فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية : الزكاة المجلد 5

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف

بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء الخامس : الزكاة

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية-مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف-1441 ه-/2020م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

البحث الأول: شكل تعلق الزكاة بالمال

اشارة

ص: 5

ص: 6

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الأول:شكل تعلق الزكاة بالمال(1)

نحاول فهم كيفية ونحو تعلق الزكاة بالمال الذي وجبت(2)

فيه، والتعرف على هذه الكيفية ضروري لتأسيس القاعدة في ترتيب عدة آثار وفروع عليها بغضّ النظر عن الأدلة الخاصة كجواز التصرف في المال الزكوي قبل أدائها، وتحميل التالف منه، واستحقاق النماء ونحو ذلك.

ومنهجية البحث لا تختص بالزكاة بل ترتبط بالخمس وإرث الزوجة من قيمة الأبنية والآلات.

ولا يوجد هنا نص يبيّن هذه الكيفية، وإنما يُستكشف من خلال قراءة الروايات.

وللفقهاء (قدس الله أرواحهم) أنظار متعددة في فهم شكل التعلق استظهر بعضها من الروايات واستقرئت أخرى من خلال أحكام الزكاة والآثار المترتبة على تعلقها بالمال، والبعض الآخر عبارة عن تقريبات معدّلة لدفع الإشكالات على الأقوال الأخرى، ولذا تعدّدت أقوالهم في المسألة.

ونلفت النظر هنا إلى أن بعض الأعلام وصف هذه الأقوال بصور المسألة ثبوتاً(3)

ووصفها البعض الآخر بالمحتملات في المسألة(4)، وهذه التعابير

ص: 7


1- بدأ إلقاء هذا البحث يوم 22/ محرم /1438 الموافق 2016/10/24 بفضل الله تعالى.
2- قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((المسألة ليست باليسيرة فقهياً إلى حد يعتبر تخريجها الواسع والدقيق دليلاً على فقاهة المستدل)) (ما وراء الفقه:2/9).
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى، تقريرات بحث السيد محمد الروحاني (قدس سره)، كتاب الزكاة: 87.
4- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/124، كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/280.

ليست دقيقة لأن هذه الأقوال إثباتية جمعت مما قاله الأصحاب (قدس الله أرواحهم) وليست ثبوتية مبنية على قسمة عقلية أو احتمالات جامعة مانعة لذا فالأقوال والصور قابلة للزيادة وسيكون مختارنا غيرها جميعاً بإذن الله تعالى.

ونقدّم الآن خارطة عامة لبيان هذه الأقوال وتقريبها من النصوص الشرعية، ونبدأ بذكر القول المشهور الذي حكي الإجماع عليه، وهو:

(الأول): بأن يكون تعلق الزكاة بالمال على نحو الإشاعة والشركة الحقيقية في العين بأن يكون المستحق شريكاً مع المالك في كل جزء من النصاب بالنسبة التي حدّدها الشارع وتجري عليها أحكام الشركة، ويستظهر هذا القول من عدة روايات كقول أبي عبد الله (عليه السلام): (في الصدقة في ما سقته السماء والأنهار إذا كان سيحاً أو كانبعلاً العشر)(1)، وقوله (عليه السلام) في الذهب: (في كل عشرين ديناراً نصف دينار)(2)، وتقريب الاستدلال: أن الكسر ظاهر في هذا المعنى.

(الثاني): على نحو الكلي في المعين كمن يشتري كيلواً من مادة معينة من كيس يضم أربعين كيلو منها فإنه يملك كيلواً كلياً من هذه الأربعين، والبائع هو الذي يحدِّد الفرد الذي يسلّمه للمشتري، فالواجب من زكاة الذهب دينار غير معيّن من كل أربعين ديناراً، وخمس شياه غير معيّنة في كل مائتين وهكذا، فالتعلق ليس على نحو الحصة المشاعة في جميع الأفراد وإنما مقدار محدد لكنه كلي غير متعيّن قابل للانطباق على عدة مصاديق في مجموع المال والمكلف مخيّر في إخراج أي من المصاديق، ومن النصوص الدالة على هذا المعنى صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): (في كل أربعين شاة شاة)(3)، بتقريب أن إخراج الشاة ظاهر في كونه امتثالاً للمأمور به ذاته وليست بدلاً عن الأجزاء الأربعين الواجبة المنتشرة في جميع الأفراد بنسبة واحد من أربعين في

ص: 8


1- وسائل الشيعة: 9/183، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلات، باب 4، ح5.
2- المصدر السابق: 9/138، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح3.
3- وسائل الشيعة: 9/116، أبواب زكاة الأنعام، باب 6، ح1.

كل منها، فهذا الحديث ظاهر في الكلي في المعين وليس الإشاعة والشراكة في العين.

(الثالث): الشركة في المالية وقد استدل عليها بقول أبي جعفر (عليه السلام): (فإذا كانت -أي الإبل- خمسة ففيها شاة)(1)، فلا يمكن حملها على أحد النحوين السابقين لأن الشاة ليست من جنس المال الزكوي، فتُحمل على مقدار مالي في الإبل الخمسة يعادل شاة.

وبيانه: أن نسبة الزكاة على الأنعام لما كانت واحداً من أربعين -كما هو صريح زكاة الغنم- فيكون مقدارها في الإبل الخمسة ثمن الناقة ودفعه يسبب ضرراً على المالك لتضييع الأثمان السبعة الباقية عليه فجعل الشارع بدلاً عن ثمن الناقة وهي الشاة وهو مقدار قريب ويستأنس له بما في باب الديات حيث جعلت ألف شاة مقابل مائة ناقة، وفي باب الهدي حيث ورد أن البقرة تجزي عن سبعة(2)

وغير ذلك مما مذكور في محله.

وكذا في مثل قوله (عليه السلام): (في كل خمسين من الإبل حقة)(3)،وقوله (عليه السلام): (وفي أربعين بقرة مسنّة) (وفي كل ثلاثين بقرة تبيع حولي)(4).

إذ قد لا تحتوي الأربعون من البقر على مسنّة ولا الخمسون من الإبل على حِقّة فتُحمل على الشركة في المالية وأن الزكاة بمقدار شاة أو قيمتها في كل خمسة من الإبل تخفيفاً على أصحاب الإبل، أو لأن الشاة مال متداول يومئذٍ،

ص: 9


1- المصدر السابق: 9/108، أبواب زكاة الأنعام، باب 2، ح1.
2- وسائل الشيعة: 14/117، كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 18.
3- نفس الموضع السابق، والحقة من الإبل ما استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة -عن مجمع البحرين- وفي الرواية أنها سُميت حقة لأنها استحقت أن يُركب ظهرها.
4- وسائل الشيعة: 9/114، أبواب زكاة الأنعام، باب 5، قال في الوسائل: ((التبيع هو الذي دخل في الثانية، والمسنّة: هي التي دخلت في الثالثة، ذكر ذلك جملة من العلماء)).

وبناءً على هذا النحو يكون دفع القيمة المالية لمقدار الزكاة بالعملة النقدية المتداولة على القاعدة حتى لو لم ترد فيه روايات.

(الرابع): أن يكون الأمر بالزكاة حكماً تكليفياً ((محضاً من دون أن يستعقب حكماً وضعياً، فوزان الزكاة وزان سائر الواجبات المالية كالكفارات وكالإنفاق على الوالدين مثلاً من دون أن يثبت للفقراء ملك ولا حق، غاية الأمر ثبوت استحقاق العقوبة على مخالفته نظير سائر الواجبات التكليفية، فالمال باقٍ على ملك مالكه وتصح المعاملات الواقعة عليه))(1).

أقول: يمكن أن يُستفاد من خبر غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه قال: (كان علي (عليه السلام) إذا بعث مصدّقه قال له: إذا أتيت على رب المال فقل: تصدق رحمك الله مما أعطاك الله، فإن ولى عنك فلا تراجعه)(2).

فكأن وظيفة الساعي إبلاغ مالك النصاب بالحكم التكليفي.

ويمكن أن يستفاد أيضاً من الروايات التي قرنته بوجوب الصلاة بوحدة السياق كما في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أنزلت آية الزكاة «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا» (التوبة:103) في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مناديه فنادى في الناس: إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة)(3) الحديث.

وقرّب السيد الحكيم (قدس سره) وجهه بأن ((يكون المراد من الزكاة في الأحاديث الدالة على أن الزكاة على المالك المعنى المصدري -أي: تزكية المال- لا نفس المقدار المفروض على النصاب، فيكون مفاد النصوص حينئذٍ

ص: 10


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/124.
2- وسائل الشيعة: 9/312، أبواب المستحقين للزكاة، باب 55، ح1.
3- وسائل الشيعة: 9/53، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح1.

التكليف بالأداء لا غير كما هو الظاهر مما قرن فيه الزكاة بالصلاة فيكون تعلقها بالعين نظير تعلق حق الجناية ليس له تعلق بذمة المالك))(1).(الخامس): أن يكون تعلقها بالعين بنحو أرش الجناية المتعلق برقبة العبد، وتفصيل ذلك: أن العبد إذا قتل حراً، دُفِع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا استرقوه -كما هو صريح صحيحة زرارة(2)

وغيرها-.

وإن كانت الجناية دون القتل فإن حق المجني عليه يثبت في نفس رقبة العبد لا ذمة مولاه الذي إن شاء أن يفتديه ويدفع دية الجناية فله ذلك، وإلا كان للمجني عليه نصيب في رقبة العبد بمقدار دية الجناية والباقي -إن وجد- للمولى وأصبحا شريكين فيه.

وإن كانت الدية أكبر من قيمة العبد دفعه كله إلى المجني عليه.

فالقول بأن حق الزكاة كحق الجناية يقرَّب في حالة كون الدية أقل من قيمة العبد، ويكون للمجني عليه -الذي يقابل مستحقي الزكاة- حق تملك المال بما هو مال لا بما هو ملك لمالكه؛ لهذا يكون باقياً فيه حتى إذا باعه مالكه ما لم يدفع المالك ذلك الحق.

قال العلامة في التذكرة: ((الأقرب عندي جواز تصرف المالك في النصاب الذي وجبت فيه الزكاة بالبيع والهبة وأنواع التصرفات، وليس للساعي فسخ البيع ولا شيء من ذلك، لأنه مالك فيجوز له التصرف فيه بجميع أنواعه، وتعلق الزكاة به ليس بمانع سواء قلنا الزكاة تجب في العين أو لا، لأن تعلقها

ص: 11


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/184.
2- وسائل الشيعة: كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، باب 41، ح1، عن أحدهما عليهما السلام (في العبد إذا قتل الحر دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا استرقوه).

بالعين تعلق لا يمنع التصرف في جزء من النصاب فلم يمنع في جميعه كأرش الجناية))(1).

وقال الشهيد الأول (قدس سره) في البيان: ((وفي كيفية تعلقها بالعين وجهان:

أحدهما: إنه بطريق الاستحقاق فالفقير شريك.

وثانيهما: إنه استيثاق فيحتمل أنه كالرهن، ويحتمل أنه كتعلق أرش الجناية بالعبد))(2).

(السادس) ((أن يكون حق الفقير المتعلق بالعين من قبيل حق مَن نذر له أن يتصدق عليه بشيء من ماله، فهو ما لم يدفعه إلى الفقير بقصد التقرب لا يخرج عن ملك مالكه، ولا يدخل في ملك الفقير، فحق الفقير المتعلق بهذا المال قبل أن يصرف إليه هو استحقاق صرف شيء منه إليه، لا كونه بالفعل مملوكاً له))(3) أي ثبوت حقللمستحقين متعلق بهذه العين وهو ملكهم لأن يملكوه بدفعه إليهم فإن حقيقة النذر عقد يتضمن تمليك العمل لله تعالى ويقتضي الوفاء به -الذي تعلق به حكم تكليفي بالوجوب- حكماً وضعياً يتملك الفقير بموجبه المال المعيّن.

(السابع): أن تتعلق الزكاة بذمة المالك كسائر الديون، ويكون استحقاق الفقير الفريضة التي سماها الشارع له كاستحقاق غرماء الميت من تركته وإن لم يكن من جنسه أما المال الزكوي فيكون ملكاً طلقاً لصاحبه، ولا تتعلق الزكاة بعينه، نعم يكون تملّكه سبباً وموضوعاً لاشتغال ذمة المالك، فالعين حينئذٍ مورد لهذا الحق من غير أن يكون الحق متقوماً بها فإذا دفع المالك بل الأجنبي مسمى الفريضة إليه فهو بمنزلة ما لو وفى الوارث أو المتبرع دين الميت الذي تعلق بعد موته بتركته، فقد أدى إليه عين ما يستحقه لا بدله.

ص: 12


1- تذكرة الفقهاء: 5/185، المسألة (122).
2- حكي في المدارك: 5/98 عن البيان: 187.
3- مصباح الفقيه: 13/239.

(الثامن): وهو كالسابع من حيث كون الزكاة حقاً في ذمة المالك إلا أنهم لما وجدوا الحكم بعدم جواز تصرف المالك بالمال الزكوي ولو بمقدار الزكاة إلا أن يدفع الزكاة أو يعزلها فعدّلوا القول السابق وأضافوا له كون المال الزكوي المملوك له مرتهناً بها أي يكون وثيقة ضامنة له على نحو حق الرهانة، ومقتضى الرهن أن المدين لو لم يتمكن من الدفع فلصاحب الحق أخذه من المال المرهون، ومقتضاه أيضاً عدم التصرف بالعين المرهونة لحق الغير حتى يفكّ رهنها بدفع الزكاة.

(التاسع): التفصيل بين الأجناس الزكوية، كالقول بالشركة الحقيقية أي الإشاعة في كل الأجناس الزكوية عدا النصب الخمسة الأولى في الإبل فإنها على نحو الكلي في الذمة وقد احتمله الشهيد الأول (قدس سره) في البيان.

وتفصيل المحقق النراقي (قدس سره) الذي وسّع استثناء الشهيد الأول الآنف إلى كل مورد لا تكون الزكاة فيه من جنس المال الزكوي وستأتي الإشارة إليهما (صفحة 19).

والتفصيل الذي ذكرناه في الرسالة العملية (سبل السلام) فهو على نحو الإشاعة في الغلات وعلى نحو الكلي في المعين في النقدين والغنم، وعلى نحو الشركة في المالية في الإبل والبقر.

(العاشر): لا شيء من هذه الأقوال والعناوين المعروفة وإنما عبارة عن عنوان منتزع من الأحكام التي ثبتت للزكاة بالأدلة الشرعية والمهم أنه حق متعلق بالعين، وهي النتيجة التي انتهى إليها السيد الحكيم (قدس سره) قال: ((الأقوى أن الزكاة حق متعلق بالعين لا على وجه الإشاعة ولا على نحو الكلي في المعيَّن، ولا على نحو حق الرهانة ولا على نحو حق الجناية، بل على نحو آخر له أحكام خاصة لا تناسب واحداً من المذكورات))(1).

جهات الاختلاف بين الأقوال:

ص: 13


1- منهاج الصالحين بتعليق الشهيد الصدر: 1/445، مسألة (38).

وبملاحظة اختلاف هذه الأقوال نجد أن له محورين أساسيين: (أولهما) هل أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة وهو العنوان العام الذي جعله الأصحاب لهذه المسألة حيث نلاحظ أن هذه الأقوال تندرج في عنوانين جامعين حاصلهما ما ذكرناه.

(ثانيهما) على فرض تعلقها بالعين فهل يكون بنحو الملكية أو يكون حقاً متعلقاً بالعين.

ثم نتعرض لاختلاف الأقوال ضمن هذين الإطارين فنبحث في أنه على القول بكونها بنحو الملكية هل تكون شركة مستحقي الزكاة مع المالك على نحو الإشاعة، أو الكلي في المعين أو على نحو الشركة في المالية وغيرها.

وعلى القول بكونها حقاً هل هي من قبيل حق الجناية أو منذور التصدق أم من قبيل غيرهما.

وعلى القول بتعلقها بالذمة فهل الزكاة كسائر الديون في الذمة من دون ارتهان المال أم أن المال الزكوي مرهون بها.

فالبحث يتناول هذه الجهات:

(الجهة الأولى): هل أن الزكاة تتعلق بالعين أم بالذمة أي هل أن الزكاة مقدار مالي يملكه الفقير أو يستحقه في النصاب الزكوي، أم أن هذا المقدار المالي يتعلق بذمة المالك للنصاب الزكوي الذي يكون خالصاً لمالكه يتصرف به ما يشاء، ويكون إخراجه للزكاة من المال الزكوي من باب الامتثال وأداء الحق، وإلا فإن العين حرة طليقة للمالك.

وقد حكي الإجماع عن غير واحد على تعلق الزكاة بالعين، قال صاحب الجواهر (قدس سره) عن تعلق الزكاة بالعين: ((أنه المشهور نقلاً وتحصيلاً، بل في شرح المفاتيح للبهبهاني (كاد يكون إجماعاً) بل في موضع من التذكرة (نسبته إلى أصحابنا) وفي آخر (عندنا) وفي ثالث (نفي الخلاف عنه) وفي كشف الحق (نسبته إلى الإمامية) بل في محكي المنتهى (هو مذهب علمائنا أجمع حيوانا كان أو غلة أو أثماناً، وبه قال أكثر أهل العلم) وفي السرائر (أنهم (عليهم

ص: 14

السلام) أوجبوا الزكاة في الأعيان دون غيرها من الذمم) وفي محكي الانتصار (أنه الذي يقتضيه أصول الشريعة) وفي محكي مجمع البرهان (أنه المفهوم من الأخبار، ولعله لا خلاف فيه عند أصحابنا).

وعن بعض أن القائل بالذمة مجهول، وآخر نسبته إلى الشذوذ من أصحابنا وفي البيان عن ابن حمزة أنه نقله عن بعض الأصحاب، قيل(1):

ولعله في الواسطة، إذ ليس لذلك في الوسيلة أثر، وأرسل القول به في محكي المبسوط، ولعله يريد بعض العامة كما نسبه إليه في محكي المعتبر))(2).قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف بعد أن ذكر تعلق الزكاة بالعين: ((وبه قال الشافعي في الجديد وهو أصح القولين عند أصحابه، وبه قال أبو حنيفة، والقول الثاني: تجب في ذمة رب المال والعين مرتهنة بما في الذمة، فكان جميع المال رهناً لما في الذمة، دليلنا إجماع الفرقة))(3).

وحكاه عن الشافعي العلامة (قدس سره) في التذكرة وابن قدامة في الشرح الكبير(4).

أقول: عبارة الشافعي صريحة في تعلقها بالعين في (المال يحول عليه أحوال في يدي صاحبه) وظاهره في ذلك في (باب رهن الماشية) من كتاب الأم نعم قال ابن حزم: ((مسألة: والزكاة واجبة في ذمة صاحب المال، لا في عين المال))(5).

ص: 15


1- والقائل السيد العاملي في مفتاح الكرامة: 7/190، وذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) ((أن هذا القائل لا ينكر أن لها تعلقاً بالعين في الذمة حيث قال -فيما لو باع المالك النصاب-: إن على القول بالذمة يصح البيع قطعاً، فإن أدّى المالك لزم، وإلا فللساعي تتبع العين فيتجدد البطلان ويتخيّر المشتري، ولعله لهذا لم ينقل هذا الخلاف غير الشهيد)) (كتاب الزكاة: 198، المسألة 21).
2- جواهر الكلام: 15/138.
3- الخلاف: 1/280، المسألة 281.
4- ذيل المغني: 2/463.
5- المحلى، المسألة 664.

ومضافاً إلى الإجماع والتسالم بين الأصحاب -الذي ستأتي المناقشة فيه- فقد دلّت عليه ظواهر الكتاب والسنة بألسنة متعدد كقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا» (التوبة:103)، بتقريب أن الأمر بالأخذ منها مستلزماً لتعلقها بالعين بناءً على أن المراد من أموالهم الزكوية، إذ الحكم الشرعي إذا تعلق بعين خاصة من الأعيان يستفاد منه ثبوت الحق فيها: وبه تظهر دلالة قوله تعالى: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ» (المعارج : 24).

وأما الروايات فكثيرة:

منها: الروايات الدالة على ظرفية المال الزكوي للزكاة كقوله (عليه السلام): (في كل أربعين شاة شاة) وقوله (عليه السلام): (في كل عشرين دينار نصف دينار) وقوله (عليه السلام): (فيما سقته السماء العشر) ونحو ذلك مما تقدم تقريبه عند ذكر الأقوال الثلاثة الأولى.

ومنها: ما يدل على الشركة: كموثق أبي المغراء: إن الله تبارك وتعالى أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم)(1)، فالتعبير بالشركة صريح في المطلوب بخلاف ما لو تعلقت بالذمة، فإن الشراكة لا تصدق على القول بالذمة.

ومنها: ما يدل على جعل نصيب للفقراء في مال الأغنياء كالصحيحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم)(2).ومنها: ما يدل على أنه إذا باع النصاب قبل أداء الزكاة وجبت على المشتري ويرجع بها إلى البائع: كصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الإمام الصادق (عليه السلام): (عن رجل لم يزكِّ إبله أو شاته عامين فباعها على من اشتراها أن يزكيها لما مضى؟ قال (عليه السلام): نعم يؤخذ منه زكاتها ويتبع بها

ص: 16


1- وسائل الشيعة: 9/215، أبواب المستحقين للزكاة، باب 2، ح4.
2- وسائل الشيعة: 9/13، أبواب ما تجب فيه، باب 1، ح 9.

البائع أو يؤدي زكاتها البائع)(1).

إذ لولا تعلقها بالعين لما كان وجه تعلقها بالمشتري، وتخيير البائع بدفع زكاتها لا ينافي تعلّقها بالعين لثبوت جواز أدائه الفرض من غير النصاب أو بقيمتها من العملة المتداولة.

ومنها: ما يدل على تنصيف المال الزكوي وتقسيمه ثم تخيير المالك في كل مرة إلى أن يبقى ما فيه حق الله: كصحيحة بريد بن معاوية قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) مصدقاً إلى بادية الكوفة - إلى أن قال (عليه السلام) له - فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلا بإذنه فان أكثره له - إلى أن قال (عليه السلام) - فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء فأيهما اختار فلا تعرض له ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله)(2)

الخ.

وبهذا المضمون ما عن نهج البلاغة في ما كان يكتبه لمن يستعمله على الصدقات (فإن كانت له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه فإن أكثره له)(3)، ولولا تعلقها بالعين واشتراك الفقراء فيها لما جاز ذلك الفعل، بل إن التعليل بأن أكثره له ظاهر في أنه لا يملك تمام المال بل له شريك آخر، حتى لو لم نقل بأن للجملة مفهوماً لأنها لقبية، إلا أنها تثبت أن للفقير شيئاً في المال الزكوي أعم من أن يكون ملكاً أو حقاً.

ومنها: ما يدل على العزل وتقسيط الربح لو اتجر بالنصاب: كخبر علي بن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): عن الزكاة تجب علي في موضع لا يمكنني أن أؤديها قال (عليه السلام): اعزلها فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها الربح، وإن تويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك

ص: 17


1- وسائل الشيعة: 9/127، أبواب زكاة الأنعام، باب 12، ح1.
2- وسائل الشيعة: 9/130، أبواب زكاة الأنعام، باب 14، ح1.
3- وسائل الشيعة: 9/130، أبواب زكاة الأنعام، باب 14، ح7.

شيء، فإن لم تعزلها فاتجرت بها في جملة مالك فلها تقسيطها من الربح ولا وضيعة عليها)(1).

وهو أيضاً يدل على المطلوب من وجهين:

من حيث الأمر بالعزل ولو لم يكن للفقراء حق لما جاز ذلك، ومن حيث تقسيط الربح، فانه لو لم يكن للفقراء نصيب في العين لما كان وجه للتقسيط.

ومنها: ما دلّ على عدم ضمان المالك للزكاة إذا تلف النصاب من غير تفريط كما في مصححة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يكون له إبلأو بقر أو غنم أو متاع فيحول عليها الحول فتموت الإبل والبقر ويحترق المتاع، قال: ليس عليه شيء)(2).

ومنها: النصوص الكثيرة المتضمنة للفظ إخراج الزكاة فإن الإخراج من شيء إنما يكون مع دخوله فيه كما في خبر الوشاء عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (ولو أخرج الناس زكاة أموالهم ما احتاج أحد)(3).

ومنها: الروايات التي نسبت التزكية والتطهير إلى المال كمعتبرة سماعة قال: (سألته عن الرجل يكون معه المال مضاربة، هل عليه في ذلك المال زكاة إذا كان يتجر به؟ فقال: ينبغي له أن يقول لأصحاب المال: زكّوه، فإن قالوا: إنا نزكيه فليس عليه غير ذلك، وإن هم أمروه بأن يزكيه فليفعل، قلت: أرأيت لو قالوا: إنا نزكيه والرجل يعلم أنهم لا يزكونه، فقال: إذا هم أقروا بأنهم يزكونه فليس عليه غير ذلك وإن هم قالوا: إنا لا نزكيه فلا ينبغي له أن يقبل ذلك المال، ولا يعمل به حتى يزكيه)(4).

ص: 18


1- وسائل الشيعة: 9/307، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح3.
2- وسائل الشيعة: 9/127، أبواب زكاة الأنعام، باب 12، ح2.
3- وسائل الشيعة: 9/146، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 3، ح1.
4- وسائل الشيعة: 9/76، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 15، ح1.

تعلق الزكاة بالذمة:

رغم نفيهم وجود قائل بتعلق الزكاة في الذمة إلا أنهم ذكروا إشكالات على القول بتعلقها بالعين ولوازم باطلة يمكن حلها وتفسيرها على القول بتعلقها بالذمة بل مال إليه بعضهم وجعله مؤدى بعض الأدلة ولو في بعض الأجناس الزكوية، فقد احتمل الشهيد الأول (قدس سره) في البيان تعلّق ما في النصب الخمسة للإبل بالذمة.

وتوسّع المحقق النراقي (قدس سره) إلى كل ما يشترك معها في المناط فقال: ((والأظهر أنها تتعلق بالذمة فيما ليست الفريضة جزءاً من النصاب كالشاة من الإبل، وبنات المخاض من بنات اللبون، والتبيع من المسنّات ونحو ذلك، وبالعين فيما كانت الفريضة جزءاً من النصاب))(1)؛

لذلك لم تغفل المصادر ذكر هذا القول ووجهه والرد عليه.

وقد استدل عليه بوجوه:

أولها: ورود روايات في مقدار الزكاة لا يمكن حملها على التعلق بالعين فلا بد من حملها على التعلق بالذمة كقوله (عليه السلام): (في خمس من الإبل شاة) مع وضوح عدم وجود الشاة في الإبل، وكذا في مثل قوله (عليه السلام): (وفي أربعين بقرة مسنّة) (وفي كل ثلاثين بقرة تبيع حولي)، وقد لا يوجد في البقر تبيع أو مسنّة مما يدل على أن المقصود ليس هو تعلق الزكاة بالعين لعدم تعقل الظرفية.

وقرّب المحقق النراقي (قدس سره) هذا القول في هذه الموارد خاصة ب-((وجوب أداء الفريضة على المالك، وليست في النصاب حتى تتعلق به، ولا يتعلقبغيره من أمواله، كما إذا كانت لصاحب الإبل شاة أيضاً أو لصاحب بنات اللبون بنت مخاض معلوفة إجماعاً فبقي تعلقها بالذمة))(2).

ص: 19


1- مستند الشيعة: 9/217.
2- مستند الشيعة: 9/217.

وحينئذٍ يكون هذا المعنى قرينة على أن المراد من التعبير ب-(في) في الروايات كقوله (عليه السلام): (في ما سقته السماء العشر) وقوله (عليه السلام): (في كل أربعين شاة شاة) ونحو ذلك السببية(1) لا الظرفية لوحدة شكل تعلق الزكاة بين الأجناس الزكوية، وتقديره ((يجب في كل أربعين شاة شاة)) نظير القول: (في القتل خطأ الدية) أو (في إفطار شهر رمضان عمداً الكفارة) ونحو ذلك.

ويرد عليه:-

1- إن هذه الروايات لا تنافي التعلق بالعين جملة وتفصيلاً أي على نحو السالبة الكلية، وإنما يمكن أن تنفيه على بعض الوجوه كالإشاعة والكلي في المعين، فيمكن حملها على الشركة المالية كما قرّبنا في النحو الثالث، ويشهد له ما ورد في روايات نصاب الإبل من إمكان دفع عشرين درهماً بدل الشاتين(2)، ولا يقل عن الاحتمال المبطل للاستدلال وتكون الروايات الأخرى الدالة على نحو آخر من التعلق بالعين كافية لإثبات المطلوب.

2-

3- إن الأصل في (في) أنها موضوعة للظرفية ولا تصرف عما وُضعت له إلا بمسوّغ، وهو موجود في مثال دية قتل الخطأ وإفطار شهر رمضان، ((ضرورة أن الدية وكذا الكفارة من سنخ الأموال، والقتل أو الإفطار من قبيل الأفعال، ولا معنى لظرفية الفعل للمال، إذ لا محصّل له كما لا يخفى، فلأجله لم يكن بُد من الحمل على السببية التي هي أيضاً استعمال شائع ذائع ويستعمل فيها كلمة (في) كثيراً وإن كان على

ص: 20


1- نقل هذه المناقشة في مفتاح الكرامة: 7/191 عن الذخيرة.
2- وسائل الشيعة: 9/128، أبواب زكاة الأنعام، باب 14، ح1، 2، يلاحظ هنا أن قلم السيد الهاشمي سها فجعل العشرين درهماً بدل الشاة (كتاب الزكاة: 2/287).

خلاف الظهور الأولي.

وأما في أمثال المقام فلا مقتضي للعدول عن ظاهر اللفظ بعد أن كانت إرادة الظرفية التي هي مقتضي الوضع الأولي بمكان من الإمكان، فإن ما أنبتته الأرض مال كما أن العشر أيضاً مال فكلاهما من سنخ واحد فلا محذور في أن يكون أحدهما ظرفاً والآخر مظروفاً له))(1).أقول: يمكن الرد بأن من مصححات الظرفية المغايرة بين الظرف والمظروف وهذا غير ظاهر من هذه النصوص فإن المعنى الذي يذكرونه للظرفية -كالكلي في المعين- مبني على نحو من العناية كما سيأتي بإذن الله تعالى.

مضافاً إلى أن الإشكال متطور عند الخصم أكثر من هذا المستوى من الجواب؛ لأن الخصم لا يمنع من استعمال (في) في الظرفية في هذه النصوص بل حتى في مثل (في القتل خطأ الدية) إلا أنها ليست ظرفية النصاب الزكوي للزكاة أي ظرفية الكل للجزء ليستظهر منها الملكية كما يقرّب المستدل، بل من ظرفية موضوع الحق للحق، بأن تكون العين الزكوية موضوعاً لوجوب الزكاة ومتعلقاً لحق الزكاة. قال السيد الحكيم (قدس سره) عن مثل قوله (عليه السلام): (في كل أربعين شاة شاة): ((الظاهر من ملاحظة النصوص كون الظرف لغواً، وكون كلمة (في) متعلقة بفعل مقدر مثل: يجب، أو فرض، أو نحو ذلك، فيكون مدخولها ظرفاً لذلك الفعل، لا مستقراً متعلقاً بكائن -كما قد يتوهم في بادئ النظر - ليكون مدخول (في) ظرفاً للواجب والمفروض(2).

ولذلك صرح بالفعل في جملة من النصوص، ففي صحيح زرارة(3) (وجعل رسول الله (صلى الله

ص: 21


1- السيد الخوئي، مصدر سابق: 23/385.
2- أي أن الظرف زائد وتقدير الجملة ((يجب في كل أربعين شاة شاة)) وليس عاملاً فيكون تقدير الجملة ((في كل أربعين شاة شاة كائنة وثابتة)) فتكون الأربعين شاة ظرفاً للزكاة.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 9، ح6.

عليه وآله) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض. إلا ما كان .. ) وفي صحيح الفضلاء(1)

(فرض الله عز وجل الزكاة مع الصلاة في الأموال، وسنّها رسول الله في تسعة أشياء ..) وقال(2) (عليه

السلام) فيه: (وكل ما لم يحل عليه الحول عند ربه فلا شيء عليه فيه. فإذا حال عليه الحول وجب عليه) وفي موثق(3)

إسحاق: (السخل متى تجب فيه الصدقة؟ قال (عليه السلام) : إذا أجذع) وفي خبر الحسين(4)

بن يسار: (في كم وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزكاة؟ فقال (عليه السلام): في كل مائتي درهم خمسة دراهم من الفضة .. ) وفي خبر المفضل(5)

(في كم تجب الزكاة من المال؟.. (إلى أن قال): ففي كل ألف خمسة وعشرون درهماً). وفي خبر الخثعمي(6)

(إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل في كل أربعين أوقية أوقية). وفي خبر زرارة(7)

(ليس في النيف شيء حتى يبلغ ما يجب فيه واحد). وفي خبر محمد ابن الطيار(8)

(إن الزكاة إنما تجب جميعها في تسعة أشياء، خصها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بفريضتها فيها، وهي: الذهب ..) إلى غير ذلك.

فهذه النصوص تشهد بأن المراد من قولهم (عليهم السلام): (في الأربعين شاة شاة) هو المراد من قولهم (عليهم السلام) : (في القتل خطأ الدية) ف-(في) في هذه الموارد للظرفية، لكن ليس المظروف هو الزكاة، بل فرضها وجعلها، وليس المراد منها السببية كي يقال عليه: إن حمل (في) على السببية

ص: 22


1- وسائل الشيعة: 9/55، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح4.
2- وسائل الشيعة: أبواب زكاة الأنعام، باب 8، ح1.
3- وسائل الشيعة: 9/128، أبواب زكاة الأنعام، باب 9، ح3.
4- وسائل الشيعة: أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 2، ح3.
5- وسائل الشيعة: أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 3، ح5.
6- وسائل الشيعة: أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 4، ح1.
7- وسائل الشيعة: أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 5، ح2.
8- وسائل الشيعة: أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح12 والحديث منقول بالمعنى.

خلاف الظاهر، لندرة ذلك، ومثل له بقوله (صلى الله عليه وآله): (إن امرأة دخلت النار في هرة .. )(1).

ثمَّ إن مما يعين أن ليس المراد الظرفية لنفس الزكاة، ما في كثير من النصوص من التعبير بمثل قوله: (عليه فيه الزكاة ..)، كما تقدم في صحيح الفضلاء، وكما في موثق سماعة في الدين: (ليس عليه فيه زكاة حتى يقبضه، فإذا قبضه فعليه الزكاة)(2).

ونحوهما غيرهما، مما هو كثير. إذ لو كان المراد أن الزكاة تكون في نفس المال لا معنى ظاهر لقوله: (عليه)، يعني: على المالك. فالمراد منه هو المراد من قوله: (عليه الدية في القتل خطأ) و(عليه الكفارة في الإفطار عمداً) ونحو ذلك. ومقتضى الجمود عليه أن تكون الزكاة في ذمة المالك، كما حكي عن بعض. ولو سلم ذلك فالظرفية غير ظاهرة في ظرفية الكل للجزء، بل يجوز أن تكون من ظرفية موضوع الحق للحق))(3).

أقول: يمكن المناقشة فيما انتهى إليه من نتيجة تعلق الزكاة بالذمة:-

1- بوجود أدلة أخرى غير ما تضمن معنى الظرفية تدل على تعلّق الحق أو الملك بالعين الزكوية فالتسليم بما قاله لا يثبت تعلّق الزكاة بالذمة.

2- ولو تنزلنا وسلّمنا بما قاله من المعنى فإنه لا ينفك عن الحكم الوضعي باستحقاق الفقير شيئاً في مال الغني ويكون لازمه جعل ووضع شاة من كل1- أربعين شاة للفقير كما في قوله (عليه السلام): (وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزكاة على تسعة أشياء)(4)، وقد يصلح لنفي الملك إلا أنه لا ينفي الحق كما تنزّل (قدس سره).

ص: 23


1- مسند أحمد: 2/507.
2- وسائل الشيعة، أبواب ما تجب عليه الزكاة، باب 6، ح6.
3- مستمسك العروة الوثقى: 9/178-180.
4- وسائل الشيعة: 9/55، أبواب ما يجب فيه الزكاة، باب 8، ح5.

3- قوله (قدس سره): ((ليس المظروف هو الزكاة بل فرضها وجعلها)) لا يصح إلا بعناية لأن ((إسناد المظروف إلى الأفعال على وجه الحقيقة غير ممكن، وإنما القابل لذلك الأعيان. فالضحك أو الأكل ونحوهما مما لا يصح أن يقال بوقوعهما حقيقة في ظرف خاص، كالدار ونحوها، وإنما يصحّ ذلك بالعناية، باعتبار أن المكان ظرف حقيقة بالإضافة إلى من يكون الفعل المذكور قائماً به، فتكون الظرفية بالإضافة إلى الأفعال بالعناية، لا على وجه الحقيقة. وقد تعرّض الفقهاء (قدس الله أسرارهم) لذلك في بحث الساتر في الصلاة، فإن قولهم: ((الصلاة في ما لا يؤكل لحمه باطلة)) مثلاً -مع أن الصلاة بنفسها غير قابلة لأن تقع في اللباس- مبني على العناية والمسامحة، وباعتبار أن المصلي في اللباس، وعلى هذا، فلا معنى لأن يقال: إن الظرف إنما هو بالإضافة إلى نفس الجعل والوجوب ونحوهما من الأفعال، فإن الإسناد الحقيقي إليها غير معقول. وأما الظرفية بالعناية فهي موقوفة على أن تكون الظرفية بالإضافة إلى من يقوم الفعل به على وجه الحقيقة، وهو في المقام عبارة عن موضوع الجعل والوجوب))(1).

أقول: بحسب فهمي فإن كل هذا النقاش لا موضوع له لأن المراد من روايات (في أربعين شاة شاة) وأمثالها تحديد مقدار الزكاة وبيان ما أجملته آية الصدقة فكأنه بعد نزول وجوب الزكاة انفتح باب السؤال عن مقدارها فصدرت هذه الروايات لبيانه فهي أجنبية عن هذا الجدال في الظرفية أو السببية، وتوجد تفاصيل أخرى نذكرها عند مناقشة الأقوال بإذن الله تعالى.

ص: 24


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الزكاة: 1/116، وهي تقريرات السيد محمد الروحاني (قدس سره).

ثانيها: ورود التعبير ب-(على) في وجوب الزكاة الدالة على كونه في عهدته وذمته كقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة: (ليس عليه فيه زكاة حتى يقبضه)(1).

ويرد عليه:-

1- ورود لفظ (في) الدال على الظرفية مما يعني تعلّق الزكاة بالعين أكثر من (على) فتكون القرينية بالعكس، بل قد وردت (في) مع (على) في نفس الموثقة المذكورة وفي صحيح الفضلاء (وكل ما لم يحل عليه الحول عند ربّه فلا شيء عليه فيه)(2) وغيرهما.

2- إن لفظ (على) تعلّق في بعض الروايات بالمال الزكوي فعلى التقريب المذكور تكون شيئاً على ذمة المال لا صاحبه فيثبت تعلق الزكاة بالعين.

3- لا يتعين فهم (على) بما ذُكر، فيُمكن أن يكون التعبير بها ((من أجل أن الزكاة نقص في المال فهو ضرر على المالك بطبيعة الحال فلا يكشف ذلك عن التعلق بالذمة بوجه))(3).

ثالثها: إن القول بتعلق الزكاة بالعين بنحو الملك ينافي جملة من الأحكام الثابتة في الشريعة مثل جواز دفع المالك للقيمة ومن غير النصاب عموماً أو جواز التصرف في بعض العين أو كلها قبل إخراج الفرض وعدم جواز إلزام المستحقين للمالك بدفعها من العين، وأحكام أخرى تتعلق بالتلف والنماء وأمثال ذلك، فإنها تقتضي أن لا يكون التعلق بنحو ملكية العين، قال الشهيد الأول (قدس سره) في البيان بعد أن ذكر تعلقها بالعين ((بطريق الاستحقاق

ص: 25


1- وسائل الشيعة: 9/97، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 6، ح6.
2- وسائل الشيعة: 9/121، أبواب زكاة الأنعام، باب 8، ح1.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): كتاب الزكاة، 23/386.

فالفقير شريك)) قال: ((وتضعف الشركة بالإجماع على جواز أدائها من مال آخر وهو مرجح للتعلق بالذمة))(1).

ويرد عليه:-

1- إن القول بتعلق الزكاة بالعين لا ينحصر بحمله على الملك بل يمكن أن يكون على نحو الحق كما سيأتي في الجهة التالية إن شاء الله تعالى.

2- إن بعض هذه الآثار واللوازم المذكورة مختلف فيها وغير ثابتة لدى الجميع حتى يُنقض بها، ولو فُرض ثبوتها فإنما هو لقيام دليل خاص من الشارع مراعاة لمصلحة الفقير أو إرفاقاً ومراعاة للمالك باعتباره الشريك الأعظم فلا يدل على عدم تعلق الزكاة بالمال الخارجي بوجه أصلاً.

3- إن هذه النقوض لو سلّمناها فإنها تنفي بعض أشكال التعلق بالعين، فعدم إلزام المالك بالدفع من العين ينافي القول بالشركة في العين على نحو الإشاعة، وحينئذٍ يمكن توجيه هذه الأحكام بناءً على التعلق بالعين أيضاً، فلا تتعين دلالتها على التعلق بالذمة أو قل: عدم الملازمة بين الأمرين. فالاجتزاء بدفع القيمة وعدم حق أصحاب الزكاة في المطالبة من العين يثبت بناءً على الشركة في مالية العين، وأن جواز التصرف في بعض المال يتم بناءً على كون التعلق بنحو الكلي في المعين، بل يمكن القول بجواز التصرف بكل النصاب الزكوي إذا ضمن أداء الزكاة من غيره -كما نقلنا عن العلامة- وأجاب به المحقق في المعتبر واستحسنه سيد المدارك(2)،وهكذا، فلا دلالة لشيء من ذلك على خلاف الظاهر المستفاد من الروايات المتقدمة من تعلق الزكاة في العين.

فالاستدلال على التعلق بالذمة غير تام، ولو تنزلنا وقلنا بظهور بعض الأدلة في تعلقها بالذمة فإنه لا ينافي تعلق الحق أو الملك بالعين الزكوية أيضاً إذا

ص: 26


1- حكاه في المدارك: 5/98.
2- مدارك الأحكام: 5/97، المعتبر: 2/520.

كان مستفاداً من أدلة أخرى، ولا يكون ذلك قرينة على تأويل ذلك الظهور بوجه أصلاً.

على أنه يمكن الاستدلال على المنع من تعلق الزكاة بالذمة بعدة وجوه:-

1- إنه مخالف للإجماع الذي حكاه غير واحد كما تقدم، وإن كان يمكن مناقشته من جهة عدم تعرّض كتب القدماء المخصّصة للمسائل المأثورة عن المعصوم (عليه السلام) لها كالمقنع والهداية والمقنعة والنهاية والمراسم، ولأنها مسألة استنباطية استحدثها الفقهاء تفريعاً عن المسائل الأصلية واستظهاراً من الروايات لذا ذكرها المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع والعلامة في الذكرة ضمن اللواحق والمسائل الفرعية فلا يمكن استكشاف رأي المعصوم (عليه السلام) منها أو أن إجماعها مدركي.

2- إنه مخالف لظهور آية الصدقة «خُذْ مِن أموَالِهِم صَدَقَةً» (التوبة: 103) والروايات الكثيرة الدالة على التعلق بالعين وجعل الزكاة في أموال الناس، وأموالهم عبارة عن الأعيان الخارجية المملوكة لهم، وقد ذكرنا بعضها وهي مسوقة لبيان مقدار الزكاة المتعلقة بالأموال والمجعولة للفقراء فيها وهذا مصرح به في جملة من الروايات كقوله (عليه السلام): (وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزكاة على تسعة أشياء)(1).

3- ما ذكره الأصحاب من حصول لوازم باطلة عديدة ((فإنها لو وجبت في الذمة، لتكررت في النصاب الواحد بتكرر الحول، ولم تُقدَّم على الدَين مع بقاء عين النصاب إذا قصرت التركة(2)، ولم تسقط بتلف النصاب

ص: 27


1- وسائل الشيعة: 9/55، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح5.
2- نقله الشهيد الثاني (قدس سره) عند قول المحقق الحلي (قدس سره): ((وقيل: تُقدَّم الزكاة لتعلقها بالعين قبل تعلق الدين بها وهو الأقوى)) وقال: ((هذا هو الأجود لأن التعلق بالعين يوجب خروج قدر الواجب من المال عن ملك المديون -وإن جاز له المعاوضة عنه لو كان حياً- فلا يكون ذلك من التركة التي هي متعلق الدين)) (مسالك الأفهام: 1/398). وقال المحقق القمي (قدس سره): ((واعلم أن القدر المحقق في تقدم الزكاة على الدين إنما هو مع وجود النصاب ولا دليل عليه في غيره)) (غنائم الأيام: 4/84).

من غير تفريط، ولم يجز للساعي تتبع العين لو باعها المالك(1)، وهذه اللوازم باطلة اتفاقاً، فكذا الملزوم))(2)، وأحكام أخرى كمشاركة المستحق للمالك في أرباح النصاب لو اتجر به.

أقول: أما الأول فلأن عدم تعلقها بالعين يعني عدم نقصان النصاب بمرور السنين فيتكرر الوجوب، وأما الثاني فلأنها لو كانت متعلقة بالذمة كسائر الديون فإنه لا يبقى وجه لتقديمها عليها، والبقية واضحة.1- هذا ولكن الخصم قد يستطيع الرد بعدم الالتزام ببطلان هذه اللوازم أو توجيهها، فالأول يلزم حتى على القول بتعلقها بالعين لإمكان الدفع من القيمة فيبقى النصاب على حاله، أو أنه لا يلزم على كليهما لأن القائل بالتعلق بالذمة لا يمنع من دفع الزكاة من نفس النصاب بل هو القدر المتيقن فينقض وهكذا البقية. فالعمدة مخالفة ظهور الروايات.

فالصحيح إذن تعلق الزكاة بالأعيان، ومعناه أن العين هي مورد هذا الحق ومورد حكم الشارع بصرف ما أوجبه الله تعالى للفقير لا الذمة، وليس معناه وجوب إخراجها من عين المال الزكوي لجواز إخراجها من غيره.

نكتة: أورد بعض الأعلام المعاصرين إشكالاً وجوابه قال فيه: ((لا يقال: العلم بتعلق الزكاة إما بالذمة أو بالعين علم إجمالي بين متباينين، ولكل منهما أثر إلزامي، فإن تعلقها بالذمة يترتب عليه وجوب أدائها حتى إذا تلفت العين الخارجية.

ص: 28


1- كما في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدمة (صفحة 16).
2- مدارك الأحكام: 5/97، ونقلها نصاً في مصباح الفقيه: 13/237.

فإنه يقال: هذا الأثر منفي في المقام على كل حال؛ لما تقدم من الأدلة على أن تلف العين من دون تفريط يوجب سقوط الزكاة بمقدار التالف، فلا أثر إلزامي إلا لتعلقها بالعين، فيكون الأصل النافي له جارياً بلا معارض، كما في سائر موارد الانحلال الحكمي))(1).

أقول: المفروض أن الانحلال حقيقي لانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي لأن انتفاء الأثر المذكور يبطل القول بتعلق الزكاة بالذمة من أصله، ولو كان الانحلال حكمياً؛ لخروج أحد الأطراف عن الابتلاء وعدم ترتب الأثر أو الاضطرار إليه فإن إجراء الأصل النافي في أطراف العلم الإجمالي بعد انحلاله وإن كان هو الرأي السائد لدى الأصوليين إلا أنني لم أوافق عليه؛ لأن مورد جريان الأصل النافي هو الشبهة البدوية غير المسبوقة بالعلم الإجمالي والشبهة في المقام مسبوقة به، وقد ذكرت بعض تفاصيل المطلب في كتاب (الرياضيات للفقيه)(2) ولله الفضل وحده.

وعلى أي حال فهذه الإضافة لا حاجة لنا فيها هنا لوجود الروايات الدالة على أحكام الزكاة تفصيلاً فلا تصل النوبة إلى الأصول ولكن الثمرة العلمية موجودة أكيداً بإذن الله تعالى.

تتميم: ظاهر جملة من الروايات ولازم عدد من الأحكام أن تعلق الزكاة بالعين بلحاظ ما لها من المالية وليس بتمام ما لها من الخصوصيات المشخّصة لها، ولعل في قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» (التوبة:103) إشارة إلى أن الزكاة تعلقت بالأعيان بما هي أموال، ومما يدل على ذلك جواز أداء الفرض من القيمة، وعدم وجوب الأداء مننفس العين وإن طلب المستحق ذلك بل يمكن من غيرها، وإن ما يؤديه المالك من غير العين هو الفرض وليس بدله الذي دفعه

ص: 29


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/283.
2- الرياضيات للفقيه: 211، ط. الخامسة.

بترخيص الشارع، وجواز تصرفه بالنصاب قبل أداء الزكاة وعدم لزوم التقسيم والقرعة ونحو ذلك مما ينافي تعلق الزكاة بالعين بكل خصوصياتها.

(الجهة الثانية): هل أن تعلق الزكاة بالعين على نحو الملك أو الحق؟

ونريد بالملك ما كان فعلياً كملكية المالك وتترتب عليه آثاره ومنها كون المستحق شريكاً مع المالك في العين، قال أستاذنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((إن الأدلة في باب الزكاة واضحة في ملكية الفقير للحصة الزكوية سواء بعينها أو بماليتها أو بكسرها العشري أو غيره دون المالك))(1).

أما الحق فنريد به ملكاً اقتضائياً يحتاج إلى فعل من قبل المالك ليكون فعلياً بأن يخرجه المالك أو يعينه بالعزل ونحو ذلك، وقد ورد التعبيران في كلمات الأصحاب، قال العلامة (قدس سره) في التذكرة مستدلاً على جواز بيع النصاب كله قبل دفع الزكاة ((لأن ملك المساكين غير مستقر فيه فإن له إسقاط حقهم منه بدفع القيمة فصار التصرف فيه اختياراً بدفع غيره))(2).

وربما يظهر من فخر المحققين حكاية الإجماع على كون الزكاة ملكاً للمستحقين في المال الزكوي قال (قدس سره): ((الزكاة تتعلق بالعين بإجماع الإمامية بمعنى ملك الفقير بالفعل لقول النبي (صلى الله عليه وآله): (في أربعين شاة شاة) فإما أن يملك نفس بعض العين أو لا، والثاني)) إلخ، ثم قال: ((فالأول يسمى تعلق الشركة تسمية الكلي باسم جزئي من جزئياته))(3).

أقول: هذه الدعوى ليست بعيدة باعتبار دعوى الإجماع على الإشاعة والشركة في العين وهي مع الشركة في المالية والكلي في المعين فرع القول بالملك فالالتزام بأي منها التزام به، لكن لا يمكن الجزم بهذه الدعوى لعدم وضوح إرادتهم هذا

ص: 30


1- ما وراء الفقه: 2/28.
2- تذكرة الفقهاء: 5/185، المسألة (122).
3- إيضاح الفوائد: 1/208.

المعنى، فالفخر نفسه قال في مسألة خيار المشتري للمال الذي تعلقت به الزكاة لتزلزل ملكه وزوال الخيار عند أدائه، قال (قدس سره) في إيضاحه: ((والأقوى عندي الزوال لأن حق الفقراء يزول بالأداء ويستقر ملك المالك على العين))(1).وهذا الإجمال موجود حتى في كلمات بعض الأعلام المعاصرين حيث جعل الحق المتعلق بالعين مساوقاً للتعلق بالذمة فجعل القول بالملك مقابل مجموعهما بعنوان ((التعلق بنحو الحق في الذمة))(2).

لكنني وجدت المعنى واضحاً عند الشيخ الأنصاري (قدس سره) قال: ((يمكن أن يقال: إن معنى تعلق الزكاة بالعين هو أن الله تعالى أوجب على المكلف إخراج الجزء المعين من المال، فيكون شيء من العين حقاً للفقراء، بمعنى استحقاقهم لأن يدفع إليهم، وعدم جواز التصرف فيه بوجه آخر، لا بمعنى ملكهم له بمجرد حلول الحول إلا أن الشارع قد أذن للمالك في إخراج هذا الحق من غير العين، فحينئذ فإن أخرجه من غيره فله ذلك، وإن لم يخرجه من العين ولا من غيرها فللساعي تتبع العين، لأن الحق قد ثبت، فالثابت في العين حق للفقراء لا ملك لهم، فلو لم يخرجه المالك من المال ولا من غيره أخرجه الساعي من المال لا من غيره، إذ لا تسلط له على غيره فإن حق الفقراء في النصاب))(3).

أقول: وتبعه على هذا تلميذه المحقق الهمداني (قدس سره)، قال: ((غاية ما يمكن استفادته منها -أي الروايات- أن الزكاة حق مالي متعلق بالعين))(4)

وسيأتي (صفحة 39) كلام أكثر تفصيلاً له (قدس سره) مشابهاً لكلام أستاذه (قدس سره).

ص: 31


1- إيضاح الفوائد: 1/209.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/284.
3- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري: 205.
4- مصباح الفقيه: 13-2/256، كتاب الزكاة.

وقد ذهب جملة من المعلّقين على العروة الوثقى إلى كون الزكاة حقاً قال السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) عن الزكاة: ((هي حق متعلق بالعين يشبه حق الفقراء في منذور التصدق)) وقال الميرزا النائيني (قدس سره): ((الأظهر كونها حقاً متعلقاً بمالية النصاب لا ملكاً في العين بشيء من الوجهين -أي الإشاعة والكلي في المعين-))(1)

وهو ظاهر السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك، قال (قدس سره): ((النصوص ظاهرة جداً في كون الزكاة شيئاً موضوعاً على المال، خارجاً عنه كسائر الضرائب المجعولة في هذه الأزمنة على الأملاك، إذ ليس المقصود جعل جزء من الملك ملكاً للسلطان))(2)

ولذا قال في تعليقته على العروة: ((الظاهر أنه على نحو آخر مقابل ذلك وغيره من الحقوق المعروفة لاختلافه معها في الأحكام)).

وهذا القول هو الأقرب أي أن الزكاة حق جعله الله تعالى للمستحقين في الأموال، وورد اللفظ صريحاً في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِوَالْمَحْرُومِ» (المعارج: 24-25) حتى لو قلنا أن الآية ناظرة إلى الصدقة المستحبة كما يظهر من بعض الروايات(3)

فنضمّ إليها قرينة وحدة شكل التعلق في الواجبة والمستحبة، نعم قد يقال أن الآية ليست في مقام البيان من هذه الجهة، لكنها تصلح لرد القول الآخر.

وقد ورد توصيف الزكاة بالحق في بعض الروايات كصحيحة بريد بن معاوية التي تحكي أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مصدّقه بقسمة المال نصفين ويُخيَّر المالك ثم يكرر العملية، وفيها (يا عباد الله أرسلني إليكم وليّ الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه إلى وليه) إلى أن قال (عليه السلام): (ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فإذا

ص: 32


1- العروة الوثقى مع تعليقات عدد من الفقهاء العظام، طبع جماعة المدرسين: 4/85.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/181.
3- وسائل الشيعة: 9/46، كتاب الزكاة: أبواب ما تجب فيه وما تستحب، باب 7.

بقي ذلك فاقبض حق الله منه)(1)، أي أن الباقي بمقدار الزكاة ليس ملكاً فعلياً للفقير، وإنما هو موضوع للوفاء بحق الفقراء المتعلق بالمال فيخرجه المالك.

ويستدل على هذا القول بوجود المقتضي وانتفاء المانع.

أما المقتضي فنعني به ظهور جملة من الروايات بتقريبات متعددة:

(منها) ما دلّ على أن الزكاة شيء موضوع ومجعول على المال كالضريبة والرسم يجب إخراجه منه أو من غيره وليس جزءاً منه مملوكاً للمستحق كموثقة أبي بصير والحسن بن شهاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزكاة على تسعة أشياء)(2)، وفي صحيح الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) قالا: (إنما الصدقات على السائمة الراعية)(3).

وفي صحيح رفاعة النخاس عن أبي عبد الله (عليه السلام) (إذا اجتمع مائتا درهم فحال عليها الحول فإن عليها الزكاة)(4).

وقد يرد على هذا التقريب أن ((دخول حرف الاستعلاء على المال ظاهر في كونه على وجه البسط والتوزيع واشتغال المجموع بالحق على سبيل الاستيعاب))(5).

(ومنها) الروايات الواردة في الزكاة على الدين كصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا صدقة على الدين ولا على المال الغائب عنك حتى يقع في يدك)(6).

ص: 33


1- وسائل الشيعة: 9/129، أبواب زكاة الأنعام، باب 14، ح 1.
2- وسائل الشيعة: 9/57، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح 10.
3- وسائل الشيعة: 9/120، أبواب زكاة الأنعام، باب 7، ح 5.
4- وسائل الشيعة: 9/143، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 2، ح 2.
5- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 206.
6- وسائل الشيعة: 9/95، أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لا تجب، باب 5، ح6

(ومنها) خبر غياث عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: (كان علي صلوات الله عليه إذا بعث مصدِّقه قال له: إذا أتيت على رب المال فقل: تصدّّق رحمك الله مما أعطاك الله فإن ولّى عنك فلا تراجعه)(1).

وتقريب الاستدلال: أن مقدار الزكاة ليس جزءاً من المال الزكوي مملوكاً للمستحق وإنما هو حق موضوع على المال يتولى المالك إخراجه منه أو من غيره.

(ومنها) الروايات التي ورد فيها لفظ (في) مثل (في كل أربعين شاة شاة) (في ما سقته السماء العشر) فإنه يمكن تقريبها على هذا المعنى بقرينتين:-

أ- ما تقدم (صفحة 20) في (في) الظرفية وأنه لا بد من نحو مغايرة بين الظرف والمظروف لتصحيحها فافتراض ظرفية الكل للجزء كما يريده القائل بالملك يفتقد هذا المصحِّح فالمعنى الأقرب أنها من ظرفية موضوع الحق للحق ويكون الظرف متعلقاً بفعل مقدَّر مثل (يجب) ويشهد له التصريح بالفعل في جملة من النصوص.

ب- ورود التعبير ب-(على) مع (في) في حديث واحد وقد استظهرنا منها سابقاً دلالتها على ظرفية موضوع الحق للحق كصحيحة زرارة (إنما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها، عامها الذي يقتنيه فيه الرجل، فأما ما سوى ذلك فليس فيه شيء)(2)، وموثقة سماعة في الدين (ليس عليه فيه زكاة حتى يقبضه، فإذا قبضه فعليه الزكاة)(3).

أما المانع الذي يمكن تصوره فهو مخالفة الإجماع ومعارضته لظهور بعض الروايات.

ص: 34


1- وسائل الشيعة: 9/312، أبواب زكاة الأنعام، باب14، ح5.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 16، ح3.
3- وسائل الشيعة: أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6، ح6.

أما الإجماع فلا يضر لأنه استنباطي مبني على تنقيح كلمات الأصحاب فاستظهروا من إجماعهم المحكي على تعلق الزكاة بالعين أنه على نحو الشركة ثم استنتجوا من ذلك أنه على نحو الملك، قال سيد المدارك بعد نقل عبارة البيان التي فيها ((وفي كيفية تعلقها بالعين وجهان: (أحدهما) أنهما بطريق الاستحقاق فالفقير شريك))(1)

إلخ. قال: ((إن مقتضى الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في العين كونالتعلق على طريق الاستحقاق -أي الملكية المستلزمة للشركة- وهو الظاهر من كلام الأصحاب حيث أطلقوا وجوبها في العين))(2).

أقول: تقدم أن مرادهم غير ظاهر لذا علّق المحقق الهمداني (قدس سره) على كلامه بأنه ((لا يخلو من نظر؛ فإن معنى وجوبها في العين ليس إلا كون العين هي متعلق التكليف بالزكاة، أي مورد حكم الشارع بصرف شيء منها إلى الفقير مما سمّاه الله زكاةً، وهذا لا يقتضي أن يكون ما وجب صرفه إلى الفقير قبل صرفه إليه ملكاً له؛ لجواز أن يكون ملكاً له بدفعه إليه الذي هو فعل اختياري يتعلق به التكليف أولاً وبالذات، ثم بمتعلقه، كما لو أمره بأن يهبه أو يبيعه شيئاً من ماله المعيّن))(3).

والمانع المتصور الآخر هو ظهور جملة من الروايات في الملك كمعتبرة عبد الله بن مسكان وغير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله جعل للفقراء في مال الأغنياء ما يكفيهم ولولا ذلك لزادهم)(4)

وهو ليس بمانع لأنه لا يقلّ ظهوراً في الحق وتكون اللام للاستحقاق لا للملك.

ص: 35


1- البيان: 187.
2- مدارك الأحكام: 5/98.
3- مصباح الفقيه: 13-2/242 كتاب الزكاة.
4- وسائل الشيعة: 9/13، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحب فيه، باب 1، ح9. وبقيته (وإنما يؤتون من منْع من منعهم).

وكالروايات الدالة على تنصيف المال إلى أن يبقى مقدار الزكاة فيأخذه المصدِّق وغيرها الدالة على العزل ونحو ذلك فإن الاقتراع والعزل دليل الاشتراك في الملك.

ويمكن توجيهها -كما هو صريح صحيحة بريد- أن عملية التنصيف اختيارية لتسهيل أداء الحق على المكلف ولأن من وظائف الدولة يومئذٍ جباية الزكاة والخراج والحق غير متعيّن بإخراجه من هذا المال فله أن يدفعه من غيره فلا تدل على ملكية شيء في المال الزكوي.

أما تعليل الاستئذان فيها بأن (أكثره له) فإنه لا يمنع لعدم المفهوم، ولأنها تدل بقرينة ما ذكر فيها من وفاء حق الله بأن القليل مما أمر بالتصدق به لا أنه أخرجه الله تعالى بالفعل عن ملك مالكه وجعله للمستحقين نظير ما ورد في خبر غياث بن إبراهيم.

وتوجد روايات أخرى يستدل بلوازمها كالدالة على الشراكة الحقيقية أو الكلي في المعين فإن لازمها ملكية المستحق، وستأتي مناقشتها عند عرض هذه الأقوال.

ويمكن أن نتقدم خطوة في الاستدلال وندّعي العكس أي وجود المانع من القول بالملك وذلك:-

1- لأن لازم القول بالملك اختيار شكل التعلق المناسب له كالشركة في العين والكلي في المعين وكلها غير نقية من الإشكال كما سيأتي، فلا يبقى موضوع للقول بالملكية.

2- منافاته لجملة من الأحكام التي يقول بها المشهور كجواز إخراج الزكاة من غير العين من دون استئذان المستحق واختياره، وجواز تصرف المالك في النصاب بعد تعلق الزكاة وعدم لزوم التخيير والقرعة في تعيين ما به الوفاء.

3- لو كان التعلق على نحو الملكية لكان المستحق شريكاً في النماء الحاصل ما بين تحقق الوجوب وأخذ الزكاة وهو غير لازم إجماعاً وتشهد له

ص: 36

النصوص كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله (المتقدمة (صفحة 16) فإن فيها مطالبة المشتري والبائع بأصل الزكاة فقط، وكذا صحيحة بريد بن معاوية الواردة في كيفية عمل المصدِّق فلم يرد فيها أخذ ما زاد عن حق الله تعالى في المال مع أن الضرورة قاضية بمرور مدة على الأنعام قبل مجيء المصدِّق وتحصل فيها نماءات متصلة ومنفصلة.

4- إن الزكاة فعل عبادي مشروط بقصد القربة، فلو كانت الزكاة ملكاً للمستحق من حين تعلقها بالعين فإن الفقير شريك للمالك قبل صرف المال إليه فلا يتوقف هذا الصرف على قصد القربة وكل المطلوب هو إيصاله إلى مستحقه، فلو أوصله بأي نحو فقد تحقق المطلوب ولا حاجة لقصد القربة.

إن قلتَ: يمكن أن يكلّفه الشارع بدفع مال الشريك إليه بقصد القربة بأن يكون شريكاً تعبدياً. قلتُ: هذا لا يحلّ الإشكال لأنه بعد وصول الزكاة إلى مستحقها ولو من دون قصد القربة فإن موضوع الوجوب انتفى ويكون الأمر بالدفع من تحصيل الحاصل ((نعم يجوز أن يكلّفه لدى وصوله إليه بلا قصد القربة أن يدفع إليه من ماله مثل ذلك بهذا القصد مقدمة لتحصيل القربة التي كانت مطلوبة في ذلك الفعل))(1).

أقول: لكن هذا غير محتمل إلا أن يسترد ما دفعه أولاً وهي فروض لم يقل بها أحد.

5- ما قيل من اتحاد شكل تعلق الزكوات الواجبة والمستحبة -كالغلات غير الأربعة ومال التجارة على قول- بالعين قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن الزكاة المستحبة: ((لا ريب في اتحاد سياق تعلقها بالعين مع

ص: 37


1- مصباح الفقيه: 13-2/244 كتاب الزكاة.

سياق تعلق الزكاة الواجبة))(1)

وأن اتفاقهم على تقسيمها إلى الواجبة والمستحبة يقتضي اتحادهما في الماهية، وهو ظاهر إطلاق بعض الروايات كقوله (عليه السلام): (في الحبوب كلها زكاة)(2)

بل دمجتهما رواية أبي مريم في سياق واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (سألته عن الحرث ما يزكى منه؟ فقال: البر1- والشعير والذرة والأرز والسُلت -نوع من الشعير لا قشر فيه- والعدس، كل هذا مما يزكى، وقال: كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة)(3)

وقد دلّت الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (الذاريات:19) «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (المعارج: 24-25) على أن المراد بها الصدقة المستحبة أو ما يعمّ الواجبة والمستحبّة(4)، ومن غير المحتمل حمل الصدقة المستحبة على ملك المستحق في مال المالك، وصرّح صاحب الجواهر (قدس سره) باستبعاده وقال: ((إن إجراء لوازم الملك عليه في غاية الصعوبة))(5)، والأمر واضح في زكاة العقار(6)

فلا يمكن حمل الواجبة على الملك أيضاً لوحدة شكل التعلق.

فهذه كلها شواهد على أن مقدار الزكاة حق للمستحق ثبت بإيجاب الشارع أو ندبه -في موارد الاستحباب- تحريك المكلف نحو التصدق بشيء من المال المتعلق فيه، ويمكن الاستئناس له بقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً

ص: 38


1- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري: 203.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 11، ح 6، 8.
3- وسائل الشيعة: 9/62، أبواب ما تجب فيه، باب 9، ح 3.
4- وسائل الشيعة: 9/49، أبواب ما تجب فيه، باب 7.
5- جواهر الكلام: 15/72.
6- راجع (صفحة 341) من هذا المجلد في المسألة الثالثة من زكاة أموال التجارة.

تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا» (التوبة:103) وما في موثقة سماعة (فإذا هو خرج زكّاه لعامه ذلك)(1)

بتقريب أن الزكاة حق يخرجه المكلف لتطهير المال.

وقد تقدّم ذكر جملة من الأعلام الذين تبنّوا كون الزكاة حقاً، قال المحقق الهمداني (قدس سره) مقتفياً أثر أستاذه الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((والذي يقوي في النظر بالنظر إلى مجموع ما ورد في هذا الباب من الآيات والروايات: أن الله تعالى قد جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، بمعنى أنه تعالى أوجب على الأغنياء أن يتصدقوا عليهم من أموالهم التي وضع عليها الزكاة بالفريضة التي عيّنها لهم، فصارت الفريضة المقررة في أموالهم بذلك حقاً لازماً لهم على الأغنياء في أموالهم، فهو ملك لهم شأناً لا بالفعل، ولدى امتناع المالك عن أداء هذا الحق قد جعل الشارع والحاكم والساعي، بل وسائر المؤمنين، بل نفس الفقير عند فقد الحاكم والساعي ولياً على استيفائه فيؤديه عن المالك من باب الحسبة بقصد القربة، وأداء الزكاة الواجبة في هذا المال كغيرها من الحقوق المتعلقة بالأموال لدى امتناع مالكه عن الخروج عن عهدتها.

وحيث ثبت بالأدلة الخارجية جواز إخراج الفريضة من مال آخر، بل جواز دفعالقيمة، كشف ذلك عن أن الحق الذي جعله الشارع للفقير في هذا المال لم يُلاحظ فيه خصوصية شخصه ولا نوعه))(2).

أقول: قد تومي بعض عباراته وأستاذه الشيخ الأنصاري التي سننقلها (صفحة 57) بالشركة في المالية.

(الجهة الثالثة) في مناقشة الأقوال تفصيلاً:

ص: 39


1- وسائل الشيعة:9/97، كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لا تجب عليه، باب6، ح6.
2- مصباح الفقيه: 13-2/253، كتاب الزكاة.

القول الأول: الشركة الحقيقية في العين على نحو الإشاعة

نسبه في الإيضاح إلى الأصحاب وقال في مفتاح الكرامة: ((مقتضى الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في العين، وكلام القائلين بذلك -ما عدا المصَنّف في التذكرة- في غاية الظهور في الشركة، بل لا يحتمل غيرها))(1).

أقول: من يتتبع كلماتهم يجد أنهم يقصدون بالشركة مطلق الاستحقاق المتعلق بالعين لا خصوص الشركة على نحو الإشاعة بل يؤكدون في كلماتهم أنهم لا يريدون الشركة الحقيقية، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((إن الزكاة وإن وجبت في العين لكن لا ينحصر وجوب الإخراج فيها، ولا يكون كالشركة المحضة بحيث لا يسلم شيء من النصاب من تعلق الحق به، ومن ثمّ لو أخرج القيمة اختياراً صحَّ، وكذا إذا باع النصاب قبل الإخراج وأدّى من غيره))(2).

واستدل عليه بوجوه:

الأول: الروايات الدالة على أن فيما سقته السماء العُشر ونحو ذلك، بتقريبين (أولهما) دلالة (في) على الإشاعة كقول أحد الورثة: ((لي في هذه الدار النصف)) أي من كل جزء منه له ذلك، (ثانيهما) النسبة العددية المذكورة إذ الكسر ظاهر في الإشاعة.

ويرد على الأول ما تقدم من النقاش في ظرفية (في)، ولو سُلِّم فلا بد من فهم الظرفية على نحو لا تأتي عليه الإشكالات التي قيلت على القول بالإشاعة ككونها من ظرفية موضوع الحق للحق، بمقتضى الجمع ويشهد له استعمال (على) في جملة من النصوص المتقدمة وفي بعضها وردت (في) مع (على) في نفس النص.

وللإنصاف نقول إن هذه النصوص أجنبية عما ذكروه من النقاش في الظرفية وإنما هي بصدد بيان مقدار الزكاة في النصاب وكأنها شرح لما دلّ على أصل وجوب الزكاة في الأموال، وقد التفت إلى هذه النكتة المحقق الهمداني،

ص: 40


1- مفتاح الكرامة: 7/193.
2- مسالك الأفهام: 1/379.

قال(قدس سره) عن هذه النصوص: ((ليس في شيء منها إشعار -فضلاً عن الدلالة- بملكية شيء للفقير بالفعل حتى يكون مقتضاها الشركة، بل هي بأسرها مسوقة لبيان الصدقة التي فرضها الله تعالى على العباد في الأجناس التسعة الزكوية، فهذه الأخبار بأسرها بمنزلة الشرح لذلك. فقوله (عليه السلام): (في خمس من الإبل شاة) إلى آخره، معناه: أن الصدقة التي وُضعت على الإبل هي بهذا التفصيل، أنها: في خمس منها شاة، وفي عشر شاتان، وفي الغنم كذا، أو في الذهب كذا، وهكذا إلى آخر الأجناس التسعة))(1).

ويرد على الثاني:-

1 - إنه أخصّ من المدعى لأن الكسر وارد في الغلات ولم يرد في غيرها حيث عُيّنت الزكاة في غيرها بالشاة وبنت المخاض وبنت اللبون والتبيع والمسنّة وخمسة دراهم ونصف دينار الظاهرة في غير الإشاعة.

إن قلتَ: نحمل تلك المقادير على الحصة المشاعة كخمسة دراهم من مائتين أو شاة من أربعين أو نصف دينار من عشرين ديناراً فنقول إنها حصة مشاعة على نحو الكسر مقداره واحد من أربعين.

قلتُ:-

أ- هذا خلاف الظاهر إذ الظاهر كون الشاة المخرجة زكاةً وليست الشاة مجموع جزء من أربعين في كل شاة من الأربعين.

ب- إن التصرف في الروايات التي ذكرت المقادير المختلفة للزكاة كالتي ذكرناها أعلاه بالحمل على الجزء المشاع لتفيد معنى الشركة والإشاعة -كمحاولة صاحب الجواهر (قدس سره) الآتية- ليس بأولى من التصرف في روايات العشر ونصفه بالحمل على المقدار فنقول إنه أراد بالعشر وجوب إخراج مائة صاع من كل ألف صاع ونحو ذلك. ولو تنزّلنا فإنه يكفي دخول الاحتمال لإبطال الاستدلال.

ص: 41


1- مصباح الفقيه: 13-2/245 كتاب الزكاة.

ج-- إنه لا زال أخصّ من المدعى لأنه لا يشمل ما لو كانت الزكاة من غير جنس المال الزكوي كالشاة من خمسة إبل وكالمسنّة والتبيعة حينما لا يشتمل النصاب على مثلها.

وهنا محاولة لصاحب الجواهر (قدس سره) لتصحيح الإشاعة حتى في مثل هذه الموارد وذلك ((بإرادة أن له في الإبل الخمسة مقدار نسبة الشاة إليها، ويكون المراد حينئذٍ من ذكر الشاة ضبط الحصة المشاعة، بل الظاهر إرادة ذلك في جميع خطابات الزكاة التي لم ينص عليها بالحصة المشاعة كالغلات، لكون الجميع باعتراف الخصم على مذاق واحد، فقوله: في الست وعشرين(1) بنت مخاض مثلاً أي فيها ما يقابل بنت المخاض ضرورةعمومية الخطاب للتي فيها بنت مخاض ولغيرها مما لا يمكن كون المراد منه فيها نفس بنت المخاض، بل التي فيها لا تتعين زكاة عند القائلين بتعلقها بالعين، ضرورة كونها جزء النصاب الذي تعلق الزكاة بجميعه، فليس المراد من الجميع حينئذ إلا ضبط الحصة المشاعة بذلك))(2).

أقول: أجبنا عن هذه المحاولة في الفقرة (ب) السابقة، ولا يخفى أن في هذا الحمل تأويلاً بعيداً ((لا يكاد يخطر بذهن أحد ممن سمع هذه

ص: 42


1- في الخمس وعشرين من الإبل خمس شياه فإذا زادت واحدة ففيها ابن مخاض سمي بها إذا دخل السنة الثانية لأن أمه قد حملت، فإذا دخل في الثالثة سمي ابن لبون وذلك أن أمه قد وضعت وصار لها لبن، فإذا دخل الرابعة سمي الذكر حِقّاً والأنثى حِقّة لأنه استحق أن يُحمل عليه فإذا دخل في الخامسة سمي جذعاً، فإذا دخل في السادسة سمي ثنيّاً لأنه قد ألقى ثنيّته، فإذا دخل في السابعة ألقى رباعيته وسمي رباعياً، قال الصدوق في (معاني الأخبار: 329): وجدت هذا مثبتاً بخط سعد بن عبد الله بن أبي خلف -رضي الله عنه-.
2- جواهر الكلام: 15/140.

الأخبار))(1)

وفيه مخالفة لظاهر النصوص فإنها صريحة في أن الأسنان المذكورة نفس الفريضة ولا سيما ما ورد في أبدال الفريضة- كعشرين درهماً بدل الشاتين- عند تعذرها ولا يكلّف شراءها، وقد اعترف (قدس سره) بأن في هذا الحمل تجوزاً إلا أنه يجب ارتكابه بما عرفت من النصوص الدالة على التعلق بالعين حتى لو كان استعمال (في) للسببية على نحو الحقيقة، ويرد عليه أنه لا أحد من العرف يجد روايات الغلات قرينة على التصرف في ظهور روايات الإبل الخمسة.

مضافاً إلى أن هذا التوجيه يجعل الكسر غير منضبط لتغيّر قيمة الإبل والشاة فلا يُضمن حصول الكسر دائماً.

نعم يمكن أن يُجاب هذا الإشكال على التقريب الثاني بأنه مبني على وحدة شكل التعلق لجميع الأجناس الزكوية وهو مما لا يجب الالتزام به فنقول بالإشاعة في زكاة الغلات دون غيرها.

وبتعبير آخر: إن ظهور روايات زكاة الأنعام كالإبل في عدم الشركة على نحو الإشاعة لا يصلح للتصرف في ظهور روايات الغلات بالإشاعة إلا بضميمة وحدة شكل التعلق في جميع الأجناس، وهو -لو تم- ليس أقوى ظهوراً من الأول حتى يتصرف فيه. وهذا ما سنعرضه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

الثاني: إن الشركة مصرّح بها في صحيحة أبي المغراء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم)(2).

ص: 43


1- مصباح الفقيه: 13-2/246.
2- وسائل الشيعة: 9/219، أبواب مستحقي الزكاة، باب 4، ح4.

ويرد عليه: أن الرواية ليست بصدد البيان من هذه الجهة وإنما تريد بيان أن الله تعالى لم يجعل المال الذي يستخلف عليه الأغنياء خالصاً لهم، ولم يغفل أمر الفقراء وإنما جعل لهم نصيباً في مال الأغنياء وأن على الأغنياء أن يفهموا هذه الحقيقة وعليهم أداء هذا الحق لشركائهم في هذه الأموال، وهذا المعنى مشترك بين أنحاء عديدة من التعلق، فالرواية مجملة من جهة شكل التعلق.

وبتعبير آخر: إن الشركة المذكورة في الرواية يصحح إطلاقها ما هو أعمّ من الشركة الحقيقية أي مطلق وجود حق للآخرين في المال وهو أعم من أن يكون على نحو الإشاعة أو الكلي في المعين أو أي نحو آخر، فلا يتعين من الرواية شكل التعلق.

والشاهد على هذا الإطلاق ورود هذا المعنى في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) التي تصلح لتفسير هذه الصحيحة وفيها (إن الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به)(1)

فمعنى الشركة وجود هذا الحق للفقراء في أموال الأغنياء وعليهم أن يتصدقوا به ويخرجوه من أموالهم، فلا دليل فيها على الشركة الحقيقية.

وهذا الفهم استظهار بمعونة الصحيحة وليس احتمالاً مقابل الظهور حتى يقال في ردّه: ((أن مجرد الاحتمال لا يوجب رفع اليد عن الظهور كما هو ظاهر وإلا لا يبقى مجال للعمل بالظواهر وحجيتها من الأصول الأولية))(2).

الثالث: خبر علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الزكاة تجب عليّ في موضع لا يمكنني أن أؤديها، قال: اعزلها، فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها الربح، وإن تويت(3) في حال ما عزلتها من

ص: 44


1- وسائل الشيعة: 9/10، أبواب ما تجب فيه، باب 1، ح3.
2- مباني منهاج الصالحين: 6/430.
3- توى أي تلف.

غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك شيء، فإن لم تعزلها فاتجرت بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها)(1).

أقول: تقريب الاستدلال أن هذه الأحكام تناسب الشراكة الحقيقية، وقد وصف المحقق الهمداني (قدس سره) هذا الخبر وسابقه بأنهما ((عمدة ما يصح الاستشهاد به للشركة)) وقال: ((ظهور هذين الخبرين -خصوصاً الأخير منهما- في الشركة الحقيقية غير قابل للإنكار))(2)

لكنه (قدس سره) أوّل ظهورهما في ذلك لاستلزامه ((التخصيص في جملة من القواعد المتقنة التي ليس ارتكاب التخصيص في شيءمنها بأهون من طرح هذين الخبرين فضلاً عن تأويلهما)) ثم ذكر جملة من الأحكام التي ينقض بها على القول بالشركة.

ويرد على هذا الخبر أن سنده ضعيف وهو ((معارض بصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدمة (صفحة 16) الدالة على عدم لزوم الثمن ويتبع الساعي المال))(3)

مضافاً إلى أن هذه الرواية على غير الشركة الحقيقية أدلّ لأنها ((بنفسها مخالفة لما تقتضيه الشركة الحقيقية؛ فإن نفوذ تصرّف أحد الشريكين في المال المشترك الموجب لانتقال حقه إلى الثمن، وإباحة تصرفه فيه، واستحقاقه لقسطه من الربح بغير إجازته، مخالف للقواعد))(4)، وقد اعترف بذلك الشهيد الثاني (قدس سره) في كلمته المتقدمة (صفحة 40) وحمله البعض على ((كونه حكماً تعبدياً جارياً على خلاف القواعد الأولية المقررة))(5).

أقول: هذا حمل بعيد لذا حكي عدم بناء الأصحاب على العمل به، والذي أفهمه من سياق الرواية أنه ليس حكماً أولياً وإنما هو تصرّف بالولاية ويكون

ص: 45


1- وسائل الشيعة: 9/307، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح3.
2- مصباح الفقيه: 13-2/249 كتاب الزكاة.
3- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 205.
4- مصباح الفقيه: 13-2/254.
5- مستمسك العروة الوثقى: 9/182.

كالعقد بين الإمام (عليه السلام) باعتباره ولي المال العام وبين من يحتفظ بالزكاة ليتّجر بها بأن عليه الضمان ويكون الربح بينهما وهو شرط سائغ في المضاربة، وقد روعيت فيه مصلحة المستحق، فكأن الإمام (عليه السلام) أجاز المعاملات الرابحة لمصلحة المستحق، ولم يجز الخاسرة فيكون العامل ضامناً، فلا مكان للحمل على الحكم التعبدي الخاص.

الرابع: صحيحة بريد بن معاوية المتضمنة لتوجيهات أمير المؤمنين (عليه السلام) مصدّقه عند إرساله لجمع الزكاة، والاستدلال بموضعين:-

1- قوله (عليه السلام): (فإن أكثره له) التي تعني أن المستحق شريك له بالنسبة المتبقية.

2- قوله (عليه السلام): (فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء فأيهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله).

وتقريب الاستدلال ((أن القسمة من لوازم الإشاعة، إذ لو كان من قبيل الكلي في المعين لوجب على المصدق أن يأمر المالك بدفع ما يكون مصداقاً لكل الفريضة، وليس له المشاحّة معه على الخصوصيات، إذ جميعها ملك المالك، والفقير له الكلي لا غير))(1).

ويرد على الأول:

أ- إن الاستدلال مبني على تحقق المفهوم وهو غير تام لأنه من قبيل مفهوم اللقب أو الوصف ولا مفهوم لهما، أما الاقتصار على نسبة الأكثر له فلأن الإمام بصدد تعليل الاستئذان بأنه من المتيقن كون أكثر المال له أما الباقي فيمكن أن يكون له أيضاً لو دفع الزكاة من غيره أو لأن ((بعضه موضوع لحق الاستيفاء فلذلك تقتصر سلطنته عنه بخلاف الأكثر فإنه

ص: 46


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/176.

موضوع لسلطنته المطلقة))(1)

ونحو ذلك، فالفقرة أجنبية عن المدعى.

ب- إن هذا التعبير وبقرينة قوله (عليه السلام) لاحقاً: (حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله) يناسب الكلي في المعين أكثر من الإشاعة؛ لأنه صريح بكون أكثر المال للمالك ما عدا المقدار الذي يفي بأداء الزكاة فإن شاء أخرجه زكاة وإن شاء أخذه لنفسه ودفع الزكاة من غيره، بينما على القول بالإشاعة يكون المستحق مشاركاً بكل جزء من المال.

ويرد على الثاني:-

أ- إن التقسيم غير لازم أكيداً وإنما هو لمساعدة المكلف على الأداء ومراعاة تعلقه بأمواله ولإحراز غاية رضاه بالفرد المدفوع، وإلا فإن مالك النصاب له أن يدفع ما يشاء من نفس المال الزكوي أو غيره، فالاستدلال بالتقسيم غير تام.

ب- إن ((هذا المقدار لا يصحح استكشاف الإشاعة من دليل التمييز بالقرعة لعدم كونه من اللوازم العقلية ولا من اللوازم العرفية))(2).

وبتعبير آخر: إن من أحكام المشاع التمييز بالقرعة، لكن التمييز بالقرعة لا يتعين بالمشاع.

إن قلتَ: إن الملازمة الفقهية المتشرعية موجودة وهي كافية.

قلتُ: هذا ((اصطلاح فقهي متأخر لا يمكن فهمه من النصوص ومعه فنفي الملازمتين العقلية والعرفية كافٍ في نفيه))(3).

ج-- ما استظهرناه من دلالة الرواية على كون الزكاة حقاً مجعولاً على المال بينما الإشاعة تعني الملكية، وقوله (عليه السلام): (حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله) لا يدل على تعينه في المال بل لأنه المصداق

ص: 47


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/182.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/178.
3- ما وراء الفقه: 2/21.

الأوضح لأداء هذا الحق خصوصاً في ذلك الزمان.إلفات: يلاحظ أن كل ما ذكرناه (صفحة 36) من موانع القول بالملكية يرد على هذا القول وأمثاله من الأقوال المندرجة في إطار الملكية كعدم جواز التصرف بالمال الزكوي إلا بإذن المستحق، وكجواز إخراج الزكاة من غير العين على أنها نفس الزكاة وليس بدلها، وكعدم الاستحقاق من النماء خلال المدة ما بين وقت تعلق الزكاة ووقت أدائها الثابت بالإجماع والنصوص.

كما ينقض على القول بالشركة الحقيقية بأمور:-

1- مقتضى الشركة لزوم رضا الشريك بالقسمة وهو غير موجود لأن الخيار بيد المالك في إخراج ما يشاء مما يتحقق به الأداء بالعين أو القيمة.

2- إن الشاة من الأربعين ونحو ذلك ستكون مجموع الكسور العشرية في كل شاة وهو مخالف لظهور الروايات في كون الشاة نفسها زكاة.

3- معارضته لصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الدالة على تتبع الساعي العين الزكوية وإجزاء دفع البائع على أنها زكاة وصحة البيع وقبض الثمن فإنها تنافي الشركة في العين، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((لو كانت الشركة حقيقية لم يُفِد أداء البائع زكاة المبيع في صحة بيع النصاب مع أنه ثابت بالصحيحة المتقدمة ضرورة أن الفريضة في النصاب إذا كان مال الغير فإن صحّ للمالك بيعها لم يؤخذ من المشتري، وإلا لم ينفع أداء الزكاة بعد البيع، بل يكون نظير بيع مال الغير ثم اشتراؤه منه))(1).

وقال المحقق الهمداني في بيان وجه عدم دلالة الصحيحة على ((الشركة الحقيقية، وإلا لكان مقتضاها توقف صحة البيع بالنسبة إلى حصة الشريك على إجازته، فلم يكن يجديه أداء الزكاة بعد وقوع البيع لا من البائع ولا من المشتري))(2).

ص: 48


1- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري: 202.
2- مصباح الفقيه: 13-2/247، كتاب الزكاة.

4- النقض عليه بما لو تلف بعض المال الزكوي بتفريط فالمفروض انتقال مقدار من الزكاة بنسبة التلف إلى البدل بمقتضى الإشاعة لكن النص والفتوى يقتضيان بقاء الحكم بوجوب دفع نفس الزكاة ما دام الباقي من النصاب وافياً بها وعدم الانتقال إلى البدل، وهذا يناسب القول بالكلي في المعين لا الإشاعة لو قلنا بتعين إخراج الزكاة من العين وإلا لا يتعين به لصحته على بعض الأقوال الأخرى.

اللهم إلا أن يقال أن ((توزيع الحصة على التالف والباقي إنما يختص من غير الكسر المخيّر فيه، أما إذا وجب إخراج مقدار كسر خاص مخيراً في جعله ضمن أي جزء من الأجزاء الخارجية للعين، فلا يرتفع التكليف بإخراج ذلك المقدار إلا إذا تلفت العين كلاً، نعم في صورة الاشتراك بحيث لا يمتاز حصة أحدهما إلا بالتراضي يلزم الحكم بسقوط جزء من نصيب كل منهما بنسبة1- التالف))(1). أقول: قوله (قدس سره): ((كسر خاص مخيراً)) رجوع إلى القول بالكلي في المعين وليس الإشاعة، مضافاً إلى أن هذا التفريق مبني على وجود الدليل الخاص في المقام والكلام على مقتضى القواعد، أما الأدلة الخاصة فيمكن لكل فريق أن يجد فيها ما يدل على قوله.

نعم يمكن الاستدلال على هذا القول بما دلّ على توزيع التلف بالنسبة على المال الزكوي والزكاة إذا حصل بغير تفريط.

القول الثاني: تعلّق الزكاة على نحو الكلي في المعين

وهو نحو من أنحاء الشركة ولكنها لا تقتضي منع المالك من التصرف بما زاد عن مقدار الفريضة، ولا نحتاج إلى بحث كبروي في تفسيره وإجابة

ص: 49


1- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 209.

الإشكالات عليه(1)، لوضوح تصوره وقبوله لدى العرف وكونه معنى متداولاً في معاملات الناس، ففي البيع يكون المبيع كلياً في الذمة لكن ليس مطلق الكلي وإنما بما هو مضاف إلى هذا الكل المعين خارجاً بحيث يجب تسليم مصداق الكلي من هذا الكل الخارجي، وبهذا فهو يختلف عن الكلي في الذمة الذي لا إضافة له إلى ما في الخارج، وعن الفرد المعيّن خارجاً الذي لا كلية فيه.

واختاره السيد صاحب العروة (قدس سره) تبعاً لجماعة، كما حكي في المستمسك -وذكر أنه استدل عليه بظهور عدة روايات:

الأولى: الروايات التي تضمنت (في) الظرفية أي ظرفية المال الزكوي للزكاة كقوله (عليه السلام): (في كل أربعين شاة شاة) و (في عشرين مثقالاً من الذهب نصف مثقال) و (فيما سقت السماء فالعشر) ونحو ذلك، فإنها تدل على كون المطلوب هو الفرد المنتشر في النصاب على نحو الكلي في المعين؛ لأن الملكية تكون ضمن المجموع ويكون المجموع ظرفاً للفريضة ((فيكون معنى قولهم (عليهم السلام): (في كل أربعين شاة شاة) أن الزكاة شاة كائنة في النصاب أعني الأربعين))(2)، وقد تقدم الاستدلال بها على الشركة الحقيقية لكن ذلك القول لما لم يصح صير إلى الاستدلال بها هنا.

وتشترك معها في تقريب الاستدلال طائفة أخرى من الروايات مثل صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل فرض للفقراءفي أموال الأغنياء ما يكتفون به)(3)، وموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة)(4) إلخ.

ويرد عليه:-

ص: 50


1- كما في المكاسب من الفقه ومبحث المطلق والمقيد من الأصول.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/178.
3- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 3، ح 10.

1- إن هذا المعنى ((غير مراد لجواز دفع شاة أخرى من غير النصاب على وجه الأصالة دون القيمة اتفاقاً على الظاهر، فليست الظرفية باقية على معناها الحقيقي))(4)، ولا يلتزم أحد بوجوب إخراج شاة من بين نفس الأربعين شاة.(1)

2- ما تقدم من النقاش وخلاصته أن ظاهر كلمة (في) أنها متعلقة بفعل مقدّر مثل يجب أو فرض أو نحو ذلك ويكون مدخولها ظرفاً لذلك الفعل ويكون الظرف زائداً لا مستقراً متعلقاً بكائن كما قيل في التقريب، وهذا المعنى يحتاج إلى عناية ومؤونة لإشكال يرد عليه عرضناه (صفحة 20).

وقد صرّحت بالفعل جملة من النصوص كما تقدم فالمظروف ليس الزكاة بل فرضها وجعلها، ويشهد لعدم كون الظرفية لنفس الزكاة اجتماع (في) و (على) في بعض النصوص المتقدمة، إذ لو كان المراد أن الزكاة تكون في نفس المال لا يبقى معنى ظاهر لقوله: (عليه) يعني على المال، مضافاً إلى أن ((الظرفية عند القائل بأن التعلق من قبيل تعلق الكلي بالمعين مبنية على نحو من العناية، لوجوب مباينة الظرف لمظروفه))(2).

أقول: أجيب النقض بوجوب مباينة الظرف لمظروفه بكفاية ((المغايرة المفهومية فإن الكلي في المعين كصاع من الصبرة يغاير أفراد الصبرة مفهوماً إذ لا إشكال في أن كل فرد منها لا يمكن أن ينطبق على غيره والحال أن الكلي بمفهومه قابل للانطباق على الكل. وإن شئت قلت: لا إشكال في أن الكلي في المعين ينتزع عن الأفراد الخارجية والحال أنه ليس

ص: 51


1- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري: 201.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/180.

هي الأفراد فكيف لا يكون مظروفاً للأفراد))(1). أقول: المغايرة المفهومية لا تصحح الاستعمال لأنها غير مفهومة عرفاً والمصحّح للاستعمال قبول العرف، فهذا الجواب لا يزيل الإشكال ولا أقل من مستوى الاحتمال المبطل للاستدلال، ويلاحظ تكرار السيد الحكيم (قدس سره) كون الزكاة ((أمر خارج عن المال متعلق به))(2)

وهو غريب لوضوح عدمتعيّن دفع الزكاة من خارج المال، وأن المقدار المدفوع من المال الزكوي زكاة حقيقية بل هي القدر المتيقن من معنى التعلق بالعين.

3- لو تنزلنا وقلنا أن الظرف المقدر هو كائن ونحو ذلك إلا أنه لا يعيّن إرادة الكلي في المعيّن؛ لأن المجموع وإن كان ظرفاً للمملوك، إلا أن عدداً من الوجوه الأخرى تصدق عليها هذه الظرفية كالشركة في العين وحق الجناية إن لم تستوعب قيمة العبد وغيرها.

4- ولو تنزلنا فإنه يمتنع قبوله في بعض الأنصبة التي يختلف جنسها مع الزكاة المفروضة كالشاة في الخمسة من الإبل أو بنت المخاض وبنت اللبون والمسنة والتبيع عند عدم اشتمال النصاب عليها، بناءً على ما هو المرتكز عندهم من وحدة شكل تعلق الزكاة بالمال، وقد عرضنا (صفحة 41) محاولة صاحب الجواهر (قدس سره) لتفسير هذا النصاب من الإبل بما يناسب الشركة ورددنا عليها فلا نعيد.

وينبغي الالتفات إلى ما ذكرناه (صفحة 40) من أننا جرينا في هذا النقاش كله على مسلكهم من فهم الظرفية أو السببية، وإلا فإن هذه الروايات لا تدل على أزيد من تحديد مقدار الزكاة في المال بياناً لإجمال الأمر بإيتاء الزكاة وليست في مقام بيان شكل التعلق فلا يستفاد منها

ص: 52


1- مباني منهاج الصالحين: 6/437.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/178، 181.

شيء مما ذكر، نعم إخراج شاة من الأربعين مجزٍ أكيداً لأنه القدر المتيقن من تعلق الزكاة بالعين.

تنبيه: أورد سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذا الإشكال وقواه إلا أنه قال: ((في كلامه نقطة ينبغي التنبيه عليها، وهي أن بنت المخاض التي هي فريضة الست والعشرين من الإبل هي من الإبل وليست من الغنم كما أن فريضتي البقر معاً هي من البقر وليست من الغنم، فينحصر الإشكال فقط في الأنصبة الخمسة الأولى من الإبل والتي تكون فرائضها من الغنم))(1).

أقول: هذا التنبيه غير وارد لأن بنت المخاض وبنت اللبون وإن كانتا من الإبل وإن المسنّة والتبيع والحولي من البقر إلا أن الإشكال يشملهما باعتبار أن الإبل الست والعشرين وما بعدها أو البقر الأربعين والخمسين قد لا يتوفر فيها هذا السن فتكون الزكاة من غير الجنس الذي تعلقت به، والإشكال ناظر إلى حالة عدم اشتمال النصاب عليها، فالنص يرد على حصره الإشكال في الأنصبة الخمسة الأولى من الإبل.

الثانية: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل لم يزكّ إبله أو شاته عامين فباعها، على من اشتراها أن يزكّيها لما مضى؟ قال: نعم، تؤخذ منه زكاتها ويتبع بها البائع أو يؤدي زكاتها البائع)(2).وتقريب الاستدلال: أن عدم صحة البيع في مقدار الزكاة دليل على عدم ملكية البائع لمقدار الزكاة وهو يناسب تعلق الكلي في المعين.

وأجيب:-

ص: 53


1- ما وراء الفقه: 2/16.
2- وسائل الشيعة: 9/127، أبواب زكاة الأنعام، باب 12، ح1.

1- بأنه لا يتعين من ظهور الرواية الكلي في المعين، فإن الصحيحة لا تدل ((إلا على عدم نفوذ تصرف المالك في تمام النصاب، وهو كما يكون من جهة كون تعلق الزكاة فيه بنحو الإشاعة أو الكلي في المعين، يكون من جهة كون تعلقها فيه بنحو تعلق حق الرهانة والجناية.

مع أن الاستدلال به على ثبوت واحد منها يتوقف على القول بحجية الظهور في مطلق اللوازم والملزومات، وقد عرفت إشكاله فتأمل))(1).

2- إنه ((على خلاف المطلوب أدلّ، وذلك لقوله (عليه السلام): (أو يؤدي زكاتها البائع) فإن الظاهر منه أنه يؤدي نفس زكاتها لا بدلها، ولو كان بنحو الكلي في المعين، كان بدلاً عنها لا محالة))(2).

الثالثة: رواية علي بن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الزكاة تجب على في موضع لا يمكِنني أن أؤديها؟ قال: اعزلها، فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها الربح، وإن تويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك، فإن لم تعزلها فاتجرت بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها)(3).

وتقريب الاستدلال: إن هذه الأحكام تناسب الكلي في المعين.

وقد أجبنا (صفحة 45) على الاستدلال بهذا الخبر بوجوه ملخّصها:-

1- ضعف السند وما قيل من عدم بناء الأصحاب على العمل به.

2- عدم تمامية التقريب أو عدم تعين الدلالة بهذا الشكل من التعلق.

3- معارضتها لصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الدالة على صحة المعاملة الجارية على عين لم تخرج زكاتها بغضّ النظر عن لحوق إجازة

ص: 54


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/182.
2- ما وراء الفقه: 2/17.
3- وسائل الشيعة: 9/307، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح3.

المستحق مما يمنع من تعلق الزكاة بالعين على نحو الكلي في المعين أو غيره.

ورجحنا في النهاية كون الأحكام الواردة في هذا الخبر شروطاً صادرة من الإمام (عليه السلام) باعتباره ولي المال العام لإمضاء المعاملة مع المتاجر بالزكاة فيفهم الخبر على أنه قضية في واقعة خارجية يمكن الاستفادة منها في نظائرها.الرابعة: قوله (عليه السلام) في صحيحة بريد بن معاوية: (فإن أكثره له) فقد قرّبنا (صفحة 46) دلالته على الكلي في المعيّن وبقرينة قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: (حتى يبقى ما فيه وفاء حق الله في ماله) في إشارة إلى الأقل الباقي.

ورددنا عليه بعدم تحقق المفهوم لهذه الجملة وعرضنا أكثر من وجه لقوله (عليه السلام): (فإن أكثره له).

الخامسة: صحيحة أبي المغراء عن أبي عبد الله (عليه السلام) المتقدمة (صفحة 43) وفيها لفظ الشركة فيحمل على شركة الكلي في المعين بعد منع القول بالشركة الحقيقية.

وقد أجبنا هناك بأن الرواية ليست بصدد البيان من هذه الجهة، ووجود أنحاء أخرى من الشركة كالشركة في المالية فلا تتعين بالكلي في المعين.

نعم يمكن أن يستدل على هذا القول بما قربناه (صفحة 48) من بقاء الحكم بدفع نفس الزكاة ما دام الباقي عند تلف البعض بتفريط وافياً بمقدارها وعدم الانتقال إلى البدل مما يعني أن مقدار الزكاة مأخوذ على نحو الكلي في المعين ضمن المال الزكوي.

ص: 55

ويرد عليه: أن هذا الحكم يصلح لنقض القول بالشركة الحقيقية، ولكن لا تتعين دلالته على الكلي في المعين لأنه يصحّ على بعض الأقوال الأخرى ككون المال الزكوي موضوعاً للحق.

لكن ينقض على هذا القول بأن مقتضاه عدم تحمل الزكاة شيئاً من التلف ما دام الباقي وافياً بمقدار الزكاة كما في موارده في الأبواب الأخرى كالبيع، ففي خبر بريد الوارد في من اشترى عشرة آلاف طن من القصب من أنبار فيه ثلاثون ألف طن، فاحترق القصب وبقي منه بمقدار المبيع، حيث حكم الإمام (عليه السلام) بكون الباقي للمشتري(1).

لكن الروايات دلّت على أن التالف من غير تفريط يتوزع على المال الزكوي والزكاة بالنسبة وهو يناسب الإشاعة.

ويمكن أن يُجاب بأن هذا القائل لا ينكر تعلق الزكاة بالمال على نحو الإشاعة ((أولاً إلا أنه يقول: بأن الشارع ضبط ذلك الجزء المشاع بواحد من المجموع، فأوجب إخراج الواحد، فالواحد من الأربعين نفس الفريضة لا أنه معادل الفريضة)).وحينئذٍ ((لو تلف بعض النصاب بغير تفريط قبل التمكن من الأداء سقط من الفريضة بحسابه -عند هذا القائل- أيضاً؛ لأنه إنما يقول بوجوب دفع تمام الفريضة لحق المجموع، فلا بدَّ من تقسيطها على المجموع))(2).

أقول: لا دليل على هذا الجعل الثانوي والروايات ظاهرة في كون المخرج زكاة بدونه، بل إن صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله دلت على أن المخرج من غير العين زكاة أيضاً.

القول الثالث: الشركة في المالية بمعنى أن المستحق يشارك مالك النصاب الزكوي

ص: 56


1- وسائل الشيعة: 17/365، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، باب 19، ح1.
2- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 207-208.

في ماله بنسبة الزكاة وتكون الشركة في مالية العين لا في عينيتها أي مشخصاتها الخارجية، ومثلوا له بتعلق حق الزوجة في الأبنية والآلات، فإنها تحرم من أعيانها وتأخذ نصيبها من قيمتها.

وهذا القول هو فحوى ما قواه المحقق الهمداني (قدس سره) وإن عبّر عن الزكاة بالحق، فوصف الزكاة بأنها ((حق متعلق بجميع المال حيث أن الشارع جعل الفقير مستحقاً لأن يستوفى له من جميع هذا المال البالغ حد النصاب الفريضة التي قرّرها له عيناً أو قيمة، كما جعل الزوجة غير ذات الولد مستحقة لأن تستوفي من البناء ثمن قيمتها))(1).

أقول: قوله: ((بجميع المال)) يشعر بالشركة المالية في تمام العين على نحو الإشاعة، وهو ما صرّح به أستاذه الشيخ الأنصاري (قدس سره)، فإنه قال بعد كلامه المتقدم (صفحة 31): ((الظاهر أن هذا الحق على سبيل الإشاعة في مجموع النصاب بمعنى إشاعة الجزء الكسري في التام))(2).

أقول: لا نستطيع الجزم بأنه يريد القول بالشركة المالية لوضوح ما نقلناه عنه سابقاً في كونه حقاً يقتضي ملكاً اقتضائياً.

واختار هذا القول السيد الخوئي (قدس سره) والسيد الشهيد(3)

الصدر الأول (قدس سره) وتبعهما بعض الأعلام المعاصرين، ويمكن أن يستدل عليه بوجوه:-

1- رواية إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) وفيها (لأن عين المال الدراهم وكل ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود ذلك إلى الدراهم في الزكاة والديات)(4) بتقريب أن الرواية تدل على أن الشركة في الأعيان ترجع إلى الشركة في المالية.

ص: 57


1- مصباح الفقيه: 13-2/253.
2- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 206.
3- منهاج الصالحين للسيد الحكيم بتعليق الشهيد الصدر: 1/445، المسألة (37).
4- وسائل الشيعة: 9/139، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح7.

2- بضم مقدمتين:-

أ- إجماع(1)

المسلمين على أن زكاة أموال التجارة -المستحبة عند المشهور- تؤدى بالقيمة المالية.

ب- أن نحو تعلق الزكاة في الواجبة والمستحبة واحد، وقد قرّبنا (صفحة 38) عدة وجوه للاستدلال عليه فالنتيجة أن الزكاة الواجبة تؤدى بالقيمة المالية أيضاً.

3- إنه ((الوجه الذي به نستطيع أن نفهم كل ألسنة الأدلة))(2)

والحل للخروج من إشكالات الأقوال الأخرى.

4- بضم عدة مقدمات هي:-

أ- الزكاة تتعلق بالملك وعلى نحو الشركة بحسب ظاهر الروايات.

ب- والشركة منحصرة بالأنحاء الثلاثة (الإشاعة، الكلي في المعين، المالية) وقد بطل القولان الأولان لعدم استيعابهما لكل الأنصبة والأجناس الزكوية والمفروض وحدة شكل التعلق لجميع الأجناس فيتعين الثالث وهو الشركة في المالية لقابليته على تفسير زكاة كل الأجناس.

وهذه هي خلاصة الدليل الذي أورده السيد الخوئي (قدس سره) قال: ((الزكاة متعلقة بنفس العين ولا يملك المالك إلا ما عدا مقدار الزكاة والباقي ملك للفقير على ما يساعده ظواهر النصوص فلا جرم يكون بينهما نوع من الشركة))(3).

((فالجمود على ظواهر النصوص وإن كان يعطينا الإشاعة مرة والكلي في المعين مرة أخرى، إلا أن في طائفة أخرى منها ما يستحيل إرادة شيء من ذينك المعنيين، مثل قوله (عليه السلام): (في كل خمس من الإبل شاة) ونحو

ص: 58


1- حكاه في مفتاح الكرامة: 7/205 عن المنتهى ومجمع البرهان.
2- ما وراء الفقه: 2/21.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/289.

ذلك مما كان الفرض مبايناً مع العين، كموارد دفع الحقة أو الجذعة أو ابن اللبون مما لا يوجد شيء منه في العين الزكوية ليتصور فيه الكلي في المعين فضلاً عن الإشاعة، وقد عرفت لزوم تفسير التعلق بمعنى ينطبق على الكل بنمط واحد، فبهذه القرينة القاطعة لا بد من رفع اليد عن الظهور المزبور الموجود في بعض النصوص والحمل على إرادة الشركة في المالية.ومعنى ذلك: أن الفقير يشارك المالك في العين لكن لا من حيث إنه عين، بل من حيث إنه مال، فلا يستحق شيئاً من الخصوصيات الفردية والصفات الشخصية، وإنما يستحق مالية العشر -مثلاً- من هذا الموجود الخارجي التي اختيار تطبيقها بيد المالك)).

((فإنّ الفقير يملك حصّة معيّنة من عشر ونحوه من ماليّة العين الزكويّة، ولا يملك المالك من ماليّتها إلاّ ما عدا هذه الحصّة، وبالأداء إلى الفقير من العين أو من خارجه بدفع نفس ما يستحقّه الفقير لتحقّق الماليّة المملوكة له في ضمن الفرد المدفوع فيؤدّي نفس الفرض بالذات لا شيئاً آخر يعادله في المقدار عوضاً عن الفرض، وهذا معنى عام يشترك فيه جميع الأعيان الزكويّة وينطبق على الكلّ بمناط واحد)).

ويرد عليه:-

1- إنه مبني على تعلق الزكاة بالعين على نحو الملك وقد منعناه بعدة وجوه ذكرناها (صفحة 36) فكل الإشكالات التي أوردناها على القول بالملك تأتي هنا لأنه فرعه.

2- وهو مبني على ظهور الروايات في انحصار الأقوال بالثلاثة فلما امتنع القول بالإشاعة والكلي في المعين تعيّن هذا القول وهو غير تام لعدم الانحصار بالثلاثة حتى وصلت الأقوال إلى ثمانية أو تسعة.

نعم يمكن القول أن المستظهر من الروايات هذه الثلاثة أما البقية فمستقرأة من أحكام الزكاة والآثار المترتبة على تعلقها بالمال لكنها أيضاً مستظهرة من الروايات.

ص: 59

3- وإنه مبني على اتحاد شكل تعلق الزكاة بجميع الأجناس الزكوية وإلا فيمكن التخلص من الإشكالات بتفكيك الأقوال لكل جنس بما يناسبه، وهذا الالتزام بالاتحاد لا دليل عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

4- إنه مخالف لظهور بعض الروايات فالشاة على الإبل الخمسة بنفسها زكاة وليست أنها تقويم لمالية الزكاة في الإبل الخمسة، وقد أشكلنا (صفحة 41) على محاولة صاحب الجواهر (قدس سره) لتقريب الشركة في هذه الأنصبة، ولذا فإن الملحوظ في الزكاة الشاة وقيمتها وليس النسبة المعينة من الإبل كما يفترض هذا القول.

5- ((يترتب على القول بالشركة المالية أن جواز دفع القيمة بالنقد الرائج يثبت على القاعدة حتى لو لم تدل عليه رواية خاصة))(1).

مع أن ظاهر الروايات أن دفع القيمة على نحو البدلية للتيسير على المكلفين كما في صحيحة البرقي قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): هل يجوز أن أُخرج عما يجب في الحرث من الحنطة والشعير وما يجب على الذهب، دراهم قيمة ما يسوى؟ أم لا يجوز إلا أن يخرج من كل شيء ما فيه؟ فأجاب (عليه السلام): أيّما تيسّر يخرج)(2).

وصحيحة علي بن جعفر قال: (سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الرجل يعطي عن زكاته عن الدراهم دنانير وعن الدنانير دراهم بالقيمة، أيحلّ ذلك؟ قال: لا بأس به)(3).

وما ورد في بدلية عشرين درهماً عن الشاتين في نصاب الإبل كالذي أورده في الكافي بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب له (ومن

ص: 60


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/289.
2- وسائل الشيعة: 9/192، أبواب زكاة الغلات، باب 9، ح1.
3- وسائل الشيعة: 9/167، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 14، ح2.

بلغت صدقته ابنة مخاض وليست عنده ابنة مخاض وعنده ابنة لبون فإنه يقبل منه ابنة لبون ويعطيه المصدِّق شاتين أو عشرين درهماً)(1).

والشاهد على البدلية:-

أ- إن القائل لا يلتزم بإجزاء القيمة المذكورة في الرواية وهي عشرون درهماً عن الشاتين مطلقاً وإنما تتغير تبعاً لقيمة المبدل عنه ولو كانت القيمة أصلاً لثبتت بمقتضى الرواية.

ب- تصريح الأصحاب بالبدلية وارتكاز هذا المعنى في أذهانهم: ((قال الشيخ في الخلاف: يجوز إخراج القيمة في الزكاة كلها أي شيء كانت فتكون القيمة على وجه البدل لا على أنها أصل، انتهى، ونحوه ما في النهاية والمبسوط وغيرهما))(2) بل ذهب بعض الأصحاب إلى عدم إجزاء القيمة أصلاً إلا في ما دل عليه الدليل وإن كان المشهور الجواز مطلقاً فإن الروايات دلّت عليه في الغلات والنقدين لذا ((خالف المفيد في الأنعام فلم يجوّزه، إلا أن تعدم الأسنان المخصوصة في الزكاة ويظهر من المحقق في المعتبر الميل إليه، وقوّاه صاحب المدارك لعدم الدليل))(3).

وسنبحث إجزاء القيمة في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

6- مخالفته لمقتضى ما رواه الكليني بسند صحيح إلى عبد الرحمن بن الحجاج عن محمد بن خالد أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) إلى أن قال: (فإذا قامت -أي الزكاة- على ثمن فإن أراد صاحبها فهو أحق بها، وإن لم يردها فليبعها)(4).

ص: 61


1- وسائل الشيعة: 9/129، أبواب زكاة الأنعام، باب 13، ح2.
2- مفتاح الكرامة: 7/145.
3- غنائم الأيام: 4/82 عن المقنعة: 253، المعتبر: 2/517، المدارك: 5/91.
4- وسائل الشيعة: 9/131، أبواب زكاة الأنعام، باب 14، ح 3.

بتقريب أن التعلق لو كان على نحو الشركة في المالية لأُخِذ الثمن من المالك مباشرة ولم يحتج إلى قبض العين ثم إجراء المزاد العلني عليها وتقويمها على مالكها.

7- إن أصحاب هذا القول(1)

صرّحوا بأنه يقتضي الشركة على نحو الإشاعة بين المستحق والمالك في المالية دون خصوصيات العين وحينئذٍ تأتي عليه جملة من إشكالات القول الأول بالشركة في العين على نحو الإشاعة بلا فرق بينهما من عدة جهات كلزوم عدم جواز التصرف بتمام العين إلا بإذن المستحق واستحقاق الحصة من النماء لأنه شريك معه في المالية والنماء وفرعها.

8- مخالفته لظهور الروايات الدالة على كون الشركة في العين كروايات زكاة الغلات والغنم المتقدمة سواء فهمناها على نحو شركة الإشاعة أو الكلي في المعين. قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((بالنسبة إلى ما ورد في الغلات من العشر ونصف العشر. فإن المفهوم عرفاً منه هو عشر عين النصاب لا ماليته.

وما قلناه من أن العرف يرى المالية في عين المال وليس منفصلاً عنه، وإن كان صحيحاً. إلا أنه فرع الفهم العرفي بتعلق الزكاة في المالية دون العين وهو خلاف الظاهر.

مضافاً إلى ما ورد في الأنعام والنقدين من تسمية الأعيان بذواتها دون الكسر العشري، فإنها أظهر في العين، إلا بتأويل المالية على وجه بعيد))(2).

ص: 62


1- راجع كلمات الشيخ الأنصاري والمحقق الهمداني والسيد الخوئي (قدس الله أسرارهم) (صفحة 57-58).
2- ما وراء الفقه: 2/26.

9- منافاته لما استدل به المشهور من الإجماع على الشركة في العين ولو على نحو الكلي في المعين، ولما حكوه من الإجماع على تعلق الزكاة بالعين ((وهذا المضمون كما يكون نافياً لأن تكون الزكاة في الذمة، كذلك يمكن أن يكون نافياً لكون الزكاة في المالية. لوضوح تغاير العين والمالية عند هؤلاء المجمعين. فيكون صرف الزكاة من العين إلى المالية خروجاً على هذا الإجماع أو الشهرة المحققة))(1).

وإن نوقش في الإجماع بأنه مدركي معتمد على الأخبار فلا يكون حجة، أجيب بأن ((هذا الكلام إنما يصدق فيما إذا كانت قيمة الإثبات في الإجماع أقل من قيمة الإثبات في الأخبار أو مساوية له. وأما إذا كانت قيمة الإجماع أعلى وأهم من الأخبار فيكون معتبراً ومثاله ضروريات الدين فإنها واردة في مورد الأخبار أيضاً إلا أن الإجماع والضرورة أكبر من ذلك فقد تكون نفس الفكرة مطبقة في مورد الكلام أيضاً بشكل وآخر، فلاحظ وتأمل))(2).

أقول: هذا مبنى كان يعتمده (قدس سره) في الاستدلال وسمعت منه أنه أخذه من أستاذه الشهيد السيد الصدر الأول (قدس سره).

والخلاصة: أن أطروحة الشركة في المالية غير ظاهرة من الروايات قدمها القائل بها باعتبارها الأقرب لحل الإشكالات لذا قيل ((إن هذا الرأي إنما يتخذ للضرورة جمعاً بين مجموع الأدلة التي تبدو متنافية في مدلولاتها، ولو لزم من ذلك المصير إلى التأويل غير العرفي لبعضها أو لكثير منها))(3).

ص: 63


1- ما وراء الفقه: 2/27.
2- ما وراء الفقه: 2/27.
3- ما وراء الفقه: 2/24.

هذا ولكن الحل لا بد أن يكون عرفياً قابلاً لاستيعاب الروايات، نعم إذا أريد بهذه الشركة أنها على نحو الحق المالي المجعول على المال الزكوي فهو ممكن القبول وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(القول الرابع): أن يكون الأمر بالزكاة حكماً تكليفياً محضاً بوجوب إخراج الزكاة من ماله وإن تضمن امتثاله إنفاقاً مالياً إلا أنه لا يضمن للمستحقين ملكاً أو حقاً في مال مالك النصاب، وقد تقدّم الاستدلال عليه (صفحة 8) وصوّره بعض الأعلام المعاصرين بأبعد من هذا فقال: ((أن تكون الزكاة مجرد حكم تكليفي محض بوجوب دفع مقدار الزكاة ليس وراءه حكم وضعي))(1)

ولم يذكر حتى تضمنه للإنفاق المالي.

ولا أعلم القائل به حتى نتأكد من حقيقة مراده، وربما لا يوجد قائل به كما استظهره بعض أعلام العصر(2)

لكنني وجدت صاحب الجواهر (قدس سره) يقويه في الزكاة المستحبة، قال (قدس سره): ((ومن هنا يقوى أن الاستحباب تكليفي محض لا مدخلية له في ملك المالك والمسألة بعد محتاجة إلى تأمل))(3).

وعلى أية حال فإن من المسلّم وجود حكم تكليفي بوجوب أداء الزكاة وقد كرره القرآن الكريم وقرنه بإقامة الصلاة، إلا أن الاقتصار عليه ونفي وجود حكموضعي مما لا يتفوه به متفقه فضلاً عن فقيه لوضوح كون الآيات الكريمة كقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» (التوبة: 103) والأحاديث الشريفة الظاهرة في جعل الحكم الوضعي وأنها بصدد بيان استحقاق مالي في أموال الأغنياء كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (إن

ص: 64


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/280.
2- كتاب الخمس للشيخ المنتظري (قدس سره): 289.
3- جواهر الكلام: 15/72.

الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم) وصحيحة عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام) (وذلك أن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يكتفون به)(1)

وغيرها.

مضافاً إلى أن التعلق لو كان بنحو ((التكليف المحض بالأداء من دون أن يستعقب الوضع فلازمه عدم جواز أخذ الساعي من الممتنع قهراً عليه، ومقتضى صحيحة عبد الرحمن السابقة جواز الأخذ من المشتري قهراً، فالظاهر ثبوت نحو من الحق، نعم يجوز للحاكم الشرعي إلزامه على الأداء حسبة، كما في جميع الواجبات والمحرمات))(2).

ويمكن توجيه عدم ذكر هذا القائل الحكم الوضعي بأحد تقريبين:-

1- إن المجعول في ذمة المالك هو الحكم التكليفي بوجوب إخراج الزكاة لا الحكم الوضعي فإن المبلغ المالي المقدّر للزكاة شيء مجعول في ذمة المال الزكوي لا مالكه، وبتعبير آخر: إن الحكم الوضعي وهو تعلق الزكاة بالأموال الزكوية لا يتعين توجهه إلى مالك النصاب إذ قد يباع المال الزكوي وينتقل حق الفقير معه ويكون امتثال الحكم الوضعي بإخراج الزكاة موجهاً إلى المشتري، أما الحكم التكليفي فيبقى في ذمة مالك النصاب حتى بعد البيع لعدم امتثاله ولا يسقط بانتقال العين عنه، فإما أن يدفع الزكاة أو يتحملها المشتري ويرجع بها على البائع مع الجهل كما صرّحت به صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله، ويظهر هذا الوجه من تقريب السيد الحكيم المتقدم (صفحة 9).

2- إنه يلتزم كبروياً بأن الثابت في الشريعة أولاً وبالذات الحكم التكليفي وينتزع منه الحكم الوضعي فعنون المسألة بالحكم الأولي أي الوجوب التكليفي بإخراج الزكاة واكتفى به وسكت عن الحكم الوضعي تخلصاً

ص: 65


1- وسائل الشيعة: 9/10، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 1، ح2، 3.
2- كتاب الزكاة، للشيخ المنتظري: 151.

من الإشكالات الواردة على الأقوال المتعددة خلافاً لمن يرى أن الوجوب التكليفي لدفع الزكاة فرع هذا الحق الوضعي وامتثالاً لحكمه.

قال المحقق الهمداني (قدس سره): ((مفاد آية الصدقة بشهادة الروايات الواردة في تفسيرها، هو أن الله تبارك وتعالى فرض على عباده في أموالهم الصدقة، أي: أوجب عليهم أن يعطوا شيئاً من أموالهم في سبيل الله؛ فإن الصدقة -كما في القاموس- ما أعطيته في ذات الله. وفي المجمع: ما أعطى «الغير به» تبرعاً بقصد القربة.

وهذا حكم تكليفي متوجه إلى المالك، متعلق بماله، أي بإيجاد فعل في ماله،1- بأن يتصدق بشيء منه إلى الفقير، أي يُعطيه تبرعاً بقصد القربة، ويتولّد من هذا الحكم التكليفي حكم وضعي، وهو استحقاق الفقير للمال الذي أمر الله مالكه بأن يتصدق به عليه، كاستحقاقه للمال الذي نذر مالكه أن يتصدق به عليه، وهذا مقتضاه: أن يكون قبل دفعه إليه ملكاً للدافع.

كما يؤيد ذلك إضافة الأموال إليهم في الآية الشريفة))(1).

(القول الخامس) أن يكون على نحو أرش جناية العبد المتعلقة برقبته:

وقد تقدم شرحه (صفحة 11)، واحتمله العلامة (قدس سره) في القواعد، قال (قدس سره): ((فيحتمل تعلق أرش الجنايات برقبة العبد لسقوطها بتلف النصاب كسقوط الأرش بتلف العبد))(2)، وكذا الشهيد (قدس سره) في البيان كما تقدم، واختاره عدد من الأعلام المعاصرين وأرجع أحدهم(3)

إليه كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) المتقدم (صفحة 31) وتردد

ص: 66


1- مصباح الفقيه: 13/243.
2- إيضاح الفوائد: 1/208.
3- فقه الصادق: 10/106.

آخر بينه وبين القول بالشركة في المالية إلا أنه لم يتمكن من الجزم بأحدهما لأنه لم يظهر له الفرق بينهما ((بحسب الآثار المترتبة على كل منهما شرعاً))(1)، ولكنه جزم باختياره في مواضع أخرى(2).

وقد استظهره البعض من الأحكام الواردة في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: ((قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل لم يزكِّ إبله وشاته عامين فباعها، على من اشتراها أن يزكيها لما مضى؟ قال: نعم تؤخذ زكاتها ويتبع بها البائع، أو يؤدي زكاتها البائع)(3).

فإن ظاهرها صحة البيع ولزومه على تقدير أن يؤدي البائع زكاته، وإن لم يكن من نفس العين، وهذا وجه الشبه بأرش جناية العبد إذ يجوز بيعه وينتقل أرش جنايته معه لصالح المجني عليه، أو يدفع مالكه الأرش من ماله ويعود العبد ملكاً خالصاً له.

واستدل أحد الأعلام عليه بكون الزكاة من قبيل الحقوق، وانحصار هذه الحقوق بمنذور التصدق والرهانة وأرش الجناية، والأول غير صحيح؛ لأنه تنجيزيبحسب قوله والزكاة ليست كذلك وستأتي مناقشة هذا القول، والثاني غير صحيح ((لما دلّ من النصوص والفتاوى على عدم ضمان الزكاة بتلف النصاب، ولو كانت في الذمة فإنه لا موجب لبراءة الذمة عنها بمجرد تلف النصاب، كما أن تلف الرهن لا يوجب براءة ذمة الراهن من الدين)) فتعيّن القول بحق الجناية لأنه تعليقي ((فإن استقراره على رقبة العبد الجاني معلق على عدم فدية المولى))(4)

والزكاة كذلك.

أقول: الظاهر أن هذا القول من الأقوال التي انتزعت من الأحكام والآثار

ص: 67


1- المرتقى إلى الفقه الأرقى: كتاب الزكاة، 1/118.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى: 307.
3- وسائل الشيعة: الشيعة، أبواب زكاة الأنعام، باب 12، ح1.
4- فقه الصادق: 10/105-106.

وليس من النصوص مباشرة ويعتبر نسخة معدلة لتجاوز بعض الإشكالات على الأقوال السابقة إذ نحتمل أن اللجوء إلى هذا القول كان للتخلص من إشكال أن القول بالإشاعة والشراكة في العين يجعل الشراكة مع المالك أي في العين بما هي مملوكة لمالكها ويترتب على ذلك عدم جواز تصرف المالك بها إلا بإذن الشريك ورضاه بالقسمة ونحو ذلك مما هو مخالف لمقتضى صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله حيث انتقلت الزكاة مع العين المباعة فذهبوا إلى هذا القول باعتبار تعلق الزكاة بالعين لا بما هي مملوكة، فهذا القول تطوير للقول بالشركة في العين الذي كان هو السائد يومئذٍ.

ولعل هذا القول انقدح في ذهن قائليه نتيجة اطلاعهم على فقه العامة ومنهجهم المبني على استقراء الآثار ووحدة المناط وحكاه العلامة في التذكرة عن أبي حنيفة، قال: ((الزكاة تتعلق بالعين عندنا وعند أبي حنيفة، إلا أن أبا حنيفة قال: لا يستحق بها جزء منها، وإنما تتعلق بها كتعلق الجناية بالعبد الجاني))(1)، واحتمل العلامة (قدس سره) في موضع آخر ((تعلق الإرش برقبة الجاني لأنها تسقط بهلاك النصاب، كما يسقط الإرش بهلاك الجاني، والأخير مروي عن أبي حنيفة وأحمد))(2)، فهذا القول استُظهر من الحكم المذكور، ورتّب على ذلك صحة تصرف المالك بتمام النصاب لعدم مانعية تعلق الزكاة كعدم مانعية إرش الجناية.

قال الشيخ المنتظري (قدس سره): ((ولو تنزلنا عن ذلك -أي القول بالشركة في العين واختيار الأداء بالعين أو القيمة- فالظاهر أن التعلق من قبيل حق الجناية في العبد الجاني خطأ، حيث يكون الملك باقياً بملك المالك ولكن ورثة المقتول يستحقون أن يملك العين أو القيمة. ولا يمنع هذا الحق من التصرفات الناقلة، إذ الحق لم يتعلق بالعين بما هو ملك لهذا المالك، كما في حق الرهانة،

ص: 68


1- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: 4/187.
2- تذكرة الفقهاء: 4/199.

بل بما هو جانٍ لهذه الجناية، فيجوز انتقاله إلى الغير، والحق قائم به أينما وجد. نعم للمشتري الخيار مع الجهل))(1).أقول: ذِكره (قدس سره) للورثة غير صحيح لأن تصوير الزكاة على هذا النحو يتحقق بما دون القتل من الجناية لأنه إذا قتل يُسلَّم إلى ورثة المجني عليه ليسترقوه أو يبيعوه فلا يشبه ما نحن فيه، وإنما يشبه الزكاة في الجناية دون القتل، وعلى فرض زيادة قيمة العبد على دية الجناية فيكون للمجني عليه من قيمة العبد مقدار ديته والباقي لمالكه فتتحقق الشركة بينهما، وفي غير ذلك يُسلّم العبد إلى المجني عليه، قال أستاذنا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((ومن هنا فقد يمكن أن نضم الفقهاء الذين يقولون بتنظير حق الزكاة بحق الجناية إلى الفقهاء الذين يقولون بأن حق الزكاة من الشركة المشاعة في العين))(2).

أقول: واحتمل (قدس سره) الفرق بين هذا القول والشركة المشاعة في العين ((ولو باعتبار ظهور الروايات في تعليقه على مشيئة المجني عليه لقوله (عليه السلام) في صحيحة الفضيل (إن شاء الحر اقتص منه وإن شاء أخذه)(3)، حيث يقال: إن الظاهر أن الملكية فرع المشيئة وليست حادثة في طول الجناية، عندئذٍ يختلف الحقان لعدم تعليقه على المشيئة في الزكاة.

إلا أن هذا قابل للمناقشة إذ يمكن أن يقال: إنه بقرينة قوله في صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): (يدفع إلى أولياء المقتول فيكون لهم رقّاً)(4)

الدال على أن الجناية سبب تام للملكية، والمشيئة فرع الملكية، كقوله (عليه السلام) في نفس الصحيحة: (فإن شاؤوا باعوه وإن شاؤوا استرقوه) فيكون إيقاع القصاص على ملكه)).

ص: 69


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 2/151.
2- ما وراء الفقه: 2/31.
3- وسائل الشيعة: كتاب الديات، أبواب القصاص في النفس، باب 3، ح1.
4- وسائل الشيعة: أبواب القصاص في النفس، باب 42، ح1.

أقول: كلامه (قدس سره) قابل للمناقشة من الجهتين أي تقريب الفرق والرد عليه:

أولاهما- افتراضه التعليق على مشيئة المجني عليه، وتصحيح التشبيه بين المقام وشكل تعلق الزكاة يوجب ربط ذلك -أي التعليق على المشيئة- بمالك العبد.

ثانيهما- إن هذه الروايات واردة في القتل وقد قلنا أن تنظير الزكاة بأرش جناية العبد فيما إذا كان دون القتل، فالصحيح أن يرد الإشكال بما ورد في ذلك وهو موجود في صحيحة الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه قال في عبد جرح حراً، فقال: إن شاء الحر اقتص منه، وإن شاء أخذه إن كانت الجراحة تحيط برقبته، وإن كانت لا تحيط برقبته افتداه مولاه، فإن أبى مولاه أن يفتديه كان للحر المجروح من العبد بقدر دية جراحه، والباقي للمولى يباع العبد فيأخذ المجروح حقه ويرد الباقي على المولى)(1).

أقول: الصحيحة صريحة في توقف ملك المجني عليه للعبد في الجملة على مشيئة المولى لدفع الدية أو عدمه وبهذا يفترق هذا القول عن الشركة الحقيقية المبنية علىالقول بالملك الفعلي بينما هذا القول مبني على كون الزكاة حقاً وملك الفقير اقتضائي يتوقف على إرادة المالك وهو نظير إرادة مولى العبد هنا، فالملك فيهما متوقف على إرادة المالك لفرد الامتثال هناك وللفدية هنا.

فيتحصل الآن عدة وجوه للشبه بين تعلق الزكاة بالمال الزكوي وتعلق حق المجني عليه برقبة العبد منها:-

1- كلاهما يتعلقان بالعين بما هي لا بما أنها مملوكة لصاحبها.

2- إن كليهما حق بمعنى أن الملك فيه اقتضائي وليس فعلياً.

3- جواز التصرف في العين حتى الناقلة منها كالبيع ولزومه إذا أدى الحق من مال آخر.

ص: 70


1- وسائل الشيعة: 29/210، كتاب الديات، أبواب ديات النفس، باب 8، ح2.

4- سقوط الحق بتلف العين فيهما معاً.

ولعل هذا الشبه هو الذي دفع أصحاب هذا القول إلى اختياره وتمييزه عن الشركة في العين مع أنه من هذا الباب ظاهراً إذ أن الشريك في العين له المطالبة بالفرز والتعيين والاقتراع وهو غير ثابت لمستحقي الزكاة فدفعاً لهذا الإشكال قالوا بهذا الشكل من التعلق.

وعلى أي حال فإن هذا القول فيه تحسّن ملحوظ لكن صحته تتوقف على صحة ما قربناه من كونه حقاً وليس ملكاً، ومشكلته أنه مبني على قراءة الآثار المشتركة وليس مستظهراً بشكل مباشر من النصوص الشرعية وهذا منهج ناقص الاعتبار لاحتمال اختلاف الشكلين في آثار أخرى.

(القول السادس) أن يكون من قبيل منذور التصدق

وقد تقدّم شرحه (صفحة 12) ويدل عليه:-

1- إن مضمون الزكاة هذا فإن حقيقتها حكم تكليفي بوجوب إخراج مقدار معين من المال قربة إلى الله تعالى، ولا يملك الفقير شيئاً من مال الغني إلا بإخراجه كالصدقة المنذورة.

2- ورد تسمية الزكاة بالصدقة صريحاً في الآيات والروايات كقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» (التوبة:103) وقوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء» (التوبة:60) وفي الروايات كصحيحة جعفر بن إبراهيم الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: أتحل الصدقة لبني هاشم؟ فقال: إنما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحل لنا، فأما غير ذلك فليس به بأس)(1)، فالزكاة صدقة، وأما كونها كمنذورها فلاحتياجها إلى إخراج من المالك متقرباً لتدخل في ملك المستحق.

ص: 71


1- وسائل الشيعة: 9/272، أبواب المستحقين للزكاة، باب 31، ح3.

3- إن الملكية الفعلية غير متصورة في الزكوات المندوبة، والمفروض بحسب ما تقدم (صفحة 37) من الوجوه اتحاد شكل تعلق الواجبة والمندوبة، فالزكاة الواجبة كذلك يكون ملكها اقتضائياً متوقفاً على إخراج المالك لها قربة إلى الله تعالى.

واختار هذا القول السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) في تعليقته على العروة الوثقى قال (قدس سره): ((هي حق متعلق بالعين يشبه حق الفقراء في منذور التصدق))(1).

واحتمله الشيخ المنتظري(2)

(قدس سره).

ويرد على هذا القول:-

1- إن مقتضاه تعيّن الأداء من العين ولا نلتزم به.

2- ((فساد الحكم في المقيس عليه، إذ لا ثبوت للحق هناك أصلاً، كي يكون المقام مسانخاً له، بل الثابت هناك إنما هو مجرد التكليف بأداء العين إلى المنذور له))(3). أقول: هذا لا يقبل به الخصم لأنه يرى أن هذا الحكم التكليفي ليس مجرداً وإنما يتبعه حكم وضعي باستحقاق المنذور كمقدار الزكاة.

(القول السابع) وهو تعلق الزكاة بالذمة، وقد التجأ إليه البعض للتخلص من الإشكالات الواردة على أنحاء التعلق بالعين وفشلها في تفسير بعض موارد الزكاة كأنصبة الإبل الخمسة الأولى ((ولذا التزم الشاذ من الفقهاء بأنه حق في الذمة فإنها الفكرة الفقهية الوحيدة التي يمكن أن تكون جامعة بين أنحاء جعل

ص: 72


1- العروة الوثقى مع تعليقات عدد من الفقهاء، طبع جماعة المدرسين: 4/85.
2- كتاب الخمس للشيخ المنتظري (قدس سره): 302.
3- المرتقى إلى الفقه الأرقى: 1/118.

الزكاة إلا أنه يلزم منها تأويل عدد أكبر من الروايات من ذلك الجانب (أعني في غير هذه النصب الخمسة من الإبل) الظاهرة بالاشتراك في العين))(1).

أقول: إذا كان هذا القائل يذهب إليه على نحو اللا بشرط أي إمكان تعلق الزكاة بذمة المالك وذمة المال معاً فلا بأس، قال الشهيد (قدس سره) في حواشيه في آخر باب الخمس: ((إن الذي استقر عليه كلام الفقهاء أن التعلق ينقسم إلى ما يتعلق بالعين خاصة وما يتعلق بالذمة خاصة وما يتعلق بهما))(2).أما إذا كان يقول به بشرط لا عن تعلقه بالعين فقد رددنا مفصلاً في (صفحة 17-27) على هذا القول ومنها النقض بسقوط الزكاة عند تلف النصاب بغير تفريط، وقلنا إن الصحيح تعلّق الزكاة بالعين.

(القول الثامن) كسابقه من حيث التعلق بالذمة مع إضافة ارتهان المال الزكوي بالزكاة حتى تخرج أو تعزل، واحتمله العلامة في القواعد قال (قدس سره): ((فيحتمل حينئذٍ تعلق الدين بالرهن إذ مع امتناع المالك من أداء الواجب يبيع الإمام من عين النصاب إذا لم يشتمل على الواجب كما يباع الرهن))(3).

كما احتمله الشهيد الأول (قدس سره) في كلامه المتقدم (صفحة 12)، وهو أحد قولي أبي حنيفة حسبما نقله الشيخ في الخلاف وأوردناه (صفحة 16) قال: ((تجب في ذمة رب المال والعين مرتهنة بما في الذمة فكان جميع المال رهناً لما في الذمة))(4).

أقول: ويرد عليه:-

1- إن هذا القول باطل من أصله لبطلان القول بتعلقها بالذمة.

ص: 73


1- ما وراء الفقه: 2/34.
2- مفتاح الكرامة: 7/190.
3- القواعد في متن إيضاح الفوائد: 1/208.
4- الخلاف: 1/280، المسألة (281).

2- إنه باطل في منهج الوصول إليه لبنائه على استقراء الآثار وأوجه الشبه.

3- إن مقتضى القول بحق الرهانة أن العين ليست بتمامها رهناً، بل بمقدار الزكاة منها، إذ يكفي في الرهن أن يكون بمقدار الدين فيجوز التصرف بالعين في الزائد منها.

4- إن مجرد التشابه بين تعلق الزكاة بالعين وارتهانها من حيث عدم جواز التصرف لا يكفي لحمله عليه لأن هذا المنع من التصرف -لو قلنا به- يمكن أن يأتي على عدد من الأشكال الأخرى كالشركة على نحو الإشاعة فإنه لا يجوز التصرف بكل أجزاء النصاب لاستحقاق الفقير كسراً عشرياً فيه.

هذا وقد ذكر أستاذنا الشهيد السيد الصدر الثاني (قدس سره) عدة فروق على هذا التشبيه، قال (قدس سره):-

1- ((إن العين المرهونة مملوكة لمالكها الأصلي وهو المدين الراهن، على حين أن الأدلة في باب الزكاة واضحة في ملكية الفقير للحصة الزكوية سواء بعينها أو بماليتها أو بكسرها العشري أو غيره، دون المالك))(1).

أقول: هذا مبني على القول بملك الفقير فعلاً لمقدار الزكاة في المال الزكوي وقد رددنا عليه ورجحنا كون الزكاة حقاً.

2- ((إن العين المرهونة يجوز بيعها بإذن مالكها بخلاف العين الزكوية، فإن الاستئذان من أحد الفقراء لا يكفي ما لم يقبضها، وإذا قبضت خرجت عن كونها عيناً زكوية)). أقول: الصحيح أن يقول بإذن الدائن الذي رهن العين وثيقة لماله وليس بإذن مالكها، وهذا الفرق غير تام أيضاً لورود مثله في الزكاة باستئذان الحاكم الشرعي بل يجوز مطلقاً إذا ضمن الأداء من مال آخر لعدم تعيّن الزكاة به.

3- ((إن العين المرهونة ترجع إلى مالكها بالفك دون العين الزكوية، وبتعبير آخر: إن العين المرهونة يمكن فكها دون الأخرى)).

ص: 74


1- ما وراء الفقه: 2/28.

أقول: لا وجه لهذا الفرق لأن العين الزكوية تتحرر من تعلق الزكاة وتصبح خالصة لمالكها أيضاً إذا دفع الزكاة من مال آخر.

4- ((إن العين المرهونة لا تحديد لها عرفاً ولا شرعاً بخلاف العين الزكوية المحددة شرعاً)).

5- ((إن فكرة الرهن أساساً لأجل الاستيثاق من إرجاع الدين وإمكان قبضه من قبل الدائن المرتهن، وهذا منتفٍ بالمرة في العين الزكوية، وهذا واضح ولعله أهم هذه الوجوه)). أقول: هذه فروق شكلية لا أثر لها والتشابه بين الآمرين لا نريد به من جميع الجهات وإنما من حيث الجهة المبحوثة.

(القول التاسع) التفصيل بين الأجناس الزكوية

وقد تقدم ذكر بعض مصاديقه في كلام الشهيد الأول والمحقق النراقي (قدس الله سريهما) (صفحة 12) ويرد عليها بنحو عام أنها خلاف المشهور والارتكاز المتشرعي من اتحاد نسق تعلق الزكاة بين جميع الأجناس الزكوية، وهذا ما سنبحثه في الجهة الرابعة إن شاء الله تعالى.

كما يرد على كل شقٍّ من التفصيل -كالشركة على نحو الإشاعة والكلي في الذمة- ما أوردناه في مناقشة الأقوال السابقة.

(القول العاشر) عدم الحاجة إلى بيان شكل التعلق :

لوجود إشكالات على كل الأقوال المعروضة، وهو في الحقيقة إلغاء لهذا البحث من أصله وهذا يعني عدم تنقيح عام نرجع إليه عند الاختلاف في حكم من أحكام الزكاة مبني على شكل التعلق.

إن قلتَ: نرجع في ذلك إلى الروايات مباشرة فإنها بينت أحكام الزكاة والمال الزكوي الذي تعلقت به كجواز التصرف بالمال، أو حكم النماء أو حكم

ص: 75

الزكاة إذا تلفت العين أو بيع المال الزكوي قبل إخراجها وكل هذه الأحكام مذكورة في الروايات.

قلتُ: هذا صحيح لكننا نتحدث عن الأحكام التي لم يرد فيها نصّ أو كان النص مجملاً أو تعارضت النصوص فيكون المرجع مقتضى شكل التعلق الذي تعيّن بدليل معتبر.

نعم إذا أريد بهذا القول عدم الحاجة إلى تعريفه بأحد الأنحاء المعروفة والاكتفاء بعنوان انتزاعي من الأحكام الثابتة في الروايات فهو ممكن، إلا أن عليناإيجاد مثل هذا العنوان المستوعب لجميع الأحكام والآثار، وسنقدم أطروحة في ذلك ضمن الرأي المختار إن شاء الله تعالى.

(الجهة الرابعة) بيان مناشئ الخلاف:

يظهر من التحليل والنقاش المتقدم أن هذا الاختلاف لدى المشهور والحيرة التي وقع فيها له عدة مناشئ:

(أولها): التزامه باتحاد شكل تعلق الزكاة في جميع الأجناس الزكوية قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وأما كيفية التعلق فغير خفي أن المستفاد من النصوص -كموثقة أبي المغراء المتقدمة آنفاً- أن التعلق بالإضافة إلى جميع الأجناس الزكوية بنسق واحد، فالكيفية بأي معنى كانت وكيف ما فُسّرت يشترك فيها الكل وتنطبق على جميع الأصناف بمناط واحد، لا أنها في بعض الأعيان الزكوية بمعنى وفي البعض الآخر بمعنى آخر، لمنافاته مع ظاهر قوله (عليه السلام) في الموثقة المزبور: (أن الله أشرك الفقراء مع الأغنياء في أموالهم)، الظاهر في أن الشركة في جميع الأموال بمعنى واحد كما عرفت))(1).

ص: 76


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/387.

وقال بعض الأعلام المعاصرين: ((لا يحتمل الفرق بين أصناف الزكاة في كيفية التعلق))(1).

وبلغوا حد التصرف في ظهور الروايات بمقتضى هذا الالتزام، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((والتفكيك بين زكاة الغلات فهي بنحو الإشاعة وزكاة غيرها فهي بنحو الكلي في المعين فهو وإن اقتضته صناعة الاستدلال، إلا أنه خلاف المرتكز في أذهان المتشرعة وخلاف المستفاد من النصوص المتضمنة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضع الزكاة في تسعة أشياء أو على تسعة أشياء أو من تسعة كصحيح ابن سنان(2)

الظاهر في كون الوضع على نحو واحد))(3)، وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((وقد عرفت لزوم تفسير التعلق بمعنى ينطبق على الكل بنمط واحد، فبهذه القرينة القاطعة لا بد من رفع اليد عن الظهور المزبور الموجود في بعض النصوص))(4).أقول: إن أراد بالقاطعة معنى القطعية فهو بعيد لأن دليلها ليس كذلك ولا هو ظاهر في ذلك أصلاً، فربما أراد بالقاطعة أي القاطعة للتفصيل بين الأجناس الزكوية.

ولو تنزّلنا وقلنا إن لهذه الروايات ظهوراً في وحدة التعلق فإنه ليس أقوى ظهوراً من الروايات الدالة على أنواع متعددة من شكل التعلق بحسب اختلاف الأجناس الزكوية.

وعلى أي حال فإن مخالفتهم لظهور بعض الروايات وتأويلهم لبعض آخر من أجل المحافظة على وحدة شكل التعلق وتعميم ما يستظهر من بعض على البعض الآخر كان أحد أسباب إيراد الإشكالات عليهم، فمثلاً نقضوا على القول بالإشاعة والكلي في المعين -المستفادين من أدلة زكاة الغلات والأغنام

ص: 77


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/289.
2- وسائل الشيعة: 9/53، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح1.
3- مستمسك العروة الوثقى: 9/177.
4- موسوعة السيد الخوئي: 23/388.

والنقدين- بنُصُب الإبل الخمسة الأولى باعتبار أن الشاة ليست من جنس المال الزكوي، وهذا جنس آخر غير ما نقضوا عليه، ولولا إصرارهم على وحدة شكل التعلق لما ورد عليهم النقض المذكور.

ورغم محاولاتهم وتعديلاتهم المتكررة إلا أنهم لم يستطيعوا أن يفوا بهذا الالتزام ويقدموا نسقاً واحداً للجميع سليماً من الإشكالات وكان بإمكانهم تجنّب هذه الإشكالات بتعدد أنحاء التعلق فلكل مورد ما يناسبه بحسب ظهور الروايات كما تقدم (صفحة 12) عن الشهيد الأول (قدس سره) والمحقق النراقي (قدس سره) ونقلنا آنفاً اعتراف السيد الحكيم (قدس سره) بأنه مقتضى الصناعة في استظهار الروايات.

واستدل على وحدة شكل التعلق بارتكاز المتشرعة مضافاً إلى ما تقدم من ظهور بعض الروايات.

لكن هذا الاستدلال غير تام فإن ارتكاز المتشرعة ليس بحجة لأنه مدركي مستند إلى الاستنباط وفهم الأخبار فلا يصلح للتصرف في ظهور الروايات.

مضافاً إلى أن هذه المسألة فرعية مستنبطة وليست أصلية فلا يكشف الارتكاز عن قول المعصوم (عليه السلام) حتى يكون حجة، وقد شرحنا ذلك عند الرد على الإجماع (صفحة 27).

وأما الصحاح المذكورة فإنها ليست بصدد بيان نحو التعلق والجعل وأمثاله من التفاصيل حتى يتمسك بإطلاقها وإنما وردت لبيان أصل تشريع الزكاة وثبوته في المال الزكوي المتعين بهذه التسعة، فهذه الروايات تجيب عن سؤال: هل أن الزكاة تتعلق بكل الأموال أم أصناف خاصة منها؟.

بل يمكن القول بأنه يوجد في الأدلة ما يُشعر بالخلاف -أي اختلاف شكل التعلق- لاختلاف ألسنة الروايات بحسب اختلاف الأجناس الزكوية وهذا يقتضي اختلافها في شكل التعلق ولو شاء الشارع المقدس لجعلها جميعاً بتعبير واحد، ففي الغلات وردت بلسان الكسر العشري الظاهر في الإشاعة، وفي الغنم

ص: 78

ورد بلسان يناسب الكلي في المعين وكذا في زكاة النقدين، أما في الإبل فيناسبها مثلاً الشركة في المالية لاختلاف جنس الزكاة عن النصاب وكذا في البقر في الجملة.

ولو تنزلنا فالالتزام بجعل عنوان موحد معروف لا دليل عليه إذ يكفي فرض أي عنوان عام كالحق المالي أو الضريبة أو عنوان انتزاعي من الأحكام الثابتة للزكاةفي مواردها المتعددة كما فعل السيد الحكيم (قدس سره) في القول العاشر الذي نقلناه عنه (صفحة 13).

وقد أنصف سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حين قدّم التفصيل في شكل التعلق على تأويل النصوص وصرفها عن ظواهرها من أجل زكاة النصب الخمسة الأولى من الإبل، قال (قدس سره): ((وعليه فلا بد إما من التأويل أو من التفصيل، وقد أشرنا إلى أنه لا ضرورة إلى الالتزام بوحدة الجعل، والحكمة من تشريع الزكاة نافذة في كلا الوجهين، ومعه فالتفريق بين الجعلين هو المتعين لأنه هو الأوفق بظواهر كلتا الطائفتين، بأن يكون الجعل في غير هذه النصب الخمسة بنحو الشركة بالعين، ويكون في النصب الخمسة بنحو آخر خارجي عن النصاب أو قل في الذمة يؤديها من أي شاة وقعت في يده شرعاً))(1).

أقول: لكن يرد عليه:-

1- ما قلناه من أن القول بمثل هذه التفاصيل يجمع عليه إشكالات كلا شقي التفصيل.

2- ما ذكرناه في التنبيه (صفحة 53) من أن الإشكال الذي حاول التخلص منه لا يقتصر على النصب الخمسة الأولى من الإبل وإنما يرد في ما زاد عن ذلك، وفي البقر أيضاً.

ص: 79


1- ما وراء الفقه: 2/34.

وفي الحقيقة فإن عدم الالتزام بالشكل الواحد للتعلق في جميع الأصناف الزكوية وإبقاء كل مورد بحسب شكل التعلق الذي يستفاد من نصوصه وأحكامه يعني إلغاء جملة من ثمرات هذه المسألة، مع أن تأسيس مقتضى القاعدة في شكل التعلق ضروري للرجوع إليها عند الشك أو الإجمال أو التعارض ونحو ذلك.

ويمكن أن نستدل على اتحاد شكل التعلق باشتراك الأجناس الزكوية في الآثار والفروع الفقهية المترتبة عليها كالنماء والتلف وجواز التصرف حيث تمّ تناولها روائياً وفقهياً بالعنوان العام للزكاة من دون تفصيل بين الأجناس أي بلحاظ وحدة الجميع فيها فيكشف عن وحدة شكل التعلق، وربما يناقش هذا بأن اشتراكها من جهة أو أكثر لا يعني اشتراكها من جميع الجهات.

(ثانيها): أنهم حينما يستظهرون من الروايات أو يستقرئون الأحكام ليستنتجوا شكل التعلق أو للنقض على شكل آخر لم يفرقوا بين الأحكام الأصلية الثابتة للزكاة والأخرى المجعولة بدليل خاص على نحو الرخصة والتسهيل والإرفاق بالمكلف، فتعاملوا معها جميعاً على حد سواء لدى النقض على الشكل المعروض في تعلق الزكاة، والحال عدم صحة استظهار العنوان أو النقض إلا بالأولى، أما الثانية فهي أحكام ثانوية.مثلاً نقض على القول بالإشاعة والشراكة بالعين بمنافاته لما ثبت من جواز إخراج الزكاة من مال آخر أو بالقيمة مع أن هذا الحكم قد يكون رخصة أو تسهيلاً على المكلف ومراعاة لحال الفقير ونحو ذلك فلا يصلح للنقض به على هذا القول، وهذه مشكلة متكررة في المسائل الفقهية بل وفي المباحث الأصولية فنحتاج فعلاً إلى تصحيح مناهج وأساليب البحث والاستدلال قال السيد في مفتاح الكرامة: ((ولا ينافي ذلك -أي القول بالشركة في العين- جواز الإخراج

ص: 80

من مال آخر وجواز التصرف في النصاب إذا ضمن الزكاة بدليل من خارج))(1).

(ثالثها): عدم تنقيح المراد من المصطلحات كمعنى التعلق بالعين فجعله فخر المحققين متعيناً بالملك الفعلي، قال (قدس سره): ((الزكاة تتعلق بالعين بإجماع الإمامية بمعنى ملك الفقير بالفعل))(2) مع أنه يمكن أن يكون على نحو الحق.

وكذا معنى التعلق بالعين على نحو الملك، فأصرّ بعضهم على أن مرادهم منها الشركة في العين بل قال صاحب مفتاح الكرامة: لا يحتمل غيرها، مع أنه يمكن أن يكون على نحو الكلي في المعين أو الشركة في المالية، وهكذا غيرها.

(رابعها): المنهج المتبع للوصول إلى النتيجة فبنوا تارة على الآثار واللوازم باستقراء ناقص مع أنها قد تكون لازماً أعم ولا تختص بالنتيجة التي أرادوها، وانطلقوا تارة أخرى من معالجة الإشكالات الواردة على القول المفروض فرمموها بقول آخر لكن القول الجديد أصبح عرضة لإشكالات أخرى وهكذا، وقد تقدمت الأمثلة على كل ذلك.

القول المختار:

ونقرّبه بصياغتين:

(الأولى) على منهج المشهور وتارة يُنظر إلى شكل التعلق على مستوى أصل التكليف والإيجاب وأخرى على مستوى الأداء، والذي دعانا إلى هذا التصنيف ما ذكرناه من كون بعض الأحكام تكليفية أولية والبعض الآخر على نحو الرخص من ولي الأمر لتسهيل الأداء على المكلف وإرفاقاً به.

ص: 81


1- مفتاح الكرامة: 7/197.
2- إيضاح الفوائد: 1/208.

فعلى مستوى أصل التكليف والإيجاب يكون شكل التعلق وفق ما أثبتناه في الرسالة العملية(1) من عدم الالتزام بنحو واحد في جميع الأجناس الزكوية وإنما يكون لكل صنف شكل التعلق المستفاد من الروايات الواردة فيه، وحاصله: أن الزكاة في الغلات الأربع متعلقة بالعين على وجه الإشاعة، وفي الغنم والنقدين متعلقة بالعين على وجه الكلي في المعين، وفي الإبل والبقر متعلقة بالعين على نحو المالالمخصوص في كل مرتبة من مراتب نصابهما كالشاة في الإبل الخمسة والتبيع الحولي والمسنّة في البقر.

أما على مستوى الأداء فقد حصل في الأمر سعة وفّرها الشارع المقدس للمكلفين مراعاة لجملة من المصالح التي سنذكرها عند البحث عن إجزاء دفع القيمة بدل العين في الفرع الآتي، ولتثبت الرسالة الإسلامية مواكبتها لكل الأزمان ولكل الأجيال.

ومن الطبيعي أن يحصل هذا التطور والسعة في الأداء حيث كانت الأجناس الزكوية التسعة هي الأموال المتداولة في عصر النزول ونرى مصاديق ذلك في أبواب الديات والكفارات، والعملة النقدية شحيحة حيث كانت كثير من المبادلات التجارية تقع على نحو المقايضة أي مبادلة الأعيان بالأعيان.

أما اليوم فلم تعد كذلك، خصوصاً وأن الأعيان الزكوية التي تتعلق بها الزكاة وجوباً أو استحباباً ستزداد ويتعذر في بعضها التعلق على نحو الإشاعة أو الكلي في المعين كالعقارات فصدرت الرخصة بدفع القيمة؛ فإجزاء دفع القيمة أو العين من غير النصاب الزكوي رُخَص وتسهيلات جُعلت في مقام الأداء والامتثال لمواكبة متطلبات الحياة المتغيرة عبر الأجيال نظير ما حصل من تحول في (المدّ) و (الصاع) التي هي من المكيلات إلى أوزان مع بقائها على نفس العنوان، وهذه الرخص والتسهيلات على نحو الأحكام الثانوية التي تتصرف في الأحكام الأولية المجعولة في أصل التكليف كشكل التعلق.

ص: 82


1- سبل السلام: 1/509، المسألة (1673).

(الثانية) بناءً على ما نعتقد بصحته وحاصله أن الزكاة حق مالي يتعلق بمالية الأجناس الزكوية وضريبة مالية جعلها الله تعالى على الأجناس الزكوية يجب على المالك إخراجه لكن لا يتعين إخراج هذا الحق من نفس العين بمشخصاتها الخارجية، فيمكن أن يؤدي المالك الزكاة من نفس المال الزكوي أو من غيره أو بقيمتها من العملة المتداولة، وهذا قول جامع يصوّر حقيقة الزكاة من جميع الأجناس الزكوية، ويحافظ على وحدة شكل التعلق فيها جميعاً كما ذهب إليه المشهور.

وقد عبّرت روايات كثيرة ب-(على) للدلالة على هذا المعنى كموثقة أبي بصير والحسن بن شهاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزكاة على تسعة أشياء)(1) وغيرها مما ذكرناها (صفحة 32).

فالزكاة شيء مجعول على المال وضريبة في ذمة المال أي بما هو مال لا بما هو مملوك لصاحبه، لذا صحّ البيع في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله وأتبع الزكاة العين، وهو يشبه من هذه الجهة حق الغرماء المتعلق بتركة الميت وحق أرش جناية العبد المتعلق برقبته، وهذا لا ينافي توجه خطاب تكليفي إلى مالك العين بإخراج الزكاة كالذي انتقلت إليه العين.

ولأنه حق مالي مجعول على المال وليس (في) المال حيث استبعدنا أن تكون (في) بمعنى ظرفية المال الزكوي للزكاة، لم يتعين إخراجه من نفس العين وإنما بحسبما يتيسّر للمالك كما في صحيحة البرقي المتقدمة (صفحة 60) عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) حيث قال فيها: (أيما تيسّر يخرج).

وقد تقدم في الجهة الثانية من البحث تقريب الاستدلال على كون الزكاة حقاً مالياً، وقد أوردنا (صفحة 30) اختيار جملة من الأساطين لكون الزكاة حقاً مالياً.

ص: 83


1- وسائل الشيعة: 9/57، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح 10.

ويساعد على هذا القول فهم العرف وسيرة العقلاء وموافقته للأصل.

بيان ذلك: إن الإسلام دين اجتماعي تكفل بتنظيم كل شؤون الناس الدينية والدنيوية وولاية أمورهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومما يقتضيه هذا النظام إيجاد مصادر تمويل للدولة والقيادة الشرعية لتسيير أموره ولسد احتياجات الناس، ومنها ما يكون على نحو الضرائب المالية فأوجب الخمس والزكاة وغيرهما من موارد الإنفاق الواجب والمستحب، فهو من هذه الناحية يشبه سيرة الحكومات في فرض الضرائب على الناس كضريبة الدخل أو العقار أو الرسوم الكمركية وغير ذلك لتمويل مؤسساتها وأداء واجباتها، بل إن الناظر في مصارف الزكاة من المصالح العامة وتقوية الدين وشوكة المسلمين لا يتردد في كون الوجه المناسب هو هذا.

فالزكاة لا تخرج عن هذا الإطار العقلائي فإنها حق لمستحقيه موضوع على أموال الناس بشروط معينة لكنه ليس متعيناً فيها بل يمكن أن يكون خارجاً عنها ولم يجر ديدن العقلاء على جعل جزء من هذه الأموال ملكاً للسلطة، وللمالك أن يؤدي هذا الحق من نفس المال أو من غيره ولذلك تبنى السلطة وكذا الحاكم الشرعي على أن المال كله لمالكه ولا يجوز انتزاع شيء منه على خلاف إرادته -كما في صحيحة بريد بن معاوية التي تكررت في البحث- ولكن عليه أن يؤدي ذلك الحق.

نعم قد تعيّن السلطة أو الحاكم الشرعي جباة يرسلون لجمع الزكاة من باب مساعدة المكلف على الامتثال بعد أن تقاعس عن دفع الحق أو تعذّر عليه جمعه وإيصاله لبعد المسافة واحتياج نقل الأعيان إلى مؤونة أو أن المكلّف يعتقد أن هذا الجمع من وظيفة الحاكم أو أن هذه الأعيان الزكوية تعتبر بنفسها أموالاً وتصلح أن تكون أثماناً في المعاوضات كما يساعد عليه العرف ونحو ذلك.

وفي ضوء هذا التقريب للقول المختار يمكن فهم الروايات التي اختلف الأصحاب في قراءتها ووضع كل منها في مكانها المناسب، بل يمكن تقريب

ص: 84

صحة كثير من الأقوال في الجملة أي بلحاظ الجهة التي نظر إليها، وبعد فرز أدلة الأحكام الأولية عن أدلة الرخص.

ولسنا بعد هذا ملزمين بإدراجه تحت عنوان معروف من أنحاء التعلق، وليست أحكام الزكاة فرعية حتى نبحث عن أصل نشبهها به، وقد قيل إن أقرب الأقوال تشبيه تعلق الزكاة باستحقاق ((غرماء الميت من تركته حقهم وإن لم يكن من جنسه، فالعين حينئذٍ مورد لهذا الحق من غير أن يكون الحق متقوماً بها، فإذا دفع المالك بلالأجنبي مسمى الفريضة إليه، فهو بمنزلة ما لو وفى الوارث أو المتبرع دين الميت الذي تعلق بعد موته بتركته، فقد أدى إليه عين ما يستحق لا بدله))(1).

أقول: لكن يبقى بينهما فرق يمكن تلخيصه بأن حق الغرماء يكون متعلقاً بمجموع المال، أما الزكاة فتكون على جميع المال، وهذا تعبير دقيق يستحق التأمل أردنا به بيان ثمرة الفرق بينهما إذ أن حق الغرماء لا ينقص منه شيء إذا لم يكن مستوعباً للتركة وتلف شيء مما زاد عن حقهم، أما الزكاة فينقص منها بنسبة التالف من المال الزكوي لأن الزكاة تعلقت بجميع المال أما حق الغرماء فهو ثابت في مجموع المال.

وقد صحّحنا (صفحة 64) القول بالشركة المالية بتقريبه على هذا القول المختار وهو الحق المالي وليس بالشكل الذي عرضه القائلون به بأن يكون على نحو الشركة.

مقتضى الأصل العمومات:

ومما ينبغي الالتفات إليه أن هذا القول المختار موافق للعمومات والأصل أيضاً؛ لأن مقتضى أدلة الملكية والأصل العملي الجاري في المقام -وهو الاستصحاب- بقاء تمام العين على ملك مالكها، وغاية ما يثبت بأدلة الزكاة

ص: 85


1- مصباح الفقيه: كتاب الزكاة: 13-2/239.

وجود حق للمستحق في أموال مالك النصاب عليه دفعه منه أو من غيره، وإذا امتنع فللحاكم الشرعي أخذه من العين، من دون أن تتأثر ملكيته للعين.

وهذا الأصل مقدم على أصالة عدم وجوب الدفع من مال آخر ونحو ذلك.

تتميم: وهذا القول المختار جارٍ في الخمس أيضاً فإنه -على منهج المشهور- يتعلق بالعين على نحو الإشاعة في مستوى التكليف والإيجاب لأنه ظاهر الآيات والروايات، قال تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ» (الأنفال:49) لكن على مستوى الأداء فإن العمل على إمكان دفعه بالقيمة رخصة.

أما على منهجنا فإن هذا الاشتراك بينهما ناشئ من كون الملاك فيهما واحد وهو كونهما حقاً مالياً وضريبة مجعولة على الأموال لتكون مصدراً مالياً لتمكين الدولة الإسلامية وقادتها الشرعيين من أداء المسؤوليات العديدة.

ويشهد له أن الأصحاب أجروا جملة من أحكام الزكاة في الخمس من دون دليل معتبر سوى هذا الارتكاز لوحدة شكل تعلقهما كجواز دفع القيمة بدلاً عن العين.

وربما يُستأنس له بما دلّ على أن جعل الخمس لبني هاشم عوضاً عن حرمانهم من الزكاة(1).

ص: 86


1- راجع وسائل الشيعة: 9/268، أبواب المستحقين للزكاة، باب 29، 30 و 9/509 أبواب قسمة الخمس، باب 1.

البحث الثاني: في إجزاء دفع القيمة بدل العين

اشارة

ص: 87

ص: 88

بسم الله الرحمن الرحيم

* البحث الثاني: في إجزاء دفع القيمة بدل العين

المشهور جواز دفع القيمة بدل العين مطلقاً أي في جميع الأجناس، بل ادعي الإجماع عليه في الغلات والنقدين، وخالف البعض في الأنعام، فينبغي أن يكون البحث تارة حول زكاة الغلات والنقدين وأخرى عن زكاة الأنعام بلحاظ الأدلة الواردة فيهما فالكلام في مقامين:

(الأول) زكاة الغلات والنقدين

قال المحقق (قدس سره) في المعتبر: ((إنه قول علمائنا أجمع))(1)

((وعن التذكرة والمفاتيح: التصريح بالإجماع، كما عن ظاهر المبسوط وإيضاح النافع والرياض، نعم في كلام بعضٍ أنه حكي عن الإسكافي: المنع، مع أنه حكى عن شرح الروضة -اللمعة للأصبهاني- التصريح بموافقة الإسكافي للمشهور))(2).

واستدل عليه بصحيحة البرقي قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): هل يجوز أن أخرج عما في الحرث من الحنطة والشعير، وما يجب على الذهب، دراهم بقيمة ما يسوى؟ أم لا يجوز إلا أن يخرج من كل شيء ما فيه؟ فأجاب (عليه السلام): أيما تيسّر يُخرج)(3).

أقول: يعمَّم الجواز إلى غير الحنطة والشعير بعدم الفصل، وكذا في الدراهم وإن ورد الحصر في رواية سعيد عن عمر الآتية.

وصحيحة علي بن جعفر قال: (سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الرجل يعطي عن زكاته عن الدراهم دنانير وعن الدنانير دراهم بالقيمة،

ص: 89


1- المعتبر: 2/516.
2- جواهر الكلام: 15/126، كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري: 177.
3- وسائل الشيعة: 9/167، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 14، ح 1.

أيحل ذلك؟ قال: لا بأس به)(1).

فالقول بالإجزاء هنا لا إشكال فيه.

(الثاني) الأنعام

والمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً الإجزاء أيضاً وخالف الشيخ المفيد (قدس سره) إذ قال في المقنعة: ((ولا يجوز إخراج القيمة في زكاة الأنعام إلا أن تعدمالأسنان المخصوصة في الزكاة))(2)، ويظهر من المحقق في المعتبر الميل إليه إذ قال: ((فإذن ما ذهب إليه المفيد أحوط))(3)

خلافاً لما في الشرائع حيث لم يفرّق بين الأنعام وغيرها في الحكم بالجواز، واستجود السيد صاحب المدارك (قدس سره) مقالة المعتبر وقوّى ما ذهب إليه الشيخ المفيد(4)

(قدس سره)، وأضاف في مفتاح الكرامة ومستند النراقي ميل صاحب الذخيرة إليه(5)

ووافق صاحب الحدائق (قدس سره) المحقق في عدم تمامية الدليل عليه(6)، وقوّاه في موضع آخر وتعجب من الحر العاملي إذ عنوان الباب بجواز إخراج القيمة عن زكاة النقدين وغيرهما ولم يحتو الباب على الأنعام ونسبه إلى الغفلة لكون الشيخ الحر ((إخبارياً من أرباب النصوص الذين يحومون حولها على العموم أو الخصوص))(7).

ص: 90


1- وسائل الشيعة: 9/167، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 14، ح 2.
2- المقنعة: 253.
3- المعتبر: 2/517.
4- مدارك الأحكام: 5/92.
5- مفتاح الكرامة: 7/143، مستند الشيعة: 9/215 عن الذخيرة: 447.
6- الحدائق الناضرة: 12/72.
7- الحدائق الناضرة: 12/137.

واستدل على الإجزاء بوجوه أوردها الأصحاب في موسوعاتهم(1)

فجمعناها، ويمكن تحريرها بنقاط:-

1- الإجماع قال الشيخ (قدس سره) في الخلاف: ((يجوز إخراج القيمة في الزكوات كلها وفي الفطرة أي شيء كانت القيمة وتكون القيمة على وجه البدل، دليلنا إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون في ذلك)) وهو ظاهر الغنية والانتصار والاقتصاد والسرائر، بل قيل: ((إنه يظهر ذلك من المبسوط أيضاً ويلوح من التنقيح)).

2- ما تقدم في صحيحة البرقي عن الإمام الجواد (عليه السلام) بقوله: (أيما تيسّر يخرج) بتقريبين:

أ- ظهور الصحيحة في أن المدار على الميسور مطلقاً.

ب- ظهورها في عموم الرخصة لجميع الأجناس الزكوية: وإن كان أول السؤال خاصاً بحسب الظاهر إلا أن العرف يفهم العموم وإنَّ ذكر هذه الأجناس من باب المثال وأن السؤال لدفع توهم وجوب إخراج زكاةكل جنس من جنسه، بل إن بقية كلام السائل وقوله: ((من كل شيء)) يشهد بأن ذلك من باب التمثيل، وأن المقصود بالسؤال هو الاستفهام عن أنه هل يجب أن يخرج من كل شيء يجب فيه الزكاة ما يجب فيه بعينه، أم يجوز إخراج قيمتها من الدراهم مثلاً بمقدار ما يسوى؛ لذا لم يشك أحد في إلحاق بقية الغلات، والتعميم فيها وفي الغلات من باب واحد.

3- صحيحة علي بن جعفر المتقدمة (صفحة 89) عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) الواردة في تبديل زكاة النقدين ((بتقريب أن موردها وإن

ص: 91


1- راجع مثلاً جواهر الكلام: 15/126، مفتاح الكرامة: 7/143، كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 177، مصباح الفقيه: كتاب الزكاة: 13-2/218.

كانت زكاة الدراهم والدنانير، إلا أن العرف بمناسبة الحكم والموضوع لا يفهم خصوصية لهما، فإذا جاز إعطاء زكاة الدراهم دنانير وبالعكس جاز إعطاء زكاة غيرهما أيضاً بالدراهم أو الدنانير))(1).

4- صحيحة الحميري في قرب الإسناد عن محمد بن الوليد -وهو البجلي الخزاز الثقة- عن يونس بن يعقوب، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عيال المسلمين، أعطيهم من الزكاة فأشتري لهم منها ثياباً وطعاماً وأرى أن ذلك خير لهم؟ قال: فقال: لا بأس)(2).

بتقريب ترك الاستفصال في الزكاة الدال على العموم وظهور الرواية في أنه أخرج الزكاة بالقيمة فاشترى بها ثياباً وطعاماً أو دفع الزكاة من خلال هذه الأعيان بتوسط القيمة، وليس في أنه دفع إليهم الزكاة ثم أخذها منهم وباعها واشترى لهم إذ لا ذكر للأخذ فيها ((وذكر الإعطاء لا يصلح قرينة عليه لظهور كون المراد من قوله: ((فاشترى)) تفسير الإعطاء وبيان كيفيته، وأن إعطاءه كان بعد الشراء، ولذا كان السؤال لاحتمال المنع من التصرف، أما بعد الإعطاء والتسليم إليهم فلا إشكال في الجواز كي يصحّ السؤال عنه))(3)، مضافاً إلى أنه على هذا يصبح قول السائل: ((وأرى أن ذلك خير لهم)) لاغياً.

5- ظهور صحيحة بريد بن معاوية وغيرها في إرادة المسامحة والرفق بالمالك فلا يكلف بالشاق فيدخل فيها دفع القيمة.

6- روايات الجبر كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) التي فيها (ومن وجبت عليه حقة ولم تكن عنده وكانت عنده ابنة لبون -وهي سنّ أقل من الواجب- دفعها ودفع معها شاتين أو عشرين درهماً، ومن

ص: 92


1- تعاليق مبسوطة: 6/46.
2- وسائل الشيعة: 9/227، كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 6، ح3.
3- مستمسك العروة الوثقى: 9/84.

وجبت عليه ابنة لبون ولم تكن عنده وكانت عنده حقة -وهي سنّ أعلى من الواجب- دفعها وأعطاه المصدق شاتين أو عشرين درهماً)(1)، فإن الظاهر منها عرفاً جواز دفع القيمة بدل العين ابتداءً، أو يقال: ((إنه إذا جاز دفع بعض الزكاة بالنقد جاز دفع تمامه بذلك، وما في الرواية من دفع بنت لبون معه إنما هو من أجل التخفيف على المالك لا الإلزام عليه في قبال دفع النقدين))(2)

تومي إلى ذلك في الجملة، بل في الغنية بعد ذكر الجبر قال: وعلى هذا الحساب يؤخذ ما هو أعلى وأدنى بدرجتين أو ثلاث بدليل الإجماع المشير إليه، فإن أصحابنا لا يختلفون في جواز أخذ القيمة في الزكاة.

7- ما دل على أن الساعي مأمور ببيع الأنعام فإن المالك أحق من غيره حتى ورد في خبر(3)

محمد بن خالد عن أبي عبد الله في آداب الساعي إلى أن قال: (فإذا أخرجها فليقسمها -فليقوّمها- فيمن يريد، فإذا قامت على ثمن فإن أرادها صاحبها فهو أحق بها، وإن لم يردها فليبعها)(4).

بتقريب أن المالك إنما يكون أحق بها لو جاز له العدول إلى القيمة، أو يقال: إن المستفاد ((من مثل هذه الأخبار أنه إذا كانت قيمتها السوقية معلومة، فدفعها المالك إلى الساعي، ليس للساعي الامتناع من قبولها إذا علم أنه لا يقوّم فيمن يريد بأكثر من هذه القيمة، كما أنه يستفاد منها أن

ص: 93


1- وسائل الشيعة: 9/128، أبواب زكاة الأنعام، باب 13.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 1/382.
3- وصفها الشيخ الأنصاري (قدس سره) بالصحيحة في كتاب الزكاة: 10/179، وسيأتي تقريب وجه ذلك.
4- وسائل الشيعة: 9/132، أبواب زكاة الأنعام، باب 14، ح 3.

المقصود بأخذ الزكاة صرف ثمنها في مصارفها، وعدم تعلّق الغرض بصرف عينها في تلك المصارف))(1).

8- جملة من المصالح الموجودة في دفع القيمة وتحقق الأغراض المقصودة من تشريع الزكاة، وبتعبير معتبر: عموم العلل المستنبطة أو الواردة في النصوص ككون القيمة أنفع للفقير غالباً، وأن المقصود من الزكاة رفع الخلة وسد الحاجة ونحو ذلك مما يحصل بالقيمة والعين.

9 - إذا ثبت جواز دفع القيمة بدل العين في غير الأنعام كما تقدم فإن الجواز في الأنعام أولى؛ لأن غيرها -أي الغلات والنقدين- من المثليات ((وإذا جاز إخراج القيمة في المثليات ففي القيميات أولى))(2).

10- أولوية إخراج القيمة بدل العين إذ ربما يكون في دفع العين في بعض الأوقات ضرر على الفقير لحاجته إلى السياسة العاجز عنها ولاحتياجها إلى العلق والحفظ وفيها مؤونة عليه ولذلك فإنه يبيع بأبخس الأثمان كما هو المشاهد، بخلاف دفع القيمة من الراغب فيها، وربما صعب عليه فراقها لشدة أنسه بها وشدة تعبه عليها، فهي عنده بمكانة ليست عند غيره.

11- إلحاق زكاة الأنعام بالأجناس الزكوية الأخرى وزكاة الفطرة وشمول رواياتها لها فإن ((الفطرة وبقية الأنواع قد شاركت الأنعام في الذكر بأعيانها في الأخبار فلتكن مثلها في جواز دفع القيمة))(3).

12- ما دلّ على جواز إخراج العين من غير المال الزكوي لأن الواجب هو الجنس وليس الفرد فلو كان عنده أربعون شاة ووجب عليه إخراج شاة فإنها لا تتعين من نفس الأربعين فيمكن إخراجها من غيره، وملاك ذلك

ص: 94


1- مصباح الفقيه: 218.
2- كتاب الزكاة من موسوعة الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/179.
3- مفتاح الكرامة: 7/144.

التسهيل على المالك، وحينئذٍ ((فإن قيمة العين أولى بالجواز من إخراج مثل العين، إذ الأنعام ليست من المثليات، فالقيمة أقرب إليها من المماثل))(1).

ورد القائلون بعدم الجواز كالمحقق (قدس سره) في المعتبر بمنع الإجماع وعدم دلالة الأخبار على موضع النزاع فنرجع إلى الأصل وهو عدم الجواز، واستجوده السيد صاحب المدارك، وضعّف ما استدل به العلامة في مطولاته بالوجهين (8، 10) ثم قال: ((ومن هنا تظهر قوة ما ذهب إليه المفيد -رحمه الله- لأن إقامة غير الفريضة مقامها حكم شرعي فيتوقف على الدليل))(2)

وقال مثل ذلك المحقق صاحب الحدائق (قدس سره) كما تقدم آنفاً.

وأجاب السيد العاملي (قدس سره) بأن ((منْع المحقق للإجماع لا يصغى إليه بعد قيام الدليل على حجيته وفتوى الأصحاب بمعقده وندرة المخالف فلم يتطرق إليه وهن، وليس هو أنقص من خبرهم الذي ورد في الحنطة والشعير وإجزاء القيمة عنهما -وهي صحيحة البرقي المتقدمة-، وليس هناك إلا خبر واحد وقد عَدَّوه إلى بقية الغلات، والتمسك بعدم القول بالفصل مبني على عدم الالتفات إلى قول أبي علي -وهو الاسكافي الذي تقدم حكاية الخلاف عنه ولم يثبت-، فليكن ما نحن فيه كذلك بناءً على ندرة قول المفيد؛ فإن صحّت دعوى الإجماع المركب صحّت هنا وإلا فلا)).أقول: القياس بين الموردين مع الفارق كما هو واضح، وحجية الإجماع موهونة بمدركية وعدم تحقق صغراه.

ثم قال: ((إنه بعد ملاحظة صحة شراء المالك من الساعي في تلك الساعة التي أخذها منه وكونه أحق بها ربما كان المنع من أخذ القيمة سفاهة وعبثاً)).

أقول: هذا هو الوجه السابع وستأتي مناقشته إن شاء الله تعالى.

ص: 95


1- كتاب الزكاة من موسوعة الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/179.
2- مدارك الأحكام: 5/92.

ثم قال: ((إن قلتَ: إن الإمام (عليه السلام) كان يبعث من يأخذ هذه الأنعام مع وجودها وإلا فالقيمة، ولا كذلك الغلات.

قلتُ: إنهم (عليهم السلام) كانوا يبعثون العمال لسائر الأجناس، والفرق أن الأجناس مثلية متساوية الأجزاء مضبوطة القيمة غالباً بخلاف الأنعام فإنها قيمية غير متساوية، والقيمة منوطة بالرغبة والطلب مع كونها مشتركة بين الفقير والمالك فلا يكاد يتحقق انضباط القيمة إلا بالمفاضلة والمعاملة، ولذا كانوا يصدعون ويخيّرون، فليتأمل في السؤال فإن الجواب على ما ظهر منه. وقد اتضح الحال ولم يبق في المسألة إشكال))(1).

أقول: يمكن تلخيص استدلال القائلين بعدم الإجزاء بوجهين:-

1- إن الأصل الذي أسسته النصوص تعلق الزكاة بالأعيان، فالعدول إلى القيمة يحتاج إلى دليل معتبر، وما ذكروه في الأنعام ليس كذلك.

2- تقريب دلالة بعض الروايات -ومنها بعض ما استدل به القائلون بالإجزاء- على تعيّن الزكاة بالأعيان وتشهد لذلك سيرة المعصومين (عليهم السلام).

بيان الأول: إنه يمكن ردّ الأدلة على الإجزاء بمنع بعضها كالإجماع في الوجه الأول لوجود المخالفين ولو سلّمناه فإنه مدركي مستند إلى الأدلة، وكذا منع الوجه الحادي عشر لأنه قياس، اللهم إلا أن يقال أن مراده ما ذهب إليه المشهور وادعي عليه الإجماع من وحدة شكل تعلق الزكاة بالأجناس الزكوية وما يتفرع عليه من وحدة الأحكام المترتبة ومنها ما نحن فيه سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وكذا منع ما ورد في النقطتين 8، 10 من الاستحسان والمصالح والاعتبارات العقلية المظنونة فإنه ((لا يخفى ما في امتثال هذه التعليلات من

ص: 96


1- مفتاح الكرامة: 7/144.

الضعف وعدم الصلاحية لتأسيس الأحكام الشرعية عليها، نعم تصلح لأن تكون توجيهاً للنص وبياناً للحكمة فيه إذا ثبتت))(1).

وقد تقابل هذه المصالح بمصالح مقابلة فيقال: إن ((لإيجاب الأعيان حكمة أخرى أقلّها أن صاحب المال لأنسه بها وألفها وتربيتها ربما كانت نفسه لا تطيب بمفارقتها فيشتريها بأزيد من قيمتها))(2).وبيان الثاني: أن الروايات التي استدلوا بها إما غير ظاهرة في المطلوب كصحيحة البرقي التي هي العمدة في المقام حيث يحمل قوله: ((كل شيء)) على العناوين المذكورة في أول السؤال أي أن العموم فيه إضافي ظاهراً، وهذا قريب للفهم العرفي، كما أن أحداً لم يدّعِ التمسك بإطلاق (أيما تيسّر) للدلالة على جواز دفع أي جنس عن الزكاة ولو لم يكن من النقدين.

أو بتقريب دلالات بعض الروايات على عكس المطلوب -وهو الإجزاء- كصحيحة بريد بن معاوية فإنه لو جاز أخذ القيمة لأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) الساعي بتخييره بين القيمة والعين أولاً فإنّ دفع القيمة أيسر، بل يستفاد من هذه الصحيحة وأمثالها جريان سيرة قادة الإسلام على تعيّن الأخذ من العين.

وكأخبار الجبر فإن دفع القيمة لو كان مجزياً مطلقاً لأمر به ابتداءً من دون الأمر بدفع سنّ أعلى أو أدنى، عملاً بالمسامحة والتيسير الذي بنيت عليه الشريعة المقدسة، فهذه الأخبار تدلّ على تعيّن العين.

وكذا خبر محمد بن خالد فإن أخذ العين من المالك أولاً ثم بيعها عليه قد يدل على عدم جواز دفع القيمة وإلا لجاز له دفع القيمة ابتداءً، لكن هذه المناقشة تم دفعها بجواب صاحب مفتاح الكرامة المتقدم في الصفحة السابقة وأورد مضمونه صاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((لكن قد يقال: إن أخذ

ص: 97


1- الحدائق الناضرة: 12/138.
2- مفتاح الكرامة: 7/144.

العين للتقويم بزيادة حتى تقف على ثمن فيكون ذلك لتعرف القيمة، بل قد يدعى ظهور الخبر المزبور في ذلك، لا أن المراد أخذها زكاة ثم أخذ القيمة، إذ ذاك كأنه من اللغو والعبث، وقول علي (عليه السلام): (لا تباع الصدقة حتى تعقل) أي تؤخذ وتدرك وتقبض، محمول على ذلك أو نحوه مما لا ينافي المطلوب، ولعل الداعي إلى هذا التعرف والتقويم في الأنعام دون الغلات والنقدين عدم معروفية القيمة فيها بخلافهما، ومن هنا احتاج إلى هذا التعرف فيها بخلافهما))(1).

ومضافاً إلى كل ما تقدم من مناقشة أدلة القول بالإجزاء، فإنه ورد ما يدلّ على تعيّن دفع الزكاة من الأعيان كخبر الدعائم عن علي (عليه السلام) قال (إنه أمر أن تؤخذ الصدقة على وجهها: الإبل من الإبل، والبقر من البقر، والغنم من الغنم، والحنطة من الحنطة، والتمر من التمر)(2).

ولأجل ذلك كله احتاط البعض كصاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((لا ينبغي تركه -أي الاحتياط- في دفعها -أي القيمة- في الأنعام إذا لم يُعدَم الأسنان تخلّصاً من خلاف المفيد وغيره))(3).

وعلى أي حال فإنه يمكن تصحيح قول المشهور بإجزاء دفع القيمة بعدة تقريبات:-

1- إنه وإن أمكنت المناقشة في هذا الوجه أو ذاك مما استدل به المشهور إذا نظر إليه على نحو الاستقلال إلا أنه يتحصل الاطمئنان بالنتيجة من مجموعها خصوصاً مع رد بعض هذه المناقشات وتمامية بعض وجوه الاستدلال أو التأييد، والحجية فرع حصول الاطمئنان وليس على أساس عملية رياضية عقلية تكتفي بتراكم الاحتمالات، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وبالجملة لا يكاد يخفى على من تصفح

ص: 98


1- جواهر الكلام: 15/127-128.
2- دعائم الإسلام: 1/253.
3- جواهر الكلام: 15/129.

النصوص في الباب، وقد رزقه الله معرفة لسانهم ولحن خطابهم - ظهور اجتزاء الشارع بالقيمة لو دفعها المالك، وأنه لا يكلف دفع العين))(1).

2- أو يقال: ((إن الحق عدم الحاجة في إثبات جواز إخراج القيمة إلى التشبث بشيء من الأمور المزبورة، بل يستفاد جواز إبدالها بالقيمة بل وجوبه غالباً لمن يتولى صرفها إلى مصارفها من الأصناف الثمانية التي ستعرفها من الكتاب والسنة الآمرة بصرفها إلى هذه المصارف بدلالة الاقتضاء، حيث أن الغالب تعذّر صرف عين الفريضة أو تعسّره من غير تبديل أو تغيير، خصوصاً إذا كانت من جنس الأنعام، إلى تلك المصارف؛ إذ كيف يتمكن من صرف بنت المخاض أو بنت اللبون بعينها في عمارة المساجد وبناء القناطر ومعونة الحاج وغير ذلك من وجوه البرّ، أو في أداء مال الكتابة وفكاك الرقاب ووفاء دين الغارمين الذين لا يبلغ دينهم هذا المبلغ، أو لا يرضى صاحبه إلا بحقه!

فليس الأمر بصرف الزكاة إلى هذه الوجوه إلا كالوصية بصرف ثلث تركته من المواشي والعقار والغلات إلى استئجار العبادات، أو شيء من مثل هذه الوجوه، فإن مفادها عرفاً -بدلالة الاقتضاء وصوناً للأوامر المذكورة عن اللغوية- ليس إلا إرادة صرف ثلثه إلى هذه المصارف بأي وجه تيسّر))(2). أقول: هذا يتوقف على القول بجواز صرف المكلف زكاته في هذه المصارف العامة بنفسه وعدم الحاجة إلى توسط الحاكم الشرعي وغاية ما يدل عليه هذا التقريب جواز بيع الأعيان الزكوية لصرفها في الموارد المذكورة، نعم يمكن أن يُضم له أنه حيثما يجوز له بيع العين يجوز له دفع القيمة بدلاً عنها إذ لا فرق بين بيعها لشخص آخر أو إخراج قيمتها ابتداءً، بل قد سمعت في بداية كلامه (قدس سره) القول بوجوب دفع

ص: 99


1- جواهر الكلام: 15/128.
2- مصباح الفقيه: 220 ونفى عنه البأس في المرتقى: 1/309.

القيمة وأكده في موضع آخر من كتابه فقال: ((بل قد يجب ذلك كما لو انحصر المصرف في ما لا يمكن صرفها إليها1- إلا بالقيمة))(1).

لكن هذا التقريب ليس وجهاً جديداً غير ما أوردناه في الوجه السادس.

3- أو تصحيح الإجزاء بناءً على القول بشكل التعلق كقول بعض الأعلام: ((بناءً على تعلّق الزكاة بالعين بنحو حق الجناية كما هو الحق لا ينبغي الإشكال في جواز الإخراج بالقيمة من النقدين))(2).

وقول الآخر: ((يترتب على القول بالشركة المالية أن جواز دفع القيمة بالنقد الرائج يثبت على القاعدة حتى لو لم تدل عليه رواية خاصة))(3)

((لأن النقد متمحض في المالية، ويكون دفعه وفاءً حقيقة للمالية المستحقة))(4).

أقول: صحة هذا التقريب تتوقف على وجود دليل معتبر على شكل التعلق وليس كونه تشبيهاً من جهة الاشتراك في بعض الآثار إذ لا يثبت بهذا الاشتراك الآثار الأخرى.

4- إمكان تقريب عدة روايات لم يستدل بها المشهور، أو وردت إليها إشارة مقتضبة في كلامهم:

ص: 100


1- مصباح الفقيه: 221.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى: الزكاة: 1/307.
3- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/289.
4- نفس المصدر: 1/383.

(منها) معتبرة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) وفيها: (لأنّ عين المال الدراهم وكل ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود ذلك إلى الدراهم في الزكاة والديات)(1).

فالأصل الملحوظ في كل الأعيان ماليتها التي عبّرنا عنها في مبحث سابق بروح العين وحقيقتها أما مشخّصاتها الخارجية فهي كالقشر أو القالب والمالية تقوَّم بالعملة النقدية المتداولة.

(ومنها) ما ورد في احتسابها مقاصة بالدين ففي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن دين لي على قوم قد طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة، هل لي أن أدعه فأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: نعم)(2).وموثقة سماعة: عن الرجل يكون له الدين على رجل فقير يريد أن يعطيه من الزكاة، إلى أن قال: (فلا بأس أن يقاصه بما أراد أن يعطيه من الزكاة أو يحتسب بها)(3).

فنتمسّك بإطلاق الزكاة في هذه الروايات، وكون المقاصّة لا تتحقق إلا بعد احتساب العين بالعملة النقدية.

(ومنها) ما دل على جواز شراء لوازم تجهيز الميت منها بنفس التقريب أعلاه، ففي معتبرة الفضل بن يونس (حرمة بدن المؤمن ميتاً كحرمته حياً، فوارِ بدنه وعورته وجهّزه وكفّنه وحنّطه واحتسب بذلك من الزكاة)(4).

(ومنها) ما دل على جواز إحجاج الغير من مال الزكاة بنفس التقريب المتقدم أيضاً ففي صحيحة علي بن يقطين أنه قال لأبي الحسن الأول (عليه

ص: 101


1- وسائل الشيعة: 9/139، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح 7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 46، ح2.
3- وسائل الشيعة: 9/296، أبواب المستحقين للزكاة، باب 46، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب التكفين، باب 33، ح1.

السلام): (يكون عندي المال من الزكاة فأحجَّ به مواليّ وأقاربي؟ قال: نعم لا بأس)(1).

(ومنها) ما في الكافي بسنده عن سعيد بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: يشتري الرجل من الزكاة الثياب والسويق والدقيق والبطيخ والعنب فيقسمه؟ قال: لا يعطيهم إلا الدراهم كما أمر الله)(2).

بالتمسك بإطلاق الزكاة فيها، والتعميم إلى الدنانير بعدم القول بالفصل إجماعاً وربما لم يستدل بها الأصحاب لظهور الجواب في كون المقصود زكاة الذهب والفضة لذا أثبتها صاحب الوسائل في أبواب زكاتهما لكنها لا تأبى الحمل على كون القيمة بالعملة المتداولة هي المرجع في كل أجناس الزكاة كما في الرواية السابقة.

نعم يمكن المناقشة في إطلاق هذه الروايات لأن المولى ليس في مقام البيان من هذه الجهة بل من جهة إمكان أداء الزكاة في مثل هذه الموارد فتفيد جواز الاحتساب في الجملة.

(ومنها) الروايات الكثيرة الواردة في جواز دفع القيمة بدل العين في زكاة الفطرة بتقريب وحدة المناط كموثقة إسحاق بن عمار الصيرفي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلتُ فداك، ما تقول في الفطرة، يجوز أن أؤديها فضة بقيمة هذه الأشياء التي سميتها؟ قال: نعم، إن ذلك أنفع له، يشتري ما يريد)(3).وصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وسألته: يعطي الرجل الفطرة دراهم ثمن التمر والحنطة يكون أنفع لأهل بيت المؤمن؟ قال: لا بأس)(4).

ص: 102


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 42، ح1.
2- وسائل الشيعة: 9/168، باب 14، ح3.
3- وسائل الشيعة: 9/347، أبواب زكاة الفطرة، باب 9، ح6.
4- وسائل الشيعة: 9/347، أبواب زكاة الفطرة، باب 9، ح5.

ولا يضر في ذلك ما ورد في رواية إسحاق بن المبارك عن أبي إبراهيم (عليه السلام) (والتمر أحب إليّ)(1)، فإنها تحمل على الأفضلية في مواردها.

إن قلتَ: يرد على هذا التقريب:-

1- إنه قياس وهو واضح في عبارة صاحب مفتاح الكرامة المتقدمة (صفحة 95).

2- إن الأعيان المذكورة زكاة الفطرة هي من الغلات وهذه مما لا إشكال في جواز دفع القيمة عنها وكلامنا في الأنعام.

قلتُ:-

1- إن الاستدلال بعموم العلة والملاك المذكور فيها وهو كون النقد أنفع للفقير وليس مجرد القياس والإلحاق كما يلوح من عبارة مفتاح الكرامة.

2- نتمسك بإطلاق زكاة الفطرة الواردة في موثقة إسحاق وإن ذكر التمر والحنطة في صحيحة عمر من باب بعض المصاديق، وإن مما تؤدى به زكاة الفطرة اللحم وهو من الأنعام، فلا بأس بالاستدلال برواياتها من هذه الناحية.

وبهذا فقد تمّ لدينا أكثر من وجه يقتضي إجزاء دفع القيمة في زكاة الأنعام كالأجناس الأخرى، وبقي علينا دفع ما قيل من الموانع.

أما سيرة قادة الإسلام على أخذ الزكاة من الأعيان المستفادة من صحيحة بريد بن معاوية ونحوها فهي أعم من الحكم الإلزامي، ولا تدل على تعيّن الزكاة بالعين لأن وجود الأنعام في البوادي وقلّة العملات النقدية في تلك الأعصار حتى كانت أكثر المعاملات تكون بالمقايضة وبتبادل الأجناس فلتسهيل الأمر على الناس كان النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) يرسلون المصدقين إلى محالّ الأنعام في البوادي ليرفعوا عنهم كلفة جلبهم الأعيان الزكوية بأنفسهم إلى مقرّ النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، أو لبعض المصالح كإقامة المزاد على الأعيان الزكوية طلباً لأعلى قيمة.

ص: 103


1- وسائل الشيعة: 9/348، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب 9، ح8.

وأما خبر الدعائم (المتقدم صفحة 98) فيمكن حمله على عدم تكليف الناس ما يشق عليهم أو إكراههم على دفع النقدين ونحوهما فلا تطلبوا منهم غير أصل الواجب وهو دفع زكاة كل جنس من جنسه؛ وله أن يختار القيمة النقدية أو أي شيء يقع به الامتثال، ولذا ذكر فيه الحنطة والتمر أيضاً مع أن إجزاء دفع القيمة فيهما ثابت بلا إشكال.

وينبغي الالتفات إلى أنه بناءً على ما اخترناه من كون الزكاة حقاً مالياً وضريبة مالية مجعولة على الأجناس الزكوية ومقدّرة بالأعيان مثل الشاة في الأربعين شاة والإبل الخمسة وعشر الغلات ونحو ذلك، ولكن لا يتعين إخراجها من العين فإن دفع القيمة يكون مجزياً لأنه أحد مصاديق الامتثال، بل هو الأوفق بمتطلبات العصر.

وهنا مسائل

(الأولى) على القول بإجزاء القيمة فهل يجوز إخراجها من غير النقدين والعملة المتداولة؟

المشهور هو القول بالإجزاء مطلقاً وحكاه العلامة (قدس سره) في التذكرة عن أبي حنيفة ((لأن معاذاً كان يأخذ من أهل اليمن الثياب عوضاً عن الزكاة))(1).

استدل على الإجزاء بعدة وجوه:-

1- الإجماع المحكي فإن عبارة الشيخ (قدس سره) في الخلاف التي تقدمت (صفحة 91) صريحة في حكاية الإجماع على الإطلاق، وحكي مثله عن الغنية فلا تتعين القيمة عندهم بالدراهم والدنانير بل يجزي دفعها من أي جنس كان، وقال المحقق صاحب الحدائق (قدس سره): ((إن ظاهر كلام الأصحاب تصريحاً في مواضع وتلويحاً في أخرى بأن المراد بالقيمة هنا ما

ص: 104


1- تذكرة الفقهاء: 5/196 والرواية في صحيح البخاري: 2/144، سنن البيهقي: 4/113.

هو أعم من الدراهم والدنانير من أي جنس كان إذا أخرجه بحساب الدراهم والدنانير))(1).

وقيل: إنه ظاهر إطلاق كلمات بعضهم كقول المحقق (قدس سره) في الشرائع عن زكاة الأنعام: ((يجوز أن يخرج من غير جنس الفريضة بالقيمة السوقية ومن العين أفضل، وكذا في سائر الأجناس))(2).

2- ويستدل عليه بظاهر صحيحة قرب الإسناد المتقدمة عن يونس بن يعقوب قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عيال المسلمين، أعطيهم من الزكاة فأشتري لهم منها ثياباً وطعاماً وأرى أن ذلك خير لهم؟ قال: فقال: لا بأس)(3)، فإنها ظاهرة في كون المالك قد أبدل ما كان يجب عليه أن يخرجه من الزكاة بهذه الثياب والطعام، كما لو كان الواجب عليه شاة لكنه دفع بقيمتها جنساً آخر وهو ظاهر قوله: ((أعطيهم من الزكاة فأشتري لهم)) فكان إعطاؤه الزكاة بإخراج ما اشتراه لهم من الثياب والطعام.

3- ويمكن الاستدلال على الإجزاء بما ورد في صحيحة زرارة المتقدمة (صفحة 92) من أن مَن لم يكن عنده بنت لبون وكانت عنده بنت مخاض دفعها ومعها شاتان أو عشرون درهماً فإنها تدل على جواز دفع بعض الزكاة -وهو الفرق بين بنت اللبون وبنت المخاض- من جنس آخر -وهي الشاة- وإذا جاز في البعض جاز فيالكل.

أقول: استشكل السيد صاحب المدارك في جواز دفع القيمة من غير النقدين، قال (قدس سره): ((يمكن تطرق الإشكال إلى إخراج القيمة ما عدا النقدين)) وقال في الوافي(4) بعد نقله رواية سعيد بن عمر الآتية ((هذا

ص: 105


1- الحدائق الناضرة: 12/138 ونقله عنه في مفتاح الكرامة: 7/145.
2- شرائع الإسلام: 1/112.
3- وسائل الشيعة: 9/227، كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 6، ح3.
4- حكاه السيد محسن الحكيم (قدس سره) في مستمسك العروة الوثقى: 9/85 عن الكافي وهذا اشتباه من قلمه الشريف.

الحديث لا ينافي ما قبله -من الروايات الدالة على جواز دفع القيمة- لأن التبديل إنما يجوز بالدراهم والدنانير دون غيرهما))(1)، واستشكل جملة من المحشّين على العروة الوثقى كالسيد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد الخوئي (قدس الله أسرارهم) خلافاً للماتن الذي أطلق قوله: ((بالقيمة السوقية من النقدين أو غيرهما)). أما السيد الخميني (قدس سره) فقال: ((إخراج غير الجنس فيما عدا الدرهم والدينار محل تأمل إلا إذا كان خيراً للفقراء وإن كان الجواز لا يخلو من وجه))(2).

أقول: يمكن أن يكون منشأ الإشكال عدم وجود دليل معتبر على إجزاء دفع البدل من جنس آخر غير النقدين والعملة الرائجة بقيمتهما.

فيرد على الأول بعدم حجية مثل هذا الإجماع المنقول، وعدم ثبوت صغراه؛ لانصراف القيمة السوقية المذكورة في بعض كلمات الأصحاب إلى العملة المتداولة على نحو لا يشمل غيرهما، مع تصريح بعض الأصحاب بعدم الجواز أو الاحتياط أو التوقف فلا إجماع، وهكذا الأدلة الأخرى التي ذكروها لإجزاء دفع القيمة، فإنها لا تشمل غير العملة المتداولة.

ويرد على الثاني بظهور صحيحة يونس بن يعقوب في أكثر من معنى آخر غير المعنى الذي ذكره التقريب وسيأتي ذكر بعضها في مناقشة خبر سعيد بن عمر فتكون قاصرة عن إفادة الجواز، فقد رجحنا (صفحة 92) أن ظاهرها إخراج الزكاة وعزلها بالقيمة النقدية أو وقوع زكاة غيره كذلك بيده، والمهم أن الزكاة كانت موجودة عنده لكنه لم يعطها للعيال نقداً لعدم الاطمئنان لوضعهم المبلغ فيما هو أصلح لهم باعتبار أن العيال يطلق على النساء والأطفال الذين هم عيال على وليهم في تدبير أمور المعيشة فأراد أن يقوم هو بشراء ما هو الأنفع

ص: 106


1- الوافي: 10/75، كتاب الزكاة، باب 14: إعطاء القيمة وتبديل الفريضة، ح 3.
2- العروة الوثقى مع تعليقات الفقهاء العظام: 4/37.

لهم وجاء يستأذن الإمام (عليه السلام) في هذا التصرف ((ولذا قال: فأشتري لهم منها -أي من تلك الزكاة- لا أن يشتري لهم من ماله فيعطيه زكاةً كما هو محل الكلام، فلم يقل: فأشتري لهم من مالي،بل قال: منها -أي من الزكاة- فهو بيان لكيفية الإعطاء مما عيّنه في الزكاة، لا إعطاء نفس الزكاة))(1).

نعم لو قال إنه أخرج هذه الأمتعة من ماله زكاةً لكانت دالة على المطلوب. ولو تنزّلنا وقلنا بصحّة الاستدلال بالرواية فإن الجواز فيها مقيّد بما هو أنفع للمستحق لا مطلقاً كما يذهب إليه المستدل.

ويرد على الثالث بأن ((ما ورد في صحيح زرارة من جواز دفع الشاة بدلاً عن بعض الفريضة في نصب الإبل لا يدلّ على جواز الدفع من كل جنس آخر، لأن الشاة بنفسها فريضة في النصب الخمسة الأولى في الإبل، وهذه خصوصية لا يمكن إلغاؤها))(2)، مضافاً إلى ما قلناه من أن الشاة تعتبر يومئذٍ مالاً كالنقدين تصلح أن تكون ثمناً في المبيعات فلا يقاس بها غيرها، فهاتان خصوصيتان تمنعان من تعميم الجواز إلى غير الشاة من الأجناس الأخرى.

ويؤيد عدم إجزاء دفع القيمة من غير النقدين خبر سعيد بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: يشتري الرجل من الزكاة الثياب والسويق والدقيق والبطيخ والعنب فيقسمه؟ قال: لا يعطيهم إلا الدراهم كما أمر الله تعالى)(3).

أقول: يمكن رد الخبر بضعف السند وعدم العمل بظاهره للإجماع على إمكان الدفع بالدينار أيضاً، وإعطاءُ الدراهم من مطلق الزكاة غير واجب ضرورة ولا يجب حتى في زكاة الدراهم إجماعاً، فيحمل على كون المذكورة المقصودة في الرواية هي من الدراهم باعتبارها المال الغالب لدى الناس فأجاب الإمام (عليه

ص: 107


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/192.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 1/384.
3- وسائل الشيعة: 9/168، باب 14، ح3.

السلام) بأن المطلوب دفع الزكاة بعينها، ويناسب حينئذٍ قوله (عليه السلام): (كما أمر الله)، لكن هذا المطلوب على نحو الأفضلية وإن كان ظاهرها الوجوب لدلالة صحيحة يونس بن يعقوب على الجواز.

أو يقال: أن الرواية مجملة لأن فيها عدة محتملات:-

أ- كون الزكاة في ذمة المشتري وأنه أراد أن يدفعها من هذه الأمتعة مباشرة عوضاً عن دفع القيمة النقدية.

ب- أنها زكاته وأنه قد عزل مقداراً من ماله ليدفعه فيها ثم قدّر أن مصلحة العيال -وهم من النساء والأطفال الذين قد لا يحسنون إدارة المال وصرفه في مواضعه- فرأى أن يشتري بها أمتعة ويعطيها لهم بعنوان أداء الزكاة فجاء يستجيز الإمام (عليه السلام).ج-- إن الزكاة أعم من أن تكون للسائل أو لغيره لورودها مطلقة، والسائل لعله كان واسطة في نقلها وأراد أن يتصرف فيها بشراء هذه الحاجات فنهاه الإمام (عليه السلام) عن التصرف بالأمانة وأمره أن يوصلها نقداً كما تسلّمها.

والاستدلال بالرواية على المنع إنما يتم على المعنى الأول دون الثاني والثالث وهو مردد بينها، ولعل الأول أضعفها للتعبير في الرواية (من الزكاة) وليس (من ماله) ليدفعها زكاة مثلاً ونحوها، وإن كان من الممكن حملها على أنه يشتري من الزكاة التي في ذمته أمتعة ويدفعها زكاة وعلى أي حال فالإجمال مبطل للاستدلال.

وعلى أي حال فإن الشك في شمول أدلة جواز دفع القيمة بغير العملة النقدية المتداولة يوجب الاحتياط بالترك كما رجّح صاحب الجواهر (قدس سره).

هذا ولكن يمكن إزالة الشك بتقريب ذكره المحقق الهمداني (قدس سره) ملخّصه: أن جملة من موارد صرف الزكاة التي ذكرتها الروايات كتكفين الميت أو إحجاج الغير به أو صرفها في المصالح العامة ووجوه البر كبناء المساجد

ص: 108

والمدارس والمستشفيات وشق الطرق تقتضي جواز دفع الزكاة على شكل اللوازم التي تتطلبها هذه الموارد كمواد البناء أو الزاد والراحلة أو الكتب مثلاً، وبضميمة عدم القول بالفصل يتم القول بالجواز في الأمتعة الأخرى أو نتممه بأن للمكلف الحرية في اختيار وجه البر الذي يناسب المواد التي يريد دفعها بعنوان الزكاة.

أقول: غاية ما يثبت بهذا التقريب الجواز في مورده لا مطلقاً أي أن الجواز مقيد بكونه أنفع للمستحق وأصلح لمورد الصرف، فالقول بعدم الفصل ممنوع لوضوح الفرق كصحيحة يونس بن يعقوب التي يمكن أن يثبت بها الجواز حينما يكون التبديل ودفع الأمتعة أنفع للمستحق وفيه معونة لهم على إنجاز حاجاتهم لقصورهم، أو يكون التبديل أنسب للمورد الذي يراد صرف الزكاة فيه.

نعم لو كان الإعطاء بإذن من الإمام أو نائبه الجامع للشرائط كما لو أذن له بدفع زكاته كتباً أو أفرشة للمساجد أو مواد بناء لإنشاء مشروع خيري، ونحو ذلك فلا إشكال في الجواز لولايتهم على الأموال العامة فلهم المعاوضة عليها، فالقول بالجواز ممكن لكنه مقيد بما هو أنفع للمستحق والأحوط مراجعة الحاكم الشرعي لمعرفة الأنفع.

ولو كان ذلك التبديل بإذن الفقير فالإشكال باقٍ لعدم ولايته على هذا المال وإنما هو مصرف له فيمكنه إقباضه القيمة أولاً ثم المعاوضة على الأعيان المطلوبة، لكن صاحب الجواهر (قدس سره) قوّى الجواز أيضاً قال: ((نعم قد يكون للمنع -من دفع الزكاة بجنس آخر غير النقدين- وجه لو كان المدفوع إليه أحد الفقراء مع أن الأقوى خلافه))(1)، ومنه يُعلم النظر في إشكال السيد الحكيم (قدس سره) علىهذا التفريق بين الدفع إلى الإمام أو نائبه وبين

ص: 109


1- جواهر الكلام: 15/129.

الفقير(1)، ويمكن أن يرجع هذا إلى خلاف مبنائي حول كون الزكاة ملكاً أم حقاً للمستحق.

فالمختار في المسألة عدم جواز دفع الزكاة بجنس آخر غير النقدين إلا إذا كان أنفع للمستحق وهذا يقدّره الحاكم الشرعي.

إلحاق: عن البيان أنه قال: ((لو أخرج في الزكاة منفعة بدلاً من العين كسكنى الدار فالأقرب الصحة، وتسليمها بتسليم العين، ويحتمل المنع لأنها تحصل تدريجياً، ولو آجر الفقيرَ نفسَه أو عقارَه ثم احتسب مال الإجارة جاز وإن كان معرضاً للفسخ))(2)، لكن في المدارك ((إن جواز احتساب مال الإجارة جيد، وكونه معرضاً للفسخ لا يصلح مانعاً، أما جواز احتساب المنفعة فمشكل)).

أقول: ردّ صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((إلا أنك قد سمعت معقد إجماع الخلاف وغيره، ومقتضاه جواز دفع المنفعة عن ذلك بعد أن كان قبض العين قبضاً لها والوفاء شيء مستقل بنفسه لا دليل على اعتبار كون المدفوع عيناً فيه بل ربما ظهر من خلاف الشيخ أن اعتبار ذلك هنا من أقوال العامة))(3).

أقول: كان يمكن للقائل بالجواز أن يستدل بالروايات الدالة على جواز احتساب الزكاة مقاصّة في الدين والمورد منها لأن مبلغ الإجارة حق ثبت بالعقد في ذمة المستحق المستأجر فيمكن مقاصّته بالزكاة.

(الثانية) بعد الفراغ من القول بإجزاء دفع القيمة السوقية بدل العين، قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: ((وإن أخرج من الجنس كان أفضل)) وقد

ص: 110


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/85.
2- حكاه صاحب المدارك فيها: 5/92، وانظر البيان: 186.
3- جواهر الكلام: 15/129.

ذكر جملة منهم -كالمحقق في الشرائع وصاحب العروة الوثقى- هذه الفقرة ضمن أحكام زكاة الأنعام، فهل هذا الحكم مختص بها، أم أنه يجري في جميع الأجناس من غير خصوصية؟ كما أن بحث إجزاء دفع القيمة أو شكل تعلق الزكاة بالمال قد يذكر في زكاة الأنعام أو الغلات وهو يشمل الجميع.

والمحكي عن الأصحاب الإطلاق، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((لا ريب أن إخراج الجنس مطلقاً أفضل كما صرّح به الحلي والمحقق(1)

وغيرهما لفتواهم،ويتأكد الإخراج من الجنس في النعم خروجاً عن شبهة الخلاف فيها، بل هو فيها الأحوط))(2).

أقول: تضمن كلامه (قدس سره) وجهين من الاستدلال عليه بفتوى الأصحاب، والخروج من شبهة الخلاف في الأنعام، وحجية الأول كما ترى صغرى وكبرى، والثاني غاية ما يدل عليه أنه أحوط، وكونه أحوط لا يعني أنه أفضل.

وقُرِّب الاستدلال في عدد من المصادر برواية سعيد بن عمر المتقدمة (صفحة 102) بعد حمل الأمر فيها على الاستحباب وكون الزكاة المقصودة في الرواية من الدراهم بقرينة قوله (عليه السلام): (كما أمر الله) أي عين الفريضة التي تعلق بها التكليف أولاً وبالذات قبل ورود الرخصة في الأداء بالقيمة، فيثبت استحباب دفع نفس العين في الدراهم ثم يُجرَّد المورد عن الخصوصية ويعمم الحكم إلى سائر الأجناس، ويكون الأفضل دفع زكاة كل جنس من جنسه الذي هو الحكم الأولي في الزكاة باعتبار تعلق الزكاة بالأعيان كما ذكرنا سابقاً.

ويرد على التقريب أن هذا المعنى المحتمل ليس هو الأظهر كما تقدم (صفحة 108) في مناقشة الرواية مضافاً إلى أن التجريد عن الخصوصية قابل للنقاش للفرق بين النقد المتداول وبقية الأعيان الزكوية.

ص: 111


1- السرائر: 1/451، المختصر النافع: 56، وفي الشرائع أيضاً.
2- مستند الشيعة: 9/216.

ويمكن أن نضيف لهم الاستدلال بوجوه:

أولها: رواية إسحاق بن المبارك المتقدمة الواردة في زكاة الفطرة وفيها (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن صدقة الفطرة، يجعل قيمتها فضة؟ قال: لا بأس أن يجعلها فضة، والتمر أحبّ إلي)(1)

بالتجريد عن خصوصية التمر إلى بقية الأجناس الزكوية ومن زكاة الفطرة إلى الزكاة.

ويمكن أن يناقش التقريب:-

1- من جهة السند فإن إسحاق مجهول ويمكن توثيقه برواية صفوان عنه عند من يعتمد على هذا المبنى.

2- من جهة خصوصية التمر ففي صحيحة هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام) انه قال: (التمر في الفطرة أفضل من غيره لأنه أسرع منفعة، وذلك أنه إذا وقع في يد صاحبه أكل منه)(2).

3- خصوصية الفطرة عن الزكاة ففي نفس صحيحة هشام عن الصادق (عليه السلام) قال: (ونزلت الزكاة وليس للناس أموال وإنما كانت الفطرة).

4- من المحتمل أن تكون هذه الأفضلية إضافية بلحاظ أنواع الطعام الأخرى التي تؤدى بها الفطرة فلا تشمل القيمة ويشهد له ما في صحيحة هشام المتقدمة وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في صدقة الفطرة قال: (التمر أحب ذلك إليّ -يعني الحنطة والشعير والزبيب-)(3)

وروايات أخرى في نفس الباب.

لكن رواية إسحاق بن المبارك المتقدمة صريحة بالأفضلية على الدراهم، وروى الشيح الطوسي بسنده عن زيد الشحام قال: (قال أبو عبد الله (عليه

ص: 112


1- وسائل الشيعة: 9/350، أبواب زكاة الفطرة، باب 10، ح2.
2- وسائل الشيعة: 9/351، أبواب زكاة الفطرة، باب 10، ح9.
3- وسائل الشيعة: 9/349، أبواب زكاة الفطرة، باب 10، ح1.

السلام): لئن أعطي صاعاً من تمر أحب إلي من أن أعطي صاعاً من ذهب في الفطرة)(1)

ورواه المفيد في المقنعة مرسلاً.

ورواية إسحاق ضعيفة، ورواية الشحام يحتمل فيها أن لفظ (ذهب) استعمله الراوي بنفس معنى (تبر) الوارد في النص المماثل الذي رواه الشيخ الصدوق في الفقيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لئن أعطي في الفطرة صاعاً من تمر أحبّ إلي من أن أعطي صاعاً من تبر)(2).

لكن في هامش النسخة المخطوطة للكتاب (من بُرّ) أي الحنطة فنرجع إلى كون الأفضلية إضافية.

ثانيها: ما ورد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر قال: (إن الله يحب إطعام الطعام وإراقة الدماء) وفي رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل يحب إهراق الدماء وإطعام الطعام)(3)

بتقريب أن هذا الاستحباب يقتضي استحباب دفع عين الأنعام لا قيمتها لكونه مقدمة له ومحققاً لموضوعه، وقد يبعَّد هذا التقريب وأن الروايتين أجنبيتان عن المورد ولا ملازمة بين الاستحبابين.

ثالثها: ما تقدم من التقريبات الدالة على لزوم دفع الزكاة من الأعيان، وبشهادة صحيحة بريد بن معاوية المتقدمة وأمثالها الدالة على أن سيرة قادة الإسلام جرت على إرسال الجباة لقبض العين من المكلفين فإن لم نقل بتعين دفع العين بما دل على جواز دفع القيمة فإنها تدل على أفضليته واستحبابه.

ويرد عليه:-

ص: 113


1- وسائل الشيعة: 9/349، أبواب زكاة الفطرة، باب 10، ح6.
2- وسائل الشيعة: 9/349، أبواب زكاة الفطرة، باب 10، ح7.
3- وسائل الشيعة: 16/331، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 16، ح 6.

1- إن هذه السيرة كانت في بداية التكليف قبل أن ترد الرخصة بدفع القيمة ولذا قلنا أن الأصل في دفع الزكاة أن يكون من الأعيان.

2- ما ذكرناه من أن هذه السيرة كانت في زمان صدر الإسلام حيث العملة النقدية شحيحة وكانت بعض المعاملات تجري على نحو المقايضة وكانت نفس الأعيان الزكوية أموالاً متداولة صالحة لأن تكون أثماناً.

3- إن هذا التقريب مبني على كون الوجوب مركباً من جنس وفصل فعند سقوط الفصل برخصة دفع القيمة يبقى أصل الرجحان والمطلوبية ويرد عليه أن الوجوب بسيط.

إذن لم يتم لدينا دليل على أفضلية دفع العين، نعم دفع العين أحوط؛ لأن الأصل في الزكاة العين، ولوجود المخالف، لكن هذا الاحتياط لا وجه له بعد قيام الدليل على إجزاء دفع القيمة، ولو سلّمنا وجود مسوّغ للاحتياط كما لو كان للخروج من خلاف الشيخ المفيد (قدس سره) -كما عن صاحب الجواهر-فالاحتياط لا يقتضي كونه أفضل، بل إننا قد نجد ما يؤيد رجحان دفع القيمة مثل:

أ- ما تقدم (صفحة 103) في صحيحة عمر بن يزيد وموثقة إسحاق بن عمار حيث قال (عليه السلام): (ذلك أنفع له؛ يشتري ما يريد)، فنتمسك بعموم الملاك.

ب- إن بعض مصارف الزكاة كالمصالح العامة لا معنى لدفع العين فيها كما تقدم حتى قال المحقق الهمداني بوجوب دفع القيمة أحياناً.

فالقول المختار: هو مراعاة ما هو الأنفع للمستحق والأصلح لحاله جمعاً بين النصوص وتمسكاً بعموم التعليل (إن ذلك أنفع له)، فقد يكون الأنفع بذل العين كما لو أريد توزيع اللحم على المحرومين منه أو الغلات الغذائية في زمان قحط وحاجة إلى الطعام.

ص: 114

وقد يكون بذل النقد أفضل لوجود احتياجات تسدّها العملة النقدية سواء للفقير أو للمصالح العامة، وقد يكون دفع نفس العين مضراً للفقير لعدم أهليته للتصرف فيها وهكذا.

والملفت عدم تعليق أي من المحشّين على العروة الوثقى -وهم خمسة عشر- على قول المصنف: ((وإن الإخراج من العين أفضل))(1)، وربما كان ذلك لأن الحكم استحبابي.

(الثالثة) قد تتغير قيمة العين المطلوب إخراجها في الزكاة من حين تعلق الوجوب بالمال الزكوي إلى حين إخراجها، وقد يكون المالك في بلد غير بلد النصاب الزكوي وتختلف قيمة العين بين البلدين، فما هي القيمة التي يجب إخراجها.قال السيد (قدس سره) في العروة الوثقى: ((المدار في القيمة على وقت الأداء، سواء كانت العين موجودة أو تالفة لا وقت الوجوب، ثم المدار على قيمة بلد الإخراج إن كانت العين تالفة وإن كانت موجودة فالظاهر أن المدار على قيمة البلد التي هي فيه))(2).

أقول: تضمنت المسألة عدة أحكام تندرج ضمن عنوانين بحسب الزمان والمكان، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: الاختلاف بحسب الزمان: وهنا اختار السيد (قدس سره) أن المدار في القيمة على وقت الأداء مطلقاً سواء كانت العين موجودة أو تالفة، ولا بد أنه يريد بالعين: المال الزكوي لا عين الزكاة لأن الزكاة لا تتعين في المال الزكوي فيمكن إخراجها من غيره.

ص: 115


1- العروة الوثقى مع حواشي العلماء العظام: 4/38.
2- فصل: في زكاة الأنعام، المسألة

وتتوقف صحة ما اختاره صاحب العروة (قدس سره) على تمامية أمرين:-

1- إن الوجوب متعلق بالعين وإن الواجب مقدَّر بالعين كالشاة في الأربعين شاة أو الإبل الخمسة، وأن القيمة جعلت مجزية حين الأداء على نحو البدل، وأن المبادلة تحصل عند الأداء والإخراج؛ لأن الرخصة واردة في الإخراج بالقيمة وليس في أصل التكليف لذا فصّلنا بينهما في القول المختار (صفحة 83).

2- إن العين الواجب إخراجها لا تتعين في نفس المال الزكوي فيمكن إخراجها من غيره أي أن المطلوب جنس الشاة وليس الفرد المنتشر أو المشاع في نفس المال الزكوي، ولذا يكون أداؤها من غير النصاب على وجه الأصالة لا البدلية.

والأمران تامّان فهذا القول صحيح ابتداءً لأن الوجوب متعلق بالأعيان المذكورة، والواجب يبقى مقدَّراً بالعين الخارجية كالشاة في الأربعين شاة والخمسة من الإبل، والمالك ضامن لها حتى أدائها بنفس العين أو ببدلها في وقت الأداء، فالملحوظ القيمة الفعلية حين الأداء الذي هو وقت المبادلة بالعين ولا عبرة باختلاف القيم من حين الوجوب.

ولا يؤثر تلف العين في الحكم إذا كان على نحو لا تسقط معه الفريضة لأن تلف النصاب لا يوجب تلف الفريضة لأن الواجب لا يتعين في نفس النصاب كما قدمنا في الأمر الأول.

وإنما قلنا ابتداءً لأنه كان على المصنّف (قدس سره) أن يقيّد هذا الإطلاق بما لو عزل القيمة حال وجود العين فإنها تتعين حينئذٍ سواء ارتفع السوق أو انخفض أما إذا لم يعزل فالمدار يوم الأداء.

وقد ذهب المشهور إلى جواز العزل وفي التذكرة والمنتهى استحبابه، وفي المقنعة والنهاية وجوبه، وقد التزم السيد صاحب العروة (قدس سره) بهذا المبنى

ص: 116

في موضع أخر قال (قدس سره): ((يجوز للمالك عزل الزكاة وإفرازها من العين أو منمال آخر مع عدم المستحق بل مع وجوده أيضاً على الأقوى وفائدته صيرورة المعزول ملكاً للمستحق قهراً حتى لا يشاركه المالك عند التلف ويكون أمانة في يده وحينئذٍ لا يضمنه إلا مع التفريط، أو التأخير مع وجود المستحق))(1).

أقول: فإذا عزل القيمة تعيّنت الزكاة بها ولا يبقى موضوع للحديث عن اختلاف قيمة العين، أما إذا عزل الزكاة عيناً وبقيت العين إلى حين الأداء وجب دفعها لتعين الزكاة بها ((ولا يجوز التصرف فيه ولا التبديل بالقيمة، لأن دليل التقويم منصرف عن المقام، فإنه ناظر إلى جعل القيمة زكاة لا جعل الزكاة قيمة))(2).

أما إذا تلفت العين المعزولة على نحو موجب للضمان فإنه يجب عليه دفع المثل إن كان المعزول مثلياً والقيمة إن كان قيمياً بحسب المختار في القيمة المضمونة مما يُذكر في كتاب المكاسب.

أقول: هذا التفصيل يصحّ الأخذ به لوجود الدليل على جواز عزل العين أو القيمة بعنوان الزكاة لأي غرض كجواز التصرف بالباقي بل هو مستحب لما فيه من تحقيق الامتثال الفوري من دون انتظار وجود المستحق تلبية لقوله تعالى: «فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ» (المائدة: 48) وقوله تعالى: «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ» (آل عمران:133) ونحو ذلك، أو الذي ذكره المصنف -وقد ورد في الروايات- وغير ذلك من الأغراض.

وقد قيل بالاستحباب أو الوجوب؛ لقول الإمام الصادق (عليه السلام) الآتي: (إذا حال الحول فأخرجها من مالك) وهو مردود لأن الأمر هنا في مقام توهم الحظر أو أنه إرشادي لعدم ضمان الزكاة.

وعلى أي حال فإذا عزلها تعيّنت الزكاة بها، وقد دلّت روايات عديدة على جواز عزل الزكاة وتعيّنها في المعزول:

ص: 117


1- العروة الوثقى: فصل زكاة الغلات، المسألة 34.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/197.

(منها) موثقة يونس بن يعقوب قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: زكاتي تحلّ عليّ في شهر أيصلح لي أن أحبس منها شيئاً مخافة أن يجيئني من يسألني يكون عندي عدة؟ فقال: إذا حال الحول فأخرجها من مالك، لا تخلطها بشيء، ثم اعطها كيف شئت، قال: قلت: فإن أنا كتبتها وأثبتُّها يستقيم لي؟ قال: نعم لا يضرّك)(1)

فإن قوله (عليه السلام): (فأخرجها من مالك) يشمل بإطلاقه إخراج الزكاة من العين المفروضة أو من العملة النقدية بعد ثبوت جواز الأداء بها، ولشمول لفظ الزكاة للقيمة وهذا وارد في روايات عديدة كقوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: (أويؤدي زكاتها للبائع)(2)

وفي زكاة القرض: (إن كان الذي أقرضه يؤدي زكاته فلا زكاة عليه)(3).

(ومنها) صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (في الرجل يخرج زكاته فيقسّم بعضها ويبقى بعض يلتمس لها المواضع فيكون بين أوله وآخره ثلاثة أشهر، قال: لا بأس)(4) بنفس التقريب السابق.

(ومنها) صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا أخرج الرجل الزكاة من ماله، ثم سمّاها لقوم فضاعت أو أرسل بها إليهم فضاعت فلا شيء عليه)(5).

ومثلها صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (إذا أخرجها من ماله فذهبت ولم يسمّها لأحد فقد برأ منها)(6).

ص: 118


1- وسائل الشيعة: 9/308، كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح2.
2- وسائل الشيعة: أبواب زكاة الأنعام، باب 12، ح1.
3- وسائل الشيعة: أبواب ما تجب عليه الزكاة، باب 7، ح2.
4- وسائل الشيعة: أبواب المستحقين للزكاة، باب 53، ح1.
5- وسائل الشيعة: 9/286، أبواب المستحقين للزكاة، باب 39، ح3.
6- وسائل الشيعة: 9/286، أبواب المستحقين للزكاة، باب 39، ح4.

فهما دالتان على تعيّن المعزول في كونه زكاة وتحقق الإخراج به وصيرورته بالعزل ملكاً للمستحق، وإلا فلا وجه لعدم ضمان المالك بتلفه وضياعه.

(ومنها) خبر علي بن أبي أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الزكاة تجب عليّ في موضع لا يمكنني أن أؤديها، قال: اعزلها، فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها الربح، وإن تويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك شيء، فإن لم تعزلها فاتجرت بها في جملة مالك، فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها)(1).

وممن صرّح بهذا التفصيل السيد الخوئي (قدس سره) في تعليقته على العروة، وقوّاه الشيخ المنتظري(2)

(قدس سره)، وفي الحقيقة فإن هذا التفصيل موافق لمباني السيد اليزدي (قدس سره) وغيره أيضاً، ولعلهم أطلقوا كلامهم هنا لأنهم لم يلاحظوا هذا الفرض.

ويوجد تفصيل آخر أوسع من هذا حيث اكتفى العلامة (قدس سره) في التذكرة بما لو قوّمها المالك على نفسه فتشتغل ذمته بتلك القيمة من دون ملاحظة تغير القيمة السوقية، قال (قدس سره): ((تذنيب: إنما تعتبر القيمة وقت الإخراج إن لم يقوم الزكاةعلى نفسه، ولو قومها وضمن القيمة ثم زاد السوق أو انخفض قبل الإخراج فالوجه: وجوب ما ضمنه خاصة دون الزائد والناقص وإن كان قد فرط بالتأخير حتى انخفض السوق أو ارتفع، أما لو لم يقوم ثم ارتفع السوق أو انخفض أخرج القيمة؟ وقت الإخراج))(3).

وقيل في توجيه كلامه (قدس سره): ((إنه بالضمان يستقر القيمة في الذمة، ولذا يجوز للمالك التصرف في مجموع النصاب، نعم لو لم يف بالضمان،

ص: 119


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح3.
2- كتاب الزكاة، 1/219.
3- تذكرة الفقهاء: 5/198.

رجع الساعي إلى العين، فسقوطها متزلزل لا يستقر إلا بالإبراء))(1).

أقول: علّق سيد المدارك بعد نقله ما في التذكرة ((وفي تعيّن القيمة بمجرد التقويم نظر))(2).

وقال صاحب الحدائق (قدس سره): ((المسألة لا تخلو من توقف وإن كان ما ذكره العلامة أقرب لأنه متى كان التقويم جائزاً والضمان صحيحاً فإن المستقر في الذمة هو القيمة. وقول السيد (قدس سره) أن وقت الإخراج هو وقت الانتقال إلى القيمة ممنوع في هذه الصورة بل الانتقال من حين التقويم والضمان))(3).

وردّ المحقق الهمداني على تفصيل العلامة وتقريب صاحب الحدائق بقوله: ((لا دليل على جواز التقويم وصحة الضمان بالمعنى المزبور، وإنما الثابت بالنص والإجماع جواز تأدية الزكاة بالقيمة السوقية، وهذا لا يقتضي إلا جواز إخراج القيمة حال التأدية.

وأما الضمان المسوِّغ للتصرف في مجموع النصاب، فليس معناه الالتزام بدفع ما هي القيمة لها في ذلك الوقت، بل الالتزام بتأديتها على ما شُرِّعت، أي إخراج الفريضة أو قيمتها من مال آخر))(4).

أقول: فالقول بصحة الضمان وكفايته في جواز التصرف في جميع النصاب لموثقة يونس بن يعقوب لا يلزم منه تعيّن المضمون زكاة؛ لذا فالتفصيل المذكور في المسألة يتطلب تقديم دليل على الإذن للمالك بتقويم الزكاة بالعملة النقدية وتثبيت هذه القيمة في ذمته حتى يسددها للمستحقين، ولا يغني عن هذا ما تقدم من الأدلة على جواز الدفع بالقيمة لأنها ناظرة إلى الأداء والإيصال إلى المستحق

ص: 120


1- حكاه في مصباح الفقيه: 13-2/225.
2- مدارك الأحكام: 5/92.
3- الحدائق الناضرة: 12/139.
4- مصباح الفقيه: 13-2/225.

أو عزلها إلى حين دفعها لا نقلها إلى الذمة فيحتاج إلى دليل جديد.

ومال إلى هذا التفصيل المحقق العراقي قال (قدس سره): ((لو كان المالك ولياً على التقويم فقوّم العين في بدء زمان الوجوب على نفسه كان استحقاق الفقير إلى الأبد هو هذا المقدار الذي استقر في ذمة المالك بتقويمه فلا يستحق غير ذلك أبداً، ويمكن استفادة ذلك مما دلّ على جواز الاحتساب))(1).

ويمكن تقريب الاستدلال على هذا التفصيل بروايتين:

إحداهما: معتبرة يونس بن يعقوب المتقدمة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): زكاتي تحل علي في شهر، أيصلح لي أن أحبس منها شيئاً مخافة أن يجيئني من يسألني؟ فقال: إذا حال الحول فأخرجها من مالك، لا تخلطها بشيء، ثم أعطها كيف شئت، قال: قلت: فإن أنا كتبتها وأثبتّها، يستقيم لي؟ قال: لا يضرك)(2).

قال الشيخ المنتظري (قدس سره) في مسألة جواز عزل الزكاة: ((الظاهر من ذيل الحديث عدم تعيّن العزل، وكفاية الكتابة والضبط، فيكون الحديث دليلاً على كفاية تضمين المالك أيضاً في جواز تصرفه في المال))(3).

أقول: لكنه (قدس سره) لم يذكر هذا التقريب في مسألتنا فنفى وجود دليل على تفصيل العلامة (قدس سره) من دون أن يشير إلى هذا التقريب هنا ولعله لقصور التقريب عن إفادة المطلوب لاحتياجه إلى خطوة أخرى، فإن ذيل الرواية ناظر إلى ضمان المالك على نفسه مقدار الزكاة بإثباتها في كتاب مقدمة لجواز التصرف بالمال الزكوي وهذا الضمان يكون بنفس ما تعلقت به الزكاة وما قدّرت به من الأعيان، وصحة هذا الضمان بمقتضى المعتبرة لا يلزم منه كفاية تقويم العين وتثبيت القيمة في الذمة.

ص: 121


1- شرح تبصرة المتعلمين: 2/428.
2- وسائل الشيعة: 9/308، كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح2.
3- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/175، زكاة الغلات، المسألة (34).

لكن بعض الأعلام المعاصرين أخذ بهذا التقريب للاستدلال على تفصيل العلامة وأن الرواية تدل على جعل مثل هذه الولاية للمالك وأجاب عن هذا الإشكال قائلاً: ((هذا خلاف إطلاق الرواية من الأمر بالإخراج، فإنه لا إشكال في جواز إخراج الزكاة بالقيمة وتعيين النقود زكاةً ثم التصرف بها بالإعطاء كيف شاء كما هو ظاهر صدر الرواية، فعندما يسأل ثانياً عن إمكان ضمانها وإثباتها على نفسه يكون ظاهراً في إمكان ضمان نفس ما كان يجوز تعيينه زكاةً بالإطلاق، بل بالانصراف إلى ضمان الدرهم والدينار، فإنه الغالب في مثل هذه الموارد كما لا يخفى))(1).

أقول: السؤال الثاني عن الضمان منفصل عن السؤال الأول عن الإخراج لوضوح أن الكتابة والإثبات ليست من مصاديق الإخراج، فإطلاق المخرج في الزكاة لا يلزم منه إطلاق المضمون أما الانصراف المذكور فغير ظاهر، والمطمأن به إثبات الزكاة بالنحو الذي اشتغلت به الذمة كما قلنا.ثانيهما: ما استدل به بعض الأعلام المعاصرين على قرب قول العلامة، وهي صحيحة(2)

عبد الرحمن بن الحجاج عن محمد بن خالد أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصدقة، إلى أن قال: (فإذا أخرجها فليقومها في من يريد، فإذا قامت على ثمن فإن أرادها صاحبها فهو أحق بها، وإن لم يردها فليبعها)(3).

قال: ((فإن ظاهرها أن المالك أحق بشراء الصدقة، أي له الولاية على شرائها لنفسه، ولا يحق للمصدق منعه عنها.

ص: 122


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 1/393.
2- بناء على أن الظاهر كون عبد الرحمن بن الحجاج حاضراً في المجلس وسمع محمد بن خالد والي المدينة يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) وليس أنه سمع الرواية من الوالي ولو لعدم جريان العادة برواية الولاة للأحاديث ونحو ذلك.
3- وسائل الشيعة: 9/132، أبواب زكاة الأنعام، باب 14، ح3.

وهذا منضماً إلى ما ورد في الروايات الأخرى، ومنها الصحيحة المتقدمة من ثبوت الولاية للمالك على دفع الزكاة للمستحق كالمصدّق قد يدلّ عرفاً على أن للمالك أن يعيّن الزكاة ثم يشتريها لنفسه بمال خارجي أو ذمّي فيضمنه للمستحق حتى يجده فيعطيه القيمة))(1).

أقول: لا يخفى ما في التقريب من بعد، فإن غاية ما يدل عليه التقريب ولاية المالك على دفع القيمة بدل العين حين التأدية كما قدمنا في حينها. فالعمل بتفصيل العلامة (قدس سره) مشكل لعدم الدليل عليه، لذا رأينا عدم أخذ المشهور به.

نعم يمكن تقريبه في ضوء رواية ابن أبي حمزة المتقدمة معتضدة بالروايات الصحيحة معها حيث يستفاد منها أن الأمر بالإخراج مطلقاً من العين أو القيمة إرشادي لكي لا يضمن الزكاة إذا تلفت، وإلا فيمكنه إبقاؤها في ماله إن شاء أن يتحمل الضمان، فإذا ضممنا إلى هذه ما دلّ على تخيير المالك في إخراج القيمة بدل العين خرجنا بنتيجة جواز تقويم القيمة على نفسه وإبقاء هذه القيمة ضمن أمواله من دون إخراج للمتاجرة بها ونحوها متحملاً الضمان، بحسب رواية ابن أبي حمزة.

ومضافاً إلى ذلك فإننا نقدم هنا أطروحتين لتوجيه هذا التفصيل على مقتضى القواعد:

أولاهما: بناءً على ما ذكروا في كتاب القرض من جواز تبديل ما في الذمة بجنس آخر مع التراضي، كما لو كان مديناً بدنانير فأراد تحويلها إلى دراهم مع بقائها في الذمة، فنطبّقه هنا ونقول بجواز تحويل ما اشتغلت به الذمة من أعيان إلى عملة نقدية بأن يقوّمها على نفسه، أما التراضي بين الطرفين فهو حاصل بعد ثبوت ولاية المالك على تعيين ما تؤدّى به الزكاة من العين أو القيمة.

ص: 123


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 1/394.

نعم لا يصدق العزل حينئذٍ فلا تترتب آثاره.ثانيهما: بناءً على ما تقدم في البحث السابق من وحدة الزكاة والخمس من ناحية هذه الأحكام، وقد جرت سيرة المتشرعة في الخمس على تقويم المكلف ما اشتغلت به ذمته من خمس الأعيان وتثبيت القيمة في ذمته ثم التسديد منها بحسب الميسرة فيجوز مثله في الزكاة.

وعلى أي حال فإن تفصيل العلامة (قدس سره) يواجه أكثر من مشكلة علينا أن ندقق في كفاية هذه التقريبات لحلها، منها:-

1- إن حق الفقير تعلق أولاً وبالذات بالعين فأي زيادة تحصل في قيمتها يكون للمستحق نصيب منها، فعندما يقوِّم المالك الزكاة على نفسه من دون عزل وإخراج نشك في سقوط حق المستحق من هذه الزيادة فنستصحب استحقاقه، وغاية ما دلّت عليه معتبرة يونس بن يعقوب كفاية ضمان الزكاة للتصرف في المال.

2- إنه مخالف للاحتياط مع عدم وجود الدليل المؤمِّن على نحو يفيد الاطمئنان.

3- إن المال الزكوي لو تلف من غير تفريط فمقتضى الأدلة سقوط الزكاة به وهو شامل للمورد فتحميل المكلف الزكاة لمجرد تقويمها على نفسه فيه مؤونة زائدة بعد ما علمنا أن غاية ما يفيده الضمان جواز التصرف بالمال الزكوي.

وبهذا نكون قد حرّرنا إلى الآن ثلاثة أقوال في المسألة:

الأول: المدار قيمة وقت الأداء مطلقاً وهو مختار صاحب العروة.

الثاني: التفصيل بين ما لو عزل القيمة فالزكاة هي هذه القيمة المعزولة ولا يلاحظ اختلاف قيمة العين الزكوية، وإن لم يعزلها فقيمة وقت الأداء، وهو مختار السيد الخوئي وبعض المحشّين على العروة (قدس الله أسرارهم جميعاً) بل غيرهم أيضاً وإن لم يصرّحوا.

الثالث: التفصيل بين ما لو قوّم العين المقدرة للزكاة على نفسه فتشتغل ذمته بهذه القيمة بغضّ النظر عن زيادة أو نقصان قيمة العين، وإلا فالمدار قيمة

ص: 124

وقت الأداء، وهو مختار العلامة (قدس سره) في التذكرة واستقربه المحقق صاحب الحدائق (قدس سره).

ونستمر الآن ببيان الأقوال المحتملة في المسألة إن شاء الله تعالى.

الرابع: أن يكون المدار وقت الوجوب مطلقاً

قال السيد الحكيم (قدس سره): ((لم أقف على حكايته عن أحد))(1)، وهو بذلك يعرّض بنفي المصنف المشعر بوجود قائل به، إلا أنه يمكن تقريبه على بعض الأقوال التي قيلت في شكل تعلق الزكاة بالمال الزكوي إذ يمكن:-

أ- على مبنى تعلق الزكاة بالذمة لا بالعين الذي قال به بعض أصحابنا في الجملة -كالشهيد في البيان والمحقق النراقي في المستند- كما تقدم في البحث السابق وتقريبه ((أن يقال أن الزكاة لا تتعلق بالعين أصلاً بل هي من قبيل اشتغالالذمة كما نُسب إلى بعض العامة ففي وقت التعلق والوجوب تشتغل ذمة المكلف بمالية الفريضة)).

ب- على القول بتعلق الزكاة بالعين على نحو الشركة المالية، وذلك بأن ((يقال أنها تتعلق بالعين ولكن على نحو تعلّق حق الزوجة بالأبنية والأشجار، فالمجعول للفقير ونحوه مالية الشاة لا عينها ولذا يجوز أدائها بالقيمة، وحيث أن مالية الشاة مثلاً مختلفة باختلاف الأزمنة فمقتضى الإطلاق المقامي- أعني عدم التعرض في الدليل لتعيين واحد من تلك القيم- الحمل على قيمة زمان الوجوب إذ تعيين غيرها يحتاج إلى قرينة))(2).

ويرد عليهما:-

1- منع المبنيين في نحو تعلق الزكاة.

ص: 125


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/86.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/218-219.

2- أن القيمة والمالية لم تعتبر في نفسها بل بما أنها قيمة ومالية لهذه الشاة وقائمة بها فتزيد بزيادة السوق وتنقص بنقصها إلى أن يخرج المكلف عن عهدة الشاة عيناً أو قيمة.

هذا ولكن يمكن إعادة صياغة الوجهين بما يدفع هذا الرد، فيقرَّب الوجه الأول ((بدعوى أن المستفاد -بعد ملاحظة ما دل على جواز التبديل، وملاحظة تعلق الزكاة بالعين- كون الثابت في الذمة هو الجامع بين العين والقيمة، بحيث يكون التخيير بينهما عقلياً، وحينئذٍ فوقت اشتغال الذمة بالجامع إنما هو زمان وجوب الزكاة، ولازم ذلك اعتبار قيمة وقت الوجوب، كما لا يخفى.

ويردّه أولاً: أن المستفاد من ملاحظة النصوص الدالة على جواز التبديل هو أن دفع القيمة من باب البدلية عن الفريضة، لا أن الفريضة هو الجامع بين نفس العين وبين القيمة من النقدين ليكون الاعتبار بقيمة العين وقت الوجوب، بل الواجب هو إخراج العين، ولكنه يجوز له تبديل العين- متى ما أراد إخراجها -بما يساوي قيمتها- آنذاك- من النقدين.

وثانياً: إنه -مع التسليم بالمبنى المذكور- فلا نسلم باستلزامه لاعتبار القيمة وقت الوجوب، بل القيمة التي تكون أحد طرفي التخيير هو كلي القيمة ولذلك كان له أن يعطي قيمة شاة تسوى بأربعة دراهم، أو قيمة شاة تسوى بخمسة دراهم، وعليه، فله أن يطبقها على قيمة يوم الوجوب، كما يكون له تطبيقها على قيمة يوم الأداء))(1).

والوجه الثاني يمكن أن تعاد صياغته أيضاً بناءً على أن الشركة في المالية يراد بها المالية في الذمة فتشتغل الذمة بالمالية زمن الوجوب، والتغير الحاصل في القيمة يكون في ملك المالك لا المستحق، وهذا أحد الأقوال في مسألة إرث الزوجة الذي مثّلوا به للمورد هنا، ويصحّ بناءً عليه تعيّن القيمة وقت الوجوب ويكون حينئذٍ نقضاً على القائلين بالشركة المالية لأنهم يلتزمون بدفع القيمة وقت

ص: 126


1- المرتقى: 1/313.

الأداء، لذا فإنهمتخلصاً من إشكال التهافت فسّروا مختارهم في المسألتين -تعلق الزكاة على نحو الشركة في المالية وإرث الزوجة- بأن ((المالية المتعلقة للزكاة إنما هي المالية الخارجية والتي تزداد بزيادة قيمة المال أيضاً))(1)

أي ليس المالية في الذمة.

أقول: رددنا في البحث الأول على هذا التفسير بأن مرجعه الشركة في العين لكن في ماليتها لا مشخّصاتها الخارجية فترد عليه نقوض الشركة بالعين.

الخامس: التفصيل بين كون العين موجودة فوقت الأداء أو تالفة فوقت التلف أو أعلى القيم ونحو ذلك مما قيل في باب الضمانات.

قال السيد الحكيم (قدس سره) في التعليق على إطلاق المصنف (قدس سره): ((إذا لم يكن التلف مستوجباً للضمان فلا شيء عليه، وإن كان مستوجباً للضمان، وكانت الفريضة قيمية تكون المسألة من صغريات مسألة الضمان بالتلف، وأن القيمة المضمون بها قيمة يوم التلف، أو يوم الأداء أو أعلى القيمة أو قيمة يوم الضمان أو غير ذلك، وإن كانت الفريضة مثلية فالقيمة قيمة يوم الأداء، لظاهر النصوص المتقدمة))(2).

ويرد عليه:-

أ- ما ذكرناه من أن تلف النصاب لا يوجب سقوط الفريضة حتى تضمن بقيمة يوم التلف أو غيره لعدم تعيّنها في النصاب وإنما الواجب جنس الشاة أو غيرها من الأعيان الزكوية وإن اختلفت قيمتها فلا يجري عليها قواعد باب الضمان، أو قل إن المقام من قبيل ضمان المثلي لا القيمي.

ص: 127


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 1/390.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/86.

ب- ولو تنزلنا فإن ما ذكره (قدس سره) يختص بالقيميات كالأنعام وتبقى المثليات كالغلات والنقدين على حالها من الإطلاق فالوجه أخص من المدعى.

نعم يكون لكلام السيد الحكيم (قدس سره) وجه على ما ذكرناه في حال عزل الزكاة وكانت العين المعزولة قيمية وهو ما لم يذكره في هذه المسألة.

المقام الثاني: بلحاظ بلد الإخراج: واختار السيد (قدس سره) في ما نقلناه (صفحة 116) عن العروة قيمة بلد الإخراج إن كانت العين تالفة، وقيمة البلد التي هي فيه إن كانت موجودة.

ويبدو أن هذا التفصيل لا وجه له بعد الذي قلناه في الأمرين (صفحة 110) من أن المطلوب في العين الزكوية جنسها ولا يتعين إخراجها من نفس المال الزكوي فيجوز للمالك إخراجها من أي مال وفي أي بلد كان، وهو ما التزم (قدس سره) به فيموضع آخر، قال: ((ولا يتعين عليه أن يدفع الزكاة من النصاب بل له أن يدفع شاة أخرى، سواء كانت من ذلك البلد أو غيره، وإن كانت أدون قيمة من أفراد ما في النصاب))(1)، وهذا يؤدي إلى جواز دفع القيمة في بلد الإخراج سواء كانت العين موجودة أو تالفة لأن الزكاة تبقى مقدرة بالعين المخصوصة كالشاة في الأربعين حتى لو تلف النصاب كله، والمبادلة تحصل حين الأداء، فالصحيح كون المدار قيمة بلد الإخراج مطلقاً.

ونعني ببلد الإخراج بلد الأداء والامتثال وليس خصوص بلد المالك فقد يخرجها المالك بنفسه فتكون القيمة في بلده وقد يوكل شخصاً في بلد آخر ليخرج الزكاة فالقيمة قيمة العين المطلوبة في ذلك البلد.

وقيل في توجيه تفصيل المصنف (قدس سره) بأنه ((مبني على التعلق بالعين على نحو الجزء المشاع، فإذا كانت موجودة فقيمتها المقدار المساوي لماليتها، حتى بلحاظ خصوصية المكان الذي هي فيه، فلا بد من ملاحظة مكان

ص: 128


1- العروة الوثقى، الشرط الأول من شروط زكاة الأنعام، المسألة

الوجود. أما إذا كانت تالفة فليس لها وجود إلا في الذمة، وذلك الوجود الذمي قيمته تختلف باختلاف مكان التقويم، وهو مكان الإخراج والأداء))(1).

أقول: يرد على هذا التقريب:-

1- إن هذا المبنى غير تام كما قدمنا حتى عند القائل بالشركة على نحو الإشاعة فإنه لا يلزم بإخراج الزكاة من نفس النصاب، ولذا فرّقنا في بيان الرأي المختار في البحث السابق بين ما يتعلق به الوجوب فيمكن أن يكون على نحو الإشاعة، وبين ما يمتثل به الواجب فلا تجب لوازمها.

2- أن نتيجته قول آخر غير تفصيل المصنّف وهو كون المدار قيمة بلد المال الزكوي مطلقاً؛ لأنه إذا اشترط الإخراج من نفس النصاب فلا بد من ملاحظة القيمة المتعارفة لأفراد النصاب عندما يخرج الزكاة من خارجه فلا بد من أن يكون بمالية بلد المال الزكوي وتكون المدار قيمة المال الزكوي مطلقاً.

فهذه ثلاثة أقوال في المسألة:-

1- قيمة بلد الإخراج مطلقاً.

2- تفصيل المصنف.

3- قيمة بلد المال الزكوي مطلقاً.

وعلى أي حال لا وجه لتفصيل صاحب العروة.

وينبغي الالتفات إلى أن هذا كله فيما إذا لم يعزل العين للزكاة، فإذا عزلها تعيّنت بها، وإذا تلفت على نحو موجب للضمان، ضمن المثل إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً، ويلاحظ في القيمة ما قيل في باب الضمانات كما قدمنا، وحينئذٍ يكون المضمون قيمة مكان العين التالفة على عكس ما أفاده المصنف لكن كلامه (قدس سره) غير ناظر إلى فرض عزل الزكاة، لذا فقول المحقق الشيخ ضياء الدين العراقي في تعليقته على العروة: ((ومن المحتمل قريباً

ص: 129


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/86.

ملاحظة بلد التلف على المشهور منكون المدار على قيمة يومه))(1)

أجنبي عن الموضوع لعدم تعيّن الزكاة في النصاب وما ذكره يصحّ في الزكاة المعزولة، وكذا بعض التعليقات الأخرى التي لاحظت هذا المعنى الذي لم يكن مقصوداً في كلام المصنف (قدس سره).

نعم احتاط جملة من المعلقين -كالنائيني وكاشف الغطاء والبروجردي والخوئي (قدس الله أرواحهم جميعاً)- بإخراج أعلى القيمتين إذا اختلفت بين بلد العين وبلد الإخراج، ولعل وجهه ما ذكرناه في نهاية المقام الأول من أن حق الفقير قد تعلق بالعين فعندما زادت قيمة المال الزكوي زاد حق الفقير، فعندما تكون القيمة في بلد الإخراج أقل نشك في تحقق الامتثال بأدائها فنستصحب استحقاقه.

أو أننا نحتمل ((عدم الإطلاق لروايات كون الجنس فريضة -كصحيح البرقي- لمثل هذه الحالة، فلا يجزي دفع الجنس أيضاً في ذلك البلد، كما أنه في فرض كون قيمة بلد الإخراج أعلى من بلد المال الإطلاق لدليل الفريضة تام فيه فلا بد من دفع قيمته إذا أريد التبديل))(2).

ص: 130


1- العروة الوثقى مع تعليقات المراجع العظام: 4/39.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 1/392.

مسألتان تطبيقيتان على شكل تعلق الزكاة بالمال

مسألتان تطبيقيتان على شكل تعلق الزكاة بالمال(1)

المسألة الأولى: لو باع المال الزكوي قبل إخراج الزكاة

قال الشهيد (قدس سره) في البيان موضحاً اختلاف الأقوال في هذه المسألة تبعاً للاختلاف في شكل التعلق ((إذا باع بعد الوجوب نفذ في قدر نصيبه قولاً واحداً، وفي قدر الفرض يبنى على ما سلف، فعلى الشركة يبطل البيع فيه ويتخير المشتري الجاهل لتبعّض الصفقة، وعلى القول بالذمة يصحّ البيع قطعاً، وعلى الرهن يبطل البيع وعلى الجناية يكون البيع التزاماً بالزكاة))(2) وقال مثله العلامة في التذكرة وغيرهما.

وقال السيد صاحب العروة مفرّعاً على ما قوّاه من شكل تعلق الزكاة على نحو الكلي في المعين: ((وحينئذٍ فلو باع قبل أداء الزكاة بعض النصاب صحّ إذا كان مقدار الزكاة باقياً عنده، بخلاف ما إذا باع الكل فإنه بالنسبة إلى مقدار الزكاة يكون فضولياً محتاجاً إلى إجازة الحاكم)).

أقول: هذا التفريع صحيح على مبنى السيد (قدس سره) لأن نصيب المستحق لا يتعيّن في جزء من النصاب فللمالك أن يتصرف فيه ما دام الباقي وافياً بمقدار الزكاة، نعم إذا تجاوز إلى مقدار الزكاة -كالعشر في الغلات أو الشاة في الأربعين- كان البيع فضولياً لأنه تجاوز على حق الغير.

وهذا التفريع يصحّ على جملة من المباني الأخرى في شكل تعلق الزكاة:

(منها) على فرض كونه على نحو حق الرهانة، إذ لا يقتضي الحق رهن أكثر من مقدار الدين أي مقدار الزكاة.

ص: 131


1- أخّرناهما بعد بحث إجزاء القيمة لورود الإشارة في هاتين المسألتين لمطالب ذلك البحث.
2- البيان، للشهيد الأول: 146.

(ومنها) على القول بتعلقه كديّة جناية العبد في رقبته، إذ الحق تعلق بنفس العين فينتقل فيها بانتقالها ويمكن فك العين من الحق المتعلق بها من قبل أي يد وضعت عليها غاية الأمر أن للمشتري الخيار إذا كان جاهلاً أو مطالبة البائع بدفع الزكاة كما هو مقتضى صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله البصري(1) التي تكررت.

ولا يصح هذا التفريع على بعض المباني الأخرى كالقول بالإشاعة في العين الخارجية إذ مقتضى قواعد الشركة عدم جواز تصرف المالك بكل أجزاء النصاب بأي نحو من أنحاء التصرفات حتى يستأذن لوجود حق للفقير في كل جزء منه، فلو باع بعض النصاب كان البيع فضولياً في نسبة الزكاة منه، ويمكن التمسك بإطلاق صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله لإثبات هذا المعنى لشمولها حالة تعدد البيوع وتضمن كلبيع جزءاً من النصاب ويكون مقتضى الصحيحة حينئذٍ الرجوع إلى كل منهم لأخذ الزكاة بمقدار الحصة التي باعها، وإمضاء البيع في الباقي.

أما على مبنى الشركة في المالية فقد ألحقه السيد الخوئي (قدس سره) بالكلي في المعين فقال إن الجواز على مقتضى القاعدة ((لعدم استحقاق الفقير إلا الكلي أو حصة معينة من المالية قابلة للانطباق على أي فرد شاءه المالك، فتسعة أعشار العين -مثلاً- ملك له فله التصرف إلى أن يبقى العشر الباقي))(2).

أقول: هذا الفهم للشركة في المالية لا يوافقه فيها جميع القائلين بها؛ لأن الشركة في المالية عندهم تكون على نحو الإشاعة في تمام مالية العين كالإشاعة في العين

ص: 132


1- وسائل الشيعة: 9/127، أبواب زكاة الأنعام، باب 12، ح1، قال عبد الرحمن: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل لم يزكِّ إبله أو شاته عامين فباعها على من اشتراها أن يزكيها لما مضى؟ قال (عليه السلام): نعم يؤخذ منه زكاتها ويتبع بها البائع أو يؤدي زكاتها البائع).
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/391.

الخارجية والفرق أن الأولى لا تتعلق بالخصوصيات الخارجية للعين كالغلات أو الأنعام وإنما في ماليتها فقط، وثمرته عدم جواز بيع بعض النصاب ككله إلا بإذن.

قال بعض الأعلام المعاصرين: ((المالية أيضاً يتصور فيها المالية في الذمة أو في الخارج بنحو الكلي من المال المعين الخارجي أو بنحو الإشاعة، فمن هذه الناحية لا فرق بين الشركة في المالية والشركة في العين من حيث إنهما معاً على نحو الإشاعة؛ لأنها معنى الشركة، وإنما الفرق بينهما من ناحية متعلق الشركة وأنه العين الخارجية بخصوصياتها العينية أو أنه العين بما هي مال، وهذا أثره جواز إعطاء المال المحض وهو النقد الرائج بدلاً عنها لا أكثر من ذلك.

وعليه لا يجوز تصرف المالك قبل دفع الزكاة أو عزله حتى في بعض العين الزكوية ببيع ونحوه، ويكون بيعه فضولياً بالنسبة إلى حق الزكاة فيه وبمقداره، فلا ينفذ إلا بإجازة الحاكم الشرعي))(1).

أقول: هذا كله على مستوى الوجوب وتعلق التكليف وما يرتبط بحق المستحقين وثبوت الاستحقاق في المال، وقد قلنا عند بيان الرأي المختار أن الأمر على مستوى الأداء والامتثال وما يرتبط بطريقة تنفيذ المكلف فيه سعة لورود الدليل الشرعي ببعض الرخص، فهل يوجد مثل هذه السعة في المقام؟

ونقول في الجواب: قد ثبت بالأدلة الصحيحة أن المالك إذا عزل مقدار الزكاة ولو من مال آخر جاز له التصرف في المال الزكوي كله، بل اكتفى العلامة (قدس سره) بتقويم الزكاة على نفسه وضمان هذه القيمة بدلالة ذيل معتبرة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه (قلت: فإن أنا كتبتها وأثبتّها، يستقيم لي؟ قال: لا يضرُّك)(2).

ص: 133


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/291.
2- وسائل الشيعة: 9/308، كتاب الزكاة، أبواب المستحقين، باب 52، ح2.

وللسيد الخوئي (قدس سره) كلام هنا قال فيه: ((لا يخفى أن مقتضى القاعدة على القول بالإشاعة عدم جواز التصرف في العين إلا مع التراضي فيحتاج التصرف في المقام إلى دليل بالخصوص، وقد ثبت ذلك بمقتضى السيرة العملية ونصوص العزل وما دلّ على أن للمالك ولاية التطبيق لأنه الشريك الأعظم))(1).

بيان: كأن هذه الولاية للمالك تقتضي ولايته على التصرف في بعض المال الزكوي حتى على القول بالإشاعة.

أقول: السيرة العملية لا تدل على الجواز لرجحان استنادها إلى غفلة أو عصيان الناس كما في الخمس، وولاية المالك على اختيار ما يتحقق به الامتثال أو عزل مقدار الزكاة لا يلزم منه جواز التصرف في المال الزكوي قبل أداء الزكاة أو عزلها، أما جواز عزل الزكاة فقد قدّمنا تأثيره في المسألة، فالرخصة في التصرف بالمال الزكوي تدور مداره لا أزيد.

قال المصنّف (قدس سره): ((فإنه بالنسبة إلى مقدار الزكاة يكون فضولياً محتاجاً إلى إجازة الحاكم)).

أقول: فإن أجاز صحّ البيع لأن الحاكم الشرعي ولي أمر المستحقين، وحينئذٍ يكون للزكاة جزء من الثمن بمقدارها، لكن هذه الحاجة لا تتحقق في جميع أشكال التعلق فعلى القول بتعلقها على نحو الدية في رقبة العبد وأنها قائمة بنفس العين من دون إضافتها للمالك يصحّ البيع بلا إجازة لعدم كونه تصرّفاً في موضوع الحق، ولبقاء الموضوع ولكن في ملك شخص آخر فيتبع المستحق العين أينما انتقلت.

وينبغي الالتفات إلى أن صحة بيع ما زاد من النصاب الزكوي عن مقدار الزكاة على القول بالكلي في المعين وغيره تبقى متزلزلة يُراعى فيها إخراج الزكاة من باقي النصاب أو من مال آخر، فلو لم يفعل لتلف المال الباقي أو أي

ص: 134


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/390.

سبب آخر، أُخذت الزكاة من ذلك الجزء المباع ورجع البيع فضولياً في مقدارها، وهذا هو مفاد صحيحة عبد الرحمن المتقدمة ومقتضى القاعدة في المسألة، ولذا أرشد الإمام (عليه السلام) في أكثر من رواية إلى إخراج الزكاة من المال ولو بعزلها إذا حلّ وقت الوجوب كقوله (عليه السلام) في معتبرة يونس بن يعقوب: (إذا حال الحول فأخرجها من مالك لا تخلطها بشيء)(1)

وذلك لإسقاط الضمان عنه إذا تلفت بلا تعدّ أو تفريط كما تقدم في البحث السابق.

ثم قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((ولا يكفي عزمه على الأداء من غيره في استقرار البيع على الأحوط)).

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا نعرف وجهاً للتوقّف والاحتياط، بل ينبغي الجزم بالعدم كما هو الشأن في كلّ مال مشترك فيه بين شخصين أو أشخاص بأيّ معنى كانت الشركة، فإنّ من الضروري أنّ العزم على الأداء من الخارج لا يسوّغالتصرّف بتمامه من غير مراجعة الشريك حتّى لو كان صادقاً في عزمه جازماً على الأداء بعد مدّة قليلة كنصف ساعة مثلاً. اللّهمّ إلاّ أن يثبت في المقام أنّ للمالك ولاية النقل من العين إلى الذمّة كما له الولاية على التطبيق، إلاّ أنّ دون إثباته خرط القتاد، إذ لم يدلّ عليه أيّ دليل قطّ كما هو أوضح من أن يخفى))(2).

أقول: هذا النفي مبالغ فيه ويردّ باحتمال الاحتياط حلاً ونقضاً، أما حلاً فلدلالة معتبرة يونس بن يعقوب على أن ضمان الزكاة ولو من مالٍ آخر يجوز التصرف في المال الزكوي، بل تقدم في البحث السابق قول للعلامة (قدس سره) استقربه صاحب الحدائق حاصله أن المالك إذا قوّم الزكاة على نفسه جاز له التصرف في كل المال واشتغلت ذمته بالقيمة المقدَّرة حتى لو زادت قيمة العين أو نقصت، واستدل عليه بوجوه عديدة منها ذيل معتبرة يونس بن يعقوب قال: (فإن أنا

ص: 135


1- وسائل الشيعة: 9/308، كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح2.
2- موسوعة السيد الخوئي: 23/390.

كتبتها وأثبتّها يستقيم لي؟ قال (عليه السلام): نعم لا يضرّك)(1)، ولذا ذهب جماعة إلى كفاية الضمان وفسّروه بأنه العزم على الأداء، قال العلامة (قدس سره) في القواعد: ((العاشر: ولو باع الثمرة بعد الخرص والضمان صحّ البيع ولو كان قبله بطل في حصة الفقراء ما لم يضمن القيمة)) وعلّق عليه صاحب مفتاح الكرامة: ((والمراد بالضمان العزم على أداء الزكاة من غير ما تعلق به التصرف وإن كان من نفس النصاب))(2)، وهذا القول وإن لم نأخذ به فإنه يصلح منشأً للاحتياط.

وأما نقضاً فلما نقلناه عنه (قدس سره) قبل قليل من وجود الدليل الخاص على جواز التصرف ببعض المال الزكوي على خلاف القاعدة إذا قصد دفعها من باقي المال، وهو ولاية المالك على التطبيق باعتباره الشريك الأعظم، ونتمّمه بأن نقول: ((فكذلك يمكن أن يقال: إن مقتضى ولايته على دفع الزكاة من خارج المال الزكوي بالقيمة أو حتى من جنس آخر -كما هو مختار الماتن- ولايته على التصرف في جميع المال الزكوي بقصد دفعها بالقيمة أو من جنس آخر.

ولهذا ذكر صاحب العروة (قدس سره) في حاشيته على المكاسب في مسألة من باع شيئاً ثم ملك: (أن الشركة في المقام ليست كسائر المقامات؛ وذلك لمكان جواز إعطاء القيمة بدل العين، بل إعطاء الفريضة من غير النصاب فيمكن أن يقال: إذا باع المالك النصاب فإن كان مع قصد الإعطاء من موضع آخر فالبيع صحيح لازم، وإن كان لا بقصده فهو التزام فعلي بدفعها من موضع آخر بمعنى أنه يحكم عليه ذلك قهراً عليه من حيث كون الأمر بيده ولا يحكم ببطلان ما قابل مقدار الزكاة.

ص: 136


1- راجع تفصيل القول والاستدلال عليه (صفحة 120).
2- مفتاح الكرامة: 7/189.

غاية الأمر أنه إذا لم يؤدّها بعد ذلك يجوز للحاكم أو الساعي أو الفقير تتبع العين كما على القول بكونه من باب تعلّق حق الرهانة))(1)(2).

أقول: كلامه (قدس سره) في العروة رجوع عن السعة التي ذكرها في حاشيته على المكاسب حيث صحح البيع حتى مع عدم قصد دفع الزكاة من مال آخر باعتباره التزاماً عملياً بذلك.

وفي هذا حسن ظن كبير بالمسلمين كافة إذ لم يحتمل في حقهم العصيان أو الجهل.

نعم تقدّم (صفحة 133) عن الشهيد في البيان أنه على القول بتعلق الزكاة كحق الجناية في رقبة العبد يكون بيع كل المال الزكوي كاشفاً عن اختياره الدفع من ماله وتحرير رقبة العبد من الجناية، ففي مثل هذه الحالة يمكن تصور الالتزام الفعلي.

ص: 137


1- حاشية المكاسب للسيد اليزدي: 1/163.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/294.

المسألة الثانية: لو اتجر بالمال قبل أداء الزكاة

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((إذا اتجر بالمال الذي فيه الزكاة قبل أدائها، يكون الربح للفقراء بالنسبة، وإن خسر يكون خسرانها عليه))(1).

أقول: ينبغي التنبيه أولاً لظروف المسألة وفروضها قبل اختيار الحكم وهي:-

1- مقتضى القاعدة اختلاف الأقوال في المسألة بحسب اختلاف الأقوال في شكل تعلق الزكاة فعلى القول المشهور بالشركة على نحو الإشاعة فإنه لا يفرّق في المسألة بين الاتجار بتمام المال أو ببعضه إذ التصرف بكل جزء يتوقف على الإجازة لكون البيع فضولياً في كل جزء.

أما على القول بالكلي في المعين -وهو مختار المصنف- فإن الاتجار بما لا يصل إلى مقدار الزكاة لا ضير فيه كما في المسألة السابقة ويكون الربح كله للمالك ففرض المسألة عنده (قدس سره) مبني على الاتجار بالمال المتضمن لمقدار الزكاة.

أما على القول بكونه على نحو حق الرهانة فإن صحة المعاملة الفضولية وإن توقفت على الإجازة، إلا أن الربح والضمان يختصان بالمالك لعدم شراكة المستحق في العين أو ماليتها.

وأما بناءً على كون التعلق من قبيل حق الجناية في رقبة العبد فقد قيل(2) إن المعاملة لا تكون فضولية أصلاً ولا تحتاج إلى إجازة ويكون الربح للمالك والخسارة عليه، وعليه دفع الزكاة أو يدفعها من بيده العين ويرجع بها على المالك وهو ما أفادته صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد

ص: 138


1- العروة الوثقى: زكاة الغلات، المسألة (33).
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى: 3/32.

الله التي استدل بها على هذا النحو من التعلق، وسيأتي بيان ما يستفاد منها إن شاء الله تعالى.

2- إن الاتجار لا بد أن يفترض وقوعه بنفس العين التي لم يؤدّ زكاتها بأن تكون مثمناً أو ثمناً، أما إذا وقع البيع كلياً وطبّقه المالك على هذا الفرد فإن التجارة وقعت للمالك وأن الربح كله للمالك، نعم لا تبرأ ذمته بأداء هذا الفرد إلا بالإجازة أو يبدله بفرد آخر.

3- لم يقيّد المصنّف الاتجار بكونه لنفسه أو بالشركة بينه وبين المستحقين فيصحّ الفضولي فيهما معاً بالإجازة اللاحقة وهو المستفاد من إطلاق أدلة الصحة، بل ظاهر بعضها كصحيحة(1)

محمد بن قيس الواردة في من باع وليدة أبيه كون البيع لنفسه.

4- إن فرض المسألة لا بد أن يتعلق بالمال الزكوي الذي تكون الزكاة من جنسه، أما ما لا يكون كذلك كالنصب الخمسة الأولى من الإبل وغيرها فالمسألة لا تشمله ويكون الربح كله للمالك، وربما يدخل هذا الفرض في قول المصنّف: ((بالمال الذي فيه الزكاة)) أما هذه الأصناف الزكوية فالزكاة تخرج من غيرها.

5- تقدم منه (قدس سره) في المسألة السابقة كون المعاملة بالنسبة إلى مقدار الزكاة فضولية تتوقف صحتها على إجازة الحاكم الشرعي فإن أجازه

ص: 139


1- عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قضى في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه غائب فاشتراها رجل فولدت منه غلاماً، ثم قدم سيدها الأول فخاصم سيدها الأخير فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال: خذ وليدتك وابنها، فناشده المشتري، فقال: خذ ابنه -يعني الذي باع الوليدة- حتى ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البَيِّع -تطلق على البائع والمشتري- الابن قال أبوه: أرسل ابني فقال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيد الوليدة الأول أجاز بيع ابنه) (وسائل الشيعة: 21/203، أبواب نكاح العبيد والإماء، باب 88، ح1).

الحاكم الشرعي صح وانتقلت الزكاة إلى حصتها من الثمن بما فيه من الربح والخسارة، وإلا أخذ الزكاة من المبيع ورجع المشتري بحصتها من الثمن وللمشتري على البائع خيار تبعّض الصفقة إن كان جاهلاً، لكنه (قدس سره) جزم هنا بكون الربح للمستحق وليس عليه من الخسارة وهذا مخالف لما تقتضيه القاعدة في كلامه السابق.

لذا أشكل جملة من الأعلام على إطلاق عبارة المصنف وإنَّ في كلامه تهافتاً(1).

قال بعضهم: ((أما ما تقتضيه القاعدة فهو صيرورة المعاملة فضولاً، ويتوقف الحكم بالصحة على صدور الإجازة من الفقير، فإذا أجاز كان الربح1- والخسارة بينهما من دون أن تختص الخسارة بأحدهما ويشتركان في الربح وهذا ظاهر))(2).

وفي ضوء ما تقدم ينشأ السؤال عن وجه التزام المصنف (قدس سره) بهذا التفصيل؟ وما الدليل عليه؟.

وما يمكن أن يُستدل به أمور:

الأول: رواية الكافي بسنده عن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الزكاة تجب عليّ في موضع لا يمكنني أن أؤديها؟ قال: اعزلها، فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها الربح، وإن تويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك شيء، فإن لم تعزلها فاتجرت بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها)(3).

ص: 140


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/192، موسوعة السيد الخوئي: 23/400، كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 2/171، حواشي العروة الوثقى: 4/89.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى: 3/32.
3- وسائل الشيعة: 9/307، أبواب المستحقين للزكاة، باب 52، ح3.

أقول: دلالة الرواية على المطلوب واضحة سواء اتجر بالزكاة نفسها بعد عزلها كما في الصدر أو اتجر بها ضمن ماله قبل أدائها كما في الذيل، لكن الرواية ضعيفة لوجود إرسال فيها ولجهالة معلى بن عبيد، أما ابن أبي حمزة فقيل أنه الثمالي وليس البطائني لأن الأخير ((لم يعهد نقله عن الإمام الباقر عليه السلام))(1)

وهو من سهو القلم لأن السند صريح بأن ابن أبي حمزة نقلها عن أبيه عن الإمام الباقر (عليه السلام) وليس عن الإمام مباشرة، فلا موضوع لهذا الإشكال، نعم يمكن أن يكون الثمالي لأن البطائني لم تثبت روايته عن أبيه.

فالرواية ضعيفة سنداً من عدة جهات مضافاً إلى ما قيل من عدم عمل الأصحاب بها حتى يُجبر به ضعفها.

وأجيب عن الأول بأن يقال: ((إن ما في ديباجة الكافي من قوله: ((بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل)) يستفاد منه اعتماد الكليني على ما جمع في الكافي، وهو لا يقلّ عن تصحيح مثل الكشي والنجاشي والشيخ))(2).أقول: إذا تم هذا أو أي وجه لقبول الرواية كالذوق والوجدان أو غير ذلك مما سيأتي فلا حاجة إلى جبر ضعفها بعمل الأصحاب مع ما قيل من إن ((ظاهر عبائر بعضهم كابن فهد الحلي في كتابه المحرَّر في الفقه الإفتاء بهذا المضمون))(3).

الثاني: ورود نفس الحكم في الاتجار بمال اليتيم، فيتعدى إلى المقام بوحدة المناط والملاك فيهما وهي حاجة الموردين -اليتيم ومستحق الزكاة- إلى الولاية ورعاية المصلحة وكون المالين أمانة في يد الغير ولازمه الحفظ للمالك.

ص: 141


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/400، كتاب الزكاة للسيد الهاشمي: 2/315.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 2/172.
3- كتاب الزكاة للسيد الهاشمي: 2/315 عن الينابيع الفقهية: 29/366.

وقد دلّ على هذا الحكم في مال اليتيم عدة روايات:

كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في مال اليتيم، عليه زكاة؟ فقال: إذا كان موضوعاً فليس عليه زكاة، فإذا عملت به فأنت له ضامن والربح لليتيم)(1).

وصحيحة زرارة وبكير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ليس على مال اليتيم زكاة إلا أن يُتّجر به، فإن اتجر به ففيه الزكاة، والربح لليتيم، وعلى التاجر ضمان المال. قال: وقد رويت رُخصةٌ في أن يُجعل الربح بينهما)(2).

ورواية أبي الربيع قال: (سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون في يديه مال لأخ له يتيم وهو وصيه، أيصلح له أن يعمل به؟ قال: نعم كما يعمل بمال غيره والربح بينهما، قال: قلت: فهل عليه ضمان؟ قال: لا، إذا كان ناظرا له)(3).

أقول: يدل ذيل الرواية على المتاجر بمال اليتيم إن لم يكن مأذوناً -كالوصي والناظر- ولم تكن له ولاية على الاتجار بالمال فإنه يكون ضامناً للخسارة ويكون لليتيم من الربح بالنسبة.

ونوقش هذا الوجه بأنه ((أشبه بالاستحسان، إذ كيف نحرز أن علة هذا الحكم ومناطه ما ذُكر))(4).

ويرد عليه:-

1- إن وحدة المناط قريبة كما قدمنا، وسنذكر في الوجوه الآتية أن وحدة الحكم في الموضوعين وغيرهما على طبق القاعدة.

ص: 142


1- وسائل الشيعة: 9/83، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح1.
2- وسائل الشيعة: 9/89، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 2، ح8.
3- وسائل الشيعة: 9/89، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 2، ح6.
4- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/317.

2- يمكن تقريب هذه الوحدة بوجه آخر بناءً على ما قدمناه في البحث الأول من وحدة أحكام الخمس والزكاة في مثل هذه التفاصيل، وقد عدّ الإمام مستحق الخمس من مصاديق اليتيم في معتبرة أبي بصير قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: من أكل من مال اليتيم درهماً ونحن اليتيم)(1)، فمستحق الزكاة كمستحق الخمس يلحقه هذا الحكم للاتجار بماله.

ويمكن مناقشته بأن هذا الإطلاق معنوي كإطلاقه على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ووصفهم بأنهم أيتام آل محمد (صلى الله عليه وآله) باعتبار انقطاعهم عن إمامهم وأبيهم المعنوي وهذا لا يستلزم جريان أحكام اليتيم المعروف عليهم.

الثالث: ((نكتة عقلائية مقبولة)) حاصلها ((إن المال الذي يكون بيد شخص ويكون المنظور والمقصود منه لصاحبه ماليته لا عينيته لو اتجر به الشخص بغير أمر من قبل المالك فإنه من حيث إنه لم يكن بأمره وإذنه يكون ضامناً له إذا خسر ولكنه إذا ربح فالربح يكون له إما كله إذا لم يكن شرط بينهما أو سهمه إذا كان هناك شرط حصة له كما في المضاربة، وكأن كون المال بيده مضموناً لمالكه بما هو مال لا بخصوصيته العينية يجعل الربح التجاري له نمواً عرفاً وعقلائياً يستحقه صاحبه بالتبع أو أنه راضٍ بالاتجار المذكور بالفحوى ولكن مع عدم تحمل الخسارة))(2).

أقول: على هذا فالروايات المتقدمة في الاتجار بمال اليتيم تكون على القاعدة وفق هذه النكتة العقلائية وليس مفادها أحكاماً تعبدية صرفة لتختص بمورد الروايات الواردة من مال اليتيم الذي يتّجر به.

ص: 143


1- وسائل الشيعة: 9/483، كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 1، ح1.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/318-319.

ويعزّز كون هذه الأحكام على القاعدة ما ورد في التاجر المضارب إذا خالف شرط صاحب المال واتجر بماله في غير ما اشترط في عقد المضاربة فإنه يكون ضامناً للمال إذا حصل تلف أو خسران، وإذا ربح فإنه بينهما بحسب الشرط.

ومن تلك الروايات صحيحة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل دفع إلى رجل مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربة فذهب فاشترى به غير الذي أمره قال: هو ضامن والربح بينهما على ما شرط)(1).وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن الرجل يعطى المال مضاربة، وينهى أن يخرج به فخرج؟ قال: يضمن المال والربح بينهما)(2).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه قال في الرجل يعطي المال فيقول له: ائت أرض كذا وكذا، ولا تجاوزها واشتر منها، قال: فإن جاوزها وهلك المال فهو ضامن، وإن اشترى متاعاً فوضع فيه فهو عليه وإن ربح فهو بينهما)(3).

فكأن الزكاة لم تخرج عن هذه النكتة العقلائية بناءً على القول بالشركة المالية أو حق الجناية المتعلق برقبة العبد أو على ما اخترناه من كونها حقاً مالياً مجعولاً في المال، فجريان أحكام الاتجار بمال اليتيم أو مال المضاربة على الاتجار بالمال الزكوي على القاعدة لأن ((مورد الروايات جميعاً هو المال الذي تكون ماليته مقصودة لصاحبه لا خصوصيته العينية، ففي مثل ذلك إذا اتجر به الشخص فازدادت المالية بسبب التجارة كان للمالك حقه من الربح والزيادة في

ص: 144


1- وسائل الشيعة: 19/18، كتاب المضاربة، باب 1، ح9.
2- وسائل الشيعة: 19/16، كتاب المضاربة، باب 1، ح1.
3- وسائل الشيعة: 19/16، كتاب المضاربة، باب 1، ح2.

المالية؛ لأنه نماء ماله عرفاً وعقلائياً، أو لأنه راضٍ به بالفحوى عادة، وهذا إنما يكون في الاتجار بنفس المال لا بالذمة كما هو واضح))(1).

أقول: هذا التقريب صحيح في نفسه إلا أنه ليس وجهاً كاملاً للحكم في المسألة، فهو قاصر من جهة إخراجه المسألة من أحكام الفضولي وجعل الحكم المذكور أولياً ثابتاً لها بحيث لم يجعل للولي حق إبطال الاتجار لو كانت المصلحة في ذلك، وقد صرّح بذلك قائلاً: ((هذه المسألة ناظرة إلى خصوص صورة الاسترباح بالمال الزكوي، وأنه في هذه الحالة تكون الزيادة أيضاً للزكاة، أي في هذه الحالة لا تكون التجارة فضولية وبحاجة إلى إجازة، بل تكون صحيحة والربح للزكاة بالنسبة))(2).

أقول: هذا إذا فهم من عبارة المصنف الإطلاق وأن هذا هو الحكم الثابت في المسألة والتجارة ليست فضولية فلا تحتاج إلى إجازة، وليس كما فهمناه وهو الصحيح من أن التجارة فضولية وتحتاج إلى إجازة، وهذا الإخراج بلا وجه كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

الرابع: وهو الوجه المعتمد : وحاصله أن المسألة لم تخرج عن أحكام الفضولي حيث تتوقف صحة الاتجار على إجازة الحاكم الشرعي. وما أورده المصنف (قدس سره) من التفصيل ليس الحكم الأولي الثابت للمسألة، وإنما يعتبر شرطاً في إجازة الاتجار لامطلقاً فلو لم يجز حتى مع وجود الربح بطل الاتجار في مقدار الزكاة ويكون الحكم حينئذٍ على طبق القواعد التي تقتضيها أحكام الفضولي مؤيداً برواية أبي حمزة حيث يمكن قبول الحديث على أنه تعبير عن موقف ولي الأمر من التصرف الفضولي بالمال الزكوي قبل إخراج زكاته وكذا

ص: 145


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/319.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/320.

في الاتجار بمال اليتيم وإن رفض البعض -كالشيخ الأنصاري(1) (قدس سره)- بناء مسألة الاتجار بمال اليتيم على أحكام الفضولي لإطلاق الحكم في الأدلة، ونحن لا نرى في الأدلة إطلاقاً وإنما هي بيان في إطار أحكام الفضولي، وقد قرّبناه عليها، وننقض على ما فهموه بما لو كان في إمضاء هذا الاتجار والبيع خلاف مصلحة المستحق حتى مع نسبته من الربح -كما في المثال (صفحة 150)- فهل يقولون بإمضائه فيلحق الضرر بالمستحق بلا مجوّز؟.

وفي الحقيقة فإن هذا الحكم يجري في كل تصرف بالأموال العامة من دون إذن وقبل إخراج الحق المعلوم وهو تصرف تقتضيه الأمانة ورعاية مصلحة المولى عليهم فإن حصل ربح كان للمستحق نصيب منه لأنه نماء ماله، وإن حصلت خسارة أو تلف فلا يتحملها لأنه لم يأذن بالفعل، ويكون هذا التفصيل في توزيع الربح والخسارة هو شرط إجازة الحاكم الشرعي لهذا البيع، وإمضاء هذا العقد على نحو المضاربة ويكون هذا هو مقتضى القاعدة ولا مخالفة فيه لها.

وقد يرى الحاكم الشرعي أن الأصلح عدم إجازة البيع أصلاً حتى مع وجود الربح فيه وسنشير إليه في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى، وحينئذٍ لا يأتي الإشكال الذي قيل بمقتضى القواعد المذكورة في أحكام الفضولي من توزيع الربح والخسارة، وقد تقدم هذا التوجيه لفهم الرواية (صفحة 45) في البحث الأول.

وفي ضوء ما تقدم ينبغي الالتفات إلى عدة أمور:-

1- على ما قرّبناه في الوجه الرابع فإن ما اختاره المصنف (قدس سره) موافق لمبناه في شكل تعلق الزكاة، وإنه (قدس سره) لم يخرج في هذه المسألة عمّا قاله في المسألة السابقة من وقوع البيع فضولياً وحاجته إلى الإجازة، والإضافة التي حصلت هنا أن الإجازة مشروطة بإعطاء حصة المستحق من الأرباح وعدم تحمله شيئاً من الخسارة، وهو ما تقتضيه

ص: 146


1- كتاب الزكاة: 19.

الأمانة ورعاية المصلحة في استثمار وتنمية أموال المولى عليهم، ففي المسألة السابقة تحدّث عن أصل الحاجة إلى الإجازة، وهنا تحدّث عن شرطها وتفصيلها وبيان مجملها.

ويكون الاشتراط أوضح لو عزل الزكاة واتجر بها مستقلة أو ضمن ماله فلمستحقيها الربح الذي حصل لها لعدم وجود ولاية للمالك على المال بعد عزله للزكاة. فهذه المتاجرة عبارة عن مجموعة من البيوع الفضولية ومحتاجة إلى الإجازة لكن إجازتها مشروطة.

فمن البعيد إذن ما حكاه المحقق العراقي (قدس سره) عن صاحب الجواهر1- (قدس سره) في رسالته العملية نجاة العباد قال: ((ذكر في المسألة الرابعة من الفصل العاشر في اللواحق: أن المالك بعد عزله الزكاة لو اتجر بها كان الربح له والوضيعة عليه))(1). أقول: هذا الحكم محتمل قبل أن يعزل الزكاة، فقد تقدم (صفحة 138) ذهاب جملة من الأعلام إلى كفاية العزم على الدفع من مال آخر لجواز التصرف بتمام المال. بل الجواز ثابت عندهم حتى مع عدم القصد باعتبار التصرف بالمال التزاماً فعلياً بالدفع من مال آخر، وحملناه على القول بتعلق الزكاة كحق الجناية في رقبة العبد، فيكون التصرف بتمام المال تعبيراً فعلياً عن اختياره الدفع من مالٍ آخر.

وعلى أي حال فإذا أجاز الحاكم الشرعي فالشرط ما ذكرناه، وقد لا يجيز الحاكم الشرعي الاتجار حتى مع وجود الربح واستحقاق أصحابها نصيباً من الربح فيسترجع عين الزكاة لمصلحة أهم كما لو كانت الزكاة من الذهب ونسبة التضخم في السوق متصاعدة بمقادير أزيد من الربح المفترض فالاحتفاظ بالعين يكون أكثر صلاحاً، ومنه يُعلم النظر في إلزام الولي بالإجازة، حيث حكى الشيخ المنتظري (قدس سره) القول بأنه

ص: 147


1- شرح تبصرة المتعلمين: 2/430.

((مع فرض الربح تثبت الإجازة قهراً إما عن الولي أو الحاكم أو عدول المؤمنين، لعدم جواز الاستنكاف عنها مع المصلحة))(1).

واحتاط في نهاية كلامه (قدس سره) قائلاً: ((فالأحوط الأخذ بمضمون الرواية -أي حديث أبي حمزة- بلا أخذ الإجازة اللاحقة)).

2- لا يفرق في هذا الاشتراط بين كون الاتجار بالمال الذي تعلّقت به الزكاة لنفس التاجر أم له ولمستحقي الزكاة ما دامت الزكاة موجودة فيه ولم تُخرَج، ولذا أطلق المصنف (قدس سره) عبارته من هذه الناحية وقلنا في (صفحة 139) النقطة (3-) أنه الصحيح الموافق للأدلة.

ومنه يُعلم النظر في تفصيل السيد الخميني (قدس سره) قال معلقاً على كون الربح للفقير: ((إذا كان الاتجار لمصلحة الزكاة فأجاز الولي على الأقرب، وأما إذا اتجر به لنفسه وأوقع التجارة بالعين فتصحيحها بالإجازة محل إشكال، نعم إن أوقع بالذمة وأدى من المال الزكوي يكون ضامناً والربح له))(2).

3- إن نسبة الربح التي ذكرها السيد (قدس سره) في كلامه كاستحقاق للفقراء قد لا تساوي نسبة الزكاة إلى المال المتَّجَر به، أي كل الربح المتحقق من الاتجار بمقدار الزكاة، بل جزء منها وهي النسبة المتعارفة في سوق المضاربة لتوزيع الأرباح بين المال والعمل لأن الربح نماء كليهما، فللمستحق جزء من ربح الزكاة يساوي نسبة استحقاقهم من الربح المتحقق من الاتجار بمقدار الزكاة كنصف ربح الزكاة أو ثلثه مثلاً، فهذا كله يلاحظ عند إجازة الحاكم الشرعي لهذه المتاجرة.

ص: 148


1- كتاب الزكاة: 2/171.
2- العروة الوثقى مع حواشي المراجع العظام: 4/89.

فرع:

لو اتجر بالمال الزكوي قبل إخراج الزكاة أو عزلها، ثم دفع الزكاة من مال آخر بمقتضى دليل جواز دفعها من غير النصاب الزكوي، فهل يكون الربح له أم لا يجزيه دفع مقدار الزكاة فقط وعليه إضافة نسبة الزكاة من الربح؟.

قال المحقق النراقي (قدس سره): ((ولو أخرج الزكاة بعد البيع لم يصح البيع في الجميع، كما ذكره المحقق؛ لأن الفريضة حينئذٍ ملك مستأنف، وعن الشيخ قول بصحة البيع في الجميع حينئذٍ، ولا وجه له))(1).

لكن السيد الخوئي (قدس سره) قال في وجهه: ((وحينئذٍ فإن أدى البائع الزكاة بعد البيع من الخارج ملك حصة الفقير من المبيع بذلك واندرج في كبرى: من باع ثم ملك، وتقدم أن هذا -أي البيع- لو كان محتاجاً إلى الإجازة بمقتضى القاعدة فلا ريب في الصحة وعدم الحاجة إلى الإجازة، إما في المقام أو مطلقاً، بمقتضى النص الخاص الوارد في المقام -أعني: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدمة (صفحة 132)- وعليه، فيكون البيع نافذاً في تمام المبيع لنفس البائع، ويكون الربح كله له كما أن الخسران عليه بطبيعة الحال))(2).

أقول: يمكن مناقشة السيد الخوئي (قدس سره) من جهتين:-

1- من جهة مبناه في شكل تعلق الزكاة بالمال على نحو الشركة في المالية، إذ أن هذا المبنى قد لا يسمح للمالك بدفع الزكاة من مال آخر بعد ظهور أرباح في المال الزكوي، أي أن حق المالك في هذه الرخصة لا يشمل المورد، باعتبار أنه حينما يكون الحق في المالية فإن صاحبه لا يرضى بتفويت الزيادة المتحققة فيها.

ص: 149


1- مستند الشيعة: 9/223، المعتبر: 2/563، المبسوط: 1/207.
2- موسوعة السيد الخوئي: 23/399.

2- من جهة صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله، فإن الإمام (عليه السلام) بيّن فيها الموقف من هذه الحالة وهو أن يطالب البائع بدفع الزكاة من مال آخر أو تؤخذ الزكاة من المشتري ويرجع بها على البائع، أما القبول بأحدهما فهو موكول إلى الحاكم الشرعي ونظره ومراعاته لمصلحة المستحق لأن المعاملة لم تخرج عن الفضولية، وقد كان الدفع من مالٍ آخر مقبولاً قبل الاتجار وظهور الربح وهو المورد الذي أشارت إليه الصحيحة.

وبتعبير آخر إن حق المالك في دفع الزكاة من مال آخر بمقتضى صحيحة عبد الرحمن أو من القيمة المستفاد من صحيحة البرقي وغيرها ظاهر في ما قبل التقلب بالمال ببيع واتجار ولا يتسع الدليل لما بعده.

إن قلتَ: نتمسّك باستصحاب جواز الدفع من مالٍ آخر أو بالقيمة الذي كان ثابتاً قبل الاتجار بالمال بمقتضى صحيحة عبد الرحمن فيثبت في ما بعده.

قلتُ: مع التسليم بتحقق موضوع الاستصحاب الذي نفيناه آنفاً، فإن الاستصحاب لا يجري هنا بناءً على ما اخترناه في علم الأصول من جريانه عند الشك في المانع لا في المقتضي والمقام من الثاني.

واعترض بعض الأعلام المعاصرين على الاستدلال بصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله على جواز دفع الزكاة من مالٍ آخر حتى في صورة الاتجار بتقريب آخر، حيث قال عن الصحيح أنه ((وإن كان وارداً في أداء المالك للزكاة بعد بيع المال الزكوي، إلا أن جهة السؤال والجواب فيها تعلق الزكاة بالعين وبقائها بيد المشتري بحيث يمكن أخذها عيناً من يده؛ ولهذا سأل عن وجوب دفع المشتري لها، فدل الحديث على أنه يجب عليه دفعها وأنه يحق لولي الزكاة أخذها حتى إذا انتقل المال إلى الغير، إلا إذا أداها المالك، أما أن مقدارها هل يكون نفس المقدار في زمان التعلق أو أكثر إذا كان في البيع استرباح فهذه الجهة لا نظر في الرواية إليها لكن يمكن أن يستفاد من السكوت والإطلاق فيها جواز ذلك. كيف، وقد فرض في السؤال أن الإبل والشاة لم

ص: 150

يزكّها المالك سنتين وهو قد يوجب تكرار الزكاة ونمو سهم الزكاة للسنة الأولى أيضاً كما إذا ولدت الشياه كلها وهو من النماء الذي يستحقه أصحاب الزكاة قطعاً وعلى مقتضى القاعدة، فهل يمكن دعوى أن إطلاق قوله: (أو يؤدي زكاتها البائع) ينفي استحقاق أصحاب الزكاة للنماء الزائد؟!))(1).

أقول: لفظ المشتري مطلق في الرواية فلا يختص بالمشتري الأول حتى يفترض بقاءها بيده وبتعبير آخر إن المشتري يراد به هنا الجنس وليس الشخص، ولذا لم يتوقف في موضع آخر من كتابه عن التمسك بإطلاق الصحيحة لشمولها للبيوع المتعددة أو لبيع بعض العين الزكوية، قال: ((لا يجوز تصرف المالك قبل دفع الزكاة أو عزلها حتى في بعض العين الزكوية ببيع ونحوه، ويكون بيعه فضولياً بالنسبة إلى حق الزكاة فيه وبمقداره فلا ينفذ إلا بإجازة الحاكم الشرعي، ولا يبعد استفادة هذا الإطلاق من صحيح عبد الرحمن لما إذا باع إلى أكثر من واحد وببيوع متعددة، فإن المستظهر منه أنه يجوز أخذ الزكاة من كل منهم بمقدار الحصة المبيعة له لا من الأخير فقط))(2).

انتهى البحث فيها بتأريخ 21 ج2 1439 هج- الموافق 2017/3/20 م

ص: 151


1- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/322.
2- كتاب الزكاة للسيد محمود الهاشمي: 2/291-292.

ص: 152

البحث الثالث: معادلة المُد بثلاثة أرباع الكيلو غرام تقريباً أو تحقيقاً

اشارة

ص: 153

ص: 154

بسم الله الرحمن الرحيم

* البحث الثالث:معادلة المُد بثلاثة أرباع الكيلو غرام تقريباً أو تحقيقاً(*)

الصاع والمد والرطل مقادير تذكر في موارد شرعية عديدة؛ فزكاة الفطرة صاع، ونصاب زكاة الغلات ثلاثمائة صاع، والكُ-رّ الذي لا ينفعل بالنجاسة ألف ومائتا رطل، وإطعام المسكين في الفدية والكفارة مُدّ.

وعُرِّف الصاع بأنه يساوي أربعة أمداد ويساوي تسعة أرطال بالعراقي فالمد يساوي رطلين وربع.

وقد اتفق الفقهاء المعاصرون على الاجتزاء بدفع ثلاثة أرباع الكيلو عن المد(1)، إما لأنه يساوي هذا المقدار من الوزن تقريباً (كما عند السيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرهما)) أو تحقيقاً (حيث حذف السيد الشهيد الصدر الثاني كلمة تقريباً وأبقاها سماحة الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) مع أن مقتضى مبانيه حذفها كما سيأتي إن شاء الله تعالى).

وهذا الاتفاق منهم في تقريب المد يستبطن- لدى مراجعة أقوالهم في الموارد الأخرى المرتبطة بهذه المسألة - الاختلاف بينهم في تحديد وزن المد بالدقة، ففي مسألة الكرّ اختار السيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرهما) أنه (376- 377) كغم بينما اختار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أنه (400) كغم، والشيخ الفياض (دام ظله) أنه (399) كغم، وهذا

ص: 155


1- (*) انتهى إلقاء هذا البحث يوم 12/شعبان /1428 الموافق 2007/8/26. السيد الخوئي (قدس سره) في منهاج الصالحين، ج1، ص270، المسألة (1007) من الطبعة 29، وفي مستند العروة الوثقى: 21/412، والشيخ الفياض (دام ظله) في منهاج الصالحين: ج1/406، والسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في الفتاوى الواضحة/497، والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في منهج الصالحين: ج1، مسألة (1380) ص249.

يعني أن المد عند الأولَينِ هو (707) غرام وعند الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله الشريف) (750-751) غرام، لأن الكر ألف ومائتا رطل بالعراقي والصاع تسعة أرطال منه فالكر مئة وثلاثة وثلاثون صاعاً وثلث، فإذا كان الكر 400 كغم؛ فالصاع 3 كغم عند السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله)، والصاع أربعة أمداد فيكون ناتج المد ما ذكرناه عندهم.

توضيح ذلك:

الكر 1200 رطل بالعراقي

الكر 400 كغم (بحسب مختار السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله)).

كغم

الصاع 9 أرطال بالعراقي 9× 3 كغم، وهو مقدار زكاة الفطرة.المد صاع ×3 كغم.

وبحسب مختار السيد الخوئي (قدس سره) فإن الكرّ يساوي 377 كغم.

والكر 1200 رطل

فالرطل 0.314 غرام.

الصاع 9 أرطال 9×0.314 2.827 كغم، وهو مقدار زكاة الفطرة.

المد صاع × 2.827 707 غرام.

وفي ضوء هذا تحسب المقادير الشرعية الأخرى فنصاب الزكاة في الغلات يساوي 300 صاع.

فمن اختار الصاع 3 كغم.

فالنصاب 300× 3 900 كغم.

ومن اختار الصاع 2.827 كغم.

فالنصاب 300 × 2.827 847 كغم.

لكن شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) اختار في الصاع الأول (أي ثلاثة كيلوات كما تقدم أعلاه في توضيح الحساب) وفي نصاب الزكاة الثاني

ص: 156

حيث ذكر أنه (847) كغم(1)؛

وهو لا ينسجم مع سابقه، لأن التناسب بين هذه المقادير طردي فما دام الكر أربعمائة كيلو غرام فإن المد (750) غرام والصاع الذي هو أربعة أمداد ثلاثة كيلوات فنصاب الزكاة الذي هو ثلاثمائة صاع (900) كغم وهو ما اختاره السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره).

أما كون النصاب (847) كغم فهو مناسب لما اختاره السيد الخوئي (قدس سره) وقد ذكره فعلاً.

وعلى أية حال فكلامنا الآن في المد وهو عند مشهور المعاصرين ثلاثة أرباع الكيلو تقريباً أو تحقيقاً.

وتوقف السيد السيستاني (دام ظله) في هذا التحديد ولذا قال: ((تحديد المد بالوزن لا يخلو عن إشكال، ولكن يكفي في المقام احتساب المد ثلاثة أرباع الكيلو))(2)

فهو (دام ظله) لم يعادل المد بثلاثة أرباع الكيلو وإنما جعل دفع هذا المقدار مجزياً عن المد؛ ولذا قال ((في المقام)) ولو كان معادلاً له لبنى عليه الموارد الأخرى كحساب الكر بالوزن فقال في مقدار الكر: ((وأما تقديره بحسب الوزن فلا يخلو عن إشكال))(3)

وقال في زكاة الفطرة: ((المقدار الواجب صاع وهو أربعة أمداد وقد تقدم أن تحديد المد بالوزن لا يخلو عن إشكال ولكن يكفي في المقام احتساب المد ثلاثة أرباع الكيلو فيكون مقدار الصاع بحسب الكيلو ثلاث كيلوات))(4).وقال في نصاب الزكاة: ((وهو ثلاثمائة صاع، وهذا يقارب- فيما قيل- ثمانمائة وسبعة وأربعين كيلو غراماً))(5).

ص: 157


1- منهاج الصالحين: ج2، ص19، المسألة (30).
2- منهاج الصالحين: ج1، ص329، المسألة (1021).
3- منهاج الصالحين: ج1، ص27، المسألة (49).
4- منهاج الصالحين: ج1، ص381، المسألة (1178).
5- منهاج الصالحين: ج1، ص362، المسألة (1115).

وإذا كان له مندوحة عن تحديد الكر بالوزن باعتبار إمكان حسابه بالمساحة- كما عبّروا- أو الحجم على تعبيرنا، فإن بناء نصاب الزكاة على القيل غير مثمر لأن التحديد مطلوب بدقة حيث تجب الزكاة فيه ولا تجب فيما دونه.

أما الاجتزاء بثلاثة أرباع الكيلو في المد؛ فقال في وجهه في بحثه الشريف: ((ما قاله القاموس أن المد ما يملأ الكفين فيقال إن المد وإن لم يكن موجوداً إلا أن هذا الذي ذكره جمع- أي دفع ثلاثة أرباع الكيلو- يناسب المعنى اللغوي للمد فلا يكون هذا أكثر من ثلاثة أرباع الكيلو ولو كان من القسم الثقيل فيطمئن الإنسان إذا أعطى مداً في المقام يجتزئ به لا أنه يتعين لذا كتبنا في الرسالة العملية: ويجزي في الصاع ثلاثة كيلوات تقريباً، وقد أنكرنا في باب المياه حساب الكر بالوزن لأنه مبني على مثل هذه المقدمات الفاسدة))(1)

ويعني بالمقدمات الفاسدة أن الأصل في المد والصاع أنهما من المكاييل فتحديدهما بالوزن محل إشكال وما قيل من الوجوه لحصول هذا التحويل غير تامة وهو ما سنعرضه لاحقاً بإذن الله تعالى.

وقد تبع (دام ظله) بهذا الإشكال أستاذه الفقيه المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره) حيث ورد ذكره في تقريرات بحثه في مسألة تحديد الكر بالأرطال؛ فقال (قدس سره): ((ولكن الإشكال في كون الرطل وزناً))(2)

وخلص إلى نتيجة مفادها ((إن التحديد بالأرطال لم يُعلم المراد منه على التحقيق فلا يصلح للتعيين))(3)، ونقل السيد السيستاني (دام ظله) في بحثه عن أستاذه الشيخ الحلي قوله أنه استفاد هذا الإشكال من ((فاضل خراساني من تلامذة النائيني كتب رسالة في ذلك))(4).

ص: 158


1- من تقريراتي لبحث الأستاذ السيد السيستاني (دام ظله) في الفقه، تأريخ المحاضرة 21/ذو الحجة/1415.
2- دليل العروة الوثقى، تقريرات بحث الفقيه المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره) بقلم الشيخ حسن سعيد، ج1، ص77.
3- دليل العروة الوثقى: ج1، ص81.
4- محاضرة بتأريخ 20/ذ.ج./1415.

ولا توجد في التقريرات المطبوعة للشيخ الحلي (قدس سره) إشارة إلى ذلك فلعله (دام ظله) استفاد هذا المعنى من الأستاذ مباشرة.

وسننظر أولاً بإذن الله تعالى في دليل المشهور ثم نحقق في هذا الإشكال إن شاء الله تعالى.

دليل المشهور

إن معادلة المد لثلاثة أرباع الكيلو حصلت بضم عدة مقدمات:

الأولى: الصاع يساوي أربعة أمداد.

الثانية: الصاع يساوي تسعة أرطال بالعراقي.

فالمد صاع 2 رطل عراقي.

الثالثة: الرطل العراقي يساوي 130 درهماً.

الرابعة: الدرهم يساوي من الدينار الشرعي.

الخامسة: الدينار الشرعي يساوي مثقالاً شرعياً.

السادسة: المثقال الشرعي يساوي المثقال الصيرفي.

السابعة: المثقال الصيرفي يساوي 4.6 غراماً (عند السيد الخوئي (قدس سره) وآخرين) خلافاً لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وشيخنا الأستاذ الفياض حيث اختارا أنه 4.88 غراماً على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

فالدينار الشرعي × 4.6 3.45 غراماً.

والدرهم × الدينار الشرعي الذي يساوي 3.45 غراماً 2.415 غراماً

والرطل 130 × الدرهم الذي يساوي 2.415 313.95 غراماً.

المد 2× الرطل الذي يساوي 313.95 غراماً 706.39 غراماً.

والمقدمات الست الأولى كلها مذكورة في كتب الفقهاء (قدست أسرارهم) لكنهم اختلفوا في ترتيبها للوصول إلى النتيجة.

ص: 159

قال صاحب العروة (قدس سره): ((المد ربع صاع، وهو ستمائة مثقال وأربعة عشر مثقالاً وربع مثقال(1)، وعلى هذا فالمد مائة وخمسون مثقالاً وثلاثة مثاقيل ونصف مثقال وربع ربع المثقال(2)، وإذا أعطى ثلاثة أرباع الأوقية من حقة النجف فقد زاد أزيد من واحد وعشرين مثقالاً، إذ ثلاثة أرباع الأوقية مائة وخمسة وسبعون مثقالاً)).

وعلّق عليه السيد الخوئي (قدس سره) بأنه ((بلا خلاف فيه ولا إشكال)) وشرح وجهه بأن ((كل رطل منه - أي العراقي- مائة وثلاثون درهماً، وكل عشرة دراهم خمسة مثاقيل وربع بالمثقال الصيرفي(3)، فالرطل ثمانية وستون مثقالاً وربع المثقال، فإذا ضرب هذا في تسعة - لكون الصاع تسعة أرطال عراقية- يكون المجموع ستمائة وأربعة عشر مثقالاً وربع المثقال وزن الصاع بالمثقال الصيرفي، والمد ربعهوهو مائة وخمسون مثقالاً وثلاثة مثاقيل ونصف مثقال وربع ربع المثقال، كما أثبته في المتن، المساوي لثلاثة أرباع الكيلو تقريباً))(4).

وتصويره كالتالي:

الرطل 130 درهماً

والدرهم من الدينار الشرعي

والدينار الشرعي المثقال الصيرفي

ص: 160


1- لأن الصاع يساوي تسعة أرطال، والرطل يساوي (130) درهماً والدرهم يساوي (7/10) من الدينار الشرعي الذي يساوي (3/4) المثقال الصيرفي فالنتيجة تكون: الصاع 9×130× × 614 مثقال صيرفي، وستأتي التفاصيل بإذن الله تعالى.
2- نصف المثقال وربع ربع مثقال يعني + × + وهو ما أثبتناه.
3- لأن كل عشرة دراهم تساوي سبعة دنانير أي مثاقيل شرعية والمثقال الشرعي يساوي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي فالعشرة دراهم 7× 5.
4- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/411.

فالدرهم ×

من المثقال الصيرفي

الرطل 130 درهماً ×

68 من المثقال الصيرفي

الصاع 9 أرطال× 68 614 مثقال صيرفي

المد صاع × 614 153 من المثقال الصيرفي

ولما كان المثقال الصيرفي 4.6 غرام

إذن فالمد 153 × 4.6 706.39 غرام

ولدفع الالتباس فإن الأوقية المذكورة في كلام صاحب العروة ليست الكيلو المذكور في كلام السيد الخوئي (قدس سره).

فإن الأوقية حقة النجف

وحقة النجف 3 حقة إسلامبول

وحقة إسلامبول 280 مثقالاً صيرفياً

فحقة النجف 3× 280 933 مثقال صيرفي

الأوقية حقة ×

933 233 مثقالاً

فثلاثة أرباع الاوقية المذكورة في كلام السيد صاحب العروة

× 233 175 مثقالاً صيرفياً

فهي أكثر من المد الذي يساوي 153 مثقال صيرفي وهو ما قاله (قدس سره).

وتساوي الأوقية بالغرام: 175×4.6 805 غرامات؛ ففيها زيادة عن المد كما قال (قدس سره).

بينما المد 153 مثقال صيرفي 706.39 غرام كما تقدّم.

وقد أرسل جملة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بعض أو كل هذه المقدمات كالمسلّمات من دون تحقيق، وهو لا يناسب البحث العلمي المعمق.

وللتحقيق في هذه المقدمات نعقد الكلام في عدة مطالب:

ص: 161

المطلب الأول: إن الصاع أربعة أمداد

لا شك أن الصاع كيل وقد عُرف قبل الإسلام، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم في قصة يوسف (سلام الله عليه)، قال تعالى: «قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ» (يوسف:72) أي صاعه ((وكان إناءً يُشربُ به ويُكال به))(1)

ويدل عليه قوله تعالى: «جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» (يوسف: 70) وفُسِّرت بأنها ((مشربة من ذهب أو فضة جعلت صاعاً للكيل))(2)

وقد ورد الكيل في القصة في عدة مواضع «أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» (يوسف:59) «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» (يوسف:63) «ذَلِكَ كَيلٌ يَسِيرٌ»(يوسف:65) وغيرها.

ولكن الصيعان ليست بمقدار واحد وإنما اختلفت باختلاف الأزمنة والأمكنة لكن المعنى واحد وهو كونه آلة للكيل وقد دلّت عليه صحيحة جميل بن درّاج حيث جاء فيها: (فدخل رجل من الناس بمكتل من تمر فيه عشرون صاعاً يكون عشرة أصوع بصاعنا)(3)

وستأتي التفاصيل بإذن الله تعالى. وهذه حالة مألوفة، كالدينار الذي هو عملة لكن الدينار العراقي يختلف بالقيمة عن الدينار الكويتي والبحريني مثلاً وكذا الدولار الأمريكي يختلف بالقيمة عن الدولار الكندي أو الاسترالي مع الاتفاق على أنه عملة نقدية.

وعلى أي حال فالصاع كيل وله جزء يسمى المد يساوي ربعه، وكون الصاع أربعة أمداد هو ((قول العلماء كافة، كما عن المنتهى بل إجماعاً، كما عن الخلاف والغنية وظاهر التذكرة وغيرها))(4)، وفي الحدائق ((لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن الصاع أربعة أمداد))(5).

وقد دلّت عليه جملة من الأخبار:

ص: 162


1- المفردات للراغب، مادة (صاع).
2- التفسير الصغير للسيد عبد الله شبر (قدس سره).
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب8، ح2.
4- مستمسك العروة الوثقى: 2/311.
5- الحدائق الناضرة: 12/112.

(منها) صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتوضأ بمد ويغتسل بصاع والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال)(1)

فالمد ربع الصاع.

(ومنها) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (والصاع أربعة أمداد)(2).

(ومثلها) صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)(3).(ومنها) صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (سألته عن رجلٍ أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً؟ قال: عليه خمسة عشر صاعاً لكل مسكين مدّ، بمدّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل)(3) بضميمة أن كفارة الإفطار المتعمد إطعام ستين مسكيناً وهي تدل على اختلاف الأمداد بدليل أفضلية مد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

(ومنها) صحيحة أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) في كفارة الظهار؛ قال: (تصدّق على ستين مسكيناً ثلاثين صاعاً لكل مسكين مدين مدين)(4)

(ومنها) رواية الصدوق بسنده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السلام) وفيها عن زكاة الفطرة أنها (أربعة أمداد من الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهو صاع تام)(5)

وفي مقابل ذلك يوجد نظرياً قولان يمكن استخلاصهما من الروايات كأطروحة:

الأول: إن الصاع خمسة أمداد وقد ورد هذا في أكثر من رواية:

ص: 163


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب50، ح1.
2- و(3) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب6، ح12.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب8، ح10.
4- وسائل الشيعة: كتاب الإيلاء والكفارات، أبواب الكفارات، باب14، ح6.
5- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب6، ح20.

(منها) موثقة سماعة؛ قال: (سألته عن الذي يجزي من الماء للغسل، فقال: اغتسل رسول الله صلى الله عليه وآله بصاع، وتوضّأ بمدّ، وكان الصاع على عهده خمسة أمداد وكان المد قدر رطل وثلاث أواق)(1).

(ومنها) رواية سليمان بن حفص المروزي؛ قال: (قال أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: الغسل بصاع من ماء والوضوء بمد من ماء، وصاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة أمداد).

والثانية ضعيفة سنداً، أما الموثقة فقد قال عنها شيخنا الأستاذ الفياض أنها ((معارضة للروايات المتقدمة التي تحدد الصاع بأربعة أمداد وتنفي الزائد، والموثقة تدل على أن الصاع خمسة أمداد فتثبت الزائد فتكون المعارضة بينهما في الزائد فتسقطان من جهة المعارضة، فلا يثبت الزائد))(2).

وهو جمع لا يساعد عليه العرف لأن الخمسة مأخوذة على نحو الحد فلا يقبل العرف تجزئتها فليس المقام من صغريات مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين حتى يجري فيها ما ذكر (دام ظله) وإنما هي من مسألة المتباينين؛ كما لو ورد دليلان أحدهما مفاده أن الصلاة الكذائية ثلاث ركعات والآخر مفاده أنها أربع ركعات.

وما يمكن أن يقال في ردّ هذه المعارضة وجوه:-

1- حملها على اختلاف الأمداد بأن يُقال إن مد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أكبر من المد في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) بدليل تفضيله في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدمة فصاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يكون أربعة أمداد من ذلك المد الكبير يكون خمسة أمداد من المد المعاصر للإمام (عليه السلام)(3)

بقرينة جعل

ص: 164


1- وما بعدها وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 50، ح4، 2.
2- تعاليق مبسوطة: 5/136.
3- ولازم هذا أن يكون الصاع في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكبر من الصاع في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) لأن صاع كل زمان يساوي أربعة أمداد من مد ذلك الزمان، وهذا ينافي صحيحة جميل المتقدمة التي أفادت أن عشرين صاعاً من زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعادل عشرة أصوع من زمان الإمام (عليه السلام)، وعلى أي حال فلسنا الآن بصدد رفع هذا التعارض، وإنما نحن بصدد الإجابة عن اختلاف الأمداد في الصاع الواحد ثم إنه توجد أجوبة أخرى غير هذا، على أن هذا الإشكال مبنائي إذ قد لا تفهم الأفضلية بمعنى زيادة المد وإنما التعبّد بمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو كان غيره مجزياً أو تحمل الأفضلية على نقصانه عن المد في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) فتكون بمعنى مراعاة التخفيف عن الناس، ثم إن هذا التفاوت في النسبة بين الأمداد يسقط بعضه بعضاً ففي صحيحة جميل أن النسبة هي النصف وفي صحيحة الكوفي الآتية أن مد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعادل أكثر من أربعة أمداد من زمان الإمام (عليه السلام).

الإمام (عليه السلام) قيد (على عهده) للصاع دون المد أي أن الصاع الذي على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يساوي خمسة أمداد من المعروف في زمن الإمام (عليه السلام)، وهذا الوجه مبني على فهم وجه أفضلية مد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكونه أكبر كما دلّت عليه صحيحة أبي القاسم الكوفي الآتية (صفحة 169).

2- أن يحمل الخبر على اشتباه الراوي بعد الإجماع المتقدم وتأثره بالعامة وهذا واضح في الذيل فإن الصاع عند أبي حنيفة ثمانية أرطال، وعند الشافعي أنه خمسة أرطال وثلث فالمد على الأول رطلان وعلى الثاني رطل وثلث، وهذا ليس اختلافاً في تحديد الصاع وإنما هو تنوع في اختيار الرطل فالرطل عند الأول بالعراقي وعند الثاني بالمدني والأول ثلثا الثاني فيكون الصاع × 8 5 رطل بالمدني، فكون المد قدر رطل وثلاث أواقٍ يمكن فهمه بلحاظ الرطل المدني والمد يساوي رطل وثلث منه ولما كان ((الرطل اثنتي عشرة أوقية بأواقي العرب))(1) فثلث الرطل أربع أواق وهذا تقريب للتأثير في الذهنية.

ص: 165


1- قاله ابن الإعرابي ونقله في تاج العروس، وورد في دليل العروة الوثقى، ج1، ص78.

ويدعم هذا الاحتمال أن الراوي لم ينسبه إلى الإمام (عليه السلام) وإنما قال (سألته).

3- نفي المعارضة أصلاً لأن ما ورد في موثقة سماعة هو مجرد إخبار من الإمام (عليه السلام) عن قصة كانت في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكاية لتقديرات كانت في وقته (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الصاع كان يساوي خمسة أمداد وليس في صدد التشريع حتى تعارض الروايات الدالة على كون الصاع أربعة أمداد.

ونقل صاحب الحدائق وجوهاً أخرى لتفسير الخبر، بعضها لا وجه له كحمل الخمسة أمداد على ما إذا شارك (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض أزواجه في الغسل مستدلاً بالأخبار الدالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) اغتسل مع زوجته بخمسة أمداد في إناء واحد.

ثم قال (قدس سره): ((والأظهر في الجواب وإن لم يهتدِ إليه سوى شيخنا الصدوق من الأصحاب هو ما يظهر منه (قدس سره) في كتاب معاني الأخبار من الفرق بين صاع الغسل وصاع الفطرة، حيث قال: ((باب معنى الصاع والمد والفرق بين صاع الماء ومدّه وبين صاع الطعام ومدّه)) ثم ذكر رواية المروزي ورواية الهمداني(1)

الدالة على أن الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة بالعراقي المشعرة من حيث ذلك بكون الصاع أربعة أمداد لأن المد رطل ونصف بالمدني ورطلان وربع بالعراقي، وظاهره حمل رواية المروزي على صاع الماء ورواية الهمداني على صاع الطعام وبذلك يندفع عنه ما أورد عليه في كتاب من لا يحضره الفقيه من إيراده رواية المروزي في باب الغسل الدالة على أن الصاع خمسة أمداد وإيراده في زكاة الفطرة من الكتاب رواية الهمداني الدالة على أن الصاع أربعة أمداد مع ما يظهر من كلامه في أول كتابه من الإفتاء بما يرويه فيه))(2).

ص: 166


1- تأتي في (صفحة 170) بإذن الله تعالى.
2- الحدائق الناضرة: 12/115.

ثم نقل (قدس سره) عن بعض مشايخه (رضوان الله عليهم) توضيح الفرق المذكور بأن ((المد والرطل والصاع كانت يومئذٍ مكاييل معينة فقدرت بوزن الدراهم ونحوها صوناً عن تطرق التغيير الذي كثيراً ما يتطرق إلى المكاييل، ومن الظاهر أن الأجسام المختلفة يختلف قدرها بالنسبة إلى مكيال معين فلا يمكن أن يكون الصاع من الماء موافقاً للصاع من الحنطة والشعير وشبههما، فلذا كان الصاع المعتبر في وزن الماء لأجل الوضوء والغسل وأمثالهما أثقل مما ورد في الفطرة ونصاب الزكاة ونحوهما لكون الماء أثقل من الحبوب مع تساوي الحجم كما هو معلوم. فظهر أن هذا الوجه أوجه الوجوه في الجمع بين الأخبار)) ونسب صاحب الحدائق إلى المجلسي في البحار الالتفات إلى الإيضاح المذكور، وفيه:-

1- إن صحيحة زرارة المتقدمة وردت في الغسل والوضوء وحددت الصاع بأربعة أمداد.

2- إن المد من سنخ الصاع وكلاهما من المكاييل وإن الوزن غير ملحوظ.

3- لو لوحظ الوزن بالشكل الذي أوضحوه لحصل الاختلاف فيما تؤدى به الزكاة نفسها لاختلاف الأشياء كالتمر والحنطة والشعير ودقيقهما في الثقل. فهذا الوجه من الفرق غير تام.الثاني: إن الصاع ثلاثة أمداد ولم نجد قائلاً به بل لم يذكره أحد لكن يمكن استنتاجه بعد ضم الروايات التي ذكرت أن كفارة إفطار يوم من شهر رمضان عشرون صاعاً والروايات التي ذكرت أن إطعام المسكين الواحد مداً وإن عدد المساكين ستون.

ومن المجموعة الأولى صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل الذي أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد وقع على أهله في نهار شهر رمضان وهو صائم فدخل رجل من الناس بمكتل من تمر فيه عشرون صاعاً فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (خذ هذا التمر فتصدق به)(1).

ص: 167


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب8، ح2.

والموثقة عن غير واحد عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام)؛ قال: (سألته عن رجل أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً؟ قال: يتصدق بعشرين صاعاً ويُقضى مكانه)(1).

وخبر إدريس بن هلال عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سُئل عن رجل أتى أهله في شهر رمضان؟ قال: عليه عشرون صاعاً من تمر فبذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرجل الذي أتاه فسأله عن ذلك).

وخبر محمد بن النعمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سُئل عن رجل أفطر يوماً من شهر رمضان؟ فقال: كفارته جريبان من طعام وهو عشرون صاعاً).

ومن المجموعة الثانية موثقة سماعة؛ قال: (سألته عن رجل لزق بأهله فأنزل، قال: عليه إطعام ستين مسكيناً مد لكل مسكين)(2).4)(2).

وتناقش كيفية الجمع من جهتين:

(أولاهما) الإبقاء على ظاهر الرواية بأن عدد الأصوع عشرين فيكون مؤداها أن الصاع ثلاثة أمداد وهذا ما لم يذكره أحد.

(ثانيهما) الإبقاء على أن الصاع أربعة أمداد ومناقشة كون الكفارة عشرين صاعاً وهو ما عرضه الفقهاء (قدس الله أرواحهم) وناقشوه وهو يكفي في الجمع.

والخروج من عهده المخالفة يتحقق بمناقشة إحدى الجهتين.

ومن ناحية الجهة الأولى فيمكن الإجابة عليها ببعض الوجوه المتقدمة: ككون المد في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكبر فيكون الصاع المعاصر للإمام (عليه السلام) مساوياً لثلاثة أمداد من مد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 168


1- والروايتان بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب8، الأحاديث 4 ، 8، 6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب8، ح12.

أما الجهة الثانية من الإشكال وهي كون الكفارة عشرين صاعاً فيمكن الإجابة عنها بعدة وجوه:-

1- المناقشة في إسناد الروايات جميعاً عدا صحيحة جميل التي يمكن حملها على اشتباه الراوي فقد نقلت الحادثة التي رواها جميل في صحيحة أخرى عن عبد المؤمن الأنصاري عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها إن المكتل كان فيه خمسة عشر صاعاً، ولا أقل من الترديد والإجمال المسقط للاستدلال، ومن الطريف أننفس الترديد موجود في مصادر العامة فقد وردت القضية عن طرقهم بنفس النص الوارد في أصولنا وفيه ((فأتي النبي بعَرَق فيه تمر))(1)

وشرح العَرَق بأنه زنبيل وهو المكتل يسع خمسة عشر صاعاً، ووقع عند الطبراني في الأوسط: أنه أُتيَ بمكتل فيه عشرون صاعاً(2).

2- ويمكن حملها على الاستحباب وكرم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يشأ أن يبقي في المكتل شيئاً قليلاً فتصدق بالكل لأن أخلاقه الكريمة مبنية على التفضل وليس على المداقّة في الحساب.

3- وتحمل على اختلاف الأصْوُع باختلاف الأزمان والبلدان بدليل ما ورد في صحيح جميل: (فدخل رجل من الناس بمكتل من تمر فيه عشرون صاعاً يكون عشرة أصوع بصاعنا) وفي صحيحة أبي القاسم الكوفي: (وهو حميد بن زياد) أنه (جاء بمد وذكر أن ابن أبي عمير أعطاه ذلك المد وقال: أعطانيه فلان رجل من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام وقال: أعطانيه أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: هذا مد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعيّرناه فوجدناه أربعة أمداد وقفيز وربع بقفيزنا هذا)(3).

4- ويمكن رد روايات العشرين بإجمال كلمة الصاع فيه حيث لم تنسبه إلى الأمداد وحصة المسكين الواحد وليست هي كالروايات المفصلة التي حددت الصاع بأربعة أمداد ولكل مسكين مد.

ص: 169


1- رواه جماعة عن أبي هريرة في نيل الأوطار: 4/214.
2- الفقه الإسلامي وأدلته، الدكتور وهبة الزحيلي، المجلد الثالث، ص1739، الطبعة الثالثة في طهران.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب7، ح6.

5- إضافة إلى ما قلناه من أن الرواية ليست بصدد التشريع وإنما هي تحكي حالة سابقة بينما رواية الأربعة أمداد بصدد التشريع.

المطلب الثاني: إن الصاع تسعة أرطال بالعراقي

وقد حكى السيد الحكيم (قدس سره) عن جماعة دعوى الإجماع -صريحاً وظاهراً-على ذلك(1)، وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بلا خلاف معتدٍ به أجده))(2).

ووردت فيه عدة روايات:

الأولى: رواية الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد بن يحيى عن جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني وكان معنا حاجّاً؛ قال: (كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام على يدي أبي: جعلت فداك إن أصحابنا اختلفوا في الصاع: بعضهم يقول: الفطرة بصاع المدني، وبعضهم يقول: بصاع العراقي، قال: فكتب إلي: الصاع بستة أرطالبالمدني، وتسعة أرطال بالعراقي، قال: وأخبرني أنه يكون بالوزن ألفاً ومائة وسبعين وزْنة)(3).

وفي عيون الأخبار بدل وزنة (درهماً).

الثانية: مكاتبة علي بن بلال؛ قال: (كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله عن الفطرة وكم تدفع؟ قال: فكتب عليه السلام: ستة أرطال من تمر بالمدني، وذلك تسعة أرطال بالبغدادي)(4).

الثالثة: المكاتبة التي رواها الشيخ (قدس سره) في التهذيب بسنده عن علي بن حاتم، عن محمد بن عمرو، عن الحسين بن الحسن الحسيني عن إبراهيم بن محمد الهمداني؛ أن أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) كتب إليه (في حديث): (الفطرة عليك وعلى الناس كلها ومن تعولُ ذكَراً كان أو أنثى صغيراً أو كبيراً حراً أو عبداً فطيماً أو رضيعاً، تدفعه وزناً ستة أرطال برطل المدينة، والرطل مائة وخمسة وتسعون درهماً، يكون الفطرة ألفاً ومائة وسبعين درهماً)(5).

ص: 170


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/136.
2- جواهر الكلام: 15/208.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب7، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب7، ح2، 4.
5- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب7، ح2، 4.

الرابعة: صحيحة أيوب بن نوح؛ قال: (كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: إن قوماً سألوني (يسألوني) عن الفطرة ويسألوني أن يحملوا قيمتها إليك، وقد بعثت إليه هذا الرجل عام أول وسألني أن أسألك فأنسيت ذلك، وقد بعثت إليك العام عن كل رأس من عياله (لي) بدرهم على (عن) قيمة تسعة أرطال بدرهم فرأيك -جعلني الله فداك- في ذلك، فكتب عليه السلام: الفطرة قد كثر السؤال عنها وأنا أكره كل ما أدى إلى الشهرة فاقطعوا ذكر ذلك واقبض ممن دفع لها وأمسك عمن لم يدفع)(1)، وذكرنا الحديث كله لما فيه من فوائد ومحل الشاهد أن السؤال كان عن القيمة التي يدفعها بدلاً من الصاع الذي هو المقدار الواجب عن كل فرد وعبر عن الصاع بتسعة أرطال.

(الخامسة) صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)؛ قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال)(2).

فالصاع ستة أرطال بالمدني ويساوي تسعة أرطال بالعراقي وإذا شككنا بصدور تفسير المد والصاع من المعصوم فإنها من مثل زرارة تصلح للاستدلال أو للتأييد على الأقل.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((قيل: الظاهر من جماعة أن التفسير من تتمة الرواية ويشهد له قوله في التذكرة وقول الباقر عليه السلام: (والمد رطل ونصف، والصاع ستة أرطال بالمدينة يكون تسعة أرطال بالعراقي) وعن المصنف-وهو المحقق الحلي- (رحمه الله) أنه نقل الخبر من كتاب الحسين بن سعيد هكذا: (والصاع ستة أرطال بأرطال المدينة يكون تسعة أرطال بالعراقي).))(3).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((قد ذكر غير واحد من الأصحاب: أن الصاع تسعة أرطال عراقية، كما أنها ستة مدنية، واثني عشر مكية، حسبما

ص: 171


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب 9، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب50، ح1.
3- جواهر الكلام: 15/209، والجواب نفسه موجود في رياض المسائل: 5/82.

مرّ التعرض لذلك مستقصى في مباحث الكر(1)

وذكرنا: أن الأصحاب تلقوا الوزن هكذا يداً بيد وخلفاً عن سلف، فلا بد من تصديقه للعناية بشأنه بعد أن كانت الزكاة واجبة في جميع الأعصار والأدوار، مضافاً إلى التصريح بذلك في بعض النصوص أيضاً وإن كنا في غنى عن الاستدلال بها كما عرفت))(2).

وفيه:

1- إنه (قدس سره) لم يذكر أصلاً في مبحث الكر معادلة الصاع لتسعة أرطال فضلاً عن استقصاء الكلام فيه وإنما أشار إلى ما يساوي الكر من الأرطال على أنواعها.

2- قوله (قدس سره): ((واثني عشر مكية)) والصحيح أن الصاع يساوي أربعة أرطال ونصف الرطل بالمكي لأن الرطل بالمكي يساوي ضعف العراقي كما ذكر (قدس سره) في غير موضع في الكتاب ومنه مبحث الكر.

3- إن تلقي الأصحاب لهذا الوزن مدركي مستند إلى الروايات فلا غنى عنها.

المطلب الثالث: إن الرطل العراقي يساوي مائة وثلاثين درهماً ...

المطلب الثالث: إن الرطل العراقي يساوي مائة وثلاثين درهماً والرطل المدني الذي هو مرة ونصف بقدر العراقي يساوي مئة وخمسة وتسعين درهماً

فالصاع الذي يعادل تسعة أرطال بالعراقي يساوي 9×130 1170 درهماً

والمد الذي هو ربع الصاع يساوي (292.5) درهم.

وهذا القول التزم به المشهور الذي كاد يكون إجماعاً، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بلا خلاف أجده إلا من الفاضل في التحرير وموضع من المنتهى))(3)

ولذا وصف المخالف بالغفلة، قال صاحب الجواهر (قدس

ص: 172


1- مباني العروة الوثقى: 2/151-157.
2- مباني العروة الوثقى: 23/315.
3- جواهر الكلام: 15/210.

سره): ((فما في التحرير في زكاة الغلات أنها مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباعه غفلة، ومثله ما عنالمنتهى، مع أنه فيه في المقام- أي حساب الكر- مائة وثلاثون درهماً كما في زكاة الفطرة في التحرير أيضاً))(1).

وقال عنه صاحب الحدائق: ((إنه تبع فيه بعض العامة كما احتمله بعض أصحابنا))(2).

وقد استدلوا - ومنهم الشهيد السيد الصدر الأول(3)

(قدس سره)- بروايتين غير تامتي السند وهما مكاتبة جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني وإبراهيم بن محمد الهمداني المتقدمتان ومشكلة الأولى أن جعفر بن إبراهيم لم يُعرَّف في كتب الرجال، وأبوه ثقة وكيل الناحية المقدسة، أما مشكلة الثانية ففي طريق الطوسي إلى علي بن حاتم القزويني لوجود الحسين بن علي بن شيبان القزويني ولم يعرف وكذا الحسين بن الحسن الحسيني المذكور في السند.

وتمسك السيد الخوئي (قدس سره) للاستدلال على المطلب بنفس النكتة السابقة فقال (قدس سره): ((ويستفاد ذلك من روايتين وإن كانتا ضعيفتين، ولا حاجة إلى التمسك بهما بعد أن كان المتلقى عن الأصحاب يداً بيد وجيلاً بعد جيل هو التحديد بالمائة والثلاثين كما عرفت))(4).

وفيه: إن هذا التلقي قد يناقش فيه بأنه مستند إلى الروايتين ولذا فإن الأصحاب استدلوا بهما في المقام وحينئذٍ:

1- لا غنى عنهما للاستدلال بهما على المطلب.

ص: 173


1- جواهر الكلام: 1/168.
2- الحدائق الناضرة: 12/113. وفي كتاب (الفقه الإسلامي وأدلّته) للدكتور وهبة الزحيلي، مج1، ص273 من الطبعة الثالثة في طهران أن الرطل البغدادي يساوي 128و 4/7 درهماً.
3- بحوث في شرح العروة الوثقى: 1/514.
4- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/315.

2- إن المستند غير تام ولذا شكك الفقيه المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره) في تحويل الرطل إلى وزن وتبعه تلميذه السيد السيستاني (دام ظله) الذي وصف التحويل بأنه مستند إلى مقدمات فاسدة وقد نقلنا قوله.

فلا بد إذن من تقنين الدليل لتصحيح التمسك به بوجوه يحصل الاطمئنان بالنتيجة بضمّ بعضها إلى بعض:-

1- أن يقال: إن هذه الشهرة التي تكاد تكون إجماعاً لا يمكن أن يكون منشؤها روايتين ضعيفتين فإن مثلهما لا يؤسس لمثل هذه الحالة فلا بد أن يكون لهذه الشهرة مستند آخر وهو تلقي الأجيال لها يداً بيد حتى زمان المعصوم (عليه السلام) وإذا حصل تغيير في وزن الرطل أو الدرهم فإنه ينقله بأمانة إلى ما يعادله كما نقل المعاصرون الوزن بأمانة إلى الكيلو غرام.وقد ذكرنا سابقاً كبرى أن الإجماع لكي يصح كونه مدركياً لا بد أن يكون المدرك بقوته(1)

والمقام ليس منه لأن المدرك روايتان ضعيفتان والمجمع عليه قوي ومشهور وعليه العمل في مسائل ابتلائية وفي موارد عديدة (الكر، الزكاة، زكاة الفطرة، الفدية، الكفارة) ولا يحتمل غفلة أي جيل عنها.

2- أن يقال: إن شهرة العمل بالرواية جابرة لضعفها في المقام وليس مطلقاً إذ لا نقول بها بتقريب أن يقال إن الإشكال في الرواية ليس من جهة العلم بكذب الراوي أو القطع بعدم الصدور من المعصوم (عليه السلام) وإنما من جهة جهالته وعدم معرفة حاله ونحن بعيدو العهد عن زمان الصدور فربما اطلع القدماء على ما لا نعلمه من حال الراوي أو الرواية فاطمأنوا بصدورها فتكون من تقديم بيّنة من يعلم على بيّنة من لا يعلم ونحن لا نعلم كذب الراوي أما القدماء فقد حصل عندهم الاطمئنان بالاستناد إلى الرواية.

ص: 174


1- هذه الكبرى كان يميل إليها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وفهمت منه أنه تلقاها من أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره).

3- إن المجتهد له بل عليه أن يرجع إلى مجتهد آخر إذا انسد عليه باب العلم بالحكم بشرط عدم العلم بخطئه أو خطأ مستنده وقد حققنا في النقطة السابقة عدم العلم بخطأ المستند، وهنا نقول بتحقق الشرط الآخر وهو عدم العلم بخطئهم إذ لا يعرف الفقهاء المعاصرون الوزن الحقيقي للرطل والمد المذكور في النصوص لكن الفقهاء السابقين يعلمون وأفتوا بما أوصلهم اجتهادهم فيجوز بل يجب الرجوع إليهم ولا يُعلم خطؤهم في ذلك. وهذا لا من جهة القول بتمامية دليل الانسداد الذي نتيجته حجية مطلق الظن وإنما من باب تطبيق الملاك الذي ذكروه في باب التقليد من جريان السيرة العقلائية التي تقتضي رجوع الجاهل إلى العالم وهي شاملة للمجتهد إذا استعصى عليه الاستنباط في مسألة معينة وهم يلتزمون به بالإرجاع إلى الغير في موارد الاحتياط الوجوبي للتوقف في الفتوى.

4- إن الروايتين ظاهرتان في الإخبار عن حالة مؤسسة وقائمة وليس إنهما أسَّسَتا لحالة جديدة فليستا هما الدليل في المقام حتى يضر الاعتراض عليهما ويشهد لهذا الظهور عدة قرائن:-

أ - إن وضع المكاييل والموازين وصبّها ومعادلتها كسكِّ العملة من شؤون الدولة فإنها هي التي تقوم بها وتلزم الناس جميعاً باستعمالها ويكون دور الإمام (عليه السلام) هو بيان الموقف الشرعي من الإمضاء أو تحديد نسبة الموجود من المقدار الحقيقي وغيره، ولا يمكن لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) أن يؤسسوا لأوزان ومكاييل تختلف عن الناس. وسيأتي ذكر الشواهد التأريخية على أن معادلة المد بمائة وثلاثين درهماً هي إما من وضع تلامذة أبي حنيفة كالقاضي أبي يوسف المتوفى سنة 182 ه- وهو أول من لُقّب قاضي القضاة وكانت له حظوة عند المهديأ- والهادي والرشيد (مع التحفظ

ص: 175

على الألقاب) أو من وضع أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241ه- وكلاهما سبقا الإمام الهادي (عليه السلام) الذي تُروى عنه هذه المكاتبة وقد استشهد عام 254ه-.

ب- إن ذيل رواية جعفر بن إبراهيم (وأخبرني) ظاهر في الخطاب المباشر فيكون المخبر هو إبراهيم لولده جعفر ولم يقل (وكتب لي) مثلاً حتى يكون من الإمام (عليه السلام) فيكون إخبار إبراهيم عن حالة موجودة في المجتمع، وكذا في رواية إبراهيم فإنه من غير المعلوم أن يكون الذيل (والرطل مائة وخمسة وتسعون... إلخ) من كلام الإمام فلعله من كلام إبراهيم لتفسير كلام الإمام (عليه السلام) ويكون إخباراً عن حالة قائمة وليس تشريعاً وتأسيساً من قِبل الإمام (عليه السلام) لها.

ج-- إن اعتبار الرطل مئة وثلاثين درهماً موجود في فقه الحنفية(1)

وقد أسسه تلامذة أبي حنيفة قبل زمان الإمام الهادي (عليه السلام) وكانت لهم حظوة عند خلفاء ما بعد المنصور كما تقدم.

5- إن رواية جعفر بن إبراهيم الهمداني يمكن تقريب الاعتماد عليها بأن من رواها عن جعفر هو محمد بن أحمد بن يحيى صاحب كتاب نوادر الحكمة ولم يستثن روايته محمد بن الحسن بن الوليد وقد قال بعضهم باعتبار ((كل من يروي عنه محمد بن احمد بن يحيى ولم يكن ممن استثناه ابن الوليد)) قال أبو العباس بن نوح: ((وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله، وتبعه أبو جعفر بن بابويه على ذلك))(2).

أقول: إننا لا نعتمد هذه الكبرى في التوثيقات ولا في قبول الرواية لأنها اجتهاد من ابن الوليد وليس شهادة حسّية فلا يكون حجة وإنما ذكرناه كمقرّب للاعتماد على الرواية بضمِّه إلى غيره.

ص: 176


1- الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي:3/1889، الطبعة الثالثة في طهران.
2- معجم رجال الحديث: 15/51.

إلفات: قد وقع القلم الشريف للسيد الخوئي (قدس سره) في سهو إذ قال: ((كذلك الرطل في زمانهم (عليهم السلام) كان يطلق على العراقي مرة وهو ألف وثلاثمائة درهم، وأخرى على المدني وهو ألف وتسعمائة وخمسون درهماً، وثالثة على المكي وهو ضعف العراقي أعني ألفين وستمائة درهم))(1)، والصحيح الذي التزم به (قدس سره) في الموارد الأخرى من الكتاب تقسيم هذه الأرقام على عشرة.

المطلب الرابع: إن الدرهم يساوي سبعة أعشار الدينار

وقد استدل السيد الخوئي (قدس سره) على النسبة المذكورة بين الدرهم والدينار بنفس النكتة المتقدمة، قال (قدس سره): ((وقد ذكروا أيضاً: أن كل عشرةدراهم تساوي خمسة مثاقيل صيرفية وربع المثقال، وهذا أيضاً مورد للاتفاق الذي لا بد من تصديقه بالبيان المتقدم))(2).

وقد مزج (قدس سره) بين نسبتين وهما كون العشرة دراهم تساوي سبعة مثاقيل شرعية وأن المثقال الشرعي يساوي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي فالعشرة

دراهم تساوي7× 5 مثقال صيرفي.

وللتعرف على هذا التلقي عبر الأجيال ننقل قول صاحب الحدائق (قدس سره): ((لا خلاف بين الأصحاب وغيرهم أيضاً أن الدنانير لم يتغير وزنها عما هي عليه الآن في جاهلية ولا إسلام صرح بذلك جملة من علماء الطرفين قال شيخنا العلامة (أجزل الله إكرامه) في النهاية: والدنانير لم يختلف المثقال منها في جاهلية ولا إسلام. وكذا نقل عن الرافعي في شرح الوجيز أنه قال: المثقال: لم يختلف في جاهلية ولا إسلام. والدينار مثقال شرعي فهما متحدان وزناً فلذا يعبر في أخبار الزكاة تارة بالدينار وتارة بالمثقال.

ص: 177


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 2/153.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/315.

وأما الدراهم فقد ذكر علماء الفريقين أيضاً أنها كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) سابقاً كما كان قبل زمانه بغلية وكان وزن الدرهم منها ثمانية دوانيق، وطبرية وزن الدرهم منها أربعة دوانيق، وهكذا بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى زمن بني أمية فجمعوا الدرهمين وقسموها نصفين كل درهم ستة دوانيق واستقر أمر الإسلام على ذلك.

قال شيخنا الشهيد في كتاب الذكرى نقلاً عن ابن دريد أن الدرهم الوافي هو البغلي بإسكان الغين منسوب إلى رأس البغل ضربه الثاني في خلافته بسكة كسروية ووزنه ثمانية دوانيق، قال: والبغلية كانت تسمى قبل الإسلام بالكسروية فحدث لها هذا الاسم في الإسلام والوزن بحاله وجرت في المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق، فلما كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق. انتهى.

وقد ذكروا في نسبة كل من الدينار والدرهم إلى الآخر أن الدينار درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم نصف دينار وخمسه، فعلى هذا يكون مقدار عشرة دراهم سبعة دنانير))(1).

فالدرهم ((ستة دوانيق والدانق ثمان حبّات من أواسط حب الشعير))(2)، قال صاحب الجواهر: ((بلا خلاف أجده في شيء من ذلك، بل عن ظاهر المنتهى في الفطرة الإجماع على الأول، بل عن ظاهر الخلاف إجماع الأمة عليه، نحو ما في المدارك من أنه نقله الخاصة والعامة، ونص عليه جماعة من أهل اللغة، وفي المفاتيح: ((إنه كذلك باتفاق الخاصة والعامة ونص أهل اللغة)) وفي الرياض لم أجدفيه خلافاً بين الأصحاب، وعزاه جماعة إلى الخاصة والعامة مؤذنين بكونه مجمعاً عليه عندهم، بل في المفاتيح نفي الخلاف أيضاً عما بعد الأول، وفي محكي المنتهى نسبته إلى علمائنا، وفي المدارك قطع به الأصحاب، بل عن رسالة المجلسي في تحقيق الأوزان أنه متفق عليه بينهم، وأنه

ص: 178


1- الحدائق الناضرة: 12/90.
2- شرائع الإسلام للمحقق الحلي.

صرح به علماء الفريقين، إلى غير ذلك من كلماتهم المعلوم كفايتها في هذا الموضوع))(1).

وفي وجه تحديد هذه النسبة نقل صاحب الجواهر (قدس سره): ((قال المسعودي: (إنما جعل كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل من الذهب لأن الذهب أوزن من الفضة وكأنهم ضربوا مقداراً من الفضة ومثله من الذهب فوزنوهما فكان وزن الذهب زائداً على وزن الفضة بمثل ثلاثة أسباعها، واستقرت الدراهم في الإسلام على أن كل درهم نصف مثقال وخمسه، وبها قدرت نصب الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك) وفيه-أي في نفس المصدر-: إن ذلك كان بإشارة من زين العابدين (عليه السلام)، وعن أبي عبيد في كتاب الأموال التصريح بأن ذلك كان في زمان بني أمية أيضاً))(2).

أقول: ينبغي الإشارة إلى عدة ملاحظات:-

1- إن عملية توحيد الدراهم المشار إليها في زمن بني أمية هي الحادثة المعروفة في زمن الإمام السجاد (عليه السلام) وأرسل ولده الإمام الباقر (عليه السلام) إلى الشام لمعالجة الأزمة التي تعرضت لها الدولة الأموية مع الدولة الرومية وذكرناها كاملة في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

2- إننا نقلنا كلمات عديدة لجملة من الفقهاء يمثلون أجيالاً متعددة متصلة ليكون واضحاً أن هذه المقادير والنسب قد تلقاها الفقهاء يداً بيد جيلاً بعد جيل حتى وصلت إلينا وأن كل تحويل في العملة كانوا يراقبونه بدقة ويحددون ما يعادله من العملة الحديثة.

3- إن الدراهم المتداولة بين المسلمين متنوعة ومتفاوتة بالوزن لكن الدرهم الذي ضبطت به المقادير الشرعية هو هذا الذي حدد وزنه ونسبته من الدينار الشرعي.

ص: 179


1- جواهر الكلام: 15/174.
2- جواهر اكلام: 15/177.

4- ما قاله المسعودي من وجه اتخاذ هذه النسبة بين الدرهم والدينار غير تام لأمرين:-

أ. إن الدراهم الموجودة في المتاحف أكبر من الدينار وليست بنفس الحجم.

ب. لازم كلامه أن وزن حجم معين من الفضة يساوي سبعة أعشار وزن نفس الحجم من الذهب وهو غير صحيح لأن كثافة الفضة (10) غم لكل سنتمتر مكعب وكثافة الذهب (19.3) غم لكل سنتمتر مكعب.

5- لما كانت الدراهم متفاوتة في الوزن والمتداول منها والمشهور مختلف من زمان إلى زمان لذا وردت أرقام متعددة لتحديد نصاب الزكاة ومقدارها ولكن1- النصاب ثابت في الجميع فإذا ازداد وزن الدرهم قل عدد دراهم النصاب والعكس بالعكس، فقد كانت سبعة دراهم في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعادل ستة دراهم فيما بعده، بعد أن زيد في وزن الدرهم ثم أصبحت تعادل خمسة بعد أن زيد وزنه مرة أخرى لذا فإن نصاب زكاة النقدين كان (280) درهماً على الأول و(240) درهماً على الثاني و(200) درهماً على الثالث وهو المعمول به.

وهو تفسير خبر حبيب الخثعمي في الكافي قال: (كتب أبو جعفر المنصور إلى محمد بن خالد وكان عامله على المدينة أن يسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزكاة من المائتين كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره أن يسأل فيمن يسأل عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد (عليه السلام) قال: فسأل أهل المدينة فقالوا: أدركنا من كان قبلنا على هذا فبعث إلى عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد (عليه السلام) فسأل عبد الله بن الحسن فقال: كما قال المستفتون من أهل المدينة، قال: فقال: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل في كل أربعين أوقية أوقية فإذا حسبت ذلك كان على وزن سبعة وقد كانت وزن ستة وكان الدرهم خمسة دوانيق، قال حبيب فحسبناه فوجدناه كما قال، فأقبل عليه عبد الله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا؟ قال: قرأت في كتاب أمك

ص: 180

فاطمة عليها السلام، قال: ثم انصرفت فبعث إليه محمد بن خالد: ابعث إلي بكتاب فاطمة (عليها السلام) فأرسل إليه أبو عبد الله (عليه السلام) إني إنما أخبرتك إني قرأته ولم أخبرك أنه عندي، قال حبيب: فجعل محمد بن خالد يقول لي: ما رأيت مثل هذا قط)(1).

المطلب الخامس: إن الدينار هو المثقال الشرعي

ورد في أكثر من رواية التعبير عن الدينار بالمثقال الشرعي:

(منها) الموثقة عن علي بن عقبة وعدة من أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (ليس فيما دون العشرين مثقالاً من الذهب شيء، فإذا كملت عشرين مثقالاً ففيها نصف مثقال إلى أربعة وعشرين، فإذا أكملت أربعة وعشرين ففيها ثلاثة أخماس دينار إلى ثمانية وعشرين فعلى هذا الحساب كلما زاد أربعة)(2).

(ومنها) صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (في الذهب في كل أربعين مثقالاً مثقال)(3) الحديث.

(ومنها) خبر زرارة عن أحدهما (عليهما السلام): ((في حديث)) قال: (ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ عشرين مثقالاً ففيه نصف مثقال، ثم على حساب ذلك إذا زاد المال في كل أربعين ديناراً دينار)(4).

المطلب السادس: إن الدينار الشرعي يساوي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي

هذه المقدمة كالرابعة ليست شرعية حتى ننظر في الأدلة، وإنما هي مقدمة خارجية تؤخذ من العارفين بأوزان العملات وما طرأ عليها من تغيّرات

ص: 181


1- الكافي: كتاب الزكاة، باب العلة في وضع الزكاة، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب1، ح5، 13، 10.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب1، ح5، 13، 10.
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب1، ح5، 13، 10.

وتحوّلات، والرجوع إلى الدراهم والدنانير الموجودة في المتاحف يزيد الأمر حيرة وإشكالاً، فقد نقل خبراء الآثار أوزاناً مختلفة لها وتواريخ سكّها(1). 3

لذا قال السيد الحكيم (قدس سره): ((وأما أن المثقال الشرعي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، فقد نسبه في المستند إلى جماعة، منهم صاحب الوافي، والمحدث المجلسي في رسالته في الأوزان، نافياً عنه الشك، ووالده في حلية المتقين، وابن الأثير في نهايته، حيث قال: ((المثقال يطلق في العرف على الدينار خاصة، وهو الذهب الصنمي عن ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي..)). لكن تقدم في كتاب الطهارة: وزن الدينار الذي عثرنا عليه. ولأجل ذلك يشكل ما ذكروه، ولا يتسع المقام لتحقيق ذلك في هذه العجالة))(2).

أقول: ما كان له (قدس سره) أن يعود إلى الدراهم والدنانير الموجودة في المتاحف لأن تنوعها واختلافها معروف منذ صدر الإسلام وشهدت تغيرات وتبدّلات، ولكن المقادير الشرعية بقيت محفوظة لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بتوجيه من أئمتهم (سلام الله عليهم) وكانت النسب بين المقدار الشرعي والعملة الموجودة المعلومة تتغير وفق تغير العملة فنصاب الزكاة كذا درهم بلحاظ الدرهم ذي الوزن الكذائي ثم أصبح يساوي كذا درهم لما تغيّر وزن الدرهم وهو في جميع الأحوال محدد لدى الأصحاب الذين تلقّوها من دون أن تختلط عليهم الدراهم والدنانير الملحوظة.

كما لو قلنا اليوم أن الدولار يساوي كذا دينار فلا يختلط على أحد أن النسبة هي بلحاظ الدولار الأمريكي وليس الكندي أو الأسترالي ولا يلتفت إلى إشكال من يأتي لاحقاً ويقول وجدت في المتاحف عدة أنواع مختلفة من الدولارات وهذه المعروفية تناقلتها الأجيال، قال صاحب الرياض: ((والدرهم الذي قُدِّر به المقادير الشرعية هنا-في زكاة الذهب والفضة- وفي القطع والديات والجزية ستة دوانيق على ما صرّح به الأصحاب، من غير خلاف بينهم أجده،

ص: 182


1- تجد صورها وأوصافها في مستمسك العروة الوثقى للسيد الحكيم (قدس سره): ج1/570-571.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/117، الطبعة الثالثة.

بل عزاه جماعة منهم إلى الخاصة والعامة وعلمائهم، مؤذنين بكونه مجمعاً عليه بينهم، وصرّح به أيضاً جماعة من أهل اللغة، والدانق بمقدار ثمان حبّات من أوساط الشعير فيما قطع به الأصحاب على الظاهر، المصرّح به في المدارك، بل متفق عليه بينهم وصرّح به علماء الفريقين كما في رسالة الخال العلامة المجلسي (رحمه الله) في تحقيق الأوزان وغيرهما، ونقلهم كافٍ في الحجة، وإن لم نقف لهم على حجة، وبه اعترف جماعة)).ثم قال (قدس سره): ((قال الخال العلامة: وهذه النسب مما لا شك فيها واتفقت عليها العامة والخاصة، كما ظهر مما أسلفناه في المقدمة الأولى. انتهى.

ومن جملة ما ذكره من النسب التي نفى الشك فيها نسبة المثقال الشرعي إلى الصيرفي، فقال: هي ثلاثة أرباع الصيرفي، فالصيرفي هو مثقال وثلث من الشرعي))(1).

فلا سبيل إذن إلى إثبات هذه المقدمة إلا من خلال نقل كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) الذين شهدوا عملية التحويل هذه ونقلوها بأمانة.

وقد ذكرتُ في كتاب الرياضيات للفقيه(2)

قبل حوالي عشر سنوات كلاماً لخّصته من كتاب (قواعد الحديث/ الجزء الثاني) للمرحوم آية الله السيد محيي الدين الغريفي وهو مخطوط في الفصل الثاني عشر بعنوان (ألفاظ المقادير الشرعية) لما فيه من فوائد جمة في هذا المجال وأشير إلى أنني لم أنقل أسماء المصادر التي أعتمد عليها رعاية للاختصار وعدم الخروج عن خطة البحث، وإلا فإن الكتاب موثق بالمصادر في كل فقرة ذكرها.

قال (قدس سره): ((كان التعامل في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما قبله بالدراهم والدنانير المسكوكة في المملكتين القيصرية والكسروية، وأول من أمر بضرب السكة الإسلامية هو الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالبصرة سنة 40ه- ثم أكمل الأمر عبد الملك بن مروان سنة 76ه-، وقد وجد في فرنسا بعض الدراهم المضروبة في عهد الإمام عليه السلام)).

ص: 183


1- رياض المسائل: 5/70-72.
2- صفحة 154-159، طبعة بيروت.

والدينار هو المثقال الشرعي من الذهب المسكوك نص عليه أهل اللغة والفقهاء ولذا ورد في الأخبار الواردة في باب الزكاة بالدينار مرة وبالمثقال أخرى، وأقرّوا كذلك أن الدينار لم يتغير في جاهلية ولا في إسلام وأقره خبراء الآثار الجدد.

وإن وزن الدينار الشرعي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي وصرح بالاتفاق على ذلك بين الخاصة والعامة جمع، منهم المجلسي وقال: ((سمعت من الوالد العلامة (المجلسي الأول) أنه قال: (رأيت كثيراً من الدنانير العتيقة كالرضوية وغيرها بهذا الوزن) )) وقال الشيخ كاشف الغطاء الكبير: ((وأما المثقال فهو شرعي وصيرفي، فالشرعي هو الذهب العتيق الصنمي الذي يسمى اليوم أبو لعيبة، والصيرفي المعروف بين العجم والعرب مثقال شرعي وثلثه، والمثقال الشرعي ثلاثة أرباعه)) وقال النراقي في المستند بعد أن نقل عن جماعة من الفقهاء أن وزن الدينار الشرعي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، قال ويثبته إطلاق الدينار عرفاً على الدينارين المعمولين في بلاد الإفرنج المسميين ب-(دوبتي) و(باج آغلو) وكل منهما ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي وهما المرادان بالذهب الصنمي حيث أن فيهما شكل صنم، فالأول يكون الشكل في طرفيه والثاني في أحدهما.

وقال: ثم إن المثقال الصيرفي على ما اعتبرناه مراراً ووزناه وأمرنا جمعاً من المدققين باعتباره يساوي تقريباً ثلاث وتسعين حبة من حبات الشعير المتوسطاتفيكون الدينار على ذلك سبعين حبة تقريباً وهو يطابق حبات الذهب الصنمي المذكور فإنا وزناه مراراً فكان سبعين حبة لكن المجلسي قال: إن الشعيرات مختلفة في البلدان بحد لا ينضبط التقدير بالنسبة إليه فقد وزنا بعض الشعيرات بالمثقال الصيرفي فكان مئة واثنتين شعيرة، وبعضها كان مئة وإحدى عشر شعيرة وبعضها تسعين ومع هذا الاختلاف الفاحش كيف يمكن بناء الحكم عليها.

وذكر السيد عدنان السيد شبر الغريفي في رسالته المسماة (الدليل القطعي على انتظام القدر المرعي): ((إن هذا المثقال المسمى بالشرعي لم يزل مستعملاً في صدر الإسلام وقبله، وضرب عليه الدينار حتى اخترعت الدولة

ص: 184

الفارسية مثقالاً جديداً زنته مثقال وثلث مثقال شرعي واشتهر بالصيرفي وبني تحديده الشرعي سابقاً على حبات الشعير أما الصيرفي فقد بنوا تحديده أخيراً على حبات الحمص فاعتبروه (24) حمصة متوسطات، وعليه المدار في الأعصار المتأخرة إلى زماننا)).

وكل حبة سموها قيراطاً وحددوا القيراط بأربع قمحات وعليه يساوي المثقال الصيرفي (96) حبة قمح، ويكون الشرعي (72) حبة، وهذا هو القيراط الصيرفي الملحوظ لكن يستعمل القيراط في الشرع أيضاً في نصف عشر المثقال الشرعي فيكون (20) قيراطاً لكنه غير مراد في البحث.

وعلل قسمة المثقال إلى (24) حبة بأن الحُسّاب يقسمون الأشياء إلى أربعة وعشرين قيراطاً لأنه أول عدد له ثمن وربع ونصف وثلث صحيحات من غير كسر.

وهذا المثقال الصيرفي هو المتعارف في عصرنا الحاضر في إيران والعراق ويعرف لدى الصاغة بالصيرفي الفارسي وإليه نظر الفقهاء في بحوثهم على المثقال الشرعي وحدوه بثلاثة أرباعه.

ولكن بعد اشتهار الوزن بالكيلو غرام ولوجود الكسر في المثقال الصيرفي المذكور عدل وزنه إلى (5) غرام لكنه لا صلة له ببحثنا لأن الفقهاء لم ينظروا في تقديراتهم إلا إلى الفارسي الأول الذي قاسوا المثقال الشرعي عليه.

والذهب الخالص لين في نفسه فلا يستعمل في السكة ولا في الحلي بل يضاف إليه مادة أخرى كالصفر وهو الغالب لكي يتصلب، والإضافة تختلف زيادة ونقيصة فقد يضاف إلى المثقال الصيرفي الذي هو (24) حبة حبتان من الصفر ويبقى (22) حبة من الذهب فيسمى ذهب عيار (22) وقد يضاف (3) حبات من الصفر فيكون ذهب عيار (21) وهكذا.

وحيث اعتبر في الدينار الشرعي أن يكون من الذهب المسكوك فلا بد من الاقتصار في المضاف إليه على أقل ما تعارف إضافته مما يحصل به تصلبه وسكه وهو حبتان في كل (24) حبة وهو المسمى بعيار (22) وهو المتعارف في الليرة العثمانية والباون ونحوهما من المسكوكات ذات الاعتبار.

ص: 185

والمثقال الصيرفي على ما أخبر به جماعة من ثقات الصاغة في النجف الأشرف يساوي (4.6) غم فالمثقال الشرعي (3.45) غم.أما خبراء الآثار فقد شهدوا باختلاف أوزان الدنانير الإسلامية(1)

الواصلة إليهم فقيل إنه (4.25) غم وقيل (4.265) غم وصرّح بعضهم بأنه وجد ديناراً يحمل شعائر إسلامية يزن (4.5) غم وقيل أقل من ذلك بكثير.

والصنجات (أي القوالب) المصنوعة لوزن الدينار عند سكه والتي عثر عليها خبراء الآثار مختلفة المقدار فقال بعضهم: ((وتتمشى صنج الزجاج البيزنطية مع مقدار وزن الدينار البيزنطي تماماً وهو (68) حبة أي (4.406) غم وهو يعتبر أصل الدينار الإسلامي الذي يزن (66) حبة أي (4.276) غم وقال إن الصنج الخاصة بالدنانير بالمتحف البريطاني تزن من (4.21) إلى (4.28) غم)).

وعلى أية حال فإن ثبت بنحو الجزم واليقين صحة بعض التحديدات للدينار الشرعي المنافية لما هو المعروف لدى الفقهاء فهو. ولكنه أنى يحصل مع ذلك الاضطراب في التحديد زيادة ونقيصة ودلالة بعضه على عدم الزيادة عما جزم به الفقهاء فلا مناص إذن من الأخذ بتحديدهم فإنه مبني على مشاهدتهم للدنانير الإسلامية القديمة والرضوية وغيرها، ومشاهدتهم للدينارين الإفرنجيين الصنميين وشهادتهم بأن الجميع تزن ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي المعروف في عصرنا فإنه اخترع في عصر الدولة الفارسية ليحل محل المثقال الشرعي الذي كان معروفاً ومستعملاً إلى حين اختراعه وعليه طبقه الفقهاء كما سبق.

والدرهم الشرعي يساوي ( ) من المثقال الشرعي الذي هو (3.45) غم فيكون الدرهم (2.415) غرام وقد أقرّ خبراء الآثار تلك النسبة بين الدينار والدرهم إلا أنهم لما ضبطوا وزن الدينار ب-(4.25) زاد عندهم وزن الدرهم لا محالة)). انتهى ما لخّصناه من كتاب قواعد الحديث.

ص: 186


1- في كتاب مستمسك العروة الوثقى للسيد الحكيم (قدس سره) (ج1/570-571) صور وأوصاف دنانير ودراهم إسلامية متنوعة ومختلفة في وزنها.

المطلب السابع: إن وزن المثقال الصيرفي هو (4,6) غرام

ضمّ الكلام الذي نقلناه عن المرحوم السيد الغريفي (قدس سره) شهادات الفقهاء الحسّية لعملية التحول في سك الدينار وما يعادله من المثقال حتى وصل إلينا وأدركناه وكان السوق في النجف يتعامل به ووزنه (4.6) غرام.

وأدركنا أيضاً أن المثقال كان في بغداد يساوي (4.88) غرام لكن الفقهاء (قدس سره) إنما بنوا معادلة المقادير الشرعية بما يساويها من الأوزان المستحدثة بما كانوا يتعاملون به من المثقال في النجف الأشرف، وذكروا جيلاً بعد جيل هذه المعادلات.

فذكر السيد اليزدي (قدس سره) في تحديد نصاب الزكاة ((وبحقة النجف الأشرف في زماننا سنة 1326- وهي تسعمائة وثلاثة وثلاثون مثقالاً صيرفياً وثلث مثقال- ثمان وزنات وخمس حقق ونصف إلا ثمانية وخمسين مثقالاً وثلث مثقال،وبعيار الإسلامبول- وهو مائتان وثمانون مثقالاً- سبع وعشرون وزنة وعشر حقق وخمسة وثلاثون مثقالاً))(1).

ثم نرجع بالتأريخ حوالي مئة عام أخرى لننقل مشاهدة صاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((وكيف كان فقد اعتبرناه-أي نصاب الزكاة- في يوم الثلاثاء عشرين في شعبان سنة ألف ومائتين وتسعة وثلاثين من الهجرة النبوية بعيار البقال في النجف الأشرف فكان اثنتي عشرة وزنة إلا ربع الوقية وخمس مثاقيل صيرفية، لأن الحقة كانت فيه ستمائة مثقال صيرفي وأربعين مثقالاً كذلك، والصاع ستمائة مثقال وأربعة عشر مثقالاً صيرفياً وربع مثقال ينقص عن الحقة ستة وعشرون مثقالاً إلا ربعاً))(2).

ص: 187


1- المستند في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 23/314.
2- جواهر الكلام: 15/210.

والذي انفتح لي من لطف الله تبارك وتعالى والله العالم وأذكره على نحو الأطروحة أن جعل المثقال الصيرفي مرة وثلث بقدر الشرعي لوحظ فيه توحيد حجم القطعة من الدرهم والدينار:

لأن الدرهم من الدينار الشرعي وهو يساوي 3/ من المثقال الصيرفي

فالدرهم 7/10 × 3/ 21/

من المثقال الصيرفي.

والنسبة بين وزن حجم معين من الفضة إلى وزن نفس الحجم من الذهب هو هذا لأن كثافة الفضة (10) غرام لكل سنتمتر مكعب وكثافة الذهب (19.3) غرام لكل سنتمتر مكعب وإن (10/9.3) تساوي 20.73/40 وهو يقارب 21/40 بفرقٍ دقيٍّ ضئيل.

أما مختار سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لوزن المثقال على أنه (4.884) غرام وهو الذي استعمله في حساباته(1)

ويظهر من تقديره للكر بأنه (400) كغم فيمكن أن يستند إلى أحد وجهين:-

1- ما ورد في بعض المصادر الحديثة أن المثقال بهذا المقدار.

2- إنه رجع بالحسابات من النتيجة (أعني اعتبار المد ثلاثة أرباع الكيلو) إلى المقدمة (وهو مقدار المثقال بالغرامات) فلاحظ أن المد هو ثلاثة أرباع الكيلو تحقيقاً، والمد رطلان وربع رطل والرطل مئة وثلاثون درهماً والدرهم سبعة أعشار الدينار والدينار الذي هو مثقال شرعي يساوي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي فيكون: المد 1/4و2 ×130×7/10×3/4× المثقال الصيرفي 750 غرام. فالمثقال الصيرفي 750 ÷ 153.56 4.884.ولذلك فإنه (قدس سره) حذف كلمة (تقريباً) من جوار كلمة المد(2).

وكلا الوجهين لا يتمّان:

ص: 188


1- ما وراء الفقه: 2/53.
2- منهج الصالحين: ج1، ص249، المسألة (1380).

أما الأول: فلأن هذا الوزن للمثقال غير ملحوظ للفقهاء الذين شهدوا عملية تحويل الأوزان، والمثاقيل متنوعة واليوم قد صححت الكسور واعتبر المثقال الصيرفي خمسة غرامات وهذا لا يؤثر على وزن المثقال الذي روعي لدى الفقهاء ووُزِنَ فكان (4.6) غرام.

وأما الثاني: فلأن هذه المعادلات مترابطة لا يمكن التفكيك بينها فالرطل مئة وثلاثون درهماً والدرهم سبعة أعشار المثقال الشرعي وهو ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي ليس من كل ما يسمى مثقالاً في السوق وإنما هذا المثقال المعيّن الذي تلقّوه جيلاً بعد جيل يداً بيد فلا يجوز أخذ المعادلات السابقة وترك الأخيرة.

ويظهر من شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) ذلك أيضاً فيرد عليه ما ذكرنا حيث أنه اعتبر الكر (399) كغم وكان عليه أن يعتبره (400) كسيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره) وربما اعتبر المثقال (4.88) غم فأهمل ما بعد الثمانية من الكسور فيكون الناتج (399.672) ثم أهمل ما بعد الفارزة وهو غير محق في كليهما خصوصاً الثاني لأن ما بعد الفارزة إذا كان أكثر من النصف فيقرب إلى الواحد صحيح ويكون الناتج (400) كغم.

وإضافة إلى كل ذلك فإنه (دام ظله) لم يحذف كلمة (تقريباً) من قوله ((لكل مسكين مد وهو يساوي ثلاثة أرباع الكيلو تقريباً))(1)

مع أن المد يساوي ثلاثة أرباع الكيلو تحقيقاً على هذا الاختيار.

كما أن هذا الاختيار لوزن المثقال ينتج نصاباً لزكاة الغلات يساوي (900) كغم.

لأن نصاب الزكاة 300 صاعاً × 4 أمداد× ثلاثة أرباع الكيلو 900 كغم

لكنه (دام ظله) ذكر أن نصاب الزكاة يساوي (847) كغم(2)

وهو يناسب وزن المثقال (4.6) غرام لا ما اختاره (دام ظله) والله العالم.

ص: 189


1- منهاج الصالحين: ج1، ص406، المسألة (1028).
2- منهاج الصالحين: ج2، ص19، المسألة (30).

النتيجة:

تمت عندنا بفضل الله تعالى المقدمات السبع التي توصل إلى نتيجة أن المد يساوي ثلاثة أرباع الكيلو غرام تقريباً والتي هي أساس حساب الصاع الذي يساوي أربعة أمداد وهي مقدار زكاة الفطرة وحساب الكر الذي يساوي ( 133)صاعاً، وعرفنا من خلالها وزن الدينار والدرهم الذين يردان في اللقطة والديات ونصاب القطع في السرقة ونصاب الزكاة ومقدار حنوط الميت.

إشكال الفقيه المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره) وتلميذه السيد السيستاني (دام ظله)

استشكل المرحوم الفقيه الشيخ حسين الحلي (قدس سره) أثناء بحثه في مسألة الكر على بعض المقدمات المتقدمة، فقال (قدس سره): ((ولكن الإشكال في كون الرطل وزناً، ففي كثير من كتب اللغة إنه كيل، كما أن الكر كيل بلا إشكال، وفي بعض كتب اللغة أنه وزن. وفي بعض آخر جمع بينهما))(1).

ثم نقل (قدس سره) بعض كلام كتب اللغة كالجمهرة لابن دريد والمخصص لابن سيده وتاج العروس والصحاح والمصباح وبرهان اللغة وقال (قدس سره): ((وقد عرفت اختلافهم في الرطل من حيث كونه كيلاً أو وزناً)).

وخلُص إلى نتيجةٍ بقوله: ((وليس ببعيد أن يكون أصل الرطل كيلاً، ولكن في مرحلة ضبط هذا الكيل قُدِّر بالوزن. فعن المجلسي (قدس سره) في رسالته (الأوزان) إن المد والرطل والصاع كانت في الأصل مكاييل معينة، كما صرّح به في الأخبار، وكلام الأصحاب واللغويين أيضاً، فقدروها بالوزن لئلا يلحق التغيير بها بمرور الزمان))(2).

ثم استشهد (قدس سره) بعدة روايات على أن الرطل كيل، فقال (قدس سره): ((وأما الأخبار فقد ذكر في صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته

ص: 190


1- دليل العروة الوثقى، تقريرات بحث الشيخ حسين الحلي، بقلم الشيخ حسن سعيد: ج1، ص77.
2- دليل العروة الوثقى: ج1، ص79.

عن الرجل يدفع إلى الطحان الطعام فيقاطعه على أن يعطي صاحبه لكل عشرة أرطال اثني عشر رطلاً دقيقاً؟ فقال عليه السلام: لا، قلت: الرجل يدفع السمسم إلى العصّار، ويضمن لكل صاع أرطالاً مسماة؟ قال عليه السلام: لا)(1).

وظاهر الرواية إن الرطل فيها كيل لا وزن، ولأجل ذلك يقدم الطحّان على دفع اثني عشر رطلاً دقيقاً في قبال عشرة أرطال حنطة، من جهة أن عشرة أرطال من الحنطة يكون الحاصل من دقيقها ما يزيد على الاثني عشر، لأن الكيل من الدقيق أقل وزناً من كيل الحنطة. ولو كان الرطل في الرواية وزناً، لم يتم للرواية معناها، إذ لا داعي للطحان أن يدفع من الدقيق ما هو أكثر وزناً من الحنطة.

وقد ذكر في الوافي عن التهذيب بسنده عن الحسن بن محبوب عن عمر بن يزيد (في حديث) قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام: تعطى الفطرة دقيقاً مكانالحنطة؟ قال: لا بأس يكون أجر طحنه بقدر ما بين الحنطة والدقيق...)(2)

الحديث، لأن صاع الدقيق أقل من صاع الحنطة، فيكون ذلك عوض الطحن. قال في الوافي: لعل مراد السائل إعطاء الدقيق أعني الذي يحصل من صاع من الحنطة بعد وضع أجرة الطحن فيها كما يستفاد من الجواب. انتهى.

ومثل هذه الرواية في كون الرطل فيها كيلاً ما تضمنته رواية الكلبي النسابة عن الصادق (عليه السلام) إلى أن قال: (فقلت: بأي الأرطال؟ فقال عليه السلام: أرطال مكيال العراق)(3) أو العراقي على نسخة، فهذه كلها تفيد أن الرطل كيل.

وهناك رواية أخرى ربما أوهم أن مفادها كون الرطل وزناً، كرواية جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني في الفطرة أنها ستة أرطال برطل المدينة، والرطل مائة

ص: 191


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب9، ح3.
2- الوسائل: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب 9، ح5، والحديث بكامله في التهذيب، كتاب الصوم، باب الزيادات، ح109.
3- الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، باب2، ح2.

وخمسة وتسعون درهماً. وليس فيها دلالة على ذلك، بل يمكن القول بدلالتها على كونه كيلاً، إذ لا إشكال في أن الصاع كيل وهما -أي الصاع والرطل- تحديد له -أي الكيل-، بل يمكن القول بأن الرواية الأولى كذلك، غايته أنه -عليه السلام- أراد ضبط ذلك الكيل بالوزن فقال: والرطل مائة وخمسة وتسعون درهماً)).

ثم قال (قدس سره): ((إن وزن ما تسعه الكيلة الواحدة من الماء هو أكثر مما تسعه تلك الكيلة من الطعام ومنه يظهر لك أن في الرواية إشكالاً آخر وهو إنما يمكن الركون إليها في باب زكاة الفطرة لو كان الرطل فيها من مقولة الأوزان، أما لو كان من مقولة الكيل وكان المراد بها هو أن الرطل كيلة تسع من الطعام ما وزنه مائة وخمسة وتسعون درهماً كانت الرواية مجملة من ناحية اختلاف جنس الفطرة في أنه لبن أو طعام أو تمر، والكيل الواحد من كل هذه الأجناس يختلف وزنه مع الآخر، فلا بد أن نقول: إن الرطل فيها من مقولة الوزن دفعاً للمحذور المذكور. وحينئذٍ ينعدم فيها ما رمناه من استنتاج وزن الكر أو كيله)).

ثم قال (قدس سره) في النهاية: ((فالحق إن التحديد بالأرطال لم يعلم المراد منه على التحقيق فلا يصلح للتعيين))(1).

أقول:

1- لقد أتعب نفسه الشريفة في البحث عن كون الرطل كيلاً أو وزناً وهو غير مثمر لأن الرطل إن لم يكن وزناً فقد عودل بالوزن في رواية الهمداني كما اعترف (قدس سره) بغضِّ النظر عن اختلاف المواد في كثافاتها بعد أن أمضى الشارع المقدّس هذه المعادلة وقد وصف (قدس سره) هذا القول بأنه غير بعيد في أول كلامه، فإذا كان له (قدس سره) كلام ففي الدليل على هذه المعادلة لا في كون الرطل كيلاً أو وزناً.

2- قوله (قدس سره): ((إن الرطل كيل لأن الصاع حُدِّد به في رواية الهمداني والصاع كيل قطعاً)) مردود لأن الرطل حُدد بالدراهم في نفس

ص: 192


1- دليل العروة الوثقى: ج1/79-83.

الرواية وهي وزن قطعاً فقد حصل تحويل إذن من الكيل إلى الوزن في إحدى المعادلتين، إما من الصاع إلى الرطل أو من الرطل إلى الدراهم.

3- إن الأخبار التي استدل بها قابلة للمناقشة كلها.

فرواية النسابة -الذي لم يوثق- غير تامة سنداً. وصحيحة عمر بن يزيد ليس فيها ذكر للأرطال فهي أجنبية عن المقام وغاية ما تدل عليه التفاوت بين الحنطة ودقيقها وإن صاع الحنطة يكون أقل عند طحنه، وحينئذٍ هي تدلّ على عكس مطلوبه لأنها تدل على أن الدقيق أقل من الحنطة ولذا سأل الراوي عن الاجتزاء بها والشيخ الحلي (قدس سره) افترض أن كيل الدقيق أزيد من كيل الحنطة فلا بد أنها تشير إلى الوزن لأن وزن أي كيل من الدقيق هو أقل من نفس وزن الكيل من الحنطة بعد نخله وغربلته.

وأما صحيحة محمد بن مسلم فإن صاحب الوسائل رواها عن الصدوق (رض) في الفقيه وقال: (إلا أنه قال لكل عشرة أمنان عشرة أمنان) فتكون مجملة من هذه الناحية ولا يمكن الاستدلال بها، ويزيدها هذا الإجمال أن الرواية ذكرها الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب مكتفياً بالعدد دون ذكر التمييز حيث ورد فيه (لكل عشرة اثني عشر دقيقاً)(1).

4- أما الإشكال الآخر الذي قاله (قدس سره) من أن المكيال الواحد له أوزان متعددة بتنوع المواد التي تكال فيحصل اختلاف بينها؛ فيرد عليه:

أ- إنه إذا تمت الحجة الشرعية على الاكتفاء بهذا الوزن أو الكيل اجتزأنا به بغضّ النظر عن هذه الإشكالات.

ب- إن الإشكال قد يرد عليه (قدس سره) بالعكس؛ فيقال إن الوزن الواحد له مكاييل متعددة بحسب تنوع المواد. وليس مراعاة هذا أولى من مراعاة ذاك بعد قيام الدليل على كل منهما، والمقدار

ص: 193


1- التهذيب: ج7، كتاب التجارات، باب8: بيع الواحد بالاثنين، ح17.

الشرعي للصاع والمد وإن كان مقدّراً بالأصل بالكيل إلا أنه بعد معادلته بالوزن فقد يكون هذا هو الأصل.

إشكال السيد السيستاني (دام ظله الشريف) في حساب المد بالوزن:

استثمر السيد السيستاني (دام ظله الشريف) نفس الإشكال عندما باحث مسألة مقدار المد في كتاب الصوم(1)

فاستشكل على تقدير صاحب العروة (قدس سره) المد بالوزن وصبَّ إشكاله على الدليل على تحويل المد- الذي هو كيل قطعاً- إلى وزن.

وابتدأ كلامه (دام ظله) بقوله: ((أصل تعريف المد أن يمدَّ الرجل يديه فيملأها طعاماً، قال صاحب القاموس فجرّبته فكان صحيحاً، ويشهد على ذلك معتبرة عمر بن يزيد وفيها يظهر(2) أن المدّ كان مقيداً في الأصل بالكيل لذلك أجاب الإمام (عليه السلام): لا بأس أن يعطي الفرق فالفرق نشأ من كون الكيل الواحد لكليهما يختلف وزناً وإن تشابه حجماً))(3).

وثبّت (دام ظله) عدة مبادئ:

((1- إن المد مكيال لا ميزان.

2- إن مورد المكيال غير مورد الميزان فالمتساوية في أحدهما مختلفة في الآخر فلا يوزن ما يكال ولا يكال ما يوزن فالماء عند الجميع مما يكال والحبوب وأدقتها تقاس بالكيل والوزن، ويظهر أنه في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تقاس كيلاً، والاعتماد على الكيل أسهل لعدم احتياجه إلى مؤونة زائدة لكن الوزن أدق))

ص: 194


1- استغرق البحث في المسألة أربع محاضرات تأريخها أيام 16، 17، 20، 21 من شهر ذي الحجة من سنة 1415 هجرية.
2- تقدّم في مناقشة كلام الشيخ الحلي (قدس سره) عدم وجود ما يدلّ على ذلك.
3- من محاضرة يوم 16/ذو الحجة/1415.

وحينئذٍ تساءل (دام ظله): ((فكيف يعقل تبديل الكيل كالصاع والمد إلى وزن كما هو المشهور؟ فهنا يقع كلام هل يمكن حل هذه المسألة وتعيين المد بالوزن أم لا؟)).

ثم نقل أقوال فقهاء العامة في تحديد الصاع: ((وقد اختلف فقهاء العراق والحجاز بحسب اختلاف الرطل عندهم إذ المدني يساوي مرة ونصف بقدر العراقي فكان الصاع عند أبي حنيفة ثمانية أرطال وعند مالك المدني والشافعي

المكي خمسة أرطال وثلث الرطل (1/3و5 × 1/2 و1 8).

ولما كان الرطل العراقي من الأوزان (بعد اتفاق أبي يوسف مع أهل المدينة عند زيارته لهم على رجوع الرطل إلى العراقي والشاهد على أن أبا يوسف أراد بالرطل البغدادي أنه ذكر في كتاب الخراج في العراق الرطل وقد ألفه في بغداد بأمر هارون العباسي فلا يعقل أنه أراد غير العراقي) فكيف يعقل تعيين الكيل بالوزن؟

فيُجاب: إنهم لاحظوا في ذلك خصوص ما هو الأثقل في التعيير، فإن المد كان يكال به الحنطة والعدس وهما ثقيلان كذلك الشعير وهو خفيف أو لاحظوا فيه ما هو أثبت وأقل حركة كالعدس ونتيجة ذلك أن المقدار المعطى من الزكاة مساوٍ للكيل المطلوب في الثقيل وأكثر منه في الخفيف، وإنما فعل ذلك لعدم إمكان إحالة الناس إلى الكيل استمراراً لسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه أما الوزن فإنه مقتضى التطور والحضارة.نعم في مرحلة تحديد النصاب فإن النصاب محدد بخمسة أوسق وهو مكيال فيختلف الأمر ولا بد أن يكون المعيار على الأخف وحينئذٍ ينحل الإشكال لا أقل في المقام.

هذا هو المستفاد من كلمات بعضهم كابن قدامة في المغني)).

ثم ناقش (دام ظله) في كلام ابن قدامة إذ لم يثبت رجوع أبي يوسف إلى أقوال المدنيين: ((إذ نقلوا عن بعض الأحناف عدم رجوعه فإن محمد بن الحسن تلميذ أبي يوسف لم ينقل عن أستاذه رجوعه، فالنزاع باقٍ في تحديد

ص: 195

الرطل بالبغدادي وكون الأرطال التي حُدِّد بها صاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأوزان لا المكاييل.

وأما إن قلنا إن الرطل إما ظاهر في كونه من المكاييل أو مردد بين المكاييل والموازين، فلا يثبت اتفاق الفريقين المنقول في القرن الثاني في سنن البيهقي في زيارة أبي يوسف وسؤاله أهل المدينة عن الرطل فأتاه خمسون من أبناء المهاجرين والأنصار.

ويظهر أن ما ذكر لتقريب إرجاع أحد القولين (الحجاز والعراق) إلى الآخر محل خدشة، بل الظاهر أن المدنيين حددوا بالرطل الموجود عندهم والعراقيين بما عندهم.

نعم نقلوا عن أحمد أنه عيّنه بالوزن وهو في أواسط القرن الثالث(1)

فالروايات الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في النصف الأول من القرن الثاني لا يمكن حملها على إمضاء هذا التحديد(2).

وإن ما قيل من أن أحمد هو الذي حول المكيال إلى ميزان على ما نقل أحد أتباعه (ابن قدامة) محل إشكال فإن الرطل على ما نقله أهل اللغة مستعمل تارة كيلاً وأخرى وزناً، ونقل شيخنا الحلي في مسألة الكر عن كبار أهل اللغة أنَّ منهم من عيَّن الرطل من المكاييل وبعضهم أنه من الموازين وبعضهم ذكر كلا الأمرين، ورواياتنا تشهد أن الرطل من المكاييل))(3).

((وأما ما نقل عن الأئمة (سلام الله عليهم) من تحديد الصاع بستة أرطال بالمدني وتسعة بالعراقي فليس فيه مخالفة لكل منهما، فهذا القول إذا

ص: 196


1- توفي أحمد بن حنبل عام 241ه- عن (77) عاماً وكانت له حظوة عند خلفاء بني العباس بعد إفراج المعتصم عنه حين حُبس بفتنة خلق القرآن وكان المتوكل لا يولّي أحداً إلا بمشورته. (كتاب الأعلام للزركلي).
2- روايات تحديد الرطل وزناً بالدراهم وردت عن الإمام الهادي (عليه السلام) كما تقدّم فلا يبقى هذا الإشكال.
3- هنا انتهى تقرير محاضرة 17/ذ.ح./1415 مع شرحها وإيضاحها الذي ورد في المحاضرة التالية يوم 20/ذ.ح./1415.

تفهمناه غير ذاك، فصاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ذكروه غير مختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو صاع أهل المدينة، فقد ذكروا أن المعيار معيار أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة، فمد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مد أهل المدينةوصاعه صاعهم، لكن الدقة المعاصرة لم تكن يومئذٍ حيث كانت المكاييل مختلفة بين المدن.

وهذا معروف والشاهد على ما ذكرناه اعترافهم بأن المكاييل كانت مختلفة حتى في المدينة نفسها، ففي كتاب (الخراج في العراق)(1)

لأحد المعاصرين، ونقل فيه إن مروان بن الحكم جمع الصيعان المختلفة وأخذ معدلاً لها فسمي بالصاع المرواني يقول: ((تعرّض الصاع إلى تبدلات ... فأخذ الصيعان وغيّرها فأخذ أعدلها فقام الكيل عليه فسمي صاع مروان وليس هو صاع مروان بل هو صاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يبعد أن يكون ما ذكره الأئمة (عليهم السلام) هو الواقع بالرغم من مخالفته من ذكره عن أهل المدينة والعراق وليس بالغريب حتى الآن فإن المثقال يختلف بين النجف وبغداد)).

وخلص إلى نتيجة أن ما قيل من الاتفاق بين المدنيين والحجازيين غير صحيح ((والصحيح ما ذكره من أن منشأه اختلاف الأرطال بينهم، وهذا ليس بمهم، والمهم هو تحديد المد بالأرطال مع كون الرطل هو من الموازين.

ويستفاد من تسالم الفقهاء في بحث الكر تحديده بالوزن في كون الرطل من الموازين، فلا إشكال في كون الرطل من الموازين؛ نعم، خالف شيخنا الحلي في شرحه على العروة، وهذا كما قال مستفاد من فاضل خراساني من تلامذة النائيني كتب رسالة في ذلك)).

ثم ذكر (دام ظله) الوجوه التي يمكن أن تكون دليلاً على تحويل الصاع- وهو كيل- إلى وزن فقال:

((الوجه الأول: وهو مكوّن من مقدمتين:

الأولى: إن الرطل وزن.

ص: 197


1- لعلّه (دام ظله) يشير إلى كتاب (الخراج في الدولة الإسلامية) للدكتور ضياء الدين الريِّس.

الثانية: إن تحديد المكيال بالميزان ليس مستحيلاً بل لوحظ أثقل الحبوب وزناً وهو القمح والعدس وبدّلوا المكيال بالميزان(1).

لكن يجب البحث عن كل من المقدمتين.

أما المقدمة الأولى فلا دليل على أن الرطل الذي حدد به الصاع والمد هو من الموازين فهو مردد بين الكيل والوزن بل توجد شواهد على المراد بالرطل هنا الكيل وهي:

1- ما ورد في كلمات أهل اللغة من التردد بين من قال إنه وزن أو إنه كيل ومن جمع ونقل بعض كلمات قدماء أهل اللغة شيخنا الحلي (قدس سره).

2- قد ورد في روايات من طرف الفريقين تحديد الماء بالرطل ومن الواضح على ما شرحناه في مباحث المياه أن أحداً لا يحدد الماء بالوزن فالمراد بالأرطال المكاييل.

3- روايات اجتهد بها شيخنا الحلي (قدس سره) تبين أنه كيل كصحيحة محمد بن مسلم ولكننا ناقشنا في ذلك أن الرواية مذكورة في الفقيه من دون ذكر الأرطال بل ذكرت الأمنان(2)

والشيخ نقلها في موردين من التهذيب أحدهما في ج7 من طبعة النجف وفيه (لكل عشرة اثنا عشر) ولم يذكر التمييز فالأمر مشكوك فيه من جهة مغايرة الصدوق فيمكن الإشكال على شيخنا الحلي في الاستدلال بالرواية(3).

ص: 198


1- تقدّم أن هذا الوجه ورد في مصادر العامة ويلاحظ أن صياغة السيد السيستاني (دام ظله الشريف) للدليل غير وجيهة لعدم انسجام المقدمتين لأن المشكلة ليست في تحويل الصاع -وهو كيل- إلى الرطل -سواء كان وزناً أو كيلاً- فإن هذا ما دلّت عليه الروايات المعتبرة وإنما المشكلة في تحويل الرطل إلى دراهم التي هي وزن قطعاً.
2- ظاهر كلامه (دام ظله) أن اختلاف نقل الصدوق عن الكافي في التمييز فقط أي الأمنان بدل الأرطال ولكن تقدّم عن الوسائل أن الاختلاف في العدد أيضاً حيث ذكر الصدوق: (لكل عشرة أمنان عشرة أمنان).
3- إلى هنا انتهت محاضرة يوم 20/ذ.ج./1415.

والرواية الثانية رواية الكلبي النسابة وفيها (قال (عليه السلام): بأرطال مكيال أهل العراق).

4- إذا حدد المد بالرطل فيجب أن يكون من جنس ما فسر به فإذا كان المد مكيالاً فالرطل كيل كذلك.

أما المقدمة الثانية ففيها:

1- إن الحنطة التي لوحظت عند المعادلة باعتبارها الأثقل وزناً والعدس في المغني عن أحمد تختلف أوزانها بحسب البلاد وتختلف أيضاً بحسب الزمان ففي موسم الحصاد تكون رطبة فليس فيها حد ثابت يرجع إليه.

2- إن لحاظ الأثقل في الاعتبار إذا كان مجزياً في جانب الفدية باعتباره يعطي أكثر أو مساوياً للمطلوب إلا أنه في مسألة الزكاة التي حددت بالكيل يكون خلاف الاحتياط والذي يظهر من فقهائنا تبديل المكيال إلى ميزان في مطلق الموارد.

الوجه الثاني: أن يقال إنه قد وردت روايات تدل على أن الإمام هو الذي حدد المد أو الصاع بالوزن فيكون حكماً إلزامياً باعتباره من شؤون ولايتهم المطلقة وبسبب اختلاف الزمان والحضارة(1)

فبقاء المكيال معياراً يكون صعباً وغير مضبوط فهو الذي أمضى هذا التبديل)).

وبعد أن أشار (دام ظله) إلى رواية إبراهيم بن محمد الهمداني(2)

ناقشها من عدة جهات:-

1- إن الشيخ رواها بسنده عن علي بن حاتم القزويني وليس له سند إليه في المشيخة وطريقه في الفهرست إليه ضعيف فالرواية ضعيفة سنداً.

ص: 199


1- هذا المعنى تكرّر منه (دام ظله) وقلنا أن الكيل لا ينافي الحضارة ما دامت المادة مما يمكن ضبطها بالكيل فإن مبيعات النفط الخام اليوم تباع بالبرميل والماء باللتر والغالون وغيرها.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب7، ح5.

2- إن قوله (عليه السلام) (تدفعه وزناً ستة أرطال برطل المدينة) مجمل إذ كما يمكن أن يراد بالموازنة معناها الأخص مقابل الكيل فإنه يمكن أن يراد بها معناها الأعم أي المعادلة وإن هذا يعادل هذا.

3- إن ذيل الرواية (والرطل مائة وخمسة وتسعون درهماً، يكون الفطرة ألفاً ومائة وسبعين درهماً) يمكن أن يكون من كلام الراوي.

ثم ذكر (دام ظله) الرواية الثانية التي رواها الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه ومعاني الأخبار وعيون الأخبار بطرق تنتهي إلى محمد بن أحمد بن يحيى صاحب نوادر الحكمة عن جعفر بن إبراهيم الهمداني(1)

وناقشها:

1- لم تثبت وثاقة جعفر بن إبراهيم وكونه من رجال نوادر الحكمة ولم يرد ذمه غير كاف في توثيقه.

2- إن ذيلها (وأخبرني) ظاهر في المشابهة فيكون إخباراً من إبراهيم لولده جعفر فهو ليس من كلام الإمام (عليه السلام) وإنما من كلام والده اجتهاداً منه أو لعله متأثر بكلام العامة ويحتمل أنه أخذه من الإمام (عليه السلام) لكنه غير متعين.

وعلى أي نحو كان فالاعتماد على مثل هذه الروايات والقول إن أبا الحسن الهادي (عليه السلام) تكفّل بالتحول التشريعي عما كان في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا أمر في غاية البعد ولا يمكن الالتزام به.

الوجه الثالث: أن يقال إن تحويل الكيل إلى وزن مما لا دليل عليه، ومع ذلك فإنه يمكن التقدير التقريبي في بعض الأبواب.

فالمد الذي كان لأهل المدينة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يكن بأيدينا لكن ما قاله في القاموس: ((إن المد ما يملأ الكفين)) وقد ذكره بعض الشافعية في شرح المهذب/ج7 وهذا المقدار حتى لو فرض في أثقل الأشياء فإنه لا يزيد على ثلاثة أرباع الكيلو فيطمئن الإنسان إذا أعطى مداً في المقام بالاجتزاء لا أنه يتعين عليه ذلك، ولذا كتبنا في الرسالة العملية ويجزي

ص: 200


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، باب7، ح1.

في الصاع ثلاثة كيلوات تقريباً. أما في كتاب الزكاة فقلنا إن النصاب كذا وقيل إنه كذا أي أننا لا نعتمده، وقد أنكرنا في باب المياه حساب الكر بالوزن لأنه مبني على مثل هذه المقدمات الفاسدة))(1).

إلى هنا انتهى ما أفاده السيد السيستاني (دام ظله الشريف) من بحث المسألة وقد دونت تقريره كاملاً لعدم وجود تقريرات مطبوعة لبحثه الفقهي، وسوف نعلق على محل الحاجة من كلامه (دام ظله الشريف) فنقول ومن الله نستمد العون والتسديد:-

1- إن إثارة الإشكالات وتفنيد الأقوال غير مجدٍ إذا لم يقترن بتأسيس الرأي الصحيح وإلا فإنه سيكون هدماً بلا بناء أو إيصال إلى منتصف الطريق وهو غير مقبول خصوصاً في هذه المسألة التي تتدخل في صميم حياتنا لارتباطها في تحديد الكر الذي لا يتنجس بمجرد الملاقاة وبزكاة الفطرة التي تجب على كل مسلم صباح عيد الفطر كل عام وبنصاب الزكاة وبمقدار المد الذي هو فدية الإفطار لمن رُخّص لهم وبالكفارة التي فرضت لمعالجة كثير من المشاكل كالإفطار المتعمد لشهر رمضان والظهار والقتل وحنث اليمين والعهد والنذر، فليس فخراً أن ينسب التحديد في نصاب الزكاة إلى القيل والقال ويقول إننا لا نعتمده.

2- وأما ما ذكره (دام ظله) من المعالجات في بعض الموارد بعد العجز عن تحديد الصاع بالوزن فإنها غير دقيقة كتحديد الكر بالمساحة لأن الروايات الواردة فيه لا تحدد الكر وإنما تبين مساحة الحوض الذي يطمئن بحصول الكر فيها باعتبار أن الوزن غير متاح للأكثر كما لو كان الماء في بئر أو في بركة في الصحراء فلا يمكن عدّ أرطاله- التي هي الأصل في حساب كمية الكر- فيعطي الإمام (عليه السلام) طرقاً سهلة لإحراز كرّية الماء لا لتحديد مقداره الذي يراد معرفته بالدقّة واستقراء روايات الكر تشهد بذلك فقد تضمنت الروايات (الماء في الركي) أي البئر كما في رواية صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو (في عمقه في الأرض

ص: 201


1- انتهت إلى هنا محاضرة يوم 21/ذ.ح./1415.

كما في رواية أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام)(1)

فيسأل الإمام (عليه السلام) عن أبعاد الحوض الذي يضمن تحقق الكرية كما لو أردنا اليوم صناعة حوض كذلك ولذا تعددت الإجابة في ذلك وأقلها وهو ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار كافٍ لتحقيق الكرية أما لو أخذنا المساحة التي اعتمدها الأكثر وهي (7/8 42 شبر مكعب فإنها تنتج وزناً أكبر بكثير من الكر المحدد بالوزن حيث يتجاوز ناتجها (520) كغم(2).

والحاصل إن روايات المساحة تعطي مؤشراً عن تحقق الكرية لا أنها تحدد الكر وإلا فإن السوائل تحسب بالكيل إلى الآن فيقاس الماء باللتر والبانزين باللتر والنفط الخام بالبرميل ونحوها.

ولو كان الإمام (عليه السلام) بصدد بيان مقدار الكر بالأشبار لأعطى النتيجة ولو في واحدة من الروايات لأن العبرة بها لا بشكل الحوض وأبعاده.

فإن قلتَ: إن مثل هذه الزيادة لا بأس بها لأنها موافقة للاحتياط.

قلتُ: قد تكون مخالفة للاحتياط كما لو افترض وجود ماء وزنه بين الحدين (377-400) كغم ووقعت فيه نجاسة ولا يوجد غيره فالبناء على نجاسته والاكتفاء بالتيمم مخالف للاحتياط لاحتمال اعتصامه على القول الآخر وصحة الوضوء به.

3- إن اعتماد الطريقة التي قالها (دام ظله) لحساب المد غير مفيدة للاطمئنان ولا يمكن الركون إليها لعدم الاتفاق على أن المد هو ما ملأ كفي الإنسان إذا مدّهما وإن ورد هذا المعنى في كلمات البعض فقد نسبه ابن الأثير إلى القيل ب-((إن أصل المد مقدر بأن يمد الرجل يديه فيملأ كفيه طعاماً))(3)

فلعله استنباط منهم ناشئ من تشابه اللفظ وتقارب المقدار وإلا فهو كيل لوحظ فيه أن يكون ربع الصاع الذي هو كيل آخر تواضعوا عليه، يعني أن المد اسم لوعاء

ص: 202


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب10، ح6.
2- راجع التفاصيل في كتاب الرياضيات للفقيه، ص178-180.
3- النهاية لابن الأثير: 4/308، مادة (مدد).

لوحظ فيه أنه ربع الصاع والشاهد على ذلك ما تقدّم (صفحة 169) في صحيحة أبي القاسم الكوفي، وفي خبر الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يحلّ للرجل أن يبيع بصاع سوى صاع المصر، فإن الرجل يستأجر الحمّال فيكيل له بمُدّ بيته لعله يكون أصغر من مُدِّ السوق، ولو قال: هذا أصغر من مُدِّ السوق لم يأخذ به، ولكنّه يحمِّله ذلك ويجعلُه في أمانته، وقال: لا يصلح إلا مُدّاً واحداً والأمنان بهذه المنزلة)(1).

مضافاً إلى ما مرَّ من اختلاف الأمداد، فهو إناء صغير تواضعوا على جعله كيلاً لهم ويرجع إلى اعتبار المتواضعين ولم يؤخذ في اعتباره أنه ما يملأ الكفين ولكنه سمِّي مداً لأن ما فيه مقارب لما يملأ الكفين. ولذا اكتفى الراغب الأصفهاني بقوله: ((والمد من المكاييل معروف))(2)، أما ابن فارس فجعل للمعنى منشأً آخر فقال: ((الميم والدال يدل على جر شيء في طول، ومن الباب المد من المكاييل، لأنه يمد المكيل بالمكيل مثله))(3)

وهما معروفان بإرجاع الكلمات إلى أصولها.

ونقله في القاموس قولاً آخر غير معناه الاعتباري الوضعي وهو ربع صاع(4).

4- أما ما ذكره (دام ظله) من قول صاحب القاموس شاهداً على كلامه وهو قوله: ((المد ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما، وبه سمي مداً، هكذا قدروه وأشار له في اللسان: وقد جرّبت ذلك

ص: 203


1- التهذيب، ج7، كتاب التجارات، الباب3: بيع المضمون، ح58.
2- المفردات للراغب،465، مادة (مد).
3- معجم مقاييس اللغة: 5/269، مادة (مد).
4- تاج العروس في جواهر القاموس: 9/159، مادة (مد).

فوجدته صحيحاً))(1)

يصلح للرد عليه بعد التحفظ على إمكانية الوثوق بكلام صاحب اللسان والاعتماد عليهفقهياً لأننا نسأله (دام ظله) ما معنى ((وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً))؟ يحتمل فيه معنيان:-

أ- إنه عثر على الكيلة التي تسمى مداً وملأها بالطعام فوجده يملأ كفيه ممدودتين فالمد إذن كيلة معروفة اعتبارية لوحظ فيها أنها ما يملأ الكفين، وهذا المعنى بعيد لاستبعاد أن يوجد هذا الوعاء في زمن صاحب اللسان، إضافة إلى ما تقدّم من اختلاف الأمداد باختلاف الأزمنة والأمكنة.

ب- إنه وزن ما قيل من وزن المد -أي رطلين وربع من الطعام- فوجده يملأ الكفين وهذا دليل صحة ما نقل من الوزن الذي يعادل المد حيث جرّبه وكان صحيحاً وهذا المعنى هو الظاهر وهو شاهد على صحة ما اخترناه من وزن المد الذي أنكره هو (قدس سره).

5- من البعيد أن يكون الرطل مكيالاً لأن المد وصف بأنه كان أقل ما يتصدقون به(2) وهو مقدار قليل لا يستحق أن يكون له جزء يقل عن نصفه هو الرطل باعتبار أن المد رطلان وربع والمكاييل لا تحتمل هذه التجزئة البسيطة أما الأوزان فدقيقة ويمكن أن تتقبل التجزئة إلى ما دون ذلك حيث نزلوا فيه إلى الحمّصة والشعيرة.

ص: 204


1- نفس المصدر، وفي 21/378، مادة (صوع)
2- هكذا جاء في قواميس اللغة، ولكن ورد في كفارات الإحرام عن الأئمة (سلام الله عليهم) أن كفارة من ألقى القمل عن جسده وهو محرم إطعام كفٍ من طعام وكذا فيمن عبث بلحيته فسقطت منها شعرة فليتصدق بكفٍ من طعام (وسائل الشيعة: كتاب الحج، مج9، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب15 وباب16). وحينئذٍ يمكن تصوّر أن الرطل هو كف من الطعام فيكون المد الذي يملأ كفين من الطعام مساوياً لرطلين؛ ولكن الكفين مجتمعين تحتويان على أكثر من مجموع كفين منفردين ولذا صار المد رطلين وربع رطل لأجل هذه الزيادة.

والوجوه التي ذكرها السيد السيستاني (دام ظله) لكون الرطل كيلاً قابلة للرد فكلمات اللغويين مختلفة بين كون الرطل وزناً أو كيلاً والماء يمكن أن يقاس بالوزن كما يقاس بالكيل، والوزن أقرب إلى قياس الماء من المساحة التي ارتضاها، والروايات التي استدل بها الشيخ الحلي تمت مناقشتها، أما كبرىً فإن المفسَّر يكون من جنس ما فُسر به فليست مطلقة فإنها خاصة فيما بين الكل وأجزائه لا بين الشيء ومعادله فقد عرف الرطل بالدراهم وهي وزن أكيداً.

6- ما قاله (قدس سره) أن لحاظ الأثقل في الاعتبار مجزٍ في جانب الفدية لكنه خلاف ذلك في الزكاة يرد عليه:-

أ- كان عليه أن يفرّق بين نفس الزكاة ونصاب وجوبها فإن لحاظ الأثقل مُجزٍ في الزكاة وموافق للاحتياط، لكنه على خلاف ذلك في تحديد نصاب الزكاة إذ أن تحقيق النصاب بالوزن يستلزم عدداً من الصيعان أكثر من (300) صاع الذي هو نصاب الزكاة بالنسبة للأخف وزناً لأن الوزن المقدّر للنصاب إذا لوحظ فيه أثقل الحبوب فإن بلوغه من الأخف يتطلب كيلاً أكبر.ب- إنه إذا ثبت إمضاء الأئمة (عليهم السلام) لعملية التحويل بأحد الوجوه الآتية فلا يُلتفت إلى هذه الإشكالات لأن من صلاحياتهم (سلام الله عليهم) التشريع كما أنهم (عليهم السلام) اكتفوا بإعطاء المد في زمانهم وهو أصغر من المدّ في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 205

النتيجة

إنه لا سبيل لنا إلا الاعتماد على ما نقله لنا السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) بالالتفات إلى عدة معطيات:-

1- إن تحويل الكيل إلى وزن وتغيير المقاييس من شؤون الدولة وقد قامت الدولتان الأموية والعباسية في عصر الأئمة بعدة تغييرات وتحويلات في العملة والأوزان وكان بعضها بإشارة الأئمة (عليهم السلام) كحادثة الإمام السجاد (عليه السلام) مع عبد الملك بن مروان سنة 76 في توحيد الدراهم. ويبدو أن معادلة الكيل بالوزن قد حصل في زمان قبل الإمام الهادي (عليه السلام) ولم تؤسس له هاتان الروايتان عنه (عليه السلام) وإنما هما حكتا الواقع، وقد تقدّم احتمال تحققه على يد تلامذة أبي حنيفة كالقاضي أبي يوسف في زمن هارون وما بعده، أو على يد أحمد بن حنبل كما نقل ابن قدامة في المغني وكلاهما سابقان على الإمام الهادي (عليه السلام)، وقد يكون صحيحاً ما قاله المغني أنهم لاحظوا أثقل الحبوب أو غيره.

2- إن تلقي سلفنا الصالح جيلاً بعد جيل شهادة حسية بصحتها وليست حدسية مبنية على الاجتهاد حتى يناقش في هذه الشهرة وقد نقلنا شهادات جملة منهم وإن المسألة كثيرة البلوى لا يحتمل فيها الغفلة أو التضييع. وهذا التلقي وإن لم نكن نعرف كيفية حصوله إلا أن ذلك لا يضر كالتغيير الذي حصل في الزكاة بسبب التغيير في وزن الدراهم ما بين زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الصادق (عليه السلام) من دون أن يعرف أولاد المهاجرين والأنصار كيفيته لكن الإمام (عليه السلام) أمضاه وبين منشأه في خبر حبيب الخثعمي المتقدم.

وما ألطف تعبير صاحب الرياض (قدس سره) عن هذا المعنى بقوله:

ص: 206

((ونقلهمكافٍ في الحجة، وإن لم نقف لهم على حجة))(1)، وصدّقناهم في نقل أمور كثيرة لم نعايشها كوزن الدرهم والدينار ونسبتهما ونسبة المثقال الشرعي إلى الصيرفي، والمقام منها. وأوضح مثال على حجية هذا التلقي والتزام الجميع به: هو التسالم على قبول تسلسل السنين حيث نسلّم جميعاً أن هذه السنة هي (1428) للهجرة النبوية الشريفة؛ وهكذا سلّمت الأجيال السابقة بتواريخ السنين التي هم فيها مع أن أحَداً منهم لم يعش منذ هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومه هذا ليحسب السنين بدقّة وإنما تلقّاها من الأجيال التي سبقته ولعدم توقّع غفلة أحد الأجيال عنها.

1- وبالدقة فإننا لا نحتاج إلى دليل على إمضاء الأئمة (عليه السلام) للتغيير الذي حكته روايتا الهمدانيين وإنما يكفي عدم وجود دليل على منعه والمسألة كما أسلفنا كثيرة الابتلاء.

2- لا أقل من أن المتأخرين من الفقهاء قد انسدّ عليهم باب الاستنباط في هذه المسألة فيكون المورد صغرى لكبرى رجوع الجاهل إلى العالم وهم أسلافنا الصالحون مع عدم العلم بالخطأ أو خطأ المستند ومع شدة تورعهم وعمق بحثهم عن الحقيقة فنرجع إليهم فيما قالوا.

ابتدأ التحقيق في المسألة يوم 13/ج2/1428ه- المصادف 2007/6/28م

وانتهى بلطف الله تبارك وتعالى يوم 30/ج2/1428 المصادف 2007/7/15.

ص: 207


1- رياض المسائل: 5/70-72.

ص: 208

البحث الرابع: ما تجب فيه الزكاة

اشارة

ص: 209

ص: 210

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الرابع: في ما تجب فيه الزكاة(1)

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((تجب في تسعة أشياء: الأنعام الثلاثة –وهي الإبل والبقر والغنم- والنقدين –وهما الذهب والفضة- والغلات الأربع –وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب- ولا تجب فيما عدا ذلك على الأصح)).

وعلّق السيد الخوئي (قدس سره) على العبارة بقوله: ((بلا إشكال ولا خلاف فيه بين المسلمين، بل عُدّ من ضروريات الدين، وقد نطقت به جملة وافرة من النصوص قد ادّعى في الجواهر تواترها)).

لكنه (قدس سره) وصف دعوى صاحب الجواهر (قدس سره) بتواترها أنها ((مشكلة، لاستدعائها أن يبلغ عدد الرواة في كل طبقة حداً يمتنع عادةً اشتباههم أو تواطؤهم على الكذب، وليس في المقام كذلك، فإن الرواة في طبقة الإمام (عليه السلام) لا يزيدون على أربعة عشر، على أن الطبقة في أول السند لا تشتمل على أكثر من ثلاثة أنفار –الشيخ والكليني والصدوق- فإن كلها تنتهي إليهم، وما بينهما من الطبقات متوسطات، وهذا المقدار لا ينطبق عليه ضابط التواتر كما لا يخفى))(2).

أقول: لا إشكال في تواتر العقد الإيجابي لهذا الحكم وهو ثبوت الزكاة في التسع والإطباق عليه من عامة المسلمين(3) وقد تناقلوه وإن لم تصل رواياتهم فملاك

ص: 211


1- ابتدأ إلقاء البحث يوم 21/ جمادى الأولى/1430 الموافق 2009/5/17.
2- المستند في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 23/133.
3- قال السيد السيستاني (دام ظله الشريف): ((في كتاب الأموال لأبي عبيد نسب عدم الثبوت في الزبيب إلى شريح والشعبي ووجهه ضعيف لا يعتنى به)) (من تقريراتي لبحثه الشريف يوم 2/صفر/1420). أقول: سيأتي صفحة 230 عن المغني لابن قدامة أن الشعبي يقول بالوجوب في الغلات الأربع ومنها الزبيب.

التواتر متحقق، وإنما الكلام في عقده السلبي أي نفي الوجوب عما سواها فإن فيها نصوصاً متعارضة أوجبت خلافاً بين أصحابنا فقد قال بعضهم بالوجوب في كل ما يُكال أو يوزن من الحبوب، وفي الخيل من الحيوان، وفي الأحجار الثمينة، وفي العبيد إذا اتُخذوا للتجارة، وفي أموال التجارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ففي صحة قول صاحب الجواهر (قدس سره): ((والنصوص له مع ذلك متواترة كتواترها في أنه لا تجب فيما عدا ذلك))(1) تفصيل.

وجوب الزكاة في التِسع:

ولأن وجوب الزكاة في التسع مجمع عليه لدى المسلمين ومن ضروريات الفقه ومتواتر مما يحصّل القطع به، فلا حاجة إلى الاستدلال عليه، وإنما نذكر بعض النصوص الدالة تيمّناً، وإن في بعضها نكات سنشير إليها بإذن الله تعالى، ومنها(2):-

1- صحيحة عبد الله بن سنان قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): أُنزلت آية الزكاة «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في الناس: أن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض الله عليكم من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان، وعفا لهم عمّا سوى ذلك).

2- صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (فرض الله عز وجل الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنّها رسول الله

ص: 212


1- جواهر الكلام: 15/65.
2- الأحاديث (1- 6) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح1، 4، 17، 3، 11، 12.

(صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء وعفا (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سواهن: في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وعفا (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك).

3- صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الصدقة فيما هي؟ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في تسعة الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، وعفا عما سوى ذلك).

4- مرسلة أبي سعيد القماط عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سُئل عن الزكاة فقال: (وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة وعفا عما سوى ذلك: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والبقر والغنم والإبل، فقال السائل: فالذرة، فغضب (عليه السلام)، ثم قال: كان والله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السماسم والذرة والدخن وجميع ذلك، فقال: إنهم يقولون: إنه لم يكن ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما وضع على تسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك، فغضب ثم قال: كذبوا فهل يكون العفو إلا عن شيء قد كان، ولا والله ما أعرف شيئاً عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

5- معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سُئل عن الزكاة فقال: الزكاة على تسعة أشياء على الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك).

ومثلها خبر أبي بكر الحضرمي ومعتبرة أبي بصير والحسن بن شهاب وخبر زرارة(1).

ص: 213


1- وهي الأحاديث 5، 10، 8 في نفس الباب وفي سند خبر زرارة القاسم بن عروة ولم يوثّق، والحسن بن شهاب وإن كان كذلك إلا أن الرواية مروية عنه وعن أبي بصير. ويوجد إشكال آخر في سند جملة منها من جهة أن الشيخ (قدس سره) رواها بطريقه عن علي بن الحسن بن فضال وفيه علي بن محمد بن الزبير الذي لم يوثّق. وهذا على المباني المعمول بها في علم الرجال ولكنا لا نجد ضيراً في الاعتماد عليه –مهما يكن حال علي بن محمد بن الزبير- لأن ابن فضال أودع رواياته في كتب عديدة، قال عنها الشيخ الطوسي (قدس سره): ((جيد التصانيف، وكتبه في الفقه مستوفاة في الأخبار، حسنة)) وهو ظاهر في وصولها إليه وأخذه منها، بل صرّح بذلك في قوله: ((أخبرنا بجميع كتبه قراءة عليه أكثرها، والباقي إجازة: أحمد بن عبدون عن علي بن محمد بن الزبير سماعاً وإجازة عن علي بن الحسن بن فضال)) فالشيخ لم يرو هذه الأخبار رواية فحسب وإنما وصلت إليه الكتب وقرأها عليه لإيصال السند وللتأكد من صحة صدورها كما جرى عليه ديدنهم، فروايته عن كتب ابن فضال بالأخذ من تلك الكتب مباشرة مضافاً إلى الاطمئنان بأن هذه الكتب هي نفسها التي وصلت إلى زميله النجاشي والتي رواها بطريق صحيح عن (محمد بن جعفر في آخرين، عن أحمد بن محمد بن سعيد عن علي بن الحسن). وسيأتي في خلال البحث أن جملة من الفقهاء أخذوا بروايات الشيخ (قدس سره) على ابن فضال كالسيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك والسيد السيستاني (دام ظله الشريف) فقد وصف رواية زرارة الآتية (رقم 5 صفحة 219) بأنها ((صحيحة زرارة عن كتاب ابن فضال)) (من تقرير محاضرة يوم 10/صفر/1420).

ص: 214

6- معتبرة(1) محمد (بن) الطيار قال: (سألت أبا عبد الله عما تجب فيه الزكاة، فقال: في تسعة أشياء: الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك، فقلت: أصلحك الله فإن عندنا حبّاً كثيراً، قال: فقال: وما هو؟ قلت: الأرزّ، قال: نعم، ما أكثره، فقلت: أفيه زكاة؟ فزبرني، قال: ثم قال: أقول لك: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما سوى ذلك وتقول لي: إن عندنا حبّاً كثيراً أفيه الزكاة).

7- صحيحة جميل بن دراج قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام): في كم الزكاة؟ فقال: في تسعة أشياء وضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعفا عما سوى ذلك، فقال الطيار: إن عندنا حباً يقال له الأرز،

ص: 215


1- محمد الطيار، وفي بعض النسخ محمد بن الطيار، وللأنس بالشهيد جعفر الطيار فقد سبق القلم في بعض النسخ وذكر (محمد بن جعفر الطيار) ولذا أشكل البعض على السند –ومنهم الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف)- بأن ((بقاء محمد بن جعفر بن أبي طالب إلى عصر الصادق (عليه السلام) مشكل)) (كتاب الزكاة: 1/153) فحكم بجهالته، كما أشكل على الرواية من جهة جهالة محمد بن عبيد الله الراوي عن الطيار. والثاني مردود لأن محمد بن عبيد الله هو ابن علي الحلبي وقد ذكر النجاشي في ترجمة عبيد الله بن أبي شعبة الحلبي أن آل أبي شعبة ثقات جميعاً. أما محمد فهو ابن عبد الله الطيار وهو لقبه كما ورد في صحيحة جميل الآتية من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) وكان يُعدَّه للمناظرات، وفي رواية قوية أن الإمام (عليه السلام) قال حينما بلغه وفاته: (رحمه الله ولقّاه نضرة وسروراً فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت) وفي قوية أخرى أن الإمام (عليه السلام) أجابه لما سأله عن كراهته (عليه السلام) للخصومة ومناظرة الناس قال (عليه السلام): (أما كلام مثلك فلا نكرهه من إذا طار أحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه) (معجم رجال الحديث: 6/279) ولعلها منشأ تلقيبه بالطيار، وعلى أي حال فلسنا محتاجين لتصحيح سندها لأن جميل بن دراج رواها بسند صحيح (رقم 7).

فقال له أبا عبد الله (عليه السلام): وعندنا أيضاً حب كثير، فقال له: عليه شيء؟ قال: ألم أقل لك إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما سوى ذلك منها الذهب والفضة وثلاثة من الحيوان الإبل والغنم والبقر ومما أنبتت الأرض الحنطة والشعير والزبيب والتمر)(1).

نفي الوجوب في ما سوى التسع:

أما العقد السلبي وهو نفي الوجوب عما سواها فقد استدل البعض عليه بالإجماع ومنهم صاحب الغنية قال (قدس سره): ((فزكاة الأموال تجب في تسعة أشياء: الذهب ... بلا خلاف ولا تجب فيما عدا ما ذكرناه بدليل الإجماع)) وقال المحقق(قدس سره) في المعتبر: ((ولا يجب في غير ذلك –أي التسعة- وهو مذهب علمائنا عدا ابن الجنيد وبه قال الحسن وابن سيرين والحسن بن صالح بن حي وابن أبي ليلى وإحدى الروايتين عن أحمد)) وقال العلامة في المنتهى: ((ولا تجب في غيرها ذهب إليه علماؤنا أجمع)) وقال السيد المرتضى (قدس سره): ((ومما ظن انفراد الإمامية به القول: بأن الزكاة لا تجب إلا في تسعة أصناف ... ولا زكاة فيما عدا ذلك ... والذي يدلّنا على صحة مذهبنا مضافاً إلى الإجماع))(2).

أقول: دعوى الإجماع غير تامة صغروياً وكبروياً والإجماع ليس متحققاً في عصر أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ولا عند الفقهاء (قدس الله أرواحهم)، وبيان ذلك في النقاط التالية:-

1- كشفت جملة من الروايات عن وجود خلاف بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أو عدم وضوح في شمول الوجوب لغير التسع لذا أكثروا من السؤال عنه، كما في مرسلة القماط ومعتبرة الطيار وجميل

ص: 216


1- رواها الصدوق (قدس سره) في الخصال: 422 بسند صحيح، ونقلها صاحب الوسائل في الباب 8، ح 13 عن التهذيب بسند غير تام.
2- الانتصار: 75.

وصحيحة زرارة(1) وموثقة أبي بصير(2) الآتية، بل يظهر من صحيحة ابن مهزيار الآتية أن لكل قولٍ رواة ومفتين من الأصحاب فكتبوا بذلك إلى الإمام الهادي (عليه السلام).

2- نقل الكليني في الكافي الوجوب في غير التسع عن يونس بن عبد الرحمن وهو من فقهاء أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) وأن الاقتصار على التسع كان مؤقتاً بعفو من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال ابن الجنيد(3) وهو من قدماء الأصحاب بالوجوب في كل ما دخل القفيز من الحبوب، وأوجب بعضهم الزكاة في أموال التجارة وبعضهم في الخيل، وبعض آخر في الأحجار الثمينة.

ويظهر من الكليني (قدس سره) اختيار قول يونس فقد عقد للروايات أكثر من باب، عنون الأولى: ((ما وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة عليه)) وذكر صحيحة الفضلاء وخبر أبي بكر الحضرمي وذكر قول يونس ثم عنون الثانية: ((باب ما يزكى من الحبوب)) وذكر روايات التعميم ثم عنون الثالثة: ((ما لا يجب فيه الزكاة مما تنبت الأرض من الخضر وغيرها)).

3- إنه إجماع مدركي مستند إلى الاجتهاد والنظر في الروايات والجمع بينها كما يظهر من كلماتهم (قدس الله أرواحهم).

وقد استدلوا على نفي الوجوب في غير التسع بروايات عديدة غير العفو الذي ورد في بعض الروايات أعلاه، ومنها:-

1- معتبرة زرارة التي رواها الشيخ بطريقه عن علي بن الحسن بن فضال قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن صدقات الأموال، فقال: في تسعة أشياء ليس في غيرها شيء: في الذهب والفضة والحنطة والشعير

ص: 217


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، الأحاديث 3، 12، 13، 9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب9، ح 11.
3- مختلف الشيعة للعلامة الحلي: 3/70.

والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم السائمة وهي الراعية، وليس في شيء من الحيوان غير هذه الثلاثة الأصناف شيء، وكل شيء كان من هذه الثلاثة الأصناف فليس فيه شيء حتى يحول عليه الحول منذ يوم يُنتج)(1).

2- مرسلة أبي سعيد القماط عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفي ذيلها: (والله ما أعرف شيئاً عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

3- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما أنبتت الأرض من الحنطة والشعير والتمر والزبيب (إلى أن قال): وليس فيما أنبتت الأرض شيء إلا في هذه الأربعة أشياء).

4- رواية الشيخ في التهذيب بسنده عن علي بن فضال بسند صحيح عن زرارة وبكير ابني أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ليس في شيء أنبتت الأرض من الأرز والذرة (والدخن) والحمص والعدس وسائر الحبوب والفواكه غير هذه الأربعة الأصناف وإن كثر ثمنه زكاة إلا أن يصير ما لا يباع بذهب أو فضة تكنزه ثم يَحُول عليه الحول وقد صار ذهباً أو فضة فتؤدّي عنه من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين ديناراً نصف دينار).

روايات معارضة:

وفي مقابل العقد السلبي توجد روايات دلّت على وجوب الزكاة في غير التسع في الجملة ومنها:-

1- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته عن الحرث ما يزكى منها، قال (عليه السلام): البر والشعير والذرة والدخن والأرز والسلت والعدس والسمسم كل هذا يزكّى وأشباهه)(2).

ص: 218


1- الحديثان (1، 2) في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح9، 3. والحديثان (3، 4) في الباب 9، ح8، 9.
2- الأحاديث من (1-6) في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 9، ح 4، 6، 2، 3، 10، 11.

2- صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله، وقال: (كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة، وقال: جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر والبقول، وكل شيء يفسد من يومه).

3- صحيحة محمد بن إسماعيل قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن لنا رطبة وأرزاً فما الذي علينا فيهما؟ فقال (عليه السلام): أما الرطبة فليس عليك فيها شيء، وأما الأرز فما سقت السماء العشر، وما سقي بالدلو فنصف العشر من كل ما كلت بالصاع أو قال: وكِيل بالمكيال).

4- خبر أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الحرث ما يزكى منه، فقال: البر والشعير والذرة والأرز والسلت والعدس كل هذا مما يزكى، وقال: كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة).

5- معتبرة زرارة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في الذرة شيء؟ فقال لي: الذرة والعدس والسلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير، وكل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي تجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة).

6- صحيحة أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل في الأرز شيء؟ فقال: نعم، ثم قال: إن المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أرز فيقال فيه ولكنه قد جعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه).

7- الروايات الدالة على وجوب الزكاة في أموال التجارة ومنها صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله سعيد الأعرج وأنا أسمع، فقال: إنا نكبس الزيت والسمن نطلب به التجارة فربما مكث عندنا السنة والسنتين هل عليه زكاة؟ قال: إن كنت تربح فيه شيئاً أو تجد رأس مالك فعليك زكاته، وإن كنت إنما تربّص به لأنك لا تجد إلا وضيعةً فليس عليك زكاة حتى يصير ذهباً أو فضة، فإذا صار ذهباً أو فضة فزكّه للسنة التي اتجرت فيها)(1).

ص: 219


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 13، ح1.

8- الروايات التي دلّت على وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) الزكاة على الخيل الإناث السائمة ومنها صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عنهما (عليهما السلام) جميعاً قالا: (وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً)(1).

والرواية تشير إلى فرض الزكاة بقرينة روايات أُخر في نفس الباب.

9- الروايات التي دلت على وجوب الزكاة على الرقيق إذا اتجر به ومنها موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس على الرقيق زكاة إلا رقيق تبتغي به التجارة، فإنه من المال الذي يزكى)(2).

10- ما رواه صاحب المستدرك عن زيد الزرّاد في أصله عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (كل شيء يدخل فيه القفزان والميزان ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول إلا ما انفسد إلى الحول ولم يمكن حبسه فذلك يجب الزكاة فيه على ثمنه إذا حال عليه الحول من يوم بيعه فيبقى ثمنه عنده إلى الحول، قلت: مثل أي شيء الذي يفسد؟ فقال: مثل البقول والفاكهة الرطبة وأشباه ذلك)(3).

11- خبر تحف العقول عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جوابه للمأمون العباسي: (وكل شيء يخرج من الأرض من الحبوب إذا بلغت خمسة أوسق ففيه العشر إن كان يسقى سيحاً، وإن كان يُسقى بالدوالي ففيه نصف العشر للمعسر والموسر)(4).

ص: 220


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 16، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 17، ح2.
3- مستدرك الوسائل: كتاب الزكاة، أبواب ما يجب فيه الزكاة، باب 10، ح4.
4- تحف العقول لابن شعبة الحراني: 308.

وجوه الجمع بين الروايات المتعارضة:

يوجد تعارض بدوي بين المجموعة الثالثة من الروايات مع المجموعة الثانية وبعض الأولى، وإنما قلت بعض الأولى؛ لأن بعضها –كصحيحة عبد الله بن سنان- هي حكاية لواقعة نبوية وليست ظاهرة في الجعل والتشريع كما في البعض الآخر. وإنما قلنا أن التعارض بدوي لأنه سيظهر من الوجه المختار طريقة الجمع بين هذه الروايات التي تبدو أنها متعارضة ونذكر الشواهد عليها وبذلك ينتفي التعارض من أساسه ولا تصل النوبة إلى وجوه الجمع التي ذكرها الأصحاب (قدس الله أرواحهم) لتأخرها رتبة، تأخر الحكم عن موضوعه وقد بيّنا ذلك في مسالة سابقة.

ولكننا نعطي الفرصة للسلف الصالح (قدس الله أرواحهم) ليبينوا وجه الجمع وقد قيل في حلّ التعارض بين ما دل على حصر الزكاة في التسع وما دل على وجوبها في غيرها في الجملة وجوه منها:

(الأول) ما التزم به المشهور من اختصاص الوجوب بالتسع وحمل غيرها على الاستحباب.

باعتبار أن الروايات النافية لوجوب الزكاة في غير التسع صريحة في هذا المعنى، والروايات المقابلة ظاهرة في الوجوب في غير التسع فترفع اليد عن هذا الظهور بالنص الصريح وتحمل على الاستحباب.

ففي المقنعة للشيخ المفيد (قدس سره): ((ويزكّى ساير الحبوب ... سنة مؤكدة دون فريضة واجبة وذلك أنه قد ورد في زكاة ساير الحبوب آثار عن الصادقين (عليهما السلام) مع ما ورد في حصرها في التسعة وقد ثبت أن أخبارهم لا تتناقض فلم يكن لنا طريق إلا الجمع بينها إلا إثبات الفرض فيما أجمعوا على وجوبه فيه وحمل ما اختلفوا فيه مع عدم ورود التأكيد في الأمر به على السنة المؤكدة..))(1).

وقال الشيخ (قدس سره) في التهذيب: ((إنها محمولة على الندب والاستحباب دون الفرض والإيجاب. وإنما قلنا ذلك لئلا تتناقض الأخبار لأن فيما قدمنا ذكره من الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما

ص: 221


1- المقنعة للشيخ المفيد (قدس سره) وقد حكاه صاحب الجواهر (قدس سره): 15/68.

سوى ذلك ولو كانت هذه الأشياء مما يجب فيه الزكاة لما كانت معفوّاً عنها والذي يبين عما ذكرناه ويوضحه أنهم لم يقولوا إن في هذه الأشياء زكاة على جهة الفرض والإيجاب))(1).لكن السيد المرتضى (قدس سره) تلميذ الشيخ المفيد (قدس سره) لم يرتضِ هذا الجمع وحمل أخبار الطائفة الثانية على التقية.

وممن رد هذا الوجه من الجمع المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه، قال (قدس سره): ((إن الجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل أحدهما على الاستحباب وإن كان في حد ذاته أقرب من الحمل على التقية الذي هو في الحقيقة بحكم الطرح، ولكنه في غير مثل المقام الذي يكون احتمال التقية فيه أقوى فإن الحمل على التقية حينئذٍ أقرب إلى الواقع من الحمل على الاستحباب))(2).

السيد الخوئي (قدس سره) باعتبار ((أن هذا النوع من الجمع وإن كان مطّرداً في أبواب الفقه، ولكنه غير منطبق على المقام، للتدافع بين مضمون الطائفتين وكونهما من المتناقضين في نظر العرف، بحيث لا قرينية لإحداهما على الأخرى أبداً، فإنا لو جمعنا في كلام واحد بين قولنا: فيه الزكاة، و: ليس فيه الزكاة، أو بين قولنا: عفا عن الزكاة، و: أنه فيه الزكاة، لكان الصدر منافياً ومضاداً للذيل بحسب الفهم العرفي بالضرورة))(3).

وانتقد صاحب الحدائق (قدس سره) بقوة هذا الجمع كما تكرر منه في موارد عديدة فقال (قدس سره): ((ولو كان ما يدّعونه حقاً من أن أخبار الوجوب إنما خرجت عنهم (عليهم السلام) مراداً بها الاستحباب وأنه لا تناقض ولا تدافع بين الأخبار في هذا الباب لما خفي هذا المعنى على أصحاب الأئمة المعاصرين لهم (عليهم السلام) ولما احتاجوا إلى عرض هذه الأخبار المنقولة عن المتقدمين على المتأخرين منهم (عليهم السلام) ومع تسليم خفاء ذلك عليهم فالأظهر في الجواب هنا لما عرض السائل عليه اختلاف الأخبار أن

ص: 222


1- التهذيب، ج4، كتاب الزكاة، باب 1: ما تجب فيه الزكاة، ذيل الحديث 8.
2- مصباح الفقيه: 3/19، طبعة حجرية.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/135.

يقال أن هذه الأخبار ليست مختلفة كما توهمت بل المراد بما ظاهره الوجوب في ما عدا التسعة إنما هو الاستحباب لا أنه (عليه السلام) يقر السائل على الحصر في التسعة كما عرفت ومع هذا يوجب عليه إخراج الزكاة في ما زاد على التسعة ويقرره على ما نقله من الإخبار الدالة على الوجوب))(1).

أقول: إذا كان اعتراض صاحب الحدائق (قدس سره) على أصل هذه السيرة من الأصحاب (قدس الله أرواحهم) في الجمع كما يظهر من مواضع عديدة من كتابه كما قال (قدس سره): ((والأصحاب قد جمعوا بين الأخبار بحمل هذه الأخبار الأخيرة على الاستحباب كما هي قاعدتهم وعادتهم في جميع الأبواب، وقد عرفت ما فيه في غير مقام))(2)

فقد ناقشناه في مسألة سابقة(3)

وقلنا أنه منهج عرفي جرى عليه ديدن أهل المحاورة حيث يعبّرون بما ظاهره الوجوب وهو موضوع لأصل الطلب فلا ينافي ما دلّ على عدم الوجوب بحمل الطلب على الاستحباب، وهذا الأسلوب مستعمل كثيراً في كلامالأئمة (عليهم السلام) لاقتضاء موقعهم ذلك من جهة الترغيب في المستحبات أو مجاراة للواقع الذي يعيشونه متكلين على القرائن من الأدلة الأخرى التي هي معروفة ومتداولة بين أصحابهم.

مضافاً إلى ما نقضنا عليه (قدس سره) في تلك المسألة من ذهابه (قدس سره) إلى عدم وجوب غسل الجمعة مع وضوح دلالة النصوص على الوجوب متبعاً نفس هذا المنهج في الجمع.

وإن كان مراده عدم صحة الجمع في هذا المورد خاصة فالاعتراض مقبول لأكثر من مبرر:-

1- إن هذا الجمع مما نلجأ إليه إذا فقدنا الدليل الخاص على الجمع في المسألة أو ما سمّيناه المرجح المساوي لأنه متأخر رتبة عنه، وهو متوفر في المقام كما سيأتي بإذن الله تعالى.

ص: 223


1- الحدائق الناضرة: 12/109.
2- الحدائق الناضرة: 12/108.
3- فقه الخلاف: 1/214، ط. الثانية.

2- إن صيغ الوجوب المستعملة في الروايات صريحة فيه كقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (فعليه الزكاة) أو جوابه (عليه السلام) عن سؤال: فيه شيء ويقصد الزكاة فيجيبه الإمام بتحديد مقدارها في صحيحة محمد بن إسماعيل وكذا في غيرها، ولم تكن بصيغ الطلب حتى تحمل على الاستحباب، والصيغ المستعملة أوضح ما يستعمل للدلالة على الوجوب ويأبى العرف حملها على الاستحباب ويعتبرها منافية لما دلّ على عدم الوجوب.

فائدة: ذُكرَت وجوه أخرى للاستدلال على الاستحباب في غير التسع:

(منها) الإجماع الذي ((حكاه جماعة كثيرة ، منهم الشيخان والسيدان والفاضلان وغيرهم)) ((ولو بضميمة قاعدة التسامح على تقدير تماميتها))(1).

أقول: قد ناقشنا الإجماع بعدة أمور تقدمت، وأما القاعدة فلا حاجة إليها.

(ومنها) صحيحة علي بن مهزيار الآتية بالتقريب الذي ذكره السيد الخوئي (قدس سره) وستأتي مناقشته (صفحة 239) ولو تم فإنه مختص بزكاة الغلات.

وذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف وجه المشهور بالجمع بين الروايات وقرّبه بقوله (دام ظله): ((إن النظر في الطائفتين يلزم منه حمل الثانية على الاستحباب، إذ الأولى توجب العفو وهو إشارة إلى وجود الملاك لكن المصلحة التسهيلية أوجبت عدم جعل الزكاة على ما سوى ذلك، والروايات المثبتة للوجوب ظاهرة فيه صريحة في الرجحان فتحمل المثبتة على الاستحباب))(2).

ثم قال في اليوم التالي عن وجه المشهور: ((إنه في نفسه غير بعيد من جهة ملاحظة الطائفتين فإن القدر المسلم من النافية والصحيح منها نفي الزكاة فيما وراء الأربع على نحو ثبوتها في الأربع، خصوصاً ما عُبّر عنها بعنوان النفي، فإن ما يدل على نفي الزكاة منصرف إلى الوعيد الشديد على تاركها، وما ورد من الحث عليه وإن في إعطائها يحقن دم الشخص، وهذا كله في الواجب وهو القدر المسلم من المنفي، غاية الأمر أنه قد يدعي أحد أنه ينفي مطلق الزكاة،

ص: 224


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/55-56.
2- محاضرة 8/صفر/1420.

فيقال أن ما دلّ على الإثبات صريح في الثبوت وظاهر في المماثلة للأربع فينفى الظهور بالنص.وقد يرد بأنه جمع تبرعي لا عرفي، باعتبار أن المناط في العرفي فيما إذا كان الجمع ممكناً في كلام واحد بحيث إذا جمع الكلامان يخرج منه كلام واحد مفهوم عرفاً، وما لا يكون كذلك فهو من التعارض المستقر عند العرف كما في المقام ففي بعضها ينفي (لا زكاة فيما سوى الأربع) وفي بعضها يثبت فإذا جمعا فإن العرف يتحير لذا فإنه جمع غير مقبول –كما في المستند- وقد مرّ سابقاً أن المعيار في الجمع ليس ما ذكر بل ما سمّيناه بالجمع الاستنباطي(1)، وهو أن الفقيه العارف بلحن الأئمة (عليهم السلام) حين إلقاء الحكم وملاحظتهم لجميع ما يقتضي الكتمان وعدمه، فإذا فُرض أن الفقيه لا يتحير أمام الطائفتين فليس تعارضاً وإنما يكون كل منهما قرينة على المراد الجدي من الآخر، وهذا جمع معتبر ، لذا نرى أن المشهور هو الحكم بالاستحباب ففهموا أن نفي الزكاة في روايات الطائفة الأولى ظاهر في تلك التي هي من دعائم الإسلام وهي التي كان يُبعث العمال لجمعها أما ما دلّ على ثبوت الزكاة في الطائفة الثانية فهو على نحو آخر فلا يرى العرف تنافياً ولا يتحيّر فهذا الجمع معتبر)).

أقول: مضافاً إلى ما ناقشنا به هذا الجمع من تأخره رتبةً فإنه يرد على كلامه (دام ظله) أمور:-

1- إن الحمل الذي ذكره ممكن في مثل صحيحة محمد بن مسلم التي جاء فيها: (كل هذا يزكّى وأشباهه) أو في خبر أبي مريم: (كل هذا مما يزكّى) التي تفيد مطلق الرجحان ولا يجري في الروايات الأخرى كقوله (عليه السلام): (فعليه الزكاة) أو تحديد النسب في صحيحة محمد بن إسماعيل أو التعليل في صحيحة أبي بصير.

2- إن تقريبه (دام ظله) –لو تم- فإنه مختص بما سوى الأربع من الغلات فالصحيح عرضه هناك وليس هنا حيث الكلام عن نفي الوجوب في ما

ص: 225


1- قررنا كلامه (دام ظله الشريف) في هذا المطلب في مسألة سابقة.

سوى التسع، بل لا يستقيم له النقاش هنا لأنه يذهب إلى الاحتياط الوجوبي في زكاة أموال التجارة(1).

3- إن إضافة مصطلح ((الجمع الاستنباطي)) غير مجدٍ، لأن الفقهاء حينما يشيرون إلى الجمع العرفي فإنهم لا يقصدون عامة الناس وإنما الفقهاء العارفين بقواعد المحاورة وفنون أهلها لأنهم وحدهم الذين لهم حق النظر في الروايات دون غيرهم، فالمعيار في صحة الجمع إمكانه عندهم وعدم تحيرهم.

4- ما أفاده (دام ظله) من عدم تحيّر مشهور الفقهاء مخالف للواقع فإن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وهم أعرف بمرادهم (سلام الله عليهم) قد تحيّروا حتى كتبوا إلى الإمام الهادي (عليه السلام) كما في صحيحة ابن مهزيار الآتية.

وذكر (دام ظله الشريف) في طيات كلامه ما اعتبره مبعّداً للقول بالاستحباب، وذلك لأنه ((لو كان الحكم الواقعي هو الاستحباب لما نقل بطريق معتبر عن محمد الطيار قوله (عليه السلام): (فزبرني) ورواه جميل لأنه كان حاضراً لكنه لم ينقل زبر الإمام (عليه السلام)، لأن الزكاة في الأرز إذا كانت مستحبة وأن الإمام (عليه السلام)يريد بيان الاستحباب كما أفاد المشهور فالمفروض أن يشجّعه الإمام (عليه السلام) على طرح يوجب الجواب به بأنه أمر محبوب ومستحب وليس يزبره بهذا التشديد.

وأما احتمال أن الطيار كان بصدد الاعتراض على اختصاص الأمر بالحنطة وأن الأرز في العراق أكثر فثبوت الزكاة فيه أوجه، فهو بعيد لأنه بصدد التعرف على أصل الحكم))(2).

أقول: هذا المبعد بعيد؛ لأن الاستحباب لا يحتاج إلى بيان لكثرة ما ورد في الشريعة من الحث على الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى.

فالاحتمال الذي نقله (دام ظله) ورد عليه هو السبب الظاهر لزبر الإمام (عليه السلام) وإلا فما هو السبب لزبر الإمام (عليه السلام) إذا لم يكن

ص: 226


1- منهاج الصالحين: 1/353.
2- محاضرة يوم 8/صفر/1420.

هذا من وجهة نظر الأستاذ؟ نعم، على ما سنختاره من وجوب الزكاة في الحبوب ومنها الأرز فسيكون هناك وجه آخر لزبر الإمام (عليه السلام) وهو الاستعجال في بيان حكم قبل وقته فهو نظير النهي في قوله تعال: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَن أشيَاءَ إنْ تُبدَ لَكُم تَسُؤْكُمْ» (المائدة: 101) وقوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالقُرآنِ مِنْ قَبلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيكَ وَحيُهُ» (طه: 114).

وربما يشهد له أن رواية الطيار خلت من جواب الإمام (عليه السلام) بقوله: (لا) كما في صحيحة جميل مع أنهما تحكيان واقعة واحدة مما يضعف نفي وجوب الزكاة في الأرز وإنما الاعتراض على إعلانه.

ونتيجة البحث في هذا الوجه أن المشهور إنما حمل روايات المجموعة الثالثة على الاستحباب مضطراً إلى ذلك لرفع التناقض –كما صرّح الشيخان المفيد والطوسي (قدس الله روحيهما)-. وإلا فإنه يقرّ بدلالتهما على الوجوب لكن هذا الحمل غير تام لإباء جملة منها مثله ولوجود وجه مقبول للجمع كما سيأتي بإذن الله تعالى، وعلى تقدير تماميته فإنه غير مستوعب لاختصاصه بزكاة الغلات كما يظهر من بعض كلماتهم.

(الثاني) حمل ما دلّ على الوجوب في غير التسع على التقية.

وممن اختاره السيد المرتضى (قدس سره) في الانتصار؛ قال (قدس سره): ((فإن قيل: كيف تدّعون إجماع الإمامية وابن الجنيد يخالف في ذلك ويذهب إلى أن الزكاة واجبة في جميع الحبوب التي تخرجها الأرض وإن زادت على التسعة أصناف التي ذكرتموها. وروى في ذلك أخباراً كثيرة عن أئمتهم (عليهم السلام) وذكر أن يونس كان يذهب إلى ذلك؟

قلنا: لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد ولا يونس وإن كان يوافقهم، والظاهر من مذهب الإمامية ما حكيناه.

وقد تقدم إجماع الإمامية وتأخر عن ابن الجنيد ويونس، والأخبار التي تعلق ابن الجنيد بها الواردة من طريق الشيعة الإمامية معارضة بأظهر وأكثر وأقوى منها من رواياتهم المعروفة المشهورة، ويمكن حملها بعد ذلك على أنها

ص: 227

خرجت مخرجالتقية، فإن الأكثر من مخالفي الإمامية يذهبون إلى أن الزكاة واجبة في الأصناف كلها، وإنما يوافق الإمامية منهم الشاذ النادر))(1).

واختاره صاحب الحدائق؛ قال (قدس سره): ((والأظهر عندي حمل هذه الأخبار الأخيرة على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية، فإن القول بوجوب الزكاة في هذه الأشياء مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف ومحمد كما نقله في المنتهى))(2).

واستشهدوا له ببعض التعابير الواردة في الروايات التي تشعر بالتقية لكشفها عن وجود جدل حاد حول وجوب الزكاة فيما زاد عن التسع بحيث تعبّر بعضها أن الإمام (عليه السلام) غضب أو زبر السائل كما في مرسلة القماط ورواية الطيار.

أقول: قد استغربنا في مواضيع عديدة من تسامح الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في إهمال عدد كبير من روايات أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم) في كل مسألة لأدنى ملابسة من التقية وهي خسارة في هذا المعين الصافي، من دون سبب يذكر إلا العجز عن فهم الروايات والعلاقة بينها ووضع كل رواية في موضعها المناسب من هذا البناء الشامخ لفقه أهل البيت (عليهم السلام) ومنها هذه المسألة، فإن حمل المجموعة الأخيرة على التقية وإهمالها غير مبرر لعدة أمور:-

1- إن بعض الروايات تأبى الحمل على التقية لما فيها من البيان المفصّل والتعليل كما في صحيحة زرارة التي هي مثل صحيحة محمد بن مسلم مع زيادة (الروايتان 1، 2 صفحة 218)، حين يتبرع الإمام (عليه السلام) بإعطاء قاعدة كلية بعد أن عدّ الحبوب فقال (عليه السلام): (كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة) ثم يستدل عليه بتشريع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: (جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر

ص: 228


1- الانتصار: 77-78.
2- الحدائق الناضرة: 12/108.

والبقول وكل شيء يفسد من يومه) ولماذا ينسب الجعل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم يكن واقعياً؟.

وكما في موثقة أبي بصير (الرواية 6) حيث لم يكتف الإمام بإيجاب الزكاة في الأرز بل أضاف (عليه السلام) وجه ذلك بقوله (عليه السلام): (إن المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أرز فيقال فيه ولكنه قد جعل فيه وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه).

أو ما في معتبرة زرارة حيث سُئل (عليه السلام) عن الدخن فأجاب بالوجوب على جميع الحبوب.

أو ما في صحيحة محمد بن إسماعيل إذ يسأل الإمام (عليه السلام) عن الرطبة والأرز فيجيب الإمام (عليه السلام) بوجوب الزكاة في كل ما كيل بالصاع فلو كان صدورها تقية لاقتصر الإمام (عليه السلام) على مقدار الضرورة التي تُقدَّر بقدرها.

2- إن الأئمة (سلام الله عليهم) كانوا صريحين في بيان اقتصار الوجوب على التسع كما في المجموعة الثانية (صفحة 217) وردوا بحزم على من حاول التعميم للقياس أو أي وجه آخر ولم تأخذهم في الله لومة لائم، فما معنى الحمل على التقية؟

3- إن التقية يمكن افتراضها بلحاظ الإمام (عليه السلام) أو بلحاظ شيعته وكلاهما لا يتمان (إما) بلحاظ الإمام (عليه السلام) فإنه ليس بهذه الدرجة من الانهزامية أمام الطغاة حتى يشرع لهم ظلم الناس وجباية أموالهم بغير حق مما يعني الإخلال بأهم وظائف الإمام (عليه السلام) وهي إقامة العدل ورفع الظلم عن الناس والدفاع عن المظلومين، مع أن الأئمة جاهروا بالمخالفة في أمور خطيرة أخرى كما مر في غير موضوع، مضافاً إلى ما دلّ بشكل خاص على أن الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا يتقون في أمر الزكاة كخبر أبي الحسن (المحسن) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلي عليه زكاة؟ قال: إنه ليس فيه زكاة وإن بلغ مائة ألف درهم، كان أبي يخالف الناس في هذا)(1).

ص: 229


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 9، ح7.

و(إما) بلحاظ حفظ شيعتهم من السلطات الحاكمة التي كانت تجبي الزكاة بقوة ولا تتسامح فيها، فهذا مما لا يحتاج إلى تشريع أحكام توجب الزكاة بل يكفي فيها ما دلّ على وجوب دفع الضرر ونحوه.

4- إن فقهاء العامة في عصر صدور النصوص خصوصاً في زمان الباقر والصادق (عليهما السلام) – حيث لم تحصر السلطات المذاهب بالأربعة بعد- مختلفون في وجوب الزكاة في ما عدا التسع، قال ابن رشد في بداية المجتهد: ((أما ما تجب فيه الزكاة من الأموال فإنهم اتفقوا منها على أشياء، أما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن: الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي، وثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب: الحنطة والشعير، وصنفان من الثمر: التمر والزبيب وفي الزيت خلاف شاذ))(1) إلى آخر كلامه.

وحصرها بعضهم بالتسع، قال ابن قدامه في المغني: ((وقال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب ولا في حب إلا ما كان قوتاً وحكي عن أحمد إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهذا قول ابن عمر وموسى وطلحة والحسن وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد(2)...

وقد روى عمرو بن شعيب

ص: 230


1- نقلها الشيخ المنتظري في كتاب الزكاة: 1/147.
2- قال أبو عبيد في كتابه (الأموال) صفحة 575: ((أن الذي أختارُ من ذلك الاتباع لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه لا صدقة إلا في الأصناف الأربعة التي سماها، وسنّها مع قول من قاله من الصحابة والتابعين ثم اختيار ابن أبي ليلى وسفيان إياه. وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين خصّ هذه بالصدقة وأعرض عما سواها: قد كان يعلم أن للناس أموالاً مما تخرج الأرض. فكان تركه ذلك عندنا عفواً منه، كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق، وإنما يُحتاج إلى النظر والتشبيه والتمثيل لنا إماماً مع من اتبعه من الصحابة والتابعين. إذ لم نجد عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما هو أثبت منه وأتم إسناده يردوه)) وعلّق السيد (دام ظله): ((فدليلهم إذن رواية ضعيفة مع عمل الأصحاب، وكأنهم قالوا بالتعميم بالقياس)).

عن أبيه عن عبد الله بنعمرو أنه قال: إنما سنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وفي رواية عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير، وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال: إنما سنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثهما إلى اليمن يعلّمان الناس أمر دينهم فأمروهم أن لا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، رواهنّ الدارقطني))(1).

5- ما كررناه في ترتيب أساليب حل التعارض والجمع بين الروايات وتتقدمها رتبة الدليل الخاص وهو موجود في المقام، وكذا الجمع العرفي وكلاهما متقدمان على الحمل على التقية ونحوها من المرجحات فلا تصل النوبة إليها.

ورد صاحب الجواهر (قدس سره) هذا الوجه بأولوية الأول عليه، قال (قدس سره): ((ولعله أولى من الجمع بحمل النصوص الثانية على التقية كما عن المرتضى (رحمه الله) وإن كان يشهد له بعض النصوص السابقة، لكن لا تنافي بين الندب والإجمال في الجواب للتقية، فلا ريب في أولوية ما ذكرنا منه، خصوصاً بعد فتوى الأصحاب بالندب وعن الغنية الإجماع عليه))(2).

أقول: الأولوية من حيث الرتبة صحيحة لكن الوجه الأول غير تام لما ذكرناه، والإجماع لا يمكن الاستدلال به كما قدمنا.

وذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف القول بالتقية، وقال: ((ليس المراد بها مطلق التقية والكتمان وإنما المراد بها خصوصاً عند المتأخرين كصاحب الحدائق (قدس سره) عدم ذكر الوجوب والاستحباب، بل ربما تكون المثبتة للوجوب –في غير التسعة- هي المحمولة على التقية لعدة مقربات:-

ص: 231


1- المغني: 2/550-551.
2- جواهر الكلام: 15/68.

1- كالتعليل في رواية أبي بصير بقوله (عليه السلام): (وكيف لا يكون فيه وعامة خراج أهل العراق منه).

فبقرينة الذيل يكون صدوره تقية.

2- نفس جواب الإمام الهادي (عليه السلام) في صحيحة علي بن مهزيار: (هو كذلك) في مقام الجمع بين المتعارضين ولا تفسير له إلا التقية.

3- لو فرض استحبابها فيما وراء الأربع لأشير إلى ثبوتها في النافية، فعدم ذكرها والنفي المطلق فيما سوى الأربع أو التسع يرشد إلى أن ما ورد من الثبوت كان تقية.

فهذه ثلاث مقربات لكون ما صدر كان تقية)).

وفي مقابل هذه المقربات للتقية قال (دام ظله): ((وربما تذكر مبعّدات للتقية:-

إن في بعض الروايات نسبة ثبوت الزكاة فيما سوى الغلات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذيل رواية زرارة (رقم 2، صفحة 219) التي عدّوها1- صحيحة وهي مخدوشة سنداً، بتقريب أنها لو كانت تقية فإنها لا تبرر بيان أمر لا واقعية له.

وكذا رواية أبي بصير (رقم 6، صفحة 219) بناءً على أن الفاعل في (جعل) هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه النسبة لا تناسب التقية، وإنما المناسب للتقية نسبتها إلى الإمام (عليه السلام).

2- إن بيان حدود الزكاة الواجبة في الغلات (في ما يكال) غير موجود عند فقهاء العامة وإن اختلفوا في الأمر كثيراً، إلا أن هذا التفسير غير موجود عندهم، فذكر شيء غير معهود لهم لا تقية فيه.

3- إن بعض الأكابر من الرواة كزرارة ومحمد بن مسلم الذين نقلوا روايات الإمامين الصادقين (عليهما السلام) التي حصرت الزكاة في الأربع، هم أنفسهم نقلوا روايات ثبوت الزكاة عن الصادق (عليه السلام) بالنسبة لغيرها، فنقلهم ينافي صدوره تقية، وقد عُرف عنهم أنهم إذا نقلوا رواية

ص: 232

عن الإمام (عليه السلام) فيها تقية يعرّضون فيها ويقولون: (إنها من جراب النورة)(1).

ثم قال (دام ظله): ((وليس شيئاً من المبعدات أو المقربات يوجب الاطمئنان، فإنه يمكن التقية مع الاستحباب، فإن الزكاة مستحبة فيما سوى الغلات الأربع، وحيث لم يُفتِ أحد باستحبابها إذ الخلاف في الواجبة، فإخفاء الترخيص في الطائفة الثانية لو لم يكن ثبوت لسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما سوى الأربع ففيه جهة كتمان وتقية، وحيث أن التقية بهذا المعنى نلتزم به، فإن الرواة (زرارة ومحمد بن مسلم) كانوا يعرفون، لذا لم يستوحشوا فقد سمعوا العفو عما سوى الأربعة، ومع ذلك نقلوا لتلامذتهم هذه الروايات الكثيرة، والتحيّر إنما يحصل لغير الفقيه العارف بلحن الكلام، كمن كتب إلى الإمام الهادي (عليه السلام) وكان (عليه السلام) لا يستطيع الكتابة فلجأ إلى الكتمان))(2).

أقول: قررنا كلامه (دام ظله) كاملاً على طريقتنا من الوفاء له بتوثيق آثاره.

والمبعّدات التي ذكرها (دام ظله) واردة، أما المقربات فهي قابلة للنقاش، فإن جواب الإمام (عليه السلام) في صحيحة أبي بصير لو كان مقتصراً على قوله (عليه السلام): (وكيف لا يكون فيه وعامة خراج أهل العراق منه) لكان هذا الاحتمال وارداً، أما مع قوله (عليه السلام) في أول الجواب: (نعم) وقوله (عليه السلام): (ولكن قد جعل فيه) فيكون ظاهراً في الوجوب، وأما صحيحة ابن مهزيار فسيأتي إن شاء الله تعالى تقريبها في الدلالة على الوجوب.

وأما المقرّب الثالث فيرد عليه أن النفي المطلق كان لوجود توهّم الوجوب خصوصاً مع ذهاب فقهاء العامة إليه.

وأما الخدشة في سند صحيحة زرارة فإن كان إشكاله على مجموع الرواية فلا أعلم له وجهاً إلا كون الكليني (قدس سره) ابتدأ الرواية ب-(حريز عن زرارة) فيقال أننا لا نعرف طريق الكليني (قدس سره) إلى حريز. ولكن هذا الإشكال مردود، لأن الكليني (قدس سره) بنى على حذف الإسناد إذا تكرر في

ص: 233


1- راجع فقه الخلاف: 1/46، ط. الثانية.
2- محاضرة بتأريخ 9/صفر/1420.

روايات متتالية، وقد روى التيسبقتها عن (علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز)(1)

وهو طريق صحيح ثم قال مباشرة (حريز عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، وقال: كل ما كيل...) إلى آخر الحديث وهو ظاهر في وحدة طريقهما، فما بنى عليه المشهور من صحة الرواية هو الصحيح.

وإن كان إشكاله على خصوص الذيل أي قوله: (وقال) لاحتمال إرساله وعدم وروده بنفس سند الصحيحة –كما سيأتي منه (دام ظله) في تقرير كلامه (صفحة 261) - فإنه مردود لجريان التعامل مع مثله على أنه بنفس السند، ولأن الإضافة الأولى قد رواها الشيخ في التهذيب عن كتاب ابن فضال بسند صحيح عن حريز عن زرارة (الرواية رقم 5 في نفس المجموعة).

ويبقى إشكاله (دام ظله) على الإضافة الثانية وسنذكرها في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

ولعدم الحاجة إليه هنا إلا من حيث تأسيس الكبرى الكلية، وإلا فإن الصدر كافٍ في الدلالة على وجوب الزكاة في غير الأربع من الغلات.

ونتيجة البحث في هذا الوجه أن حمل روايات الوجوب في غير التسع على التقية مضافاً إلى بعده في نفسه فإنه لا تصل النوبة إليه.

(الثالث) ما حكاه الكليني (قدس سره) عن يونس بن عبد الرحمن في ذيل رواية أبي بكر الحضرمي، قال: ((قال يونس: معنى قوله: إن الزكاة في تسعة أشياء وعفا عما سوى ذلك: إنما كان ذلك مع أول النبوة كما كانت الصلاة ركعتين ثم زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها سبع ركعات، وكذلك وضعها وسنّها في أول نبوته على تسعة أشياء ثم وضعها على جميع الحبوب))(2).

أقول: إن ما ذكره يونس له وجه باعتبار نسبة العفو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى التسع، ولما ورد في صحيحة زرارة (رقم 2 صفحة

ص: 234


1- راجع فروع الكافي: كتاب الزكاة، باب ما يزكى من الحبوب.
2- فروع الكافي، كتاب الزكاة، باب: ما وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة عليه، ح2.

219) من نسبة جعل الزكاة على أزيد من التسع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون وجه الجمع ما ذكره يونس، بعد حمل ما ورد عن الإمامين الصادقين (عليهما السلام) من ثبوت الزكاة في التسع فقط ونسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حكاية واقعة تأريخية كما في صحيحة عبد الله بن سنان (رقم 1 صفحة 212).

إلا أن هذا الوجه لا يمكن قبوله كما هو لاستمرار العفو عن التسعة إلى زمان الباقر والصادق (عليهما السلام) كما دلّت عليه الروايات المتقدمة وقد صدرت جملة منها على نحو الجعل والتشريع لا الحكاية وأصرّت على نفي الوجوب في غير التسع ولما يأتي في صحيحة ابن مهزيار من تأكيد الإمام (عليه السلام) لعفو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى التسع وعدم صدور تغيير في سنته (صلى اللهعليه وآله وسلم) فلا بد من تعديل هذا الوجه، وسيأتي مزيد من التفصيل في الوجه المختار.

وردّ السيد السيستاني (دام ظله الشريف) على ما قاله يونس بأنه ((مما لا يُلتزم به لوجهين:-

1- إن الوضع على العناوين التسعة كان في زمن متأخر جداً، فقد وضعه في رمضان من السنة التاسعة للهجرة وأمهلهم حولاً، فكيف يقول إن الوضع كان أول النبوة ثم زاد.

2- ورد في كثير من الروايات عن الصادق (عليه السلام) العفو وهذا لا يناسب الوضع فيما بعد على مطلق الحبوب))(1).

أقول: يرد على الأول أنه لم يذكر (دام ظله) المصدر الذي استند إليه في تحديد زمن فرض الزكاة، ولعل دليله ما ورد في سورة التوبة من قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (التوبة: 103) وقد نزلت السورة في السنة التاسعة من الهجرة بضميمة صحيحة عبد الله بن سنان قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) نزلت آية الزكاة «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في

ص: 235


1- من تقريراتي لبحث السيد السيستاني (دام ظله الشريف) محاضرة بتأريخ 2/صفر/1420.

الناس أن الله (تبارك وتعالى) قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة إلى أن قال: ثم لم يعرض لشيء من أموالهم حتى حال عليها الحول من قابل فصاموا وأفطروا، فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في المسلمين: أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلواتكم قال: ثم وجّه عمال الصدقة وعمال الطسوق)(1).

أقول: لا دليل على أن شهر رمضان الذي ذكرته الرواية كتأريخ لنزول آية الأخذ هو من السنة التاسعة لعدة وجوه:-

1- إن آيات البراءة وإن نزلت في تلك السنة إلا أنه لا دليل على أن كل آيات السورة –ومنها هذه- نزلت دفعة واحدة.

2- بل الشواهد التأريخية تدلّ على العدم، فقد ورد في السيرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((أقام بقية شهر رمضان وشوالاً وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج من سنة تسع، ليقيم للناس حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم)) ((وعن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه، أنه قال: لما نزلت براءة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان بعث أبا بكر ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة))(2)

إلى آخره.

أقول: من هذا يظهر أن سورة براءة التي نزلت في سنة تسع لم تكن في شهر رمضان وكان النازل صدرها أما ما دلّت عليه صحيحة عبد الله بن سنان من نزول آية أخذ الزكاة في شهر رمضان فلا نعلمه في أي سنة.

3- من البعيد أن يتأخر فرض الزكاة إلى هذا التأريخ وقد قرنها الله تبارك وتعالى بالصلاة في اثنين وثمانين موضعاً على ما حكي بل إن الزكاة كانت من تشريعات النبوات السابقة، لقوله تعالى حكاية عن عيسى (عليه السلام): «وَأَوْصَانِي بِالصَلاةِ وَالزَكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً» (مريم: 31) وعن

ص: 236


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 1، ح1.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 4/139-141.

إسماعيل صادق الوعد: «وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَلاةِ وَالزَكاةِ» (مريم: 55) وعن الأنبياء الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وإِقَامَ الصَلاةِ وإيتَاءَ الزَكَاةِ» (الأنبياء: 73).

فتشريع الزكاة في الإسلام إذن يعود إلى وقت مبكر، أما على ما استفاده السيد السيستاني (دام ظله الشريف) من الرواية فيكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بدأ بجمع الزكاة في شهر رمضان من السنة العاشرة أي قبل رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببضعة أشهر وهو لا يلائم أهمية هذه الفريضة وما ورد من الوعيد لتاركها حتى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخرج نفراً من المسجد لأنهم لم يكونوا يزكّون(1).

مضافاً إلى أن تأسيس الدولة الجديدة على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحتاج إلى تمويل، والزكاة أهم مصادره يومئذٍ بل لعله المصدر الوحيد لندرة غنائم الحرب ونحوها مما يرجح أن فرضها كان في السنين الأولى من الهجرة، وربما يستظهر من صحيحة الفضلاء (رقم 2 صفحة 212) أن تشريعها كان في وقت مبكر مع الصلاة، وفي بعض المصادر إنها ((فُرضت في المدينة في شوال من السنة الثانية من الهجرة بعد فرض رمضان وزكاة الفطر))(2).

وإذا أردنا قبول ما قاله (دام ظله الشريف) فهو ليس بلحاظ فرض الزكاة على الناس، وإنما بلحاظ جمعها من الأصقاع خارج المدينة الذين دخلوا في الإسلام بعد عام الفتح والقرينة عليه ما ذكرته الرواية من إرسال العمال لجبايتها، أما أهل المدينة فكانوا قبل ذلك يأتون بصدقاتهم إلى المسجد.

وإن كان يمكن القول أن الزكاة كانت مشرّعة قبل ذلك بعنوانها العام أي الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى، وكان تعيينها بالتسع والأمر بجمعها من الناس في وقت متأخر.

ص: 237


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 3، ح7.
2- الفقه الإسلامي وأدلته، د.وهبة الزحيلي، ط: 3، مج: 3، صفحة 1792.

ويرد الثاني إن نسبة التعميم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوجد ما يدل عليه فقد ورد في صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة، وقال: جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر والبقول وكل شيء يفسد من يومه)(1).

وأما صدور العفو من الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) عن الزكاة في ما سوى التسع فيمكن أن يقال أنه حكاية لما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآلهوسلم)، وهما (عليهما السلام) وإن أرادا بالحكاية بيان الحكم إلا أنه لا يخفى ما في هذا التعبير من إيحاء بوجوب ما هو أوسع من ذلك مما سيُبيَّن لاحقاً.

(الرابع) وجود دليل خاص من الروايات يعالج التعارض، وقد أفاد السيد الخوئي (قدس سره) بأنه ((صحيحة علي بن مهزيار قال: (قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام) جعلت فداك روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والغنم والبقر والإبل، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك، فقال له القائل: عندنا شيء كثير يكون بأضعاف ذلك، فقال: وما هو؟ فقال له: الأرز، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أقول لك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا عما سوى ذلك وتقول عندنا أرز وعندنا ذرة، وقد كانت الذرة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقّع (عليه السلام): كذلك هو والزكاة على كل ما كيل بالصاع).

وكتب عبد الله: وروى غير هذا الرجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سأله عن الحبوب، فقال: وما هي؟ فقال: السمسم والأرز والدخن وكل هذا غلة كالحنطة والشعير، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): في الحبوب كلها زكاة.

ص: 238


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 9، ح6.

وروي أيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: كل ما دخل القفيز فهو يجري مجرى الحنطة والشعير والتمر والزبيب، قال فأخبرني جعلت فداك، هل على هذا الأرز وما أشبهه من الحبوب الحمص والعدس زكاة؟ فوقّع (عليه السلام): صَدَقوا الزكاة في كل شيء كيل)(1).

فإن تصديق الإمام (عليه السلام) لتلك الروايات المتعارضة المروية عن الصادق (عليه السلام) ليس له وجه صحيح عدا إرادة الاستحباب فيما عدا التسع، وإلا فلا يمكن في مثله الحمل على التقية بالضرورة، إذ لا معنى للتقية في تصديق الخبرين المتعارضين.

وعلى الجملة: فالروايات في أنفسها –لولا دليل التصديق- متعارضة غير قابلة للحمل على الاستحباب، لعدم كونه من الجمع العرفي في مثلها، إلا أنه بعد ملاحظة التصديق الصادر من الإمام (عليه السلام) الذي تضمّنته هذه الصحيحة يحكم بأن المراد الجدي هو الاستحباب، وإلا لم يكن وجه للتصديق أبداً، فتدبر جداً))(2).

أقول: ذكر هذا الوجه الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب موجّهاً به صحيحة علي بن مهزيار، قال (قدس سره): ((فلولا أنه (عليه السلام) أراد بقوله والزكاة في كل ما كيل بالصاع ما قدمناه من الندب والاستحباب لما صوَّب قول السائل: إن الزكاة في تسعة أشياء وأن ما عداها معفو عنها، وأن أبا عبد الله (عليه السلام) أنكر على من قال عندنا أرزّ ودخن تنبيهاً له على أنه ليس فيه الزكاة المفروضة، ولكان قوله كذلكهو مع قوله والزكاة في كل ما كيل بالصاع متناقضاً وهذا لا يجوز في أقوالهم (عليهم السلام) ))(3).

أقول: ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من العلاج بهذه الصحيحة غير تام لأمور:-

ص: 239


1- أورد صاحب الوسائل (قدس سره) قطعة منه في أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح6، والقطعة الأخرى في الباب 9، ح1 والحديث بتمامه موجود في فروع الكافي، باب: ما يزكى من الحبوب، ح3.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/136-137.
3- التهذيب: ج4، كتاب الزكاة، باب 1: ما تجب فيه الزكاة، ح11.

1- لا يتم ما استفاده (قدس سره) من الحمل على الاستحباب، والصحيحة أكّدت صدور تعميم الوجوب وصدّقت ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) فيكون قوله (عليه السلام): (كذلك هو) و (صدقوا) ناظراً إلى ما رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه عفا (عما سوى التسعة وعن وجود حبوب غير الأربع في زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا لا ينافي أن يكون قد عمم الوجوب الأئمة المعصومون (عليهم السلام) من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه مشمول بالأمر بالتصديق، فتصديق الإمام (عليه السلام) لجميع ما رووا وإن كان ظاهره الإبقاء على التعارض المؤدي إلى الإجمال إلا أنه في الحقيقة أبقى الباب مفتوحاً لتفهّم وجه الجمع بينها كما سيأتي من الوجه المختار.

2- إن هذا الوجه لو تم فإنه يعالج ما ورد في الحبوب خاصة، وهو أخصّ من الموضوع المبحوث عنه الشامل لكل ما سوى التسع، وقد نقلنا في المجموعة الثالثة من الروايات ثبوتها في أنواع عديدة.

فائدة: ذكر السيد الأستاذ السيستاني (دام ظله الشريف) هذا الوجه ضمن ما استدل به على الاستحباب ونسبه أيضاً إلى المحقق الهمداني ونفى (دام ظله) أن تكون الصحيحة من الروايات العلاجية، لأن العلاج بها ((إنما يتم إذا كان الإمام (عليه السلام) بصدد رفع الإبهام للسائل لا بصدد عدم رفعه، فإن قوله (عليه السلام): (هو كذلك) مجمل فهل هو تصديق للنقل أم المنقول، فالإمام (عليه السلام) ليس في مقام البيان حتى يحمل على الاستحباب، والجواب الثاني قوله (عليه السلام): (صدقوا) يوجب مزيد تحيّر أكثر من الأول)).

وشبّه (دام ظله) تقريب الإجمال في الصحيحة بأنه نظير ((ما جاء عن نفس المكاتب –أي عبد الله بن محمد- ونفس الراوي في نجاسة الخمر إذا أصاب الثوب حيث ذكر روايتين، إحداهما عن زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (لا بأس بأن تصلي فيه)، وثانيهما عن غير زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أمره فيها بغسل الثوب، فأجاب الإمام الهادي (عليه السلام): (خذ بقول أبي عبد الله) وقد جعلها سيدنا الأستاذ (قدس سره) من

ص: 240

الروايات العلاجية(1)، وقلنا في حينها أن المراد خذ بقول أبي عبد الله الواقعي، فإن في المكاتبة نقلين عن أبي عبد الله (عليه السلام) أحدهما يفيد النجاسة والآخر عدمها، فالرواية فيها إيهام بالأخذ من الرواية الثانية، وفي مثل هذه الروايات قد يستظهر بدواً أن الإمام (عليه السلام) ليس بصدد إبقاء السائل متحيراً على تحيّره إذ من وظيفته البيان، لكن أمر المكاتبات تختلف عن المشافهة في ظروف التقية، ولتلافي حصول مصادمة بين الشيعة –إذ لكل رواية طائفة مؤمنة بها- فلا يريد الإمام (عليه السلام) أن تقع مستنداً لإحدى الفرقتين على الأخرىويخطّئونهم ويحصل محذور، فليس كل ما يقال يكتب، فكان بناء الأئمة المتأخرين الإرجاع إلى الفقهاء تهيئة للغيبة، فدعم إحدى الطائفتين –بالمكاتبة- على الأخرى خلاف المصلحة، فقوله (عليه السلام): (خذ بقول أبي عبد الله) لا ينفع إحدى الطائفتين، وكذا كل ما ورد عن الأئمة المتأخرين)).

ثم عاد (دام ظله) إلى مسألتنا فقال: ((ولذا فإن المتأخرين من الفقهاء مع وجود هذه الرواية عندهم لم يفتوا بالوجوب، وقال السيد المرتضى: إن الإجماع على عدم الوجوب في ما عدا الغلات الأربع سبق يونس وابن الجنيد وتأخر عنهما، فالعلماء فهموا إنها ليست بصدد العلاج))(2).

أقول: ليس في الرواية تحيّر، بل هي ظاهرة في الوجوب ويمكن أن تكون الصحيحة علاجاً للتعارض بتقريبين:-

1- على قراءة (صدِّقوا) الموجودة في نسخ الكافي فيكون الإمام (عليه السلام) قد أمرهم بتصديق ما ورد من أن الزكاة في كل شيء كيل دون ما ورد من العفو أي خذوا بما قيل من أن الزكاة في كل ما كيل بالصاع.

2- بما قربناه من أن الإمام (عليه السلام) أمر بتصديق ما رووه على ما هو عليه من المضامين التي تبدو متعارضة لكن الجمع بينها يؤدي إلى القول بالوجوب في كل ما كيل كما سيأتي في الوجه المختار بإذن الله تعالى.

وفي ضوء ذلك فلا إجمال فيها عند الفقيه الذي يعرف معاريض كلامهم.

ص: 241


1- راجع تمام الرواية والعلاج بها: فقه الخلاف: 1/194، ط. الثانية.
2- تقرير بحث السيد السيستاني، محاضرة بتأريخ 8/صفر/1420.

(الخامس) الوجه المختار.

وحاصله إن وجوب دفع الزكاة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مقتصراً على التسع ثم صدر تعميم الوجوب إلى غيرها في مرحلة متأخرة من حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، فلا تعارض بين الروايات لأنها تتحدث عن مراحل زمنية مختلفة.

والدليل على ذلك أمران:

(الأول) الدليل الخاص في مقام العلاج بين الروايات وهي صحيحة علي بن مهزيار المتقدمة فإنها صدّقت حكاية العفو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع ذلك أوجب الإمام (عليه السلام) الزكاة في كل ما كيل مما يعني أنها كانت إضافة في التشريع وهو من صلاحياتهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

فالزكاة واجبة في العناوين التي تضمنتها الصحيحة بتشريع من الإمام (عليه السلام)، وإن كان الحكم هو العفو عما سوى التسعة بتشريع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالأمر بالتصديق كان لما رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، وليس إن الأمر كذلك، وإلا لزم التناقض وقد قرّبنا هذه العناوين فيما سبق.وقد أشكل السيد السيستاني (دام ظله الشريف) على كون الرواية علاجية لأن كلام الإمام (عليه السلام) مجمل وفيه إبهام لأنها مكاتبة والإمام (عليه السلام) في ظرف تقية مكثفة(1).

لكننا أجبنا عن هذا الإشكال بأن الرواية ليست مجملة ولا توجب تحيّراً وقرّبنا علاجيتها بوجهين.

(الثاني) قراءة مجموع الروايات الواردة في المسألة وجعل بعضها قرينة على بعض فنصل إلى نتيجة أن الزكاة فرضت على ما هو أوسع من التسع بحسب أصل التشريع، كما ورد في صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام)

ص: 242


1- من تقرير بحث يوم 8/صفر/1420.

وفيها (جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر والبقول وكل شيء يفسد من يومه)(1)، وفي صحيحة أبي بصير (إن المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أرز فيقال فيه، ولكنه قد جُعِلَ فيه)(2).

لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما سوى التسع كما نطقت به الروايات المتقدمة وهو شاهد على وجوبها في غيرها، لأن العفو لا يكون إلا بعد استحقاق كالعفو عن الذنب أو العفو عن القصاص أو عفو الزوجة عن مهرها، قال تعالى: «إلا أَنْ يَعْفُوْنَ أوْ يَعْفُوَ الذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِكَاحِ» (البقرة: 237).

وهذا التصرف من صلاحياتهم (صلوات الله عليهم أجمعين) باعتبارهم أولي الأمر، ومما يدل على أن الاقتصار على التسع من فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (فرض الله عز وجل الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنّها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سواهن)(3).

فأصل الفرض في (الأموال) وهو جمع محلّى باللام فيفيد العموم لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام التنفيذ اقتصر على التسع.

وهذا العفو منه (صلى الله عليه وآله وسلم) له صورتان:

(الأولى) العفو في سن القانون بمعنى جعل إعفاءات في نفس القانون من خلال اشتراط أمور لوجوبها بحيث يسقط الوجوب عما لم تتوفر فيه، فهذا عفو بموجب القانون، كالعفو عما لم يدر عليه الحول ونحوه وبذلك يكون خروج الموجود عما يجب فيه الزكاة موضوعاً أي لعدم تحقق شرط الوجوب فيه كعفوه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخضار والبقول وما يفسد ليومه، وكما في خبر الصدوق في العيون بسنده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)

ص: 243


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 9، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 9، ح11.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح4.

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (عفوت لكم عن زكاة (صدقة) الخيل والرقيق)(1)، والعفو هنا بسبباتخاذهما للخدمة والمؤونة فلا يتحقق فيها شرط الزكاة وهو اتخاذها للاسترباح والنماء كما هو مفهوم الزكاة ولذا حينما توسعت رقعة الدولة الإسلامية وترفهوا اقتصادياً وأصبح العبيد يتخذون للتجارة والاسترباح وكذا الخيل فقد وجبت الزكاة فيهما كما في الروايات المتقدمة (8، 9، صفحة 220).

(الثانية) العفو في مقام التنفيذ والجباية لمصلحة ما أي إن الوجوب ثابت فيه لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأخذ الزكاة عليه كالذي يظهر بدوّاً من بعض الروايات من وجود ثمار غير الأربع ولم يوجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهن الزكاة كما في مرسلة القماط وصحيحة علي بن مهزيار مع وجوبها فيها بمقتضى صحيحتي زرارة وأبي بصير.

وأشكل بعض من حضرنا بحثه الشريف على هذا المعنى بأنه منافٍ لكثير من الروايات الناطقة بأن الوضع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كصحيحة عبد الله بن سنان وليس كما يقتضي هذا المعنى من نسبة الوضع إلى الله تعالى والعفو من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ويرد عليه أن الروايات صرّحت بأن الوضع على التسعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعفو عما سواها منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا المعنى وارد في الروايات.

لكن التأمل في هذه الروايات يكشف عن وجود تمويه لا إخفاء في كلام الإمام (عليه السلام) اقتضته نفس مصلحة إخفاء الوجوب في غير التسع، إذ أن الإمام (عليه السلام) قال في مرسلة القماط: (كان والله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السماسم والذرة والدخن وجميع ذلك) ونحن نعلم أن الزكاة لا تجب على مجرد وجودها وإنما على زراعتها واستفادتها من الأرض لقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة المتقدمة: (الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض) فالوجوب سالبة بانتفاء الموضوع، لذا نجد الإمام الصادق (عليه

ص: 244


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 17، ح6.
2- من تقرير محاضرة 2/صفر/1420.

السلام) غيّر تعبيره عندما أوجب الزكاة على الأرز في صحيحة أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل في الأرز شيء؟ فقال: نعم، ثم قال: إن المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أرز فيقال فيه ولكنه قد جُعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه)(1)

فعبّر بأرض الأرز أي التي تنبت الأرز ويزرع فيها فالعفو عن هذه الحبوب لأنها غير مزروعة وإنما كانت تجلب إلى المدينة فلا زكاة فيها.

فتعود الصورة الثانية ضمن هذه التقريبات إلى الأولى ولأن العفو لم يكن في أصل التشريع وإنما كان سنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان الأئمة (عليهم السلام) يشيرون في أغلب الروايات المتقدمة إلى أن وضعها على التسع خاصة كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كانوا بحاجة إلى ذلك لو كان الحكم مختصاً بالتسع وإنما يبينونه مباشرة من دون نسبة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو ديدنهم في غيرها من الأحكام.

ولذا لم يجد أمير المؤمنين (عليه السلام) مخالفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما فرض الزكاة على الخيل كما في صحيحة محمد بن مسلم وزرارةالمتقدمة (الرقم 8، صفحة 320)، ولم يجد الأئمة المعصومون (عليهم السلام) حزازة في فرض الزكاة على الأرز والحبوب عامة والبضائع والأعيان التجارية مما تقدم ذكره في الروايات.

وإذا سألت عن سبب عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى التسع وإخفاء الوجوب في غيرها فيمكن أن نذكر وجهاً واحداً على الأقل وهو عدم إعطاء الفرصة للسلطات الحاكمة التي ستغتصب الأمر وتقصي الأئمة الحقيقيين (عليهم السلام) من ملء خزانتها بأموال العباد ظلماً وتوظيفها لظلمهم وعدوانهم بالاستناد إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأُجّل بيان التفاصيل إلى الشطر الثاني من حياة الإمام الصادق (عليه السلام).

ومما يُجعل شاهداً على توسيع في الوجوب حصل من الإمام الصادق (عليه السلام) ما ورد في صحيحة محمد الطيار، فإن الإمام (عليه السلام) بعد أن حكى له عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى التسع، فإن

ص: 245


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 9، ح11.

الطيار لم يكتفِ به وسأله عن الأرز، والإمام (عليه السلام) زبره لكنه لم ينفِ الوجوب – خلافاً لصحيحة جميل- وقد شرحنا وجه الزبر (صفحة 226).

وفي ضوء هذا البيان لا يحصل تعارض بين الروايات، ولعمري إن الأمر أوضح من مسألة الخمس حيث لم ينقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أخذ الخمس على الأرباح الفاضلة عن مؤونة السنة وتأخر بيان التفاصيل إلى زمان الإمام الجواد (عليه السلام) والتزم الفقهاء (قدس الله أرواحهم) –ونحن كذلك- بهذه التوسعة ولم يمنعهم عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المورد ولا الروايات التي حصرت الخمس في الغنائم كصحيحة عبد الله بن سنان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة)(1)

والروايات الدالة على أن الخمس في خمسة أشياء(2)

ليس فيها المورد المذكور، وهذه الروايات صريحة في الحصر.

(الوجه السادس) ما ذكره بعض أعلام العصر (دام ظله الشريف) وحاصله أن هذا الاختلاف في العناوين التي تجب فيها الزكاة ليس فيه تناقض وإنما هو مبني على الصلاحيات الممنوحة لحاكم الدولة الإسلامية بمقتضى ولايته المطلقة فيضعها على ما يراه مناسباً بلحاظ احتياجات الدولة واختلاف مصادر الثروة ويسقطها عن ما يشاء، وقد أشار إلى هذه النكتة في أكثر من موضع من كتابه عن الزكاة، فقال (دام ظله): ((إن الزكاة لما كانت مالية دينية شرعية شرّعت في جميع الأديان ومنها دين الإسلام لتأمين الشؤون الاقتصادية وسد الخلات الحادثة للحكومة الدينية ومتّبعيها في جميع الأزمنة والأمكنة وكان دين الإسلام ديناً شاملاً لكافة الناس وجميع الإعصار إلى يوم القيامة وكانت الأموال العامة ومنابع الثروة تختلف وتتطور بحسب الأزمنة والأمكنة والقارّات فلا محالة كان المناسب أن يكون أصل حكم الزكاة وتشريعها مذكوراً في القرآن الكريم الذي هو بمنزلة القانون الأساسي للإسلام ويكون ما فيه الزكاة متبدلاً بحسب الأمكنة

ص: 246


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 2، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 2، ح2، 4، 9، 11، والباب 3، ح7.

والأزمنة ومحولاً تعيينه إلى المتصدي للحكومة الإسلامية فيعيّنه بحسبمنابع ثروة الناس وبحسب الاحتياج للمصارف اللازمة))، ((وخاطب الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» وبيّن مصرفها بقوله: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ...» ولم يعيّن ما فيه الزكاة وإنما عيّنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يأتي في خلال الأخبار الآتية أنه لما نزل قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة وعفا عما سواها فلعله يتبادر إلى الذهن من هذه الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه رسول من ربّه بين لهم حكم الله في وجوب الزكاة ولزوم أخذها وبما أنه كان حاكم المسلمين وسائسهم في عصره وضع الزكاة في تسعة وعفا عما سواها مع وجود المقتضي فيه وشمول قوله: «أَمْوَالِهِمْ» له إذ التسعة كانت عمد ثروة العرب في الحجاز في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون لحاكم المسلمين في كل مكان وعصر ملاحظة ثروة رعيته واحتياج الحكومة والمرتزقة من قبلها فيضع الزكاة على طبق ما يرفع الاحتياج ويراه صلاحاً.

وقد ورد في أخبار كثيرة مستفيضة أن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به ولو علم أن الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم، ولا محالة أراد بالفقراء الفقراء وساير المصارف الثمانية إلى يوم القيامة)) (1).

وقال (دام ظله الشريف) في موضع آخر: ((وحيث أن ثروات الناس ومنابع أموالهم تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة ودين الإسلام شرّع لجميع الناس ولجميع الأعصار كما نطق بهما الكتاب والسنة كقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ» وقوله تعالى: «خَاتَمَ النَّبِيِّينَ» وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة)، فلا محالة ذكر في الكتاب أصل ثبوت الزكاة وخوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم» ولم يذكر ما فيه الزكاة بل ذكر عمومات فقط كقوله: «أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ» وقوله: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» والمقصود بالإنفاق الزكاة بدلالة قوله

ص: 247


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 1/149-150.

تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

وإنما أُحيل بيان ما فيه الزكاة إلى حكام الحق وقد وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان حاكماً للمسلمين في عصره الزكاة في تسعة لما كانت هي عمدة ثروة العرب في عصره وعفا عما سوى ذلك ولعله جعلها في آخر عمره في أكثر من ذلك(1).

والأئمة (عليهم السلام) ربما جعلوها في وقت في أكثر من التسعة كما تدل عليه روايات كثيرة وربما شاهدوا في وقت آخر أن الزكاة المأخوذة تصرف في تقوية دول الضلال والجور ورأوا أن الجباة لها يستندون في تعميمها لمال التجارة وسائر الحبوب إلى النقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرادوا قصمهم وتضعيف دولتهم بسد منابع اقتصادهم فنقلوا أن الزكاة التي وضعها النبي كانت في تسعة ليرتدع الناس عن دفع الزكاة إلى حكام الجور.وبالجملة فتعيين ما فيه الزكاة أحيل إلى حكام الحق لتطور ثروات الناس بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور خلاتهم واحتياجاتهم.

ويؤيد ذلك ما ورد من جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) الزكاة في الخيل الإناث وظاهر ذلك جعلها بنحو الوجوب لا الندب.

ففي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عنهما (عليهما السلام) جميعاً قالا: (وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين وجعل على البراذين ديناراً). والمراد بها الزكاة لا الخراج لتسمية ذلك صدقة في صحيحة زرارة. فراجع.

وحمل الزكاة هنا على الاستحباب خلاف الظاهر جداً.

هذا وكيف نلتزم في مثل أعصارنا بحصر الزكاة في تسعة فقط مع أن النقدين وكذا الأنعام الثلاثة السائمة منتفية موضوعاً والغلات الأربع بالنسبة إلى منابع ثروة الناس قليلة جداً ومصارف الزكاة ثمانية تجمعها عمد خلات الناس

ص: 248


1- وهذا ظاهر في الميل إلى قول يونس وقد ردّ (دام ظله) عليه، أو لعله إشارة لما ورد في صحيحتي زرارة وأبي بصير من وجوب الزكاة في أزيد من التسعة.

واحتياجاتهم وقد اشتملت أخبار كثيرة على أن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به ولو علم الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم.

ولا محالة أُريد بالفقراء: الفقراء وسائر المصارف الثمانية))(1).

وانتهى إلى القول بالاحتياط في وجوب الزكاة في غير العناوين التسعة، فإنه (دام ظله) بعد أن عرض وجه المشهور في الجمع بين الروايات وما قيل من الحمل على التقية، قال في تقييمها: ((وحيث أن الجمع التبرعي كما عرفت لا يكفي في الإفتاء بالاستحباب والحمل على التقية أيضاً غير خالٍ عن الإشكال والقول بحصر الزكاة في تسعة أيضاً أشكل فالمسألة عندنا باقية بحدّ الإجمال فالأحوط ثبوت الزكاة في غير التسعة أيضاً مما ساعدته الأخبار فإن الاحتياط طريق للنجاة ومفرّ عن الإفتاء بما لا يعلم. ولا أدري نصف العلم. ربِّ زدني علماً وألحقني بالصالحين))(2).

أقول: ظاهر كلامه (دام ظله) استناده إلى كبرى الولاية المطلقة لحاكم الدولة الإسلامية وإن هذه الصلاحيات ممنوحة للحكام في كل عصر ومنها عصرنا الحاضر، فيكون فرق هذا القول عن القول المختار أنه استند إلى ولاية الحاكم وليس إلى قراءة مجموع النصوص كما شيّدنا بفضل الله تبارك وتعالى، ويرد على ذلك جملة أمور:-

1- إن الأئمة (عليهم السلام) الذين صدرت عنهم الروايات لم يمارسوا دور الحاكمية للدولة الإسلامية بالمعنى الذي ذكره (دام ظله) وهو احتياج الحكومة والمرتزقة من قبلها، حتى يمكن حمل ما صدر منهم على هذا المعنى، عدا ما نسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من وضع الزكاة على الخيل.

2- إن ألسنة الروايات ظاهرة في الفتوى وبيان الحكم الشرعي وليس في الحكم الولائي.

3- إن لازم هذا القول إمكان إسقاط الزكاة في بعض العناوين التي وردت في النصوص بلحاظ ما يراه حاكم الدولة الإسلامية من ((ملاحظة ثروة

ص: 249


1- المصدر السابق: 1/166-168.
2- المصدر السابق: 1/166-168.

رعيته واحتياج الحكومة)) كما قال (دام ظله)، وفي هذا مجازفة لا يرتكبها فقيه.1- إن مقتضى دليله وحديثه عن كل الأعصار ومنها عصرنا الحاضر وقوله: ((فيكون لحاكم المسلمين في كل مكان وعصر ملاحظة ...)) إلخ منح هذه الصلاحيات للفقيه الجامع للشرائط النائب عن المعصوم (عليه السلام) فيضع الزكاة على عناوين جديدة لم تكن موجودة في النصوص بحسب تجدّد منابع الثروة الاقتصادية وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

2- مضافاً إلى الإشكال على كبرى ولاية الفقيه حتى لو كان حاكماً للدولة الإسلامية فإنها باختصار ولاية تنفيذية إجرائية وليس له حق التشريع إلا ضمن ما منحته النصوص الشريفة ولا تعطي هذه الولاية في نفسها حقاً إضافياً.

أما حق التشريع فهو خاص بالمعصومين (عليهم السلام) الذين امتد عصرهم أكثر من (260) عاماً وشهد تبدّلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية أتاحت الفرصة للمعصومين (عليهم السلام) لكي يبيّنوا كل الأحكام التي تحتاجها الأمة في مستقبلها أو يؤسسوا لها القواعد والأصول التي يستندون إليها لاستنباط أحكام الحوادث الواقعة، وهذا معنى ما ورد ((في أخبار كثيرة ومستفيضة أن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء...)) إلخ مما نقله (دام ظله).

فليس من حق الفقيه أن يضيف موارد جديدة لوجوب الزكاة أو يرفع الوجوب عن موارد ثابتة مهما تغيّرت منابع الثروة الاقتصادية فما التزم (دام ظله) به من الاحتياط أسلم له.

لكننا ناقشنا في بعض مسائل الخمس أن هذا الاحتياط مخالف للاحتياط لأنه إلزام للمكلف بدفع شيء من ماله من دون دليل جازم ويكون تصرّفاً في مال الغير من دون مسوّغ، فمقتضى الاحتياط في المقام إلقاؤه إلى المكلف ليختار هو إن شاء عمل به أو رجع إلى فقيه آخر.

فالصحيح هو قبول وجهه (دام ظله) في الجمع ولكن بالاستناد إلى النصوص الخاصة وليس إلى كبرى ولاية حاكم الدولة الإسلامية.

ص: 250

نتيجة البحث:

ونتيجة البحث في هذه المسألة عدم انحصار وجوب الزكاة في الأصناف التسعة والمقدار الذي نحتاجه الآن من هذه المسألة إزالة المانع عن ثبوت الوجوب في غير التسعة بحسب ما تفيده الأدلة وهو ما سنبحثه في مسائل أخرى بإذن الله تعالى.

ص: 251

البحث الخامس: ما تجب فيه زكاة الغلات

اشارة

ص: 252

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الخامس:

ما تجب فيه زكاة الغلات(1)

بعد أن حصر المشهور الذي ادعي عليه الإجماع موارد وجوب الزكاة بالأصناف التسعة ومنها الغلات الأربع: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، قالوا –والكلام لصاحب العروة (قدس سره)-: ((نعم، يستحب إخراجها من الحبوب مما يكال أو يوزن كالأرز والحمص والماش والعدس ونحوها. وكذا الثمار: كالتفاح والمشمش ونحوهما، دون الخضر والبقول، كالقت والباذنجان والخيار والبطيخ ونحوها))(2).

أقول: لا يراد بالاستحباب هنا معناه المطلق لأن الإنفاق في سبيل الله مستحب بدليله العام ولا يحتاج إلى خصوصية، وإنما يراد به الاستحباب الخاص أي استحباب إخراج الزكاة بمقاديرها المعيّنة شرعاً.

ويتضمن المتن المذكور من البحث ثلاث فقرات سنفرد لكل واحدة منهن جهة من البحث:

(الأولى) الحبوب مما يكال أو يوزن كالأرز والحمص والماش والعدس.

(الثانية) الثمار كالتفاح والمشمش ونحوهما.

(الثالثة) الخضر والبقول كالباذنجان والخيار والبطيخ.

(الجهة الأولى) الزكاة في الحبوب مما يكال أو يوزن:

وقد أفتى المشهور بالاستحباب بناءً على مسلكهم المتقدم (صفحة 221) في الجمع بين الروايات باختصاص الوجوب بالغلات الأربع وحمل غيرها على الاستحباب، أما السيد الخوئي (قدس سره) فقد استدل على الاستحباب بصحيحة علي بن مهزيار بالتقريب الذي نقلناه عنه (صفحة 238- 239).

ص: 253


1- بدأ إلقاء البحث يوم 14/ جمادى الآخرة/1430 الموافق 2009/6/8.
2- العروة الوثقى:2/273، كتاب الزكاة، فصل: في الأجناس التي تتعلق بها الزكاة.

ونفى الوجوب والاستحباب من حمل روايات المجموعة الأخيرة على التقية كالسيد المرتضى (قدس سره) وصاحب الحدائق (قدس سره) لعدم الدليل بعد حمل ما دل على إخراج الزكاة من غير الأربعة على التقية، وقد ناقشنا هذه الأقوال كلها ولم يتم شيء منها.

وقال بالوجوب ابن الجنيد ويونس.

أما نحن فقد قرّبنا دلالة الصحيحة على وجوب الزكاة كما دلّت على الوجوب روايات أُخر في مجموعة الروايات التي أوردناها (صفحة 218) وهذا كله قد استدللنا عليه في المسألة السابقة.

وعلينا أن ننقح الآن موضوع الحكم سواء كان الحكم هو الوجوب كما اخترناه، أو الاستحباب كما اختاره المشهور، وبملاحظة الروايات نجد أن العناوينالواردة فيه تتلخص في ثلاثة (الحبوب، كل ما كيل، ما أنبتت الأرض) فلا بد من معرفة النسبة بينها واستنباط الموضوع.

والأول أخصّ مطلقاً من الثالث وكذا من الثاني بلحاظ كون التعامل يومئذٍ مع الحبوب كلها بالكيل.

أما النسبة بين الثاني والثالث فهي العموم من وجه إذا لاحظنا العنوان الثاني بذاته أي بغضّ النظر عن القرائن لأن بعض ما يكال ليس مما تنبت الأرض كالزيت والعسل(1).

واستنباط الموضوع لا يكون بالتعامل مع العناوين الثلاثة في عرض واحد، وإنما على مرتبتين، لأن الأول والثاني وردا سوية في رواية واحدة فنعالجهما ثم نتعامل مع الثالث.

بيان ذلك: إن صحيحة علي بن مهزيار تضمنت عدة عناوين في مقاطعها الثلاثة وهي (كل ما كيل بالصاع) و (الحبوب كلها) و (كل ما دخل القفيز) –جمعه قُفزان وأقفزة وهو مكيال يتواضع عليه الناس- و (كل شيء كيل). لتصديق الإمام الهادي (عليه السلام) هذه المعاني التي وردت عن أبي عبد الله (عليه السلام).

ص: 254


1- لعل الأخذ بإطلاق (ما كيل) هو مستند ابن الجنيد الذي ذهب إلى وجوب الزكاة في الزيت والعسل (راجع مختلف الشيعة للعلامة: 3/71).

والظاهر حمل عنوان (ما كيل) على (الحبوب)، أو قل إن عنوان (ما كيل) ليس مجعولاً آخر مستقلاً عن الحبوب بل هو متعلق به ويكون موضوع وجوب الزكاة (الحبوب مما يكال) لوجوه:-

1- إن قوله (عليه السلام): (كل ما كيل) في سياق تعداد الحبوب قرينة على أن المراد منه ما كيل من الحبوب وكأن الإمام (عليه السلام) أراد أن يوفّر على السائل مؤونة تعداد أسماء الحبوب.

2- إن عنوان (ما كيل) لا يمكن أخذه على عمومه للإجماع على عدمه فلا أحد يقول بإخراج الزكاة على الماء الذي يباع كيلاً ولا على الأدهان ونحوها، ولا يوجد عنوان آخر بعد عدم إرادة العموم إلا ما كيل من الحبوب.

3- إن المورد كمن يقول للآخر: هيأت لك في هذه الدار كل شيء، فإنه لا يعني كل شيء في هذه الدنيا وإنما كل شيء يتعلق بالغرض الذي هُيِّئت الدار من أجله، وهذا واضح في المتفاهم العرفي.

فقوله (عليه السلام): (كل ما كيل) أي من الحبوب التي نتحدث عنها.

إن قلتَ: إن الحبوب كلها مما يكال فتقييدها بهذا القيد لا معنى له.

قلتُ: هذه الدعوى تحتاج إلى استقراء تام وهو غير متحقق، مضافاً إلى أن المعروض هو تقييد ما يكال بالحبوب وليس العكس والثمرة حينئذٍ واضحة.

وهذا العنوان هو الظاهر من مجموعة الروايات الأخرى كصحيحة محمد بن إسماعيل وخبر أبي مريم ومعتبرة زرارة (رقم 3، 4، 5) لأنه ورد فيها (كل ما كيل بالصاع) في سياق الحديث عن الحبوب، فالموضوع ليس كل ما كيل وإنما كل ما كيل من الحبوب.

لكن صحيحة زرارة (رقم 2 صفحة 219) تضمنت عنواناً جديداً في ذيلها وهو (كل شيء أنبتت الأرض).والنسبة بين العنوان الذي استنبطناه من صحيحة ابن مهزيار وهذا العنوان هو العموم المطلق، فهل يحمل العام على الخاص سواء على القول بالوجوب أو الاستحباب أم لا؟

ص: 255

وهنا قد يقال بعدم صحة حمل العام على الخاص لأن الخطابين مثبتان فلا تنافي خصوصاً على مبنى المشهور من القول بالاستحباب ((ومقتضاه استحباب الزكاة في ما أنبتت الأرض سواء كان من المكيل أو لا، وسياقه آبٍ عن التخصيص مع بنائهم على عدم التخصيص في المندوبات خصوصاً في مثل الصدقة الراجحة مطلقاً، فيحمل على تأكد الاستحباب بالنسبة إلى المكيل والموزون مع ثبوت أصل الندب بالنسبة إلى كل ما أنبتت الأرض أيضاً))(1).

أقول: إن هذا العنوان (ما أنبتت الأرض) لا يسبب لنا مشكلة ولا تأثير له على العنوان الذي استنبطناه فيكون الحديث عن صحة الحمل وعدمه سالبة بانتفاء الموضوع، لثلاث تقريبات:-

1- إن وصف (ما أنبتت الأرض) لم يؤتَ به لتوسيع ما تجب فيه الزكاة إلى كل ما أنبتت الأرض وإنما لتضييق دائرة الحبوب بما استفاده من زراعة الأرض ولا تشمل ما لو حصل عنده نصاب الحبوب بشراء أو هبة أو غيرها.

وقد ورد هذا التعبير في روايات أُخر ظاهرة في هذا المعنى كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما أنبتت الأرض من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ما بلغ خمسة أوساق... ففيه العشر)(2).

وفي موثقة زرارة وبكير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (وأما ما أنبتت الأرض من شيء من الأشياء فليس فيه زكاة إلا في أربعة أشياء)(3) الحديث.

ولعل هذه الإضافة مقتطعة ومركبة من هاتين المعتبرتين وهما عن زرارة الذي نُسبت إليه الإضافة.

2- إن عنوان (ما أنبتت الأرض) لو أُخذ موضوعاً لتعلق الزكاة على سعته فلماذا خلت الروايات من تحديد نصاب الزكاة وكيفية إخراجها مما عدا المكيل والموزون؟ فهذا شاهد آخر على عدم إرادة العموم منه.

ص: 256


1- مهذب الأحكام للسيد السبزواري (قدس سره): 11/54.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلات، باب 1، ح5، 8.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلات، باب 1، ح5، 8.

إن قلتَ: إن نصابه نصاب النقدين في قيمته ومقدار الزكاة فيه كمقداره فيهما.

قلتُ: سيدخل حينئذٍ في زكاة أموال التجارة وهو ليس محل كلامنا.

3- إذا تم ما ذكره السيد السيستاني (دام ظله الشريف) من الخدشة في سند هذا الذيل لإرساله باعتبار عدم وروده في التهذيب عن كتاب ابن فضال وانفراد الكليني بنقله وسنناقشه (صفحه 261) بإذن الله تعالى.

وبعد الذي احتملناه من اقتطاع الرواية فإنه يوجب شكاً في متنها أيضاً.

ولو تنزّلنا فإن الصحيح هو إجراء الحمل المذكور لوجوه:-

1- إن هذه العناوين ليست مجعولات مستقلة وإنما هي مرتبطة ببعضها كما استظهرناه (صفحة 255).

2- الإجماع على عدم وجوب الزكاة في غير الحبوب عدا ما نُسبَ إلى ابن الجنيد من القول بوجوبها في الزيتون(1)

وسنناقشه في الجهة الثانية من البحث وهو غير مضر بالإجماع.

3- ما يمكن أن يقال من لزوم إبقاء عنوان (ما أنبتت الأرض) تخصيص الأكثر لخروج الثمار والخضر والبقول وهو مستهجن.

وحاصل الكلام لزوم حمل العناوين على بعضها، ونتيجته أن الوجوب لا يتعلق بكل ما كيل حتى الماء والزيت والخل ونحوها التي تباع كيلاً، ولا بكل ما أنبتت الأرض حتى البقول والخضروات، ولا بالحبوب كلها وإن لم تكن مما أنبتت الأرض وإنما يتعلق الوجوب بما كيل من الحبوب مما أنبتت الأرض، ولا يقتصر على الأصناف الأربعة بعد أن أزلنا المانع في أصل البحث.

وفي البحث تفاصيل سنؤخرها إلى حين مناقشة تقرير بحث السيد السيستاني (دام ظله الشريف).

وبقي مما قال السيد صاحب العروة (قدس سره) في هذه الجهة إضافته (ما يوزن) إلى ما يكال فقد يقال بعدم الدليل عليه.

لكن يمكن أن يستدل على إضافة ما يوزن بوجوه:-

ص: 257


1- مختلف الشيعة للعلامة الحلي (قدس سره): 3/71.

1- بعض الأخبار كالذي نقله السيد المرتضى (قدس سره) في (رسالة المحكم والمتشابه) عن تفسير النعماني بسنده عن علي (عليه السلام)؛ وفيه: (وأما الوزن فمن الذهب والفضة وسائر ما يوزن من أبواب سلع التجارات مما لا يدخل فيه العدد ولا الكيل)(1).

كخبر زيد الزراد الذي رواه في المستدرك (رقم 10 صفحة 220) وفيه: (قال: (كل شيء يدخل فيه القفزان والميزان ففيه الزكاة).

وقد أُورد على خبر الزراد بأن الظاهر منه أنه ((مربوط بزكاة مال التجارة بقرينة قوله: (إذا حال عليه الحول) ))(2).

أقول: هذا محتمل لكن حديث الإمام (عليه السلام) عما يفسد ولا يبقى إلى الحول قرينة على إرادة زكاة الغلات إذ لا معنى حينئذٍ لزكاة أموال التجارة، وعلى هذا نفهم عبارة (إذا حال عليه الحول) بما يناسب.

2- ما أفاده بعض أعلام العصر (دام ظله الشريف) من الاستشهاد له ((بإلغاء الخصوصية بل بالأولوية لأنه الأصل في اعتبار الأشياء والكيل فرع عليه))(3) وردّ عليه بأن ((الأولوية القطعية ممنوعة والظنية غير مفيدة، وعدم اعتبار الخصوصية أيضاً ممنوع بل لعل ذكر الكيل لاستثناء الخضر والبقول وما يفسد لاعتبار أكثرها بالوزن دون الكيل)).

أقول: إن مثل هذه التقريبات للاستدلال مقبولة على مستوى القول بالاستحباب الذي ذهب إليه المصنف (قدس سره) فلا داعي للرد عليها، أما الخصوصية التيذكرها للكيل فلا تغني لأن تلك المستثنيات كانت بعنوانها وليس بقيد الوزن، لأن بعضها من المكيل ولا زكاة فيها.

وعلى ما ذهبنا إليه فإنها خرجت بجمع العناوين مع بعضها.

3- الملازمة بين الكيل والوزن المعلومة من استقراء الموارد الفقهية فتقرن المكيل إلى الموزون وتعادل الكيل بالوزن كمقدار المد والصاع والكر وما يتحقق به الربا بل إن نصاب الزكاة المحدد بخمسة أوساق عودل بالوزن لأن الوسق ستون صاعاً والصاع ثلاثة كيلوات تقريباً على ما حررناه في

ص: 258


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح15.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 1/170.
3- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 1/170.

مسألة(3) ، فقوله (عليه السلام) في صحيحتي زرارة (رقم 2 و 5): (كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة) شامل للكيل والوزن.

مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من كون الوزن هو الأصل لأنه أدق وأضبط وإنما استعمل الكيل لسهولة التعاطي به ولبناء التعاملات يومئذٍ على المسامحة، ولأن الكيلة لوحظ فيها التعبير عن وزن معين.

2- ما اختاره جمعٌ ومنهم السيد الحكيم والسيد السبزواري (قدس الله روحيهما) من جعل موضوع الزكاة (ما أنبتت الأرض) وليس مختصاً بالمكيل وسيأتي تقريبه ومناقشته بإذن الله تعالى. وقال الأول (قدس سره): ((ومنه يظهر الوجه في تعميم المشهور الحكم للموزون مع عدم ورود خبر فيه، كما اعترف به غير واحد)) ((وعليه فلا حاجة إلى دعوى: أن ذكر الكيل في النصوص كناية عن التقدير ولو بالوزن مع أنها غير ظاهرة))(1).

وإلى هنا نكون قد أكملنا الاستدلال على المطلب إلا أننا نحب أن نقرر ما ذكره السيد الأستاذ (دام ظله الشريف) ونناقشه لتحصيل بعض الفوائد التفصيلية، فقد حقق أولاً في العنوان و ((أنه هل الاستحباب ثابت لعنوان (الحبوب) أو لعنوان عام وهو أحد الأمرين (كل ما كيل، وكل ما أنبتته الأرض) ولا خصوصية للحبوب، فلا بد من مراجعة الأدلة)).

ويمكن تقسيم كلامه (دام ظله) إلى مقطعين (أحدهما) في التعرف على عناوين الموضوع بحسب ما ورد في الروايات. (ثانيهما) في كيفية التعامل مع هذه العناوين لاستنباط موضوع الحكم.

وفيما يتعلق بالمقطع الأول قال (دام ظله):

((والروايات هنا على ثلاث طوائف:

(الطائفة الأولى): ما ذكر فيها الحبوب وهي على أقسام:-

1- ما ذكر فيه ثبوت الزكاة في بعض الحبوب خاصة كالأرز مثل رواية أبي بصير وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع، وتدلان على ثبوت استحباب الزكاة لعنوان الأرز وهو أحد الحبوب، ورواية أبي بصير غاية

ص: 259


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/57.

في الوضوح أما رواية ابن بزيع فإن الذيل لا يدل على ثبوتها في كل مكيل.

2- ما ذكر فيه جملة من الحبوب مذيلة بكبرى ثبوت الزكاة في كل ما كيل بالصاع كصحيحة زرارة عن كتاب ابن فضال عن أبي عبد الله (عليه السلام): (وكل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه فيه الزكاة).1- ما ذكر فيه عدة من الحبوب وذكر فيه (وأشباهه) كصحيحة محمد بن مسلم: (العدس والسمسم كل هذا يزكى وأشباهه) ولكن ما هو وجه الشبه هل إنه مكيل أو إنه قوت للإنسان أو كليهما فحينئذٍ لا بد من الأخذ بالقدر المتيقن وهو الجامع للأمرين فلا يصح من الصحيحة أزيد من ذلك.

وحينئذٍ لو كنا نحن وهذه الروايات التي ذكر فيها الحبوب لقلنا باختصاص الثبوت بالمكيل دون الموزون، وعندئذٍ يورد على الماتن بقوله: (أو يوزن).

والشاهد على التعميم إلى مطلق الكيل في هذه الروايات ما ورد في صحيحة علي بن مهزيار لما ذكر نقل الزكاة في الحبوب، قال (عليه السلام): (صدقوا: الزكاة في كل شيء كيل) ولم يستثنِ فالحبوب كلها كان متعارفاً يومئذٍ كيلها. لكن تقدم أن الرواية لا يعتمد عليها لأن الإمام (عليه السلام) في مقام الإجمال.

(الطائفة الثانية) ما يظهر منها أن العبرة بعنوان المكيل كذيل رواية زرارة (وكل ما كيل بالصاع) فبعد ذكر عدة من الحبوب جعل الضابط ما كيل بالصاع.

وفي الرواية الأخرى عن زرارة بعد رواية محمد بن مسلم قال: (ومثله عن زرارة. ومرسلة أبي مريم وفيها (وكل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة) ومعتبرة ابن مهزيار بلحاظ (على كل ما كيل بالصاع) بعدما نقل عن أبي عبد الله (عليه السلام) الاختصاص.

فهذه الروايات جُعل الموضوع فيها عنوان ما كيل، فما المراد به، هل الموصول عبارة عن خصوص الحبوب فيكون موافقاً لعنوان المصنّف، أم مطلق ما أنبتته الأرض مما يكال فلا يختص بالحبوب.

ص: 260

ويمكن إرادة المعنى الأعم من ذلك حتى يشمل كل ما كان مكيلاً حتى مثل ما أُخذ من النباتات كالزيوت النباتية والدبس والعسل. فالاحتمالات ثلاثة: الحبوب، كل ما أنبتته الأرض، ما استخرج من النباتات. ولعل ابن الجنيد قال بها في العسل لأجل هذا التعميم لكنه بعيد، ومنصرف عنه، فيدور الأمر بين الأول والثاني. ولولا ما سيجيء من أنه لا أحد يقول بثبوتها في مطلق النباتات: لأمكن القول بالتعميم ولا يختص بالحبوب.

(الطائفة الثالثة) في كل ما أنبتته الأرض إلا ما استثني وهو موجود في تتمة رواية زرارة (رقم 2 صفحة 219) الثانية على نقل الكليني (وقال: جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شيء أنبتته الأرض إلا في البقول وما يفسد ليومه) فيقع الكلام: هل عنوان الكيل له دخالة في الاستحباب، أي النبات بشرط كونه مكيلاً، أو أن المعيار: كل ما أنبتته الأرض، بلا فرق بين المكيل وغيره.

ومن جهة السند فإننا لا نثق بالرواية إذ لا يبعد أن قوله: (وقال) كلام لأحد الرواة وهو مرسل والشاهد عليه أن التهذيب نقل عن علي بن إبراهيم عن كتاب ابن فضال (وهي الرواية 5 صفحة 219 في المسألة السابقة) وليس فيها هذا الذيل، أما الكليني فإنه حيث نقل أولاً رواية محمد بن مسلم فقال: ((مثله وليس هو مثله بل يشبهه وليس فيه هذا الذيل فيمكن الخدشة في أصل ثبوت هذا الذيل، ولكنه يعتبر صحيحاً عندهم))(1).

أقول: في كلامه (دام ظله) عدة موارد للنظر:-1- إنه لم يكن (دام ظله) بحاجة إلى هذا التطويل لأن العناوين واضحة في الروايات ولا تحتاج إلى تصنيف، وقد أدّى تقسيمه الروايات إلى طوائف، والطائفة إلى أقسام إلى إرباك وتشويش وتداخل، وكأنه (دام ظله) أراد أن يفصّل ما أجمله السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: ((ثم إنه قد اختلفت النصوص المذكورة في العنوان المأخوذ موضوعاً للحكم، ففي بعضها: ما كيل بالصاع، وفي بعضها: ما أنبتت الأرض، وفي بعضها: الحبوب))(2) في

ص: 261


1- تقرير بحث السيد السيستاني (دام ظله)، محاضرة بتأريخ 10/صفر/1420.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/56.

حين أن كلام السيد الحكيم (قدس سره) واضح المأخذ ومستوعب للمطلوب.

2- فيما يتعلق بالإشكال على ذيل صحيحة زرارة فقد أجبنا عما يتعلق بالإضافة الأولى (صفحة 234)، وأما الإشكال على الإضافة الثانية من جهة عدم نقل التهذيب له فإنه غير تام لابتنائه على وحدة الرواية مع أن الشيخ الطوسي (قدس سره) رواهما(1)

معاً فأثبت رواية حريز عن زرارة كما نقلها الكليني (قدس سره) بالإضافتين، وذكر رواية ابن فضال عن إبراهيم بن هاشم ((وليس علياً ابنه)) وهي (الرواية رقم 5 صفحة 219) مضافاً إلى أن السؤال مختلف فيهما.

وقد رجّحنا (صفحة 256) أنها جزء مقتطع ومركب من معتبرتين لزرارة وشرحنا معناه هناك.

ثم تعرض السيد الأستاذ في المقطع الثاني للكلام في ((أي العنوانين (كل ما كيل) و (كل ما أنبتته الأرض) هو المعيار، فإن كان الثاني فلا اعتبار للكيل ويصح كلام الماتن من التعميم إلى الوزن، وإن كان لا يصح عنوانه بالحبوب.

وفي المقام يقال بأنه لا تعارض بين الطائفتين لوجهين ذكرهما في المستمسك(2)

وهما:-

1- إن بين العنوانين عموماً من وجه ومقتضى كونهما مثبتين عدم تقييد أحدهما بالآخر، لأن الجمع بين العام والخاص أو المطلق والمقيد إنما يلزم في صورة التنافي ولا تنافي لأن كليهما مثبتان للزكاة. وهذا الوجه ذكره جمع منهم صاحب المستمسك (قدس سره).

2- ما اختص به صاحب المستمسك بناءً على ما في مصحح زرارة المتقدم (رقم 2 صفحة 216)، حيث حكم (عليه السلام) بثبوت الزكاة في كل ما كيل بالصاع، مستشهداً بجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة في كل شيء أنبتت الأرض، الظاهر في أن موضوع الحكمين واحد، ومقتضى الاستشهاد أن يكون الموضوع: (ما أنبتت الأرض). ومنه يظهر الوجه في

ص: 262


1- التهذيب: ج4، كتاب الزكاة، باب 17: حكم الحبوب بأسرها في الزكاة، ح2،3.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/57.

تعميم المشهور الحكم للموزون مع عدم ورود خبر فيه، كما اعترف به غير واحد. انتهى كلام المستمسك.

وتقريب الوجه الثاني: إن الإمام (عليه السلام) إنما ذكر الجملة الأخيرة وهو محل كلامنا (جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... ) استشهاداً لما حكم به قبل ذلك (كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق...) فالعبرة بالمستشهد به لا بالمستشهد له،فاستشهد بجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس في جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر المكيل بل كل ما أنبتته الأرض.

وكلا الوجهين قابل للتأمل:

أما الثاني فإنه حتى لو وجدت الجملة فلا دليل على أن الإمام (عليه السلام) يستشهد به بل يحتمل قوياً أن هذا من قبيل الجمع بين الروايتين، أي أن الراوي كزرارة نقل هذا الحديث، ونقل الآخر وليس فيه أداة تعليل حتى يقال انه للاستشهاد، وليس هذا تتمة للكلام لذا لم يذكره ابن فضال مع الدقة في النقل.

وأما الأول فما ذكره (قدس سره) من أنهما مثبتان ولا وجه لحمل أحدهما على الآخر صحيح، لكنه (قدس سره) ذكر أن النسبة بينهما عموم من وجه وتتوقف صحة كلامه على أحد أمرين:

(إما) تعميم المكيل لغير ما أنبتته الأرض كالأدهان وهو بعيد.

(أو) بملاحظة النسبة بعد الاستثناء (إلا ما كان من البقول…) وبعض النباتات تجفف وتكال كالبقول(1)

فبناءً على ما اشتهر بينهم (في مبحث التعارض) من أنه إذا اشتملت جملة على الاستثناء فنلاحظ النسبة بعد قطع المستثنى لانعقاد الظهور في نتيجة الاستثناء فيتم ما أفاده (قدس سره) لكننا أنكرنا هذا المعنى والعبرة بظهور المستثنى منه وإن البقول لم يلاحظ فيها هذه الجهة))(2).

ص: 263


1- بتوضيحٍ منا نقول: إن البقول المجففة هي مادة الافتراق من جهة المكيل فإنها داخلة فيه وخارجة عن الآخر وهو (ما أنبتت الأرض إلا البقول) بعد قطع المستثنى.
2- إلى هنا انتهت محاضرة 10/صفر/1420.

((فالظاهر أن النسبة هي العموم المطلق لأن ما يكال ظاهر في النبات الذي بنفسه مكيل لا مثل المستخرج منه كالزيوت النباتية والعسل كما ادعي، أما ما أنبتته الأرض فعامٌ، فالنسبة عام وخاص.

لكن صاحب الجواهر (قدس سره) قال إنها عموم من وجه وكذا في المستمسك، إلا أنهما اختلفا من حيث وجوب الحمل بالتخصيص وعدمه، فقال صاحب الجواهر (قدس سره): إنه لا بد من التخصيص في مورد الاجتماع بأن يكون الموضوع مكيلاً ومما أنبتته الأرض(1)، أما صاحب المستمسك (قدس سره) فقال بعدم التخصيص للوجهين المتقدمين وقد ناقشناهما وأحدهما قال به جمع والآخر اختص به صاحب المستمسك (قدس سره).

لكن يمكن أن يقال بلابدية التخصيص لأن الجمع بين العنوانين إنما يؤخذ به إذا لم توجد خصوصية فيهما، والمقام ليس مثله لوجود خصوصية في المكيل لا يمكن إلغاؤها وهي خصوصية الكيل المحددة بخمسة أوساق في موارد الوجوب والاستحباب، والرواية المشتملة على الكيل ذكرته وإن الزكاة تثبت (في كل ما كيل إذا بلغ خمسة أوساق) فهو مختص بالواصل إلى النصاب، فهنا عناية خاصة بعنوان الكيل ولا يمكنإلغاؤها إلى كل ما أنبتته الأرض إذ لا بد من الخمسة أوسق وجوباً واستحباباً، ولا يعمم إلى الموزون.

وهذا الوجه هو المانع من الجمع بين العنوانين، وليس ما قيل من إنكاره لأنه لم يقل به أحد، فقد قال به الشيخ في النهاية والمحقق في الشرائع(2)

فهذا ليس مبعداً.

وهذا كله بناءً على اعتبار رواية زرارة أما على ما قوّيناه من أن الذيل (كل ما أنبتته) مرسل فلا إشكال))(3).

أقول: في كلامه (دام ظله) عدة موارد للنظر:-

ص: 264


1- جواهر الكلام: 15/69 وسيأتي نص عبارته (قدس سره) بإذن الله تعالى.
2- شرائع الإسلام، ج1، القول في زكاة الغلات.
3- تقرير محاضرة يوم 13/صفر/1420.

1- ربط المطلب بمبحث التعارض –ولعله يشير إلى ما يعرف بنظرية انقلاب النسبة وإن لم يصرّح بذلك- غير تام. لأن ذلك المبحث يتعلق بالدليلين المتعارضين تعارضاً مستقراً حينما يرد دليل ثالث يخصّص أحدهما فيتحوّل التعارض إلى ممكن العلاج. ومطلبنا هنا ليس فيه تعارض لأن الدليلين مثبتان وليس للعنوانين مفهوم حتى يتكاذبا.

ولعله بنى ذلك على كلام صاحب الجواهر (قدس سره) عن ما ورد من عنوان (ما أنبتت الأرض) و (ما يكال أو يوزن) بأن بينهما ((تعارض العموم من وجه)) ثم قال (قدس سره): ((لكن لا يخفى ظهور النصوص في كون محل الزكاة ما جمع الوصفين ومن هنا اتجه تخصيص كل من العامّين بالآخر))(1)

وهو (قدس سره) يريد النسبة وليس التعارض بالمعنى المصطلح.

2- ما دام (دام ظله) قد سلّم كبرى الوجه الأول فهذا يعني أن الوجه تام لأن كون النسبة عموماً من وجه لا أثر للمناقشة فيها فإن هذه الكبرى جارية فيها وفي نسبة العموم المطلق.

3- إن ما ذكره من إنكار التعاطي مع العنوان بعد الاستثناء يأتي عليه لتعاطيه مع عنوان المكيل بعد استبعاد دخول الزيت والعسل ونحوها منه (في رده على التقريب الأول لصاحب المستمسك (قدس سره) ) مما أوجب أن يجعل النسبة عموماً مطلقاً، ولو لحظنا عنوان المكيل بذاته الشامل لغير ما أنبتت الأرض فيكون ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) والسيد الحكيم (قدس سره) من كون النسبة عموماً من وجه صحيحاً.

4- إن الخصوصية للكيل التي ذكرها أخيراً لا تعيّن المكيل، لأن الخمسة أوساق معادلة بالوزن حيث الوسق يساوي 60 صاعاً، والصاع يساوي ثلاثة كيلوغرامات تقريباً، فالنصاب حد كيلي ووزني وتُعمَّم المسألة إلى الموزون خلافاً لقوله (دام ظله): ((ولا يعمم إلى الموزون)).

ص: 265


1- جواهر الكلام: 15/69.

5- إنه (دام ظله) بعد أن تأمّل في الوجه الثاني لصاحب المستمسك (قدس سره) لم يبيّن لنا كيفية معالجة العلاقة بين عنواني (الحبوب والمكيل) وهل يقتصر على الأول أي الحبوب مما يكال، أم يأخذ بعنوان المكيل –وإن أخرج منه غير ما أنبتته الأرض- خصوصاً بعد أن اعترض على منشأ أخذ الحبوب في عنوان الماتن صاحب العروة الوثقى (قدس سره).

وربما كان وجهه (دام ظله) أن دخول الحبوب في العنوان هو القدر المتيقن، بقرينة ما قاله في بداية الدرس بأن ((الكلام فيما أفاده الماتن (قدس سره) من استحباب الزكاة في الحبوب، وقلنا هل يوجد ما يعمم إلى غيرها؟ وقلنا هنا طائفتان: (الأولى) ثبوتها في كل ما يكال، (الثانية) ثبوتها في كل ما أنبتته الأرض إلا ما استثني))(1).

6- إن العناوين الواردة في الروايات للموضوع وإن كانت ثلاثة كما ذكر (دام ظله) وذكرنا إلا أن معالجتها لا تكون في عملية واحدة كما ورد في كلامه، وإنما تتم في مرتبتين: تضمنت الأولى عنوان (الحبوب، مما يكال) في صحيحة ابن مهزيار وغيرها لأنهما في رواية واحدة، ثم يعالج العنوان المستنبط مع الثالث، كما تقدم.

فالحديث عن النسبة بين (ما يكال وما أنبتت الأرض) غير تام لأن الأول لم يؤخذ بإطلاقه وإنما من الحبوب.

(الجهة الثانية) زكاة الثمار:

نسب السيدان الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما) القول بالاستحباب إلى المشهور(2)

ولا نعلم له وجهاً بل حكى النراقي (قدس سره) عن المفيد والمنتهى الإجماع على عدم الاستحباب(3) واحتمل السيد السيستاني (دام ظله)

ص: 266


1- محاضرة 13/صفر/1420.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/57، المستند في شرح العروة الوثقى: 23/137.
3- مستند الشيعة: 9/236.

أن تكون النسبة مبنية على فهم كلام صاحب الجواهر (قدس سره) الذي اختار عدم الاستحباب وقال (قدس سره): ((لكن لم أجد من أفتى به صريحاً عدا الأستاذ في موضع من كشفه، نعم، في الدروس والروضة نسبته إلى الرواية))(1).

وقد دلت على عدم ثبوت الزكاة في الثمار أو الفواكه روايات عديدة منها:-

صحيحة الحلبي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما في الخضر؟ قال: وما هي؟ قلت: القضب والبطيخ ومثله من الخضر، قال: ليس عليه شيء إلا أن يباع1- مثله بمال فيحول عليه الحول ففيه الصدقة، وعن الغضاة من الفرسك وأشباهه فيه زكاة؟ قال: لا، قلت: فثمنه؟ قال: ما حال عليه الحول من ثمنه فزكّه)(2).

ومحل الاستدلال في موضعين:-

أ- قوله (عليه السلام): (الفرسك) –كزبرج وهو نوع من الخوخ أحمر على ما قيل- ويُعمّم بعدم القول بالفصل.

ب- على ما ورد في بعض النسخ من قراءة (العضاة) وتقريبه أن ((المراد بالعضاة –ما ورد في الوافي جمع عضة، وأصلها عضهة، فردت الهاء في الجمع- كل شجر له شوك، كأنه أراد بها الأشجار التي تحمل الثمار كائنة ما كانت))(3).

2- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام): (في البستان يكون فيه الثمار ما لو بيع كان مالاً هل فيه الصدقة؟ قال: لا).

3- الروايات التي ورد فيها (ما يفسد ليومه) كصحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في حديث) قال: (وجعل رسول الله (صلى الله عليه

ص: 267


1- جواهر الكلام: 15/71.
2- الأحاديث من (1-7) في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة،باب 11، ح 2، 3، 4، 5، 7، 9.
3- جواهر الكلام: 15/71.

وآله وسلم) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر والبقول وكل شيء يفسد من يومه).

بتقريب أن الثمار والفواكه مما يفسد ليومه كما هو واضح بل نصّت عليه صحيحة زرارة الآتية (رقم 6)، وبقرينة من نفس الرواية إذ لا يبقى معنى لعطفه على الخضر والبقول إذا لم يشمل غيرهما، ولا يعتنى بالإشكال من جهة إمكان تجفيفها وحفظها لمدة طويلة كالمشمش، لأن العبرة بلحاظ وضعها الطبيعي، وإلا فإن مما لم تجب فيه الزكاة لأنه يفسد ليومه: البقول وهي ممكنة الحفظ بالتجفيف.

4- صحيحة محمد بن إسماعيل قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن لنا رطبة وأرزّاً، فما الذي علينا فيهما؟ فقال (عليه السلام): أما الرطبة فليس عليك فيها شيء) الحديث.

بتقريب إرادة عموم الثمار الرطبة أو الفواكه الرطبة.

5- ما ورد من ذكر (البطيخ وأشباهه) بتقريب أن أشباهه يراد منها الثمار والفواكه، كموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس على البقول ولا على البطيخ وأشباهه زكاة إلا ما اجتمع عندك من غلته فبقي عندك سنة).

6- صحيحة زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا: (عفا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الخضر، قلت: وما الخضر؟ قالا: كل شيء لا يكون له بقاء: البقل والبطيخ والفواكه وشبه ذلك مما يكون سريع الفساد، قال زرارة: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل في القضب شيء؟ قال: لا).

فقد ذُكرت الفواكه فيه صريحاً.أقول: ظاهر هذه الروايات نفي ثبوت الزكاة في الثمار والفواكه وجوباً أو استحباباً. وحينئذٍ ما هو مستند القائلين بالاستحباب؟ وذكرت هنا عدة وجوه:

(الأول) ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك بقوله: ((لدخوله فيما يكال بالصاع)) وشرحه السيد الأستاذ (دام ظله) بقوله: ((ما دل على أن كل

ص: 268

ما كيل ففيه الزكاة، والثمار من المكيل فيشمله الدليل. وقد مرّ أن انتقالاً تدريجياً حصل من المبيع كيلاً في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الموزون، ولعله إلى الآن يبيع بعض المزارعين بالكيل)).

أقول: هذا الوجه غير تام لما سبق من أن عنوان المكيل لم يؤخذ على إطلاقه وإنما أُريد به المكيل من الحبوب، فالثمار والفواكه خارجة موضوعاً.

ورد عليه السيد الخوئي (قدس سره) من جهة ((قصور شمولها للثمار لعدم كونها من الحبوب ولا من المكيل، إذ لم يتعارف بيع الثمار بالكيل لا في القرى ولا البلدان أبداً، وإنما هي تباع وزناً أو عدداً أو بالخرص والتخمين والمشاهدة، ولم يعهد بيعها كيلاً))(1)

ورد عليه السيد السيستاني بأن ((ما أفاده (قدس سره) مورد خدشة إذ لا شك في أن بعض الثمار كان يباع كيلاً في الجملة فإطلاق الإنكار لا وجه له.

ولكن يرد على الاستدلال بهذا الوجه أنه أخص من المدعى إذ ليس كل الثمار تباع كيلاً، وإذا شُك َّ في شيء أنه يباع كيلاً أو لا فلا يتمسك بالعموم لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو غير صحيح. فهذا الدليل لا يتم لأنه أخص من المدعى وليس مبايناً كما ادعاه السيد الأستاذ (قدس سره) ))(2).

أقول: هذا الرد غير كافٍ لإثبات المدعى وهو نفي ثبوت الزكاة في الثمار مطلقاً، إذ قد يقول المستدل بأن الدليل يثبت الزكاة في بعض الثمار وهو المكيل منها بل قد يتقدم أكثر فيتمسك بعدم القول بالفصل ليعمم الوجوب إلى الثمار جميعاً.

(الثاني) ((النصوص المتضمنة لثبوتها في كل شيء أنبتت الأرض))(3).

بعد ((عدم إعمال قواعد العموم والخصوص والإطلاق والتقييد في باب المستحبات لعدم إحراز وحدة الحكم والتعارض فيها واحتمال كون الاستحباب ذا مراتب))(4).

ص: 269


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/138.
2- من تقرير محاضرة 13/صفر/1420.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/138. مهذب الأحكام: 11/55.
4- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 1/171.

أقول: قد أجبنا عن هذا الدليل بعدم مدخلية هذا العنوان في توسيع الموضوع لوجوه ذكرناها (صفحة 255).

قال السيد السيستاني (دام ظله الشريف): ((وقد أُجيب بوجهين:-

1- ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) من أن الثمار مندرجة فيما يفسد ليومه فهو مستثنى من هذه الكبرى.وهذا غير صحيح لأن المراد (ليومه) ليس المقابل للّيل بل لزمانه أي أوان بلوغه، كما يقال: (الدهر يومان) فما أفاده غير صحيح لأن كثيراً من الثمار لا يفسد ليومه أي أوانه كالجوز واللوز والأعناب وكذلك جملة من الأشياء التي بنوا على تجفيفها كالمشمش والتين وجوز الهند)).

أقول: جوابه (دام ظله) غير صالح للإجابة ولا يحل المشكلة مضافاً إلى أن صحيحة زرارة (رقم 6) ذكرت الفواكه تحت هذا العنوان، أما الإشكال بإمكان حفظها بالتجفيف فقد قلنا آنفاً أنه لا يُلتفت إليه.

((2- ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من أن (هذا العنوان وإن كان صادقاً على الثمار –ولا يصغى إلى ما ادعاه المحقق الهمداني (قدس سره) من الانصراف(1)، إذ لا وجه له كما لا يخفى – إلا أن تلك النصوص بأنفسها تضمنت استثناء الخضر، كما في صحيح زرارة: (قال: وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض، إلا ما كان في الخضر والبقول، وكل شيء يفسد من يومه).

فإن الخضر شامل للثمار لغة وعرفاً، مضافاً إلى تفسيره بها صريحاً في صحيحة أخرى لزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام): (أنهما قالا: عفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخضر، قلت وما الخضر؟ قالا: كل شيء لا يكون له بقاء: البقل والبطيخ والفواكه وشبه ذلك مما يكون سريع الفساد) إلخ.

ص: 270


1- قال في مصباح الفقيه: ((خروج ثمر الأشجار عن منصرف إطلاق ما تنبته)).

إذن لا تشمل تلك النصوص الفواكه والثمار في حد أنفسها، وعليه فلا دليل على استحباب الزكاة فيها)(1)

إه-.

وما ذكره (قدس سره) من مساوقة الفواكه للخضر لغةً وعرفاً على العكس، والثمار خصوصاً التي تُجفَّف لا يطلق عليها عنوان الخضر)).

أقول: ما أفاده (دام ظله) مبني على المعنى الاصطلاحي للخضر اليوم وإلا فإن صحيحة زرارة (رقم 6) صريحة في تعريف الخضر وشموله للفواكه في عصر صدور النص وهو المطلوب، فهل يريد السيد السيستاني أن يرد على النص؟.

ثم قال (دام ظله): ((وما أفاده (قدس سره) من التفسير مخدوش بوجهين:-

أ- إن كلامه (قدس سره) مبني على الترادف بين الفاكهة والثمرة، وليس الأمر هكذا، فقد ورد في بعض المعاجم في معنى الفاكهة: ما يُتنعم بأكله من الثمرة لا مطلقاً، ومن المعلوم أن بعض الثمار لا يسمى فاكهة فالعناب دواء لا يتفكه به أحد.

ب- إن التأمل في صدر وذيل الرواية يفيد بأنه ليس المراد مطلق الثمار صدراً وذيلاً، ففي الصدر (كل شيء لا يكون له بقاء) فإذا فُرض أن بعض الفواكه لها بقاء فتخرج، وفي الذيل (وشبه ذلك مما يكون سريع الفساد) فالمراد ما كان سريع الفساد من الثمرة لو سلّمنا الترادف. فالرواية آبية عن العموم والإطلاق صدراًوذيلاً ونتيجة ذلك بحسب القاعدة أنه كلما فُرض من المكيل وليس سريع الفساد فيمكن ثبوت الزكاة فيه، أما مطلق الثمار فلا دليل عليه))(2).

أقول: اتضح الرد على كلامه (دام ظله) من مجموع ما تقدم وأن الملحوظ في العناوين وضعها الطبيعي لا بعد معالجتها بالتجفيف ونحوه.

ص: 271


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/138-139.
2- إلى هنا انتهت محاضرة 13/صفر/1420.

(الثالث) ما ذكره السيد السبزواري (قدس سره) من ((إطلاق قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ملعون كل مال لا يزكى)(1)

وهو يشمل جميع الأموال، والتخصيص بالتسعة إنما هو بالنسبة إلى الوجوب فقط لا أصل الرجحان، فتكون للّعن مراتب بعضها تختص بالزكاة الواجبة وبعضها تشمل غيرها))(2).

وفيه-

1- إن المال لا يكون ملعوناً إذا لم يزكَ إلا إذا كانت الزكاة واجبة فيه، وهذا أول الكلام ولا يثبت بهذا الحديث، لأن القضية لا تثبت موضوعها.

2- إنه يلزم على تقريبه (قدس سره) تخصيص الأكثر، لأن أكثر الأموال لا تجب زكاتها فلا تلعن بعدم تزكيتها خصوصاً على رأي المشهور الذي يحصر الوجوب بالتسع.

(الرابع والخامس) وجهان ذكرهما السيد السيستاني (دام ظله) فإنه بعد أن استغرب مما أفاده الماتن (قدس سره) من القول بالاستحباب، قال: ((ولا يقال أنه غفل عن صحيحة محمد بن مسلم الدالة على عدم الزكاة في الثمار، وما يمكن أن يقال في توجيه كلامه أمران:-

1- إن الماتن (قدس سره) استظهر من صحيحة محمد بن مسلم نفي الوجوب فلا يكون مخصصاً ل-(ما أنبتته الأرض) الدالة على الاستحباب فلا تنافي.

وهذا لا يمكن الموافقة عليه فإن الظاهر من سؤال محمد بن مسلم (البستان يكون فيه الثمار بحيث ما لو بيع كان مالاً) أي له مالية كثيرة، فسؤاله أعم من الوجوب والاستحباب، بل نظره خصوص الاستحباب فإن زرارة روى كثيراً عن عدم وجوبها في الغلات.

2- حيث أن المشهور نسب إليه الحكم بالاستحباب فبضميمة قاعدة التسامح بأدلة السنن على فرض أنه يشمل فتوى المشهور فلعله حكم بالاستحباب لهذه الجهة.

ص: 272


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 3، ح23.
2- مهذب الأحكام: 11/55.

وقد ظهر الخدشة فيه من وجهين:-

أ- ليس الحكم بالاستحباب مشهوراً بل المشهور عدمه، وإنما المصرح بالعدم قليل ككاشف الغطاء (قدس سره).ب- إن قاعدة التسامح ممنوع كبرى وصغرى بمعنى فتوى العلماء مع العلم بالمدرك))(1).

أقول: مضافاً إلى عدم تمامية الوجوه التي استدل بها على الاستحباب، فقد حكى السيد الخوئي (قدس سره) عن صاحب الجواهر (قدس سره) إسناد عدم الاستحباب إلى وجود المانع وهي صحيحة محمد بن مسلم، ثم رد عليه بأن ((فيه ما لا يخفى، إذ مقتضى الجمع بين هذه الصحيحة النافية وبين دليل الإثبات –لو كان- هو الحمل على الاستحباب، بأن يكون المراد من النفي نفي الوجوب غير المنافي لثبوت الاستحباب الذي يراه المشهور، كما هو مطّرد في كثير من الأبواب))(2).

أقول: لقد أورد صاحب الجواهر (قدس سره) الرد على هذا الجواب بقوله: ((واحتمال إرادة نفي الزكاة الواجبة من النص يدفعه ظهور خبري زرارة في كونهما كالخضر في السقوط، بل قد عرفت إدراجه تحت مفهوم الخضر في أحدهما))(3).

(الجهة الثالثة) الخضر والبقول.

وقد تقدمت في الجهة الثانية روايات عديدة على عدم ثبوت الزكاة فيها كصحيحة الحلبي وكموثقة سماعة وصحيحة زرارة وكصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (أنه سُئل عن الخضر فيها زكاة وإن بيع (بيعت) بالمال العظيم؟ فقال: لا، حتى يحول عليه الحول)(4).

ص: 273


1- من تقرير محاضرة 14/صفر/1420.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/138.
3- جواهر الكلام: 15/72.
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 11، ح1.

وهو القدر المتيقن من الإجماع الذي حكاه النراقي (قدس سره) عن المفيد والمنتهى.

ص: 274

البحث السادس: زكاة أموال التجارة

اشارة

ص: 275

ص: 276

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث السادس:

زكاة أموال التجارة(1)

هذه المسألة مهمة في بعدها الاقتصادي وعميقة في بعدها العلمي، ولذا قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن بعض تفاصيلها: ((وكيف كان فالمسألة مشكلة))(2)

فمن الغريب إعراض السيد الخوئي (قدس سره) عن مناقشة تفاصيلها بعنوان أنها من المستحبات، قال في مستند العروة: ((ثم إن الماتن تعرض في فصل مستقل لما يستحب فيه الزكاة وقد أهمله سيدنا الأستاذ (دام ظله) جرياً على عادته من عدم التعرض لباب المستحبات والمكروهات إلا نادراً))(3)

لكنه (قدس سره) تبعاً للمصنف تعرض لحكم المسألة فقط دون تفاصيلها في نهاية فصل ما يجب فيه الزكاة وستأتي مناقشته بإذن الله تعالى.

ولا يراد بأموال التجارة النقود التي هي أساس التعاملات التجارية لأنها داخلة في عنوان زكاة النقدين الذهب والفضة وقد عممناها نحن إلى كل العملات المتداولة في السوق وسنبحثها في مسألة مستقلة بإذن الله تعالى.

وإنما يراد بالعنوان البضائع والأعيان وسائر الأمور التي تقتنى طلباً للربح بالقيود التي سنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى.

الأقوال في المسألة:

المشهور بين أصحابنا الاستحباب، قال العلامة (قدس سره) في المختلف: ((اختلف علماؤنا في مال التجارة على قولين: فالأكثر قالوا بالاستحباب، وآخرون قالوا بالوجوب.

ص: 277


1- (*) انتهى إلقاء البحث يوم 28/شوال/1430 الموافق 2009/10/18.
2- كتاب الزكاة من الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/245.
3- المستند في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 23/405.

قال ابن أبي عقيل: اختلف الشيعة في زكاة التجارة، فقال طائفة منهم بالوجوب، وقال آخرون بعدمه، قال: وهو الحق عندي))(1).

وصرّح بالاستحباب من القدماء الشيخ المفيد (قدس سره) بقوله: ((وكل متاع في التجارة طلب من مالكه بربح أو برأس ماله فلم يبعه طالباً للفضل فيه، فحال عليه الحول ففيه الزكاة بحساب قيمته إذا بلغت ما يجب في مثله من المال الصامت الزكاة، سُنة مؤكدة على المأثور عن الصادقين (عليهما السلام). ومتى طلب بأقل من رأسماله، فلم يبعه فلا زكاة عليه وإن حال عليه حول وأحوال، وقد روي أنه إذا باعه زكّاة لسنة واحدة. وذلك هو الاحتياط))(2).

وحكى السيدان الإجماع عليه، قال السيد المرتضى (قدس سره): ((ومما ظن انفراد الإمامية به نفي الزكاة عن عروض التجارة وقد وافقهم في ذلك داود بن علي وهو قول ابن عباس –رحمه الله - فيما رواه الحراني عنه.

وأبو حنيفة وأصحابه يوجبون في عروض التجارة الزكاة إذا بلغت قيمتها النصاب، وهو قول الثوري والأوزاعي وابن حي والشافعي.

وقال مالك: إن كان إنما يبيع العرض بالعرض فلا زكاة حتى يقبض ماله وإن كان يبيع بالعين والعرض فإنه يزكى.

وقال الليث: إذا ابتاع متاعاً للتجارة فبقي عنده أحوالاً فليس عليه إلا زكاة واحدة.

دليلنا على صحة هذه المسألة: كل شيء دللنا به على أن الزكاة لا تجب فيما عدا الأصناف التسعة التي عيناها، وعروض التجارة خارجة عن تلك الأصناف فالطريقة تتناولها))(3).

ص: 278


1- مختلف الشيعة: 3/67، مسألة 42.
2- المقنعة: 40.
3- الانتصار: 78.

وقال السيد (قدس سره) صاحب الغنية: ((فزكاة الأموال تجب في تسعة أشياء... ولا تجب فيما عدا ما ذكرناه، بدليل الإجماع)) وفيها أيضاً ((وأما المسنون من الزكاة ففي أموال التجارة إذا طلبت برأس المال أو الربح ... بدليل الإجماع))(1).

وذهب عدد من قدمائنا، كابني بابويه إلى الوجوب وحكاه العلامة (قدس سره) في المختلف عنهما صريحاً، ففي فقه الرضا: ((وإن كان مالك في تجارة وطلب منك المتاع برأس مالك ولم تبعه تبتغي بذلك الفضل فعليك زكاته إذا جاء الحول وإن لم يطلب منك (المتاع) برأس مالك فليس عليك الزكاة))(2).

وفي الفقيه: ((وإذا كان مالك في تجارة وطلب منك المتاع برأس مالك ولم تبعه تبتغي لك بذلك الفضل فعليك زكاته إذا حال عليه الحول. وإن لم يطلب منك المتاع برأس مالك فليس عليك زكاته))(3)

ونحوها عبارته في المقنع التي هي كعبارة فقه الرضا.

ولعل الشيخ الطوسي (قدس سره) يعرّض بهما وأمثالهما الذين يفتون على ظاهر الأخبار دون الاستنباط وإعمال الملكة في الجمع بين الأخبار المتعارضة الذينسمّاهم بالمحصلين كما احتمله البعض(4)

في عبارته في الخلاف، وسنرى بإذن الله تعالى أن مقتضى الاجتهاد والاستنباط من الروايات الشريفة ما ذكراه (قدس الله روحيهما)، قال (قدس سره): ((لا زكاة في مال التجارة عند المحصلين من أصحابنا، وإذا باع استأنف به الحول.

وفيهم من قال: فيه الزكاة إذا طلب برأس المال أو بالربح.

ومنهم من قال: إذا باعه زكّاه لسنة واحدة.

ص: 279


1- غنية النزوع: 128، طبعة مؤسسة الإمام الصادق (ع)، قم، 1417 ه-.
2- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح9.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2، كتاب الزكاة، ح 1602، صفحة 20، طبعة جماعة المدرسين 1404، الثانية.
4- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 2/181.

ووافقنا ابن عباس في أنه لا زكاة فيه. وبه قال أهل الظاهر كداود وأصحابه.

وقال الشافعي: هو القياس.

وذهب قوم إلى أنه ما دامت عروضاً وسلعاً لا زكاة فيه، فإذا قبض ثمنها زكّاه لحول واحد. وبه قال عطاء، ومالك.

وذهب قوم إلى أن الزكاة تجب فيه، يقوّم كل حول ويؤخذ منه الزكاة. وبه قال الشافعي في (الجديد) و (القديم)، وإليه ذهب الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.

دليلنا: الأخبار))(1).

وقال آخرون بعدم الوجوب والاستحباب وهو ظاهر صدر عبارة الخلاف المتقدمة إلا أن نحمل كلامه على عدم الوجوب الشامل للاستحباب، وهو أيضاً مما يحتمله نقل العلامة (قدس سره) عن ابن أبي عقيل (قدس سره) في المختلف.

واختار السيد صاحب العروة (قدس سره) الاستحباب وقال أنه: ((على الأصح)) ولا يعلم مراده أن الأصحّية مقابل الوجوب أم مقابل عدم الاستحباب أصلاً؟ ظاهر انحصار الأقوال بالوجوب والاستحباب بحسب حكاية العلامة (قدس سره) الأول، لكن السيد الخوئي (قدس سره) فهم الثاني فعلّق بقوله: ((بل الأصح عدم الاستحباب))(2)

باعتبار الفراغ من عدم الوجوب.

فالأقوال في المسألة ثلاثة: الوجوب، والاستحباب، وعدمهما.

وسنستعرض الروايات الواردة في المقام، ومن ثم نقيّم الأقوال في ضوء مداليلها بإذن الله تعالى.

ص: 280


1- كتاب الخلاف: 2/91، مسألة 106.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/139.

الروايات التي استدل بها على الوجوب

يظهر من عدد من الروايات المعتبرة وجوب الزكاة في أموال التجارة، وإنما صرفها المشهور إلى الاستحباب لوجود روايات معارضة بحسب تقريبهم، فلنستعرض أولاً الروايات الدالة على الوجوب:

1- صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: (سأله سعيد الأعرج وأنا أسمع، فقال: إنا نكبس الزيت والسمن نطلب به التجارة فربما مكث عندنا السنة والسنتين هل عليه زكاة؟ قال: إن كنت تربح فيه شيئاً أو تجد رأس مالك فعليك زكاته، وإن كنت إنما تربص به لأنك لا تجد إلا وضيعة فليس عليك زكاة حتى يصير ذهباً أو فضة، فإذا صار ذهباً أو فضة فزكّه للسنة التي اتجرت فيها)(1).

2- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى متاعاً فكسد عليه متاعه وقد زكّى ماله قبل أن يشتري المتاع متى يزكيه؟ فقال: إن كان أمسك متاعه يبتغي به رأس ماله فليس عليه زكاة، وإن كان حبسه بعدما يجد رأس ماله فعليه الزكاة بعدما أمسكه بعد رأس المال، قال: وسألته عن الرجل توضع عنده الأموال يعمل بها، فقال: إذا حال عليها الحول فليزكها).

أقول: الصحيحة من الروايات الخاصة بالمسألة وذيلها عام لكل الأموال وسنستدل بها إن شاء الله تعالى على وجوب الزكاة في سائر العملات وليس فقط النقدين من الذهب والفضة.

3- موثقة سماعة قال: (سألته عن الرجل يكون عنده المتاع موضوعاً فيمكث عنده السنة والسنتين وأكثر من ذلك، قال: ليس عليه زكاة حتى يبيعه إلا أن يكون أُعطي به رأس ماله فيمنعه من ذلك التماس الفضل فإذا هو فعل

ص: 281


1- الأحاديث التسعة الأولى تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 13، ح1، 3، 6،4، 5، 7، 8، 9، 11 بحسب الترتيب.

ذلك وجبت فيه الزكاة، وإن لم يكن أُعطي به رأس ماله فليس عليه زكاة حتى يبيعه، وإن حبسه ما حبسه فإذا هو باعه فإنما عليه زكاة سنة واحدة).

4- ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب والاستبصار بسند صحيح عن أبي الربيع الشامي المختلف في وثاقته(1)

عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل اشترى متاعاً فكسد عليه متاعه وقد كان زكى ماله قبل أن يشتري به هل عليه زكاة أو حتى يبيعه؟ فقال: إن كان أمسكه التماس الفضل على رأس المال فعليه الزكاة).

5- خبر خالد بن الحجاج الكرخي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الزكاة، فقال: ما كان من تجارة في يدك فيها فضل ليس يمنعك من بيعها إلا لتزداد فضلاً على فضلك فزكه، وما كانت من تجارة في يدك فيها نقصان فذلك شيء آخر).

6- خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إن كان عندك متاع في البيت موضوع فأعطيت به رأس مالك فرغبت عنه فعليك زكاته).

7- مقطوعة محمد بن مسلم أنه قال: (كل مال عملت به فعليك فيه الزكاة إذا حال عليه الحول، قال: يونس: تفسير ذلك أنه كل ما عُمل للتجارة من حيوان وغيره فعليه فيه الزكاة).

وتقريب الاستدلال بالرواية يكون على أصل الحكم وهو ثبوت الزكاة في المال المعدّ للتجارة إذا دار عليه الحول ويستظهر منه التعميم الذي ذكرناه في ذيل الصحيحة (رقم 2).

8- موثقة العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: المتاع لا أصيب به رأس المال علي فيه زكاة؟ قال: لا، قلت: أُمسكه سنتين (سنين) ثم أبيعه ماذا علي؟ قال: سنة واحدة).

ص: 282


1- معجم رجال الحديث: 7/73.

وتقريب الاستدلال بالموثقة من جهة المفهوم المرتكز في ذهن السائل بحيث سأل عن الوجوب فيما لو يُبذَل له رأس ماله.

ومثله خبر قرب الإسناد عن العلاء.

9- صحيحة البزنطي قال: (سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل يكون في يده المتاع قد بار عليه، وليس يُعطى به إلا أقل من رأس ماله عليه زكاة؟ قال: لا، قلت: فإنه يمكث عنده سنين ثم باعه كم يزكي سنة؟ قال: سنة واحدة).

وتقريب الاستدلال بنفس ما ذكرناه في موثقة العلاء الآنفة.

10- موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس على الرقيق زكاة إلا رقيق تُبتغى به التجارة، فإنه من المال الذي يزكى)(1).

ويمكن تعميم الوجوب على ذوقهم إلى عموم الحيوان الذي يُتاجر به لأنهم يدخلون بيع العبيد والإماء في بيع الحيوان، وهو تفسير يونس للرواية المتقدمة.

11- ما دل على وجوب الزكاة في الخيل كصحيحة محمد بن مسلم وزرارة عنهما (عليهما السلام) جميعاً قال: (وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً)(2)

وصحيحة زرارة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل في البغال شيء؟ فقال: لا، فقلت: كيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟)(3)الحديث.

وهذه المجموعة دالة على وجوب الزكاة في الأعيان المتخذة للتجارة كالخيل.

ص: 283


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 17، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 16، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 16، ح3.

12- خبر الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: (ما اشترى للتجارة فأعطي به رأس ماله أو أكثر فحال عليه الحول ولم يبعه ففيه الزكاة فإن بار (أي كسد) عليه ولم يجد فيه رأس ماله لم يزكه حتى يبيعه)(1).

13- خبر الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفى عن الخدم والدور والكسوة والأثاث ما لم يُرد به التجارة)(2).

تنبيه: تمسّك الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بروايات تعلق الزكاة في مال الصغير والمجنون(3)

للاستدلال بها في المقام، إما باعتبار وحدة الموضوع وهو مال التجارة فالحكم متحد، ولما كانت أخبار زكاة مال الصغير إذا اتجر به محمولة على الاستحباب فهذه مثلها. أو بجعل أخبار زكاة مال الصغير المحمولة على الاستحباب قرينة على إرادة الاستحباب من أخبار المقام لذا فقد ضموا إلى

ص: 284


1- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح8.
2- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 7، ح1.
3- راجعها في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، الباب 2، 3، ومنها صحيحة محمد بن مسلم قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل على مال اليتيم زكاة؟ قال: لا، إلا أن يُتجر به أو تعمل به) (باب 2، ح1) وخبر محمد بن الفضيل قال: (سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم، هل يجب على مالهم زكاة؟ فقال: لا يجب في مالهم زكاة حتى يعمل به، فإذا عمل به وجبت الزكاة، فأما إذا كان موقوفاً فلا زكاة عليه) (باب 2، ح4). وورد مثله في المجنون كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): امرأة من أهلنا مختلطة أعليها زكاة؟ فقال: إن كان عمل به فعليها زكاة، وإن لم يعمل به فلا) (باب 3، ح1).

الروايات الواردة في هذه المسألة ((الأخبار المستفيضة الواردة في الاتجار بمال الطفل أو المجنون الحاكمة بتزكيته إن اتجر به))(1).

وقال السيد صاحب المدارك (قدس سره): ((والمعتمد الاستحباب. لنا: الأخبار الكثيرة المتضمنة للأمر بالزكاة في مال الطفل إذا اتجر له به الولي))(2).

وسننقل ذلك عن الشيخ الأنصاري (قدس سره) (صفحة 291) وعن السيد السيستاني (دام ظله الشريف) (صفحة 324).

وهو غير تام لعدم وحدة الموضوع والملاك بينها وبين مسألتنا فإن مدخلية عنوان الاتجار في تعلق الزكاة بمال الصغير إذا اتجر به من باب زوال المانع وفيما نحن فيه من جهة تحقق المقتضي، فالمال المفروض في أخبار اليتيم هو مال زكوي في نفسه، أي أن شروط الوجوب الخاصة للموضوع مجتمعة كبلوغ النصاب وحولان الحول، ولكن منع من وجوب إخراج الزكاة منه عدم تحقق شرط البلوغ في المالكوكون المال موقوفاً للصغير، فإذا أراد الولي تحريكه وجب إخراج زكاته(3)، وهو يعم كل مال زكوي منع من دفع زكاته عدم تحقق أحد الشروط كالبلوغ أو العقل أو الحرية أو التمكن في التصرف، لذا ورد نفس الحكم –أي وجوب الزكاة إذا حُرّك المال واضطرب فيه- في جميع هذه الموارد كالمجنون – وقد تقدمت صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج – وورد في الوديعة في

ص: 285


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/187.
2- مدارك الأحكام: 5/49 وراجع أيضاً مستند الشيعة للنراقي (قدس سره): 9/242 وغيرهم.
3- وهو ظاهر جملة من الروايات كصحيحة يونس بن يعقوب قال: (أرسلت إلى أبي عبد الله (عليه السلام): إن لي أخوة صغاراً فمتى تجب على أموالهم الزكاة؟ قال: إذا وجب عليهم الصلاة وجب عليهم الزكاة، قلت: فما لم تجب عليهم الصلاة؟ قال: إذا اتجر به فزكّه) (وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح5). ولأن الظاهر من الأموال في هذه الروايات هما النقدان وهما مالان زكويان.

الكافي بسنده عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن كان عندك وديعة تحركها فعليك الزكاة، فإن لم تحركها فليس عليك شيء)(1).

ووجه وجوب إخراج الزكاة: لإباحة التصرف في العين، فإن الزكاة لها حكمان: تكليفي وهو الأمر بإخراجها ودفعها، ووضعي وهو بطلان التصرف بالمال الزكوي، فإذا لم يتوفر أحد شروط الزكاة كالبلوغ امتنع الخطاب التكليفي وإذا كان المال مدخراً للصغير أو المجنون انتفى موضوع الحكم الوضعي، فإذا أريد تحريك المال تنجّز الحكم الوضعي على العامل بالمال والتفاصيل في مسألة زكاة مال الصغير إذا اتجر به.

أما فيما نحن فيه فإن المال ليس زكوياً في نفسه وإنما تعلقت به الزكاة للاتجار به، والاختلاف بيِّن في روايات المسألتين فبينما تجب الزكاة في مال التجارة إذا جُمِّد ولم يحرك حولاً، أي بقي المتاع بنفسه –كما هو ظاهر الروايات بل صريحها- تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون إذا حُرّك.

وقد دفعهم (قدس الله أرواحهم) هذا الظن باتحاد المسألتين إلى حمل روايات تعلق الزكاة بمال الصغير إذا اتجر به على الاستحباب مع اعترافهم بظهورها في الوجوب لمنافاتها مع الاستحباب الذي قالوا به في المقام(2).

قال الشيخ النراقي (قدس سره): ((وظاهر المقنعة الوجوب، إلا أن في التهذيب حمل كلامه على الاستحباب، استناداً إلى انتفاء الوجوب عنده في مال التجارة للكامل فغيره أولى)) وقال (قدس سره): ((لنا على نفي الوجوب الأخبار الآتية النافية لها عن مال التجارة مطلقاً))(3).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا ينبغي الإشكال في عدم الوجوب وإن تعاطاه ظواهر هذه الأخبار وذلك لجملة أخرى من الروايات دلت على عدم وجوب الزكاة في مال التجارة، وهي وإن كان موردها –إلا ما شذ- غير

ص: 286


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 8، ح1.
2- كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/12.
3- مستند الشيعة: 9/22-23.

اليتيم إلا أنا لا نحتملأن يكون اليتيم أشد حالاً من البالغ، فإذا لم يثبت فيه بمقتضى هذه النصوص لم يثبت في اليتيم بطريق أولى))(1).

وقال بعض أعلام العصر (دام ظله الشريف): ((احتمال وجوب الزكاة في مال التجارة للطفل والمجنون وعدم وجوبها في مال غيرهما مما لم يقل به أحد))(2).

وستأتي التفاصيل إن شاء الله تعالى.

وإلى هنا فإن نتيجة قراءة الروايات وجوب الزكاة على البضائع والأعيان التي تُحبس عن البيع ابتغاءً لزيادة سعرها ويمرّ عليها حول كامل لم تطلب بأقل من سعرها، والظاهر أن الحكمة تحفيز التجار على تحريك البضائع في السوق ومنع الاحتكار.

ص: 287


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/57.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 2/187.

شروط تعلق الزكاة في أموال التجارة

وينبغي الكلام في شروط تعلق الزكاة في أموال التجارة قبل النظر في الروايات المعارضة لنفهم وجهها، وبعض هذه الشروط أو القيود يقتضيه مفهوم مال التجارة أي أنها راجعة إلى الموضوع، وبعضها مما أفادته الروايات الشريفة كقيود للحكم. فالكلام في جهتين:

(الجهة الأولى: في المراد من مال التجارة وحدود الموضوع)

التجارة وجه من وجوه التكسب الذي هو أعم منها لشموله للحرف والصناعات والإجارات والولايات وغيرها، وقد حثّ الشارع المقدس على التجارة حتى ورد في الخبر (أن تسعة أعشار الرزق في التجارة)(1)

ومعناه واضح في ذهن العرف وهي تقتضي بذل المال بإزاء مال آخر من بضائع وأعيان وغيرها لتحصيل الربح، والمقصود بمال التجارة هي هذه البضائع والأعيان ونحوها، فهي معاوضة بين مالين يكون القصد منها الاسترباح، قال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((هو المال الذي ملك بعقد معاوضة وقصد به الاكتساب عند التملك، فلو انتقل إليه بميراث أو هبة لم يزكّه، وكذا لو ملكه للقنية، وكذا لو اشتراه للتجارة ثم نوى به القنية))(2).

وقد ظن في مصباح الفقيه بأن فيه تعميماً لما ليس منه لذا حاول إصلاحه بقوله: ((فالأولى تفسير مال التجارة بأنه المال الذي عوض بمال آخر وقصد به الاكتساب عند المعاوضة، أي المال المتجر به، لأن هذا هو الذي أخذ موضوعاً للحكم في الأخبار دون المال الذي وقع عوضاً، فتفسيره بالمال الذي ملك بعقد معاوضة كما في المتن وغيره لا يخلو من مسامحة))(3).

ص: 288


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب مقدماتها، باب 1، ح3، 5، 8.
2- شرائع الإسلام: 1/156.
3- مصباح الفقيه:3/ 75.

أقول: قد يبدو أن الإشكال وارد إلا أنه مدفوع لدى التدقيق لتعيّن التعريف في المعوَّض الذي أُخذ موضوعاً للحكم في الأخبار أما أخذ العوض فيخرج من التعريف بانتفاء قصد الاكتساب باعتبار أن البائع يأخذه لاسترداد رأس ماله والربح إن حصل.

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((والمراد بمال التجارة – على ما ذكره جماعة -: ما ملك بعقد معاوضة بقصد الاكتساب به عند الملك.

قيل: إن هذا اصطلاح فقهي، وفيه نظر، فإن الظاهر أنه معنى عرفي مستفاد من الأخبار الدالة على رجحان الزكاة في المال إذا اتجر به، فإن الظاهر من التجارة في العرف هو ما ذكر؛ فإن الظاهر من التجارة بالمال: المعاوضة عليه بقصد الاسترباح، فيخرُجُ عن الحدِ المملوكُ بغير عقد المعاوضة، كالحيازة والوراثة؛ فإنَّ قَصْدَ بيع مثل ذلك ولو بأعلى القيم ليس استرباحاً بما في يده ، بل هو طلب لزيادة القيمة السوقية، ولذا لا يسمى تجارة عرفاً.

نعم لو نقله بعوض، وقصد نقل ذلك العوض بعوض أزيد قيمة من المنقول عنه كان تجارة، فصدق التجارة فعلاً بعد النقل الأول عازماً على الثاني. وربما يقال لمافي يده قبل النقل: إنه مال التجارة إذا عزم على أن يتجر به لكفاية أدنى ملابسة في الإضافة، لكن لا يقال: إنه اتجر به))(1).

((وفي قوله تعالى: «تِجَارةً عَنْ تَرَاضٍ» دلالة على أخذ المعاوضة في مفهومها، إذ التراضي من باب التفاعل، فيكون قائماً باثنين فلا تصدق على ما لا معاوضة فيه كالهبة والصدقة أو لم تكن بين مالين كالصداق وعوض الخلع. كما أن الظاهر عدم صدقها على المعاوضة بقصد القنية كمن اشترى داراً لسكناه))(2).

وفي مقابل هذا التعريف الذي استقيناه من العرف ذهب آخرون إلى كون مال التجارة مطلق ما أُعدَّ للتجارة ولو لم يُقتنَ للاسترباح، بل وإن انتقل

ص: 289


1- الموسوعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الزكاة: 10/240-241.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/194.

إليه قهراً كالميراث، قال السيد صاحب العروة (قدس سره) في تعريفه: ((وهو المال الذي تملكه الشخص وأعده للتجارة والاكتساب به، سواء كان الانتقال إليه بعقد المعاوضة، أو بمثل الهبة أو الصلح المجاني أو الإرث على الأقوى، واعتبر بعضهم كون الانتقال إليه بعنوان المعاوضة، وسواء كان قصد الاكتساب به من حين الانتقال إليه أو بعده، وإن اعتبر بعضهم الأول، فالأقوى أنه مطلق المال الذي أعد للتجارة، فمن حين قصد الإعداد يدخل في هذا العنوان ولو كان قصده حين التملك بالمعاوضة أو بغيرها الاقتناء والأخذ للقنية))(1).

أقول: هذا مخالف لفهم العرف الذي ذكرناه، ولو سلّمنا صدق عنوان مال التجارة على ما أُعدَّ لها فهذا غير كافٍ لشموله بالحكم في هذه المسألة لأننا أمام موضوع محدد لا ينطبق على هذا التعريف، وسيأتي بإذن الله تعالى (صفحة 305) تنبيه لهذه النكتة.

وعلى أي حال فإن التعريف تضمن عدة قيود حصل الخلاف فيها:-

1- اشتراط قصد الاكتساب عند التملك.

2- كون الانتقال بمعاوضة.

3- أن تكون المعاوضة بين مالين.

فلا بد من إيضاح هذه المواضع من الخلاف:

الموضع الأول: من أركان تعريف مال التجارة كون المال قد مُلك بقصد الاكتساب، فلو تملكه بقصد القنية أو لوقفه أو التصدق به أو كان غير ملتفت لهذا القصد عند التملك ثم عرض له قصد الاسترباح بعدئذٍ.

وهذا حكم مشهور بين الفريقين، قال الشيخ (قدس سره) في الخلاف: ((إذا ملك سلعة للقنية ثم نواها للتجارة لم تصر للتجارة بمجرد النية، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك. وقال الحسين الكرابيسي من أصحاب الشافعي: تصير للتجارة بمجرد النية. وبه قال أحمد وإسحاق))(2) وفي المبسوط: ((إذا

ص: 290


1- العروة الوثقى: 2/301-302.
2- الخلاف للشيخ الطوسي (قدس سره): 2/102، المسألة (117).

كانت معه سلعة للتجارة فنوىبها القنية سقطت زكاته، وإن كانت عنده للقنية فنوى بها التجارة لا تصير تجارة حتى يتصرف فيها للتجارة))(1).

ووافق الشيخ الأنصاري (قدس سره) المشهور وذهب إلى ((اعتبار مقارنة قصد الملك للمعاوضة ليصدق الاسترباح بما في يده، وإلا فلو اشترى للقنية بمائة درهم ثم نوى بعد مدة أن يبيع ما اشتراه بأزيد من المائة فلا يصدق على المائة أنه اتجر بها، ولذا لا يجب زكاتها بعد انقضاء حول من زمن المعاوضة إجماعاً، ولا يصدق مال التجارة على المتاع المشترى أيضاً إلا إذا عاوض عليه بقصد أن يعاوض على عوضه بأزيد قيمة منه، ولو بنى على ذلك إلا إذا عاوض عليه بقصد أن يعاوض على عوضه بأزيد قيمة منه، ولو بنى على ذلك يصدق عليه أنه مال التجارة بما ذكرنا من أدنى الملابسة، لكونها مشرفاً لورود التجارة عليه.

وأما معاوضته بأزيد من ثمنه الأول فليس يصدق عليه التجارة، فضلاً عن مجرد قصد معاوضته بذلك. ومن هنا تبين أنه لو اشترى للقنية ثم نوى بيعه بأزيد من ثمنه، فلا يصدق عليه بمجرد ذلك أنه اتجر به، ولا مال التجارة – لا حقيقةً ولا مجازاً - فدعوى وجوب الزكاة في هذا الفرض وعدم اعتبار نية الاكتساب مقارنة للتملك تمسكاً بصدق مال التجارة عليه – كما ذهب إليه جماعة منهم المحقق(2)

والشهيدان في غير البيان - ضعيف جداً، مع أن صدق

ص: 291


1- المبسوط: 1/222.
2- ممن ذهب إلى هذا ((المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس والشهيد الثاني في جملة من كتبه، والفاضل الهندي في شرح الروضة وصاحب الحدائق، ونفى عنه البأس في المدارك. فلو تملّك أولاً بقصد القنية ثم قصد به التجارة تتعلق به الزكاة نظراً إلى أن المال بإعداده للربح يصدق عليه أنه مال تجارة، فتتناوله الروايات. وبإطلاق الروايتين – صحيحة محمد بن مسلم وخبر أبي الربيع- فإنه لو اشترى أولاً لا بنية التجارة ثم قصدها وحبسه بعدما يجد رأس ماله يكون مصداقاً للروايتين. قال في المعتبر: وقولهم: التجارة عمل. قلنا لا نسلم أن الزكاة تتعلق بالفعل الذي هو الابتياع، بل لِمَ لا يكفي إعداد السلعة لطلب الربح؟ وذلك يتحقق بالنية إ. ه-)) (مستند الشيعة: 9/245).

(مال التجارة) –لو سلم- لا يجدي: لأن الأخبار دلت على اعتبار الاتجار فعلاً، كما يظهر من أخبار مال اليتيم، حيث نفى الزكاة فيه إلا أن يتجر به، وقوله: (إذا عملت فعليه الزكاة) ونحو ذلك))(1).

أقول: ما ذكره (قدس سره) من الاعتبار صحيح لظهور روايات الباب فيه، أما الاستدلال بأخبار مال اليتيم فهو غير تام كما تقدم.

ثم حقق (قدس سره) الكلام في الخلاف حول كفاية صدق عنوان مال التجارة أو الاتجار فعلاً فقال (قدس سره): ((والحاصل أن النصوص والفتاوى بين ما دل على ثبوت الزكاة في مال التجارة الذي قد عرفت أنه حقيقة في المال الذي ينتقل إليه بالتجارة، وبين ما دلّ على ثبوت الزكاة في المال الذي اتجر به.فمن الأول: رواية خالد بن الحجاج وفي معناها أخبار كثيرة معلقة لوجوب الزكاة فيما اشتري من المتاع بما إذا وجد رأس ماله وطلب الزيادة، ولا ريب في ظهور ذلك فيما إذا كان الاشتراء للتجارة؛ وظاهره أن مجرد نية بيعه بأزيد من ثمنه الذي اشتراه به للقنية لا يوجب صدق رأس المال على ذلك الثمن، لأن العبرة بصدق عنوان رأس المال عليه حال الاشتراء.

ومن الثاني: ما دل من الأخبار المستفيضة على نفي الزكاة رأساً في مال الصبي والمجنون إلا إذا اتجر به، والمراد بالمال المتجر به هو نوع ذلك المال الأعم من شخصه وبدله، وإلا فشخص المال الذي يتجر به يدفعه التاجر إلى بائع السلعة، فمرجع ما يتجر به ومال التجارة إلى واحد.

وكيف كان، فلا يقال: (مال اتجر به) إلا بعد تحقق التجارة فعلاً التي هي المعاوضة، فلا يصدق على المال الذي قصد بيعه بأزيد من ثمنه أنه (مال التجارة) أو (مال اتجر به) إذ لم تسبقه تجارة ولم تلحقه))(2).

ص: 292


1- كتاب الزكاة من موسوعة الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/241.
2- كتاب الزكاة من موسوعة الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/243.

وبعد أن ردّ على استدلال صاحب الجواهر(1) (قدس سره) ببعض العمومات لشمول ذلك؛ قال (قدس سره): ((نعم يمكن أن يستدل لكفاية مجرد قصد التجارة بموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس على الرقيق زكاة إلا رقيق يبتغي به التجارة، فإنه من المال الذي يزكى) دلت على كفاية ابتغاء التجارة بالمال، اللهم إلا أن يدّعى انصرافه إلى ما يبتغي –عند تملكه- التجارة به))(2).

وقرّب بعض أعلام العصر الاستدلال بالموثقة بأن ((الظاهر منها كفاية الابتغاء والطلب فتشمل الإرث والهبة والقنية إذا أعِدَّت لأن يُتَّجر بها. ويؤيَّد ذلك بما رواه أبو داود بسنده عن سمرة بن جندب قال: (أما بعدُ فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعدّه للبيع) وقد مرّ أن هذا الخبر ما استدل به الجمهور على وجوب الزكاة في مال التجارة. واستدل به أحمد على كفاية الإعداد والنية، والحق معه في محيط فقههم، ولا يخفى أن في نقل الجواهر هذا الخبر عن المعتبر اشتباهاً بيّناً، حيث أضاف إلى ذيله كلمة: (بالنية)(3)

فراجع الجواهر وما حكيناه عن المعتبر في المسألة.

ويمكن أن يقرب التعميم أيضاً بادعاء إلغاء الخصوصية والعلم بعدم دخالة سبب التملك وكونه معاوضة وكذا مقارنة قصد التكسب له. بل بالدقة في الأخبار يمكن أن يستفاد أن الملاك كل الملاك هو حبس المال بقصد ازدياد الفضل. فمن له الغُنم فعليه الغُرم، نظير ما قلناه في زكاة النقدين من أنهما وضعا للدوران والإنتاج. فمن حبسهماسنة فجزاؤه أن يزكيهما. وبالجملة لا يرى وجه لدخالة خصوصية المعاوضة أو مقارنة القصد، بل المؤثر هو نية الاتجار والاسترباح))(4).

ص: 293


1- جواهر الكلام: 15/261.
2- كتاب الزكاة من موسوعة الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/241.
3- في هامش الجواهر أن النص في (سنن البيهقي: 4/147) خالٍ من كلمة (بالنية).
4- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 2/199-200.

أقول: ما ذكره من الاستدراك هو الظاهر من الرواية فالاستدلال بها على كفاية القصد غير تام.

وخالف صاحب الجواهر (قدس سره) المشهور فذهب إلى عدم اشتراط مقارنة قصد التكسب لحال التملك ((لإطلاق الأدلة، ولصدق التجارة عليه عرفاً بذلك، ولأنه كما يقدح نية القنية في التجارة فكذا يقدح نية التجارة في القنية، ولأن المؤثر حال التملك نية التجارة فلا فرق)).

ثم حكى كلام المعتبر، ثم قال: ((بل إن لم ينعقد إجماع على اعتبار الملك بعقد معاوضة لأمكن المناقشة فيه، بصدق مال التجارة على المنتقل بعقد هبة، بل بإرث مع نية التجارة به إذا كان هو كذلك عند المنتقل منه. ورأس المال الموجود في النصوص لا يعتبر فيه كونه من مالك العين، إذ المراد به ثمن المتاع في نفسه وإن كان من الواهب والمورث. وظهور بعض النصوص في ذلك مع أنه مبني على الغالب ليس هو على جهة الشرطية كي ينافي ما دل على العموم))(1).

ورد عليه بعض أعلام العصر بأن ((المسألة ليست من المسائل الأصلية المعنونة في الكتب الأصلية حتى تفيد فيها دعوى الإجماع أو الاتفاق، فلا ترى في المقنع والهداية والمقنعة والنهاية تعريف مال التجارة ولا مسألة كفاية النية فيها، نعم تعرض لها الشيخ في مبسوطه وخلافه، حيث كانت معنونة عند فقهاء السنة كما عرفت. والأصل الأولي يقتضي عدم الزكاة إلا ما ثبت بالدليل. وثبوت إطلاق الأدلة أو العموم فيها محل تأمل، كما يأتي.

وعنوان مال التجارة وإن أمكن إطلاقه على ما أعد للتجارة بعلاقة الأوْل والمشارفة أو لأنه في الإضافة يكفي أدنى ملابسة ولكن إطلاقه ينصرف إلى المال المستعمل فعلاً في عمل التجارة، لا مطلق ما أعد لها، كما يظهر من ملاحظة النظائر كمال الإجارة والمضاربة ونحوهما.

ص: 294


1- جواهر الكلام: 15/260.

ولو سلم فليس هذا العنوان موضوعاً للحكم في أخبار المسألة، بل هي بين ما هو ظاهر في اعتبار العمل والاتجار بالفعل وبين ما يكون مورده ذلك))(1).

فرع: قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ثم إن اعتبار قصد الاكتساب عند التملك وارد مورد الغالب من كون التملك مقارناً للقصد، وإلا فلو اشتُري له فضولاً فأجاز بعد سنة بقصد الاكتساب كفى لحصول التملك من حين العقد)).

أقول: هذا الحكم صحيح نظرياً إلا أنه غير متصور عملياً؛ لأن من شروط الحكم عدم طلب المتاع بثمن أقل من رأس المال فكيف نتصور بذل الثمن له خلال السنة وهو لميُجِز البيع، ولم يُنظر إليه على أنه مالك، اللهم إلا أن نكتفي بالبذل للمالك التنزيلي، أو تكون الأمتعة مثلية فيكتفى بالبذل لأمثالها في السوق.

الموضعان الثاني والثالث: ويظهر من التعريف الذي ذكرناه أن العنوان لا يشمل ما ملك بغير عقد كالميراث وحيازة المباحات العامة وإن صدق عليها الاكتساب، ولا ما ملك بعقد غير معاوضة كالهبة، ولا ما إذا لم يكن طرفا المعاوضة مالين كالصلح على حق الجناية أو المهر أو بدل الخلع ونحوها؛ فالمراد ((بعقد المعاوضة هاهنا: ما يقوم طرفاه بالمال ويعبر عنه بالمعاوضة المحضة))(2).

((ومما ذكر يظهر الوجه فيما ذكروه من أن المراد بالمعاوضة ما يقوم طرفاه بالمال، فما انتقل إليه بسبب خلع أو بضع أو حق غير مالي صالحه على المال، لا يسمى (مال التجارة) إلا على الوجه الذي ذكرنا من مناسبة العزم على الاتجار به، لكن الظاهر أنه يشترط المالية في المكتسب به فقط دون ما ينتقل إليه في عوضه عازماً على نقله إلى الغير بمال أزيد مما كان في يده، كما إذا صالح على

ص: 295


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/196-197.
2- مستند الشيعة: 9/243.

ما في يده من المال بحق تحجير بقصد نقله إلى غيره بمال أزيد، فلا يبعد عدها تجارة عرفاً، إلا أن شمول الإطلاقات لمثله مشكل جداً))(1).

وذهب بعض الأعلام (قدس سره) إلى عدم اشتراط المعاوضة لأن ((المرجع في صدق مال التجارة متعارف الناس، لأنه من الموضوعات العرفية لا من الأمور التعبدية ولا من الموضوعات المستنبطة، وما ذكر في النصوص إرشاد إلى ما هو المتعارف بين الناس، ومقتضى إطلاقها الشمول لكل مال أعد للتجارة سواء انتقل إليه بالنواقل الاختيارية أو القهرية، وهو الذي يقتضيه المرتكزات العرفية أيضاً، وإن كان الغالب فيه ما كان الانتقال بعقد المعاوضة لكنه لا يوجب التقييد مع أن كونه من الغالب ممنوع أيضاً، ومقتضى الصدق العرفي كفاية الإعداد الخارجي بتحقق بعض مقدماته الخارجية كالجلوس في محل التجارة ووضع المال لديه، وتقتضيه الإطلاقات أيضاً))(2).

أقول: هذا مخالف للفهم العرفي ولو تنزلنا وقبلناه فإن الزكاة لا تتعلق به لانصراف الروايات عنه. ((وإلى ذلك يشير قول صاحب الذخيرة، حيث استدل على اشتراط عقد المعاوضة باختصاص الأدلة بذلك وعدم شمولها لغيره))(3).

(الجهة الثانية: شروط الحكم)

بعد الذي ذكرناه من التحديدات التي اقتضاها الفهم العرفي لمال التجارة، نذكر الشروط المستفادة من النصوص للحكم بتعلق الزكاة وجوباً أو استحباباً وهي:-

(الأول) النصاب، وإنه نصاب النقدين، واستدلوا عليه بالإجماع، قال السيد الحكيم (قدس سره) والأصل لصاحب الجواهر (قدس سره): (( بلا خلاف

ص: 296


1- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/241.
2- مهذب الأحكام للسيد السبزواري (قدس سره): 11/178.
3- مستند الشيعة: 9/243.

أجده فيه، بل عن ظاهر التذكرة وغيرها: الإجماع عليه، بل عن صريح نهاية الأحكام ذلك، بل في المعتبر ومحكي المنتهى وكشف الالتباس وغيرها: أنه قول علماء الإسلام، كذا في الجواهر، وعن الحدائق ومجمع الفائدة: أنه مجمع عليه بين الخاصة والعامة، وعن المستند ومفتاح الكرامة: أن الإجماع عليه محقق معلوم))(1).

أقول: إذا حصل الاطمئنان بكون الإجماع تعبدياً فإنه حجة وقد يناقش من جهة كونه مدركياً ناشئاً من ظن الاتحاد لاشتراكهما في عنوان المال أو ناشئاً من المسامحة في أمر زكاة التجارة لأنها من المستحبات.

واستدل على اشتراط النصاب بعد الإجماع المذكور ب- ((الأصل، لأن الثابت من الروايات ليس إلا وجوب الزكاة في مال التجارة، والزكاة لكونها اسماً لمال معين شرعاً فلا يُعلم صدقها على المخرج من الأقل مما أجمع على ثبوت الزكاة فيه))(2).

وفيه: إنه لا معنى للتمسك بالأصل مع وجود الروايات المطلقة الدالة على ثبوت الزكاة في أموال التجارة من دون التقييد ببلوغ النصاب وقد تقدمت، فهذا الدليل غير كافٍ لاشتراط النصاب.

واستدل أيضاً ب-((أن المستفاد من أخبار هذه الزكاة اتحادها مع زكاة النقدين من حيث النصاب والقدر المخرج وحول الحول، ولا شك في إفادتها لذلك لمن نظر فيها بتأمل يسير))(3).

وفيه: إن هذا الاتحاد إذا بني على استقراء المشتركات وتراكم الاحتمالات باعتبار تزايد هذه المشتركات –كما يبدو من صدر كلامه (قدس سره)- فيرد عليه بأنه من القياس وتنقيح المناط ونحوها من الظنون غير المعتبرة،

ص: 297


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/200.
2- مستند الشيعة: 9/246.
3- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري: 10/248.

نعم إذا كان ظاهراً من الروايات ولو بقرينة السكوت عن بيان مقدار الزكاة مما يعني اتحادها مع النقدين فهو حجة.

وقد يقال إن الحكم متحد بينهما لاتحاد الملاك وهو الحث على تحريك العملات والبضائع التجارية وعدم تجميدها، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (الزكاة على المال الصامت الذي يحول عليه الحول ولم يحركه)(1)

مضافاً إلىما دلّ على الرجوع إلى النقدين في رواية إسحاق بن عمار، وفيها (وكل ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود ذلك إلى الدراهم في الزكاة والديات)(2).

ولو تم شيء مما تقدم فإنه لا يبقى وجه لتوقف صاحب الحدائق (قدس سره) بقوله: ((وما يدّعونه –من أن ظاهر الروايات أن هذه الزكاة بعينها زكاة النقدين فيعتبر فيها نصابهما ويتساويان في قدر المخرج- فلا يخفى ما فيه))(3).

أقول: إن وحدة الملاك بينهما تقتضي اتحادهما في أصل الوجوب وهو لم يقولوا به ولا تقتضي اتحادهما في اشتراط النصاب وتكفينا نكتة واحدة للتفريق بينهما فإن اشتراط النصاب في النقدين والعفو عما دونه لمراعاة الطبيعة البشرية في ادخار شيء من المال للضرورات والطوارئ والمصاريف الاستثنائية فعفى الشارع المقدس عن المقدار المقبول من المدخرت وهو ما دون النصاب، وهذه النكتة غير موجودة في البضائع التجارية إذ يُمنع الاحتكار فيها وتفرض ضريبة الزكاة عليها مهما كانت قيمتها.

وقد يستأنس لاشتراط النصاب بروايات على ذوق المشهور، ففي ((خبر إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) ظهور في ذلك بناءً على أن المراد منه مال التجارة، قال فيه: (قلت له: مائة وتسعون درهماً وتسعة عشر ديناراً أعليها في الزكاة شيء؟ فقال: إذا اجتمع الذهب والفضة فبلغ ذلك مائتي

ص: 298


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 15، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح 7.
3- الحدائق الناضرة: 12/146.

درهم ففيها الزكاة، لأن عين المال الدراهم، وكل ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود إلى الدراهم في الزكاة والديات) على أن الحجة في قوله: (وكل) إلى آخره، بل قد يحتمل كون المراد زكاة التجارة من صحيح ابن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذهب كم فيه من الزكاة؟ قال: إذا بلغ قيمة مائتي درهم فعليه الزكاة) بناءً على أن المراد الذهب المتجر به))(1).

وإذا لم يتم دليل مما ذكرناه فنتمسك بإطلاق الروايات لنفي اشتراط النصاب وهو الأحوط على القول بوجوب الزكاة.

مسألة: على القول باشتراط النصاب ((يشترط بقاء النصاب طول الحول بالإجماع المحقق، والمحكي عن المعتبر والتذكرة، وفي المدارك، وهو الدليل عليه دون غيره من روايات اشتراط الحول لخلوها عن اشتراط وجود النصاب تمام الحول))(2).

أقول: إذا تمّ الذي قيل من وحدة المسألة مع زكاة النقدين فإن الدليل من الروايات موجود كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها (قلت له: فإن كانت عنده مائتا درهم غير درهم فمضى عليها أيام قبل أن ينقضي الشهر ثم أصاب درهماً فأتىعلى الدراهم مع الدرهم حول، أعليه زكاة، قال (عليه السلام): نعم وإن لم يمض عليها جميعاً الحول فلا شيء عليه)(3).

مسألة: بناءً على اتحاد حكم المسألة مع زكاة النقدين ((يُعلم أن لمال التجارة نصاباً ثانياً، أعني: الأربعين درهماً أو خمسة دنانير))(4).

أقول: تأمل صاحب الحدائق (قدس سره) لنفس السبب السابق، قال (قدس سره): ((وفي فهم ذلك من الأخبار تأمل، ولهذا إن شيخنا الشهيد الثاني قال إنه لم يقف على دليل يدل على اعتبار النصاب الثاني هنا وإن العامة صرحوا بالأول خاصة واعترضه سبطه في المدارك بأن الدليل على اعتبار الأول هو بعينه

ص: 299


1- جواهر الكلام: 15/265.
2- مستند الشيعة: 9/247.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 6، ح1.
4- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/248.

الدليل على اعتبار الثاني والجمهور إنما لم يعتبروا النصاب لعدم اعتبارهم له في زكاة النقدين كما ذكره في التذكرة. ومراده (قدس سره) بالدليل على النصاب الأول هو ما ذكروه من كون هذه الزكاة بعينها زكاة النقدين فتحصل المساواة في الحكم مطلقاً، وقد عرفت ما فيه))(1).

أقول: إطلاق الروايات ينفي وجود النصاب الثاني، ولو سلمنا اتحاد المسألتين فالقدر الخارج من الإطلاق هو اشتراط أصل النصاب، على أننا بيّنا نكتة تكفي للتفريق بين المسألتين من هذه الناحية.

(الثاني) مضي حول عليه من حين التكسب، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((الثاني: اعتبار الحول من حين التجارة أو قصدها – على الخلاف- وهو أيضاً مما لا خلاف فيه ظاهراً، ويدل عليه صحيحة محمد بن مسلم: (عن الرجل توضع عنده الأموال يعمل بها؟ قال: إذا حال عليه الحول فليزكها)(2).

وصحيحته الأخرى: (كل ما عملت به فعليك فيه الزكاة إذا حال عليه الحول).

ولو ظهر في مال التجارة ربح أو نماء –كالنتاج والثمرة-، فحكمه حكم السخال في اعتبار حول مستقل لها إذا بلغت النصاب الثاني، وإلا ضم إلى الأصل عند انقضاء حوله، ولا يستأنف الحول حين الضم))(3).

(الثالث) قال في العروة الوثقى: ((بقاء قصد الاكتساب طول الحول، فلو عدل عنه ونوى به القنية في الأثناء لم يلحقه الحكم، وإن عاد إلى قصد الاكتساب اعتبر ابتداء الحول من حينه)).

ص: 300


1- الحدائق الناضرة: 12/146-147.
2- والصحيحة التالية تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 13، ح3، 8.
3- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/248.

وعلق عليه السيد الحكيم (قدس سره): ((اتفاقاً، كما في محكي المعتبر، ساكتاً عن غيره، وفي الجواهر: نفى وجدان الخلاف فيه، ويقتضيه ما دل على اعتبار الحول، فإن الظاهر منه حولان الحول على المال بما له من الخصوصيات المعتبرة فيه، التي منها قصد الاسترباح))(1).

(الرابع) ما دلت عليه مجموعة الروايات المتقدمة من عدم نقصان قيمة الأعيان والبضائع التجارية عن رأس المال الذي اشتريت به، بأن يكون السعر المدفوع بإزائها مساوياً أو أزيد من رأس المال طول السنة وهو لم يبعها التماس الفضل، ولو نزل عن سعر الشراء فلا زكاة وإن كان مجموع أقيامها أزيد من النصاب وقد قام الإجماع المحصّل والمنقول على ذلك.

(الخامس) بقاء نفس العين على مدار الحول فلا يكفي بقاء المالية مع تبدل الأعيان وهذا مستفاد من الروايات لأنها اشترطت حوَلان الحول على المتاع والمال وإمساكه وحبسه والتربص به ونحوها في الروايات الأخرى في المجموعة المتقدمة، مضافاً إلى العمومات الواردة في الزكاة كصحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وفيها (وكل ما لم يحُل عليه الحول عند ربّه فلا شيء عليه فيه، فإذا حال عليه الحول وجب عليه)(2)، ومعنى ذلك: ((اشتراط حولانه على شخص المال، لأنه معنى حولان الحول على المال المذكور في الحديث، ويرجع إليه الضمير، وسقوط الزكاة بدون ذلك، ومع التبدل تكون الثانية غير الأولى، فلا تكون فيه الزكاة إذا لم يحل عليه الحول))(3).

ص: 301


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/202.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الأنعام، باب 8، ح1.
3- مستند الشيعة: 9/249.

وهذا القول - وهو الأول- ((محكي عن الصدوق والمفيد والمحقق، واختاره في المدارك والذخيرة وبعض من تأخر عنهما كصاحب الحدائق والرياض.

ويدل عليه أيضاً الأصل، وتؤكده ظواهر النصوص، سيما مثل حسنة محمد ورواية أبي الربيع المتضمنتين للإمساك والحبس، وصحيحة أبي عبد الخالق وموثقة سماعة المشتملتين على التربص والمكث، وصحيحة الكرخي المشتملة على المنع من البيع، وغيرها. والثاني –أي ثبوت الزكاة وإن تبدلت الأعيان مع بلوغ القيمة النصاب- منقول عن الفاضل وولده، وجمع ممن تأخر عنهما – كالشهيد الأول في البيان والثانيفي المسالك- وعن التذكرة والإيضاح الإجماع عليه: له، ولإطلاق ثبوت الزكاة في مال التجارة وما يعمل به، والإجماع ممنوع، والإطلاق بما مرَّ مدفوع))(1).

وقوّى الشيخ الأنصاري (قدس سره) عدم الاشتراط ((لأن الأخبار دلت على ثبوت الزكاة فيما يتجر به ويعمل به وفيما يضطرب به من الأموال، ولا ريب أن ما يعمل به ليس المراد شخصه؛ لأنه يدفعه التاجر إلى صاحبه الذي يعامل معه، فالمراد الأعم منه ومن بدله، فالزكاة في الحقيقة بالمال المتقلب به في التجارة لا بشخص ما اشتراه للتجارة، نعم مورد بعض الروايات: إن المتاع الذي يبقى حولاً إن طلب برأس ماله أو أزيد ففيه الزكاة، وظاهر اختصاص المورد –سيما لأجل اختصاص مورد السؤال- لا يوجب تخصيص العمومات))(2).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر، فإن الروايات دلّت على عدم ثبوت الزكاة في المال المتحرك والمضطرب والذي يدار به كما في صحيحتي زرارة وخبر ابن بكير الآتية (صفحة 306، 308) فالصحيح عكس ما قاله (قدس سره).

ص: 302


1- مستند الشيعة: 9/249-250.
2- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/250.

والشرط الذي ورد في الروايات وهو دوران الحول على المتاع لا يختص بمورد حتى يقال بأنه لا يوجب تخصيص العمومات التي لم يقل لنا ما هي؟

ولعله (قدس سره) أراد بها روايتي محمد بن مسلم اللتين وردتا في كلامه (قدس سره) المتقدم (صفحة 300)، وقد صرح بهذا الاستدلال صاحب الجواهر (قدس سره) حيث قال: ((لظهور النصوص في عدم اعتبار ذلك كصحيح محمد، والضمير المجرور بعد وصف المال بالعمل به لا يقتضي التشخيص ضرورة صدقه على المال المتقلب))(1).

أقول: هاتان الروايتان لا تخرجان عما ذكرناه لأنهما تفيدان وجوب الزكاة في الأموال المعدّة للعمل والاتجار –سواء كانت نقداً أو متاعاً- إذا دار عليها الحول بلا حركة واضطراب، وهما مجملتان من جهة المبحوث عنه وتدلان على أصل ثبوت الزكاة.

وقال مثله السيد الحكيم (قدس سره) وغيره ((وبقاؤه حولاً لا بد أن يكون بلحاظه عارياً عن الخصوصيات المميزة له عن بدله وعوضه، فيراد منه طبيعة المال الساري في أعواضه وأبداله، فلا فرق بين بقاء نفس العين الأولى حولاً، وبين تبديلها بعين أخرى، وتخصيصه بالبدل الأول بلا مخصص، لصدق حولان الحول على رأس المال بلحاظ البدل))(2).أقول: ذكرنا ما يكفي من القرائن على استظهار هذا الشرط من الروايات مضافاً إلى صحيحة زرارة وغيرها الآتية في الروايات المعارضة التي دلت على عدم الوجوب إذا دير بالمتاع وعمل به.

ومما ينقض به عليهم أنهم إذا لم يشترطوا بقاء العين واكتفوا ببقاء المالية محفوظة ولو في أعيان مختلفة، ويمكن أن تكون من هذه الأعيان النقدان الذهب والفضة، فكيف أصبحت الزكاة مستحبة في مال التجارة وهي واجبة في النقدين؟

ص: 303


1- جواهر الكلام: 15/283.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/203.

وعلى أي حال فلو شككنا فالأصل يقتضي عدم وجوب الزكاة فيما لو تبدلت العين.

تنبيهان:

1- إن بناءهم على عدم اشتراط حولان الحول على نفس العين واكتفاءهم ببقاء المالية وإن تغيرت العين كان منشأً لحصول التعارض بين الروايات المتقدمة الظاهرة في الوجوب والروايات الآتية النافية له كقوله (عليه السلام) في خبر ابن بكير: (ليس في المال المضطرب به زكاة)، ومن ثم جعلوا هذا التعارض قرينة على صرف الظهور في الوجوب إلى الاستحباب مع أن أصل مبناهم غير تام وإن المال المضطرب والمتقلب فيه لا زكاة عليه.

2- يظهر من بعض كلماتهم أن منشأ عدم الاشتراط فهمهم لملاك تعلق الزكاة بأموال التجارة وهي أنها ضريبة أو حصة للشارع المقدس منها كالخمس مثلاً، وهذا هو الملاك الظاهر من علماء العامة مع أن الصحيح كونها ضريبة على حبس المال وتجميده عن الحركة في السوق.

ويظهر من صحيحة زرارة الآتية (صفحة 306) أن هذا الاختلاف في فهم الملاك بين فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم ممتد إلى عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال السيد السبزواري (قدس سره): ((لا دليل على اعتبار بقاء عين رأس المال، بل عن العلامة دعوى الإجماع على عدم اعتباره، وهو الموافق للتجارات المتعارفة بين عامة الناس بتبدل رأس المال، ولعل المراد بقولهم: بعينه أي بعين مقداره))(1).

أقول: هذا مخالف لصريح كلمات الذين اشترطوا، والملاك الذي استظهرناه من الروايات أن الزكاة ضريبة على تجميد الأموال التجارية طلباً للزيادة بما يشابه الاحتكار.

ص: 304


1- مهذب الأحكام: 11/181.

فرع: يراعى في ثبوت الزكاة بقاء الشروط كالنصاب والعين التجارية طول الحول وكذا سائر القيود المتقدمة لصدق مال التجارة، فلو نوى القنية في أثناء الحول انتفى الوجوب.

تنبيه: بملاحظة مجموع ما يقتضيه الفهم العرفي لمعنى التجارة ومالها وما تقتضيه الروايات من شروط نستطيع أن نزيل الإرباك الذي حصل في فهم الملازمة بين صدق عنوان مال التجارة وتعلق الزكاة فقد يتسامح العرف ويحكم وجداناً بصدق عنوان مالالتجارة على مورد لم تجتمع فيه قيود الموضوع لكن الزكاة لا تتعلق لانصراف الروايات عنه، ومن تلك الموارد ما نقله الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن المحقق والشهيدين في غير البيان، ونقلناه (صفحة 291).

ومنها ما رد به السيد الحكيم (قدس سره) على ميل صاحب الجواهر (قدس سره) إلى عدم اشتراط تملكه بعقد معاوضة كما تقدم (صفحة 293) من ((منع صدق مال التجارة بمجرد كون المال منوياً به التجارة، بل لا بد في صدقه من تحقق التجارة بلا فعل، كما يظهر من ملاحظة النظائر مثل مال الإجارة والمضاربة فعلاً، ومجرد النية غير كافٍ في الصدق. وكون الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة مسلّم، لكنه لا ينافي ظهور الإضافة فيما ذكرناه))(1).

أقول: لا حاجة إلى الإصرار على سلب عنوان مال التجارة لمنع تعلق الزكاة فيمكن افتراض صدقه ولا تتعلق الزكاة لانصراف الروايات عنه باعتبار ظهورها في القصد بتملك الأعيان التجارية وحبسها طلباً لارتفاع أسعارها، لذا قال صاحب المدارك (قدس سره) عن هذا التعريف المتضمن لاشتراط عقد المعاوضة وقصد الاسترباح: ((هذا تعريف لمال التجارة من حيث تتعلق به الزكاة))(2).

روايات معارضة:

وفي ((قبال هذه الأخبار المستفيضة، بل المتواترة إجمالاً الدالة على

ص: 305


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/197.
2- مدارك الأحكام: 5/164.

الوجوب روايات مستفيضة تكون نصاً في عدم الوجوب، بل لعل الظاهر من بعضها عدم الاستحباب أيضاً))(1).

أقول: جمع صاحب الوسائل (قدس سره) هذه الروايات في الباب 14 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، وهي:-

1- صحيحة زرارة قال: (كنت قاعداً عند أبي جعفر (عليه السلام)، وليس عنده غير ابنه جعفر (عليه السلام)، فقال: يا زرارة إن أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عثمان: كل مال من ذهب أو فضة يدار ويُعمل به ويُتّجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول، فقال أبو ذر: أمّا ما يتجر به أو دير وعُمل به فليس فيه زكاة إنما الزكاة فيه إذا كان ركازاً كنزاً موضوعاً، فإذا حال عليه الحول ففيه الزكاة، فاختصما في ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله )، قال: فقال: القول ما قال أبو ذر، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) لأبيه: ما تريد إلا أن يخرج مثل هذا فيكف الناس أن يعطوا فقراءهم ومساكينهم؟ فقال أبوه: إليك عني لا أجد منها بداً)(2).

بتقريب أن ((ظاهر الصحيحة عدم ثبوت الزكاة في مال التجارة أصلاً، لا بنحو الوجوب، ولا بنحو الاستحباب))

أقول: هذه الصحيحة لا تعارض الروايات الدالة على الوجوب بل هي منسجمة تماماً معها لأنها أوجبت الزكاة في المال الموضوع إذا دار عليه الحول ولم يُحرّك وهو من شروط القول بالوجوب، أما عدم الوجوب فيها فإنه بسبب عدم تحقق الشرط الخامس فإنها صرحت بأن المال قد دير به وعمل به والشرط هو دوران الحول على العين، مضافاً إلى ما يمكن أن يقال بأنها

ص: 306


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/187.
2- الأحاديث الخمسة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، الباب 14 الأحاديث من 1-5.

أجنبية عن مسألة أموال التجارة وأنها ناظرة إلى زكاة النقدين لقوله: (كل مال من ذهب أو فضة).

2- صحيحة سليمان بن خالد قال: (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل كان له مال كثير فاشترى به متاعاً ثم وضعه؟ فقال: هذا متاع موضوع، فإذا أحببت بعته فيرجع إليّ رأس مالي وأفضل منه، هل عليه فيه صدقة وهو متاع؟ قال: لا حتى يبيعه، قال: فهل يؤدي عنه إن باعه لما مضى إذا كان متاعاً؟ قال: لا).

أقول: وهذه لا تصلح للمعارضة أيضاً لأنها لم تذكر دوران الحول على المتاع الذي هو شرط في ثبوت الزكاة، ولم يظهر من الرواية أنه بُذِل له رأس ماله وأزيد أو لا.

3- صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (الزكاة على المال الصامت الذي يحول عليه الحول ولم يحركه).

أقول: عدم صلاحية هذه الرواية للمعارضة واضحة لما ذكرناه في مناقشة صحيحة زرارة الأولى، وهي ناظرة إلى زكاة النقدين، ولو قلنا بشمول عنوان المال فيها لأموال التجارة فهي تصلح للنقض على من لم يشترط بقاء العين حولاً واكتفى بحفظ المالية ولو مع تبدل العين.

4- موثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): الرجل يشتري الوصيفة يثبتها عنده لتزيد وهو يريد بيعها، أعلى ثمنها زكاة؟ قال: لا، حتى يبيعها، قلت: فإن باعها، أيزكي ثمنها؟ قال: لا، حتى يحول عليها الحول وهو في يده).

أقول: وهذه لا تصلح للمعارضة أيضاً لعدم التعرض إلى اشتراط الحول مضافاً إلى أن الغرض من الشراء قد يكون للخدمة مع البناء على البيع إذا زادت قيمتها بقرينة استعماله لفظ (الوصيفة). والوصيف –لغةً- ((الخادم دون المراهق، والوصيفة الجارية كذلك)) – كما في مجمع البحرين فهو العبد أو الأمة اللذان يشتريان للخدمة وليس للتجارة، ولا ينافيه قوله: (لتزيد)

ص: 307

فقد يشتري الشخص متاعاً لحاجته الشخصية ويبني على بيعه إذا دُفع له سعر مناسب.5 – خبر ابن بكير، وعبيد، وجماعة من أصحابنا قالوا: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس في المال المضطرب به زكاة، فقال له إسماعيل ابنه: يا أبه جعلت فداك أهلكت فقراء أصحابك، فقال: أي بني، حق أراد الله أن يخرجه فخرج).

أقول: تقريبها والمناقشة فيها كالذي قلناه في ذيل الرواية الثالثة.

نعم، يمكن تقريب وجه للتعارض ورد في كلمات الأصحاب (قدس الله أسرارهم) وهو ما ذكرناه في التنبيه (صفحة 305)، قال صاحب الجواهر (قدس سره) في مبدأ احتساب الحول إذا تبدلت العين: ((لا خلاف بين الكل في بناء حول التجارة على حول الأولى، وإنما النزاع في بناء العينية لظهور النصوص في عدم اعتبار ذلك كصحيح محمد بن مسلم: (كل مال عملت به فعليك فيه الزكاة إذا حال عليه الحول) والضمير المجرور بعد وصف المال التي حملها الأصحاب على نفي الوجوب جمعاً بينها وبين ما دل على الوجوب بحمله على الندب، كقول الصادق (عليه السلام) في خبر ابن بكير وعبيد وجماعة: (ليس في المال المضطرب به زكاة) ضرورة ظهور الجميع في الكناية بالاضطراب والعمل به والاتجار به والدوران ونحو ذلك عن مال التجارة))(1).

أقول: قد علمت مما تقدم أن أصل مبناهم بعدم اشتراط بقاء العين وتعلق الزكاة بالمال المضطرب فيه ليس صحيحاً.

ص: 308


1- جواهر الكلام: 15/283.

علاج التعارض:

في ضوء ما تقدم فلا يوجد ما يعارض الروايات الدالة على الوجوب، ويكفينا من المناقشات احتمالها؛ لأن الاحتمال مبطل للاستدلال فلا تقوى على صرف ظهور الروايات الدالة على الوجوب. ولو تنزلنا وقبلنا بالتعارض، فكيف يعالج؟

ذكر الأصحاب (قدس الله أرواحهم) أكثر من وجه للمعالجة وبنو عليها القول الذي اختاروه كما سيأتي بإذن الله تعالى:

(الأول) ما سلكه المشهور من الجمع بين الطائفتين بجعل الطائفة الثانية قرينة على أن المراد بالطلب في الأولى هو الاستحباب، واختاره الشيخ المفيد في المقنعة والشيخ الطوسي على ما هو من عادته في الجمع بين الأخبار في التهذيبين ومعهما المشهور.وردّ جملة من الأصحاب (قدس الله أرواحهم) هذه الطريقة من الجمع، ومنهم صاحب الحدائق (قدس سره) –كعادته كما في المسألة المتقدمة- فقال: ((وأنت خبير بأن ظواهر الأخبار المتقدمة كما عرفت هو الوجوب وصريح هذه الأخبار نفي الوجوب، والشيخ قد جمع بين الأخبار بحمل الأخبار المتقدمة على الاستحباب وتبعه على ذلك الأصحاب كما هي عادتهم وقاعدتهم في جميع الأبواب. وعندي فيه توقف لما عرفته في غير موضع من ما تقدم، نعم لو كان في الأخبار من أحد الطرفين ما يدل على الاستحباب صريحاً أو ظاهراً لزال الإشكال، وأما أن الاستحباب يثبت بمجرد اختلاف الأخبار وجمعها عليه فهو من ما لا دليل عليه يوجب الركون إليه، وكيف لا والاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل الواضح ومجرد اختلاف الأخبار ليس بدليل يوجب ذلك كما لا يخفى على المنصف))(1).

ص: 309


1- الحدائق الناضرة: 12/149-150.

أقول: أجبنا على كلامه (قدس سره) في المسألة السابقة وحاصله أن الإشكال إذا كان كبروياً – كما هو ظاهر كلامه (قدس سره)- فلا وجه له، وإن كان صغروياً فوارد لإباء معظم الروايات الحمل على الاستحباب بلحاظ تفاصيلها وذكر الشروط فيها، وبلحاظ الألفاظ المستعملة فيها كقوله (عليه السلام): (فيه الزكاة) أو (فعليه الزكاة) فلا يتم هذا الوجه من الجمع العرفي.

واستبعد بعض من حضرنا بحثه الشريف هذا الحمل من جهة أخرى وهي أن: ((نتيجة ذلك الترغيب عن التجارة، فإن التاجر كثيراً ما لا يستفيد شيئاً وإنما يحافظ على المالية، فجعل ضريبة على ما يتجر مطلقاً يكون مرغّباً عن التجارة)) ولكنه (دام ظله) رد بأنه: ((ليس كذلك فإن التاجر يرجو المزيد من الأرباح))(1).

أقول: مقدار الزكاة في أموال التجارة كما في النقدين (2.5 بالمائة) سنوياً وهي نسبة ضئيلة لا يرضاها التاجر في المبادلة الواحدة فضلاً عن أن تكون الربح في مجموع المبادلات التجارية خلال العام، فلا يحصل المحذور الذي ذكره (دام ظله).

(الثاني) تعذر الجمع العرفي بين الطائفتين والمصير إلى مرجّحات باب التعارض.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وهاتان الطائفتان –كما ترى- متعارضتان، لأن قوله (عليه السلام): (فيه الزكاة) وقوله: (ليس فيه الزكاة) متهافتان في نظر العرف، وغير قابلين للتصرف بالحمل على الاستحباب.

وإنما التزمنا به –أي بالاستحباب- فيما تقدم من الحبوب لدليل التصديق الثابت من الخارج كما مر، ولم يرد مثل ذلك الدليل في المقام))(2)، والمرجح المحتمل هنا مخالفة الطائفة الثانية للعامة.

ص: 310


1- تقرير البحث الخارج للسيد السيستاني: محاضرة 16/صفر/1420، وهي آخر ما ألقى من بحثه الشريف قبل أن يعطل إلى اليوم.
2- المستند في شرح العروة الوثقى (من موسوعة السيد الخوئي): 23/141.

واختار حمل الطائفة الأولى على التقية الكاشاني (قدس سره) في الوافي، وصاحب الحدائق (قدس سره) الذي قال: ((لا يبعد حمل الروايات المتقدمة على التقية، حيث إن الوجوب مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد على ما نقله في المعتبر، وفي صحيحة زرارة وموثقة ابن بكير وعبيد وجماعة من أصحابنا ما يشير إلى ذلك. والمسألة لا تخلو من الإشكال.

ولم أر من تنبه لما ذكرناه سوى المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال بعد نقل الأخبار الأخيرة –ونعم ما قال-: في هذه الأخبار ما يشعر بأن الأخبار الأولة إنما وردت للتقية))(1).

أقول: حمل الروايات الدالة على الوجوب على التقية غير صحيح لوجوه:-

1- إن التقية لو كانت موجودة وتقتضي صدور تلك المجموعة من الروايات عن الإمام (عليه السلام) فإنه كان يكفي استعمال ألفاظ ظاهرة في الوجوب وقابلة للاستعمال في الاستحباب للاتقاء من الآخر بذلك الظاهر ونصب قرينة لصرفها للاستحباب، ولا حاجة إلى استعمال ألفاظ كالصريحة في الوجوب مثل قوله (عليه السلام): (فعليه الزكاة) لأن الضرورات تُقدَّر بقدرها، وهذا المقدار كافٍ.

2- إباء نصوص المجموعة الأولى للحمل على التقية بلحاظ بيانها وتفاصيلها وذكر الشروط فيها ونوع الألفاظ المستعملة فيها وهذا كله غير مناسب للنصوص الصادرة على نحو التقية.

3- لم نعهد من الأئمة (عليهم السلام) التقية في مثل هذه الموارد التي تؤدي إلى تقوية شوكة الطواغيت وتزيد من ظلمهم فالمبالغة في التقية غير متصورة في المقام ويشهد لهذا ما ورد في خبر أبي الحسن (المحسن) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلي عليه زكاة؟ قال: إنه ليس فيه زكاة وإن بلغ مائة ألف درهم، كان أبي يخالف الناس في هذا)(2).

ص: 311


1- الحدائق الناضرة: 12/150.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 9، ح7.

4- إن العامة وإن أوجبوا الزكاة على مال التجارة إلا أنهم يختلفون مضموناً وملاكاً عما ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) فهم يوجبونها في مطلق أموال التجارة حتى لو دير بها لأنها تجب عندهم في قيمة عروض التجارة ((في قول أكثر أهل العلم))(1)

وليس في العروض نفسها، لذا فإنهم لا يشترطون دوران الحول على نفس المتاع كما استظهرناه، واكتفوا ب- ((حولان الحول على الأموال (أي القيمة) من وقت ملك العروض، لا على السلعة نفسها))(2).

كما أنهم لم يشترطوا عدم طلبه بوضيعة أي أقل من رأس المال، والخلاصة أن الملاك عندهم1- هي الضريبة على رأس المال، بينما هي في فقه أهل البيت (عليهم السلام) – بحسب النصوص- ضريبة على تجميد المال وعدم تحريكه.

وقد بيّنتْ صحيحة زرارة (صفحة 306، 307) هذا الخلاف في المسألة بين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ممثلة بأبي ذر ومدرسة الخلفاء ممثلة بعثمان.

فهذه الروايات الدالة على الوجوب مخالفة للتقية لمخالفتها لفتاواهم ومبانيهم وتدلّ على عكس ما أراد المحدث الكاشاني وصاحب الحدائق (قدس الله سريهما).

5- ((ما في مصباح الفقيه من أن صدور هذه الأخبار المتكاثرة لإظهار خلاف الواقع من غير سبق سؤال ملجِئ لذلك في غاية البعد.

ففيه: أن أكثر الأخبار المذكورة هنا في الباب 13 مسبوقة بالسؤال. ثم إن التقية لحفظ الشيعة لا تتوقف على وجود السؤال، بل عليه (عليه السلام) إيجاب الزكاة عليهم ابتداءً بداعي حفظهم، كما عرفت))(3).

ص: 312


1- المغني لابن قدامة: 2/623.
2- الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، ط3: 3/1867.
3- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/191.

6- ((إن الحمل على التقية فرع تعذّر الجمع العرفي وإلا كان هو المتعين))(1)

والمفروض بحسب المشهور إمكان الجمع؛ قال السيد السبزواري (قدس سره): ((ولا وجه لحمل ما دل على الوجوب على التقية كما عن الكاشاني والحدائق: لأنه بعد عدم إمكان الجمع العرفي والمفروض إمكانه وهو حمل الوجوب على مطلق الرجحان))(2).

(الثالث) استقرار التعارض والنتيجة هي التساقط، واحتمله السيد الخوئي (قدس سره) إن لم يمكن حمل الطائفة الأولى على التقية، قال (قدس سره): ((إذن تستقر المعارضة هنا فإما أن يحمل ما دل على الزكاة على التقية –كما لا يبعد- أو تسقطان، وعلى التقديرين فلم يثبت الاستحباب الشرعي بعنوان الزكاة))(3).

عرض الأقوال في المسألة ومناقشتها

بعد الذي قدمناه من عرض الروايات وتقريباتها، نستعرض الآن الأقوال في المسألة ونناقشها بإذن الله تعالى، وقلنا أنها ثلاثة:

(القول الأول: الاستحباب)

وهو المشهور بل ادعي عليه الإجماع نقلاً وتحصيلاً، واستدل عليه بوجوه:(الأول) الجمع بين الطائفتين من الروايات كما تقدم وهو مسلك الشيخ المفيد والطوسي وتبعهما الأصحاب (قدس الله أرواحهم) ومنهم السيد الحكيم قال (قدس سره): (ويقتضيه الجمع بين ما دل على ثبوت الزكاة في مال التجارة مثل مصحح ابن مسلم وغيره وما دل على نفيها))(4).

ص: 313


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/59.
2- مهذب الأحكام: 11/58.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/141.
4- مستمسك العروة الوثقى: 9/58.

ويرد عليه:-

1- إن الطائفة الثانية لا تعارض الأولى ولا تصلح قرينة على التصرف فيها كما قدمنا فيبقى ظهور الأولى في الوجوب بلا معارض.

2- إن بعض روايات الطائفة الأولى صريحة في الوجوب وليست ظاهرة حتى يمكن أن ينصرف هذا الظهور إلى الاستحباب مع القرينة ، فإذا وجد منافٍ فيقع التعارض ولا يمكن الجمع بينهما.

(الثاني) الجمع بين روايات الطائفة الأولى و((النصوص السابقة الحاصرة للواجب في غيره))(1).

وهو كالدليل السابق إلا أن الجمع هنا يكون بين الطائفة الأولى الدالة على الواجب والروايات المتقدمة في المسألة السابقة التي حصرت وجوب الزكاة في الأصناف التسعة المشهورة فتحمل على الاستحباب.

وفيه:-

1- إننا انتهينا إلى نتيجة عدم انحصار وجوب الزكاة بالأصناف التسعة في المسألة السابقة.

2- إن هذه الروايات الدالة على الوجوب تصلح لتخصيص العقد السلبي المستفاد أحياناً من مفهوم تلك الروايات لأنها صريحة ولأنها أخص منه وتكون النتيجة: ((تجب الزكاة في التسعة ولا تجب في غيرها بقول مطلق)) وهذا لم نخالفه لأن وجوب الزكاة في أموال التجارة مشروط بما ذكرناه.

3- إن الروايات الحاصرة للوجوب بالتسعة لو تمت دلالتها على نفي الوجوب في غيرها فإنه سيقع التعارض مع الروايات الدالة هنا على الوجوب لصراحتها في ذلك كقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة: (وجبت فيه الزكاة) وفي صحيحة إسماعيل: (فعليه زكاته) وفي صحيحة ابن مسلم: (فعليه الزكاة) ونحوها مما لا يمكن حمله على الاستحباب فالصحيح أن روايات المسألة مخصصة للعقد السلبي في تلك الروايات.

ص: 314


1- جواهر الكلام: 15/73، الحدائق الناضرة: 12/148.

(الثالث) ((أصالة عدم الوجوب))(1)

واستدل به صاحب الجواهر (قدس سره) على قول المصنف (قدس سره): ((والاستحباب أصح)).أقول: وهذا لو أمكن التمسك به بعد افتراض حصول الشك نتيجة تعارض الأدلة في الوجهين الأول والثاني فإنه لا ينفع المستدل على الاستحباب إلا بأحد تقريبين:-

1- إن الوجوب مركب من جنس وفصل هما الطلب وعدم الترخيص في الترك، فإذا انتفى الجزء الثاني بالتعارض بقي الأول في فرده الآخر وهو الاستحباب.

وهذا التقريب غير تام لأن الوجوب أمر بسيط حقيقته البعث والتحريك، وإنما دل على الوجوب بالإطلاق وضم حكم العقل، ويدل على الاستحباب بالقرائن.

2- إن لازم الطلب بعد عدم دلالته على الوجوب هو الاستحباب باعتبار انحصار الحكم في المسألة بين الوجوب والاستحباب فإذا انتفى الوجوب بالأصل ثبت الاستحباب.

وهذا غير تام أيضاً لأن عدم الوجوب ثبت بالأصل والأصول لا تثبت لوازمها، ولو قيل بأن الأصل يثبت لازمه هنا للانحصار المشار إليه، فيقال بعدم الانحصار لوجود قول ثالث وهو عدمهما معاً.

(الرابع) ما دل على استحباب عموم الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى ومطلق البر والتصدق والمورد منه.

ونفى السيد الخوئي (قدس سره) البأس عنه(2)

وقال بعض أعلام العصر (دام ظله الشريف): ((ويمكن أن يوجه الاستحباب في المقام بالآيات والروايات الظاهرة في مطلوبية الإنفاق من كل شيء.

ص: 315


1- جواهر الكلام: 15/73.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 2/141.

كقوله تعالى: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» وقوله: «أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ» حيث إن الموصول للعموم، وقوله: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» حيث إن الجمع المضاف للعموم وتطهير النفوس وتزكيتها يترتب على كل إنفاق. وعموم التعليل يقتضي عموم الحكم.

وقال الشيخ في النهاية: (وكل ما يملكه الإنسان مما عدا التسعة الأشياء التي ذكرناها فإنه يستحب له أن يخرج منه الزكاة).

وبالجملة فالزكاة ليست إلا عبارة عن الإنفاق في سبيل الله، وهي مطلوبة في كل الأشياء ومنها مال التجارة))(1).

وفيه:-

1- هذا خروج عن البحث لأن الكلام في الاستحباب الخاص.

2- إن هذا معنى يناسبه إطلاق الاستحباب وعدم تقييده بالشروط التي ذكرناها.

3- إن التفاصيل والشروط التي تضمنتها روايات الطائفة الأولى توجب القطع بوجود حكم خاص في المسألة، فالاستدلال بأدلة الاستحباب العام يعني إلغاء كل تلك الروايات.(الخامس) ((ورد في أخبار مستفيضة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الزكاة على تسعة وعفا عما سواها والعفو لا يكون إلا مع وجود المصلحة والمقتضي، فيظهر من ذلك وجود المصلحة في تزكية كل شيء، فيثبت الاستحباب لوجود الملاك وإنما رفع الإلزام تسهيلاً))(2).

ص: 316


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/191-192.
2- المصدر السابق: 192.

وفيه مع حُسنه على المستوى الأخلاقي فقد ورد في دعاء (يا من تُحل به عُقد المكاره) عن الإمام السجاد (عليه السلام): (ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة).

فالعلم بإرادة المولى وإن لم تبلغ مرحلة الجعل والإنشاء كافية لتحريك المكلف نحو الطاعة، بشرط العلم بهذه الإرادة.

إلا أنه على المستوى القواعد المعمول بها يقال: إن الاستحباب حكم شرعي والأحكام لا تصل مرحلة التنجيز إلا بعد الإنشاء والفعلية، فرجحان الملاك وحده غير كافٍ للتحريك، مضافاً إلى أن الوجوب إذا سقط للعفو أو التخفيف فلا يلزم منه ثبوت الاستحباب، وإنما له حكمه الذي يثبت بالدليل فالتخفيف عن المسافر بقصر الصلاة لا يعني استحباب التمام، والتخفيف عن المقاتلين عندما يتجاوز العدد الضعف قد يلزم منه حرمة القتال إذا كان انتحاراً وهكذا.

(السادس) وهو مُشيَّد على طبق مباني المشهور إلا أنني لم أجد من ذكره، فقد قالوا باستحباب الزكاة في مال الصبي إذا اتجر به، وقالوا أن الحال في البالغ أولى (لاحظ كلمة السيد الخوئي (قدس سره) صفحة 286)، فمقتضى الأولوية استحباب الزكاة في مال التجارة للبالغ بعد نفي الوجوب.

وفيه: إننا نبّهنا (صفحة 284) إلى توهم وحدة المسألتين فبناء أحدهما على الأخرى غير تام.

(السابع) الإجماع وتقريبه أن يقال: أنه لا خلاف في رجحان الزكاة في أموال التجارة، سقط منه أحد فرديه وهو الوجوب لمنافاته للروايات المتعارضة فتعين الاستحباب، قال الشيخ النراقي (قدس سره) في المستند: ((رجحان الزكاة فيه –أي مال التجارة- هو المعروف بين الأمة، بل لا خلاف فيه عندنا، كما عن

ص: 317

المنتهى فهو عليه الدليل))(1) فيؤخذ به ويُنفى الوجوب بأحد الوجوه المتقدمة ويتعين الرجحان بالاستحباب.

ويرد عليه:وجود قول ثالث بعدم الوجوب والاستحباب أصلاً ولو سُلِّم فإنه مدركي، مضافاً إلى عدم وجود إجماع على الجامع بما هو جامع بل بما هو ضمن فرده أي على كل من فرديه بشرط لا عن الآخر، وبتعبير آخر: إن هذا الاستدلال مبني على تحليل الوجوب والاستحباب إلى جنس مشترك بينهما وهو الطلب وفصل مميز لكل منهما، مع أن الوجوب والاستحباب أمر بسيط كما قدمنا.

(الثامن) ومنهم من لم يذكر دليلاً على اختياره القول بالاستحباب، كصاحب الحدائق (قدس سره) فإنه بعد أن اعترف بأن ((الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل الواضح ومجرد اختلاف الأخبار ليس بدليل يوجب ذلك))(2)

يعني بذلك طريقة المشهور في الجمع المفيد للاستحباب، وقد جعل مال التجارة مما يستحب فيه الزكاة لكنه لم يذكر دليلاً.

نعم، قال: ((ما ذكرناه من استحباب الزكاة في مال التجارة هو المشهور بين الأصحاب))(3)

فلعل دليله هذه الشهرة.

وفيه: منع حجية الشهرة وأنها مدركية كما هو واضح، وأن الإجماع لم يتم الاستدلال به فالشهرة أولى.

(القول الثاني: الوجوب)

وهو الصحيح للروايات المعتبرة المستفيضة بل المتواترة وإن اختلفوا في فهمها وكيفية التعاطي معها فإنه لم ينكر صدورها أحد.

ص: 318


1- مستند الشيعة: 9/241.
2- الحدائق الناضرة: 12/150.
3- الحدائق الناضرة: 12/148.

وما قيل من تعارض روايات أُخر معها بما يمنع من الأخذ بالوجوب فيها لم يثبت شيء منه، فالوجوب باقٍ على حاله بالشروط التي ذكرناها.

نكتة: إن الضرائب المالية في الإسلام –وأعني بها الزكاة والخمس- أساسها العشر ومضاعفاته وأجزاؤه، فالخمس هو عشران، وزكاة الغلات العشر ونصف العشر، وزكاة النقدين وأموال التجارة والأنعام هي ربع العشر (أي 1 من 40) وقد اختلفت مقاديرها المحددة شرعاً بحسب مقدار الجهد النوعي المبذول لتحصيل المال، فأعلى ضريبة هي الخمس لأنها تتعلق بما يغنمه الإنسان ويظفر به من غير احتساب كغنائم الحرب والكنز والميراث غير المحتسب، أما الطرق الطبيعية للكسب والفوائد المحتسبة ففيها الزكاة وهي متفاوتة فالعشر على الغلات التي تسقى سيحاً لأنها مما تنبت الأرض بفضل الله تبارك وتعالى ونصف العشر على ما يسقى منها، وأقل الضرائب على التجارة وتربية المواشي ونحوها مما عدا الغلات.

بتعبير آخر: إن كل الأصناف الزكوية إنما وجبت فيها الزكاة لأنها أموال تجارة تُتَّخذ للاسترباح لذا كانت الزكاة فيها نفس المقدار وهو واحد من أربعين فزكاة النقدينهذه النسبة وزكاة الغنم شاة من كل أربعين، وكذا زكاة الإبل والبقر سوى أن نصابهما لما كان دون الأربعين ولا يراد تجزئة الرأس فاكتفي بما دون الأربعين بشيء يعادل الجزء بهذه النسبة كخمسة من الإبل زكاتها شاة والعشرة شاتان وكأنها تعادل قيمة جزء البعير بتقدير الشرع المقدس.

أو في نصاب البقر ثلاثين بقرة زكاتها تبيعٌ أو تبيعةٌ وهو من البقر ما أتمّ سنة ودخل في السنة الثانية أي أصغر وأقل قيمة من معدل الثلاثين ليعادل الجزء.

أما زكاة الغلات فلا تدخل في هذه النكتة لأن ملاكها مختلف وهو استنبات الأرض وليس الاتجار وعلى تعبيره (عليه السلام): (مما أنبتت الأرض) وهي عادة تكون مؤونتها أقل وفائدتها أكبر؛ فكانت زكاتها مختلفة وهي العُشر ونصف العُشر.

وهذه النكتة أشرت إليها على نحو الإجمال مستبقاً بحثاً يبين العلاقة بين الخمس والزكاة في تنظيم الموارد الاقتصادية للدولة الإسلامية بحسب طريقة

ص: 319

الكسب ونوعه.

(القول الثالث: عدم الرجحان أصلاً فلا وجوب ولا استحباب)

وهي نتيجة فريقين:-

1- مَن حمل الطائفة الأولى على التقية فتسقط عن الاعتبار أصلاً فلا يبقى عنده دليل على الاستحباب الخاص كصاحب الحدائق والمحدث الكاشاني (قدس الله سريهما).

2- من قال بالتعارض والتساقط كالسيد الخوئي (قدس سره).

فلا يبقى عندهما دليل على الاستحباب الخاص من الجمع بين الطائفتين ونحوها.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((إذن تستقر المعارضة هنا، فإما أن يُحمل ما دل على الزكاة على التقية –كما لا يبعد- أو تسقطان، وعلى التقديرين فلم يثبت الاستحباب الشرعي بعنوان الزكاة.

نعم، لا بأس بعنوان مطلق البر والتصدق))(1).

أقول: هذا القول مما لا يمكن المساعدة عليه لعدة أمور تقدمت منها:-

1- دلالة المجموعة الأولى من الروايات على الوجوب وعدم صلاحية المجموعة الثانية لمعارضتها فلا يبقى مقتضٍ لتساقطهما.

2- عدم صحة الحمل على التقية.

ومن الجرأة على آثار المعصومين (عليهم السلام) المباركة أن نرمي في سلة المهملات بعشرات الروايات في كل مسألة نتعرض لها، مما يعني إهمال الآلاف من الروايات المباركة.

3- إن التفاصيل والشروط التي تضمنتها الروايات الدالة على الوجوب تفيد القطع بوجود حكم خاص في المسألة وجوباً أو استحباباً فلا معنى لهذا القول الثالث.

ص: 320


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/141.

فائدة: ردَّ صاحب الجواهر (قدس سره) على المحدث الكاشاني وصاحب الحدائق (قدس الله سريهما) بأنه حتى لو كانت الروايات الظاهرة في الوجوب صادرة من جهةالتقية فإن ذلك لا ينافي استحباب الزكاة، قال (قدس سره) معرضاً بهما: ((بل ربما توقف فيه – أي الاستحباب- بعضهم، لظهور هذه النصوص في خروج تلك مخرج التقية، لكن فيه أنه بعد التسليم لا تنافي بين ذلك وبين الندب على أن تكون التقية حينئذ بالتعبير عن الندب بما ظاهره الوجوب اعتماداً على قرينة خارجية، ومراعاة للجمع بين التقية والواقع، ودعوى أن المراد من ذلك الأمر الوجوب تقية فلا دليل على الندب حينئذ يدفعها أصالة حجية قول المعصوم (عليه السلام)، وأنه في بيان حكم شرعي واقعي، وكما أن التقية في مقام العمل يقتصر فيها على أقل ما يندفع به كذلك المستعمل فيها من قول المعصوم (عليه السلام) يقتصر فيه على أقل ما يمكن من إرادة التقية منه، ومن ذلك ما نحن فيه ضرورة إمكان كون التقية في ذلك التعبير الذي ذكرناه، فيبقى الأمر حينئذ على قاعدة إرادة الندب منه بعد معلومية عدم إرادة الوجوب، كما هو واضح، والله أعلم))(1).

وقرب بعض أعلام العصر (دام ظله الشريف) إشكال صاحب الجواهر (قدس سره) وردّ عليه، فقال: ((ومحصل كلامه أن مفاد الأمر ينحل إلى الطلب، وخصوصية الوجوب. والتقية تندفع برفع اليد عن خصوصية الوجوب، فيبقى أصل الطلب مراداً، إذ الضرورات تتقدر بقدرها.

أقول: مبنى كلامه استعمال الأمر في الوجوب، وكونه مركباً من أصل الطلب والمنع من الترك كما اشتهر. وكلاهما فاسدان، إذ الوجوب والاستحباب ليسا مفاداً للفظ بحيث يستعمل فيهما، بل الصيغة وضعت للبعث والتحريك القولي في قبال التحريك العملي. وإن شئت قلت: وضعت للطلب وهو أمر بسيط.

نعم، البعث والطلب من قبل المولى موضوع لحكم العقل بلزوم الإطاعة واستحقاق العقاب على المخالفة، إلا أن يرخّ-ص المولى بنفسه في الترك. فما

ص: 321


1- جواهر الكلام: 15/74.

وضع له اللفظ واستعمل فيه هو البعث، والوجوب حكم عقلي يحكم به على الطلب المجرد عن الترخيص. كما أن الاستحباب ينتزع عن الطلب المقارن للترخيص.

ولو سلم تركب الوجوب فهو تركيب عقلي تحليلي، فلا تسري التقية في بعض أجزائه دون الآخر.

نعم، لو كان هنا لفظان ودار الأمر بين حمل أحدهما على التقية أو كليهما صحّ ما ذكره من أن الضرورات تتقدر بقدرها، فيحفظ أصالة الجهة في أحدهما، فتأمل.

والحاصل أن إشكال صاحب الحدائق قوي، ولا يندفع بما في الجواهر، ولا يلزم أن تكون التقية من الفقهاء والمفتين، ولا بلحاظ حفظ الأئمة (عليهم السلام) بل بلحاظ حفظ شيعتهم من شرّ السلاطين والحكام الجباة للزكوات بعنف وشدة، فإنها كانت أساس اقتصادهم.فلعل الأئمة (عليهم السلام) أرادوا تقيّد الشيعة عملاً بأداء الزكاة مما تعارف مطالبتها منه، دفعاً لشر السلاطين وتخليصاً من مكائدهم. فإن وظيفة القائد لقوم ملاحظة محيطهم وما يكون دخيلاً في حفظهم من كيد الأعداء))(1).

أقول: شرحه (دام ظله) لمعنى الوجوب صحيح لكن تقريبه (دام ظله) لكلام صاحب الجواهر غير مطابق لمراده (قدس سره) خصوصاً فيما يظهر من صدر كلامه (قدس سره)، فإنه أراد أن الأمر يدل على جامع الطلب وإذا أطلق انصرف إلى الوجوب لحكم العقل في هذا المورد بلزوم الطاعة، فإذا نصب المولى قرينة على الترخيص بالترك حمل الطلب على الاستحباب، فإذا كان الإمام (عليه السلام) في مورد تقية فيكفيه أن يصوغ كلامه بصيغة الطلب ليتراءى للمخالف أن حكمه موافق لهم بالوجوب، لكنه (عليه السلام) يجعل للموالي قرينة على الاستحباب بالترخيص بالترك، ولا حاجة لمخالفة الواقع باستعمال صياغات صريحة في الوجوب كقوله (عليه السلام): (فعليه الزكاة) و

ص: 322


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 2/190-191.

(فيه الزكاة) فإنه أزيد من الضرورة، والضرورات تقدَّر بقدرها، فهذا هو الظاهر من مراد صاحب الجواهر (قدس سره).

وبتعبير مختصر: إن الشيخ المنتظري (دام ظله) فهم تطبيق هذه القاعدة (الضرورات تُقدَّر بقدرها) بلحاظ التعاطي مع النص بينما كان مراد صاحب الجواهر (قدس سره) تطبيقها بلحاظ صدور النص والشاهد قوله: ((بالتعبير عن الندب ..)) إلخ، ولعل عبارة تلميذه الشيخ الأنصاري (قدس سره) أظهر في ذلك حيث قال: ((وحمل تلك الأخبار على التقية لا ينافي إرادة الاستحباب، لأن التقية تتأدى بظهور الكلام في الوجوب الذي هو مذهب المخالفين في مال التجارة وإرادة الاستحباب بقرينة خارجية))(1).

وقد فصّلنا الكلام في هذه النقطة في المسألة السابقة فجوابه (دام ظله) لا يصلح للرد على ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره). نعم، يرد على صاحب الجواهر (قدس سره) أن كلامه هذا لا ينفعه في إثبات الاستحباب فلا بد من دليل آخر.

أما بقية كلام الشيخ المنتظري (دام ظله) بقوله: ((ولا يلزم أن تكون التقية ..)) فيرد عليه أن الروايات تأبى الحمل عليه فهل من المعقول أن صدور هذه البيانات والشروط التفصيلية من الأئمة (سلام الله عليهم) هو لحث شيعتهم على الاستجابة لجلاوزة السلطات الجائرة ودفع الزكاة للجباة حفاظاً على أنفسهم؟ وهل يحتاج الإنسان إلى من يذكّره بذلك؟ علماً بأن هذه الشروط للوجوب لا وجود لها في فقههم فبيانها منهم (عليهم السلام) مخالف للتقية.

ص: 323


1- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/12.

مناقشة السيد السيستاني (دام ظله الشريف)

تعرّض السيد السيستاني (دام ظله الشريف) لهذه المسألة في موضعين بحسب ترتيب متن العروة الوثقى:

(الأول) الزكاة في مال الصغير إذا اتجر به.

(الثاني) في ذيل ما يجب فيه الزكاة حيث ذكر الماتن موارد استحبابها ومنها مال التجارة.

وقبل أن يتم البحث في الموضع الثاني انقطع عن إلقاء بحثه الشريف وكانت آخر محاضرة يوم (16/صفر/1420) ولم يصل إلى الموضع الثالث المفصّل وهو الفصل الخاص بزكاة مال التجارة.

ووجه المناسبة في الموضع الأول، أن المشهور استدل على استحباب الزكاة في مال الصغير إذا اتجر به بأكثر من وجه، ومنها ((إن مال تجارة البالغ يُحكم باستحباب الزكاة فلا يحتمل الوجوب في غيره))(1)

وعبّر عن المقدمة الثانية بالأولوية وناقش في المقدمة الأولى كما سيأتي، وكان الأولى أن يلفت النظر إلى ما ذكرناه من أن المسألة أجنبية عنها.

وتناول البحث في الموضع الثاني عمّا أفاده الماتن من كون الاستحباب –في زكاة مال التجارة- أصحّ وقسّم (دام ظله) الموضوع إلى قسمين:-

1- بقاء شخص المال التجاري حولاً كاملاً لأجل الاسترباح.

2- بقاء القيمة المالية في ضمن أمتعة متعددة فالبقاء لرأس المال وليس لشخص المال.

أقول: هذا التقسيم استفاده (دام ظله) من الشرط الخامس الذي ذكرناه وذكره المشهور تبعاً للروايات، وتصويرنا لمحل النزاع تبعاً للمشهور بأنه في اشتراط بقاء العين حولاً أو عدمه والاكتفاء بانحفاظ المالية أولى من تصويره (دام ظله) بتقسيم الموضوع بلحاظه، لأن الموضوع واحد والروايات التي تعرضت له واحدة، فالخلاف في الاشتراط وعدمه وليس في تعدد أقسام الموضوع وحكم كل

ص: 324


1- محاضرة بتأريخ 8/شعبان/1419.

قسم، ولذا سوف لا نجد رواية تخص القسم الثاني وما استدل به أجنبي عن موضوع القسم الثاني.

وإنما نفت الوجوب لتخلف شروط أخرى غير تدوير المال الذي جعله (دام ظله) عنواناً للقسم الثاني.

نعم، لقد قرّبنا في (صفحة 303 وصفحة 309) أدلة على الوجوب في القسم الثاني للشيخ الأنصاري وصاحب الجواهر (قدس الله سريهما) وهي ليست تامة وكانت منشأً لحصول التعارض عندهم.

والظاهر –بل المصرح به كما سيأتي منه إن شاء الله تعالى- أن هدف تقسيم الموضوع هو لمعالجة التعارض بين الطائفتين، وأن موضوعهما ليس متحداً، فالطائفة الأولى أوجبت الزكاة في القسم الأول والطائفة الثانية نفت الوجوب عن القسم الثاني.قال (دام ظله): ((فالروايات في مال تجارة البالغ على طائفتين: طائفة تدل على الوجوب وأخرى على عدمه، وبالجمع يحكم بالاستحباب، وسيجيء منا –إن شاء الله تعالى- أن مورد الطائفتين ليس واحداً، فإن ما دلّ على عدم الوجوب إنما ورد في المال المتحرك الذي يدار به –يباع ويشترى به- وأما ما دل على الوجوب بالنسبة إلى مال التجارة إذا بقي حولاً كاملاً بأن اشترى شيئاً من جهة الاسترباح أي يدّخره طلباً للزيادة))(1).

((فلا بد من تفكيك أحد البحثين عن الآخر ولا بد أن نرجع الروايات الموجودة في المقام لكل بحث))(2).

أقول: هذه النتيجة –أي وجوب الزكاة في القسم الأول دون الثاني- في نفسها صحيحة إلا أن الطائفة الثانية غير متعينة في القسم الثاني بل إن بعضها صريحة في القسم الأول لكن منشأ عدم الوجوب هو اختلال الشروط، فحلُّ التعارض بهذه البساطة تسطيح للمسألة، أما نحن فقد رفعنا التنافي بوجوه متعددة تقدم ذكرها.

ص: 325


1- محاضرة بتأريخ: 8/شعبان/1419.
2- محاضرة بتأريخ: 15/صفر/1420.

وخلاصة الكلام: إن تقسيمه (دام ظله) للموضوع بهذا الشكل غير دقيق لعدة أمور:-

1- إنه غير عملي إذ يمكن أن نقسّم عنوان مال التجارة بلحاظ دوران الحول وعدمه أو بلحاظ طلبه برأس المال أو بوضيعة وهكذا مما يؤدي إلى التشويش.

2- إنه لا يوجد دليل على تعلق الزكاة بالقسم الثاني حتى يفرده بعنوان مستقل، وما استدل به عليه مما سيأتي بإذن الله تعالى هو توهم.

3- إن غرضه من التقسيم وهو حل التعارض لم يتحقق لأن عدم صلاحية الروايات التي ذكرها لمعارضة المجموعة الدالة على الوجوب ناشئ من انخرام الشروط الأخرى وليس هذا فالتقسيم بلحاظ تلك الشروط أولى.

فالصحيح فنّيّاً هو ما جرينا عليه في البحث من تناول هذه الأمور كشروط في الحكم.

ثم بدأ الكلام في (القسم الأول) وذكر شرط عدم طلب المال بوضيعة وإلا ف-((لم يقل أحد بالوجوب ولا بالاستحباب. فمن اشترى مالاً للتجارة وأبقاه للاسترباح فإن وجد من يطلبه برأس المال أو زيادة ولكنه لم يبعه من جهة أنه يريد المنفعة فقد قال بعض القدماء بالوجوب والمشهور على الاستحباب))(1).

أقول: ظهر من بعض كلمات الأصحاب – كالشيخ (قدس سره) في النهاية على ما حكي عنه- استحباب الزكاة في مال التجارة مطلقاً.

ثم ذكر (دام ظله) الحكمة من جعل الزكاة وأنه ((بمناسبة الحكم والموضوع يعلم أن وجوب الزكاة جعل ليكون رادعاً عن تجميد المال أزيد من حول طلباً للزيادة، كالنقد المجمد حولاً فيوجب قلة التجارة والعمل)) وهذا ما استظهرناه أيضاً.

ثم أشار (دام ظله) إلى خلاف العلامة وولده ومن تأخر عنهما ودعوى الإجماع على عدم اشتراط بقاء العين والاكتفاء ببقاء المالية.

ص: 326


1- نفس المحاضرة السابقة بتأريخ: 15/صفر/1420

وبعد أن ذكر (دام ظله) بعض روايات الطائفة الأولى كصحيحة إسماعيل بن عبد الخالق وصحيحة محمد بن مسلم وتأييدها بروايتي أبي الربيع الشامي وخالد بن الحجاج قال: ((فهذه ظاهرة في الوجوب فبأي شيء ننكر الوجوب ونحمله على الاستحباب)) وأجاب بأن ذلك لوجود روايتين هما موثقة إسحاق بن عمار ومعتبرة سليمان بن خالد ((ربما استدل بهما على خلاف ذلك))(1).

وأجاب (دام ظله) عن الأولى بوجهين:-

أ- لاحتمال أن الشراء وقع أولاً بهدف الاقتناء أو الاستخدام (فإن الوصيفة هي مطلق الأمة أو الخادمة) ثم بدا له جعل المتاع للتجارة، وقد استشكل جملة من الفقهاء في ثبوت الزكاة إذا لم تكن نية التجارة مقارنة للمعاوضة ولا يظهر من الرواية أن الشراء كان لقصد التجارة، وإلا لعبّر (يشتري الوصيفة لتزيد قيمتها) مع أن في الرواية (يشتري الوصيفة) وهو أعم من قصد التجارة وغيرها، فلا تصلح الرواية للمعارضة.

ب- إن الرواية أخص من المدعى إذ لم يفرض فيها طالب للوصيفة بأزيد من سعرها فالرواية مطلقة من هذه الجهة وبحكم قانون الإطلاق والتقييد، إذ الروايات السابقة مفصلة فتحمل الرواية على المقيدات.

وبعبارة مني: إن شرط تعلق الزكاة بذل رأس المال أو زيادة عليه وحبس المال التماس الفضل بحسب روايات المجموعة الأولى، وموثقة إسحاق بن عمار مطلقة من هذه الناحية فتحمل على حالة عدم بذل هذا المقدار وتقيد بها لذا لم تجب الزكاة.

أقول: هنا تعليق إجمالي وآخر تفصيلي، أما الإجمالي فإن الوجهين اللذين ذكرهما (دام ظله) شاهد على ما ذكرناه من عدم صحة تقسيم موضوع مال

ص: 327


1- محاضرة بتأريخ: 16/صفر/1420.

التجارة إلى قسمين وتطبيق طائفتي الروايات عليهما فهذه الرواية نافية للوجوب من جهة أخرى وليس من جهة تدوير المال.

وأما التفصيلي فإن المناقشة الأولى صحيحة وقد ذكرنا مثلها، إلا أن تقريب الثانية غير تام إذ لا حاجة إلى التقييد بحالة عدم بذل رأس المال، بل يكفي الاحتمال المبطل للاستدلال بها على المعارضة، مضافاً إلى أن الموثقة مجملة من هذه الناحية وليست مطلقة فلا تصلح للمعارضة.

وقد أشكل (دام ظله) على المناقشة الثانية بقوله: ((وربما يستشكل في تقييد مثل هذه الرواية ببيان ذكرناه في علم الأصول، وهو أن الكلام إذا كان في مقام الإفتاء للمستفتي فالاعتماد على القرينة المنفصلة الموجب لحمل المطلق على المقيد وصرف الكلام إلى بعض الشقوق خلاف الظاهر وحمل على فرض نادر وهو عدم وجود منيطلبها برأس مال زائد، نعم لو كان إلقاء الكلام على نحو التعليم فيمكن أن لا يكون في مقام بيان جميع الخصوصيات.

والحاصل أننا إذا جوّزنا مثل هذا الحمل في الأجوبة الكلية فلا يأتي في الأجوبة الشخصية الاستفتائية لما فيه من إغراء وكتمان ويحتاج إلى مبرر قوي)) ثم قال (دام ظله): ((فالعمدة الوجه الأول)).

أقول: مناقشته (دام ظله) في الوجه الثاني صحيحة كبروياً في الجملة إلا أنها لا تتم هنا لأكثر من وجه:-

1- إن كثيراً من الرواة كانوا من العلماء والفقهاء وناقلي العلم إلى غيرهم ولم يكونوا يستفتون لأنفسهم كمكلفين، لذا أكثروا الرواية وسألوا عن كل ما يخطر على بالهم، فنقل الواحد منهم آلاف الروايات (ومنهم إسحاق بن عمار) فالإمام (عليه السلام) يجيب حينئذٍ على نحو التعليم وبيان القواعد وأصول الأحكام، فتكون قابلة للتقييد والتفصيل.

2- إنه حتى لو كان الاستفتاء شخصياً فإن احتمال التقية وإجمال الجواب لمصلحةٍ ما وارد فلا يأبى البيان والتفصيل بقرائن منفصلة أي التعويل على أحاديث سابقة أو لاحقة.

ص: 328

وأجاب (دام ظله) على معتبرة سليمان بن خالد بأنها ((خارجة عن محل الكلام إذ المفروض أن الشخص لم يشتر إلا من جهة تبديل النقد بالمتاع لصعوبة التحفظ على النقد مما يسهّل سرقته، فأراد التبديل مع المحافظة على المالية ولم يظهر من الرواية قصد الاسترباح والتجارة الذي هو محل كلامنا.

فمقتضى القاعدة وجوب الزكاة وقال به بعض المتقدمين كابني بابويه))(1).

أقول: يمكن قبول أصل هذا الوجه وإن كنّا لم نتفهّم تعليله بصعوبة التحفظ على النقد الذي هو أسهل حفظاً في الصناديق المحكمة، وربما أراد (دام ظله) أن المتاع أصعب نقلاً فتصعب سرقته، مضافاً إلى ما قلناه في مناقشة الصحيحة.

ثم انتقل (دام ظله الشريف) إلى (القسم الثاني) وهو ((أن يراد بمال التجارة الباقي حولاً بقاء مالية النقد محفوظة لا بنفسها بل ضمن متاع أو أمتعة، وهنا طائفتان:

الأولى: ما تدل على ثبوت الزكاة وهي على أنواع:

(منها) مقطوعة محمد بن مسلم المتقدمة (صفحة 282 بالرقم 7): (كل مال عملت به ...) و(مال) ظاهر في النقد، و (عملت) أي اتجرت وضاربت، قال يونس: (كل ما عمل من التجارة فعليه فيه الزكاة)، وهنا صحيحة أخرى لمحمد بن مسلم وفي ذيلها (قال: إذا حال عليه الحول فليزكها).

(ومنها) الروايات الكثيرة الدالة على زكاة مال اليتيم إذا اتجر به كمعتبرة الحلبي وابن بكير والسمان وصحيحة محمد بن مسلم.

(ومنها) الروايات الدالة على تعلق الزكاة في مال العبد الذي ليس للمولى كما لو استرضاه عن عدوان ففيه الزكاة إذا اتجر به.

فتدل هذه المجاميع بظاهرها على ثبوت الزكاة في المال المتحرك.

ص: 329


1- محاضرة يوم 16/صفر/1420.

الثانية: في مقابل الأولى وتدل على عدم ثبوت الزكاة كصحيحة زرارة عن نزاع أبي ذر وعثمان، ورواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (الزكاة في المال الذي لم يحركه فإذا حركه فلا زكاة فيه) )).

ثم تساءل (دام ظله الشريف): ((فماذا يقال فيها؟ والمحتمل وجوه:-

1- حمل الطائفة الأولى على التقية وقال به الكاشاني في الوافي وصاحب الحدائق وسيدنا الأستاذ باعتبار ما دل على الوجوب عند العامة، وهو ضعيف، خصوصاً بملاحظة ما ورد من التفصيل في مال اليتيم فهم يقولون به والإمام (عليه السلام) فصّل إلا إذا اتجر به.

2- الحمل على الاستحباب ولكنه ربما يستبعد لأن نتيجة ذلك الترغيب عن التجارة))(1).

أقول:-

1- لا دلالة في الطائفة الأولى على الوجوب في القسم الثاني، فرواية محمد بن مسلم ظاهرة في القسم الأول لقوله (عليه السلام): (إذا حال عليه الحول) أي على نفس المال الذي هو إما النقد خاصة فتكون واردة في زكاة النقدين وإما عامة لكل الأموال التجارية فتكون من روايات القسم الأول.

أما روايات اليتيم والعبد فقد وقع السيد السيستاني (دام ظله) فيما وقع فيه السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) من الخلط بين زكاة مال التجارة وزكاة مال اليتيم والمجنون والعبد إذا اتجر به مع الاختلاف البيّن بينهما حكماً وملاكاً وقد نبّهنا على ذلك كله (صفحة 284).

2- ما ذكرناه من عدم الجدوى في التقسيم الذي ذكره (دام ظله) وإن عنوان مال التجارة موضوع واحد وإن القسمين هما اشتراط بقاء العين وعدمه مع الاتفاق على حفظ المالية. ولا توجد رواية تدل على وجوب الزكاة في مال التجارة المتحرك، وما استدل به أجنبي كما هو واضح وقرّبناه.

ص: 330


1- محاضرة يوم 16/صفر/1420، وهذه آخر ما أفاده السيد السيستاني (دام ظله) في بحثه الشريف ثم انقطع عنه.

نتيجة البحث

وجوب الزكاة في الأعيان والبضائع التي تُشترى بثمن يبلغ نصاب النقدين للتكسب بها وتحبس حولاً كاملاً طلباً لزيادة سعرها بشرط أن لا تُطلب خلال العام بأقل من سعرها.

ص: 331

مسائل

(المسألة الأولى) قال الشيخ (قدس سره) في الخلاف:

((على مذهب من أوجب الزكاة في التجارة تتعلق الزكاة بالقيمة، وتجب فيها. وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: تتعلق بالسلعة، وتجب فيها لا بالقيمة، فإن أخرج العرض فقد أخرج أصل الواجب، وإن عدل عنه إلى القيمة فقد عدل إلى بدل الزكاة.

دليلنا: أنه لا بد من تقويم السلعة، فإنه لا يمكن النسبة إلى السلعة، فإذا ثبت ذلك وجب أن يأخذ منها الزكاة.وروى إسحاق بن عمار في حديث الزكاة، أوردناه في تهذيب الأحكام عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (كل عرض فهو مردود إلى الدراهم والدنانير) وهذا يدل على أن الزكاة متعلقة بالقيمة))(1).

واختاره المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع فقال: ((زكاة التجارة تتعلق بقيمة المتاع لا بعينه، ويقوَّم بالدنانير والدراهم)).

وتبعهم العلامة (قدس سره) في ((الإرشاد والمنتهى، بل ظاهر المنتهى يشعر بعدم الخلاف فيه عندنا))(2).

ووصف صاحب الحدائق (قدس سره) هذا القول بأنه هو المشهور لكنه تردد في اختيار أحد القولين لعدم وجود نص يقتضي المصير إلى أحدهما، وقال: ((وتظهر فائدة الخلاف في جواز بيع العين على تقدير القول بالوجوب بعد الحول وقبل إخراج الزكاة أو ضمانها فيجوز على القول بتعلقها بالقيمة ويمتنع على تقدير تعلقها بالعين، وفي ما لو زادت القيمة بعد الحول فيخرج ربع عشر

ص: 332


1- الخلاف: 5/95-96، المسألة 109.
2- مستند الشيعة: 9/252.

الزيادة على تقدير التعلق بالعين وربع عشر القيمة قبل تمام الحول على تقدير التعلق بالقيمة))(1).

ونَقل عن المنتهى قول العلامة (قدس سره): ((والذي يدل عليه اعتبار نصاب النقدين والشريعة السهلة وأصل جواز التصرف بالبيع وغيره في أموال التجارة، والتعلق بالعين يمنع عن ذلك إلا مع التخمين والضمان كما في الزكاة))(2).

لكن المحقق (قدس سره) اختار تعلق الزكاة بالعين في كتابه المعتبر وردَّ على استدلال الشيخ (قدس سره) ونقل كلامه السيد صاحب المدارك (قدس سره) واستحسنه فقال: ((قال في المعتبر: وتمسك الشيخ ضعيف، أما قوله: النصاب معتبر بالقيمة، قلنا: مسلم لكن ليعلم بلوغها القدر المعلوم، ولا نسلم أنه لوجوب الإخراج منها، وأما الرواية فغير دالة على موضع النزاع، لأنها دالة على أن الأمتعة تقوّم بالدراهم أو الدنانير، ولا يلزم من ذلك إخراج زكاتها منها. ثم نقل عن أبي حنيفة قولاً بتعلق الزكاة بالعين، فإن أخرج منها فهو الواجب، وإن عدل إلى القيمة فقد أخرج بدل الزكاة، وقال: إن ما قاله أبو حنيفة أنسب بالمذهب. ونفى العلامة في التذكرة البأس عن هذا، وهو حسن))(2).

أقول: ما ورد في الخلاف والمنتهى من الوجوه للقول المشهور غير تامة:

فتقدير النصاب على أساس القيمة لا يلزم منه تعلق الزكاة بالقيمة، وإن رواية إسحاق ناظرة بحسب الظاهر إلى حساب النصاب فهي أجنبية عن المسألة، وأما ما استدل به العلامة (قدس سره) من عمومات حلية التجارة ونحوها فلا يجوز التمسك بها للشك في أصل حلية بيع هذه العين والقضية لا تثبت موضوعها.

في مقابل ذلك يمكن الاستدلال بأكثر من وجه على ثبوت الزكاة في العين؛ منها:

ص: 333


1- و (2) الحدائق الناضرة: 12/150-151.
2- مدارك الأحكام: 5/174.

1- ما ورد في صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق من قوله (عليه السلام): (فعليك فيه الزكاة) –أي في نفس المتاع- وفي موثقة سماعة (وجبت فيه الزكاة) وهي ظاهرة في التعلق بالعين.

2- ما دل على عدم جواز المضاربة بالمال غير المزكّى كموثقة سماعة قال: (سألته عن الرجل يكون معه المال مضاربة هل عليه في ذلك المال زكاة إذا كان يتجر به؟ فقال: ينبغي له أن يقول لأصحاب المال: زكّوه، فإن قالوا: إنا نزكيه فليس عليه غير ذلك، وإن هم أمروه بأن يزكيه فليفعل، قلت: أرأيت لو قالوا: إنا نزكيه والرجل يعلم أنهم لا يزكونه، فقال: إذا هُم أقرّوا بأنهم يزكونه فليس عليه غير ذلك وإن هم قالوا: إنا لا نزكيه فلا ينبغي له أن يقبل ذلك المال ولا يعمل به حتى يزكوه)(1)

وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تأخذنَّ مالاً مضاربة إلا ما تزكيه أو يزكيه صاحبه).

وهذا يعني تعلق الزكاة بالعين، ولو تعلقت بالقيمة لأمكن المضاربة بالمال غير المزكى وتشتغل ذمة من عليه الزكاة بالقيمة.

3- إن الزكاة تمثل نسبة من المال (واحد من أربعين في المقام) والأصل في فهم النسبة أنها من العين.

4- إن المسألة مبنائية؛ فهي مرتبطة باشتراط حولان الحول على عين المتاع أو عدمه والاكتفاء بانحفاظ ماليته التي تقدمت للملازمة بينهما، فإذا اختار عدم الاشتراط فإنه يلزم منه تعلقها بالقيمة، وإذا اختار الاشتراط فيلزم منه تعلقها بالعين ووجه الملازمة وحدة الدليل وهو ظهور الروايات.

ص: 334


1- الحديثان تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 15، ح1، 3.

وفي ضوء هذا يعلم عدم الانسجام بين ما اختاره المحقق (قدس سره) في الشرائع من اشتراط حولان الحول على العين مع ما اختاره من تعلق الزكاة بقيمة المتاع لا بعينه كما قال (قدس سره)، بينما مال في المعتبر(1)

–بحسب عبارته التي نقلها صاحب المدارك آنفاً- إلى تعلقها بالعين كغيرها وهو الصحيح.

نعم، هي تتعلق بالعين على نحو الكلي في المعين كما ذكرنا في الرسالة العملية وأشرنا إلى الثمرة، فالمنع يكون عن التصرف بتمام المال المتعلق به الزكاة.

وهذا على مستوى تعلق الزكاة بالعين، أما إخراجها فلا يشترط أن يكون من العين فيمكن أن تقوَّم الزكاة العينية بالقيمة وتدفع، وقد دلّت عليه روايات عديدة منها صحيحة البرقي قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): هل يجوزأن أُخرِج عما يجب في الحرث من الحنطة والشعير، وما يجب على الذهب دراهم بقيمة ما يسوى أم لا يجوز إلا أن يُخرَج من كل شيء ما فيه؟ فأجاب (عليه السلام): أيما تيسَّر يُخرج)(2).

والمسألة جارية في الأصناف الزكوية الأخرى حيث يُسأل عن شكل تعلق زكاة كل صنف به لما يترتب عليه من آثار عملية، وهو ما يحتاج إلى بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

مسألة فرعية: قال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((ولو كان بيده نصاب –من النقد- بعضَ حولٍ فاشترى به متاعاً لتجارة، قيل –والقائل هو الشيخ في المبسوط وهو خيرة التذكرة وغيرها هنا-: كان حول العرض حول الأصل، والأشبه استئناف الحول -من حين الشراء-))(3).

ص: 335


1- المعتبر: 2/550.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 14، ح1.
3- الشرح المزجي لصاحب الجواهر (قدس سره): 15/271.

أقول: يرد على مختار الشيخ (قدس سره) أن لحاظ المالية لو كان كافياً في حوَلان الحول دون بقاء العين للزم القول بوجوب الزكاة في مال التجارة في مفروض المسألة لتحقق الشرط فلماذا كانت مستحبة عند نهاية الحول؟ فالصحيح ما اختاره المحقق (قدس سره) إن الأشبه استئناف الحول لاشتراط حولانه على العين.

وهذا الكلام من الشيخ (قدس سره) ناتج من عدم الانسجام بين المباني المختارة، فمن جهة يختار وجوب الزكاة في النقدين وعدمه في مال التجارة، ومن جهة يختار أنهما صنف زكوي واحد لا يضر تبديل أحدهما بالآخر ما دامت المالية محفوظة، لذا خالف نفسه (قدس سره) في موضع آخر ((لأنه قد صرح فيما حكي عنه فيه بأنه إذا كان عنده مائتا درهم ستة أشهر ثم اشترى بها أربعين شاة للتجارة انقطع حول الأصل، لأن الأربعين تتعلق بعين الأصل لا بقيمتها، وصرح بأنه إذا اشترى بنصاب من غير الأثمان –كخمسة من الإبل- استأنف الحول)).

أقول: هذا ما ينبغي أن يقوله في الموضع أعلاه أيضاً ((وصرح أيضاً بأنه إذا كان عنده أربعون شاة سائمة للتجارة ستة أشهر واشترى بها أربعين سائمة للتجارة كان حول الأصل حولها، لأنه بادل بما هو من جنسه، والزكاة تتعلق بالعين، وقد حال عليها الحول))(1).

أقول: هذا اجتهاد مقابل النص لاشتراط مرور الحول على العين، وسيأتي تفصيله في المسألة السادسة بإذن الله تعالى.

وقد برر صاحب الجواهر (قدس سره) مسألة المبسوط بأن الشيخ (قدس سره) ((بناها على أن العرض مردود إلى النقد، فكأنه موجود تمام الحول، خصوصاًبعد أن كانت زكاة التجارة في قيمة المتاع لا عينه، ومراده على الظاهر ما لا يشمل النصاب الزكاتي))(2).

ص: 336


1- جواهر الكلام: 15/271.
2- جواهر الكلام: 15/271.

ثم ذكر (قدس سره) الفروع الآنفة، وقد علمت ما فيها، ولم يتضح الوجه في التفريق بين النصاب الزكاتي وغيره.

فائدة: قال صاحب المدارك (قدس سره): ((واعلم أن شيخنا الشهيد (رحمه الله) ذكر في حواشي القواعد عند قول المصنف: والزكاة تتعلق بقيمة المتاع، وتظهر الفائدة في مثل من عنده مائتا قفيز من حنطة تساوي مائتي درهم ثم تزيد بعد الحول إلى ثلاثمائة درهم، فإن قلنا تتعلق بالعين أخرج خمسة أقفزة أو قيمتها سبعة دراهم ونصفاً، وإن قلنا بالقيمة أخرج خمسة دراهم أو بقيمتها حنطة.

واعترضه جدي (قدس سره) في حواشي القواعد أيضاً بأن ذلك إنما يتم لو لم يعتبر في نصاب زكاة التجارة النصاب الثاني لأحد النقدين وإلا لوجب سبعة لا غير، لأن العشرين بعد الثمانين عفو. وهو مدفوع بأن السبعة والنصف إنما أخذت قيمة عن الخمسة الأقفزة الواجبة في هذا المال، لا زكاة عن الثلاثمائة ليعتبر فيها النصاب الثاني، فإن المائة الزائدة لم يحل عليها الحول كما هو واضح))(1).

(المسألة الثانية) على القول باشتراط النصاب؛ فما هو حد بلوغه؟

قال المحقق (قدس سره) في الشرائع بعد قوله في المسألة السابقة: ((ويقوَّم بالدراهم والدنانير)) قال (قدس سره): ((تفريع: إذا كانت السلعة تبلغ النصاب بأحد النقدين دون الآخر تعلقت به الزكاة لحصول ما يسمى نصاباً)).

وقد علّق السيد صاحب المدارك (قدس سره) تبعاً لجده الشهيد الثاني (قدس سره) وكذا غيرهما(2) على العبارتين فقال معلقاً على العبارة الأولى:

ص: 337


1- مدارك الأحكام: 5/175.
2- نسب الشيخ النراقي (قدس سره) في المستند (9/250) القول بالتفصيل -بين كون الثمن الذي اشترى به المتاع عرضاً فيُكتفى ببلوغ أحدهما، وإلا فالمعتبر نصاب الثمن الذي اشتراه به- إلى الشهيد الأول في الدروس وابن فهد في موجزه والمحقق الثاني (قدس الله أرواحهم جميعاً).

((إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في ذلك بين كون الثمن الذي وقع به الشراء من أحد النقدين وغيره، وهو مشكل على إطلاقه، والأصح أن الثمن إن كان من أحد النقدين وجب تقويم السلعة بما وقع به الشراء كما صرح به المصنف في المعتبر، والعلامة، ومن تأخر عنه، لأن نصاب العرض مبني على ما اشتري به فيجب اعتباره به كما لو لم يشتر به شيئاً، ولقوله (عليه السلام): (إن كنت تربح فيه شيئاً أو تجد رأس مالك فعليك زكاته) ورأس المال إنما يعلم بعد التقويم بما وقع به الشراء.ولو وقع الشراء بالنقدين وجب التقويم بهما، ولو بلغ أحدهما النصاب زكّاه دون الآخر.

ولو كان الثمن عروضاً قوم بالنقد الغالب واعتبر بلوغ النصاب ووجود رأس المال في الحول به خاصة.

ولو تساوى النقدان كان له التقويم بأيهما شاء. ويكفي في استحباب الزكاة بلوغ القيمة النصاب بأحدهما وكذا وجود رأس المال)).

وبنى على تعليقه السابق فعلق (قدس سره) على التفريع الثاني بقوله: ((هذا إنما يتم إذا كان الثمن عروضاً وتساوى النقدان، وإلا وجب التقويم بالنقد الذي وقع به الشراء أو بالنقد الغالب خاصة كما تقدم))(1).

أقول: إشكالهم على إطلاق المحقق (قدس سره) غير دقيق لما فيه من الخلط بين شرطين، أحدهما بذل رأس المال في المتاع وهذا يراعى فيه جنس الثمن لتحقق الزيادة والنقيصة ويصح التفصيل الذي ذكروه وهذه مسألة أخرى، وثانيهما بلوغ النصاب وهذا لا يتوقف على جنس الثمن وإنما يبنى فيه على الإطلاق الذي ذكره المحقق (قدس سره) وهو محل كلامنا.

فإطلاق عبارة المحقق (قدس سره) هو الصحيح لعدة وجوه:-

1- إن موضوع الحكم وهو بلوغ النصاب يتحقق بحصول أحدهما لأن كلاً منهما حد للنصاب، نظير تحقق عنوان البلوغ الذي هو موضوع للتكليف

ص: 338


1- مدارك الأحكام: 5/175-176.

بالأحكام الشرعية بحصول أي من علاماته، ونظير تحقق عنوان حد الترخص بحصول أي حد من خفاء الأذان أو الجدران وهكذا.

2- التطابق بالنتيجة مع ما ورد في الروايات من إرجاع قيمة الأشياء إلى الدراهم في احتساب النصاب ونحن نعلم أنه بعد تغير سعر صرف الدراهم بالدنانير أصبحت العشرين ديناراً تُصرَّف بأزيد من مائتي درهم فنصاب الدراهم هو الأول بلوغاً، ومن تلك الروايات رواية إسحاق بن عمار وفيها (وكل ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود إلى الدراهم في الزكاة والديات)(1).

ولا يستشكل من جهة نقل الشيخ في الخلاف: ((وروى إسحاق بن عمار في حديث الزكاة –أوردناه في تهذيب الأحكام- عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (كل عرض مردود إلى الدراهم والدنانير) وهذا يدل على أن الزكاة متعلقة بالقيمة))(2)

لأن الموجود في التهذيب ما نقلناه.1- إن الذهب نفسه يقيَّم بالدراهم إذا كان مالاً تجارياً كما في رواية إسحاق بن عمار، وفي صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذهب كم فيه من الزكاة؟ قال: إذا بلغ قيمة مائتي درهم فعليه الزكاة)(3).

بل يستفاد من الصحيحة أن نصاب الدنانير الذهبية البالغ عشرين ديناراً ليس مطلقاً وإنما يساوي ما يعادله من الدراهم بناءً على أن الدراهم هي الأصل وقد كان يومئذٍ مائتا درهم بعشرين ديناراً ولما تغير سعر الصرف فالمرجع الدراهم، وورد ذلك صريحاً في صحيحة الحلبي قال: (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الذهب والفضة ما أقل ما يكون فيه الزكاة؟ قال: مائتا درهم وعدلها من الذهب)(4).

ص: 339


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح 7.
2- الخلاف: 2/96، المسألة 109.
3- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح2، 1.
4- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح2، 1.

وقد تنقض بمسألة حاصلها فيما لو اشترى متاعاً بتسعة عشر ديناراً أو كان يملك هذا المقدار نقداً وكانت قيمة هذا النقد أقل من مائتي درهم ثم ارتفعت القيمة لتبلغ مائتي درهم لكن التسعة عشر باقية نفسها وقيمة المتاع بالذهب باقية على تسعة عشر ديناراً لكنها بالدراهم بلغت مائتين؛ فإن العرف لا يرى أنها بلغت النصاب وتعلقت الزكاة فيها.

ويجاب بأن العرف والوجدان قد يقضيان بعدم صدق بلوغ النصاب لارتكاز الرجوع إلى ثمن الشراء –أي التسعة عشر ديناراً- وهو لم يبلغ النصاب غفلة منه عن ما أسسه الشرع المقدس من جعل الدراهم هي المرجع والأساس لحساب النصاب حتى في الذهب.

أما الشيخ النراقي (قدس سره) فإنه بعد أن نقل الأقوال المتقدمة قال: ((وفي كلام بعضهم هنا اضطراب، ولا دليل تاماً على شيء منها.

وحيث كان الدليل على اعتبار النصاب: الإجماع والأصل كما مر، فلازمه جعله أعلى الأمور؛ حيث إنه لا دليل على وجوب الزكاة في الأقل.

ويستفاد من كلام بعضهم اعتبار الأقل))(1).

أقول: قد ذكرنا الدليل على ما اختاره المحقق (قدس سره) أعلاه، وأن الأدلة على اشتراط النصاب عديدة ذكرناها وناقشناها، ولو كان الدليل الإجماع فإن له معقداً متفقاً عليه وهو عنوان النصاب وأنه نصاب النقدين وهو يتحقق ببلوغ أقلهما، فلا يقال أن الإجماع دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المتيقن وهو بلوغ الحد الأعلى لأن المورد ليس من تطبيقاته.

(المسألة الثالثة) قال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((ولا تستحب -أي الزكاة- في المساكن ولا في الثياب والآلات والأمتعة المتخذة للقنية)) وعلق صاحب الجواهر(قدس سره): ((للأصل؛ بلا خلاف أجده بل في التذكرة (لا تستحب

ص: 340


1- مستند الشيعة: 9/250.

الزكاة في غير ذلك من الأثاث والأمتعة والأقمشة المتخذة للقنية بإجماع العلماء).))(1).

أقول: هذا صحيح لعدم الدليل بل لوجود الدليل على العدم كأحاديث العفو ونحوها.

لكن قد تجب الزكاة في العقارات إذا اتخذت للاتجار بها وهنا نحوان:-

1- إذا كان الاتجار بحاصلها كالدار لتأجيره أو البستان لبيع ثمره فهنا تجب الزكاة في هذا الحاصل من باب زكاة النقدين أو النقود كما سيأتي إن شاء الله ولا تجب في نفس قيمة العقار؛ لأنه لم يقصد الاكتساب بنفس العين فتخلّف هذا الشرط.

2- إذا كان الاتجار بنفس العقار، كالمتاجرين ببيع وشراء العقارات بأن يشتروا عقاراً مناسباً ثم ينتظرون ارتفاع سعره فيبيعونه، فهنا تجب الزكاة في قيمة العقار إذا اجتمعت الشروط كبذل رأس ماله فيه ومرور حول عليه ونحوها.

وقد ورد في ذلك خبر الدعائم عن علي (عليه السلام): (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفى عن الخدم والدور والكسوة والأثاث ما لم يُرَد به التجارة)(2).

(المسألة الرابعة) وبنفس الملاك تجب الزكاة في كثير من الأمور التي ورد العفو فيها ولم تذكر فيما تجب فيه الزكاة كبعض الغلات التي تتخذ للاتجار بها وتنطبق عليه الشروط كالفواكه المجففة أو الحبوب ونصابها هنا ومقدار زكاتها غير نصاب زكاة الغلات ومقدارها.

ص: 341


1- جواهر الكلام: 15/292.
2- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 7، ح1.

ومنشأ الفرق ملاك الوجوب، فهناك كونها (مما أنبتت الأرض) أي استفيدت بالزراعة ففيها العشر ونصف العشر، أما هنا فالفائدة بالاتجار بها ومقدار الزكاة ربع العشر.

وتجب الزكاة في الجواهر والأحجار الكريمة إذا انطبقت عليها شروط الوجوب في أموال التجارة ولم تكن للاقتناء الشخصي، وبهذا نحل التعارض بين الروايات المثبتة والنافية للزكاة في جملة من الأمور، وقد مرّت أمثلة على ذلك في الرقيق والخيل.

(المسألة الخامسة) قال المحقق (قدس سره) في الشرائع والشرح المزجي لصاحب الجواهر (قدس سره): (( (إذا ملك أحد النُصُب الزكاتية للتجارة مثل أربعين شاة أو ثلاثين بقرة) أو عشرين ديناراً أو نحو ذلك (سقطت زكاة التجارة) المستحبة (ووجبت زكاة المال) الواجبة (و) ذلك لأنه (لا يجتمع الزكاتان) بلا خلاف كما في الخلاف، بل في الدروس ومحكي التذكرة والمعتبر والمنتهى الإجماع عليه، وفي المسالك ذكر جماعة أن لا قائل بثبوتهما، والأصل فيه قول النبي (صلى الله عليه وآله): (لا ثِنَىً فيصدقة) وقول الصادق (عليه السلام) في حسن زرارة: (لا يزكى المال من وجهين في عام واحد) (ويشكل ذلك على القول بوجوب زكاة التجارة) لعدم الترجيح حينئذ كما ستعرف (و) على كل حال بذلك يخرج عما تقتضيه القاعدة من عدم السقوط ويضعف ما (قيل): من أنه (تجتمع الزكاتان هذه وجوباً وهذه استحباباً) مع أنا لم نعرف قائله كما اعترف به غير واحد))(1).

واعترض صاحب الجواهر (قدس سره) من جهة عدم وجود ((دلالة في شيء مما سمعت على تعيين الساقط في نحو المقام، لكنه مفروغ من كونها زكاة التجارة عند الأصحاب بناءً على الندب معللين له بأن الواجب مقدم على الندب، وفيه أن ذلك عند التزاحم في الأداء بعد معلومية وجوب الواجب

ص: 342


1- جواهر الكلام: 15/279.

وندبية المندوب لا فيما نحن فيه الذي مرجعه إلى معلومية عدم مشروعية أحدهما على وجه لا ينتقل منه إلى التخيير المعلوم عدم تعقله في المقام، ضرورة أنه لا معنى له بين الواجب والندب، ودعوى رجوع الحال إلى تعارض الأدلة من وجه فيرجع إلى الترجيح، ولا ريب في كونه لدليل الواجب واضحة الفساد، ضرورة أن ذلك لا يصلح شاهداً لتعيين الساقط منهما الذي استفدنا سقوطه من الخبرين المزبورين، وليس المقام –أي مقام تعرّف الثابت منهما- من تعارض الدليلين اللذين قد عرفت عدم تعارضهما، ولكن علمنا بدليل خارجي ارتفاع أحدهما المعين في الواقع المبهم عندنا، فلا بد من دليل معتبر يعينه، ولا يكفي الظن الناشئ من اعتبارات ونحوها كما هو واضح، فالمتجه إن لم يثبت إجماع التوقف حينئذ في الحكم بسقوط أحدهما على التعيين، كما أن المتجه الرجوع في العمل إلى أصل البراءة، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه، واحتمال وجوبه هنا لا يصغى إليه، لدوران الأمر بين الواجب والندب))(1).

أقول: المسألة لا موضوع لها لاختلاف الملاك فيهما فزكاة الحيوان تجب في ما إذا اتخذ للاقتناء والاستنماء بالتوالد والتسمين، أما زكاة مال التجارة فتجب فيه إذا اتخذ للاسترباح بالبيع والشراء، والذي تتحقق فيه شروط الزكاة –كحولان الحول- هو الأول.

وقد أشرنا إلى نكتة تعلق الزكاة بهما (صفحة 319) إذ الزكاة فيهما واحدة لكن الشارع المقدس رضي بما دون الرأس الكامل في البقر والإبل بشيء آخر ذكرناه هناك. وينتفي الإشكال الذي ذكره المحقق (قدس سره).

وما قاله صاحب الجواهر (قدس سره) من عدم صحة الترجيح بين الزكاتين صحيح لأن غاية ما تدل عليه الصحيحة نفي إحدى الزكاتين من دون تحديد أحدهما، ولا مجال لتقديم الوجوب بلحاظ قوة مصلحته لأن المورد ليس من تطبيقاته، وإنما الترجيح للحكم الذي يكون المورد موضوعاً له ولو كان

ص: 343


1- جواهر الكلام: 15/279-280.

استحبابياً، أي أن المورد من باب التعارض بين الدليلين وليس من باب التزاحم بين الامتثالين.وعن الإشكال على القول بالوجوب قال (قدس سره): ((بل لعل ظاهر دليل عدم الجمع هنا عدم التخيير كما هو ظاهر الأصحاب أيضاً فتعيّن حينئذٍٍ كون الثابت أحدهما، ولا دليل على التعيين كما سمعته في الندب، وترجيح المالية بالاتفاق على وجوبها وتعلقها بالعين، أو التجارة بأنها أحظّ للفقراء مع قطع النظر عما فيه غير مجدٍ فيما نحن فيه إن لم يثبت إجماع، إذ مرجعه إلى ما لا يصلح الاعتماد عليه في تعيين الساقط منهما، لعدم كون المقام من التعارض عند التأمل، كما أوضحناه سابقاً، ولعله إلى ذلك كله أومأ المصنف بقوله: (ويشكل ذلك على القول بالوجوب) لأن مراده على الظاهر –وبقرينة ما ذكرناه في المعتبر (أنه يشكل) - تعيين الثابتة من الساقطة على تقدير الوجوب، لعدم صلاحية ما ذكروه لذلك، وقد عرفت مثله على تقدير الندب فتأمل.

أقول: ظهر مما تقدم عدم الحاجة إلى كل هذه التفاصيل لأن لكل حكم منهما موضوعه وشروطه.

فالمتجه أيضاً إن لم يثبت إجماع التوقف في الحكم وفي العمل على الاحتياط، لمعلومية انقطاع أصالة البراءة بيقين الشغل، فيؤدي الزكاة غير ناوٍ خصوص أحدهما، مقتصراً على أقلهما قدراً لسلامة الأصل هنا في نفي الزائد، لعدم ارتباط جزء منهما بالآخر، وكذا جواز بيع العين لعدم معلومية تعلق الحق فيها لاحتمال كون الثابتة زكاة التجارة، ومحلها الذمة كما عرفت لا العين، فتأمل))(1).

(المسألة السادسة) قال المحقق (قدس سره) في الشرائع والشرح المزجي لصاحب الجواهر (قدس سره): (( (لو عاوض أربعين سائمة) كانت عنده للتجارة بعض الحول (بأربعين سائمة للتجارة سقط وجوب المالية والتجارة واستأنف الحول

ص: 344


1- جواهر الكلام: 15/280-281.

فيهما) فإن مضى وشرائط كل منهما مجتمعة قدمت المالية بناءً على ما سمعت، أو توقف في الحكم ورجع في العمل إلى ما ذكرنا بناءً على ما قدمنا، وإن اختلت الشرائط في إحداهما ثبتت الأخرى، ولا يحكم بسقوط أحدهما على التعيين قبل مضي الحول، ولذلك قال: استأنف الحول فيهما (وقيل) والقائل الشيخ: (بل تثبت زكاة المال مع تمام الحول دون التجارة) من غير استئناف (لأن اختلاف العين) مع الاتفاق في الجنس (لا يقدح في الوجوب) في المالية (مع تحقق كلي النصاب في الملك، والأول أشبه) بأصول المذهب، وبالمستفاد من نصوص الباب وهو كذلك بالنسبة إلى المالية، لما عرفته سابقاً من ظهور النص والفتوى في اعتبار بقاء شخص النصاب تمام الحول، أما التجارة فعن ظاهر المفيد وابن بابويه اعتبار البقاء فيها أيضاً، وبه صرح في المعتبر لأنه مالٌ ثبتت فيه الزكاة فيعتبر بقاؤه كغيره، وبأنه مع التبدل تكون الثانية غير الأولى، فلا تجب فيها الزكاة، لأنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، ولظاهر ما حكي من الإجماع على اعتبار ما يعتبر في المالية فيها، ولإطلاق ما دل على اعتبار البقاء، كقوله (عليه السلام): ( كل ما لم يحل عليه الحول عند ربه فلا زكاة فيه) الشامل للمالية والتجارة، واختاره في المدارك وعن غيرها، واستدل عليه زيادة على ما عرفت بأن مورد النصوص المتضمنة لثبوت هذه الزكاة السلعة طول الحول، كما يدل عليهقوله (عليه السلام) في حسنة ابن مسلم المتقدمة: (وإن كان حبسه بعد ما يجد رأس ماله فعليه الزكاة) وفي رواية أبي الربيع: (إن كان أمسكه يلتمس الفضل على رأس المال فعليه الزكاة) وقريب منهما صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق الواردة في الزيت.

لكن قد يقوى خلاف ذلك وفاقاً للعلامة ومن تأخر عنه، بل هو صريح المحكي عن المبسوط أيضاً، بل في التذكرة الإجماع عليه، بل في محكي إيضاح الفخر لا خلاف بين الكل في بناء حول التجارة على حول الأولى، وإنما النزاع في بناء العينية، لظهور النصوص في عدم اعتبار ذلك كصحيح محمد: (كل مال عملت به فعليك فيه الزكاة إذا حال عليه الحول) والضمير المجرور بعد وصف

ص: 345

المال بالعمل به لا يقتضي التشخيص ضرورة صدقه على المال المتقلب، وخبر شعيب: (كل شيء جر عليك المال فزكه) ))(1).

أقول: الخلاف المذكور لا موضوع له، لأن الزكاة المالية تجب فيما اقتناه واستنماه بالتكاثر، بينما زكاة أموال التجارة تجب فيما قصد الاكتساب به عند المعاوضة فموضوعهما مختلف، كالفرق بين استفادة الغلات من الأرض وبين الاسترباح بالاتجار بها.

فالحكم الجاري في مفروض المسألة هو زكاة أموال التجارة مع ملاحظة اشتراط بقاء العين حولاً خلافاً لما قواه (قدس سره) تبعاً للعلامة (قدس سره) وغيره.

ص: 346


1- جواهر الكلام: 15/281-283.

البحث السابع: زكاة العملات المتداولة

اشارة

ص: 347

ص: 348

بسم الله الرحمن الرحيم

* البحث السابع: زكاة العملات المتداولة(1)

وجوب الزكاة في النقدين المتداولين في العصور السابقة وهما الدينار الذهبي والدرهم الفضي ثابت قطعاً، وعليه إجماع علماء المسلمين، وقد ذُكرا في القرآن الكريم، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (التوبة:34-35)، والقدر المتيقن من الآية زكاة النقدين.

وفي تفسير الميزان عن أمالي الشيخ بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت هذه الآية: كل مال يؤدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض)(2).

أقول: هذا معنى للكنز على نحو الحقيقة الشرعية.

ص: 349


1- (*) ابتدأ إلقاء البحث يوم 29/شوال/1430 الموافق 2009/10/19.
2- فائدة: كان معاوية وأمثاله من حاشية الخليفة عثمان يروّجون أن الآية نزلت في أهل الكتاب وليس في المسلمين، وقد أصرّوا عند كتابة مصحف عثمان أن يحذفوا الواو في بداية المقطع من الآية لتكون مختصة بأهل الكتاب مع الجزء السابق من الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ...» إلى آخر الآية حتى هدّدهم أبي بن كعب بالقتال إن لم يلحقوا الواو فألحقوها (راجع الدر المنثور). وقد واجههم الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري وكان ينادي في الناس: بشّر الكانزين بكيّ في الجباه وكيّ في الجُنوب وكيّ في الظهور. وفي إحدى المرات قال له معاوية: ما هذه فينا، هذه في أهل الكتاب، قلت: إنها لفينا وفيهم (راجع مصادر التأريخ والتفسير ومنها تفسير الميزان في البحوث الملحقة بالآية).

والروايات المعتبرة في وجوب زكاة النقدين متواترة، سواء منها ما ذكرتهما ضمن الأصناف التسعة –وقد تقدمت ضمن البحث الرابع (صفحة 211)- أو ما ذكرت الوجوب فيهما معاً أو في أحدهما خاصة أو ما أشارت إلى مقدار نصابهما الذي تجب فيه الزكاة أو مقدار زكاتهما نفسها وغيرها من المضامين.

وقد اقتصر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بمن فيهم المعاصرون على وجوب الزكاة في خصوص الدينار الذهبي والدرهم الفضي ولم يتوسعوا بالوجوب إلى العملات الأخرى كالدينار والدرهم الورقيين والدولار والتومان والريال واليورو وغيرها وتركوا البحث والتحقيق في هذه المسألة في كتاب الزكاة، وإن لم يغفلوا عن الإشارة إلى حكمهما وهو عدم الوجوب، نعم يمكن الاستئناس بكلامهم في مسألة الدينار والدرهم المغشوشين بإضافة معادن أخرى إلى الذهب والفضة وكلامهم في اشتراط كون الذهبوالفضة مسكوكين بسكة المعاملة للاستدلال على هذه المسألة كما سيأتي بإذن الله تعالى.

وإذا كان هذا الإغفال مفهوماً في الأزمنة الماضية لاقتصار التعامل على الدينار الذهبي والدرهم الفضي(1)، فإن هذا غير مقبول من الفقهاء في العصور المتأخرة، ولا بد من البحث في المسألة(2)، حتى أن سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر

ص: 350


1- توجد روايات تشير إلى وجود (الفلس) يومئذٍ وهو من النحاس لكنه لا يمثل عملة متداولة لضآلة مقداره فيتعامل به أحياناً، ويُنظر إليه كعروض تارة أخرى أي أنه ليس متمحضاً في الثمنية كالعملات.
2- في حدود المصادر المتوفرة لدي، وجدتُ إشارة إلى هذا البحث في كتاب زكاة الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف): 1/280، وسننقلها عنه ونناقشها بإذن الله تعالى، كما تعرض إلى البحث بشكل مقتضب المرحوم السيد محمد الشيرازي (قدس سره) في كتابه (الفقه): 29/400. كما تعرض عدد من الأعلام للمسألة عرَضاً عند بحثهم عن (الأوراق المالية) كالمرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره) في تقريرات بحثه بقلم السيد عز الدين بحر العلوم (بحوث فقهية: 48) وفي مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 5/6 صفحة 59 للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وكتاب (بحوث فقهية معاصرة) للشيخ حسن الجواهري، ج2.

(قدس سره) لم يتعرض لهذا البحث في كتابه (ما وراء الفقه) الذي هو ألصق من غيره بمثل هذه الأبحاث واكتفى بحصر الوجوب في الدينار والدرهم القديمين وأصرَّ على عدم الوجوب في غيرهما واعتبر البحث في المسألة بلا موضوع، قال (قدس سره): ((إن هذه الزكاة غير موجودة الآن على وجه الأرض أصلاً. لأنه لا يوجد أي دولة تتداول أسواقها دنانير الذهب أو دراهم الفضة، وما هو الموجود منها في المتحف قليل نسبياً.

وإنما التعرض لهذه الزكاة في الفقه لفوائد منها:-

1- حفظ الفقه الإسلامي بكل تفاصيله جيلاً بعد جيل.

2- تسجيل المسألة، حتى ما إذا حصل تداول الدنانير أو الدراهم في المستقبل في أي مكان من الأرض، شمله الحكم ووجب عليهم دفع الزكاة))(1).

أقول: جزى الله تعالى السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) خير جزاء المحسنين حين حفظوا لنا أحاديث وروايات هذه المسألة وغيرها وعمّقوا البحث فيها ولم يعرضوا عنها لعدم الجدوى، وها نحن نعيد قراءة الروايات لنأخذ منها أحكام زكاة العملات اليوم. مضافاً إلى أن أحكام زكاة النقدين –كالنصاب ومقدار الزكاة وغيرها- جارية في مال التجارة الذي انتهينا إلى وجوب الزكاة فيه في المسألة السابقة؛ فلو لم تكن هذه التفاصيل محفوظة في أبحاث زكاة النقدين لاحتجنا إلى مؤونة لإجرائها في زكاة مال التجارة، فالبحث ليس قليل الأهمية والجدوى.

الدليل على انحصار الوجوب بالدينار الذهبي والدرهم الفضي:

ويمكن صياغة أكثر من وجه لهذا الحصر:-

(الأول) الإجماع، ويرد عليه أنه لا إجماع لعدم تناول المسألة من المعاصرين فضلاً عن القدماء، ولو فرضناه فإنه على الوجوب في النقدين الذهب والفضة

ص: 351


1- ما وراء الفقه، ط بيروت: 2/62.

وليس على نفي الوجوب في غيرها، ولو تنزلنا فإنه مدركي.

(الثاني) الأصل بتقريب أن الروايات دلت على الوجوب في هذين فقط فينفى الوجوب في غيرها بأصالة البراءة.

ويرد عليه: إن التمسك بالأصل لا ينفع إذا تم الإطلاق في الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(الثالث) الروايات التي حصرت الوجوب بهما، قال السيد الخوئي (قدس سره) في مسألة الدينار والدرهم المغشوشين: ((وقد يفرض بلوغ الغش من الكثرة حداً لا يصدق معه اسم الذهب والفضة ولا يطلق عليه عنوان الدرهم والدينار منهما، كما لو كان المزيج بمقدار النصف، ولاسيما إذا كان أكثر كالليرات الاستامبولية –حيث إن ذهبها الخالص لا يتجاوز الثلث، أي يشتمل كل مثقال منها على ثمان حبات من الذهب- وكالدراهم المتداولة في عصرنا الحاضر، ففي مثل ذلك يشكل وجوب الزكاة وان بلغ خالصهما للنصاب، بل لا يبعد العدم، لحصر الوجوب في صحيحة جميل بالدرهم والدينار، أي بما كان مصداقاً للذهب والفضة المسكوكين غير المنطبق على المقام حسب الفرض، ولا دليل على أن الفضة أو الذهب الخالصين المنبثين في مطاوي تلك المغشوشات يتعلق بهما الزكاة))(1).

أقول: يريد (قدس سره) بصحيحة جميل ما رواه الشيخ بإسناده عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله أو أبي الحسن (عليهما السلام) أنه قال: (ليس في التبر زكاة إنما هي على الدنانير والدراهم)(2).

وقد أشكل (قدس سره) على السند بقوله: ((غير أن في السند جعفر بن محمد بن حكيم، ولم يوثق في كتب الرجال، بل حكى الكشي رواية في ذمه وإن كان الراوي لتلك الرواية مجهولاً.

ص: 352


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 23/291.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 8، ح5.

وكيفما كان، فهذه الرواية ضعيفة عند القوم، وتعبير المحقق الهمداني عنها بالموثقة في غير محله على مسلكه.

نعم، الظاهر صحة الرواية، لوجود الرجل في أسناد كامل الزيارات، فلا بأس بالاعتماد عليها))(1).

أقول: ليس من دأبنا التعويل على المناقشة في السند وهي هنا واضحة لأن كبرى التوثيق بالوقوع في أسناد كامل الزيارات ليست تامة وقد عدل (قدس سره) بنفسهعنها مضافاً إلى ما حكي عن المامقاني أنه قوّى ((كونه إمامياً ممدوحاً))(2)، وإنما نناقش الاستدلال بأكثر من وجه:-

1- إن الحصر هنا إضافي أي بلحاظ التبر الذي هو الذهب غير المسكوك بسكة المعاملة، فالوجوب لا يتعلق بكل ذهب وإنما بخصوص الدينار المسكوك.

2- إن الرواية تدل على عكس مطلوبهم لإمكان التمسك بإطلاق الدينار والدرهم في الخبر لتشمل الورقيين ونحوهما.

(الرابع) إن موضوع وجوب الزكاة في النقدين مركب من جزئين، أحدهما عنوان الدينار والدرهم، والثاني عنوان الذهب والفضة، لذا فقد أشارت الروايات إلى أحدهما تارة وإلى الآخر تارة أخرى.

فغير الدينار الذهبي والدرهم الفضي وإن صدق عليه الدينار والدرهم إلا أنه جزء الموضوع ولم يتحقق الجزء الآخر، ويظهر من كلام السيد الخوئي (قدس سره) الذي سننقله (صفحة 365) أن بناءه على هذا.

ويرد عليه ما سيأتي من أن الذهب والفضة غير ملحوظين في الدينار والدرهم إلا من جهة كونهما مادة لهما والملحوظ هو الدينار والدرهم من جهة كونهما عملات متداولة بين الناس؛ وسنذكر تفاصيله بإذن الله تعالى في الأدلة على تعميم الوجوب.

ص: 353


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 23/ 267-268.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 1/300.

(الخامس) الأولوية؛ بأن يقال: إن الزكاة لا تجب في الدراهم والدنانير المغشوشة التي نصفها من المعادن الأخرى ونصفها من الذهب والفضة –كما تقدم في كلام السيد الخوئي (قدس سره)- فيكون من الأولى عدم وجوبها في العملات الورقية والمعدنية المتداولة لعدم وجود ذهب وفضة فيها أصلاً.

ويرد عليه:-

1- إن عدم وجوب الزكاة في الدراهم والدنانير المغشوشة أول الكلام والمشهور الوجوب، وفي الجواهر ((عدم الخلاف فيه بل نسبه غير واحد إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليه))(1)

وسيأتي التفصيل بإذن الله تعالى.

2- ما ذكرناه من أن الذهب والفضة لا مدخلية لهما في الوجوب، وإنما تجب الزكاة في الدينار والدرهم باعتبارهما عملة مسكوكة.

3- ما يقال من أن العملات المتداولة لها غطاء من الذهب مودع في البنوك المركزية للدول ويمكن تحويل العملات إلى ذهب متى شاء صاحبها فقوة العملة ناشئة من تعهد الدولة التي تسكّها بتوفير قيمتها من الذهب لمالكها متى شاء، وقد صرحت موثقة زرارة وبكير الآتيتين أن كون المال مما يباع بذهب وفضة كافٍ لتعلق الزكاة.

لكن الإنصاف عدم الركون إلى هذا الوجه لانفكاك العملات اليوم عن الذهب، ولو قلنا بوجود ودائع من الذهب في قباله فإنه ليس من المسكوك، مضافاً إلى أن هذاالرصيد من الذهب هو (غطاء) للعملة للمحافظة على قيمتها وليس هو عوضاً عنها. أما أنه يباع بالذهب فهذا مطرد في غيره من العروض.

أدلة عموم الوجوب:

في مقابل ذلك يمكن القول إن الظاهر من الروايات أنها ذكرت النقدين لا على نحو الحصر والتقييد بهما وإنما باعتبارهما العملة المتداولة يومئذٍ والتي

ص: 354


1- جواهر الكلام: 15/195.

تتوسط في دوران عجلة الاقتصاد من بيع وشراء ونحوهما، وإلا فإن موضوع الزكاة هي العملة المتعارفة فتجب فيها الزكاة إذا بلغت النصاب وجُمِّدت حولاً والذي يدلّ على ذلك وجوه:

(الأول) إن موضوع الزكاة –بحسب عدد متواتر من الروايات في أبواب مختلفة- هو (المال) –بالمعنى الخاص أي النقود أو الفلوس بلساننا وليس كل ما يُتموَّل- فالعبرة بالمالية أي كونه من النقود التي تمثل الرصيد والمقياس المالي لما يمتلكه الشخص، وإنما وجبت الزكاة في الذهب والفضة باعتبارهما (مالاً) أو (نقوداً) متداولة يومئذٍ.

وفي ضوء هذا نعتقد أن الروايات التي أوجبت الزكاة فيها –ضمن الأصناف التسعة- وإنما ذكرت عنوان الذهب والفضة على أنهما مشيران إلى النقدين الدينار والدرهم، وليس بعنوان الذهب والفضة، لذا لا يمكن التمسك بإطلاقهما لإثبات وجوب الزكاة في كل ذهب وفضة وإن لم يكونا مسكوكين بسكة المعاملة، بل دلّت الروايات على عدم الوجوب في غير المسكوك.

ولذا أصبح متداولاً لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) القول: ((تجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة)) فذكرهما هنا ليس إلا للبيان فكانت بدل بيان كعطف البيان وللإشارة إلى ما هو المتعارف والموجود في أيدي الناس، وإلا فلا مدخلية للذهب والفضة إلا من هذه الناحية، فكل العملات والنقود المالية تدخل في الموضوع.

وقد مرت علينا في الأبحاث السابقة بعض الروايات الدالة على ذلك ففي ذيل صحيحة محمد بن مسلم قال: (وسألته –أي أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل توضع عنده الأموال يعمل بها، فقال: إذا حال عليها الحول فليزكها)(1) وفي مقطوعته قال: (كل مال عملت به فعليك فيه الزكاة إذا حال عليه الحول)(2)، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الزكاة

ص: 355


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 13، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 13، ح8.

على المال الصامت الذي يحول عليه الحول ولم يحركه)(1)

وصحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يفيد المال، قال: لا يزكيه حتى يحول عليه الحول)(2).وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وضريس عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: (أيما رجل كان له مال موضوع حتى يحول عليه الحول فإنه يزكيه)(3).

بل تصرح موثقة زرارة وبكير أن العبرة بكونه مالاً يباع بذهب أو فضة ولم يؤخذ الذهب والفضة بعنوانهما، وهي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال (عليه السلام): (ليس في شيء أنبتت الأرض ... غير هذه الأربعة الأصناف وإن كثر ثمنه زكاة إلا أن يصير مالاً يباع بذهب أو فضة تكنزه)(4).

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات من جهة التمسك بإطلاق عنوان (المال) بمعنى (النقود) ليشمل العملات المتداولة في كل عصر وإن لم تكن من الذهب والفضة، وتقييد المال بالعملات والنقود لا يشمل كل ما يتمول كالأعيان والعقارات من جهة وصف المال بالصامت في صحيحة زرارة المتقدمة وب-(الصامت المنقوش) في صحيحة علي بن يقطين الآتية (صفحة 359) مضافاً إلى ظهور المال في الروايات المذكورة في النقود.

والروايات التي ورد فيها عنوان المال الظاهر في النقود مطلقاً منتشرة في أبواب عديدة فمنها صحيحة الحلبي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما في الخُضَر؟ قال: وما هي؟ قلت: القضب والبطيخ ومثله من الخضر، قال: ليس عليه شيء إلا أن يباع مثله بمال فيحول عليه الحول ففيه الصدقة)(5).

ص: 356


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 14، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 15، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 10، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 9، ح9.
5- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 11، ح2.

ومنها ما ورد في عدم جواز المضاربة بالمال الذي لم تدفع زكاته كموثقة سماعة قال: (سألته عن الرجل يكون معه المال مضاربة هل عليه في ذلك المال زكاة إذا كان يتجر به؟ فقال: ينبغي له أن يقول لأصحاب المال: زكوه، فإن قالوا: إنا نزكيه فليس عليه غير ذلك، وإن هم أمروه بأن يزكيه فليفعل، قلت: أرأيت لو قالوا: إنا نزكيه والرجل يعلم أنهم لا يزكونه، فقال: إذا هم أقروا بأنهم يزكونه فليس عليه غير ذلك وإن هم قالوا إنا لا نزكيه فلا ينبغي له أن يقبل ذلك المال ولا يعمل به حتى يزكيه (يزكوه) )(1).

وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تأخذن مالاًَ مضاربة إلا ما تزكيه أو يزكيه صاحبه)(2).ومنها صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يفيد المال، قال: لا يزكيه حتى يحول عليه الحول)(3).

وصحيحة عبد الله بن سنان: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل كان له مال موضوع حتى إذا كان قريباً من رأس الحول أنفقه قبل أن يحول عليه أعليه صدقة؟ قال: لا)(4).

ومنها ما ورد في زكاة مال الصغير والمجنون والعبد إذا اتُجر به كصحيحة أبي بصير قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليس على مال اليتيم زكاة، وإن بلغ اليتيم فليس عليه لما مضى زكاة ولا عليه فيما بقي حتى يدرك، فإذا أدرك فإنما عليه زكاة واحدة ثم كان عليه مثل ما على غيره من الناس)(5).

(الثاني) ما ورد من التعبير في عدة روايات ب-(الأثمان) وهو عنوان شامل لكل العملات التي يمكن أن تكون ثمناً ووسيطاً في المداولات التجارية ولا يختص بالدينار والدرهم فنتمسك بإطلاقه، كما في ذيل صحيحة الحلبي المتقدمة

ص: 357


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 15، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 15، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 15، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 15، ح2.
5- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح3.

(صفحة 356): (وعن الغضاة من الفرسك وأشباهه فيه زكاة؟ قال: لا، قلت: فثمنه؟ قال: ما حال عليه الحول من ثمنه فزكّه)(1) وموثقة زرارة وبكير المتقدمة (صفحة 356).

وقد عبر عن الثمن بالغلة من باب حذف المضاف في بعض الروايات كموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس على البقول ولا على البطيخ وأشباهه زكاة إلا ما اجتمع عندك من غلته فبقي عندك سنة)(2).

وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس على الخضر ولا على البطيخ زكاة ولا على البقول وأشباهه زكاة إلا ما اجتمع عندك من غلته فبقي عندك سنة)(3).

لا يقال: إن سائر العروض مما يمكن جعلها أثماناً كما في المقايضة المعروفة حتى اليوم فلا خصوصية للعملات.

فإنه يقال: إن المراد بالأثمان الأمور المتمحضة في الثمنية وهي العملات أما العروض فإنها في الغالب من المبيعات وليس الأثمان.

وقد طبقوا هذا الوجه من التعميم في مسألة أخرى من الزكاة وهي إمكان دفع القيمة بدل العين الزكوية، قال السيد السيستاني (دام ظله الشريف): ((كما يجوز دفع القيمة من النقدين، وما بحكمهما من الأثمان، كالأوراق النقدية))(4).وقال الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): ((يجوز دفع القيمة عن الزكاة من النقدين وما بحكمهما من الأثمان كالأوراق النقدية))(5).

ودليلهم روايات عديدة كصحيحة البرقي قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): هل يجوز أن أخرج عما يجب في الحرث من الحنطة

ص: 358


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 11، ح2.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 11، ح7، 10.
3- المصدر، ح10.
4- منهاج الصالحين: 1/356، المسألة (1101).
5- منهاج الصالحين: 2/22، المسألة (39).

والشعير وما يجب علي الذهب دراهم قيمة ما يسوى أم لا يجوز إلا أن يخرج عن كل شيء ما فيه؟ فأجاب (عليه السلام): أيما تيسّر يخرج)(1).

أقول: إن النصوص وإن ذكرت الدرهم الفضي وفي بعضها (الورق) إلا أنهم جرّدوا عن الخصوصية لفهمهم عنوان الأثمان.

(الثالث) ما ورد في الروايات من جعل موضوع الزكاة (الصامت المنقوش) وعنونه الفقهاء (قدس الله أرواحهم) باشتراط كون النقدين منقوشين بسكة المعاملة، والصامت عنوان عام لكل الأموال أي النقود، مقابل الناطق وهو الحيوان، والمنقوش أي المضروب عليه بنقش العملة المتداولة وإن انصرف يومئذٍ إلى الذهب والفضة، وليس كل نقش لأن الحلي التي لا زكاة فيها منقوشة أيضاً، فالحكم لا يختص بدينار الذهب والفضة وإنما يشمل كل العملات التي تسكها الدول للتعامل بها لصدق الصامت المنقوش عليها، ومن تلك الروايات صحيحة علي بن يقطين عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: (قلت له: إنه يجتمع عندي الشيء (الكثير قيمته) فيبقى نحواً من سنة أنزكيه؟ فقال: لا، كل ما لم يحُل عليه الحول فليس عليك فيه زكاة، وكل ما لم يكن ركازاً فليس عليك فيه شيء، قال: قلت: وما الركاز؟ قال: الصامت المنقوش، ثم قال: إذا أردت ذلك فاسبكه فإنه ليس في سبائك الذهب والفضة ونقار الفضة شيء من الزكاة)(2).

وصحيحة زرارة التي مرت (صفحة 356) عن أبي جعفر (عليه السلام): (الزكاة على المال الصامت الذي يحول عليه الحول ولم يحركه) ويراد به العملة والنقد، فنتمسك بإطلاق العنوان.

ص: 359


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلات، باب 9، ح1، وراجع الباب 14 من أبواب زكاة الذهب والفضة والباب 9 من أبواب زكاة الفطرة.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 8، ح2.

(الرابع) إلزامهم بالتعميم الذي ذكروه في باب المضاربة فإنهما من باب واحد، فيصلح هذا التعميم هناك وجهاً هنا، قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((الثاني –من شروط صحة المضاربة- أن يكون –مال المضاربة- من الذهب أو الفضة المسكوكينبسكة المعاملة، بأن يكون درهماً أو ديناراً، فلا تصح بالفلوس، وبالعروض. بلا خلاف بينهم، وإن لم يكن عليه دليل سوى دعوى الإجماع. نعم تأمَّلَ فيه بعضهم، وهو في محله لشمول العمومات، إلا أن يتحقق الإجماع، وليس ببعيد، فلا يترك الاحتياط))(1).

أقول: ونحن نتمسك هنا بمثل تلك العمومات، بل هي هنا أكثر وأوضح والإجماع غير مانع من التعميم ولا يوجب الاحتياط لورود عدة أمور عليه منها:-

1- إنه مدركي منشأه ورود الروايات بدفع دراهم للمضاربة فاقتصروا عليها بعد ضم الدنانير للقطع بوحدة الحكم فيهما.

2- إن أكثر الروايات ذكرت عنوان (المال) كصحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يعمل بالمال مضاربة، قال: له الربح وليس عليه من الوضيعة شيء إلا أن يخالف عن شيء مما أمر صاحب المال)(2)

فلا خصوصية للدينار والدرهم ومن هنا صح التعميم.

3- إن الإجماع منقول بحسب ظاهر عبارته (قدس سره)، ولو سُلِّم فإنه على صحة المضاربة بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية وليس على بطلان المضاربة بغيرهما.

4- يحتمل أنهم أرادوا بهذا الشرط الحصر الإضافي أي لبيان عدم جواز المضاربة بالمتاع أو سائر الأعيان أو بالدين ما لم يقبضه وهذه كلها أحكام صحيحة.

ص: 360


1- المباني في شرح العروة الوثقى من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 31/11.
2- وسائل الشيعة: كتاب المضاربة، باب 1، ح3.

فلا إجماع على منع المضاربة بغير الدينار الذهبي والدرهم الفضي وحينئذٍ لا يكون هذا الشرط مانعاً من صحة المضاربة بسائر النقود ولا محيص عن القول بالتعميم لأن لازم كلامه (قدس سره) غلق باب المضاربة في عصرنا الحاضر لعدم وجود الدينار الذهبي والدرهم الفضي، وهذا مما لا يستطيع فقيه الالتزام به. ونتمسك بنفس وجوه التعميم هنا، بل هي هنا أوضح كما قدمنا.

إن قلتَ: يوجد فرق بين المسألتين فالتعميم في مسألة المضاربة لا يلزم منه التعميم في مسألة زكاة النقدين لوجود المانع هنا وهو ما دل على اقتصار الوجوب على النقدين من الأصناف التسعة.

قلتُ: هذا ليس مانعاً وسنجيب عنه في الإشكالات الملحقة ودفعها إن شاء الله تعالى.

(الخامس) تقريب بعض الروايات:

(منها) ذيل صحيحة علي بن يقطين المتقدمة (صفحة 359) وفيها (فإنه ليس في سبائك الذهب ونقار الفضة شيء من الزكاة) بتقريب ظهورها في إطلاق وجوب الزكاة فيما لم يسبك وكان مسكوكاً بسكة المعاملة، وإن لم يكن اسمه ديناراً أو درهماً وهذا من باب الاستظهار وليس من باب المفهوم حتى يقال أنه لا إطلاق له.ولذا فإنهم لو يتوقفوا في وجوب الزكاة في الليرات العثمانية الذهبية مثلاً مع أنها ليست دنانير.

(ومنها) خبر جميل المتقدم (صفحة 352) وفيه: (ليس في التبر زكاة وإنما هي على الدنانير والدراهم) بتقريب ظهوره في الحصر الإضافي في الدينار والدرهم فلا خصوصية لهما وإنما تجب الزكاة في كل العملات ما دامت ليست تبراً أي سبائك، قال بعض أعلام العصر: ((ومقابلة الدينار والدرهم بالتبر لعله يظهر

ص: 361

منه أن الموضوع مطلق المسكوك في مقابل غيره فلا خصوصية لعنوان الدينار والدرهم فيشمل مثل الدولار والأشرفي وغيرهما من مسكوكات النقدين))(1).

إن قلتَ: لو سلمنا التقريب في الروايات فإنها تعم العملات الأخرى إذا كانت من الذهب أو الفضة بمقتضى المقابلة.

قلتُ: إن العملات المتداولة وإن لم تكن من الذهب والفضة إلا أنها تساوي مقداراً منهما بمقدار قيمة العملة التي تتعهد الحكومة بدفعه مضافاً إلى ما قلناه من عدم مدخلية الذهب والفضة في موضوع الزكاة إلا من جهة كونهما مكوّنين للعملة.

(السادس) ما ورد من تعليل صحة التعامل بالدراهم والدنانير المغشوشة ووجوب الزكاة فيها بكونها رائجة ومتداولة وليست مزورة وإن كان مقدار الغش فاحشاً يتجاوز النصف، فالعبرة في كونها عملات متداولة وليس في كونها من الذهب والفضة. وورد في ذلك خبر زيد الصائغ قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت في قرية من قرى خراسان يقال لها: بخارى، فرأيت فيها دراهم تُعمل ثلث فضة وثلث مِسّاً(2)

وثلث رصاصاً، وكانت تجوز عندهم، وكنت أعملها وأنفقها، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا بأس بذلك إذا كان تجوز عندهم، فقلت: أرأيت إن حال عليها الحول وهي عندي وفيها ما يجب عليّ فيه الزكاة أُزكيها، قال: نعم، إنما هو مالك، قلت: فإن أخرجتها إلى بلدة لا ينفق فيها مثلها فبقيت عندي حتى حال عليها الحول أزكيها؟ قال: إن كنت تعرف أن فيها من الفضة الخالصة ما يجب عليك فيه الزكاة فزكِّ ما كان لك فيها من الفضة الخالصة (من فضة) ودع ما سوى ذلك من الخبيث، قلت: وإن كنت لا أعلم ما فيها من الفضة الخالصة إلا أني أعلم أن فيها ما تجب فيه

ص: 362


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 1/300.
2- المِسّ –بالكسر – هو النحاس.

الزكاة؟ قال: فاسبكها حتى تخلُص الفضة ويحترق الخبيث ثم تزكي ما خلص من الفضة لسنة واحدة)(1).

وتقريب الاستدلال بالتعليل الذي ذكره (عليه السلام) بقوله معللاً صحة التعامل بها ووجوب الزكاة فيها بأنها تجوز عندهم، وقوله (عليه السلام): (إن كنت تعرف..) لا يقدح في التقريب لأنه يشير إلى تحقق النصاب في الفضة الموجودة.وقد نوقش الخبر من جهة السند لأن زيداً الصائغ ((مجهول لم يذكر في كتب الرجال بل لم يذكر له خبر غير هذا الخبر فراجع جامع الرواة للأردبيلي، وعمل المتأخرين به غير جابر مضافاً إلى عدم إحراز كون مدرك المفتين هذا الخبر))(2)

في إشارة إلى ما في الجواهر والمستمسك من انجبار الخبر بعمل الأصحاب(3).

أقول: يصلح الخبر للتأييد على قواعدهم، وللاستدلال على مبانينا لأن انسجام الخبر مع منظومة الأخبار في المسألة قرينة مفيدة للاطمئنان بصدوره ولا يقدح فيه عدم معرفة حال أحد الرواة لخفاء حال كثير منهم عند من يعاصرهم فضلاً عمّن أتى بعدهم بقرنين من الزمان.

وقد قرّبتُ الحالة بمن يشكل لوحة أو بناءً من أجزاء معلومة المواضع فيها بترقيمها ونحوه وبقيت عنده قطعة غير معلومة الموضع إلا أن البناء اكتمل وفيه فراغ لا يسدُّه إلا هذه القطعة فيحصل الاطمئنان بأن موضعها هو هذا. وهذا البناء أو اللوحة هو ما سميناه منظومة الأخبار في المسألة.

ص: 363


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 7، ح1.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 1/315.
3- جواهر الكلام: 15/195، مستمسك العروة الوثقى: 9/128؛ ورد السيد الحكيم (قدس سره) في الثاني على من احتمل عدم كون الأصحاب مستندين إلى الخبر بل إلى مبنى آخر ككونه مقتضى القاعدة الأولية لصدق الدرهم والدينار على المغشوش ورد عليهم بأن ((الاحتمال المذكور موهون، لذكر الرواية في كتبهم واستنادهم إليها)).

ويشار إلى أن هذه المحاولة لقبول الأخبار أو لعدم إهمالها على الأقل لمجرد مجهولية الراوي وليست لتوثيق الرجال كزيد الصائغ في المقام.

(السابع) ما قالوه (قدس الله أرواحهم) في مسألة تعلق الزكاة بالدنانير والدراهم المغشوشة فقد أوجبوا فيها الزكاة بشرط أن يبلغ خالصهما النصاب، ويمكن تلخيص ما استدل به صاحب الجواهر (قدس سره) بوجوه:-

1- خبر زيد الصائغ المتقدم بعد جبره بعمل الأصحاب.

2- الإجماع؛ حيث حكى (قدس سره) ((عدم الخلاف فيه، بل نسبه غير واحد إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليه)).

3- ((صدق الدرهم والدينار حقيقة على ذلك خصوصاً بعد غلبة الغش في الدراهم وتعارفه))(1).

وأطلقوا كلامهم ولم يفصّلوا في مقدار الغش إلا أن يجعل قوله غلبة الغش وتعارفه قرينة على عدم كونه فاحشاً مع أن خبر زيد يفترضه مقدار الثلثين ولا يصدق على مثله أنه دينار ذهبي أو درهم فضي –كما تقدم من السيد الخوئي (قدس سره)- وإن صدق عليه أنه دينار ودرهم.ويُقرَّب الاستدلال بهذا الوجه على عموم الوجوب لسائر العملات بأن يقال إن موضوع الوجوب صدق كونه ديناراً أو درهماً وإن لم يصدق عليه أنه ذهبي أو فضي، وهذا العنوان متحقق في الدينار والدرهم الورقين والمعدنيين ويُعمَّمم إلى غيرهما بعدم القول بالفصل.

أما اشتراط بلوغ خالصهما النصاب فيقابله في العملات المتداولة اليوم قيمتها من الذهب أو الفضة الذي تتعهد الدولة بتعويضه.

وفصّل السيد الخوئي (قدس سره) في المغشوشين إذ ((قد يفرض بلوغ الغش حداً لا يخرج المغشوش معه عن صدق اسم الدرهم والدينار فالظاهر

ص: 364


1- جواهر الكلام: 15/195.

وجوب الزكاة حينئذٍ))(1) ((وإن لم يصدق –لكثرة المزيج من غير الجنسين، ولا سيما إذا كان بحدٍّ يستهلك فيه الذهب أو الفضة- لم تجب وإن فرض بلوغ الخالص منهما حد النصاب، لعدم وجوبها في مطلق الذهب والفضة، بل في خصوص المسكوكين المعنونين بعنوان الدرهم أو الدينار، المنفي في المقام، لأن النقد المسكوك لم تكن مادته ذهباً ولا فضة، بل يصح سلبهما حسب الفرض، والخالص من تلك المواد وإن كان ذهباً أو فضة إلا أنه غير مسكوك، بل سبيكة محضة ولا زكاة فيها. فعلى هذا، لو كانت عنده ستون من الليرات الاستامبولية –التي ثلثها ذهب خالص- لم تجب فيها الزكاة وإن كان الخالص بالغاً حد النصاب))(2).

أقول: هذا منه (قدس سره) مبني على مختاره من ((أنه يعتبر في الزكاة أن تكون المادة من الذهب والفضة، وأن يكونا مسكوكين، أي على هيأة الدرهم أو الدينار بحيث يكون متمحضاً في الثمنية ويقدر بها الأموال، فلا زكاة عند انتفاء أحدهما))(3)

بعد أن قال (قدس سره) عن رواية زيد الصائغ: ((أنه لا يمكن رفع اليد بها عن الروايات النافية للزكاة عن غير الدرهم والدينار))(4)

لضعف سندها، وظهر من النص الذي نقلناه عنه (صفحة 352) أنه (قدس سره) جعل النصف مناطاً للتفصيل.

وفي كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر منها:-

1- إن جعل النصف مناطاً للتقسيم لا دليل عليه من النصوص بل إن خبر زيد ينفيه، والعرف والوجدان كذلك، فالليرات الاستامبولية ليرات ذهبية عرفاً وإن كانت رديئة لقلة نسبة الذهب، ولذا تحدث الفقهاء (قدس الله أرواحهم) عن الذهب الجيد والرديء والذهب واحد، وإنما الجودة والرداءة من جهة نسبة الذهب في الخليط.

ص: 365


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 23/290.
2- المصدر السابق: 23/293.
3- المصدر السابق: 23/271.
4- المصدر السابق: 23/292.

2- إن اعتبار الذهب والفضة في العملة الرديئة سبيكة محضة وغير مسكوكة مكابرة ومخالفة للواقع.1- ما تقدم من معالجة سند خبر زيد الصائغ.

(الثامن) وحدة الملاك بتقريب أن الظاهر من الروايات أن الملاك في جعل الزكاة على النقدين إذا لم يحركا حولاً هو لتحريك عجلة الاقتصاد وعدم حبس فائدة العملة التي هي الواسطة في تلك الحركة، كصحيحة زرارة المتقدمة (الزكاة على المال الصامت الذي يحول عليه الحول ولم يحركه)، ولذا كان من وسائل الفرار من الزكاة سبك الذهب والفضة الموجودين في العملة لسلب عنوان العملة وما يستتبعها من منافع عنها، فالزكاة لم تجب عليه لأنه ذهب أو فضة، بل لأنه عملة لا يجوز حبسها، وهذا الملاك جارٍ في سائر العملات، ففي صحيحة علي بن يقطين عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: (لا تجب الزكاة فيما سبك، قلت: فإن كان سبكه فراراً من الزكاة؟ قال: ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت منه فلذلك لا يجب عليه الزكاة)(1) ، وروايته الأخرى عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (لا تجب الزكاة فيما سبك فراراً به من الزكاة، ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت فلذلك لا تجب الزكاة)(2).

ولا يعقل ذهاب المنفعة عن الذهب والفضة لأن لهما قيمة في ذاتهما، وإنما تذهب منفعتهما كعملة، فالمناط هو كونهما عملة وليس كونهما ذهباً وفضة.

بيان ذلك(3): إن الإنسان لما جعل على هذه الأرض تجددت حاجاته وتنوعت كاحتياجه إلى الطعام والشراب واللباس ووسائط النقل ومستلزمات الراحة والتجمّل والكماليات وغيرها، ولما كان كل شخص بمفرده لا يستطيع توفير احتياجاته لنفسه بنفسه أي يصنعها ويهيئها هو بنفسه لتعذر ذلك، اقتضت

ص: 366


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح2، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح2، 3.
3- وسيأتي تفصيل أكثر في مسألة تغيّر قيمة العملة، وتجدها في (فقه الخلاف: 10/109 من الطبعة الثانية: الحالية).

الطبيعة الاجتماعية أن يكمل بعضهم بعضاً بمبادلة المتاع والحاجات بغيرها وهو ما كان يسمى بالمقايضة.

ولما كانت الاحتياجات متكثرة –كالدار والسيارة والكتاب- والقيم مختلفة بحسب العرض والطلب وبسبب صعوبة نقل الأشياء لمبادلتها ولعدم توفر حاجة كل طرف عند الطرف الآخر، التفت الإنسان –بلطف الله تبارك وتعالى- إلى ضرورة جعل وسيط لهذه المبادلات يكون أساساً لتقييم الأعيان والمتاع وتبتنى عليه المبادلات والمعاملات، وقد اصطلحت المجتمعات البشرية على مواد مختلفة للتقييم كالملح مثلاً عند بعضهم، لأهميته واشتداد الحاجة إليه وكذا الحنطة عند بعضهم الآخر.

ثم بعد اكتشاف الذهب والفضة والالتفات إلى أهميتهما وتصاعد الطلب عليهما والرغبة فيهما أصبحا أساس التقييم للأشياء وأجور الأعمال وسَكَّت الحكومات العملات بهما، وكانت هذه من أعظم النقلات الحضارية التي منّ الله تعالى بها على عباده، وإليها يشير الإمام الباقر (عليه السلام) بما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أنه (سُئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس، فقال أبو جعفر (عليه السلام): هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه، وبها يستقيم شؤونهم ومطالبهم فمن أكثر له منها فقام بحق الله تعالى فيها وأدى زكاتها فذاك الذي طابت وخلصت له، ومن أكثر منها فبخل بها ولم يؤدِّ حق الله فيها واتخذ منها الأبنية فذاك الذي حق عليه وعيد الله عز وجل في كتابه يقول الله عزوجل: «يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» ).

وفي خبر ضريس قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجهها الله ولم يعطكموها لتكنزوها)(1).

فأوجب الله تبارك وتعالى الزكاة منعاً لكنزها وحبسها الذي يعطّل هذه

ص: 367


1- فروع الكافي، ج4، كتاب الصدقة، باب 26: وضع المعروف موضعه، ح5.

المصلحة النوعية الكبرى، وهو ملاك مطرد في سائر العملات ولا مدخلية لكونها من الذهب والفضة.

إشكالات على القول بالوجوب وجوابها:

قد يثار هنا أكثر من إشكال على القول بالتعميم، ومن تلك الإشكالات:

(الأول): إن المشهور الذي ادعى عليه الإجماع حصر العناوين التي تجب فيها الزكاة بالتسعة ومنها النقدان الذهب والفضة، والروايات الواردة في زكاة النقود ناظرة إلى الدينار الذهبي والدرهم الفضي خاصة.

وجوابه من وجوه:-

1- إننا انتهينا في البحث الرابع (صفحة 211) إلى عدم انحصار وجوب الزكاة في العناوين التسعة وكان تحرير المسألة على نحو إزالة المانع عن الوجوب في غيرها وإمكان ذلك إذا دل الدليل.

2- إن نظر الروايات إلى الدينار الذهبي والدرهم الفضي باعتبارهما النقد الموجود، وإلا فلا خصوصية لهما وموضوع الحكم هو النقد من دون لحاظ كونه من الذهب والفضة إلا من جهة كونها مادة النقد الموجودة يومئذٍ.

3- إن الحصر في هذه الروايات يمكن أن يكون إضافياً بالنسبة للذهب والفضة المتخذة حلياً أو سبائك فالزكاة لا تتعلق بكل الذهب والفضة وإنما بخصوص ما نقش بسكة المعاملة ليكون نقداً متداولاً.

4- النقض عليهم بما ذكروه في باب المضاربة، وقد تقدمت الإشارة إليه (صفحة 360).

(الثاني): لو صح القول بتعميم وجوب الزكاة لسائر العملات لوجب ضمّ بعض الأجناس الزكوية من النقود إلى بعض لتحقيق النصاب، ما دام المعيار هي القيمة النقدية للمال، وهذا مخالف لما اتفقوا عليه من عدم الضمّ.

أقول: جوابه بأكثر من وجه:-

ص: 368

1- إن هذا الإشكال مبني على تعلق الزكاة بالقيمة ولم نصحّحه وبنينا على تعلقها بالعين.

2- لا وجه للملازمة بين المسألتين فيمكن أن نقول بالتعميم مع اعتبار كل جنس بمعزل عن الآخر في اعتبار النصاب.1- إن الضم وردت فيه رواية معتبرة عن إسحاق بن عمار(1)

لكن الأصحاب لم يعملوا بها والمسألة بحاجة إلى نقاش.

(الثالث): إن العمومات والإطلاقات التي استدل بها على التعميم كعنوان (المال) و (الثمن) و (الصامت المنقوش) يمكن أن يراد بها خصوص الدينار والدرهم فتكون من باب استعمال العام ويراد منه الخاص.

ويرد عليه: أن العنوانين مثبتان فلا يُقيّد أحدهما بالآخر كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) وقال: (أكرم زيداً) إلا أن يكون الجعل متحداً وهذا غير ظاهر في المقام.

وإن كان التقييد لأجل الانصراف فإن الانصراف لا يصلح للتقييد مضافاً لعدم وجود عملة غيرهما يومئذٍ.

(الرابع) ما ذكره بعض الأعلام المعاصرين من النقض على دليل التعميم بتجريد الذهب والفضة من الخصوصية، وإن الزكاة إنما وجبت عليهما لكونهما ((نقدين رائجين كما يشهد له اشتراط كونهما مسكوكين، والأوراق النقدية في هذا الزمان هي نقد رائج، إذن يتعدى العرف من الذهب والفضة إلى هذه الأوراق النقدية)) فذكر احتمالاً للخصوصية من جهة ((إن مقاييس تحسين الاقتصاد القائم على النقد الذهبي والفضي المحدود تختلف عن مقاييس تحسين الاقتصاد القائم على أساس النقد الورقي غير المحدود، القائم على أساس الجعل والاعتبار وثقة الناس بالجهة المعتبرة (سواءٌ لم يكن لها رصيد وكان لها

ص: 369


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح7.

رصيد من السلع أو الخدمات التي تعينها الدولة، كأن يكون ذهباً أو نفطاً أو معدناً آخر أو غير ذلك) فيكون بالإمكان الاحتفاظ بسيولة الأوراق النقدية رغم كنز بعضها، ولا يضرّ هذا بالاقتصاد الحالي للبلد، فلا حاجة إلى وضع الزكاة عليه، بينما كان الاحتفاظ بسيولة الذهب والفضة مضرّاً بالاقتصاد القديم لمحدودية النقد، فقد وضع الإسلام ضريبة على كنزه.

وبهذا نصل إلى نتيجة عدم إلحاق الأوراق النقدية بالنقدين (الذهبي والفضي) في الزكاة، لاحتمال أنَّ ما هو دخيل في ملاك تعلق الزكاة هو اكتنازهما مع كونهما محدودين، فيضران بالوضع الاقتصادي القديم.

أمّا الأوراق النقدية فبما أنّها ليست محدودة فلا يكون اكتنازها مضرّاً بالاقتصاد الحديث))(1).

وفيه:-

1- إن هذا الإشكال إنما يأتي على من تمسك بالتجريد عن الخصوصية –كالشيخ المنتظري فيما يأتي- أما نحن فتمسكنا بعمومات وإطلاقات عناوين المال والأثمان ونحوها من الوجوه المتقدمة.

2- إن الفرق الذي ذكره غير وارد لأن كلاً من العلتين (القديمة والحديثة) قابلة للتكثير والمحدودية والفرق في الكيفية؛ فتكثير القديمة باستخراج المزيد من المعادن وسكها –وهو مستمر- والجديدة بطبع المزيد من الأوراق النقدية.

ومن حيث المحدودية فإن القديمة تُحدُ من جهة قلة ما يستخرج منها، والجديدة يحددها المحافظة على قوة العملة فلا يكون الطبع اعتباطياً وإنما وفق أسس مدروسة.

ويؤثر في كليهما الاكتناز والادخار وهذا معروف وتتبعه البنوك المركزية للدول للمحافظة على قيمة محددة للعملة فيعمدون إلى سحب العملة لرفع قيمتها ونحوه.

ص: 370


1- بحوث في الفقه المعاصر، للشيخ حسن الجواهري: 2/217-218.

3- إن محدودية النقد في الزمان القديم مناسب لمحدودية الفعاليات الاقتصادية، وكثرة النقد اليوم يناسبه زيادة الفعاليات من تجارات دولية واستثمارات عابرة للقارات وعقارات ضخمة ونحوها، فلا فرق إذن من هذه الناحية أيضاً.

(الخامس) ما ورد في المصدر السابق من أن القول بالتعميم ((يواجه مشكلة وهي: كيف يعين النصاب؟ وهل تقاس قيمة الأوراق النقدية بقيمة الذهب أو الفضة؟ فالذهب الذي نصابه عشرون ديناراً، وكل دينار عبارة عن ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي يساوي في هذا اليوم من النقد الورقي ما يقارب سبعمائة وخمسين دولاراً أمريكياً، بينما الفضة التي نصابها عبارة عن مائتين درهماً والتي تساوي في الأوراق النقدية خمسة وسبعين دولاراً أمريكياً، فهل يكون النصاب على الأوراق النقدية هو الأول أو الثاني، أو بالتخيير؟ وبأيِّ دليل؟))(1).

أقول: أجبنا عن الإشكال في مسألة (زكاة أموال التجارة) وقلنا إن النصاب يتحقق ببلوغ أحد نصابي الذهب أو الفضة وزكاة العملات هي من زكاة النقدين فالمشكلة المذكورة غير موجودة، إذ يتحقق النصاب ببلوغ قيمة العملة الورقية أحد نصابي الذهب أو الفضة.

(السادس) ما ذكره بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) من أنه ((حتى مع فرض وجوب الزكاة في كل نقد رائج، وتسليم شمول الزكاة للنقود الورقية أيضاً، فإنه مع ذلك لا يجب دفع شيء منها، لأن الناس في الغالب يودعون

ص: 371


1- بحوث في الفقه المعاصر، للشيخ حسن الجواهري: 2/218.

أموالهم البنوك من دون مضي الحول عليها وهي في أيديهم، كما هو شرط تعلق الزكاة))(1).وجوابه: إنه خروج عن مفروض المسألة لأن القول بالوجوب مبني على فرض اجتماع شرائط الوجوب، ونحن قد ذهبنا إلى عدم الوجوب على الودائع البنكية، إلا على البنك نفسه إذا اجتمعت الشروط.

قول بالوجوب لبعض أعلام العصر

تعرض الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) للمسألة في بداية البحث عن زكاة النقدين واختار القول بالوجوب بل قطع به كما سيأتي في نهاية كلامه (دام ظله الشريف) وابتدأه بالسؤال: ((وهل تجب الزكاة في الأوراق المالية الحالّة محلهما في هذه الأعصار كالنوت والدولار والأوراق المالية المسماة بالدنانير والدراهم؟ وجهان: من حصر ما فيه الزكاة في الأخبار المستفيضة بل المتواترة في التسعة وليست منها، ومن كونها في الحقيقة حوالة عليهما، أو إلغاء الخصوصية واستنباط كون الموضوع في الحقيقة النقد الرائج.

قال في الفقه على المذاهب الأربعة: (جمهور الفقهاء يرون وجوب الزكاة في الأوراق المالية لأنها حلت محل الذهب والفضة في التعامل ويمكن صرفها بالفضة بلا عسر فليس من المعقول أن يكون لدى الناس ثروة من الأوراق المالية ويمكن صرف نصاب الزكاة منها بالفضة ولا يخرجون منها زكاة، ولذا أجمع فقهاء ثلاثة من الأئمة على وجوب الزكاة فيها وخالف الحنابلة فقط.

وفي شرح التاج الجامع للأصول حكى عن المالكية والحنفية وجوب الزكاة فيها وعن الحنابلة والحنفية عدم الوجوب))(2).

ص: 372


1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 5/6، صفحة 72.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 1/280.

ثم ذكر (دام ظله الشريف) أن ((ملخص ما يستدل به للوجوب في المقام أمور:

الأول: إن الأوراق المالية ليست لها موضوعية ولا قيمة بل هي حوالة على النقدين فالمالك لها في الحقيقة مالك لهما.

وفيه: أن الأوراق في أعصارنا لها موضوعية وقيمة بحسب الاعتبار العقلائي وليست حوالة على النقدين وإلا لكانا محفوظين للمحتال فيما إذا تلفت الأوراق أو ضاعت، ولبطلت المعاملات على الأوراق لمن لا يعلم بما بإزائها من النقدين والالتزام بهما مشكل. ووجود النقدين ونحوهما في البنك المركزي لرواج الأوراق بمنزلة الحيثية التعليلية لا التقييدية، فهي بأنفسها صارت ذات قيمة اعتباراً.

الثاني: إلغاء الخصوصية، بتقريب أن الذهب والفضة المسكوكتين وجب فيهما الزكاة بما أنهما نقد رائج وبهما تقوم الأشياء وتعتبر ماليتها، فالموضوع في الحقيقة النقد الرائج المتعارف الذي يقوم به سائر الأشياء، وربما نلتزم بذلك في باب المضاربة أيضاً حيث اعتبروا فيها بالإجماع أن يكون رأس المال من النقدين، فلو لم نقل بكون المراد النقد الرائج انتفى موضوع المضاربة في هذه الأعصار.

الثالث: العمومات والإطلاقات الأولية الحاكمة بثبوت الزكاة في جميع الأموال كالجمع المضاف في قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً»، والموصول في قوله تعالى:«وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»، وقوله: «أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ».

والتخصيص بالتسعة كان في تلك الأعصار التي راج فيها النقدان لا بحسب جميع الأعصار.

ويؤيد ذلك الروايات المستفيضة الحاكمة بأنه لما نزل قوله: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة وعفى عما سوى ذلك. فوضع الزكاة كان في جميع الأموال ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان حاكماً للمسلمين في عصره وكانت

ص: 373

عمدة ثروة العرب في تلك الأعصار الأشياء التسعة وضعها فيها وعفى عما سواها. فيكون العفو بحسب تلك الأعصار وإلا فالزكاة لسد خلات المسلمين أعني المصارف الثمانية فيجب أن تتطور بحسب تطور الأموال في الأمكنة والأعصار، ولذا أوجب الله تعالى إياها من دون بيان ما فيه الزكاة. فتعيين ما فيه الزكاة محوّل إلى حاكم الإسلام في كل زمان ومكان لاختلاف الأموال وكذا الحاجات بحسبهما.

كيف؟! وتخصيص الزكاة بالتسعة في هذه الأعصار مخالف لروح الزكاة وحكمة تشريعها، فلاحظ قول الرضا (عليه السلام): (إن الله عز وجل جعلها خمسة وعشرين أخرج من أموال الأغنياء بقدر ما يكتفي به الفقراء، ولو أخرج الناس زكاة أموالهم ما احتاج أحد).

وقول الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل حسب الأموال والمساكين فوجد ما يكفيهم من كل ألف خمسة وعشرين، ولو لم يكفهم لزادهم).

وفي خبر قثم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: جعلت فداك أخبرني عن الزكاة كيف صارت من كل ألف خمسة وعشرين لم تكن أقل أو أكثر ما وجهها؟ فقال: إن الله عز وجل خلق الخلق كلهم فعلم صغيرهم وكبيرهم وغنيهم وفقيرهم فجعل من كل ألف إنسان خمسة وعشرين فقيراً ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم لأنه خالقهم وهو أعلم بهم)(1).

وفي صحيح زرارة ومحمد بن مسلم: (إن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عز وجل ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم..)(2). إلى غير ذلك من الروايات.

ص: 374


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 3، ح1، 2، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب وجوب الزكاة، باب 1، ح2.

فالفقراء والحاجات والخلات في أعصارنا كثيرة، والأشياء التسعة بالنسبة إلى سائر الأموال أقل قليل فكيف حسب الله الفقراء والأموال؟!))(1).أقول: نناقش أولاً الأدلة التي ذكرها (دام ظله الشريف) ثم فقرات كلامه.

أما الوجه (الأول) فيكفينا في رده ما أجاب (دام ظله) به لأن الأوراق المالية لها قيمة اعتبارية في نفسها ناشئة من تعهد الحكومة المصدرة للعملة بتسليم ذهب بمقدار قيمتها منه، وتتأثر قيمة العملة بعدة عوامل ذكرها الخبراء منها الوضع الاقتصادي للبلد والاستقرار السياسي والثروات الكامنة ومقدار الناتج المحلي وغيرها. ولم يعد النظام النقدي القائم على خزن ودائع من الذهب بقيمة العملة الصادرة من البنك متداولاً، لذا لا تجد أسعار العملات ثابتة بالنسبة إلى الذهب كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية مثلاً.

وأما (الثاني) فهو بالمقدار الذي عرضه غير صحيح، لأن التجريد عن الخصوصية لا بد أن يستند إلى دليل ولا يكفي فيه الظن والاستحسان وتنقيح المناط ونحوها، وهو (دام ظله الشريف) لم يذكر وجهاً للتجريد عن الخصوصية، ونحن قد قربنا عدة وجوه لإلغاء خصوصية النقدين.

وأما (الثالث) فلا يصح التمسك بتلك العمومات لجعل الزكاة على صنف معين بعد العفو عما سوى التسعة إلا أن يدلّ دليل –كأموال التجارة-، ولأن هذه الأحكام المذكورة مجملة لا إطلاق لها من هذه الناحية؛ لأننا نعلم قطعاً أن الزكاة لا تتعلق بجميع الأموال حتى لو لم نقتصر على التسعة، فلا بد من دليل يحدد موضوع وجوب الزكاة كعمومات «أَقِيمُوا الصَلاةَ» فإنه لا يصح التمسك بها لإثبات وجوب صلاةٍ ما أو صحتها.

نعم، بناءً على مذهبه في عموم ولاية الفقيه يكون هذا التعميم مندرجاً في صلاحيات الولي الفقيه ويشاركه في هذا المبدأ الشهيد السيد الصدر الأول (قدس سره) فقد قال في بعض كتبه: ((أوضحنا في بحوثنا عن الاقتصاد الإسلامي أن الزكاة -كمبدأ- قابل للتوسعة والتطبيق على مختلف الثروات وفقاً

ص: 375


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 1/280-282.

لما يراه ولي الأمر))(1)

ولذا فإنه (قدس سره) عزى جعل علي (عليه السلام) الزكاة على الخيول ((إلى الأحكام المتغيرة الإسلامية وإلى صلاحيات الحاكم الشرعي))(2).

ثم إنه توجد في كلامه (دام ظله الشريف) فقرات تستحق الوقوف عندها، منها:

قوله (دام ظله): ((فوضع الزكاة كان ..)) فيه إشارة إلى صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (فرض الله عز وجل الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء وعفى (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سواهن: في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وعفى عما سوى ذلك)(3)وغاية ما يدل عليه إمكان وجوب الزكاة في غير التسعة ولا يثبت موضوع الوجوب إلا بدليل من المشرع الأقدس.قوله: ((فتعيين ما فيه الزكاة محوّل إلى حاكم الإسلام ..)) مبني على نظريته الواسعة في ولاية الفقيه وقد ناقشناه عرضاً في مناسبة سابقة.

قوله (دام ظله): ((وتخصيص الزكاة بالتسعة في هذه الأعصار مخالف لروح الزكاة وحكمة تشريعها)) دليل ظني كالاستحسان والمصالح المرسلة فلا يمكن الاعتماد عليه إلا أن يدلّ دليل على الوجوب في مورد معين.

قوله (دام ظله): ((فالفقراء والحاجات والخلات ..)) يجاب بأكثر من وجه:-

1- إن صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم صريحة في كون الخلل في التنفيذ وعدم امتثال المكلفين وليس في التشريع حتى يحتاج إلى توسيع وتعميم إلا بدليل.

ص: 376


1- و (2) حكي عن كتاب (الإسلام يقود الحياة) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره).
2- و (2) حكي عن كتاب (الإسلام يقود الحياة) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره).
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، ح4.

2- إن الصحيحة تتحدث عن مطلق ما فرض الله تبارك وتعالى ولا تتعين بالزكاة، والفرائض المالية –ومنها الخمس- كافية لاحتياجات الفقراء فيزول الإشكال، ولو تنزلنا وقلنا إن الفرض المالي يراد منه الزكاة ولو بقرينة ما ورد في الروايات المتقدمة من كون النسبة 25 بالألف، فإن هذه النسبة لا تختص بزكاة النقدين بل هي مقدار الزكاة في أموال التجارة وهو باب واسع لتحصيل الأموال وإنفاقها على الفقراء.

3- إن رفع احتياجات المسلمين وسد خلاتهم هي حكمة التشريع وليست ملاك الحكم فلا تسوّغ التبرع بإنشاء الأحكام، نعم، الملاك هو الذي يعمم الحكم، وما ذكره (دام ظله الشريف) هو من الأول وليس من الثاني فلا يصلح للتعميم، وقد يُعبَّر في كلمات الأصحاب عن هذه الحكمة بالعلة، مما يسبب تشويشاً وإشكالات، لأن العلة تُعمّم، وإن أصروا على ترادفهما متشرعياً فلا بد من التفريق بينهما وبين الملاك.

وفي ضوء هذا علينا أن نفرق بين مصطلحين يردان في تعبير كلمات الأصحاب (رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين) هما (العلة) و (الملاك) ويستعملان بمعنى واحد وهما ليسا كذلك، فالعلة هي غاية الفاعل من جعل الحكم والباعث على تشريعه وهي لا تكون مرتبطة بشكل مباشر بالفعل إلا لكونه أحد مواردها، أما الملاك فهو منشأ الحكم في الموضوع المعين ويرتبط به مباشرة، وبينهما فرق، وأوضح فرق أن العلة مرتبطة بالفاعل بينما الملاك مرتبط بالفعل، وبتعبير آخر: إن الملاك هو الداعي إلى جعل الحكم بينما العلة هي الداعي إلى الداعي إلى الحكم.

فمثلاً من مهام الحكومة توسيع إيرادات الدولة لتفي بمتطلبات مسؤوليتها واحتياجاتها، وهذه العلة لا تدفع الحكومة إلى جباية الأموال كيفما اتفق وإنما تنظر لملاكات في القوانين التي تسنها، مثلاً ترى من المصلحة فرض رسوم كمركية على البضائع المستوردة لتشجيع المنتوج الوطني، أو تفرض رسوماً كبيرة على بيع وشراء العقارات لمنع مضاربة أصحاب الأموال فيها وزيادة أسعارها بحيث لا يستطيع ذوو الدخل المحدود تملك عقار، أو تفرض

ص: 377

عقوبات مالية على من يرتكب مخالفة مرورية، فتشجيع المنتوج الوطني وحفظ أسعار العقارات والمحافظة على النظام العام هي ملاكات القوانين، والعلة هي استحصال الأموال لخزينة الدولة لتمويل فعاليتها، وهذه العلة لا ترتبط بتلك القوانين بشكل مباشر أي لا يتعين تحقيقها بها إلا لكونها أحد مواردها، بحسب هذا القانون، وإلا فيمكن للدولة أن تسن قانون العقوبة بالحبس أو أي قرار آخر كالمنع من بيع العقار مدة معينة بدل الرسوم المالية فهنا الملاك موجود وهومرتبط بالقانون مباشرة لكن العلة المذكورة ليست موجودة، ومن هنا فإن الملاك يعمم الحكم دون العلة.

ونعود إلى مناقشة الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) بعد هذه المقدمة فنقول إن العلة هنا هي مساعدة الفقراء ورفع احتياجاتهم وابتلاء الأغنياء وتزكية أموالهم وإقامة النظام الاجتماعي العام، لكن الفرائض المالية لها ملاكاتها كزكاة النقود لمنع تجميدها وتعويق الحركة الاقتصادية، أو زكاة أموال التجارة لمنع احتكارها ورفع أسعار السوق من دون مسوغ عقلائي إلا جشع التجار، وهذا الملاك هو الذي يمكن أن يعمم حكم وجوب الزكاة من النقدين إلى سائر العملات والنقود، أما العلة فلا تعمم إلا بقوانين من قبل الشارع المقدس ولا يمكن أن تعمم الأحكام بمجرد أن الزكاة المنصوصة لا تفي بحاجة الفقراء.

ثم استشكل (دام ظله) على الوجه الثالث الذي ذكره بنفي الحاجة إلى توسيع موارد وجوب الزكاة بعد أن أوجب الأئمة المتأخرون (عليهم السلام) الخمس فقال: ((هذا ولكن لقائل أن يقول إن خمس أرباح المكاسب مما لا يوجد له أثر في تأريخ صدر الإسلام ولا في الأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة الأولين ولا يوجد منه اسم في فقه أهل السنة ولو كان مشرعاً في تلك الأعصار لبان وظهر، فمن المحتمل أن الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) لما رأوا انحراف الزكاة عن مسيرها وصيرورتها في مسير إعاشة الجبارين وتأمين تجملاتهم بها ورأوا من جهة أخرى لزوم انطباق الزكاة التي هي ماليات الإسلام على جميع الأعصار والأمكنة شرعوا –بما هم حكام

ص: 378

الإسلام بالحق- خُمس أرباح المكاسب الشاملة لجميع الأعصار والأمكنة عوضاً عن الزكاة.

ففي الحقيقة هو زكاة وليس مصرفه مصرف خمس الغنائم بل هو بأجمعه حق وحداني للإمام بما هو إمام بنحو التقييد لا التعليل، فبه يسد الإمام جميع خلات المسلمين.

وربما يشهد لذلك أخبار المسألة فراجع.

كيف؟! ولو سلم شمول الزكاة لجميع الأموال والأوراق النقدية ونحوها لم تكن أزيد من ربع العشر، والخمس أزيد منه بمراتب. فهل يمكن جعل ربع العشر لجميع المصارف الثمانية التي منها فقراء غير الهاشميين، وجعل خمس جميع أموال الناس للإمام وفقراء الهاشميين بحيث يكون نصفه بحسب الجعل لهم، مضافاً إلى شركتهم في زكاة الهاشميين وفيما صرف من الزكاة في سبيل الله؟! فهل لا يكون هذا النحو من الجعل ظلماً وزوراً مع كون فقراء الهاشميين أقل من جميع الفقراء بمراتب؟ فتدبر)).

أقول:-

1- هذه كلها استحسانات واجتهادات غير معتبرة لعدم استنادها إلى النصوص وقد علمنا أن مبانيها غير صحيحة.

2- إن موارد الخمس مختلفة عن موارد الزكاة وقد أشرنا إلى ذلك من خلال نكتة في المسألة السابقة (صفحة 319) فلا مسوّغ لافتراض بدلية أحدى الفريضتين عن الأخرى.ثم قال (دام ظله): ((ولو أبيتَ ما ذكرنا فالأحوط القول بثبوت الزكاة في جميع الأوراق المالية الحالّة محل النقدين))(1).

أما الاحتياط الوجوبي الذي ذكره في النهاية فهو تنزّلي كما هو واضح، وإلا فإنه (دام ظله الشريف) جزم في أكثر من موضع في كتابه بالوجوب، فقد قال في مسألة وجوب الزكاة في النقدين إذا مسح النقش فيهما: ((أما مع مسح بعض النقش فلا إشكال، لغلبة ذلك في النقود الرائجة وعدم إضراره بصدق

ص: 379


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله):1/282.

الدينار والدرهم. وأما مع مسح الجميع فإن بقيت المعاملة فكذلك على الأقوى ولا سيما مع صدق الدينار والدرهم لما عرفت من عدم الخصوصية لعنوان الدينار والدرهم بل الملاك كونه نقداً رائجاً وواسطة في المعاملات، ولذا قطعنا بوجوب الزكاة في الدولار والأشرفي ونحوهما))(1).

وقال (دام ظله) في موضع آخر بعد نقل قول المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((ومن شرطِ وجوب الزكاة فيهما كونهما مضروبين دنانير ودراهم منقوشين بسكة المعاملة أو ما كان يتعامل بهما)) قال (دام ظله الشريف): ((ولا يخفى أن قولهم (دنانير ودراهم) وإن كان ظاهره الخصوصية ولكن الظاهر عدم الخصوصية لهما، بل الملاك سكة المعاملة على الذهب والفضة وإن سمّيا بأسماء أخر كالليرة والدولار والأشرفي ونحوها))(2).

المسألة في فقه أهل السنة

اجتمع مجلس الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في عمّان في صفر/1407 الموافق اكتوبر/1986 وجاء في القرار رقم (9): ((إنها –أي العملات الورقية- نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما))(3).

قال بعض أعلامهم: ((بما أن هذا النظام –أي العمل بالعملات الورقية والمعدنية وليس بالذهب والفضة- ظهر حديثاً بعد الحرب العالمية الأولى، فلم يتكلم فيه فقهاؤنا القدامى، وقد بحث فقهاء العصر حكم زكاة النقود الورقية، فقرروا وجوب الزكاة فيها عند جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية)؛

ص: 380


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 1/301.
2- المصدر: 1/209.
3- الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: المجلد السابع، صفحة 5105، الطبعة الثالثة –إيران.

لأن هذه النقود إمابمثابة دين قوي على خزانة الدولة، أو سندات دين، أو حوالة مصرفية بقيمتها ديناً على المصرف.

ولم يرَ أتباع المذهب الحنبلي الزكاة فيها حتى يتم صرفها فعلاً بالمعدن النفيس (الذهب أو الفضة) قياساً على قبض الدين.

والحق وجوب الزكاة فيها، لأنها أصبحت هي أثمان الأشياء، وامتنع التعامل بالذهب، ولم تسمح أي دولة بأخذ الرصيد المقابل لأي فئة من أوراق التعامل، ولا يصح قياس هذه النقود على الدين، لأن هذا الدين لا ينتفع به صاحبه وهو الدائن، ولم يوجب الفقهاء زكاته إلا بعد قبضه لاحتمال عدم القبض، أما هذه النقود فينتفع بها حاملها فعلاً كما ينتفع بالذهب الذي اعتبر ثمناً للأشياء، وهو يحوزها فعلاً، فلا يصح القول بوجود اختلاف في زكاة هذه النقود. والقول بعدم الزكاة فيها لا شك بأنه اجتهاد خطأ، لأنه يؤدي في النتيجة البينة أن لا زكاة على أخطر وأهم نوع من أموال الزكاة، فيجب قطعاً أن تزكى النقود الورقية زكاة الدين الحال على مليء، كما هو المقرر لدى الشافعية ويجب فيها ربع العشر))(1).

أقول: قوله: ((إما بمثابة دين قوي..)) فيه أنها وجوه غير تامة لأن أياً منها لا ينطبق على العملات المتداولة.

قوله: ((والحق وجوب الزكاة فيها، لأنها أصبحت هي أثمان الأشياء)) وهذا –إذا نظرنا إليه بمعزل عن ورود العنوان في الروايات- استحسان وتنقيح مناط لا حجية فيها كاستدلاله بأنه ((يؤدي إلى أن لا زكاة على أخطر وأهم نوع من أموال الزكاة)).

نعم إذا ورد في الروايات أن موضوع هذه الزكاة هي الأثمان أمكن الاعتماد على هذا الوجه لصدق الأثمان على العملات المتعارفة، وهو ما قربناه في الوجه الثاني من أدلة التعميم.

ص: 381


1- الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، ط3، مج 3، ص 1834.

(فرع) قال الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) في نهاية كلامه المتقدم: ((ولو قيل بثبوتها –أي الزكاة- في الديون التي يسهل أخذها بحيث تكون كالنقد كما احتملناه في محله بحسب دلالة بعض الأخبار صار مقتضاه ثبوت الزكاة كل سنة في الأموال المودعة في البنوك بالحساب الثابت))(1).

أقول: يشير بذلك الى مختاره في مسألة زكاة الدين حيث اختار ((وجوب الزكاة فيما إذا كان التأخير من قبل صاحبه فيكون مثل النقد يقدر على أخذه وصرفه كيف يشاء)).

وقال (دام ظله): ((النتيجة: تعلق الزكاة بما يسمى عرفاً بالودائع البنكية المستعقبة للربح دائماً عند البنوك إذا بقيت فيها حولاً))(2).أقول: بغضّ النظر عن مناقشته (دام ظله) في تعلق الزكاة في الدين لأنها مسألة أخرى، فإنه يرد عليه أمور:-

1- إنه (دام ظله) اختار اشتراط حولان الحول على شخص النصاب، قال (دام ظله): ((والظاهر اعتبار الحول في شخص النصاب فلا يكفي بقاء نوعه وهو المشهور عندنا خلافاً للشيخ حيث قال بأن التبديل بالجنس في أثناء الحول لا يضرّ))(3)

ولا يتحقق هذا الشرط في الودائع البنكية.

2- إن مختاره (دام ظله) منافٍ لحكمة التشريع التي هي المنع عن تجميد المال والدفع الى تحريكه، ووضعه في البنوك تحريك له، قال (دام ظله): ((وحيث أن وضعهما –أي النقدين- للمعاملات والتوليدات فحبسهما سنة كأنه أمر غير مرغوب عنه وكأن الزكاة وضعت عليهما حينئذٍ غرامة، ليتجنب الناس عن حبسهما))(4).

ص: 382


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 1/282.
2- المصدر: 1/98.
3- المصدر: 1/306.
4- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 1/300.

3- إنه (دام ظله) التزم –كما هو الصحيح- بأن للعملات قيمة في ذاتها وليست هي حوالة ونحوها فجمعها مع الدين من باب التنظير لا وجه له ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التنظير مما استدل به بعض علماء العامة على وجوب الزكاة في العملات المعروفة اليوم كما ورد في النص الذي نقلناه آنفاً.

أقول: يمكن تصحيح القول بوجوب الزكاة على الودائع البنكية ولكن ليس على الزبون المودع لما ذكرناه وإنما على البنك، بعد تقريب عدة أمور:-

1- إن الأموال وإن سميت ودائع إلا أنها في الحقيقة قرضٌ بدليل أن البنك يتملكها ويتصرف فيها ويستثمرها.

2- إن الجهة تملك كالأفراد، والبنك جهة فهي تملك.

3- إن الزكاة تجب في القرض عند اجتماع الشروط كالحول والنصاب على المقترض لا على المقرض. وهذه الأمور تامة فتجب الزكاة على البنك.

لكن تحقق هذا الوجوب بعيد عملياً لأن الأموال لا تبقى مجمدة عند المصرف حولاً كاملاً وإنما يحركها وبذلك يختلّ شرط من شروط الوجوب.

على أن حمل كلام الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) على هذا المعنى خلاف الظاهر كما هو واضح فالإشكال باقٍ عليه.

ص: 383

ص: 384

البحث الثامن: الزكاة في مال الصغير

اشارة

ص: 385

ص: 386

بسم الله الر حمن الرحيم

البحث الثامن: الزكاة في مال الصغير(1)

أودّ الإشارة إلى ملاحظتين قبل الدخول في البحث:-

1- إن المسألة معنونة في أكثر الروايات وبعض كلمات الأصحاب باليتيم، إلا أنه من الواضح أن مرادهم مطلق الصغير بقرينة مقابلته للبالغ، وإطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح يونس بن يعقوب الآتية (إذا وجبت عليهم الصلاة وجبت عليهم الزكاة)، وفي خبر محمد بن الفضيل قال: (سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم)(2)

الحديث، وإنما جُعل اليتيم عنواناً لا لخصوصية فيه وإنما لأن الغالب في ملكية الصغار أن يرثوا عن أبيهم، واليتيم لغة هو من لا أب له.

2- إننا وإن لم نوافق المشهور في حصر ما تجب فيه الزكاة بالأصناف التسعة إلا أننا سنجعل موضوع البحث هذه الأصناف جرياً معهم، ومنه يعرف حكم ما ألحقنا بها، كإلحاق الحبوب بالغلات الأربع.

أقوال علمائنا في المسألة:

لا خلاف بين علماء الإمامية –إلا ما يظهر من إطلاق عبارة ابن حمزة الآتية- في عدم وجوب الزكاة في مال الصغير من النقدين ما لم يتّجر به ففيه خلاف يأتي بإذن الله تعالى ((وفي المقنعة إن ذلك مذهب آل الرسول

ص: 387


1- (*) ابتدأ إلقاء البحث يوم 21/ ربيع الثاني/1432 الموافق 2011/3/27.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 2، ح4.

(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نقل عليه الإجماع في السرائر والمنتهى ونهاية الأحكام والروضة والمدارك وغيرها.

وإنما الخلاف في الغلات والمواشي، فالمشهور كما في كشف الالتباس والحدائق والتحرير عدم الوجوب في شيء من غلات الطفل ومواشيه، وفي الرياض: أنه خيرة المتأخرين كافة وجماعة من أعاظم القدماء، وفي المدارك: أن الاستحباب في الغلات خيرة الحسن وأبي علي وعلم الهدى وعامة المتأخرين))(1).

هذا وقال العلامة (قدس سره) في المختلف: ((أوجب الشيخان، وأبو الصلاح، وابن البراج الزكاة في غلات الأطفال والمجانين ومواشيهم.وأوجب ابن حمزة الزكاة في مال الصبي.

وقال السيد المرتضى في (الجمل): الزكاة تجب على الأحرار البالغين المسلمين الموسرين.

وقال في (المسائل الناصرية): الصحيح عندنا أنه لا زكاة في مال الصبي من العين والورق، فأما الزرع والضرع فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى أن الإمام يأخذ منه الصدقة.

وقال علي بن بابويه: وليس في مال اليتيم زكاة، إلا أن يتجر به، فإن اتجر به ففيه زكاة، والربح لليتيم.

وقال ابن الجنيد: لما ذكر قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً»: وظاهر الخطاب يدل على أن الفرض على من عقله من البالغين المالكين.

ثم قال في موضع آخر: ولا زكاة في مال يتيم إذا كان صامتاً، فإن حرّكه الوصي بما يخرجه به عن حكم الوديعة صار الوصي ضامناً، وإذا صار إلى اليتيم استقبل به وقت وجوبه.

ص: 388


1- مفتاح الكرامة: 7/6.

وقال سلاّر: وأما من تجب عليه الزكاة فهم الأحرار العقلاء البالغون المالكون للنصاب، فإن صحت الرواية بوجوب الزكاة في أموال الأطفال حملناها على الندب.

وقال ابن حمزة: تجب الزكاة في مال الطفل، ولم يذكر حكم المجنون.

وقال ابن إدريس: لا زكاة على الأطفال والمجانين، ونقله عن ابن أبي عقيل، وهو الأقرب))(1).

وقال الشيخ (قدس سره) في الخلاف: ((مال الصبي والمجنون إذا كان صامتاً لا تجب فيه الزكاة، وإن كان غلات أو مواشي يجب على وليه أن يخرج عنه))(2).

وقال (قدس سره) في النهاية: ((وأما المجانين، ومن ليس بكامل العقل، فلا تجب عليهم الزكاة في أموالهم المودعة. وتجب فيما يحصل لهم من الغلات والمواشي. وحكم الأطفال حكم من ليس بعاقل من المجانين...))(3).

وقال الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة: ((لا زكاة عند آل الرسول في صامت أموال الأطفال والمجانين ... وعلى غلاتهم وأنعامهم الزكاة ...))(4).

ثم إن القائلين بعدم الوجوب في الغلات والمواشي اختلفوا في التفاصيل، فقد صرّح باستحبابها في الغلات في ((الشرائع والمنتهى والتذكرة والإرشاد والتحريروالبيان والدروس وجامع المقاصد والروضة والمدارك والكفاية والرياض وغيرها، وقد سمعت ما في المدارك من نسبته إلى عامة

ص: 389


1- مختلف الشيعة: 3/25-26.
2- الخلاف: 2/40 المسألة (42).
3- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 174.
4- المقنعة: 238.

المتأخرين، ونسبه في الكفاية إلى جمهورهم، وقال في مجمع البرهان: لا خلاف فيه على الظاهر.

وأما استحبابها في مواشيه فهو خيرة الشرائع والإرشاد والتحرير والتذكرة والبيان والدروس وجامع المقاصد والروضة، وفي الكفاية نسبته إلى أكثر المتأخرين، قال: ولم أقف له على مستند، ومثله قال في المدارك والحدائق.

قلت: قد يقال أن حكمهم بالاستحباب في المواشي لعدم الفرق بين المسألتين كما هو ظاهر الأكثر، وناهيك بما حكاه في (الإيضاح) عن ابن حمزة الذي هو أحد الموجبين حيث قال: وقال ابن حمزة: تجب في مال الصبي –ولم يذكر المجنون- لما صح عنهما (عليهما السلام) أنهما قالا: مال الطفل ليس عليه في العين والصامت شيء، وأما الغلات فإن عليها الصدقة واجبة قال: فتجب في الأنعام بالإجماع المركب))(1).

أقول: ظاهر الكفاية والمدارك والحدائق عدم المشروعية أصلاً حتى على نحو الاستحباب، وسيأتي وجه ذلك في تصريح ابن إدريس والسيد صاحب المدارك (قدس الله روحيهما) في مال الصغير إذا اتجر به.

وتردد المحقق (قدس سره) في المختصر النافع في الغلات فاحتاط بالوجوب، وقال في المواشي: ((إن القول فيها بالوجوب ليس بمعتمد)) وعلق تلميذه في كشف الرموز على قوله: ((أحوطهما الوجوب)) بقوله: ((معناه لو قلنا بالوجوب لكان للاحتياط لا للجزم؛ لأن الاحتياط عنده (دام ظله) لا يدل على الوجوب بل على الندب، ومعنى القول بالوجوب تحصيلاً لليقين ببراءة الذمة، ولقائل أن يقول: هذا الاحتياط إن قيل به لرواية أبي بصير فينبغي الجزم بالوجوب لما قلناه، وإن صير إليه لتعارض الروايتين فهو ضد

ص: 390


1- مفتاح الكرامة: 7/7.

الاحتياط، بل الاحتياط حفظ المال على المسلم وعدم التهجم إلا بدليل سالم عن المصادِم؛ لكون حرمته حرمة الدم، والتمسك بالأصل وهو البراءة الأصلية، وأيضاً كونه غير بالغ يقتضي عدم مواجهته بالتكليف، والقول بإيجابها في مواشيه لأولئك الثلاثة أيضاً، والإشكال هنا أقوى لعدم الوقوف على دليل ناهض))(1).

ويتلخص مما تقدم أن أقوال علمائنا في المسألة كالتالي:-1- عدم الوجوب مطلقاً، أما في النقدين فمجمع عليه، وأما في الغلات والمواشي فهو قول المشهور مع اختلافهم في استحبابها في النقدين إذا اتجر بهما، والغلات دون المواشي، أو فيهما، أو عدم المشروعية أصلاً.

2- الوجوب مطلقاً وهو ظاهر إطلاق ابن حمزة (قدس سره).

3- التفصيل بين عدم الوجوب في النقدين إلا إذا اتجر بهما فتجب ووجوبها في الغلات والمواشي وهو مختار الشيخ المفيد (قدس سره).

4- التفصيل بين عدم الوجوب في النقدين مطلقاً واستحبابها إذا اتجر بهما، ووجوبها في الغلات والمواشي وهو قول الشيخ الطوسي (قدس سره).

ومع اعتبار الأصحاب قول ابن حمزة شاذاً ومتروكاً، أو أنه لا إطلاق له وإنما أراد به الوجوب في الجملة لنفي السالبة الكلية التي قال بها المشهور، تكون الأقوال ثلاثة.

أقوال العامة:

وينبغي ذكر أقوال العامة في المسألة لما سيأتي من حمل بعض الروايات على التقية.

ص: 391


1- مفتاح الكرامة: 7/8.

قال ابن قدامة في المغني –وهو على الفقه الحنبلي- عند قول المصنف: ((والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما)) قال: ((وجملة ذلك أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون لوجود الشرائط الثلاث فيهما روي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم وبه قال جابر بن زيد وابن سيرين وعطاء ومجاهد وربيعة ومالك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى والشافعي والعنبري وابن عيينة وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور.

ويحكى عن ابن مسعود والثوري والأوزاعي أنهم قالوا تجب الزكاة ولا تخرج حتى يبلغ الصبي، ويفيق المعتوه، قال ابن مسعود: أحصى ما يجب في مال اليتيم من الزكاة فإذا بلغ أعلمه فإن شاء زكّى وإن شاء لم يزكِّ، وروي نحو هذا عن إبراهيم.

وقال الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأبو وائل والنخعي وأبو حنيفة لا تجب الزكاة في أموالهما، وقال أبو حنيفة يجب العشر في زروعهما وثمرتهما، وتجب صدقة الفطر عليهما.

واحتج في نفي الزكاة بقوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) وبأنها عبادة محضة فلا تجب عليهما كالصلاة والحج.

ولنا –أي الموجبين للزكاة- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ولي يتيماً له مال فيلتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) أخرجه الدارقطني، وفي رواية المثنى بن الصباح وفيه مقال وروي موقوفاً على عمر (وإنما تأكله الصدقة بإخراجها) وإنما يجوز إخراجها إذا كانت واجبة لأنه ليس له أنيتبرع بمال اليتيم، ولأن من وجب العشر في زرعه وجب ربع العشر في ورقه كالبالغ العاقل ويخالف الصلاة والصوم فإنها مختصة بالبدن، وبنية الصبي ضعيفة عنها، والمجنون لا يتحقق منه نيتها، والزكاة حق يتعلق بالمال فأشبه نفقة الأقارب والزوجات وأروش الجنايات وقيم المتلفات،

ص: 392

والحديث أريد به رفع الإثم والعبادات البدنية بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية ثم هو مخصوص بما ذكرناه، والزكاة في المال في معناه فنقيسها عليه.

إذا تقرر هذا فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة فوجب إخراجها كزكاة البالغ العاقل والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون فكان على الولي أداؤه عنهما كنفقة أقاربه وتعتبر نية الولي في الإخراج كما تعتبر النية من رب المال))(1).

ونقل العلامة (قدس سره) في التذكرة عن القائلين بالوجوب من العامة استدلالهم بأن ((علياً (عليه السلام) كان عنده مال لأيتام بني أبي رافع، فلما بلغوا سلّمه إليهم، وكان قدره عشرة آلاف دينار، فوزنوه فنقص فعادوا إلى علي (عليه السلام) وقالوا: إنه ناقص. قال: أفحسبتم الزكاة؟ قالوا: لا، قال: فاحسبوها، فحسبوها فخرج المال مستوياً، فقال (عليه السلام): أيكون عندي مال لا أؤدي زكاته))(2).

أقول: في مستدرك الوسائل عن كتاب عاصم بن حميد الحناط عن أبي بصير قال: (دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: دخل عليَّ أناس من أهل البصرة فسألوني عن أحاديث وكتبوها فما يمنعكم من الكتاب أما أنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، قلت: عمَّ سألوك؟ قال: عن مال اليتيم هل عليه الزكاة، قال: قلت لهم: لا، قال: فقالوا: إنا نتحدث عندنا أن عمر سأل علياً (عليه السلام) عن مال أبي رافع فقال: أنفذ به الزكاة، فقلت لهم: لا ورب الكعبة ما ترك أبو رافع يتيماً ولقد كان ابنه قيّماً لعلي (عليه السلام) على بعض ماله كاتباً له).

وملخّص أقوالهم في المسألة أربعة:-

ص: 393


1- المغني: 2/488-489.
2- تذكرة الفقهاء: 5/13، ورواها الدارقطني والبيهقي في سننهما.

1- الوجوب مطلقاً وهو المشهور.

2- عدم الوجوب مطلقاً ورووا عدة روايات بعدة طرق منها عن جعفر بن محمد عن أبيه وعن الشعبي وعن إبراهيم قال: (ليس في مال اليتيم زكاة)(1).

التفصيل فيجب في الزروع والمواشي دون غيرها ورووا عن الحسن قوله: (ليس في مال اليتيم زكاة إلا في زرع أو ضرع) ورووا عن مجاهد قوله: (كل1- مال لليتيم يُنمى، أو قال: كل شيء من بقر أو غنم أو زرع أو مال يضارب به فزكّه، وما كان له من صامت لا يُحرَّك فلا تزكّه، وحتى يدرك فدفعه إليه)(2).

2- التفصيل بين الزروع فتجب فيها الزكاة وغيرها فلا تجب وقد نسبه ابن قدامة إلى أبي حنيفة.

فما صرح به الشيخ (قدس سره) في الخلاف(3)

من كونهم على قولين: الوجوب مطلقاً وعدم الوجوب مطلقاً –وممن نسبه إليه أبو حنيفة- غير دقيق ولا مستوعب. وكذا ما في التذكرة للعلامة حيث حكى القول بعدم الوجوب مطلقاً عن أهل الرأي وبالوجوب مطلقاً عن الشافعي ومالك وأحمد، مع أنه (قدس سره) ينقل بالنص عن المغني وفيه قول أبي حنيفة بالتفصيل، وكذا قول السيد الخوئي (قدس سره): ((فهم بين قولين مطلقين ولا قائل بالتفصيل، ولعله يوجد به قول شاذ، بل قد نسبه بعضهم إلى أبي حنيفة إلا أنا لم نجده))(4).

ص: 394


1- كتاب الأموال لأبي عبيدة: 551.
2- المصدر السابق.
3- الخلاف: 2/40 المسألة (42).
4- المستند في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 23/56.

أما على مستوى قول أئمة المذاهب الأربعة فلهم قولان كما نقلنا، الوجوب مطلقاً وهو قول الجمهور إذ لم يشترطوا البلوغ، وتفصيل أبي حنيفة بين الغلات فيجب فيها العشر وغيرها فلا يجب.

أدلة النافين لوجوب الزكاة مطلقاً

ونبدأ أولاً بما قيل أو يمكن أن يقال من الموانع عن الأخذ بظهور عدد من الروايات في وجوب الزكاة على الصبي في الجملة، وهو بنفس الوقت دليل القائلين بعدم الوجوب مطلقاً، وعمدة ما ذكروه أمران: أحدهما عام والآخر خاص بهذه المسألة، وهما:

(الأول) حديث الرفع

وهو حديث رفع القلم عن ثلاثة أحدهما الصبي حتى يحتلم(1)، قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف: ((ويمكن أن يستدل بما روي عن النبي (صلى اللهعليه وآله وسلم) أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق) ))(2).

وكذا استدل بالحديث وبمضمونه آخرون.

كما استدل به البعض على عدم الوجوب في زكاة النقدين كأصحاب المدارك والرياض والمستند وغيرهم، مع أنه لو تمَّ فإنه يجري في جميع الأصناف على حد سواء.

قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): ((فلا تجب زكاتهما –أي النقدين- على صبي ولا على مجنون لقوله (عليه السلام): (رفع القلم..) ))(3)وكذا غيرهم.

ص: 395


1- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح11، 12.
2- الخلاف: 2/41.
3- مدارك الأحكام: 5/15.

ولم يستدل آخرون من المشهور القائلين بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي مطلقاً ممن راجعنا كلماتهم به في المقام، ولعله لبنائهم على اختصاصه بالأحكام التكليفية كالأمر بالإخراج وبالدفع، أما الوجوب الوضعي بمعنى ثبوت الحق المعلوم في المال فلا ينفيه الحديث، وصرّح السيد الحكيم (قدس سره) بهذا، قال (قدس سره): ((أما حديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم فإنما يقتضي عدم وجوب إيتاء الزكاة عليه تكليفاً، لا نفي ثبوتها في ماله وضعاً، فما دلّ على ثبوتها محكم، وهو يقتضي وجوب إيتائها على الولي، كسائر حقوق الناس الثابتة في مال الصبي أو في ذمته))(1).

وقال الشيخ المنتظري (قدس سره): ((وأما حديث رفع القلم فلا يفيد هنا إذ المرفوع به قلم التكليف لا الوضع، ولذا يثبت فيه الأحكام الوضعية))(2).

وهذا ما دفع السيد الخوئي (قدس سره) إلى الرد بقوله: ((ودعوى اختصاص الحديث بالأحكام التكليفيّة، وعدم تكفّله لرفع الحكم الوضعي، الذي هو ثابتٌ أيضاً في المقام بمقتضى ما دلّ على شركة الفقراء في العين الزكويّة بنحو الإشاعة أو الكلّي في المعيّن، وثبوت حقٍّ وسهم لهم في الأموال وضعاً:

عريّةٌ عن الشاهد; فإنّ إطلاق الحديث يعمّ الوضع والتكليف بمناط واحد.

نعم، بما أنّ لسانه الامتنان فهو لا يعمّ الضمانات، لأنّ شموله لها يستلزم خلاف الامتنان على الآخرين، وأمّ-ا غير ذلك فلا قصور في شموله لكلّ ما يوجب الوقوع في الكلفة، من تكليف أو وضع، ولا ريب أنّ الزكاة

ص: 396


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/3.
2- كتاب الزكاة: 1/28.

نقصٌ في المال، وموجبٌ لوقوع صاحبه في الكلفة، فهو مرفوع عن الصبي بمقتضى إطلاق الحديث))(1).أقول: ملخص ما نفهمه من حديث الرفع أن المرفوع هو قلم الإلزام والمؤاخذة أي قلم تحميل وتحمّل المسؤولية على فعله، فلا يُكلَّف بالأحكام الإلزامية أي الوجوب والحرمة، ولا يؤاخذ على فعله بالعقوبة الدنيوية –كالكفارة والحد- ولا بالعقوبة الأخروية لعدم كتابة الإثم عليه فإنها مرفوعة عن الصبي ونظيريه، أما ما كان موضوعه أمراً آخر كالضمان الذي موضوعه الإتلاف، أو الدية التي موضوعها الجناية، أو النجاسة التي موضوعها الملاقاة برطوبة، أو النفقة التي موضوعها الإعالة، وغيرها فلا يكون مشمولاً بحديث الرفع، ومنها تعلق الزكاة بمال الصغير الذي موضوعه تحقق الشروط، فلا يصح الاستدلال بحديث الرفع لنفي تعلق الزكاة إذا دل عليها الدليل.

فإن قصدوا باختصاص الحديث بالأحكام التكليفية هذا المعنى فهو صحيح، وإن أرادوا بالأحكام التكليفية المعنى المصطلح في مقابل الأحكام الوضعية فحديث الرفع لا يشمل إلا الإلزامية منها وما يترتب عليها من آثار، لوضوح توجه خطاب التكليف بالعبادات ونحوها من المستحبات إلى غير البالغ وصحتها منه.

وفي ضوء هذا يمكن التعليق على عدة مواضع من كلام السيد الخوئي (قدس سره):-

1- إن حديث الرفع وإن كان امتنانياً إلا أن ملاكه ليس الامتنان وإنما قبح تحميل المسؤولية على الصغير ومؤاخذته بأفعاله لعدم اكتمال قواه وإدراكه وإرادته، أو قُ-ل عدم اكتمال عقله الذي هو المخاطب بتحميل المسؤولية كما نصّت عليه الأحاديث الشريفة، وبهذا الملاك شمل حديث الرفع هذا وحديث رُفع عن أمتي غيره من العناوين،

ص: 397


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/5-6.

وخروج الضمان عن حديث الرفع على مقتضى القاعدة التي ذكرناها لأن الضمان ليس من آثار المسؤولية على فعله، وليس لأنه على خلاف الامتنان.

وحكى السيد السيستاني (دام ظله) في بحثه الشريف عن أستاذه السيد الخوئي (قدس سره) اختياره في المتاجر أن حديث الرفع ظاهر في ((نفي الآثار المترتبة على الفعل الإرادي باعتبار أن أرادته ضعيفة فلا ينفى به الحكم المترتب من دون أن يؤخذ فيه فعل –كالنجاسة التي تترتب على الملاقاة- وكذا ما يكون موضوعه الفعل ولو لم يكن إرادياً كإتلاف مال الغير إذ الموضوع نفس الإتلاف)) ثم قال (دام ظله): ((فما في المستند –أي في هذا الموضع- من كون ضمان ما أتلف من مال الغير لمخالفته للامتنان ضعيف وفيه مسامحة والصحيح ما اختاره في المتاجر من اختصاص حديث الرفع بالأفعال الإرادية كالعقود والإيقاعات، وضمان مال الغير خارج عنه لعدم كون موضوعه الفعل الإرادي بل الفعل وإن لم يكن إرادياً))(1).أقول: هذا الفهم لحديث الرفع وإن كان قريباً إلى ما رجحناه إلا أنه يمكن النقض عليه بعدم وجوب كفارة قبل الخطأ على الصبي مع أنه ليس فعلاً إرادياً كما عرّفاه فتأمل!.

2- النقض عليه بترتب الأحكام الوضعية على الصغير كالنجاسة والجنابة وحقوق الناس كالنفقات والأجور والضمانات.

3- إن مقدار الزكاة في مال الصغير ليس مملوكاً له حتى يكون إخراجه نقصاً في ماله وتصرفاً فيه لينفى بحديث الرفع فكلامهم (قدس الله أرواحهم) كله لا موضوع له، لأن مقدار الزكاة حق لمستحقيه بأمر الشارع المقدس الذي هو المالك الحقيقي، بلا فرق بين أنحاء تعلق

ص: 398


1- محاضرة بتأريخ 21/ج2/1419 ه-.

الزكاة في المال على نحو الإشاعة أو الكلي في المعين، أما على الأول فلتحقق المعاوضة والفرز، وأما على الثاني فواضح ويكون الولي هو القائم بالتعيين.

إن قلتَ: لكن الآية الشريفة أضافت الأموال إليهم فقال تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ».

قلت: هذا بلحاظ الظاهر والواقع ليس كذلك، أو أن النسبة بلحاظ إيكال أمر تعيين العين إليهم وهي تصدق بأدنى ملابسة.

فحديث الرفع إذن غير مانع من ثبوت الزكاة لو تم دليل عليها في أي مورد.

(الثاني) الروايات الخاصة

التي نفت وجوب الزكاة في مال الصغير كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ليس في مال اليتيم زكاة)(1).

وصحيحة أبي بصير قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليس على مال اليتيم زكاة، وإن بلغ اليتيم فليس عليه لما مضى زكاة ولا عليه فيما بقي حتى يدرك، فإذا أدرك فإنما عليه زكاة واحدة ثم كان عليه مثل ما على غيره من الناس).

هذا على رواية الكافي ومثلها في محل الشاهد صحيحته على رواية التهذيبين وإن اختلفنا في بعض الفقرات وسيأتي في مبحث زكاة الغلات (صفحة 450) الكلام فيها بإذن الله تعالى.

ص: 399


1- الحديث وما بعده في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح 8، 3، 11، 7، 9، 12.

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن مال اليتيم، فقال: ليس فيه زكاة).وخبر أبي المحسن (أبي الحسن) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان أبي يخالف الناس في مال اليتيم ليس عليه زكاة).

وخبر قرب الإسناد بسنده عن العلاء قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل على مال اليتيم زكاة؟ قال: لا).

وغيرها في نفس الباب والذي يليه، وبعضها وردت الفقرة مقيدة بعدم الاتجار به وستأتي الإشارة إليها هناك بإذن الله تعالى.

والاستدلال بهذه الأحاديث على نفي وجوب الزكاة مطلقاً متوقف على كون المراد من (المال) عموم الأموال الشاملة للنقدين والغلات والمواشي، إذ قد يقال مقابل ذلك أن المراد هو خصوص النقدين فيكون الحديث نافياً لوجوب الزكاة فيهما وهو مجمع عليه.

وعلى مستوى المعنى اللغوي للمفردة فقد ذكر الراغب في المفردات مادة (ميل) وعرّف الميل بأنه العدول عن الوسط إلى أحد الجانبين ثم قال: ((والمال سُمِّي بذلك لكونه مائلاً أبداً وزائلاً، ولذلك سمِّي عرضاً)).

وفي لسان العرب مادة مول ((المال معروف ما ملكته من جميع الأشياء، قال سيبويه: من شاذ الإمالة قولهم مال، وفي الحديث: نهى عن إضاعة المال، قيل أراد به الحيوان أي يُحسَن إليه ولا يهمل، وقيل إضاعته إنفاقه في الحرام والمعاصي، قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة ثم أُطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يُطلق المال عند العرب على الإبل لأنها كانت أكثر أموالهم)) وقال في مجمع البحرين مادة (مول): ((وسمّي المال مالاً لأنه مال بالناس عن طاعة الله تعالى)) ونقل تعريف ابن الأثير.

ص: 400

والخلاصة أن الأصل في الوضع اللغوي للمال قد يكون هذا أو ذاك إلا أنه مستعمل في المعنى الخاص -أي النقدين- والعام أي كل ما يقتنى ويملك، فاللازم استظهار معناه في كل مورد بحسبه.

قال ابن الأثير: ((وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويُفرَّق فيها بالقرائن)).

ولا شك في أن ورود لفظ المال بالمعنى العام في النصوص الشرعية وأولها القرآن الكريم كقوله تعالى: «وَالذِينَ في أمْوَالِهِم حَقٌّ مَعلُومٌ» (المعارج: 24) وغيرها، وفي خصوص الزكاة قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَموَالِهِم صَدَقَةً» (التوبة: 103) حيث ورد في الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأها على المسلمين حين نزولها وأمهلهم سنة ثم فرض الزكاة على الأصناف التسعة وعفا عما سواها(1)، وهذا أمر طبيعي لعدم توفر العملات لدى المسلمين في صدر الإسلام بشكل واضح وإنما أموالهم الأعيان والحيوانات.ولكن ورد في مقابل ذلك روايات يظهر منها أن المقصود بالمال خصوص النقدين كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (أنه سُئل عن الخضَر فيها زكاة وإن بيعت بالمال العظيم)(2)

وصحيحة علي بن يقطين قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المال الذي لا يُعمل به ولا يقلب، قال: تلزمه الزكاة في كل سنة إلا أن يسبك)(3).

وتوجد روايات أُخر استعمل فيها اللفظ بهذا المعنى إلا أن الاستدلال بها مطلقاً على كون معنى المال هو هذا –كما صدر من البعض - غير تام لأنه من تطبيق الكلي على بعض أفراده واستعماله فيه، فلا يدل على انصراف

ص: 401


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 1، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 11، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 8، ح4.

إطلاقه إليه.

نعم بما أن بحثنا في المعنى المقصود للمتكلم والظاهر منه، وقد تبين إرادة كل من المعنيين منه بحسب الموارد فيكون لفظ (المال) مجملاً في المقام ولا يمكن الاستدلال به لنفي وجوب الزكاة مطلقاً، بل يمكن الادعاء أنه أظهر هنا في النقدين.

بيان ذلك أن قوله (عليه السلام): (ليس في مال اليتيم زكاة) ورد (تارة) مستقلاً كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن مال اليتيم، فقال: ليس فيه زكاة) وتقدمت (صفحة 400) جملة منها (وأخرى) ضمن ما دل على تعلق الزكاة به إذا اتجر به كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: في مال اليتيم عليه زكاة؟ فقال: إذا كان موضوعاً فليس عليه زكاة، فإذا عملت به فأنت له ضامن والربح لليتيم)(1)

وغيرها من الروايات، والاتجار إنما يكون على نحو المضاربة ويشترط فيها أن لا تكون إلا بالنقد، فهذه القرينة تمنع من انعقاد الإطلاق وتعيّنه في المعنى الخاص أي النقدين كقوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن يقطين المتقدمة آنفاً: (إلا أن يسبك) التي تقيد إطلاق المال بخصوص النقدين.

وإنما قلنا الاتجار على نحو المضاربة لأنه معنى الاتجار بالمال وتقليبه والعمل به وتحريكه بحسب تنوع ألفاظ الروايات كما في صحيحة ابن يقطين المتقدمة ولِما ورد في خبر أبي الربيع (والربح بينهما)(2)

وقريب منه ما في روايات أُخر.

وحينئذٍ نقول: إن الفقرة التي وردت مذيلة بما يقيدها بالنقدين كلفظ الاتجارونحوه، فلا إشكال في ظهورها فيهما، وأما التي وردت مستقلة فهي

ص: 402


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 2، ح6.

إما أن تكون جزءاً من تلك الروايات في الأصل أو أنها تحمل عليها باعتبار وحدة الجعل ويشهد لذلك ما في صحيحة الحلبي فإن السؤال كان عاماً (في مال اليتيم زكاة) إلا أن جواب الإمام (عليه السلام) كان خاصاً بالنقدين مما يعني ظهور المال في روايات الباب بالنقدين، وكذا في صحيحة يونس بن يعقوب. وعلى هذا يكون لفظ (المال) في المقام ظاهراً في النقدين ولا ينفع المستدل بالحديث على نفي وجوب الزكاة مطلقاً بل في خصوص النقدين وهو ليس محل خلاف.

والنتيجة: أن (المال) المنفي عنه وجوب الزكاة إما ظاهر في النقدين أو مطلق يحمل عليه أو مجمل، وعلى جميع التقادير فإنه لا يمكن الاستدلال به لنفي وجوب الزكاة مطلقاً، ولو تم إطلاق لبعض روايته فإنه قابل للتقييد بما دل على ثبوت الزكاة –لو تمَّ- في بعض الأصناف كالغلات في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم أو النقدين إذا اتجر بهما كما سيأتي بإذن الله تعالى.

تتميم: ذكرت هنا بعض الوجوه الأخرى لنفي وجوب الزكاة في مال الصغير مطلقاً نذكرها بنفس الترتيب.

(الثالث) ما ذكره العلامة (قدس سره) في المختلف: ((أنها وجبت طهارة عن الذنب، ولا ذنب عليهما، أما المقدمة الأولى فلقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرهُم وَتُزَكّيهِم بِهَا» (التوبة: 103)، وأما الثانية فظاهرة))(1).

وفيه:-

1- إنه كالاجتهاد في مقابل النص لورود الروايات الخاصة بالمسألة فهي المرجع وليس هذه الاجتهادات.

2- إن الآية ذكرت غرضاً آخر لوجوب إيتاء الزكاة وهي التزكية وهي غير التطهير ومطلوبة حتى ممن لا ذنب عليه.

ص: 403


1- مختلف الشيعة: 3/26-28.

3- إن التطهير هنا لوحظ فيه أولاً وبالذات المال بإخراج حق الغير منه فلا مانع من شموله لمال الصغير، لأن الكبير والصغير سواء في استيفاء الحق كما هو واضح، ويشهد له ما ورد في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الصدقة أوساخ الناس)(1)

الحديث، ويتبع تطهير المال تطهير الشخص نفسه وبهذا اللحاظ نسب إليه في قوله تعالى: «تُطَهِّرهُم».وبتعبير آخر: إن التطهير أعم من كونه من الذنب التكليفي بمعنى الإثم المرفوع عن الصغير، بل يشمل الذنب الوضعي بمعنى إخراج حق الله تعالى والناس في المال الذي ذكرته الآية الشريفة: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ» (المعارج: 24) ولا مانع من ثبوته في أموال الصغير.

4- لازم دليله سقوطها عن المعصوم (عليه السلام) لأنه لا ذنب له، وقد أشكل (قدس سره) على نفسه بعدم سقوطها عمن لا ذنب له إجماعاً، ولا ينفع في الجواب قوله: ((والتطهير ظاهر أنه إنما يكون من الذنب، ولا يلزم سقوط الزكاة –الثابتة بدليل آخر- عمن وجبت عليه ممن لا ذنب له)) لأنه عودة إلى النصوص.

(الرابع) ما ذكره العلامة (قدس سره) أيضاً بقوله: ((إن كل واحد من الصبي والمجنون ليس من أهل التكليف، والزكاة تكليف فكل واحد منهما ليس من أهل الزكاة، والمقدمتان ظاهرتان))(2)، ثم أنه (قدس سره) أورد بعض الإشكالات على نفسه ثم قال: ((أما أن الزكاة تكليف فظاهر، لوجوب

ص: 404


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 29، ح2.
2- مختلف الشيعة: 3/26-27.

النية فيها، ولحصول الثواب بها، ولتعلق الخطاب بها للمكلفين، ولا نعني بالتكليف سوى ذلك، وتعلقها بالمال لا ينافي كونها عبادة.

وأما أنهما ليسا من أهل التكليف فظاهر، إذ هو منوط بالبلوغ والرشد، وإرش الجناية وقيم المتلف ليس من باب التكليف بل من باب خطاب الوضع)).

أقول: يمكن الجواب على ما أفاده (قدس سره) حلاً ونقضاً.

أما (حلاً) فلأنه أخص من المدعى، وذلك لأن خطاب الزكاة يتضمن نحوين من الأحكام:

أحدهما: تكليفي وهو وجوب الإخراج والدفع وهذا مرفوع عن الصغير ويقوم الولي بذلك.

وثانيهما: وضعي وهو ثبوت حق الغير في المال، وهذا غير مرفوع عن الصغير ولا مانع من ثبوته إذا دلّ الدليل عليه، وقد شرحنا ذلك.

وأما (نقضاً) فلأنه (قدس سره) وافق المشهور باستحباب الزكاة في مال الصغير إذا اتجر به الولي، وهو والوجوب من سنخ واحد من جهة ما ذكر (قدس سره).

(الخامس) إن من شروط وجوب الزكاة التمكن من التصرف لذا لم تجب في المال المفقود مثلاً، والصغير غير متمكن من التصرف بأمواله فلا يتحقق شرط الوجوب ولا وجوب.وفيه:-

1- إن الصغير متمكن من التصرف في ماله من خلال وليه فهو كمن وكّل آخر في ماله فيكون متمكناً بتمكن الوكيل، لذا لم تسقط الزكاة عن المحجور عليه لسفه، وحكي الاتفاق عليه(1).

ص: 405


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 1/123.

2- إن في هذا الاستدلال خروجاً عن محل البحث لأن كلامنا في مانعية الصغر عن وجوب الزكاة وليس لشيء آخر.

والآن نبحث تعلق الزكاة في مال الصغير ونرتّبه بلحاظ الأصناف التي تتعلق بها الزكاة وليس بلحاظ الأقوال في المسألة لتشعّبها وتداخلها، ومنه يتضح القول المختار بإذن الله تعالى، ويقع الكلام في جهتين:

(الأولى) زكاة النقدين.

(الثانية) زكاة الغلات والمواشي.

الجهة الأولى: زكاة النقدين من أموال اليتيم

تقدمت الإشارة إلى إجماع علمائنا (قدس الله أرواحهم) على عدم وجوب الزكاة في النقدين عدا ما يظهر من إطلاق عبارة ابن حمزة وقد وجهناها بما لا يخرجها عن الإجماع.

ويدل عليه أيضاً جملة من الروايات كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم الآتية عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا: (ليس على مال اليتيم في الدين والمال الصامت شيء) الحديث.

وأنه القدر المتيقن من قوله (عليه السلام): (ليس في مال اليتيم زكاة) في صحيحة زرارة المتقدمة وغيرها.

وقد اشترطت الروايات في عدم الوجوب كون المال موضوعاً، أما إذا حُرِّك فيظهر منها وجوب الزكاة فيه ومن تلك الروايات:-

1- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: في مال اليتيم عليه زكاة، فقال: إذا كان موضوعاً فليس عليه زكاة، فإذا عملت به فأنت له ضامن والربح لليتيم)(1).

ص: 406


1- الروايات (1-3) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح1، 5، 10.

وتقريب الاستدلال بمفهوم صدر الرواية.

2- صحيحة يونس بن يعقوب قال: (أرسلت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن لي إخوة صغاراً فمتى تجب على أموالهم الزكاة؟ قال: إذا وجبت عليهم الصلاة وجبت الزكاة، قلت: فما لم تجب عليهم الصلاة؟ قال: إذا اتجر به فزكه).

3- موثقة عمر بن أبي شعبة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سُئل عن مال اليتيم فقال: لا زكاة عليه إلا أن يعمل به).

4- صحيحة محمد بن مسلم قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل على مال اليتيم زكاة؟ قال: لا، إلا أن تتجر به أو تعمل به)(1).

5- ما أثبته صاحب الوسائل (قدس سره) عن الصدوق في الفقيه ووصفها جمع بالصحيحة(2)

واستدلوا بها بسنده عن زرارة وبكير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ليس على مال اليتيم زكاة إلا أن يُتّجر به، فإن اتجر به ففيه الزكاة، وعلى التاجر ضمان المال، قال: وقد رويت رخصة في أن يجعل الربح بينهما).

أقول: هكذا أثبتها صاحب الوسائل (قدس سره) وكأنها رواية(3) ولها جزء آخر في أولها أورده في موضع آخر وهو قوله (عليه

ص: 407


1- الرواية وما بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 2، ح1، 8، 2، 3، 4.
2- كما في الحدائق الناضرة: 12/14 ومستند الشيعة للنراقي: 9/13 ومستمسك العروة الوثقى: 9/20.
3- استظهر محشي الوسائل كون البقية من كلام الصدوق (رضي الله عنه).

السلام): (ليس في الجوهر وأشباهه زكاة وإن كثر، وليس في نُقَر الفضة زكاة)(1).

أقول: يشكل الاعتماد على هذا النص سنداً ومتناً:

(أما) السند فلأن الصدوق (قدس سره) ليس له طريق مشترك إلى بكير وزرارة وإلا لذكره في المشيخة كما ذكر أمثاله، كطريقه المشترك إلى جميل بن دراج ومحمد بن حمران.

(وأما) من حيث المتن فإن الذي رواه الكليني (قدس سره) ونقله عنه الشيخ (قدس سره) في التهذيب(2) أن الحديث هو (ليس في الجوهر وأشباهه زكاة وإن كثر) من دون البقية التي احتوت على محل الاستدلال هنا. ولعله لهذا جُعلالنص في طبعة الفقيه الحديثة(3)

خصوص ما أورده الكليني والشيخ (قدس الله روحيهما) حيث وضعه داخل الأقواس وترك الكلام الباقي على أنه للمصنف (قدس سره).

إن قلتَ: هذا الاختلاف بين النقلين لا يمنع من كون الجزء المتبقي رواية أيضاً لأن الطريق مختلف، فقد رواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن عمر بن أذينة عن زرارة وبكير.

ص: 408


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 12، ح1. ونقل قوله: (وليس في نقر الفضة زكاة) في أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 8، ح1 لكن المحشي على الوسائل لم يهتدِ إلى المصدر فترك الهامش خالياً.
2- التهذيب، ج4، كتاب الزكاة، باب الزيادات، ح12.
3- من لا يحضره الفقيه، ج2، أبواب الزكاة، باب الأصناف التي تجب عليها الزكاة، ذيل الحديث 1600.

وطريق الصدوق إلى بكير: أبوه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن بكير.

وفيه: إن الطريقين يشتركان في علي بن إبراهيم عن أبيه، ومن البعيد أن يرويا هذين النصين المختلفين، مع الإشكال في طريق الصدوق إلى بكير لأن ابن أبي عمير لم يدرك الإمام الصادق (عليه السلام) وتوفي بكير في حياته (عليه السلام) فكيف يروي عنه؟ فلا يخلو الطريق من إرسال.

ومنه يُعلم النظر في تصحيح السيد الخوئي (قدس سره) وغيره طريق الصدوق إلى بكير (معجم رجال الحديث: 3/353) إلا عند من يعتمد مراسيل ابن أبي عمير.

فالظاهر أن الشيخ الصدوق نقل الرواية عن الكليني، إما بأخذها من الكافي أو عن طريق شيوخه وهم محمد بن محمد بن عصام الكليني وعلي بن أحمد بن موسى ومحمد بن أحمد السناني عنه وكلهم مجهولون لم يوثقوا. وعلى كلا التقديرين فالجزء الزائد على ما أورده الكليني ليس نصّاً عن المعصوم (عليه السلام) فهو غير معتمد وفيه محل الاستدلال في المقام.

نعم بما أن القدماء ومنهم الشيخ الصدوق (قدس سره) كانوا يفتون بنصوص الروايات أو مضامينها، فيكون هذا الجزء رواية مرسلة للصدوق أو إحدى روايات الباب نقلها بالمضمون.

ص: 409

6- معتبرة(1) سعيد السمان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليس في مال اليتيم زكاة إلا أن يتجر به فإن اتجر به فالربح لليتيم، وإن وضع فعلى الذي يتجر به).

7- خبر أبي العطارد الحناط قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): مال اليتيم يكون عندي فأتجر به، فقال: إذا حركته فعليك زكاته، قال: قلت: فإني أحركه ثمانية أشهر وأدعه أربعة أشهر، قال: عليك زكاته) هذا على رواية الكافي، وفي التهذيب (عليه الزكاة).

8- خبر محمد بن الفضيل قال: (سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم هل يجب على مالهم زكاة؟ فقال: لا يجب في مالهم زكاة حتى يُعمل به، فإذا عُمل به وجبت الزكاة، فأما إذا كان موقوفاً فلا زكاة عليه).

أقول: ظاهر هذه الأخبار الوجوب وبه صرّح الشيخ المفيد (قدس سره) وسيأتي كلامه، وهو ظاهر علي بن بابويه في الفقه الرضوي ونقله عنه العلامة (قدس سره) في المختلف كما نقلنا عنه (صفحة 388)، وقال به ولده الصدوق (قدس سره) في المقنع: ((ليس على مال اليتيم زكاة إلا أن يتجر به له))(2)

وقال في الفقيه: ((وليس على اليتيم زكاة إلا أن يُتّجَر به، فإن اتجر به ففيه الزكاة، والربح لليتيم وعلى التاجر ضمان المال))، هذا ولكن المشهور حملها على الاستحباب بينما نفى ابن إدريس في السرائر والسيد صاحب المدارك (قدس الله روحيهما) المشروعية أصلاً، فالأقوال ثلاثة، والمشهور الاستحباب.

ص: 410


1- لعدم الإشكال في سندها إلا من ناحية إسماعيل بن مرار الذي لم تثبت وثاقته إلا أننا اعتمدنا في بعض أبحاثنا السابقة على رواياته عن يونس لأنه أخذها من كتبه وهي صحيحة بشهادة ابن الوليد.
2- المقنع: 163، طبعة مؤسسة الإمام الهادي (عليه السلام) 1415 ه-.

قال الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة: ((لا زكاة عند آل الرسول (عليهم السلام) في صامت أموال الأطفال والمجانين من الدراهم والدنانير، إلا أن يتجر الولي بها أو القيم عليها بها، فإن اتجر بها وحرّكها وجب عليه إخراج الزكاة)).

وعلق عليه الشيخ الطوسي (قدس سره) وهو تلميذه بأنه يريد من الوجوب ((الندب والاستحباب دون الفرض والإيجاب لأنه لا فرق بين أن يُتّجر به أو لا يُتّجر به في أنه لا تجب فيه الزكاة وجوب الفرض الذي يُستحق بتركه العقاب، ألا ترى أنه لو كان هذا المال للبالغ واتَّجر به لما وجبت عليه فيه الزكاة وجوب الفرض على ما سنبيّنه فيما بعد إن شاء الله تعالى))(1).

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل يشهد له تصريحه في باب زكاة أمتعة التجارة بأنها سنة مؤكدة فيها على المأثور عن الصادقين (عليهما السلام) واحتمال الفرق بين التجارة بمال الطفل وغيره كما ترى))(2).ويظهر من كلام المشهور الذي سننقله إن شاء الله أنهم يعترفون بظهور الروايات في الوجوب، وحينئذٍ نتساءل لماذا لم يقل بالوجوب أحد عدا أولئك المتقدمين.

والجواب أن ذلك يرجع (تارة) إلى وجود المانع عندهم فصرفوا ظاهرها عن الوجوب إلى الاستحباب واعتبروا المانع قرينة على صرف النص عن ظاهره في الوجوب إلى الاستحباب، وقد وردت الإشارة في كلام الشيخ (قدس سره) المتقدم إلى اثنين منها.

ص: 411


1- تهذيب الأحكام، ج3، باب 8: زكاة أموال الأطفال والمجانين.
2- جواهر الكلام: 15/16.

(وتارة) إلى قصور المقتضي للمناقشة في روايات الباب، ونتيجة ذلك مخالفة المشهور والقول بعدم المشروعية أصلاً لا وجوباً ولا استحباباً وهو قول ابن إدريس وصاحب المدارك (قدس الله سريهما).

فالكلام في مقامين:

المقام الأول: في الموانع الصارفة عن ظهور الروايات في الوجوب ونبدأ بما ذكرهما الشيخ (قدس سره):

(الأول) التمسك بإطلاق ما دل على نفي ثبوت الزكاة في مال الصغير قال الشيخ (قدس سره) في ما نقلناه عنه: ((لا فرق بين أن يُتّجَر به أو لا يُتَّجَر به في أنه لا تجب فيه الزكاة وجوب الفرض)).

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((أخبار كثيرة ظاهرها الوجوب إلا أن الكل محمول على الاستحباب بقرينة الأخبار الصريحة في نفي الوجوب))(1).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا ريب أن الأقوى عدم الوجوب؛ للأصل وإطلاق نفيها عن اليتيم في الأخبار المتقدمة، فاحتمال تقييد الجميع بالأخبار الدالة على ثبوت الزكاة إذا حُرِّك –بعد الإغضاء عما في سند بعضها، وموهونية الجميع بما عرفت من عدم تحقق القائل بالوجوب، وعدم ظهور بعضها في الوجوب المصطلح، ضرورة دلالة بعضها على ثبوت الزكاة فيها في هذا الحال الذي هو أعم من الوجوب وغيره، وكذا ما دل منها على أن الزكاة على المال حينئذٍ، ضرورة إمكان منع دلالته على الوجوب، وأن المراد منه معنى فيها- كما ترى مخالف لمذاق الفقاهة، خصوصاً بعدما تعرف إن شاء الله من عدم الوجوب في مال التجارة على البالغ فضلاً عن مال الطفل)).

ص: 412


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الزكاة: 10/12.

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة مطالب سنتعرض لها بحسب مواردها إن شاء الله تعالى، أما في ما يتعلق بما نحن فيه فإن ما قالوه غير تام:-1- لأن النسبة بين ما دلّ على نفي الزكاة في مال اليتيم وما دل على وجوبها إذا عُمل به هي العموم المطلق فتخصَّص به على القاعدة وليس فيه مخالفة لذوق الفقهاء.

2- أن ما دل على وجوب الزكاة في مال اليتيم ورد في جملة من الروايات استثناءً من عموم ما دل على نفي الزكاة في مال اليتيم كصحيحة محمد بن مسلم ومعتبرة سعيد السمان وغيرها مما تقدم، فكيف ينفى به؟ أي أن التقييد ورد في كلام المعصوم (عليه السلام) فكيف يكون الأخذ به مخالفاً لذوق الفقاهة؟

3- إننا نفهم من نفي الزكاة في مال اليتيم عدم إخراجها من أصل مال اليتيم، والزكاة هنا لا تخرج من أصل مال اليتيم بالدقة؛ لأن المال المتَّجَر به إن ربح فالزكاة تخرج من الربح، وإن لم يربح أو نقص الربح عن مقدار الزكاة فإن مقدار الزكاة يؤخذ من مال المتّجِر لأنه ضامن للمال كما نطقت به الروايات المتقدمة.

فعلى كل التقادير لا يُنقص من مال اليتيم شيء، فالقول بالوجوب لا يعارض دليل (لا زكاة في مال اليتيم) لأن موضوعهما مختلف، فالأول موضوعه ما زاد عن أصل مال اليتيم، والثاني موضوعه أصل المال.

(الثاني) ما دل على عدم وجوب الزكاة في مال تجارة البالغ فالصغير مثله أو أولى منه، وتبعه (قدس سره) على هذا الفهم سائر من جاء بعده، قال العلامة (قدس سره) في مال الصغير إذا اتجر به: ((والمشهور الاستحباب، لنا: الأصل براءة الذمة، ولأن مال التجارة لا تجب فيه الزكاة على ما سيأتي ومال

ص: 413

الطفل لا تجب فيه الزكاة على ما تقدم))(1).

وقال السيد صاحب المدارك (قدس سره) في زكاة أموال التجارة: ((والمعتمد الاستحباب، لنا: الأخبار الكثيرة المتضمنة للأمر بالزكاة في مال الطفل إذا اتجر به الولي))(2).

وقال صاحب الحدائق (قدس سره): ((بأن ظاهر هذه الأخبار هو الوجوب كما نُقل عن الشيخ المفيد ولكن الشيخ ومن تبعه من الأصحاب كما هو المشهور لما اتفقوا على الاستحباب في مال التجارة وهذه المسألة من أفراد تلك المسألة حكموا بالاستحباب هنا))(3).وقال المحقق النراقي (قدس سره): ((ولا يضرّ اشتمال بعضها –أي الروايات- على ثبوت الزكاة في ماله إذا اتجر به، لعدم وجوبها في مال التجارة على البالغ كما يأتي، فها هنا أولى))(4).

وتقدم كلام صاحب الجواهر (قدس سره) في هذه الملازمة والأولوية (صفحة 411 وصفحة 412).

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ظاهرها –أي روايات الباب- كعبارة المقنع: الوجوب، إلا أن الكل محمول على الاستحباب، بقرينة الأخبار الصريحة في نفي الوجوب، مضافاً إلى ما سيجيء من استحباب زكاة التجارة على البالغين))(5).

ص: 414


1- مختلف الشيعة: 3/29.
2- مدارك الأحكام: 5/49.
3- الحدائق الناضرة: 12/23.
4- مستند الشيعة: 9/13.
5- كتاب الزكاة من الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/12.

وقال المحقق الهمداني (قدس سره): ((نعم إذا اتجر له من إليه النظر استحب له إخراج الزكاة من مال الطفل أي زكاة مال التجارة التي ستعرف استحبابها في غير مال الطفل أيضاً))(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((بل إن ظاهر هذه النصوص الوجوب، ومن هنا نُسِبَ القول به إلى المفيد وإن لم تثبت النسبة، إذ قد حمل الشيخ كلامه على الاستحباب، وهو أعرف بمراده من غيره .

وكيفما كان، فلا ينبغي الإشكال في عدم الوجوب وإن تعاطاه ظواهر هذه الأخبار، وذلك لجملة أُخرى من الروايات دلّت على عدم وجوب الزكاة في مال التجارة، وهي وإن كان موردها –إلاّ ما شذّ - غير اليتيم إلاّ أنّا لا نحتمل أن يكون اليتيم أشدّ حالاً من البالغ، فإذا لم يثبت فيه بمقتضى هذه النصوص لم يثبت في اليتيم بطريق أولى))(2).

وقال بعض أعلام العصر (قدس سره): ((وظاهرها –أي روايات المسألة- كما ترى الوجوب ولكن يبعد جداً القول بالوجوب هنا إذا منعنا الوجوب في زكاة تجارة البالغين فهما في مساغٍ واحد يدل على عدم الوجوب فيهما ما استدل به عليه هناك))(3).

ووردت الإشارة إلى هذه الملازمة في بحث السيد السيستاني (دام ظله الشريف) فقد جعل من الروايات التي يستدل بها على ثبوت الزكاة في مال التجارة ((الروايات الكثيرة الدالة على ثبوت الزكاة في مال اليتيم إذا اتجر به كمعتبرةالحلبي وابن بكير(4) والسمان وصحيحة محمد بن مسلم)) وفي

ص: 415


1- مصباح الفقيه: 4/2.
2- مستند العروة الوثقى: 23/57.
3- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/62.
4- لا توجد في روايات الباب واحدة عن ابن بكير، فلعله أراد رواية زرارة وبكير وأنه (دام ظله) يعتمدها وقد علمنا أنها ليست رواية، ويظهر من بعض كلماته في البحث أنه يدافع عن صاحب الوسائل (قدس سره) في إثباتها فقد علّق على قول محشي الوسائل: ((الظاهر أنه من كلام الصدوق وليس رواية عن زرارة وبكير فراجع)) بما محصله: ((إن كتاب (من لا يحضره الفقه) كتاب فقه ينقل الأخبار نفسها أو بنقل غيره ويذكرها ككلام له بالمضمون من دون فصل)) (محاضرة بتأريخ 5 شعبان/1419 ه-). أقول: هذا لا ينفع في الرد لما قلناه (صفحة 409) من أن غايته: أن الرواية مرسلة أو أن الصدوق (قدس سره) نقل إحدى روايات الباب بالمضمون وهي جميعاً بين أيدينا فنراجعها، وعلى جميع التقادير لا تكون هذه الرواية معتبرة يصح الاستدلال بها.

معرض ردّه على حمل ما دل على وجوب الزكاة في مال التجارة على التقية قال: ((وهو ضعيف، خصوصاً بملاحظة ما ورد في التفصيل في مال اليتيم فهم يقولون به مطلقاً والإمام (عليه السلام) فصّل إلا إذا اتجر به))(1).

وردّ على تفسير الشيخ الطوسي (قدس سره) لكلام الشيخ المفيد (قدس سره) بإرادة الندب من الوجوب دفعاً لإشكال وجوب الزكاة في مال الصغير إذا عمل به وعدمه في مال تجارة البالغ بأن ((هذا ليس إشكالاً إذ يمكن أن يكون تعبداً كقوله (عليه السلام): (وإذا حصلت خسارة فعلى المتجر)(2)

وهو خلاف القاعدة لأنه محسن فهذا وذاك تعبدي))(3).

أقول: كأنه (دام ظله الشريف) لم ينفِ الارتباط بين المسألتين، وإنما نفى الملازمة بين الحكمين.

هذا ولكننا نعتقد بوجود الفرق بين المسألتين إثباتاً وثبوتاً وقد أشرنا إلى طرف منه في مسألة الزكاة في مال التجارة:

ص: 416


1- محاضرة بتأريخ 16/صفر/1420 ه- وهي آخر محاضرة ألقاها (دام ظله الشريف).
2- أقول: هذا بالمضمون فقد ورد في خبر سعيد السمان (وإن وضع فعلى الذي يتجر به) ونحوه غيره في الباب2 من أبواب من تجب عليه الزكاة.
3- محاضرة بتأريخ 5/شعبان/1419 ه-.

أما (إثباتاً) فمن جهتين على الأقل، أحدهما: إن الروايات صرحت بأن شرط تعلق الزكاة في مال التجارة إذا جمده ولم يحركه كما في صحيحة علي بن يقطين قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المال الذي لا يعمل به ولا يقلب، قال: تلزمهالزكاة في كل سنة إلا أن يسبك)(1)، بينما شرط تعلقه في مال الصغير عكس ذلك تماماً أي إذا حركه ولم يتركه موضوعاً كما في الروايات المتقدمة.

وثانيهما لأن موضوع الزكاة في مال البالغ الأمتعة والأعيان غير الزكوية بصريح الروايات، أما في مال الصغير فموضوعه المال الزكوي وهما النقدان بحسب الظاهر.

وأما (ثبوتاً) فلأمرين أيضاً:

أحدهما: لعدم وحدة الملاك فيهما، وقلنا هناك (البحث السادس): ((إن مدخلية عنوان الاتجار في مسألة تعلق الزكاة بمال الصغير إذا اتجر به من باب زوال تأثير المانع، وفي مسألة زكاة مال التجارة من جهة تحقق المقتضي.

بيان ذلك: أن مال التجارة –وهي الأمتعة والأعيان- ليس في نفسه مالاً زكوياً أي ليس من الأصناف الزكوية، فلا تتعلق به الزكاة لعدم وجود المقتضي للوجوب، فإذا جمّده بالشروط التي ذكرناها وجبت فيه الزكاة، أما المال المفروض في أخبار اليتيم فهو مال زكوي في نفسه، أي أن شروط الوجوب الخاصة للموضوع مجتمعة كبلوغ النصاب وحولان الحول، ولكن منع من وجوب إخراج الزكاة منه عدم تحقق شرط البلوغ في المالك وكون المال موقوفاً للصغير، فإذا أراد الولي تحريكه وجب إخراج زكاته، لزوال تأثير المانع وهو كون المال مجمداً ومحفوظاً للصغير.

ثانيهما: من حيث الحكمة والغرض فوجوب الزكاة في مال التجارة لمنع الاحتكار وحبس الأمتعة وتجميدها وتعطيل احتياجات الناس مما يزيد في

ص: 417


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 8، ح4.

التضخم، أما وجوب الزكاة في مال الصغير فعلى عكس ذلك أي على تحريكه، فلعل فرض الزكاة للمحافظة عليه أو لتقليل الاندفاع نحو التصرف به؛ لذا ذكرت الروايات أن الخسارة على المتجر مع أنه خلاف القاعدة، فيكون ادخاره أفضل لمصلحة اليتيم، ولا مخاوف في نقصان قيمته السوقية لأنها محفوظة في نفس المال باعتباره من الذهب والفضة.

ويشهد لكل ما ذكرناه أن الصغير لا يختص بهذا الحكم أي تعلق الزكاة في ماله إذا اتجر به الولي، بل يشترك معه فيه كل من سقط عنهم الوجوب لعدم تحقق أحد الشروط كالعقل أو الحرية أو التمكن من التصرف؛ لذا ورد نفس الحكم –أي وجوب الزكاة إذا حُرّك المال واضطرب فيه- في جميع هذه الموارد كالمجنون – فقد وردت صحيحة(1) عبد الرحمن بن الحجاج

ص: 418


1- الرواية معتبرة فقد رواها الكليني عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن الحجاج، وأشكل عليه من جهة أن فيه محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني (قدس سره) كثيراً. وقد اختلف فيه، فقال بعضهم أنه ابن بزيع وهو غير صحيح لأن ابن بزيع لا يروي عن الفضل بن شاذان بل الفضل يروي عنه، وقيل أنه البرمكي الثقة وهو غير تام أيضاً لأن البرمكي لم يروِ عن الفضل (معجم رجال الحديث، ج15، رقم الترجمة 10242). والذي رجحه كثير من المحقين أنه النيسابوري لأن الكشي صرّح بأن من روى عن الفضل هو النيسابوري. وبغضّ النظر عن معرفة هويته إلا أن الأصحاب اعتمدوا على روايات هذا العنوان لوجه أو لآخر ككثرة رواية الكليني (قدس سره) عنه. وفي خصوص هذه الرواية فإنها معتبرة بتقريبين (أحدهما) أن الكليني وإن لم يصرح هنا أن له طريقاً آخر إلى الفضل إلا أنه ذكر في مئات الموارد أن له ذلك عن علي بن إبراهيم عن أبيه أو محمد بن عبد الجبار أو محمد بن الحسين وغيرهم. (ثانيهما) أن الشيخ (قدس سره) ذكر في المشيخة طريقه إلى روايات الفضل أنه روى عن مشايخه عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن إسماعيل عن الفضل، وبعض الروايات المنقولة في التهذيبين عن الفضل نفس الروايات التي ذكرها الكليني بطريق واحد عن محمد بن إسماعيل فيظهر أنه إنما لم يذكر غيره مع وجوده رعاية للاختصار.

قال: (قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام): امرأة من أهلنا مختلطة أعليها زكاة؟ فقال: إن كان عمل به فعليها زكاة، وإن لم يعمل به فلا)(1)–.

وورد في الوديعة في الكافي بسنده عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن كان عندك وديعة تحركها فعليك الزكاة، فإن لم تحركها فليس عليك شيء)(2))).

وورد في مال المملوك معتبرة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقل أو أكثر –إلى أن قال- قلت: فعلى العبد أن يزكيها إذا حال عليه الحول؟ قال: لا إلا أن يُعمل له فيها ((بها)) )(3).

فإذن وراء هذا الحكم حقيقة يشترك بها هؤلاء ولا تختص بالصغير حتى يلحظ ارتباط المسألة بمسألة مال التجارة للبالغ بمعزل عن هذه العناوين الأخرى.

وفي ضوء ما تقدم فإنه يمكن تقريب منشأ تعلق الزكاة في مال الصغير بوجهين:أولهما: ((لإباحة التصرف في العين، فإن الزكاة لها حكمان: تكليفي وهو الأمر بإخراجها ودفعها، ووضعي وهو ثبوت حق للغير فيبطل التصرف

ص: 419


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 3، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب8، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب4، ح6.

بالمال الزكوي بحسب نحو تعلق الزكاة بالمال، فإذا لم يتوفر أحد شروط الزكاة كالبلوغ امتنع الخطاب التكليفي، وإذا كان المال مدخراً للصغير أو المجنون لم يكن موضوع الحكم الوضعي تأخرا، فإذا أريد تحريك المال تنجّز الحكم الوضعي في المال))(1).

ثانيهما: أنه مالٌ ينمى لما ورد في معتبرة شعيب العقرقوفي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): كل شيء جرَّ عليك المال فزكّه)(2)

وتقدم مثله في روايات العامة.

ونلفت النظر إلى أن كل ما قلناه أعلاه هو من باب البحث التحليلي وفهم فلسفة الحكم الشرعي، الذي يستفاد من النصوص الشرعية المتقدمة، وليس من هذه التحليلات فلا يضر وجود بعض المناقشات فيها.

نكتة: ذكر المحقق الهمداني (قدس سره) أن العلاقة بين المسألتين هي الخصوص المطلق ومع ذلك جعل تلك المسألة قرينة على حمل روايات المقام على الاستحباب، وقال (قدس سره) في وجه ذلك: ((لمعارضتها بالروايات الآتية في مبحث زكاة مال التجارة الصريحة في نفي الوجوب، وهذه الأخبار وإن كان موردها أخص من مطلق مال التجارة ولكن قد ورد مثل هذه الأخبار أخبار كثيرة في مطلق التجارة وفي خصوص تجارة البالغين أيضاً مما كان ظاهره الوجوب فلا بد في الجمع بينها وبين تلك الأخبار بحمل ما كان ظاهره الوجوب على تأكد الاستحباب))(3).

أقول: يعتقد (قدس سره) أن روايات المسألة أخص مطلقاً من روايات زكاة مال التجارة، إلا أنها لا تصلح لتخصيصها كما لم تصلح روايات هناك ظاهرة في الوجوب لصرف الروايات الصريحة في عدمه.

ص: 420


1- راجعه ضمن البحث السادس (صفحة 286).
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 16، ح1.
3- مصباح الفقيه للهمداني: 4/3.

وقد ناقشنا في مسألة زكاة مال التجارة عدم وجود ما يصلح لصرف الوجوب عن ظاهره، مضافاً إلى عدم الملازمة بين المسألتين حتى لو تم ما قاله (قدس سره) هناك، مع أنه غير تام.

أما السيد الحكيم (قدس سره) فقد أخذ منه النسبة بين الدليلين إلا أنه خالفه في مقتضاها فقال إن ((مقتضى الجمع العرفي يقتضي تقديم نصوص المقام –أي مال الصغير إذا اتجر به- عليه –أي مال التجارة- لأنها أخص))(1)

والتزم بأن المانع من الوجوب هو الإجماع كما سيأتي.

وفيه:-

1- ما قلناه من أن موضوع المسألتين مختلف فالنسبة بينهما التباين وليس العموم والخصوص المطلق فلا وجه للجمع العرفي بينهما.1- إن ما ذكره (قدس سره) من الجمع إذا أردنا تصحيحه فإنه مبني على لحاظ العنوان وهو (عدم وجوب الزكاة في مال التجارة) فيكون ما نحن فيه أخص منه، أما إذا لوحظت الروايات فلا تكون النسبة بينهما ما ذكره (قدس سره).

عود على بدء: هذا وقد ذكر أكثر من مانع آخر عن القول بالوجوب نذكرها بنفس الترتيب:

(الثالث) الإجماع: قال صاحب الجواهر (قدس سره) بعد كلامه المتقدم (صفحة 411) في قصور أدلة الباب عن إفادة الوجوب: ((لكن لا مناص عن القول بالندب هنا بعد الإجماع المحكي عليه في المعتبر ومحكي المنتهى والنهاية وظاهر الغنية المعتضد بالتتبع، وبالنصوص المزبورة المعتبر سند بعضها المحمولة على ذلك الذي هو أولى من التقية))(2).

ص: 421


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/19.
2- جواهر الكلام: 15/17.

وقال السيد الحكيم (قدس سره) بعد أن نسب القول بالاستحباب إلى الأكثر تارة والأشهر أخرى والمشهور ثالثة وعن المعتبر والمنتهى وغيرهما الإجماع عليه، ونقل صحيحة محمد بن مسلم وخبر محمد بن الفضيل، قال (قدس سره): ((وظاهرهما وإن كان وجوب الزكاة، إلا أنه يجب رفع اليد عنه بالاتفاق المحكي على الاستحباب، إذ لم ينقل القول بالوجوب إلا عن المفيد (قدس سره) في المقنعة، وقد حمله الشيخ (رضوان الله عليه) –الذي هو أعرف من غيره بمراده- على الاستحباب، وهذا هو العمدة في رفع اليد عن ظاهر النصوص))(1).

وفيه:-

1- المناقشة فيه صغروياً لذهاب بعض القدماء إلى الوجوب فقد صرَّح به الشيخ المفيد (قدس سره) ويظهر من ابني بابويه.

2- إن هذا الإجماع مدركي كما هو واضح فهم أقرّوا بظهور الروايات في الوجوب وإنما حملوها على الاستحباب للموانع التي ذكروها، وقد ظهر من نقل كلماتهم أن هذا الإجماع أسسه الشيخ الطوسي (قدس سره) وتبعه من جاء بعده.

أما حمل الشيخ (قدس سره) مراد أستاذه المفيد على الاستحباب فهو اجتهاد منه وليس نقلاً عنه فلا يكون حجة، والشاهد الذي ذكره بقوله (صفحة 411): ((ألا ترى أنه لو كان هذا المال للبالغ واتَّجر به لما وجبت عليه فيه الزكاة وجوب الفرض)) لا يصلح للفرق بين المسألتين كما نبهنا ولا الذي قاله صاحب الجواهر (قدس سره) (صفحة 412) للفرق المذكور.

ومن هنا يعلم النظر فيما قاله جمع –كالسيد الحكيم (قدس سره) في النص المتقدم آنفاً والسيد الخوئي (قدس سره) في ما نقلناه عنه (صفحة 415)- من أن الشيخ (قدس سره) أعلم بمراد أستاذه.

ص: 422


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/19.

(الرابع) ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) وحاصله ((أنّ الزكاة من مباني الإسلام، فهو ممّا لو كان لبان وكان من الواضحات، فكيف لم يُنسَب القول بالوجوب إلى أحد ما عدا المفيد الذي عرفت حال هذه النسبة أيضاً؟! فلا ينبغي التأمّل في حمل تلك الأخبار على الاستحباب))(1).

أقول: يرد عليه:-

1- كبروياً من عدة جهات (أحدها) أننا ناقشنا مراراً هذا الدليل الذي يكثر السيد الخوئي (قدس سره) من استعماله، والذي غاية ما يفيد الظن وهو لا يغني من الحق شيئاً، (ثانيها) إن مثل هذا الدليل كالاجتهاد في مقابل النص مع وفرة الروايات الخاصة بالمسألة، (ثالثها) إن أصل وجوب الزكاة من مباني الإسلام ولا خلاف فيه، أما هذه التفاصيل الفرعية فليست كذلك، فلا تكون المسألة مورداً لهذه الكبرى.

2- صغروياً، إذ أنه ما المراد بقوله: ((لو كان لبان)) هل الفتوى بالوجوب أم العمل بمقتضاه؟ فإن أراد به الفتوى بالوجوب فقد علمنا منشأ ذلك ومدركه وهو وجود المانع أو قصور المقتضي وقد علمنا المناقشة في مدركهم، وإن أراد به العمل بالوجوب فقد يكون لقلة الصغار الذين يملكون، وإذا ملكوا فقد لا يكون مما تتعلق به الزكاة، وإن كان فقد لا يبلغ النصاب، وإذا بلغ النصاب فقد لا يكون مما يتجر به، وإذا اتجر به فقد لا يكون وليه من الملتزمين بالشريعة، ووفق نظرية الاحتمالات يكون احتمال العامل بهذا الحكم قريباً من العدم ويكون عدم اشتهاره طبيعياً على القاعدة، أي هذه النظرية.

المقام الثاني: في قصور المقتضي أي روايات الباب:-

ص: 423


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/57.

واستنتجوا منه عدم المشروعية أصلاً لا وجوباً ولا استحباباً لحرمة التصرف في مال الصغير إلا فيما فيه مصلحة له، والمفروض عدم ثبوتها.

واختار القول بعدم المشروعية ابن إدريس (قدس سره) فقد قال في مكاسب السرائر بعد أن نقل قول الشيخ الطوسي (قدس سره) باستحباب إخراج الزكاة من مال الصبي إذا اتجر به الولي قال (قدس سره): ((والذي يقوى عندي أنه لا يخرج ذلك، لأنه لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع، لأنه لا يجوز له التصرف إلا فيما فيه مصلحة لهم، وهذا لا مصلحة لهم فيه من دفع عقاب ولا تحصيل ثواب، لأن الأيتام لا يستحقون ثواباً ولا عقاباً، لكونهم غير مخاطبين بالشرعيات))(1).

واستجوده منه صاحب المدارك (قدس سره) قال: ((سقوط الزكاة في ذلك وجوباً واستحباباً، ذهب إليه ابن إدريس في سرائره وهذا القول جيد على أصله، بل لا يبعد المصير إليه، لأن ما استدل به على الاستحباب غير نقي، بل ولا واضح الدلالةأيضاً، ومع ذلك فالوجوب منفي بما سنبينه إن شاء الله من عدم وجوب الزكاة في هذا النوع مطلقاً، وإذا انتفى الوجوب كان الأولى عدم التصرف في مال الطفل على هذا الوجه))(2).

وظاهر صاحب الجواهر (قدس سره) ومقاربته في كلامه المتقدم (صفحة 412).

وردّ عليه صاحب الحدائق بقوله: ((وفيه نظر: أما ما طعن به من ضعف إسناد هذه الأخبار فمنها حسنة محمد بن مسلم وحسنها إنما هو بإبراهيم بن هاشم الذي اتفق أصحاب هذا الاصطلاح على قبول روايته وأنها لا تقصر عن الصحيح بل عدها في الصحيح جملة من محققي متأخري المتأخرين، وهو أيضاً قد عدها في الصحيح في مواضع أشرنا إلى جملة منها

ص: 424


1- السرائر: 2/216.
2- مدارك الأحكام: 5/18

في كتاب الطهارة والصلاة، ومنها موثقة يونس بن يعقوب التي ذكرها أيضاً وقد تقدم في غير موضع من شرحه عمله بالموثقات المعتضدة بالشهرة بين الأصحاب، ومنها أيضاً زيادة على ما ذكره صحيحة زرارة المروية في الفقيه عن أبي جعفر (عليه السلام) )).

وذكر رواية الصدوق عن زرارة وبكير (رقم 5) ثم وجّه (قدس سره) نقداً لاذعاً لهما، قال (قدس سره): ((وأما ما طعن به من عدم وضوح الدلالة فهو محل العجب فإن وضوحها في الدلالة على ذلك أوضح من أن ينكر وصراحة مقالاتها في ما هنالك ظاهر لذوى النظر. وبالجملة فإن رد هذه الأخبار التي ذكرناها من غير معارض في المقام يحتاج إلى مزيد جرأة على الملك العلام وأهل الذكر (عليهم السلام) وهذا أحد مفاسد هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح، ولهذا إن الفاضل الخراساني –أي السبزواري صاحب الذخيرة والكفاية- مع اقتفائه أثر السيد المذكور في جل الأحكام والانتصار لمقالاته في غير مقام نكص عنه هنا حيث قال بعد نقل جل هذه الأخبار ما صورته: وهذه الأخبار واضحة الدلالة على المدعى مع كون أكثرها معتبراً صالحاً للحجية واعتضادها بالشهرة بين الطائفة وعدم خلاف محقق، فلا وجه لتوقف بعض المتأخرين في الحكم المذكور نظراً إلى أن ما استدل به على الاستحباب غير نقي السند ولا واضح الدلالة أيضاً. انتهى وبالجملة فإن كلامه (قدس سره) هنا لا يخلو من مجازفة))(1).

أقول: لتخفيف وطأة الهجوم على هذين العلمين فإنه يمكن أن نبيّن وجه ما ذهبا إليه، فبعض الروايات غير تامة السند –ولو عندهم- كالرواية (6) ففيها إسماعيل بن مرار الذي لم يرد فيه توثيق، والرواية (7) عن أبي العطارد الحناط وهو مجهول، والرواية (8) عن محمد بن الفضيل ولم تثبت وثاقته.

ص: 425


1- الحدائق الناضرة: 12/24-25.

والرواية (4) في سندها إبراهيم بن هاشم الذي لم يوثَّق صريحاً إلا أنه ممدوح ولا يكفي المدح؛ ولذا وصف البعض روايته بالحسنة فيمكن أن يستشكل في السند من هذه الناحية مضافاً إلى أن هذا الذيل انفرد به الكليني في روايته عن محمد بن مسلم ولم ينقله الشيخ (قدس سره) في التهذيب مع أنه بنى على نقل أغلب روايات الكافي، وإنما روى نفس السؤال لمحمد بن مسلم عن كتاب سعد بن عبد الله بسند صحيح وقد تقدّم نقله (صفحة 400) (وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح7) وليس فيها الذيل ((فيكون الذيل زيادة توضيحية من بعض الرواة وهو شيء معمول به عند القدماء حيث لم يكونوا يفصلون بكلمة (أقول) أو (بيان) ونحوه، فقد لا يحصل الوثوق بهذا الذيل))(1).

وأما الرواية (1) فلوجود إبراهيم بن هاشم في سندها ولعدم تمامية الاستدلال بالمفهوم وقد ذكر الإمام (عليه السلام) المفهوم في الجزء الثاني من الرواية ولم يتعرض فيه للزكاة.

وأما الرواية (2) فللتهافت فيها فهو يقول في صدرها: (أرسلت) الصريح في بعث كتاب ونحوه، لكن ذيلها فيه محاورة (قال وقلت) الدالة على المشافهة فلعل الرسالة كانت بيد رجل آخر وهو الذي تولى الحوار ونقله إلى يونس فيكون الإشكال من هذه الناحية، وقد نبّه إلى هذا السيد السيستاني (دام ظله الشريف) في بحثه(2).

وأما الرواية (3) فقد رواها الشيخ (قدس سره) عن ابن فضال وطريقه إليه ضعيف عند الكثيرين، ورواه ابن فضال عن أحمد بن الحسن عن أبيه وهما فطحيان.

ص: 426


1- السيد السيستاني في محاضرة بتأريخ 5/شعبان/1419.
2- المحاضرة السابقة.

وأما الرواية (5) فقد ذكرنا في ذيلها أنها ليست رواية عن المعصوم (عليه السلام).

أقول: هذه المناقشات أوردناها تشييداً للبحث العلمي وللدفاع عن العلمين (قدس الله روحيهما) وإلا فإنها قابلة للنقاش جملة وتفصيلاً.

أما (جملة) فإن هذا المنهج الذي أسميه بالهندسي أو الرياضي في التعامل مع النصوص أي يريد أن يكون الاستدلال الفقهي على نحو المعادلات الرياضية لا يلائم عملية الاستنباط الفقهي، ولا يلتزم به أحد من أهل الفن، ويلزم منه فقه جديد كما يعبرون؛ لأن الاستنباط الفقهي أمر وجداني ينشأ من الاطمئنان والاستظهار وهو يحصل من أقل من هذه الأدلة الموجودة، لأنه يُبنى على ملاحظة مجموع النصوص.

وأما (تفصيلاً) فلأن الكثير من هذه المناقشات غير معتمدة، كالمناقشة في السند من جهة الفقيه الجليل إبراهيم بن هاشم، أو كون بني فضال فطحية مع أنهم ثقات، وطريق الشيخ وإن كان ضعيفاً بعلي بن محمد بن الزبير الذي لم تثبت وثاقته إلا أننا صححنا رواية الشيخ عنه لأنه أخذها بطريق صحيح من كتبه بتقريب ذكرناه في مسألة سابقة من فقه الخلاف.وترد المناقشة في المفهوم الذي استدل به في صحيحة الحلبي –رقم (1)- بأنه مصَرَّحٌ به في صحيحة يونس بن يعقوب وهكذا.

والاحتمال الذي ذُكر من كون الذيل –في الرواية (4)- من إضافة الراوي لا أثر له خصوصاً من مثل الكليني الذي ينبّه إلى بيان وتوضيح الراوي كما ورد في بعض الروايات بقوله: ((قال يونس)) ونحوه، مع احتمال كونه من التدليس المدفوع عن الرواة الثقات.

مضافاً إلى أن هذا المناط لتعلق الزكاة ورد أيضاً في نظير الصبي في عدم الكمال وهو المجنون كما تقدم (صفحة 418-419) في صحيحة عبد

ص: 427

الرحمن بن الحجاج، بل في كل مال سقطت عنه الزكاة لوجود المانع إذا أريد تحريكه كالوديعة ومال المملوك، فإذن هو ثابت ووراءه حقيقة معينة كما قلنا.

عود على بدء: قد تحصَّل مما تقدم عدم قصور المقتضي للقول بالوجوب ولا يوجد مانع من الالتزام به وقد اختاره عدد من القدماء كابني بابويه والشيخ المفيد (قدس الله أرواحهم).

ويمكن أن يُذكر هنا تقريبان آخران لقصور المقتضي:

الأول: حمل ما دل على وجوب الزكاة في مال الصغير إذا اتجر به على التقية، ونُسِبَ إلى الشيخ (قدس سره) كما عن المحقق الهمداني (قدس سره) في ما ننقله (صفحة 446) ويظهر من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) (صفحة 421) احتماله وإن جعله مرجوحاً. واحتمله أيضاً الشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي كرر ما قاله أستاذه صاحب الجواهر (قدس سره) من ((أن حمل تلك الأخبار على الاستحباب أولى من حملها على التقية))(1)

وتبعه تلميذه المحقق الهمداني (قدس سره) فقد قال عن أخبار المسألة: ((وظاهرها الوجوب ولكن المتعين إما حملها على التقية أو الاستحباب))(2).

وأُجيب بأن ((الأخبار فصّلت في مال اليتيم بعدم الزكاة فيه إلا إذا اتجر به ولم يفصل أهل السنة في ماله بل حكم الشافعي ومالك وأحمد بثبوت الزكاة في مال اليتيم مطلقاً وحكم أبو حنيفة بعدمها فيه مطلقاً فراجع المسألة 41 من زكاة الخلاف فالتفصيل بين مال التجارة وغيره في اليتيم لا يناسب التقية))(3).

وورد في بحث السيد السيستاني (دام ظله الشريف) مثله كما نقلنا عنه (صفحة 415).

ص: 428


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/84.
2- مصباح الفقيه: 4/3.
3- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/62.

أقول: لا يكفي هذا الجواب لمنع الحمل على التقية إذ أنهم وإن لم يكن لهم قول صريح بالتفصيل، إلا أن كلامهم يؤول إليه؛ لأنهم رووا ما يحث على الاتجار بمال الصغير كما تقدم (صفحة 392) لئلا تأكله الزكاة وهم يوجبون الزكاة فيه، فكأن مذهبهم المشهور الاتجار به وتزكيته، وعليه يفهم كلام الإمام (عليه السلام) وكأنه قال: اتجِرْ به وزكّه، أي أن الجملة وإن كانت شرطية ظاهراً إلا أنها ليست تعليقية نظير قول المولى: (إذا جئتني فاجلب لي الكتاب الفلاني) فإن العبد يفهم لزوم المجيء وجلب الكتاب، وليس تعليق جلب الكتاب على المجيء متى شاء.

وورودها في الكتاب والسنة كثير كقوله (عليه السلام) في الدعاء: (إلهي إن كنتُ بئس العبد فأنت نعم الرب) فالله تعالى نعم الرب سواء كنت بئس العبد أو لم أكن، وأنا بئس العبد فعلاً وليس على نحو التعليق.

نعم لا يصح حمل تلك الروايات على التقية لإبائها ذلك من عدة جهات:-

1- إن نفس الروايات مخالفة للتقية لأنها تضمنت عدم وجوب الزكاة في مال الصغير خلافاً للمشهور عندهم.

2- لأن الاتجار بمال الصغير ليس موضوعاً للسؤال عندهم.

3- لكثرتها وتظافرها مما لا يحتمل معه كونها صادرة لإظهار حكم مخالف للواقع.

4- ابتداء الإمام (عليه السلام) بالأمر دون سؤال كما في صحيحة يونس بن يعقوب وغيرها.

5- تعرضها لحكم يتشدد فيه الشارع المقدس وهو مال الصغير الذي جعل أكله بالباطل إدخالاً للنار في بطونهم فكيف يعطي الإمام حكماً بالوجوب في غير موضعه تقية.

ص: 429

6- لصدور الكثير منها قبل تشكل المذاهب المذكورة فضلاً عن كونها تمثل الرأي العام للسلطة وقضاتها فلم يكن حينئذٍ مبرر للتقية، بل ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (كان أبي يخالف الناس في مال اليتيم ليس عليه زكاة)(1) ونحوها من الوجوه.

وذكر المحقق الهمداني (قدس سره) بياناً آخر للتقية سنذكره (صفحة 446) بإذن الله تعالى وأخذه منه بعض أعلام العصر (قدس سره) فقال: ((اللهم إلا أن لا يراد التقية من أهل الفتوى بل التقية في مقام العمل في قبال حكام الوقت فإن الزكاة كانت تطلب من قبل الحكام، والذهب والفضة لم تكن بمرآهم بخلاف الغلات والمواشي ومال التجارة فيكون الوجوب في قوله في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم السابقة: (فأما الغلات فعليها الصدقة واجبة) وكذا في أخبار مال التجارة بمعنى الثبوت ويراد به الإخبار عن الثبوت خارجاً فيكون نظر الأئمة (عليهم السلام) أن مال اليتيم ليس فيهزكاة شرعاً ولكن في الغلات والمواشي ومال التجارة تثبت خارجاً بأخذهم لها قهراً))(2).

أقول: وفيه:-

1- ما ذكرناه من إباء المجموعة عن الحمل على التقية خصوصاً وإن الراويين هما محمد بن مسلم وزرارة.

2- النقض عليه بعدم التعرض للمواشي مع أنها تشترك مع المذكورات بالمناط.

3- عدم الحاجة لاختصاص الصغير بذلك بل تشمله روايات الزكاة في أموال التجارة.

ص: 430


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح9.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/62.

4- ما قلناه في مسألة مشابهة من أن الأئمة (عليهم السلام) لا يمكن أن يشرعنوا ظلم السلطة وغصبها لأموال الناس، فيفتون بالوجوب لتبرير جباية السلطة للزكاة ظلماً وعدواناً، بل ورد عنهم (عليهم السلام) حثّ شيعتهم على عدم الدفع للحكومات الظالمة كما في صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (في الزكاة فقال: ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا بها ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم فإن المال لا يبقى على هذا أن تزكيه مرتين))(1)

وفي معتبرة قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (أن علياً (عليه السلام) كان يقول: اعتد في زكاتك بما أخذ العشار منك واحفظها عنه ما استطعت)(2). وغاية ما فعلوه (عليهم السلام) رحمة بشيعتهم تخييرهم بإمكان الاجتزاء بما يأخذه السلطان من الزكوات وليس عليهم أداء غيرها كما في عدد من الروايات المعتبرة، ومنها صحيحة سليمان بن خالد قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن أصحاب أبي أتوه فسألوه عما يأخذ السلطان، فرقّ لهم، وإنه ليعلم أن الزكاة لا تحل إلا لأهلها، فأمرهم أن يحتسبوا به، فجال فكري والله لهم، فقلت له: يا أبه، إنهم إن سمعوا إذن لم يزكِّ أحد، فقال: يا بني، حقّ أحبّ الله أن يظهره)(3).

(2).

نعم سنذكر (صفحة 434) بياناً آخر للمراد من التقية بإذن الله تعالى.

الثاني: ما عرضه السيد السيستاني (دام ظله الشريف) في بحثه من بيان لما أسميناه بقصور هذه الأدلة عن إفادة الرجحان وحاصله: ((إن هذه الروايات ليست في مقام بيان أن مطلق الاتجار بمال الصبي يوجب الزكاة، فإن المال

ص: 431


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 20، ح3، 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين، باب 20، ح8.

الجامد بالكلية لا زكاةفيه إلا أن يعمل به، أما ما هي شروط الزكاة فإن الروايات لم تتعرض لبيانها، فحكم غير البالغ حكم البالغ، فما يثبت فيه من زكاة يثبت في مال غير البالغ إذا كان مال تجارة لا في كل مال تجارة بالمعنى الآخر وهو المتحرك)).

ورتّب (دام ظله) على ذلك عدم الملازمة بين الحكمين، وإن رَبَطَ بين المسألتين كما تقدم فقال: ((فمع عدم الوجوب هناك في مال التجارة بشرائطه –ومنها الحول- يمكن القول بالوجوب في غير البالغ))(1).

أقول: يرد عليه مضافاً إلى ما تقدم من الإشكال على الخلط بين زكاة مال الصغير وزكاة أموال التجارة:-

1- إن العرف إذا ألقيت إليه هذه المجموعة من الروايات فإنه لا يتردد في وضوح كون الروايات في المقام بصدد بيان حكم خاص بالصغير ونظرائه ممن لم تكتمل عندهم شرائط الوجوب كالمجنون والعبد، وإن خصوصيتهم لوحظت في السؤال والجواب، بحيث يفهم العرف الأمر بالزكاة من هذه الأجوبة بلا إجمال، وليست بصدد الإحالة على مسألة أخرى لا خصوصية لهم فيها، ويشهد له اختلاف روايات البابين، ولا أعتقد أن هذا يخفى عليه، ولكنه من باب ضيق الخناق –كما يعبرون- للتوفيق بين المسألتين.

2- النقض عليه بأن نتيجة إشكاله قصور الروايات حتى عن إفادة الاستحباب لإجمالها كما أفاد، فلا يبقى دليل على الرجحان فتتنجز حرمة التصرف في مال الصغير مع أنه أفتى بالاستحباب في رسالته العملية وأنه ((يستحب له –أي ولي الصبي والمجنون- إخراج زكاة مال التجارة إذا اتجر بمالهما لهما))(2).

ص: 432


1- محاضرة بتأريخ 8/شعبان/1419.
2- منهاج الصالحين: 1/327، المسألة (1092)، طبعة 1432 ه-.

3- كما أن مقتضى تقريبه وجوب الزكاة في مال الصغير إذا اتجر به وتحققت فيه شروط الوجوب في مال التجارة للبالغ، بينما اشترط (دام ظله) البلوغ في وجوب الزكاة في مال التجارة، قال في الشروط العامة لثبوت الزكاة: ((الثاني والثالث: بلوغ المالك وعقله)) ثم قال: ((فلا تثبت الزكاة على النقدين ومال التجارة إذا كان المالك صبياً))(1).

والذي قررناه في بحثه الشريف أنه اختار الوجوب خلافاً للرسالة العملية، فمما قال معلقاً على قول صاحب العروة: ((ولو لم يؤدِ الولي إلى أن بلغ المولى عليه فالظاهر ثبوت الاستحباب بالنسبة إليه))(2)

قال (دام ظله الشريف): ((وعلى الوجوب الذي نقول به فواضح الصحة لأن الظاهر تعلق الزكاة بنفسالمال، فظاهر قوله (عليه السلام): (إلا أن يتجر به) ثبوت نحو حق في المال وجوباً –كما اخترنا-))(3).

تتميم: هل يلزم من قصور المقتضي القول بعدم المشروعية؟

ظهرت هذه الملازمة في كلام ابن إدريس وسيد المدارك (قدس الله روحيهما)، لكن يظهر من كلمات بعض الأعلام عدم الملازمة ولو على بعض الوجوه، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((وحمل تلك الأخبار على التقية لا ينافي إرادة الاستحباب، لأن التقية تتأدى بظهور الكلام في الوجوب الذي هو مذهب المخالفين في مال التجارة، وإرادة الاستحباب بقرينة خارجية.

ص: 433


1- منهاج الصالحين: 1/326.
2- ذيل المسألة (1) بعد الشروط العامة لوجوب الزكاة.
3- محاضرة بتأريخ 12/شعبان/1419 ه-.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما حكي عن الحلي والمدارك من عدم الاستحباب))(1).

وتبعه المحقق الهمداني (قدس سره) فقال: ((إن حمل هذه الأخبار الدالة بظاهرها على الوجوب على التقية كما نسب إلى الشيخ منافياً لاستفادة الاستحباب منها))(2).

وفيه:-

1- إن الحمل على التقية يعني طرح الرواية، واعترف (قدس سره) بذلك في موضع آخر قال (قدس سره): ((إن حمل تلك الأخبار على الاستحباب أولى من حملها على التقية، لأنه طرح في الحقيقة))(3)

وذكره المحقق الهمداني (قدس سره) في نفس الموضع، وحينئذٍ نقول: مع طرح الرواية لا يبقى دليل على الاستحباب.

2- إن حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب بقرينة خارجية –ويقصد بها ما دل على نفي الزكاة في مال الصغير- من الجمع العرفي وهو سابق رتبة على الحمل على التقية ولا يبقى لها موضوع.

نعم يمكن الدفاع عن الشيخ (قدس سره) بأن لا يراد بالحمل على التقية جهة الصدور، وإنما استعمال صيغة ظاهرة في الوجوب في مورد الاستحباب الذي يُفهم من قرائن خارجية، وهو فهم ينفع في الدفاع عن هؤلاء الأساطين ودفع إشكال الملازمة عنهم، وإن لم ينسجم مع ظاهر عبارته (قدس سره).أو يريد بالقرينة الخارجية أدلة على الاستحباب من غير روايات الباب، وحينئذٍ تكون خروجاً عن محل الكلام في هذه الروايات ودلالتها.

ص: 434


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/12.
2- مصباح الفقيه: 4/3.
3- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 10/84.

وقد ذُكر أكثر من وجه للقول بالاستحباب من غير روايات الباب مع قصورها عن إفادة الرجحان ومن هذه الوجوه:-

1- التمسك بقاعدة التسامح في أدلة السنن وقد صدر مثل هذا من المحقق النراقي (قدس سره) في ما يأتي من زكاة الغلات والمواشي، قال –بعد أن أشكل على استدلال المشهور-: ((لما ثبت التسامح في أدلة السنن ولو بالتعويل على مجرد فتوى الفقهاء، فيمكن الاستناد في الاستحباب في الجميع بفتاوى القائلين بالوجوب والاستحباب))(1) والمورد مثله.

وفيه: إن صدوره غريب منه (قدس سره) لوجود الدليل النافي لوجوب الزكاة في مال الصغير، مضافاً إلى حرمة التصرف فيه ولا يخرج منها إلا بدليل معتبر مثله ولا تجري القاعدة المذكورة، أما فتوى الفقهاء فهي مدركية.

2- الإجماع، وقد استند إليه صاحب الجواهر (قدس سره) في ما نقلناه عنه (صفحة 421) بعد مقاربته لمن ذهب إلى قصور المقتضي.

وفيه: أنه مدركي فالحجية للمدرك ولا يصلح أن يكون وجهاً مستقلاً.

ونتيجة البحث في هذه الجهة الأولى أن جملة من الروايات ظاهرة في وجوب الزكاة في مال اليتيم إذا اتجر به، وما قيل من الموانع عن الأخذ بظاهرها غير تام، وقد ذكرنا منشأين لفهم هذا الوجوب، فلا محيص عن القول بالوجوب خلافاً للمشهور، وترجيح قول ابني بابويه والشيخ المفيد (قدس الله أرواحهم جميعاً).

ص: 435


1- مستند الشيعة: 9/22.

الجهة الثانية: زكاة الغلات وتتبعها المواشي

تقدم (صفحة 388) أن الشيخين أوجبا الزكاة في غلات الصغير، وكذا أبو الصلاح وابن البراج، وقال السيد المرتضى في المسائل الناصرية أنه مذهب أكثر أصحابنا وإن الإمام يأخذ منها الصدقة.وقال صاحب الرياض (قدس سره) إن عدم الوجوب اختاره جملة من أعاظم القدماء، ونسب إلى الشيخ الصدوق في المقنع وابن أبي عقيل كما في المختلف وابن الجنيد حكاه عنه في المعتبر.

وصرّح باستحبابها آخرون ذكرناهم (صفحة 389)، ونسبه سيد المدارك (قدس سره) إلى عامة المتأخرين، وفي الكفاية إلى مشهورهم، وقال في مجمع البرهان: لا خلاف فيه على الظاهر.

وتردد المحقق (قدس سره) في المختصر النافع في الغلات فاحتاط بالوجوب، أما ابن إدريس وصاحب المدارك فقد قالا بعدم المشروعية أصلاً.

واستدل على وجوب الزكاة في الغلات والمواشي بعمومات مثل: في ما سقته السماء العشر، وفي كل أربعين شاة شاة، وسنفرد لها بحثاً مستقلاً لبيان إمكان الاستدلال بها وعلاقتها بالأدلة النافية لوجوب الزكاة في مال الصغير، يأتي في المقام الثالث بإذن الله تعالى.

واستدل أيضاً على وجوب الزكاة في الغلات بما رواه الكليني (قدس سره) في الكافي بسند صحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم (أنهما قالا: ليس على مال اليتيم في الدين والمال الصامت شيء، فأما الغلات فعليها الصدقة واجبة)(1).

بتقريب ((إن الوجوب إما بمعناه المصطلح عندنا، وإما بمعنى الثبوت والاستقرار، فيثبت اللزوم على التقديرين، سيما بمعونة لفظ (على) ))(2).

ص: 436


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح2.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الزكاة: 10/30.

واستدل بنفس الرواية على الوجوب في المواشي بتقريبات تأتي إن شاء الله تعالى.

ويلاحظ على الرواية:-

1- ظاهر النص عودة ((أنهما قالا)) على زرارة ومحمد بن مسلم فيكون من كلامهما وليس عن المعصوم (عليه السلام)، لكن هذا الإشكال مرفوع بأن الشيخ (قدس سره) رواها في التهذيب والاستبصار بإسناده عن سعد عن أحمد بن محمد عن العباس بن معروف عن حماد عن حريز عنهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) فيكون فاعل (قالا) هما الإمامان (عليهما السلام).

إن الشيخ (قدس سره) رواها في التهذيب بسند صحيح عن الإمامين (عليهما السلام) هكذا: (مال اليتيم ليس عليه في العين والصامت شيء فأما الغلات فإن1- عليها الصدقة واجبة)(1) أي أنه روى (العين) بدل (الدين)، وقد تمسك البعض بتلك القراءة وبعض آخر بالقراءة الأخرى، فأي الروايتين أصح، وما تأثير ذلك؟

الظاهر أن الصحيح ما ورد في الكافي لأكثر من قرينة:-

أ- إن الموضوع لو كان (العين) فإنه سوف لا يبقى معنى لذكر الصامت وغيره لأنها داخلة في العين.

ب- إن الإمام (عليه السلام) بحسب الظاهر في مقام استيعاب أقسام ما تجب فيه الزكاة من مال اليتيم لذا لم يكتفِ بالإشارة إلى الأصناف الزكوية المعروفة بل ذكر الدين أيضاً،

ص: 437


1- التهذيب: ج4، باب الزكاة أموال الأطفال، ح13.

مع ذكر النقدين والغلات صريحاً، والمواشي بالمفهوم، وحينئذٍ يشكل على قراءة العين أن الحكم سوف لا يكون مستوعباً لأقسام مال اليتيم لعدم دخول الدين فيها فإن العين تذكر في مقابل الدين كما في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل يكون نصف ماله عيناً ونصفه ديناً فتحل عليه الزكاة، قال: يزكي العين ويدع الدين)(1)

الحديث.

والنتيجة: أنه على قراءة (العين) تكون العناوين مشوشة، أما على قراءة (الدين) فتكون الرواية مستوعبة لأقسام مال اليتيم لشمولها للدين والصامت بالمنطوق وللحيوان بالمفهوم، ولم يتبقَّ إلا الغلات فصرّح بها الإمام (عليه السلام) في ذيل الرواية.

2- توجد رواية معارضة لهذه الصحيحة تمنع من استفادة الوجوب منها وهي موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: (ليس في مال اليتيم زكاة وليس عليه صلاة، وليس على جميع غلاته من نخل أو زرع أو غلة زكاة، وإن بلغ اليتيم فليس عليه لما مضى زكاة ولا عليه لما يستقبل حتى يدرك، فإذا أدرك كانت عليه زكاة واحدة، وكانت عليه مثل ما على غيره من الناس)(2).

فلكي يتم الاستدلال بالصحيحة على وجوب الزكاة في غلات الصغير لا بد من النظر في معارضة الموثقة لها وحل هذا التعارض.

ثم ننظر في أمرين آخرين وهما:-

1- تقريب الاستدلال على حكم الزكاة في المواشي.

ص: 438


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 6، ح9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح11.

2- العلاقة بين عمومات ما دل على وجوب الزكاة في الغلات والمواشي وأدلة نفي الزكاة في مال اليتيم.

فنجعل البحث في هذه الأمور الثلاثة في ثلاثة مقامات:

(المقام الأول) حل التعارض الظاهر بين الصحيحة والموثقة ومنه يظهر منشأ الأقوال المتقدمة:

ويوجد هنا توجّهان أو محاولتان للحل، أحداهما: للمشهور ونتيجتها عدم الوجوب الأعم من الاستحباب وعدم المشروعية، وثانيتهما ونتيجتها القول بالوجوب كما اختاره الشيخان وآخرون ممن ذكرنا.

(المحاولة الأولى) التصرف في الصحيحة لمصلحة الموثقة، وهو ينتج قول المشهور من عدم الوجوب، وذكر هنا وجهان:

الأول: إجراء مقتضى قواعد الجمع العرفي بصرف ما ظاهره الوجوب في الصحيحة إلى الاستحباب لدلالة الموثقة صريحاً على عدم الوجوب.

ويوجد اعتراض كبروي وآخر صغروي على هذا الجمع، أما (الكبروي) فهو لصاحب الحدائق (قدس سره) وتكرر منه في غير موضع –ومنه المقام- ونتيجته اعتبار الدليلين من المتعارضين، قال (قدس سره): ((الجمع المذكور غير تام وإن اشتهر بينهم الجمع بين الأخبار بذلك في كل موضع وأنه قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه في مقام اختلاف الأخبار إلا أنه لا دليل عليه))(1).

أقول: أجبنا عن مثله حلاً بمعروفية هذا الجمع في لسان أهل المحاورة في الموارد التي يقبلها العرف وكان الأئمة (عليهم السلام) يوجهون الرواة عنهم بمعرفة لحن كلامهم ومعاريض خطابهم، وردّ المتشابه إلى المحكم ونحوه كالذي رواه الكليني بسند صحيح عن أبي حيون مولى الرضا (عليه السلام) وفيه (قال

ص: 439


1- الحدائق الناضرة: 12/19.

(عليه السلام): إن في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا)(1)

وغيرها كثير في نفس الباب وغيره.

ونقضاً بموارد في الفقه التزم بها (قدس سره) وذكرنا أمثلة عليها كغسل الجمعة.

فاعتبار الحالة من المتعارضين –كما أفاد (قدس سره)- غير عرفي إلا في الموارد التي يتحير العرف في الجمع بينها بحيث لا يعرف مرادهم (عليهم السلام).وحكى السيد السيستاني (دام ظله الشريف) هذا الاعتراض الكبروي عن ((جمع من العلماء (قدس الله أرواحهم) منهم صاحب الكفاية فقال: إن الجمع بين الروايات بما يسمى بالجمع الدلالي مما لا يمكن الموافقة عليه فإنه مخالف للأدلة الدالة على المرجحات؛ فإن غالب الروايات المتعارضة مما يمكن فيها مثل هذا الجمع مع أنهم (عليهم السلام) لم يتعرضوا للإرشاد إلى هذا الجمع، وإنما ذكروا المرجحات فقط كموافقة الكتاب ومخالفة العامة، وذكر صاحب الكفاية: اللهم إلا أن يقال إن مثل حمل المطلق على المقيد لا بد من الالتزام به، وهكذا جمعٌ آخر كصاحب الدرر الغوالي وهكذا فإن الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) التي نرى نوع تعارض بينها وقد ألقي كل منهما إلى جمع فتعد الروايات من المتعارضين، فحمل الدالة على الوجوب على الاستحباب مراعاة للدالة على الترخيص تكلف))(2).

أقول: ذكرنا الدليل على هذا الجمع مضافاً إلى كونه مما يعرفه أهل المحاورة. ومن خلالها يعرف أن مورد الجمع العرفي غير مورد التعارض واستعمال المرجحات، فالأول في ما يفهمه العارف بذوق اللغة وأساليبها بحيث لا يرى

ص: 440


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح22.
2- محاضرة بتأريخ 3/شعبان/1419.

تردداً في الجمع بينها واستخلاص النتيجة، مما أوجب عدَّ مثل هذا فقيهاً في كلامهم (عليهم السلام) فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج)(1)، أما الثاني ففي مورد العجز عن ذلك والبقاء متحيراً كما يقال.

وصدور هذا ليس مستغرباً على مثل الأئمة (عليهم السلام) في كثرة أعدائهم وتنوعهم من سلطات وفقهاء سائرين بركابهم وحاسدين وكفار ومنافقين مع جهل العامة الذين تعتريهم الشبهات والفتن.

وأما (الصغروي) فقد اعترض السيد الخوئي (قدس سره) على هذا الجمع صغروياً ((إذ لو كانت صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم متضمّنةً للأمر بالزكاة بمثل قوله: (زكّه) لاتّجه حينئذ رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بقرينة الرواية الأخرى الصريحة في الترخيص في الترك، فيُجمَع بالحمل على الاستحباب .

ولكن الوارد فيها هكذا: (فعليها الصدقة واجبة) أي ثابتة –كما لا يبعد- وقد تضمّنت موثّقة أبي بصير: أنّه ليس على غلاّته زكاة، أي ليست بثابتة.

ومن الواضح أنّ هذين الكلامين –أعني قولنا : الزكاة ثابتة، والزكاة غير ثابتة- متهافتان، بل لا يبعد أن يكون من أظهر أفراد التعارض كما لا يخفى.

وقد ذكرنا في الأصول: أنّ المناط في المعارضة أن يُفرَض الدليلان المنفصلان متّصلين ومجتمعين في كلام واحد، فإن كانا في نظر العرف بمثابة القرينة وذيها، فكان أحدهما مانعاً عن انعقاد الظهور في الآخر وشارحاً للمراد منه –كما في مثلقولنا: زكّ ولا بأس بتركه، أو: اغتسل للجمة ولا

ص: 441


1- معاني الأخبار، صفحة 2، ح3 من الباب الأول.

بأس أن لا تغتسل- لم تكن ثَمّة معارضة، وكانت القرينيّة محفوظة في ظرف الانفصال أيضاً.

وأمّا إذا عُدّا في نظر العرف متباينين، وكان الصدر والذيل متهافتين، فلا جرم تستقرّ المعارضة في البين لدى الانفصال أيضاً.

ولا ريب أنّا لو جمعنا بين هذين الكلامين فقلنا: إنّ الزكاة واجبة في مال اليتيم –حتى لو قلنا: إنّ (واجبة) بمعنى ثابتة كما لا يبعد- وقلنا: إنّه لا زكاة في مال اليتيم –أي ليست بثابتة كما هو مقتضى نفي الجنس- لكان الكلام في نظر العرف متهافتاً ومتناقضاً، فإنّ قولنا: ثابت وغير ثابت متعارضان، ومعه كيف يمكن الحمل على الاستحباب؟!

وهذا نظير ما لو ورد الأمر بالإعادة في دليل وورد نفي الإعادة في دليل آخر، فإنّه لا يمكن الجمع بالحمل على الاستحباب، لأنّ الأمر بالإعادة إرشادٌ إلى الفساد، والحكم بعدمها إرشادٌ إلى عدم الفساد، والفساد وعدم الفساد متعارضان في نظر العرف، ومن المعلوم أنّه لا معنى لاستحباب الفساد.

وعليه، فلا سبيل إلى الجمع العرفي في المقام، ولا مجال للحمل على الاستحباب، بل الدليلان متعارضان))(1).

أقول: ورتب (قدس سره) على ذلك حصول التعارض بين الدليلين وسقوطهما والرجوع إلى عموم (ليس بين مال اليتيم زكاة) أو مقتضى الأصل وهو العدم، وقد ذكرنا كلام السيد الخوئي (قدس سره) بطوله لأنه يكرره كبروياً، مع ما فيه من الإشكال حلاً ونقضاً، أما (حلاً) فلأن معنى (الوجوب) لغةً (الثبوت) -راجع مفردات الراغب- وإنما دلّ على الإلزام في المصطلح بالإطلاق. فإذا ورد دليل آخر -وهي الموثقة هنا- ينفي تعلق الزكاة الظاهر في نفي أصل الثبوت وجوباً واستحباباً: يجمع بين الدليلين بحمل

ص: 442


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/54-55.

الثبوت على الاستحباب خاصة. ويؤيده ((أن الوجوب في الصحيحة لم يُضف إلى الشخص بل إلى الغلات، والوجوب الفقهي يضاف إلى الشخص))(1).

والنتيجة أنه لا مانع عرفاً من استعمال لفظ (الوجوب) في الاستحباب المؤكد، بل جرى في أحاديث المعصومين (عليهم السلام) إخفاء الرخصة في بعض موارد الاستحباب ليدفعوا شيعتهم نحو الكمال بالعمل بما ظاهره الوجوب، ولو رخّصوا لهم لتركه غالبهم، بعكس ما نُقل عن بعض السلف الصالح أنهم كانوا يرون المستحب واجباً والمكروه حراماً.وقال المحقق الهمداني (قدس سره): ((بل قد يدّعى أنه لا ظهور للفظ الوجوب الواردة في الأخبار على إرادة المعنى المصطلح فإنه كثيراً ما يطلق على مطلق الثبوت ولكنه لا يخلو من نظر))(2).

أقول: مما تقدم يظهر أن في النظر نظراً مضافاً.

وأما (نقضاً) فلوجود نظائر لهذا الحمل التزم (قدس سره) بها، كالمبحث المتقدم في زكاة مال اليتيم إذا اتجر به فقد ورد في خبر محمد بن الفضيل (فإذا عمل به وجبت الزكاة) وفي رواية أبي العطارد الحناط (إذا حركته فعليك زكاته) وحمل (قدس سره) روايات الباب على الاستحباب للقرينة التي ذكروها.

وفي موارد أخرى كموثقة سماعة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجمعة، فقال: واجب في السفر والحضر)(3) وصحيحة عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن

ص: 443


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/33.
2- مصباح الفقيه: 4/4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة، باب 1، ح3.

الغسل يوم الجمعة، فقال: واجب على كل ذكر أو أنثى عبد أو حر)(1)

ولم ينافِ ذلك حكمهم على الغسل بالاستحباب بقرينة الروايات الأخرى.

ونلفت النظر هنا إلى أن السيد الخوئي (قدس سره) حكم بالتعارض أيضاً في غير هذا المورد كتعلق الزكاة في الغلات من غير الأربعة المشهورة، لكنه (قدس سره) حكم بالاستحباب بحجة وجود الدليل الخاص وهي صحيحة علي بن مهزيار، قال (قدس سره): ((وعلى الجملة: فالروايات في أنفسها –لولا دليل التصديق- متعارضة غير قابلة للحمل على الاستحباب، لعدم كونه من الجمع العرفي في مثلها، إلاّ أنّه بعد ملاحظة التصديق الصادر من الإمام (عليه السلام) الذي تضمّنته هذه الصحيحة يحكم بأنّ المراد الجدّي هو الاستحباب، وإلاّ لم يكن وجهٌ للتصديق أبداً، فتدبّر جدّاً))(2).

أقول: إذا صح مبناه من كون الدليلين متعارضين ولا يمكن الجمع العرفي بينهما، فلا ينقلب الأمر إلى الإمكان بوجود النص الخاص، أي أن النص لا يجعل غير المقبول من الجمع مقبولاً والحكم بالاستحباب، وإنما يوكل علمه إلى أهله، فهذا شاهد آخر على أن منع السيد الخوئي (قدس سره) في غير محله.وأشكل المحقق الهمداني (قدس سره) على القول بالاستحباب قائلاً: ((بل قد يشكل الاستحباب أيضاً بأن احتمال الاستحباب من الصحيحة ليس بأقوى من احتمال جريها مجرى التقية))(3).

ونقل السيد الخوئي (قدس سره) هذه المناقشة ناسباً إياها إلى جماعة قائلاً: ((وناقش فيه جماعة فأنكروا الاستحباب أيضاً، نظراً إلى أن الحمل

ص: 444


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة، باب 6، ح3.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/136-137 وقد عرضناها وناقشناها في البحث الرابع (صفحة 239).
3- مصباح الفقيه: 4/5.

ليس بأولى من حمل ما دل على الوجوب على التقية)) ((وربما يورد عليه: بأنّ الحمل على التقيّة خاصٌّ بفرض استقرار المعارضة وعدم تيسّر الجمع العرفي، أمّا معه فلا تصل النوبة إلى التصرّف في الجهة، والجمع العرفي هنا موجود، فيُرفَع اليد عن ظهور إحدى الروايتين في الوجوب بصراحة الأخرى في العدم، ونتيجته الاستحباب.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وجيهٌ بحسب الكبرى، فلا يُحمَل على التقيّة إلاّ مع تحقّق المعارضة بنحو يبقى العرف متحيّراً. أمّا لو كان أحد الدليلين قرينةً على التصرّف في الآخر عرفاً –كما لو ورد في دليل آخر أنّه لا بأس بتركه- فلا موجب للحمل على التقيّة، وهذا كثيرٌ في أبواب الفقه))(1).

أقول: المناقشة في جهة الصدور –كالحمل على التقية- لا ينحصر مبررها بحصول التعارض إذ قد يكون (تارة) بسبب حصول التعارض فيُرجَّح بمخالفة العامة، كما ورد في روايات الترجيح ويتم حينئذٍ ما قاله (قدس سره)، (وتارة) يكون لقرائن ترتبط بموردها، وحينئذٍ يُقدَّم الأخذ بها على الجمع العرفي؛ لأن هذا الجمع فرع تمامية حجية المتعارضين، فمع الشك في كون الرواية صادرة لبيان الحكم الواقعي لا يبقى موضوع للمعارضة حتى يُجمع بينهما عرفاً ونحوه.

وهذا الأمر كان واضحاً لدى أجلاء الأصحاب فحينما يأتي أحد بجواب لا يثقون بأنه بصدد بيان الحكم الواقعي من دون التشكيك بصدوره من الإمام (عليه السلام) كانوا يقولون: اتقاك أو يقولون: أفتاك من جراب النورة، وقد تقدمت في كتابنا الشواهد على ذلك وستأتي في (صفحة 447) رواية سلمة بن محرز وهي شاهد آخر.

وبتعبير آخر: يوجد فرق بين موافقة العامة والحمل على التقية، والثاني أوسع من الأول؛ لأن مخالفة العامة مرجح عند التعارض، أما الحمل

ص: 445


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/53-54.

على التقية فقد يكون لموافقة العامة أو لحماية الشيعة من الأعداء أو من أنفسهم وغيرها من الدواعي. والثاني متقدم برتبتين على الأول.الثاني: حمل الصحيحة على التقية ((حيث أن العامة يرون الزكاة في الغلات مطلقاً، أي من غير فرق بين القصّر والبالغين على ما نسب إليهم))(1).

أقول:-

1- قد أجبنا عن هذا الوجه –أي الحمل على التقية- ولم نجد له مسوغاً وإن الرواية واردة عن الإمام الباقر (عليه السلام) حيث لم يكن هناك مبرر للتقية، خصوصاً مع عدم القائل بالتفصيل الوارد فيها بين الغلات وغيرها إلا عن أبي حنيفة وزمانه متأخر كثيراً.

وقد ذكر المحقق الهمداني (قدس سره) هنا بياناً آخر للتقية قال فيه: ((احتمال أن يكون المراد بقوله (عليه السلام): أما الغلات فعليها الصدقة واجبة: وجوبها في تلك الأزمنة من باب التقية حيث أن زكاة الغلات وكذا المواشي كانت مما يأخذه منهم بمقتضى العادة عامل السلطان المنصوب من قبله على جباية الصدقات فدواعي التقية بالنسبة إليهما كانت قوية بخلاف زكاة النقدين ومال التجارة حيث لا يطلع على مواردها غالباً إلا من بيده المال))(2).

أقول:-

1- قد أجبنا عن مثله في ما سبق (صفحة 430).

2- إن الترجيح بمخالفة العامة فرع استقرار التعارض، أما مع إمكان الجمع العرفي فلا تعارض والمفروض إمكانه.

ص: 446


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/53.
2- مصباح الفقيه: 4/5.

3- لازمه سقوط الدليل على الرجحان مطلقاً قلا يبقى دليل على الاستحباب الذي قال به المشهور، بل الدليل على عدم المشروعية لحرمة التصرف في مال الصغير.

وللإنصاف نقول: إنه يمكن عرض وجه المحقق الهمداني (قدس سره) ببيان آخر حاصله: إن الوجوب الذي ورد في الصحيحة صادر بالعنوان الثانوي وهو الخوف على الشيعة فأوجب عليهم دفع الزكاة لعمال السلطة لحماية أنفسهم وأموالهم من ظلم الطواغيت، وبتعبير آخر إن ما ورد من الاجتزاء بالدفع إلى السلطة وإن كان ظاهره الجواز إلا أنه صغرى لقاعدة (إذا جاز وجب) لوجوب حفظ الناس، فوجوب الدفع هنا بالعنوان الثانوي ولا يعارض الحكم الأولي وهو عدم الوجوب.

وقد صدرت مثل هذه الأحكام من الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم كأمر الإمام الكاظم (عليه السلام) علي بن يقطين بالوضوء على طريقة العامة لابتلائه بمراقبتهم. أو الذي ورد بسند صحيح إلى جميل بن دراج عن سلمة بن محرز قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن رجلاً مات وأوصى إليّ بتركته وترك ابنته، قال: فقال لي: أعطها النصف، قال: فأخبرت زرارة بذلك فقال لي: اتقاك، إنما المال لها، قال: فدخلت عليهبعدُ فقلت: أصلحك الله إن أصحابنا زعموا أنك اتقيتني، فقال: لا والله ما اتقيتك ولكني اتقيت عليك أن تضمن فهل علم بذلك أحد؟ قلت: لا، قال: فأعطها ما بقي)(1).

أقول: هذا البيان وإن كان أقرب للقبول إلا أنه بعيد في نفسه لبعض الوجوه المتقدمة، خصوصاً وأن المتلقي من الإمام (عليه السلام) هو محمد بن مسلم وزرارة.

ص: 447


1- وسائل الشيعة: كتاب الميراث، أبواب ميراث الأبوين، باب 4، ح3.

ونتيجة الكلام في هذا المستوى إمكان الجمع بين الصحيحة والموثقة بحمل الصحيحة على الاستحباب، وهو ما ذهب إليه المشهور، وعدم المانع منه ولا تصل النوبة إلى حمل الصحيحة على التقية لموافقتها للعامة. إلا أن نفهم منها ما قرّبناه من الوجوب بالعنوان الثانوي لمعالجة بعض الحالات الخاصة؛ وإلا فإن الحالة العامة كانت المنع من التسليم إلى عمال السلطة مهما أمكنهم ذلك كما تقدم.

(المحاولة الثانية) في ما قيل من المناقشات في الموثقة من عدة جهات فلا تصح معارضتها للصحيحة، ومنها:-

الأولى: الخدشة في سندها من جهة ضعف طريق الشيخ إلى ابن فضال، ولنقل ابن فضال عن حماد بلا واسطة وهو غير وارد.

ويجاب عن الأول بما ذكرناه من تقريب لصحة ما يرويه الشيخ من كتب ابن فضال، وأما الثاني فلأن الشيخ (قدس سره) ذكر الواسطة في الاستبصار وهو العباس بن معروف فلا إشكال في سند الموثقة.

الثانية: ما قاله الشيخ (قدس سره) في التهذيب في ذيل موثقة أبي بصير من أن ما فيها ((ليس بمنافٍ للرواية الأولى –أي الصحيحة- لأنه (عليه السلام) قال: وليس على جميع غلاته زكاة، ونحن لا نقول إن على جميع غلاته زكاة وإنما تجب على الأجناس الأربعة التي هي: التمر والزبيب والحنطة والشعير، وإنما خُصَّ اليتامى بهذا الحكم لأن غيرهم مندوبون إلى إخراج الزكاة عن سائر الحبوب، وليس ذلك في أموال اليتامى فلأجل ذلك خُصوا بالذكر))(1).

أقول: هذا الوجه وإن كان لطيفاً إلا أنه خلاف ظهور الرواية في السالبة الكلية وليس نفي الموجبة الكلية، نعم يمكن اعتماده كمؤيد، إذا دل دليل على هذا المعنى.

ص: 448


1- التهذيب، ج4: باب زكاة أموال الأطفال، ح13.

ولا يرد عليه من ((وقوع التصريح فيه بذكر النخل والزرع))(1)

و ((ضرورة عدم قابليته لذلك –أي إرادة بيان النفي عن جميع الغلات التي منها ما لا تجب الزكاةفيه- لاشتماله على النخل مع أنه لا وجه معتد به لاختصاص الطفل حينئذٍ به))(2)؛

لأن نفي الموجبة الكلية تصدق معه الموجبة الجزئية –وهو الوجوب في التمر- وأما اختصاص الطفل فقد ذكر الشيخ (قدس سره) بنفسه وجه ذلك.

الثالثة: إن الموثقة ساقطة عن الحجية لأن الشيخ (قدس سره) ذكرها إيراداً لا للاحتجاج بها كما يعبرون بناءً على منهجه في التهذيب من ذكر الروايات المعارضة، فقد قال (قدس سره) في المقدمة: ((وأذكر مسألة مسألة فأستدل عليها)) إلى أن قال: ((وأنظر في ما ورد بعد ذلك مما ينافيها ويضادها وأبين الوجه فيها إما بتأويل أجمع بينها وبينها، أو أذكر وجه الفساد فيها إما من ضعف إسنادها أو عمل العصابة بخلاف متضمنها)) إلى آخر ما قال (قدس سره).

وفي هذه المسألة قال: ((وأما الذي يدل على أن الزكاة تجب في غلاتهم ما رواه سعد)) ثم ذكر الصحيحة ثم قال: ((فأما ما رواه علي بن الحسن)) ثم ذكر الموثقة وقال: ((فليس بمنافٍ للرواية الأولى)) ثم وجهها بما نقلناه عنه آنفاً.

أقول: قد يجاب بأنه اجتهاد من الشيخ (قدس سره) فلا يكون حجة على الغير، وما دامت الرواية معتبرة فلا بد من التعاطي معها وعدم إهمالها أي أننا نأخذ ما روى الشيخ (قدس سره) وننظر في ما رأى.

الرابعة: إن الصحيحة وردت في الكافي والتهذيبين بسندين صحيحين ينتهيان إلى حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة ومحمد بن مسلم،

ص: 449


1- مصباح الفقيه: 4/4.
2- جواهر الكلام: 15/25.

ولحماد كتاب في الزكاة ((أكثره عن حريز وبشير عن الرجال))(1)

وهو وجه لابتداء الكليني (قدس سره) السند بحماد مع المبنى المتعارف وهو كون السند معلقاً على سابقه فيبدأ بعلي بن إبراهيم عن أبيه كما أثبته صاحب الوسائل (قدس سره)، فالظاهر أن الكليني (قدس سره) أخذها من كتاب حماد الذي قرأه على علي بن إبراهيم وأجازه بروايته لوحدة الرواية والرواة والمروي عنه.

أما الموثقة فقد انفرد الشيخ بنقلها عن ابن فضال عن حماد عن حريز عن أبي بصير، فقد يقال حينئذٍ أنه من البعيد وجود هاتين الروايتين في كتاب حماد وإن الكليني روى الصحيحة دون الموثقة.

نعم روى الكليني (قدس سره) الجزء الثاني من الرواية عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي بصير قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليس على مال اليتيم زكاة، وإن بلغ اليتيم فليس عليه لما مضى زكاة، ولا عليه في ما بقي حتى يدرك، فإذا أدرك فإنما عليه زكاة واحدة ثم كان عليه مثل ما على غيره من الناس))(2)

وليس فيه الجزء الأول المتضمن للمعارض.فالذي يقوى في الذهن أن رواية أبي بصير الموجودة في الأصل –أي كتاب حماد- هي ما رواه الكليني وأدخل عليها ابن فضال فقرات من روايات أخر لوحدة الموضوع. وهذا معروف عند الرواة كما يعرف عنهم تقطيع الرواية بحسب تعدد الأحكام الواردة فيها.

إن قلتَ: يمكن رد هذا الاحتمال بأكثر من وجه ككون الكليني (قدس سره) أعرض عن ذكر الفقرة المعارضة لمخالفتها لما يفتي به ونحوه، أو تصور أن نسخة كتاب حماد التي روى عنها الكليني (قدس سره) سقط عنها

ص: 450


1- معجم رجال الحديث: 6/225.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح3.

صدر الرواية بسهو وغفلة النساخ ونحوه، وأصالة عدم الزيادة في ما رواه الطوسي (قدس سره) مقدم على أصالة عدم النقيصة في النسخة التي اعتمدها الكليني (قدس سره) لأن احتمال الغفلة والسهو في الراوي عن شيء فينقصه أزيد بكثير من احتمال الزيادة سهواً، والأهم من ذلك أن يقال إن إعراض الشيخ (قدس سره) عن نقل ما في الكافي وعدوله إلى نقل هذه الرواية عن ابن فضال يشعر بترجيح الشيخ (قدس سره) لرواية ابن فضال المتضمنة للمعارضة على رواية الكليني.

قلتُ: اتضح من النقطة الثالثة المتقدمة أن الشيخ (قدس سره) لم يوردها اعتقاداً وإنما التزاماً بمنهجه في ذكر المعارض وتأويله، وليس فيه أي دلالة على الترجيح. أما احتمال إعراض الكليني (قدس سره) عن نقل الفقرة المعارضة فهو تدليس يُجلُّ عنه مثله (قدس سره). أما بقية الاحتمالات فهي مردودة لأن الكليني تلقى كتاب حماد بالقراءة على شيخه علي بن إبراهيم وأجازه روايته.

ولا نحتاج بعد هذا إلى ما قد يقال من ترجيح رواية الكليني (قدس سره) على رواية الشيخ (قدس سره) لأنه أضبط(1) أو أن طبقته أقرب ونحو ذلك؛ لأننا لا نسلم حجية هذه الكبرى –وإن كانت قريبة من الوجدان ويدل عليها الاستقراء- وإنما نقبل بها كمؤيد، مضافاً إلى ما استظهرناه من كون الرواية أخذت من كتاب حماد ولم تنقل شفاهاً حتى يكون مورداً للكبرى المذكورة، فالمناقشة صغروية وكبروية.

وحاصل ما تقدم عدم صلاحية الموثقة للمعارضة لعدم الاطمئنان بحجية صدر الرواية المتضمن للمعارضة، مع ما قيل من الخدشة في سندها عند البعض والدلالة عند الشيخ (قدس سره) ومن وافقه، مع ما فيها من عدم الوضوح على كلا الطريقين لما ورد فيها (وإن بلغ اليتيم فليس عليه لما

ص: 451


1- ممن ذكر ذلك فقه الصادق: 10/15.

مضى زكاة، ولا عليه في ما بقي حتى يدرك، فإذا أدرك..) مع أن الإجماع قائم على عدم مدخلية الإدراك في الوجوب وكفاية البلوغ.اللهم إلا أن تفهم من (يدرك) إدراكه تمام الحول ونحوه، وهو خلاف الظاهر إلا أن الضرورة تسوّغه.

وتكون النتيجة وجوب الزكاة في الغلات بناءً على صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم بعد سقوط المعارض.

ويُعْرف منشأ هذا الوجوب من الوجهين الذين ذكرناهما (صفحة 419)، فالأقوى ما اختاره الشيخان وأبو الصلاح وابن البراج.

ولو لم يتم شيء مما ذكرناه مما يوهن الموثقة فمقتضى الجمع العرفي بينها وبين الصحيحة حمل الصحيحة على الاستحباب وهو قول المشهور، وقد يكفي لهذا الحمل وجود الأدلة النافية لوجوب الزكاة في مال الصغير، وإباء بعض المطلقات للتقييد كصحيحة يونس بن يعقوب المتقدمة وفيها (إذا وجبت عليهم الصلاة وجب عليه الزكاة) ونحوها وقد تقدمت مناقشتها.

ولو استقرَّ التعارض فقد ادعي رجحان الموثقة لأن الصحيحة ((غير صالحة للمكافئة لاعتضاد الموثقة بالشهرة بل عن بعضٍ نسبة القول بعدم الوجوب إلى مذهب الإمامية وبمخالفة العامة))(1).

أقول: في هذا الترجيح نظر تقدم وجهه صغروياً ولا يخفى كبروياً، وحينئذٍ إما الرجوع إلى العمومات والإطلاقات الفوقانية –لو تمت- كقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَموَالِهِم صَدَقَةً» وغيرها مما سنذكره في المقام الثالث ونتيجته الوجوب. وإن لم تتم فنتمسك بالأصل وهو عدم الوجوب.

المقام الثاني: حكم الزكاة في مواشي الصغير:

ص: 452


1- مصباح الفقيه: 4/4.

ذهب إلى الوجوب ((الشيخان المفيد والطوسي وأتباعهما وابن حمزة في الوسيلة، وفي الناصرية أنه مذهب أكثر أصحابنا ومال إليه في مجمع البرهان، وأما استحبابها فهو خيرة الشرائع والإرشاد والتحرير والتذكرة والإيضاح والبيان والدروس وجامع المقاصد والروضة، وفي الكفاية نسبته إلى أكثر المتأخرين قال: ولم أقف له على مستند ومثله قال في المدارك والحدائق))(1).

فالأقوال ثلاثة:

(القول الأول): الوجوب، وقد استدل عليه بوجوه:

(الأول) عدم القول بالفصل بين الغلات والمواشي ((حكاه في الإيضاح عن ابن حمزة الذي هو أحد الموجبين حيث قال: وقال ابن حمزة: تجب في مال الصبي لما صح عنهما(عليهما السلام) أنهما قالا: مال الطفل ليس عليه في العين والصامت شيء، وأما الغلات فإن عليها الصدقة واجبة. قال: فتجب في الأنعام بالإجماع المركب))(2).

وفيه:-

1- عدم تمامية الكبرى؛ لأن النافي للتفصيل: الإجماع على القول بعدم الفصل وليس مجرد عدم القول بالفصل، وبشرط كونه تعبدياً، والأمران غير موجودين.

2- إن هذه الكبرى لو تمت فإنها لا تلزم إلا من قال بالوجوب في الغلات ولا تعمّ غيره فالدليل أخصّ من المدعى.

3- المناقشة في الصغرى إذ يظهر من كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) عدم وجود إجماع مركب، بل وجود قائل بالفصل كصاحب المدارك الذي قال باستحباب الزكاة في الغلات وعدم المشروعية لعدم المستند في

ص: 453


1- مفتاح الكرامة: 7/7.
2- مفتاح الكرامة: 7/7.

المواشي، وقال المحقق (قدس سره) في المختصر النافع: ((إن الوجوب في الغلات أحوط)) وقال في المواشي: ((إن القول فيها بالوجوب ليس بمعتمد)).

(الثاني) صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة بتقريبين:

أحدهما: مفهوم نفي وجوب الزكاة في الصامت وهو يقتضي وجوبها في الناطق أي الحيوان، لا من جهة مجرد دلالة الجملة الوصفية على المفهوم بل لنكتة خاصة بالمقام تضم إلى المفهوم دلالة الاقتضاء. وقبل بيانها نقول: إن السيد السيستاني (دام ظله الشريف) قرّب الاستدلال في موضعين من بحثه الشريف، بنى الأول على ما اختاره في علم الأصول تبعاً لأستاذه السيد الخوئي (قدس سره) من التفصيل في مفهوم الوصف وحاصله ((إن النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم إن كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها ولو بسبب آخر فقد عرفت أنها لا تدل على ذلك بوجه، بل لا إشعار فيها على ذلك فضلاً عن الدلالة.

وإن كان في دلالتها على نفي هذا الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فقد عرفت أنها تدل على ذلك جزماً حيث لا شبهة في ظهورها فيه إلا فيما قامت قرينة على خلافه.

ومن هنا يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه، وغير المعتمد عليه كقولنا (أكرم عالماً) مثلاً، فإنه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وإن انحل بحسب مقام اللب والواقع إلى شيء له العلم إلا أنه لا أثر له في مقام الإثبات بعدما كان في هذا المقام شيئاً واحداً لا شيئان: أحدهما موصوف، والآخر صفة له))(1).

وقرّب السيد السيستاني (دام ظله) جريان هذه الكبرى في المقام فقال: ((وأما بناءً على ما اخترناه وفاقاً للسيد الأستاذ من وجود المفهوم

ص: 454


1- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 46/280.

للوصف والقيد إن كان معتمداً على الموصوف سواء كان سلبياً أو إيجابياً فله دخل في الموصوف، إذ ليس طبيعي الموصوف هو الموضوع بل المقيد، فللصامت دخل في ثبوت الزكاة فيدل على أن طبيعي مال اليتيم ليس منفياً عنه الزكاة بل الموصوف بالصامت، ويكفي في دخالته ثبوت الزكاة في فردٍ مما سواه، وقد ثبت في الذيل ثبوتها على الغلات))(1).

أقول: هذا التقريب كما ترى غير كافٍ لثبوت الحكم بالمفهوم للناطق –وهو الحيوان- لأن غايته عدم ثبوت الحكم –وهو نفي الزكاة- لطبيعي الموضوع –وهو المال- وإنما لحصة خاصة وهو المال الصامت، ولا تنفي ثبوت الحكم لغيره بدليل آخر؛ لأن القيد هنا راجع إلى الموضوع لا إلى الحكم، لكنه لا يثبت الحكم لغيره.

لكنه (دام ظله الشريف) ذكر تقريباً للمفهوم في موضع آخر أقرب إلى ما نريد بيانه فقال: ((إن المواشي وإن لم تذكر بالصراحة إلا أنها تستفاد من مفهوم الجملة الأولى ومقتضاه أن في الناطق شيئاً من لحاظ القيد خصوصاً من المقابلة بالناطق مع الصامت، أما الجملة الثانية فلا مفهوم فيها، فظهر مما ذكرنا أن هذه الرواية في حد نفسها تعد دليلاً على التفصيل المنقول عن بعض أكابر القدماء))(2)، ثم بيّن (دام ظله الشريف) مراده من هذه المقابلة.

أقول: بيان الفرق بين التقريبين أن المفهوم هنا يستفاد بضميمة دلالة الاقتضاء وليس من مجرد الجملة الوصفية لنكتة خاصة في المقام وهي المقابلة بين المال الصامت –وهو النقدين- والمال الناطق –وهو الحيوان- أي أنهما كالقضية مانعة الخلو، فيلزم من نفي الزكاة عن الصامت إثباتها لمقابله وهو الناطق وإلا لزمت اللغوية

ص: 455


1- محاضرة بتأريخ 25/ج2/1419 ه-.
2- محاضرة بتأريخ 22 ج2/1419 ه-.

وهذه المقابلة بين المالين معهودة لدى أهل اللغة ففي لسان العرب مادة (صمت) ((وماله صامت ولا ناطق، الصامت، الذهب والفضة، والناطق: الحيوان الإبل والغنم، أي ليس له شيء)).

مضافاً إلى ما استظهرناه من كون الإمام (عليه السلام) –وهو يوجه كلامه إلى اثنين من أكابر الفقهاء وهما محمد بن مسلم وزرارة- في مقام استيعاب شقوق المسألة، ومن البعيد إهمال الحيوان التي هي من أوسع الثروات انتشاراً لدى الناس يومئذٍ.

ثانيهما: ((دعوى: أن مقتضى المقابلة بين الصامت وغيره: أن الاعتبار في ثبوت الزكاة بعدم كون المال صامتاً، وإنما ذكر الغلات من باب المثال فيعم المواشي أيضاً))(1).ورد عليه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((ليست هذه الدعوى بأولى من العكس بأن يقال أن المدار في سقوط الزكاة بعدم كون المال من الغلات، وإنما ذكر المال الصامت من باب المثال، فيراد به ما يعم المواشي في مقابل الغلات)).

أقول: أما الدعوى فعهدتها على مدعيها، لكن يرد على رد السيد الخوئي (قدس سره) أن الأولوية موجودة من جهة إقوائية (الصامت) في المفهوم لأنه من مقولة الوصف بينما (الغلات) من مقولة اللقب والأول أظهر من الثاني.

ويمكن تقريب الأولوية على عكس ذلك بأن يفهم حصر الوجوب بالغلات من قوله (عليه السلام): (فأما الغلات فعليها الصدقة واجبة) ونفيه عما سواه وسنذكره في القول الثالث إن شاء الله تعالى

ص: 456


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/9.

(الثالث) التعميم بوحدة المناط والملاك.

أما الأول: فنقصد به المنشأين للوجوب اللذين ذكرناهما (صفحة 419) من تنجّز الحكم الوضعي لإباحة التصرف بهما، ولأن كلاً منهما مالٌ يُنمى وقد وردت في وجوب الزكاة فيه معتبرة شعيب العقرقوفي المتقدمة قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): كل شيء جرَّ عليك المال فزكّه)(1).

وأما الثاني: فإن المال الصامت إنما لم تجب فيه الزكاة لعدم تدخل العوامل الطبيعية التي هي خارج جهد الإنسان في تحصيله، وإنما انتقل إليه بالميراث غالباً، أما الغلات فإنه رزق وهبه الله تعالى من أرض وماء متوفرين فطلب الله تعالى إخراج عشر ما وهب، فتلحق المواشي بالغلات لأنها تكثر وتتوالد بالرعي في ما أنبت الله تعالى من الأرض؛ لذا وجبت في غير المعلومة.

والنتيجة: إنه إذا تم شيء من الوجوه المتقدمة ولو خصوص التقريب الأول للصحيحة: يتنجّز القول بالوجوب ولو احتياطاً بمعنى أن يتولى الصغير إخراجها عن نفسه بعد بلوغه، وليس بمعنى أن يقوم الولي بإخراجها احتياطاً –كما نقلنا عن المختصر النافع في الغلات- لأنه مخالف للاحتياط باعتبار ما دل على حرمة التصرف في مال الصغير إلا في ما أذن فيه الشارع.هذا بغضّ النظر عما سنقوله في القول الثالث، ولا يرد على هذا الاحتياط بما في موثقة أبي بصير المتقدمة (فإذا أدرك فإنما عليه زكاة واحدة..) لأمور تقدمت منها إجمال لفظ المال، مضافاً إلى كونه أصلاً يبيّن الوظيفة العملية.

(القول الثاني) الاستحباب، ويستدل عليه ببعض الوجوه المتقدمة بعد بنائهم على كون الحكم في الغلات هو الاستحباب فتلحق بها المواشي بعدم القول

ص: 457


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 16، ح1.

بالفصل، ووحدة المناط، أو بمفهوم الصامت بضميمة عدم احتمال زيادة حكمها على الغلات المصرح بكونها واجبة.

لكن هذه الوجوه لا تبرر التصرف في مال الصغير خصوصاً اليتيم الذي عُلِمَ تشدد الشارع فيه، ومنه يُعلم النظر في اختيار جملة من الأصحاب (قدس الله أرواحهم) القول بالاستحباب، اللهم إلا أن نحمله على استحباب تصدي الصغير لإخراجها بعد بلوغه، وليس استحباب أن يخرجها الولي من مال الصغير.

(القول الثالث) عدم المشروعية أو التوقف، وقد نقلناه (صفحة 424) عن الذخيرة والمدارك والحدائق، ووجهه عدم الدليل على الرجحان فالأصل عدمه، وإذا لم يقم دليل تام على الإخراج فيحرم لحرمة التصرف في مال الصغير بغير مسوِّغ، بل ادعي الدليل على عدمه وهي إطلاقات نفي الزكاة في مال اليتيم.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وأما المواشي ففي إلحاقها بالغلات كلامٌ وإشكال ينشأ من عدم ورود دليل فيه، فلا مخرج عن إطلاق ما دل على عدم الزكاة في مال اليتيم))(1).

أقول: لا بد أنه (قدس سره) يريد بعدم ورود دليل أي الدليل الخاص، وإلا فإن القائل بالوجوب استدل بعمومات وإطلاقات الوجوب في المواشي سواء كانت من مال الكبير أو الصغير، ثم إننا قد شكّكنا في هذا البحث (صفحة 401) في إطلاق لفظ المال في الحديث واستظهرنا كون المراد منه خصوص النقدين، ولو تنزلنا فإنه مجمل ولا يمكن الأخذ إلا بالقدر المتيقن منه فلا يصلح لنفي وجوب الزكاة في المواشي، وإذا أريد التمسك به وهو أعمّ من الدليل الخاص، فإن الخصم يترقى ويستدل بعمومات الوجوب في المواشي، ولا بد

ص: 458


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/52.

حينئذٍ من لحاظ العلاقة بينهما وهو ما سنبحثه في المقام الثالث إن شاء الله تعالى.

هذا على مستوى الدليل العام، أما على مستوى الدليل الخاص فيمكن الاستدلال بصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم على عدم الوجوب بتقريبين:

أحدهما: إن قوله (عليه السلام): (فأما الغلات فعليها الصدقة واجبة) ظاهر في حصر الوجوب بها؛ لأن (أما) تفصيلية، وهي –عند أهل اللغة- بقوة الشرطية فيكون لها مفهوم، ولازمه نفي الوجوب عما سواها، وذكره للمال الصامت والدينلكونهما من مصاديق هذا الغير ولسانها ليس لسان الحصر فتشمل المواشي، وهذا التقريب عكس الدعوى المتقدمة (صفحة 457). ولو كان حكمها الوجوب لذكرها (عليه السلام) مع الغلات لانتشار تملك المواشي يومئذٍ، فعدم ذكرها مع الغلات يقتضي عدم وجوبها بل إن إهمالها يعني عدم تعلق شيء بها؛ لأنهما بنفس الدرجة من الأهمية والانتشار لدى الناس.

ثانيهما: ما ذكره الفيض الكاشاني (قدس سره) في الوافي في ذيل صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم قال: ((بيان: في التهذيبين: العين بدل الدين، ولعله الأصوب وأريد بها ما يقابل الغلات))(1).

أقول: وتقريب الاستدلال: إن المراد بالعين مقابل المنافع، وجميع الأعيان ليس فيها زكاة ومنها المواشي، وإنما أفردت الغلات لأنها من المنافع.

وفيه:-

1- ما رجحناه من قراءة (الدين)، إما على قراءة (العين) فإنه لا يبقى معنى لذكر الصامت، مضافاً إلى عدم استيعابه لعدم شمولها للدين.

ص: 459


1- الوافي: 10/123، باب/10: زكاة مال اليتيم والمجنون والمملوك، ح5.

2- إنه من المسلّم فقهياً عدّ الغلات من الأعيان لذا فإنها تدخل في الأعيان الزكوية وتذكر معها.

ولعل الذي دعاه (قدس سره) إلى هذا الفهم كون الغلات والثمار من منافع الأرض والأشجار عرفاً، لكن هذا لا يجعلها منفعة في المصطلح وهذا واضح لدى أهل الفن.

المقام الثالث: في الإطلاقات والعمومات المثبتة للوجوب في الغلات والمواشي، وعلاقتها بالأدلة النافية لوجوب الزكاة في مال اليتيم.

والكلام في هذا المقام يكون على مستوين: (أحدهما) في الإطلاقات والعمومات التي استدل بها على وجوب الزكاة في الغلات والمواشي.

(ثانيهما) علاقة هذه العمومات بالأدلة النافية.

(المستوى الأول) يمكن جعل الإطلاقات والعمومات المقصودة في المقام على صنفين مترتبين فالأول أخص من الثاني:

(الأول) الخطابات والعمومات الواردة في الغلات والمواشي، وسماها البعض خطابات الوضع كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في الصدقة في ما سقت السماء والأنهار إذا كان سيحاً أو بعلاً العشر، وما سقت السواقي والدوالي أو سقيبالغرب فنصف العشر)(1)

وصحيحة زرارة وبكير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (في الزكاة ما كان يعالج بالرشاء والدوالي والنضح ففيه نصف العشر، وإن كان يسقى من غير علاج بنهر أو عين أو بعل أو سماء ففيه العشر كاملاً).

ص: 460


1- الصحيحتان تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلات، باب 4، ح2، 5.

وصحيحة الفضلاء في المواشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (في كل أربعين شاة شاة)(1)

إلى آخره.

بتقريب: العموم الشامل لكل الغلات والمواشي سواء كانت مملوكة للبالغ أو غير البالغ.

(الثاني): نحو قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرهُم وَتُزَكّيهِم بِهَا» (التوبة: 103) وصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم)(2)، وربما أضيفت موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها وهي الزكاة)(3).

بتقريب التمسك بإطلاق صاحب المال في الآية(3)والأغنياء في الصحيحة الشامل للبالغ ولغير البالغ، وعموم المال الشامل للغلات والمواشي.

وممن أشار إلى كلا الصنفين المحقق الهمداني (قدس سره) قال في معرض رده على المستدلين بالعمومات على وجوب الزكاة في الغلات والمواشي: ((إن أريد بالعمومات الواردة في الغلات والمواشي الأدلة المسوقة لبيان الحكم التكليفي الذي يستفاد منها الحكم الوضعي بالالتزام فهي مصروفة إلى البالغين بحكم حديث الرفع وإن أريد بها ما كان من قبيل قوله (عليه السلام) فيما سقته السماء العشر وفي كل أربعين شاة شاة وغير ذلك

ص: 461


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الأنعام، باب 6، ح1.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب1، ح2، 10.
3- حكي الاستدلال بها أيضاً عن الشافعي في كتاب الأم وابن حزم في المحلّى.

من الروايات المسوقة لبيان الحكم فشمولها لملك الصغير إن كان فبالإطلاق لا بالعموم ولا يخفى على الناظر فيها إن إطلاقها وارد مورد حكم آخر فلا يصح التمسك به للمدعى))(1).

ويلاحظ هنا على الرجوع إلى هذه العمومات والتمسك بها أمران:-

1- إن الاستدلال بهذه العمومات والإطلاقات من دون لحاظ ما يقابلها من الدليل النافي غير دقيق.

2- إنما يفترض التمسك بهذه العمومات بعد استقرار التعارض بين الأدلة الخاصة في المقام، إذ لو تم شيء منها –كالاستدلال بصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم على الوجوب في الغلات أو عدم الغلات في المواشي- فإنها تلغي تأثير تلك العمومات لأنها أخص منها.

والتعارض المتصور في المقام وقع في موردين:

أولهما: التعارض بين صحيحة محمد بن مسلم وزرارة وموثقة أبي بصير، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((مع أنه لو سلم عدم كون الجمع المذكور –أي بين الصحيحة والموثقة- عرفياً، فلا أقل من التساوي الموجب للتساقط والرجوع إلى أصالة عدم وجوب الزكاة، اللهم إلا أن يكون المرجع عموم مثل قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» ))(2).

ثانيهما: التعارض بين إطلاقات الوجوب في الغلات والمواشي، والأدلة النافية لوجوب الزكاة في مال اليتيم، وستأتي (صفحة 467) إشارة المحق الهمداني (قدس سره) إلى هذا التعارض، مع بيان السيد الخوئي (قدس سره) له (صفحة 471) وحاصله: إن النسبة بين ((كل واحد من الأدلة المثبتة للزكاة في الأنواع الثلاثة –المتقدمة في الصنف الأول- مع قولهم (عليهم السلام): (لا زكاة في مال اليتيم) هي العموم من وجه، فما دل على وجوب

ص: 462


1- مصباح الفقيه: 4/3.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/4.

العشر في الغلات مطلق يعم اليتيم وغيره، والدليل النافي يعم ما أنبتته الأرض وغيره))، وهكذا إذا لوحظت النسبة مع دليل الوجوب في المواشي أو النقدين، قال السيد السيستاني (دام ظله الشريف) في تقريب كلامهم: ((فيتعارضان في المجمع ويتساقطان فنتمسك بالعموم الفوقاني «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» (إن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء) واستوجهه بعض المتأخرين))(1).

فإذا استقر التعارض بين الصحيحة والموثقة تساقطتا فيُرجع حينئذٍ إلى عمومات الصنف الأول –إن أمكن- ويستدل بها على الوجوب بعد فرض أن الأدلة النافية أي قوله (عليه السلام): (ليس في مال اليتيم زكاة) خاصة بالنقدين –كمااستظهرنا- أو أنها مجملة فيقتصر منها على القدر المتيقن، ولا تصلح لمعارضة العمومات على كلا التقديرين.

وإن استظهرنا المعنى العام من (المال) في الأدلة النافية واستقر التعارض مع عمومات الصنف الأول فيتساقطان ويرجع إلى عمومات الصنف الثاني.

ومن هذا التسلسل للتفكير يُعلم النظر في رجوع السيد الحكيم (قدس سره) في ما نقلناه عنه آنفاً من الرجوع إلى عمومات الصنف الثاني –أي الآية الشريفة- مباشرة بعد تعارض الصحيحة والموثقة، والمفروض المعالجة أولاً على مستوى الصنف الأول إن أمكن.

أو قول الشيخ المنتظري (قدس سره): ((بين قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَموَالِهِم صَدَقَةً» وقوله (عليه السلام): (لا زكاة في مال اليتيم) عموم وخصوص مطلق))(2)

فإن هذين الدليلين ليسا في رتبة واحدة، وإن كانت النسبة صحيحة بناءً على المعنى العام للمال.

ص: 463


1- محاضرة بتأريخ 26/ج2/1419 ه-.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/32.

وبعد بيان منهجية وترتيب الاستدلال بهذه العمومات والإطلاقات، نقول: إنه لا يصح التمسك بإطلاق وعموم كلا الصنفين:

أما (الصنف الأول) فلأن رواياته لا إطلاق لها من ناحية محل الاستدلال أي المكلف لأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما من جهة المكلف به، وبتعبير آخر إنها مسوقة لبيان الواجب أي مقدار الزكاة في الغلات والمواشي لا ما فيه أو عليه الوجوب، كأموال الصغير ونحوه.

ولو تم لها عموم أي إطلاق بلحاظ الأفراد فإنها مخصصة بأدلة (لا زكاة في مال اليتيم) عند المشهور الذي استظهر العموم لكل الأموال من هذا الدليل النافي –كما هو المتفاهم العرفي لولا القرائن التي ذكرناها في موضعها- لذا فهو يخصص تلك العمومات في جميع الأصناف الزكوية وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

وبناءً على هذا فلا يصح افتراض حصول التعارض والرجوع إلى العمومات الفوقانية كما حكاه السيد السيستاني عن جمع من المتأخرين ونقلناه آنفاً، لكنا سنفصل ما قالوه في النسبة بين الدليلين.

وأما (الصنف الثاني) فلأكثر من وجه:-

1- إنها أجنبية عن خطاب التكليف العام بالزكاة وتتعرض لتكليف ولي الأمر بالأخذ.

وتبعاً لذلك فإن الآية لا إطلاق لها لأنها ليست بصدد البيان من جهة من تجب عليه وما تجب فيه الزكاة أي المكلف والمكلف به، وإنما تأمر الآية بالأخذ ممن وجبت عليه بدليل آخر سابق من دون تحديده ليتم الإطلاق بلحاظه، ويشهد له أن1- الآية من سورة التوبة التي نزلت في السنة التاسعة من الهجرة في وقت كانت آيات الأمر بإيتاء الزكاة كثيرة من قبل الهجرة.

وأما الصحيحة فتبين حكمة التشريع.

ص: 464

لا يقال: إن صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير الآية ظاهرة في التشريع وليس في تنفيذ ولي الأمر لقوله (عليه السلام): (فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في الناس: إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض

الله عليكم من الذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم ..)(1)

إلى آخره.

فإنه يقال: إن الصحيحة تؤكد ما ذكرناه لأن التشريع كان سابقاً على نزولها وقد أكّده منادي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه في مرحلة التنفيذ والجباية فرضها (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء وعفا عما سواها.

ومنه يُعلم النظر في استدلال البعض –كالمحقق البحراني (قدس سره)- بالآية على عدم وجوب الزكاة في مال الصغير، قال (قدس سره): ((ومما يؤيد القول الأول –أي عدم وجوب الزكاة في مال الصغير- ظاهر قوله عز وجل: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقَةً تُطَهّرُهُم وَتُزَكّيهِم بِهَا» هو كناية عن ما يوجب محو الذنوب والآثام وهذا إنما يترتب على البالغ))(2).

وفي رد البعض على من تمسّك بإطلاق الآية للاستدلال على الوجوب بأنها من خطاب التكليف وهو غير شامل للصغير كالذي تقدم عن المحقق الهمداني (قدس سره) أو ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) على فرض التعارض في المورد الثاني أعلاه من أنه ((لا سبيل للرجوع حينئذٍ إلى عموم مثل قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» إذ –مضافاً إلى أن في نفس الآية المباركة صدراً وذيلاً شواهدَ تقضي بأن المراد من ضمير الجمع خصوص البالغين- أن الآية المباركة وغيرها –كما تقدم- غير ناظرة إلا إلى الحكم التكليفي فقط دون الوضعي، والمفروض التسالم على حكومة حديث الرفع بالنسبة إلى الحكم

ص: 465


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 8، ح1.
2- الحدائق الناضرة: 12/19.

التكليفي المحض))(1)

فإن هذا البحث كله سواء على صعيد الاستدلال بالآية على الوجوب أو عدمه لا موضوع له؛ لأنها ليست متوجهة إلى المكلف أصلاً بل إلى ولي الأمر.

(المستوى الثاني) النسبة بين أدلة (لا زكاة في مال اليتيم) وعمومات الوجوب في الغلات والمواشي:

لا بد من تحرير محل البحث أولاً؛ لأن الاحتمالات في معنى المال في الأدلة النافية ثلاثة تعرضنا لها (صفحة 400 وما بعدها):-

1- إنه خاص بالنقدين، وعليه يكون أجنبياً عن عمومات الوجوب في الغلات والمواشي، ولا يبقى موضوع لهذه العلاقة.

2- إنه مجمل وبما أنه دليل منفصل فلا يسري إجماله إلى العام، ويكون القدر المتيقن منه النقدين فيصبح كالأول ويكون موضوعه مبايناً.

3- إنه مطلق لا يختص بالنقدين وإنه يشمل كل أنواع مال اليتيم خصوصاً في الروايات التي ورد فيها هذا الدليل النافي مستقلاً فلا توجد قرائن على تقييده، وعلى هذا الاحتمال يرد الكلام حول النسبة بينه وبين عمومات الوجوب، ونسبة العموم من وجه التي ذكروها –بغضّ النظر عن المناقشة الآتية فيها- إنما تتم بلحاظ هذا المعنى وما لم يحرّروه أولاً فلا يصح الحديث عن هذه العلاقة.

وقد ذُكرت في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) عدة وجوه لتقديم الدليل النافي على العمومات، وهذا البحث كله تنزّلي على مبانينا؛ لأننا لا نقول بصلاحية العمومات للاستدلال على ثبوت الزكاة، ولو تنزلنا

ص: 466


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/8.

فإن موضوعها –وهي الغلات والمواشي- مباين لموضوع الدليل النافي- وهما النقدان-، ومن تلك الوجوه:

(الأول) الحكومة، قال المحقق الهمداني (قدس سره): ((أما العمومات فيجب تخصيصها بالمستفيضة المصرحة بأنه (ليس في مال اليتيم زكاة) الحاكمة على تلك العمومات وكون النسبة بين الأخبار النافية وبين العمومات المثبتة الواردة في كل نوع من الأجناس كالغلات والمواشي وغيرهما العموم وجه غير قادح بعد ما أشرنا إليه من حكومة تلك الأخبار على الأدلة المثبتة ولذا لا يتوهم أحد ممن سمع بهذه الأخبار المعارضة بينهما))(1)

وأيده السيد الخوئي (قدس سره) قال: ((ولو سلّمنا أن النسبة عموم من وجه، كان الترجيح مع هذه الرواية لأنها بلسان الحكومة كما لا يخفى))(2).

أقول: إن أرادا الحكومة بمعناها المصطلح فليس لسان الدليل النافي لسان حكومة؛ لأن الحكومة تعني نظر الدليل الحاكم إلى موضوع الدليل المحكوم بصورة غير مباشرة كما يقال، وذلك بأن يُنظر إلى حيثية لم يتعرض لها دليل المحكوم، لكنها تتصرف في موضوعه، ونكتة التقدم أن الحاكم سيكون بمنزلة الشارح للمراد من المحكوم، بل يكون كالمصحح لما يفهمه المتلقي من دليل المحكوم. فإذا قال المولى: (أكرم العلماء) فإن المتلقي يعتقد وجوب إكرام كل عالم، فإذا ورد دليل آخر يقول فيه: (الفاسق ليس بعالم) أو (النسّابة ليس بعالم) أو (المتقي عالم) فهذا بيان لمراد المتكلم وتصحيح لفهمالمتلقي توسيعاً أو تضييقاً، ويتصرف في موضوع الدليل المحكوم من دون أن يتعرض لنفس قضيته وهو وجوب الإكرام.

وهذه النكتة غير موجودة هنا لأن دليل النفي يتعرض لنفس قضية دليل الإثبات وهي الزكاة على مال اليتيم، نعم لو كان لسان الدليل النافي

ص: 467


1- مصباح الفقيه: 4/4.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/8.

(الصغير لا يملك) مثلاً فإنه سيكون مورداً للحكومة؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في الملك، أو ورد (ليس على اليتيم زكاة) فإنه من الحكومة لأن الموضوع هو اليتيم وليس المال فتكون الحيثية الملحوظة في الحاكم غيرها في المحكوم.

وإن أرادا من الحكومة معناها العام أي مطلق تصرف الحاكم بالمحكوم فيشمل التخصيص وغيره، فهو صحيح ويمكن انطباقه على بعض الوجوه الآتية.

(الثاني) التقديم بنكتة عرفية ذكرها السيد الحكيم (قدس سره) ((من جهة ظهوره –بقرينة مناسبة الحكم والموضوع- في أن عنوان اليُتم من العناوين الاقتضائية للمنع))(1).

أقول: بغض النظر عن الملاحظة الشكلية على اعتباره عنوان اليتيم، إذ أننا حررنا في أول البحث (صفحة 387) أن اليُتم بعنوانه لا دخل له في الحكم إلا بلحاظ عدم البلوغ وهذا لا يخفى عليه (قدس سره) لكنه سار مع العنوان الموجود، نقول:-

1- إنه (قدس سره) لم يقدم لنا في تقريبه وجه التقديم إذ كما أن أدلة النفي فيها اقتضائية المنع من التعلق، فإن إطلاقات الوجوب تقتضي إثباته، ويمكن للخصم أن يدعي تقديم دليل الإثبات لأنه أخص بلحاظ موضوعه وهي الغلات والمواشي –لخروج النقدين بدليلهما الخاص- بينما المال في الدليل النافي عام بحسب الفرض وتكون النتيجة حينئذٍ عدم وجوب الزكاة في مال اليتيم إلا في الغلات.

2- النقض عليه بمال الصغير إذا اتجر به فإنه استثني في نفس الدليل النافي للزكاة، وهذا يعني أنه لا إطلاق للمنع وأنه قابل للتقييد.

ص: 468


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/4.

3- ما يمكن أن يقال من أن ظاهر كلامه (قدس سره) في التعليل كبرى كلية وهي تقديم الدليل النافي دوماً على الدليل المثبت في مادة الاجتماع وهذا يلزم منه تأسيس أصول جديدة في التعامل مع الدليلين المتعارضين إذا كانت النسبة بينهما عموم من وجه بتقديم دليل النفي دوماً لنفس النكتة. وقوله: ((بقرينة مناسبة الحكم والموضوع)) لا تخصص هذه الكبرى وتجعلها خاصة بالمقام، لأن موردها إثبات الاقتضائية.وقد وُجِّه مراده (قدس سره) بتقريبين:

أحدهما: للشيخ المنتظري (قدس سره) قال: ((إن لسان أدلة الزكاة لسان الاقتضاء للزكاة ولسان قوله: (لا زكاة في مال اليتيم) لسان بيان المانع عنها، وفي أمثال ذلك يحكم العرف بتقديم الثاني، فيكون المراد أن اليتم مانع من تعلق الزكاة مطلقاً))(1)

وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((إن وجود المال مقتضٍ للزكاة، واليتم مانع عنها وفي أمثال ذلك يقدَّم الدليل المانع عرفاً، فهذا جمع عرفي يحكم به العرف بمناسبة الحكم والموضوع))(2).

أقول: الكبرى تامة إذ لا شك في تقديم المانع على المقتضي ومنعه من التأثير، لكن كون العلاقة بين الدليلين كما بين المقتضي والمانع محل النزاع بشهادة النقض الذي ذكرناه آنفاً.

ثانيهما: للسيد السيستاني (دام ظله الشريف) قال في وجه التقديم: ((أن يقال إن لهذا –أي تقديم الدليل النافي على العمومات- نظراً، وأوجَه بيانٍ له أنه مسوق لبيان المانعية، لا أنه مانع، فمثلاً إذا قيل: (صلِّ) و (لا تصلِّ في ما يؤكل لحمه) فهو إرشاد إلى المانعية، ولا فرق في الإرشاد بين أن يكون على نحو خطاب الوضع أو التكليف كقوله (عليه السلام): (نهى النبي عن

ص: 469


1- و (2) كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/30-32.

بيع الغرر)، فقوله (عليه السلام): (لا زكاة في مال اليتيم) إرشاد إلى أن اليتم مانع لا أنه مقتضٍ للمنع، وهو الأوجه))(1).

أقول: ربما أراد نفس المعنى في التقريب الأول لكن التعبير لم يكن واضحاً، وعلى أي حال فالوجهان وإن ذكرا مستقلين في كلامهما، إلا أنه من الواضح كونهما بياناً لمراد السيد الحكيم (قدس سره)، فلم يزيدا عنه وإنما ذكرناهما استئناساً بهما، فهما مجرد دعوى عهدتها على مدعيها، أو تقرَّب على نحو الوجوه الأخرى كالتخصيص أو الحكومة ولا يكون هذا وجهاً مستقلاً.

(الثالث) التخصيص ببيان ذكره السيد الحكيم (قدس سره) أيضاً ((من جهة أن النسبة المذكورة هي بعينها النسبة بينه –أي الدليل النافي- وبين ما دل على ثبوتها في النقدين فيدور الأمر بين تخصيص الجميع به، وطرحه، وتخصيص أحدها بعينه دون غيره، والأول هو الذي يقتضيه الجمع العرفي بينها. وبعبارة أخرى: مرجع أدلة وجوب الزكاة في الأنواع الثلاثة إلى دليل واحد فيها، ونسبة دليل نفي الزكاة في مال اليتيم إلى ذلك كنسبة الخاص إلى العام، فكما أنه لو قيل: (تجب الزكاة في النقدين والمواشي والغلات) ثم قيل: (لا تجب الزكاة في مال اليتيم) يجب تقييد الأول بالأخير بحمله على غير اليتيم، كذلك لو كانت الأدلة منفصلة. ومجرد قيام دليل خاص على انتفاء الزكاة عن اليتيم في النقدين لا يوجب انقلاب الجمع العرفي المذكور إلى الجمع، بحمله علىخصوص النقدين والعمل بإطلاق دليلي ثبوتها في الغلات والمواشي، فإن ذلك لا يخرج عن كونه تقييداً من غير قرينة عليه، لكونهما معاً نافيين، بخلاف الجمع بتقييد الأدلة الثلاثة به والعمل بإطلاقه، كما لا يخفى على المتأمل))(2).

ص: 470


1- محاضرة بتأريخ 26/ج2/1419.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/4.

وقرَّب الشيخ المنتظري (قدس سره) البيان الأول من كلامه (قدس سره) بقوله: ((ولا تراعى النسبة بينه وبين عمومات الزكاة في الغلات والمواشي، إذ نسبة العموم من وجه ثابتة بالنسبة إلى أدلة زكاة النقدين أيضاً، فلو لم يؤخذ به لزم طرحه أو تخصيص بعض العمومات دون بعض بلا مرجح))(1).

وقال في موضع آخر: ((إن تقديم قوله: (ليس على مال اليتيم زكاة) من جهة أنه يلاحظ مع قوله: «خُذْ مِنْ أَموَالِهِم صَدَقَةً» وبعبارة أخرى مع مجموع الأدلة المثبتة للزكاة لكونها بمنزلة دليل واحد فيكون خاصاً بالنسبة إليه، كيف ولو لوحظ مع كل منها فإما أن يقدَّم على الجميع فهو المطلوب، أو تقدَّم هي عليه فيلزم طرحه، أو يخصَّص به بعضها دون بعض فيلزم الترجيح بلا مرجح))(2).

واعتمد السيد الخوئي (قدس سره) العبارة الثانية من كلامه (قدس سره) وقال في بيانها: ((فإن النسبة بين هذه الرواية وبين آحاد نصوص الوضع –مثل قوله (عليه السلام): (في ما سقته السماء العشر)، وفي كذا نصف العشر، وفي كذا واحد في أربعين وهكذا- وإن كانت هي العموم من وجه- لأن هذه تعم ما سقته السماء مثلاً وغيره، كما أن تلك أيضاً تعم اليتيم وغيره –إلا أنّا لو لاحظنا هذه مع مجموع تلك النصوص كانت النسبة بينهما نسبة الخاصّ إلى العامّ، بحيث لو جُمِعَ الكلُّ في دليل واحد فقيل: في كذا العشر، وفي كذا نصفه، وفي كذا واحد في أربعين، وهكذا، ثمّ ذيّلنا الكلام بقولنا: ليس على مال اليتيم زكاة، لم يكد يرى العرف أيّ تناف بين الصدر والذيل، ولم يبق متحيّراً، بل يحكم بقرينيّ-ة الذيل، وأنّ تلك الأحكام خاصّ-ة بالبالغين،

ص: 471


1- و (2) كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/32.
2- و (2) كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/32.

فإذا كان الحال كذلك لدى الاتّصال فمع الانفصال أيضاً كذلك، لأنّ مرجع أدلّة وجوب الزكاة في أنواعها الثلاثة إلى دليل واحد كما لا يخفى))(1).

ورد السيد السيستاني (دام ظله الشريف) على ما أورده السيد الخوئي بوجهين حاصلهما: ((1- لا مانع من الالتزام بتخصيص أحدهما بعينه دون غيره ولا يلزم منه الترجيح بلا مرجح لوجود القدر المتيقن وهو تخصيص ما دل على النقدين به، ويبقى ما دل على الزكاة في الغلات والمواشي بلا تخصيص.2- إنه (قدس سره) لم يذكر نكتة الترجيح على الكل، ونكتة ترجيح الخاص على العام غير موجودة فيمكن أن يقال بالتحيّر كشق آخر، وفي مثله يُرجَع إلى القواعد فلا ينحصر الأمر بما ذكره (قدس سره) ))(2).

أقول: وجها الرد غير تامين ، أما الأول فلأن فيه غفلة عن أن البحث مبني على المعنى العام للمال فلا مسوّغ للاقتصار على القدر المتيقن، فيكون تخصيص العمومات بخصوص النقدين ترجيحاً بلا مرجّح، وإن أجاب بأن الأخذ بالقدر المتيقن من المال وهما النقدان من جهة حمل المال في الدليل النافي على النقدين في الدليل الآخر النافي للوجوب فيهما وهذا قد أجاب عليه السيد الحكيم (قدس سره) بكونه تقييداً من غير قرينة عليه لكونها نافيين معاً –كما قال (قدس سره).

نعم له أن يرد على السيد الحكيم (قدس سره) بأن هذا الحمل ممكن إذا عُلم اتحاد الجعل بحيث يكون الدليل النافي الخاص بالنقدين كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (ليس على مال اليتيم في الدين والمال الصامت شيء) مفسراً وشارحاً ومنقحاً لموضوع الدليل النافي العام (ليس على مال اليتيم زكاة).

ص: 472


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/7.
2- محاضرة بتأريخ 26/ج2/1419.

وهذا المعنى قريب إلا أنه عودة إلى المعنى الخاص للمال بالنقدين ومعه لا يبقى موضوع للبحث كما قدمنا.

وأما الثاني فقد ذكر (قدس سره) النكتة في التقديم وهو أن الجمع العرفي يقتضيه لأن النسبة بين الدليلين هي العموم المطلق، وهو صحيح.

بيان ذلك: إن الدليل النافي خاص لتناوله مال اليتيم خاصةً، وهو مطلق بلحاظ أموال اليتيم سواء كانت من النقدين أو الغلات أو المواشي، أما العمومات فهي عامة شاملة لكل غلات ومواشٍ بما فيها ما للصغير، فيتقدم الأول على الثاني لأن ظهور الخاص في مورده أقوى من ظهور العام.

وبتعبير آخر إن الدليل النافي نص في مال اليتيم، والدليل المثبت ظاهر فيه لشموله بالصدق والجريان أو الانحلال والأول أقوى فيُقدَّم، ولذا قالوا: ((إطلاق الخاص مقدم على عموم العام)).

(الرابع) ومع التنزل عما قيل من الأنحاء المتقدمة من التصرف، فيحصل التعارض بين الدليلين ويتساقطان، والرجوع حينئذٍ إلى العمومات إن وجدت –وقد ناقشناها في الصنف الثاني- وإلا فالرجوع إلى أصالة عدم الوجوب.

والخلاصة أنه بناءً على فهم المعنى العام من المال في الدليل النافي فإنه يخصص العمومات، ونتيجته عدم وجوب الزكاة في مال الصغير، لكننا قربنا ظهور لفظ (المال) في دليل النفي بالنقدين أو إجماله فيقتصر على القدر المتيقن فيخرج النقدان فقط من العمومات.ونذكّر هنا أن الدليل النافي لا يعارض الأدلة المثبتة لوجوب الزكاة في النقدين إذا اتجر بهما، لما قلناه(1) من ورود الاستثناء بالوجوب في نفس دليل النفي، ولأن الزكاة تؤخذ من ربح مال اليتيم، فإن لم يربح فالضمان على المتّجِر، وعلى كلا التقديرين لا يُمسُّ أصل مال اليتيم بشيء، فلا يوجد

ص: 473


1- الفقرة (3) صفحة 413.

موضوع لجريان الدليل النافي، وهذا وإن كان على خلاف الأصل الذي يقتضي عدم التقدير، إلا أنه يصلح كمؤيد لما ذكرناه.

نتيجة البحث في شقوق المسألة:

إن الأقوى هو قول الشيخ المفيد (قدس سره) وخلاصته عدم وجوب الزكاة في النقدين من مال الصغير، إلا إذا اتجر بهما فتجب، ويعمم الحكم إلى كل العملات النقدية كما هو مختارنا، والأحوط وجوب الزكاة في الغلات والمواشي بمعنى الاحتياط الذي ذكرناه، مع ملاحظة ما اخترناه في مسألة سابقة من شمول الغلات لغير الأصناف الأربعة التي اقتصر عليها المشهور.

ص: 474

فرعان

(الفرع الأول) هل يُلحق الحمل بالصغير في الأحكام السابقة؟

عن إيضاح الفوائد ((أن إجماع أصحابنا على أنه قبل انفصال الحمل لا زكاة في ماله كالميراث لا وجوباً ولا غيره، وإنما يثبت وجوباً على القول به واستحباباً على المختار بعد الانفصال))(1).

أقول: تحقق الإجماع الحجة بعيد؛ لأن المسألة غير مدوّنة عند القدماء، وإنما هي من الفروع المستنبطة التي أثيرت عند العامة، فحررها علماؤنا في كتبهم، ولو ثبت مثل هذا الإجماع فهو استنباطي مدركي وليس تعبدياً.

قال العلامة (قدس سره) في التذكرة: ((لا زكاة في المال المنسوب إلى الجنين؛ لعدم التكليف، وعدم الوثوق بحياته ووجوده، وهو أحد وجهي الشافعية، والثاني: يجب كمالِ –أي كما في مال- الصبي. والأصل ممنوع))(2).

أقول: قبل التحقيق في المسألة نحرّر أولاً إمكان تحقق الملكية للحمل، لأن الزكاة لا تتعلق إلا بالملك، فلو لم نتصور ملكية الجنين فإن المسألة تصبح سالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا معنى لإلحاق الجنين بالصغير إذا لم يكن مالكاً حال كونه حملاً.

والمصدر المتوقع لملكية الحمل هو الميراث، ونحن لا نبحث هنا مسألة ميراث الحمل تفصيلاً وإنما بمقدار ما نحتاجه هنا، ويوجد قولان في مالكية الجنين للميراث، بعد استبعاد الاحتمال الآخر وهو تملكه من حين موت المورث فإنه لا قائل به مع مخالفته لظواهر الروايات الآتية.

والقولان هما:

ص: 475


1- إيضاح الفوائد في شرح مشكلات قواعد العلامة لفخر المحققين: 1/167.
2- تذكرة الفقهاء: 5/13 ونقل آراء العامة في الهامش.

الأول: أن يقال بكون ولادته كاشفاً عن انتقال المال إليه من حين موت المورث.

الثاني: أن تكون ولادته حياً ناقلة فقبلها يكون مستعداً للمالكية لا مالكاً بالفعل))(1).أقول: على القول الأول يمكن تصور المسألة لأن انفصاله حياً يكشف عن تملكه حال كونه جنيناً، ولا يمكن تصور المسألة على القول الثاني؛ لأن الحمل لا يملك حتى يولد حياً.

والثاني هو الصحيح أي أن الحمل لا يورَّث حتى ينفصل حياً، وتعرف حياته باستهلاله أو بتحركه حركة بيّنة، وصرحت به عدة روايات (منها) صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يُصلَّى على المنفوس وهو المولود الذي لم يستهل، ولم يصِحْ، ولم يوَرَّث من الدية، ولا من غيرها، فإذا استهل فصلِّ عليه وورّثه)(2)

وصحيحة ربعي بن عبد الله قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في السقط إذا سقط من بطن أمه فتحرّك تحركاً بيّناً: يرِثُ ويورَث، فإنه ربما كان أخرس) وصحيحة أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أبي (عليه السلام): إذا تحرّك المولود تحركاً بيّناً فإنه يرث ويورث فإنه ربما كان أخرس) وصحيحة الفضيل قال: (سأل الحكم بن عتيبة أبا جعفر (عليه السلام) عن الصبي يسقط من أمه غير مستهل أيُوَرَّث؟ فأعرض عنه فأعاد عليه، فقال: إذا تحرك تحركاً بيّناً ورث (ويورث) فإنه ربما كان أخرس).

فهذه الروايات تدل صريحاً على اشتراط خروج الجنين حياً في توريثه، وتدل بالدلالة الالتزامية على نفي ملكيته إذا لم تكن كذلك.

ص: 476


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/79.
2- وسائل الشيعة: كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه، باب 7، ح 5، 4، 7، 8.

وعلى هذا فالمسألة محل البحث لا موضوع لها، إلا أن نتصور مصدراً آخر لملكية الجنين.

ويمكن تصور مصدرين آخرين لملكية الصغير:-

1- الوقف، كما لو أوقف عيناً على ذريته وكان الحمل أحدهم: وقد حكي ((الإجماع على عدم جواز الوقف على الحمل، لأن الوقف تمليك ولا يعقل تمليك المعدوم، ويردّه: أن الحمل موجود قابل للملكية، واشتراط إرثه بتولده حياً ليس لعدم قابليته للملكية بل للدليل الخاص، فلا يقاس المقام به))(1)

واختار الصحة السيد السيستاني (دام ظله الشريف) قال: ((يصح وقف بستان على جماعة منهم من هو موجود فعلاً، ومن هو حمل في الطبقة الأولى، فتكون لهم غلات البستان المذكور، وتنتقل إلى ورثته لو مات لا موت مورثه، ومثله وقف الأنعام مع وقف منافعه للموقوف عليه))(2).

أقول: الصحيح قول بين قولين، فإن الوقف على الحمل صحيح إلا أنه لا يتملك فعلاً حتى ينفصل حياً. بيانه: إن القول بصحة الوقف على الحمل لا يلزم منه تملكه الفعلي، لكفاية شأنية الوجود في صحته، كالوقف علىالزوار وطلبة العلم مع عدم وجودهم فعلاً، فليس الحمل معدوماً حتى يبطل الوقف في حقه، ولا هو موجود خارجاً حتى يتملك فعلاً، وإنما له اقتضائية الملك ويكون فعلياً عند انفصاله حياً؛ ولأن التملك بالوقف ليس أقوى من التملك بالميراث، فالقول بانتقال ما يعزل له إلى وارثه لو مات وهو حمل لا ورثة مورثه مشكل، ولا أقل من انصراف صيغة الوقف عنه فعلاً

ص: 477


1- فقه الصادق: 30/289.
2- محاضرة بتأريخ 11/شعبان/1419.

وإن كان مشمولاً بها اقتضاءً. والخلاصة أن عدم تملك الحمل للوقف فعلاً لأمور:-

أ - إن صحة الوقف لا تستلزمه لكفاية الشأنية، فلا يوجد دليل على التملك الفعلي.

ب- إن سببية الوقف للتملك ليست أقوى من سببية الميراث؛ لأن الأول بالجري والانطباق والثاني بالتعيين، وهذا ليس قياساً، وإلا فينقض على القائلين بالتملك الفعلي بالوصية حيث لم يقولوا بها مع أنه لا دليل عليها سوى الإجماع المبني على ملاحظة ميراث الحمل.

ج-- إن صيغة الوقف ومراد الواقف منصرف عنه حتى يولد.

والتفصيل موكول إلى محله.

2- الوصية، قال المحقق الحلي (قدس سره) بشرح صاحب الجواهر (قدس سره): (( (وتصح الوصية للحمل الموجود) حال الوصية، وإن لم يكن قد حلّته الحياة بلا خلاف أجده فيه، لعموم ما دل على جوازها (و) لكن لا (تستقر) إلا (بانفصاله حياً) كالإرث (و) حينئذٍ ف-(لو وضعته ميتاً بطلت الوصية) بمعنى ظهور بطلانها، وإن كان قد حلته الحياة في بطن أمه، كظهور الصحة لو انفصل حياً، فالنماء المتخلل يتبع العين في ذلك))(1)

ووافقهم السيد السيستاني (دام ظله الشريف) في عدم تملك الجنين بالوصية فعلاً حتى ينفصل حياً.

3-

أقول: ظهر مما تقدم عدم وجود موضوع للمسألة، ولو تصورناه على بعض الوجوه المتقدمة، فنقول في جوابها: إن موضوع حكم تعلق الزكاة –وجوباً أو

ص: 478


1- جواهر الكلام: 28/386.

استحباباً- إن كان (الصغير) أو (الصبي) فإن الأحكام لا تشمله لعدم صدقها عرفاً على الجنين، وكذا اليتيم على قولٍ، إلا بعد انفصاله حياً، أما إذا كان الموضوع هو (غير البالغ) فإن الأحكام تشمله لصدقه عليه، والثاني هو الظاهر من الروايات لأن الظاهر أن منشأالسؤال فيها هو عدم البلوغ، ويشهد له مقابلته مع البالغ في كلام الفقهاء (قدس الله أرواحهم)، وهذا من تقابل النقيضين فلا يمكن أن يرتفعا في الجنين وإنما ذكر عنوان (اليتيم) و (الصغير) كمصاديق له، وإلا فإن المناط في الحكم هو عدم البلوغ.

واستدل الفاضل الأصفهاني (قدس سره) –أي كاشف اللثام- في شرح اللمعة بالعمومات، قال (قدس سره): ((التحقيق إن لم يثبت الإجماع المنقول في الإيضاح: تعميم الحكم له –أي الحمل- إن كان المستند العمومات، وإلا بني الحكم على دخوله في مفهوم اليتيم))(1).

بيانه: إن الجنين إن لم يدخل في عنوان اليتيم الذي هو موضوع الأدلة النافية، فإن الزكاة تجب في أمواله لدخولها في عموم الصنف الأول المتقدم، وإن دخل انتفى الوجوب بتلك الأدلة.

أقول: عُلمَ النظر في هذا الاستدلال من عدة وجوه تقدمت منها عدم صلاحية العمومات للاستدلال، ولو ثبت الإجماع فإنه ليس بحجة.

أما القول بعدم الإلحاق فمنشأه استظهار كون الموضوع هو (اليتيم) أو (الصبي) أو (الصغير) فلم يتعدوا إلى (الحمل).

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لأن المذكور في لسان الأدلة هو عنوان اليتيم، وقد تعدّينا إلى غيره نظراً إلى أن مناسبة الحكم والموضوع تستدعي إلغاء خصوصية اليتيم، وأن النكتة في تخصيصه بالذكر لأنه الغالب فيمن له المال من الصبيان، وإلا فالمال في غيره لوالده غالباً.

ص: 479


1- حكاه في جواهر الكلام: 15/28.

إلا أن هذا العنوان لا يصدق على الحمل بوجه إذ لم يولد بعد ليصدق عليه لفظ الصبي فضلاً عن اليتيم الذي هو قسم منه، فالعنوان المزبور منصرف إلى المولود الخارجي، ولا يعم الحمل قطعاً، فلا زكاة عليه، وإن كان له حصة من المال))(1).

أقول: يرد عليه (قدس سره) عدة أمور:-

1- يوجد موردان للتعدي والتعميم، أحدهما: في الأدلة المثبتة، وثانيهما في الأدلة النافية، وصدر كلامه (قدس سره) ناظر إلى الأول، ولم يتعرض إلى الثاني مع أن البحث يقتضيه، إذ على التعدي في الموردين يجري الحديث عن التعارض وكيفية حله.

2- إن التعدي المذكور ليس لمناسبة الحكم والموضوع كما ذكره (قدس سره) إذ تحتمل الخصوصية في اليتيم ليتمه، وإنما للإجماع وللنصوص التي ذكرناها في أول صفحة من البحث.

3- لا يبعد إطلاق اليتيم عرفاً على الحمل(2)، وكون اليتيم قسماً من الصبي فيه تأمل.

4- ما قلناه من أن الموضوع (عدم البالغ) وليس (الصبي).

وأما المورد الثاني –أي الأدلة النافية- فقد تعدوا فيه من اليتيم إلى (الجنين) للأولوية أو لصدق اليتيم عليه، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((والتعدي إلى الجنين في نفي وجوب الزكاة على أمواله إنما كان لكونه أبعد عن الكمال من اليتيم، فيكون أولى بنفي الوجوب عن اليتيم، مضافاً إلى ما قد يظهر من بعض نصوص النفي: من أن موضوعها غير البالغ الشامل

ص: 480


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/60.
2- وممن استدل به المحقق النراقي (قدس سره) في مستند الشيعة: 9/16.

للجنين بخلاف المقام لعدم شمول اليتيم، ولا للجنين مناسبة عرفية تقتضي التعدي إليه))(1).

وفي ضوء ما تقدم فإن ما يؤثر في مسألة زكاة مال الحمل أمور:-

1- المبنى في زكاة مال الصغير، إذ على القول بعدم تعلقها به لا يبقى موضوع للمسألة لعدم الفرق بين الحمل والصغير.

نعم يتأثر بعدم انفصاله حياً الوارث الآخر إذ ينكشف أن المال المعزول للحمل هو له وتراعى فيه شروط الزكاة من حين وفاة المورّث.

2- الخلاف في كون انفصال الجنين حياً، هل هو شرط للتملك أم كاشف عنه من حين موت المورِّث، فإن كان شرطاً –كما اخترناه- فتراعى شروط الزكاة –كالحول- على القول بثبوتها من حين الانفصال، وإلا فمن حين وفاة المورّث.

3- العنوان الذي هو موضوع الحكم بتعلق الزكاة فإن كان (الصبي) و (الصغير) ونحوه فإنه لا يشمل الجنين، وإن كان (غير البالغ) كما هو الظاهر فإنه يشمله.

(الفرع الثاني) في المتولي لإخراج زكاة الصغير:

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((والمتولي لإخراج الزكاة هو الولي، ومع غيبته يتولاه الحاكم الشرعي. ولو تعدد الولي جاز لكل منهم ذلك، ومن سبق نفذ عمله. ولو تشاحّوا في الإخراج وعدمه قُدِّم من يريد الإخراج. ولو لم يؤدِّ الولي إلى أن بلغ المولّى عليه فالظاهر ثبوت الاستحباب بالنسبة إليه))(2).

ص: 481


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/20.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/61-62.

أقول: تضمن كلامه (قدس سره) عدة فقرات وهي:-

الأولى- إن المتولي للإخراج على القول به وجوباً أو استحباباً هو الولي؛ لأن الصغير محجور عليه ولا تصح تصرفاته في ماله، وإنما يقوم بها وليه، والولي هو الأب أو الجد، أو القيّم من قبلهما مع مراعاة الشروط المذكورة في هذه الولاية.

هذا على مستوى القواعد العامة، ولكن قد يقال هنا باحتمالين آخرين:

1- أن يتولى إخراجها العامل بأموال اليتيم، وقد وردت الإشارة إليه في صحيحة يونس بن يعقوب المتقدمة (صفحة 407) وفيها (إذا اتجر به فزّكه) وخبر أبي العطارد الحناط المتقدم (صفحة 410) وفيه (إذا حركته فعليك زكاته) فكأن الأمر بالإخراج متوجه إلى نفس العامل بالمال.

أقول: يصعب الجزم بهذا المعنى لأن الروايتين تحتملان جداً أن توجيه الخطاب إليهما بإخراج الزكاة لكونهما القيمين على المال لا لكونهما العاملين به فراجعها لتتأكد.

2- أن يتولى الإخراج الصغير نفسُه إذا كان مميزاً بلحاظ ما دلّ على صحة بعض تصرفاته المالية كالوقف والوصية والصدقة، والمورد مشمول بعنوان الصدقة كما في صحيحة جميل بن دراج عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل، وصدقته ووصيته وإن لم يحتلم)(1)

وصحيحة الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: سئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم؟ قال: نعم إذا وضعها في موضع الصدقة)(2)

ص: 482


1- وسائل الشيعة: كتاب الوقف والصدقات، باب 15، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الوقف والصدقات، باب 15، ح 3.

وصحيحة(1)

زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف وحقٍّ فهو جائز)(2).

ولا يؤاخذ على هذا الاحتمال أن الزكاة عبادة والعبادة لا تتحقق من الصغير، لأن العبادة تصح منه بل تستحب لتدريبه على الطاعة.

نعم قد يشكل على تولي الصغير من جهتين.إحداهما: إن فرز الزكاة من المال يتطلب شيئاً من الرشد والمعرفة وتوفر الشروط وهذا ما لا يطمئن بوجوده لدى الصغير؛ لذا حكي عن كاشف الغطاء (قدس سره) قوله: ((إذا بلغ الطفل لم يمكنه الولي من دفع زكاته حتى يأنس منه الرشد بالاختبار لأحواله بالتصرف بأمواله))(3).

ثانيهما: ما يحتمل من تقييد نفوذ صدقة الصغير بكون المال يسيراً(4)

والزكاة ليست كذلك، وفيه: إنه لا دليل على هذا التقييد، ولعله بني على ما ورد في وصية الصغير من التقييد، بضميمة اقتران الوصية والصدقة في روايات مشتركة كالتي مرّت آنفاً.

ص: 483


1- في سند الرواية موسى بن بكر وقد شكك البعض في وثاقته باعتبار عدم التصريح بذلك في كتب الرجال، إلا أن البعض وثقه لرواية ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى –كهذه الصحيحة- عنه، أما نحن فنبني على صحة رواياته لأنها أخذت من كتابه الذي ورد قول صفوان بن يحيى بسند صحيح فيه: (هذا مما ليس فيه اختلاف عند أصحابنا) (معجم رجال الحديث: 19/37).
2- وسائل الشيعة: كتاب الوقف والصدقات، باب 15، ح1.
3- جواهر الكلام: 15/27.
4- حكاه السيد السيستاني (دام ظله) عن السيد صاحب العروة (قدس سره) في الجزء الأول من ملحقاتها (محاضرة بتأريخ 11/شعبان 1419).

ومما ورد في تقييد الوصية صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه قال: إذا بلغ الغلام عشر سنين وأوصى بثلث ماله في حقٍّ جازت وصيته، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حقٍّ جازت وصيته)(1).

وفيه: إنه قياس، ووحدة المناط مخدوشة من جهة تأخير تنفيذ الوصية عن الوفاة ولوجود الوصي مما يوجب مزيد عناية ورعاية.

وفي ضوء ما تقدم يمكن القول بصحة إخراج الصبي للزكاة إذا كان تصرفه معروفاً وبحق وفي محله كما في صحيحة زرارة، والولي هو الذي يتحقق من ذلك ويكون الإخراج تحت نظره.

وإذا جاز للصغير الإخراج في مورده، فقد يقال بعدم بقاء مسوِّغ لقيام الولي بذلك؛ لأن مبرّره الحجر على الصغير، ولذا احتاط بعض أعلام العصر قال (قدس سره): ((وأما إذا كان مراهقاً وقلنا بشرعية عباداته كما هو الحق، وكان يحصُل منه قصد القربة فلعل الأحوط أن يتولى هو بنفسه للإعطاء كسائر العبادات الشرعية كالحج والصلاة ونحوهما، إما بإذن الولي أو مطلقاً لكونها من مصاديق الصدقة، وهل يجوز له إعطاء الصدقة المندوبة من ماله ولا يجوز له إعطاء ما تعلق بماله من الزكاة بقصد القربة وإطاعة الأمر؟))(2).

أقول: لعل وجه الاحتياط مضافاً إلى ما تقدم، ما قاله (قدس سره) في موضع آخر من كتابه، حاصله أن ((الظاهر أن ملاك الاستحباب ومصلحة الخطاب يرجعان إلى الطفل لأن المال ماله، والخطاب الفعلي إنما توجّه إلى الولي من

ص: 484


1- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، باب 44، ح2.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 4/296.

جهة أن الإخراج تصرف مالي وهما محجوران عنه شرعاً فينوب هو عنهما))(1).

أقول: يوجد احتمال رجوع ملاك الاستحباب ومصلحة الخطاب إلى الولي كما سنبيّنه بإذن الله تعالى.

ويلاحظ على استفهامه الاستنكاري في ذيل كلامه (قدس سره) أنه قياس مع الفارق لإمكان تقييد صدقته المندوبة بالمقدار اليسير بينما مقدار الزكاة محدد شرعاً، ولأن في الزكاة شروطاً وأوصافاً قد لا يكون مؤهلاً للنظر فيها، بينما الصدقة المندوبة مطلقة.

وينبغي الالتفات هنا إلى أن تولي الولي للإخراج –وإن كان مطلقاً بحسب أدلته- إلا أنه مقيّد بما فيه مصلحة الصغير فضلاً عن الإضرار بحاله، بحسب ما يستفاد من مجموع الأدلة وذوق الشريعة، وهذا لم يذكروه (قدس الله أرواحهم).

ويمكن ذكر وجهين لذلك أحدهما بلحاظ أصل الإخراج، والثاني بلحاظ امتثاله أي الكيفية:-

1- تقييده بما دلَّ على أن أفضل الصدقة التوسعة على العيال وأنها مكروهة إذا أضرّت بحال الصغير كما في خبر الذي تصدق بقطعة ذهبية وسلمها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلمّا علم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لم يُبقِ لأهله شيئاً رماها في وجهه ورفضها.

وهذا الوجه غير كافٍ على القول بالوجوب للزوم الإخراج على كل حال، فيأتي الوجه الثاني.

2- إن القدر المتيقن من جواز التصرف في ماله هو ما يتأدّى به الغرض، ومقدار الزكاة وإن كان محدداً شرعاً إلا أنه ليس متعيناً في المال، وإنما

ص: 485


1- المصدر السابق: 4/312.

هو متعلق بالمال بنحو من أنحاء التعلق المذكورة في محلها. ويمكن أن تُخرج الزكاة بوجه أفضل من وجه بلحاظ مصلحة الصغير(1).وستأتي الإشارة إلى عدة مواضع لهذه النكتة بإذن الله تعالى.

الثانية- لو لم يكن له ولي خاص، إما لعدم وجوده أو لعدم اجتماع الشروط فيه، فوليه العام هو الحاكم الشرعي لأنه ولي من لا ولي له، أو القيّم المنصوب من قبله، فما أذن لهم به، فإن الحاكم الشرعي مأذون به أيضاً، وهذا من محل الوفاق في ولاية الفقيه فلا يبنى على الخلاف في سعة وضيق ولاية الفقيه؛ لأن إخراج الزكاة –التي هي حق للفقراء ونحوهم من المصارف الأخرى متعلق بأموال الأغنياء- من الأمور الحسبية التي علم إرادة الشارع المقدس لتحقيقها وتنفيذها في الخارج، فإذا لم يقم المعنى بها، فإن من وظيفة الولي الفقيه تنفيذ الحكم الشرعي.

ص: 486


1- انقدح في الذهن هنا لتقريب الفكرة ما ورد في تفسير قوله تعالى: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ» (الأنبياء:79) في الدر المنثور بعدة طرق من العامة أحدها عن ابن مسعود قال: ((كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: أغير هذا يا نبي الله؟ قال: وما ذاك؟ فقال سليمان: إن صاحب الكرم قد بقي له أصل كرمه وأصل أرضه، بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها وصوفها ونفعها، ويُعطى أهل الغنم الكرم فيعمرونه ويصلحونه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم وأهل الكرم كرمهم)) (الدر المنثور للسيوطي: 5/645). أقول: محل الشاهد أن الحكم وإن كان الضمان باتفاق النبيين الكريمين (صلوات الله عليهما) إلا أن الأداء له عدة صيغ أفضلها أن تراعى فيه مصلحة الطرفين.

هذا ولكن السيد السيستاني (دام ظله الشريف) بنى الإذن على المبنى في حدود ولاية الفقيه فقال: ((على القول بالاستحباب فهل للحاكم الشرعي التصدي لإخراجها أم لا؟ وجهان مبنيان على حدود ولايته، فإن اختار أحد محدوديتها بما ذكره الأنصاري (قدس سره) أي الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بإهمالها وتركها ولم يوكل أمرها إلى شخص أو عامة الناس، كما لو احتاج الصغير في تعيشه إلى بيع شيء من أمواله، فإن الظاهر عدم جريان ولايته على ما نحن فيه إذ ليس استحباب إخراج الزكاة من الأمور الحسبية بالمعنى المذكور، فالقول بتولي الحاكم الشرعي إخراجها محل إشكال)).

أقول: هذا بناءً على فهمه الذي ذكره لمعنى الأمور الحسبية، وهو غير مطابق لما أراده الشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي يوافق ما شرحناه أعلاه، قال (قدس سره) في نهاية بحثه الشريف في ولاية الفقيه: ((إن ما دلَّ عليه هذه الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغاً عنها، بحيث لو فرض عدم الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية))(1).

أقول: كون الزكاة منها من الواضحات لأنه حق للفقراء والصالح العام تعلق في مال الأغنياء ويريد الشارع المقدس تنفيذه.

مضافاً إلى عدم تعقّل الفرق بين الولي الخاص والولي العام في هذا المورد المتضمن لإخراج حق الفقراء في أموال الأغنياء، بحيث جاز للأول إخراج الزكاة المستحبة ولم يجز للثاني ذلك، اللهم إلا أن يقال برجوع الملاك والمصلحة في الحكم إلى الولي وليس إلى الصغير وإن كانت تخرج من ماله، وهذا خلاف المشهور وسنتعرض له إن شاء الله تعالى.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((أما على القول بالولاية العامة للفقيه، فالولي له إخراج الزكاة من ماله، وهو يلاحظ أن المصلحة ماذا تقتضي، فقد

ص: 487


1- المكاسب من الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 3/557.

يضرّ إخراجها بحال الصغير كما لو لم يكن يملك شيئاً غير هذا المال فلا يخرجها، وربما يرى حاجة المجتمع لإخراجها لكثرة الفقراء ونحوه وإخراجها لا يضر بحال الصغير فيخرجها، فما أفاده (قدس سره) من أنه مع غيبة الولي يرجع إلى الحاكم الشرعي لا بد من ملاحظته وفق ما ذكرناه))(1).

أقول: لعل هذا منه (دام ظله) بيان تفصيل لما استوجهه بعض أعلام العصر (قدس سره) في ما ننقل عنه قريباً، وعلى أي حال فإن ما ذكره (دام ظله الشريف) صحيح ومطابق لما ذكرناه، إلا أنه ليس من جهة ابتنائه على القول بولاية الفقيه بل من جهة اقتضاء كون الحكم استحبابياً ذلك لما ذكرناه في الوجه الأول (صفحة 485)، فتراعى في تنفيذه المصلحة والأولوية والأهمية لأنه ليس إلزامياً، ولذا فإن نفس الأولوية يراعيها الولي أيضاً عند الإخراج على القول بالاستحباب.

ولو رُدَّ بإطلاق دليل استحباب الإخراج، أُجيب حلاً بما ذكرناه (صفحة 485)، ونقضاً بأن الإطلاق يشمل الحاكم الشرعي أيضاً، وقد قيّده كما نقلنا عنه وناقشناه.

الثالثة- لو تعدد الولي كالأب والجد فيجوز لكل منهما إخراج الزكاة لوجود المقتضي فيه وعدم المانع، ولو سبق أحدهما فأخرج الزكاة صحّ تصرفه، سواء رضي الآخر أم لا، إلا أن توجد مصلحة للصغير على خلاف الإخراج فيؤخذ بمنع الآخر، وسيأتي مزيد بيان عند التعليق على قول المصنف (قدس سره): ((قُدِّم من يريد الإخراج)).

الرابعة- لو تنازعوا في الإخراج وعدمه، قُدِّم من يريد الإخراج، أما على القول بالوجوب فالأمر واضح؛ لأنه واجب كفائي يجب على كل منهما

ص: 488


1- محاضرة بتأريخ 12/شعبان/1419.

تنفيذه، فالتقديم هنا واجب، وعلى القول بالاستحباب فالأمر كذلك للحث على المبادرة إلى الطاعة ما لم تعارضها مصلحة أهم للصغير.

ولو كان التنازع في المُخرَج وكان الفردان مما اجتمعت فيه شروط الصحة، روعيت مصلحة الصغير في اختيار أحدهما،كما تقدم (صفحة 485).

وتردد بعض أعلام العصر في هذه الصورة، إذ عَلَّق على قول الماتن ((قُدِّم من يريد الإخراج)) بقوله: ((لإطلاق دليل الاستحباب والولاية، نعم لو رفعا الأمر إلى القاضي فهل عليه تقديم مريد الإخراج أو تقديم مصلحة اليتيم؟ وجهان))(1).

أقول: تقدّم (صفحة 485) أن هذه الإطلاقات مقيدة، وأن مراعاة المصلحة لا تختص بالحاكم وإنما تشمل الولي الخاص أيضاً.وأشكل السيد السيستاني (دام ظله الشريف) على إطلاق عبارة الماتن (قدس سره) ((قُدِّم من يريد الإخراج)) بناءً على مختاره من الاستحباب ونسبه إلى السيدين البروجردي والخوئي (قدس الله روحيهما) فقال: ((مقتضى إطلاق عبارته أنه إذا فرض أن المخالف للإخراج باع هذا المال، والمفروض أن حق الأول به استحبابي –أي على القول باستحباب الإخراج- وفي مثله ينفذ البيع –إذا سبق البيع- فلا يبقي موضوع لإخراج الزكاة، نعم لو سبق الأول وأخرج الزكاة قبل تصرف الآخر صح لصدور الفعل من أهله ووقوعه في محله، فإطلاق عدم النفوذ في غير المخرج منقوض، وهذا وجه تعليق سيدنا الأستاذ والسيد البروجردي (قدس الله روحيهما) على المتن))(2).

أقول: يرد عليه:-

ص: 489


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سره): 1/81.
2- محاضرة بتأريخ 12/شعبان/1419.

1- أنه خروج عن محل البحث؛ لأن الماتن يتحدث عن ذات الإخراج وعدمه من دون تعلق عنوان آخر كالالتزام بالبيع ونحوه.

2- على القول بالوجوب يكون الإشكال لا محصل له؛ لأن البيع إن وقع على مجموع المال لم يصح لتعلق الزكاة به بنحو من الأنحاء، وإن وقع على ما لا ينافي إخراج الزكاة وصححناه، فأصبح الموضوع أجنبياً عن موضوع إخراج الزكاة لأنها تعينت في الباقي وحينئذٍ فإن البيع لا ينافي الإخراج.

أما على القول بالاستحباب فإنه يجوز تركه ابتداءً ولا حاجة إلى فرض عنوان ثانوي، والذي أعتقده أن تحرير هذه الفروع ناشئ من إحساس وجداني لديهم بأن مفاد الروايات هو الوجوب، ولكنهم قالوا بالاستحباب مجاراةً للمشهور، وإلا فإن الأمر في الاستحباب هيِّن ولا يحتاج إلى هذه التدقيقات.

الخامسة- لو لم يؤدِّ الولي إلى أن بلغ المولّى عليه فالظاهر ثبوت الاستحباب بالنسبة إليه.

علق السيد الخوئي (قدس سره) قائلاً: ((لما عرفت من أن مفاد الأخبار: أنّ في هذا المال زكاة، من غير أن تتضمّن الخطاب بشخص خاصّ.

وإنّما خصصنا الحكم بالولي لأنّه القدر المتيقّن ممّن يجوز له التصرّف في مال اليتيم، لا لأنّ الخطاب متوجّه إليه ليسقط بانقطاع ولايته بعد بلوغ الصبي.

وعليه، فمقتضى الإطلاق في تلك الأدلّة: ثبوت الاستحباب للمولّى عليه بعد بلوغه))(1).

ص: 490


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/62.

أقول: القول في المسألة مبني على مفاد الروايات الواردة في الزكاة، هل أنها حكم وضعي بمعنى ثبوت حق في المال، أم أنها حكم تكليفي بالإخراج، وكلامه (قدس سره) مبني على كون الزكاة حقاً متعلقاً في المال وهو الظاهر، وحينئذٍ على القول بالوجوب الذي اخترناه فإن الأمر واضح لتعلق الحق في المال، وإهمال الولي إلى حين البلوغ لا يسقطه، وكذا على القول بالاستحباب الذي اختاروه إذا فهمناه على نفس النحو أي تعلق الزكاة بالمال استحباباً، وأمكن تصوره(1)،وإنما يقوم الولي بالإخراج نيابة عنه للحجر على تصرفاته.

ويوجد في مقابل ذلك احتمالان آخران ناشئان من لحاظ الحكم في المسألة على أنه تكليف بالإخراج، وحينئذٍ يمكن أن يكون مناط الخطاب متعلقاً بعنوانين:

أحدهما: نفس الصبي أي ((أنه من قبيل التكليف المحض لليتيم، بأن يكون مكلفاً استحباباً بالدفع، ولا ينافيه قصوره، إذ هو إنما ينافي توجه الخطاب إليه به لا مناط للخطاب، فإذا كان المناط موجوداً في فعله كان مستحباً له بعد البلوغ أيضاً كما قبله وحديث الرفع لا ينفيه، لأنه مختص بنفي الإلزام))(2).

ص: 491


1- قال السيد الحكيم (قدس سره): ((لا مانع عقلاً من ملك الفقير جزءاً من المال بنحو يستحب دفعه إليه ولا يجب)) (مستمسك العروة الوثقى: 9/21) ومثّل له بجواز الرجوع في الهبة وفي المعاطاة قبل التصرف. أقول: هذا التقريب لا يمكن قبوله للمنافاة بين ملك الغير وعدم وجوب دفعه إليه فلو قرّبه بمعنى مقبول ككونه حقاً غير واجب الأداء والحقوق متفاوتة المراتب، أو حكماً غير إلزامي يستتبع حكماً وضعياً غير إلزامي لإخراج المال ونحوه.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/22.

أقول: اعتباره تكليفاً للصغير ثم منعه من توجيه الخطاب إليه لا ينسجمان، وهو خلل في التعبير وإلا فنظره (قدس سره) إلى مناط الخطاب ومصلحته لا نفس الخطاب.

ثانيهما: توجّه الخطاب إلى الولي، وحينئذٍ يكون الحكم عدم استمرار الاستحباب بعد البلوغ، لانتفاء الموضوع بالنسبة للولي بسقوط ولايته وحرمة تصرفه في مال غيره ولو كان ولده، وعدم وجود خطاب بالنسبة للصبي قبل بلوغه.

واستبعده السيد الحكيم (قدس سره) من جهة ((أن التقرب بالأداء ومصلحته إنما ترجع إلى اليتيم، والولي نائب عنه –كما في سائر التصرفات المالية))(1)

ونقلنا مثله عن الشيخ المنتظري (قدس سره) (صفحة 484).أقول: هذا تنقيح للمناط لا يفيد إلا الظن، إذ المصلحة بالنسبة للولي يمكن تصورها، ولا يضرّ كون موضوعها مال الصغير بعد ورود الدليل المعتبر به، فكأن الشارع المقدس أعطى الولي مساحة إضافية للطاعة من خلال الصغير وما يملكه ولا ضير في ذلك لأن الشارع هو المالك الحقيقي، على نحو قول النبي الكريم موسى بن عمران: «قَالَ رَبِّ إنِّي لا أَمْلِكُ إلا نَفْسِي وَأَخِي» (المائدة: 25).

ويمكن أن نفهم أحكاماً مماثلة على هذا النحو كأحكام الحج للصغير باعتبارها تكاليف للولي حيال صغيره، ويؤيده ما ورد أن ثواب عبادات الصغير لوالديه.

فهذا الاحتمال الأخير ممكن، لكننا استظهرنا كون الزكاة حكماً وضعياً.

ص: 492


1- المصدر السابق، نفس الصفحة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.