤها في هذا المجال يعدّ كبيرة اجتماعية ويوقعها في حرجٍ شديد، والشواهد من واقعنا كثيرة حيث يرسم لها الرجل في الوهم والخيال جنة الخلد فلما يقضي منها حاجته يرميها كمايفعل مع أي حاجة يمتلكها.

ولما كان الرجال أخبر بالرجال وأعرف بصدقهم فكان اشتراط إذن الأب صيانة للبنت وحماية لها من أن تذهب ضحية المخادعين فيختار لها أبوها من يسعدها ويصونها ويحفظ لها كرامتها ويتضح الأمر بالبنت قريبة العهد بالبلوغ كما لو كانت دون الخامسة عشرة.

وقد حثّ الشرع على التعجيل بتزويجها فعن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: من سعادة المرء أن لا تطمث ابنته في بيته)(1) وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه صعد المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :(أيها الناس إن جبرائيل أتاني عن اللطيف الخبير فقال: إن الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر إذا أدرك ثمارها فلم تجن أفسدته الشمس ونثرته الرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهن دواء إلا البعولة وإلا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشر)(2).

ولا يعقل أن يوكل أمر تزويجها إليها وهي بهذه الغرارة، ولمثل هذا الغرض قال (عليه السلام) في موثقة الفضل بن عبد الملك: (هو أنظر لها) وحتى لو لم ترضَ بمن اختاره لها أبوها فلا يعبأ بها في بعض الحالات إذا كان الزوج

ص: 266


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 23،ح1، 2.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 23،ح1، 2.

كفؤاً لأنها قد لا تحسن الاختيار أو لا تكون قادرة أحياناً على حساب عواقب الأمور وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي: (وإن كانت كارهة) وليس في ذلك إهانة لها وحطّ من مكانتها بل هو تخطيط حكيم لمستقبلها ولذا تجد أن الثيِّب - وهي التي تزوجت من قبل وخبرت الرجال- لا تحتاج إلى استئمار وليها لانتفاء هذه الأمور فيها.

كما أن شرف البنت الباكر شرف لأبيها وبالتالي لقومها وأيّ اعتداء عليه يكون اعتداءً عليهم وأي خدش فيه يكون منقصة وعاراً عليهم جميعاً لذا عرف الكثير من العرب بأسماء أمهاتهم المنحرفات كابن النابغة وابن سمية وابن الزرقاء فهي -أي الباكر- ليست وحدها المالكة لكرامتها وإنما أبوها لا يقل مسؤولية عنها خصوصاً -كما قلنا- عندما تكون الفتاة في رعاية أبيها وفي بيته وتشهد لهذا المعنى روايات عديدة تأتي إن شاء الله تعالى في النكاح المنقطع يعبر فيها الإمام (عليه السلام) بقوله: (فإنه عارٌ على الأبكار) وقوله (عليه السلام): (يكره للعيب على أهلها) وقوله (عليه السلام): (كراهية العيب على أهلها).

وإتماماً لهذه الوظيفة الاجتماعية فإن الشرع المقدس حثّ الآباء على اختيار الكفوء لبناتهم ليكون قادراً على إسعادهن وإصلاح شأنهن في الدنيا والآخرة، فعنإبراهيم بن محمد الهمداني قال كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) في التزويج فأتاني كتابه بخطه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1) وبيّن الإمام (عليه السلام) معنى الكفؤ فقال (عليه السلام): (الكفؤ أن يكون عفيفاً وعنده يسار)(2) واليسار المطلوب بالمقدار الذي يكفي لإعالتها والإنفاق عليها، وحذّروا الآباء من تزويج كرائمهم إلى الفاسق وسيئ الخلق فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (من زوّج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها) (3)وعن الرضا (عليه السلام) عن آبائهم (عليهم

ص: 267


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب28، ح2، 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب28، ح2، 4.
3- الوسائل، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب29، ح1.

السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (النكاح رقّ فإذا أنكح أحدكم وليدة فقد أرقّها فلينظر أحدكم لمن يرقّ كريمته)(1)وعن الحسين بن بشار الواسطي قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن لي قرابة قد خطب إليّ وفي خلقه سوء قال: (لا تزوجه إن كان سيئ الخلق)(2).(2)وهذه الأوصاف في الرجال يعرفها الرجال أنفسهم لا المرأة البعيدة عن معاشرتهم والمختلفة عنهم في الرؤية.

وفي نفس الوقت فإن الشرع المقدس لم يحرمها من حق الاختيار لنفسها ومن موارد ذلك:-

1- إذا كانت حاذقة وبصيرة بالأمور و(مالكة لأمرها) حسب تعبير الروايات بحيث كان الأب يحترم قرارها وتمتلك الموازين الصحيحة لتقييم الرجال وتعرف الخاطب أكثر مما يعرفه أبوها وهو مورد روايات القسم الثالث.

2- ومن مواردها أن الأب قد لا يختار لها الكفؤ لاختلال الموازين عنده فلا يبحث عن مفاد الأحاديث السابقة التي حمّلته مسؤولية زواج كريمته وإنما يهتم بالأمور المادية فقط كما نشهده كثيراً في واقعنا المعاصر.

3- أو كان الأب معرضاً عن بنته وأسرته ولا يلي من أمورهم شيئاً كمن يتزوج امرأة ثانية ويترك الأولى وذريتها يخوضون حياتهم بمفردهم.1- هذا غير حالات عناد الأب مع ابنته لسبب أو لآخر كما لو كانت تعود عليه بدخل مالي من كسب محترم وحالات العضل بمعنى تأخير البنت وعدم تزويجها رغم تقدم الأكفاء لخطبتها كما يفعل بعض السادة (زادهم الله شرفاً) في عدم تزويج بناتهم العلويات من غير السادة حتى يعنّسن ويفوتهن قطار الزواج كما يقال، فإن ولايته تسقط حينئذ.

وفي ضوء هذا الفهم الاجتماعي لدور الأئمة (عليهم السلام) في حياة المسلمين ورعايتهم التامة لهم يتضح أنْ لا تعارض بين الروايات وإنما هي ناظرة

ص: 268


1- الوسائل، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 28، ح8.
2- (2) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب3، ح1.

إلى حالات متعددة وتخاطب مستويات اجتماعية مختلفة وهذا التفصيل في فهم الحكم الشرعي هو الفهم الصحيح للروايات ولا يمكن الالتزام بإطلاقات أقوال الفقهاء سواءً منهم من أطلق القول باستقلال الأب أو باستقلال البنت أو بتشريكهما، وما قلناه ليس استحساناً ولا استنباطاً ظنياً لعلل وملاكات الأحكام وإنما هو فهم للنصوص مستفاد من تحليل الواقع الاجتماعي بقرينة مناسبات الحكم والموضوع وبعض التعليلات الواردة في النصوص.

ص: 269

القول المختار

فالنتيجة: أن حال البنت مع ولي أمرها في التزويج له صور ثلاث:

الأولى: إذا كانت دون البلوغ أو حديثة العهد به وهي في هذا الحال تكون غالباً (بين أبويها) وفي رعاية والدها اجتماعياً أو اقتصادياً وقليلة الخبرة بأحوال الرجال فإن الولاية في أمر تزويجها يكون لأبيها (فهو أنظر لها) و(لا تُستأمر في نكاحها) ولو زوّجها أبوها الكفؤ (جاز نكاحه) (وإن كانت كارهة) والأحوط استحباباً استئمارها ولو تزوجت من دون إذن أبيها كان له نقض هذا النكاح فإن فسخ انفسخ وإلا مضى.

الثانية: البكر إذا ازداد نضجها وكانت أكثر رشداً وعارفة بالمعايير الصحيحة لاختيار الأزواج ولها درجة من درجات تحمل المسؤولية بأن لها القدرة والحرية في التصرفات الاقتصادية والاجتماعية فلها الحق في تزويج نفسها من دون استئذان أبيها حتى لو كانت مع أبويها لأن هذه قرينة غالبية وليست قيداً والأحوط استئمار أبيها لأن له حق النقض إذا لم يكن نكاحها مبنياً على أساس صحيح، وله أيضاً الحق في تزويجها من الكفؤ إذا كانت في رعايته اجتماعياً وليس لها حق النقض عليه ولكن الأحوط له استئمارها واستشارتها لأن (لها حقاً في نفسها) ويسقط حقّه إذا لم يكن مستنداً لمعايير صحيحة تراعي مصلحة البنت لأن ولايته مستندة إلى كونه (أنظَر لها).

الثالثة: الثيِّب فإنها مستقلة في تزويج نفسها وليس لأبيها حق في نقض نكاحها والتدخل في شؤونها حتى لو كانت بين أبويها لموثّقة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام): (وأما الثيِّب فإنها تستأذن وإن كانت بين أبويها إذا أرادا أن يزوّجاها)(1) إلا على نحو الاستشارة والتوجيه.

وهذا البناء الثلاثي الذي شكّلته الروايات الشريفة يضع كل رواية في

ص: 270


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح6.

موضعها ويزيل التعارض الظاهري بينها.

فالروايات التي سلبت الحق من البنت في تزويج نفسها وأعطته للأب وإن كانت البنت كارهة (الطائفة الأولى) ناظرة إلى الحالة الأولى، ويدل عليها عدة شواهد كوصف البنت بأنها (جارية) وهي في مقابل الغلام، وأنها (بين أبويها) والتصريح في بعضها بأنها كانت صغيرة ثم بلغت مبلغ النساء وكلها إشارات لكونها في مقتبل العمر لذا عللت ولاية الأب بأنه (أنظَر لها).

و(الطائفة الثالثة) التي أعطت الحق للبنت في تزويج نفسها سمّتها (المرأة) وهي كاملة الأنوثة مقابل الرجل وهو كامل الرجولة وأن الولاية للأب (ما لم تكبر) ووصفتها بأنها (مالكة لأمرها) ولكنها لم تسلب الحق من الأب تماماً وإنما أعطته حق النقض مستدلين بعموم (لا ينقض النكاح إلا الأب) الذي ناقشنا فيه سابقاً خرجت منه الثيِّب لما دلّ على استقلالها التام وقوله (عليه السلام): (فتلك التي ليس للأب أنينقض نكاحها) جمعاً بين ما دلّ على أن (تزوجها بغير ولي جائز) وما دلّ على حق الأب في نقض تزويج الباكر ولا تنافي بينهما فهي مستقلة في التزويج وللأب نقضه، ولا تخرج المرأة العاقلة الرشيدة إذا كانت بكراً من هذا العموم لحق النقض لاحتمال أن المراد بالمالكة أمرها وصف (الثيّب) وليس أن الثيِّب مصداق من مصاديق المالكة أمرها والفرد المشكوك دخوله تحت الخاص يبقى تحت العام.

أو لاحتمال أن يراد بالمالكة أمرها من ليس لها أب بقرينة المقابلة المحتملة في رواية أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الجارية البكر التي لها الأب لا تتزوج إلا بإذن أبيها، وقال: إذا كانت مالكة لأمرها تزوجت متى شاءت)(1).

ص: 271


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح7.

الجهة الثانية: الولاية على تزويج الباكر بالعقد المنقطع خاصة

اشارة

تقدّم في الجهة الأولى من البحث أن القول بالتفصيل في الولاية على تزويج الباكر بين الدائم والمنقطع لم يلتزم به إلا النادر سواء قيل باستمرار الولاية للأب عليها في الدائم دون المنقطع (كما حُكي عن الشيخ (قدس سره) في كتابي الأخبار) أو العكس وهذا القول نقله المحقق (قدس سره) في الشرائع ((وحكى شيخنا الشهيد في شرح نكت الإرشاد أن المحقق سُئِلَ عن قائله فلم يُجِب))(1).

أما من ذهب إلى استقلالها في تزويج نفسها أو ولاية الأب عليها فقد قال بها مطلقاً في الدائم والمنقطع لإطلاق لفظ النكاح ولأنه التزم بهذا القول مقابل القولين بالتفصيل فالإطلاق ملحوظ.

نعم تذكر في المسألة هنا خصوصيات إضافية، فالمحقق الحلي (قدس سره) بعد أن اختار استقلالها في الولاية هناك بقوله (قدس سره): ((وهل تثبت ولايتهما على البكر الرشيدة، فيه روايات، أظهرها سقوط الولاية عنها، وثبوت الولاية بنفسها في الدائم والمنقطع، ولو زوّجها أحدهما لم يمض عقده إلا برضاها))(2) قال (قدس سره) هنا: ((ويكره أن يتمتع ببكر ليس لها أب، فإن فعل، فلا يفتضّها، وليس بمحرم))(3).

وربما يريد (قدس سره) أن يقول إن حكم كراهة التمتع بالبكر شامل حتى لمن ليس لها أب وإلا فإنه لا يوجد نصّ خاص في البكر التي ليس لها أب والنصوص الواردة في المقام إما مطلقة شاملة لمن لها أب ولمن ليس لها أب أو أشير فيها إلى وجود الأب فأحكام المسألة شاملة لهما على حد سواء.

ص: 272


1- الحدائق الناضرة: 23/211.
2- شرائع الإسلام: ج2، كتاب النكاح، فصل في أولياء العقد.
3- شرائع الإسلام: ج2، كتاب النكاح، القسم الثاني في النكاح المنقطع.

وللفقهاء (قدست أسرارهم) كلام مقتضب في المسألة ومكرر لما قالوه في الجهة الأولى لشعورهم بعدم وجود جديد غير ما قالوه هناك إلا قضية كراهة التمتع بالباكر واشتراط عدم الدخول.

والروايات الخاصة بالمسألة على طائفتين:

الطائفة الأولى: ما دلّ على جواز العقد المنقطع على الباكر بدون إذن وليها في الجملة ولو باشتراط عدم الدخول.

وهي عديدة، المعتبرات منها ست:

الأولى: عن زياد بن أبي الحلال قال: سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول (لا بأس أن يتمتع البكر ما لم يفضِ إليها كراهية العيب على أهلها)(1) وهي ظاهرة الدلالة في المطلوب بالتمسك بإطلاقها من جهة إذن الولي وعدمه بل قد يستفاد وجود الولي وعدم استئذانه من خشية العيب على أهلها ولو كان العقد بإذن الولي ومعلن عنه اجتماعياً لما وجد عيب مع الاحتفاظ بالمناقشات الآتية بإذن الله تعالى.

الثانية: عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يتزوج البكر متعة، قال: يكره للعيب على أهلها)(2) والاستدلال بها على الجواز واضح إذا فُهم من (يكره) المعنى الاصطلاحي وقد علّلت الرواية سبب الكراهية بأنه افتضاضها بقرينة الرواية السابقة ولأن السؤال كان شاملاً لكل الآثار المترتبة على الزواج ومنها الجماع فترتفع الكراهة بتجنبه، وإذا فهمنا من كلمة (يكره) معنى المنع كما في بعض الموارد لا الكراهة المصطلحة عند الفقهاء فإن الحرمة معلّلة بالدخول وترتفع بتجنبه.

الثالثة: صحيحة جميل بن دراج (قال: سألت أبا عبد الله يتمتع من الجارية البكر، قال: لا بأس ما لم يستصغرها)(3)فيتمسك بإطلاقه لنفي اشتراط إذن ولي الأمر.

ص: 273


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح1، 10.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح1، 10.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب12، ح1.

اللهم إلا أن يقال إن الإمام (عليه السلام) ليس بصدد بيان جميع الشروط حتى يتحقق الإطلاق لكنه يجاب بأن أوضح شرط في التمتع بالبكر هو إذن ولي الأمر - وهو المترقب من الجواب- فإغفاله والالتفات إلى شرط عدم كونها صغيرة دون سنّ البلوغ وهو واضح لدى السائل دليل على عدم اعتباره ولو كنّا نحن والرواية لتمسّكنا بالإطلاق لنفي اشتراط عدم الدخول في جواز العقد عليها.

ولكن لو فهمنا من الاستصغار: الافتضاض ((لأنه موجب لصغارها وذلّها عند أهلها))(1) فإنها تدل أيضاً على جواز التمتع بالباكر من دون إذن وليها مع عدم الدخول.

الرابعة: صحيحة محمد بن أبي حمزة؛ قال: (قال بعض أصحابنا لأبي عبد الله (عليه السلام): البكر يتزوجها متعة؟ قال: لا بأس ما لم يستفضها)(2).

الخامسة: عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: رجل تزوج بجارية عاتق على أن لا يقتضها ثمأذنت له بعد ذلك، قال: إذا أذنت له فلا بأس)(3).

وقبل تقريب الاستدلال بها نشرح بعض كلماتها:

وأولها: كلمة (اقتض) قال في النهاية: وفي حديث هوازن (اقتض الأداة) أي فتح رأسها من اقتضاض البكر ويروى الفاء. إه-، فكلمة (اقتضّ) بمعنى (افتضّ).

وثانيها كلمة (عاتق) ويمكن أن يراد بها أحد معنيين:

الأول: المرأة التي فكّها زوجها سواء دخل بها أو لم يدخل باعتبار أن الزوجية كالرقّ للمرأة تنعتق منه بالطلاق وإخلاء السبيل وهذا المعنى قاله الراغب في المفردات وعليه لا يمكن الاستدلال بالرواية لأنها تصبح مجملة بين

ص: 274


1- الحدائق الناضرة: 24/136.
2- مستدرك الوسائل: أبواب المتعة، باب10، ح4.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب11، ح3.

كونها مدخولاً بها أو لا وكلامنا في البكر.

إن قلت: نتمسك بأصالة عدم الدخول عند الشك في حصول الدخول بها قبل الطلاق وعدمه فيرتفع الإجمال.

قلت:-

1- إن الأصول لا تثبت لوازمها فأصالة عدم الدخول لا تثبت موضوع مسألتنا وهي الباكر.

2- إن الغالب كون الزوجة مدخولاً بها وهذه الغلبة بدرجة تخرجنا عن الأصل أو قل تقلب الأصل عما هو عليه وله موارد في الفقه(1).

هذا بناءً على أن معنى البكر هي غير المفتضة، أما إذا كان معناها المتزوجة سابقاً فهذه ليست بكراً وتخرج عن محل البحث لكن كلامنا في المعنى الأول وهو في الجملة المستظهر من الروايات بقرينة المقابلة مع الدخول واشتراط عدمه ويأتي تفصيل البحث بإذن الله تعالى.

الثاني: أن يراد بالعاتق ((الشابّة أول ما تدرك وقيل هي التي تَبِنْ من والديها ولم تزوج وقد أدركت وشبّت))، قاله في النهاية وقال في أصلها: ((كل شيء بلغ إناه فقد عتق))(2) وعلى هذا المعنى يتم الاستدلال بها لأن العاتق بمعنى البكر.

وربما يقال أن المعنى الثاني أظهر بقرينة اشتراط عدم الدخول فيها إلا أن هذا المعنى يمكن فرضه على كلا المعنيين فقد تشترط المتزوجة سابقاً كالأرملة والمطلقة عدم الدخول خشية الفضيحة الاجتماعية فيكون الحديث مجملاً.

إن قلتَ: إن الرواية ظاهرة في المعنى الأول -أي العاتق هي المدخول بها سابقاً- بدليل استقلالها في الإذن ولو كانت بكراً للزم أن يكون ذلك لوليها فلا يتم المطلوب.

ص: 275


1- كالاصل في النساء البكارة إلا أنه لغلبة الثيبوبة في الإماء انقلب الأصل، لذا لا تعد الثيبوبة عيباً في الأمة المشتراة.
2- النهاية لابن الأثير، ج3، مادة ((عتق)).

قلتُ: إن هذه الدعوى مصادرة على المطلوب إذ أننا قلنا إن المرأة إذا زوجت نفسها من الكفؤ كان العقد صحيحاً وليس إذن الأب شرطاً وإن كان له نقضه وظاهر هذه الرواية استمرار العقد وعدم نقض الأب فيكون العقد صحيحاً ولها الإذن في الدخول.

إن قلتَ: على هذا تكون الرواية خاصة بالزواج الدائم لأنه هو الذي فيه هذا الحكم أما المنقطع فيشترط إذن الأب مع الدخول مطلقاً.

قلتُ: إن النتيجة التي خرجنا بها هناك شاملة لمطلق الزواج بكلا قسميه، ودعوى أن هذا العموم قد خصص بما دلّ على استئذان الباكر ولي أمرها في المنقطع مع الدخول معارضة بخلافها فيدعى أن الروايات التي اشترط فيها إذن ولي الأمر في الدخول بالباكر المتزوجة متعة مقيدة بما دلّ على استقلال البنت إذا كانت مالكة لأمرها.

والخلاصة: إنه يمكن استظهار المطلوب من الرواية على بعض الوجوه وإن الشرط المذكور فيها وهو عدم الدخول يوحي أن مورد السؤال الزواج المنقطع فيكون مدلولها أن رجلاً تزوج بالنكاح المنقطع جارية بكراً على أن لا يدخل بها، وهذا الظهور وإن كان عليه إشكالات عديدة إلا أن هذه الرواية ليست الوحيدة فقد سبقها ما يدل على المطلوب.

السادسة: صحيحة محمد بن مسلم، قال: (سألته عن الجارية يتمتع بها ((بها خ ل)) الرجل؟ قال: نعم إلا أن تكون صبيّة تُخدع، قال: قلت: أصلحك الله وكم الحد الذي إذا بلغته لم تُخدع؟ قال: بنت عشر سنين)(1).

وقد يشكل على الروايات بأنها لا تدل على عدم اشتراط إذن ولي الأمر إلا بالتمسك بالإطلاق وقد يناقش فيه فيقال:

بأن الروايات بصدد تشريع أصل الحكم وهو جواز التمتع بالأبكار من دون لحاظ تفاصيل الشروط ومنها إذن ولي الأمر خصوصاً وإنه وردت روايات تنهى عن التمتع بالأبكار كرواية أبي بكر الحضرمي قال: (قال أبو عبد الله (عليه

ص: 276


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب12، ح4.

السلام): يا أبا بكر إياكم والأبكار أن تزوجوهن متعة)(1) ورواية عبد الملك بن عمرو قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتعة: فقال: إن أمرها شديد فاتقوا الأبكار)(2).

ويجاب هذا الإشكال بإمكان التمسك بالإطلاق ونفي هذا الشرط - وهو إذن ولي الأمر- بعدّة وجوه:-

1- إن الإمام (عليه السلام) بصدد بيان الشروط الخاصة بالتمتع بالأبكار وأهمّها اثنان، عدم الدخول وإذن وليّ الأمر، وقد تبرع الإمام(عليه السلام) بذكر الأول وذكر (عليه السلام) ما هو واضح كعدم استصغارها فلماذا لم يذكر الثاني رغم أهمّيته وهو (عليه السلام) في مقام البيان بدليل تبرعه بذكر الشروط الأخرى خصوصاً في الزواج المنقطع الذي يعلم شدة التيار المعارض له على صعيد الدولة أو المجتمع لذا يقول الإمام (عليه السلام) في بعض الأخبار عندما سئل عن المتعة قال (عليه السلام): (إن أمرها شديد) فعدم ذكره دليل على عدم إرادته مع عدم الدخول فيمكن التمسك بالإطلاق.

2- ورود ذكر الأبوين وعدم استئذانهما إذا اشترط الزوجان عدم الدخول في بعض الروايات الآتية التي لم يتم سندها إلا أنها تصلح بياناً للمراد من الروايات المتقدمة.

3- إن قوله (عليه السلام): (كراهة العيب على أهلها) تشعر بكون الزواج من دون علم الوالدين ولو أذنا بها فلا عيب في المسألة مع كونها علنية ومأذوناً فيها.

4- ما سيأتي إن شاء الله تعالى عن حلّ التعارض بالمرجّح الخاص.

وتضاف إلى هذه الروايات المعتبرة روايات أُخَر نوقش في سندها منها:-

1- ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عن محمد بن أبي عمير عن محمد بن أبي

ص: 277


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح13.
2- والتي بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح14.

حمزة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في البكر يتزوجها الرجل متعة قال (عليه السلام): لا بأس ما لم يقتضها)(1).

2- ما رواه الصدوق بسنده عن محمد بن عذافر عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن التمتع بالأبكار فقال: هل جعل ذلك إلا لهن فليستترن ويستعففن) وهما ضعيفتان بالإرسال.

3- ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن سنان عن أبي سعيد قال: (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن التمتع من الأبكار اللواتي بين الأبوين فقال: لا بأس ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب) (القشب، الذي لا خير فيه). واستشكل عليها من جهة محمد بن سنان الذي رواها عن أبي سعيد ولإجمال أبي سعيد.

وبنفس السند السابق عن أبي سعيد القماط عمن رواه قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) جارية بكر بين أبويها تدعوني إلى1-نفسها سراً من أبويها فأفعل ذلك؟ قال: نعم، واتقِ موضع الفرج، قال: قلت: فإن رضيت بذلك، قال: وإن رضيت فإنه عار على الأبكار). وهي ضعيفة من جهة الإرسال ولوجود محمد بن سنان في طريق الشيخ إلى أبي سعيد القمّاط.

2-ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي سعيد عن الحلبي قال: (سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا إذن أبويها قال: لا بأس ما لم يقتضّ ما هناك لتعفَّ بذلك). واستشكل فيها من جهة وقوع أبي المفضل الضعيف في طريق الشيخ إلى عنوان (أبي سعيد) وإجمال أبي سعيد هذا.

إلا أن ضمّ بعضها إلى بعض وتوفر الدواعي لإخفاء اسم الراوي عن الإمام

ص: 278


1- والروايات الأربع بعدها تجدها في الوسائل: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11، الأحاديث2، 4، 6، 7، 9.

(عليه السلام) للضرر الشديد الذي يلحق بمن يقول بزواج المتعة والعيون متربصة بالإمام (عليه السلام) وأصحابه يحصل الظنّ بصدور هذا المعنى عن الأئمة (عليهم السلام) ويكون مؤيداً وشارحاً على الأقل للروايات المعتبرة المتقدمة.

على أنه يمكن تصحيح بعضها كالرواية الأولى حيث وُصِف فيها مَن روى عنه محمد بن أبي حمزة الثمالي بأنه ((بعض أصحابه)) الذي يستفاد منه عرفاً وثاقته.

ويُقرَّب الجواب عن الإشكالات على الرواية الثالثة بالتالي:-

1- إن طريق الشيخ إلى (أبي سعيد) وإن كان ضعيفاً بأبي المفضل إلا أن أبا سعيد في المقام لا ينطبق على ذلك لأكثر من قرينة:-

أ. إن طريق الشيخ إليه الضعيف بأبي المفضل خاص بكتاب الطهارة له والرواية ليست منه قال الشيخ (قدس سره): ((أبو سعيد له كتاب الطهارة أخبرنا به..))(1).

ب. إن الشيخ عدَّ أبا سعيد في رجاله ممن لم يرو عنهم (عليهم السلام) وأبو سعيد قد روى في المقام عنهم في هذه الرواية.

2- باتباع برهان السبر والتقسيم لكل من يكنّى ب-(أبي سعيد) من الرواة وبقرينة الراوي والمروي عنه فإن أبا سعيد في المقام هو القمّاط وهذا لا يحلّ الإشكال لتردده بين خالد بن سعيد الثقة وصالح بن سعيد ولكن عنوان (أبا سعيد) إذا أطلق فالظاهر فيه خالد بن سعيد الثقة، والدليل يمكن أن يكون وجدانياً لأن من غير المعقول أن يهدر الراوي (الشيخ الطوسي (قدس سره) أو من سبقه في السند) عدداً من الروايات ويُجمل (أبا سعيد) إذا لم يكن هناك انصراف إلى الثقة، ((ويدل عليه ما في الكافي: الجزء الأول باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب221-الحديث 8 ففيه: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن إسماعيل بن مهران عن أبي

ص: 279


1- معجم رجال الحديث (من الموسوعة الكاملة): 21/198.

سعيد القماط وصالح بن سعيد عن أبان بن تغلب، فإن ذكر صالح بن سعيد مع أبي سعيد القماط، يدل على أن المعروف بهذه الكنية غيره))(1).

3- إن الشيخ (قدس سره) قد رواها عن محمد بن سنان عن أبي سعيد القماط، وابن سنان وإن اختلفت الأقوال في مدحه وتضعيفه إلا أن خلاصة القول فيه قبول روايته إذا لم يكن منفرداً بمضمونها وكانت مؤيدة بروايات أُخَر وهذا الشرط متحقق في المقام.

4- بقيت مشكلة واحدة وهي وقوع موسى بن عمر بن يزيد في سندها وهو مهمل ويمكن معالجتها بتعويض السند لأن الرواية وردت في كتابيّ التهذيب والاستبصار، وقد قال الشيخ الطوسي عن محمد بن سنان: ((أخبرنا بكتبه ورواياته جماعة عن أبي جعفر بن بابويه، عن أبيه، ومحمد بن الحسن، جميعاً، عن سعد والحميري، ومحمد بن الحسين، وأحمد بن محمد، عنه))(2) والطريق صحيح وهو شامل بعمومه لكل ما أثبته الشيخ من رواية عن محمد بن سنان في كتبه، وبذلك نتجاوز موسى بن عمر بن يزيد ويصح سند الرواية.

ولم يذكر السيد الخوئي (قدس سره) من هذه الروايات التي دلّت على جواز التمتع بالباكر من غير إذن الأب فيما إذا اشترط عدم الدخول (المعتبرة وغير المعتبرة) إلا اثنتين من اللواتي نوقش في سندها وهما الرابعة والخامسة، وربما كان مبرره أنهما الوحيدتان اللتان صرّحتا بعدم اشتراط إذن الأب، وقال: ((إنهما ضعيفتان سنداً ولا تصلحان للاعتماد عليهما))(3) وهما:

أولاً: رواية أبي سعيد عن الحلبي وهي الخامسة وقال في وجه ضعفها إنه ((قد ذكرها الشيخ بإسناده عن أبي سعيد، وقد ذكر (قدس سره) في (الفهرست) أن أبا سعيد له كتاب الطهارة ثم ذكر طريقه إليه غير أنه لم يذكر أنه

ص: 280


1- معجم رجال الحديث: 9/72، ترجمة صالح بن سعيد.
2- معجم رجال الحديث: 16/170، ترجمة محمد بن سنان.
3- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/214.

من هو بالذات، ومن هنا فتكون الرواية ضعيفة من حيث جهالة أبي سعيد، على أن طريقه (قدس سره) إليه ضعيف بأبي المفضّل.

ثم لو فرضنا أن المراد بأبي سعيد هو أبو سعيد القماط، فلم يُعلم طريق الشيخ (قدس سره) إليه. وذلك لأن المعروف من أبي سعيد هو خالد بن سعيد القماط. وهو وإن كان من الثقات إلا أن الشيخ (قدس سره) لم يذكر طريقه إليه بعنوانه- ولعله غفلة منه (قدس سره)- وإنما ذكر طريقه إلى أبي سعيد وقد عرفت ضعفه)).

ثانياً: رواية أبي سعيد القماط عمن رواه وهي الرابعة وقال عنها إنها ضعيفة ((لوقوع محمد بن سنان في سندها مضافاً إلى إرسالها)).

وقال (قدس سره): ((وهاتان الروايتان لو تمتا سنداً فلا محيص عن الالتزامبمضمونهما لعدم المعارض لهما وبذلك فتكونان مخصصتين لما دل على اعتبار إذن الأب في تزويج البكر))(1).

وفي كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

1- قد علمت اعتبار سند عدد من الروايات الواردة في المقام وقد اعتذرنا له بأن المعتبر ليس فيها ذكر صريح لعدم اشتراط إذن الأب وإنما استُ-فيد من الإطلاق وهو مناقش فيه وقد رددنا هذا الإشكال فيما تقدم.

2- إننا قد صححنا سند الرواية الثالثة وقد ورد فيها ذكر الأبوين ولم يشترط الإمام (عليه السلام) في الجواب إذن الأب فيمكن التمسك بالإطلاق لنفيه ويكون الإطلاق هنا بقوة المصرّح به.

3- قال (قدس سره) إنهما لو تمتا سنداً فإنها تخصص ((ما دلّ على اعتبار إذن الأب في تزويج البكر)) وهو لا يعني فقط ما تقدّم في الجهة الأولى من البحث -كما هو ظاهر كلامه (قدس سره)- وإنما تخصّص ما سيأتي في الطائفة الثانية أيضاً فلا بد من فهم ما قاله آنفاً من ((عدم المعارض لهما)) وفق هذا الجمع وإلا فالمعارض موجود في الطائفة الثانية.

ص: 281


1- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/214.

4- إن إشكاله (قدس سره) على رواية الحلبي من جهة عدم ذكر الشيخ (قدس سره) طريقه إلى أبي سعيد القمّاط صحيح لكن إشكاله على طريق الشيخ إلى عنوان (أبي سعيد) من جهة وجود ابن المفضل فيه غير صحيح لما تقدّم من اختصاص هذا الطريق بكتاب الطهارة.

5- إن الإشكال على الرابعة من جهة الإرسال صحيح لكن الإشكال من جهة محمد بن سنان قد أجبناه.

والذي تحصّل لدينا الآن من روايات الطائفة الأولى جواز العقد المنقطع على الباكر من دون إذن ولي أمرها تمسكاً بإطلاق الروايات المعتبرة الأولى والرواية الثالثة المصححة، لكنه مقيّد بشرطين:-

1-عدم الدخول الذي ذكرته الروايات المعتبرة وبه نقيّد إطلاق الرواية الثالثة المصحّحة.

2-مراعاة الوضع الاجتماعي للفتاة الذي ذكرناه في نتيجة الجهة الأولى من البحث لأن تلك الأحكام شاملة لمطلق النكاح دائماً كان أو منقطعاً فيقيّد ما دل على جواز التمتع بالبكر في هذه الطائفة من الروايات.

الطائفة الثانية: ما دلّ على عدم جواز التمتع بالباكر إلا بإذن أبيها.

وهي عدة روايات تعارض الطائفة الأولى الدالّة على الجواز، ومنها:

الأولى: صحيحة البزنطي في قرب الإسناد عن الرضا (عليه السلام) (قال: البكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها)(1).الثانية: صحيحة أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العذراء التي لها أب لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها)(2).

الثالثة: صحيحة عبد الله بن أبي يعفور، قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يتزوج الرجل بالجارية متعة؟ فقال: نعم، إلا أن يكون لها أب، والجارية يستأمرها كل أحد إلا أبوها) .(3)

ص: 282


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح5، 12.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح5، 12.
3- مستدرك الوسائل: أبواب المتعة، باب10، ح3.

الرابعة: رواية أبي بكر الحضرمي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا بكر إياكم والأبكار أن تتزوجوهن متعة).(1)

الخامسة: رواية عبد الملك بن عمرو قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتعة فقال: إن أمرها شديد فاتقوا الأبكار)(2).

السادسة: مكاتبة المهلب الدلال وفيها (ولا يكون تزويج متعة ببكر، أستر على نفسك واكتم رحمك الله)(3).

والأولى والثانية تجيزان الزواج المنقطع من البكر بشرط إذن وليها فيحمل عليه المنع المطلق المذكور في البقية.

الجمع بين الروايات

ويمكن حلّ التعارض بين الطائفتين بوجوه:

الأول: تقديم مفاد الطائفة الأولى والتصرف بالثانية بنحو من الأشكال التالية:-

1- أن تحمل الطائفة الثانية على النصيحة الاجتماعية لوجود محاذير شديدة من السلطة ومن المجتمع في الزواج المنقطع سراً من دون إذن أبيها وهذا واضح من الجو العام يومئذٍ ومن تصريح الإمام (عليه السلام) (إن أمرها شديد) أي أمام الناس والسلطة التي تتربص بالشيعة لتوقع بهم ومن السهل وصمهم بالزنا وارتكاب الفاحشة بالزواج السري.

ومثل هذا المنع للأصحاب كان يصدر من الإمام (عليه السلام) بلحاظ الظروف المحيطة ففي رواية عن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) لي ولسليمان بن خالد: قد حرّمت عليكما المتعة من قبلي ما دمتما بالمدينة لأنكما تكثران الدخول علي وأخاف أن تؤخذا فيقال: هؤلاء أصحاب جعفر).(4)

ص: 283


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح13، 14، 11.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح13، 14، 11.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب11، ح13، 14، 11.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب5، ح 5.

وإن أحد الشيعة لم يعمل بنصيحة الإمام (عليه السلام) وتمتع بفاجرة فاشتهر بها حتى علا أمره وصار إلى السلطان وغرم بسببها مالاً نفيساً(1).

2- إن المنع إنما صدر بلحاظ ترتيب جميع آثار الزوجية ومنها الدخول وهو مشروط بإذن ولي الأمر كما تقدم ولم يصدر المنع بلحاظ أصل العقد فيكون معنى الرواية ((لا يجوز التمتع بالبكر إذا أريد ترتيب سائر آثار الزواج إلا بإذن أبيها)).

3- إنها تحمل على التقية في الإعلان عن إباحة زواج المتعة فيريد الإمام (عليه السلام) أن يبيح المتعة من دون أن يتحمل تبعتها بل يلقيها على أولياء الأمور وهو بيان لجواز العقد المنقطع بلباقة يتجنب بها إثارة السلطة.

4- حمل روايات المنع على الكراهة وهو مقتضى القاعدة عند اجتماعها مع ما يدل على الجواز ويدعم هذا الاتجاه روايات عديدة كان الإمام (عليه السلام) فيها ينفر أصحابه عن الزواج المنقطع ففي صحيحة علي بن يقطين قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتعة فقال: ما أنت وذاك قد أغناك الله عنها)(2) وكانوا ينهون أصحابهم عن الإلحاح في المتعة لما يترتب على ذلك من محاذير أخلاقية واجتماعية ويطلبون منهم الاكتفاء بها ضمن الموارد التي ذكروا فيها مصالح معينة فقد كتب أبو الحسن (عليه السلام) إلى بعض مواليه: (لا تلحّوا على المتعة إنما عليكم إقامة السنة فلا تشتغلوا بها عن فرشكم وحرائركم فيكفرن ويتبرّين ويدعين على الآمر بذلك ويلعنونا)(3) وعن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في المتعة: (دعوها أما يستحيي أحدكم أن يُرى في موضع العورة فيحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه)(4).

الثاني: تقديم الطائفة الثانية الدالة على المنع من العقد المقطع على الباكر إلا بإذن

ص: 284


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب9، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب5، ح1، وروايات أخرى في نفس الباب.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 5، ح4، 3.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 5، ح4، 3.

ولي الأمر لأن الطائفة الأولى أجازت عقد المنقطع ولم تدل على عدم اشتراط إذن ولي الأمر إلا بالإطلاق والطائفة الثانية صرّحت باشتراطه فيكون هذا التصريح مانعاً من انعقاد الإطلاق.

الثالث: استقرار التعارض وعدم إمكان ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى والتحاكم إلى مرجع لحل التعارض، ويمكن تصور مرجّحين أحدهما مساوٍ والآخر أعمّ:

1- المرجّح المساوي: وأعني به روايات في عرض الروايات المتعارضة وليست عموماً فوقانياً لها ولكنها لا تبتلى بالمعارضة لأنها غير مسوقة لبيان محل النزاع بالدلالة المطابقية وإنما هي بصدد بيان أحكام أخرى ويستفاد منها حكم محل النزاع بشكل عرضي(1).

ووجه عدم دخولها في المتعارضين خلوّها من ملاك التعارض لعدم توجه الدليل لبيان الحكم محل التعارض مب،،اشرة، فمثلاً إن من أسباب التعارض

ص: 285


1- وما دامت غير مسوقة للبيان من هذه الجهة فلا يمكن التمسك بالإطلاق في المرجح المساوي فمثلاً في التعارض المتقدم في الجهة الأولى من البحث في كون الولاية في تزويج البكر لنفسها أمْ لأبيها قد تُتَّخذ صحيحة أبي عبيدة مرجّحاً لولاية الأب على البكر؛ قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل كُنَّ له ثلاث بنات أبكار فزوَّج إحداهن رجلاً ولم يسمِّ التي زوّج للزوج ولا للشهود، وقد كان الزوج فرض لها صداقها، فلما بلغ إدخالها على الزوج بلغ الزوج أنها الكبرى من الثلاثة، فقال الزوج لأبيها: إنما تزوّجت منك الصغيرة من بناتك، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن كان الزوج رآهنَّ كلهن ولم يسمِّ له واحدة منهنَّ فالقول في ذلك قول الأب، وعلى الأب فيما بينه وبين الله أن يدفع إلى الزوج الجارية التي كان نوى أن يزوجها إياه عند عقده النكاح، وإن كان الزوج لم يرهُنَّ كلهن ولم يسمّ له واحدة منهنّ عند عقده النكاح فالنكاح باطل) (وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب15ح1). بتقريب ظهور الرواية في عدم رجوع الأب إلى بناته في أمر التزويج. لكن هذا الاستدلال إنما يكون بالإطلاق والرواية بصدد البيان من هذه الناحية إذ لعل الأب استأمرهن جميعاً في تزويجهن فكان تصرفه بالإذن والوكالة عنهن.

ما يلقيه الأئمة (عليهم السلام) من الخلاف بين أصحابهم صيانة لهم من الطواغيت وهذا معنى دقيق للتقية التي وردت في باب الترجيح بين الأدلة المتعارضة يضاف إلى ما ذكروه ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن مسالة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت يا ابن رسول الله: رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبتَ كل واحدٍ منهما بغير ما أجبتَ به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خيرٌ لنا وأبقى لنا ولكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم. قال: ثم قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه)(1).

وهذه نكتة لم تذكر في باب التعارض والتراجيح.

والمرجّح المساوي هنا روايتان معتبرتان:

الأولى: صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا (عليه السلام) ومثلها رواية إسحاق بن عمار؛ (قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): رجل تزوج امرأة متعة ثم وثب عليها أهلها فزوجوها بغير إذنها علانية والمرأة امرأة صدق، كيف الحيلة؟ قال: لا تمكّن زوجها من نفسها حتى ينقضي شرطها وعدتها،قلت: إن شرطها سنة ولا يصبر لها زوجها ولا أهلها سنة، فقال: فليتق الله زوجها الأول وليتصدق عليها بالأيام فإنها قد ابتليت والدار دار هدنة، والمؤمنون في تقية، قلت: فإنه تصدق عليها بأيامها وانقضت عدتها، كيف تصنع؟ قال: إذا خلى الرجل بها فلتقل هي يا هذا إن أهلي وثبوا علي فزوجوني منك بغير أمري ولم يستأمروني وإني الآن قد رضيت فاستأنف أنت الآن فتزوجني تزويجاً صحيحاً فيما بيني وبينك)(2).

ص: 286


1- أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح5.
2- وسائل الشيعة: مج14، كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب41، ح1.

والثانية: صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر في قرب الإسناد عن الرضا (عليه السلام) قال: (في الرجل يتزوج المرأة متعة ثم يتزوجها رجل من بعده ظاهراً فسألته أي الرجلين أولى بها؟ فقال: الزوج الأول)(1).

وتقريب الاستدلال يكون بتلخيص عدة مقدمات:-

1- إن الزواج الأول كان سراً بدون علم وليها، بدليل وثوب أهلها عليها لتزويجها علانية.

2- إن من زوّجها هو ولي أمرها إذ لا يسوغ لغيره أن يزوّجها من غير إذنها.

3- إنها كانت بكراً لأن الثيب مستقلة في أمر تزويجها ولا ولاية لأبيها على تزويجها.

4- إن الزواج الأول صحيح بدليل تدبير الإمام (عليه السلام) الحيلة لتتجنب زواجها بالثاني وهي في عصمة الأول.

5- إن الزواج كان متعة كما هو مصرّح به في الصحيحتين.

6- إن الزوج الأول قد دخل بها بدليل طلب الإمام (عليه السلام) انقضاء عدتها منه.

ونتيجة هذه المقدمات: أن زواج المتعة من الباكر من دون إذن وليها صحيح حتى مع الدخول لكن هذه النتيجة تُقيَّد بقيدين:

1- حملها على البكر البالغة الرشيدة وليس مطلق البكر بموجب نتيجة الجهة الأولى من البحث.

2- تقييدها بعدم الدخول لأن السائل لم يفترض الدخول وذكرُ الإمام (عليه السلام) للعدة يُحتمل فيه أنه بيانُ للحكم العام وليس للواقعة الخاصة.

تنبيه: تقدّم الاستدلال بهذه الرواية في عدة مسائل من البحث بتقريبات متنوعة في المحرّمات بالمصاهرة وغيرها وهذا من لطيف صنع الله تبارك وتعالى.

ص: 287


1- وسائل الشيعة: مج14، كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب41، ح 2.

2- وأما المرجّح العام فنرجع إلى العمومات الفوقانية على تعبيرهم وهي النتائج التي توصلنا إليها في الشكل الأول ومنها أن المرأة المالكة لأمرها في إدارة شؤونها يمكنها إجراء العقد من دون مراجعة وليها وهو مطلق شامل للدائم والمنقطع مع تقييده هنا بعدم الدخول كما تقدم.

لكن الانصاف أن نتائج الجهة الأولى من البحث ليست عموماً فوقانياً للجهة الثانية منه فيمكن لصحيحتي البزنطي وأبي مريم التي منعت من تزويج البكر متعة إلابإذن أبيها أن تُخَصِّص بإطلاقها ما دلّ على أن البكر المالكة لأمرها تتزوج مستقلة من دون إذن أبيها فتكون مستقلة في غير المنقطع.

كما أن العكس ممكن فإن المالكة لأمرها في الجهة الأولى من البحث يمكن أن تخصَّص البكر في الصحيحتين وتكون النتيجة أن البكر غير المالكة أمرها لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها.

وليس تخصيص نتائج الجهة الأولى من البحث بالصحيحتين أولى من العكس فيبقى التعارض مستحكماً.

ولكن الصحيح أن الصحيحتين لما سقطتا بالتعارض مع الطائفة الأولى بقيت نتائج الجهة الأولى من البحث سليمة عن المعارض خصوصاً بعد دعمها بالمرجح المساوي واستظهار ما ذكرناه في الوجه الأول من الجمع بين الطائفتين هنا، أي بحمل الطائفة المانعة على التقية أو على الكراهة أو على المنع من ترتيب كل آثار الزوجية بما فيها الدخول.

فالمختار حينئذٍ جواز العقد المنقطع على الثيِّب مطلقاً حتى مع الدخول بشرط أن تكون رشيدة فلو لم تكن كذلك بقيت ولاية الأب عليها من هذه الجهة، وجواز العقد على الباكر من دون إذن ولي أمرها بشرطين:

1-عدم الدخول لتكرر النهي عنه في الروايات (ما لم يفضِ إليها) (ما لم يقتضّها) (واتقِ موضع الفرج) (ما لم يقتضَّ ما هناك) (فإنه عار على الأبكار).

2-أن تكون من الصنف الثاني من النساء التي ذكرناها في نتائج الجهة الأولى من البحث بأن تكون عاقلة رشيدة مالكة لأمرها.

ص: 288

لكنه يكون مكروهاً - كما هو الغالب- لذا وردت تعبيرات (يكره للعيب على أهلها) (إن أمرها شديد) (إياكم والأبكار أن تتزوجهن متعة).

وقد يكون راجحاً كما ورد (هل جُعل ذلك إلا لهنَّ فليستترن وليستعففن) عندما يتأخر أمر زواجها وتبدأ العنوسة تضغط عليها.

ومما يقرب هذا الجواز أيضاً ما تقدم من ترغيب الأئمة (عليهم السلام) على التمتع بالأبكار فلو كانت مشروطة بإذن ولي الأمر لبقيت هذه الروايات بلا موضوع لعلمهم بعدم سماح أولياء الأمور بها.

ص: 289

أقوال الفقهاء المعاصرين

لو راجعنا الرسائل العملية للفقهاء المعاصرين لوجدنا بعضهم لا يخصون العقد المنقطع بحكم غير ما يقولونه في عموم الزواج حيث احتاط السيد الخوئي (قدس سره) لزوما في تزويج البكر الرشيدة باعتبار إذن الأب والجد وضمه إلى إذنها(1)

وكذا السيد السبزواري (قدس سره) لكنه احتاط شديداً(2)

ومثل هذه التعابير في الاحتياط يراد منها إلزام المكلف بالحكم الاحتياطي لمصلحة ما يراها الفقيه من دون وجود دليل جازم على الحرمة.

وفصَّل السيد السيستاني (دام ظله) في مسألة ولاية الأب على تزويج ابنته بما يوافق ما ذكرناه في الجملة فقال: ((وأما إذا كانت بكراً فإن كانت مالكة لأمرها ومستقلة في شؤون حياتها لم يكن لأبيها ولا جدّها لأبيها أن يزوّجها من دون رضاها على الأقوى. وهل لها أن تتزوج من دون إذن أحدهما؟ فيه إشكال، فلا تترك مراعاة مقتضى الاحتياط فيه وأما إذا كانت غير مستقلة في شؤون حياتها فليس لها أن تتزوج من دون إذن أبيها أو جدها لأبيها على الأظهر. وهل لأبيها أو جدها لأبيها أن يزوجها من دون رضاها؟ فيه إشكال فلا تترك مراعاة مقتضى الاحتياط فيه)) (3).

وفيه:-

1- إنه (دام ظله) لم يتعرض لحق النقض للأب الذي ذكرناه.

2- إنه فصّل بلحاظ استقلال البنت في شؤونها على نحو الموضوعية والظاهر أنها مأخوذة على نحو الطريقية إذ المعيار رشدها في تصرفاتها وخبرتها في معرفة أحوال الرجال حتى لو كانت بين أبويها والاحتياط حينئذٍ يكون استحبابياً ومن باب النصيحة الاجتماعية.

ص: 290


1- منهاج الصالحين: ج2 , أولياء العقد، مسالة 1237.
2- منهاج الصالحين: ج2، مسألة 1381.
3- منهاج الصالحين: ج3، مسالة 67.

3- إن احتياطه (دام ظله) لم يجعل للتفصيل ثمرة عملية إذ لم يفرق الحكم بينهما فالظاهر أن الاحتياط في الأول ذو منشأ أخلاقي واجتماعي وليس ناشئاً من الدليل الفقهي.

ثم قال في المسألة اللاحقة: ((لا فرق فيما تقدم من اشتراط إذن الولي في زواج الباكر الرشيدة بين الزواج الدائم والمنقطع ولو مع اشتراط عدم الدخول في ضمن العقد)).

أما السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فقد جعل الولاية في تزويج البكر((لوالدها وإن كان الأحوط أكيداً أخذ رأيها أيضاً))(1).

ولكنه خصّ المنقطع بالحكم بجواز استقلال البكر الرشيدة به إذا اشترط عدم الدخول فقال (قدس سره): ((للمرأة الثيِّب الرشيدة اختيار نفسها في هذا العقد وكذا البكر الرشيدة إذا كانا قد اشترطا في العقد عدم الدخول، وأما مع إطلاق العقد، فالولاية للأب وحده))(2).

وكأنه (قدس سره) حمل صحيحتي البزنطي وأبي مريم على أحد الاحتمالات التي ذكرناها وهو المنع من شمول الزواج للدخول تصريحاً أو بالإطلاق.

ومنع منه شيخنا الفياض (دام ظله) فقال: ((وقد تسأل هل يجوز التمتع بالبكر بشرط عدم الدخول بها والحفاظ على كرامتها من دون إذن وليها ويكون الهدف من وراء ذلك إما مجرد المحرمية(3) منها أو الاستمتاع بها بدون جماع أو لا؟ والجواب إن الجواز لا يخلو عن إشكال والأحوط والأجدر به وجوب ترك ذلك))(4).

ص: 291


1- منهج الصالحين: ج2، مسألة 1322.
2- منهج الصالحين: ج2، مسألة 1431.
3- التعبير فيه تسامح فإن عقد النكاح يؤدي إلى المحللية مع الزوجة لا المحرمية فأما أن يريد بها إلغاء المحرمية على تقدير حذف المضاف إذ بالعقد ترتفع الحرمة بين الرجل والمراة أو يريد أن بالعقد يحقق المحرمية بالمصاهرة بينه وبين أم الزوجة ونحوها.
4- منهاج الصالحين: ج3، مسألة 18.

ملحقان بالبحث

الملحق الأول: في معنى الثيِّب والبكر هنا
اشارة

وإنما قلت (هنا) لأنه لا خلاف بينهم في غير هذا المقام على أن الثيِّب مقابل البكر وهي غير المفتضّة أو ذات البكارة فلو زالت البكارة بأي سبب كان مما سيذكر فهي ثيّب وقالوا ذلك في تدليس الزوجة أو وليّها على الزوج فيما لو تزوّجها على أنها بكر فبانت ثيّباً وقالوه في خيار العيب وهل أن الثيبوبة عيب في بيع الإماء باعتبار أنها خلاف الخلقة الأصلية فتوجب الخيار أم إنها لا توجبه باعتبار أن الغالب في الإماء الثيبوبة فلا يوجد شرط ارتكازي للسلامة من هذه الجهة.

والكلمتان متقابلتان في المعنى فكل من ليست بكراً فهي ثيّب، قال تعالى: «ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً».

قال الراغب في معنى الثيِّب: ((أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها، أو إلى الحالة المقدّرة المقصودة بالفكرة وهي الحالة المشار إليها بقولهم أول الفكرة آخر العمل فمن الرجوع إلى الحالة الأولى قولهم ثاب فلان إلى داره، ومن الرجوع إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة، الثوب سمّي بذلك لرجوع الغزل إلىالحالة التي قدرت له، وكذا ثواب العمل، والثيب التي تثوب عن الزوج قال تعالى: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً) وقال عليه السلام: (الثيب أحق بنفسها)))(1).

لكن الروايات الشريفة أسست في المقام ظهوراً خاصاً لمعنى الثيِّب على نحو ما قلناه في مبحث (الحقيقة الشرعية) فالتعرف على معنى الثيِّب هنا لتنقيح موضوع استقلالها في الولاية على التزويج يجب أن يكون من خلال النصوص وليس بالاكتفاء بالرجوع إلى المعنى اللغوي أو العرفي.

ص: 292


1- المفردات للراغب، مادة (ثوب).

ونفى السيد الخوئي (قدس سره) أن تكون الروايات قد أسست ظهوراً خاصاً لمعنى الثيِّب في المقام وربما كان وجهه أنه لا توجد روايات شرحت معنى الثيِّب مباشرة في رواية واحدة وإنما الموجود ورود كلمة الثيِّب في بعضها ووجود ما قالوه من التعريفات ككونها من تزوجت سابقاً أو دُخلَ بها في روايات أخرى.

وفيه:-

1- إن من قرأ الروايات لا يتردد في استظهار أن الثيِّب المذكورة في هذه الرواية هي المقصودة بالوصف في الرواية الأخرى، لذلك فإنه (قدس سره) لم يتردد في فهم معنى الثيّب من هذه الأوصاف التي وردت في الروايات الآتية كصحيحة علي بن جعفر وغيرها.

2-وجود رواية جامعة للعنوان وتعريفه ولكنها مذكورة في باب آخر وهي صحيحة أبي حمزة قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إذا تزوّج الرجل المرأة الثيِّب التي تزوّجت زوجاً غيره..)(1).

فليس الصحيح الاستدلال بالتبادر هنا، قال صاحب العروة (قدس سره): ((وأما إذا ذهبت -أي البكارة- بالزنا أو الشبهة ففيه إشكال، ولا يبعد الإلحاق- أي بالبكر- بدعوى أن المتبادر من البكر من لم تتزوج))(2)

لأن التبادر علامة الوضع ونحن هنا بصدد تأسيس ظهور شرعي في المعنى وعدم الاقتصار على معناها اللغوي.

والمحتملات في معنى الثيِّب أقوال:
اشارة

الأول: المعنى اللغوي والعرفي وهي مَن زالت بكارتها سواء بالإدخال أو غيره كالوثبة أو العاهة الصحية وسواء كان الإدخال بسبب صحيح كالنكاح أو غيره كالزنا وقال عنه السيد الحكيم (قدس سره): ((لم يعرف به قائل))(3)

لكن

ص: 293


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب العيوب والتدليس، باب 15، ح1.
2- العروة الوثقى، فصل في أولياء العقد، المسألة الثانية.
3- مستمسك العروة الوثقى: 14/451.

يوجد قائلٌ به فقد ردَّ بعض الفقهاء على قول صاحب العروة (قدس سره) بأنه ((إذا ذهبت بكارتها بغير الوطء من وثبة ونحوها فحكمها حكم البكر)) وقال بأن ((الباكرة لا تصدق عليها، ولذالو تزوجها على أنها بكر كان له المهر، والثيّب صادق عليها))(1)

وفيه خلط بين الموارد والنقض المذكور في غير موضعه لما قلناه من تأسيس النصوص في المقام ظهوراً خاصاً.

واختاره سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فقال: ((إذا زالت بكارتها بغير الوطء زالت الولاية عنها)) ثم احتاط استحباباً بالاقتصار على ما كان سبب زوال البكارة الوطء المحلل بما فيه الشبهة ثم قال ((والأحوط منه الاقتصار في السبب على العقد))((2).

ومما يبعد الالتزام بهذا القول مضافاً إلى ما قلناه من ضرورة الرجوع إلى ما تؤسسه الروايات من الظهور:

1- انصراف عنوان الثيِّب في المقام عن المرأة التي ذهبت بكارتها بالوثبة والمرض فلا تكون مشمولة بإطلاقه.

2- نسبة الثيبوبة إلى فعل فاعل في بعض الروايات كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيَّب)((3).

بناءً على قراءة (تُثيب) على البناء للمجهول كما هو الظاهر لا البناء للمعلوم مع التخفيف بقرينه عدم جزمها بحذف حرف العلة فكلمة (تثيَّب) تعني أن سبب الثيبوبة فاعل آخر.

وربما يستدل على أن الثيِّب هي المفتضة بأي سبب كان أي هي التي ليست بعذراء ويشهد له استعمال الإمام (عليه السلام) عنوان العذراء في بعض الروايات بدل البكر في صحيحة أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام)) (العذراء التي لها أب لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها)((4)،

بتقريب أنَّ من ليست

ص: 294


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 64/33.
2- (2) منهج الصالحين: ج2، ص243 المسألة 1323.
3- (3) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 3. ح11
4- (4) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11, ح12.

بعذراء - وهي الثيب - تتزوج من دون إذن أبيها.

ويرد عليه بأن الجملة لا مفهوم لها فكل عذراء بكر ولكن ليست كل غير عذراء ثيّباً إلا بقيود ذكرتها الروايات.

الثاني: الثيب من زالت بكارتها بالوطء خاصة

وإن كان بسبب غير صحيح كالزنا واختاره صاحب الجواهر (قدس سره) حيث عرّف الثيّب بأنها ((التي قد ذهبت بكارتها بالوطء ولو من زنا أو شبهة قبل البلوغ وبعده))(1)

واختاره أيضاً السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((والذي يظهر من اللغة ويساعد عليه العرف أن البكر هي التي لم يدخل بها وهو المستفاد من قوله تعالى: «إِنا أَنشَأناهُنَّ إنشَاءً. فَجَعَلنَاهُنَّ أَبْكَاراً» (الواقعة: 35-36) بضميمة قوله تعالى: «فِيهِنَّ قَاصِراتُ الطَرفِ لَمْ يَطمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبلَهُم ولا جَانٌّ» (الرحمن: 56) فإن من الواضح إن الآية الثانية ناظرة للأولى وبصددتفسير ما ورد فيها من وصف حور الجنة بالأبكار.

هذا كله مضافاً إلى صراحة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: (سألته عن الرجل، هل يصلح له أن يزوج ابنته بغير إذنها؟ قال: نعم، ليس يكون للولد أمر إلا أن تكون امرأة قد دخل بها قبل ذلك، فتلك لا يجوز نكاحها إلا أن تستأمر)(2) في أن المرأة التي لا تحتاج إلى إذن أبيها في صحة النكاح إنما هي التي دُخل بها))(3) ولا شك أنه (قدس سره) تمسك بإطلاق كلمة (دخل بها) ليتم الاستدلال، وهذا الذي استظهرناه قد صرّح به (قدس سره) بقوله لاحقاً: ((مقتضى إطلاق صحيحة علي بن جعفر المتقدمة هو الأول- أي كفاية مطلق الوطء- فإنه (عليه السلام) لم يعتبر في استئمار المرأة إلا الدخول بها من غير تعرّض لاعتبار كون ذلك عن زواج صحيح)).

ص: 295


1- جواهر الكلام: 29/185.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب9، ح8.
3- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 33/221.

وفيه:-

1-ما قلناه من وجود ظهور خاص للثيب بحسب ما أفادته الروايات في المقام فليس صحيحاً الاكتفاء بالاستدلال بالمعنى اللغوي والعرفي، والنظر في صحيحة علي بن جعفر لوحدها ليس كافياً كما سيأتي بإذن الله تعالى.

2-إنه (قدس سره) وقع في تناقض فبينما قال قبل الاستدلال: ((والروايات الواردة في المقام لم تتعرض إلى معنى البكر والثيب بهذين العنوانين)) عاد واستدل بالصحيحة لمعرفة معنى الثيب بعد ضمّها إلى الروايات الأخرى، وتوجد روايات أخرى ستأتي بإذن الله تعالى.

3-إن قوله (عليه السلام): (قد دُخل بها) ليس له إطلاق حتى يتمسك به لإثبات تحقق الثيبوبة بمطلق الدخول بل إن ارتكاز المتشرعة قوي بدرجة يقيد إطلاقه بالدخول بسبب صحيح، ويمكن سؤال أي واحد من المتشرعة عن فهمه للكلمة ليقول إن المراد بالدخول ما كان عن زوجية.

4-إن الجملة لا تأبى إضافة قيود أخرى ترد في الروايات كالتزويج من رجل فهي لا تدل على الانحصار وليست بلسان (بشرط لا) عن غير الدخول.

5-إن (دخل) هنا قد تعني الخلوة بالزوجة لا الدخول المعروف كما تشهد له بعض الروايات الآتية بإذن الله تعالى.

6-ولو تنزلنا وقلنا بأن الدخول ظاهر في الإدخال فإنه لم يتضمن الافتضاض فتكون الثيب هي من دخل بها وإن لم تُفتضّ وهو القول الرابع الآتي. وقد تقول إن كلام السيد الخوئي (قدس سره) مطلق ولم يشترط الافتضاض وهذا صحيح لكنه استدل بالآية «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ» التي تعني لم يفتضّهنّ.

7-إنه لم يأخذ في الاعتبار مناسبات الحكم والموضوع المتقدمة والآتية.

واختار هذا القول شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) فقال:

ص: 296

((وإذا زالتبكارتها بالوطء شبهة أو زنا فلا تترتب عليها أحكام البكر))(1) أي كانت ثيّباً بحسب التعريف، ثم قال: ((وأما إذا زالت بكارتها بغير الوطء فالمعروف أنها بمنزلة البكر وهو الأظهر)).

الثالث: إن الثيب من تزوجت سابقاً سواء دخل بها الزوج أو لا.
اشارة

واختاره صاحب العروة فقال (قدس سره): ((إن المتبادر من البكر من لم تتزوج. وعليه فإذا تزوجت ومات عنها أو طلّقها قبل أن يدخل بها، لا يلحقها حكم البكر)).

وهو معنى خاص بالمقام استفاده (قدس سره) من جملة من الروايات:

(منها) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في المرأة الثيب تُخطَب إلى نفسها؛ قال: (هي أملك بنفسها تولّي أمرها من شاءت إذا كان كفؤاً بعد أن تكون قد نكحت رجلاً قبله)(2).

(ومنها) صحيحة أبي حمزة قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إذا تزوّج الرجل المرأة الثيّب التي تزوّجت زوجاً غيره..)(3).

(ومنها) رواية عبد الرحمن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثيب تخطب إلى نفسها؛ قال: (نعم هي أملكُ بنفسها، تولي أمرها من شاءت إذا كانت قد تزوجت زوجاً قبله)(4).

(ومنها) رواية عبد الخالق قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المرأة الثيب تخطب إلى نفسها قال: هي أملك بنفسها تولّي من شاءت إذا كان كفؤاً بعد أن تكون قد نكحت زوجاً قبل ذلك)(5).

(ومنها) رواية إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إذا كانت الجارية بين أبويها فليس لها مع أبويها أمر، وإذا كانت قد تزوجت لم يزوّجها

ص: 297


1- منهاج الصالحين: ج3, مسألة 19.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 3، ح4.
3- وسائل الشيعة، أبواب العيوب والتدليس، باب15، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح12.
5- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3،ح2.

إلا برضاً منها)(1).

ويستفاد من الروايات معنيان:

(أولهما) من خلال النظر إليها خاصة فتدل على كفاية التزوج لتحقق الثيبوبة وهو المطلوب هنا.

(ثانيهما) من خلال النظر إليها بلحاظ علاقتها مع صحيحة علي بن جعفر المتقدمة التي استدل بها على تحقق الثيبوبة بالدخول مطلقاً بعدة أنحاء:-1- إلغاء كلٍ من القيدين والعودة إلى المعنى العرفي للثيبوبة واعتبار ذكر القيدين من باب الغالب في أسباب التثيّب، وهو مردود لأن المعنى العرفي من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى هذا البيان البعيد للتعبير عنه مضافاً إلى عدم ملاحظته مناسبات الحكم والموضوع.

2- اعتبار كل واحد منهما سبباً مستقلاً للثيبوبة نظير شرطية خفاء الجدران والأذان لقصر الصلاة أي العطف بينهما ب-(أو) وهو ممكن لولا ما سنقوله من الملازمة.

3- اعتبار كل من التزوج سابقاً والدخول قيداً للآخر أي العطف بينهما ب-(و) والثاني أظهر عند العرف وتوجد ملازمة بينهما بحيث لو لم يقل له القيد الآخر فإنه يفهمه ارتكازاً فتقيّد هذه الروايات الدخول الوارد في صحيحة علي بن جعفر باشتراطه عن نكاح صحيح.

فلو كنا نحن وهذه الروايات لكان المعنى الذي اختاره السيد صاحب العروة صحيحاً ولكن ضمّها إلى صحيحة علي بن جعفر المتقدمة يقيّد المعنى بتحقق الدخول ويساعد عليه العرف لأن التزويج يقترن غالباً بالدخول.

نعم قد يستدل لهذا القول بصحيحة أبي حمزة قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إذا تزوج الرجل المرأة الثيب التي تزوجت زوجاً غيره فزعمت أنه لم يقربها منذ دخل بها...)(2) بتقريب أن الثيبوبة تحققت بمجرد

ص: 298


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب9، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب العيوب والتدليس، باب15، ح1.

الزواج وعدم تحقق الدخول بدليل قوله (لم يقربها) ويكون معنى الدخول الاختلاء بها لكن الظهور مجمل فلا يمكن الاستدلال بها إذ لعل معناها أنه لم يقربها منذ دخوله بها أول مرة.

وقد استدل السيد الخوئي (قدس سره) برواية إبراهيم بن ميمون على المعنى الأول وقال إن هذا المعنى ((مذكور في رواية واحدة خاصة هي رواية إبراهيم بن ميمون)). واستدل بصحيحة الحلبي ورواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله على المعنى الثاني.

ولا نعلم وجهاً لهذا التفصيل فإن جميع الروايات بلسان واحد وتفيد المعنيين معاً.

وقال (قدس سره) في نفي صلاحيتها للتقييد: ((إلا أن الأخبار الواردة بهذا المضمون جميعاً -باستثناء صحيحة الحلبي- ضعيفة الإسناد، فإن رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ضعيفة بالقاسم الذي يروي عن أبان فإنه مشترك بين الثقة وغيره.

وأما صحيحة الحلبي فهي قاصرة من حيث الدلالة، فإنه (عليه السلام) ليس بصدد بيان القضية الشرطية وإن النكاح معتبر في كونها ((أملك بنفسها)) وإنما هو (عليه السلام) بصدد تكرار الموضوع المسؤول عنه -أعني الثيب- بلسان ذكر الوصف الغالب باعتبار أن الثيبوبة غالباً ما تكون بالنكاح، فيكون المعنى أن المرأة أملك بنفسها إذا كانت ثيّبة. ومن هنا فلا تكون للرواية دلالة في تقييد الثيبوبة بالتي زالت عذرتها بالدخول بها بالنكاح الصحيح، بل التقييد بعد الروايات المطلقة وتصريحصحيحة علي بن جعفر باعتبار الدخول خاصة بعيد جداً))(1).

أقول:-

1- لا حاجة إلى مناقشة إسناد الروايات ما دامت صحيحة الحلبي موجودة ومعها صحيحة أبي حمزة المذكورة في باب آخر وهما تتضمنان المعنى

ص: 299


1- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 33/222.

المطلوب.

على أنه يمكن تصحيح غيرهما على مبانينا كرواية عبد الخالق فقد رواها الصدوق (رحمه الله) بسنده عن عبد الحميد بن عوّاض، عن عبد الخالق، وطريق الشيخ الصدوق (رحمه الله) إلى عبد الحميد صحيح وعبد الحميد ثقة قتله هارون العباسي حين استدعاه مع مرازم بن حكيم خادم الإمام الصادق (عليه السلام) وكان هو ومصادف مولى الإمام الصادق (عليه السلام) مع الإمام بالحيرة لما كان معتقلاً فيها عند المنصور واستدعي معه أخوه حديد بن حكيم فاستشهد عبد الحميد وسلما(1)، فحينما يذكر اسم عبد الخالق مجملاً فلا بد أنه اتكل على الانصراف إلى ثقة معلوم وليس هو إلا عبد الخالق بن عبد ربَّه الذي ورد في حديث صحيح قول الإمام الصادق (عليه السلام) لابنه إسماعيل بن عبد الخالق (صلى الله على أبيك)(2) ثلاثاً ولا يخلطه بغيره من المجاهيل والمهملين. أما الاشتراك فنشأ لاحقاً بعد قيام أصحاب الرجال بجمع كل أسماء الرواة من دون إشارة إلى مثل هذه القرائن. فإن مثل عبد الحميد بن عواض لا يضيّع تراث أهل البيت (عليهم السلام) ويترك اسم عبد الخالق مجملاً لولا وضوح الاسم في تلك الفترة.

2- إن حمل قيد (نكحت رجلاً قبله) على الكناية وإنه من باب ذكر الوصف الغالب باعتبار أن الثيبوبة غالباً ما تكون بالنكاح فالمعيار هو الدخول ليس أولى من تقييد الدخول في صحيحة علي بن جعفر بكونه عن نكاح صحيح بضميمة هذه الروايات ولوجود ارتكاز متشرعي قوي يفهم من كلمة (الدخول) و(المدخول بها) وغيرها أي عن نكاح، فالتفكيك في فهمهما لا وجه له، والثاني أولى من الأول.

ص: 300


1- راجع ترجمته في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): 9/288 وخاتمة وسائل الشيعة، مج19، ص373، 418.
2- معجم رجال الحديث، نفس الجزء.

وقد سبقه (قدس سره) إلى هذا التوجيه صاحب الجواهر (قدس سره) وسننقل قوله مع الرد عليه في نهاية القول الخامس إن شاء الله تعالى.

الرابع: الثيب هي التي تزوجت سابقاً ودخل بها زوجها وإن لم يفتضّها.

واختاره السيد السيستاني (دام ظله الشريف) وجعله معنى (حكمياً) للثيب وتنزيل من لم تكن كذلك بمنزلة البكر خاصاً بالمقام لذا قال: ((المقصود بالبكر -هنا-))ثم عرّفها بالمعنى التالي: ((من لم يدخل بها زوجها فمن تزوجت ومات عنها زوجها أو طلقها قبل أن يدخل بها فهي بكر وكذا من ذهبت بكارتها بغير الوطء من وثبة أو نحوها، وأما أن ذهبت بالزنا أو بالوطء شبهة فهي بمنزلة البكر على الأظهر وأما من دخل بها زوجها فهي ثيبة وإن لم يفتض بكارتها على الأصح))(1).

ويمكن أن نستدل له (دام ظله الشريف) بما تقدّم من الجمع بين الروايات وإذا شئنا الخروج بقاعدة كلية لهذا القول فنقول: إن البكر ما لم يستفد منها لتحقيق الغرض المقصود منها كالأرض البكر وهي التي لم تزرع ونظيره في الفقه ما اشترطوه في أحجار الرمي في مناسك منى حيث اشترطوا فيها أن تكون بكراً وعرفها الشهيد الثاني في شرح اللمعة بأنها ((غير المرميّ بها رمياً صحيحاً فلو رمي بها بغير نيّة أو لم يصب لم تخرج عن كونها بكراً)) (2) فالمرأة التي لم يدخل بها بسبب صحيح وهو العقد تبقى على عنوان (البكر).

وهذا التأسيس الشرعي للمصطلحات كثير ولا يضرّ فيه حينئذٍ المعنى اللغوي أو الانصراف العرفي نظير إطلاق عنوان الميتة على غير المذكى وإن ذبح بفري الأوداج الأربعة رغم أن عنوان الميتة منصرف عنه.

ويوجد على هذا المعنى شاهدٌ من اللغة لأن كلمة ثَيِّب ك-(صَيِّب) أصلها ثيوب من (ثاب، يثوب) إذا عاد إلى ما كان عليه فيقال بئر ذات ثيب إذا استقى

ص: 301


1- منهاج الصالحين، ج3، المسالة (70).
2- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية بتعليق السيد محمد كلانتر (رحمه الله):2/284.

منها عاد مكانه ماء آخر أي من ثاب الماء بمعنى بلغ إلى حاله الأول بعد ما يستقى ونقل عن أبي الهيثم قوله: (امرأة ثيب كانت ذات زوج ثم مات عنها زوجها أو طلقت ثم رجعت إلى النكاح إه-) لأنهم قالوا إنه لا يكون الثؤوب أول الشيء حتى يعود مرة أخرى ووجه الاشتقاق واضح فإن المرأة بعد أن تفارق زوجها كأنها تثوب وتعود إلى حالتها الأولى قبل الزواج أو إنها بعد أن تفارق زوجها تعود إلى زوج آخر لذا قالوا إن الثيِّب لا تكون إلا بعد أن ترجع إلى النكاح(1).

وعرّفها في لسان العرب: ((التي تزوجت وفارقت زوجها بأي وجه كان بعد أن مسّها)) وتقدم في كلمات الراغب ما يدل عليه بقوله (الثوب) رجوع الشيء إلى الحالة المقدّرة المقصودة بالفكرة.

أقول: إن هذا القول حسن لولا أنه اكتفى بالدخول دون الافتضاض تمسكاً بلفظ صحيحة علي بن جعفر وفيه:-

1- وجود ملازمة عادية بين الدخول والافتضاض الذي هو ليس أكثر من الدخول أول مرة.

تسمية صحيحة أبي مريم للبكر بالعذراء وهي غير المفتضة فالثيب ما يقابلها.

2- وهو (دام ظله) أخذ بهذه المقابلة في خيار التدليس(2) والمقام لا يختلف عنه إلا بإضافة قيود جديدة ككون الافتضاض عن نكاح صحيح اقتضتها مناسبة الحكم والموضوع.

3- ما تقدم من تفسير الآيتين الشريفتين وهما قوله تعالى: «إنّا أَنشَأناهُنَّ إِنشَاءً، فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكَاراً» (الواقعة: 35-36) بضميمة قوله تعالى: «فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَرفِ لَمْ يَطمِثْهُنَّ قَبلَهُم إِنسٌ وَلا جانٌّ» (الرحمن:56) فالأبكار في الآية الأولى مشروحة في الآية الثانية بأنهن من لم يطمثهنّ أي لم يفتضّهنّ.

4- إن الروايات وإن أضافت قيوداً لمعنى البكر وهي التزوّج سابقاً والدخول

ص: 302


1- جمعاً بين لسان العرب وتاج العروس، مادة (ثيّب).
2- منهاج الصالحين، ج3، مسألة 284، ص88.

بها إلا أنها لا دليل على خروجها على المعنى الأصلي الذي يبتنى على ارتباط الثيبوبة بزوال البكارة فأي معنى يستفاد من الروايات لا بد أن يحافظ على المعنى الأصلي ولا يحتاج ذكره إلى دليل بل المدعي لخلافه –أي عدم الحاجة لزوال البكارة- مطالب بدليل.

ويظهر عدم وجود قائل بهذا القول لما ذكرناه فقد عدَّ السيد الحكيم (قدس سره) المحتملات في الثيب أربعة معانٍ وهي ما ذكرناه عدا هذا القول الرابع، نعم قال: ((وزوال البكارة بوطء الزوج)) أي عدم كفاية الدخول دون افتضاض وقال (قدس سره): ((إن ظاهر النصوص يقتضيه))(1).

الخامس: إن الثيب من ذهبت بكارتها بوطء من نكاح شرعي صحيح.

وهو الذي يجمع مداليل الروايات والمعنى اللغوي، ورجّحه السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: ((وإن كان التأمل فيها- أي النصوص- يقتضي كون المدار على الثيبوبة بالتزويج، لا مطلق التزويج))(2) واختاره صاحب الرياض حيث عرّف الثيّب بأنها ((المنكوحة بالتزويج))(3). وقد احتاط بمراعاته السيد صاحب العروة (قدس سره) وسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لكن الاحتياط استحبابي.

وهو الأليق بحكمة تشريع اشتراط ولاية الأب إذ لا يناسبها أن تسقط هذه الولاية بالزنا فتكافأ على فاحشتها بتحريرها من هذه الولاية وليس هذا استحساناً أو تنقيحاً للمناط حتى يكون من الظن الباطل ولا إنكاراً لما قيل من أن الأسباب غير الصحيحة يمكن أن تترتب عليها الأحكام الوضعية فإن من زنى وجب عليه غسل الجنابة وهكذا وإنما هو مستفاد من مناسبة الحكم والموضوع الذي يدخل في باب الظواهر.

وقد ردّ صاحب الجواهر (قدس سره) على الاستدلال باشتراط كون

ص: 303


1- مستمسك العروة الوثقى: 14/451.
2- نفس المصدر، ونفس الصفحة.
3- رياض المسائل: 11/83.

الدخول بنكاح صحيح بقوله: ((وما في بعض النصوص من ظهور اعتبار الثيّب محمول على الغالب ونحوه بعد قصوره عن تقييد غيره من المطلق))(1) وهو مردود بما تقدم وبالنقض عليه بحمل النصوص الدالة على كون زوال البكارة بالدخول على الغالب أيضاً والرجوع إلى القول الأول أي المعنى اللغوي ولو كانت بوثبة فلماذا اختار القول الثاني بقوله: ((بخلاف من ذهبت بكارتها بغير الوطء من عثرة أو غيرها، فإن الأصل وغيره يقتضي ببقاء البكارة لها))؟ فهذا التفكيك في فهم الطائفتين من النصوص مما لا يساعد عليه العرف.

وقد عرض سيدنا الأستاذ (قدس سره) المحتملات في المسألة فقال: ((ولكن هل المراد من البكر هنا معناها الحقيقي أو من لم يسبق لها الزواج لأن بين المفهومين عموماً وخصوصاً من وجه باصطلاح المنطق من حيث أن المرأة قد تكون بكراً غير متزوجة وقد تكون بكراً متزوجة وقد تكون ثيباً لم يسبق لها الزواج وقد انتفت بكارتها بسبب آخر محلل أو محرم فأي هذين المفهومين هو الذي يقع محلاً للخلاف السابق))(2) ويعني بمحل الخلاف ولاية الأب على البكر البالغة الرشيدة، ولابد أنه يريد بالمعنى الحقيقي للباكر أي التي لم تفتض ونحن حيث نبحث عن المراد من الكلمة إنما نريد أن نبين حدود ما اتخذه الشارع المقدس موضوعاً للحكم الشرعي إذ من حق الشارع أن يضيف شروطاً أو يحذف بعض خصائص الشيء حين يجعله موضوعاً للحكم الشرعي ولا يعني هذا أن الشارع قد وضع معنى جديداً للفظ حتى يرد عليها بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له مع القرينة على التغيير أي من باب تعدد الدال والمدلول كاستعمال المطلق في المقيد.

وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((وحمل البكر على من لم يسبق لها الزواج والثيب على من سبق لها ذلك سواء كانت صفتها الواقعية موافقة لذلك

ص: 304


1- جواهر الكلام: 29/186.
2- ما وراء الفقه: 6/ 183.

أم مخالفة له على خلاف الظاهر))(1) وهو يقصد بصفتها الواقعية من حيث الافتضاض وعدمه أو قل المعنى اللغوي. لكن سيدنا الأستاذ (قدس سره) أصرَّ على اختيار المعنى العرفي واللغوي وعلّق على الروايات التي ورد فيها وصف (من تزوجت سابقاً أو من دُخِلَ بها) بقوله: ((وما أخذ فيه ذاك – أي أخذ عنوان البكر بمعنى من لم تتزوج – منها – أي الروايات – محمول على الغالب من كون المتزوجة ثيباً)) أي مدخولاً بها وهي دعوى لم تأخذ بالاعتبار مناسبة الحكم والموضوع التي هي ولاية الأب على تزويج البكر والتي ذكرناها في نهاية الجهة الأولى من البحث. ولا أعتقد أنه (قدس سره) يلتزم باستقلال البنت بتزويج نفسها إذا بلغت العاشرة وقد ذهبت بكارتها بوثبة ونحوها باعتبارها ثيباً.

ثم إن المعنى العرفي واللغوي واضح في ذهن السائل وغيره فلا حاجة إلى هذاالبعد في البيان فلا بد أن يكون ذكر الإمام (عليه السلام) لقيد تزويجها سابقاً أو الدخول بها لإعطاء معنى شرعي للبكارة مناسب للقضية المسؤول عنها وعدم إيكال السائل للمرتكز في ذهنه من المعنى. وقد عرّفها الإمام (عليه السلام) بهذا المعنى في صحيحة أبي حمزة قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إذا تزوَّج الرجل المرأة الثيب التي تزوجت زوجاً غيره.. إلخ)(2).

قول آخر:

وفي الحقيقة فإننا يمكن أن ننقل البحث إلى جهة أخرى بعيدة عن هذه فإن المستفاد من الروايات (خبر زرارة وغيره) أن الضابط في ثبوت الولاية وعدمها ليست البكارة والثيبوبة بعنوانهما وإنما استقلال المرأة في إدارة شؤونها وعدمه والثيب إنما لم يشترط في زواجها إذن أبيها لأنها تصبح مستقلة غالباً أو دائماً في شؤونها فلو كانت ثيباً غير رشيدة كما لو كانت في العاشرة من عمرها ونحوها بقيت ولاية الأب عليها، أما البكر فيمكن أن يتصور فيها الاحتمالان المذكوران

ص: 305


1- ما وراء الفقه: 6/189.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب العيوب والتدليس، باب15، ح1.

في نهاية الجهة الأولى من البحث والأب لم يؤخذ في اشتراط إذنه لعنوان الأبوة بل بعنوان (ولي الأمر) وحينئذ يمكن أن نفهم أدلة جواز العقد المنقطع على الباكر من دون إذن ولي أمرها على أنه تخصيص لحكم البكر غير المالكة أمرها.

الملحق الثاني: بحث اجتماعي في العقد المنقطع

إن ما تقدم كان على مستوى الاستدلال الفقهي لكن الفقيه عندما يطلق الحكم للأمة فإنه يراعي إضافةً إلى ما تقدم ظروف تطبيق الفتوى، وهكذا كان يفعل الأئمة المعصومون (عليهم السلام) مع أصحابهم وقد مرّت بنا رواية منع الإمام الصادق (عليه السلام) لاثنين من أصحابه من التمتع في المدينة مع إلفات نظرهم إلى أن هذا المنع ليس بلحاظ الحكم الشرعي وإنما هو منه (عليه السلام) وحينما أطلق سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فتواه بجواز العقد المنقطع على الباكر من دون إذن ولي أمرها بشرط عدم الدخول فلأجل حلّ المشكلة الجنسية لدى الشباب والشابات وحمايتهم من الوقوع في الحرام خصوصاً في الأوساط المختلطة كالجامعات ودوائر العمل والوظيفة.

لكن الذي حصل:-

1- إن العقد ما دام من دون علم الأب ويصعب على الشاب الاجتماع بالبنت إلا في بيتها فيدخل البيوت من غير أبوابها وهو محرم لأنه تصرف في مال الأب من غير إذنه ويتوسل الشاب بالحيل المختلفة- وهي محرمة- لتحصيل مراده، أو يصطحبها إلى أماكن يفتضح فيه أمرها كالفنادق أو شقق الأصدقاء.

2- إن الشاب لا يتعامل مع هذه المرأة كزوجة ولا يشعر بأنها عرضه وشرفه فيتحدث لأصدقائه بتفاصيل ما يدور بينه وبينها وربما يصوّر لها بعض اللقطات غير المحتشمة مما يؤدي إلى التشهير بها والتنكيل وسقوط سمعتها في المجتمع.

3-إن المجتمع ينظر إلى البنت المتمتعة بازدراء وتحقير مما يحرمها من حقها في الزواج الدائم وبناء الأسرة الكريمة حتى الشاب الممارس للمتعة حينما

ص: 306

يخطب امرأة ليتزوجها فإنه لا يقدم على بنت يسمع أنها قد تمتعت ولو بمجرد العقد.

4- إن هذا الزواج ما دام سرّياً غير معلن فإن من يرى هذه البنت مع رجل فسيتهمها، ويعرضها ذلك للعار الاجتماعي ويسبّب لها العقوبات القاسية التي يلتزم بها المجتمع للخائنات من دون التحقيق في أمرهن.

5-إن شرط عدم الدخول يصعب الالتزام به فإن الرجل والمرأة الأجنبيين إذا اختليا يكون من الصعب الاحتراز من الوقوع في الزنا وهو من أعظم الكبائر والمحرّمات لذا حرّم الشرع الخلوة بالأجنبية ومجّد الله تعالى نبيه الكريم يوسف (عليه السلام) لأنه عصمَ نفسه في مثل هذا الموقف فكيف سيضبط نفسه من يعتقد أن هذه المرأة محللة له؟! فيقعان في المخالفة.

6-كثيراً ما يحصل حمل عند البنت بسبب اللقاء وأحياناً من دون إدخال، وخشية الفضيحة الاجتماعية يتوجهان إلى إسقاطه وهو قتل للنفس المحترمة.

7-وعلى المستوى الأخلاقي فإن الرجل إذا فرّغ عقله وقلبه وذهنه للبحث عمن يتمتع بها وكيفية الوصول إليها ومفاتحتها وسبل اللقاء بها وغيرها من التفاصيل فكم سيبقى في قلبه لله تبارك وتعالى، وهل تستحق الشهوة الجنسية تكريس الإنسان كل جوارحه لها.

فعلى العلماء والخطباء والمفكرين أن يوجهوا الناس نحو الكمال وأن يحصنوهم من أساليب الخداع والمكر وإيقاع الفتيات في الفخوخ.

فإما أن يعي المجتمع هذه القضية على وجهها الصحيح ويقدّر عظمة هذه النعمة والرحمة التي منَّ الله تبارك وتعالى بها على الأمة ليهذّب غرائزهم ويوظّف نشاطهم فيما يسعدهم كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي)(1)

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل «مَا يَفتَح اللهُ لِلنَاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا» قال (عليه

ص: 307


1- والروايتان بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: أبواب المتعة، الباب1، ح2، 18، 11.

السلام): (والمتعة من ذلك).

وأن يحترم المجتمع هذه العلاقة وينظّمها قانونياً ويستسيغها اجتماعياً، روى الصدوق في الفقيه عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: (المتعة لا تحلّ إلا لمن عرفها، وهي حرام على من جهلها).

أو أن يهذّب الشباب نفوسهم بالتقوى والعمل الصالح ويتجنبوا مثل هذه الانتهاكات حتى يُيَسِّر لهم الله تبارك وتعالى الزواج الدائم من فتيات صالحات لا يغالين في المهور فينعم بحياة زوجية فيها سكينة وطمأنينة واستقرار لا تتوفر في مثل هذه الزواجات السرّية.

ولنأخذ شاهداً من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه لما ولي الخلافة حاول أن يصلح مخالفات من سبقه لكن بعض تلك المخالفات اكتسبت من الرسوخ بحيث لم يستطع عليه السلام إصلاحها فترك الأمة وشأنها.عن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الصلاة في رمضان في المساجد، فقال: (لما قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة فنادى في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين عليه السلام، فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي عليه السلام صاحوا: واعمراه واعمراه، فلما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت، قال: يا أمير المؤمنين إن الناس يصيحون: واعمراه واعمراه، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قل لهم صلّوا)(1).

وعن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة أتاه الناس فقالوا له: اجعل لنا إماماً يؤُمّنا في رمضان، فقال لهم: لا ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلمّا أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا رمضان وارمضاناه، فأتى الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضجّ الناس وكرهوا قولك، قال: فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون ليصلّ بهم من

ص: 308


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب نافلة شهر رمضان، باب10، ح2.

شاؤوا، ثم قال: ومن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصلهِ جهنم وساءت مصيراً)(1).

ص: 309


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب نافلة شهر رمضان، باب10، ح 5.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.