فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية: طرق ثبوت الهلال المجلد 4

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف

بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء الرابع

طرق ثبوت الهلال

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف - 1441 ه_/2020م

ص: 2

هذا الكتاب

يتضمن بحثاً مفصلاً في الطرق المعتبرة لثبوت الهلال والطرق الظنية الأخرى. وأُلحقت به أربع مسائل:

1- ثبوت الشهر برؤية الهلال بالعين المسلحة.

2- ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي.

3- كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوت الشهر في بلدان أخرى غير متحدة معه بالأفق.

4- صيام الأسير والمحبوس إذا لم يتمكنا من معرفة أول شهر رمضان.

ابتدأ عرض هذه المحاضرات للمرة الأولى في بحث الخارج من يوم 25 / ربيع الأول /1430 هج_ الموافق 23/3/2009 م. ثم أعيد عرضه بعد تنقيحه وإضافة مطالب مفيدة له ابتداءً من 24 محرم 1439 هج_ الموافق 15/10/2017 م، وانتهاءً ب_ 12 جمادى الثانية 1440 هج_ المصادف 18/2/2019 م.

ولله الفضل أولاً وآخراً.

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

طرق ثبوت الهلال

مقدمة:

تحظى أحكام رؤية الهلال وطرق ثبوته وتحديد أوائل الشهور القمرية بأهمية كبيرة لارتباط واجبات ومستحبات كثيرة بزمان معين من الشهر القمري فلا تصح إلا فيه كالحج والصوم والزيارات المخصوصة وبعض المعاملات كأجل الدَين والنذر المعينين والعدة ومدة الظهار وغير ذلك قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (البقرة : 189) وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيره: (لصومهم وفطرهم وحجهم)(1).

فلا بد من إحراز تحقق الشهر بالعلم والقطع أو بدليل معتبر شرعاً المسمى بالعلمي ليصح ترتيب الآثار الشرعية عليه، وهو أحد وجوه قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة:185).

يثبت الشهر القمري برؤية الهلال:

ويتحقق دخول الشهر القمري الجديد بخروج القمر من المحاق(2)

ص: 5


1- وسائل الشيعة: 10/258، كتاب الصوم: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح23.
2- بحسب ما أفهم فإن المحاق -وهو انعدام نور القمر للناظر من الأرض- يحصل بوقوع القمر بين الشمس والأرض وهو المسمى بالاقتران فيكون تمام وجهه المقابل للأرض مظلماً، ولا يتحقق به كسوف للشمس لأن ظله المخروطي إلى الخلف ينتهي قبل وصوله إلى الأرض أي أنه لا يغطي جزءاً من الأرض ليحصل فيه كسوف، أو لأن القمر يكون فوق أو تحت المستوي الذي ترسمه الأرض في دورانها حول الشمس، ويكون مستوى الاقتران عمودياً عليه.

واكتسابه شيئاً قليلاً من النور فيبدو الجزء المنار منه على شكل خيط دقيق يسمى (الهلال) وهو يطلق لغةً على القمر في الليلتين الأولى والثانية وتتحقق بذلك الولادة التكوينية ولكن الثبوت الشرعي أي الولادة الشرعية قد تتأخر عنها، إذ لا يكفي مجرد خروجه منالمحاق ليثبت الشهر شرعاً حتى يكون قابلاً للرؤية قال السيد الخوئي (قدس سره): «إن الشهر الجديد إنما يتحقق بخروج الهلال عن تحت الشعاع بمثابة يكون قابلاً للرؤية»(1)

واشترط السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في ثبوت الشهر القمري الشرعي «خروج القمر من المحاق ومواجهة جزء من نصفه المضيء للأرض وأن يكون هذا الجزء مما يمكن رؤيته بالعين المجردة»(2)

لكن بعض الفقهاء اكتفى برؤيته في العين المسلحة.

ويمكن أن يكون هذا المعنى -أي مدخلية قابلية رؤيته بالعين المجردة- مأخوذاً في اسمه لأن الإهلال لغة رفعُ الصوت كما يقال: «أَهَلَّ المحرم بالتلبية» إذا رفع صوته فيها و«أَهَلَّ الصبي» إذا صرخ حين ولادته، فسمي هلالاً لأن الناس يصيحون عند رؤيته فهم يهلّون به، قال في معجم مقاييس اللغة عن الهلال: «سمّي به لإهلال الناس عند نظرهم إليه مكبّرين وداعين»(3)

ص: 6


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/60.
2- الفتاوى الواضحة: كتاب الصوم، الفقرة (64).
3- لا يقال: إن كلام ابن فارس هذا مردود لأن تسمية الهلال أسبق من الإسلام ولم يكن لدى العرب قبله تكبير ودعاء عند النظر إلى الهلال. فإنه يقال: إن المهم عندنا هنا حصول رفع الصوت عند رؤية الهلال مضافاً إلى أن العرب كانوا يعرفون الدعاء وبعض القضايا التوحيدية من بقايا الإبراهيمية، وفي بعض المصادر أن دلالة الكلمة ومشتقاتها على هذه المعاني موجود في اللغة العبرية أيضاً (كتاب التحقيق للمصطفوي: 11/300)، ومن الطريف الإشارة إلى أن هذه الظاهرة موجودة اليوم عند الأمم الأخرى حيث يجتمع الناس وترتفع أصواتهم بالصفير عند حلول السنة الميلادية الجديدة.

وقال الشيخ في التهذيب: «إنما سُمّي هلالاً لارتفاع الأصوات عند مشاهدتها بالذكر لها والإشارة إليها بالتكبير أيضاً والتهليل عند رؤيتها، ومنه قيل استهل الصبي إذا ظهر صوته بالصياح عند الولادة، وسمي الشهر شهراً لاشتهاره بالهلال»(1).

وكانت العرب قبل الإسلام تستهل وتتطلع إلى الأفق لرؤية الهلال لارتباط جملة من الأمور به كالحج والأشهر الحرم التي يحرمون القتال فيها، واستمروا على ذلك في الإسلام، ومن الشواهد التأريخية على ذلك ما حصل في حادثة سرية عبد الله بن جحش حينما أرسلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لرصد تحركات قريش فصادفوا مجموعة من قريش وحصلت مواجهة مسلحة قتل فيها ابن الحضرمي قبل معركة بدر وكانت في يوم مردد بين آخر جمادى الثانية والأول من رجب الحرام فوقعوا في إشكالونزل قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ» (البقرة: 217)، وفي الكافي بسنده عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (هذا اليوم -أي النهار- للّيلة الماضية لأن أهل بطن نخلة -وهو اسم الموضع الذي حصلت به المواجهة- حين رأوا الهلال قالوا: قد دخل الشهر الحرام)(2).

«وقد أجمع المسلمون منذ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى زماننا هذا على اعتبار الهلال والترائي له والتصدي لإبصاره، وقد كان رسول

ص: 7


1- تهذيب الأحكام: ج4، باب 41: علامة أول شهر رمضان وآخره.
2- الكافي: 8/332، ح517، وفي (سيرة ابن هشام: 2/179) أن الحادثة وقعت آخر يوم من رجب.

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتصدى لرؤيته ويتولاها ويلتمس الهلال»(1).

وقد دلّت النصوص الشرعية على إناطة دخول الشهر الذي هو موضوع الأحكام الشرعية بالرؤية، وهي «أكثر من أن تحصى» بحسب تعبير الشيخ في التهذيب، وذكر صاحب الوسائل عشرات الروايات في ذلك، ومنها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنه سُئل عن الأهلة؟ فقال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصُم وإذا رأيته فأفطر)(2)

وصحيحة الفضل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية)، وروى العامة مثلها أيضاً.

إذا لم تثبت الرؤية فإتمام عدة الشهر:

وإذا لم تتحقق الرؤية أو العلم بها في نهاية اليوم التاسع والعشرين فيجب إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً للقطع بعدم تجاوز الشهر القمري هذا المقدار؛ لأن المدة بين اقترانين للقمر هي (29 يوماً و 12 ساعة و 44 دقيقة)(3)

فقد يكون الشهر القمري 29 يوماً وقد يكون ثلاثين لا غير، ووردت في ذلك عدة روايات أيضاً مثل صحيحة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (في كتاب علي عليه السلام: صُم لرؤيته وأفطر لرؤيته وإياك والشك والظن، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين)(4) وصحيحة محمد بن مسلم

ص: 8


1- منتهى المطلب: 9/221.
2- وما بعدها تجدها في وسائل الشيعة: 10/258، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح 1، 12.
3- هذا المقدار بين الاقترانين ثابت إلا أن خروج القمر من تحت شعاع الشمس متغير فقد لا يطابق الفصل بين الخروجين هذا المقدار.
4- وسائل الشيعة: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح 11.

عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها (وإذاكانت علّة فأتم شعبان ثلاثين)(1) وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): وإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين ليلة ثم أفطروا)(2).

وروى العامة مثل ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: صحبنا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعلمنا منهم، وإنهم حدثونا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعُدّوا ثلاثين، فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا)(3)،وقال صاحب المدارك: «إنه من ضروريات الدين»(4).

إذا رآه وحده فقد ثبت الشهر عنده:

فتحصّل لدينا أن العلامة المعتمدة الأولى لثبوت الشهر هي رؤية الهلال، وحينئذٍ فإذا رآه الشخص بنفسه متيقناً من دون شك أو تردد فقد حصل له العلم الوجداني ويجب عليه الصوم إن كان هلال شهر رمضان ويجب عليه الإفطار إن كان شهر شوال سواء رآه غيره أم لا، وسواء ثبتت الرؤية عند الحاكم الشرعي أم لا؛ لقوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة:185) ولصدق الرؤية الموجبة للصوم والإفطار.

والحكم على مقتضى القاعدة في أمثال المورد كما في موثقة سماعة بن مهران عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر فقال أحدهما: هو ذا، وقال الآخر: ما أرى شيئاً، قال: فليأكل الذي لم

ص: 9


1- وسائل الشيعة: 10/290، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح 11.
2- وسائل الشيعة: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح 11.
3- سنن الدارقطني: 2/167، ح 3، وبتفاوت في سنن النسائي: 4/132.
4- مدارك الأحكام: 6/165.

يتبين له الفجر وليشرب وقد حرم الأكل على الذي زعم أنه قد رأى الفجر إن الله تعالى يقول: «وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ» (البقرة:187) )(1).

ومضافاً إلى ذلك فقد وردت في هذا المعنى صحيحة علي بن جعفر (أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لايبصره غيره، أله أن يصوم؟ قال: إذا لم يشك فليفطر وإلا فليصم مع الناس)(2)، والصحيحة ظاهرة في كون الرؤية تتعلق بهلال شهر شوال، مضافاً إلى إطلاقات بعض روايات الرؤية المتقدمة كصحيحة الحلبي، وقال العلامة: «ذهب إليه علماؤنا أجمع»(3).

وهنا ملاحظتان:

أولاهما: عن مبرر سؤال علي بن جعفر مع وضوح ثبوت الهلال بالرؤية الحسية الوجدانية وأنها طريق صحيح ومعتبر للكشف عما يثبت بالإبصار، وبعضها صريح في توجيه الخطاب إلى الرائي أن يصوم ويفطر كصحيح الحلبي (فإذا رأيت الهلال فصُم وإذا رأيته فأفطر)(4)

ويمكن هنا ذكر أكثر من مبرر:-

1- ما أفادته عدة روايات عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من عدم الاعتبار برؤية الشخص الواحد وهي طوائف، منها: ما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا، وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف)(5).

ومثلها صحيحة الخزاز(6) عن أبي عبد الله (عليه السلام).

ص: 10


1- الكافي: 4/97، الفقيه: 2/82، التهذيب: 4/317.
2- وسائل الشيعة: 10/260، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 4، ح1.
3- تذكرة الفقهاء: 6/118، منتهى المطلب: 9/223.
4- وسائل الشيعة: 10/258، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح1.
5- وسائل الشيعة: 10/290، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10، 11.
6- وسائل الشيعة: 10/290، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10، 11.

ومنها: الروايات الدالة على أن الصوم والإفطار مع الناس كرواية أبي الجارود قال: (سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول: (صم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت)((1)

فيكون مقتضى إطلاقها عدم عمل الشخص برؤيته حتى يثبت لدى الناس، ولو تمت هذه الدلالات فإنها مقيّدة لتلك الإطلاقات والعمومات ولا تصلح للاستدلال في المقام ولا للرد على القائل بعدم البناء على رؤيته وحده كما عن كثيرين ومنهم الشيخ في كلامه الآتي.

هذا ولكن سيأتي وجه حمل هذه الروايات إن شاء الله تعالى.

2- إن المسألة ككثير غيرها انعكاس للمسائل الخلافية التي كانت تدور في الساحة الإسلامية بين فقهاء العامة فيأتي أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ليعلموا الموقف الشرعي الحقيقي منها، وبهذه النكتة نفهم وجه صدور الكثير من الروايات والمراد منها.وقد اختلفت العامة في هذه المسألة على أقوال، فمنهم من وافقنا ومنهم من فصّل بين أول شهر رمضان وأول شهر شوال، ومنهم من قال بعدم الاعتبار مطلقاً.

قال الشيخ في الخلاف: «إذا رأى هلال شهر رمضان وحده لزمه صومه، قبِل الحاكم شهادته أو لم يقبل، وكذلك إذا رأى هلال شوال أفطر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك وأحمد: يلزمه الصيام في أول الشهر، ولا يملك الفطر في آخره. وقال الحسن البصري وابن سيرين وعطاء وشريك: إن صام الإمام صام معه، وإن فطر أفطر؛ دليلنا: قوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهرَ فَلْيَصُمْهُ» وهذا فقد شهد وجب عليه صومه. وقال عليه السلام: (صوموا

ص: 11


1- وسائل الشيعة: 10/293، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح4.

لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وهذا قد رأى»(1).

أقول: ظاهر الشواهد التأريخية تبنّي الدولة لقول الحسن البصري وابن سيرين بدليل إجابة الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي العباس السفاح في الحادثة المعروفة بمثل قول ابن سيرين: (ما صومي إلا بصومك ولا إفطاري إلا بإفطارك)(2)،ومستنده رواية عائشة(3)

ورواية عن عمر فهذا القول كان معروفاً.

وكذا التفصيل الذي قال به مالك فقد كان مالك فقيهاً معروفاً في زمان الإمام الكاظم (عليه السلام)، وقد استظهرنا من الصحيحة أن السؤال كان عن هلال شوال وليس رمضان فيمكن أن يكون بلحاظ تفصيل مالك، لكن أنكر جملة من فقهائهم هذا التفصيل حتى من المالكية أنفسهم كما حكي عن ابن رشد.

ص: 12


1- كتاب الخلاف للشيخ الطوسي: 2/204.
2- وسائل الشيعة: 10/132، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح6.
3- روى البيهقي في السنن (5/175) عن عائشة أنها قالت: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عرفة يوم يعرف الإمام، والأضحى يوم يضحى الإمام والفطر يوم يفطر الإمام) وفي المغني روى أبو قلابة (أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر، قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال، وقال للآخر: قال: إني صائم، قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام، فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك، ثم نودي في الناس أن اخرجوا) وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته وحده» المغني لابن قدامة: 3/11. وهذا التعليل من ابن قدامة قد لا يكون دقيقاً ويصحّ فيما لو كان الرجلان منفصلين وهو غير ظاهر من الرواية، فقد يكون ضربه لأنه سبق الحاكم بالإفطار ولم ينتظر أمره.

ثانيهما: ما أثبتناه من النص هو للصدوق في الفقيه وهو ظاهر في كون السؤال عن أول شوّال كما قرّبنا، لكن الشيخ روى في التهذيب بسنده عن علي بن جعفر وكذا الحميري في قرب الإسناد وهو الموجود في كتاب علي بن جعفر أن الإمام(عليه السلام) قال: (إذا لم يشك فليصم وحده وإلا يصوم مع الناس إذا صاموا) وهو ظاهر في أول رمضان، وقد دفع صاحب الوسائل الإشكال بتعدد الروايتين، إلا أنه احتمال ضعيف لوحدة العبارة والراوي والمروي عنه فالظاهر وحدة الرواية والأرجح نقل الصدوق لأن الخلاف المشهور يومئذٍ كما علمت للفطر لا في الصوم.

طرق تحصيل العلم بالرؤية:

وحيث لا يحتمل اشتراط رؤية كل مكلف الهلال بنفسه في ثبوت الشهر لثبوت التكاليف في حق المكفوف وضعيف البصر وعند وجود الغيم، وإنما المطلوب حصول العلم والقطع بوجود الهلال وإمكان رؤيته، فقد ذكر الفقهاء أعلى الله مقامهم عدة أمور يحصل منها العلم بتحقق أول الشهر ورؤية الهلال، ولا ينحصر العلم بالرؤية الوجدانية، وذكر السيد صاحب العروة (قدس سره) هنا «التواتر والشياع المفيد للعلم، وفي حكمه ما يفيد العلم ولو بمعاونة القرائن، فمن حصل له العلم بأحد الوجوه المذكورة وجب عليه العمل به وإن لم يوافقه أحد، بل وإن شهد وردّ الحاكم شهادته».

أقول: هذه وسائل عقلائية لإثبات الأمور الخارجية التي تكون موضوعات للأحكام الشرعية ولا تختص بالهلال الذي هو أحدها، فيثبت الهلال بكل ما تثبت به تلك الموضوعات إلا أن يدل دليل خاص على حذف أو إضافة شيء منها أو فيها.

ولا يشترط تحقق العلم منها بل يكفي حصول الاطمئنان لأنه سبب معتبر للحجية.

ص: 13

والتواتر سبب لحصول العلم والقطع لأنه أخذ في تحقق موضوعه نفي احتمال الخلاف حيث عُرّف باجتماع جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب فهو حجة مطلقاً. وذكروا أنه «حيث كان المعتبر ما أفاد العلم فلا ينحصر المخبرون في عدد، ولا يفرّق في ذلك بين خبر المسلم والكافر والصغير والكبير والأنثى والذكر كما قرر في حكم التواتر»(1)

ولا يشترط وجود عدلين فيهم لأن الحكم عُلِّق على الكثرة والاتفاق، كاتفاق التقاويم الفلكية الصادرة هذا الزمان لرصد الأهلة وإمكانية رؤيتها.

أما الشياع -وهو لغةً الاشتهار والذيوع والتفرق بين الناس- فقد قُرِّب ظهور دلالة عدة روايات عليه كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها (والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف)(2)،وموثقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (صُم للرؤية وأفطر للرؤية، وليس رؤية الهلال أن يجيء الرجل والرجلان فيقولان رأينا، إنما الرؤية أن يقول القائل: رأيت الهلال، فيقول الناس:صدق)(3) ومنشأ تصديقه شيوع الرؤية بين الناس، ورواية سماعة في الفقيه (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن اليوم في شهر رمضان يُختلف فيه؟ قال: إذا اجتمع أهل مصر على صيامه للرؤية فاقضه إذا كان أهل المصر -أي الآخر- خمسمائة إنسان)(4)؛ «إذ الظاهر أن ذكر الخمسمائة إنما هو على جهة التمثيل والكناية عن الكثرة الموجبة للعلم، إذ

ص: 14


1- مدارك الأحكام: 6/166، الحدائق الناضرة: 13/243 وغيرهما.
2- وسائل الشيعة: 10/290، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح11.
3- وسائل الشيعة: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح14.
4- وسائل الشيعة: 10/293، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح6.

لا ضرورة لهذا العدد مع وجود العدلين فيهم ولا خصوصية له مع عدمهما»(1)

ومثلها رواية عبد الحميد الأزدي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في الجبل في القرية فيها خمسمائة من الناس، فقال: إذا كان كذلك فصم لصيامهم وأفطر لإفطارهم)(2) ورواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (صُم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس، فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت للناس)(3).

والشياع قد يكون منشؤه التواتر حينما يتفرق الخبر المتواتر بين الناس، وقد لا يكون الشياع مستنداً إلى التواتر بل إلى أمور أخرى كالسلوك الجمعي أو التأثير الإعلامي ونحو ذلك. وقد لا ينتج التواتر شياعاً حينما تجتمع الأخبار المتواترة عند واحد كمرجع التقليد.

وقد ذكر الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) أن الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان على نحوين أشار إليهما باقتضاب بعض من حضرنا بحثه الشريف(4):

أولهما: «أن يكون سببه مستنداً إلى كثرة

عدد الشهود برؤية الهلال بما هي كثرة -مع قطع النظر عن الجهات والعوامل الداخلية والخارجية- إذ لا يحتمل على أساس مبدأ الاستقراء خطأ شهادة جميع هؤلاء الشهود وأنها غير مطابقة للواقع على نحو الصدفة والاتفاق لأن الصدفة لا تدوم ولا يمكن لها الاستمرار إلى النهاية، فمنأجل ذلك لا يمكن أن يجتمع عدد كبير من الناس على الكذب في موضوع واحد لاستحالة تواطؤهم على الكذب فيه مع عدم

ص: 15


1- الحدائق الناضرة: 13/244.
2- وسائل الشيعة: 10/293، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح3.
3- وسائل الشيعة: 10/293، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح4.
4- السيد السيستاني (دام ظله الشريف) محاضرة بتأريخ 26/ذ.ح./1416 ه_.

اطلاع بعضهم على بعض»(1) ثم شرح ذلك وفق نظرية الاحتمالات بزيادة احتمال المطابقة كلما انضم شاهد حتى يصل إلى 97% وهي حالة الاطمئنان أو 100% وهي حالة اليقين.

أقول: يمكن تسجيل عدة ملاحظات:-

1- إن حجية هذا النحو من الشياع ترجع إلى التواتر المفيد للعلم كما هو مصرّح به في عبارته وحينئذٍ فالحجية له لا للشياع.

2- إذا كان الشياع متضمناً شهادة اثنين عادلين بالرؤية فإنها بيّنة تكفي لثبوت الهلال بحسب التفصيل الآتي إن شاء الله تعالى ولا حاجة لتراكم الاحتمالات، وإلا فإن شيوع خبر الرؤية لا يسقط مسؤولية الفحص عن أصله ومنشأه حتى لو حصل العلم برؤيته، فليس كل علم حجة على مستوى التعذير والتنجيز.

وبتعبير آخر: إن العلم يكشف عن واقعية خبر الرؤية لا الرؤية نفسها التي هي موضوع الأحكام الشرعية حتى تتحقق من أصله وسببه.

ونحن لا نلتزم بالقول المشهور: أن حجية العلم ذاتية الذي يعني أن المعذرية والمنجزية من اللوازم الذاتية للقطع بحيث أنها تترتب على العلم والقطع تلقائياً، نعم إن كاشفيته وطريقيته للكشف عن الواقع عند القاطع ذاتية، أي أن محركية هذا العلم والقطع لا تحتاج إلى جعل واعتبار لأن الإنسان إذا قطع عمل على طبق قطعه سواء كان مطابقاً للواقع أم لا، أما المعذرية والمنجزية فإنها قابلة للجعل بلحاظ منشأ القطع وسببه فلا تثبت للقطع إلا بعد ثبوت مشروعية أصله ومنشأه ولزوم ترتيب الأثر عليه، فيمكن للمولى عدم اعتبار قطع القطاع حجة باعتبار حصوله من أسباب غير عرفية وعقلائية، وإن أبيت إلا تعبير مشهور الأصوليين فنقول إن المولى

ص: 16


1- فيض العروة الوثقى،كتاب الصوم: 2/136.

لم يعتبر مثل هذا القطع قطعاً، ومن ثمرات هذه النكتة الأصولية دفع إشكال معذرية أهل العقائد الفاسدة القاطعين بصحة عقائدهم.

3- إن حصول الاطمئنان المحرك للأعضاء أمر قلبي ونفسي ويكفي شهادة ثقتين لتحصيله بحسب التفصيل الآتي إن شاء الله تعالى، أما تراكم الاحتمالات فهو أمر عقلي وهذا لوحده لا ينتج بالضرورة ذلك فقد يؤدي إليه وقد لا يؤدي مهما ازداد فقد لا تطمئن النفس والقلب مع أن العقل يحكم بأن احتمال الوقوع مائة بالمائة كما في الآية الشريفة «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَ_كِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (البقرة: 260)، وقد تطمئن من دون ثبوت الاحتمال المتاخم للعلم عقلاً، فشهادة رجلين عادلين يحصل منها الاطمئنان عند العقلاء وأمضاها الشارع على أنها علم تعبدي مع أن الاحتمال الناشئ لا يبلغ درجة العلم ولا الاطمئنان وإنما مجرد ظن.

فهذه التقسيمات المنطقية لدرجات الاحتمال تحتاج إلى تنقيح عند تطبيقها على العمل، وقد فصلنا الكلام في (فصل نظرية الاحتمالات وتطبيقاتها) من كتاب (الرياضيات للفقيه) وطبقناه على مثال وقوع شيء طرفاً في علوم إجمالية متعددةكالنجاسة وتزايد احتمال كونه النجس فإن ذلك لا ينتج اطمئناناً بنجاسته بحيث ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بنجاسة هذا الطرف وشك بدوي في البقية.

ثانيهما: «أن يكون غير مستند إلى كثرة الشهود -بما هي كثرة شهود- بل مستند إليها مع ضميمة جهات وعوامل أخرى، فإنها مع هذه الضميمة -كصفات الشهود وحالاتهم واختلافهم مع صفاء الجو وعدم مخالفتها لمعطيات الرصد الفلكي- تكون سبباً للعلم أو الاطمئنان برؤية الهلال، فإن الكثرة العددية هنا لا تكون سبباً مستقلاً للعلم أو الاطمئنان برؤية الهلال، ولا هذه العوامل حجة بنفسها بل تؤكد حجية الشهود وهي موجبة لنمو احتمال المطابقة

ص: 17

للواقع ولضعف احتمال الخطأ بنفس الدرجة وإذا كانت مخالفة للشهادة فهي من العوامل السلبية التي قد تزيل من النفس الوثوق والاطمئنان»(1).

أقول: شرح الشهيد الصدر الأول (قدس سره) هذه الحالة في الفتاوى الواضحة وذكر للقرائن مصاديق عديدة منها ما يضعف هذا الشياع ومنها ما يقويه، والخلاصة: أن هذا النحو من الشياع لا يتوقف على كثرة الشهود، «فإذا كثر العدد ولم يحصل العلم أو الاطمئنان من أجل منشأ معقول لم يثبت الهلال» والمهم أن تكون «كثرة العدد وتنوع الشهود على نحو يحصل التواتر أو الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، فالكثرة العددية عامل مساعد على حصول اليقين»(2)،قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: «فربما لم يصل أخبار جماعة إلى حد متواتر لكنه انتشر بين الناس وتقبّلوه ورتبوا الأثر عليه على اختلاف مشاربهم في حصول الاطمئنان، فمثل هذا ربما يوجب العلم»(3).

فالشياع الذي يكون حجة إما أن يرجع إلى التواتر المفيد للعلم أو أن يكون محتفّاً بقرائن توجب العلم بانضمامها إليه، ولعل مراد السيد صاحب العروة (قدس سره) هذا النحو الثاني من الشياع بدليل جعله قسيماً للتواتر، وبذا يندفع ما أشكل به البعض على هذه المقابلة وذكرهما معاً.

وقد عبّر بعض الأصحاب بما يشملهما كقول المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: «أو يُرى رؤية شائعة» وفسّروها بالتواتر، قال صاحب المدارك: «واستدل عليه العلامة في المنتهى بأنه: نوع تواتر يفيد العلم ونحوه قال في التذكرة»(4).

ص: 18


1- فيض العروة الوثقى: 2/137.
2- الفتاوى الواضحة، كتاب الصوم، الفقرة (68).
3- محاضرة بتأريخ 26/ذ. ح./1416.
4- مدارك الأحكام: 6/165.

الشياع الظني ليس بحجة:

وقد لا يفيد الشياع العلم لأنه لم يحقق حد التواتر ولم تنضمّ إليه قرائن كافية لتحصيل العلم فيفيد الظن، فهل يكون هذا حجة؟ قيّد السيد صاحب العروة (قدس سره) الشياع بإفادته العلم وبذلك يخرج الشياع الذي يفيد الظن بحسب منشأه والعوامل المؤثرة في حصوله، فقد يشيع أمر بفعل فاعل وهو لا أساس له من الصحة خصوصاً في مثل هذه الأيام التي تطورت فيها تقنيات الإعلام والتواصل بشكل مذهل، وبناءً على ما ذكره آنفاً تكون عدم حجية الشياع الظني من باب أولى.

ويظهر من بعض الأصحاب توسيع الاعتماد على الشياع مطلقاً حتى الظني منه، ويمكن أن نستدل له بوجهين:-

1- إطلاق بعض الروايات المتقدمة (صفحة 14) الدالة على حجية الشياع فتشمل حتى ما أفاد الظن.

2- وحدة المناط مع شهادة البينة أو الأولوية، قال العلامة في التذكرة: «ولو لم يحصل العلم -من الرؤية الشائعة- بل حصل ظنٌّ غالب بالرؤية فالأقوى التعويل عليه، كالشاهدين فإن الظن الحاصل بشهادتهما حاصل مع الشياع»(1)

قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): «ونحوه ذكر الشارح -أي الشهيد في المسالك- وغيره -كالمحكي عن الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان- واحتمل في موضع من الشرح اعتبار زيادة الظن على ما يحصل في قول العدلين لتتحقق الأولوية المعتبرة في مفهوم الموافقة»(2).

ص: 19


1- تذكرة الفقهاء: 6/136.
2- مدارك الأحكام: 6/165.

أقول: أما الأول فقد ردوا عليه بالآيات وبالروايات المعتبرة الدالة على حرمة العمل بالظن مطلقاً فكأنهم قيّدوا روايات حجية الشياع بما دلّ على عدم اعتبار الظن كقوله تعالى: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (النجم : 28). وخصوص ما دل على حرمة العمل بالظنون في أمر الهلال كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني)(1).

وصحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني)(2).أقول: قد يقال بعدم كفاية هذا الرد لوجهين:-

أ- إن مقتضى القاعدة في التخصيص والتقييد عكس ما أفادوا، فإن إطلاقات روايات حجية الشياع الظني مخصِّصة لعمومات حرمة العمل بالظن لما قيل من أن إطلاق الخاص مقدَّم على عموم العام.

ب- وأما الأدلة الخاصة فإن النهي فيها إضافي بلحاظ الوسائل الأخرى غير الرؤية وليست بلحاظ الكواشف عن الرؤية نفسها فلا يشمل المقام، فالروايات الخاصة تؤسس لكون ثبوت الهلال بالرؤية خاصة دون الوسائل الظنية والوهمية الأخرى كالحساب العددي وقول المنجمين والجداول ونحو ذلك.

هذا ولكن يمكن ردهما والالتزام بعموم النهي عن العمل بالظن حتى في الشياع الظني بتقريبين:-

أ- إن الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن آبية عن التخصيص والتقييد، وبتعبير آخر إن هذه الآيات والروايات تمنع من انعقاد الإطلاق

ص: 20


1- وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح11.
2- وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10.

في روايات الشياع وتجعلها منصرفة عن الظني.

ب- إننا نتمسك بإطلاق عبارة الإمام (عليه السلام) في رواية الخزاز وغيرها (فلا تؤدوا بالتظني) (وليس بالرأي ولا بالتظني) التي أوردها الإمام (عليه السلام) أولاً كقاعدة عامة ثم طبقها، والنهي فيها شامل لكل الطرق الظنية لثبوت الهلال ومنها الكواشف الظنية عن الرؤية كالشياع الظني، فالعبارة مطلقة وإن كان ظاهر تطبيقها من قوله (عليه السلام): (وليس رؤية الهلال) في بقية الرواية(1)

أن الحجة في مسألة الهلال هي الرؤية الموثوقة لا غيرها من الوسائل الظنية كالحساب العددي والجداول وقول المنجّمين ونحو ذلك، وهذا التطبيق لا يؤثر على إطلاق القاعدة.

وأما الثاني فيرد عليه:-

أ- أنه ليس مناط قبول البينة أي قول الشاهدين إفادته الظن حتى يبنى عليه وإلا عمّ قبول كل ما أفاد ظناً بمقداره وهو باطل إجماعاً، بل إن حجيتها مستندة إلى سيرة العقلاء، والتعبد الشرعي الذي تمّم كاشفيتها واعتبرها علماً، وحكي عن السيد المرتضى (قدس سره) قوله: «وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث أنها توجب الظن بل من حيث أن الشارع جعلها سبباً لوجوبالحكم على القاضي»(2) نعم قد

ص: 21


1- الرواية كاملة عن عثمان الخزاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: كم يجزي في رؤية الهلال؟ فقال: إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره. إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجوز في رؤية الهلال -إذا لم يكن في السماء علة- أقل من شهادة خمسين وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر).
2- الحدائق الناضرة: 13/250.

يعمل بالظن في بعض الموارد لأمر خارج عنه كالاحتياط وغيره، فيصوم أول رمضان المظنون لجامع المطلوبية ونحو ذلك.

ب- إن موثقة ابن بكير التي ذكروها ضمن هذه الروايات (صفحة 14) نافية لقبول شهادة الرجلين، فكيف يستدلون بها على حجية الشياع؟.

حجية البينة في ثبوت الهلال:

وقد لا يتحقق العلم برؤية الهلال بحسب الطرق المتقدمة فنبحث عن ثبوته بدليل شرعي معتبر المسمى بالعلمي كالبينة أي شهادة عادلين، وقد اختلف الفقهاء في قبولها وعدمه، قال المحقق في الشرائع: «فإن لم يتفق ذلك -أي العلم والقطع بالرؤية- وشهد شاهدان، قيل: لا تقبل، وقيل تقبل مع العلة خاصة، وقيل تقبل مطلقاً وهو الأظهر سواء كانا من البلد أو خارجه»(1).

أقول: لم يعرف قائل بالأول -كما عن صاحب الجواهر (قدس سره)(2)-

وقال السيد الخوئي (قدس سره): «لم يعرف من هو القائل وإن كان المحقق لا ينقل -طبعاً- إلا عن مستند صحيح»(3)

ولم يذكر وجهاً لحكاية المحقق هذا القول.

أقول: لعل المحقق (قدس سره) لم يقصد وجود قائل به في هذا المورد ويؤيد ذلك أنه لم يذكره في كتابه المختصر النافع الذي اختصر فيه كتاب الشرائع ولا في كتابه المعتبر، فلعله أشار هنا إلى الخلاف الحاصل في عموم حجية البينة في إثبات الموضوعات وقد بحثه جماعة في طرق ثبوت النجاسة، قال (قدس سره) في كتابه المعتبر: «ولو أخبره عدلان -عن النجاسة- ففي القبول خلاف، قال ابن البراج: ولا يحكم بنجاسته بناءً على الطهارة الأصلية وعدم اليقين بصدق

ص: 22


1- شرائع الإسلام، للمحقق الحلي: 1/148.
2- جواهر الكلام: 16/354.
3- موسوعة السيد الخوئي: 22/63.

الشاهدين، والأظهر القبول: لثبوت الأحكام بها عند الشارع»(1).

ومن الواضح أن هذا الخلاف خاص بالمورد لأن الطهارة مغياة بالعلم بالنجاسة، والبينة توجب الظن عندهم، وهو اشتباه لا وجه له لأن الشارع المقدس اعتبرها علماً فتكون حاكمة على قاعدة الطهارة.قال ابن إدريس (قدس سره): «وإذا أخبره عدل بنجاسة الماء، لم يجز قبول قوله، ولا يجوز له التيمم. فإن كانا عدلين يحكم بنجاسة الماء، لأن وجوب قبول شهادة الشاهدين والحكم به معلوم في الشرع. وإن كان الطريق إلى صدقهما مظنوناً، ولا يلتفت إلى قول من يقول في كتابه إن شهادة الشاهدين تطرح ويستعمل الماء، فإن الأصل الطهارة، ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون، وهو شهادة الشاهدين، لأن أكثرها يثمر الظن، وهذا ليس بشيء يعتمد، بل الشارع جعل الأصل، لأن قبول شهادة الشاهدين، وجوب العمل بهما في الشريعة، فقد نقلنا من معلوم إلى معلوم»(2).

فنقْلُ الخلاف إلى موضوع الهلال قياس مع الفارق.

وإذا وجد قائل بالمنع هنا فلعله أراد نفي الموجبة الكلية أي إطلاق قبول البينة وعموم حجيتها فتقبل بشرط كوجود العلة في السماء، وحينئذٍ يكون القول الأول كالثاني.

وإذا افترضنا وجود قائل به فلعله تمسك بإطلاق ما دلّ على عدم قبول أقل من خمسين شاهداً في الهلال عدد القسامة في القتل وهو اجتهاد مخالف للنص للتصريح فيه بأنه إذا لم يكن في السماء علة.

وأما القول الثاني فهو مختار الشيخ الصدوق في المقنع والشيخ الطوسي في المبسوط والنهاية وأبي الصلاح على اختلاف في التفاصيل بين من اشترط في

ص: 23


1- المعتبر: 12، الفرع الثامن من أحكام المياه.
2- السرائر: 1/86، أحكام المياه.

قبولها قيداً واحداً وهو وجود علة في السماء كما في عبارة المحقق المتقدمة وبين من أضاف قيداً آخر وهو كون الشاهدين من خارج البلد كما في عدة روايات، ومع عدمهما فلا تقبل شهادة أقل من خمسين.

وهذا المعنى وارد في عدة روايات ستأتي إن شاء الله تعالى وأصرحها ما في صحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) (ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر)(1).

فأفتى هؤلاء الأعلام بمضمون هذه الروايات.

وهو مختار أبي حنيفة من فقهاء العامة، فقال: «لا يقبل في الصحو إلا الاستفاضة لأنه لا يجوز أن تنظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة فيراه واحد دون الباقين»(2)

ونقل عن أبي يوسف تحديده العددبخمسين قسامة ونقل في كتاب (بدائع الصنائع) وهو في فقه الحنفية عن الطحاوي التفريق بين كونهما من البلد أو من خارجه.

أما القول الثالث وهو قبول شهادة عادلين مطلقاً سواء كان في السماء علة أو لا، وسواء كانا من البلد أو خارجه فهو مختار الأكثر -كما في المعتبر والمدارك- بل المشهور(3).

ويمكن الاستدلال عليه بمستويين:

(المستوى الأول) الأدلة العامة أي ما دلّ على عموم حجية البينة في

ص: 24


1- وسائل الشيعة: 10/290، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10.
2- حكاه في المغني: 3/97، وراجع أيضاً المبسوط للسرخسي الحنفي: 3/139، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني الحنفي: 2/80-81، المجموع لمحيي الدين النووي الشافعي: 6/282.
3- جواهر الكلام: 16/355.

إثبات الموضوعات مطلقاً فيكون الأصل فيها الحجية إلا ما خرج بدليل كاشتراط أربعة شهود في الزنا لنكتة خاصة ربما تتعلق بالأبعاد الاجتماعية للموضوع المشهود عليه وليس لنقصان في كاشفية البينة.

ويُبحث هذا المطلب في الموسوعات الفقهية وفي كتب القواعد الفقهية وأُلِّفت فيه رسائل مستقلة أيضاً(1)

وتتراوح هذه البحوث بين الاختصار والتفصيل، والمشهور الحجية، قال صاحب الجواهر (قدس سره): «وينبغي القطع بقبول البينة كما صرّح به بعض الكتب وحكي عن أُخر، بل لا أجد فيه خلافاً إلا ما يحكى عن القاضي ابن البرّاج وعن ظاهر عبارة الكاتب والشيخ، ولا ريب في ضعفه، لظهور تنزيلها منزلته في الشرع»(2).

واستدل على عموم حجية البينة بوجوه:

الأول: الآيات الكريمة كقوله تعالى: «وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ» (البقرة:282) وقوله تعالى: «شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» (المائدة:106) وقوله تعالى: «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ» (الطلاق:2) وقوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ» (المائدة:95)، وهي وإن كانت في موارد خاصة إلا أنه يحصل الاطمئنان من مجموعها أن الله تعالى جعل البينة -بمعنى شهادة رجلين عدلين- طريقاً محصّلاً للعلم بالموضوع أو أن فيها إمضاءً لسيرة متعارفة بنى عليها العقلاء كما سيأتي.

ص: 25


1- راجع مثلاً من الصنف الأول جواهر الكلام: 6/172، مستمسك العروة الوثقى: 1/202، موسوعة السيد الخوئي: 2/260، ومن الثاني القواعد الفقهية للبجنوردي: 3/9، ومن الثالث عوائد الأيام للمحقق النراقي: 2/348-372، الرسائل الفقهية للسيد حسن الطاهري الخرم آبادي: الرسالة الأولى: 9-111.
2- جواهر الكلام: 6/172.

مضافاً إلى الآيات الكريمة التي أوجبت تحمل الشهادة وأداءها وحرمت كتمانها كقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ» (الطلاق:2) وقوله تعالى: «وَلاَ يَأْبَالشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ» (البقرة:282) وقوله تعالى: «وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (البقرة:283) فإنها دالة بالالتزام على وجوب قبول الشهادة، وإلا يصبح تحملها وأداؤها لغواً، نعم هي مجملة من حيث قيد اشتراط تعدد الشاهد ويمكن تحصيله من الوجوه الأخرى.

الثاني: الروايات

وذكروا منها الروايات الدالة على ثبوت الهلال بشهادة عادلين مرضيين حيث جعلت شهادتهما علماً بمنزلة العلم الحاصل من الرؤية وعدلاً لها، وهذا ما سنتناوله في المستوى الثاني إن شاء الله تعالى.

واستدلوا هنا بروايتين:

أولاهما: ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعله حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة)(1)،فجعلت البينة علماً تثبت به الحالة الجديدة وهي هنا الحرمة وتنتفي به الحالة السابقة لكنه علم تعبدي يقوم مقام العلم الوجداني، وموردها الشبهات الموضوعية، وفي ذيلها تعميم لكل الأشياء، فتقريب الاستدلال تام.

وأُشكل على الاستدلال بها من عدة جهات:-

1- ضعف السند لسببين:-

ص: 26


1- وسائل الشيعة: 17/89، كتاب التجارة: أبواب ما يكتسب به، باب 4، ح4.

أ- إن مسعدة لم يوثق في كتب الرجال الأصلية بل ذَكر الشيخ أنه عامي ووصفه الكشي بأنه بتري، نعم وثّقه بعض المتأخرين كالمجلسي الأول والمامقاني والسيد الخوئي (قدس الله أرواحهم) وآخرين لوجوه اجتهادية، كاتحاده مع مسعدة بن زياد الثقة وكونه من رجال كامل الزيارات وتفسير القمي بناءً على كبرى توثيق رجالهما، ولمتانة رواياته بدرجة تفوق ما رواه بعض أعلام الأصحاب ونحو ذلك من الوجوه التي تكون حجة عند من تتم عنده.

واحتمل بعض الأعلام -ومنهم السيد الخوئي(1)

(قدس سره)- بناءً على عدة قرائن أن مسعدة الموصوف بالبترية في كلام الكشي وأنه من أصحاب الباقر (عليه السلام) غير مسعدة الذي يروي عنه هارون بن مسلم في أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) ولم يدرك الباقر (عليه السلام) لأن النجاشي قال: «روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام» وهذا لم يوصف بأنه بتري عند النجاشي بل عند الشيخ في أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وفي الفهرست، والأول ذُكر بلا كنية وذُكرت للثاني أكثر من كنية ولم يغمز بمذهبه.والذي نستطيع أن نقوله وقلناه في بحث سابق(2)

أنه يمكن التعويل على روايات مسعدة ما لم يعارضها الصحيح، والعبرة بقبول الرواية حصول الاطمئنان بصدورها عن المعصوم ولا يتعين بخبر الثقة، وهذه الرواية كذلك كما يظهر من كتب الأصحاب في الفقه والأصول ووصفها الشيخ الأنصاري في كتاب الرسائل بالموثقة.

هذا وقد ذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف وجهاً لتوثيق مسعدة حاصله: أن الحميري روى في كتابه قرب الإسناد روايات كثيرة بسنده عن

ص: 27


1- معجم رجال الحديث: 19/152.
2- فقه الخلاف: 1/200، ط. الأولى، و فقه الخلاف: 10/229.

هارون عن مسعدة، وكتب قرب الإسناد المؤلفة من محدثي العامة والخاصة يناسبها أن يكون الرواة موثقين لأن معنى الإسناد قلة الوسائط ليكون احتمال الصحة أكثر ومع عدم التوثيق لا معنى لقلة الوسائط فالحميري إذن يرى وثاقة رواته ومنهم مسعدة بن صدقة.

أقول: يلزم على هذا توثيق كل رجال قرب الإسناد وهو مما لا يمكن الالتزام به.

وأجاب (دام ظله الشريف) بأن هذا الوجه لا يمكن الاعتماد عليه للنقض عليه بلزوم توثيق أبي البختري أكذب البرية الموجود في قرب الإسناد وعبد الله حفيد علي بن جعفر، إذن فتأليف قرب الإسناد لا يدل على وثاقتهم عند المؤلف بل المهم أنه يرى صحة صدور الرواية(1).

ب- شبهة الإرسال لأن هارون من أصحاب الإمامين العسكريين (عليهما السلام) وروى عنه سعد بن عبد الله المتوفى حدود سنة 300 هج_ وعبد الله بن جعفر الحميري الذي هو في طبقة سعد فمن البعيد روايته عمن أدرك الإمام الباقر (عليه السلام).

ويمكن أن يكون الجواب ما تقدم من تعدد عنوان مسعدة وأن الذي يروي عنه هارون من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام) وقد روى هارون عن هذه الطبقة.

أو أنه واحد لاستبعاد التعدد خصوصاً وأن الشيخ ذكر آخرين في أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) ممن روى عنهم هارون مثل مسعدة بن زياد وعباد بن صهيب فيحتمل أن يكون عدّه من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) اشتباهاً من قلم الشيخ (قدس سره) أو النسّاخ ومن المعروف دقة رجال النجاشي أكثر من رجال الشيخ لتخصصه في هذا المجال.

ص: 28


1- محاضرة بتأريخ: 15/محرم/1417.

واحتمل السيد الخوئي (قدس سره) أن هارون عمّر طويلاً بما يزيد عن مائة وثلاثين عاماً وأنه قد أدرك الإمام الرضا (عليه السلام) لاستبعاد أن يبقى كل الذين روى عنهم من أصحاب الصادق (عليه السلام) إلى زمان الهادي (عليه السلام)، بل إن له رواية في الكافي عن بريد بن معاوية الذي توفي في حياة الإمام الصادق، ويرد علىهذا الاحتمال بأن هارون يجب أن يعد حينئذٍ من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام) وليس فقط العسكريين (عليهما السلام).

وبغضّ النظر عما قلناه آنفاً من الأجوبة المحتملة فإن هذه الشبهة لا يمكن الاعتماد عليها وذلك لأن في المجاميع الحديثية مئات الموارد نقل فيها هارون عن مسعدة ولا يمكن الالتزام بالإرسال فيها جميعاً، كما أن الحميري نقل في قرب الإسناد عنه عن مسعدة وهو دليل عدم وجود الواسطة وإلا لما كان من قرب الإسناد إسقاط الواسطة.

2- ما أورده السيد الخوئي (قدس سره) وملخّصه(1):

إن لفظ «البينة» بمعنى شهادة عادلين لم تثبت له حقيقة شرعية ولا متشرعية وإنما هو مستعمل بالمعنى اللغوي أي ما به البيان ويثبت به الشيء كقوله تعالى: «بِالبَيِّنَاتِ وَالزُبُرِ» (فاطر:25) وقوله تعالى: «حَتَّى تَأتِيَهُمُ البَيِّنَةُ» (البينة: 1) أما المعنى المتداول فهو اصطلاح بين العلماء ولعله كان ثابتاً أيضاً في الدور الأخير من زمانهم (عليهم السلام) فلا تحمل عليه الرواية المتقدمة.

ويرد عليه:-

أ- إن حمل البينة على هذا المعنى يلزم اللغوية لدخوله في الاستبانة المذكورة قبله، وبعبارة أخرى يلزم منه كون قسم الشيء -وهي الاستبانة بمعنى العلم- قسيماً له -وهي البينة بمعنى الحجة الواضحة- بل هي أكمل مصاديقها.

ص: 29


1- موسوعة السيد الخوئي: 2/262.

ب- أن البينة كانت تطلق على الشاهدين في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان)(1)

بتقريب مقابلتها للأيمان أو بتفسير السيرة العملية له (صلى الله عليه وآله) فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بها إذا أقامها المدعي فكأن الشارع المقدس نبّهنا إلى أن شهادة العدلين من مصاديق المعنى اللغوي للبينة أو أنه وسّع المعنى على نحو الحكومة ليشملها، وما ورد في رواية عدي عن أبيه قال: (اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أرض، فقال: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فيمينه، قال: إذن والله يذهب بأرضي، قال: إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه وله عذاب أليم، قال: ففزع الرجل وردّها إليه)(2).ولو تنزّلنا فإن إطلاق البينة على هذا المعنى المخصوص كان مصطلحاً شائعاً في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) كما تدل عليه روايات كثيرة في أبواب الفقه وفي كتاب القضاء فأصبح حقيقة فيه فيصحّ حمل رواية مسعدة عليه.

ولذا اعترف السيد الخوئي (قدس سره) بهذه الحقيقة لاحقاً واستدرك على نفسه قائلاً: «نعم لو علمنا خارجاً أن الشارع كان يعتمد على إخبار العدلين في المخاصمات وفي موارد القضاء بين الناس استكشفنا من ذلك أن إخبار العدلين أيضاً من مصاديق الحجة وما به البيان، وبهذا نحرز أنه حجة على نحو الإطلاق من غير أن يختص اعتباره بموارد الخصومة والقضاء، لأن اعتماد الشارع عليه يدلّ على إن إخبار العدلين حجّة معتبرة في مرتبة سابقة على

ص: 30


1- وسائل الشيعة: 27/232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 2، ح1.
2- وسائل الشيعة: 27/235، أبواب كيفية الحكم، باب 3، ح7.

القضاء، لا أنه صار حجة بنفس القضاء. وهذا غاية ما أمكننا من إقامة الدليل على حجية البيِّنة في الموضوعات، وما ذكرناه إن تمّ فهو وإلاّ فلا دليل على ثبوت النجاسة بالبينة»(1).

أقول: المفروض أن هذه الحقيقة ثابتة عنده (قدس سره) منذ زمان النبي (صلى الله عليه وآله)(2)

حيث كان يُعدُّ الشاهدان بيّنة كما تدل عليه بعض الروايات وقبلها الآيات التي ذكرنا بعضها، فمناقشته السابقة في دلالة رواية مسعدة لا وجه لها.

مضافاً إلى أننا سنذكر أن الدليل على الحجية بناء العقلاء وأن الآيات والروايات إرشاد إلى تلك السيرة وإمضاء لها، فقوله (قدس سره): «وهذا غاية ما أمكننا من الدليل» غير تام.

3- إن الاستدلال بالرواية لو تم فإنه أخصّ من المدّعى لاختصاصه بموضوع الحرمة ولا يشمل كل الموضوعات الخارجية كما يدعي القائل بعموم الحجية.

وجوابه: إن العرف لا يتردد في استظهار العموم وأن الموارد المذكورة من باب المثال، والمراد أن كل مورد شُك في حكمه من أجل الشك في موضوعه فإنه لا يبني على هذا الاحتمال حتى يتحقق العلم والقطع بموضوع الحرمة أو تقوم البينة على ذلك فجعلها علماً بالتعبد، وحجيتها قابلة للجعل نفياً وإثباتاً وتقييداً وتخصيصاً.

ص: 31


1- موسوعة السيد الخوئي: 2/264.
2- وربما كانت في الديانات السابقة أيضاً قبل الإسلام، روى الشيخ الصدوق في العيون:2/141 في مناظرات الإمام الرضا (عليه السلام) مع أهل المقالات والديانات (قال الجاثليق: أليس إنما نقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال عليه السلام: بلى، قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا، قال الرضا عليه السلام: الآن جئت بالنصفة يا نصراني..).

وقد أكّد الإمام (عليه السلام) هذا الفهم بقوله: (والأشياء كلها على ذلك) أي كل الموضوعات التي تترتب عليها أحكام شرعية.

ثانيهما: رواية عبد الله بن سليمان الواردة في الجبن (كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة)(1).فالرواية ظاهرة في اعتبار البينة علماً يثبت به موضوع الحرمة، ولا خصوصية للميتة وإنما ذكرها (عليه السلام) لبيان المورد.

وردّها السيد الخوئي (قدس سره) بضعف السند ولذا جعلها مؤيدة للمدعى.

أقول: لا تضرّ هذه المناقشات في الروايات لما سنذكره من أنها إرشادية أو إمضائية لسيرة العقلاء وتبانيهم على العمل بالبينة في إثبات الموضوعات الخارجية.

الثالث: الإجماع، وقد حكاه جماعة قال الشيخ (قدس سره) في الخلاف: «ثبوت الهلال بشهادة عدلين مجمع عليه»(2)

ونقلنا كلمة صاحب الجواهر (قدس سره) فيه، وقال المحقق النراقي (قدس سره) في العوائد: «ظاهر أكثر أصحابنا بل صريحهم وجوب قبول شهادة العدلين والعمل بمقتضاها إلا ما أخرجه الدليل، بل ربما يظهر من بعضهم الإجماع عليه وكون اعتبار قولهما ثابتاً من شريعتنا»(3).

ولا يضرّ فيه خلاف البعض في بعض الموارد؛ لأن خلافهم ليس من جهة قصور مقتضي الحجية في البينة، وإنما لتوهم وجود مانع من العمل بها،

ص: 32


1- وسائل الشيعة: 25/118، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، باب 61، ح2.
2- الخلاف: 1/394.
3- عوائد الأيام: 2/348.

كخلافهم في ثبوت النجاسة بإخبار البينة، فإنه ناظر إلى خصوص المورد حيث جعلت الطهارة مغيّاة بالعلم بالنجاسة والبينة تفيد الظن لا العلم فلا تصلح أن تكون غاية للطهارة، فمخالفتهم خاصة بالمقام أو في قاعدة الحلية.

وكذا الخلاف المحكي عن «السيد في الذريعة والمحقق الأول في المعارج والثاني في الجعفرية وصاحب الوافية حيث حكموا بعدم ثبوت الاجتهاد بشهادتهما لعدم دليل على اعتبارها»(1)

فإنه لأجل كون الاجتهاد من الأمور الحدسية التي تدرك بالخبرة والفطنة فلا تكون مورداً للشهادة.

ومنهم من كان يقول بعدم حجيتها في هذين الموردين ثم عدل إلى الحجية كالمحقق النراقي وسجّل عدوله في كتاب العوائد.

واستقراء أبواب الفقه يثبت تحقق هذا الإجماع كالقبلة والوقت وأسباب التحريم في النكاح من النسب والرضاع والوصايا والأوقاف والملك والوكالة وغير ذلك.

كما أنهم يستدلون بها على ثبوت سائر موضوعات الأحكام وأكثر الموارد لم يرد فيها دليل خاص مما يعني أنهم يسلّمون بحجيتها ولم ينكروا ذلك إلا في المواردالقليلة التي دلّ الدليل على عدم الاكتفاء بها، ولو كانوا لا يقولون بحجيتها لكان الأصل عندهم عدمها إلا ما ثبت بدليل.

وكان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) يسلّمون بذلك لذا لم يكونوا يسألون عن حجيتها وإنما عمّا وراء ذلك كتعارض البينتين(2)

أو قيام اليمين مقامها وكون الشاهد امرأة ونحو ذلك.

ص: 33


1- عوائد الأيام: 2/348.
2- مثل صحيحة الحلبي قال: (سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجلين شهدا على أمر وجاء آخران فشهدا على غير ذلك، فاختلفوا، قال: يُقرع بينهم فأيهم قرع فعليه اليمين وهو أولى بالحق) (وسائل الشيعة: 27/254، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 12، ح11).

وردّ السيد الخوئي (قدس سره) على الإجماع بأنه «على تقدير تحققه فإنه ليس إجماعاً تعبدياً قطعاً حتى يكشف عن قول المعصوم لاحتمال استناد المجمعين إلى أحد الوجهين الآتيين»(1) أي رواية مسعدة والأولوية القطعية.

ويرد عليه: أن هذا الإجماع والتسالم سابق على النص كما تقدم فلا يصح استناده عليه وسنذكر شواهد أخرى على ذلك إن شاء الله تعالى، ولو تنزّلنا وقلنا بعدم وجود إجماع على حجية البينة عموماً، فإن حجيتها في ما نحن فيه محل إجماع، ونقل صاحب الشرائع قولاً بعدم القبول وجّهناه في محله (صفحة 22).

الرابع: بناء العقلاء وسيرتهم على الأخذ بشهادة رجلين عادلين غير متهمين في إثبات الموضوعات الخارجية ويرتّبون عليها الآثار خصوصاً في مجال المنازعات وإثبات الحقوق، ولم يرد ردع من الشارع المقدس عنها، بل على العكس فإن الآيات الكريمة والروايتين المتقدمتين وغيرهما تدل على إمضاء الشارع لها والبناء عليها والتسليم بحجيتها، مما يعني أنها سيرة متشرعية أيضاً.

نعم يوجد تخصيص لها في بعض الموارد وهذا لا بأس به إذ للشارع التدخل في حجيتها فطلب في بعض الموارد -كالزنا واللواط- أربعة شهود، أو كالشهادة بمال على ميت فطلب ضم يمين المدعي، وربما ألغى حجيتها في موارد كيمين المنكر أو بينة النفي ونحو ذلك مما هو مذكور في محله.

وهذا الوجه هو المعتمد أما الآيات والروايات فهي إرشاد لتلك السيرة العقلائية وتشييد عليها، وأذكر بعض الشواهد التأريخية على أن المعصومين كانوا يستندون إلى قاعدة حجية البينة على أنها من المسلّمات:-

ص: 34


1- موسوعة السيد الخوئي: 2/260.

1- ما ورد في سبب تسمية الصحابي الجليل الشهيد خزيمة بن ثابت بذي الشهادتين، فقد روى الكليني بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: إن أعرابياً أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم دخل ليأتيه بالثمن فقام ناس من المنافقين فقالوا: بكم بعت فرسك؟ قال: بكذا وبكذا قالوا: بئس ما بعت، فرسك خير منذلك، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج إليه بالثمن وافياً طيباً فقال الإعرابي: ما بعتك والله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: سبحان الله بلى والله لقد بعتني، وارتفعت الأصوات فقال الناس: رسول الله يقاول الإعرابي فاجتمع ناس كثير فقال أبو عبد الله عليه السلام: ومع النبي صلى الله عليه وآله أصحابه إذ أقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري ففرج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أشهد يا رسول الله لقد اشتريته منه فقال الإعرابي، أتشهد ولم تحضرنا؟ وقال له النبي صلى الله عليه وآله: أشهدتنا؟ فقال له: لا يا رسول الله ولكني علمت أنك قد اشتريت أفأصدقك بما جئت به من عند الله ولا أصدقك على هذا الإعرابي الخبيث قال: فعجب له رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين)(1)،فحجية شهادة الرجلين ثابتة وألحق بها شهادة خزيمة لبيان رسوخ إيمانه ومعرفته.

2- ما أورده العياشي في تفسيره عن عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ابتداءً منه: (العجب لما لقي علي بن أبي طالب، إنه كان له عشرة آلاف شاهد، لم يقدر على أخذ حقّه، والرجل يأخذ حقه بشاهدين)(2).

وحكي في المناقب عن صاحب الجمهرة في الخاء والميم عن الإمام الباقر (عليه السلام) (تُعطى حقوق الناس بشهادة شاهدين وما أعطي أمير المؤمنين

ص: 35


1- الكافي: 7/401، كتاب الشهادة، باب النوادر، ح1.
2- وسائل الشيعة: 27/238، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 5، ح3، 4.

حقه بشهادة عشرة آلاف نفس، يعني الغدير)(1).

3- وفي حديث العلل الذي أورده الشيخ الصدوق في كتبه: الفقيه والعلل والعيون عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في علة الأذان قال: (أصل الأيمان إنما هو الشهادتان، فجعل الأذان شهادتين شهادتين كما جُعل في سائر الحقوق شهادتان)(2).

الخامس: الأولوية القطعية بتقريب «أن الشارع جعل البينة حجة في موارد الترافع والمخاصمة، وقد قدمها على ما في قبالها من الحجج كاليد ونحوها غير الإقرار، لأنه متقدم على البينة، وما ثبتت حجيته في موارد القضاء مع ما فيها من المعارضات فهو حجة في غيرها من الموارد التي لا معارض له بطريق أولى»(3).وأورد عليه بأن «الخصومة والمرافعة لا بد من حلها، وفصلها بشيء حيث أن في بقائها بحالها ينجر الأمر إلى اختلال النظام، فما به ترتفع المخاصمات لا يلزم أن يكون حجة على الإطلاق حتى في غير موارد المرافعة، ومن هنا ترى أن الأيمان مما تفصل به الخصومات شرعاً مع أنها لا تعتبر في غير موارد المرافعة، وعلى الجملة لا تقاس الخصومة بغيرها فالأولوية لا أساس لها».

ولصاحب الجواهر (قدس سره) تقريب آخر للأولوية من باب الحدود قال فيه: «قد اكتفى الشارع بهما في جميع الموضوعات التي فيها ما هو أعظم

ص: 36


1- مناقب آل أبي طالب: 3/32-54، بحار الأنوار: 7/37/158.
2- وسائل الشيعة: 27/237، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 5، ح1.
3- موسوعة السيد الخوئي: 2/260.

من رؤية الهلال بمراتب كالدماء ونحوها فلا ينبغي التوقف في ذلك»(1).

فالدليل على حجية البينة في باب الحدود يدلّ بمفهوم الموافقة والأولوية القطعية على حجيتها في غيره.

وأجاب بعض المعاصرين ب_«منع إلغاء الخصوصية القطعية فضلاً عن الأولوية؛ إذ لعل أهمية إجراء الحدود لما يترتب عليه من منع الفساد والظلم، وغير ذلك من الآثار اقتضت حجية البينة في إثبات أسباب الحدود وإن كانت ملازمة لما ذكر من سفك الدماء وغيرها، ولا يلازم اعتبارها في مثله -مما له آثار عظيمة مع ما في تركها وتعطيلها من المفاسد والآثار الشنيعة- اعتبارها وحجيتها في غيره مما ليس فيه ذلك، ولعل ما يترتب على إجراء الحدود من سفك الدماء وهتك الأعراض أهون مما يترتب على تعطيلها»(2).

أقول: يمكن تقريب الأولوية(3)

بنحو آخر: وهو أنه قد ثبت في الأصول والفقه حجية خبر الثقة في الأحكام وكذا في الموضوعات كالوقت والقبلة والزوجية والطهارة وغيرها لعدم الفرق بينهما في دليل الحجية وهو بناء العقلاء، وعليه دلّت الروايات(4)،فقبول قول الثقتين أولى وإنما اشترطت الشهادة الثانية في

ص: 37


1- جواهر الكلام: 16/357.
2- الرسائل الفقهية للسيد حسن الطاهري الخرم آبادي: 40.
3- يمكن استظهار هذه الأولوية من كلام المحقق البحراني في الحدائق الناضرة: 13/251
4- مثل موثقة زرعة عن سماعة قال: (سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها، فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إن هذه امرأتي وليست لي بيّنة، فقال: إن كان ثقة فلا يقربها وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه) (وسائل الشيعة: 20/300، أبواب عقد النكاح، باب 23، ح2)، وما دلّ على أن المؤذّن مؤتمن على دخول وقت الصلاة (وسائل الشيعة: 5/378، أبواب الأذان والإقامة، باب 3). أقول: قد يقال أن مقبولية هذه لكونها تدخل في باب الإخبار وليس الشهادة فالأمر فيها مختلف عن الهلال.

الهلال أو فضّ الخصومات بدليل خاص وإلا فإن مقتضى القاعدة كفاية الواحد.وفيه أن المطلوب في أمر الهلال الشهادة وليس الإخبار وبينهما فرق فإن الشهادة لا تقبل النقل بوسائط على نحو الإخبار وإنما بشهادة مثلها أي يشهد عادلان على كل شهادة أصلية ولا يكتفى بإخبار ثقة عدل عنها، فموضوع السيرة مختلف وهذا قياس باطل.

ويلوح من السيد الحكيم (قدس سره) إشكال على هذه الأولوية أورده على الوجه السابق أي بناء العقلاء من جهة «أن بين خبر الثقة وبين البينة -أي خبر العدلين- عموماً من وجه»(1)

«إذ يمكن أن يكون خبر عدل ولا يكون ثقة لكثرة الاشتباه أو عدم الضبط أو غير ذلك، وأما كونه ثقة غير عادل بل يمكن أن يكون كافراً ثقة في إخباره لتحرّزه عن الكذب، وإن ادعى المدعي تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد فعهدة هذه الدعوى عليه»(2)

فحجية خبر الثقة لا يستلزم حجية البينة.

وجوابه: أن النسبة بينهما عموم مطلق؛ لأن العادل هنا أخذ في تحقق مفهومه الوثاقة وعدم التهمة كما قدّمنا في بداية البحث عند تعريف البينة اصطلاحاً، فكل ما كان خبر الثقة حجة فيه فإخبار البينة حجة فيه من باب أولى.

(المستوى الثاني) الأدلة الخاصة أي ما دلّ على ثبوت الهلال بشهادة رجلين عادلين وهي روايات مستفيضة ومنها:-

ص: 38


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/203.
2- القواعد الفقهية للعلامة البجنوردي: 3/24.

1- صحيحة الحلبي: (عن أبي عبد الله عليه السلام أن علياً عليه السلام كان يقول: لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين)(1).

2- صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (صُم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه)(2).

3- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال علي عليه السلام: لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين)(3).4- صحيحة زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن الأهلة؟ فقال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر، قلت: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ فقال: لا، إلا أن يشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك، فاقض ذلك اليوم)(4)،بتقريب أن المراد بالبينة المعنى المصطلح وهي شهادة عدلين والعدول مضاف إليه وليس صفة.

5- صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن اليوم يُقضى من شهر رمضان؟ فقال: لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر؟ وقال: لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه)(5).

ص: 39


1- وسائل الشيعة: 10/286، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح1.
2- وسائل الشيعة: 10/287، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح4.
3- وسائل الشيعة: 10/288، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح 7.
4- وسائل الشيعة: 10/262، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح4.
5- وسائل الشيعة:10/292، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح1.

6- موثقة داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل قال: (لا يجوز شهادة النساء في الفطر إلا شهادة رجلين عدلين)(1).

7- صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين قال: إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً)(2).

8- صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر قال: (إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار)(3).

أقول: أشكل على الاستدلال بهذه الروايات بطائفتين من الروايات:

إحداهما: ما دلّ على اختصاص حجية البينة في ما إذا وجد في السماء علة وكان الشاهدان من خارج البلد وهي صحيحة الخزاز ورواية حبيب الخزاعي، فتكونان مقيدتين لإطلاق ما دل على حجية البينة ودليلاً على نفي حجيتها في حالة الصحو واشتراط رؤية العدد الكبير، قال صاحب الحدائق: «وهاتان الروايتان هما حجتا الشيخ وابن بابويه وأبي الصلاح ونحوهم ممن اعتبر هذا العدد -أي الخمسين- في الصحو»(4).أو نقول أن روايات حجية البينة تدل على أصل حجية شهادة الرجلين العدلين في الجملة ولا يستفاد منها الحجية مطلقاً خصوصاً ما كانت على نحو الحصر الإضافي بلحاظ ما نسبه بعض العامة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من اعتماد الشاهد الواحد أو بلحاظ شهادة النساء، كصحيحتي الحلبي فإن قبول شهادة الرجلين جاء بهذا السياق وفي مثله لا يتم الإطلاق، وما دامت مجملة

ص: 40


1- وسائل الشيعة: 10/291، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح15.
2- وسائل الشيعة: 10/265، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح13.
3- وسائل الشيعة: 10/275، أبواب أحكام شهر رمضان، باب6، ح1.
4- الحدائق الناضرة: 13/254.

وليست مطلقة فهي لا تأبى البيان والتقييد بكونهما من خارج البلد ووجود علة في السماء جمعاً بين هذه الطائفة من الروايات وبين عدة روايات أُخر ادعي دلالتها على عدم إطلاق حجية البيّنة في ثبوت الهلال وأنها مقيدة بقيد أو قيدين كما تقدّم في القول الثاني.

ثانيهما: ما دل على نفي حجية البينة مطلقاً وأن الهلال لا يثبت إلا برؤية العدد الكبير كصحيحة محمد بن مسلم ورواية أبي العباس.

ومما تقدم يُعلم النظر في قول صاحب الجواهر (قدس سره): «لا معارض لها سوى خبر إبراهيم بن عثمان الخزاز وخبر حبيب الجماعي»(1)،نعم هاتان الروايتان تكفّلتا ببيان القيدين، أما المعارضة فأكثر من ذلك.

والروايات هي:-

1- صحيحة الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: كم يجزي في رؤية الهلال؟ فقال: إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر)(2).

2- خبر حبيب الجماعي (الخزاعي) قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة، وإنما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علة فأخبرا أنهما رأياه، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية وأفطروا للرؤية)(3).

ص: 41


1- جواهر الكلام: 16/356.
2- وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10.
3- وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح13.

3- رواية أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الصوم للرؤية والفطر للرؤية، وليس الرؤية أن يراه واحد، ولا اثنان، ولا خمسون)(1).4- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف، وإذا كان علة فأتم شعبان ثلاثين).

أقول: توجد عدة محاولات لحل معارضة هذه الروايات:

(منها) الطعن في أسانيد بعض هذه الروايات حيث نوقشت(2)

بالمنع من صحة السند كالأولى إذ في سندها العباس بن موسى وهو غير معلوم الحال والثانية فإن حبيب الخزاعي (كما في التهذيب والاستبصار وجامع الرواة) مجهول وإسماعيل بن مرار لم يوثق، والثالثة لوجود القاسم بن عروة فيها، وفي رأيي القاصر فإن هذه المناقشات غير مجدية إلا للتدريب والتعليم وإلا فإن هذا المعنى ثابت في الروايات العديدة مع إمكان معالجة الأولى بأن العباس هو الوراق الثقة بقرينة روايته عن يونس ورواية سعد عنه، ومعالجة الثانية بأنه في نسخة: (الجماعي)(3) وهو ممن وصفهم الشيخ المفيد في رسالته العددية بأسمى الأوصاف، أو يقال أن الراوي عنه يونس وهو من أصحاب الإجماع، وفيه تأمل. وأما إسماعيل فهو من رجال تفسير القمي وروى عنه رواياته التي

ص: 42


1- وما بعده تجدهما في وسائل الشيعة: 10/290، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح12، 11، وليس في التهذيب والاستبصار الفقرة الأخيرة (وأفطروا للرؤية).
2- منتهى المطلب:9/232، موسوعة السيد الخوئي: 22/67، فقه الصادق: 12/284.
3- في إحدى نسخ الوسائل: (الخثعمي) وهو ابن معلل الثقة الثقة لكنه لا يوجد في الأصول الحديثية المنقول عنها ما يفيد ذلك ولعله اجتهاد منه لأن بعض الأصول ذكرت : (حبيب) فقط فصرفه إلى الخثعمي المشهور بالوثاقة.

تجاوزت المائتين إبراهيم بن هاشم والد علي فيمكن أن تشمله توثيقاته، والقاسم وثقه الشيخ المفيد في رسالته الصاغانية وإن كان السيد الخوئي (قدس سره) قد شكك في ثبوت نسبتها إليه بطريق صحيح(1).

(ومنها) إجراء قواعد الجمع العرفي من حمل المطلق على المقيد والمجمل على المبيّن وهو مسلك جملة من القدماء الذين اختاروا القول بالتفصيل فبحمل حجية البينة على ما إذا كان في السماء علة وكان الشاهدان من خارج المصر ومال إليه صاحب الحدائق(2)

باعتبار أن روايات حجية البينة مجملة من هذه الناحية ومفادها حجية البينة في الجملة من دون بيان كونهما من الداخل أو الخارج ووجود علة في السماء ونحو ذلك «وعلى هذا يحمل مطلق أخبار العدلين على مقيدها ويختص الحكمبالعدلين في ذلك من خارج البلد»(3).

أما إذا لم تكن في السماء علة فلا تقبل إلا الرؤية الشائعة، وتحمل روايات اشتراط الخمسين على أنه «العدد الذي يحصل به الشياع غالباً ويكون كناية عن الكثرة التي يحصل بها العلم واليقين من دون خصوصية في ذلك لخصوص الخمسين»(4)،ولذا ترى في رواية أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون)(5)

فنفى اعتبار الخمسين أيضاً إذا لم يتحقق به الشياع.

وهذه الروايات -إن تمت دلالتها- تقيّد أيضاً ما تقدم من الأدلة العامة على حجية البينة في المستوى الأول.

ص: 43


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/67.
2- الحدائق الناضرة: 13/245-246.
3- الحدائق الناضرة: 13/248.
4- الحدائق الناضرة: 13/249.
5- وسائل الشيعة: 10/290.

(ومنها) ما ذهب إليه جمع من كون هذه الروايات لا تصلح لمعارضة ما دل على حجية البينة مطلقاً لأنها لم ترد لبيان هذا المعنى وإنما لأمرين آخرين:-

1- ضرورة حصول العلم والاطمئنان برؤية الهلال والنهي عن الاعتماد على الظن والادعاء حتى لو زعم خمسون رجلاً أنهم رأوا الهلال إذا لم يحصل الاطمئنان بقولهم لوجود معارض حقيقي كما لو قطعنا بعدم خروج القمر من المحاق، أو معارض حكمي كما لو كان الجو صافياً والمتصدون للرؤية كثيرين كما كان متعارفاً في تلك الأزمان وفيهم عدول وهم بمستوى واحد من القدرة البصرية بحسب المتعارف وكون نور الهلال بمقدار كافٍ للرؤية الطبيعية فإن نفي البعض يضعّفها فهذه الروايات لا تنافي حجية شهادة رجلين عادلين إذا لم يقع ما ينافيها، وصحيحة الخزاز صريحة في ذلك لقوله (عليه السلام): (ويقول الآخرون لم نره) وكذا ما في صحيحة محمد بن مسلم (فيقول واحد هو ذا وينظر تسعة فلا يرونه) فهذا قدح وتشكيك في دعوى الرؤية.

وقال صاحب الوسائل في ذيل موثقة ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (إنما الرؤية أن يقول القائل: رأيت، فيقول القوم صدق)(1)

قال (قدس سره): «هذا محمول على حصول الشبهة والتهمة جمعاً بقرينة ذكر تكذيب الحاضرين لمدعي الرؤية بناءً على الغالب من رؤية جميع الحاضرين له مع عدم المانع فالانفراد يوجب التهمة، أو مخصوص بعدم عدالة الشهود ليثبت الشياع بالخمسين إذ لم يذكر العدالة فيها -على ما تقدم من عدم اشتراط العدالة في العدد الذي يتحقق فيه التواتر والشياع المفيد للعلم- بخلاف شهادة الرجلين -فإنهما مشروطان بالعدالة- قاله بعض الأصحاب، ونفي شهادة الخمسين محمول على معارضة شهادة أكثر منهم لما مرّ من اشتراط اليقين دون الظن».

ص: 44


1- وسائل الشيعة: 10/291، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح14.

أقول: لذا قبلت شهادة الرجلين القادمين من خارج المصر الذي في سمائه علّة(1)

حيث لا محذور هناك ينافي شهادتهما، وهذا هو سبب قبول شهادتهما وليس لمجرد أنهما من خارج المصر كما يذهب إليه القول الآخر، فإن كونهما من الخارج لا خصوصية فيه حتى يصلح أن يكون قيداً، إذ أن هذين القادمين من خارج المصر إن كان الموضع الذي قدما منه فيه علّة كما في المصر فما الموجب لقبول شهادتهما دون أهل المصر، وإن لم يكن في موضعهما علة -كما هو الظاهر- تم الاستدلال على حجية البينة مطلقاً لعدم الفرق بين خارج وداخل المصر، إلا من جهة وجود المعارض الحكمي داخل البلد دون خارجه.

فيجب التفريق هنا بين من يحاول جعل رؤية العدد الكبير شرطاً في قبول شهادة العدلين، كما يظهر من سلوك بعض أعلام التقليد المعاصرين، وهو يعني إلغاء حجية البيّنة، وبين من يشترط في قبولها عدم وجود قرائن تضعفها كعدم رؤية العدد الكبير مع تساوي فرصة الرؤية لهم، وهو ما فهمناه من الروايات المعارضة.

2- التعريض بالعامة الذين يتساهلون في أمر الهلال ويقبلون شهادة مدعي الرؤية مطلقاً وإن دلّت القرائن على عدم صدقه، ومنهم من يكتفي بالشاهد الواحد من دون اشتراط عدالته، وهذا المعنى يُستَشَف من سؤال أبي أيوب إذ

ص: 45


1- في بعض النصوص (في المصر عِلّة) وهو لا يغيّر شيئاً لأنه من ذكر المحل وهو المصر بدل الحال وهي السماء. وربما يراد بالعلة في المصر حصول حالة من الوهم الجماعي الحاصل من تأثير قول أو حدث ما على المجتمع فيحصل عندهم رأي عام ولكنه في الحقيقة لا قيمة له لأنه اشتباه «وَلَ_كِن شُبِّهَ لَهُمْ» (النساء:157) أو حصول حالة من الاختلاف والتعارض في إثبات الرؤية ونفيها كما في بعض النصوص، لذا قُبلت شهادة الرجلين من الخارج لأنهما لم يتأثرا بهذه الأجواء المضطربة.

أنه كان بلحاظ ما يدور في أوساط فقهاء العامة من الخلاف وكان المتوقع أن يجيبه الإمام بذكر العدد الكافي من الشهود إلا أن الإمام (عليه السلام) بدأ بمقدمة لبيان أهمية الأحكام الشرعية وخطورة التلاعب بها بحسب الظنون والأهواء، وأن المطلوب حصول العلم والاطمئنان، وهذا قد يكفي فيه اثنان وقد لا يكفي فيه خمسون.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): «وظني والله أعلم أنهما -أي الخبران- تعريض لما في يد العامة من الاجتزاء بشهادة رجلين في الصحو مع القطع بكذبهما باعتبار عدم العلة في الرائي والمرئي وكثرة المتطلعين ونحو ذلك» «بل ربما ادعى رؤيته في غير إمكانها كما لا يخفى على من له علم بأحوالهم وفساد مذهبهم فخرجت هذه النصوص مخرج الإنكار عليهم لا لبيان عدم الاجتزاء بالشاهدين العدلين اللذين قد اكتفى الشارع بهما في جميع الموضوعات التي فيها ما هو أعظم من رؤية الهلالبمراتب كالدماء ونحوها، فلا ينبغي التوقف في ذلك ولا الإطناب في فساد ما يخالفه»(1).

وهذه المحاولة صحيحة لدفع ما قيل من تقييد إطلاق حجية البينة بكون الشاهدين من الخارج، لكننا في الحقيقة لسنا بحاجة إلى رد إشكال التقييد لأن القيد لم يثبت لعدم تمامية الدليل عليه، إذ أن صحيحة الخزاز لا مفهوم للذيل فيها ولا تدل على الحصر، والاستدلال برواية الخزاعي على ذلك مبني على كون الفصل بين الإخبارين في ذيلها ب_(أو) ليكون إخبار الشاهدين سبباً مستقلاً لثبوت الرؤية لكن هذا لا يوجد في أي من المصادر الأصلية ولا في جوامعها كالوسائل والوافي فإن فيها جميعاً (و) وهو يعني أن ثبوت الهلال لشياع الرؤية في ذلك البلد الآخر وأن إخبارهما عن ذلك الشياع، فيكون إخبارهما هذا نظير ما ورد في صحيحة هشام بن الحكم المتقدمة (صفحة 40).

ص: 46


1- جواهر الكلام: 16/356-357.

ويمكن أن نتقدم أكثر ونقول بوجود الدليل على عدم صحة التقييد لأن حمل روايات حجية البينة على ما إذا كانت في السماء علة وكان الشاهدان من خارج المصر يلزم منه التخصيص بالفرد النادر(1) وهو قبيح.

إلفات: قال السيد الخوئي (قدس سره): «ولو تنازلنا وسلّمنا المعارضة، فلا مناص من التساقط، والمرجع بعدئذٍ إطلاقات حجية البينة العامة»(2)،وقال (قدس سره): «مع التسليم فغايته معارضة هذه الروايات مع الروايات الخاصة المتقدمة الناطقة بحجية البينة في خصوص الهلال فيتساقطان ويرجع بعدئذٍ إلى عمومات حجية البينة على الإطلاق»(3).

وفيه أن النسبة بينهما هي المبيّن إلى المجمل كما قدمنا أو التقييد والإطلاق لا التعارض، إلا إذا افترضنا صحة كون الحمل المذكور يلزم منه التخصيص بالفرد النادر.

وذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف وجهاً لعدم صحة فرض التعارض وحاصله أن روايات حجية البينة تجري في كل الأحكام المرتبطة بالهلال كالعدة والعادةوالديون والنذور ولا تختص بالصوم فلا وجه للمعارضة ولا للرجوع إلى العموم الفوقي أي ما دلّ على حجية البينة مطلقاً فإن هذا ليس له إطلاق

ص: 47


1- يمكن حساب احتمال هذه الحالة وفق قوانين نظرية الاحتمالات بعد معرفة نسبة مدة كون السماء فيها علة إلى مجموع السنة ونسبة وقت رؤية الهلال عند غروب الشمس أن مجموع الوقت ونسبة شهري الصوم والإفطار إلى مجموع الأشهر فتكون درجة الاحتمال ضئيلة جداً.
2- موسوعة السيد الخوئي: 22/69.
3- موسوعة السيد الخوئي: 22/66.

لأن العمل الخارجي للنبي (صلى الله عليه وآله) و(إنما أقضي بينكم بالبينات) خاص بالحكم بين الناس(1).

أقول: لا وجه لهذا الفرق فموضوع الطائفتين واحد وهو ثبوت الهلال وأوائل الشهور سواء للصوم والإفطار أو غيرهما من الأحكام المترتبة عليه.

أما الأدلة العامة لحجية البينة فقد ثبت إطلاقها وصحة الرجوع إليها كعموم فوقي على فرض التعارض.

وذكر الأصحاب ومنهم المحقق صاحب الحدائق(2)

أجوبة أخرى ملخّصها:-

1- أن تحمل هذه الأخبار على عدم وجود العدلين في الناظرين فلا بد حينئذٍ من الكثرة الموجبة للعلم، وذكره العلامة في المختلف.

2- إن الغرض منها بيان ثبوت الرؤية بالشياع وتفسير معنى الرؤية التي يثبت بها الشياع من غير ملاحظة لوجود العدلين وعدمه بمعنى أنه متى شاعت الرؤية على هذه الكيفية بين الناس على وجه أفاد السامع بها العلم وجب العمل بمقتضاه على نهج الأخبار الدالة على أمره (عليه السلام) بالصيام والإفطار بصيام الناس وإفطارهم لأن اتفاقهم على الصيام والإفطار مؤذن بالاتفاق على الرؤية.

3- ما مال إليه من القول بالتفصيل «فإنه متى لم ير في البلد على وجه الشياع والانتشار أعم من أن يكون لعلة أو لعدم النظر إليه أو نحو ذلك فمتى شهد على الرؤية عدلان من الخارج أو حصل الشياع بالرؤية في بلاد أخرى قريبة وجب العمل بمقتضى ذلك، والعلة في أظهرية هذا الوجه أن الأخبار المتضمنة لذكر

ص: 48


1- محاضرة بتأريخ 18 محرم/1417.
2- الحدائق الناضرة: 13/247.

العدلين لا دلالة في شيء منها على كونهما من البلد فتحمل على مقيدها ويختص الحكم بالعدلين في ذلك من خارج البلد».

الرأي المختار:

وخلاصة الموقف من شهادة رجلين عادلين أنها مقبولة ويثبت بها الهلال ولا يشترط في العادلين أن يكونا من خارج البلد، ولا يشترط في شهادتهما انضمام عدد آخر إليهما، نعم لا تقبل شهادتهما إذا حصل ما ينافيها ويضعفها أي بينة العلم بعدم وجود الهلال، أما مجرد شهادة عدم الرؤية فإنها لا تعارض شهادة الرؤية لأن شهادةعدم العلم لا تنافي شهادة العلم (وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود)، كما لو شهد اثنان على بيع أو قرض وشهد آخران بأننا لا نعلم بذلك فإن الثانية لا تعارض الأولى وهذا واضح ومبحوث في كتابي القضاء والشهادات، ولو اشترطنا شهادة العدد الكبير لقبول شهادة العادلين فإنه يعني إلغاء البينة وانتفاء أثرها وهو خلاف ظاهر الأدلة.

فاقتصار الرؤية على شاهدين عادلين قد تتأثر بعدم رؤية الكثيرين سلباً وقد لا تتأثر؛ لأننا نعلم أن نور الهلال والظروف الأخرى المناسبة للرؤية تختلف وكذا وجود الموانع وقد يتفق أن الهلال يكون ضوؤه ضئيلاً ومدة مكثه قليلة جداً وشوهد من فرجة صغيرة في الغيم أو يكون ارتفاع الهلال عن الأفق قليلاً فيؤثر عليه الشفق، أو يكون موضعه قريباً من قرص الشمس ونحو ذلك، فمن الطبيعي أن لا يحظى برؤيته إلا الأوحدي من الناس، فعدم رؤية الجم الغفير لا ينافي رؤية الشاهدين دائماً، لذا فإننا لا نوافق على تردد بعض أعلام التقليد في قبول شهادة العادلين ويشترط أن تكون مشفوعة بشهادات أخرى لأن من الطبيعي في الظروف الصعبة ندرة الرؤية إلا من الخبراء بموقع الهلال ولهم حاسة بصر حادة.

وينبغي الالتفات هنا إلى عدة أمور:

ص: 49

(الأول) لا تقبل شهادة النساء في الهلال منفردات أو منضمّات إلى الرجال إجماعاً بقسميه، ومن الروايات الدالة على ذلك صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تجوز شهادة النساء في الهلال)(1)

ومثلها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وصحيحة محمد بن مسلم، وفي موثقة داوود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلا شهادة رجلين عدلين).

ويستدل على ذلك بعقد النفي للروايات الدالة على عدم قبول شهادة أقل من رجلين عدلين، كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن علياً (عليه السلام) كان يقول: لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين)(2) وغيرها في نفس الباب.

ويمكن المناقشة في دلالة الطائفة الثانية من جهة أن النفي فيها إضافي بلحاظ ما حكي عن أمير المؤمنين من أنه (عليه السلام) كان يقبل الشاهد الواحد، أو بلحاظ اشتراط العدالة فيهما، فلا دلالة فيها على عدم قبول شهادة النساء، وعلى أي حال فالطائفة الأولى كافية للدلالة على المطلوب.

نعم ورد في موثقة داود بن الحصين المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) -في حديث- قال: (ولا بأس في الصوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة)(3)،فمقتضى الصناعة التفصيل بين هلالي رمضان وشوال بدلالة موثقة ابن الحصين المشتملة على هذا التفصيل وبعد المناقشة في دلالة الطائفة الثانية على حصر الشهادة برجلين عادلين دون النساء، ولكن الذي يمنع من الذهاب إلى التفصيل اشتمال الموثقة على قوله (عليه السلام): (ولو امرأة واحدة)

ص: 50


1- وسائل الشيعة: 10/287، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح2، 3، 7، 15.
2- وسائل الشيعة: 10/287، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح1.
3- وسائل الشيعة: 10/291، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح15.

لاستبعاد مضمونها إذ لم يرد «ثبوت أي شيء بشهادة امرأة واحدة في كافة الأبواب الفقهية، بل ولا رجل واحد إلا في بعض الموارد الخاصة مما قام عليه النص كما في الوصية، حيث إنه يثبت الربع بشهادة المرأة الواحدة، وكما في القتل حيث إنه يثبت بشهادتها ربع الدية، فكيف يمكن أن يقال بثبوت الهلال بشهادة امرأة واحدة»(1).

والخلاصة أن هذه الرواية لا تقوى على معارضة الروايات المانعة ولا تصلح للتفصيل فيها خصوصاً وأنها توافق بعض مذاهب العامة، قال أبو حنيفة: «يقبل إخبار المرأة الواحدة لأنه خبر ديني فأشبه الخبر عن القبلة والرواية»، ويرد عليه أنه قياس «ونمنع كونه خبراً ولهذا لا يقبل فيه: فلان عن فلان»(2).

فيمكن أن يكون نفي البأس لاحتمال كون الحكم احتياطاً لكون اليوم من شهر رمضان أو مراعاة لجامع المطلوبية في صوم يوم الشك المردد بين آخر شعبان وأول رمضان حيث وصف في الروايات أنه (يومٌ وُفِّق له) وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لئن أصوم يوماً من شعبان أحبَّ إليَّ من أن أفطر يوماً من شهر رمضان)(3)،ولذا عبر (عليه السلام) بقوله: (لا بأس).

وقد أشّر السيد الخوئي (قدس سره) إلى اشتباه قلم صاحب الوسائل في إيراد سند رواية ابن الحصين في الموضعين اللذين ذكرها فيهما(4)

وفي ذلك متابعة جيدة لكنه لم يضر في اعتبار السند ومن شاء فليراجع(5).

ويجب الالتفات هنا إلى ملاحظتين:-

ص: 51


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/78.
2- تذكرة الفقهاء: 6/133.
3- وسائل الشيعة: 10/23، أبواب وجوب الصوم ونيته، باب 5.
4- الأول ما ذكرناه والثاني في 27/361، كتاب الشهادات، باب24، ح36.
5- موسوعة السيد الخوئي: 22/77.

أولاهما: إن هذا المصحح لقبول شهادة النساء خاص بالصوم دون غيره من الأمور المترتبة على أول شهر رمضان، كما لو كان موعداً لانتهاء عدة أو لاستيفاء دين ونحو ذلك.

ثانيهما: إن عدم قبول شهادة النساء محدود بعدم بلوغ إخبارهن حد التواتر المفيد للعلم لامتناع تواطؤهن على الكذب لما ذكرناه من أن حصول حالة التواتر لا يشترط فيها كون المخبرين ذكوراً أو إناثاً.

(الثاني) لا تثبت رؤية الهلال بشهادة رجل عدل واحد لما تقدم من الروايات الدالة على حجية البينة أي شهادة رجلين عادلين فإن السنة بعضها تنفي اعتبار شهادة الواحد كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أن علياً (عليه السلام) كان يقول: لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين)(1).

وظاهر البعض(2) بل صريحه أنه لولا هذا المانع لأمكن العمل بما تقتضيه سيرة العقلاء وبناؤهم على الأخذ بخبر الثقة في الموضوعات كما في الأحكام، وتقدم (صفحة 17، 34) إمضاء الشارع المقدس لهذه السيرة في عدة موارد، ويوجد غيرها كالوصية والوكالة وعزل الوكيل وغير ذلك(3)،وقد اعتمدوا

ص: 52


1- وسائل الشيعة: 10/286، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح1.
2- راجع مثلاً تقريرات الشيخ الفياض (فيض العروة الوثقى): 2/139.
3- راجع وسائل الشيعة: 19/433 كتاب الوصايا: الباب 97 وعنوانه (ثبوت الوصية بخبر الثقة)، وفي نفس الجزء ص162، كتاب الوكالة، الباب 2، صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إن الوكيل إذا وكّل ثم قام عن المجلس فأمره ماضٍ أبداً والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة). قال صاحب الوسائل في تعليقته: «فيه دلالة على العمل بخبر الثقة، وعلى أنه يفيد العلم كالمشافهة، وتقديمه عليها لبيان هذا المعنى والاهتمام به». والأصحاب صرّحوا هنا أن الوكيل لا ينعزل إلا مع العلم فإخبار الثقة كالعلم.

ذلك في الفقه أيضاً كجواز الأكل والشرب إذا أخبر الثقة بعدم طلوع الفجر وغير ذلك، ولذا ذهب جماعة إلى حجية خبر الواحد في الموضوعات على ما حكاه السيد الخوئي (قدس سره) وقال: «وهذا هو الصحيح والعمدة في ذلك هو السيرة العقلائية القطعية لأنهم لا يزالون يعتمدون على أخبار الآحاد فيما يرجع إلى معاشهم ومعادهم» وأضاف (قدس سره): «بل يمكن أن يستدل على حجية إخبار العادل في الموضوعات بمفهوم آية النبأ على تقدير أن يكون لها مفهوم»(1).

أقول: قد أشكلنا على الاستدلال بهذه السيرة: بأن الأمر في الهلال مختلف عما ذكروه لأن المطلوب فيه الشهادة بالرؤية وليس الإخبار عنها لذا فإن الشهادة لا تَقبل النقل والإخبار ولا تثبت إلا بشهادة عادلين عليها كما سيأتي في التنبيه الخامس (صفحة 65)، فهذا القياس باطل.

وقد حكي عن سلار قبول شهادة الواحد(2)

لكن عبارته ليست مطلقة وإنما بخصوص أول شهر رمضان قال (قدس سره): «فالواجب معرفة ما يعرف به دخول شهر رمضان، وما يعرف به تصرمه، وهي: رؤية الأهلة، إذا تظاهرت، أو شهد بها في أوله واحد عدل، وفي آخره اثنان عدلان. وإن تعذرت رؤية الأهلة، فالعدد»(3) وظاهرها اختصاصه بأول شهر رمضان دون آخره ولعله بنى على نفس الملاكات التي ذكرناها آنفاً لقبول شهادة المرأة ولا بأس به

ص: 53


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 2/264.
2- إيضاح الفوائد: 1/251، الحدائق الناضرة: 13/257.
3- المراسم: 93.

حينئذٍ بشرط أن يؤتى به بنية صحيحة كجامع المطلوبية والقربة المطلقة ولا يصح فيما لو أتى به من شهر رمضان بنية جزمية أو بنية مرددة بين شعبان وشهر رمضان، كما ينبغي الالتفات إلى الملاحظة الأولى التي ذكرناها هناك (صفحة 52).

لكن ظاهر الاستدلال الذي حكاه العلامة (قدس سره) عموم الاعتبار، قال (قدس سره): «احتج سلار بما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه عدل من المسلمين). ولأنه خبر عن وقت فريضة فيما طريقه المشاهدة، فقبل من الواحد كالخبر بدخول الفريضة. ولأنه خبر عن أمر ديني يشترك فيه المُخبِر والمخبَر، فقبل فيه الواحد كالرواية. ولأن شهادة الواحد تفيد الرجحان لكونه من رمضان، ومرجوحية كونه من شعبان، ولا يجوز عقلاً العمل بالمرجوح، فيتعين العمل بالراجح؛ إذ لا خروج عن النقيضين عملاً وإبطالاً»(1). وقد نوقشت كل هذه الوجوه.

أما الصحيحة -بعد دفع إشكال اشتراك محمد بن قيس بين الثقة وغيره الذي ذكره العلامة في المختلف وغيره بكونه البجلي الثقة بقرينة كون الراوي عنه يوسف بن عقيل- فإنها واردة في الإفطار ولا يقول به المستدل، وإن العدل يصدق على الواحد والكثير كما نص عليه أهل اللغة(2)

فاللفظ مجمل أو مطلق يقيده ما دلّ على اشتراط تعدد الشاهد، مضافاً إلى اختلاف في نقل المصادر ففي التهذيب (وأشهدوا عليه عدولاً)وفي الاستبصار (أو تشهد عليه بينة عدول)(3)

ص: 54


1- مختلف الشيعة: 3/355، تذكرة الفقهاء: 6/129.
2- الجمهرة لابن دريد: 2/663، المصباح المنير للفيومي: 397.
3- راجع وسائل الشيعة: 10/278، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 8، ح1، وفي 10/288، باب 11، ح6، وراجع أيضاً رياض المسائل: 5/410، وجواهر الكلام: 16/362.

ومع تعدد النقل لا يكون أحدها حجة، فضلاً عن معارضته لتلك الروايات الصحيحة.

وأما الوجهان الثاني والثالث فهما قياسان باطلان لما ذكرناه من أن المطلوب في الهلال الشهادة وليس الإخبار، مضافاً إلى أنهما مردودان بما دلّ من الروايات على عدم كفاية أقل من شاهدين عادلين في أمر الهلال. فهي مخصّصة لكل ما دلّ على كفاية خبر العادل الثقة الواحد في الموضوعات.

وأما الرابع فبما قاله العلامة (قدس سره) من أننا: «نمنع إفادة خبر الواحد هنا الرجحان؛ لأن مشاركة الغير في الإبصار مع عدم الرؤية واستصحاب حال الشهر يفيدان ظن الاشتباه على الرائي»(1).

واستدل أيضاً على هذا القول برواية يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال له غلام له وهو معتب: إني قد رأيت الهلال، قال (عليه السلام): فاذهب وأعلمهم)(2).

ويرد عليه:-

1- لم يُعرف متعلق الإعلام هل هو إعلامهم برؤيته وأداء شهادته بذلك لتنضم إلى غيرها أم إعلامهم بثبوت الهلال كما يريد المستدل.

2- ولو قلنا أن الإعلام بثبوت الهلال فإنه لم يظهر من الرواية أن مستنده شهادة وحيدة من هذا الغلام فلعله كان شاهداً آخر وبانضمام هذا الشاهد إليه تمت البينة.

وقد حكي القبول بشهادة العدل الواحد عن بعض علماء العامة فهو «أحد قولي الشافعي، والرواية الثانية عن أحمد، وقول ابن المبارك، لما رواه العامة عن ابن عباس قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال:

ص: 55


1- مختلف الشيعة: 3/356.
2- وسائل الشيعة: 10/266، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح15.

رأيت الهلال، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله) قال: نعم، قال: (يا بلال أذّن في الناس فليصوموا).»(1).

أقول: الاستدلال بالرواية غير تام إذ يحتمل وجود شاهد آخر أو أكثر فالرواية حكاية لحالة وقعت ولم تذكر أنه الشاهد الوحيد.والنتيجة عدم ثبوت الهلال بشهادة العدل الواحد، نعم لا نغفل عما قلناه أنه لو رآه وحده كان حجة عليه ويثبت الشهر في حقه، وإن لم يره غيره ولم يحكم به الحاكم الشرعي.

(الثالث) يُشترط في شهادة العدلين تطابقهما في الأوصاف التي تعزز الاطمئنان برؤية موجود خارجي واحد وعدم اختلافهما على نحو يضعفها ويسري إلى أصل الرؤية فيبطلها فلو أطلقا أو أطلق أحدهما وقيد الآخر أو قيدا بقيدين متطابقين فلا بأس.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): «ولو اختلف الشاهدان في صفة الهلال بالاستقامة والانحراف ونحو ذلك مما يقتضي اختلاف المشهود عليه بطلت شهادتهما»(2) فالاختلاف المبطل هو ما أدّى إلى فقدان البيّنة مناط حجيتها وهو حصول الاطمئنان بها، لذا كان إطلاق قول السيد صاحب العروة: «فلو اختلفا فيها -أي الشهادة- لا اعتبار بها» محل إشكال فإن الاختلاف يُسقط الشهادة فيما لو كان لكل منهما مدلول التزامي يكذب الآخر، كما لو قال أحدهما إن فتحة الهلال إلى الأعلى والآخر إلى الأسفل مثلاً لعدم حكايتهما عن أمر خارجي واحد «فالمدلول الالتزامي للخبر الأول عدم الهلال المحدب إلى الشمال، والمدلول الالتزامي للخبر الثاني عدم الهلال المحدب إلى الأرض، وكما

ص: 56


1- تذكرة الفقهاء: 6/129 وتخريج المصادر في الهامش.
2- جواهر الكلام: 16/358.

أن القدر المشترك بين المدلولين المطابقين للخبرين هو نفس وجود الهلال، كذلك القدر المشترك بين المدلولين الالتزاميين لهما هو عدم الهلال، فالأخذ بأحد المدلولين دون الآخر ترجيح بلا مرجح»(1).

نعم لو تحللت الشهادة إلى رؤية مع أمر آخر مختلف فيه نظير ما يقال عن تعدد المطلوب فإنه لا يضر كما لو شهد أحدهما بأن الهلال إلى جنب قطعة الغيم ونفى الآخر وجود الغيمة أو ذكر أحدهما أن طرفيه يصلان إلى نصف الكرة والآخر أقل أو أكثر أو قال أحدهما أنه رآه مطوّقاً والآخر لم يذكر ذلك فإن هذه أمور إضافية زائدة على أصل الرؤية والاختلاف فيها لا يسري إلى نفس رؤية الهلال «وعلامة ذلك: أن لو تبين للشاهد الخطأ في الشهادة بالوصف بقي مصراً على الشهادة بذات الموصوف بخلاف ما لو كان الإخبار عن الموصوف بما هو موصوف على نحو وحدة المطلوب، فإنه لو تبين له الخطأ في الشهادة بالوصف عدل عن الشهادة بذات الموصوف»(2).فائدة: توجد محاولة لإمكان ثبوت الهلال بالبينة وإن اختلف الشاهدان في بعض تفاصيل المشهود به، قال السيد الخوئي (قدس الله سره): «قد يقال إنهما وإن اختلفا في المدلول المطابقي وهو الإخبار عن فرد خاص من الهلال، إلا أنهما متفقان في المدلول الالتزامي وهو الإخبار عن أصل وجود الهلال والكلّي الجامع القابل للانطباق على كل من الفردين، ولا فرق في حجية البينة -كغيرها مما هو من مقولة الحكاية - بين المدلول المطابقي والالتزامي، فإذا سقطت المطابقة عن الحجية أما لأجل المعارضة، أو لعدم حصول الشهادة الشرعية- لا مانع من

ص: 57


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/456.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/456.

الأخذ بالمدلول الالتزامي»(1).

أقول: تقريب الإشكال على الدلالة الالتزامية ليس دقيقاً لأن الإخبار عن أصل وجود الهلال والكلي الجامع عُلم بالدلالة التضمنية حيث تتحلل شهادة كل منهما إلى هذا الجامع زائداً الخصوصيات المختلف فيها(2)

نظير الجنس والفصل أو على نحو تعدد المطلوب، ويتأكد الإشكال عليه (قدس سره) بلحاظ السياق الذي ورد فيه وهو ادعاء أحدهما أن الفتحة إلى الجنوب والآخر إلى الشمال فالدلالة الالتزامية متكاذبة، لكن السيد الحكيم (قدس سره) أورد التقريب في موضع آخر(3)

وهو شهادة أحدهما بالرؤية ليلة الاثنين والآخر ليلة الثلاثاء باعتبار أن لازم شهادة الأول كون يوم الثلاثاء من الشهر فيشترك بهذا المدلول مع الثاني، وقد قرّبنا سابقاً التكاذب في هذه الصورة أيضاً.

وعلى أي حال فالمسألة عنده (قدس سره) مبنية على إمكان التفكيك بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الحجية وعدمه، أي هل أن الدلالة المطابقية تتبع الالتزامية بالحجية كما تتبعها بالوجود أم لا؟

واختار السيد الحكيم (قدس سره) الإمكان وفاقاً لأستاذيه النائيني والعراقي (قدس الله سريهما)، وذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى العدم وتبعه تلامذته كالشيخ الفياض(4)

وبعض من حضرنا بحثه الشريف، والذي أبني عليه التفصيل، فإنسقوط حجية الدلالة المطابقية إن كانت لمانع ذاتي أي لقصور

ص: 58


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/72.
2- وقرّر نفس السياق تلامذته الذين ناقشوا مطالبه كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قال: «باعتبار أن من شهد برؤية الهلال بالمطابقة في الطرف الجنوبي فقد شهد بالالتزام برؤية الهلال بالجامع» (فيض العروة الوثقى: 2/141).
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/457.
4- فيض العروة الوثقى: 2/141.

في المقتضي فإن الالتزامية تتبعها لانتفاء أصل وجود الحجية للدلالة المطابقية حينئذٍ، ووجود الالتزامية متفرع عنه، كما لو كانت دار بيد عمرو واليد أمارة على الملكية، ثم قامت البينة على أن الدار لزيد فلازمها أنها ليست لعمرو الذي هو صاحب اليد على الدار والبينة حجة في هذا اللازم لأنه بيّن بالمعنى الأخصّ والبينة تقدم على اليد فيثبت بها أن الدار لزيد وليست لعمرو، فلو أقرّ زيد على أن الدار ليست له والإقرار مقدم على البينة فإن الدلالة المطابقية تبطل وكذا الدلالة الالتزامية تسقط وتبقى الدار لصاحب اليد، ولا يمكن القول أن الدلالة الالتزامية تبقى والدار لا لزيد ولا لعمرو.

وإن كان سقوط حجية الدلالة المطابقية لمانع خارجي كتعارضها مع دليل آخر فلا دليل على سقوط حجية الالتزامية لأنها تثبت بثبوت المطابقية ولم يحصل مانع من استمرارها وإنما من المطابقية.

وبتعبير آخر: إن الدلالة المطابقية لم تسقط عن الوجود حتى تتبعها الالتزامية وإنما منع من تأثيرها مانع، ونظير هذا نقوله في سقوط حجية طرفي الإجماع المركب بسبب التعارض بينهما لكن دلالتهما الالتزامية في نفي قول ثالث تبقى قائمة وفي هذا نقض على القائل بعدم إمكان التفكيك بين الدلالتين في الحجية.

لا يقال: إن نفي الثالث هنا للإجماع عليه من الطرفين وليس للدلالة الالتزامية.

فإنه يقال: إن هذا الإجماع هو مجموع الدلالتين الالتزاميتين لطرفي الإجماع المركب.

وأستطيع القول أن هذا التفصيل يصلح وجهاً للجمع بين القولين السابقين فإن الفريق الأول القائل بالإمكان نظر إلى الحالة الثانية، وإن الفريق الثاني القائل بالمنع نظر إلى الحالة الأولى، ويمكن استفادة ذلك من كلماتهم.

ص: 59

قال المحقق النائيني (قدس سره): «وتوهم: أن الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامية لهما في نفي الثالث، فاسد فإن الدلالة الالتزامية إنما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية. وبعبارة أوضح: الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على المؤدى، وأما كون المؤدى مراداً: فهو مما لا يتوقف عليه الدلالة الالتزامية»(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): «أن الإخبار عن الملزوم وإن كان إخباراً عن اللازم، إلا أنه ليس إخباراً عن اللازم بوجوده السعي، بل إخبار عن حصة خاصة هي لازم له، فإن الإخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخباراً عن نجاسة الثوب بأي سبب كان بل إخبار عن نجاسته المسببة عن وقوع البول عليه، فبعد العلم بكذب البينة في إخبارها عن وقوع البول على الثوب، يعلم كذبها في الإخبار عن نجاسةالثوب لا محالة. وأما النجاسة بسبب آخر، فهي وإن كانت محتملة، إلا أنها خارجة عن مفاد البينة رأساً»(2).

وذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف وجهاً آخر لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية بالسقوط حاصله: إن الدلالة الالتزامية والتضمنية ليست من أقسام الدلالة اللفظية كما صوّره المناطقة لأن المتكلم لم يخبر عنها فالدلالة التفهيمية التي يتقوم بها الظهور مفقودة، وإن هاتين الدلالتين راجعتان إلى الدلالة الإخطارية أي أن إخطار شيء يلزم منه خطور شيء آخر وفاقاً لما ذكره الطوسي في شرح الإشارات من أن الدلالة التضمنية والالتزامية هي لفظية بمعونة العقل؛ لأن العقل يحكم بعدم الانفكاك فإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم، وإذا وجد زيد فلا

ص: 60


1- فوائد الأصول: 4/755-756.
2- مصباح الأصول: 3/370.

محالة فإن الإنسان موجود، فإذا سقط المدلول المطابقي فإن العقل لا يحكم بوجود جميع اللوازم»(1).

أقول: لا يمكن قبول هذه الأطروحة على إطلاقها لما ذكرناه من أن اللزوم البيِّن بالمعنى الأخص بقوة الدلالة اللفظية، وأن من يشهد بأن فتحة الهلال إلى الأعلى فإنه ينفي كونها إلى الأسفل، ومن يشهد بأن المال لزيد فإنه يشهد بأنه ليس لعمرو.

وعلى أي حال فإن تفصيل البحث موكول إلى محله من علم الأصول عند البحث في باب التعارض عن إمكان نفي حكم ثالث بالحكمين المتعارضين بإذن الله تعالى.

هذا كله بناءً على ما افترضته المحاولة من أن دلالة البينة على الجامع بالدلالة الالتزامية، أما بناءً على ما قربناه من أنها بالدلالة التضمنية فإن الأمر مختلف لأن بعض من قال بسقوط حجية الدلالة الالتزامية بسقوط حجية المطابقية لا يقول بذلك في الدلالة التضمنية، كما لو قال أحدهما حضر زيد وقال الآخر حضر عمرو فإنهما متكاذبان في الخصوصيات إلا أنهما متصادقان على الجامع وهو حضور كلي الإنسان.

وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن سقوط حجية البينة هنا ليس لعدم إمكان التفكيك في الحجية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية بحيث لو قلنا بالإمكان فإن الهلال يثبت بالدلالة الالتزامية كما افترضته المحاولة، وإنما سقطت للتكاذب وعدم الاطمئنان بصدقها وعدم تحقق مناط حجيتها وهو التصادق بين الشهادتين على مشهود واحد فوجود الجامع هنا لا ينفع فلو فرض أن أحد الشاهدين قال: قتل زيد عمراً في النجف وقال الآخر قته في البصرة فوجود جامع كلي وهو قتل زيد عمراً لا يثبت هنا للتكاذب بين الشهادتين وأن القتل لا

ص: 61


1- محاضرة بتأريخ: 29/محرم/1417.

يمكن أن يقع في المدينتين، لكن لو شهد أحدهما بأن زيداً ضرب عمراً في النجف وقال الآخر في البصرة فإنه يمكن قبول الجامع لأن الضرب يمكن أن يقع في النجف وفي البصرة.

ثم قال صاحب العروة تبعاً لصاحب الجواهر: «ولا يعتبر اتحادهما في زمان الرؤية مع توافقهما على الرؤية في الليل» أي في نفس الليلة وعبارة صاحب الجواهر أوضح في ذلك، قال (قدس سره): «ولا كذلك -أي لا تبطل الشهادة- لو اختلفا في زمان الرؤية مع اتحاد الليلة»، كما لو شهد أحدهما برؤيته بعد الغروب بربع ساعة والآخر بنصف ساعة فإنها لا تؤثر على صحة الشهادة، على أن تكون رؤيتهما في ليلة واحدة وليس في ليلتين متعددتين لأن من يقول: رأيت الهلال في الليلة التالية ينفي بالدلالة الالتزامية ما قاله الآخر من رؤيته في الليلة السابقة.

أما لو أراد (قدس سره) اشتراط كون الرؤية في الليل فغير تام إذ لا يشترط أن تكونا في الليل، فلو شهد أحدهما برؤيته قبل المغرب بدقائق -لو فرض إمكانه- والآخر بعده كذلك لم يضر بشهادتهما «إلا إذا فرض التنافي بينهما، كما لو شهد أحدهما برؤيته قبل الغروب بخمس دقائق قريبا من الأفق بحيث لا يبقى فوقه أكثر من عشر دقائق مثلاً، وشهد الآخر بأنه رآه بعد الغروب بساعة فإن مثل هذه الشهادة لا تسمع، لرجوع ذلك إلى الخصوصيات الفردية المستلزمة لتكذيب أحدهما الآخر فإن الفرد الذي يشهد به أحدهما غير الفرد الذي يشهد به الآخر. ومثله لا يحقق البينة الشرعية»(1).

والخلاصة أن البينة حجة في ما إذا اتحد المشهود به أو كان على نحو اللزوم بالمعنى الأخص بحيث يكون موجباً لكون الدلالة الالتزامية لفظية لتحقق شهادتهما بأمر واحد.

ص: 62


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/77.

فرع: يمكن أن نتصور عدم اتحاد الليلة على نحوين:-

1- بأن يكون بينهما ليلة واحدة فيقول أحد الشاهدين أنه رآه ليلة السبت وقال الآخر أنه رآه ليلة الأحد فقد يقال بحجية البينة لأن لازم الأول كون ليلة الأحد من شهر رمضان وهو مطابق للثاني، إلا أن الصحيح عدم الحجية لعدم اتحاد المشهود به لأن مفاد الأول أن ليلة السبت الأولى من شهر رمضان وهو لا يطابق شهادة الثاني.

2- أن يكون بين الشهادتين ثلاثون يوماً، قال صاحبا المدارك والجواهر: «ولو شهد أحدهما برؤية شعبان الاثنين وشهد الآخر برؤية رمضان الأربعاء احتمل القبوللاتفاقهما في المعنى، وعدمُه لأن كل واحد يخالف الآخر في شهادته ولم يثبت أحدهما، ولعل الأول أقوى»(1).

أقول: العدم أقوى:-

1- لمغايرة ما شهد به أحدهما مع ما شهد به الآخر؛ لأن الأول لم يشهد بثبوت هلال شهر رمضان ليلة الأربعاء إلا على نحو اللازم لكنه ليس من الدلالة اللفظية لأنه ليس من اللزوم البين بالمعنى الأخص حتى يتحقق عنوان المشهود به، ويشترط في قبول البينة اتحاد المشهود به.

2- لأن أدلة حجية البينة منصرفة عن هذه الحالة.

(الرابع) قال صاحب المدارك (قدس سره): «لا يكفي قول الشاهد: اليوم الصوم أو الفطر، بل يجب على السامع الاستفصال، لاختلاف الأقوال في المسألة فيجوز استناد الشاهد إلى سبب لا يوافق مذهب السامع، نعم لو علمت

ص: 63


1- جواهر الكلام: 16/358، مدارك الأحكام: 6/170.

الموافقة أجزأ الإطلاق كما في الجرح والتعديل»(1).

وردّ عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: «وقد يناقش بأن مقتضى شهادته كونه كذلك واقعاً، وهو لا اختلاف فيه، ولذا لم يجب استفصاله في الشهادة بالملك والغصب والنجاسة ونحوها مما هي مختلفة الأسباب أيضاً، وكذلك الجرح والتعديل وإن ظهر منه المفروغية من وجوب استفصال الشاهد بهما، ولعل الأمر بالعكس كما يشهد له الاكتفاء بما يذكره علماء الرجال فيهما، بل السيرة من العلماء وغيرهم على عدم استفصال الشاهد إذا شهد بالفسق أو العدالة، وما ذاك إلا لما ذكرناه، فتأمل جيداً»(2).

أقول: ما ذكره السيد صاحب المدارك وجيه لوجوه:-

1- لاحتمال بناء المخبِر على سبب ليس حجة عند المخبَر كالاعتماد على الرؤية المسلحة أو كفاية رؤيته في البلدان المختلفة الآفاق.

2- إن الشهادة لا تطلق إلا على ما كان عن حس لأنها مأخوذة من الشهود أي الحضور ولا يراد بها مطلق العلم حتى ما كان عن حدس واجتهاد.3- إن الروايات دلّت على اعتبار شهادة البيّنة بالرؤية خاصة وليس على نحو يبنى عليها أو يستنبط منها وقد مرّت جملة منها كصحيحة منصور بن حازم (صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه)(3).

4- إن مستند حجية البينة هو بناء العقلاء وسيرتهم وهي قائمة على الشهادة الحسية لا مطلق العلم ولو عن حدس.

5- ما ذكرناه مراراً من أن المطلوب في الهلال الرؤية وليس الإخبار فمن هذه

ص: 64


1- مدارك الأحكام: 6/170.
2- جواهر الكلام: 16/358.
3- وسائل الشيعة: 10/287، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح4.

الناحية يختلف أمر الهلال عن الغصبية والملك والنجاسة وأمثالها.

ومن الغريب قول صاحب الجواهر (قدس سره): «ولعل الأمر بالعكس» إذ من المعلوم عدم الاكتفاء بما يقوله الرجاليون من عدم الوثاقة ونحوها حتى يحققوا في السبب وقد يخالفونه في النتيجة، وترى الرجاليين أنفسهم يعلّلون سبب الجرح بأنه كان يروي عن الضعفاء أو المجاهيل أو عنده غلو ونحو ذلك وقد لا يكون بعضها سبباً كافياً لعدم اعتبار روايته.

ومن هذه النقاط يُعلم النظر في الفقرة الأخيرة من كلام صاحب المدارك «نعم لو علمت الموافقة أجزأ الإطلاق» لعدم كفاية الاتفاق على المبنى في الثبوت لوجود عناصر مؤثرة أخرى، ويكفي في عدم الإجزاء انصراف أدلة حجية البيّنة عن المورد.

(الخامس) هل يثبت الهلال بالشهادة على شهادة الرؤية؟ قال العلامة في التذكرة: «لا يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة عند علمائنا، لأصالة البراءة، واختصاص ورود القبول بالأموال وحقوق الآدميين»(1)

أي أن روايات القبول بالشهادة على الشهادة وردت في الأموال وحقوق الناس.

ونقل صاحب المدارك قول العلامة وأضاف: «وقيل نعم يثبت، وبه جزم الشارح -أي الشهيد الثاني في المسالك- من غير نقل خلاف، أخذاً بالعموم وانتفاء ما يصلح للتخصيص، والتفاتاً إلى أن الشهادة حق لازم الأداء، فتجوز الشهادة عليه -أي الهلال- كسائر الحقوق. ولا بأس به. ولو استند الشاهدان إلى الشياع المفيد للعلم وجب القبول قطعاً»(2).

ص: 65


1- تذكرة الفقهاء: 6/135.
2- مدارك الأحكام: 6/170.

ووافقه صاحب الجواهر في الرد على العلامة بقوله: «وفيه بعد انقطاع الأصل بما عرفت: أن اختصاص مورد القبول بذلك لا يقتضي تخصيص العموم»(1).أقول: هذا هو الصحيح لعموم ما دلّ على قبول الشهادة على الشهادة كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في الشهادة على شهادة الرجل وهو بالحضرة في البلد، قال (عليه السلام): (نعم، ولو كان خلف سارية يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلة تمنعه عن أن يحضره ويقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة على شهادته)(2)

وورود بعض الروايات في الأموال وحقوق الآدميين لا يخصص العموم.

نعم ورد في بعض الروايات المنع من ذلك كرواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه أن علياً (عليه السلام) قال: (لا أقبل شهادة رجل على رجل حي وإن كان باليمن)(3)

لكنه يحمل على عدم الاكتفاء بشاهد واحد ولا بد من اثنين بقرينة ما رواه الشيخ الصدوق بسند صحيح عن غياث نفسه عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: (أن علياً كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلا شهادة رجلين على شهادة رجل)(4)

وفي مرسلة الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا شهد رجل على شهادة رجل فإن شهادته تقبل وهي نصف شهادة، وإن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد)(5).

وهنا ثلاث ملاحظات:-

ص: 66


1- جواهر الكلام: 16/359.
2- وسائل الشيعة: 27/402، كتاب الشهادات: الباب 44، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الشهادات: الباب 44، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الشهادات: الباب 44، ح4.
5- وسائل الشيعة: كتاب الشهادات، باب 44، ح5.

1- يشترط في الشهادة على الشهادة التعدد والعدالة فتثبت شهادة كل واحد من الأصل بشهادة اثنين عادلين عليها.

2- رجّح المحقق السبزواري في الذخيرة قول العلامة بعدم القبول على قولي المسالك والمدارك وقال في وجهه: «ولعل الترجيح للأصل السالم عن المعارض فإن المتبادر من النصوص شهادة الأصل»(1)

أي أن المتبادر من نصوص ثبوت الهلال بالرؤية شهادة الرائين المباشرين.

وقال صاحب الحدائق (قدس سره) في ردّه: «الظاهر أن مراد شيخنا -أي الشهيد الثاني في المسالك- المشار إليه بالعموم إنما هو عموم إخبار الشهادة على الشهادة وشمولها للشهادة على الهلال ونحوها لا عموم إخبار شهادة العدلين في رؤية الهلال كما يظهر من كلامه، فإن الظاهر أن شيخنا المذكور لا ينازع هنا فيكون المراد بالعدلين هنا شاهدي الأصل، كيف وشهود الفرع تزيد على هذا العدد فكيف يظن به ما توهمه؟»(2).

3- الفقرة الأخيرة من كلام صاحب المدارك «ولو استند» صرّح بها جملة من الأصحاب وتدل عليها عدة روايات منها صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً)(3).

طرق أخرى

اشارة

وقد ذُكرت هنا عدة طرق وعلامات لثبوت الهلال وأوائل الشهور:

(الأولى) تطوّق الهلال:

ص: 67


1- ذخيرة العباد: 3/531.
2- الحدائق الناضرة: 13/262.
3- وسائل الشيعة: 10/265، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح13.

يراد بتطوق الهلال إحاطة خيط من النور بجسم الجزء المظلم من القمر وتصل بين طرفي الهلال، وهذا المعنى هو المعروف عند الأصحاب -كما في الجواهر وغيره- ولكن قد يراد به امتداد طول الهلال حتى يتجاوز طرفاه نصف كرة القمر ولا يلتقي الطرفان، وفي اللغة يقال حمامة مطوقة رغم أن الطوق لا يحيط برقبتها بشكل كامل(1).

وحكي(2) عن الشيخ الصدوق في الفقيه والشيخ الطوسي في التهذيب والمحقق السبزواري في الذخيرة القول باعتبار التطوق علامة على كون الهلال في ليلته الثانية مستندين إلى صحيحة محمد بن مرازم عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا تطوق الهلال فهو لِلَيلتين وإذا رأيت ظل رأسك فيه فهو لثلاث ليال)(3)،وتبعهم على ذلك السيد الخوئي، قال (قدس سره): «لم يكن بدّ من الأخذ بالصحيحة والعمل بها ولا يسعنا رفضها بعد استجماعها شرائط الحجية من صحة السند وصراحة الدلالة، ولم يثبت الإعراض عنها، إذن فالأظهر ثبوت الهلال بالتطويق تبعاً لبعض الأصحاب وإن كان على خلاف المشهور»(4).لكن المشهور ذهب إلى عدم اعتبارها ونفى صاحبا المدارك(5)

والجواهر وجود خلاف في عدم اعتبار هذه العلامة، وأورد الأصحاب عدة وجوه لرد الاستدلال بالرواية:

(منها): المنع من صحة السند كما عن العلامة(6).

ص: 68


1- لسان العرب، مادة (طوق).
2- جواهر الكلام: 16/375.
3- وسائل الشيعة: 10/281، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 9، ح2.
4- موسوعة السيد الخوئي: 22/104.
5- مدارك الأحكام: 6/170، جواهر الكلام: 16/375.
6- تذكرة الفقهاء: 6/141.

وهو إشكال وارد على سند الشيخ الصدوق لأن طريقه إلى ابن مرازم ضعيف لكن سند الشيخ الكليني والشيخ الطوسي إلى الرواية صحيح وهذا يكفي، وربما لاحظ العلامة خصوص سندها في الفقيه لأن القول باعتبار هذه العلامة منسوب إليه.

(ومنها): سقوط الرواية بإعراض الأصحاب عنها.

ويرد عليه بمنع الصغرى، فقد أوردها الكليني وقد صرّح في مقدمة كتابه أنه لا يذكر فيه إلا ما هو حجة بينه وبين ربّه، وعمل بها الشيخ الصدوق وكذا الشيخ الطوسي وإن قيّدها في حالة الغيم كما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ لذا قال السيد الخوئي: «لم يثبت الإعراض عنها».

ومنع الكبرى: لأن عدم عمل الأصحاب لا يقدح في اعتبار الرواية إلا إذا كان كاشفاً عن إعراض المعصومين (عليهم السلام) عنها بحيث يدخل المخالف في عنوان الشاذ النادر، وهو غير متحقق في المقام؛ لأن إعراض بعضهم مدركي إما لضعف السند كما عن العلامة، أو لعدم موافقته لقول الفلكيين ونحو ذلك.

(ومنها): ما في الحدائق وحاصله: أن لازم هذه العلامة قضاء اليوم السابق وهذا الحكم ينافي الروايات الصحيحة الكثيرة الدالة على عدم القضاء إلا مع قيام البينة بالرؤية(1).

ويرد عليه: بعدم وجود التعارض لأن هذه الروايات لا تأبى التقييد بأي علامة أخرى على ثبوت الهلال إذا تم الدليل عليها ما دامت جميعاً طرقاً لتحصيل العلم بموعد رؤية الهلال وما يترتب عليه من فوات الصوم كما دلّت بعض الروايات على وجوب قضاء يوم إذا رؤي هلال شهر رمضان بعد ثمانية وعشرين يوماً منه.

ص: 69


1- الحدائق الناضرة: 13/281، 290.

وبتعبير آخر: إن الموجب للقضاء حصول العلم بأن الهلال كان قابلاً للرؤية في ليلة يوم الشك الذي لم يصمه بأي وسيلة حصل هذا العلم وبحسب الفرض فإن التطوق كاشف عن ذلك.

(ومنها): ما في التهذيب من اعتبار التطوق «أمارة على اعتبار دخول الشهر إذا كان في السماء علة من غيم وما يجري مجراه، فجاز حينئذٍ اعتباره في الليلة المستقبلة بتطوق الهلال وغيبوبته قبل الشفق أو بعد الشفق، فأما مع زوال العلة وكون السماءمصحية فلا تعتبر هذه الأشياء ويجري ذلك مجرى شهادة الشاهدين من خارج البلد إنما يعتبر شهادتهما إذا كان هناك علة ومتى لم يكن هناك علة فلا يجوز اعتبار ذلك على وجه من الوجوه»(1).

ويرد عليه: أن هذه العلامة لو صحّت دلالتها على كون الهلال في الليلة الثانية، فإنها تكشف عن ظاهرة تكوينية ثابتة وإذا تخلفت فإنه يعني عدم صحتها لذا فإنها غير قابلة للتخصيص بحال الغيم دون غيره، حتى لو قلنا بثبوتها بالتعبد الشرعي فإن تخصيصها بحال الغيم لا دليل عليه.

(ومنها): حملها على «الاعتبار الاحتياطي بمعنى أنه ينبغي الاحتياط مع ذلك لقوة الظن بكون اليوم السابق من شهر رمضان»(2).

وفيه: إن الاحتياط حسن لكنه يختص بموارد مقبوليته كأول شهر رمضان بالصوم لكن القول بالعلامة مطلق لأن الصحيحة مطلقة ولا دليل على التقييد.

(ومنها): أن ما ذكره الإمام (عليه السلام) ليس مرتبطاً بالأحكام الشرعية وإنما فيه إرشاد لظاهرة تكوينية حاصلها أن الهلال إذا كان مطوقاً فإنه مولود في الليلة السابقة، وروايات الأئمة (عليهم السلام) ضمّت علوماً مختلفة ولا تختص

ص: 70


1- التهذيب: ج8، باب علامة أول شهر رمضان، ح67.
2- جواهر الكلام: 16/376.

بتشريع الأحكام ومجرد ذكرها في كتاب الصوم لا قرينة فيه على التشريع لأنه من تصنيف الفقهاء وأما الرواية فإنها خالية من أي قرينة.

واحتمل هذا التوجيه سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني(1)

(قدس سره) وقد يبعّده ظهور كون الإمام (عليه السلام) بصدد بيان موضوع خارجي يترتب عليه حكم شرعي وليس لبيان موضوع صرف. ولذا جعل السيد الخوئي (قدس سره) نفس هذا الاحتمال دليلاً على الحجية، قال (قدس سره): «وغير بعيد أن تكون الصحيحة مسوقة للإخبار عن أمر تكويني واقعي لا لبيان تعبّد شرعي، وهو أنّ التطويق بمقتضى قواعد الفلك لا يكون في الليلة الأولى أبداً وإنّما هو في الليلة الثانية فحسب، فيكون الكشف فيه كشفاً قطعيّاً حقيقيّاً لا طريقاً مجعولا شرعيّاً. ولا بدع، فإنّهم صلوات الله عليهم مرشدو الخلق في كلّ من أمري التكوين والتشريع.

والشاهد على ذلك قوله (عليه السلام) في ذيلها : (وإذا رأيت ظلّ رأسك فيه فهو لثلاث)، فإنّ من الواضح عدم ابتناء هذه الفقرة على التعبّد وإنّما هي حكاية عن أمر تكويني خارجي، لعدم حدوث الظلّ قبل الثلاث بالوجدان، فمن الجائز أن تكون الفقرة السابقة أيضاً كذلك بمقتضى اتّحاد السياق.ولعلّ هذا هو السرّ في عدم ذكر ذلك في كلمات المشهور، حيث إنّهم بصدد عدّ الطرق الشرعيّة التعبّديّة لا الأمر التكويني المورث لليقين الوجداني، ولكنّه بعيد كما لا يخفى»(2).

أقول: مضافاً إلى ما ذكرناه فإن أهل الاختصاص لا يؤكدون دلالة هذه الظاهرة الطبيعية على كون الهلال في الليلة الثانية دائماً إذ يمكن أن تكون للأولى أو

ص: 71


1- ما وراء الفقه: 2/120.
2- موسوعة السيد الخوئي: 22/103-104.

الثالثة بحسب العوارض الموجودة في السماء، فقواعد الفلك لا تساعد على هذه العلامة قال المحقق الأردبيلي (قدس سره): «قد يرى التطوق مع الجزم بكونه من ليلته»(1)

أي ليس ابن ليلتين.

ولو دلّت تكوينياً على أن الهلال مولود في الليلة السابقة فإنه لا يكفي لثبوت أول الشهر فيها لما ذكرناه من التفريق بين الولادة الطبيعية والشرعية فيمكن أن يكون الهلال قد وُلد في الليلة السابقة بخروجه من المحاق إلا أنه لم يكن بمثابة يمكن رؤيته فيها بالعين المجردة.

(ومنها): ما في تقريرات الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) من «أنه لو كان التطويق أمارة شرعية لاشتهر بين الأصحاب في عصر الأئمة (عليهم السلام) كسائر الأمارات، مع أنه لم ترد مسألة التطويق في شيء من الروايات بل حتى في رواية ضعيفة إلا في هذه الصحيحة، رغم طول الزمان وكثرة الابتلاء بالواقعة لا سؤالاً ولا جواباً ولا ابتداءً، ولكان على الإمام (عليه السلام) (كذا؟!) أن ينبّه ويؤكد عليها باعتبار أنها ليست كسائر الطرق والأمارات المتعارفة لأنها من الأمارات المغفول عنها في الأذهان، مع أنه ليس منها أثر ولا عين إلا في هذه الصحيحة.. وبذلك يحصل الاطمئنان للإنسان بعدم كون التطويق أمارة شرعاً، فلا بد من ردّ علم هذه الصحيحة إلى أهلها»(2).

واستبعد بعض من حضرنا بحثه الشريف العمل بمضمون الصحيحة لنفس السبب وذلك «لحصول علل كثيرة في السماء فيحتاج إلى مثل هذه العلامة فلو كان هذا لاشتهر وبان عند جميع المسلمين ولا يتكفل به رواية واحدة مع أن في غيره من أمارات ثبوت الهلال كالرؤية والشياع العلمي روايات

ص: 72


1- مجمع الفائدة والبرهان: 5/297.
2- فيض العروة الوثقى: 2/160.

كثيرة ولتكرر السؤال والجواب عنه خصوصاً مع إغفال علماء السنة ذلك فيوجب مزيد الاهتمام، فردّنا الرواية لهذا الوجه وليس لإعراض المشهور»(1).أقول: هذا الاستبعاد وحده قد لا يكون كافياً لترك العمل بالرواية الصحيحة الصريحة، اللهم إلا إذا ضممنا إليه إعراض الأصحاب عنها باعتباره إعراضاً تعبدياً بعد التشكيك في نسبة القول باعتبار التطوق إلى الشيخ الصدوق والطوسي، أما الصدوق فإنهم اعتمدوا في نسبة القول إليه على ما ذكره في مقدمة كتابه من أنه لا يورد فيه إلا ما يفتي به ويحكم بصحته ويعتقد أنه حجة بينه وبين ربّه، وهذا لا يكفي لأنه نقل مضمون الرواية في كتابه المقنع بعنوان «وروي إذا تطوق الهلال فهو لليلتين»(2)

فكأنه ليس على سبيل الفتوى، قال صاحب الجواهر (قدس سره) في مورد آخر عن الشيخ الصدوق وكتابه الفقيه: «ذكر في أوله أنه ما يورِد فيه إلا ما يعتقد أنه حجة بينه وبين ربّه، لكن من تتبّع كتابه المزبور يعلم عدوله عن ذلك، كما أن من تتبّع الكافي يعلم أنه قد يورد فيه ما لا يعمل به»(3).

وأما الطوسي فلأن فتواه لا تستفاد مما ذكره في مقام الجمع بين الأخبار فقد علل ما تكلّفه من أنواع الجمع أن كثيراً منها ليس إلا من جهة استئناس الناس بالروايات ولعدم طرحها لا من جهة الاعتماد عليها قال (قدس سره) في نهاية تعليقه على هذه الرواية واختياره التفصيل بكون التطوق علامة في حال الغيم: «ونحن متى استعملنا هذه الأخبار في بعض الأحوال برئت عهدتنا ولم نكن دافعين لها»(4).

وقال في الاستبصار معلقاً على الرواية بعد ذكر التفصيل

ص: 73


1- محاضرة بتأريخ 22/ج 1/1417.
2- المقنع: 184.
3- جواهر الكلام: 16/374.
4- التهذيب: 4/178، ح67.

المذكور: «وهذا الوجه الذي تأولنا عليه هذين الخبرين إنما قلناه لئلا تدفع الأخبار وإن كان الأحوط ما تقدم -أي اعتماد الرؤية- وعليه يجب أن يكون العمل إن شاء الله»(1)،وربما أراد الشيخ الصدوق هذا المعنى أيضاً أي العمل بالعلامة عند تعذر الرؤية بسبب وجود علة في السماء.

فإذن لا يوجد قائل على نحو الجزم بهذه العلامة من علماء الإمامية، أما من العامة فلا يوجد قائل بها أيضاً، ومن الناحية العلمية فإن الخبراء في علم الفلك لا يؤكدون أن هذه العلامة لليلة الثانية إذ يمكن أن تحصل في الليلة الأولى أو لا تحصل أصلاً.فلا يصلح اعتبار هذه الظاهرة علامة تكوينية على ولادة الهلال في الليلة السابقة ولو فُرض ذلك(2)

فليس من المعلوم كونه بالمقدار الذي تراه العين الطبيعية حتى يثبت الشهر في الليلة السابقة.

وأبعد منه أن الرواية مسوقة لجعل هذه الظاهرة علامة بالتعبد الشرعي، قال السيد الخوئي (قدس سره): «وكيفما كان، فسواء أكانت الصحيحة ناظرة إلى بيان حكم شرعي أم أمر تكويني لم يكن بد من الأخذ والعمل بها»(3)

وجه البعد: اتفاق الروايات على أن الشهر هو الواقعي والتكويني الذي يثبت بالرؤية ولا يقبل الحكومة بالتوسعة، ولا يقضى يوم من شهر رمضان إلا إذا ثبتت الرؤية في اليوم السابق أو رؤي الهلال بعد ثمانية وعشرين يوماً.

ص: 74


1- الاستبصار: 2/75.
2- بناءً على احتمال كون نور الطوق الذي اكتسبه القمر آتياً من الكواكب الأخرى وليس من الشمس وهذا يحصل في بعض الأوضاع الفلكية وأنَّ هذا النور يحصل في الليلة الثانية دون الأولى لأن الأرض تكون بين القمر وتلك الكواكب في خط واحد فتحجب نورها في الليلة الأولى دون الثانية التي يحصل فيها التطوق.
3- موسوعة السيد الخوئي: 22/104.

وإذا لم يتم الدليل على التعبد الشرعي فإن الظن المستفاد من هذه العلامة لا يكون حجة لأن الأصل في الظنون عدم الحجية مضافاً إلى ورود النهي عنه في خصوص الهلال كما تقدم مراراً. والنهي عن اعتماد غير الرؤية كما في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) (لا تصم إلا أن تراه)(1).

والنتيجة: عدم ثبوت التطوق كعلامة علمية على كون الهلال في الليلة الثانية، نعم يمكن أن يحصل الظن بذلك فيستحب قضاء يوم رجاءً أو عما في الذمة خصوصاً عندما تكون في السماء علة في الليلة السابقة إذ يحتمل كون الهلال موجوداً إلا أنهم لم يروه لوجود العلة، أما إذا كانت السماء صافية فإن عدم رؤية الهلال تكون قاطعة لهذا الاحتمال، ولعل الشيخ الطوسي (قدس سره) نظر إلى هذه الحالة بتفصيله.

وسنقدّم في العلامة الثانية أطروحة لفهمها إن شاء الله تعالى.

(الثانية) رؤية الهلال في النهار

اشارة

المعروف لدى العرب قبل الإسلام أن الشهر الجديد يبدأ من الليلة التي يُرى فيها الهلال فتكون الليلة الأولى ويليها نهارها، وقد بنى الشرع المقدس على ذلك ففي رواية عمر بن يزيد قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن المغيرية يزعمون أن هذا اليوم لهذه الليلة المستقبلة؟ فقال: كذبوا هذا اليوم لليلة الماضية، إن أهل بطن نخلةحيث رأوا الهلال قالوا قد دخل الشهر الحرام)(2)،ولذا دلّت الروايات على إلحاق رؤية الهلال في النهار -على فرض إمكانها خارجاً ولو بالعين المسلحة عند القائل بها- بالليلة وعدّ الشهر بلحاظها لا بلحاظ نهار الرؤية، ولكن السؤال عن أيّةِ ليلة يبدأ منها الشهر هل هي السابقة على نهار

ص: 75


1- وسائل الشيعة: 10/254، كتاب الصيام، أبواب أحكام شهر رمضان، باب3، ح9.
2- وسائل الشيعة: 10/280، أبواب أحكام شهر رمضان، باب8، ح7.

الرؤية أم اللاحقة له؟.

وحكى العلامة في المختلف عن ابن الجنيد عدم اعتبار هذه العلامة بقوله: «رؤية الهلال يوم ثلاثين من رمضان أي وقت كان إذا لم يصح أن الليلة الماضية قد رؤي فيها، لا يوجب الإفطار له، فإذا صحّت الرؤية فيها أفطر أي وقت يصح ذلك عنده من نهار يوم ثلاثين»(1).

وقال الشيخ في الخلاف: «إذا رؤي قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة دون الماضية»(2).

وقد وردت عدة روايات في حكم رؤية الهلال نهار اليوم الثلاثين بعد فرض عدم رؤيته في الليلة السابقة وهي على طوائف:

الأولى: عدم اعتبار الرؤية في النهار مطلقاً والمضي بالشهر الحالي وإكمال الثلاثين والبناء على دخول الشهر الجديد من الليلة الآتية مثل رواية جراح المدائني قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: من رأى هلال شوال بنهار في شهر رمضان فليتم صيامه)(3).

الثانية: المفصّلة بين رؤيته قبل الزوال فيكون تابعاً لليلة السابقة ومنها يبدأ الشهر، أو عند الزوال وبعده فيكون للاحقة ومنها يبدأ الشهر، ومنها:-

1- موثقة عبيد بن زرارة وعبد الله بن بكير قالا: (قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا رؤي الهلال قبل الزوال فذلك اليوم من شوال، وإذا رؤي بعد الزوال فذلك اليوم من شهر رمضان)(4).

2- صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا رأوا

ص: 76


1- مختلف الشيعة: 3/358.
2- الخلاف: 2/171، كتاب الصوم، المسألة 10.
3- وسائل الشيعة: 10/278، باب 8، ح2.
4- وسائل الشيعة: 10/279، باب 8، ح5.

الهلال قبل الزوال فهو للّيلة الماضية، وإذا رأوه بعد الزوال فهو للّيلة المستقبلة)(1).الثالثة: الروايات التي اكتفت ببيان حكم رؤيته بعد الزوال وتلحق بالثانية وهي:-

3- صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه عدل من المسلمين، وإن لم تروا الهلال إلا من وسط النهار أو آخره فأتموا الصيام إلى الليل، وإن غَمّ عليكم فعدوا ثلاثين ليلة ثم أفطروا)(2)،ويمكن استفادة حكم الجزء الأول من المفهوم.

4- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال: لا تصمه إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه، وإذا رأيته من وسط النهار فأتم صومه إلى الليل)(3).

ومقتضى الصناعة حمل المطلق على المقيد ونتيجته التفصيل المذكور.

إلا أنه توجد رواية على خلاف الجزء الأول من التفصيل أوردها الشيخ في كتابيه(4)

بسنده عن محمد بن عيسى قال: (كتبت إليه عليه السلام: جُعلت فداك، ربما غمّ علينا هلال شهر رمضان فنرى من الغد الهلال قبل الزوال، وربما رأيناه بعد الزوال، فترى أن نفطر قبل الزوال إذا رأيناه أم لا؟ وكيف تأمر

ص: 77


1- وسائل الشيعة: 10/280، باب 8، ح6.
2- وسائل الشيعة: 10/278، باب 8، ح1.
3- وسائل الشيعة: 10/278، باب 8، ح3.
4- التهذيب: 4/177، ح490، الاستبصار: 2/73، ح221.

في ذلك؟ فكتب عليه السلام: تتم إلى الليل، فإنه إن كان تامّاً رؤي قبل الزوال) إلا أنها لا تصلح للمعارضة لوقوع محمد بن جعفر في سندها المكنّى ابن بطة وهو ضعيف.

ملاحظة: النص الموجود في الوسائل وارد في التهذيب ولا تخلو عبارته من تشويش لأن السائل يقول: (غمّ علينا هلال شهر رمضان) أي في الليلة الثلاثين من شعبان ولما لم يثبت هلال رمضان فإن الصوم نهار اليوم التالي ليس واجباً فكيف يأمر الإمام بإتمام الصوم وكيف يستقيم هذا الأمر مع جواب الإمام بعدم اعتبار هذه الرؤية ولزوم إتمام الشهر الحالي؟

لكن هذا الإشكال يزول على ما في نسخة الاستبصار لأن فيها (جُعلت فداك ربما غمّ علينا الهلال في شهر رمضان) فالمشكوك هو هلال شوال ويصبح الجواب منسجماً معه وتتصور المعارضة بدواً على أساسه ثم تزول لما ذكرناه.وعلى أي حال فالتفصيل المذكور هو مقتضى الأدلة الشرعية ولذا التزم به جمع «قال السيد المرتضى في (المسائل الناصرية) لما ذكر قول الناصر: إنه إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية: هذا صحيح وهو مذهبنا» «وادعى السيد المرتضى أن علياً عليه السلام وابن مسعود وابن عمر، وأنساً قالوا به ولا مخالف لهم»(1).

وقال المحقق النراقي (قدس سره): «إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو للّيلة الماضية على الأقرب، وفاقاً للناصريات، مُدّعياً عليه إجماع الفرقة المحقة ونفي الخلاف فيه بين الصحابة، بل ظاهره إجماعهم عليه، وهو المحكي عن المقنع والفقيه، وإليه ذهب جملة من متأخري المتأخرين، كصاحب الذخيرة والمحدث الكاشاني، وغيرهما، وهو مختار المختلف، ولكن في الصوم خاصة»(2).

ص: 78


1- مختلف الشيعة: 3/358، المسألة (89).
2- مستند الشيعة: 10/426.

ثم قال (قدس سره): «خلافاً للمحكي مستفيضاً عن الأكثر، بل عن الغنية: الإجماع عليه، وعن الخلاف: إجماع الصحابة عليه، للأصل، والاستصحاب.. ولإطلاق ما دلّ على أن الصوم للرؤية والفطر للرؤية، حيث إن المتبادر من الرؤية: الرؤية الليلية دون النهارية، مع أنه على فرض الإطلاق وتسليمه لا يصدق ذلك أول النهار قبل الرؤية، فالصوم فيه أو الإفطار يكون لا للرؤية»(1).

«وأجابوا عن الأخبار المتقدمة تارة بالشذوذ وأخرى بالمخالفة لظواهر القرآن والأخبار المتواترة» وعنوا بذلك -بحسب الأردبيلي- «الأمر بإكمال الصوم، وكون الأهلة مواقيت وتكميل العدة، والأخبار الكثيرة الصحيحة الصريحة في اعتبار الإتمام بالثلاثين ورؤية الهلال»(2)

ولذا «تردد جماعة كثيرة كالمحقق في المعتبر والنافع والأردبيلي والمدارك».

وهذه الإشكالات كلها مردودة:

أما دعوى الشذوذ فغريبة بعد اختيار من ذكرناهم ودعوى السيد الإجماع التي تكشف عن ذهاب جماعة إلى هذا القول.

وأما المخالفة لظواهر الكتاب، فقد أجاب في الوافي بقوله: «وليت شعري ما موضع دلالة خلاف مقتضى الخبرين في القرآن والأخبار المتواترة؟! وليس في القرآن والأخبار إلا أن الاعتبار في تحقق دخول الشهر إنما هو بالرؤية أو مضي ثلاثين، وأما أن الرؤية المعتبرة فيه متى تتحقق وكيف تتحقق فإنما يتبين بمثل هذه الأخبار ليسإلا»(3).

وكذا الوجوه التي ذكروها للاستدلال غير تامة.

ص: 79


1- مستند الشيعة: 10/427.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 5/298.
3- الوافي: 11/78، الباب (17).

فإن الإجماع غير متحقق بل المنقول عن السيد المرتضى خلافه، وأما الأصل والاستصحاب فلا مجال لهما مع وجود الروايات.

وأما الإطلاقات فلا تنافي التفصيل المذكور لأنه يعتمد الرؤية أيضاً، ولا ينافي المتبادر لأن رؤية الهلال بعد الزوال يلزم منه قطعاً رؤيته عند المغرب فيثبت الشهر للّيلة اللاحقة، وأما رؤيته قبل الزوال فيمكن أن يكون المناط كشفها عن إمكانية رؤيته في الليلة السابقة فالحجية تكون حينئذٍ للمنكشف لا للكاشف، لكن هذا الانكشاف إذا لاحظنا حصوله في بلد الرؤية فإنه يكون ظنياً كالتطوق ولا يكون حجة.

وأما قوله: «على فرض الإطلاق وتسليمه.. إلخ» فسنجيب على مثله من خلال الرد على الشاهد الثاني لبعض من حضرنا بحثه الشريف (صفحة 298).

واستقرب العلامة (قدس سره) في المختلف «اعتبار ذلك في الصوم دون الفطر» ووجهه «أنه أحوط للعبادة فكان أولى»(1).

وعلّق المحقق الأردبيلي «وما نجد له دليلاً على التفصيل، نعم ذكر الاحتياط، وفيه تأمل واضح، والدليل يقتضي عدم هذا التفصيل، بل التفصيل بقبلية الزوال وبعديته»(2).

أقول: الاحتياط في الصوم لا ينافي الدليل خصوصاً وأن نيته مستمرة إلى الزوال فرؤية الهلال قبل الزوال والحكم بأن هذا النهار من الشهر الجديد ينقّح موضوع الاحتياط. نعم لو تم الدليل فلا وجه للتفصيل إلا أنه لم يتم عنده قال (قدس سره): «لو رؤي في أول الشهر قبل الزوال ولم يُر ليلة إحدى وثلاثين هلال شوال وجب صومه، إن كان هذا الفرض ممكناً أو حصلت علّة؛ لأن الاحتياط

ص: 80


1- مختلف الشيعة: 3/358، المسألة (89).
2- مجمع الفائدة والبرهان: 5/300.

للصوم متعين، فلا يجوز الإقدام على الإفطار بناءً على مثل هذه الروايات المفيدة للظن المعارضة بمثلها»(1).

ونقدّم هنا أطروحة لتقريب الاعتماد على هذه العلامة حاصلها أن الإمام (عليه السلام) أراد بطرح هذه العلامة الإخبار عن أن رؤية الهلال قبل الزوال كاشفة عن إمكانية رؤية الهلال في الليلة السابقة في بلد بعيد تكون رؤيته حجة على هذه البلاد -وهي بحسب المختار البلدان الإسلامية التي يصدق على أهلها عنوان بلدان أهل الصلاة- وإن لم يُرَ الهلال فيها، ولما كانت وسائل المواصلات والاتصالات صعبة وطويلة وضع الأئمة هذه العلامات كرؤية الهلال قبل الزوال أو التطوق إلى أن يأتي زمان مثل زماننا تكون وسائل الاتصال متيسّرة وفورية وكذا حسابات إمكانية رؤية الهلال فنستغني عن هذه العلامات، وسيأتي مزيد من تفصيل الأطروحة وثمرة القول بها في المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى، والفضل لله وحده.

(الثالثة) إن شهر رمضان تام لا ينقص أبداً كما أن شهر شعبان ناقص دائماً

وذهب إليه الشيخ الصدوق في الفقيه(2)

ونقل السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال عن الشيخ المفيد إجماع أهل ذلك الزمان عليه وذكر أسماء عدة من الفقهاء القائلين به، وهذه دعوى مبالغ فيها؛ لأن جملة من أعلام ذلك العصر نقلوا الروايات المنافية لهذا القول كعدم وجوب قضاء يوم إذا كان شهر رمضان ناقصاً إلا إذا شهد عدول على رؤيته قبل ذلك ومنهم أبو غالب الزراري الذي روى أن شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من الزيادة والنقصان، وبه صرّح في فقه الرضا (عليه السلام) - وهو سابق على هذا العصر-: «شهر

ص: 81


1- مختلف الشيعة: 3/360.
2- الفقيه: 2/111.

رمضان ثلاثون يوماً وتسعة وعشرون يوماً يصيبه ما يصيب الشهور من التمام والنقصان، والفرض تام فيه أبداً لا ينقص كما روي ومعنى ذلك الفريضة فيه الواجبة قد تمت وهو شهر قد يكون ثلاثون يوماً وتسعة وعشرون يوماً»(1).

ولعل الشيخ المفيد أراد بدعوى الإجماع الرد على الفقيه محمد بن أحمد بن داود الذي وصف هذا القول بالمبتدع ليقول إنه ليس كذلك.

وعلى أي حال فقد ذهب إلى هذا القول بالعدد مضافاً إلى الشيخ الصدوق جملة من أجلاء فقهاء ذلك العصر: كأخيه الحسين وهارون بن موسى وتلميذه جعفر بن محمد بن قولويه «والشيخ المفيد -في أوائل شبابه عندما كان تلميذاً لهم- حيث ألّف كتاباً في الانتصار لابن بابويه ثم عدل عنه وألف رسالة في الرد عليه وأن شهر رمضان كغيره من الشهور من هذه الناحية، وكذلك الكراجكي كان يقول أولاً بقول ابن قولويه وألف فيه كتاباً ثم رجع عن ذلك، وألف كتاباً في الرد عليه، ويظهر من هذاومن مواضع كثيرة أن مدار الإجماع على تقليد بعض كبار العلماء والانقياد إلى قوله كما ذكره الشهيد الثاني ونقله عن ابن طاووس وغيره»(2).

ودليله عدة روايات صرّحت بذلك موجودة في الكتب الأربعة وتنتهي سبعة منها إلى حذيفة بن منصور وابنه الحسن نقلها الشيخ الطوسي (قدس سره) من كتاب الصيام لابن رياح، وروى بعضها بأسانيد أخرى في الكافي والفقيه، وجملة منها بواسطة معاذ بن كثير، منها قوله (قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يروون عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام هكذا وهكذا وهكذا، وحكى بيده، يطبق إحدى يديه على الأخرى عشراً

ص: 82


1- فقه الرضا: 203 وحكاه في بحار الأنوار: 96/299، ح10.
2- حكاه عنه صاحب الوسائل في تعليقته على هذا الباب (وسائل الشيعة: 10/274).

وعشراً وتسعاً، أكثر مما صام هكذا وهكذا وهكذا - يعني: عشراً وعشراً وعشراً؟ قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما صام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقل: من ثلاثين يوماً، وما نقص شهر رمضان من ثلاثين يوماً منذ خلق الله السماوات والأرض)(1).

وعنه عن محمد بن أبي عمير عن حذيفة بن منصور قال: (أتيت معاذ بن كثير في شهر رمضان وكان معي إسحاق بن مخوَّل فقال معاذ: لا والله ما نقص شهر رمضان قط) ولم ينسبها إلى الإمام (عليه السلام).

أقول: روى الشيخ روايات حذيفة وابنه الحسن عن ابن رياح في كتاب الصيام والذي ينصرف إليه العنوان هو أحمد بن رباح الذي ذكره النجاشي في رجاله وطبقته مناسبة للرواية عن حذيفة وابنه الحسن وهما من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وحاله مجهول وطريق الشيخ إليه ضعيف ولم يذكر النجاشي أن له كتاباً في الصيام، أما حذيفة فقد وثّقه النجاشي وغمز فيه ابن الغضائري، أما الحسن فمجهول، لكن ابن رياح الذي له كتاب الصيام هو أحمد بن محمد بن علي بن عمر بن رباح ووثقه النجاشي والشيخ وطريق الشيخ إليه عن الحسين بن عبيد الله عن أبي غالب الزراري عنه وهو طريق صحيح، وبلحاظ الراوي عنه يُعلم أن طبقته قريبة من الشيخ الكليني ووالد الشيخ الصدوق ولا يُعلم سنده إلى حذيفة وابنه الحسن وهما من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).

ولم يعنون هذا بابن رياح في كتب الرجال التي راجعناها وإنما عنونوه باسمه إلا أننا توصلنا إلى هذه المعلومة بعد مراجعة الذريعة قال: «كتاب الصيام لأبي الحسن أحمد بن محمد بن علي بن عمر بن رباح القلاء السواق رأى

ص: 83


1- الروايات تجدها في وسائل الشيعة: 10/268-273، كتاب الصوم: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح28، ح36، ح32.

النجاشي كتابه ورواه عنه بواسطتين»(1).

وراجعنا كتابي النجاشي والطوسي فوجدنا ذلك تحت عنوان اسمه الشخصي.ويجد المتتبع مواضع الضعف في أسانيد الروايات الأخرى عن غير ابن رياح.

ومنها ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن ياسر الخادم قال: (قلت للرضا عليه السلام: هل يكون شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً؟ فقال: إن شهر رمضان لا ينقص من ثلاثين يوماً أبداً).

أقول: ياسر الخادم لم يوثق إلا على مبنى توثيق رجال تفسير القمي وهو غير معتمد.

ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار بسنده عن محمد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام تسعة وعشرين يوماً أكثر مما صام ثلاثين يوماً، فقال كذبوا، ما صام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا تاماً وذلك قول الله تعالى: «وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ» (البقرة: 185) فشهر رمضان ثلاثون يوماً، وشوال تسعة وعشرون يوماً، وذو القعدة ثلاثون يوماً لا ينقص أبداً لأن الله تعالى يقول: «وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً» (الأعراف:142) وذو الحجة تسعة وعشرون يوماً، ثم الشهور على مثل ذلك شهر تام وشهر ناقص وشعبان لا يتم أبداً).

وبسند آخر ينتهي إليه قال فيه: (ما صام رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا تاماً، ولا تكون الفرائض ناقصة، إن الله تعالى خلق السنة ثلاثمائة وستين يوماً، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام فحجزها من ثلاثمائة وستين يوماً فالسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً، وشهر رمضان ثلاثون يوماً).

ص: 84


1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 15/74.

أقول: حكي عن الشيخ المفيد قوله في رسالته العددية: وقد طعن فيه فقهاء الشيعة بأن ابن يعقوب بن شعيب لم يرو عن أبيه إلا هذا الحديث ولو كان له رواية لروى غيرها.

قال الشيخ الصدوق بعد ذكر الأخبار: «مذهب خواص الشيعة وأهل الاستبصار منهم في شهر رمضان أنه لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً، والأخبار في ذلك موافقة للكتاب ومخالفة للعامة فمن ذهب من ضعفة الشيعة إلى الأخبار التي وردت للتقية في أنه ينقص ويصيبه ما يصيب الشهور من النقصان والتمام اتُقي كما يُتّقى العامة ولا يكلم إلا بالتقية كائناً من كان إلا أن يكون مسترشداً فيرشد ويبين له فإن البدعة إنما تماث وتبطل بترك ذكرها ولا قوة إلا بالله»(1).

أقول: يظهر من لحن كلامه (قدس سره) شدة الجدال في هذه المسألة يومئذٍ حيث كان معاصره الشيخ محمد بن أحمد بن داود(2)

يتزعم الرأي المقابل وألف كتاباً في الردعلى جعفر بن محمد بن قولويه -ذكره النجاشي في كتبه- وأن شهر رمضان كبقية الشهور قد يكون 29 وقد يكون 30 يوماً وقد عدل إليه عدد من أهل القول الأول كتلميذه الشيخ المفيد وألّف رسالة في ذلك.

وجاء بعده تلميذه الشيخ الطوسي ليعلّق مفصلاً على هذه الأحاديث بنحو غير مسبوق ألّف منها رسالة مستقلة مما يظهر اهتمامه بالرد على القول

ص: 85


1- من لا يحضره الفقيه: 2/171، ذيل الحديث 2044، وفي الخصال: 531.
2- وصفه النجاشي بأنه «شيخ هذه الطائفة وعالمها وشيخ القميين في وقته وفقيههم، حكى أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله -وهو من تلامذته- أنه لم ير أحداً أحفظ منه ولا أفقه ولا أعرف بالحديث، ورد بغداد فأقام بها وحدّث، مات سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ودفن بمقابر قريش -أي الكاظمية-» وهي السنة التي توفي فيها أبو غالب الزراري وابن قولويه.

بالعدد فقال في ذيل حديث محمد بن أبي عمير في التهذيب: «وهذا الخبر لا يصح العمل به من وجوه،أحدها: إن متن هذا الحديث لا يوجد في شي من الأصول المصنفة وإنما هو موجود في الشواذ من الأخبار.

ومنها: أن كتاب حذيفة بن منصور رحمه الله عري منه والكتاب معروف مشهور، ولو كان هذا الحديث صحيحا عنه لضمنه كتابه.

ومنها: إن هذا الخبر مختلف الألفاظ مضطرب المعاني ألا ترى أن حذيفة تارة يرويه عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام، وتارة يرويه عن أبي عبد الله عليه السلام بلا واسطة، وتارة يفتي به من قبل نفسه فلا يسنده إلى أحد، وهذا الضرب من الاختلاف مما يضعف الاعتراض به والتعلق بمثله.

ومنها: أنه لو سلم من جميع ما ذكرناه لكان خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً، وأخبار الآحاد لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر القرآن والأخبار المتواترة، ولو كان هذا الخبر مما يوجب العلم لم يكن في مضمونه ما يوجب العمل على العدد دون الأهلة».

أقول: هذه الإشكالات يمكن دفعها:-

1- إنه ليس من عادة أصحاب المصنفات والأصول إيداع كل ما يروونه فيها فقد ينقلون شفاهاً ما لم يذكروه في أصولهم فالرواية المعروفة التي أوردها الشيخ الصدوق في إكمال الدين (وأما الحوادث الواقعة)(1)

نقلها بسند فيه الكليني عن إسحاق بن يعقوب وهي ليست موجودة في الكافي.

2- لا مانع من أن معاذاً يروي تارة لحذيفة وأخرى يفتي بما يرويه.

ثم حمل (قدس سره) الروايات على وجوه لا تخلو من بعد.

ص: 86


1- وسائل الشيعة: 27/140، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح9.

وقال (قدس سره) بعد أن أورد روايات التعليل: «وأيضاً فإن هذا الخبر يتضمن من التعليل ما يكشف عن أنه لم يثبت عن إمام هدى عليه السلام.

من ذلك أن قول الله عز وجل: «وَوَاعَدنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيلَةٍ» لا يوجب استمرار أمثال ذلك الشهر على الكمال في ذي القعدة، وليس اتفاق تمام ذي القعدة في أيام موسى عليه السلام موجبا تمامه في مستقبل الأوقات، ولا دالا على انه لم يزل كذلكفيما مضى، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل إضافة التعليل لتمام ذي القعدة أبداً بما تضمنه القرآن من تمامه حيناً إلى صادق عن الله تعالى، لا سيما وهو تعليل أيضاً لتمام شهر رمضان، وليس. بينهما نسبة بالذكر في التمام.

واختزال الستة الأيام من السنة لا يمنع من اتفاق النقصان في شهرين وثلاثة على التوالي، وتمام ثلاثة أشهر وأربعة متواليات، فكيف يصح التعليل بمعنى لا يوجبه عقل ولا عادة ولا لسان».

أقول: مضافاً إلى أن السنة القمرية قد تكون 355 يوماً في الكبيسة.

«وكذلك التعليل لكون شهر رمضان ثلاثين يوماً أبداً بكون الفرائض لا تكون ناقصة، لأن نقصان الشهر عن ثلاثين يوماً لا يوجب النقصان في فرض العمل فيه، وقد ثبت أن الله تعالى لم يتعبدنا بفعل الأيام ولا يصح تكليفنا فعل الزمان وإنما تعبدنا بالعمل في الأيام والفعل في الزمان فلا يكون إذا نقصان الزمان عن غيره بالإضافة نقصانا في العمل، ألا ترى أن من وجب عليه عمل في شهر معين فاداه في ذلك الشهر على ما حد له فيه من ابتدائه به من أوله وختمه إياه في آخره أنه يكون قد أكمل ما وجب عليه وإن كان الشهر ناقصاً عن الكمال، وأجمع المسلمون على أن المعتدة بالشهور إذا طلقها زوجها في أول شهر من الشهور فقضت ثلاثة أشهر فيها واحد على الكمال ثلاثون يوماً واثنان منها كل واحد منهما تسعة وعشرون يوما أنها تكون مؤدية لفرض الله تعالى عليها من العدة على كمال الفرض دون النقصان، ولا يكون نقصان الشهرين

ص: 87

متعديا إلى الفرض فيها على المرأة من العدة على ما ذكرناه، ولو أن أنساناً نذر لله تعالى صيام شهر يلي شهر قدومه من سفره أو برئه من مرضه، فاتفق كون الشهر الذي يلي ذلك تسعة وعشرين يوماً فصامه من أوله إلى آخره لكان مؤدياً إلى فرض الله تعالى فيه على الكمال ولم يكن نقصان الشهر مفيداً لنقصان الفرض الذي أداه فيه.

والاعتلال أيضاً في أن شهر رمضان لا يكون إلا ثلاثين يوماً بقوله تعالى: «وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ» يبطل ثبوته عن إمام هدى بما ذكرناه من كمال الفرض المؤدى فيما نقص من الشهر عن ثلاثين يوما، مع أن ظاهر القرآن يفيد بأن الأمر بتكميل العدة إنما يتوجه إلى معنى القضاء لما فات من الصيام حيث يقول الله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ» فأخبر تعالى أنه فرض على المسافر والمريض عند إفطارهما في الشهر القضاء له في أيام أخر ليكملوا بذلك عدة ما فاتهم من صيام الشهر الذي مضى، وليس في ذلك تحديد لما يقع عليه القضاء وإنما هو أمر بما يجب من قضاء الفائت كائناً ما كان، وهذه الجملة التي ذكرنا تدل على أن التعليل المذكور لتمام شهر رمضان ثلاثين يوما موضوع لا يصح عن الأئمة عليهم السلام»(1).

وقد ألّف عدد من أعلام الطائفة رسائل في الرد على هذا القول كالشيخ المفيد والكراجكي بعد عدولهما والسيد المرتضى والشيخ الطوسي، بل يظهر من بعض كلمات الصدوق نفسه رجوعه عن هذا القول أو أنه لا يريد منه الاعتماد عليه مطلقاً، قال في كتابه الأمالي -والمظنون أنه متأخر عن الخصال والفقيه-: «وصيام شهر رمضان فريضة وهو بالرؤية وليس بالرأي ولا بالتظني،

ص: 88


1- تهذيب الأحكام: ج4، ص 169-176.

ومن صام قبل الرؤية فهو مخالف لدين الإمامية»(1)،وصرح في المقنع أن شهر رمضان ينقص كغيره من الشهور، قال (قدس سره): «وقد يكون شهر رمضان تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، ويصيبه ما يصيب الشهور من النقصان والتمام»(2).

وقد أدّت هذه الجهود المكثفة إلى إنهاء هذا القول فذكر السيد ابن طاووس في كتابه الإقبال أن علماء الشيعة مجمعة في زمانه على أن شهر رمضان قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين وأنهم كانوا مختلفين من قبل(3).

واحتمل بعض من حضرنا بحثه الشريف أن هذه النهضة لرد القول بالعدد ترجع في بعض أسبابها إلى الانتقاد الذي وجهه العالم الفلكي المشهور يومئذٍ أبو الريحان البيروني قال (دام ظله الشريف): «وببالي أن أبا الريحان البيروني(4)

المعاصر لهم ذكر في الآثار الباقية: إن العجب من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ينقل عنهم أنهم قائلون بالعدد مع أنه مخالف لعلم الهيئة، والبيروني من أكابر علماء الهيئة وهو في بغداد ومعاصر لهم ويمكن أن يكون له تأثير في تبدل رأي علماء الشيعة»(5).

أقول: لا يظهر من كلمات المفنّدين لهذا القول أنهم تأثروا بمثل هذا، إلا أنه من المفيد فعلاً في التحقيقات دراسة بيئة النصوص والآراء الفقهية من النواحي العلمية والاجتماعية والسياسية وغيرها لمحاولة فهم وجه صدورها وتبنيها.

ص: 89


1- أمالي الصدوق: 496، المجلس 93.
2- المقنع: 183.
3- الإقبال، لابن طاووس: 1/33.
4- أبو الريحان البيروني محمد بن أحمد الخوارزمي (362-440 هج_) فيلسوف رياضي فلكي، من كتبه الكثيرة (الآثار الباقية عن القرون الخالية)، علت شهرته وارتفعت منزلته عند ملوك عصره وقد ترجمت بعض كتبه إلى اللغات العالمية (الأعلام للزركلي: 6/205).
5- محاضرة بتأريخ 23/ج1/1417.

ونتيجة البحث أنه يمكن إيراد عدة موانع من اعتماد هذه العلامة:-

1- الروايات الكثيرة التي بلغت حد الاستفاضة وجملة منها صحاح التي تنصّ على أن شهر رمضان كبقية الشهور يصيبه النقصان وأنهم إذا صاموا تسعة وعشرينيوماً فلا قضاء عليهم وقد أدّوا الفرض تاماً، إلا إذا شهد عدول على رؤيته قبل ذلك(1)،فلا تقوى روايات هذه العلامة على معارضتها فإنها ضعيفة الإسناد وفيها مضامين لا يناسب صدورها عن أهل البيت (عليهم السلام) بل وصفها المحدث الكاشاني في الوافي بأنها «مما يستشم منها رائحة الوضع»(2).

ومجرد مخالفتها لروايات العامة في إمكان نقصان شهر رمضان لا تكفي لترجيحها -كما بنى الشيخ الصدوق في الخصال وغيره وأقرّ بالتعارض غير واحد من الأعلام كالمحدث الكاشاني في الوافي وصاحب الحدائق(3)-

لعدم وجود مكافئه أصلاً حتى يحصل التعارض ومن ثم الترجيح، ولأن روايات قبول شهر رمضان النقصان تأبى الحمل على التقية ولموافقتها للكتاب بالاعتماد على الرؤية، مضافاً إلى وجود روايات في كتب الصحاح(4)

عند العامة تفيد بأن شهر رمضان لا ينقص أبداً والتزم به بعضهم وإن لم يكن مشهوراً.

ص: 90


1- وسائل الشيعة: 10/266، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5.
2- الوافي، للفيض الكاشاني: 11/146.
3- الحدائق الناضرة: 13/277، ومنه ننقل نصوص الوافي.
4- فقد روى البخاري بسنده عن أبي بكرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (شهران لا ينقصان شهرا عيد رمضان وذو الحجة) (صحيح البخاري: 676، ح1813 وروى مسلم بسنده عن أبي بكرة أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة) (صحيح مسلم: 1089/1822).

2- إن هذا القول يلغي الحاجة لرؤية الهلال فتصبح روايات الصوم للرؤية والإفطار للرؤية لغواً، وهو ممنوع، فيسقط القول لمعارضته تلك الروايات المستفيضة والتي عليها عمل المسلمين عامة بل إنه مخالف للكتاب الكريم في ذلك.

3- معارضته للروايات التي دلّت على أن الهلال إذا لم يثبت لأي شهر وجب إتمام عدة ذلك الشهر وورد بعضها في شعبان خاصة كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها (وإذا كانت علة فأتم شعبان ثلاثين)(1)

وتقدم عدد منها (صفحة 8) وفي معتبرة(2)

أبي علي بن راشد عن الإمام الهادي (عليه السلام) إمضاء الإمام لإكمال عدة شهر رمضان فلا يبقى لهذا القول معنى على هذه الروايات.وفي بعضها تطبيق عملي لإتمام عدة شعبان: فقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن أبي خالد الواسطي قال: (أتينا أبا جعفر (عليه السلام) في يوم يُشَكّ فيه من رمضان فإذا مائدته موضوعة وهو يأكل ونحن نريد أن نسأله، فقال: ادنوا للغداء، إذا كان مثل هذا اليوم ولم يَجِئكم فيه بينة رؤية فلا تصوموا)(3).

وعلى هذا القول لا يبقى موضوع ليوم الشك ولا لرواياته.

4- النقض عليه بما لو رؤي الهلال في نهاية اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان فإن مقتضى روايات الرؤية الإفطار ولو لم يعمل بها بناءً على القول

ص: 91


1- وسائل الشيعة: 10/290، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح11.
2- وسائل الشيعة: 10/281، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 9، ح1.
3- وسائل الشيعة: 10/298، أبواب أحكام شهر رمضان، باب16، ح1.

بأن شهر رمضان تام أبداً فإنه يخالف هذه الروايات المتواترة وإجماع المسلمين.

5- إن علماء الفلك ينفون هذا القول لأن حركة الشمس والقمر والأرض والتي توجب الدورة الشهرية للقمر وظهور الهلال لا تختلف في شهر رمضان عن غيره.

6- إن الشيخ الصدوق نفسه لم يبن فتاواه على هذا القول، فقد وافق الأصحاب في جملة من المسائل التي لا توافق القول بأن رمضان تام وشعبان ناقص دائماً فقد ذكر في باب «أن الصوم والإفطار للرؤية» إنه إذا أفطر يوم الشك ثم ظهر أنه من رمضان يقضيه(1)،والمفروض عنده أن شعبان ناقص دائماً فكيف جاز له إفطار يوم الشك، ووافق المشهور في حرمة صوم يوم الشك على أنه من رمضان والمفروض أنه منه بناءً على هذه القاعدة(2).

ويمكن الدفاع عن الشيخ الصدوق وإرجاع قوله إلى المشهور بأنه يريد الحث على صوم يوم الشك في الثلاثين من شعبان إذا تعذرت الرؤية لعلةٍ لكن بنية صحيحة لإحراز أول شهر رمضان، وهذا الحث له منشأ في الروايات كصحيحة هارون بن خارجة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عُدَّ شعبان تسعة وعشرين يوماً، فإذا كانت متغيمة فأصبح صائماً، وإن كانت مصحية وتبصّرت فلم تر شيئاً فأصبح مفطراً)(3)،وروى الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من صام يوم الشك فراراً بدينه فكأنما

ص: 92


1- من لا يحضره الفقيه: 2/76-78.
2- الحدائق الناضرة: 13/280، ونقل بعضها عن الوافي.
3- وسائل الشيعة: 10/256، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح14.

صام ألف يوم من أيام الآخرة غُرّاً زهراً لا تشاكل أيامالدنيا)(1).

وحمل صاحب الوافي كلام الشيخ الصدوق على هذا المعنى قال: «إنما تعتبر إذا تغيّمت السماء وتعذرت الرؤية» لتنسجم مع ما أورده من أخبار الرؤية، وأيّده صاحب الحدائق قال: «ومظهر الخلاف في هذه المسألة إنما هو في صورة تعذّر الرؤية وذلك فإن الصدوق مع تصلبه ومبالغته في العمل بأخبار الحساب قد صرّح بوجوب الصيام للرؤية وعقد لذلك باباً».

أقول: لكن يجب أن يكون صوم يوم الشك لا بنية شهر رمضان لعدم الدليل على ثبوته.

فالسؤال: إذن كيف يمكن فهم هذه الروايات على وجه صحيح؟

أقول: يمكن أن نذكر عدة وجوه:-

1- ما في الحدائق من حمل روايات العدد على التقية لكن لا بمعنى موافقة العامة لأن مشهورهم على خلاف ذلك وإنما بمعنى إلقاء الخلاف بين أتباع أهل البيت (عليهم السلام) حتى لا يعرفوا بأمر يجمعون عليه فيكون سبباً لتعرضهم للبلاء، وهذا ما أكّدته بعض الروايات كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) عندما أجاب ثلاثة من شيعته بأجوبة مختلفة فبيّن (عليه السلام) السبب قائلاً: (يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم)(2)

وسمع نفس الجواب من الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً.

ص: 93


1- المقنعة: 48، وسائل الشيعة: 10/300.
2- أصول الكافي: 1/65، باب اختلاف الحديث، ح8.

ولكن الخط العام يبقى معروفاً للمطلعين من الأتباع فتنفرز هذه الخطوط الطارئة التي عبروا عنها في بعض الروايات ب_(جراب النورة)، ولذا اعتبر إعراض الأصحاب إعراضاً تعبدياً عن الرواية مسقطاً لحجيتها لهذه النكتة.

2- حملها على أن شهر رمضان تام الفضل أبداً وإن كان 29 يوماً فلا يشعر أحد بحزازة إذا لم تكمل عدة الشهر، قال صاحب الوسائل: «ويمكن الحمل على أنه إذا كان تسعة وعشرين بحسب الرؤية فهو بحكم ما لو كان ثلاثين فلا ينقص شرفه ولا يجب قضاء يوم آخر»(1).أقول: هذا الوجه يصلح لتفسير وصف شهر رمضان بأنه (تام لا ينقص أبداً) دون وصفه بأنه ثلاثون يوماً دائماً فإنه لا يندفع به إلا على وجه يأتي إن شاء الله، كما أن هذا الوجه لا يشرح معنى كون شعبان ناقصاً أبداً.

3- وفيه أيضاً «ويحتمل الحمل على أنه لا يجوز أن يقال: إنه ناقص؛ لأن هذا لفظ ذمّ، بل هو كامل تام في الشرف والفضل، وكل شهر بالنسبة إليه ناقص» وأضاف بقلمه الشريف على نسخة الوسائل «نظير هذا ما روي عنهم (عليهم السلام) أنهم سُئلوا عن القرآن أخالق هو أم مخلوق؟ فقالوا: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله محدث ولا يخفى أن المحدث بمعنى المخلوق، لكن المخلوق صفة ذم لأنه ورد بمعنى المكذوب كما في قوله تعالى: «وَتَخلُقُونَ إِفكاً» (العنكبوت: 17) وقوله تعالى حكاية عن الكفار: «إنّ هذا إلا اختِلاقٌ» (ص:7)، فلم يطلقوا لفظاً له معنيان أحدهما يترتب عليه مفسدة ويوهم خلاف المقصود وله نظائر أخر تقدم بعضها في أبواب الدعاء والله أعلم».

ص: 94


1- وسائل الشيعة: 10/275، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5.

أقول: ربما كان الأمر كذلك أي أن اللفظ الصادر من المعصوم هو (تام لا ينقص) ففهم الرواة من معنى الناقص والتام عدد الأيام فأدخلوا في الروايات فهمهم للنص ونقلوها على هذا المعنى.

4- وقد يُفهم من لحن ردّ الإمام (عليه السلام) بقوله: (كذبوا) وجود حملة يومئذٍ للانتقاص من شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) من دسائس اليهود، وتشجيع حكام بني أمية وأن موسى (عليه السلام) أفضل منه لأنه أكمل العدة ثلاثين ليلة وأتمها بعشر بينما كان أكثر صيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) تسعة وعشرين يوماً فأجاب الإمام (عليه السلام) بأن صيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان تاماً دائماً ويعني أن فرضه تام على جميع الأحوال سواء كان الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين.

ويلاحظ في هذه الوجوه أنها ليست على نحو قضية مانعة الجمع لإمكان أن يكون الوجه مركباً منها جميعاً.

(الرابعة) العدد: ذهب المشهور إلى عدم الاعتبار بالعدد لإثبات أوائل الشهور القمرية، وباستقراء كلمات الأصحاب يتبين أن المراد بالعدد عدة معانٍ:-

1- اعتبار شعبان ناقصاً دائماً وشهر رمضان كاملاً دائماً وقد ناقشنا ذلك في العلامة السابقة.

2- اعتبار جميع الأشهر في السنة القمرية متعاقبة بين التمام والنقصان، قال في تمهيد القواعد: «أو عدُّ شهرٍ تاماً وشهر ناقصاً، عملاً بالظاهر من نقصان بعض الأشهر وتمام بعض(1)،وهو الأقوى»(2)،واتضح جوابه مما تقدم بأن

ص: 95


1- أخذه من المبسوط: 1/268، وقواعد الأحكام: 1/69، من محقق الكتاب.
2- سلسلة مؤلفات الشهيد الثاني: 2، تمهيد القواعد: 311، تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي، فرع خراسان.

وجودستة أشهر ناقصة ومثلها كاملة لا يعني تعاقبها والإشكال في السنة الكبيسة أكبر لوجود سبعة كاملة وخمسة ناقصة.

3-

«عدّ جميع الشهور ثلاثين ثلاثين»(1)

كما في جامع المقاصد قال الشيخ في المبسوط: «ومتى غمّت الشهور كلها عدوها ثلاثين ثلاثين، فإن مضت السنة كلها ولم يتحقق فيها هلال شهر واحد، ففي أصحابنا من قال: إنه يعد الشهور كلها ثلاثين»(2)

وهو معنى غريب ومخالف للواقع إلا أن يراد به أن العمل في الشهور على ذلك إذا لم تثبت الرؤية المعتبرة شرعاً أو يحصل قطع بالخلاف.

ولم يجد المحقق النراقي (قدس سره) مانعاً من قبول هذا المعنى فقد أجاب عن إشكال حاصله «إنا نعلم قطعاً عادياً أن جميع شهور السنة لا تكون تامة، فمع تغيّم الشهور كلها يُعلم قطعاً أن عد الكل ثلاثين مخالف للواقع» بقوله: «هذا إنما يرد لو كان العمل بالثلاثين للأصل والاستصحاب، فإنهما لا يجريان مع القطع المذكور، وأما لو كان لأجل الروايات فلا يرد ذلك، لأن مدلولها أن الشهر حينئذ ثلاثين، سواء كان الهلال قبله في الواقع أو لا، فيكون اعتبار الهلال مع إمكان رؤيته، وبدونه يكون الاعتبار بالثلاثين، وإن أمر بالقضاء لو ظهر الخطاء قبله فإنه إنما هو للأمر الجديد»(3).

أقول: حمل الروايات الآمرة بإكمال الثلاثين إذا غمّ الشهر على هذا المعنى بعيد ونقطع بأنها منصرفة عنه وإنها لم ترد لجعل أشهر تعبدية في قبال الأشهر الواقعية التكوينية، وعلى هذا القول فإننا سنجد أنفسنا بعد عدة أشهر أمام

ص: 96


1- جامع المقاصد: 3/93، مستند الشيعة: 10/405.
2- المبسوط: 1/268.
3- مستند الشيعة: 10/416.

شهر تعبدي يبدأ بعد رؤية الهلال بعدة أيام وهو مخالف للروايات المتواترة الصريحة، أما الأمر بالقضاء فهو لانكشاف فوات يوم من الشهر وليس أمراً جديداً.

4- يكون أول شهر رمضان من أي سنة هو اليوم الخامس من أول رمضان السنة الماضية.

5- عدّ رجب وشعبان تسعة وخمسين يوماً، فاليوم الستون من أول رجب هو أول شهر رمضان، واختصر إلى القول «رابع رجبكم يوم صومكم».

فالذي ينبغي النظر فيه المعنيان الأخيران:أولهما: إن أول شهر رمضان من كل سنة هو اليوم الخامس من شهر رمضان للسنة السابقة عليها، فإذا كان أول شهر رمضان الماضي يوم السبت فإن أول شهر رمضان للعام الحالي يوم الأربعاء، وحكي العمل بهذه العلامة عن ابن الجنيد ووردت فيه عدة روايات:-

1- ما رواه الشيخ الكليني بسنده عن محمد بن عثمان الخدري -وقرئ بعدة عناوين كلها ضعيفة- عن بعض مشايخه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (صم في العام المستقبل اليوم الخامس من يوم صمت فيه عام أول)(1).

2- في الكافي بسنده عن السياري قال: (كتب محمد بن الفرج إلى العسكري عليه السلام يسأله عما روي من الحساب في الصوم عن آبائك عليهم السلام في عد خمسة أيام بين أول السنة الماضية والسنة الثانية الذي يأتي، فكتب صحيح ولكن عد في كل أربع سنين خمساً، وفي السنة الخامسة ستاً فيما بين الأولى والحادث وما سوى ذلك فإنما هو خمسة خمسه. قال السياري: وهذه من جهة الكبيسة، قال: وقد حسبه أصحابنا فوجدوه صحيحاً، قال: وكتب

ص: 97


1- الأحاديث الخمسة تجدها في وسائل الشيعة: 10/283، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 10، ح1، ح2، ح3، ح4، ح8 على الترتيب.

إليه محمد بن الفرج في سنة ثمان وثلاثين ومائتين: هذا الحساب لا يتهيأ لكل إنسان أن يعمل عليه إنما هذا لمن يعرف السنين، ومن يعلم متى كانت سنة الكبيسة، ثم يصح له هلال شهر رمضان أول ليلة، فإذا صح الهلال لليلته وعرف السنين صح له ذلك، إن شاء الله).

3- في الكافي بأكثر من سند والشيخ الصدوق في المقنع عن عمران الزعفراني: (قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن السماء تطبق علينا بالعراق اليومين والثلاثة، فأي يوم نصوم؟ قال: انظروا اليوم الذي صمت من السنة الماضية وصم يوم الخامس).

4- مرسلة الشيخ الصدوق في الفقيه قال: (قال عليه السلام: إذا صمت شهر رمضان في العام الماضي في يوم معلوم فعد في العام المستقبل من ذلك اليوم خمسة أيام وصم يوم الخامس).

5- ما رواه السيد ابن طاووس في الإقبال نقلاً عن كتاب الحلال والحرام لإسحاق بن إبراهيم(1)

الثقفي الثقة عن أحمد بن عمران بن أبي ليلى عن عاصم بن حميد عنجعفر بن محمد (عليهما السلام) (قال: عدِّد اليوم الذي تصومون فيه وثلاثة أيام بعده وصوموا يوم الخامس فإنكم لن تخطئوا).

ونقل عدد من الأعلام إثبات ذلك بالتجربة «عن عجائب المخلوقات للقزويني: قد امتحنوا ذلك خمسين سنة فكان صحيحاً»(2).

ص: 98


1- نبّه الشيخ أغا بزرك الطهراني في كتاب (الذريعة: 7/361/323) والسيد الخوئي (الموسوعة: 22/109) أن مؤلف الكتاب هو أبو إسحاق بن إبراهيم بن محمد الثقفي كما في بعض نسخ الإقبال ولا وجود للاسم الذي ذكره صاحب الوسائل عن بعض نسخ الإقبال وتابعهم المحدث النوري عند توثيقه لإسحاق بن إبراهيم الثقفي بناءً على وصف السيد له بالثقة (خاتمة المستدرك: 7/147/132).
2- جواهر الكلام:16/376، مستند الشيعة: 10/415، مستمسك العروة الوثقى:9/468.

وجوّز الشيخ الطوسي العمل بهذه العلامة إذا غم الهلال في كل الشهور إذ لا يمكن استمرار العمل على إكمال العدة، قال (قدس سره) في المبسوط: «ويجوز عندي أن يعمل على هذه الرواية التي وردت بأنه يعدّ من السنة الماضية خمسة أيام ويصوم يوم الخامس لأن من المعلوم أنه لا يكون الشهور كلها تامة»(1).

وقال العلامة (قدس سره): «وقول الشيخ في المبسوط لا بأس به، فإن العادة قاضية بعدم كمال شهور السنة ثلاثين ثلاثين، فلا يجوز بناء المشتبه على ما يعلم انتفاؤه، وإنما يبنى على مجاري العادات، والعادة قاضية بتفاوت هذا العدد في شهور السنة»(2).

أقول: هذه العلامة تقتضيها طبيعة الشهور القمرية في الجملة والروايات تكون إخباراً عن هذه الحقيقة الخارجية وإرشاداً لها وليست علامة تعبدية تؤسسها الروايات حتى نبحث في حجيتها وهي ضعيفة سنداً ومضامينها تنافي في بعض تفاصيلها المعطيات العلمية الدقيقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن عدد الأيام الصحيحة في السنة القمرية العادية التي فيها ستة أشهر تامة وستة أشهر ناقصة هو (354) أي 50 أسبوعاً وأربعة أيام فبعد مرور خمسين أسبوعاً من أول شهر رمضان الماضي نعدّ أربعة أيام ويكون الخامس هو أول رمضان التالي.

لكن لما كان معدَّل الشهر القمري يزيد عن تسعة وعشرين يوماً ونصف يوم ب_(44 دقيقة و 2.8 ثانية) فإن هذا الحساب يختلّ لأن تراكم هذا الفرق لاثني عشر شهراً يؤدي إلى زيادة طول السنة عن (354) يوماً ب_(8 ساعات و 48 دقيقة وثواني) وقد حُوِّلت هذه الفروقات بالساعات والدقائق لتكون 11 يوماً (10 من الساعات وواحد من الدقائق) كل 30 سنة مع فرق ضئيل فيضاف يوم

ص: 99


1- المبسوط: 268.
2- مختلف الشيعة: 3/363 وفي التذكرة أيضاً.

إلى السنة العادية لتصبح كبيسة أي 355 يوماً وعددها 11 سنة كبيسة في كل 30 سنة تقويمية، وقد اصطلح منظمو التقاويم على أن يكون ترتيبها (2، 5، 7، 10، 13، 16، 18، 21، 24، 26، 29) فيضاف يوم إلى شهر ذي الحجة لأنه عندهم وكل الأشهر ذات التسلسل الزوجي في السنة 29 يوماً والأشهر الفردية (30) يوماً ابتداءً من شهر محرم ويكون رمضان 30 يوماً وهذه تسمى الدورة الهجرية الصغرى.أما الفروقات المتبقية من وجود الثواني فتسبب زيادة يوم كل 2580 سنة فيجعلون السنة الثلاثين من الدورة الصغرى كبيسة أيضاً وهذه هي الدورة الهجرية الكبرى وجعلوها كل 2520 سنة لأغراض حسابية والفرق المتبقي لا يظهر تأثيره إلا في عدة آلاف من السنين.

وفي ضوء هاتين الدورتين كانوا ينظمون التقاويم الهجرية المتداولة إلى حد قبل عشرات السنين وقد ذكرنا معلومات مفصلة في كتاب (الرياضيات للفقيه).

وذكرنا هناك أن معرفة السنة الكبيسة يكون بتقسيم رقم السنة على 30 فإن كان الباقي من تسلسلات الكبيسة المذكورة أعلاه فهي كذلك، وإلا فهي عادية، فهذه السنة 1439 ÷ 30 47 والباقي 29 فهي ضمن ترتيب السنوات الكبيسة.

وعلى أي حال فإن كانت السنة كبيسة فإن أول شهر رمضان هو اليوم السادس من شهر رمضان السابق وهذا المعنى ملتفت إليه من الزمان القديم وقد ورد في رواية محمد بن الفرج المتقدمة، ومنه يظهر عدم دقة كلام القزويني وغيره من صحة تجربة هذه العلامة خمسين عاماً فإنها لا تصح حتى في خمس سنين.

قال ابن الجنيد: «الحساب الذي يصام به يوم الخميس من اليوم الذي كان فيه الصيام وقع في السنة الماضية يصحّ إذا لم تكن السنة كبيسة، فإنه يكون

ص: 100

فيها في اليوم السادس، والكبيس في كل ثلاثين سنة أحد عشر يوماً مرة في السنة الثالثة، ومرة في الثانية»(1).

أقول: دقة المعلومة عن عدد السنين الكبيسة تدل على النبوغ المبكّر والإبداع لدى علماء المسلمين، لكن المشكلة تبقى في تمييز الأشهر التي تقع فيها الزيادة أي تكون تامة إذ يمكن تعاقب 3 أشهر تامة بل أربعة كحد أكثر، أما ما ذكره أهل الجداول من كيفية توزيع الشهور والزيادات فهي اصطلاحية وليس من الضروري مطابقتها للواقع فلا محيص عن اعتماد الرؤية.

إلفات: قال السيد الخوئي (قدس سره) عن رواية السياري أنها غير قابلة للتصديق «فإنّا لو فرضنا أنّ زيداً بلغ وكان أوّل رمضان ما بعد بلوغه يوم السبت، فبالنسبة إليه يعدّ إلى أربع سنين خمسة أيّام وبعده يعدّ ستة، وأمّا بالنسبة إلى شخص آخر بلغ بعد ذلك بسنة، فالسنة الخامسة للأول رابعة لهذا، كما أنّها ثالثة لمن بلغ بعده بسنتين وهكذا، وكذا الحال فيمن بلغ قبل ذلك، ولازمه اختلاف أوّل الشهر باختلاف الناس وعدم كونه منضبطاً، وهو كما ترى»(2).

أقول: لا أدري ما الذي دعاه (قدس سره) للبناء على أن مبدأ عدّ السنين هو البلوغ حتى رتّب إشكاله المذكور، فيظهر أنه (قدس سره) لم يطّلع على ما ذكرناه فيالملاحظة الآنفة من أن مبدأ السنين وتسلسل الكبيسة فيها معلوم ومثبَّت عند أهل الاصطلاح ومبني على تسلسل السنين كما تقدم ولا يختلف فيها الناس بحسب مبدأ بلوغهم، أما السنوات الكبيسة واقعاً فأصبح من الممكن معرفتها وفق الحسابات الفلكية المتطورة اليوم.

ص: 101


1- مختلف الشيعة: 3/363.
2- الموسوعة الكاملة: 22/109.

نعم يؤخذ على رواية السياري ضعف سندها وعدم دقة توزيع السني الكبيسة على السنوات العادية.

ونتيجة البحث في هذه العلامة أنها موافقة للحسابات الفلكية في الجملة ولكن لا يتيسر معرفتها بدقة إلا لذوي الخبرة في هذه الحسابات ولا يمكن أن تكون بديلاً عن الرؤية.

واحتمل صاحب الجواهر(1) أن ذيل رواية السياري «هذا الحساب... إلخ» من كلام الشيخ الكليني (قدس سره) وذكر أن هذه المعرفة على وجهها القطعي مختصة بأهل البيت (عليهم السلام).

فالأقوال في هذه العلامة عديدة:-

1- عدم اعتبارها نهائياً والتمسك بالطرق العلمية المعتبرة شرعاً وهو المشهور.

2- اعتبارها في غير السنة الكبيسة وهو المحكي عن ابن الجنيد.

3- اعتبارها إذا غمّت عدة شهور متتالية بحيث نقطع بعدم واقعية إكمال عدتها جميعاً فأقرب طريق للخروج من هذه المخالفة العمل بهذه العلامة وهو قول الشيخ في المبسوط ووافقه العلامة وحكي عن الشهيد الأول في الدروس والشهيد الثاني في الروضة.

4- على فرض صدور هذا المعنى عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فنفهمها على أنها علامة مفيدة للظن ويمكن اعتبارها منشأً للاحتياط بصوم يوم الشك خصوصاً إذا كانت في السماء علة فيبني عليها لإحراز صوم أول رمضان لذا وضعها بعض الأصحاب تحت عنوان صوم يوم الشك كفقه الرضا والمقنع، وهذا فهم حسن للروايات وتطبيق لحثّهم على عدم فوات صوم الأول من شهر رمضان لكن لا بنيّة الجزئية من شهر رمضان

ص: 102


1- جواهر الكلام: 16/377.

وإنما بالمصححات التي ذكرناها في العلامات الظنية الأخرى، ولا يصحّ أن تكون علامة في عرض الرؤية بل هي ترجع إلى الرؤية لأن أول شهر رمضان الماضي إنما ثبت بالرؤية ليبنى عليه.ثانيهما: عد تسعة وخمسين يوماً من أول رجب:

فيكون رابع رجب هو الأول من شهر رمضان، ولهم كلمة في ذلك «رابع رجبكم يوم صومكم ونحركم» فإذا كان أول رجب السبت فإن أول شهر رمضان الثلاثاء.

وهو قول مبني على كون رجب وشعبان أحدهما ثلاثون يوماً والآخر تسعة وعشرون وفق ما شرحناه في النقطة السابقة وقد ثبت بطلان الالتزام بهذا التعاقب في الأشهر، فربما تتعاقب ثلاثة أشهر تامة.

قال السيد الخوئي (قدس سره): «ولا مقتضي للالتزام بذلك عدا ما ورد في رواية واحدة رواها الشيخ الصدوق في كتاب فضائل شهر رمضان»(1)

بسند رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إذا صحّ هلال رجب فعُدَّ تسعة وخمسين يوماً وصم يوم الستين)(2)

وهي ضعيفة السند فلا يمكن الاعتماد عليها.

وينبغي الالتفات إلى أن الرواية ليست واحدة كما ذكر (قدس سره) ربما بلحاظ ما في هذا الباب من الوسائل فقد أوردها الشيخ الصدوق في الفقيه والمقنع والهداية أيضاً والكليني في الكافي والشيخ في التهذيبين والسيد ابن طاووس عن كتاب الصيام لعلي بن الحسن بن فضال بإسناده إلى أبي بصير.

ص: 103


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/110.
2- وسائل الشيعة: 10/285، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 10، ح5.

وروى الشيخ المفيد عن سعدان بن مسلم عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أهلَّ هلال رجب فعُدَّ تسعة وخمسين يوماً ثم صُم).

وفي نفس السياق روى الشيخ الكليني في الكافي بسند فيه ضعف عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (يوم الأضحى في اليوم الذي يصام فيه ويوم عاشوراء في اليوم الذي يفطر فيه)(1).

أقول: مضمون الرواية ملائم لحساب الجداول لأن شهري شوال وذي الحجة 29 يوماً وذا القعدة 30 فإذا أضيف إليها عشرة عاشوراء كان المجموع 98 وهو عدد قابل للقسمة على سبعة فتدور الأسابيع على يوم الفطر ليكون نفسه يوم عاشوراء، وحينئذٍلا وجه للاعتراض بأن الجزء الثاني ليس كذلك لأن شهر ذي الحجة وشوال ناقصان ووجهوه بأن يحمل على السنة الكبيسة كما حكي عن هامش الوافي وشرح اللمعة ومرآة العقول للمجلسي والرد عليهم(2)

بأنه حمل بعيد على غير المتعارف.

وعلى أي حال فهذا القول لا دليل معتبر عليه، بل الدليل على خلافه؛ لأن الاعتماد في القرآن والسنة على الرؤية وحتى هذا القول يبني على صحة الرؤية في رجب فهو إذن يرجع إلى الرؤية.

نعم، يمكن الاستفادة منها للاحتياط في صوم يوم الشك إذا غمّ هلال شهر رمضان وقد ورد الحث على مثله كما قلنا سابقاً، وحكي العمل بذلك عن ابن أبي عقيل قال: «قد جاءت الآثار عنهم عليهم السلام أن (صوموا رمضان

ص: 104


1- تجد هذه الروايات في جامع أحاديث الشيعة: 10/321، أبواب فرض الصوم وفضله، باب 10.
2- السيد السيستاني: محاضرة بتأريخ 6/ج2/1417.

للرؤية وأفطروا للرؤية، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة من رجب تسعة وخمسين يوماً، ثم الصيام من الغد) »(1).

وقال الشيخ في المبسوط: «لا يجوز العمل في الصوم على العدد ولا على الجدول ولا غيره، وقد رويت روايات بأنه إذا تحقق هلال العام الماضي، عَدَّ خمسة أيام، وصام يوم الخامس، أو تحقق هلال رجب، عدّ تسعة وخمسين وصام يوم الستين، وذلك محمول على أنه يصوم ذلك استظهاراً، فأما بنيّة أنه من رمضان فلا يجوز على حال»(2)

قال العلامة: «وقول الشيخ لا بأس به»(3).

وتوجد علامات ظنية أخرى ذكرها الأصحاب ووردت فيها روايات لا يزيد البحث فيها عما ذكرناه فلا حاجة للإطالة.

ولكننا نتعرض لعدة مسائل لها ارتباط بالبحث:

ص: 105


1- مختلف الشيعة: 3/364، المسألة (92).
2- المبسوط: 1/268.
3- مختلف الشيعة: 3/363.

المسألة الأولى: حكم رؤية الهلال بالعين المسلحة

اشارة

يمكن الإفادة من معطيات الأجهزة الحديثة للرصد الفلكي والتلسكوبات في رؤية الهلال إذا حصل الوثوق بها، ولا ينافي ذلك ما ورد من النهي عن العمل بقول المنجمين وعدم اعتباره والنهي عن تعلّم علم النجوم، ونسبه الشيخ (قدس سره) في الخلاف إلى الفقهاء أجمع(1)،ووجه عدم المنافاة أن النهي فيها موجه إلى أحد أمور:-

أ- الاعتقاد بأن الكواكب والنجوم هي المدبرة للأمور والمؤثرة في الأحداث على نحو الاستقلال عن إرادة الله تبارك وتعالى، أما الاعتقاد بتأثيرها في جملة من الظواهر الكونية فمما لا إشكال فيه كبقية الأسباب المؤثرة وورد في رواية(2)

عن الإمام الصادق (عليه السلام) وصف الملائكة الأربعة (جبرائيل، ميكائيل، إسرافيل، ملك الموت) بالمدبّرات ولكن بأمر الله تعالى وتدبيره.

ب- اتخاذ التنجيم وسيلة للخداع والشعوذة والإيهام بإيجاد الأسباب للتأثير في الحوادث الكونية والإخبار بالغيب وعما سيحصل في المستقبل من أحداث.

ج_- الاعتماد على أخبار المنجّمين في قضية الهلال لأنها تفيد الظن ولا يحصل منها العلم والاطمئنان لأنها مبنية على الحدس والتخمين وقد نهت الروايات الكثيرة المعتبرة عن العمل بالظن في إثبات الهلال.

وما سوى ذلك فلا مانع من تعلم علم الفلك والنجوم للتعرف على حركة الأفلاك وتأثيراتها علينا والاستفادة منها ولا يخلو قوله تعالى: «وَعَلامَاتٍ

ص: 106


1- الخلاف: 2/169، المسألة (8).
2- عيون أخبار الرضا: 1/5.

وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» (النحل: 16) من حثٍّ على الالتفات إلى هذه النعمة والتعرف عليها وفي الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما نهاه بعض المنجّمين عن المسير لحرب الخوارج قال: (إياكم وتعلّم النجوم إلا ما يهتدى به في بحر أو برّ، فإنها تدعو إلى الكهانة والمنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار)(1)

وفي خبر يونس قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك أخبرني عن علم النجوم ما هو؟ قال: هو علم من علم الأنبياء، قال: قلت: كان علي بن أبي طالب يعلمه؟ فقال(عليه السلام): كان أعلم الناس به)(2)،وقد برع جملة من علماء الإمامية في هذا المجال كالخواجة نصير الدين الطوسي الذي أسس مرصداً فلكياً ضخماً في مراغة وقد كانت للإحصائيات الفلكية التي جمعها دور كبير في تقدم علم الفلك في أوربا.

فلا مانع إذن من الاستفادة من علم الفلك أو الهيئة في المواضيع الشرعية المرتبطة به ولعل في جواب الإمام (عليه السلام) على ما في مكاتبة أبي عمر من إخبار الحسّاب عن رؤية الهلال في مصر والأندلس (لا تصومنَّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته)(3)

إشارة إلى أن من أتقن علم الفلك وحصل الاطمئنان بنتائجه فلا مانع من الاستفادة منه.

وقد تطور علم الفلك اليوم في حساباته واكتشافاته وفي الأجهزة المستعملة بشكل رائع ودقيق وأصبح من الممكن معرفة أوقات وقوع الكسوف والخسوف وولادة الهلال وإمكانية رؤيته بشكل دقيق يحصل منه العلم والاطمئنان بنتائجه فلا يكون مشمولاً بأدلة النهي.

ص: 107


1- نهج البلاغة، الخطبة: 79.
2- بحار الأنوار: 58/235، أبواب السماء والعالم، باب 10، ح11. نقلاً عن كتاب فرج المهموم في علم النجوم: 23، نقلاً عن يونس بن عبد الرحمن في جامعه الصغير.
3- وسائل الشيعة: 10/297، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 15، ح1.

ويمكن ذكر عدة حالات للإفادة من نتائج الرصد الفلكي بالأجهزة الحديثة، منها:-

1- إذا ثبت بها أن القمر لا زال في المحاق ولم يخرج عن خط الاقتران وحينئذٍ يكون هذا العلم ناقضاً لكل دعوى للرؤية بل إنه يوفّر الجهد قبل ذلك لعدم إمكان رؤية الهلال.

2- إذا ثبت بها أن القمر خرج من تحت المحاق إلا أنه لم يكتسب مقداراً من النور يجعله قابلاً للرؤية بأحد أشكالها التي سنذكرها إن شاء الله فيكون حكم هذه الحالة كسابقتها؛ لأن عنوان الهلال لا يصدق على مجرد الخروج من المحاق.

3- أن يثبت بها أن الهلال قابل للرؤية بالعين المجردة الطبيعية لو نظرت إليه وتحرّته ولا يوجد مانع من رؤيته فيقدّم المعلومات للناظرين ليسهِّل عليهم أمر الرؤية ويحدِّد موضع تفحّصهم وبحثهم عن الهلال، وقد نستغني عن الرؤية إذا حصل القطع بهذه القابلية للرؤية الطبيعية، إذ أن بداية الشهر تتحقق بوصول نور الهلال إلى هذه الدرجة وكون الظروف مناسبة لرؤيته وليس المهم أن يرى فعلاً كما لو حجبه غيم أو لم يهتم الناس برؤية الهلال لذا وجب القضاء إذا ثبت لاحقاً أنه كان ممكن الرؤية في الليلة السابقة أو أنه رؤي في بلد آخر.

4- أن تتمكن هذه الأجهزة من رؤية الهلال بها خاصة دون العين المجردة، فهل تكفي هذه الرؤية لإثبات أول الشهر أم لا؟ وهذا هو محل البحث هنا.

وهي من مستحدثات المسائل التي ظهرت في العقود الأخيرة؛ لذا فدعوى البعض الشهرة لا موضوع لها إلا أن يراد بها غير المصطلح، وقد اختلف الأعلام المعاصرون في المسألة فذهب الأكثر إلى عدم كفاية الرؤية بالعين المسلحة كالسيدالخوئي والسيد الخميني والسيدين الشهيدين الصدرين (قدس الله أسرارهم جميعاً) وذهب عدد من تلاميذهم إلى كفايتها.

ص: 108

قال السيد الخوئي (قدس سره) عن ولادة الهلال وبدء اكتسابه النور أنه «تدريجي الحصول لا محالة، فلا يحدث المقدار المعتدّ به القابل للرؤية ابتداءً، بل شيئاً فشيئاً، غير أنّه لشدّة صغره غير قابل للرؤية.

ولكن هذا الوجود الواقعي لا أثر له في تكوّن الهلال وإن علمنا بتحقّقه علماً قطعيّاً حسب قواعد الفلك وضوابط علم النجوم، إذ العبرة حسب النصوص المتقدّمة بالرؤية وشهادة الشاهدين بها شهادةً حسّيّةً عن باصرة عادية لا عن صناعة علميّة أو كشفه عن علوّه وارتفاعه في الليلة الآتية.

ومنه تعرف أنّه لا عبرة بالرؤية بالعين المسلّحة المستندة إلى المكبّرات المستحدثة والنظّارات القويّة كالتّلسكوب ونحوه. من غير أن يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة والنظر العادي.

نعم، لا بأس بتعيين المحلّ بها ثمّ النظر بالعين المجرّدة، فإذا كان قابلا للرؤية ولو بالاستعانة من تلك الآلات في تحقيق المقدّمات كفى وثبت به الهلال كما هو واضح»(1).

وقال السيد الخميني (قدس سره): «لا اعتبار برؤية الهلال بالآلات المستحدثة، فلو رئي ببعض الآلات المكبرة أو المقربة نحو تلسكوب مثلاً، ولم يكن الهلال قابلاً للرؤية بلا آلة لم يحكم بأول الشهر، فالميزان هو الرؤية بالبصر من دون آلة مقربة أو مكبّرة»(2).

وقال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): «ولا وزن للرؤية المجهرية وبالأدوات العلمية المكبرة، وإنما المقياس إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة، وتلك الوسائل العلمية يحسن استخدامها كعامل مساعد على الرؤية

ص: 109


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/123.
2- تحرير الوسيلة: 2/638، مسألة (18).

المجردة وممهد لتركيزها»(1)،وتبعه على ذلك تلميذه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وخالفه عدد من تلامذته(2).ويتوقف البحث في المسألة بشكل كبير على تنقيح موضوعين: هما الرؤية والهلال الذي جعل موضوعاً لدخول الشهر الجديد، إذ أن الفريقين متفقون على أمرين يرتبط أولهما بموضوع الهلال وثانيهما برؤيته:-

1- عدم كفاية مجرد خروج القمر من المحاق لدخول الشهر لعدم صدق الهلال عليه حينئذٍ ما لم يكتسب شيئاً من النور يجعله قابلاً للرؤية في الجملة ويصدق عليه أنه هلال، وقد قيل أن أقل مدة لاكتساب نور يمكن أن يشاهد بأجهزة الرصد تقرب من الساعتين، خلافاً لبعض حكومات الدول الإسلامية التي تعتبر مجرد الخروج من القمر(3)

إعلاناً عن دخول الشهر الجديد (مثل ليبيا) وهو قول لا يقبل به الفقهاء ولا الفلكيون، وأخرى تكتفي بمكث الهلال ولو دقيقة واحدة بعد غروب شمس يوم 29 (مثل تونس)(4).

ص: 110


1- الفتاوى الواضحة، كتاب الصوم، الفقرة (65).
2- كالسيد كاظم الحائري في تعليقته على الفتاوى الواضحة والسيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 31، ص 62-65.
3- كان المرحوم السيد فضل الله يبني على هذا باعتبار أن الشهر ظاهرة كونية وليس للرؤية دخل في موضوع وجوب الصوم الذي هو تحقق الشهر، فإذا تحقق كونياً بخروج القمر من تحت الشعاع فقد تحقق الشهر ووجب الصوم، ولكنه عدل فيما بعد عن هذا الرأي واستظهر شرطية الرؤية في النصوص الشرعية ولكنه لم يقتصر على الرؤية الفعلية فاكتفى بحصول العلم بوجود الهلال على نحو قابل للرؤية مطلقاً حتى بالعين المسلحة (ثبوت الهلال طبقاً لقول الفلكي، السيد محمد الحسيني: 60 عن المسائل الفقهية: 2/202 وفقه الحياة: 257).
4- مجلة فقه أهل البيت، العدد 74، ص 38.

2- لا بد من صدق رؤية الهلال لأن الأثر الشرعي يترتب عليها، فلو أمكن ضبط القمر وتحسس نوره بمجرد خروجه من المحاق على نحو لا تصدق معه الرؤية لم يثبت بها دخول الشهر مثلاً «إن من جملة الوسائل المستخدمة في الاستطلاعات النجومية والفلكية الكاميرات المعروفة (CCD) إذ زودت هذه الكاميرات برقيقة كومبيوترية حساسة تجاه النور، وبوصل هذه الكاميرات بالمرصد الفلكي يشرق النور -على فرض وجوده- بعد مدة وجيزة على الرقيقة الكومبيوترية فتعمل كما تعمل الكاميرات العادية، ثم بعد إيصالها بالكومبيوتر، وتكرير قراءة المعلومات المسجلة على الرقيقة الكومبيوترية تظهر صورة الجسم المضيء من خلال الكومبيوتر على صفحته العاكسة، فإذا فرض أن استخدام هذه الآلة يتيح رؤية صورة الهلال على صفحة الكومبيوتر بتقوية درجة النور حتى في صورة تميّز نور الهلال عن نور السماء بأدنى درجة من القوة فإن الشهر لا يثبت به لعدم صدق عنوان الرؤية على ذلك»(1).بل إن أكثر الكاميرات في الهواتف النقالة تمتلك اليوم إمكانية تسجيل البيانات على رقائق رقمية إلكترونية وإمكانية القدرة على معالجتها فورياً بزيادة التباين(2)

بين الألوان لتتميز الأجسام المتقاربة في الإضاءة أو زيادة إضاءتها، ويعمل بعضها بشكل فوري بحيث تستعمل للرؤية الليلية أو خلال الغبار.

ص: 111


1- مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام): العدد 31، ص 89.
2- وأفاد بعض المطّلعين أن العين البشرية تمتلك قدرة تمييز محدودة للإضاءة والتباين والحجم، فلا ترى ما هو أقل منها، فإذا كان الهلال موجوداً ولكن الأفق الغربي مضيء بدرجة مقاربة لإضاءة الهلال فيصعب على العين عندها تمييز ضوء الهلال عما حوله ويمكن زيادة التباين إلكترونياً ببرامج معالجة الصور ورفع إضاءة الهلال وخفض إضاءة حوله لكي يتميز للعين البشرية ويسمى ذلك بزيادة التباين (Contrast)، كما يمكن معها زيادة وهاجية الإضاءة إلكترونياً أو تكبيرها عبر برامجيات معالجة الصور الرقمية التي يمكن أن تشتغل فورياً مع التصور في الكاميرات الحديثة.

أقول: لما كان تنقيح هذين العنوانين داخلاً في الاستدلال على المسألة فلنتركه إلى التفاصيل بإذن الله تعالى.

أدلة كفاية رؤية الهلال بالعين المسلحة:

الأول: إن عنوان الرؤية الذي جعل موضوعاً لوجوب الصوم والإفطار مطلق يشمل الرؤية بالعين المسلحة كما يشمل العين المجردة العادية فكلاهما رؤية، ومجرد كون الرؤية بالأجهزة المقربة ليست غالبة ولا متعارفة بين الناس لا يمنع من شمولها بالإطلاق كما هو معلوم لأن الانصراف إلى الفرد الغالب لا يقيد الإطلاق، خصوصاً وأن الرؤية طريق محض لحصول العلم بوجود الهلال في الأفق وليس لها جهة موضوعية(1).

وأجيب هذا الوجه بعد التسليم بأن الانصراف إلى الأفراد الغالبة لا يقيد الإطلاق، لذا قال الفقهاء مثلاً في من خرج وجهه عن الحدود المتعارفة فإنه يجب عليه غسله من قصاص الشعر إلى الذقن طولاً لصدق اسم الوجه عليه(2).

وإن الرؤية لها حيثية طريقية لثبوت الهلال لذا لو أخبر الإمام (عليه السلام) بعلمه أن الهلال موجود وراء الغيم ولولا المانع لرآه الناس أو أخبرت أجهزة الرصد الفلكي الدقيقة على نحو القطع بذلك فإن أول الشهر يثبت.

1- إنكار صدق الرؤية على الرؤية بالعين المسلحة إلا بمؤونة لذا لا يمكن إطلاق لفظ الرؤية عليها إلا مقروناً بقيد العين المسلحة نظير عدم صدق لفظ الماء

ص: 112


1- راجع مثلاً مقال السيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت عدد 31، ص64.
2- راجع مثلاً: جواهر الكلام: 2/147.

بقول مطلق على الماء المضاف إلا بإضافته إلى مصدره كماء الرمان أو الورد أو نحو ذلك.وهذا شاهد على عدم صدق لفظ الرؤية حقيقة على العين المسلحة إلا بعناية.

ويشهد لذلك أيضاً أن المصادر الفقهية والفلكية تصف الخسوف الذي يحصل في النهار حتى ينجلي بأنه «غير مرئي» مع أن التلسكوبات ترصده وتراه.

وبتعبير آخر: إن اللفظ إذا أطلق فإنه ينصرف إلى المعنى المتعارف، أي أن المعنى المتعارف -وليس الفرد المتعارف- يصلح لتقييد المطلق، فلو ورد لفظ الصلاة في نص شرعي فإنه يحمل على المعنى المخصوص في الشريعة لا المعنى اللغوي وهو الدعاء، وهنا يقال إن المعنى المتعارف للرؤية الحسية هو بالعين الطبيعية فتحمل الرؤية في الأدلة الشرعية عليها كما في غيرها من الموارد، ولا تشمل الرؤية بالعين المسلحة.

وبتعبير مختصر إن (ال_) عهدية للإشارة إلى الرؤية البصرية خاصة وليست جنسية لمطلق الرؤية بمصاديقها الواسعة، فلو سلّمنا بشمول لفظ الرؤية للعين المسلحة لغة فإنه لا يشمله شرعاً وعرفاً فلا يحمل عليه.

2- ولو تنزّلنا وسلّمنا شمول لفظ الرؤية بإطلاقها للرؤية بالعين المسلحة، وأن الرؤية طريق لحصول العلم بالهلال، إلا أننا نقول: إن الهلال الذي جعل موضوعاً للأحكام الشرعية ليس كل هلال وعلى أي نحو يُرى، بل الهلال الذي يمكن أن تراه العين العادية.

قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: «المستفاد من قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» والروايات المفسرة لها أن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت للناس كما كان ميقاتاً عند العرب قبل الإسلام فاتخذوه علامة على بداية الشهور واعتمدوا عليه في توقيت شؤون

ص: 113

حياتهم، والمجعول كذلك لا يمكن أن تكون وسيلته منحصرة ببعض الأفراد أو تخترع بعد ألف سنة وإنما لا بد أن يكون الهلال بحد قابل لرؤية عامة الناس؛ لأنه لهم جميعاً فلا عبرة بالعين المسلحة ولا ما بحكمها»(1).

أقول: ظاهر الفقرة الأخيرة أن الهلال مشروط بأن يراه عامة الناس وهو معنى لا يتحقق حتى على القول باشتراط الرؤية بالعين المجردة فإن عدداً محدوداً من الناس هم الذين يستطيعون رؤيته لقوة بصرهم ولمعرفتهم بوضع الهلال، ولا يراه الناس عامة، وحينئذٍ يقول الفريق الآخر بأنه ينتفي المانع من قبول الرؤية بالعين المسلحة حيث إن عدداً محدوداً يراه بها وهم العارفون باستعمال الأجهزة الفلكية فكلاهما تصدق عليه رؤية الهلال ويصير ميقاتاً للناس.

والصحيح في مراده أن يقال إن ظاهر الآيات والروايات أن رؤية الهلال وإن أخذت طريقاً لتحصيل العلم بوجوده إلا أن وجوده لم يؤخذ على أي حال حتى الذي لايرى إلا بالعين المسلحة وإنما على نحو يراه الناس(2)

بعيونهم الطبيعية، ولذا قال في موصع آخر: «فبهذه القرينة لا بد من البناء على أن الرؤية المذكورة في النصوص إنما أخذت طريقاً إلى ظهور الهلال على الأفق بحجم

ص: 114


1- السيد السيستاني: محاضرة بتأريخ 25/ ذ. ح./ 1416.
2- فائدة أصولية: يصلح المورد مثالاً على أن متعلق الموضوع -وهي الرؤية هنا- يصلح قرينة على تقييد الموضوع- وهو الهلال- فهنا الرؤية المتعارفة قيدت إطلاق الهلال بحصة منه، وبتعبير آخر: إن المراد الاستعمالي هنا للهلال وإن كان مطلقاً في الروايات إلا أن ظهور الرؤية في العين الطبيعية قيّدت المراد الجدّي من الهلال بما تراه العين الطبيعية خاصة.

وبارتفاع مناسبين لأن يرى بالعين المتعارفة غير المسلحة لولا الموانع الخارجية من سحاب ونحوه»(1).

ومنه يُعلم النظر في جعل منشأ الخلاف في المسألة هو كون الرؤية على نحو الطريقية لحصول العلم أو الموضوعية فعلى الأول تكفي الرؤية المسلحة لأنها محصلة للعلم، وعلى الثاني لا تكفي لعدم تحقق الشرط، إذ يمكن تصوير النزاع على كلا القولين، فعلى الطريقية يقال أن الرؤية طريق لمطلق الهلال أم لخصوص ما تراه العين المجردة، وعلى الموضوعية يقال: إن الموضوع مطلق الرؤية أو الرؤية بالعين المجردة.

ويمكن أن يشهد لهذا ما ذكره أصحاب المعاجم اللغوية من أن هذا المعنى أخذ في وضع لفظ الهلال فإنه «سمّي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه وأهلَّ الرجل إذا رفع صوته»(2)،وقال الخليل: «الهلال غرة القمر حين يهلّه الناس في غرّة الشهر»(3).

قال أحد الأعلام المعاصرين: «إن المستفاد من الأدلة أن طريقية الرؤية ليست لوجود الهلال في السماء حتى تقوم مقامه الأدوات المقرّبة لكشفها عن وجود الهلال في السماء، بل هي طريق لإمكان الرؤية لمن يعيش في الأرض، حضرياً كان أو بدوياً، عالماً كان أو غير عالم لأنه سبحانه جعل الهلال مواقيت للناس، أي لسكان الأرض، بما لهم من عيش طبيعي وأدوات طبيعية، ولم يجعل الهلال بما هو في السماء، وإن كان مستوراً عن الأعين، وكلما كرّروا النظر لم يروا شيئاً في السماء»(4).

ص: 115


1- السيد السيستاني، رسالة حول رؤية الهلال: 40.
2- تهذيب اللغة: 6/366.
3- كتاب العين: 3/1896.
4- الشيخ جعفر السبحاني: مجلة الاجتهاد والتجديد، العددان 38-39، ص222.

الثاني: إن «تكوّن الهلال أمر تكويني واقعي لا شأن للرؤية في ثبوته إلا كونها طريقاً إلى واقع الهلال وأول الشهر واقعاً، فإذا ثبت الواقع بطريق آخر كالعين المسلحة تثبت الحادثة التكوينية ويترتب عليه الحكم لتحقق موضوعه حينئذٍ»(1).

أقول: يعلم وجه النظر في هذا الوجه مما تقدم إذ الحكم يترتب على الهلال الذي يراه الناس لا واقعه التكويني مضافاً إلى ما ذكرناه من عدم صدق الهلال عرفاً إلا بعد اكتسابه لمقدار من النور يجعله قابلاً للرؤية عند الناس.

الثالث: إن القائل بثبوته بالعين المجردة خاصة لا يمانع من ثبوت الهلال برؤيته من خلال النظارات الطبية فهي رؤية من خلال الأدوات ويمكن تعميمها إلى الآلات المقرّبة والمكبّرة.

وجوابه: أن قياس الرؤية بالعين المسلحة على الرؤية بالنظارات الطبية فهو مع الفارق لأن العين المسلحة تجعل الرؤية الطبيعية العادية غير ذلك، أما النظارات الطبية فتجعل الرؤية غير الطبيعية طبيعية بإعادة العين إلى وضعها الطبيعي، والعبرة بالرؤية الاعتيادية.

وبتعبير آخر إن رؤية الهلال بالنظارات الطبية يكشف عن قابلية رؤية الهلال بالعين المجردة الطبيعية وهذا هو المناط في ثبوت الهلال، فلا ينقض على هذا المبنى بأن الرؤيتين بالآلة فلماذا تقبل الرؤية بالنظارات الطبية دون العين المسلحة.

نعم هذه الرؤية والشهادة تكفي في الموارد التي تكون فيها طريقاً صرفاً لحصول العلم كما لو رأى شخص حادثة قتل بالآلة المكبّرة وكان ثقة بصيراً.

ص: 116


1- حكاه في حلقات الفقه الفعّال، الشيخ علي أكبر سيفي المازندراني: 2/170.

الرابع: استفادة ذلك من بعض الروايات كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عمن يرى هلال شهر رمضان وحده ولا يبصره غيره، أله أن يصوم؟ فقال: إذا لم يشك فيه فليصم وحده، وإلا يصوم مع الناس إذا صاموا)(1)

وفي رواية أخرى ظاهرها السؤال عن هلال شهر شوال والجواب واحد من هذه الناحية.

وتقريب الاستدلال أن «التعبير بقوله: (يبصره وحده ولا يبصره غيره) ظاهر في انفراده بالإبصار بحيث إن غيره لا يبصر لا أنه لم يبصر، فيدل ولو بإطلاقه على أنه حتى مع عدم إمكان إبصار غيره من الناس -كما إذا كانت عينه غير متعارفة فيالإبصار- أيضاً حكمه ذلك، فلا وجه لاشتراط الإبصار بالرؤية بالعين المتعارفة أو العادية. والله الهادي للصواب»(2).

أقول: مع إيماننا بأن الله تعالى هو الهادي للصواب، فإنه يرد على هذا الاستدلال:-

1- إن الأقرب في ظهور الرواية أنه يريد معنى (لم يبصره غيره) من قوله: (لا يبصره غيره) أي انفراد هذا الشخص برؤية الهلال دون غيره أما لخبرته في موقع الهلال أو مصادفة فرجة في الغيم لم يستفد منها غيره أو لكونه في خارج المدينة أو على مرتفع أو أي سبب آخر، أما ما ذكره من الظهور فهو بعيد عادة، أي ليس معروفاً وجود بصر ليس له نظير في الخلق فلا تحمل عليه الرواية.

والتفريق الذي ذكره بين اللفظين وإن كان صحيحاً لغةً إلا أننا نحتمل أنه غير ملتفت إليه في كلام السائل مضافاً إلى أن استعمال أحدهما محل الآخر

ص: 117


1- وسائل الشيعة: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 4، ح2.
2- مجلة فقه أهل البيت: السيد محمود الهاشمي، العدد 31، ص 65.

وارد، ومن طريف الشواهد على ذلك قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» (محمد:15) أي لا يتغير طعمه.

2- إن السائل ليس ناظراً إلى هذه الجهة لأن سؤاله كان عن حكم من انفرد بالرؤية دون غيره فهل يثبت الشهر في حقه أم عليه أن يصوم ويفطر مع الناس لأنه إذا رأته عين رأته ألف عين ونحو ذلك من التعابير كما هو مفاد بعض الروايات وعليه عدد من علماء العامة واشترط بعضهم أن يكون الصوم والفطر مع الإمام فأجابه الإمام (عليه السلام) بأن رؤيته حجة عليه إذا كان قاطعاً بها.

فلا إطلاق للفظ (لا يبصره غيره) حتى يشمل الرؤية بالآلات المكبرة والمقربة لأن المتكلم ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

3- ولو تنزّلنا وفرضنا أن الرواية دالة على تميّز الرائي بحدّة البصر على نحو غير متعارف فإنه يبقى ضمن رؤية الهلال بالعين المجردة وإن كانت غير متعارفة ولا يصح تجريد المورد عن الخصوصية إلى الرؤية بالعين المسلحة بل يمكن القول أن الصحيحة أجنبية عن الاستدلال بناءً على النقض الثاني الآتي إن شاء الله.

والنتيجة عدم تمامية ما ذكر من الاستدلال على كفاية رؤية الهلال بالعين المسلحة.

أدلة اشتراط الرؤية بالعين المجردة:

الأول: إن الروايات علّقت الصوم والإفطار على الرؤية كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية)(1).

ص: 118


1- وسائل الشيعة: 10/252، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح2.

وإذا أطلقت الرؤية فإنها تنصرف إلى الرؤية المتعارفة بالعين الطبيعية؛ لأن الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع أبواب الفقه إلى الأفراد المتعارفة.

وأجيب:-

1- بأن منشأ الانصراف في المقام هو غلبة الأفراد في الخارج وهو لا يصلح للتقييد ولا يمنع من شمول الإطلاق للرؤية بالعين المسلحة فإنها رؤية حقيقية، كما أن ألفاظاً عديدة كان لها انصراف إلى أفراد معروفة في زمن صدور النص لكنها تشمل أفراداً جديدة لم تكن معروفة كشمول السراج للأضوية الكهربائية، وشمول السلاح للدبابات والصواريخ مثلاً وغير ذلك.

أقول: هذا صحيح لكن يمكن إعادة صياغة هذا الوجه بعدة تقريبات لدفع الإشكال:-

أ- أن يقال إن غلبة الأفراد يمكن أن تكون مقيدة إذا استظهرنا من القرائن أن مراد المتكلم من المطلق خصوص هذا الفرد الغالب، كأن يقال: إنه بسبب شدة الانصراف إلى الرؤية بالعين المجردة فإن المتكلم لو أراد أوسع من ذلك لذكر ما يفيد الإطلاق، كأن يقول: (الرؤية على أي نحو كانت) خصوصاً وإن المعصوم (عليه السلام) عالم بما سيكون في المستقبل بتعليم الله تعالى له.

ب- أو يقال أن لفظ الرؤية ظاهر عرفاً في الرؤية المباشرة بالعين المجردة من دون توسط آلة مكبّرة أو مقرّبة، قال السيد الخوئي (قدس سره): «العبرة حسب النصوص المتقدمة بالرؤية، شهادة الشاهدين بها شهادة حسّيّة عن باصرة عادية»(1).

ج_- أو يقال إن الرؤية منصرفة عن العين المسلحة، كما لا تصدق الرؤية الحسية على من رأى في التلفزيون أو من رأى الصور المنطبعة على

ص: 119


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/123.

الكاميرات المزودة للهواتف النقالة ونحو ذلك فإن الرؤية لا تصدق عليه إلا بعناية.

د- وبصياغة أخرى يقال: إن الآية الكريمة «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة:185) علّقت وجوب الصوم على شهود الشهر والشهادة تطلق على العلم الحضوري بالحس لكلٍ بحسبه، فالمسموعات بالسماع والمذوقات بالذوق والمرئيات بالمعاينة المباشرة وهكذا.

ويسند ذلك أن ظهور الرؤية في ما كان بالعين الطبيعية لا يختص بالمورد وإنما يجري في غيره كعدم رؤية الجدران لتحديد حد الترخّص، ورؤية بيوت مكة لقطع التلبية ولا قائل بكفاية الرؤية بالأجهزة المقرّبة في الموردين وإلا كان حد الترخص أبعد من مسافة القصر، ولقطع المحرم التلبية من مسافة بعيدة.

2- إن الرؤية ليس لها موضوعية حتى يناقش في شمولها العين المسلحة أو لا، بل هي مأخوذة على نحو الطريقية لحصول العلم والقطع بوجود الهلال وهذا ظاهر من الروايات حيث جعلت الرؤية مقابل الشك والظن كما في الصحيحة المتقدمةوغيرها، وعليه فإن أي طريق يكون محصلاً للعلم والقطع يكفي لثبوت أول الشهر كالرؤية بالعين المسلحة، ولذا وجب قضاء يوم إذا رؤي الهلال بعد ثمانية وعشرين يوماً من شهر رمضان، أو ثبتت رؤيته في بلد آخر.

ويمكن ردّ الإشكال بأن يقال أن الرؤية وإن كانت مأخوذة على نحو الطريقية إلا أن المرئي أضاف لها حيثية موضوعية من جهة أنها ليست طريقاً لأي هلال مرئي وإنما للهلال الذي تراه العين المجردة قال السيد الخوئي (قدس سره): «إن عنوان الرؤية الوارد في الروايات وإن كان على نحو الطريقية المحضة، إلا أن ذا الطريق هو الهلال البالغ مرتبة قابلة للرؤية بالعين المجردة، لا مجرد الخروج عن المحاق ولو لم يكن قابلاً للرؤية، والحمل على

ص: 120

الطريقية لا يقتضي أكثر من إلغاء موضوعية الرؤية لا المرتبة المفروضة في المرئي»(1)

وقد تقدم تقريب الفكرة أصولياً، وسيأتي تفصيله في الوجوه الآتية إن شاء الله تعالى.

3- إنه يمكن في زماننا هذا أو المستقبل القريب أن تكون الرؤية المتعارفة هي بالأجهزة الفلكية المتقدمة فعلى القول بانصراف عناوين الموضوعات إلى المتعارف فإنه يجب أن يقال بكفاية الرؤية بها، كما التزم الفقهاء في سائر أبواب الفقه عند تغيّر المصاديق العرفية كتعيين المكيل والموزون في باب الربا أو المؤونة في الخمس وغير ذلك.

ويرده أن دخول الأفراد الجديدة فرع ثبوت الإطلاق فهو متأخر رتبة عن معرفة معنى اللفظ الذي يحدّده الظهور العرفي وقد قلنا أن لفظ الرؤية ظاهر في العين المجردة، مضافاً إلى ما تقدم من أن رؤية الهلال فيها جنبة موضوعية بأن يكون الهلال قابلاً للرؤية عند عامة الناس بالعين الطبيعية فتقيّد الإطلاق.

الثاني: إن الروايات دلّت على أن الهلال الذي يؤخذ موضوعاً للأحكام الشرعية هو ما بلغ نوره مقداراً يراه عامة الناس فلو كان الهلال أقل من ذلك بحيث لا يُرى إلا بالعين المسلحة فهذا لا يترتب عليه أثر شرعي؛ كصحيحة الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف)(2) وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (والرؤية

ص: 121


1- رسالة حول مسألة رؤية الهلال للطهراني: 159.
2- وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10.

ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف)(1).أقول: تقدم في البحث عن حجية البينة أن هذه الروايات ليست مسوقة لهذا المعنى أي اعتبار أن يكون المرئي بهذه الدرجة من الظهور وإنما هي بصدد بيان أن حجية البينة مشروطة بعدم وجود ما يعارضها وينافيها ويكذّبها من الموانع الحقيقية أو الحكمية كما لو تصدى العدد الكبير من الرائين مع عدم وجود الموانع ولم يروا الهلال.

نعم يمكن إعادة صياغة هذا الوجه بما ذكرناه (صفحة 109) في الجواب على الوجه الأول للقول بكفاية العين المسلحة ومختصره أن ظاهر الروايات كون الأهلّة جعلت مواقيت للناس والمجعول كذلك لا بد أن يكون بحد قابل لرؤية عامة الناس مع تفصيل ذكرناه هناك.

أو يقال: إن الهلال الذي يثبت به أول الشهر قد حُدِّد في زمان المعصومين (عليهم السلام) بما تراه العين المجردة كتحديد حد الترخّص بخفاء الجدران عن عين المسافر الطبيعية، فالقول بكفاية العين المسلحة يعني وضع حد جديد للموضوع وهو باطل.

الثالث: إن الأشهر القمرية واعتماد رؤية الهلال لدخولها أمر معروف ومتداول بين الناس قبل الشريعة عندما كان المجتمع ساذجاً وبسيطاً، وجاءت الشريعة لتجري على نفس المفهوم المعروف، فلا يمكن تحويل الناس إلى أجهزة وقوانين لم تكتشف إلا في العصور الأخيرة، لتغاير الموضوع في الحالتين كما هو واضح.

وبتعبير آخر: إن الشهر إنما سُمّي بذلك لشهرته ووضوحه -كما في النهاية وغيره- ولا يكون كذلك إلا إذا كانت علامته -وهو الهلال- أمراً

ص: 122


1- وسائل الشيعة: 10/289، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح11.

مشهوراً- ومعروفاً لدى الناس.

الرابع: إن القول بكفاية الرؤية بالعين المسلحة يلزم منه محاذير عديدة لا يمكن القبول بها:

أولها: «إنه لو بني على كون المناط في دخول الشهر بظهور الهلال في الأفق بنحو قابل للرؤية ولو بأقوى التسلكوبات والأدوات المقربة لاقتضى ذلك أن صيام النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وفطرهم وحجهم وسائر أعمالهم التي لها أيام خاصة من الشهور لم تكن تقع في كثير من الحالات في أيامها الحقيقية، لوضوح أنهم (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على الرؤية المتعارفة في تعيين بدايات الأشهر الهلالية مع أنه قل ما يرى الهلال بالعين المجردة واضحاً ومرتفعاً ولا يكون في الليلة السابقة عليها قابلاً للرؤية ببعض الأدوات المقربة القوية، وهل هذا ما يمكن الالتزام به»(1)

«بل إن من يرون كفاية رؤية الهلال بالتلسكوب يجب أن يسلّموابأنهم في كثير من السنوات السابقة ومقلّديهم اعتبروا اليوم الثاني من شوال هو أول الشهر، لأنهم لم يستفيدوا من التلسكوب آنذاك، ولو كانوا قد استعملوه لعرفوا أن أول الشهر كان أسبق بيوم وأن ليالي القدر قد فاتت ولم تقع في محلها» وأورد مثله على القول بوحدة الهلال لجميع بلدان العالم باعتباره يستلزم ذلك أيضاً عادة.

وبالرجوع إلى مخططات رؤية الهلال المصمّمة على برامج حسابية دقيقة يُعلم أن الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا يعتنون بإمكانية رؤيته بالعين المسلحة كما في رواية أبي علي بن راشد(2) عن الإمام الهادي (عليه السلام) حيث

ص: 123


1- السيد السيستاني في رسالة حول الهلال: 42 ، وذكر مثله الشيخ جعفر السبحاني، رسائل فقهية: 7/133، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 40، ص 88.
2- وسائل الشيعة: 10/281، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 9، ح1.

صحّح صيامه الخميس في شهر رمضان سنة 232 هجرية مع أنه كان يمكن أن يُرى بالأجهزة المكبرة -لو كانت موجودة- ليلة الأربعاء؛ لأنه كان يمكن أن يرى بالعين المجردة في شمال غرب أفريقيا ووسطها ليلة الأربعاء.

وقد أشكل على هذا النقض وأمثاله بما ملخّصه(1)

أن إدراك الواقع ليس لازماً ما داموا يعتمدون على ما هو الحجة في المقام مما يتنجّز به التكليف، وقد ورد في صحيحة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار)(2)

«فلم يقل أحد بلزوم أن يقضي النبي (صلى الله عليه وآله) بعلمه المرتكز إلى اطلاعه الخاص على المغيبات على فرضه».

أقول: يمكن أن يرد عليه:-

أ- بالفرق بين الموردين بأن رؤية الهلال مأخوذة على نحو الطريقية للوصول إلى الواقع وحجة عليه كالطرق والأمارات؛ لإحراز الواقع الذي يتحقق به موضوع التكليف؛ لذا لو علم الإمام (عليه السلام) أن الهلال موجود وراء الغيم ولا يراه أحد فإنه يخبر عن هذا الواقع(3).

أما حكم القاضي فمأخوذ على نحو السببية والموضوعية من أجل فضّ الخصومات ويعتمد على وسائل الإثبات الظاهرية ولو حكم بعلمه الواقعي من دون ذلك فقد يعرّضه للتهمة.

ص: 124


1- راجع مجلة الاجتهاد والتجديد: العددان 28-29، ص 266.
2- وسائل الشيعة: 27/232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 2، ح1.
3- نقل بعض المطلعين أنه يمكن تصوره بطريقة أخرى فإن الشمس تصدر منها إشعاعات متنوعة مثل حزمة الأشعة السينية التي تخترق الغيوم ولا تراها العين البشرية، فيمكن رصد الأشعة الشمسية المنعكسة على الهلال عبر متحسسات تسجل الأشعة السينية فقط.

ويتفرع على هذا الفرق أن الأول لا ينفذ على غير مقلديه لأنه إخبار عن تطبيق فتواه في ثبوت الهلال، أما الثاني فهو إنشاء للحكم ولا يجوز لمجتهد غيره نقضه.

ب- لزوم أحد محذورين إما مخالفة التكليف بالنسبة للأجيال السابقة، والمعصوم لا يسمح بأن يصوموا العيد أو يفطروا في شهر رمضان.

أو تغيّر التكليف بالنسبة للأجيال اللاحقة باعتبار أن الهلال الذي يثبت به أول الشهر قد حُدِّد في زمن المعصوم (عليه السلام) بما تراه العين المجردة، فالقول بكفاية العين المسلحة يعني وضع حدّ جديد، كثبوت حد الترخّص بخفاء الجدران عن العين الطبيعية للمسافر فالقول بالعين المسلحة يعني وضع حدّ جديد، وهو خلاف وحدة التكليف للمسلمين جميعاً.

ثانيها: إن الأجهزة الفلكية ترصد القمر وتراه حتى قبل صدق عنوان الهلال عليه في أول خروجه من المحاق فالقول بكفايتها يلزم منه ثبوت الشهر برؤية ما لا يسمى هلالاً(1).

أو أنه يلزم التهافت في كلامهم فقد اشترط بعض الأعلام المعاصرين في كلامه المتقدم بلوغ الهلال مرتبة بحيث يمكن أن يرى هلالاً ولو بالأجهزة

ص: 125


1- لعل السيد الهاشمي التفت إلى هذا الإشكال ففصّل القول في أجهزة الرصد في استفتاءات منشورة على موقعه الرسمي كقوله: «تثبت رؤية الهلال بالنواظير المتعارفة ولا تثبت بالتلسكوب لأنه يُرى به الهلال وهو تحت الشعاع، إلا إذا كان هناك مانع بحيث لولاه كان يرى الهلال بدون تلسكوب». لكن الشيخ الفاضل اللنكراني (قدس سره) لم يفصّل في جوابٍ نقله ولده في رسالة عن هذه المسألة قال فيه: «لا فرق في رؤية الهلال بين كونها بالعين المسلحة أو غير المسلحة، فتكفي الرؤية بالتلسكوب كما تكفي بالمنظار والنظارات المستخدمة في الصيد ونحوه» (رسائل الفاضل اللنكراني: 429).

العلمية، وهي ترصد القمر بمجرد خروجه من المحاق أي خط الاقتران وقبل أن يصبح هلالاً وفق هذا الشرط.

وبهذا النقض يسقط الاستدلال بصحيحة علي بن جعفر لأنها واردة في من رأى الهلال فلا تشمل من لم يرَ ما يصدق عليه عنوان الهلال.

ويشابه هذا النقض ما يحصل أحياناً من رصد خسوف القمر في النهار(1)

وينجلي قبل المغرب فهل يوجبون صلاة الخسوف في النهار ليكون خلاف ظاهر الأدلةويؤسس فقهاً جديداً كما يقولون؟ أم لا يوجبونها فتكون نقضاً عليهم علماً أن وسائل الإعلام تصف الخسوف بأنه غير مرئي إذا كان يحصل في النهار وينجلي فيه مع أن التلسكوب يرصده.

ثالثها: على القول بكفاية الرؤية بالعين المسلحة تصبح الرؤية بالعين المجردة لغواً لأن الأولى تسبق الثانية ويتحقق بها المطلوب فتفقد الثانية اعتبارها وقرّب بعض الأعلام هذا المحذور بأن «لازم هذا القول التخيير بين الأقل والأكثر وهو أمر لغو»(2)

نظير ما لو جعل الغسل مرة واحدة سبباً لحصول الطهارة ثم جعل الغسل ثلاثاً سبباً آخر للطهارة فيكون السبب الثاني لغواً لتحقق الطهارة بالغسلة الأولى إلا أن تحمل البقية على الاستحباب وتأكيد النظافة.

ص: 126


1- سجّلنا حالة نادرة مررنا بها حيث حصل خسوف جزئي في منطقتنا بين الطلوعين من يوم الاثنين 21/1/2019 وكان القمر فوق الأفق وعند شروق الشمس في الساعة 7.02 صار القمر تحت الأفق وتحوّل إلى كلّي بعد ذلك بأربعين دقيقة حتى خرج من ظل الأرض فعلى قول من يذهب إلى أن انتهاء الليل يتحقق بطلوع الفجر وأن ما بين الطلوعين من النهار يكون هذا الخسوف في النهار ويرى بالعين المجردة أما على قول من يذهب إلى أن النهار يبدأ من طلوع الشمس فإن هذا الخسوف لا يرى ولا بالأجهزة الحديثة بعد الشروق لأنه يصبح تحت الأفق.
2- رسائل فقهية للشيخ السبحاني: 7/130.

قد يقال بأن كلاً من الرؤيتين لها زمانها المناسب لها ففي العصور المتقدمة كانت الرؤية المجردة وفي الأزمنة المعاصرة اعتبرت العين المسلحة، ويرد عليه حينئذٍ المحذور الأول وأن حكم الشارع المقدس يعمّ الجميع على نحو واحد بغضّ النظر عن اختلاف الأزمنة.

رابعها: إنه يستلزم فقهاً جديداً(1)

كما لو قبلنا بالرؤية المسلحة لتعيين حد الترخّص وقد تزيد المسافة عن حد التقصير نفسه.

أو تم رصد خسوف للقمر في النهار وانتهى قبل المغرب فهل يوجبون صلاة الآيات فتكون خلاف ظاهر الأدلة أم لا يوجبون فيكون المورد نقضاً عليهم.

أو تحققنا بالآلات المجهرية عن أجزاء صغيرة من الدم في حليب الأبقار ذات الإنتاج الغزير.

أو اكتشفنا بها خروج شيء من المني مع البول لمن أجرى عملية جراحية لعلاج البروستات وهكذا.

ويمكن تلخيص أدلة اشتراط الرؤية بالعين المجردة كالتالي:-

1- ظهور لفظ (الرؤية) و(الشهود) في النصوص الشرعية في كونها بالعين المجرّدة ولا إطلاق لها ليشمل غيرها، ولا يختص الظهور بهذا المورد بل في غيره أيضاً.

2- جعل الأهلّة ميقاتاً للناس يقتضي كون المقدار المعتبر منه ما يكون متعارفاً رؤيته لدى الناس وليس بأن يوكل أمره إلى أجهزة وآلات لم تكن معروفة.

3- إن الشهر سمي بذلك لشهرته وظهوره -كما في النهاية- ولا يكون كذلك إلا إذا كانت علامته -وهو الهلال- أمراً مشهوراً ومعروفاً لدى الناس.

ص: 127


1- رسائل فقهية للشيخ السبحاني: 7/131.

4- إن الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا يعتمدون على إمكانية رؤية الهلال بالعين المسلحة مع قدرتهم على التحقق منها بإذن الله تعالى بل تشير بعض الروايات التأريخية(1)

إلى عملهم بعكسها لذا كان أول الشهر يتأخر عندهم.

والرأي المختار في هذه المسألة: أن الهلال لا يثبت شرعاً برؤيته بالتلسكوبات والأجهزة المقرّبة والمكبّرة الأخرى إذا لم تكن العين المجردة قادرة على الرؤية، ولا مانع من استعمال الأجهزة للتأكد من أن الهلال بوضع وظروف بحيث تراه العين المجردة وليس من الضروري أن تقع الرؤية الفعلية، فلو حصل العلم والاطمئنان من إخبار المراصد وغيرها بأن الهلال موجود وبالغ هذه الدرجة كفى في ثبوته شرعاً؛ لأن الرؤية مأخوذة على نحو الطريقية لحصول العلم بوجود مثل هذا الهلال.

ص: 128


1- كما في رواية أبي علي بن راشد المتقدمة وخبر عبد الله بن سنان قال: (صام علي (عليه السلام) بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر منادياً ينادي: اقضوا يوماً فإن الشهر تسعة وعشرون يوماً) (وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 14، ح1).

المسألة الثانية : ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي

اشارة

لهذه المسألة أهمية كبيرة في حياتنا، لأنها لو تمت فإنها ستقضي على الخلاف الذي يحصل في المجتمع الإسلامي بسبب الاختلاف في أشهر الصوم والفطر والحج بين الفقهاء تبعاً لاختلاف مبانيهم أو وسائلهم الإثباتية، فإذا انتهينا إلى ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي الذي له موقع نافذ ومقبولية واسعة في الأمة تحت أي مسمّى كان كالولي الفقيه أو المرجع الأشهر والأكثر تقليداً، وحينئذٍ يكون حكمه ثابتاً في حق الجميع مجتهدين ومقلدين بغضّ النظر عن مبانيهم المختلفة، ويكون حلاً لهذه المشكلة التي ألقت بظلالها القاتمة حتى داخل الأسرة الواحدة والمسجد الواحد.

ونذكر أولاً عدة ملاحظات على كلمات الأصحاب ومنهج تعاطيهم مع المسألة ويوضّح بعضها أسباب الاختلاف فيها:

الملاحظة الأولى: نسب المحقق صاحب الحدائق (قدس سره) القول بثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي إلى ظاهر الأصحاب، قال (قدس سره): «هل يجب على المكلف العمل بحكم الحاكم الشرعي متى ثبت ذلك عنده، وحكم به أم لا بد من سماعه بنفسه من الشاهدين؟ ظاهر الأصحاب الأول بل زاد بعضهم الاكتفاء برؤية الحاكم الشرعي»(1)

ثم استشكل (قدس سره) في المسألة وقال: «المسألة عندي موضع توقف وإشكال» وكذا استشكل المحقق النراقي (قدس سره) في المستند والسيد الخوئي (قدس سره)، وهو ظاهر الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) لأنه اقتصر في حجية حكم الحاكم على المقلدين

ص: 129


1- الحدائق الناضرة: 13/258.

فقط، قال (قدس سره): «سادسها: حكم الفقيه المجتهد المأمون بالنسبة إلى مقلّديه سواء حكم برؤية أو بيّنة أو غيرهما، ولو شهد من غير حكم كان كغيره من الشهود»(1).

أقول: نسبة القول إلى ظاهر الأصحاب يعني أنه مشهور عندهم بينما لا نرى المسألة معنونة في كتب الأصحاب ولم يذكروا حكم الحاكم ضمن طرق ثبوت الهلال مع شدة الحاجة إليها في الصوم والإفطار والحج، ولعل أول من دوّنها الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس.نعم تناولوا فرعاً في مسألة حجية البينة حاصله أنه هل يشترط في اعتبارها أخذ الحاكم الشرعي بها، فذهب علماء الإمامية وأكثر علماء العامة -عدا ما حكي عن الشافعية(2)-

إلى اعتبار البينة لكل من علم بها ولا يشترط حكم الحاكم على طبقها، وهذه المسألة تكشف عن تسالمهم على ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي إذا بنى حكمه على البينة كما يظهر من كلام صاحب المدارك الآتي؛ لذا احتمل بعض أعلام العصر(3) أن الأصحاب إنما تركوا التعرض للمسألة لأن هذا الطريق ليس في عرض الطرق الأخرى وإنما في طولها ومستنداً إليها وهي شهادة البينة.

وهذا الاحتمال ناقش فيه بعض من حضرنا بحثه الشريف لأن تسالمهم هذا ليس على قبول قول الحاكم الشرعي وإنما على حجية البينة إذا شهدت بالرؤية مطلقاً وإن لم يشهدا بها عند الحاكم للروايات الكثيرة الدالة على ذلك

ص: 130


1- كشف الغطاء: 4/58.
2- قالوا: «يشترط في تحقيق الهلال ووجوب الصوم بمقتضاه على الناس أن يحكم به الحاكم فمتى حكم به وجب الصوم على الناس ولو وقع حكمه عن شهادة عدل واحد» (الفقه على المذاهب الأربعة: 1/551).
3- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/596.

كصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، فإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه)(1)

«فهذا الاستظهار ضعيف والمعيار هو المكلف ولا يدل هذا القول إلا على حجية البينة في المقام إذا قامت عند أي أحد ولا فرق في القيام عند الحاكم وعدمه وسواء اعتمد عليها أو لا»(2).

أقول: هذا التسالم موجود قبل هذه النصوص منذ صدر الإسلام حيث دلّت الروايات على أن الناس كانوا يتراءون الهلال وإذا رآه(3)

أحد ذهب وشهد عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام خلافته فيعلن ولي الأمر عن ثبوت الشهر عند اكتمال البينة ويأخذ به الناس بل تدل الروايات على أن هذا كانيحصل عند الأئمة الذين لم تبسط لهم اليد(4)؛

لأن الشريعة وإن أطلقت حجية البينة إلا أن المسألة فيها خصوصيات وتفاصيل تخفى على عامة الناس فيلجأون إلى الحاكم الشرعي للتثبت من الحال، وليس كلهم يتيسّر لهم الاستماع إلى البيّنة والتثبت منها.

وسيأتي في الملاحظة الثانية شاهد آخر على التسالم.

ص: 131


1- وسائل الشيعة: 10/287، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح4.
2- من تقريرات بحث السيد السيستاني (دام ظله الشريف)، محاضرة بتأريخ 3/ج1/1417.
3- روى العامة عن ابن عباس قال: «جاء إعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: رأيت الهلال، قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟) قال: نعم، قال: (يا بلال، أذّن في الناس فليصوموا) (السنن الكبرى للنسائي: 2/68، ح 2422، المستدرك للحاكم النيسابوري: 1/297).
4- كما في رواية يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال له غلام له وهو معتب: إني قد رأيت الهلال، قال (عليه السلام): فاذهب وأعلمهم) (وسائل الشيعة: 10/266، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح15).

وكمحاولة لتصحيح دعوى صاحب الحدائق نقول: إن قضية التسالم موجودة في ذهن القدماء وإنما لم يصرحوا بها لعدم تأثير حكم الحاكم في حجية البينة سلباً ولا إيجاباً فلا يصلح أن يكون طريقاً في عرض طرق الثبوت الأخرى.

وأعني بعدم التأثير السلبي أنه لو قامت البينة على الهلال فإن الشهر يثبت حتى لو لم يشهدا بها عند الحاكم بل حتى لو لم يحكم الحاكم به بل قال في الجواهر «والظاهر من النص والفتوى الاجتزاء بهما من غير اعتبار لحكم الحاكم بشهادتهما، بل الظاهر من إطلاقهما الاجتزاء بهما وإن ردّهما الحاكم لعدم تحقق عدالتهما أو نحو ذلك مما لم يكن كذلك عند غيره ممن شهدوا عنده»(1)

خلافاً لما ذكر في كتاب القضاء من عدم الدليل على حجية البينة مطلقاً وإنما إذا شهدا عند الحاكم وكانت شهادتهما حجة فيجب الالتزام بتفصيل موجود في محلّه.

وبعدم التأثير الإيجابي أنه لو حكم الحاكم ثم ظهر خطأه أو خطأ مستنده كما لو اعتمد على الشهود المجهولين كما يُنقل عن بعض العامة التسامح في حال الشهود فإنه لا يثبت الشهر، وتجد هذا المعنى لدى شرّاح كتب القدماء صريحاً بدون مؤونة ويذكرونه من باب بيان رأي صاحب المتن وليس من باب التفريع، قال في المسالك في شرح قول الشرائع «ومع تحقق الشياع يجب الصوم على من علم به وإن لم يحكم به حاكم» قال «الأصح ثبوته بشاهدين عدلين مطلقاً وإن لم يحكم بهما حاكم، بل ولو ردّ شهادتهما لعدم علمه بحالهما، فإنه يثبت الهلال عند من يطلع على عدالتهما»(2).

فاستظهار صاحب الحدائق مبني على الارتكاز المتقدم باعتبار أن الحاكم الشرعي لا يحكم إلا بعد قيام البينة الكاملة عنده، والحجية وإن استندت

ص: 132


1- جواهر الكلام: 16/358.
2- مسالك الأفهام 2/51

في الحقيقة إلى تلك البينة كما قال بعض من حضرنا بحثه الشريف (صفحة 131) في تضعيف الوجه الذي ذكره لصاحب الحدائق إلا أن غفلة الأكثر عن خصوصيات الحكم وشروط البينة وظروف الرؤية يصحح نسبة الحكم بثبوت الهلال إلى الحاكم لا إليها وان كان معلولا لها وستأتي تفاصيل ذلك بإذن الله.الملاحظة الثانية: حصر الأصحاب الذين أسسوا لهذه المسألة المطلب في ثبوت الهلال بحكم الحاكم في ما إذا كان مستنداً إلى رؤيته خاصة، قال الشهيد في الدروس: «وهل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب: نعم»(1).

أقول: هذا شاهد آخر على تسالم الأصحاب على ثبوته بحكم الحاكم الشرعي إذا استند إلى البينة، وإنما اختلفوا في ثبوته إذا استند إلى رؤيته وعلمه.

وقال السيد صاحب المدارك (قدس سره): «هل يكفي قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وهو خيرة الدروس لعموم ما دلّ على أن للحاكم أن يحكم بعلمه، وبأنه لو قامت عنده البينة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام والعلم أقوى من البينة»(2).

أقول: ظاهر استدلاله التسالم على ثبوت الهلال بحكمه إذا كان مستنداً إلى البينة ورتّب عليه قبول حكمه إذا استند إلى علمه.

وقال المحقق السبزواري في الكفاية: «وفي قبول قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال وجهان: أحدهما نعم وهو خيرة الدروس وهو غير بعيد»(3).

ص: 133


1- الدروس: 77.
2- الحدائق الناضرة: 13/261.
3- كفاية الأحكام: 52.

أقول: إذا كان الأمر كذلك وأن البحث متوجه إلى هذه الحالة خاصة، فقد ظهر الآن احتمال آخر لعدم تعرض الأصحاب للمسألة حيث أنهم يجدون موضعها في كتاب القضاء بعنوان: هل للحاكم أن يحكم بعلمه أم لا؟ ويكون المورد من تطبيقاتها، ولم يجدوا حاجة لإفرادها في بحث الهلال.

الملاحظة الثالثة: يظهر من بعض كلمات المحقق البحراني (قدس سره) أن النزاع في وجوب الرجوع إلى الحاكم الشرعي في مسألة ثبوت الهلال وليس في وجوب العمل بحكمه إذا حكم، وبينهما فرق، قال (قدس سره): «دلّت جملة من الأخبار على أنه يكفي في ثبوت ما نحن فيه سماع المكلف من الشاهدين من غير توقف على حكم الحاكم، وحينئذٍ فلا يكون ذلك مما يختص بالحاكم» ثم قال -وهو محل الشاهد-: «فوجوب رجوع المكلف إلى حكم الحاكم في ما نحن فيه يحتاج إلى دليل ومجرد نيابته عنهم (عليهم السلام) قد عرفت ما فيه»(1).

أقول: هذا مطلب آخر ووقع التسالم على خلافه للنص والإجماع الدالين على حجية البينة على من علم بها من دون اشتراط حكم الحاكم بها.نعم الرجوع إلى الحاكم الشرعي والأخذ منه سيرة عقلائية حيث يفزع الناس إلى زعيمهم في مثل هذه القضايا العامة ليدلوا بشهاداتهم وهم يتوقعون الحصول على الخبر اليقين عنده، ثم هي وسيلة إعلامية لنشر خبر ثبوت الهلال إلى عامة الناس.

ويشهد لذلك ما قاله القدماء كقول الشيخ الطوسي (رضي الله عنه) في التهذيب بصدد الرد على من يعتمد على الحساب لتحديد أوائل الشهور ويستشف منه تصدّي الحكام لهذه المسألة والتزام الأمة بما يحكمون مما يدل على اشتهار هذا القول قال (قدس سره): «ويدل على ذلك أيضاً ما هو معلوم

ص: 134


1- الحدائق الناضرة: 13/261.

كالاضطرار غير مشكوك فيه في شريعة الإسلام من فزع المسلمين في وقت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده إلى هذا الزمان في تعرف الشهر إلى معاينة الهلال ورؤيته، وما ثبت أيضاً من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يتولى رؤية الهلال ويلتمس الهلال ويتصدى لرؤيته وما شرعه من قبول الشهادة عليه والحكم فيمن شهد بذلك في مصر من الأمصار، ومن جاء بالخبر به عن خارج الأمصار وحكم المخبر به في الصحة وسلامة الجوّ من العوارض»(1)

وهذا النص سينفعنا فيما يأتي إن شاء الله ويوضح وجه نسبة الحكم إلى الحاكم دون البينة الذي تقدم.

الملاحظة الرابعة: يوجد خلط في بعض كلماتهم بين الحكم بالمعنى الاصطلاحي الخاص الذي يقابل الفتوى، وبين الحكم بالمعنى العام الشامل للفتوى أي تطبيق المسألة الفرعية الكلية بعد تنقيح موضوعها، إذ قد يُعبَّر عن الفتوى بالحكم وعن الفتاوى بالأحكام الشرعية، وقد يقول الفقيه: «حكمت بأن غداً الأول من شهر رمضان» وهو لا يريد إنشاء الحكم وإنما الإخبار عن ثبوت الهلال وفق مبانيه في المسألة من حيث اختلاف الآفاق والعين المسلحة وحجية البينة ونحو ذلك.

وفي الحقيقة فإن سيرتهم العملية جارية على هذا غالباً فما يصدر منهم هو فتوى وليس حكماً، لذا فإن القائلين بثبوت الهلال بحكم الحاكم - وهم الأكثر- لا يجدون مانعاً من مخالفة غيرهم إذا ثبت عندهم الهلال أو إكمال العدة فتتعدد مواقفهم من أول الشهر.

وكلام الشهيد (قدس سره) الذي أسس لهذه المسألة ظاهر في أن مراده إخبار الحاكم لا الإنشاء ولا أقل من احتماله هذا المعنى؛ لذا قال في فرع آخر: «ولو قال اليوم الصوم أو الفطر ففي وجوب استفساره على السامع ثلاثة

ص: 135


1- التهذيب، الجزء الرابع، كتاب الصيام، باب 41: علامة أول شهر رمضان وآخره.

أوجه، ثالثها إن كان السامع مجتهداً»، ولو كان قوله حكماً إنشائياً لنفذ على المجتهد الآخر فكيف أوجب عليه الاستفسار عن المستند والحجة ليتأكد من صحته؟.

ولعل من خالف في المسألة نظر إلى هذا الجانب وهو كون المورد من الإخبار وليس إنشاءً لحكم ولو لأن الفقيه ليس من صلاحياته إنشاء الحكم في مثل المورد وإنما الإخبار عن مؤدى الطرق المعتبرة؛ لذا يلاحظ فيه الاتفاق معه في المبانيومستند الحجية ولا يكفي عدم العلم بخطئه وخطأ مستنده الذي يكفي في نفوذ الحكم الإنشائي، قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: «وفي ثبوته بحكم الحاكم الذي لا يُعلم خطأه ولا خطأ مستنده إشكال بل منع، نعم إذا أفاد حكمه أو الثبوت عنده الاطمئنان بالرؤية في البلد أو في ما بحكمه اعتمد عليه»(1).

وهو مراد سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عندما أطلق المنع بقوله: «في ثبوت الهلال بحكم الحاكم الذي لا يُعلم بخطئه ولا خطأ مستنده إشكال بل منع»(2)

لأننا علمنا من سيرته العملية أنه كان يتحقق من مستند ثبوت الهلال في الجمهورية الإسلامية عندما تعلنه وهل أنه مطابق لمبانيه أم لا ولا يكتفي بما يبني عليه من ثبوت الهلال في البلاد التي إلى غرب أي بلد يثبت الشهر فيه لاختصاص ذلك بالرؤية.

الملاحظة الخامسة: إنهم لم يبينوا المراد من الحاكم هل هو مطلق المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء والقضاء والنظر في الأمور الحسبية وإن كان منعزلاً عن مباشرة شؤون الناس أم حصة خاصة منه وهو المتصدي للوظائف الاجتماعية كنصب القضاة وإقامة صلاة الجمعة وتفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأولى منه الفقيه الذي بسط ولايته العامة على الأمة، وهذا ما سيظهر في

ص: 136


1- منهاج الصالحين للسيد السيستاني: 1/335، ط 2.
2- منهج الصالحين: 1/ مسألة 1422.

تفاصيل البحث إن شاء الله تعالى.

ولتنقيح الموضوع أكثر يحسُن بيان مقدمتين:

الأولى: في الفرق بين الفتوى والحكم

يمكن تلخيص الفروق بين الفتوى والحكم بأمور:-

1- من حيث طبيعتهما وموردهما، فإن الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في موضوع ما حتى لو كان افتراضياً باستنباطه من أدلته التفصيلية حتى لو كان بصيغة الجملة الإنشائية كمن سأل الإمام عليه السلام عن إنائين وقعت في أحدهما نجاسة فقال عليه السلام اهريقهما وتيمم وطبيعتها كلية حتى لو وردت في واقعة جزئية.

أما الحكم فهو إنشاء لرأي الحاكم في قضية معينة بإلزامٍ (كما لو أمر زيداً بدفع مال لعمرو) أو إطلاق (كما لو حكم بحرية زيد) إما قولاً وهذا واضح أو عملاً كما لو قام الحاكم وأطلق مسجوناً دليلاً على براءته من خلال إجراء وتطبيق القوانين والأحكام الشرعية على واقعة خاصة وإنفاذها حتى لو كان بصيغة الجملة الخبرية كما لو قال حكمت بكذا.

ولا يختص الحكم الإنشائي بالخصومات والمرافعات بل يشمل الأحكام العامة التي تتعلق بالمصالح العامة كالحكم بوجوب الجهاد أو إقامة صلاة الجمعة ونحو ذلك مما يرجع إلى حفظ النظام الاجتماعي العام.

وفي ضوء هذا -بغضّ النظر عن القول بالولاية العامة للفقيه- تعرف الإشكالفي كلام الشهيد الأول (قدس سره) حيث خصّ الحكم بمورد الخصومة فقال (قدس سره): «الفرق بين الفتوى والحكم مع أن كلاً منهما إخبارٌ عن حكم الله تعالى يلزم المكلف اعتقاده من حيث الجملة: أن الفتوى مجرد إخبار عن الله تعالى بأن حكمه في هذه القضية كذا والحكم إنشاء

ص: 137

إطلاق أو إلزامٍ مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش»(1).

اللهم إلا أن يريد بالخصومة معناها العام الشامل لاختلال النظام وهو مستفاد من بيانه لوجه التقييد بمصالح المعاش فقال «وبمصالح المعاش: تخرج العبادات، فإنه لا مدخل للحكم فيها، فلو حكم الحاكم بصحة صلاة زيد لم يلزم صحتها، بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك، وإلا فهي فاسدة، وكذا الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيه أو أن الميراث لا خمس فيه، فإن الحكم به لا يرفع الخلاف بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك، نعم لو اتصل بها أخذ الحاكم -للزكاة أو الخمس أي جبايتهما- ممن حكم عليه بالوجوب-مثلاً- لم يجز نقضه. فالحكم المجرد عن اتصال الآخذ إخبار، كالفتوى، وأخذه للفقراء حكم باستحقاقهم، فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد.

ولو اشتملت الواقعة على أمرين: احدهما من مصالح المعاد والآخر من مصالح المعاش، كما لو حكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر وكان نائباً، فإنه لا اثر له في براءة ذمة النائب في نفس الأمر، ولكن يؤثر في عدم رجوعهم عليه بالأجرة»، فالحكم يتضمن تطبيق الفتوى ويستند إليها.

ويترتب على هذا الفرق:-

أ- إن الحكم الشرعي في الفتوى ينسب لله تعالى، وفي الحكم الاصطلاحي للحاكم.

ب- إن الفتوى هي الملزم بها والمنفذّة، والحكم هو الإلزام بها وآلة تنفيذها.

2- إن الفتوى يجوز نقضها للمجتهد الآخر في صورة ما إذا خالفه في المبنى

ص: 138


1- القواعد والفوائد للشهيد الأول، تحقيق السيد عبد الهادي الحكيم، القاعدة (114) ج1/ص320.

والمستند، أي يشترط في نفوذ الفتوى تطابق المستند، ولا تجري على مقلّدي غيره، بخلاف الحكم فإنه ماضٍ في حقهما وإن اختلفت الفتوى ما لم ينكشف الخلاف ويحصل العلم بالخطأ. فعلى المجتهد الآخر الأخذ بالحكم ما دام صادراً من أهله وفي محله ولا يجب عليه الفحص عن صحة مستند الحكم، وكذلك على المقلد الأخذ بالحكم من دون الفحص عن الأعلمية مثلاً ونحوها من شرائط مرجع التقليد، بخلاف الفتوى فإنه لا يجوز للمجتهد الآخر الأخذ بها ما لم يفحص عن مستندها ويكون صحيحاً لديه ولا المقلد ما لم تكن من الأعلم.

والوجه في ذلك أن الغرض من الحكم المنع من حدوث الفوضى في المجتمع،وتوحيد المجتمع في رأي واحد وحكم واحد. وإذا كانت الفتوى تنقض الحكم، فلا يمكن أن تنقطع الفوضى في المجتمع، لاختلاف المجتهدين في الرأي غالباً، واختلاف مبانيهم في الفتوى.

ويترتب على هذا أن الفتوى تنقض بالحكم، ولا ينقض الحكم بالفتوى بمعنى أن حكم الحاكم لما كان واجب الالتزام به حتى على غير مقلديه، وهم قد يرجعون إلى مجتهد مختلف معه في الفتوى فسريان حكم الحاكم عليهم يعني نقض فتوى مرجعهم بهذا الحكم.

3- إن الفتوى ليست حجة في الموضوعات، إذ ليس للمفتي إلا أن يخبر عن الأحكام الشرعية الكلية، والمقلد هو الذي ينظر في الموضوعات، وأمر تشخيص الموضوعات موكول إلى نظر العرف دون المجتهد.

وذلك بعكس الحكم حيث يكون حجة في الموضوعات، فينفَذ حكم الحاكم في حرية شخص وكفر شخص وكون الأرض مسجداً أو غير ذلك.

فإذا حكم بحرية شخص، فلا يجوز شراؤه واستعباده وإذا حكم بكون الأرض مسجداً فلا يجوز شراؤه وبيعه وإهداؤه وغير ذلك، وبناءً على هذا فقد قال المشهور أنه إذا حكم بثبوت هلال شوّال فلا يجوز صوم ذلك اليوم؛

ص: 139

لأن حكم الحاكم يجري في الموضوعات.

قال الشهيد الأول (قدس سره): «وبالجملة فالفتوى ليس فيها منع للغير عن مخالفة مقتضاها من المفتي ولا من المستفتي، أما من المفتي فظاهر، وأما من المستفتي فلأن المستفتي له أن يستفتي آخر، وإذا اختلفا عمل بقول الأعلم، ثم الأورع ثم يتخير مع التساوي.

والحكم لما كان إنشاءً خاصاً في واقعة خاصة رفعَ الخلاف في تلك الواقعة بحيث لا يجوز لغيره نقضها كما لو حكم حاكم بتوريث ابن العم، ومنع العم للأب، وفي المسألة خال، فإنه يقتضي بخصوصه منع حاكم آخر بتوريث العم والخال في هذه المسألة لأنه لو جاز له نقضها لجاز لآخر نقض الثانية.. وهلمّ جراً، فيؤدي إلى عدم استقرار الأحكام، وهو منافٍ للمصلحة التي لأجلها شرع نصب الحكام من نظم أمور أهل الإسلام، ولا يكون ذلك رفعاً للخلاف في سائر الوقائع المشتملة على مثل هذه الواقعة»(1).

وقال صاحب العروة الوثقى: «والفرق بينه وبين الفتوى أن الفتوى عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها وهي -أي الفتوى- لا تكون حجة إلا على من يجب عليه تقليد المفتي بها، والعبرة في التطبيق إنما هي بنظره دون نظر المفتي. وأما القضاء فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الترافع والتشاجر، فيحكم القاضي بأن المال الفلاني لزيد أو أن المرأةالفلانية زوجة فلان وما شاكل ذلك، وهو نافذ على كل احد حتى إذا كان احد المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً»(2).

ص: 140


1- القواعد والفوائد: الجزء الأول ص 321-322.
2- العروة الوثقى، أول كتاب القضاء.

الثانية: في أنواع الحكم بثبوت الهلال:

إن حكم الحاكم الشرعي بثبوت الهلال يمكن أن يكون على ثلاثة أنحاء لا بد من بيانها لمعرفة محل النزاع ومصبّ الاستدلال، ولعل أحد مناشئ الاختلاف في المسألة عدم تحديد نحو الحكم المقصود فالذي نظر إليه المثبت غير الذي نظر إليه النافي:-

1- الحكم بثبوت الشهر بعد قيام الحجة المعتبرة عند الحاكم وهي الحالة المعتادة لمراجع التقليد وهو هنا يؤدي وظيفته كواحد من أهل الخبرة في تنقيح الموضوع لوجود خصوصيات في رؤية الهلال لا يعرفها إلا أهل الاختصاص وقد تقدمت ولأن التحقيق في ثبوت الشهر من الوظائف الاجتماعية التي يقتضيها مقامه كونه مقرباً إلى طاعة الله ومبعداً عن معصيته وهذا يستلزم هداية الأمة إلى صومها وفطرها ونحرها فهذان سببان يوجبان على الفقيه المتصدي لرعاية شؤون الأمة أن يتصدى لمسألة الهلال وتثبيت أوائل الشهور لذا كانت نتيجة انحراف الأمة عن قيادتها الشرعية تضييع ذلك وقد وردت عدة روايات في هذا المعنى منها ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (لما ضرب الحسين بن علي عليه السلام بالسيف فسقط ثم ابتُدر ليُقطع رأسه نادى منادٍ من بطنان العرش ألا أيتها الأمة المتحيرة الضالة بعد نبيها لا وفقكم الله لأضحى ولا لفطر)((1).

والحجة حينئذٍ مستند حكم الحاكم لا الحكم نفسه فإنه لا موضوعية له ويكون أثره طريقياً، أي أن حجية قول الحاكم الشرعي في طول حجية مستنده كالبينة وليس في عرضها.

2- ما كان على نحو الحكم القضائي في باب المنازعات كما لو اتفق الزوجان على نهاية الأجل عند ثبوت الهلال واختلفا في ثبوته تلك الليلة أو في حلول

ص: 141


1- وسائل الشيعة:كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 13 ح2.

أجل الدين ونحو ذلك.

3- ما كان على نحو الحكم الولائي، أي إعمالاً لولاية الفقيه ضمن حدودها التي تجري فيها كحفظ النظام الاجتماعي العام ودفع الضرر وتقديم الأهم على المهم وإقامة الفرائض ونحو ذلك فقد يصدر الحاكم الشرعي حكماً بثبوت الهلال بصفته وليّاً فقيهاً ضمن حدود صلاحياته لا بصفته مفتياً، كما لو رأى أن اختلاف مراجع الدين في الهلال يؤدي إلى فتنة في البلاد وتمزيق النسيج الاجتماعي فحكم بتحديد أولالشهر، أو أنه كان باسطاً ولايته في دولة كبيرة، ورؤي الهلال في أقصى جنوب الغرب وكان يستحيل رؤيته في أقصى شمال الشرق فإن وحدة البلاد تدعوه إلى جعل أول الشهر واحداً لجميع المواطنين.

وقد ذكر الفقهاء عنوان المسألة مجملاً فلم يتّضح منه المراد من الحكم في المسألة المبحوثة، أو التفريق بين الأنواع، والملحوظ في السيرة الجارية لدى الفقهاء هو الأول، وهو إلى الإخبار وتطبيق الفتوى أقرب وليس من موارد حكم الحاكم، فالمعمول به خارجاً ليس من موارد حكم الحاكم، وما هو من موارد حكم الحاكم غير معمول به خارجاً فيتّضح من ذلك مقدار الإجمال في المسألة.

وتوجد إشارة مختصرة لتعريف العنوان في كلام السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حيث قال في رسالته العملية: «ونريد بحكم الحاكم الشرعي اتخاذه قراراً بثبوت الشهر أو أمره للمسلمين بالعمل على هذا الأساس، وأما إذا حصلت لديه قناعة بثبوت الشهر ولكن لم يتّخذ قراراً ولم يُصدر أمراً للمسلمين بتحديد موقفهم العملي على هذا الأساس فلا تكون هذه القناعة ملزمة إلا من اقتنع على أساسها وحصل لديه الاطمئنان الشخصي بسببها، وفي حالة إصدار الحاكم الشرعي للحكم يجب اتباعه حتى على غير مقلديه ممن

ص: 142

يؤمن بتوفر شروط الحاكم الشرعي فيه»(1).

أقول: التمييز بين الاتجاهين ليس منوطاً بإرادة الفقيه فحسب كما يظهر من العبارة بل مما تقتضيه طبيعة المورد وفق التقسيم المتقدم، إلا إذا وُجِد المبرِّر لإصدار القرار في مورده.

لذا احتملنا أن النافين لثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي لاحظوا مقتضى هذه السيرة الغالبة وهو ليس حكماً إنشائياً بل إخبار عن تطبيق الفتوى، ولذا لم يقولوا بسريانه لأنه مشروط بتطابق الفتوى، ولعلهم لا يجدون المورد من صلاحيات الحاكم الشرعي في إصدار الحكم.

أما النوع الثاني فمحدود في باب المنازعات والثالث غير ملحوظ لهم، والشاهد على ذلك أنهم بعد أن أفتوا بنفوذ حكم الحاكم ووجوب اتباعه حتى على من لم يعرف صحة مستنده بل يكفي عدم العلم بخطئه استثنوا من وجوب الاتباع مَن علمَ بخطأ الحاكم وهو إنما يقال على الحكم القضائي لا الحكم الولائي الذي يجب أن يُطاع حتى لو علم بخطأ مستنده لأن القائل بولاية الفقيه يرى أنّ لحكم الولي الفقيه جهة موضوعية كالعناوين الثانوية تغير العنوان الأولي.

وفي ضوء التفصيل المتقدم لأنواع الحكم نستطيع التوفيق بين المنع من ثبوت الهلال بحكم الحاكم وبين الالتزام في كتاب (الاجتهاد والتقليد) بعدم جواز نقض حكم الحاكم الشرعي حتى لمجتهد غيره فإنهم يرون خروج حكم الحاكم في مسألة الهلالتخصصاً عن مسألة نفوذ حكم الحاكم لا تخصيصاً لأن حكم الهلال -بنوعه الأول وهو الذي جرى عليه عمل الفقهاء- ليس صغرى لهذه المسألة باعتبار أنه تنقيح للموضوع وتعبير عن القناعة التي توصل إليها المجتهد باعتباره من أهل الخبرة ولا تضمن إنشاء حكم لكن الإجمال في تعبيرهم

ص: 143


1- الفتاوى الواضحة: 523.

هو الذي أنتج اختلاف الأقوال، فالسيد الخوئي (قدس سره) الذي التزم بعدم جواز نقض حكم الحاكم الشرعي في كتاب (الاجتهاد والتقليد) منع من ثبوت الهلال بحكمه وقال في وجه ذلك «وهل ينفذ حكم الحاكم ويحرم نقضه في غير موارد الترافع أيضاً كثبوت الهلال ونصب القيّم والمتولي ونحوها؟ يأتي عليه الكلام ونبين هناك انه لا دليل على نفوذ حكم الحاكم في غير موارد الترافع»(1)

وأشار بذلك إلى قوله لاحقاً «ومن هنا يظهر أن الفقيه ليس له الحكم بثبوت الهلال ولا نصب القيم أو المتولي من دون انعزالهما بموته، لأن هذا كله من شؤون الولاية المطلقة وقد عرفت عدم ثبوتها بدليل، وإنما الثابت أن له التصرف في الأمور التي لا بد من تحققها في الخارج»(2).

أقول: هذا يؤكّد أنه (قدس سره) إنما يقول بعدم ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي، لأنه لا يرى المورد مصداقاً له.

وبحسب التنوع المتقدم للأحكام، تتعدد حيثيات هذه الأحكام:

فمنها: ما له جهة طريقية محضة وليس للإنشاء أي موضوعية فيه كتعامل العلماء مع المسألة محل البحث فهي ليست إنشاءً وإنما إخبار عن تحقق الحجة المعتبرة على ثبوت الهلال، وهذا لا يكون حجة إلا على من يطمئن إلى صحة الطريق من حيث المستند والاستناد.

ومنها: ما يكون للإنشاء جهة موضوعية وطريقية كأحكام القضاء الصادرة من الفقيه فإصدار الحكم له جهة موضوعية لأنه سبب للزوم ترتيب الأثر، وله جهة طريقية لأن الغرض منه الوصول إلى الحق والواقع بحسب المقدمات المتوفرة وحينئذٍ لا يجوز نقضها؛لجهتها الموضوعية إلا إذا عُلمَ مخالفتها للواقع لانتفاء طريقيتها.

ص: 144


1- التنقيح من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي: كتاب الاجتهاد والتقليد: 1/334.
2- الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي (قدس سره): 1/360.

ومنها: ما يكون فيها للإنشاء جهة موضوعية صرفة كالأحكام الصادرة بولاية الفقيه فإنه لا يجوز نقضها حتى لو عُلِمَ بمخالفتها للحكم الواقعي الأولي؛ لأن ولاية الفقيه سبب تام لإنشاء الأحكام عند القائل بها كالعناوين الثانوية.

وقد أيّد بعض من حضرنا بحثه الشريف عدم صدق الحكم على المقام فإنه بعد أن عرّف الحكم بقوله: «إن الحكم هنا وزان حكم القاضي فلا بد أن يصدر الحكموينشئه»(1) قال: «نعم هنا إشكال لأن الحكم في القضاء له جهة موضوعية فلا بد من عدم رده حتى من قبل العالم بمخالفته له، وله جهة طريقية لذا فإنه لا يكون مغيّراً للواقع فمن حكم له بشيء لا يجوز له ترتيب الآثار إذا كان يعلم بمخالفة الحكم للواقع وإنه ليس صاحب الحق ومن هنا فإنه يصدق على حكم القاضي أنه حكم.

أما في المقام فيمكن أن يقال إن حكم الحاكم ليس إلا طريقاً لتحقق الموضوع بالنسبة لأفراد المكلفين ونتيجة القول بحجيته شرعاً ان الموضوع قد تحقق وثبت شرعاً بحكم الحاكم فهنا توجد طريقية فقط إذ لا يوجد فصل خصومة فلا بد أن يكون حكمه وان كان بصورة الإنشاء فإنه يرجع إلى الإخبار، فإن الإنشاء إنما يكون إذا كانت له جهة موضوعية ولا نتصور فيما كان مجرد طريقٍ للموضوع كالمقام».

أقول: كأنه (دام ظله الشريف) نظر إلى ما عليه ديدن مراجع الدين وإلا فإن ثبوت الهلال يمكن أن يكون مورداً لحكم الحاكم في بقية أنواع الحكم.

ثم ذكر (دام ظله الشريف) تقريباً للملاءمة بين عدم كونه حكماً وعدم جواز نقضه قال فيه: «فيمكن أن يقال أنه يكفي في جهة الموضوعية عدم التظاهر بخلاف ما حكم به فهذا مصداق لعدم رد حكم الحاكم فإذا حكم بأول يوم من شوال فلا يتظاهر بالصوم أو عدم أداء صلاة العيد على القول بلزومها

ص: 145


1- تقريرات البحث الخارج للسيد السيستاني، محاضرة بتأريخ 3/ج1/1417.

وفي ضوئه فإنه يكون إنشاءً» وجعله بذلك نظير حكم الحاكم في الخصومات.

إلفات: قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: «وأنكر النراقي في المستند ثبوت الهلال بحكم الحاكم رغم أنه قال بعموم ولاية الفقيه، وأصرّ عليه في العوائد، ومع ذلك قال بعدم حجية قول الحاكم»(1).

أقول: إن استغرابه (دام ظله الشريف) من الشيخ النراقي القائل بولاية الفقيه من عدم الاعتبار بحكم الحاكم لا وجه له لأن الحكم هنا ليس مستنداً إلى إعمال الولاية وإنما إلى قيام البينة الشرعية أي أن الحكم صدر منه بعنوانه مفتياً لا بعنوانه ولياً فقيهاً فلا منافاة بين القول بالولاية وعدم اعتبار حكم الحاكم ما لم يحصل الاطمئنان باستناده إلى حجة شرعية تامة.

ويفترض أن هذا الاستغراب يسري إلى السيد السيستاني (دام ظله الشريف) ومن وافقه على المنع من ثبوته بحكم الحاكم وهم يلتزمون في كتاب الاجتهاد والتقليد بأن حكم الحاكم الشرعي نافذ ولا يجوز نقضه حتى لمجتهد غيره، وقد شرحنا سابقاً وجه دفع الاستغراب.

الأقوال في المسألة:

1- ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي مطلقاً.

2- عدم الثبوت مطلقاً.

3- التفصيل بين كون حكمه مستنداً إلى البينة ونحوها من الطرق الشرعية فيثبت الهلال أو إلى رؤيته وعلمه فلا يثبت.

وقد اتضح من بعض التفاصيل السابقة أن عنصراً آخر يؤثر في تعدّد الأقوال وهو المراد من الحاكم الشرعي: هل هو مطلق المجتهد الجامع لشرائط

ص: 146


1- محاضرة بتأريخ 3/ج1/1417.

الإفتاء والقضاء وإن كان منعزلاً عن شؤون الأمة أم خصوص المجتهد المتصدي للشؤون العامة.

والقول بثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي على خلاف الأصل فيحتاج إلى دليل ومقتضى القاعدة الأولية عدم الثبوت وهو نتيجة الاستصحاب أيضاً، إلا أن يثبت بدليل عليه مطلقاً أو بالتفصيل، فإذا لم يتم الدليل فهو كافٍ للقول بعدم الثبوت لموافقته للأصل، فالبحث يدور حول:

الاستدلال على ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي

وقد ذُكرت هنا عدة وجوه:

(الوجه الأول) ما ذكره جمعٌ منهم صاحب الجواهر (قدس سره) قال: «لإطلاق ما دل على نفوذ حكم الحاكم وأن الراد عليه كالراد عليهم من غير فرق بين موضوعات المخاصمات وغيرها كالعدالة والفسق والاجتهاد والنسب وغيرها»(1).

أقول: المراد بالمطلقات مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة ونحوهما، ونوقش الاستدلال بها كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله من جهة اختصاصها بالأحكام القضائية في المنازعات والخصومات وأخذ الأحكام الشرعية، ولم يثبت دخول مسألة الهلال فيها والتمسك بالمطلقات فرع إحراز موضوعها، ولا تصلح نفس المطلقات لإثباته ففي الاستدلال مصادرة على المطلوب، نعم لو ثبت إطلاق يقتضي نفوذ حكم الحاكم في كل شيء كفى ذلك في نفوذه في المقام وهو محل كلام، وسيأتي استدلال السيد الحكيم (قدس سره) بهذه الروايات بتقريب آخر في الوجه السادس إن شاء الله تعالى.

(الوجه الثاني) صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إذا

ص: 147


1- جواهر الكلام: 16/359.

شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر بإفطار ذلك اليوم وأخّرالصلاة إلى الغد فصلى بهم)(1).

بتقريب أن الرواية دلّت على أن الإمام إذا ثبت عنده الهلال وأمر بالإفطار وجبت طاعته واتباعه، وأن المراد من الإمام فيها هو مطلق من بيده الأمر الشامل للمجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة، وقد اعتمد هذا الوجه جمع كالسيد الشاهرودي (قدس سره) في تقريرات بحثه(2)، وقوّاه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) وجعله عمدة الدليل في المسألة(3).

أقول: أول اعتراض أورد على الاستدلال بالرواية عدم وضوح ثمرة التفصيل بين ما قبل الزوال وما بعده، بحيث حكى بعض أساتذتنا(4) (دام ظله الشريف) أن صاحب الوافي ذكر أن في الرواية اضطراباً واحتمل أنه بنى ذلك على عدم وجود معنى للتفصيل بين شهادة البينة قبل الزوال وبعده لأن حكم الصلاة على كلا التقديرين تأخيرها إلى الغد باعتبار وقتها عند طلوع الشمس وقد حكى المحقق الهمداني (قدس سره) في صلاة المصباح هذا الاحتمال عن صاحب الحدائق في صلاة العيدين وعليه جمع من العامة حيث «احتمل أن قوله (عليه السلام): (وأخّر الصلاة) جملة مستأنفة بأن يكون المراد به أنه يؤخر الصلاة على كل من التقديرين»(5)، لكن هذا الاحتمال بعيد باعتبار امتداد وقت الصلاة إلى الزوال فلم تذكر في الشق الأول فيكون للتفصيل وجه.

ص: 148


1- وسائل الشيعة: 10/275، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 6، ح1.
2- تقريرات بحث السيد الشاهرودي في كتاب الحج، بقلم الشيخ الجناتي: 3/359.
3- تعاليق مبسوطة: 5/188.
4- محاضرة بتأريخ 8/ج1، 1417.
5- الحدائق الناضرة: 10/228، مصباح الفقيه: ج14، القسم الثاني/ 226.

وردّ جماعة -كالمحقق البحراني والنراقي والسيد الحكيم والسيد الخوئي (قدس الله أسرارهم)- هذا الاستدلال بأن المراد بالإمام إمام الأصل أي المعصوم المفترض الطاعة فلا تشمل الفقيه، وإن الأمر صادر بمقتضى ولايته العامة على الناس ولم يثبت أن كل ما كان لإمام الأصل فهو للفقيه الجامع للشرائط، وفصّل السيد الخوئي (قدس سره) في الكلام أكثر فقال: «الصحيحة أجنبية عن محل الكلام بالكلية، وإنّما هي ناظرة إلى وجوب إطاعة الإمام وأنّه متى أمر بالإفطار وجب، لكونه مفترض الطاعة بمقتضى قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ»، من غير حاجة إلى صدور حكم منه الذي هو إنشاء خاصّ، لعدم فرضه في الحديث، وإنّما المفروض مجرّد قيام الشهود لديه وصدور الأمر منه الذي هو غير الحكم بالضرورة.وهذه الإطاعة -التي هي من شؤون الولاية المطلقة- خاصّة بمن هو إمام بقول مطلق، أي لجميع الناس وكافّة المسلمين المنحصر في الأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم ينهض لدينا ما يتكفّل لإثبات هذه الولاية المطلقة لغيرهم من الفقهاء والمجتهدين في عصر الغيبة لكي يثبت الهلال ويجب الإفطار بأمرهم، بعد وضوح عدم صدق عنوان الإمام بمعناه المعهود عند المتشرّعة عليهم ولا سيما بلحاظ فرض وجوب طاعته على جميع المسلمين»(1).

أقول: يمكن إيراد عدة ملاحظات على الرد منها:-

1- إن حمل لفظ الإمام على إمام الأصل ناشئ من أنس أذهان أصحابنا بالأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وإلا فإن المتتبع لروايات المعصومين (عليهم السلام) يجده مستعملاً في من يأتم به الناس ويتبعونه ويكون قائداً لهم في شأن خاص أو عام كإمام الصلاة أو الحج أو الجهاد أو ولي الأمر الناظر في الشؤون العامة، كقول الإمام الصادق (عليه السلام) لأمير الحاج إسماعيل

ص: 149


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/80.

بن علي حين سقط (عليه السلام) من بغلته عند الإفاضة من عرفات فوقف عليه إسماعيل فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): (سر فإن الإمام لا يقف)(1)، وفي رواية أخرى (الإمام يقضي عن المؤمنين الديون)(2)، وقول الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي العباس: (ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا)(3)، وفي رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) (وكل سائس إمام)(4)، ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام): (ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه)(5)، وفي الرواية الآتية عن أبي جعفر (عليه السلام) وغيرها كثير في أبواب الحج وصلاة الجمعة والعيدين والأمور الحسبية.

2- ظاهر الرواية أن الأمر ليس صادراً من الإمام بما له من الولاية العامة على نفوس وأموال الناس بمقتضى الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة حتى لا يسري إلى الفقيه الجامع للشرائط وإنما هو -بناءً على مولويته- صادر من جهة وظيفته في التصدي لولاية الأمور العامة التي فيها حفظ نظام الناس وتسيير أمورهم، وهذه الوظيفة تنتقل إلى من بيده الأمر من المجتهدين الجامعين للشرائط في زمن الغيبة ولها نظائر في الروايات كرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من كانت عنده امرأة فلم يكسُها ما يواري

ص: 150


1- وسائل الشيعة: 11/398، أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره، باب 26، ح1.
2- وسائل الشيعة: 9/298، أبواب المستحقين للزكاة، باب 48، ح2.
3- وسائل الشيعة: 10/132 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح5.
4- الخصال للصدوق: 565، أبواب الخمسين، ح1.
5- نهج البلاغة: 3/75، رقم (45)، من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.

عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً على الإمام أن يفرّق بينهما)(1) وكذا ما ورد في إقامة صلاة الجمعة والعيدين مع الإمام، ولا نحتاج حينئذٍ إلى القول بالولاية العامة للفقيه لإتمام الاستدلال؛ لذا نجد من لا يقول بالولاية العامة للفقيه يذهب إلى ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي كالسيد الشاهرودي (قدس سره).

3- فرض كون الأمر شخصياً صادراً من الإمام المفترض الطاعة بعيد عرفاً، ولعل مما يشهد لذلك أكثر من قرينة:

(منها) أن أمر الإمام بالإفطار لم يصدر ابتداءً وإنما تأخّر حتى جاءت البينة في نهار اليوم التالي.

(ومنها) أن التحري عن هلال العيد وإقامة صلاته يشمل جميع بقاع المسلمين ولا يختص بموضع الإمام المعصوم.

4- حمل لفظ الإمام على الإمام المعصوم (عليه السلام) يعني أن الرواية مسوقة لبيان تكليف نفسه ولا جدوى من إلقائه إلى الناس.

5- إن حمل الصحيحة على هذا المعنى يجعلها على نسق روايات الرؤية كصحيحة منصور بن حازم (إذا شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه)(2) وقوله (عليه السلام): (إذا رأيتم الهلال فافطروا.. أو شهد عليه عدل من المسلمين)(3) وسياقاتها تشهد على المغايرة.

6- لو كان الأمر مولوياً فإنه لا مانع من التعبير عن إنشاء الحكم بلفظ الأمر كما في موارد عديدة، فلا إشكال من هذه الناحية، وإنما الإشكال من جهة عدم ظهور لفظ الأمر في الصحيحة في المولوية أصلاً للقرائن التي ذكرناها آنفاً، وإنما هو أمر إرشادي، والرواية واردة لبيان كفاية قيام البينة على هذا النحو

ص: 151


1- وسائل الشيعة: 21/509، كتاب النكاح، أبواب النفقات، باب 1، ح2.
2- وسائل الشيعة: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح4، 6.
3- وسائل الشيعة: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح4، 6.

-وهو أداء الشهادة في النهار وكونها على رؤية هلال الشهر المنقضي قبل ثلاثين يوماً- لثبوت الهلال والغرض من الأمر الإخبار عن تحقق الرؤية المعتبرة وثبوت أول الشهر أو أنه إرشاد إلى ذلك أو أن التعبير كناية عنه ونحو ذلك.ولمزيد من الفائدة نقول: إن الأوامر والنواهي المولوية:

(إما) أن تكون مستندة إلى الولاية العامة على الأنفس والأموال ويمثلون له عادة بما لو أمر زيداً أن يطلق زوجته وهو أمر غير معهود في سيرتهم (عليهم السلام)، نعم يمكن التمثيل له بنهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن أكل الحمر الأهلية في خيبر(1) مثلاً أو النهي الوارد في رواية عمار الساباطي (قال أبو عبد الله (عليه السلام) لي ولسليمان بن خالد: قد حرّمت عليكم المتعة ما دمتم بالمدينة لأنكما تكثران الدخول عليّ وأخاف أن تؤخذا فيقال هؤلاء أصحاب جعفر)(2) وكنهي هشام بن سالم عن المناظرات(3) وهذا النحو من الأمر تجب طاعته بلا إشكال.

ويتفرع عن هذه الولاية العامة ولاية الأمور العامة التي فيها حفظ نظام المجتمع وإقامة الحق والعدل، وهي التي تنتقل إلى الفقيه الجامع للشرائط دون الأولى الخاصة بالمعصوم (عليه السلام).

ص: 152


1- صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب 28، ح 5528.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 5، ح5.
3- روى الكشي بسنده عن يونس قال: قلت لهشام: إن أصحابك يحكون أن أبا الحسن عليه السلام سرّح إليك مع عبد الرحمن بن الحجاج أن أمسك عن الكلام، وإلى هشام بن سالم، قال أتاني عبد الرحمن بن الحجاج وقال لي: يَقول لك أبو الحسن عليه السلام: أمسك عن الكلام هذه الأيام فقال هشام: فأمسكتُ عن الكلام أصلاً حتى مات المهدي، وإنما قال لي هذه الأيام فأمسكت حتى مات المهدي) (اختيار معرفة الرجال: 2/542).

(أو) تكون تعبيراً عن بيان الحكم الفرعي الكلي في المسألة ففي بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر من فاتته الصلاة أن يقضي، وأمرهم أن ينحروا في منازلهم وأن يأكلوا من أضاحيهم(1)

وأمر علي (عليه السلام) الناس ألا يجتمعوا في رمضان للنوافل(2)، وفي بعض الروايات أمر (صلى الله عليهوآله وسلم) أن يطاف عن المبطون والكسير(3)، فهذه أوامر وردت لبيان الأحكام الشرعية لتلك المسائل من المشروعية وعدمها.

وهذا النحو من الأمر تجب طاعته أيضاً إلا إذا عُلم صدوره على غير جهة الحكم الواقعي وإنما للتقية(4) ونحوها.

ص: 153


1- عن معاوية بن عمار (عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين يُنحر ان يؤخذ من كل بدنة جذوة من لحمها ثم تطرح في برمة، ثم تطبخ فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام منها وحسيا مرقها) وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 40 ح11.
2- عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه.. إلى أن قال: والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة..) وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب نافلة شهر رمضان، باب 10 ح4.
3- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يطاف عن المبطون والكسير). (تهذيب الأحكام: 5/836، كتاب الحج، الباب 9 في الطواف حديث 77).
4- كالذي رواه علي بن سعيد البصري قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني نازل في بني عدي ومؤذنهم وإمامهم وجميع أهل المسجد عثمانية يتبرأون منكم ومن شيعتكم وأنا نازل فيهم فما ترى في الصلاة خلف الإمام؟ قال: صلّ خلفه، قال: واحتسب بما تسمع ولو قدمت البصرة لقد سألك الفضيل بن يسار وأخبرته بما أفتيك فتأخذ بقول الفضيل وتدع قولي، قال علي: فقدمت البصرة فأخبرت فضيلاً بما قال فقال: هو أعلم بما قال ولكني سمعته وسمعت أباه يقولان لاتعتد بالصلاة خلف الناصب اقرأ لنفسك كأنك وحدك، قال: فأخذت بقول الفضيل وتركت قول أبي عبد الله عليه السلام» (تهذيب الأحكام: 3/ 461، كتاب الصلاة، باب أحكام الجماعة، ح7).

(أما) الأمر في المقام فقد ورد لبيان تحقق موضوع الرؤية ودخول الشهر؛ لشهادة عادلين بالرؤية فأمره بالإفطار إعلان لتحقق ما ثبت في الشريعة من طرق ثبوت الهلال، والشاهد على أن الأمر هنا على هذا النحو تأخر الإمام بالإعلان عنه إلى نهار اليوم التالي حين جاءته البينة يعني أنه اعتمد على حجة معتبرة، ولم يكن أمراً مولوياً ولو كان كذلك لابتدأهم به.

فالأمر هنا كاشف عن تحقق موضوع الحكم الشرعي وهو طريق لتحصيل العلم به فلا يؤخذ به إلا مع الاطمئنان لصحة الطريق وهو ما يعتقده عامة الناس في مرجع التقليد لذا فإنهم يأخذون بقوله.

وفي الحقيقة فإنه يمكن مناقشة الاستدلال بالصحيحة بعدة أمور منها:-

1- ما ذكرناه من أن الأمر بالإفطار في الصحيحة ليس أمراً مولوياً ولا حكماً إنشائياً حتى يتم الاستدلال بها، وإنما إخبار عن تحقق موضوع البينة وثبوت أول الشهر بالحجة المعتبرة وإعلان عن وجوب الالتزام بالأثر المترتب عليه وهو الإفطار، والحجية حينئذٍ للبينة لا لحكم الحاكم، وقد عرفت حكمه.

نعم الأمر المولوي تعلق بإقامة صلاة العيد على التفصيل المذكور.

2- ولو تنزّلنا وقلنا أن الأمر مولوي فإن نفوذ الحكم يختص بمن يستحق عنوان الإمام وهو المتصدي لولاية الأمور العامة ولا يشمل مطلق المجتهد الجامع للشرائط -كماهو ظاهر إطلاق العنوان- ما لم ينهض بأعباء الأمور العامة للأمة مما يحفظ به كيان الدين وصلاح المجتمع ويتصدى للوظائف الدينية الاجتماعية مما فيه ائتمام واقتداء واتباع بحسب ما يقتضيه عنوان الإمام كما شرحناه سابقاً وليس من الضروري القيام بها جميعاً وإنما تتسع وتضيق

ص: 154

دائرة عمله بحسب ما يتيسر له من ظروف كصلاة الجمعة ونصب القضاة والمراتب العامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتخاذ المواقف العامة ونحو ذلك، والرواية نفسها شاهدة على ذلك لتصديه للأمر بإقامة صلاة العيد كجزئية من تفاصيل عمله الاجتماعي العام، وتدل عليه صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن الصلاة يوم الفطر والأضحى؟ فقال: ليس صلاة إلا مع إمام)(1).

لذا استبعد السيد الخوئي شمول عنوان الإمام النافذ حكمه «للمجتهد الجامع للشرائط بحيث لو حكم وهو في بيته وإن لم يقلده -بل لم يعرفه- أكثر الناس بأن هذه الليلة أول شهر شوال وجب على الكل ترتيب الأثر عليه وحرمت مخالفته فإن هذا لا يكاد يستفاد من هذه الصحيحة بوجه»(2) والنتيجة أن الحاكم الذي ينفذ حكمه ليس مطلق المجتهد الجامع للشرائط وإنما حصة خاصة منه، أي أن الدليل أخص من المدعى، وسيأتي الكلام في تحديد هوية الحاكم بإذن الله تعالى.

3- إن الصحيحة أخص من المدعى من جهة أخرى وهي اختصاصها بصورة قيام البينة لا مطلقاً كما لو حكم الحاكم بعلمه أو برؤيته.

وعلى أي حال فالاستدلال بالصحيحة غير تام لكنها تنفع كشاهد لصغرى تصدي ولاة الأمر لمسألة الهلال وسيأتي في الوجه الخامس إن شاء الله تعالى.

(الوجه الثالث) خبر رفاعة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟

ص: 155


1- وسائل الشيعة: 7/421، كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب 2، ح4.
2- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 22/81.

فقلت: ذاك إلى الإمام إن صُمتَ صمنا، وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام عليّ بالمائدة، فأكلت معه وأنا أعلم والله أنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يعبد الله)(1).

فقوله (عليه السلام): (ذاك إلى الإمام) نصّ في كون مسألة الهلال من وظائف الحاكم الشرعي، وهو ظاهر في الحكم الواقعي الأولي على نحو الكبرى واحتمال التقية فيه مدفوع بالأصل العقلائي وإن التقية حصلت بتطبيق الكبرى على المورد، إذ معهيكون حمل الكبرى على التقية بلا وجه فإن الضرورات تُقدَّر بقدرها والتقية تتحقق بالصغرى ولا تسوِّغ إلقاء الكبرى، فالمتعين كون التقية في التطبيق فقط.

وبهذا يندفع ما يقال من عدم جريان أصالة عدم التقية في بيان الكبرى لسقوطها بالتعارض مع أصالة العدم في الصغرى لتنجّز العلم الإجمالي بوجود تقية في البين.

وجه الاندفاع: تحقق التقية في الصغرى على كل تقدير، أي سواء كانت التقية في بيانها أو بيان الكبرى لأنها من مصاديقها فينحلّ العلم الإجمالي ويجري الأصل في الكبرى.

أقول: الرواية ضعيفة السند، والروايات الأخرى التي حكت هذه القضية خالية من عبارة (ذاك إلى الإمام) أو اقتصرت على قوله (عليه السلام): (ذاك إليك) والتقية فيه ظاهرة، وتواتر مضمون الحادثة إجمالاً لا يكون حجة إلا في القدر المتيقن مضافاً إلى ما ذكرناه في مناقشة الصحيحة السابقة حول المراد من الإمام.

نعم تنفع الرواية شاهداً على تصدي الحكام والقضاة لمسألة ثبوت الهلال، وجريان سيرة المسلمين على الرجوع إليهم ونفوذ حكمهم على المسلمين.

ص: 156


1- وسائل الشيعة: 10/132، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح5.

(الوجه الرابع) التسالم والسيرة العقلائية والمتشرعية:

قرّبنا عند الحديث عن تأريخ المسألة تفسير عدم تعرض القدماء لها بتسالمهم على ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي لذا فإنهم ناقشوا ما وراء ذلك كاشتراط قبول الحاكم في حجية البينة، وهل يجب على الشاهد أداء شهادته عند الحاكم ونحو ذلك، وإن أول من دوّن هذه المسألة وهو الشهيد في الدروس نظر إلى ما لو استند حكمه إلى رؤيته وعلمه باعتبار أن نفوذ حكمه المستند إلى البيّنة مسلَّم، وهكذا من جاء بعده كاستدلال صاحب المدارك على حجيته في هذه الحالة بقوله: «ولأنه لو قامت عنده البينة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام»(1).

أما السيرة العقلائية والمتشرعية فهو وجه اعتمده السيد السبزواري (قدس سره) واعتبره من المسلّمات، قال فيه: «الظاهر أن اعتبار حكم الحاكم في الجملة من المسلّمات العقلائية عند الناس؛ لأن لكل مذهب وملّة حاكم في أمورهم الدينية والدنيوية خصوصاً الأمور النوعية التي يحتاج النوع إليها، فالمقتضي للحجية في حكم الحاكم الجامع للشرائط موجود والمانع عنه مفقود، فلا بد من الاعتبار، فيصح أن يقال: إن كل مورد يرجع فيه الناس بفطرتهم إلى الحاكم يكون حكمه فيه معتبراً إلا مع ثبوت الردع، ولم يثبت إلا في غير الفقيه الجامع للشرائط فمقتضى فطرة الشيعة اعتبارحكمه لأنهم يرون حكمه حكم الإمام (عليه السلام) ».

«وبالجملة: كل ما يرجع فيه المتدينون إلى رئيسهم الديني في الأمور النظامية يكفي عدم ثبوت الردع عن الاعتبار ولا نحتاج إلى ثبوت الدليل على الحجية والاعتبار فضلاً عما ورد في المقام من الدليل عليه، والتشكيك في المقام

ص: 157


1- مدارك الأحكام: 6/170.

من التشكيك في الواضحات الفقهية، ولم أظفر على التشكيك فيه من القدماء، مع أن المسألة كانت ابتلائية لديهم».

«فما ناقشه بعض متأخري المتأخرين في شمول حجية الحكم للمقام مخالفة لمرتكزات المؤمنين بل الناس أجمعين حيث يتهاجمون آخر شعبان، وآخر شهر رمضان على باب دار من يزعمونه مرجعاً دينياً لهم لاستعلام حكم الصوم وجوباً وتحريماً وهذه السيرة كانت مستمرة إلى عصر المعصوم (عليه السلام) »(1).

أقول: سيأتي ما يمكن من المناقشة في هذه السيرة خلال الوجوه الآتية.

(الوجه الخامس) إن هذا القول مناسب لخلود الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لقيادة البشرية حتى يتحقق الوعد الإلهي للمؤمنين بالتمكين والاستخلاف وإظهار الإسلام على الدين كله ولو كره الكافرون، وقد ذكر الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) مثل هذا المعنى واعتبره مؤكداً للاستدلال بصحيحة محمد بن قيس قال فيه: «ومما يؤكد ذلك –وهو أن أمر الهلال من وظائف الحاكم- أن الحكومة الشرعية الإسلامية تمتد بامتداد الرسالة حيث أنها تعبير آخر عنه، ومن المعلوم أنها ليست محدودة بأمد معين كعصر العصمة بل تمتد إلى يوم القيامة. وعلى هذا فلا بد في كل عصر من وجود شخص يقوم بتطبيق الرسالة إن أمكن، وهو منحصر في عصر الغيبة بالمجتهد الجامع للشرائط، فإذا أتيحت له فرصة التطبيق كلاً أو بعضاً وجب أن يقوم به، ومن الواضح أن القيام به لا يمكن بدون الولاية، فإذن ثبوت ولاية التطبيق اجتماعياً وفردياً وسياسياً واقتصادياً وهكذا لا يحتاج إلى دليل خاص، بل هي امتداد للولاية العامة

ص: 158


1- مهذب الأحكام: 10/273-276.

بامتداد الرسالة السماوية، ولكن في حدود ضيقة»(1).

أقول: قد يجيب الخصم بانتفاء الحاجة إلى تدخل الحاكم وفرض ولايته في التطبيق ونفوذ حكمه لأن الشارع المقدس جعل طرقاً لثبوت الهلال تسدّ حاجة المجتمع ولم يترك المسألة سدىً.

وستأتي مناقشة مثل هذه النقاط في الوجوه الآتية إن شاء الله تعالى.(الوجه السادس) معتبرة أبي خديجة ومقبولة عمر بن حنظلة بتقريب آخر غير المذكور في الوجه الأول، وهذا التقريب اعتمده السيد الحكيم (قدس سره) وغيره(2) وقال فيه: «هذا ويمكن الاستدلال له بما ورد في مقبولة ابن حنظلة، من قوله (عليه السلام): (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً) وقوله (عليه السلام) في خبر أبي خديجة: (اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً) فإن مقتضى إطلاق التنزيل ترتيب جميع وظائف القضاة والحكام، ومنها الحكم بالهلال، فإنه لا ينبغي التوقف عن الجزم بأنه من وظائفهم التي كانوا يتولونها. فإنه لم يكن بناء المسلمين في عصر صدور هذه النصوص وغيره على الاقتصار في الصوم والإفطار على الطرق السابقة، أعني: الرؤية، والبينة، فمن قام عنده بعض تلك الطرق أفطر مثلاً، ومن لم يقم عنده شيء منها بقي على صومه، بل كانوا يرجعون إلى ولاة الأمر، من الحكام، أو القضاة، فإذا حكموا أفطروا بمجرد الحكم. وأقل سبر وتأمل كاف في وضوح ذلك، كيف! ولولاه لزم الهرج والمرج.

ويشير إلى ذلك: صحيح محمد بن قيس المتقدم، والمرسل المتضمن (أن

ص: 159


1- تعاليق مبسوطة: 3/189، فيض العروة الوثقى: 2/148.
2- فقه الصادق: 12/301.

ليلة الشك أصبح الناس فجاء إعرابي فشهد برؤية الهلال فأمر النبي صلى الله عليه وآله مناديا ينادي: (من لم يأكل فليصم. ومن أكل فليمسك)(1) وخبر أبي الجارود: (الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، والصوم يوم يصوم الناس) وما تضمن قول الصادق (عليه السلام) لأبي العباس: (ما صومي إلا بصومك، ولا إفطاري إلا بإفطارك) ونحوها»(2).

أقول: الوجه يتكون من مقدمتين:

أولاهما: إن الحكام والقضاة كانوا يتصدون للحكم بثبوت الهلال إما مباشرة أو بتوسط نوابهم من ولاة الأمصار أو القضاة فإذا ثبت عندهم اتبعهم المسلمون، والسيرة جارية على ذلك ولولا ذلك فإنه يختلّ النظام.

وثانيهما: دلالة الروايات على تنزيل الحاكم الشرعي منزلة الحكّام والقضاة الذين كانت السلطة تنصبهم فلهم نفس الوظائف الثابتة لهم.

مناقشة المقدمة الأولى:وقد تضمّنت المقدمة الأولى تقريبين:

أ- إن من وظائف الحكام والقضاة حفظ النظام ودفع ما يوجب اختلاله ويؤدي إلى حصول الهرج والمرج بلا فرق بين الأمور الدينية كالإفطار والصوم وصلاة العيدين أو الدنيوية فإذا أحيل أمر الهلال إلى أفراد الناس ليقوم كل واحد من المكلفين باتباع وسائل الإثبات كالبينة وعدّ الشهر السابق ثلاثين يوماً فيصوم أو يفطر فإنه يؤدي إلى الهرج والمرج واختلال النظام.

ب- إن سيرة المسلمين من الصدر الأول جارية على تصدي الحكام مباشرة أو

ص: 160


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/214 عن المعتبر، مسألة وقت النية في الصوم وقريب منه في المبسوط للسرخسي: 3/62.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/460.

غير مباشرة لمسألة الهلال واتباع المسلمين لهم إلى الآن.

وقد نفى السيد الخوئي (قدس سره) وجود مثل هذه السيرة قائلاً: «ولم يعهد في عصر أحد من الأئمة (عليهم السلام) -حتى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) المتصدي للخلافة الظاهرية- مراجعة الناس ومطالبتهم إياه في موضوع الهلال على النهج المتداول في العصر الحاضر بالإضافة إلى مراجع التقليد، إذ لم يذكر ذلك ولا في رواية واحدة ولو ضعيفة»(1).

وتبعه على ذلك بعض من حضرنا بحثه الشريف بعد أن وصف التقريب الأول بالنظري والثاني بالعملي، وردّ (دام ظله) التقريب النظري بأمرين:

«1- إن العرب قبل الإسلام كانوا مهتمين بالهلال وبالأشهر القمرية لابتناء حسابهم عليها «يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ»(2)

وترتبط مواسمهم كالحج بها وبالغوا إذ سمّوا كل ثلاثة أيام باسم (كما عن تفسير المنار) وفي شرح القاموس إن الشهر إنما سُمّي شهراً لشهرته بين الناس ومع أنهم ليس لهم حكومة إلا أن لهم حكاماً يجتمعون في دار الندوة ليفصلوا بينهم ومع ذلك فإنه لم يُنقل عنهم إيكال هذا الأمر إلى الحكام رغم ارتباط حياتهم به وعموم البلوى به وإنما كان الأمر موكولاً إلى الناس فإذا رأوا الهلال اشتهر بينهم وإلا أتموا الشهر ثلاثين يوماً وعلى هذا الأساس ورد في بعض الروايات أنه ليس الرؤية أن يراه واحد أو عشرة إذا رآه واحد رآه مائة(3)

ومعنى ذلك أنه مع الصحو لا يقبل ادعاءواحد أو

ص: 161


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/84.
2- سورة البقرة (189).
3- في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام من حديث (والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو فينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف ) (وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ، الباب11، ح11).

عشرة ولا يُعتنى به ولا بد أن يكون أمر له شهرة.

ومع وجود علّة في السماء فيمكن قبول شهادة اثنين من خارج المصر(1)

فهل يلزم مما ذكرناه الهرج والمرج واختلال النظام؟ فنحن نعتقد بعدم لزوم الهرج والمرج من إيكاله إلى عامة الناس بحيث يتطلب إيكاله إلى الحاكم. وإن القواعد الموضوعة لثبوت الهلال كافية لاجتماع الناس على الرؤية أو استصحاب الشهر السابق.

2- إن الاختلاف قد يحصل بين الحكام وقد لا يتبعهم الناس لعدم السلطة عليهم فيزيد الاختلاف ولو فرضنا حصول الهرج في إفطار جماعة وصيام آخرين لحجة عند كل منهما فهل من وظيفة الحكام المنع من ذلك أن هذا مما لم يثبت له وجه».

ثم رد (دام ظله) على التقريب العملي فقال «وأما الوجه العملي وهو استمرار سيرة المسلمين حكاماً وأفراداً على ذلك فهو مما لم يظهر لدينا وغير واضح عندنا وعلى تقدير وجوده فإنما كان على نحو الإظهار للناس إما قولاً أو عملاً أن هذه الليلة من شهر رمضان لا أنهم يحكمون ولا يتبعهم الناس من جهة حكم الحاكم وإنما لطبيعة فيهم أنهم على دين ملوكهم. ونحن قد رأينا في مدة

ص: 162


1- من رواية أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام): (وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد قد رأيته ويقول الآخرون لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر) (الباب 11، ح10).

عشرين سنة بعض الفقهاء(1) ممن لا يرى ثبوت الهلال بحكم الحاكم يقول:- قد ثبت عندي ويتبعه كثير من الناس فلا تدل هذه السيرة على أن الحكام كانوا يحكمون وإنما هو من باب إبراز الأمر ولا توجد شواهد أن من وظائفهم التحري والفحص عنه فمثلاً لا يوجد شاهد على أنه إذا كان في المدينة غيم فإنهم كانوا يرسلون المشاهدين إلى البلدان المجاورة ويسألون هل رأى الهلال أحد؟ ولا يسألون عمّالهم عن ثبوت الشهر، ولا شاهد على أن بناء الحاكم سواء كان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الخلفاء على إحضار الشاهد»(2).

أقول: هذه المقدمة ثابتة، ولا نرى مسوّغاً لإنكارها لأمور يمكن بيانها من خلالمناقشة كلامه (دام ظله الشريف) بعدة ملاحظات:-

1- إن حال العرب قبل الإسلام وطريقة حياتهم لا تجعل منهم شاهداً صحيحاً على إمكان استغناء المجتمع عن وجود جهة تتصدى لتحديد أوائل الشهور وترك الأمر إلى الناس من دون لزوم هرج أو مرج:-

أ- لأننا نستبعد عدم تصدي حكام دار الندوة لتحديد يوم الحج ويتبعهم العرب المتواجدون في مكة خلال الموسم المعروف لديهم إجمالاً لأننا نتحدث عن ترديد مقداره يوم أو يومان في نهاية ذي القعدة.

ب- لم يكن العرب قبل الإسلام مجتمعاً أصلاً حتى يستدل بعدم تصديهم لمسألة الهلال على عدم لزوم الهرج والمرج واختلال النظام من ذلك وإنما كانوا شراذم متفرقين ومفككين ويسودهم الهرج والمرج وعدم النظام وكانت حياتهم ساذجة بدائية خالية من كل معالم الحضارة

ص: 163


1- الظاهر أنه يقصد السيد الخوئي (قدس سره) وهو لا يرى ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي.
2- محاضرة بتأريخ 4/ج1/1417.

ومحدداتها كالوقت والمعرفة بالأوزان والتاريخ والسنين فلم تكن الساعة معروفة عندهم وليس لهم تاريخ ثابت وإنما يؤرخون بلحاظ بعض الأحداث كعام الفيل ويتغير بتغيرها والى حد زمان الخليفة الثاني حينما اختلف اثنان في وثيقة دَين مؤرخة في الأول من شعبان في أنه من هذا العام أو الذي يليه فدعا الخليفة الصحابة لحل المشكلة وأرشدهم أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بدء التاريخ من هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت بيوعهم بالمقايضة أو الكيل، هذا فضلاً عن عدم وجود سلطة ونظام إداري يحفظ حقوق الناس وواجباتهم.

ج_- إنهم وإن كانت لديهم بعض المواسم المرتبطة بالهلال كالحج أو الأشهر الحرم التي يوقفون فيها القتال الا أنها لم تكن مبنية على الدقة في رؤية الهلال وربما كانوا يصطلحون عليها لاحقاً كما يظهر من سبب نزول قوله تعالى: «يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ»(البقرة:217)(1) كما أن ظاهرة النسيء في الأشهر الحرم التي كانوا يجرونها بحسب مشتهياتهم دليل على عدم اكتراثهم بالحساب الحقيقي للشهور وتحايلهم عليها، وقد ذمهم الله تبارك وتعالى على ذلك بقوله «إِنَّمَاالنَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ

ص: 164


1- تقدمت قصتها في (صفحة 7) وأنها أنزلت حينما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرية وأمّر عليهم عبد الله بن جحش فوجدوا أحد المشركين في يوم كان مردداً بين الثلاثين من جمادى الآخرة أو الأول من رجب الحرام فامتنع بعضهم من قتله باعتبار أن اليوم هو الأول من رجب الحرام وأقدم آخرون باعتباره من جمادى الثانية فقتلوه فاستعظمت قريش ذلك ونزل قوله تعالى. (مجمع البيان: 1/551).

عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» (التوبة:37)، والنتيجة عدم صحة مقايسة المجتمع الجاهلي مع المجتمع الإسلامي حيث بدأت معالم المجتمع المتحضر والمدني تتضح بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأسيس دولته المباركة في المدينة المنورة واكتملت مقومات الدولة ونضجت في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) وحينئذٍ يصبح من الطبيعي الالتفات إلى ما يحفظ نظام المجتمع والدولة ومنع ما يوجب الاختلال والهرج والمرج.

2- إن ما ذكره (دام ظله) من عدم وجود سيرة لدى أولياء الأمور بالتصدي لرؤية الهلال مما لا تؤيده الوقائع التاريخية وقد أقرّ (دام ظله) عند مناقشته لمسألة إجزاء الوقوف في عرفة مع العامة بتصدي الحكام لأمر الهلال ودافع عن تشددهم في إثباته فما حدا مما بدا؟

وقد نقلنا (صفحة 134) عن الشيخ الطوسي (قدس سره) كلامه في التهذيب وهو (قدس سره) وإن ساقه شاهداً على أمر آخر إلا أنه يتضمن الشاهد على ما نحن فيه أيضاً بقوله: وما ثبت أيضاً من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكذا في خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) والشواهد عليه كثيرة، فمن روايات العامة ما رواه ابن عباس قال: (جاء إعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني رأيت الهلال، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا بلال أذّن في الناس فليصوموا غداً)(1)،وعن ابن عمر قال:

ص: 165


1- وما بعده سنن أبي داود: 1/547، كتاب الصيام، باب شهادة الواحد على رؤية الهلال.

(تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني قد رأيته فصام وأمر الناس بصيامه)، وروي عن جمع من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: (أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد)(1).

ومن رواياتنا ما تقدم في صحيحة محمد بن قيس وقول الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي العباس (ذاك إلى الإمام) ورواية أبي الجارود وفيها قول الإمام الباقر (عليه السلام): (الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحّي الناس، والصوم يوم يصوم الناس)(2)

بتقريب أن المراد بالناس بما هم منقادون لحاكم وظيفتهالنظر في هذا الأمر. ومعتبرة عيسى بن أبي منصور قال: (كنتُ عند أبي عبد الله (عليه السلام) في اليوم الذي يُشك فيه، فقال: يا غلام، اذهب فانظر أصام السلطان (وفي المصدر هل صام الأمير) أم لا؟ ثم عاد، فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدينا معه)(3)

ورواية عبد الله بن سنان عن رجل قال: (صام علي (عليه السلام) بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً شهر رمضان، فرأوا الهلال فأمر منادياً ينادي: اقضوا يوماً، فإن الشهر تسعة وعشرون يوماً)(4)،ودلّت رواية أبي علي بن راشد أن الإمام الهادي (عليه السلام) -وهو في المدينة- كان يدلّ شيعته في بغداد على أول شهر رمضان.

ص: 166


1- سنن ابن ماجة: 1/529، كتاب الصيام، الباب 6، الحديث 1653.
2- وسائل الشيعة: 10/133، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح7.
3- وسائل الشيعة: 10/131، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 58، ح1.
4- وسائل الشيعة: 10/296، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 14، ح1.

ويمكن تقريب الاستدلال بطائفة أخرى من الروايات مثل صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيز في الدَين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين، ولم يُجز في الهلال إلا شاهدي عدل)(1)

وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أن علياً عليه السلام كان يقول: (لا أجيز في الهلال الا شهادة رجلين عدلين)(2) وهي- أي الإجازة وإنفاذ الشهادة- بلحاظ موقعه في ولاية أمور الدولة أو القضاء فتدلّ على تصدّيه لمسألة الهلال.

ويستشف ذلك من الأحاديث التي أمرت بالصوم أو الإفطار (إذا شهد لك عدول) أو (بيّنة عادل) أو (شهد أهل البلد) أو (وجاء قوم) فأين يجيء هؤلاء وعند من يشهدون بحيث تصبح شهادتهم حجة على الأمة جميعاً(3).

فهذه الروايات الكثيرة وغيرها تدل على أن أمر الهلال كان بيد الحاكم الإسلامي وأنه كان من شؤون الحكومة ووظائفها التي تتولاها، ولم يكن بناء المسلمين على استقلال الأفراد في تحديد أوائل الشهور بحسب قناعاتهم، بل كان الناس تابعين لها في الصوم والفطر والحج، فكان ذلك سبباً لاجتماع الناس على هذه الأمور ودفع الاختلاف والهرج والمرج.وقد رأينا في الزمان المعاصر كيف أن أبعد الحكام الطواغيت عن الإسلام وأشدهم ضراوة في معاداته يتصدى لمسألة الهلال ويعلن تبني الدولة لأوائل الشهور ويعاقب من يخرج عن قرار الدولة.

وهذه السيرة اتفق عليها الأعلام حيث نقلنا كلمات بعضهم، وقال بعض أعلام العصر: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين

ص: 167


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 14 ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11 ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ، الباب 4 و5و8و11.

(عليه السلام) والحكام والقضاة في جميع الأعصار يهتمّون به -أي الهلال- وكان تحقيقه وإثباته من وظائفهم التي يتولونها وكان المسلمون يرجعون فيها إلى ولاة الأمر من الحكام ونوابهم قطعاً، كما يشهد بذلك السيرة المستمرة الباقية إلى أعصارنا»(1).

وإن ما نقله دام ظله عمّن لم يكن يقول بثبوت الهلال بحكم الحاكم لكنه يقول ثبت عندي دليل على وجود ارتكاز لدى مراجع التقليد وأولياء الأمور بأن وظيفتهم التصدي لأمر الهلال وجمع شمل الأمة. ولا حاجة إلى أن يستشهد بغيره فانه هو نفسه (دام ظله) يتصدى لهذا الأمر ويسأل وكلاءه ومعتمديه في مختلف البلدان ويعلن في النهاية عن القناعة التي يتوصل إليها رغم أنه ممن التزم بمنع ثبوت الهلال بحكم الحاكم.

3- إذا لم تكن مسألة الهلال من وظائف الحكام وولاة الأمر والتي يرونها من مختصاتهم فما هو تفسير تشديدهم العقوبة على من يخالفهم في ذلك بحيث تصل إلى القتل كما في حادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي العباس؟ وقد فصّلنا البحث أكثر في هذه النقطة في مسألة الوقوف بعرفة حيث لم ينقل لنا التأريخ ولا كتب الروايات أن الأئمة (عليهم السلام) خالفوا السلطة الحاكمة في الوقوف خلال مدة تزيد عن مائتي عام.

4- لا ينبغي الشك في أن إيكال أمر الهلال إلى الناس ليعتمد كل واحد منهم على نفسه في تطبيق القواعد الشرعية لمعرفة ثبوت الشهر وعدمه مما يسبب الهرج والمرج والفرقة بين المسلمين وربما يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضاً ونحن نرى اليوم مطالبة المسلمين بعدم الاكتفاء باجتماع الدولة الواحدة على هلال واحد ويطالبون باجتماع الدول الإسلامية كلها على هلال واحد ويشعرون بالمرارة من اختلاف المسلمين في أمر الهلال وعجزهم عن التوحد

ص: 168


1- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/600.

عليه. وترى أنظمة الحكم في الدول الإسلامية حتى أشدها عداوة للإسلام وأهله أن من واجبها حفظ وحدة المجتمع فتتصدى مؤسساتها للحكم بثبوت الهلال في رمضان وشوال وذي الحجة ومحرم الحرام.

لذا نحن نعتقد أن التصدي لرؤية الهلال وجمع شمل الأمة من وظائف المجتهد الجامع للشرائط بحكم نيابته عن الإمام ويرتقي إلى كونه من الواجبات الاجتماعية–كإقامة صلاة الجمعة أو تعيين القضاة الشرعيين أو حفظ النظام العام- التي تناط بالفقيه الجامع للشرائط المتصدي لقيادة حركة الأمة.

5- إننا لو سلّمنا عدم حصول الهرج والمرج واختلال النظام بعدم تصدي الحكام وأولياء الأمور لمسألة الهلال فإن الحاكم الشرعي باعتباره نائباً عن الإمام وبمقتضى قاعدة اللطف الموجبة لنصب الإمام وجعل نواب له في غيبته يكون ملزماً بالقيام بكل ما يقرّب الناس إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية ومنها تحديد أوائل الشهور لئلا تفوتهم الأيام العظيمة والمناسبات الشريفة ولئلا يفطروا في يوم صوم أو يصوموا في يوم عيد، وهو الذي وقعت فيه الأمة بسبب إقصائها لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما في الرواية المتقدمة (صفحة 141).

6- إن الشارع المقدس وإن حدد طرقاً لثبوت الهلال إلا أن رؤيته ليست أمراً متاحاً لعامة المسلمين بل للنوادر، كما أن ترتيب الأثر الشرعي على الرؤية يتطلب معرفة وإلماماً ببعض المبادئ الشرعية لا تتسنى للأكثر كعدالة الشهود وتطابق شهاداتهم وعدم وجود ظروف ذاتية تتعلق بهم أو موضوعية تتعلق بإمكانية الرؤية تمنع من قبول شهاداتهم ووجود ديوان أو دار يقصدونها للإدلاء بشهاداتهم أو ان السماء إذا كانت صحواً وتصدى عدد كبير من الناس فلا يُكتفى برؤية الاثنين فقط أو كفاية رؤيته في بلد لثبوته في بلد آخر ونحوها من التفاصيل الدقيقة التي تمنع من إيكال أمر الهلال إلى الناس، مما

ص: 169

يوجب على المرجعية الدينية (حكاماً أو قضاة أو مراجع تقليد) أن تتصدى بنفسها لضبط الحالة في ضوء القواعد الشرعية ولا يحصل الاطمئنان بكلام غيرهم لوجود هذه الخصوصيات الخافية على الغير، وبتعبير مختصر: إن موضوع الهلال من الموضوعات التي تحتاج إلى معرفة لتنقيحها لا تتيسر إلا لأهل الخبرة. ومن الطريف أن مراجع التقليد يختلفون في حصول القناعة بثبوت الهلال ولا يطمئن بعضهم إلى مقدمات البعض الآخر فكيف يوكل الأمر إلى عامة الناس؟!.

7- افتراض حصول الخلاف بين الناس بسبب اختلاف مراجعهم الدينية لا موضوع له؛ لأن المفروض وجود حاكم شرعي يحكم بثبوت الهلال وينفذ حكمه على الجميع مجتهدين ومقلدين، ولو تنزّلنا وافترضنا حصول الاختلاف فإنه ينبغي التفريق بين الخلاف الحاصل من الاختلاف بين الحكام وبين الحاصل بسبب عدم تصدي الحكام للأمر فإن الاختلاف الأول حالة منضبطة وهو اختلاف صغروي ولا يوجب خلافاً ولا تمزقاً لوجود عذر في رجوع كل فئة إلى مرجعيتها ولا يلام عليه أولياء الأمور (حكاماً كانوا أو مراجع تقليد) أما الثاني فهي حالة غير منضبطة وموجبة للفوضى.

ولو افترضنا أن اختلاف الحكّام أدّى إلى نزاع بين الأتباع فإنه بسبب سوء التطبيق ولا يلغي الحاجة إلى التشريع نظير نصب الإمام الذي وصفته الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) (وجعل طاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا أماناًمن الفرقة)(1)

وهذا ما لم يتحقق خارجاً فقد اختلفت الأمة وتمزقت وأنهكتها الحروب لكن ذلك بسبب عدم الالتزام بالتشريع ولا يكون مبرراً لإلغائه بحجة عدم حله للخلاف، لكن المُقَنّن يلام لو ترك الأمة سدى ولم يعين لها من يرجعون إليه.

ص: 170


1- الاحتجاج، للشيخ الطبرسي: 1/134.

ثم ناقش (دام ظله الشريف) في الروايات التي ذكرها السيد الحكيم (قدس سره) شاهداً على هذه الصغرى وليس كأدلّة على ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي، لكنه (دام ظله الشريف) قال: «وأما ما استدل به قدس سره من الروايات فقد تعرض لثلاثة منها» وبعد مناقشات في سندها ومتنها قال: «فلا يمكن الاستدلال بهذه الأخبار على أن حكم الحاكم إحدى الطرق لثبوت الهلال، ومن العجيب أن يتمسك بعضٌ ومنهم صاحب المستمسك بهذه الأخبار».

أقول: قد عرفت أنها أوردت شواهد على الصغرى أي تصدّي الحكام لمسألة الهلال وجريان سيرة المسلمين على اتباع حكامهم في أمر الهلال وهي تصلح لذلك ولم تُذكر كأدلة فلا وجه للاستغراب ولا حاجة للإطالة بإيراد هذه المناقشات والتعليق عليها.

مناقشة المقدمة الثانية:

وهي أن كل ما ثبت للحكام والقضاة فهو ثابت للفقيه بمقتضى قوله (عليه السلام) في مقبولة عمر بن حنظلة: (إني جعلته حاكماً) وقوله (عليه السلام) في معتبرة أبي خديجة: (فإني قد جعلته قاضياً) بعد فرض أن من وظائف القاضي النظر في مسألة الهلال.

ويمكن القول أن ورود لفظ (حاكم) في المقبولة و(قاضي) في المعتبرة لا يؤثر على وحدة تقريب الاستدلال بهما؛ لأن المراد بالحاكم القاضي في النصوص الشرعية، كقوله تعالى: «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ» (البقرة:188) فعن ابن فضال نقلاً عن خط أبي الحسن الثاني (عليه السلام) (الحكام: القضاة)(1)،وقوله تعالى: «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ

ص: 171


1- وسائل الشيعة: 27/15، أبواب صفات القاضي، باب 1، ح9.

النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» (النساء:58) وقول الإمام الصادق (عليه السلام) في خبر سليمان بن خالد (اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي) أو وصي نبي)(1).

وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر في ما يتعلقباختيار القضاة (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك)(2).

والروايتان هما:

الأولى: ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أحمد بن عائذ -والطريق معتبر وأحمد ثقة- عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال بسند معتبر قال: (قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه)(3).

وروى الحديث الشيخ الكليني (قدس سره) إلا أنه قال: (شيئاً من قضائنا).

ووردت الرواية بطريق آخر في كتاب التهذيب حيث رواها الشيخ الطوسي (رحمه الله) بسنده عن الحسين بن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة وورد في مقدمته (بعثني أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابنا فقال: قل لهم... الحديث)(4)

وهذا الطريق فيه إشكال من أكثر من جهة:

الأولى: ورود أبي الجهم وهو مشترك بين (ثوير بن أبي فاختة) الذي لم تثبت وثاقته و(بكير بن أعين) الثقة ولا تنفع رواية ابن أبي عمير عن أبي الجهم

ص: 172


1- وسائل الشيعة: 27/17 ، أبواب صفات القاضي، باب 3، ح3.
2- نهج البلاغة: 3/104، الكتاب 53.
3- وسائل الشيعة: 27/13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 1، ح5.
4- وسائل الشيعة: 27/136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح6.

لاحتمال أنه الثاني لتصريحه باسمه في مورد آخر.

الثانية: الإرسال فإن الراوي عن أبي الجهم هو الحسين بن سعيد وهو من أصحاب الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) فكيف يروي عن بكير المتوفى في حياة الإمام الصادق أو ثوير وهو من أصحاب الإمام زين العابدين والباقر والصادق (عليهم السلام).

وقيل لدفع الإرسال بوجود شخص ثالث يُكنى بأبي الجهم تناسب طبقته رواية الحسين بن سعيد عنه لكنه يبقى مجهول الاسم والوثاقة بالتبع لكن السيد الخوئي (قدس سره) أخذ بهذا الاحتمال(1)

وقال «فهو رجل مجهول الاسم، لكنه ثقة كما عرفت» ولم يسبق منه دليل على توثيقه إلا وروده في كامل الزيارات وقد عُرِف عنه عدوله عن هذه الكبرى وأما اختياره لهذا الاحتمال دون القول بالإرسال فالظاهر أنه لاستبعاد الإرسال باعتبار رواية عدد من طبقة الحسين بن سعيد عنه كمحمد بن خالد البرقي وغيرهما فيبعد حمل كل هذه الروايات على الإرسال، وعلى أي حال فإن هذاالاحتمال لا يدفع الإشكال لجهالته وهذه النتيجة التزم بها السيد الخوئي نفسه في تقريرات بحثه في كتاب الصوم(2)

ولم يتعرض للاحتمال الذي رجحه في معجم الرجال.

ولا يستشكل من جهة أبي خديجة فقد وثّقه النجاشي وقال عنه (ثقة ثقة) ولا يضر تضعيف الطوسي لاحتمال اشتباهه بسالم بن أبي سلمة على ما يظهر من عبارته (رحمه الله) من أن سالم بن مكرم يكنى أبوه بأبي سلمة بينما ذكر الآخرون أن أبا سلمة كنية لنفس سالم.

وقد أورد السيد الخوئي (قدس سره) على الاستدلال بالرواية بما يمكن تلخيصه في نقاط:-

ص: 173


1- معجم رجال الحديث: 21/122.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/89.

1- إن الرواية «ناظرة إلى قاضي التحكيم أي الذي يتراضى به المتخاصمان الذي لا يشترط فيه إلاّ معرفة شيء من أحكام القضاء، لا إلى القاضي المنصوب ابتداءً الذي هو محلّ الكلام ويعتبر فيه الاجتهاد كما تقدّم، وإلاّ فقاضي التحكيم لا يكون حكمه نافذاً في غير خصم النزاع الذي رفعه المتخاصمان إليه ورضيا به حكماً، لا في الهلال ولا في غيره بلا خلاف فيه ولا إشكال»(1).

2- ولو تنزّلنا وقلنا أنها واردة في القاضي المنصوب ابتداءً وأن من وظائفه النظر في ثبوت الهلال، إلا «أن مجرّد تصدّي قضاة العامّة لأمر الهلال خارجاً لا يكشف عن كونه من وظائف القضاء في الشريعة المقدّسة، حتّى يدلّ نصب أحد قاضياً على كون حكمه في الهلال ماضياً بالدلالة الالتزاميّة، ولعلّهم ابتدعوا هذا المنصب لأنفسهم كسائر بدعهم، فلا يصحّ الاحتجاج بعملهم بوجه بعد أن كانت الملازمة المزبورة خارجيّة محضة ولم يثبت كونها شرعيّة»(2).

«ومن الجائز أن الشارع قد اقتصر فيه على الطرق المقرّرة لثبوته من الشياع والبيّنة والرؤية، وإلاّ فبالعمل بالاستصحاب بمقتضى قوله (عليه السلام): (صم للرؤية وأفطر للرؤية) كما هو الشأن في غيره من سائر الموضوعات الخارجيّة التي منها دخول الوقت، أفهل يحتمل ثبوت الغروب -مثلاً- بحكم الحاكم ليجوز الإفطار؟ كلاّ، بل على كلّ مكلّف تتبّع الطرق المتكفّلة لإثباته. فليكن هلال رمضان وشوّال أيضاً من هذا القبيل من غير أيّة خصوصيّة فيه. ولأجل ذلك استشكلنا في ثبوت الهلال بحكم الحاكم»(3).

ص: 174


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/89.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/86.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/89.

أقول: تبعه على ذلك بعض من حضرنا بحثه الشريف وأضاف(1):-

1- «إن وظيفة القاضي ابتداءً هو فصل الخصومات أما بقية الشؤون كإجراء الحدود فقد أضيفت إلى منصب القضاة لو فرضنا أن ثبوت الهلال مما أوكل إلى القاضي وليس في قول الإمام (عليه السلام) (إني جعلته عليكم قاضياً) إطلاق لفظي حتى يدل على أن جميع ما تكفله القضاة وإن لم يرتبط بفصل الخصومات مجعول للقاضي من قبل الإمام وإنما يختص الجعل بنفس القضاوة.

قد يتمسك بالإطلاق المقامي لإثبات ذلك بتقريب أن الإمام لم يفصل بين القاضي المتخصص بفصل الخصومات وغيره فالمفروض ثبوت الجميع له أو بتعبير المستمسك ثبوت ذلك بعموم التنزيل بموجب رواية أبي خديجة ولكن الظاهر عدم وجود مثل هذا الإطلاق في الرواية فإنها بصدد وقوع تخاصم بينهم وتحذيرهم من التخاصم إلى قضاة الجور ومقتضاه الرجوع إلى قضاة الشيعة في الخصومات وليس فيها إطلاق لفظي ولا مقامي ليشمل كل الجهات المضافة إليه.

2- لو فرضنا وجود الإطلاق المقامي وأن كل ما يرجع فيه إلى قضاة الجور ثابت من هذه الجهة أو ما سماها في المستمسك إطلاق التنزيل ولكن هل ثبت في شيء من الروايات تعميم وظائف القضاة يومئذٍ إلى ما يشمل مسألة الهلال أو ورد في شيء من التواريخ؟ نقول ليس هناك دليل في الروايات الكثيرة وبعض التواريخ الدالة على حصول التوسع وتصديهم لجملة من الأمور على دخول مسألة الهلال فيها ومنها رواية عقبة بن خالد(2) (المتضمن لكلام

ص: 175


1- محاضرة 16/ج1/1417.
2- روى الكليني بسنده إلى علي بن عقبة، عن أبيه عقبة بن خالد قال: (قال لي أبو عبد الله عليه السلام لو رأيت غيلان بن جامع، واستأذن علي فأذنت له وقد بلغني أنه كان يدخل إلى بني هاشم فلما جلس قال: أصلحك الله أنا غيلان بن جامع المحاربي قاضي ابن هبيرة، قال: قلت: يا غيلان ما أظن ابن هبيرة وضع على قضائه إلا فقيهاً، قال: أجل، قلت: يا غيلان تجمع بين المرء وزوجه؟ قال: نعم، قلت: وتفرّق بين المرء وزوجه؟ قال: نعم، قلت: وتقتل؟ قال نعم، قلت: وتضرب الحدود؟ قال: نعم، قلت: وتحكم في أموال اليتامى؟ قال: نعم، قلت: وبقضاء مَن تقضي؟ قال: بقضاء عمر وبقضاء ابن مسعود وبقضاء ابن عباس وأقضي من قضاء أمير المؤمنين بالشيء، قال: قلت: يا غيلان ألستم تزعمون يا أهل العراق وتروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: علي أقضاكم، فقال: نعم، قال: قلت: وكيف تقضي من قضاء علي عليه السلام زعمت بالشيء ورسول الله صلى الله عليه وآله قال: علي أقضاكم؟ قال: وقلت: كيف تقضي يا غيلان! قال: أكتب هذا ما قضى به فلان بن فلان لفلان بن فلان يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من سنة كذا ثم أطرحه في الدواوين، قال: قلت: يا غيلان هذا الحتم من القضاء فكيف تقول إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد ثم وجدك قد خالفت قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام قال: فأقسم بالله لجعل ينتحب قلت: أيها الرجل اقصد لسانك، قال: ثم قدمت الكوفة فمكثت ما شاء الله ثم إني سمعت رجلاً من الحي يحدث وكان في سمر ابن هبيرة قال: والله إني لعنده ليلة إذ جاءه الحاجب فقال: هذا غيلان بن جامع فقال: أدخله، قال: فدخل فساءله ثم قال له: ما حال الناس أخبرني لو اضطرب حبلٌ مَنْ كان لها؟ قال: ما رأيت ثَم أحداً إلا جعفر بن محمد عليه السلام، قال: أخبرني ما صنعت بالمال الذي كان معك فإنه بلغني أنه طلبه منك فأبيت؟ قال: قسمته، قال: أفلا أعطيته ما طلب منك قال: كرهت أن أخالفك، قال: فسألتك بالله أمرتك أن تجعله أولهم قال نعم، قال: ففعلت؟ قال: لا، قال: فهلا خالفتني وأعطيته المال كما خالفتني فجعلته آخرهم؟ أما والله لو فعلت ما زلت منها سيداً ضخماً، حاجتك؟ قال: تخليني؟ قال: تكلم بحاجتك، قال: تعفيني من القضاء، قال: فحسر عن ذراعيه ثم قال: أنا أبو خالد لقيته والله علباً ملفقاً، نعم قد أعفيناك واستعملنا عليه الحجاج بن عاصم) (الكافي، الجزء 7، ص429، باب النوادر ح13).

الإمام (عليه السلام) مع غيلانقاضي بني أمية في بني هبيرة) (قال : أتجمع

ص: 176

بين الرجل وزوجته وتفرق وتقتل وتحكم في أموال اليتامى؟ قال: نعم) وفي رواية داوود بن فرقد(1)

قال الصادق (عليه السلام): (من هذا الذي معك؟ قال ابن أبي ليلى. قال: تأخذ مال هذا وتعطي هذا وتقتل) فناقش الإمام من جهة استناده في الحكم إلى مأثور الشيخين ولم يناقش من جهة التوسعة.

وفي تاريخ التمدن الإسلامي: كان القضاء في صدر الإسلام منحصراً ثم أضيف إلى أعمال القاضي بعض الأمور العامة.. ثم امتدت سلطتهم إلى النظر في مصالح الطرقات وتوسع بعض الخلفاء حيث أعطاهم أمر الجهاد كيحيى بن أكثم ولم يذكروا من شؤون القضاة الحكم بالهلال في كتب أهل السنة كالأحكام السلطانية فهو أمر مستحدث لم يكن في عصر صدور الرواية لتحمل عليه رواية أبي خديجة».

ص: 177


1- روى الكليني بسنده عن داود بن فرقد قال: حدثني رجل، عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي قال: (كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتى جئنا إلى المدينة فبينا نحن في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله إذ دخل جعفر بن محمد عليهما السلام فقلت لابن أبي ليلى: تقوم بنا إليه فقال: وما نصنع عنده؟ فقلت: نسائله ونحدثه، فقال: قم فقمنا إليه، فساءلني عن نفسي وأهلي، ثم قال: من هذا معك؟ فقلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين، فقال له: أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟ قال: نعم، قال: تأخذ مال هذا فتعطيه هذا؟ وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه؟ لا تخاف في ذلك أحداً؟ قال: نعم، قال: فبأي شيء تقضي؟ قال: بما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن علي عليه السلام وعن أبي بكر وعمر قال: فبلغك عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: إن علياً عليه السلام أقضاكم؟ قال: نعم، قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي عليه السلام وقد بلغك هذا، فما تقول: إذا جيء بأرض من فضة وسماء من فضة ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال: يا رب إن هذا قضى بغير ما قضيت؟ قال: فاصفر وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ثم قال لي: التمس لنفسك زميلاً والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً) (فروع الكافي، ج7/408، كتاب القضاء، باب 252: من حكم بغير ما أنزل الله عز وجل، ح5).

أقول: يمكن ردّ هذه المناقشات بعدة نقاط:-

1- إن مورد الرواية لا يصلح لتخصيص التنزيل والجعل بحل الخصومات إذ الظاهر أن أمر الإمام (عليه السلام) الرجوع في المخاصمات إلى الفقيه لأنه مجعول قاضياً من قبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في المرتبة السابقة أي أن هذا التعيين العام للفقهاء في مكان القضاة سابق رتبة عن توجيه الشيعة لمراجعتهم في حلّ الخصومات وإن نهي الشيعة عن مراجعة قضاة الجور لوجود قضاة العدل وهم الفقهاء فالفاء هنا للتعليل أي أن جعل الفقهاء قضاة علّة لوجوب الرجوع إليهم في باب المنازعات باعتبارها واحدة من وظائفهم من دون تخصيصها بها، ويشهد لهذا الاستظهار إضافة الإمام (عليه السلام) قوله: (فإني قد جعلته عليكم قاضياً فلو كان المراد الرجوع إليه في حل الخصومات فقط لاكتفى بقوله: (اجعلوا بينكم رجلاً) فهذه الإضافة للإشعار بأن وظيفته أوسع من ذلك وأن هذا التوجيه إليه لحل الخصومات من تطبيقات وظيفته، وسيأتي (صفحة 183) وجه لاستظهار هذا المعنى بقرينة الآية التي استشهد بها الإمام (عليه السلام).

ويمكن فهم هذا بتوضيح من الآية الكريمة «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» (ص:26) فتكليفه بالحكم بين الناس فرع جعلِه خليفة في الأرض ونتيجة هذه النقطة أن كل صلاحيات القضاة ممنوحة للفقهاء، وليس فقط فضّ الخصومات بمقتضى هذه المعتبرة.

2- ومما يقتضي عموم التنزيل نفس البدلية، فعندما يمنع الإمام (عليه السلام) من الرجوع إلى قضاة الجور ويأمر الشيعة بالرجوع إلى الفقهاء لإدارة أمورهم وحل مشاكلهم وسد احتياجاتهم فلا بد أن يشمل كل ما يرجعون به إليهم، فالإطلاق المقامي متحقق.

3- إن صلاحيات القضاة كانت مقتصرة في زمان صدر الإسلام على النظر في الخصومات باعتبار أن الوظائف الدينية العامة -ومنها مسألة الهلال- كانت

ص: 178

بيد الحاكم الذي يرى نفسه سلطة دينية أو شرعية وأوكل خصوص فض النزاعات إلى القضاة وقد أوردنا روايات كثيرة على تبنّي السلطة لمسألة الهلال ثم بدأ الملوك بالتخلي عن الوظائف الدينية تدريجياً وإناطتها بالقضاة حتى أصبح قاضي القضاة أعلى سلطة دينية في الدولة وله صلاحيات واسعة منها الإفتاء والولاية على الأوقاف وأموال الصغار، وقد ذكر الماوردي وأبو يعلى أن نظر القاضي يشتمل على عشرة أحكام أحدها فصل الخصومات(1)،ثم توسعت إلى النظر في بعض الأمور العامة كما نقل عن تأريخ التمدن، وكان يحيى بن أكثم (ولد سنة 160 ه_ /777م وولي القضاء وعمره 20 سنة) قاضي القضاة أيام المأمون أي في عصر المعصومين (عليهم السلام)، وما ذكره (دام ظله الشريف) من الروايتين لا تدل على حصر وظائف القضاة وإنما هي من باب المثال، بل إن نفس هاتين الروايتين تدلان على إمضاء الإمام لسعة صلاحيات القضاة لأن الإمام (عليه السلام) سجّل اعتراضه على عدم استنادهم إلى المصادر الحقيقية للعلم ولم يعترض على سعةصلاحياتهم.

وقد دلّت روايات أخرى على وظائف أوسع كما في موثقة إسماعيل بن سعد قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل مات بغير وصية وترك أولاداً ذكراناً وغلماناً صغاراً، وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: نعم. وعن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت، ولا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار، أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده الأكابر أو إلى القاضي وإن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ وإن كان دفع المتاع إلى الأكابر ولم يعلم فذهب فلم يقدر على رده كيف يصنع؟ قال: إذا أدرك الصغار وطلبوا لم يجد بداً من

ص: 179


1- الأحكام السلطانية للماوردي: 94، والأحكام السلطانية لأبي يعلى: 65.

إخراجه إلا أن يكون بأمر السلطان...)(1) وصحيحة ابن بزيع في بيع جواري من لم يوصِ(2).

ونتيجة هذه النقطة أن القضاة كانوا يمارسون دوراً أوسع من فضّ الخصومات، وأن جعل الإمام (عليه السلام) الفقهاء قضاة يمنحهم تلك الصلاحيات الواسعة حتى لو منحت بعد زمان صدور النص من الإمام الصادق (عليه السلام) ما دامت الصلاحيات تُمنح في زمن المعصومين (عليهم السلام) لأن الأوامر المولوية للإمام تبقى نافذة ما لم ينسخها الإمام اللاحق، ولم يحصل مثل هذا النسخ فيحمل النص عليها.

4- إن مسألة الهلال كانت ضمن هذه الصلاحيات التي يوكلها الحاكم إلى القاضي واعترف بذلك السيد الخوئي وهو ممن استشكل في ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي، قال (قدس سره): «إن وظيفة القضاة لم تكن مقصورة على حسم المنازعات فحسب، بل كان المتعارف والمتداول لدى قضاة العامّة التدخّل في جميع الشؤون التي تبتلى بها العامّة، ومنها: التعرّض لأمر الهلال، حيث إنّهم كانوا يتدخّلون فيه بلا ريب، وكان الناس يعملون على طبق قضائهم في جميع البلدان الإسلاميّة، فإذا كان هذا من شؤون القضاء عند العامّة وثبت أنّ الإمام (عليه السلام) نصب شخصاً قاضياً فجميع تلك المناصب تثبت له بطبيعة الحال، فلهذا القاضي ما لقضاة العامّة، ومنه الحكم في الهلال، كما هو المتعارف في زماننا هذا تبعاً للأزمنة

ص: 180


1- وسائل الشيعة: 19/422، أبواب أحكام الوصايا، باب 88، ح3.
2- وسائل الشيعة: 17/363، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، باب 16، ح2.

السابقة، لما بين الأمرين من الملازمة الخارجيّة»(1).

ويشهد لذلك السيرة الجارية إلى اليوم حيث لم يكن بناء المسلمين على استقلال كل فرد بالتعرف على حكم أول الشهر واتخاذ قرار الصوم أو الإفطار أو الحج، بل كانت لهم جهة ما يرجعون إليها سواء كان ولي الأمر أو القاضي.

وهذا أمر طبيعي للتفاصيل الكثيرة في أمر الهلال التي تخفى على غير الفقيه(2)

وقد أشرنا إليها مراراً، ولما تتضمنه من الشهادات والتحقق من حال الشهود ولكي يحصل إعلام بتحقق الشهادة على الهلال وإلا فكيف يعرف الناس برؤية الشاهدين إذا لم يشهدا بها أمام الحاكم أو القاضي، ولذا أوجب بعض العامة أداء الشهادة على رؤية الهلال عند القاضي فقال الحنفية: «تكون الشهادة في مصر أمام القاضي، وفي القرية في المسجد بين الناس» وقال المالكية: «ويجب على العدل أو العدلين رفع الأمر للحاكم أنه رأى الهلال لينفتح باب الشهادة، ولأنه قد يكون الحاكم ممن يرى الثبوت بعدل»(3).

ص: 181


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/86، لكنه (قدس سره) أنكر دلالة الرواية على المطلوب من جهة احتمال أن هذا التصدي من القاضي من مبتدعاتهم وليس من الوظائف المقرّرة وقد دفعنا ذلك بالإطلاق المقامي فالتنزيل ناظر إلى ما كان يمارسه القضاة خارجاً وهو مقتضى البدلية عن الرجوع إلى قضاة الجور.
2- ولذا نستغرب من قياس السيد الخوئي مسألة أوقات الصلاة على مسألة الهلال في كلامه الآتي (صفحة 263) فإن أوقات الصلاة أمر معروف للناس، ويعرف الجميع متى يتحقق غروب الشمس أو شروقها، وغيرهما وفق العلامات الموضوعة للأوقات، وإن لكل موضع من الأرض مشرقه ومغربه ولا علاقة له بأي بلد آخر كما في الهلال.
3- موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 2/528.

ويمكن شمول الجعل لمسألة الهلال بعموم العلة بأن يقال: «إن أصل الحكم إنما هو لأجل قطع التفرقة والاختلاف فعلاً أو شأناً، رفعاً أو دفعاً، ولا ريب في تحقق الأخير في مثل رؤية الهلال»(1)

بل يكون الرجوع في الهلال أولى لأن حسم أسباب الخلاف في الأمور العامة داخل الأمة أهم وأولى من حل نزاع المتخاصمين في أمور شخصية.

إن قلت: «إن الماوردي وأبا يعلى لم يذكرا ذلك في عداد ما ذكراه من اختيارات القضاة، ولو كان الهلال أمراً مرتبطاً بهم في تلك الأعصار كان المناسب تعرضهما له كما تعرضنا له في ولاية الحج كما مرّ»(2).

قلتُ:-

1- عدم النص عليها في وظائف القضاة باعتبارها من التطبيقات الجزئية وهم يذكرون العناوين العامة للصلاحيات ويمكن أن تدخل في أكثر من عنوان منها «النظر فيالمصالح العامة» و «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(3).

2- إننا أوردنا عدداً كبيراً من الروايات تدل على تصدي الحكام لمسألة الهلال وهي كافية لإثبات قيام القضاة بها لأن الحكام كانوا يوكلون تفاصيلها إلى القضاة.

وخلاصة الكلام في هذه النقطة: أن الإمام لما منع الشيعة من الرجوع إلى قضاة السلطة الجائرة وجعل الفقهاء بديلاً عنهم لرفع حاجاتهم التي تعارف الرجوع فيها إلى القضاة فلا بد أن يقال بوجوب الرجوع إليه في كل ما كان يرجع فيه إلى القضاة في تلك الأزمنة ومنها أمر الهلال.

ص: 182


1- مهذب الأحكام: 10/275.
2- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/608.
3- موسوعة الفقه الإسلامي: 6/403.

إلفات: لو اتفقنا مع المعترضين في عدم إمكان الاستدلال بالرواية في مسألة ثبوت الهلال بحكم الحاكم لاختصاص الرواية بفصل الخصومات وفض النزاعات ولا يوجد عموم تنزيل لكل ما كان يتصدى له القضاة من صلاحيات ووظائف إضافية مجعولة له من قبل السلطة، فإن الرواية تدل على حجية حكمه فيما لو صدر الحكم بثبوت الهلال بحكم قضائي كما لو اتفق المتنازعان على ان أجل الدَين هو الأول من رمضان واختلفا في انه اليوم أو غداً فحكمَ القاضي بكونه اليوم فعلى المدّعى عليه تنفيذ الحكم والوفاء بالدين لوجوب الأخذ بالحكم القضائي وعدم جواز ردّه، نعم لا يجب على هذا الشخص أن يصوم ذلك اليوم لقول القاضي لأنه ليس من وظيفته.

الثانية: مقبولة عمر بن حنظلة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفر به قال تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ»، قلت فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استُخف بحكم الله وعلينا ردّ والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله)(1).

أقول: موضع الاستدلال قوله (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) بنفس التقريب المتقدم في معتبر أبي خديجة، وقد أشكلوا على الرواية

ص: 183


1- وسائل الشيعة: 18/100، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 11،ح1.

أولاً من جهةالسند لعدم ورود توثيق في عمر بن حنظلة وإن سميت روايته بالمقبولة لتلقي الأصحاب لها بالقبول ورواها المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) ورغم ما ورد عن يزيد بن خليفة أنه قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : إذن لا يكذب علينا)(1)

وهي تدل على أعلى درجات التوثيق لصدوره عن الإمام (عليه السلام) إلا أن يزيد هو الآخر لم يرد فيه توثيق، نعم على مبنى أن صفوان بن يحيى ونظيريه لا يرسلون ولا يروون إلا عن ثقة يكون عمر ويزيد ثقتين لرواية صفوان عنهما.

ومما يمكن الاستدلال به على وثاقتهما أن هذه الرواية نقلها الكليني بسند صحيح عن يونس عن يزيد وهي متضمنة لأعلى درجات التوثيق ولم يكن حال عمر خافياً على يونس فلو كان مجهولاً أو ضعيفاً لأسقط يونس النقل المتضمن توثيق عمر لأن يونس سيكون شاهداً على أمر لا يعرفه، وهو لا يرضى أن يكون شاهد زور، كما أن وظيفة الراوي لا تقتضي نقل كل التفاصيل غير المرتبطة بالحكم الشرعي، فعدم نقل يونس لتوثيق عمر لا يضر لعدم ارتباطه بأصل الحكم في الرواية حيث يستمر يزيد يقول: (قلتُ: ذكر أنك قلتَ: إن أول صلاة... الحديث) وفي نهايتها قال الإمام (عليه السلام) : (صدق). وهذا التقريب للتوثيق عرفي وعقلائي ونحن نستدل بسيرة العقلاء على حجية خبر الثقة ونحوها.

أما من حيث الدلالة فقد أوردوا على المقبولة نفس الإشكال على معتبرة أبي خديجة من اختصاص النصب والتعيين بفضّ الخصومات، قال صاحب الحدائق (قدس سره): «أما المقبولة فإن المتبادر منها إنما هو الرجوع فيما يتعلق

ص: 184


1- وسائل الشيعة: 4/133، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 5 ح6.

بالدعاوى والقضاء بين الخصوم أو الفتوى في الأحكام الشرعية»(1)

وقد أجبنا عن هذا الإشكال عند عرض معتبرة أبي خديجة، ولعل الاستدلال هنا بالمقبولة على عموم التنزيل للفقهاء أقوى لأكثر من وجه:-

1- ورود لفظ (حاكم) في المقبولة وهو قد يستعمل في ولي الأمر فالصلاحيات الممنوحة للفقيه بمقتضى هذا التنزيل أوسع ومنها مسألة الهلال وقد نقلنا روايات كثيرة عن تصدي الحكام لها، والشواهد على هذا الاستعمال كثيرة، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة القاصعة: (فأبدلهم العز مكان الذل والأمن مكان الخوف فصاروا ملوكاً وحكاماً وأئمة أعلاماً، فهم حكامٌ على العالمين وملوك في أطراف الأرضين)(2).وقوله (عليه السلام): (فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولّوهم الأعمال وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس)(3).

وقول الإمام الصادق (عليه السلام): (الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك)(4).

وقوله أيضاً: (تكون شيعتنا في دولة القائم (عليه السلام) سنام الأرض وحكامها)(5).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (ويكونون حكام الأرض

ص: 185


1- الحدائق الناضرة: 13/259.
2- نهج البلاغة: 2/177، الخطبة 192.
3- نهج البلاغة: 2/214، الخطبة 210.
4- بحار الأنوار: 1/183، كتاب العلم، أبواب العلم وآدابه، الباب 1، ح92 عن كنز الكراجكي.
5- بحار الأنوار: 52/372، تأريخ الإمام الثاني عشر، الباب 27 في سيره وأخلاقه، ح 164 عن كتاب الاختصاص.

وسنامها)(1).

ووجه الاشتراك بين القاضي والسلطان في إطلاق لفظ الحاكم عليهما تحقق معنى الحكم وهو المنع فالقاضي يحسم النزاع والخصومة والحاكم يمنع من الإخلال بالنظام والظلم ومن النزاع ومن الفساد وهكذا بقراراتهما القاطعة، ولعل إطلاق اللفظ على الوالي أولى من القاضي لأنه من يمتلك القوة القادرة على تنفيذ القرار هو الحكم، أما القاضي فيستمد قوته منه.

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): «يستفاد من جعله حاكماً كونه كسائر الحكام المنصوبة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه، والانتهاء فيها إلى نظره، بل المتبادر عرفاً من نصب السلطان حاكماً وجوب الرجوع في الأمور العامة المطلوبة للسلطان إليه»(2).

والقرائن في الرواية عديدة كقول السائل: (فيتحاكمان إلى السلطان) وقول الإمام (عليه السلام): (من تحاكم إليهم) والتحاكم شامل للقضايا العامة التي تخرج عن صلاحيات القضاة وتحتاج إلى قوة تنفيذية فأرجعهم الإمام (عليه السلام) في كل ذلك إلى الفقهاء.وكون اليد غير مبسوطة يومئذٍ للإمام (عليه السلام) وشيعته لا يمنع من الحمل على هذه السعة لأن أحكام الشارع ناظرة إلى هذا الزمان والزمان الآتي.

2- ويستدل على عدم تخصيص الوظيفة بحل الخصومات استشهاد الإمام (عليه السلام) بقوله تعالى: «يُريدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَنْ

ص: 186


1- بحار الأنوار 52/317، تأريخ الإمام الثاني عشر، الباب 27 في سيره وأخلاقه، ح 12 عن كتاب الخصال.
2- المكاسب: 3/554.

يَكفُرُوا بِهِ» والآية واقعة في سياق قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً» (النساء: 59-60) والظاهر أن المراد من «أُولِي الأَمرِ» مَن له حق الأمر والحكم شرعاً فتجب طاعة من ثبت له هذا الحق في الأمور العامة التي يتصدى لها في حدود الصلاحيات الممنوحة شرعاً للفقيه الجامع للشرائط وقد ذكرناها في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(فقه المشاركة في السلطة).

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) في المكاسب في معنى أولي الأمر: «الظاهر من هذا العنوان عرفاً مَن يجب الرجوع إليه في الأمور العامة التي لم تحمل في الشرع على شخص خاص» والآية فرّعت وجوب الرجوع في المنازعات على الأمر بالطاعة والرجوع في سائر الأمور إلى أولي الأمر وقد عرفت المقصود منهم.

فالإمام (عليه السلام) طبّق الآية على مورد السؤال وهي المنازعات وهذا التطبيق لا يخصِّص الجعل، وهذا التقريب يقوّي هذا المعنى الذي استظهرناه من معتبرة أبي خديجة أيضاً باعتبار وحدتهما من هذه الناحية.

وخلاصة هذين الوجهين: أن مورد الرواية لا يخصص الوارد بعد أن علمنا بعمومه وأن إرجاع الشيعة إلى الفقهاء في فضّ الخصومات باعتبارها واحدة من وظائفهم المجعولة في المرتبة السابقة. وفي الرواية قرينة على ذلك لتعبير الإمام (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) وهو مناسب لإرادة الأعم من فضّ الخصومات وإلا كان المناسب أن يقول: (بينكم)، وإذا كان للقاضي جهة استعلاء وهيمنة تصحح استعمال (عليكم) فهي

ص: 187

لأجل هذه الصلاحيات الواسعة الممنوحة له فتؤكد المطلوب.

3- إن تصدي الحكام لمسألة الهلال مما لا شبهة فيه كما قدّمنا خصوصاً في الصوم والفطر والحج وقد ورد ذلك صريحاً في رواية أبي الجارود، وقد عدّ الماوردي خمسة تكاليف لأمير الحاج فقال: «أحدها: إشعار الناس بوقت إحرامهم والخروج إلى مشاعرهم ليكونوا له متبعين وبأفعاله مقتدين»(1)

وذكر مثله أبو يعلى.

ونتيجة البحث في هذا الدليل المكوّن من مقدمتين إمكان تقريب الاستدلالبالمعتبرة والمقبولة على أن من وظائف الفقهاء النظر في الهلال بمقتضى عموم تنزيلهم منزلة القضاة والحكام، وأن قولهم حجة في ذلك فإذا صدر منهم حكم بالهلال وجب على الجميع العمل به، قال صاحب الجواهر (قدس سره): «يمكن تحصيل الإجماع عليه خصوصاً في أمثال هذه الموضوعات العامة التي من المعلوم الرجوع فيها إلى الحكام كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بالشرع وسياسته وبكلمات الأصحاب في المقامات المختلفة فما صدر عن بعض متأخري المتأخرين من الوسوسة في ذلك من غير فرق بين حكمه المستند إلى علمه أو البينة أو غيرهما لا ينبغي الالتفات إليها»(2).

بل يمكن القول أننا لسنا بحاجة إلى الاستدلال بعموم التنزيل في المقبولة والمشهورة أصلاً إذا علمنا:-

1- أن الأئمة نهوا شيعتهم عن الرجوع إلى الولاة والحكام الجائرين.

2- وأن مسألة الهلال كانت من وظائف الحكام والقضاة ولم تترك لآحاد المسلمين أن يستقل كل فرد ليعمل بقناعته فلا بد من جعل البديل لهم وعدم

ص: 188


1- الأحكام السلطانية: 110، باب ولاية الحج، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: 112 فصل ولاية الحج.
2- جواهر الكلام: 16/360.

إهمال أمر الشيعة والبديل منحصر بالفقهاء الجامعين للشرائط.

لكن الاستدلال بهاتين الروايتين لا ينفع القائلين بحجية قول الحاكم في نفوذ حكمه على غير مقلديه بلحاظ السيرة الجارية لدى الفقهاء، لما كررناه من أن قول الفقيه في مسألة الهلال لا يكون من باب الحكم والإنشاء وإنما من باب الإخبار والإعلان عن تحقق موضوع البيّنة وثبوت الهلال بها، فالحجية للبينة وليس لحكمه، ويكون مقتضى الروايتين وجوب رجوع الشيعة إلى الفقهاء في مسألة الهلال باعتبارهم من أهل الخبرة في تفاصيل المسألة وتؤدى عندهم الشهادة، ويكفي فيه رجوع كل مكلف إلى مرجع تقليده.

نعم لو أنشأ الفقيه الجامع للشرائط حكماً بذلك ولو بمقتضى ولاية الفقيه في موارد إعمالها أو ضمن حكم قضائي نفذ على الجميع.

(الوجه السابع) التوقيع الشريف الذي رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين والشيخ الطوسي في الغيبة بالإسناد عن محمد بن يعقوب عن إسحاق بن يعقوب قال: (سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك- إلى أن قال- وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، وأما محمد بن عثمان العمري فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل فإنهثقتي وكتابه كتابي)(1).

أقول: تقريب الاستدلال يمكن أن يكون بضم مقدمتين:

أولاهما: إن التوقيع أمر بالرجوع في الحوادث الواقعة زمان الغيبة إلى المجتهد الجامع للشرائط باعتباره نائب الإمام بالنيابة العامة وزعيم الملة والمنصوب منه (عليه السلام) حجة عليهم، والمراد بالحوادث الواقعة ما يرجع

ص: 189


1- وسائل الشيعة: 27/140، أبواب صفات القاضي، باب 11 ح9.

به الناس إلى زعمائهم من الأمور العامة والمستجدات، فقول الفقهاء حجة على الناس في ما كان المعصوم (عليه السلام) حجة فيه من هذه الأمور التي يرجعون بها إليه (عليه السلام) قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) في المكاسب: «إن المراد بالحوادث ظاهراً مطلق الأمور التي لا بد من الرجوع فيها عرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئيس مثل النظر في أموال القاصرين لغيبة أو موت أو صغر أو سفه»(1).

ثانيهما: إنه من الأمور التي يرجع بها المسلمون إلى زعمائهم الدينيين عرفاً أو عقلاً أو شرعاً مسألة الهلال وبيان الوظيفة يوم الشك لارتباطها بشعائرهم الدينية ومناسباتهم الاجتماعية ولمنع وقوع الأمة في الهرج والمرج واختلال النظام فهي من الحوادث الواقعة المشمولة بالأمر بالرجوع إلى الفقهاء، وعلى تعبير بعض أعلام العصر «فأي حادثة واقعة أهم وأشد ابتلاءً من أمر الهلال الذي يبتلى به في يوم واحد مجتمع المسلمين؟»(2).

وقد نوقش الاستدلال بالرواية سنداً ومتناً.

أما السند فمن جهتين ذكرهما السيد الخوئي(3) (قدس سره):

الأولى: محمد بن محمد بن عصام الذي روى عنه الصدوق هذه المكاتبة وهو رواها عن الكليني ولم يرِد في ابن عصام توثيق وإن ترضّى عنه الشيخ الصدوق عندما ذكره ضمن شيوخه الذين يروي بواسطتهم عن الكليني(4) لكن هذا غير كافٍ بحسب القواعد لاحتمال أن هذا الدعاء كان وفاءً لتلقّيه منهم.

ص: 190


1- كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 3/555.
2- دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/600.
3- موسوعة السيد الخوئي: 22/82.
4- راجع المجلد 19 من الوسائل في الفائدة الأولى من خاتمة الكتاب، ص 418، التسلسل 299.

وهذا الإشكال مردود لأن الطريق غير منحصر به ويوجد طريق آخر للتوقيع وهو معتبر حيث رواه الشيخ الطوسي في (الغيبة) عن جماعة -منهم الشيخ المفيد-عن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما كلهم عن محمد بن يعقوب.

الثانية: إسحاق بن يعقوب فإنه لم يوثق في كتب الرجال وإن استظهر بعضهم أخوّتَه للكليني ولعله ناشئ من وصف الصدوق له في كتاب (إكمال الدين) بالكليني وهذا لا يدل على وثاقته(1).

لكن هذا الإشكال -أي مجهولية وثاقة إسحاق -لا يضرّ بحجية التوقيع؛ لأكثر من وجه:-

أ- ظاهر الرواية أن الشيخ الكليني رأى بنفسه خط الإمام (عليه السلام) وتوقيعه الشريف وهو كان معروفاً لديه كما كان معروفاً لعدد من الأعلام المتأخرين عن زمانه كالشيخ الصدوق بحسب تصريحاتهم وبذلك عرف الكليني صدق نسبة الخط والتوقيع للإمام (عليه السلام).

ب- إن الكليني (قدس سره) عاصر السفراء الأربعة وكانوا حازمين في تكذيب ادعاءات الاتصال بالإمام للمفترين، فلو كان هذا التوقيع مكذوباً

ص: 191


1- جعل بعض من حضرنا بحثه الشريف (دام ظله) في إحدى محاضراته في غير هذا الموضع من الشواهد على ضعف إسحاق بن يعقوب سؤاله عن قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأنه من الأمور التي أشكلت عليه وورود التوقيع الشريف (وأما قول من زعم أن الحسين لم يُقتل فكفر وتكذيب وضلال) ولو أُخذ السؤال على ظاهره لكان غير معقول لعدم الشك في هذه المسألة وإسحاق يقول إنها مسائل أشكلت عليّ، لكنني خلال مطالعاتي وجدت أن شبهةً سرت في أذهان ذلك الجيل أن الحسين (عليه السلام) لم يُقتل بدليل قوله تعالى «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» فسؤال إسحاق كان لتحصيل رد على هذه الشبهة وليس لشكّه في المسألة وحينئذٍ يكون سؤاله معقولاً.

على السفير الثاني لأعلن ذلك هو أو السفير الثالث والرابع الذي توفي والكليني في سنة واحدة.

ج_- لأن الشيخ الكليني (قدس سره) تلقاه من إسحاق بالقبول ورواه إلى من بعده ولم تكن التوقيعات تخرج إلا للخواص من الشيعة وكان الاتصال بالإمام (عليه السلام) غير ممكن ومنعت الشيعة من ذكر اسمه الشريف، فلو كان عند الشيخ الكليني أي احتمال للكذب والوضع لما نقله؛ لأن نقله يعني التسليم بصحة صدوره حيث كان الأصحاب يرون حجية التوقيعات لصدق الوكلاء، وعقدوا لها أبواباً في كتب الغيبة.

فمجهولية إسحاق لا تضر من حيث صدور الحديث ولا أيضاً من جهة التغيير في النقل لأنه ورد مكتوباً.

وأما إشكال عدم ذكرها في الكافي فإنه لا يضر أيضاً فليس بناء الشيخ الكليني على تدوين كل ما رواه من الأحاديث في الكافي.وأما المتن فقد أورد عليه من جهة الشك في دخول مسألة الهلال في عنوان الحوادث الواقعة؛ لأنها «لا تشمل الحوادث التي يمكن للمكلف الوصول إلى حكمها بنفسه كما في مسألة ثبوت الهلال، فإن لها طرقاً متعددة يمكن للمكلف الاستغناء بها عن الحاكم الشرعي، إما باستهلاله لرؤية الهلال بنفسه أو اعتماده على البينة أو الشياع وما شاكل ذلك من الطرق المعروفة»(1).

أقول: جرت سيرة المسلمين منذ صدر الإسلام إلى اليوم على عدم استقلال الأفراد بتحديد أوائل الشهور وإنما الاعتماد على الجهة الدينية التي يرجعون إليها؛ لأن الرؤية غير متاحة غالباً إلا للنوادر، وحجية البينة لها شروط وظروف ومسألة الهلال لها أحكام عديدة تخفى على غير الخبير، وستأتي مناقشة هذا الإشكال بتفاصيل أكثر إن شاء الله تعالى.

ص: 192


1- فيض العروة الوثقى: 2/149.

ولبيان هذا الإشكال بشكل مفصّل نقول: وصف السيد الحكيم (قدس سره) التوقيع بأنه «لا يخلو من إجمال في المراد، وأن الرجوع إليه هل هو في حكم الحوادث ليدل على حجية الفتوى؟ أو حسمها ليدل على نفوذ القرار؟ أو رفع إشكالها وإجمالها ليشمل ما نحن فيه، وإن كانت لا تبعد دعوى انصرافه إلى ما لا بد من الرجوع فيه إلى الإمام، وليس منه المقام لإمكان معرفة الهلال بالطرق السابقة»(1).

فعلى الأول يكون المراد بالحوادث الواقعة المسائل الشرعية المستحدثة من «الأمور التي تتفق خارجاً ولم يعلم حكمها، كما لو مات زيد وله ثياب أو مصاحف عديدة ولم يعلم أن الحبوة هل تختص بواحد منها أو تشمل الكل، ويكون الحديث أجنبياً عن محل الكلام، ومما يؤيد ذلك الإرجاع إلى الرواة بصيغة العموم لا إلى شخص معين وهذا هو حكم الجاهل بالمسألة فيرجع إلى العالم»(2).

أقول: هذا الوجه مبني على تقدير مضاف (حكم) والأصل عدم التقدير، مضافاً إلى المناقشات الآتية فيه.

وعلى الثاني يكون المراد «الشبهات الموضوعية التي تقع مورداً للنزاع والخصومة، كما لو ادعى زيد ملكية هذه الدار وأنكرها عمرو فتكون من أدلة نفوذ القضاء، وهذا الاحتمال بعيد وإلا لقال: فارجعوها بدل (فارجعوا فيها) ضرورة أن في موارد المرافعات والدعاوى ترفع نفس الحادثة إلى القاضي، على أنه لا مدخل للراوي بما هو راوٍ في مسألة القضاء لعدم كونه شأناً من شؤونه وظاهر التوقيع دخالة هذاالوصف، وعلى هذا يكون التوقيع أجنبياً أيضاً».

وعلى الثالث يكون المراد «مطلق الحوادث سواء كانت من قبيل

ص: 193


1- المستمسك 8/460.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/82.

المرافعات أم لا التي منها ثبوت الهلال.

وهذا الاحتمال هو مبنى الاستدلال، ولكنّه لا مقتضي له بعد وضوح الطرق الشرعيّة المعدّة لاستعلام الهلال من التواتر والشياع والبيّنة وعدّ الثلاثين من غير حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي، ضرورة أنّه إنّما يجب الرجوع إليه مع مسيس الحاجة، بحيث لو كان الإمام (عليه السلام) بنفسه حاضراً لوجب الرجوع إليه. والأمر بالرجوع في التوقيع ناظر إلى هذه الصورة.

ومن البيّن أنّ مسألة الهلال لم تكن كذلك، فإنّه لا تجب فيها مراجعة الإمام (عليه السلام) حتّى في عصر حضوره وإمكان الوصول إليه، بل للمكلّف الامتناع عن ذلك والاقتصار على الطرق المقرّرة لإثباته، فإن توفّرت لديه وقامت الحجّة الشرعيّة أفطر، وإلاّ بقي على صومه، ولم يعهد في عصر أحد من الأئمّة (عليهم السلام) -حتّى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) المتصدّي للخلافة الظاهريّة - مراجعة الناس ومطالبتهم إيّاه في موضوع الهلال على النهج المتداول في العصر الحاضر بالإضافة إلى مراجع التقليد ، إذ لم يذكر ذلك ولا في رواية واحدة ولو ضعيفة.

وعلى الجملة: قوله (عليه السلام): (فهو حجّتي عليكم) أي في كلّ ما أنا حجّة فيه، فلا تجب مراجعة الفقيه إلاّ فيما تجب فيه مراجعة الإمام، ومورده منحصر في أحد أمرين: إمّا الشبهات الحكميّة، أو باب الدعاوي والمرافعات. وموضوع الهلال خارج عنهما معاً»(1).

أقول: دعوى عدم الحاجة إلى الرجوع إلى العلماء في مسألة الهلال والاكتفاء بالطرق الشرعية يكذبها الواقع وقد رددناها مراراً، ومن الواضح أن أفراد المسلمين لم يستقلوا يوماً ما في مسألة الهلال، والمسألة ليست شخصية حتى يقول (قدس سره): «فإن توفرت لديه وقامت الحجة الشرعية أفطر، وإلا

ص: 194


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/83-84.

بقي على صومه» وإنما يراد تعميم حجية هذه الرؤية للمسلمين جميعاً.

ودعواه الأخرى بعدم وجود ما يدل على رجوع الناس في مسألة الهلال إلى مرجعياتهم الدينية وقوله: «إذ لم يرد ذلك ولا في رواية واحدة ولو ضعيفة» تنقضها الروايات الكثيرة التي ذكرناها واعترف (قدس سره) فيما نقلنا عنه (صفحة 180) بهذه السيرة.

فالأظهر أن يكون المراد بالحوادث الواقعة كل ما جرى عرف المتشرعة على الرجوع به إلى زعيمهم، ولا مانع من شموله للمسائل المستحدثة والنزاعات الواقعة لأن القضية ليست مانعة جمع، مضافاً إلى الأمور العامة التي تتطلب موقفاً وبيان رأي لولي الأمر ومنها مسألة الهلال لما ذكرناه مراراً من جريان سيرة المسلمين علىالرجوع إلى مرجعياتهم الدينية فيه.

هذا وقد اختار الشيخ الأنصاري (قدس سره) أن التوقيع دال «على وجوب الرجوع إلى الإمام (عليه السلام) ونائبه في الأمور العامة التي يُفهم عرفاً دخولها تحت (الحوادث الواقعة)، وتحت عنوان الأمر في قوله تعالى: «أُولِي الأَمْرِ» »(1)

وأورد (قدس سره) وجوهاً لاستبعاد أن يراد بالحوادث حكم المسائل الشرعية المستحدثة، فأفاد (قدس سره): «وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية فبعيد من وجوه:

منها: إن الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة لا الرجوع في حكمها إليه.

ومنها: التعليل بكونهم حجتي عليكم وأنا حجة الله فإنه إنما يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر فكان هذا منصب ولاة الإمام من قبل نفسه، لا أنه واجب من قبل الله سبحانه على الفقيه بعد غيبة الإمام، وإلا كان المناسب أن يقول: إنهم حجج الله عليكم كما وصفهم في مقام آخر

ص: 195


1- المكاسب: 3/557.

بأنهم أمناء الله على الحلال والحرام.

ومنها: إن وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء الذي هو من بديهيات الإسلام من السلف إلى الخلف مما لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب حتى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف وجوب الرجوع في المصالح العامة إلى رأي أحد ونظره، فإنه يحتمل أن يكون الإمام عليه السلام قد وكله في غيبته إلى شخص أو أشخاص من ثقاته في ذلك الزمان.

والحاصل أن الظاهر أن لفظ الحوادث ليس مختصاً بما اشتبه حكمه ولا بالمنازعات»(1).

وأجاب بعض من حضرنا بحثه الشريف عن هذه الوجوه، فعن الأول قال «والجواب واضح جداً فلم يقل فارجعوها بل قال فارجعوا فيها أي حكمها» وأجاب عن الثاني بقوله: «وما أفاده ليس وجه يعتمد عليه فإنه لا مانع من أن تكون وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإفتاء حتى نسب إلى الله تعالى «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» (النساء:127) وكذا القضاء والولاية فكانوا (عليهم السلام) يباشرون كثيراً من الأمور وعندما توسّعت شؤونهم جعلوا جماعة للقضاء وآخرين للإفتاء والإدارة العامة فيصحّ أنهم حجة من الإمام وقد عبّر (عليه السلام) أنهم خلفائي فهم خلفاؤهم لأنهم يبلّغون عنهم عليهم السلام».

واختار تبعاً لأستاذه السيد الخوئي (قدس سره) أن المراد حكم المسائلالمستحدثة، وأيّده بوجوه:

الأول: إن «الظاهر من الحوادث الواقعة مستحدثات المسائل أي المسائل التي لم تكن معروفة حتى يتلقوا حكمها فإن الحوادث جمع حادثة ويقال عن الشيء أول ما يبدو أما بعد تكرره فلا يناسب التعبير عنه بالحادثة فالظاهر من

ص: 196


1- المكاسب: 3/555.

الحوادث المسائل المستحدثة أما ما تلقونه عن الأئمة (عليهم السلام) من المسائل المعروفة فغير مشمولة كالوظيفة يوم الشك فإنه عادي ولا وجه لسؤال إسحاق بن يعقوب عنها وكذا بالنسبة للأمور النظامية والأمور العامة مما يتصدى لها الولاة. فهذا هو الوجه الأول.

الثاني: إن هذا التوقيع إنما سأله إسحاق بن يعقوب بتوسط النائب الثاني الذي كان نائباً طيلة خمسين سنة وفي هذا الوقت كان المتصدي للأمور العامة للشيعة النواب ويرجعون إلى الفقهاء في المسائل وأما المسائل المستحدثة فحتى الفقهاء يرجعون إلى الإمام ومن هنا كان إسحاق متحيراً وسأل عمن يرجعون إليه والسؤال وإن لم يذكر في الرواية إلا أنه يمكن استفادته من استنطاق أجوبة الإمام (عليه السلام) لذا لا يمكن أن يقال: إن المراد من الحوادث الواقعة الأمور العامة فإن في مثل هذه كانوا يرجعون إلى النائب وقد ذكر في نفس التوقيع: وأما ما ذكر محمد بن عثمان فكتابه كتابي فهنا سؤال عن خصوص النائب الخاص المتكفل لمثل هذه الأمور فلا بد أن يراد منها الإفتاء في المسائل المستحدثة.

الثالث: إن الموجود في نسخة كتاب الغيبة (وأنا حجة الله عليكم)(1) بينما في نسخة (إكمال الدين، طبعة النجف وبحار الأنوار جزء 53 صفحة 82 والاحتجاج) (وأنا حجة الله عليهم) ولعله المناسب والشاهد على ذلك قوله عليه السلام (ينتفع بي في زمن الغيبة كالشمس إذا جللها السحاب فإني أمان

ص: 197


1- ذكر المجلسي في بحار الأنوار رواية الكليني عن إسحاق بن يعقوب (وأنا حجة الله عليكم) (بحار الأنوار ج53-دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان 1403ه_ 1983م) وفي الجزء الثاني من البحار نفس النسخة بدون (عليكم) نقلاً عن الكليني وفي الجزء 75 باب مواعظ القائم يذكر حديثاً آخر فيه (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا… وأنا حجة الله.). ورواه الراوندي في الخرايج والجرايح عن الكليني بواسطة ابن بابويه هكذا (وأنا حجة الله).

لكم(1)

فهذا نفع الإمام لا أنه حجة عليهم ويباشر أمورهم العامة لكن الرواة ما داموا أهل دراية فهم يتلقون من الأئمة عليهم السلام الأصول وعليهم التفريع.

وعلى نسخة (عليهم) فيكون الأمر راجعاً إلى الإفتاء بمعنى أن الوكلاء يتلقّون الحجج والروايات عنهم عليهم السلام فالأئمة حجة على الفقهاء والرواة وهؤلاء حجة على الناس لا أنه يجتمع عليكم فيهما فلا معنى له.

الرابع: من الشواهد على أن المراد بالحوادث الواقعة حكمها ما في العدةللشيخ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا نزلت بكم حادثة لا تعلمون (لا تجدون) حكمها فيما ورد عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي (عليه السلام) فاعملوا به)(2).

وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) والعلل والتهذيب عن علي بن أسباط قال: (قلت للرضا (عليه السلام) يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك…) الحديث(3)

والشاهد قوله: (يحدث الأمر) وعن رسالة المحكم والمتشابه في مقدمة (جامع الأحاديث) مثله.

والنتيجة أن الشواهد السابقة كلها تفيد أن المقدمة الثانية غير واردة لأن ثبوت الهلال قد وردت فيه أمور كثيرة كالرؤية والبينة وليس هذا شيئاً حادثاً»(4).

ص: 198


1- في الغيبة للطوسي في تكملة نفس الحديث السابق وكذا سائر المصادر التي ذكرت الحديث كاملاً (وأما وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء).
2- وسائل الشيعة: 27/91، أبواب صفات القاضي، باب 8، ح47.
3- وسائل الشيعة: 27/115، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح23.
4- محاضرة بتأريخ 10/ج1/1417.

أقول: يمكن التعليق على مجمل ما قاله (دام ظله الشريف) بأمور:

1- إن كتاب التهذيب الذي اعتمدنا روايته وردت فيه كلمة (عليكم) أما المصادر الأخرى فلم تكن روايتها معتبرة، وحينئذٍ يكون قوله (عليه السلام): (فإنهم حجتي عليكم) كالعلة للأمر بالرجوع إلى الفقهاء في الحوادث الواقعة، وهذا يناسب الرجوع في ما هو أوسع من المسائل الشرعية المستحدثة؛ لأن إطلاق الحجة يلزم بالرجوع في كل ما كانوا يرجعون به إلى الإمام المعصوم (عليه السلام) لا خصوص الإفتاء والقضاء.

2- إن حمل الرواية على حكم المسائل المستحدثة يستلزم تقديراً في الرواية والأصل عدم التقدير فلا يقاس عليها الروايات التي استشهد بها في الأمر الرابع فإنها تضمنت هذا اللفظ صريحاً.

ونحن لم ننف شمول عنوان (الحوادث الواقعة) لمستحدثات المسائل ولكن نفينا انحصارها بها كما ذهب إليه المعترضون.

كما أن الرجوع إلى الفقهاء في المسائل المستحدثة باعتبارهم من أهل الدراية في تطبيق الأصول على تفريعاتها مما لم يكن جديداً حتى يسأل عنه إسحاق وقد كان الأئمة (عليهم السلام) يُرجعون أصحابهم إلى الفقهاء من رواة أحاديثهم في حياتهم وحضورهم في المسائل كافة فكيف يسأل عن حال غيبة الإمام؟

إن قلتَ: إن الاجتهاد لم يكن موجوداً في زمان المعصومين (عليهم السلام) فالرجوع إلى الفقهاء كان في خصوص المسائل التي فيها نصوص لا المستحدثات.قلت:-

أ- هذا ليس صحيحاً بل كان الفقهاء من الرواة يجتهدون في تطبيق النصوص الموجودة على المسائل المستحدثة، ولذا ورد عن الإمام الصادق

ص: 199

(عليه السلام) قوله: (إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا) وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)(1)،مضافاً إلى أن الإمام في اعتراضه على فقهاء العامة لم يوجّه اعتراضه إلى اجتهادهم واستنباطهم وإنما إلى استعمالهم أدوات غير معتبرة شرعاً كالقياس والاستحسان مما يدل على إمضاء أصل الاجتهاد.

ب- إن مدة حضور المعصومين (عليهم السلام) تجاوزت 260 عاماً وقد شهدت تحولات جذرية كبيرة ومسائل مستحدثة متنوعة ولم يرد في كتب الحديث والتأريخ ذكر لكونها مشكلة لم يعرف المسلمون الطريق لمعرفة الجواب بل كان من الواضح عندهم الرجوع إلى الفقهاء خصوصاً وأنهم منتشرون في بلدان مترامية الأطراف ولا يتسنى لهم الرجوع فيها جميعاً إلى المعصوم (عليه السلام).

والخلاصة: كما أن مسالة الهلال ليست حادثة بالمعنى الذي قاله (دام ظله) فكذلك الرجوع إلى الفقهاء في المسائل الشرعية حتى المستحدثة ليس حادثاً.

3- إن الظاهر من سؤال إسحاق أنه كان يريد بالحوادث الواقعة القضايا التي كانوا يفزعون فيها إلى الإمام في حال حضوره أو السفراء في زمن الغيبة الصغرى، وليست هي إلا مستحدثات الأمور والوقائع والقضايا التي لا يعرفون موقفهم الشرعي منها ومن أمثلتها اليوم الفدرالية والديمقراطية والانتخابات والمخدرات والعلمانية والاحتلال والعنف الطائفي والخصخصة والإرهاب وغير ذلك.

4- إن الحدوث لغةً يعني «كونُ الشيء بعدَ أن لم يكُن، وإحداثُه: إيجادُه،

ص: 200


1- وسائل الشيعة: 27/62، أبواب صفات القاضي، باب 6، ح51، 52.

والحادثة النازلة العارضة وجمعها حوادث»(1)

ولا يتضمن معناها اشتراط عدم التكرار بل لا معنى لهذا الشرط في الوقائع التي تسمّى حوادث وهي تقع وتنتهي وغير قابلة للتكرار وكذا الكلام الذي يسمّى حديث أي الوقوع، فمسألة الهلال في كل شهر تعتبر واقعة جديدة تفزع فيها الأمة إلى قادتها وهذا لا يؤثر في كون الحكم في الواقعة من حيث رؤية الهلال أو إتمام عدة الشهر إذ أن لجوءهم إلى إمامهم وزعيمهم لخبرته في تطبيق الحكم المعلوم على الحادثة التي وقعت لهم.

ولعل وصف الإمام (عليه السلام) الحوادث بالواقعة فيه عناية للإشارة إلى كون الحوادث مما تقع خارجاً كمراجعة الفقيه في ثبوت الهلال أما المسائلالفقهية فقد تكون موضوعاتها افتراضية لا واقع لها.

وخلاصة الملاحظات أنّنا لا نتفق معه (دام ظله الشريف) في كون المراد بالحوادث الواقعة خصوص المسائل الشرعية المستحدثة وإنما تشمل الأمور العامة ومقتضيات حفظ النظام الاجتماعي العام والأحكام التي يجريها الولي الفقيه وكل ما تفزع فيه الأمة إلى قادتها لأن الرجوع بالفتاوى إلى رواة الأحاديث ليست حالة جديدة حتى يسأل عنها إسحاق وإنما كان يسأل عن الأمور التي يتصدّى لها النائب الخاص للإمام لمن تعود في زمان الغيبة فأرجعه (عجل الله تعالى فرجه) إلى النائب العام.

ويمكن التصالح بأن يقال: إن الفتاوى والأحكام هي بالنهاية مسائل شرعية أيضاً لكننا نتفق معه (دام ظله الشريف) بأن مسألة رؤية الهلال ليست من (الحوادث) من حيث الحكم وبالمعنى الذي ذكره وإنما هي من الحوادث أي الوقائع بلحاظ التطبيق فكل حالة إثبات الهلال لدخول شهر قمري جديد هي من الحوادث الواقعة ولا تشبه ما سبقها والواقع يشهد بذلك إذ لا يكتفي

ص: 201


1- قاله الراغب في المفردات.

المسلمون بحالة الهلال في شهر لتعميمه إلى شهر آخر.

وبهذا التقريب يمكن الاستدلال بالتوقيع الشريف على مسألتنا ويكون الاستدلال أوضح حينما يصدر على نحو الولاية وحفظ وحدة الأمة مثلاً ودفع ضرر تشتتها.

ونتيجة البحث إمكان الاستدلال بالمقبولة والمشهورة والتوقيع الشريف على الرجوع إلى الحاكم الشرعي في أمر الهلال والأخذ بقوله.

وحينئذٍ إذا حكم الحاكم الشرعي بالهلال وجب العمل به على الجميع لكن هذه النتيجة لا تنفع القائلين بثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي ولا تحقق مرادهم، إذ لا يُستفاد منها عملياً في التعميم على غير المقلدين الذي يفترضه عنوان المسألة؛ لأن الملاحظ على سيرة مراجع الدين في مسألة الهلال أن الرجوع إليهم إنما هو من باب أنهم أهل خبرة في التطبيق وما يصدر منهم ليس إنشاءً لحكم شرعي بل إخبار عن تحقق الرؤية وإعلان عن اكتمال الحجة الشرعية وبيان يعبرون فيه عن قناعتهم بدخول الشهر الجديد فلا يكون قولهم حجة إلا على من يطمئن إلى مستندهم واستنادهم، ويتحقق امتثال هذه الروايات برجوع كل مكلف إلى مرجع تقليده، وليس للفقهاء أن يُنشئوا حكماً شرعياً على طبق قناعتهم متى شاؤوا -كما يظهر من عبارة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) التي نقلناها عن الفتاوى الواضحة (صفحة 142)- إلا إذا وجدت مبررات إنشاء الحكم التي ذكرناها في حدود صلاحيات الولي الفقيه أو لحسم منازعة بين متخاصمين.

دليل القول بعدم ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي:

ذُكرت عدة أدلة لهذا القول قرّبها بعض الأعلام -كما في الجواهر ومهذب الأحكام- على أنها موانع من القول بالثبوت.

قال المحقق النراقي (قدس سره) عن هذا القول: «دليل الثاني -وهو

ص: 202

الأقوى-: الأصل، والأخبار المعلّقة للصوم والفطر على الرؤية أو مضي ثلاثين، والناهية عن اتباع الشك والظن في أمر الهلال، وقول الحاكم لا يفيد أزيد من الظن»(1).

أقول: وهي مردودة جميعاً:

(أما) الأصل فلوجود الدليل على الثبوت فلا معنى للتمسك بالأصل.

(وأما) الأخبار مثل صحيحة الحلبي (لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين)(2)

فلأنّ الحصر فيها إضافي بلحاظ العدل الواحد أو النساء أو الشاهدين الفاسقين أو المجهولين، فلا تفيد نفي غير المذكور مطلقاً، لذا فإن الأصحاب أجمعوا على صحة طرق أخرى غير ما ذُكر كالتواتر والشياع المفيد للعلم، ولو تنزّلنا فإن أدلّة الثبوت حاكمة عليها.

(وأما) الأخبار الناهية عن اتباع الظن فلا تشمل المورد بعد فرض وجود الدليل العلمي على الحجية.

ونذكر هنا قول صاحب الجواهر (قدس سره) في ما قيل من المناقشات في أدلة ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي قال: «فما صدر من بعض متأخري المتأخرين من الوسوسة في ذلك لا ينبغي الالتفات إليه»(3).

الرأي المختار:

تحصّل من البحث: أن ما يصدر من المجتهد الجامع للشرائط في أمر الهلال على ثلاثة أنحاء:-

1- الإخبار عن اكتمال الحجة الشرعية على ثبوت الهلال بإحدى الطرق المعتبرة

ص: 203


1- مستند الشيعة: 10/420.
2- وسائل الشيعة: 10/286، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح1.
3- جواهر الكلام: 16/360.

عند الشارع المقدس فيعلن عن دخول الشهر الجديد وهذه هي السيرة الجارية لدى مراجع التقليد، وهذا حجة على مقلديه فقط لأنه ليس حكماً وغير مشمول بالبحث، وقد استفدنا من الأدلة لزوم تصدي المرجع الديني لهذه الوظيفة ووجوب عمل المقلدين بما يصدر منه بمقتضى المقبولة والمشهورة والتوقيع الشريف.

2- ما كان متضمناً في حكم قضائي بين متنازعين كما لو اتفقا على أن أجل الدين هو هلال الشهر الجديد ولكن اختلفا في ثبوت الهلال فإذا حكم القاضي بدخول الشهر الجديد وجب على المتخاصمين العمل به وإن كان أحدهما أو كلاهما يرجع إلى مجتهد يخالفه في المبنى لأنه حكم نافذ على الجميع مجتهدين ومقلدين، لحسممادة النزاع والتخاصم، لكن نفوذه خاص بالخصومة فليس لمن يخالفه في الفتوى أن يعمل به لصومه أو إفطاره أو حجه غيرها.

3- ما يصدر من الحاكم الشرعي المتصدي للأمور العامة للناس والذي يحظى بقبول الأغلبية تحت أي عنوان كان كالولي الفقيه أو المرجع الأعلى ونحو ذلك، فإذا حكم بثبوت الهلال طبقاً للحجة الشرعية المعتبرة عنده وضمن حدود الصلاحيات الممنوحة له شرعاً كمنع حصول الخلاف والتمزّق بينهم الموجب لاختلال النظام وحصول الفتن والفوضى، وجب على الجميع -مجتهدين ومقلدين- الانصياع لحكمه وإن خالفوه في الفتوى لأن الملاك المذكور حاكم عليها.

والفرق بين الثاني والثالث أن الثاني فيه جنبة طريقية ولحاظ مطابقة الواقع فلو عُلِم خطأه أو خطأ مستنده لم يكن حكمه ملزماً كما سيأتي إن شاء الله في الفروع الآتية، أما الثالث فإنه ملحوظ على نحو السببية والموضوعية المحضة فيجب العمل به مطلقاً ما دام مستنداً إلى حجة شرعية عنده، ومثاله صحة الوقوف في عرفة مع العامة مطلقاً وليس ذلك لأن حكم الفقيه مغيّر للواقع كما

ص: 204

عن بعض العامة، بل لأنه حاكم على الأحكام الأولية ومغيِّر لموضوعها.

ولذا قلنا أن اختلاف الفقهاء في مسألة الهلال المؤدي إلى الاختلاف بين أتباعهم إذا بقي ضمن الحالة المسيطر عليها فلا مبرر لإنشاء الحكم بثبوت الهلال، أما إذا أدت إلى التنازع والفتنة والاضطراب فيمكن حلّها بإصدار المرجع النافذ الأوسع مقبولية لدى الناس حكماً بالهلال فيكون نافذاً على الجميع وموحداً لهم إن شاء الله تعالى، وهذا الأمر يكون من الوضوح بمكان في مسألة الحج فيما لو كان أمره موكولاً إلى نواب الإمام الحق بإذن الله تعالى، فإننا لا نتوقع أداء الحجاج مناسكهم بحسب تقلديهم فيكون الوقوف في ثلاثة أيام مثلاً، وهذا هو المناسب لمشروع الإسلام في تأسيس المجتمع الصالح والدولة الكريمة فإن من مقدماتها وحدة الموقف في القضايا العامة.

وأعتقد أن من لا يقول بثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي يوافق على ما قلناه، والوقائع العملية أو (الحوادث الواقعة) تعطينا شاهداً على ذلك، فعندما تغير الوضع السياسي في العراق عام 2003 وأصبح للمرجعية الدينية نفوذ وهيمنة على الوضع العام فرضت قرارها في جملة من القضايا كالعتبات المقدسة فلا يُسمح بالصلاة جماعة أو التدريس ونحو ذلك إلا بإذنها وأصبح قرارها ملزماً للجميع، وأصبح أكثر الفقهاء تشدداً في مسألتنا يقول بالحجية عملياً.

فائدة: من ثمرات القول بحجية حكم الحاكم الشرعي إذا أنشأ حكماً بثبوت الهلال حل مشكلة الساكنين في المناطق القطبية التي يستحيل رؤية الهلال في بعض الفصول، فيحكم الحاكم الشرعي بتحديد أول الشهر القمري لهم بحسب المبنى الذي يعتمده كإمكانية رؤية الهلال في أقرب البلدان إلى القطب أو كفاية رؤيته في بلدان المسلمين.

ص: 205

فروع

(الأول) من هو الحاكم الذي يثبت الهلال بحكمه؟

هل هو خصوص الفقيه الجامع للشرائط المتصدي لولاية الأمور العامة أم مطلق الفقيه ولو كان منزوياً في مكانه؟

والجواب هو الأول على جميع المباني المعتمدة في دليل الحجية، فإنه إن كان صحيحة محمد بن قيس فإنها تختص بالإمام وعرّفناه سابقاً بأنه المتصدي فعلاً لمقام ولاية أمور المسلمين وزعامتهم وحفظ نظامهم حتى يصدق الائتمام والاتباع، ولا يشمل الفقيه المعتزل لها إلا أن يدعى ثبوت الولاية العامة للفقيه وأن له كل ما كان للإمام المعصوم (عليه السلام) وهذا غير ثابت.

وكذا إذا كان الدليل السيرة العقلائية أو المتشرعية لأن القدر المتيقن منها هو الرجوع إلى زعيم الملة والجماعة المتصدي لتنظيم أمورهم، ولو سألت العقلاء والمتشرعة عنه لأجابوك أيضاً بأنه من يرجعون إليه في الأمور العامة، وله فيها نظر ومعرفة ينطبق عليه حديث الإمام الصادق (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

وإن كان الدليل مقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة والتوقيع الشريف فإن موضوعها وإن كان الفقيه الذي (يحكم بحكمنا) أي الذي يستقي علمه من الكتاب الكريم والسنة الشريفة فيشمل كل مجتهد جامع للشرائط، وبه صرّح السيد الخوئي (قدس سره) قال: «وعلى تقديره -أي نفوذ حكم الحاكم في أمر الهلال- فلا يفرّق فيه بين مقلديه ومقلدي غيره، بل حتى المجتهد الآخر، وإن

ص: 206


1- الكافي: 1/27، تحف العقول: 259.

كان أعلم والناس كلهم مقلدوه ولا مقلد لهذا المجتهد الحاكم أصلاً بمقتضى إطلاق الدليل»(1).

إلا أنه بقرينة ما ذكرناه من تفسير (الحوادث الواقعة) بأنه لا يختص بالمسائل المستحدثة وإنما يشمل الأمور العامة التي ترجع إلى نظر من الفقيه وموقف، مضافاً إلى أن هذه الروايات ناظرة إلى الحكم الإنشائي وإصداره مرتبط بالصلاحيات التي يمارسها الفقيه في إدارة الأمور العامة، وليس لأي فقيه إصدار الحكم كيفما يشاء، فإن المراد بالفقيه هو المتصدي للأمور العامة.

قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: «وأما المراد بالحاكم فظاهر كلماتهم المجتهد الجامع لشرائط الفتوى، لكن هل يعتبر مضافاً إلى ذلك أن يحرز من نفسه التصدي لبعض الأمور العامة كالأمور الحسبية، أم يكفي فيه المنعزل عن شؤون الناس؟ وأنه هل يعتبر أن يكون مبسوط اليد في الجملة أو بالجملة؟، والمسلّم به عدم وجود الثاني في كلمات الأصحاب، أما الأول -أي بسط اليد في الأخذ والإعطاء ونحوها-فهذا يدور مدار ما يستفاد من الأدلة التي استدل بها على حجية حكم الحاكم فربما يستشعر من بعضها»(2).

أقول: ظاهر كلامه (دام ظله الشريف) أن المراد بالحاكم هنا حصة خاصة من المجتهدين الجامعين للشرائط، أما قوله: «فهذا يدور» ففيه ما تقدم أن مفاد الأدلة جميعها واحد، وهو الفقيه المتصدي للأمور العامة، وهو قد يفوِّض هذه الوظيفة وأمثالها إلى وكلائه ومعتمديه في البلدان المختلفة لتحقيق نفس الملاك وهو وحدة المسلمين في صومهم وفطرهم وحجهم ولتعذر ارتباط جميع البلدان الإسلامية يومئذٍ بمقر الإمام خاصة فينظر كل من هؤلاء في أمر بلده، خصوصاً على مبنى اشتراط وحدة الأفق لثبوت الهلال في البلد الآخر.

ص: 207


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/113.
2- من محاضرة بتأريخ 3/ج1، 1417.

(الثاني) في حجية قول الحاكم الشرعي المستند إلى علمه الشخصي

تقدم في (صفحة 133) تسالم الأصحاب على ثبوت الهلال بحكم الحاكم إذا استند إلى البينة، أما إذا استند إلى علمه الشخصي فقد قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): «هل يكفي قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم، وهو خيرة الدروس، لعموم ما دل على أن للحاكم أن يحكم بعلمه، ولأنه لو قامت عنده البينة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام والعلم أقوى من البينة، ولأن المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما تتحقق به العدالة إلى قوله فيكون مقبولاً في جميع الموارد. ويحتمل العدم، لإطلاق قوله عليه السلام: (لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين) »(1).

أقول: يتلخص دليل الحجية بأمرين:-

1- إن العلم أقوى من البينة وقد تسالموا على ثبوت الحكم المستند إلى البينة.

2- كبرى جواز حكم الحاكم بعلمه في كتاب القضاء.

أما ما استدل به على عدم الحجية فقد ناقشناه سابقاً بأن هذه الصحيحة وأمثالها لا إطلاق لها لأن الحصر فيها إضافي مقابل العدل الواحد أو المرأتين أو غير العدلين ونحو ذلك.ونقل صاحب الجواهر (قدس سره) كلام المدارك واختار ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي «من غير فرق بين حكمه المستند إلى علمه أو البينة أو

ص: 208


1- مدارك الأحكام: 6/170-171.

غيرهما»(1) وتبعه على ذلك في المستمسك أيضاً مستدلاً بجواز حكم الحاكم بعلمه(2).

أقول: في استدلالهم نظر؛ لأن حجية نفوذ حكم الحاكم المستند إلى البينة ترجع إلى حجية البينة نفسها وما يصدر منه إعلان وإبراز لتحققها فهو إخبار وليس حكماً إنشائياً فلا يقاس عليه، وهذه الحجية ثابتة بالدليل الشرعي وليس من باب حصول الظن الغالب أو الاطمئنان منها أو قوة الكاشفية حتى يقاس عليها بالأولوية حكمه المستند إلى علمه فلا بد من إثبات حجية حكم الحاكم المستند إلى علمه مطلقاً أو في خصوص الهلال وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

أما الاستدلال بحجية حكم القاضي بعلمه في المقام فإنه قابل للنقاش كبرى وصغرى:

(أما الكبرى) -ومحل نقاشها كتاب القضاء- فلقصور المقتضي ووجود المانع:-

1- أما قصور المقتضي فلعدم تمامية الدليل على حجية حكم الحاكم بعلمه وإن ادعي الإجماع عليها(3)، وإن الدليل على حجية البينة هو التعبد الشرعي وليس لما يحصل منها من علم أو كاشفيتها عن الواقع حتى يقال بأولوية العلم الشخصي لأقربيته للواقع وعدم معقولية قبولها والنهي عنه، فلعل النكتة في تشريعها سيرة العقلاء على اعتبارها والحاجة إلى إيجاد وسيلة إثبات لحل الخصومات ومنع حصول

ص: 209


1- جواهر الكلام: 16/360.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/461.
3- راجع الخلاف: 6/242-244، الانتصار: 486، الغنية: 436-437، السرائر: 2/179، وحكى في (المسالك: 13/383-384) عن الإسكافي عدم جوازه مطلقاً، وعن ابن حمزة تخصيص الجواز بحقوق الناس (الوسيلة: 218).

النزاعات. وإلا فأي كشف في اليمين حتى يكون وسيلة للإثبات عند عدم البينة.

2-

2- وأما المانع فأمور:-

أ- جملة من الروايات كصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما أقضي بينكمبالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار)(1).

ب- ولأن وسيلة الإثبات -أي البينة واليمين- لها مدخلية في تثبيت الحق وأنها جزء من الموضوع فحكم القاضي على طبق البينة فيه جنبة طريقية لأن المطلوب منه الوصول إلى الحقيقة والواقع، وفيه جنبة موضوعية، فلا يقوم علم الحاكم مقامها؛ لأن حكم الحاكم بعلمه لا إثبات فيه فلا يصحّ الاحتجاج به ولو منعاً للتخوين والتهمة واستمرار النزاعات.

ج_- ولأن المدعى عليه له الحق في مناقشة الشهادة والبينة وبذلك يتحول القاضي الحاكم بعلمه إلى خصم وهو كما ترى.

فالعلم الشخصي يكون حجة على صاحبه لا مطلقاً، ويكون الحاكم حينئذٍ شاهداً كغيره.

(وأما الصغرى) أي عدم ثبوت الهلال بحكم الحاكم إذا كان مستنداً إلى علمه، فلأمور:-

1- إن الكبرى لو تمت فإنها ناظرة إلى فضّ الخصومات، ونحن نحتمل الخصوصية فيها كحسم مادة النزاع والتخاصم، وعدم وجود خيار آخر لحل المشكلة، ولا دليل على التجريد عن الخصوصية إلى ما نحن فيه حيث

ص: 210


1- وسائل الشيعة: 27/232، أبواب كيفية الحكم، باب 2، ح1.

عنوان البحث هو ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي أو تحديد زمن الصوم والإفطار والحج وليس ما كان جزءاً من مرافعة قضائية بين الخصوم لإمكان اللجوء إلى وسائل الإثبات الأخرى، أو إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً، فهذه الكبرى لا تجري في المقام.

2- الروايات التي دلت على حصول اشتباه في تحديد أوائل الشهور في عهد المعصومين (عليهم السلام) كمرسل عبد الله بن سنان المتضمن صيام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمانية وعشرين يوماً في الكوفة(1)

وصحيحة محمد بن قيس التي تفترض تأخر شهادة العادلين بعد الزوال وفوات وقت صلاة العيد ونحو ذلك مما يدل على عدم بناء الإمام (عليه السلام) على استعمال علمه الخاص في إثبات رؤية الهلال للناس ولو استعمله لأعلمهم بالهلال من أول الوقت، ولكنه (عليه السلام) أجراهم على ما يعرفون من القواعد أما هو (عليه السلام) فإنه عارف بتكليفه الخاص وهو القائل: (ما فاتني صوم شعبان منذ سمعت منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينادي في شعبان، ولن يفوتني فيأيام حياتي إن شاء الله)(2)

فكيف يفوته صوم شهر رمضان؟ وربما كان الإعلان عن أول شهر رمضان من قبل قاضي الكوفة شريح ولم يشأ الإمام (عليه السلام) التدخل في قراره رعاية لمصالح اجتماعية ومستوى إيمان الناس وطاعتهم كما في عدة حوادث أخرى.

ص: 211


1- روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن حماد بن عيسى عن عبد الله بن سنان عن رجل نسي حماد اسمه قال: (صام (عليه السلام) بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر منادياً ينادي: اقضوا يوماً، فإن الشهر تسعة وعشرون يوماً) (وسائل الشيعة: 10/296، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 14، ح1)
2- وسائل الشيعة: 10/508، أبواب الصوم المندوب، باب 29، ح33.

3- إن قول الحاكم رأيت الهلال ليس حكماً أصلاً وإنما هي شهادة بالرؤية، قال المحقق القمي تعليقاً على كلام صاحب المدارك (قدس سره): «الأظهر عدم القبول لأنها شهادة وليس بحكم»(1)

لكنه (قدس سره) رجع ووجّه القبول «بتضمنها للحكم، فإن مراد الحاكم من شهادته بالهلال: أني أحكم بأن اليوم أول الشهر بسبب رؤيتي للهلال، فهو حكم مستند إلى علمه مع بيان سبب الحكم».

أقول: الفرق ظاهر فإن قوله رأيت الهلال لا يلزم منه الحكم بثبوته إلا أن ينشئ حكماً على طبق علمه، فالقول في هذه المسألة فيه تفصيل فإن الحاكم إذا أخبر عن رؤيته الهلال فهذه شهادة عدل واحد لا يثبت بها الهلال إلا لنفسه، وإذا أنشأ حكماً على طبق رؤيته وجب العمل بحكمه.

وعلى أي حال فلا بد أن يرجع علمه إلى سبب صحيح معتبر كالرؤية، أما إذا لم يكن كذلك كما لو استند إلى منام أو من حساب الجفر أو الرمل أو نحو ذلك فلا قيمة لحكمه.

(الثالث) قال صاحب الجواهر (قدس سره): «لو قال -أي الحاكم-: اليوم الصوم أو الفطر من غير تصريح بكونه لرؤية أو شهادة ففي الدروس في وجوب استفساره على السامع ثلاثة أوجه، ثالثها إن كان السامع مجتهداً استفسره، قلت: قد يقوى في النظر عدم وجوب استفساره، ضرورة كون ذلك منه حكماً، فيجب اتباعه به، لإطلاق ما دل عليه»(2).

أقول: مختاره (قدس سره) مناسب لما ذهب إليه من ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي مطلقاً فلا وجه لتردد الدروس بعد أن استقرب ذلك أيضاً كما في

ص: 212


1- غنائم الأيام: 5/313.
2- جواهر الكلام: 16/360.

كلامه الآتي، لكن التدقيق في كلام الشهيد يُظهر أنه قصد الشاهد فيما لو قال مثل هذا الكلام وليس الحاكم فلا يرد عليه الإشكال لكنه ألحقه بما يظهر أنه يريد الحاكم قال (قدس سره): «لا يكفي قول الشاهد: اليوم الصوم أو الفطر، لجواز استناده إلى عقيدته بل يجب على الحاكم استفساره وهل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم، ولو قال: اليومالصوم أو الفطر ففي وجوب استفساره على السامع ثلاثة أوجه ثالثها: إن كان السامع مجتهداً»(1)

لذا خصّ صاحب المدارك المسألة بالشاهد ليتجنب الإشكال، قال (قدس سره): «لا يكفي قول الشاهد اليوم الصوم أو الفطر، بل يجب على السامع الاستفصال، لاختلاف الأقوال في المسألة، فيجوز استناد الشاهد إلى سبب لا يوافق مذهب السامع»(2).

(الرابع) اشترط صاحب العروة الوثقى (قدس سره) في ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي بأنه «الذي لم يُعلم خطؤه ولا خطأ مستنده، كما إذا استند إلى الشياع الظني»، أما خطأه فكما لو حكم بثبوت الهلال ونحن نعلم أنه لا زال في المحاق بحسب المعلومات الفلكية الدقيقة، وأما خطأ مستنده فكما لو بنى على شهادة رجلين اعتماداً على أصالة العدالة مثلاً ونحن نعلم بفسقهما ونحو ذلك.

ووجهه قصور أدلة وجوب العمل بحكم الحاكم وحرمة ردّه عن شمول ما إذا علم بمخالفته للواقع، أو صدوره عن تقصير في بعض مبادئ الحكم أو عن غفلة أوجبت مخالفة مبانيه واجتهاده.

ص: 213


1- الدروس: 1/286.
2- مدارك الأحكام: 6/170.

بيان ذلك: «أن حكم الحاكم ليس ملحوظاً في نظر الشارع الأقدس عنواناً مغيراً للأحكام وجوداً، وعدماً، بل هو طريق - كسائر الطرق - حجة على الواقع في ظرف الشك فيه، فإذا علم الواقع انتفى موضوع الحجية، لامتناع جعل الحجة على الواقع في ظرف العلم به(1)،مصيبة كانت الحجة أم مخطئة. وكذا لا مجال للعمل به إذا علم تقصير الحاكم في مقدمات الحكم، لأن تقصيره مسقط له عن الأهلية للحكم، فلا يكون موضوعاً لوجوب القبول وحرمة الرد. ولأن الحكم حينئذ يكون فاقداً لبعض الشرائط المعتبرة فيه عند الحاكم، ويراه حكماً على خلاف حكمهم(2) (عليهم السلام)، فكيف يحتمل وجوب العمل به منه أو من غيره؟! وكذا لو فقد بعض الشرائط غفلة منالحاكم، كما لو حكم تعويلاً على شهادة الفاسقين غفلة عن كونهما كذلك، أو غفلة عن اعتبار عدالة الشاهد»(3)

«كما هو الحال في باب الطلاق حيث لا يقع لدى شاهدين فاسقين وإن تخيّل المطلّق عدالتهما، إذ الموضوع هو العادل الواقعي لا من يعتقد المطلّق عدالته، فكما لا يقع الطلاق جزماً مع القطع بالفسق فكذا حكم الحاكم في المقام بمناط واحد»(4).

أو يقال: «إن الدليل الذي تمسك به القائلون باعتبار حكم الحاكم-ومنهم صاحب المستمسك- هي السيرة العملية من تصدي القضاة والحكام

ص: 214


1- لأن جميع الطرق الشرعية -إمضائية كانت أو تعبدية- إنما تكون حجة على من لم يعلم، أما من علم بالخلاف فلا معنى لجعل الطريقية له.
2- لقول الإمام الصادق (عليه السلام) في المقبولة: (فإذا حكم بحكمنا) أي كون حكمه على طبق موازينهم والطرق المعتبرة عندهم وأن يستند إلى الكتاب والسنة وليس إلى طرق غير معتبرة كالقياس والاستحسان فلا يصدق ذلك على من قصّر في مبادئ حكمه أو غفل عنها ولو كان عن قصور.
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/462.
4- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/90.

والولاة للحكم بثبوت الهلال وبناء المسلمين على اتباعهم وحينئذٍ يقال إن السيرة دليل لبّي والقدر المتيقن ما لم يُعلم خطأ مستنده أما إذا علموا فلم تثبت سيرة عملية إلى زماننا هذا باتباع حكم الحاكم فيكون الاعتماد على السيرة محل إشكال ويجب الاعتماد على القواعد من إكمال عدّة الشهر ثلاثين يوماً عند الشك»(1).

أقول: هذا كله صحيح بلا إشكال فيما يختص بالحكم القضائي في باب الخصومات، أما إذا كان الحكم صادراً بولاية الفقيه فإن هذا الشرط قد ينتفي؛ لأن القائل بالولاية يراها سبباً حاكماً على أدلة الأحكام الأولية، وأن أحكامها مأخوذة على نحو السببية والموضوعية بمعنى أنها تغيّر موضوع الحكم بعنوان ثانوي كالتقية، ومن موارده ما تقدم في مسألة إجزاء الوقوف بعرفة مع العامة مطلقاً لأن حكم الحاكم يوسِّع موضوع الحكم على نحو الحكومة والتنزيل، كما أنه قد يضيّقه تارة أخرى.

وإلى ذلك ذهب بعض فقهاء العامة، قال العلامة في التذكرة: «لو شهد واحد أو اثنان بهلال ذي الحجة وردَّ الحاكم شهادتهما، قال محمد بن الحسن الشيباني: لا يجزي حتى يقف مع الناس في اليوم العاشر بحسب رؤيته لأن الوقوف لا يكون في يومين»(2).

وكذا ينتفي هذا الشرط عند المصوّبة الذين يرون تغيّر الأحكام الواقعية بحسب اجتهاد المجتهدين.

ومنه يُعلم النظر في مثال صاحب العروة (قدس سره) إذا كان الحاكم يرى حجية الشياع الظني، لذا فإنه (قدس سره) لم يذكر هذا في كتاب الاجتهاد والتقليد واكتفى بقوله: «إلا إذا تبيّن خطؤه» وفي كتاب القضاء من ملحقات

ص: 215


1- من محاضرة بعض من حضرنا بحثه الشريف يوم 17/ج1/1417.
2- تذكرة الفقهاء: 8/190.

العروة قال (قدس سره): «ولا يجوز له (يعني لحاكم آخر) نقضه، إلا إذا علم علماً قطعياً بمخالفتهللواقع، بأن كان مخالفاً للإجماع المحقق أو الخبر المتواتر، أو إذا تبيّن تقصيره في الاجتهاد، ففي غير هاتين الصورتين لا يجوز له نقضه وإن كان مخالفاً لرأيه، بل وإن كان مخالفاً لدليلٍ قطعي نظري كإجماع استنباطي، أو خبر محفوف بقرائن وإمارات قد توجب القطع مع احتمال عدم حصوله للحاكم الأول فإن مقتضى إطلاق عدم جواز رد حكم الحاكم عدم جواز نقضه حينئذٍ أيضاً، إلا إذا حصل القطع بكونه خلاف الواقع فلا يكفي في جواز النقض كون الدليل علمياً لبعضٍ دون بعض»(1).

أقول: قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: «نعم إذا فُرض أن حكم الحاكم مخالف لشيء ثبت أنه ليس بميزان شرعاً بضرورة المذهب ونحوها كما لو فُهِمَ من رواية (شهد عدل) بكفاية شهادة الواحد من دون أن يتوجه إلى اختلاف النسخ أو الأدلة المعارضة، أو كان حكمه على نحو اتضح فساده في ضوء ما أجمع عليه علماء الفلك من كون الهلال في المحاق فلا أثر لحكم الحاكم حتى بلحاظ الجهة الموضوعية إذ لا قيمة لهذا الحكم حتى لا يجوز رده»(2).

(الخامس) مقتضى الأدلة المتقدمة على نفوذ حكم الحاكم الشرعي عدم الفرق بين مقلديه ومقلدي غيره لما عُلِم من كفاية عدم القطع بالمخالفة لوجوب المتابعة حتى على من اختلف معه في المباني ما دام الحاكم عاملاً بالحجج المعتبرة ووفق الآليات المعتمدة، فلو أدى اجتهاده إلى حجية الشياع الظني كما تقدم في محله عن بعض الأساطين -كالعلامة في التذكرة- وجب العمل بحكمه وحرم ردّه

ص: 216


1- العروة الوثقى: 6/449، المسألة (32)، طبعة جماعة المدرسين بتعليقات جمع من مراجع الدين.
2- انتهى إلى هنا ما أفاده (دام ظله الشريف) في هذه المسألة.

لأنه حكم صحيح في نظر الحاكم، والاختلاف في الفتوى واعتقاد الخطأ في الاجتهاد ممن يخالفه فيه وإن ظنّه حكماً على خلاف حكمهم (عليهم السلام) وأنه خلاف المرتكز العقلائي في الحجج لا يضر بذلك، وإلا لزم نقض الغرض من التحاكم وهو حسم الدعوى وإن كثيراً من النزاعات مرجعها إلى الاختلاف في الأحكام الكلية، بل إنه مورد المقبولة لأن النزاع كان في ميراث وهو ظاهر في كونه نزاعاً في الحكم الكلي لا في الموضوع الخارجي.

وعلى هذا فإن حكم الحاكم الشرعي نافذ على الجميع بلا فرق بين مقلديه ومقلّدي غيره حتى لو كان ذلك الغير هو الأعلم ما دامت الشروط التي ذكرناها في الفرع الأول متوفرة فيه، هذا إذا لم يُعلم خطأه أو خطأ مستنده كما بيّنا في الفرع السابق لما علمت من أن حكم الحاكم طريق لإثبات الحق لأهله فإذا أخطأ في ذلك وجب على من علم بالمخالفة عدم ترتيب الأثر على حكمه، وبه صرّحت صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجلٌ قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار)(1).

ونبهنا في الفرع السابق إلى أن هذا ثابت في باب القضاء وفيما يتعلق بحل الخصومات أما إذا كان الحكم مستنداً إلى ولاية الفقيه ضمن الصلاحيات المحددة له فإن الأمر فيه تفصيل ذكرناه هناك.

ص: 217


1- وسائل الشيعة: 27/232، أبواب كيفية الحكم، باب 2، ح1.

ص: 218

المسألة الثالثة : كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في بلد آخر

اشارة

من أسباب اختلاف الفقهاء في أوائل الشهور اختلاف أنظارهم في اكتفاء أهل بلد لم يروا الهلال برؤيته في بلد آخر في الجملة.

تحرير محل النزاع:

لا شك في أن البلدان قد تتفق وقد تختلف في قابلية رؤية الهلال في الليلة المعينة لعدة عوامل مؤثرة سنشير إليها، ولا شك أيضاً في أن أحاديث الصوم للرؤية لا تقتضي رؤية كل شخص الهلال بنفسه ليجب عليه الصوم والإفطار بل يكفي رؤية غيره وقد دلّت على ذلك روايات حجية البينة، ومقتضى إطلاقها قبول كونها من خارج البلد بل في بعضها تصريح بأن الشاهدين يدخلان ويخرجان من المصر.

واتفق الفقهاء على كفاية رؤية الهلال في بلد قريب أو بعيد متحد معه بالأفق بحيث يستلزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر وإن لم يره أحد لمانعٍ ما لأن الرؤية مأخوذة على نحو الطريقية لتحصيل العلم بوجوده والمفروض حصوله بناءً على الملازمة أو اتحاد الآفاق بينهما.

وإنما وقع الخلاف فيما لو كان البلدان مختلفين في الآفاق بحيث أن رؤيته في أحدهما لا يلزم منها رؤيته في الآخر وقد يحصل العلم أو الاطمئنان بعدم إمكان رؤيته في الآخر فهل تكفي رؤيته في أحدهما لثبوته في البلد الآخر؟ وهل يشترط شيء في بلد الرؤية أم أنه مطلق؟.

إلفات: أخرج السيد الخوئي (قدس سره) وغيره من حريم النزاع ما لو رؤي الهلال في بلد شرقي فإنه كافٍ لثبوته في البلاد التي تقع إلى غربه؛ وفاقاً لجملة

ص: 219

من الأعلام أرسلوها كالمسلمات، قال (قدس سره): «لا إشكال أيضاً في كفاية الرؤية في بلد آخر وإن اختلفا في الأُفق فيما إذا كان الثبوت هناك مستلزماً للثبوت هنا بالأولويّة القطعيّة، كما لو كان ذاك البلد شرقيّاً بالإضافة إلى هذا البلد كبلاد الهند بالإضافة إلى العراق، إذ لا يمكن رؤية الهلال هناك من دون قبوله للرؤية هنا، مع أنّه متقدّم وسابق عليها، والرؤية ثمّة متفرّعة على الرؤية هنا، فالثبوت هناك مستلزم للثبوت هنا بطريق أولى، فالبيّنة القائمة على الأوّل تخبر بالالتزام عن الثاني. وهذا كلّه ظاهر»(1).أقول: هذه الأولوية على إطلاقها باطلة وسنثبت عدم الملازمة عند مناقشة هذا القول الذي ذهب إليه جماعة.

وقبل الدخول في البحث نعرض بعض المقدمات المفيدة:

الأولى: معنى تكوّن الهلال ومراحل وصوله إلى قابلية الرؤية.

القمر في نفسه جسم مظلم، وإنما يكتسب النور من سقوط ضوء الشمس عليه وانعكاسه منه، لذا فإن له على الدوام نصفاً مضيئاً وهو المواجه للشمس، وآخر مظلماً، أما مراحل نموّه التدريجي فإنه بالنسبة لأهل الأرض؛ لأن النصف المنير يظهر لسكان الأرض تدريجياً ابتداءً من الهلال حتى يكتمل بدراً حيث يرى أهل الأرض وجهه المنير كاملاً، ثم ينقص الجزء المنير الظاهر للأرض حتى يختفي تماماً في نهاية الشهر حينما يكون الجزء المواجه لأهل الأرض هو نصفه المظلم، وهي الحالة المعروفة بالمحاق، وتتحقق بوقوع القمر بين الشمس والأرض على خط مركزي واحد ثم يخرج القمر من خط الاقتران لكنه يبقى تحت شعاع الشمس فيغلب عليه ضوؤها حيث يغيب قبل مغيب الشمس، ففي هذه المرحلة يتولد الهلال بخروجه من المحاق إلا أنه لا يمكن رؤيته وهو ما

ص: 220


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/115.

يعبّر عنه في كلمات الفقهاء بدخوله تحت شعاع الشمس أو الاقتران ونحوه وهو المعروف بالمحاق.

ثم يتحرك وتتحرك الأرض عكس عقرب الساعة فيظهر جزء يسير من نصفه المنير ويقال عنه بأنه قد خرج من تحت شعاع الشمس فيتكون الهلال القابل للرؤية، ولذا يكون في بداية خروجه من المحاق غير قابل للرؤية إلى عمر معين.

فللقمر ثلاث مراحل إلى حين إمكان رؤيته، وفي كلمات الفقهاء خلط بين المرحلة الأولى والثانية فيعبّرون عن حالة المحاق بأنه تحت شعاع الشمس وبينهما فرق.

الثانية: العوامل المؤثرة في رؤية الهلال.

يقول الخبراء إن أقل عمر للهلال أمكن رؤيته بالعين المجردة هو (12-13.5) ساعة وإن عوامل عديدة تؤثر في إمكانية رؤية الهلال تبدأ من الهلال نفسه كعمر الهلال (بالساعات) وبعده الزاوي عن الشمس (بالدرجات القوسية) –التي تسمى نصف قطرية- وارتفاعه عن الأفق الغربي (بالدرجات القوسية) ومدة مكوثه في الأفق بعد مغيب الشمس (بالدقائق). وإن هذه المعلومات متعلقة ومرتبطة ببعضها البعض وفق معادلات رياضية وقوانين فيزيائية فلكية. وإن قوانين حركة القمر حول الأرض وحركة الأرض حول نفسها وحول الشمس ومقدار ميل أو تمايل محور دورانها أثناء تلك الحركة هي التي تقدم تلك المعلومات حول الهلال.

فعمر الهلال هو الوقت (بالساعات) الذي انقضى منذ خروج القمر من المحاق حتى مغيب الشمس في موقع الراصد.والبعد الزاوي للقمر عن الشمس هو مقدار القوس (بالدرجات القوسية) الواصل بين موقع القمر أثناء الاقتران (على الخط الذي يصل بين

ص: 221

مركزي الشمس والأرض) عندما كان في المحاق وموقعه عند مغيب الشمس بالنسبة للراصد.

وارتفاع الهلال هو مقدار الزاوية (بالدرجات القوسية) الحاصلة بين الخط الواصل بين موقع الراصد وخط الأفق الغربي من ناحية والخط الواصل بين موقع الراصد وموقع الهلال فوق الأفق من ناحية ثانية. ومدة مكوث الهلال في الأفق الغربي (بالدقائق) هي الوقت الفاصل بين مغيب الشمس ومغيب الهلال في موقع الراصد.

مروراً بوضع وموقع الكرة الأرضية في مدارها حول الشمس، واختلاف الفصول الأربعة لأنها تتأثر مباشرة بموقع الراصد أو المشاهد أو المستهل فوق سطح الأرض سواء في النصف الشمالي أو الجنوبي من الكرة الأرضية، وبوقت وزمن الرصد حسب الفصل والشهر واليوم لأن وضع الأرض الهندسي بالنسبة للشمس يتغير بتغير فصول السنة. وإن كل بقعة فوق سطح الأرض يتغير موقعها النسبي يومياً نظراً لدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس من ناحية ودوران القمر حول الأرض وحول نفسه من ناحية ثانية.

وانتهاءً بالرائي من حيث موقعه على الأرض وارتفاعه، بل «أكدت نتائج تجربة أجراها الفلكيان (دوغت وشيفر) في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1987-1990 على آلاف المستهلين أن الذين تكون أعمارهم أقل من عشرين وأكثر من ستين سنة لا يستطيعون التحقق من الرؤية، في حين إن الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والستين يملكون حساسية الدقة في التحقق من كل ما يرونه بما يزيد 16 مرة عن الفئة الأولى. لأن البقعة الصغيرة (FOVEA) الواقعة على شبكية العين والمسؤولة عن عملية الرؤية المركزية تكون في هذه السن (20-60) سنة في أوج حيويتها وحساسيتها بينما يكون نموها لم يكتمل بعد في فئة ما تحت العشرين، وتكون قد بدأت بالتقلص والضعف

ص: 222

في فئة ما فوق الستين»(1).

أقول: هذا كله بلحاظ العوامل المنظورة والمحسوبة، وهناك عوامل غير محسوبة ولم يدخل تأثيرها في الحسابات وأهمها حالة الجو في سماء الهلال فقد يكون مغبرّاً وهذه الدقائق من الغبار تعكس أشعة الشمس وينتشر ضوؤها فتصعب رؤية الهلال.الثالثة: تقدم في أبحاثنا السابقة أن روايات (صم للرؤية وافطر للرؤية)(2) لا تعني أن رؤية الهلال أخذت على نحو الموضوعية والشرطية في ثبوت الشهر، بل هي طريق لحصول العلم به، شأنها في ذلك شأن كل وسائل الإثبات. لأن الأشهر القمرية حالة معروفة للناس قبل الشريعة وكانوا يعلمون عدد السنين والحساب من خلالها وهي ظاهرة سجلها الإنسان منذ آلاف السنين، قال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» (التوبة:36) وقال تعالى: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» (يّ_س:39) وقال تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ» (يونس:5) ولم تكن الرؤية دخيلة أو شرط في تحقق الشهر واقعاً.

ص: 223


1- من رسالة للدكتور يوسف مروّة مثبتة في ملاحق كتاب (ثبوت الهلال طبقاً لقول الفلكي) للسيد محمد الحسيني.
2- كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية) (وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح2).

ولذا جعلت الرؤية في بعض الروايات مقابل التظني والرأي، مما يعني أن المطلوب حصول العلم بدخول الشهر، ولذا أيضاً قامت مقامها البينة أو الشياع لأنها وسائل لتحصيل العلم وكذا ما ثبت من كفاية مضي ثلاثين يوماً للحكم بدخول الشهر الجديد حتى لو لم يره أحد أو ما دل على لزوم القضاء يوماً إذا رُئي الهلال ليلة التاسع والعشرين، وما دلّ على إجزاء صومه من شهر رمضان إذا صامه بنيّة شعبان ثم تبين له لاحقاً أنه من شهر رمضان، ونحو ذلك من الشواهد على طريقية الرؤية.

وقد أتعب بعض المعاصرين نفسه الشريفة في إثبات موضوعية الرؤية وردّ الوجوه لإثبات طريقيتها(1)،لا نرى ثمرة في الإطالة بمناقشتها وهو بالدقة يريد ما ذكرناه، فقد أوقعنا المصالحة بين الفريقين بأنها طريقية مشوبة بالموضوعية وليست محضة حيث اشترطنا أن يكون الهلال بمقدار قابل للرؤية عند الغروب ليكون إيذاناً بدخول الشهر فقابلية الهلال للرؤية لها دخل في تحقق الشهر الجديد وإن متعلق العلم الذي تكون الرؤية طريقاً إليه هو إمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة، فأصبح للرؤية دخلاً في موضوع الهلال، وهذا هو مقتضى المعنى العرفي والشرعي لدخول الشهر، والذي تبانى عليه الناس قبل مجيء الشريعة، قال تعالى: «يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (البقرة:189) ولا تكون مواقيت للناس إلا عندما تكون معروفة لديهم وظاهرة لهم. ولا يكفي مجرد وجودها التكويني.

وفي النهاية لابن الأثير: «سُمِّي به –أي الشهر- لشهرته وظهوره»(2).وبهذا اللحاظ فرّقوا بين الشهر القمري الطبيعي والشرعي، فوصْف الرؤية بكونها «طريقاً محضاً»(3) لا يخلو من مبالغة، إذ أن فيها مقداراً من

ص: 224


1- رسالة السيد الطهراني حول رؤية الهلال: 64، 131، 189، 205.
2- مادة (شهر).
3- السيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، صفحة 22.

الموضوعية نبّهنا له في بعض الأبحاث السابقة. والالتزام بالطريقية المحضة يعني تطابق الشهر الشرعي مع الطبيعي أي كفاية خروج الهلال من المحاق ويعني كفاية الرؤية بأجهزة الرصد وكفاية القوانين الرياضية التي تحسب خروجه من المحاق دون الاعتبار بظروف الرؤية والعوامل المؤثرة فيها، وهذه جميعاً مما لا يمكن الالتزام بها كما سيأتي بإذن الله تعالى.

الرابعة: الشهر القمري الطبيعي والشرعي:

إذا خرج القمر من المحاق وبدأ يواجه الأرض بأصغر أجزاء وجهه المنير فقد بدأ الشهر القمري الطبيعي (التكويني) لكنه بهذا المقدار لا يكون قابلاً للرؤية، التي هي مناط بداية الشهر القمري الشرعي حتى يمرّ عليه زمن معين ذكرناه في المقدمة الثانية، وقد لا تمكن رؤيته لأكثر من سبب آخر منها:-

1- قلة مكثه في الأفق بعد سقوط القرص فيصعب رؤيته وسط الحمرة المتبقية ويغيب قبل التمكن من رؤيته.

2- أن يكون خروجه من المحاق وغيابه واختفاؤه تحت الأفق قبل غروب الشمس فلا تمكن رؤيته.

لأجل ذلك فإن الشهر القمري الشرعي يتأخر عن الشهر الطبيعي بالمقدار الذي تزول فيه هذه المشاكل وتصبح الرؤية ممكنة.

ويكون الشهر القمري (29) يوماً أو (30) يوماً ولا يمكن أن يكون (28) يوماً أو (31)، لأن طول الدورة الاقترانية للقمر حول الأرض تختلف ما بين (29) يوماً و(7) ساعات تقريباً و(29) ويوماً و (19) ساعة، ومعدل الشهر القمري (29) يوماً و (12) ساعة و (44) دقيقة.

ولذا أفتى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بأنه «إذا قامت البينة على هلال شوال ليلة التاسع والعشرين من هلال رمضان أو رآه في تلك الليلة بنفسه يجب قضاء يوم واحد» وقال السيد الخوئي (قدس سره) معلقاً: «لأنه

ص: 225

يستكشف بذلك أنه أفطر في اليوم الأول من شهر رمضان، وإلا كان الشهر ثمانية وعشرين يوماً وهو مقطوع البطلان»(1)

.وقد دلّ على ذلك موثقة سماعة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن وقد يكون شهر رمضان تسع وعشرين يوماً ويكون ثلاثين ويصيبه ما يصيب الشهور من التمام والنقصان)(2).

وصحيحة الحلبي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث قال: (قلت: أرأيت إن كان الشهر تسع وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ قال: لا، إلا أن يشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقضِ ذلك اليوم)(3).

وخبر عبد الله بن سنان قال: (صام علي (عليه السلام) بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر منادياً ينادي: اقضوا يوماً فإن الشهر تسعة وعشرون يوماً)(4).(4).

استطراد:

ذكر السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) مثالاً يظهر منه عدم القطع ببطلان كون الشهر القمري ثمانية وعشرين يوماً مع أنه أكّد ما اتفق عليه الفقهاء من عدم نقصان الشهر القمري عن تسعة وعشرين ولا زيادته عن واحد وثلاثين، قال (قدس سره): «وقد تقول إن الشهر القمري الشرعي قد يتأخر ليلة عن الشهر القمري الطبيعي كما تقدم، وإن الشهر القمري الطبيعي قد يكون

ص: 226


1- مستند العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 22/112.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح6، 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5، ح6، 9.
4- (4) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 14، ح1.

تسعة وعشرين يوماً كما مرّ، وهذان الافتراضان إذا جمعناهما في حالة واحدة أمكننا أن نفترض شهراً قمرياً طبيعياً ناقصاً بدأ ليلة السبت وتأخر عنه الشهر القمري الشرعي يوماً فبدأ ليلة الأحد نظراً إلى أن الهلال في ليلة السبت لم يكن بالإمكان رؤيته، وفي هذه الحالة نلاحظ أن الشهر القمري قد يكون ثمانية وعشرين يوماً وذلك: لأن الشهر القمري الطبيعي بحكم افتراضه ناقصاً سينتهي في تسعة وعشرين يوماً ويهل هلال الشهر التالي في ليلة الأحد بعد مضي تسعة وعشرين يوماً وقد يكون هذا الهلال في ليلة الأحد ممكن الرؤية فيبدأ الشهر القمري التالي طبيعياً وشرعياً في هذه الليلة، ونتيجة ذلك أن يكون الشهر القمري الشرعي الأول مكوناً من ثمانية وعشرين يوماً لأنه تأخر عن الشهر القمري الطبيعي الناقص يوماً وانتهى بنهايته».

ثم قال (قدس سره): «والجواب: إن في حالة من هذا القبيل تعتبر بداية الشهر القمري الشرعي الأول من ليلة السبت على الرغم من عدم رؤية الهلال لكي لا ينقص الشهر الشرعي عن تسعة وعشرين يوماً وبهذا أمكن القول أن الشهر القمري الشرعي يبدأ في الليلة التي يمكن أن يرى في غروبها الهلال لأول مرة بعد خروجه منالمحاق أو في الليلة التي لم يرَ فيها الهلال كذلك ولكن رؤي هلال الشهر اللاحق في ليلة الثلاثين من تلك الليلة»(1).

أقول: كأنه (قدس سره) لم ينفِ وقوع الفرض المذكور ولكنه أجاب عنه بالتعبد بقضاء يوم، والصحيح في الجواب نفي الفرض المذكور وعدم إمكان وقوعه، لأن معدل الشهر القمري الذي يزيد عن (29) يوماً ب_(12) ساعة و (44) دقيقة يعني تأخر مبدأ تكوّن الهلال في كل شهر لاحق عن نقطة تكوّنه في الشهر السابق بمقدارٍ ما، يعني لو افترضنا أن أول أزمنة إمكان رؤية الهلال في هذا الشهر تحققت في النجف الأشرف، فإن أول أزمنة إمكان رؤيته في الشهر اللاحق

ص: 227


1- الفتاوى الواضحة: 513، 514، طبعة قديمة.

ستكون في منطقة إلى الغرب بوقتٍ ما، وفي ضوء هذا فإن الهلال لا يرى بنفس الشكل الذي رئي فيه في نقطة ما من شهر معين في الشهر اللاحق –أي بعد (29) يوماً- في نفس تلك النقطة إلا بعد (13) ساعة تقريباً، أما في نفس تلك اللحظة فقد يكون تحت المحاق ولا يكون قابلاً للرؤية، فكيف افترض (قدس سره) تقدّم زمان الرؤية.

فالحكم بقضاء يوم لانكشاف خطئهم في أول الشهر السابق فكشف عن حالة عدم العلم بأول الشهر وليس هو حكماً تعبدياً حتى لحالة العلم بأول الشهر كما يظهر من كلامه (قدس سره).

تأريخ المسألة:

أثيرت هذه المسألة بين فقهاء العامة في وقت مبكر في زمان المعصومين (عليهم السلام) وربما من عصر صدر الإسلام حيث فهموا من رواية كريب الآتية أن ابن عباس لا يعتقد بكفاية رؤية الهلال في الشام لثبوته في المدينة، أما علماء الإمامية فقد كانوا حريصين في تلك الفترة على تحرير الفتاوى طبقاً للنصوص الشرعية فلم يدونوا مسائل تفريعية اجتهادية، نعم يمكن القول أن المسألة موجودة في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كما يظهر من رواية محمد بن عيسى العبيدي وفيها (فهل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار، فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم على خلاف فطرنا)(1).

وعلى أي حال فقد اختلف فقهاء العامة في المسألة وحكي عن ابن حجر في فتح الباري أن في المسألة ستة أقوال(2)،قال ابن قدامة في المغني -وهو على فقه

ص: 228


1- تهذيب الأحكام: 4/159.
2- الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 2/536.

فقه الحنبلية وينقل عنه العلامة (قدس سره) في التذكرة أقوالهم-: «إذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم، وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم أهلها الصوم برؤية الهلال في إحداهما، وإن كان بينهما بعد كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم، وهو مذهب القاسم وسالم وإسحاق لما روى كريب قال: قدمت الشام واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم»(1).

وحكى بعض من حضرنا بحثه الشريف أن المشهور عندهم اختلاف البلدان في الآفاق قال: «فالمشهور من السنة الالتزام باتحاد الأفق فإذا ثبت في مكان بعيد عندهم كالشام لا يثبت في المدينة، وربما ادعي الإجماع على ذلك، وعمدة استدلال المشهور وجهان، أحدهما: الإجماع الذي نقله ابن عبد البر، وثانيهما: رواية كريب» ثم نقل مناقشة من قالوا بوحدة الهلال لجميع البلدان

ص: 229


1- صحيح مسلم: 2/765، ح1087، سنن الترمذي: 3/76-77، ح693، سنن أبي داوود: 2/299، ح2332، سنن النسائي: 4/131، سنن الدارقطني: 2/171، ح21، سنن البيهقي: 4/251، وذكر في المغني: 3/10 أن هذا حديث حسن صحيح غريب.

كالشوكاني في نيل الأوطار وجاء فيه «أما الإجماع فلم يثبت وإلا فهو مشهور المالكية لا كلهم، وأما بالنسبة للرواية فهو اجتهاد من ابن عباس»(1).

أقول: هذه النسبة لمشهورهم غير دقيقة بل لعل العكس هو الصحيح «ففي رأي الجمهور: يوحد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع. وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة. ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (89 كم).هذا مع العلم بأن اختلاف المطالع نفسه لا نزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جداً كالأندلس والحجاز، وإندونيسية والمغرب العربي.

وأذكر أولاً عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم.

قال الحنفية: اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهاراً قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة، أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أهل بلدة كذا رأوه؛ لأنه حكاية.

وقال المالكية: إذا رئي الهلال، عمّ الصوم سائر البلاد، قريباً أو بعيداً، ولا يراعى في ذلك مسافة القصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم على كل منقول إليه، إن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة.

ص: 230


1- تقرير بحث السيد السيستاني، محاضرة يوم 10/ج2/1417.

وقال الحنابلة: إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريباً كان أو بعيداً، لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه.

وأما الشافعية فقالوا: إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخاً»(1).

أقول: يجب أخذ هذه الأقوال على أساس ما ذكره قبلها من اتفاقهم على عدم تأثير رؤية الهلال في بلد من البلدان النائية جداً وهذا يقيّد إطلاق ما نقله عنهم من وحدة الهلال للبلدان المختلفة.

أما علماء الإمامية فقد قلنا أن المسألة لم تحرّر عندهم في تلك الفترة وإن كانت موجودة في أذهان بعضهم، واكتفى القدماء (قدس الله أرواحهم) باشتراط الرؤية لتحديد بدايات الشهور وكفاية حصولها في خارج البلد من دون التفصيل بين البلدان القريبة والبعيدة تبعاً للنصوص، واشترط الشيخ الصدوق (قدس سره) في المقنع في حجية البينة من خارج البلد وجود علة في سماء البلد وكذا قال غيره كالمفيد والحلبي وسلاّر (قدس الله أرواحهم)، ولم يفصّلوا بين البلدان المتقاربة والمتباعدة من حيث كفاية الرؤية في بعضها للبعض الآخر، وتبعهم الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتابه النهاية الذي صنّفه على طريقة من سبقه باعتماد نصوص الروايات كفتاوى، فقال (قدس سره): «علامة الشهور رؤية الهلال مع زوال العوارض والموانع، ومتىكان في السماء علة ولم يرَ في البلد الهلال أصلاً ورآه خارج البلد شاهدان عدلان وجب أيضاً الصوم»(2).

وأول ظهور لهذا التفصيل كان في كتاب المبسوط للشيخ الطوسي (قدس سره) الذي صنّفه بعد النهاية بحلّة جديدة وهي التفريعات على أصول المسائل مجاراة لفقه العامة وكانوا قد طعنوا على الشيعة بأن كتبهم خالية من

ص: 231


1- موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة، د. وهبة الزحيلي: 2/533-534.
2- النهاية: 150.

الفروع ومقتصرة على مضمون الروايات، فأراد (قدس سره) إثبات قوة الاجتهاد واستنباط الفروع من الأصول عند الشيعة. وهذه المسألة كانت موجودة في فقه العامة، كما نقلنا.

وفي ضوء الغرض من تأليف كتاب المبسوط، قال الشيخ الطوسي (قدس سره) فيه: «علامة شهر رمضان رؤية الهلال أو قيام البينة –إلى أن قال-: ومتى لم يُ_رَ الهلال في البلد ورئي خارج البلد على ما بيناه وجب العمل به إذا كان البلدان التي رئي فيها متقاربة بحيث لو كانت السماء مصحية والموانع مرتفعة لرئي في ذلك البلد أيضاً لاتفاق عروضها وتقاربها مثل بغداد وواسط والكوفة وتكريت والموصل، فأما إذا بعدت البلاد مثل بغداد وخراسان، وبغداد ومصر، فإن لكل بلد حكم نفسه ولا يجب على أهل بلد العمل بما رآه أهل البلد الآخر»(1).

وتبعه ابن حمزة في الوسيلة فقال (قدس سره): «وإذا رئي في بلد ولم يُ_رَ في آخر فإن كانا متقاربين لزم الصوم أهليهما معاً، وإن كانا متباعدين مثل بغداد ومصر أو بلاد خراسان لم يلزم أهل الآخر»(2).

وقال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: «وإذا رئي في البلاد المتقاربة كالكوفة وبغداد وجب الصوم على ساكنهما أجمع دون المتباعدة كالعراق وخراسان»(3).

وقال العلامة (قدس سره) في القواعد: «وحكم البلاد المتقاربة واحد بخلاف المتباعدة»(4) وقال (قدس سره) في التذكرة: «إذا رأى الهلال أهلُ بلد

ص: 232


1- المبسوط: 1/267-268.
2- الوسيلة: 141.
3- شرائع الإسلام: 1/200.
4- قواعد الأحكام: 1/387.

ولم يره أهل بلد آخر فإن تقاربت البلدان كبغداد والكوفة كان حكمهما واحداً يجب الصوم عليهما معاً وكذا الإفطار، وإن تباعدتا كبغداد وخراسان والحجاز والعراق فلكل بلد حكم نفسه، قالهالشيخ: (رحمه الله)، وهو المعتمد» ثم ردّ على القائلين بوحدة البلدان في الهلال من العامة ونسبه إلى بعض علمائنا.

لكنه (قدس سره) قال في التحرير: «إذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على أهل البلاد وجميع الناس سواء تباعدت البلاد أو تقاربت»(1).

ثم نقل تفصيل الشيخ (قدس سره) بين البلدان المتقاربة وغيرها وعقّبه بقوله: «وفيه قوة» وهو بمجرده لا يدل على عدوله عما قاله أولاً فلَعلَّه يشير بذلك إلى أن هذا القول له وجه قوي إلا أنه لا يرجّحه على الأول الذي اختاره وهذا إنصاف منه، ولهذا التفسير شواهد عديدة في كتابه (قدس سره).

وهذا أول ظهور واضح للقول باتحاد البلدان في الهلال لذا لم يتعرض العلامة (قدس سره) لهذا القول في كتابه (مختلف الشيعة) الذي غرضه بيان الأقوال المختلفة لعلماء الإمامية في المسائل وأطلق قبول شهادة العدلين من خارج البلد على نحو تعبير القدماء(2). وإن كان العلامة (قدس سره) نسبه إلى بعض علمائنا في التذكرة ولم يسمِّه كما لم يستطع غيره تسميته، ويمكن أن يكون مقصوده السيد المرتضى (قدس سره) لإطلاق عبارته في الرسالة التي ردّ بها على أصحاب العدد، قال: «الواجب على من رأى أن يعتقد أن هذه ليلة أول شهر رمضان في حقه وحق من يجري مجراه في رؤيته، وإن جوز أن يكون رئي في بعض البلاد. ويختلف فرض من رآه تلك الليلة ومن لم يره ويخبر عنه،

ص: 233


1- تحرير الأحكام الشرعية: 1/493.
2- مختلف الشيعة: 3/353.

غير أنه وإن قطع بالرؤية على أنه أول يوم من شهر رمضان فلا بد أن يكون ذلك مشروطاً بأن لا يرد الخبر الصحيح بأنه رئي قبل تلك الليلة»(1).

ويمكن أن يكون ابن إدريس لقوله: «فمتى رأيت الهلال وجب عليك الصوم... وكذلك إن شهد برؤيته شاهدان عدلان وجب عليك الصوم، سواء كانت السماء مصحية أو فيها علة، أو كانا من خارج البلد أو داخله وعلى كل حال»(2).

ولعل الشك في إرادة الإطلاق من كلامهما سبب عدم إيراد العلامة (قدس سره) لهذا القول في كتابه (مختلف الشيعة).

ونسب(3) السيد الخوئي (قدس سره) القول بعدم الفرق بين البلدان المتقاربة والمتباعدة إلى العلامة (قدس سره) في المنتهى، لكن التأمل في عبارته لا يظهر منهاذلك، قال العلامة (قدس سره): «يُعلم الشهر برؤية الهلال، فمن رآه وجب عليه صومه».

وقال فيه أيضاً: «إذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على جميع الناس، سواء تباعدت البلاد أو تقاربت، وبه قال أحمد والليث بن سعد وبعض أصحاب الشافعي.

وقال الشيخ (رحمه الله): إن كانت البلاد متقاربة لا تختلف في المطالع كبغداد والبصرة كان حكمهما واحداً وإن تباعدت كبغداد ومصر كان لكل بلد حكم نفسه... (ثم أخذ في رد هذا القول حيث قال (قدس سره) في هذا الصدد): ولو قالوا إن البلاد المتباعدة يختلف عروضها، فجاز أن يرى الهلال في بعضها دون بعض لكروية الأرض، قلنا: إن المعمور منها قدر يسير وهو الربع

ص: 234


1- رسائل المرتضى: 2/41-42.
2- السرائر: 1/380-381.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/116.

ولا اعتداد به عند علو السماء، وبالجملة إن علم طلوعه في بعض الصفائح وعدم طلوعه في بعضها المتباعد عنه لكروية الأرض لم يتساو حكماهما، أما بدون ذلك فالتساوي هو الحق»(1).

أقول: الظاهر من عبارته (قدس سره) أنه يبني على عدم التلازم في رؤية الهلال بين البلاد المتباعدة، لكنه يعتقد أن التباعد بين البلدان المسكونة ليس بالمقدار الذي يوجب عدم التلازم، فهو متطابق بالنتيجة مع من يقول بوحدة الهلال لكنه مختلف معهم في فرض المسألة الذي هو كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في بلد آخر وإن اختلفت آفاقهما؛ لذا اختار عدم الملازمة صريحاً في التذكرة كما تقدم وفي القواعد فقد قال (قدس سره): «وحكم البلاد المتقاربة واحد بخلاف المتباعدة»(2).

وممن توسع عن قول المشهور في الجملة الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس حيث قال: «والبلاد المتقاربة كالبصرة وبغداد متحدة لا كبغداد ومصر، قاله الشيخ، ويحتمل ثبوت الهلال في البلاد المغربية برؤيته في البلاد المشرقية وإن تباعدت، للقطع برؤيته عند عدم المانع»(3).

أقول: يعني أن التقارب ليس هو المناط الوحيد للملازمة بالرؤية فقد تحصل هذه الملازمة بين البلدان المتباعدة كما في الحالة المذكورة، لكن هذا ليس قولاً مقابلاً للمشهور ولا ينافيه، وممن صرّح بهما معاً الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك فقال: «إذا رئي في أحد البلاد المتقاربة ولم ير في الباقي وجب الصوم على الجميع،بخلاف المتباعدة فإن لكل واحدة منها حكم نفسها. ولا ريب في كون مثل بغداد والكوفة متقاربة، ومثل خراسان والعراق والشام متباعدة. إنما

ص: 235


1- منتهى المطلب: 2/582، 592-593، طبعة حجرية.
2- قواعد الأحكام: 1/387.
3- الدروس الشرعية: 1/284.

الكلام في الحد الذي يوجب البعد. والظاهر أن المرجع فيه إلى اختلاف المطالع فإنها هي الموجبة لاختلاف الرؤية، بناء على ما دلّت عليه البراهين الاعتبارية من أن الأرض كروية فيختلف المطالع باختلاف محالّها، وتطلع الكواكب على جهاتها الشرقية قبل طلوعها على الغربية، وكذلك في الغروب. فعلى هذا يمكن أن لا يرى الهلال عند الغروب في البلاد الشرقية لقربه من الشمس، ثم يُرى في تلك الليلة في الغربية لتأخر غروبها، فيحصل التباعد بينهما الموجب للرؤية. وهذا أمر قد شهدت به التجربة فضلاً عن البراهين»(1).

ونقل السيد صاحب المدارك (قدس سره) كلام العلامة (قدس سره) في المنتهى –وقد نقلناه- وقال عنه: «وهو جيد»(2).

وأول من صرّح بعدم الفرق بين البلدان المتقاربة والمتباعدة هو المحدث المحقق الفيض الكاشاني (ت 1091) في الوافي –عند قوله (عليه السلام): (فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه) ثم روى رواية أخرى مثلها- حيث قال (قدس سره): «بيان: إنما قال (عليه السلام): (فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه لأنه إذا رآه واحد في البلد رآه ألف كما مر، والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة منه، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ولإطلاق اللفظ، فما اشتهر بين متأخري أصحابنا من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد لا وجه له»(3).

وأخذ بنتيجة هذا القول المحدث البحراني في الحدائق (قدس سره) والنراقي (قدس سره) في المستند، وقوّاه صاحب الجواهر (قدس سره) وإنما

ص: 236


1- مسالك الأفهام: 2/52.
2- مدارك الأحكام: 6/172.
3- الوافي: 11/120.

قلت نتيجة هذا القول لأن بعضهم يجعل مسألة الاختلاف في المطالع سالبة بانتفاء الموضوع، وبذلك فهو يخرج البحث عن فرض المسألة الذي هو الملازمة في ثبوت الشهر مع اختلاف المطالع كما ورد في كلام السيد الخوئي (قدس سره) الآتي (صفحة 240)، فهؤلاء الأعلام يرون أن اختلاف المطالع موجب لاختلاف الآفاق وعدم الملازمة، إلا أنهم لا يرون بلاد الأرض على هذا النحو؛ لأن بعضهم لا يرى كروية الأرض وإنما هي مسطحة فلا اختلاف في الآفاق كصاحبي الحدائق والجواهر، أو أنه يرى كروية الأرض لكن المساحة المسكونة فيها ليست من السعة بحيث تقتضي اختلاف الآفاق كالعلامة الذي وصفها في المنتهى بالربع المسكون وتقدمت عبارته (صفحة 234) حتى أنفخر المحققين بنى المسألة على هذه القضية وليس على الأدلة الشرعية قال (قدس سره): «ومبنى هذه المسألة على أن الأرض هل هي كروية أو مسطحة، والأقرب الأول»(1).

ثم قيّد بعض المعاصرين عموم وحدة الهلال لجميع البلدان المتباعدة باشتراكها في الليل كالسيد الخوئي (قدس سره) في مستند العروة الوثقى والطبعات المتأخرة من منهاج الصالحين.

ومن البيان أعلاه يُعلم النظر في نسبة السيد الخوئي (قدس سره) القول بعدم اشتراط اتحاد الآفاق لثبوت الهلال إلى جملة من الأعلام كالعلامة في المنتهى وصاحبي الحدائق والجواهر (قدس الله أسرارهم جميعاً) وكذا المحقق النراقي (قدس سره) في المستند الذي اشترط في عدم ثبوت الهلال في البلد الآخر العلم باختلاف المطالع وهو غير حاصل كما قال فيثبت الهلال في البلدان الأخرى لعدم العلم باختلاف المطالع، وكذا يُعلم النظر في نسبة احتمال هذا القول إلى الشهيد الأول في الدروس وقد تقدم كلامه (قدس سره) المقتصر على كفاية رؤية الهلال في بلد شرقي لثبوته في البلاد الغربية.

ص: 237


1- إيضاح الفوائد: 1/252.

والخلاصة: أنه لا توجد أية إشارة للتفصيل في النصوص عن المعصومين (عليهم السلام) ولا في كلمات الفقهاء القدماء إلى زمان الطوسي (قدس سره) الذي أدخل المسألة في فروع الفقه لاحقاً مجاراة للعامة، وتبعه عدد من الفقهاء حتى القرن الحادي عشر الهجري حيث ظهر القول بعالمية الهلال وعدم تأثير التباعد بين البلدان في كفاية ثبوت أوائل الشهور، والتزم به عدد من الفقهاء إلى زماننا المعاصر.

ويوجد مَن توقف في المسألة كالمحقق السبزواري، قال (قدس سره): «والمسألة عندي محل إشكال»(1).

معنى اتحاد الأفق وتعدده وتأثير تقارب البلدان وتباعدها فيه:

اشترط المشهور في كفاية رؤية الهلال في بلدٍ ما لثبوته في بلد آخر اشتراكهما ووحدتهما في الأفق، ونبيّن هنا معنى اتحاد الأفق واختلافه تمهيداً لمناقشة المشهور.

وهم لا يريدون قطعاً بالأفق ما نطلقه عرفاً على نهاية مدى الرؤية والتي تبدو فيها السماء والأرض كأنهما تلتقيان بحكم كروية الأرض فإنه لا يتجاوز عدة كيلومترات، فإنهم مجمعون على اتحاد البلدان التي تتباعد بأكثر من ذلك كما مثّلوا بالنجف وبغداد أو الموصل، وقد دلّت الروايات المعتبرة على كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في بلد آخر والقدر المتيقن منها أزيد من ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.فهم يريدون بالأفق موقع الهلال بالنسبة إلى الرائي من الأرض فالبلدان المشتركان في الأفق يعني أن موقعهما على الأرض بالنسبة إلى رؤية الهلال واحدة، وقد ذكروا في ضابطة اشتراك أفق البلدين معنيين:

ص: 238


1- كفاية الفقه: 1/261.

(أحدهما) وهو المشهور والمعروف وحاصله أن الاشتراك في الافق يتحقق بتقارب البلدين، قال الشيخ (قدس سره) في كلامه المتقدمة (صفحة 232): «إذا كان البلدان التي رئي فيها متقاربة لاتفاق عروضها وتقاربها».

لكن وصف التباعد والتقارب معنى نسبي وإضافي فبغداد بعيدة عن النجف إذا قسناها بلحاظ الحلة، لكنها قريبة إلى النجف بلحاظ دمشق أو طهران وهكذا، فما هي الضابطة في التمييز بين البلدان المتقاربة والمتباعدة؟.

فلا بد من تحديد معنى التقارب والتباعد الذي يتحد على أساسه أفق الهلال أو يختلف.

والموجود في كلماتهم تعريف تقارب البلدين باتحادهما في المطالع كما في كلمة الشيخ المتقدمة وقاله العلامة في كتبه وصرّح به الشهيد الثاني في المسالك في كلامه المتقدم (صفحة 236) حيث قال: «إنما الكلام في الحد الذي يوجب البعد والظاهر أن المرجع فيه إلى اختلاف المطالع فإنها هي الموجبة لاختلاف الرؤية»، وقال المحقق الأردبيلي (قدس سره): «ينبغي أن يراد بالمتقاربة ما لا يختلف في المطالع والمغارب»(1)

وقد يُراد بالمطالع مشارق الشمس ومغاربها -كما في هذه العبارة للأدربيلي-، فإن للشمس في كل لحظة شروقاً على موضع من الأرض وغروباً على موضع مقابل، كما سيأتي في كلام السيد الخوئي (قدس سره) وغيره.

وقد يراد بالمطالع: مطالع الهلال على أنحاء الأرض المختلفة قال العلامة (قدس سره) في المنتهى: «إنْ عُلِمَ طلوعه في بعض الصفايح وعدم طلوعه في بعضها المتباعد عنه لكروية الأرض»(2)

إلى آخر كلامه، ويرد المعنيان في كلمات

ص: 239


1- مجمع الفائدة والبرهان: 5/294.
2- منتهى المطلب: 2/593، الصفايح يعني الأنحاء والأصقاع، فلا داع لتغيير الأصل كما فعله بعض المحققين للنسخ.

الفقهاء كما يظهر من النصوص التي نوردها في البحث لكن الثاني هو المعروف في كتب المؤسسين.

وقال السيد الخوئي (قدس سره): «إن البلدان الواقعة على سطح الأرض تنقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما تتفق مشارقه ومغاربه، أو تتقارب.

ثانيهما: ما تختلف مشارقه ومغاربه اختلافاً كبيراً.أما القسم الأول: فقد اتفق علماء الإمامية على أن رؤية الهلال في بعض هذه البلاد كافية لثبوته في غيرها فإن عدم رؤيته فيه إنما يستند –لا محالة- إلى مانع يمنع من ذلك، كالجبال أو الغابات أو الغيوم، أو ما شاكل ذلك، وأما القسم الثاني فالمعروف بينهم القول باعتبار اتحاد الأفق، ولكن قد خالفهم فيه جماعة من المحققين فاختاروا القول بعدم اعتبار الاتحاد وقالوا بكفاية الرؤية في بلد واحد لثبوته في غيره من البلدان ولو مع اختلاف الأفق بينها»(1).

أقول: هذا التعريف لا يمكن التعويل عليه في مثل هذه القضية الحسّاسة لأمور:-

1. إنه لا يقدّم حداً واضحاً للقرب والبعد يمكن الرجوع إليه هل هو فرق عشر دقائق في التوقيت مثلاً أو عشرين أو غير ذلك، وتقدم (صفحة 236) اعتراض الفيض الكاشاني على هذا التحديد بقوله: «ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس»، مضافاً إلى أن الفروق في التوقيت غير ثابتة أصلاً فإنها تتغير بشكل كبير من فصل إلى آخر وهذا يعني تغيّر وصف القرب والبعد من فصل إلى آخر، فقد يكون البلدان متقاربين في شهر فتكون رؤية الهلال في أحدهما حجة إلى الآخر، ويكونان متباعدين في شهر آخر فلا يكون حجة وهذا معنى غير معروف لديهم.

ص: 240


1- منهاج الصالحين، فصل: ثبوت الهلال: 1/279.

2. إن المخططات والحسابات الفلكية أثبتت عدم دقته إلا في نطاق ضيق لا يمكن الاكتفاء به، وإن بعض البلدان التي يعدّونها متقاربة كبغداد والموصل والبصرة قد تختلف في قابلية رؤية الهلال ولا توجد ملازمة بينهما فربما يمكن رؤيته في أحدهما دون الآخر، ولذا حدده بعض علماء الجمهور بستة عشر فرسخاً (حوالي 88

كم) كما تقدم، وهذا مدى لم يقل به أحد منّا.

3. إن ربط التقارب والتباعد باتفاق المطالع أي المشارق والمغارب يحصر التأثير بموقع البلد على خطوط الطول والعرض مع أن الأمر ليس كذلك ولا أنه بهذه البساطة وتتدخل في إمكانية رؤية الهلال عوامل كثيرة بالغة الدقة، ولذا قد تتفق بلدان بعيدة في قابلية رؤية الهلال، وقد تختلف بلدان متقاربة في الرؤية، مضافاً إلى أن هذا مبني على فهم خاطئ وهو أن الأرض تدور حول محورها بشكل شاقولي وحول الشمس بشكل دائري.

4. إن بعض الدول تختلف مطالع مدنها بشكل ملحوظ كإيران أو إندونيسيا أو الحجاز فالعمل بهذا التعريف يجزّئ تلك الدول من حيث كفاية الرؤية وعدمها فإذا رؤي في غربها كالأهواز في إيران أو المدينة ومكة في الحجاز فإنه لا يثبت في شرقها كمشهد والأحساء والقطيف لاختلافهما البين في المطالع، وهذه النتيجة لا يلتزم بها أهل التعريف.

وتوجد ملاحظات أخرى سنذكرها عند مناقشة الأقوال بإذن الله تعالى.(ثانيهما) الملازمة في الرؤية قال ابن البراج في المهذب «أو كانت البلدان متقاربة حتى لو رئي الهلال في أحدهما لرئي في الآخر»(1) وهذه الملازمة أعم من أن تكون لتقاربهما كما تقدم أو لغيره ككون البلد غربياً بالنسبة لبلد الرؤية كما عن الشهيد الأول في الدروس في عبارته المتقدمة (صفحة 235)، قال صاحب العروة: «إذا ثبتت رؤيته في بلد آخر ولم يثبت في بلده فإن كانا

ص: 241


1- الينابيع الفقهية: 6/178.

متقاربين كفى وإلا فلا، إلا إذا عُلِم توافق أفقهما وإن كانا متباعدين» وقال بعض من حضرنا بحثه (دام ظله الشريف): «إذا رؤي الهلال في بلد كفى في الثبوت في غيره مع اشتراكهما في الأفق بمعنى كون الرؤية الفعلية في البلد الأول ملازماً للرؤية في البلد الثاني لولا المانع من سحاب أو غيم أو جبل أو نحو ذلك»(1) وقال مثله في بحثه الشريف.

أقول: يرد عليه:

أن فيه دوراً واضحاً إذ أنه يعرّف اتحاد الأفق بالملازمة في الرؤية بين البلدين، وهذه الملازمة فرع اتحادهما في الأفق.

وقد حاول بعض المعاصرين التخلص من الإشكال بإيجاد ضابطة كلية للبلدان المتقاربة وهي «جميع البلدان الغربية القريبة العرض بالنسبة إلى مطلع القمر، وجميع البلدان الشرقية التي كانت مشتركة في إمكان الرؤية مع بلد الرؤية ولو بلحظة، واقعة في الطول الجغرافي بمسافة اثنتين وثلاثين دقيقة زماناً، وهي البالغة بأزيد من مئة وستين فرسخاً»(2).

أقول: تبعه على ذلك بعض من حضرنا بحثه الشريف، فقد أورد (دام ظله الشريف) في بحثه إيضاحاً لهذه الملازمة قال فيه: «فحينئذٍ يُسأل ما هو المعيار في هذه الملازمة وفي أي مورد لا بد من الالتزام بأن الرؤية في بلدٍ ملازمة لقابلية رؤيته في بلد آخر، فلا بد من عدّ موارد لهذا اللزوم:

المورد الأول: ما أشرنا إليه من فرض كونهما مشتركين بالخط الطولي مع قربهما في العرض فإن مجرد الاشتراك في الخط الطولي مع البعد في العرض لا يلزم منه تقارنهما في الأفق فإن في بعض خطوط الطول (المتحدة) لا يُرى فيه الهلال.

ص: 242


1- منهاج الصالحين، فصل: ثبوت الهلال: /1/335 المسألة 1044.
2- رسالة حول مسألة الهلال للسيد محمد حسين الطهراني: 46.

المورد الثاني: إذا فُرض أن البلدين يختلفان في خطوط الطول لكن الهلال إذا رئي في أحدهما فإنه يكون مرئياً في البلد الآخر وهو المشكوك مع التقارب في العرض، فإذا رئي في بلد يكون خطوط الطول أقل درجة من بلد الشك فيقطع بقابلية رؤية الهلال، كما لو كان بلد الشك النجف لكنه ثبت في بعض البلدان الشرقية مع قربها عرضاً للنجف في الجملة فيعلم قطعاً بقابلية الرؤية في النجف مهما كان البعد بينهما طولاً.المورد الثالث: ما إذا فرض الاختلاف في خطوط الطول والبلد الذي رئي فيه الهلال غربياً مع بلد الشك مع مكث الهلال كثيراً وعدم الابتعاد كثيراً بين البلدين من جهة طول مكث الهلال فيدلّ على قبوله للرؤية في البلدان القريبة له في الطول والعرض»(1).

أقول: هذه الموارد تطبيقات وأمثلة للحالات التي تتحقق فيها الملازمة وليست محدداتٍ أو تعريفاً لها، عدا ما يمكن أن يقال في المورد الأول الذي يمكن فرضه تعريفاً للملازمة، ويرد عليه:-

1- أنه يضيّقها بأضيق مما يقولون به لأنه يشترط الاشتراك بالخط الطولي والتقارب في العرض والمورد لا يسمح بهذه التقريبات لأنه من دوران الأمر بين المحذورين فإن محذور إخراج بلد متفق في الأفق من الملازمة كإدخال بلد غير متفق في الملازمة فيها، وقد حدّدها في رسالته الآتية بدرجة أو درجتين مما يجعل بغداد والبصرة متباعدة وهو مما لا يلتزم به، مضافاً إلى أن هذا الاشتراط يقسّم المعمورة إلى ما شاء الله من المناطق مما يخلق فوضى في قضية الهلال، مع أنه يلتزم في بيانه الذي يصدره عن ثبوت الهلال بأوسع من ذلك

ص: 243


1- تقرير بحث السيد السيستاني، محاضرة يوم 21/جمادى الثانية/1417.

حيث يقول (دام ظله): «العراق والأماكن القريبة»(1)

وهي منطقة تشمل تبايناً ملحوظاً في خطوط الطول والعرض وقد اعتبرها متحدة الأفق.

2- إنه (دام ظله) عرّف بالأخفى إذ أحال إلى مقاييس مبهمة لا محصل فيها كالقرب في خطوط العرض.

أما المورد الثاني فإنه يتضمن التسليم بكبرى كفاية رؤية الهلال في بلد شرقي لثبوته في البلدان الغربية لأنه معنى أن خط طوله أقل درجة، وقد أشرنا إلى بطلانها على إطلاقها وسنفصّل الكلام عند مناقشة القول الثاني إن شاء الله تعالى، نعم هو (دام ظله الشريف) قيّدها بالتقارب في خطوط العرض وهذا يعالج المشكلة من بعض الجهات لكنه يعيدنا إلى مشكلة الإبهام في حدود القرب فهو مختلف بين الفصول فلا نستطيع وضع حد له والقدر المتيقن أضيق مما يعملون به وغير ذلك من الملاحظات.وأما المورد الثالث فإنه ظني والهلال لا يثبت بالتظني والتخمين، والتردد واضح في كلمات الباحث فيحاول التقدم ثم يعود إلى المربع الأول كما يقال.

مضافاً إلى ورود جملة من الملاحظات السابقة عليه كإبهام معنى القرب واستناده إلى تأثير طول المكث وزيادة عمر الهلال كلما اتجهنا غرباً بمعزل عن العوامل المؤثرة الأخرى وقد عرفنا بطلانه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 244


1- ورد في بيان مكتبه الصادر مساء يوم الثلاثاء 29/رمضان/1429 -والذي على أثره كتبنا هذا البحث المبارك في طبعته الأولى- «لم يثبت لدى سماحة السيد (دام ظله) رؤية الهلال بالعين المجردة في العراق والأماكن القريبة منه، ونظراً إلى فتوى سماحته (دام ظله) بأن بداية الشهر الهلالي في كل مكان إنما تتبع رؤية الهلال بالعين المجردة في أفق ذلك المكان فلا يكتفى برؤيته في الآفاق البعيدة عنه».

أقول: بعد إلقاء هذا البحث المبارك لأول مرة عام 1429 ونشره أصدر مكتب سماحة السيد (دام ظله الشريف) كراسة بعنوان «أسئلة حول رؤية الهلال مع أجوبتها» وقد عدّل فيها بعض ما أورده في بحثه الشريف، كما استفاد فيها من نكات ذكرناها في بحثنا لا تخفى على المتتبع، وقد تراجع فيها عن الموردين الثاني والثالث فقال عن المورد الثاني: «يبقى هنا شيء، وهو أنه كان يعتقد فيما مضى أنه إذا رئي الهلال في مكان كشف ذلك عن إمكانية رؤيته في الأماكن الواقعة في غرب المكان الأول، وعلل بعض الفقهاء (رضوان الله عليهم) بأن القمر لا يرجع ولا يتوقف(1).

ولكن ظهر لاحقاً أن هذا الكلام لا يتم على إطلاقه، وإنما في خصوص ما إذا كان المكانان متقاربين في خطوط العرض بأن لم يكن الاختلاف بينهما إلا بدرجة أو درجتين أو نحو ذلك حسب اختلاف الحالات، وذلك لأن الهلال إنما يزداد حجماً بازدياد عمره كلما اتجه غرباً، فإذا رئي في سدني في أستراليا وكان عمره عند غروب الشمس فيه 21 ساعة و 36 دقيقة يكون عمره في طهران 27 ساعة و 50 دقيقة وفي النجف الأشرف 28 ساعة و 19 دقيقة وفي لندن 30 ساعة و 57 دقيقة وهكذا، ولكن هذا لا يقتضي كونه قابلاً للرؤية في جميع البلدان الواقعة في غرب سدني، إذ لدرجة ارتفاع الهلال عن الأفق دخل تام في إمكانية الرؤية وعدمها، فقد يكون الهلال بعمر 20 ساعة في ارتفاع 8 درجات قابلاً للرؤية ولا يكون قابلاً لها وهو بعمر 30 ساعة لكونه في ارتفاع درجتين فقط، ومع اختلاف الأمكنة في خطوط العرض بمقدار معتد به تختلف في درجة ارتفاع الهلال عند غروب الشمس فيها، فلا يمكن استكشاف كون الهلال قابلاً للرؤية في لندن إذا تمت رؤيته في النجف الأشرف مثلاً».

ص: 245


1- ورد هذا في رسالة الشيخ المنتظري (الأفق أو الآفاق في مسألة الهلال: 17).

أقول: هذا كلام صحيح لكن اشتراطه الفرق بدرجة أو درجتين لتحقيق معنى القرب دعوى بلا دليل إلا أن يقول أنه القدر المتيقن ونحو ذلك، وحينئذٍ تأتي عليه الإشكالات المتقدمة من دوران الأمر بين المحذورين ونحو ذلك.

وأضاف: «وأيضاً كان يعتقد فيما مضى أنه إذا كان مكانان على خط طول واحد أي يتفقان في وقت طلوع الشمس وغروبها تكون رؤية الهلال في أحدهما ملازمة لإمكانية رؤيته في الآخر».

أقول: الوقوع على خط طول واحد لا يعني وحدة المشارق والمغارب كما فسّرها بقوله: «أي يتفقان»، فإن خط وحدة المطالع يختلف بين فصل وآخر ولا يتطابق مع خط الطول، مضافاً إلى ما قلناه (صفحة 239) من أن مراد المؤسسين بالمطالع غالباً: مطالع الهلال أي الآفاق، وليس المشارق والمغارب.وقال عن المورد الثالث: «وهكذا -أي كان يعتقد- إذا كان المكان الذي رئي فيه الهلال في غرب مكان المكلف ومكث الهلال فيه بعد الغروب بأزيد مما يختلف به المكانان في طلوع الشمس وغروبها كشف ذلك عن إمكانية رؤية الهلال في مكان المكلف أيضاً فإن لم ير فيه كان لمانع من ضباب أو سحاب ونحوهما.

ولكن ظهر لاحقاً عدم تمامية ما ذكر إلا مع عدم اختلاف المكانين في خطوط العرض بمقدار معتدٍّ به -كدرجة أو درجتين أو نحو ذلك حسب اختلاف الحالات- لما تقدم من أنه مع الاختلاف في خطوط العرض بمقدار معتد به تختلف درجة ارتفاع الهلال، فقد يكون قابلاً للرؤية في مكان وغير قابل لها في مكان آخر مع كونهما على خط طول واحد مثلاً»(1).

أقول: هذا التصحيح في محله ولكن يرد الإشكال على تحديد القرب بالدرجة والدرجتين، علماً بأن المعاصر المذكور التفت أيضاً إلى عدم دقة تحديده فحاول

ص: 246


1- أسئلة حول رؤية الهلال مع أجوبتها: 36-37.

وضع ضوابط لضابطته ولم يتركها على إطلاقها كما أضاف حاكماً آخر في المقام وهو العرف وسنشير إليه عند مناقشة الوجه الأول إن شاء الله تعالى.

والنتيجة عدم وجود معنى يعتمد عليه في كلماتهم للبلدان المتحدة الأفق إلا في نطاقٍ ضيق لا يكتفون به عملياً، فإذا وجدت ثمة حاجة لتعريف البلدان المتحدة الآفاق فنقول إنها البلدان التي تشترك في درجة إمكانية الرؤية، وهي غير متعينة على نحو ثابت إذ تتغيّر بحسب العوامل المؤثرة في الرؤية، وتعرف بقوانين فيزيائية ورياضية وفلكية معقدة، وقد يكون بلدٌ في أقصى الشرق متحداً بالأفق –من حيث إمكانية رؤية الهلال- مع بلد في أقصى الغرب ولا يتحد مع بلد قريب منه، وهذه الآفاق مختلفة تماماً مع مطالع الشمس، كما أنها تختلف من فصل لآخر، فقد يتحد بلدان في أفق الرؤية في فصل ما ويختلفان في فصل آخر كما يظهر من مخططات إمكانية رؤية الهلال في بلدان العالم لأشهر السنة.

لذا تراجع بعض من حضرنا بحثه الشريف عن أي معيار ثابت لذلك مما ذكره في تقريرات بحثه وأوكل الأمر إلى المعطيات الفلكية لكل شهر بحسبه وفق ما يفيده أهل الخبرة، قال: «وفي ضوء ما تقدم يتبين أن الطريقة الصحيحة لاستعلام كون الهلال قابلاً للرؤية في بلد المكلف مع ثبوت رؤيته في بلد آخر هي الاستعانة بالمعلومات الفلكية الدقيقة التي تحدد حجم الهلال وارتفاعه عن الأفق حين الغروب وبعده الزاوي عن الشمس في كل من البلدين، فإن كان في بلد المكلف بمواصفات أفضل أو مماثلة لما كان عليه في بلد الرؤية أمكن الاطمئنان بكونه قابلاً للرؤية في بلد المكلف أيضاً وإلا فلا.هذا ما وسع له الوقت من القول في هذه المسألة وتفصيله محرر في تقريرات سماحة السيد (دام ظله) في شرح كتاب الصوم من العروة الوثقى والحمد لله رب العالمين»(1).

ص: 247


1- أسئلة حول رؤية الهلال مع أجوبتها: 38.

أقول: توجد هنا عدة تقريرات:-

1- ظهر مما تقدم أن الرسالة احتوت على تغييرات وإضافات غير موجودة في تقريرات بحث سماحته (دام ظله الشريف).

2- كان الله تعالى في عون المكلّف المسكين إذ من أين يعرف هذه المعلومات الفلكية الدقيقة وقد تقدّم منه في بحثه ثبوت الهلال بحكم الحاكم وعدم الحاجة إلى تدخّل الفقيه وإيكال أمر الهلال إلى المكلّفين!!.

3- إن هذه الثقة المطلقة بأقوال الفلكيين أوجبت جريان سيرة مكتبه على تحكيم أقوال الفلكيين على القواعد الشرعية والشاهد ما حصل في شهر شوال الحالي(1)

من سنة 1439 حيث أفادت شهادات كثيرة متطابقة وموثوقة برؤية الهلال في الأحساء والقطيف وغيرهما مساء الخميس 29/رمضان وأفطر كبار معتمديه ووكلائه الجمعة لكنه أتمّ عدة شهر رمضان لأن التقويم يقول إنه يرى بصعوبة وفي حالة صفاء الجو وهذه عنده تساوق عدم إمكان الرؤية، فلا يعبأ بتلك الشهادات مع أنها قابلة للتصديق ولا مانع شرعي ولا علمي من الأخذ بها فتكون حجة.

وأنقل لكم اعتراف محرّر هذا التقويم(2)

بمخالفته للواقع أحياناً كثيرة «ولما كان الهلال القابل للرؤية يعتمد على مجموعة متغيرات، منها البعد الزاوي (بعد سوى)، والمكث بعد غروب الشمس، وارتفاع الهلال وكذلك لمكان القمر من المدار حول الأرض (الأوج والحضيض)، ولعرض القمر أثر مهم في الرؤية، كما وأن لحالة الجو وحدّة البصر والخبرة بالمنزلة أثرها الكبير في إمكانية الرؤية؛ ولذلك قد يرى الهلال في ظروف، وقد لا يرى في ظروف أخرى.

ص: 248


1- حيث بدأنا بعرض هذا البحث مرة ثانية ضمن بحثنا الموسّع في طرق ثبوت الهلال.
2- وهو المهندس الفاضل محمد علي الصائغ وقيل فيه: «تقويم الصائغ أهم التقاويم الإسلامية المعتمدة، وهو الأقرب إلى الصواب، حيث نجده يراعي الكثير من الضوابط والاحتياطات من الناحيتين العلمية والشرعية» (رؤيت هلال: 2/1241).

وقد رأينا في سنوات أن هلالاً قد ثبت شرعاً مع انعدام أهم شروط الرؤية، كما أن هلالاً استجمع كل الشروط من الناحية النظرية، ولكنه صعب على الرؤية إلى درجة أنه لم يره إلا عدد قليل جداً، مع أن مكثه كان حوالي 28 دقيقة.

أما هلال شهر شوال لعام (1413 ه_) فإن ظروفه لم تكن تعطي للحاسب الاطمئنان، بل على العكس كانت تدعو إلى الشك بإمكانية الرؤية.ولكن المفاجأة كانت أن هذا الهلال رئي من قبل كثيرين إلى درجة وصلت حد الشياع.

لذلك فإن التقويم -وهو مبني على الحسابات النظرية والمستندة إلى الضوابط الفلكية- ما هو إلا مرشد لبدايات الشهور، وليس حجة للثبوت، فإذا طابق الواقع فبها ونعمت، وإلا فإن ثبوت الهلال مرهون بالظروف، وكان أول الشهر حسب ما يقرّره الشرع الشريف، والله العاصم من الخطأ.

ويضيف الصائغ في معرض حديثه عن الاختلاف بين الفلكيين:

ومن الواضح أن المكث لوحده ليس كافياً؛ إذ لا بد من توفر شروط أخرى؛ لذا فإن تعيين ضابطة كلية لرؤية الهلال عند الفلكيين من الأمور المستحيلة، وما أوردوه هو على سبيل التقريب.

ويضيف:

هذا وبالتتبع لاحظ المراقبون للهلال ما يلي، كأمثلة فقط:

أ) إن هلال شهر شوال لعام (1415) كان يمكث في بلدان المنطقة وقتاً قصيراً، في الكويت(1) -مثلاً- كان مكثه أقل من عشر دقائق، وكان ارتفاعه أقل من درجتين، وبعده الزاوي حوالي 4.41 درجة، وهو لا يعطي فرصة لتخلّق النور الكافي للرؤية ما زال تحت شعاع الشمس، وكان هناك قطع لدى الفلكيين

ص: 249


1- المهندس الصائغ محرر التقويم (دامت تأييداته) مقيم في الكويت.

بعدم إمكانية الرؤية ومع ذلك فإن هذا الهلال ثبت بالرؤية الشرعية، ومن قبل جمع كبير وفي عدة بلدان إسلامية ومنها الكويت.

ب) وهذه ليست الحالة الفريدة، فقد ثبت في بيروت في إحدى السنوات ولم يكن قد ولد عند غروب الشمس؛ إذ أن مولده حسابياً كان بعد غروب الشمس ذلك اليوم(1)،ولكن كثرة الشهود أدّت إلى قناعة بوجوده. وهذه الظاهرة وإن كانت تحدث في لبنان بقلة فإنها تحدث في الخليج أمام لجان الرؤية وبكثرة، كما حدث في هلال رمضان لهذا العام (1418 ه_ 1997-1998 م).

وقد علّق الدكتور عبد الكريم غزلون من الجزائر في بحثه المقدّم إلى ندوة الأهلة والمواقيت بقوله: «إن تحديد البعد الزاوي بثمان درجات هو افتراض ما زال يقبل الاجتهاد، لأنه لم يقم على تجارب رصدية كافية».

ومن المفيد الإشارة بهذا الصدد إلى ما ورد في تقويم الحساب الفلكي الهجري 1414 في مصر، ملاحظة للدكتور المهندس عبد القادر حمزة كوشك بالنسبة للاستهلال يقول:

لقد ثبت أن هناك إمكانية لرؤية الهلال قبل بلوغ البعد الزاوي 8 درجات، ما دام أن القمر موجود فوق الأفق، بعد غروب الشمس؛ ولذلك فإن موعد الإهلال المكتوب في جداول كل شهر لا يعني عدم إمكانية رؤية الهلال ما دام الهلال قد وُلِد.

ويقوم الفلكيون حالياً بإعادة دراسة ذلك. والدكتور كوشك من المهتمين بالحسابات الفلكية، وهو يشغل منصب الأمين العام لمنظمة العواصم والمدن الإسلامية،ومن الواضح -كما صرح الدكتور كريم مزبان، والدكتور نضال قسوم- أن التنبؤ بإمكانية رؤية الهلال شيء غير سهل أو لم يصل على الأقل إلى درجة الدقة والثقة العلمية التامة»(2).

ص: 250


1- يحصل ذلك بسبب حالات انكسار في الغلاف الجوي في المناطق الساحلية.
2- رؤيت هلال: 2/1243-1244 عن تقويم الصائغ لسنة 1419 ه_، ص 44-45.

ملاحظة(1) مهمة: تعتمد برامج الحاسوب -التي تنتج رسوماً للأرض وفيها تقسيمات ملونة لمناطق إمكانية الرؤية- على معادلات لشكل كروي مثالي للأرض دون ملاحظة اختلاف التضاريس التي لا يظهر أثرها على حدود مناطق إمكانية الرؤية في خرائط تلك البرامج. إضافة إلى أن تقرير إمكانية الرؤية فيها تعتمد على استقراءات سابقة لرؤى تحققت وأعلن عنها رسمياً من قبل بعض الدول الإسلامية، وليس على حقائق طبية عن معدل إمكانية العين البشرية لتمييز الضوء وتباينه وحجم الشيء المضاء. وتهمل حساباتها عدة عوامل لا يمكن التنبؤ بها مسبقاً كلون الكرة الأرضية يوم الاستهلال الذي يتحول إلى الأبيض أحياناً بسبب كثرة الغيوم وهو يؤثر على انعكاس أشعة الشمس على الأرض ثم انعكاسها على القمر من جهة الهلال، وأثر الكواكب القريبة على زيادة نور القمر.

فائدة: نقل العلامة (قدس سره) في التذكرة أقوال العامة في حد التباعد بين البلدان، قال (قدس سره): «اختلفت الشافعية في الضابط لتباعد البلدين، فبعضهم اعتبر مسافة القصر(2).

وقال بعضهم: الاعتبار بمسافة يظهر في مثلها تفاوت في المناظر، فقد يوجد التفاوت مع قصور المسافة عن مسافة القصر، للارتفاع والانخفاض، وقد لا يوجد مع مجاورتها لها، وهذا لا قائل به(4). وبعضهم اعتبر ما قلناه وضبطوا التباعد: بأن يكون بحيث تختلف المطالع، كالحجاز والعراق، والتقارب: بأن لا تختلف، كبغداد والكوفة(5). ومنهم من اعتبر اتحاد الإقليم واختلافه(6»)(7).(3).

ص: 251


1- أفادها بعض الأكاديميين من أهل الخبرة جزاه الله خيراً.
2- إلى (6) فتح العزيز 6: 273 - 275، والمجموع 6: 273.
3- (7) تذكرة الفقهاء: 6/124.

الأقوال في المسألة

اشارة

انقسم الأصحاب (قدس الله أرواحهم) إلى فريقين رئيسيين في المسألة:الفريق الأول: الذي يشترط اتحاد الأفق فإذا رؤي الهلال في بلد فإنه كافٍ لثبوته في البلدان المتحدة في الأفق فقط، وهؤلاء على ثلاثة أقوال:

الأول: يتحقق اتحاد الأفق بتقارب البلدان فيثبت الشهر في البلدان المتقاربة مع بلد الرؤية فقط.

الثاني: يتحقق اتحاد الأفق بالملازمة في الرؤية بين البلدان بحيث يلزم من رؤيته في بلد رؤيته في الآخر وهي قد تتحقق لتقاربهما أو لأن البلد الثاني يقع غرب بلد الرؤية فنقطع بإمكانية رؤية الهلال فيه.

الثالث: إن البلدان كلها محكومة باتحاد الأفق فتكفي رؤيته في بلد لثبوته في البلدان الأخرى إلا إذا علم اختلافهما في الأفق أي أنه لا يشترط اتحاد الأفق لثبوت الرؤية وإنما يرى مانعية العلم باختلافهما في الأفق، وهو أوسع من الثاني.

الفريق الثاني: عدم اشتراط اتحاد الأفق فتكفي رؤية الهلال في بلد لثبوته في البلدان الأخرى في الجملة وإن عُلم اختلاف آفاقهما وهؤلاء على ثلاثة أقوال:

الأول: كفاية رؤيته في بلد لثبوته في جميع بلدان الأرض.

الثاني: كفاية رؤيته في بلد لثبوته في كل البلدان المشتركة معه بجزء من الليل وإن كان يسيراً.

الثالث: كفاية رؤيته في بلد لثبوته في جميع البلدان الإسلامية.

فتتحصل في المسألة ستة أقوال هي:-

1- يشترط في كفاية رؤية الهلال أن تكون البلدان (بلد الرؤية والبلد المطلوب) متقاربة وآفاقها متحدة، ونُسب إلى المشهور واختاره الشيخ كاشف الغطاء

ص: 252

والسيد صاحب العروة وهو ظاهر الشيخ الأنصاري (قدس الله أسرارهم)، قال الشيخ كاشف الغطاء: «متى يثبت الحكم في مكان بثبوت الهلال، تمشّى منه إلى الأماكن القريبة؛ فإذا ثبت في مكة أو المشهد الرضوي أو بغداد أو بلاد الشام أو بلاد أصفهان، ثبت في نواحيها وجميع البلدان المقاربة لها، فالبصرة تتبع بغداد، والمدينة مكة، وبعلبك الشام، وهكذا»(1)

وقال صاحب العروة: «إذا ثبتت رؤيته في بلد آخر ولم يثبت في بلده، فإن كانا متقاربين كفى وإلا فلا إلا إذا علم توافق أفقهما وإن كانا متباعدين»(2)،واختاره

من المعاصرين السيد الخميني (قدس سره) وبعض أساتذتنا في منهاج الصالحين، قال السيد الخميني (قدس سره) في تحرير الوسيلة: «لو ثبت الهلال في بلد آخر دون بلده فإن كانا متقاربين أو عُلِمَ توافق أفقهما كفى وإلا فلا»(3).

2- «إن ثبوت الهلال في أي منطقة كافٍ للثبوت فيما يكون على غربها من المناطق ولا يكفي لما يكون على شرقها»(4) وهو قدر متيقن عندهم كالأول وصرّح به كثيرون كالشهيد الأول (قدس سره) في الدروس حيث وصفه بالقطعي وقال السيد الحكيم (قدس سره): «وكذا لو رئي في البلاد الشرقية فإنه تثبت رؤيته في الغربية بطريق أولى»(5)، والسيد الخوئي (قدس سره) حيث نفى الإشكال عن ثبوته بالأولوية القطعية، واختاره من

ص: 253


1- كشف الغطاء: 4/59.
2- العروة الوثقى: 3/ 631، (مسألة 3)، ط1، المدرسين.
3- تحرير الوسيلة: 1/266.
4- منهج الصالحين للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)، ج1/256 المسألة 470.
5- مستمسك العروة الوثقى: 8/470.

المعاصرين الشيخ المنتظري(1) وسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس الله أسرارهم جميعاً) وذكر الملازمة بعض من حضرنا بحثه الشريف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

3- كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في كل البلدان التي عُلِمَ توافقها أو احتُمل ما لم يقطع بعدم إمكانية رؤية الهلال وهو الرأي الذي انتهى إليه العلامة (قدس سره) في المنتهى –وقد نقلنا كلامه (قدس سره)- واستجوده السيد صاحب المدارك وهو مختار النراقي في المستند كبروياً أي بحسب القاعدة، إلا أنه صغروياً وفي مقام العمل اختار الرابع لعدم إمكانية حصول العلم بالخلاف، قال (قدس سره): «ثم الحق –الذي لا محيص عنه عند الخبير-: كفاية الرؤية في أحد البلدين للبلد الآخر مطلقاً، سواء كان البلدان متقاربين أو متباعدين كثيراً، لأن اختلاف حكمهما موقوف على العلم بأمرين لا يحصل العلم بهما ألبتة» ثم قال (قدس سره): «ثانيهما: أن يعلم أن البلدين مختلفان في الرؤية البتة، أي يكون الهلال في أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً غير معلوم» ثم قال (قدس سره): «وبدون حصول العلم بهذين الأمرين لا وجه لرفع اليد عن إطلاق الأخبار أو عمومها»(2)،واختاره السيد الحكيم (قدس سره) قال: «أما لو رؤي في البلاد الغربية فالأخذ بإطلاق النص غير بعيد إلا أن يُعلم بعدم الرؤية، إذ لا مجال حينئذٍ للحكم الظاهري»(3).

ص: 254


1- الأفق والآفاق في مسألة الهلال: 17.
2- مستند الشيعة: 10/424-425.
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/470.

واختاره أيضاً الشيخ محمد رضا آل ياسين (قدس سره) في تعليقته على العروة قال (قدس سره): «بل كفى أيضاً إلا أن يُعلم اختلاف أفقهما على إشكال»(1).

2- كفاية رؤية الهلال في بلدٍ ما لثبوته في غيره من البلدان مطلقاً، وقد نقله العلامة في التذكرة عن بعض علمائنا كما تقدم ولم تثبت النسبة، واختاره صريحاً الفيض الكاشاني وصاحب الحدئق ومال إليه النراقي في المستند، وقوّاه صاحب الجواهر على اختلافٍ في المباني والطرق الموصلة إليه وتحمّس له السيد الخوئي (قدس الله أرواحهم جميعاً) في الطبعات الأولى من منهاج الصالحين، قال (قدس سره): «إذا رئي الهلال في بلد كفى في الثبوت في غيره مع اشتراكهما في الآفاق، بحيث إذا رئي في بلد الرؤية رئي فيه، بل الظاهر كفاية الرؤية في بلد ما في الثبوت لغيره من البلاد مطلقاً»(2).

واستقربه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) قائلاً: «فالمنهج الصحيح للتعرف على أن بداية الشهر القمري هل هي نسبية أو لا؟ الرجوع إلى الشريعة نفسها التي ربطت شهرها الشرعي بإمكان الرؤية لنرى أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة، أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟ والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثاني، وعليه فإذا رئي الهلال في البلد ثبت الشهر في سائر البلاد»(3).

ص: 255


1- العروة الوثقى مع تعليقات مراجع الدين: 3/631.
2- منهاج الصالحين: ج1، كتاب الصوم، المسألة (75) مطبعة النجف الأشرف سنة 1392.
3- الفتاوى الواضحة: 716، الفقرة (66) من كتاب الصوم.

واختاره من المعاصرين السيد الكلبايكاني (قدس سره)؛ قال في تعليقته على العروة: «لا يبعد الكفاية مطلقاً –يعني يثبت الهلال في البلدان كلها-، لكن لا يترك الاحتياط في المتقدم أفقاً عن البلد المرئي فيها» وقال مثله في هامش الوسيلة، وكذا السيد الميلاني (قدس سره). والشيخ الفياض (دام ظله الشريف) بقوله: «الأظهر ثبوت الهلال في كل البلدان إذا رؤي في بلد واحد سواء كانتالبلدان مختلفة في خطوط الطول والعرض ومتغايرة فيها، بمعنى أن يكون الغروب في أحد البلدين قبل الغروب في الآخر بمدة طويلة أم لا»(1).

5- كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في كل البلدان المشتركة في الليل ولو بجزء يسير منه وإن كان مستحيل الرؤية في بعضها، وعدل إليه السيد الخوئي (قدس سره) في الطبعات المتأخرة من منهاج الصالحين بعد أن وردته مناقشات وردود من تلامذته في استدلاله على القول الثالث. فقال (قدس سره): «الظاهر كفاية الرؤية في بلد ما في الثبوت لغيره من البلاد المشتركة معه في الليل وإن كان أول الليل في أحدهما آخره في الآخر»(2).

وذكر بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) أنه «عدّل السيد الأستاذ فتواه في الطبعات الجديدة للمنهاج، فقيّد الفتوى بكفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في سائر البلاد مطلقاً بما إذا كانت تلك البلاد تشترك مع بلد الرؤية في شيء من الليل ولو يسيراً، وهذا ما كنا قد اقترحناه عليه في الجواب على إشكالات بعض تلامذته(3) عليه والتي طبعت جميعاً

ص: 256


1- تعاليق مبسوطة: 5/195.
2- منهاج الصالحين: 1/278 المسألة 1044. الطبعة 29.
3- وهو السيد محمد حسين الطهراني وطبعت الرسالة مستقلة وضمن موسوعة (رؤيت هلال: 2/781-953).

بعنوان (رسالة حول مسألة رؤية الهلال) »(1)، واستقربه السيد السبزواري (قدس سره) بقوله: «والخروج عن تحت الشعاع والبروز في الأفق لا يؤثر فيه اختلاف الأفق مطلقاً إلا إذا كان الاختلاف بمقدار اليوم أو الليلة»(2).

6- كفاية رؤية الهلال في أي بلد من البلاد الإسلامية التي يصدق عليها أنها بلدان أهل الصلاة لثبوته في البلدان المشتركة معه بهذا العنوان وإن لم يكن الهلال قابلاً للرؤية فيها، أما غير المشتركة فلها هلالها الخاص بها، إلا أن يثبت بحكم الحاكم الشرعي، وهذا القول هو المعتمد عندنا ولا نعلم قائلاً به.

ص: 257


1- السيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، ص 39.
2- مهذب الأحكام: 10/273-275.

الاستدلال على الأقوال القول الأول وهو المشهور

الذي يشترط وحدة الأفق وتقارب البلدان لثبوت الهلال في أحدها برؤيته في بعضها الآخر، ونُسب إلى المشهور، وحكى الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن أستاذه صاحب المناهل أنه «مذهب المعظم»(1).

أقول: كشفنا في المقدمة التأريخية عن كون هذه الشهرة متأخرة فلا تنفع المستدل بها، وإن المتقدمين على الشيخ الطوسي (قدس سره) لم يتعرضوا للمسألة، والملفت أن أحد المعاصرين اعتبر هذا دليلاً على تسالم الفقهاء على أن لكل بلد هلاله وأفقه، قال (قدس سره): «إن عدم ذكر الاختلاف في هذه المسألة في كلمات أكثر المتقدّمين، ليس إلا لاتّفاقهم على أنّ الرؤية الكاشفة عن وجود الهلال فوق الأفق، شرط في الحكم بدخول الشّهر في البلد الَّذي رئي فيه الهلال، مع ما يقاربه من البلاد. فحكموا جميعاً -طبقاً للروايات الواردة- على أنّ الدّخيل هو الرّؤية، ويستند عدم الرؤية لا محالة في البلاد المتقاربة، المتّحدة الآفاق، إلى مانع كالجبال والسحب والأبخرة والرّياح وما شابهها»(2)

ثم أورد رواية كريب المتقدمة وقرّب دلالتها على قول المشهور ثم قال: «فإذن: هذه المسألة، مبحوث عنها في لسان المتقدّمين، ووردت فيها هذه الرواية العاميّة بأسناد مختلفة؛ وإن لم تكن دليلاً لنا، لعدم العلم باستناد المشهور إليها، لكن تدلَّنا على وجود البحث حول هذه المسألة في أوّل زمان الفقه، وهو زمان ابن عبّاس الَّذي كان يأخذ علم الفقه والتّفسير من مولانا علىّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، عليه صلوات اللَّه والملائكة المقرّبين».

ص: 258


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 12/254.
2- رسالة حول مسألة رؤية الهلال للسيد الطهراني: 84.

أقول: يرد عليه:-

1- إن استكشاف تسالم الفقهاء من عدم تعرضهم للمسألة مجرد دعوى ولا تكون دليلاً على ما قال (قدس سره) نعم تقدم منا في بحث سابق ما أسميناه بالإجماع التقريري حيث نستكشف إجماع الفقهاء من تقريرهم لظاهرة معينة كإجزاء الوقوف في عرفة مع العامة، وهو غير متحقق في المقام.

2- وإن رواية كريب يمكن تقريبها على خلاف المشهور كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

3- يستطيع الخصم أن يقول إن الأئمة (عليهم السلام) تعرّضوا لهذا الاختلاف ولم يهملوه وبيّنوا الحكم في المسألة من خلال روايات إطلاق كفاية الرؤية في أي بلدآخر والعلامات الأخرى التي ذكروها للكشف عن هذه الحالة ونحو ذلك وكلها ستأتي إن شاء الله تعالى.

وعلى أي حال فإنه يمكن تحصيل عدة أدلة لهذا القول:

الدليل الأول: إنه على مقتضى القاعدة الطبيعية التكوينية وذلك لأن لبلدان العالم آفاقاً مختلفة أي أن قابلية رؤية الهلال فيها مختلفة، بسبب اختلافها الشاسع في العوامل المؤثرة على رؤية الهلال، ومنها موقع البلد من خطوط الطول والعرض، فيمكن لبعض البلدان أن ترى الهلال، ولا يتمكن البعض الآخر.

ولما كانت الأحاديث الشريفة قد نصّت على أن الصوم للرؤية والإفطار للرؤية وكذا سائر الأحكام المرتبطة بالهلال فتكون النتيجة أن من رأى الهلال صام وأفطر، ومن لم يره أكمل العدة، أي يكون لكل بلد حكم أفقه، كما أن لكل بلد حكم مطلعه، قال المحقق الأردبيلي (قدس سره) عند قول العلامة (قدس سره): «والمتقاربة كبغداد والكوفة متحدة بخلاف المتباعدة» فعلق (قدس سره): «ووجهه ظاهر بعد الفرض، لأنه إذا نظر وما رأى في هذا البلد

ص: 259

ورأى في بلد آخر يصدق عليه أنه ما رأى فيفطر، لصدق الأدلة المفيدة أنه ليس من الشهر في هذا البلد فلا تنفع الرؤية في بلد آخر لأهل هذا البلد، ولا يستلزم الصدق. مع أنه علم بالفرض من مخالفته المطالع عدم استلزام إمكان الرؤية هنا، بل قد يكون ممتنعاً، فلو لم يكن يلتفت إليه، قد يلزم صوم أقل من تسعة وعشرين يوماً. وبالجملة ينبغي النظر إليه كما في أوقات الصلاة، فإن طلوع الفجر في بلد، لا يستلزم إيجاب صلاة الفجر في بلد لم يطلع وإن علم ذلك بالدليل أو بالشهود أنه قد طلع الفجر هناك هذا الوقت»(1).

أقول: ذكرنا في بداية البحث عند تحرير محل النزاع أن الفقهاء متفقون على كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في بلد قريب منه في الجملة بحيث توجد ملازمة بينهما في الرؤية فهذا متفق عليه عندهم لما ذكرناه سابقاً من الأدلة، فهذا لا يحتاج إلى استدلال، وإنما الكلام في رد الإشكالات عليه كتحديد معنى القرب لإدخال ما ينطبق عليه التعريف وإخراج ما لا ينطبق عليه، ووجود ما دل على كفاية الرؤية في البلدان البعيدة فعلى المستدل أن ينفي ذلك، فهذا إشكال على منهج الاستدلال لدى المشهور لذا نسجّل على هذا الوجه عدة ملاحظات منها:-

1- ما ذكرناه سابقاً من عدم وجود ضابطة لتحديد التقارب بين البلدان، أما اتخاذ وحدة المطالع مقياساً فهو غير صحيح، فإن البلدان التي تتفق في المشارق والمغارب ليس في الضرورة أنها تتفق في رؤية الهلال لأن القوانين التي تحكم الأمرين مختلفة كما قدمنا، ولإيضاح ذلك راجع المخططات المرفقة لترى المناطق المشتركة بأفق واحد في رؤية الهلال فتجد فيها ما تقع في أقصى الشرق وأخرى في أقصى الغرب.

مضافاً إلى اختلاف البلدان في المشارق والمغارب بحسب فصول السنة، ويترتب على ذلك اختلاف وصف البلدين بالمتقاربين على مدى الفصول

ص: 260


1- مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: 5/294.

فهمامتقاربان في فصل وغير متقاربين في فصل آخر، وهو غير مقبول لأن البلدان المتقاربة ثابتة عندهم.

وسبب هذا الاختلاف في المواقيت لأن ميلان محور دوران الأرض حول نفسها يتغير بين ±23.5 درجة، ففي الصيف يكون نصف الكرة الشمالي مواجهاً للشمس بدرجة أكبر مما في الشتاء «فيرتفع خط استواء الشمس من خط الاستواء في الاعتدالين الربيعي والخريفي إلى مدار السرطان شمالاً في الصيف، وإلى مدار الجدي جنوباً في الشتاء، ويقصر أو يطول اليوم، وهذا ينتج فروقاً مختلفة في المشارق والمغارب في أشهر السنة بين مناطق الأرض المختلفة».

1- إن التقارب والتباعد أمر نسبي يقاس إلى ثالث، وقد يكون بلد قريباً إلى آخر بلحاظ وبعيداً بلحاظ آخر كما قدمنا، فكيف يمكن جعل هذه الضابطة مطلقة؟

وقد أجاب بعض المعاصرين عن الإشكال بجعل العرف حاكماً في فهم التقارب قال (قدس سره): «فالمحكَّم هو الأخذ بمفاد أدلّة الصوم ونحوه من الأحكام المترتّبة على الشهور، الدالّة على اختصاصها بمنطقة الرؤية ليس غير. وحمل ما دلّ على كفاية الرؤية في مصر، على الأمصار المتقاربة ، بمناط إمكانيّة الرؤية في آفاقها ببلوغ الهلال فيها مرتبةً من الظهور في نفسه ، بحيث يكون قابلاً للرؤية لولا وجود سحاب ونحوه ؛ على أساس الارتكاز العرفيّ وتسجيل لزوم الرؤية في المجتمع الإسلاميّ من تعليم نبيّهم الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم : صُومُوا لرؤيته، وأَفطروا لرؤيته.

فعلى هذا الارتكاز والتسجيل لا يفهم العرف أبداً من قوله عليه السلام : (فإن شهد عندك شاهدان مرضييان بأنهما رأيته فاقضه)، إلاّ البلد القريب الذي يمكن جعل الرؤية فيه رؤيةً في بلده ، بالحكومة وتوسيع دائرة

ص: 261

الرؤية بالنسبة إليه ، بمناط اتّحاد المكان من حيث وجود الهلال في الأُفق ؛ والمانع شي ء عارضيّ كالسحاب والجبال ونحوهما»(1).

وتبعه بعض من حضرنا بحثه الشريف فقال في جواب الإشكال: «إن جملة من البلاد تنظر عرفاً أنها متقاربة بغضّ النظر عن لحاظ بلد ثالث»(2).

أقول: هذا جواب غير كافٍ:-

أ - لأن هذا العنوان اصطلاحي خاص وضعه أهل الفن للدلالة على أمر معيّن فلا بد أن يرجع فيه إلى أهل العرف الخاص وليس العرف العام لأنه ليس لغوياً أو وارداً في النصوص حتى يُرجع إلى العرف في تحديد مدلول لفظه.

إن التقارب بمعنى اتحاد الأفق المستلزم للرؤية المشتركة فيهما أمر تكويني وواقع خارجي فلا يكون العرف حاكماً في تعيين حدوده، فقد يرى العرف أنأ - النجف والموصل متقاربة ومتحدة الأفق بينما يقول أهل الاختصاص أنهما قد يختلفان.

ج_- إن العرف غير منضبط في هذا المجال فنظرته نسبية أيضاً فنحن في العراق مثلاً نرى الولايات المتحدة الأمريكية بلداً واحداً ومدنه متقاربة مع أن الفرق بين طرفيها (وهو ثلاث ساعات) أزيد من الفرق بين العراق والهند مثلاً. وغيرها من النقوض، فلا بد أن يأتونا بضابطة واضحة.

د- يظهر من بيان مكتبه حول هلال شهر شوال اعتبار (العراق والأماكن القريبة منه) بلداناً متقاربة، مع أنها غير متحدة بالأفق ولا ندري على

ص: 262


1- السيد محمد حسين الطهراني في رسالة عن رؤية الهلال: 217-218، ط مؤسسة العروة الوثقى.
2- تقرير بحث السيد السيستاني في يوم 21/ج2/1417.

أي ضابطة يستند هذا الحكم، ثم إنه يظهر من خارطة هلال شهر شوال /1429 وغيره أن العراق ذاته لا تشترك أجزاؤه في قابلية الرؤية.

1- إن الاستدلال بأمر تكويني لا ينفع، لأن القائل بالتعميم يستدل بإطلاق الروايات ويدّعي أن الشرع المقدّس قد تجاوز الآفاق المختلفة وجعلها واحدة بالتعبد، وتدخّله في مثل هذه الأمور مفهوم ومبرر.

2- لزوم التناقض في تطبيقاتهم فبينما يرون بغداد والشام متباعدين، فإنهم يرون مدن إيران بهلال واحد، وبين طرفي إيران أبعد مما بين بغداد والشام.

وحاول بعض المعاصرين التخلص من هذا الإشكال بتحكيم العرف، قال (قدس سره): «كما أنّه في بلد واحد متّسع ، إذا تحقّقت الرؤية في نقطة منه ، فهي كافية للحكم بها في جميع نواحيه ؛ لمناط وحدة المكان عرفاً. فالإمام عليه السلام كان يريد أن يوسّع دائرة اتّحاد المكان في الرؤية بالحكومة التشريعيّة ، ويبيّن بأنّ المناط وجود الهلال في الآفاق وإمكانيّة الرؤية في البلاد المتقاربة بعد الرؤية الفعليّة في الجملة »(1).

أقول: تقدمت المناقشة في هذه الأطروحة، مضافاً إلى أن هذه الحدود الجغرافية بين الدول اليوم مستحدثة لم تكن معروفة في زمن المعصومين (عليهم السلام) وكانت الدولة الإسلامية واحدة.

إلفات: حصر السيد الخوئي (قدس سره) أدلة القول الأول بهذا الوجه وقال (قدس سره): «إذ لا نرى أي وجه لاعتبار الاتحاد عدا قياس حدوث الهلال وخروج القمر عن تحت الشعاع بأوقات الصلوات –أعني: شروق الشمس وغروبها- فكما أنها تختلف باختلاف الآفاق وتفاوت البلدان- بل منصوص

ص: 263


1- السيد محمد حسين الطهراني في رسالته عن رؤية الهلال: 218.

عليه في بعض الأخبار بقوله (عليه السلام): (إنما عليك مشرقك ومغربك) إلخ- فكذا الهلال».وردّ(1)

(قدس سره) عليه بأنه «تخيل فاسد وبمراحل عن الواقع، بل لعل خلافه مما لا إشكال فيه بين أهل الخبرة وإن كان هو مستند المشهور في ذهابهم إلى اعتبار الاتحاد، فلا علاقة ولا ارتباط بين شروق الشمس وغروبها، وبين سير القمر بوجه».

وبعد أن شرح (قدس سره) وجه وجود مشارق ومغارب لبقاع الأرض باعتبار مواجهة أي جزء منها للشمس أو عدم مواجهته وأنه «في كل آن يتحقق شروق في نقطة من الأرض وغروب في نقطة أخرى مقابلة لها، وذلك لأجل أن هذه الحالات إنما تنتزع من كيفية اتجاه الكرة الأرضية مع الشمس التي عرفت أنها لا تزال في تبدّل وانتقال، فهي نسبة قائمة بين الأرض والشمس».

وقال (قدس سره): «وهذا بخلاف الهلال، فإنه إنما يتولد ويتكوّن من كيفية نسبة القمر إلى الشمس من دون مدخل لوجود الكرة الأرضية في ذلك الوجه، بحيث لو فرضنا خلوّ الفضاء عنها رأساً لكان القمر متشكلاً بشتى أشكاله من هلاله إلى بدره وبالعكس كما نشاهدها الآن» ثم قال (قدس سره): «إذن فتكوّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة، وهذا –كما ترى- أمر واقعي وحداني لا يختلف فيه بلد عن بلد، ولا صقع عن صقع، لأنه كما عرفت نسبة بين القمر والشمس لا بينه

ص: 264


1- كان (قدس سره) يسوق هذا الجواب دليلاً على مختاره من كفاية الهلال للبلدان مطلقاً، في منهاج الصالحين، ثم عدل بعد ورود المناقشات إلى صياغته كجواب على استدلال المشهور في بحثه الشريف كما قُرِّر في كتاب (المستند في شرح العروة الوثقى) لكنه بقي معتبراً إياه دليلاً على وحدة الهلال لجميع البلدان.

وبين الأرض، فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الكونية في جوّ الفضاء.

وعلى هذا فيكون حدوثها بدايةً لشهر قمري لجميع بقاع الأرض على اختلاف مشارقها ومغاربها وإن لم يُر الهلال في بعض مناطقها لمانع خارجي، من شعاع الشمس أو حيلولة الجبال وما أشبه ذلك» (1).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

1- إن هذا الإشكال أوجبته عبارة المحقق الأردبيلي (قدس سره) المتقدمة (صفحة 260) بقوله: «وبالجملة ينبغي النظر إليه كما في أوقات الصلاة» وأمثالها من كلمات غيره.

أقول: لعله (قدس سره) أراد تشبيه أصل الاختلاف في قابلية الرؤية بين البلدان فتكون لها مطالع مختلفة للهلال كما أن لها مشارق ومغارب مختلفة وأن الرؤيةفي بلد لا تكون حجة على بلد لم يره كما أن تحقق وقت الصلاة في بلد لا يوجبها في غيره فهذا من باب التشبيه والمثال ولم يرد (قدس سره) القياس بينهما.

2- قوله (قدس سره): «إذ لا نرى أي وجه لاعتبار الاتحاد..» مع أن لهم دليلاً آخر من الروايات ووجوهاً أخرى سنذكرها بإذن الله تعالى.

3- قوله (قدس سره): «تخيّل فاسد وبمراحل عن الواقع» وفيه: إنه مجافٍ للواقع لأن اختلاف البلدان في الآفاق أمر تكويني واقع ويتبعه اختلافها في إمكانية الرؤية لكننا شرحنا المعنى الصحيح لاتحاد البلدان في الآفاق وقلنا أنه غير ثابت بحسب العوامل الكثيرة المؤثرة، وإن الدليل على تعميم الهلال للبلدان إطلاق الروايات الحاكم على هذا الواقع التكويني.

ص: 265


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/116-118.

4- قوله (قدس سره): «فإنه –أي الهلال- إنما يتولد ويتكون .. إلخ» وفيه: إن تكوّن الهلال والمنازل المختلفة للقمر هو بالنسبة لأهل الأرض كما شرحنا في المقدمة الأولى، أما النسبة بين القمر والشمس فهي دائماً نصف مضيء –وهو المواجه لها- ونصف مظلم، فمن غير الصحيح قوله (قدس سره): «لأنه –أي تكوّن الهلال- نسبة بين القمر والشمس لا بينه وبين الأرض» فلموضع أهل الأرض مدخلية في ظهور هذه المنازل أي المقدار المرئي من النصف المضيء، نعم، يمكن الدفاع عن السيد الخوئي (قدس سره) بأنه أراد نفس جرم الأرض بعدم المدخلية لا الرائين الذين يمكن افتراضهم بدون الأرض. لكنه كلام غير واقعي لأن الرائين هم أهل الأرض وهم المخاطبون بالأحكام الشرعية.

5- قوله (قدس سره): «وهذا –كما ترى- أمر واقعي وحداني.. إلخ» وفيه: إنه (قدس سره) لم يفرّق بين الشهر القمري الطبيعي والشرعي، فإن خروج القمر من المحاق ومواجهة جزء ضئيل من الأرض هو إيذان ببداية الشهر الطبيعي ولا يلزم منه بدء الشهر شرعاً فإنه لا يبدأ الشهر الشرعي إلا ببلوغ الجزء المنير مقداراً تراه العين كما تقدّم في المقدمة الخامسة، والشهر باللحاظ الأول لا يُفرَّق فيه بين بلدان الأرض لأنه أمر تكويني مطلق، أما الثاني فإنه نسبي لاختلاف البلدان في قابلية الرؤية فقد يكون الهلال ممكن الرؤية في بلد وغير ممكن الرؤية في غيره للأسباب التي ذكرناها، فقوله (قدس سره): «فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الكونية في جو الفضاء» تام باللحاظ الأول –الذي لا يهمّنا في الحساب-دون الثاني –الذي يهمّنا-، فمن هذه الناحية تكون للبلدان المختلفة آفاق ومطالع مختلفة(1).

ص: 266


1- ويبدو أنه(قدس سره)يريد هذا المعنى وإن لم يكن ظاهراً من عبارته في بعض ردوده على مراسلات السيد محمد حسين الحسيني الطهراني(قدس سره)المنشورة في (رسالة حول مسألة رؤية الهلال) فقال (قدس سره): «إن ما هو نسبي ويختلف من منطقة إلى أخرى في مسألة الهلال، إنما هو إمكانية الرؤية ونعني بها بلوغ الهلال مرتبة من الظهور في نفسه بحيث يكون قابلاً للرؤية لولا وجود سحاب ونحوه، وأما خروجه عن تحت الشعاع فلا يختلف فيه نقطة عن أخرى»، وقال (قدس سره) في موضع آخر: «حمل الرؤية على الطريقيّة المحضة ، لا يعني أن يكون الميزان واقع خروج الهلال عن تحت الشعاع أو المحاق كما أُفيد. بل هناك مطلب ثالث عرفيّ ومطابق أيضاً مع ما هو المستفاد من أدلّة الباب ، وهو أن يكون الشهر عبارةً عن بلوغ الهلال في الأفق مرتبةً يمكن للعين المجرّدة رؤيته . وهذا غير أخذ الرؤية أو العلم موضوعاً، بل الرؤية ليست إلاّ طريقاً إلى إحراز هذه المرتبة في تكوّن الهلال وظهوره في الأفق . ووجه عرفيّة هذا المطلب ومطابقته مع المرتكزات واضح ؛ حيث قلنا إنّ الشهر بحسب المرتكزات العرفيّة أمر واقعيّ على حدّ الأمور الواقعيّة الأخرى التكوينيّة ، فلا يناسب أن يكون للعلم والجهل دخل فيه . كما أنّ الخروج عن المحاق بحسب المقاييس الدقيقة التي لا تثبت إلاّ بالأجهزة والآلات أيضاً ليس ميزاناً لدخول الشهر عند العرف ، لعدم ابتناء الأمور العرفيّة على المداقّة والحسابات الرياضيّة أو الفلكيّة . فيتعيّن أن يكون الميزان عندهم ما ذكرناه من ظهور الهلال ، وتكوّنه وبلوغه مرتبةً قابلةً للرؤية بالعين المجرّدة . ووجه مطابقة هذا المطلب مع الروايات أنّ عنوان الرؤية الوارد فيها وإن كان على نحو الطريقيّة المحضة ، إلاّ أنّ ذا الطريق هو الهلال البالغ مرتبةً قابلةً للرؤية بالعين المجرّدة ، لا مجرّد الخروج عن المحاق ولو لم يكن قابلاً للرؤية . والحمل على الطريقيّة لا يقتضي أكثر من إلغاء موضوعيّة الرؤية ، لا المرتبة المفروضة في المرئيّ كما هو واضح . مضافاً إلى أنّ هذا هو مقتضي حمل الدليل على الميزان العرفيّ الارتكازيّ في كيفيّة تكوّن الشهر الهلاليّ، وقد عرفت أنّه يقتضي ذلك أيضاً» (رسالة في رؤية الهلال للسيد محمد حسين الطهراني: 158).

ومنه يُعلم ما في كلام أحد المعاصرين قال: «الهلال عنوان للقمر في حالة خاصة له، وهي الخروج من تحت شعاع الشمس، فالقمر في حالته هذه علامة للناس، وهذه الحالة وحدها لم يعتبر فيها أن تكون مرئية للناس، وإنما الخروج من تحت شعاع الشمس تمام ماهيتها، فلم تتقيد بالرؤية ولا

ص: 267

بحالة من حالات الأرض مثل أن تتقيد برؤية هذا البلد أو غيره، أو تتقيد بأن يرى الهلال مثلاً خلال عشر دقائق بعد الغروب أو نحوه، إنما تمام الملاك الهلال»(1).

6- قوله (قدس سره): «وإن لم يُرَ الهلال في بعض مناطقها.. » وفيه: إن عدم رؤية الهلال في بعض البلدان لعدم وجود المقتضي للرؤية لأنه لم يولد بعد أو لأنه تحت الأفق أو لقلّة مكثه في الأفق فيغلب عليه ضوء الشمس المتبقي في الأفق الغربي أو لقربه من مغرب القرص ونحوها من الأسباب، فدعواه (قدس سره) بحصر الأسباب في وجود الموانع غير دقيقة.

الدليل الثاني: الإطلاقات النافية لثبوت الهلال بغير الرؤية: كصحيحة الفضل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (ليس على أهل القبلة إلا الرؤية،وليس على المسلمين إلا الرؤية)(2) وصحيحة الحلبي وفيها (فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر)(3).

بتقريب: أن هذه الروايات ظاهرة في شرطية الرؤية بل وحصر دخول الشهر بها إلا ما خرج بدليل خاص كمضي ثلاثين يوماً وتنفي حجية أي طريق آخر لدخول الشهر حتى رؤية الهلال في بلدٍ بعيد ما دام لم يُرَ في البلد المطلوب أو البلد المتحد معه في الأفق، وهذا هو مرادنا بالإطلاق. وبضميمة نسبية الرؤية في البلدان واختلافها في قابلية الرؤية فالنتيجة اختلاف البلدان في الهلال ودخول الشهر ولكل بلد حكم نفسه؛ لأن البلدان البعيدة يصدق عليها عدم الرؤية فلا يجوز لها ترتيب الآثار، وإن الروايات الدالة على قضاء يوم إذا شهد

ص: 268


1- الشيخ الخزعلي في مجلة فقه أهل البيت (ع): العدد 11-12، صفحة 197.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح12، 1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح12، 1.

عادلان على رؤية الهلال في بلد آخر ونحو ذلك ظاهرة في رؤيته في البلدان القريبة أو منصرفة إليها ولا تشمل البلدان البعيدة المختلفة في الآفاق.

قال بعض المعاصرين (قدس سره) في تقريب استناد فتوى المشهور على موضوعية الرؤية: «أنّ ذهاب المشهور إلى لزوم الاشتراك في البلدان مبنيّ على دخالة رؤية القمر في دخول الشهر، وأنّ للمطالع والمغارب بالنسبة إلى القمر دخلاً في دخول شهر وخروج شهر، وعدمِ كفاية نفس خروج القمر عن تحت الشعاع في هذا الأمر»(1).

وذكر في موضع من رسالته تقريباً آخر للاستدلال بروايات الرؤية على مختار المشهور حاصله: «إنّ أخبار وجوب القضاء بعد ثبوت الرؤية في بلد آخر حاكمة على الأخبار الأُوَل الدالّة على لزوم الرؤية ؛ حيث إنّها تحكم عليها بتوسيع دائرة الرؤية ، وأن_ّها غير مختصّة برؤية أهل البلد؛ بل الرؤية أعمّ من رؤيتهم ورؤية غيرهم . ولهذا نلتزم بأنّ الحكم بالقضاء بعد ثبوت الرؤية في بلد آخر، لدلالته على تحقّق الرؤية في هذا البلد تنزيلاً؛ بعد ما سنبيّن بما لا مزيد عليه ، من عدم تسليم عموم خبر أو إطلاقه في هذا المورد، وأنّ ما ظاهره العموم أو الإطلاق منصرف إلى الأفراد الشائعة وهي البلدان المتقاربة »(2).

«وأمّا الآفاق البعيدة فتكون على حالها من لزوم تحقّق الرؤية فيها».

وقال في موضع آخر: «والظاهر من كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وشرط الرؤية في جميع الأمكنة: جعل الرؤية على نحو الموضوعيّة ، لا الكاشفيّة الصرفة والطريقيّة المحضة . فلا بدّ وأن نلتزم ونبني على الرؤية»(3).

ص: 269


1- رسالة حول مسألة رؤية الهلال، السيد الطهراني: 68.
2- المصدر السابق: 81.
3- المصدر السابق: 90.

ويرد عليه:-

1- ما قلناه في المقدمة الثالثة من كون الرؤية طريقاً للعلم بدخول الشهر والعبرة بحصول هذا العلم واستدللنا عليه بعدة أمور، نعم ليست الطريقية محضة كما ذهب إليه البعض بل هي مشوبة بالموضوعية، أي أن للرؤية دخلاً في تحقق دخول الشهر الجديد حيث أخذ في تحقق مفهوم الشهر عرفاً –وهو مفهوم عرفي- خروج القمر من المحاق واكتسابه نوراً يتمكّن أهل الأرض من رؤيته.

وبتعبير آخر: إن متعلق العلم الذي تكون الرؤية طريقاً إليه هو كون الهلال بوضع قابل للرؤية بالعين المجردة وليس خروج القمر من تحت الشعاع على أي نحو كان كالذي قلناه في بحث الرؤية بالعين المسلحة.

2- وما قلناه أيضاً من أنه حتى لو أخذنا الرؤية على نحو الموضوعية فإنه لا يثبت قول المشهور، إذ للآخر أن يقول أن شرطية الرؤية هي في الجملة أي بمقدار تحقق الرؤية ولو في البلاد البعيدة فتكفي لدخول الشهر في البلدان مطلقاً أو وفق قيود معينة لأن الشهر واحد لهم جميعاً بحسب مفاد الروايات الدالة على كفاية قيام البينة على رؤية الهلال في أي بلد آخر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فهذا من الدليل الخاص الذي اعترف المستدل بأنه مستثنى من إطلاقات النفي، فتصدق عندهم رؤية الهلال وإن لم يروه في بلدهم أو البلدان القريبة.

وإن المستدل لا يلتزم قطعاً بأن الشرط هو رؤية كل مكلف بنفسه لمخالفته لما دلّ على الاكتفاء بالبينة والشياع، وأنه إذا غمّ عليهم الشهر أو كانت في السماء علّة أخذوا بشهادة اثنين يدخلان ويخرجان من المصر، مضافاً إلى أن الأشهر أمور واقعية معروفة، وليست جعلية اعتبارية من الشارع يلحظ فيها اعتبار كل شخص حتى تختلف باختلاف الأفراد إذ ليس للناس إلا شهر واحد، فلا بد أن يكتفي المستدل بكفاية رؤيته في

ص: 270

الجملة، وهذا ما لا يعيّن مطلوبه كما ذكرنا آنفاً، فالإصرار على إثبات كون الرؤية مأخوذة على نحو الموضوعية لا ينفع المستدل.

فالنزاع في المقام ليس مبنياً على القول بالموضوعية أو الطريقية إذ يمكن تصويره على كليهما، وقد أقرّ (قدس سره) بهذا في نهاية رسالته قال: «وفي كلّ واحد من المسلكين يمكن أن يتصوّر ثبوتاً دخالة الرّؤية على وجه الطَّريقيّة، أو على وجه الموضوعيّة كما يمكن أن يذهب إثباتاً، كلّ واحد من الطَّرفين على دخالتها على وجه الطَّريقيّة، أو على وجه الموضوعيّة فلا يلازم القول بلزوم الاشتراك مع القول بالموضوعيّة، كما لا يلازم القول بعدم اللزوم مع القول بالطريقيّة»(1).

فرجع النزاع إلى مفاد الأدلة وإطلاقات الروايات في كفاية قيام البينة على الرؤية في البلاد الأخرى.

ويوجد هنا كلام لبعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) في تقريب الاستدلال بإطلاقات الرؤية على مختار المشهور، فقال: «ويمكن استفادة هذا المعنى من روايات الأمر بالصوم للرؤية والإفطار للرؤية والتي هي عمدة مستند المشهور بأحد بيانين:

الأول: التمسك بإطلاق المفهوم فيها، حيث أنها علقت الأمر بالصوم والإفطار على رؤية الهلال، فيدل على أنه مع عدم الرؤية لا يحكم بدخول الشهر الجديد.

وهذا مطلق يشمل ما إذا رئي الهلال في بلد آخر بعيد وعلم به المكلف أيضاً، فيستكشف منه أنه لا يكفي ذلك لتحقق الشهر شرعاً.

الثاني: لا إشكال في دلالتها على أن الميزان في دخول الشهر وعدمه إثباتاً رؤية الهلال وعدمها، وهذا يدل عرفاً –بعد كون الرؤية طريقاً محضاً- على

ص: 271


1- المصدر السابق: 207.

أن الميزان ثبوت المرئي وعدمه في أفق الرؤية ومكانها وهو طلوع الهلال وإمكان رؤيته فيه وعدمه، فمع عدم طلوعه بمعنى عدم بلوغه مقداراً يمكن رؤيته في ذلك المكان يكون الموضوع منتفياً لا محالة واقعاً.

وكلا البيانين غير تام».

وناقش (دام ظله) (الأول) من جهة «المنع من هذا الإطلاق» و «إمكان دعوى أن المراد من الرؤية في الروايات الأعم من رؤية المكلف نفسه أو رؤية الآخرين إذا كانت قطعية كموارد الشياع، أو ثابتة بالحجة الشرعية كموارد الشهادة المعتبرة في الهلال، وعندئذ يكون مقتضى إطلاق المنطوق شمول رؤية الهلال من قبل الآخرين في البلاد الأخرى قريبة كانت أو بعيدة، ويكون هذا الإطلاق رافعاً لموضوع إطلاق المفهوم والوظيفة الظاهرية، فتكون الروايات دالة على القول الآخر الذي اختاره الأستاذ (قدس سره) كما لا يخفى. وسياتي مزيد توضيح لهذا الوجه عند التعرض لأدلة القول الآخر.

نعم، لو كان الوارد في الروايات تقييد الرؤية بالبلد كما إذا قال: (صم للرؤية في بلدك)، أمكن أن يقال بظهورها حينئذ في اشتراط طلوع الهلال وإمكان رؤيته في بلد الرؤية وإلا كان القيد لغواً. وهذا القيد لا بد وأن يرجع إلى الموضوع والحكم الواقعي وهو المرئي ولا ربط له بموضوع الحكم الظاهري، فيستفاد منه أن موضوع الحكم إنما هو إمكان الرؤية أو طلوع الهلال في مكان الرؤية، إلا أن هذا القيد لم يردفي شيء من الروايات. ومجرد كون رؤية المكلف في بلده ومكانه عادة لا يعني تعليق الحكم عليه وتقييده به ليتم الاستظهار المذكور، وهذا واضح».

أقول: بل ورد العكس أي تقييد إطلاق المفهوم المدعى بالروايات الدالة على قضاء يوم إذا ثبتت رؤية الهلال في أي بلد آخر مما يدل على كفايتها.

وأجاب عن البيان الثاني بأن دلالة «الروايات على أن الميزان بثبوت المرئي وعدمه وإن كان تاماً لأنه مقتضى طريقية الرؤية، إلا أن ظهورها في كون

ص: 272

الميزان وجود المرئي وهو الهلال في أفق الرؤية ومكانها ممنوع، بل لعله أعم من ذلك ومن ثبوته في أفق آخر قريب أو بعيد، فإن طريقية الرؤية لا تقتضي أكثر من أن الهلال لو كان ثابتاً كان الموضوع محققاً، أما أنه بخصوصية كونه في ذلك المكان والأفق يكون موضوعاً، أو بجامعه الأعم من وجوده هناك أو في أفق آخر، فكلاهما منسجم مع طريقية الرؤية. وأما عدم الرؤية فلم يجعل في الروايات طريقاً للعدم، وإنما هو موجب للشك في تحقق الموضوع وجريان الوظيفة الظاهرية كما شرحنا. نعم، لو قيدت الرؤية بالمكان وبلد الرؤية كان ظاهراً في أخذ الخصوصية قيداً في المرئي والموضوع الواقعي للحكم، ولكنه تقدم عدم دلالة شيء من الروايات على ذلك.

وهكذا يتضح أن ما قد يتوهم من أن مقتضى الإطلاق في روايات (صم للرؤية وأفطر للرؤية) صحة قول المشهور، غير تام».

«فلو كان مقصود المشهور المتمسكين بهذا الإطلاق إثبات هذه الوظيفة الظاهرية في الشبهة الحكمية المفهومية –أي عند الشك في مفهوم الشهر للشك في كفاية رؤية الهلال في بلد آخر لثبوته في كل بلد- فهذا مطلب صحيح قابل للقبول، بدعوى شمول الروايات للشبهة الموضوعية والحكمية معاً بالإطلاق أو بعدم احتمال الفرق في الوظيفة الظاهرية الاستصحابية، إلا أن الذي يثبت بذلك ليس أكثر من حكم ظاهري استصحابي»(1).

أقول: المفروض عند القائل بالتعميم انقطاع هذا الاستصحاب بما دلّ على كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في البلدان الأخرى، وعلى أي حال فقد قلنا أن النزاع يرجع إلى مفاد الأدلة على حجية رؤية الهلال في أي بلد مطلقاً أو مقيداً.

ص: 273


1- السيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت (ع) العدد 31، صفحة 23-27.

الدليل الثالث: ما ذكره بعض أعلام العصر(1)

(دام ظله الشريف) وخلاصته: أن رؤية الهلال في غير البلدان القريبة لو كانت كافية لوجب على المعصومين (عليهم السلام) البيان وعلى المسلمين بعث العيون إلى مختلف البلدان لتحري الهلال ولم يثبت شيء من هذا فالرؤية في غير البلاد القريبة غير كافية وسيأتي بيان الوجه مفصلاً.أقول: الأنسب بهذا التقريب أن يُسوَّق إشكالاً على القول بكفاية الرؤية في البلاد البعيدة ومثله الإشكال ببطلان صوم وإفطار وحج المسلمين على القول بعالمية الهلال لأنه في الوقت الذي لا يرى الهلال في بلادنا فإنه يرى بعد ذلك بساعات في بعض البلدان الغربية فيكون الصوم والإفطار والحج في غير وقته ونحو ذلك، وسنعرضها ونجيب عنها عند مناقشة القول بكفاية رؤية الهلال في البلدان البعيدة في الجملة إن شاء الله تعالى.

الدليل الرابع: واستدل للمشهور ب_«الأصل بعد انصراف النصوص إلى غير الفرض»(2) أي غير البلدان المختلفة المطالع.

أقول: (أما) انصراف النصوص فسنناقشه لاحقاً إن شاء الله تعالى عندما يردّ به المشهور على الإطلاق الذي تمسك به القائلون بالتعميم.

و(أما) الأصل فيمكن أن يراد به الأصل اللفظي أو الأصل العملي:

1- الأصل اللفظي: وتقريبه: أن الروايات دلّت على أن الأحكام الشرعية من الصوم والإفطار والحج متوقفة على الرؤية وقد وردت روايات حاكمة عليها وهي تفيد كفاية قيام البينة على رؤية الهلال في بلد آخر كصحيحة

ص: 274


1- وهو الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) في رسالة (الأفق أو الآفاق في مسألة الهلال)، صفحة 59-62.
2- جواهر الكلام: 16/361.

إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (لا تصمه إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه)(1) وغيرها مما سيأتي، فوسّعت الرؤية المشترطة بمقتضى هذه الحكومة، والقدر المتيقن والمتفق عليه لدى الفقهاء من هذه البلدان ما كان ملازماً له بالرؤية لاتحادهما في الأفق بحسب ما قربناه في الدليل التكويني الطبيعي، أما غيره فمشكوك ومختلف فيه والأصل عدم حجية الرؤية فيه على غيره من البلدان البعيدة، قال بعض المعاصرين بعد أن ذكر صعوبة معرفة البلدان المتحدة الأفق وأنها تتغير من شهر إلى شهر ومعرفتها التفصيلية تحتاج إلى حسابات رياضية دقيقة جداً قال: «فلا مناص إلا بالأخذ بالقدر المشترك في الآفاق أي الذي يشترك فيه جميع الشهور»(2)، فيكون مقتضى الأصل عدم الخروج عن روايات (صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية) إلا بهذا المقدار.ولأنه قدر مشترك فقد نفوا الإشكال عنه، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): «إذا رئي الهلال في بلد فلا إشكال في ثبوت حكمه لغيره من البلاد المتقاربة، ويدل عليه الأخبار الكثيرة ولم يوجد على خلافه قائل منّا، كما اعترف به في المناهل»(3).

وإلى هذا المعنى يرجع عدد من التقريبات التي قيلت للاستدلال على القول المشهور كصحة سلب الرؤية فيما إذا رئي في بلد بعيد، وأن الرؤية مشترطة في أول الليل فتحققها في بلد غربي بعيد يعني تحققها للبلد المطلوب

ص: 275


1- وسائل الشيعة: 10/278، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 8، ح3.
2- رسالة حول رؤية الهلال للسيد الطهراني: 61، مؤسسة العروة الوثقى، الطبعة الأولى، 1431-2010.
3- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 12/253.

في وقت متأخر من الليل فيكون مخالفاً لشرط رؤية الهلال عند الغروب، ونحوها من التقريبات، وربما سنذكر بعضها كإشكالات على القول بالتعميم.

ويردّ عليه:-

1- قد يقال بعدم وجود قدر متيقن في المسألة لأن المشهور يقول بشرط لا عن الزيادة عن البلدان القريبة والخصم يقول بشرط شيء وهو ضم البلدان البعيدة وبين هاتين الماهيتين تباين.

2- لا يوجد نزاع في ثبوت الهلال في بلد إذا رؤي في بلد آخر ملازم له بالأفق وإنما النزاع في الوقوف عليه وعدم ثبوته في غيره، وتحديد ضابطة هذه الملازمة.

3- ولو تنزّلنا فإن الإطلاقات التي استدل بها القائل بكفاية رؤية الهلال في البلدان البعيدة إذا تمت فلا معنى للأخذ بالقدر المتيقن.

4- إن المورد غير قابل للاحتياط، لدوران الأمر بين المحذورين في اليوم المردد بين الثلاثين من شهر رمضان والأول من شوال، فإما يجب صومه –لو اشترطنا الرؤية في البلد القريب وقد رئي في بلد بعيد- أو يجب إفطاره –لو قلنا بالتعميم-، نعم، يمكن الاحتياط بالسفر والإفطار لأجله وهو غير ما قالوه.

5- إن العوامل الكثيرة التي تؤثر في تكوّن الهلال وإمكان رؤيته بالنسبة للبلدان المختلفة لا تبقي قدراً متيقناً ثابتاً في جميع شهور السنة بحيث يمكن الجزم بأن إمكانية الرؤية فيها متطابقة ومتلازمة دائماً كالذي يفترضه المشهور، فالعراق البلد الصغير لا تتفق آفاقه –كما يظهر من مخطط شهر شوال 1429- إلا في نطاق ضيّق جداً، وهو أضيق بكثير مما قالوا –وقد ناقشناه- فكيف يستدل بالقدر المتيقن، ومنه يُعلم النظر في محاولة بعض

ص: 276

المعاصرين وضع ضابطة كلية للآفاق المشتركة وحدّدها بمسافة 888 كيلومتراً أو مائة وستين فرسخاً وفق أطروحة ذكرها(1).

إنهم ردّوا على الروايات الآتية التي استدل بها القائلون بالتعميم كقوله (عليه السلام): (فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه) بأن الظاهر منها «أن الإطلاق1- في مقام بيان حكم انكشاف كون يوم الشك من رمضان لا في مقام بيان الكاشف وأنه يحصل بمجرد الرؤية في بلد من البلاد»(2) فكيف يستدلون بها وهي أجنبية عن المقام.

هذا كله مضافاً إلى ما تقدم من الإشكالات على ضابطة البلدان القريبة ومعناها.

2- الأصل العملي: ويمكن تقريبه على عدة أشكال:-

أ- استصحاب بقاء الشهر السابق، ويرد عليه: أنه لا يجري لوجود الشك في مفهوم دخول الشهر الجديد وثبوت الهلال وهل أنه يتحقق برؤيته في البلاد القريبة الخاصة أم تكفي رؤيته في البعيدة، والصحيح عدم جريان الاستصحاب فيه لعدم جريان الاستصحاب في الموضوع المشتبه مفهوماً، ومثاله الشك في بقاء العدالة عند فعل الصغيرة مع اليقين بزوالها عند فعل الكبيرة.

ويمكن تقريب عدم جريان الاستصحاب على مبنانا من عدم جريانه عند الشك في المقتضي وهذا من موارده لأننا نشك في مقتضي بقاء الشهر إلى اليوم الثلاثين عند تحقق الرؤية في البلد البعيد دون القريب، فإذا كانت

ص: 277


1- رسالة حول رؤية الهلال للسيد الطهراني: 61/211.
2- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 12/256.

الرؤية في البلد البعيد كافية فالشهر متيقن الارتفاع وإن كانت غير كافية فالشهر متيقن البقاء فلا يجري استصحاب بقاء الشهر.

ب- استصحاب بقاء حكم الشهر السابق، وهذا أيضاً لا يجري؛ لأن الحكم متعلق بعنوان الشهر السابق -كرمضان مثلاً- على نحو القيد لوجوب الصوم والمفروض عدم إحرازه برؤية الهلال في بلد بعيد، وإنما يحتمل ذلك، واحتمال زواله وارتفاعه يكون من عدم إحراز الموضوع، ووجوب الصوم ثابت لشهر رمضان بهذا العنوان، فلا يجري استصحاب بقاء وجوب الصوم ليوم الشك من شوال.

إن قلتَ: لكن الاستصحاب يجري في اليوم المردد بين الثلاثين من شعبان والأول من رمضان فيحكم بعدم وجوب الصوم.

قلتُ: إنما يجري استصحاب عدم وجوب الصوم الثابت في شعبان في يوم الشك لرمضان؛ لأنه ليس ثابتاً لعنوان شعبان بل من جهة عدم دخول رمضان، فهو من استصحاب عدم الحكم لا بقاء الحكم.

ج_- البراءة وهي تجري عند الشك في وجوب الصوم في اليوم المشكوك من شهر رمضان سواء كان في أوله أو في آخره وهو خلف ما يريده المستدل في نهاية شهر رمضان؛ لأن مؤدى قول المشهور وجوب الصوم إتماماً للعدة.

والظاهر من كلماتهم أن مرادهم المعنى الأول للأصل.كقول الشيخ الأنصاري (قدس سره): «إن التباعد يوجب العلم بعدم ثبوت الهلال للبلد الآخر، أو عدم العلم وهو كافٍ في عدم الخروج عن الأصل»(1)،أي أن التباعد مع بلد الرؤية يوجب القطع بعدم إمكان رؤيته في البلد الآخر لبعد المسافة وكون الهلال المرئي في أول أزمنة إمكان الرؤية، أو يوجب عدم العلم بإمكان الرؤية، وعلى كلا التقديرين فلا يتحقق شرط دخول

ص: 278


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): كتاب الصوم، 12/256.

الشهر الجديد المستفاد من قولهم (عليهم السلام): (صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية)، فيناسبه ما قررناه من الأصل اللفظي.

ملحق:

التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع والشك في المقتضي

للأصوليين عدة تفصيلات في حجية الاستصحاب (منها) التفصيل في الحجية بين كون الشك في الرافع أو كونه في المقتضي فذهب عدد من الأعاظم إلى حجيته في الأول دون الثاني كالشيخ الأنصاري والشيخ النائيني ومن المعاصرين السيد حسن البجنوردي والسيد الروحاني (قدس الله أسرارهم جميعاً) خلافاً للأكثر حيث ذهبوا إلى حجيته مطلقاً كصاحب الكفاية ومشهور المعاصرين كالسيد الخوئي (قدس سره) وتلامذته كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) وكالسيد الشهيد الصدر الأول (قدس الله سره) وتلامذته(1)

وقد حكى السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وجود التفصيل موضوعاً في ذهن المحقق في المعارج كما في عبارته الآتية، وعلى أي حال فالصحيح هو القول بالتفصيل.

ولكي لا نخرج من غرض البحث نقول: بغضّ النظر عما قيل من المحتملات في المراد من المقتضي إلا أن الصحيح في المراد بالمقتضي استعداد المتيقن السابق للبقاء وترتيب الآثار عليه في الزمان الثاني لو خلي وطبعه، إذ أن الشك في الزمان اللاحق -وهو ركن الاستصحاب- قد يكون منشأه الشك في

ص: 279


1- راجع: فرائد الأصول: 2/667، كفاية الأصول: 390 طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 48/23، بحوث في علم الأصول: 6/154، منتهى الأصول: 2/510، منتقى الأصول: 6/58، المباحث الأصولية: 12/415.

قابلية المتيقن في نفسه على البقاء إلى الزمان الثاني واحتمال انتفائه بانتهاء أمده، وقد يكون منشأه حصول رافع لوجوده مع قابليته في نفسه على البقاء، فالأول هو الشك في المقتضي والثاني في الرافع.ومثّلوا للأول من عالم الموضوعات الخارجية بوجود حيوان في الدار يدور أمره بين ما يعيش خمس سنين مثلاً وما يعيش خمسة أشهر فإذا شك في بقاء الحيوان في الدار بعد خمسة أشهر كان من الشك في المقتضي، ومثلوا له في الأحكام الشرعية بخيار الغبن مثلاً إذا شك في بقائه في الزمن الثاني بعد علمه بالغبن لاحتمال اختصاصه بالزمن الأول الممتد من العقد الغبني إلى حين حصول العلم بالغبن فهذا من الشك في المقتضي في البقاء إلى الزمن الثاني مع اليقين بوجوده في الزمن الأول.

وتطبيق المطلب في مسألتنا -وهي طرق ثبوت الهلال- ما لو شك في بقاء الشهر الحالي من جهة الشك في قابليته على البقاء فيما لو رؤي الهلال في بلد غير متحد بالأفق، فإن كانت رؤية الهلال فيه كافية لثبوته في هذا البلد فقد انتفى الشهر السابق وحلَّ الشهر الجديد وإن لم تكن كافية والرؤية المعتبرة مختصة بالبلدان المتحدة في الأفق فإن الشهر الحالي باقٍ.

والدليل على التفصيل نقدّمه باختصار ووضوح ليتناسب مع منهجنا في تناول مسائل علم الأصول في ضوء الغرض المطلوب منه وحاصل الدليل:

قصور أدلة حجية الاستصحاب عن إفادة الإطلاق وشمول صورة الشك في المقتضي.

لأن عمدة الدليل على حجية الاستصحاب هو بناء العقلاء والأخبار:

أما الأول: فإنه دليل لبّي يُقتصر به على القدر المتيقن وهو إبقاء ما كان استعداده للبقاء في نفسه محرزاً إذا شُك في حصول الرافع له، ولم يثبت بناؤهم على إجراء الاستصحاب وإبقاء ما شُك في استعداده للبقاء عند الشك في بقائه.

ص: 280

ولو ثبت بناؤهم في بعض الموارد على الاستصحاب مع كون الشك في المقتضي فإنه قد لا يكون للاستصحاب وإنما لأهمية المحتمل كحياة الإنسان أو لمصلحة اجتماعية كقاعدة التيسير وحفظ النظام الاجتماعي العام ومداراة الناس ونحو ذلك.

وأما الثاني: فلعدة تقريبات:-

أ- إن مورد الروايات الشك في الرافع مع إحراز المقتضي كالشك في بقاء الوضوء من جهة الشك في تحقق النوم كما في صحيحة زرارة(1)

الأولى، والشك في بقاء طهارة الثوب من جهة الشك في وقوع النجاسة عليه كما في صحيحتهالثانية(2)

وهكذا، ونتمسك بالإطلاق في المقدار الذي يتحقق فيه التجريد عن الخصوصية كالتعدي من الطهارة إلى غيرها ومن النوم إلى غيره ونحو ذلك وليس منه التعدي إلى صورة الشك في المقتضي فلا إطلاق لهذه الروايات، ولا نعلم ماذا سيكون جواب الإمام (عليه السلام) لو سُئل عن مثل هذه الصورة فالرواية مجملة من هذه الناحية.

ص: 281


1- صحيحة زرارة، قال: (قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة؟ قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين، والأذن، والقلب، وجب الوضوء، قلت: فإن حرك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقض (ينقض) اليقين أبداً بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر). (وسائل الشيعة: 1/245، أبواب نواقض الوضوء، باب 1، ح1)، وفي ح 7 من نفس الباب عن عبد الله بن بكير عن أبيه، قال: (قال لي أبو عبد الله عليه السلام: إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ، وإياك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنك قد أحدثت).
2- وسائل الشيعة: 3/466، 477، 482، أبواب النجاسات: باب 37، 41، 44، ح1.

ب- إن هذه الروايات يمكن أن ينظر إليها على أنها إرشادية إلى ما تبانى عليه العقلاء والمفروض أنه لا يشمل الشك في المقتضي فتتقيد سعة الروايات بهذا المقدار ولا يتم لها إطلاق.

أو يكون بناء العقلاء قرينة ارتكازية بيّنة لدى المتكلم والسامع تقيّد إطلاق الكلام، وهذه القرينة الملحوظة عند التخاطب غير ما اشترطه صاحب الكفاية لانعقاد الإطلاق واعترضنا عليه من عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب؛ لوجود اللحاظ المعيّن للظهور في هذه دون تلك.

ولا أقل من كون بناء العقلاء مجملاً من هذه الناحية فيسري إجماله ولا يتم للكلام إطلاق.

ومن الشواهد على كون الروايات إرشادية صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في من يعير ثوبه للذمي وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فعلل الإمام (عليه السلام) عدم وجوب غسله بقوله: (لأنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تتيقن أنه نجّسه)(1)

فإن الإمام (عليه السلام) اكتفى ببيان تحقق موضوع القاعدة وترك تطبيقها إلى السائل معتمداً على ارتكازه العقلائي.

ج_- ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري(2) (قدس سره) وأثار جدلاً عند من بعده واكتفى بعض القائلين بالحجية مطلقاً بالرد عليه لإثبات بطلان هذا القول وهذا خطأ منهجي آخر وهو الاكتفاء برد الاستدلال السابق وعدم استيعاب الأدلة المحتملة للقول الآخر، وأحياناً الأقوال الأخرى في

ص: 282


1- وسائل الشيعة: 3/521، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 74، ح1.
2- فرائد الأصول: 2/574-575.

المسألة، حيث توجد هنا وجوه أخرى للاستدلال على التفصيل كما ذكرنا.

وعلى أي حال فإن حاصل تقريب الشيخ (قدس سره): أن النقض في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) لا يصدق إلا على ما له قابلية البقاء لأن النقض لا يتحقق إلا في الأمر المبرم وهو ما كان المقتضي فيه تاماً، فإجراءالقاعدة في ما عداه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو غير صحيح.

وبيان ذلك يتحقق بعدة مقدمات، إذ أن المراد من هذه العبارة ترتيب آثار المتيقن والجري العملي على طبقه؛ لأنه لا أثر لليقين في نفسه كي يكون الإبقاء وحرمة النقض بلحاظ آثاره أي لم يؤخذ اليقين على نحو الموضوعية.

فحرمة النقض وإن كانت متعلقة باليقين ولكن باعتباره مرآة للمتيقن وأنه عنوان له كالذي نقوله في مبحث تعلق الأوامر بالطبائع لا الأفراد، وبذلك فقد التزمنا بظاهر اللفظ من تعلق النقض باليقين فلا يقال أن حمل اليقين على المتيقن مجاز(1)،والذي أدى إلى إشكالات مطوّلة ردّوا بها استدلال الشيخ (قدس سره).

ومن المعلوم أن عدم الجري العملي على طبق المتيقن عند الشك في بقائه يصدق عليه أنه نقض لليقين باعتبار آثار المتيقن فيما إذا كان للمتيقن استعداد البقاء في ظرف الشك في بقائه، والشك في بقائه يكون مستنداً إلى الرافع -أي إلى احتمال وجود حادث زماني أوجب انعدامه- وإلا فلا معنى للنقض؛ لأن نفس اليقين انتقض بالشك.

ص: 283


1- كما في ردّ صاحب الكفاية (قدس سره) على الشيخ الأنصاري (قدس سره) وتبعه غيره (راجع كفاية الأصول: 390 من طبعة مؤسسة أهل البيت).

ونحن نبني على أن حقيقة الاستصحاب المعبّر عنها بقوله (عليه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) تنزيل الشك منزلة اليقين لا المشكوك منزلة المتيقن كما توهم، أي جرّ اليقين من حيث الجري العملي إلى ظرف الشك ولكن باعتبار مرآتيته وطريقيته لا صفتيته وموضوعيته.

لا يقال: أن دليل الاستصحاب غير منحصر في الأخبار المشتملة على لفظ النقض حتى يختص بالشك في الرافع، بل هناك خبران آخران لا يشتملان على لفظ النقض، فيعمّان بإطلاقهما موارد الشك في المقتضي أيضاً:

الأول: صحيحة عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (عليه السلام) الواردة في من يعير ثوبه للذمي وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، قال: (فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه)(1).الثاني: رواية إسحاق بن عمار قال: (قال لي أبو الحسن الأول (عليه السلام): إذا شككت فابن على اليقين، قلت: هذا أصل؟ قال: نعم)(2).

فإنه يجاب إجمالاً بأن أدلة التفصيل لا تنحصر بمدلول لفظ النقض وإنما توجد وجوه أخرى كما سنورده في البحث.

ويجاب تفصيلاً عن الحديثين.

أما الأول: فمورده هو الشك في الرافع، لأن الطهارة مما له دوام في نفسه لولا الرافع، فلا وجه للتعدي عنه إلى الشك في المقتضي. وأما

ص: 284


1- وسائل الشيعة: 3/521، أبواب النجاسات، باب 74، ح1.
2- وسائل الشيعة: 8/212، (من طبعة مؤسسة أهل البيت)، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 8، ح2، من لا يحضره الفقيه: 1/351، ح1025.

التعدي عن خصوصية الثوب إلى غيره وعن خصوصية الذمي إلى نجاسة أخرى وعن خصوصية الطهارة المتيقنة إلى غيرها، فإنما هو للقطع بعدم دخل هذه الخصوصيات في الحكم، ولكن التعدي عن الشك في الرافع إلى الشك في المقتضي يكون بلا دليل.

مضافاً إلى ما ذكرناه من أن الإمام (عليه السلام) لم يذكر قضية الاستصحاب وإنما نقّح موضوعه فقط وترك إجراءه للسائل وفق ما تبانى عليه العقلاء وقد علمنا عدم سعته.

وأما الثاني: فقد أشكلوا على السند من جهة أن الشيخ الصدوق لم يبتدئ باسم إسحاق حتى يكون مشمولاً بطريقه المعتبر في المشيخة بل قال: روي عن إسحاق بن عمار، ومثل هذا قد لا يكون مشمولاً بقول الصدوق في المشيخة أن ما يرويه عن إسحاق فسنده فلان عن فلان.

ولعل وصف بعضهم للحديث بالموثق بناءً على عدم التفريق بين التعبيرين أو بلحاظ ما في الوسائل حيث نقله عن الصدوق بإسناده عن إسحاق بن عمار «وهذا اشتباه منه»(1)

وهذا التفريق -بين ابتداء الشيخ الصدوق باسم الراوي فيكون مشمولاً بما ورد في المشيخة وبين قوله: «روي عن» فلا يكون مشمولاً- بنى عليه السيد الخوئي والشهيد الصدر (قدس الله سريهما) وعليه فالرواية مرسلة عندهم.

أقول: هذا الإشكال في السند غير تام والأقرب عدم التفريق وحجية التعبيرين، وإن هذا الاختلاف تنوع في التعبير من الشيخ الصدوق لا أثر له، ولو فرضنا أن قول الشيخ الصدوق (كل ما رويته عن فلان فهو) لا

ص: 285


1- مباحث الأصول، مصدر سابق، ق2، ج5، ص 145، بحوث في علم الأصول: 6/86.

يشمل الرواية محلالبحث فإنه أكثر من قوله: (ما كان عن فلان فهو عن..) وهذه العبارة تشمل ما نحن فيه.

وقد بنى على عدم التفريق صاحب الوسائل وجامع أحاديث الشيعة فإسناد صاحب الوسائل إلى إسحاق موافق لمبناه وليس اشتباهاً. وتبعهم على ذلك بعض من حضرنا بحثه الشريف الذي ذكر عدة وجوه لرد التفريق قال (دام ظله الشريف):-

«أ- إننا بحسب التتبع نجد أن الشيخ الصدوق (قدس سره) نفسه لم يتقيد بتعبير واحد واستعمل التعبيرين، فقد ينقل في مواضع متعددة عن مصدر واحد فيقول: (روى فلان) وفي بعضها (روي عن فلان) -بحسب معرفتنا بالمصدر- ومنه في المجلد الأول عن الفضل بن شاذان فقد جزم بالرواية في أربعة مواضع وصرّح بالنقل عن الفضل، وفي المورد الخامس قال: «وفي العلل التي يروى أن الفضل قد سمعها.. (إن الفطر إنما جُعل ليكون..) »(1)

هذا في الجزء الأول، ص 330 من طبعة النجف) أما في الموارد الأربعة ففي الصفحات 195، 200، 203، 290، 342).

ب- إنه قد أكثر في الفقيه التعبير بقوله: (روي عن فلان) وذكر في المشيخة السند إلى خصوص من عبَّر عنهم بذلك. ولازم ما أفاده -أي السيد الخوئي- أن ذكر السند في المشيخة لغو وقد أحصيت خمسين شخصاً على هذا النحو، فتكون الموارد أكثر من ذلك.

ص: 286


1- من لا يحضره الفقيه: 1/522، ح 1485 وفيه «وفي العلل التي تُروى عن الفضل بن شاذان النيسابوري رضي الله عنه ويُذكر أنه سمعها من الرضا (عليه السلام) أنه (إنما جُعل يوم الفطر العيد.. ) ».

ج_- إنه بناءً على ما أشرنا إليه وهو الصحيح إن ترتيب المشيخة بحسب ترتيب الفقيه إلا نادراً فيما لو غفل مثلاً وإلا فالقاعدة عنده أن يبتدئ أولاً بما ابتدأ به أولاً في الفقيه، وبناءً على هذا فإننا نرى الشيخ الصدوق قد لاحظ في المشيخة (77) مورداً بخصوص من قال عنهم: (روي عن فلان) وعلى القول بالتفريق لا يكون له وجه عقلائي إذ لا توجد مناسبة لذكر الطريق وهو لم يروِ عنه»(1).

وقد حكى السيد الشهيد الصدر اشتباه بعض كتب الأصحاب بنسبة الرواية إلى عمار -وهو غير عمار والد إسحاق- «وكأن منشأ الاشتباه كان هو الشيخ الأعظم (قدس سره) الذي عبّر في رسائله عن هذا الحديث بموثقة عمار، وقد وقع هذا الحديث في بعض نسخ الوسائل في وسط -الحديث السابق على هذافي نفس الباب- وأشير إلى الاشتباه في الحاشية، وذاك الحديث هو قوله (محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال له: يا عمار أجمع لك السهو كله في كلمتين... فوقع بعد قوله -كلمتين- متن حديث إسحاق بن عمار، فلعل نسخة الشيخ الأعظم (قدس سره) كانت من هذا القبيل فأوقعته في الاشتباه»(2).

هذا من جهة السند، وأما من جهة المتن فإن الإشكال بها لا يتم لأن الأمر بالبناء على اليقين مساوق للنهي عن نقضه؛ لأن البناء هو الجري على طبق ما له ثبات ودوام.

ص: 287


1- تقرير بحث السيد السيستاني، محاضرة بتأريخ 6/ ذ. ق./1417.
2- مباحث الأصول -تقريرات السيد الحائري لأبحاث السيد محمد باقر الصدر-: ق2، ج5، 148.

مضافاً إلى أن ورودها في باب الخلل والشك في الركعات يرجح كونها واردة لتأسيس قاعدة التجاوز والبناء على صحة الفعل بعد الفراغ منه فهي أجنبية عن الاستصحاب، وما قيل من وجوه لاستبعاد هذا الاحتمال يمكن دفعها كقولهم: «إن اليقين في هذه القاعدة غير موجود»(1)

إذ يمكن فرض اليقين باعتبار أنه لم يكن شاكاً حين الفعل وكان حينئذٍ أذكر -كما في بعض الروايات - وهذا المقدار كافٍ لوصفه أنه على يقين، إذ القضية مانعة خلو.

ومنه يتضح المراد بقاعدة الفراغ وليس تحصيل الفراغ اليقيني حتى يرد عليه بأنه «لو كان المقصود ذلك كان ينبغي أن يأمر بتحصيله لا البناء على يقين مفروغ منه -كما يقتضيه سياق الأمر»(2).

إن قلتَ: «لم يرد في لسانها أي إشارة إلى كون الشك في الفراغ عن الصلاة ومجرد ذكر الشيخ الصدوق لها في باب الخلل في الصلاة لا يصلح أن يكون شاهداً على ذلك إذ لعله كان من أجل التطبيق على الصلاة»(3).

قلتُ: إن مجرد الاحتمال كافٍ لإبطال الاستدلال وإن استظهار الشيخ الصدوق يكشف عن قرب هذا المعنى، حتى أن بعضهم أدخلها في رواية عمار في الاشتباه السابق.

تنبيه: جعل السيد الخوئي (قدس سره) بدل الحديث الثاني ضمن هذا الإيراد: «خبر محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) (من كان على يقين فشك فليمض يقينه فإناليقين لا يدفع بالشك) ».(4)

ص: 288


1- المباحث الأصولية للشيخ الفياض: 12/228.
2- بحوث في علم الأصول: 6/86، مباحث الأصول، مصدر سابق: 148.
3- بحوث في علم الأصول: 6/86، مباحث الأصول، مصدر سابق: 148.
4- (4) موسوعة السيد الخوئي: 48/32-33.

أقول: هو خبر الخصال في حديث الأربعمائة بسنده عن محمد بن مسلم وأبي بصير عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وسنده غير تام بالقاسم بن يحيى الذي لم تثبت وثاقته، وفي ما ذكره تحريف فإن في المصدر (فإن الشك لا ينقض باليقين)(1)

وحينئذٍ فهي متضمنة للفظ النقض ولا يتم الإشكال بالرواية(2).

وأرى أن الأولى في رد تقريب الشيخ الأنصاري (قدس سره) أنه يصلح شاهداً وليس دليلاً لأنه لم يُعلم أنه مراد للمتكلم فإن ظاهر العبارة النهي عن التوقف بالعمل باليقين السابق لمجرد طروّ الشك عليه، أما أن نفهم التفصيل من كلمة النقض فهذه استفادة عرضية من الكلام فتصلح شاهداً ومؤيداً، فلا بد من تقديم أدلة أخرى على التفصيل كما قرّبنا.

وللأعلام (قدس الله أسرارهم) هنا محاولات لتقريب جريان الاستصحاب مطلقاً بإتمام اليقين بالمقتضي(3) لا نطيل في إيرادها لأنها خلاف الفرض الذي هو الشك في المقتضي ومنها محاولة للسيد الخوئي (قدس سره) حاصلها: أن متعلق اليقين والشك لوحظ بالنظر المسامحي العرفي وإلغاء خصوصية الزمان بالتعبد الشرعي، من أن تطبيق نقض اليقين بالشك على مورد الاستصحاب إنما هو بالتعبد الشرعي فيصدق نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في المقتضي فإن خيار الغبن كان متيقناً حين ظهور الغبن وهو متعلق الشك بعد إلغاء الخصوصية، فعدم ترتيب الأثر عليه في ظرف الشك نقض لليقين بالشك فتستفاد من قوله (عليه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) حجية الاستصحاب مطلقاً.

ص: 289


1- الخصال: 460، وسائل الشيعة: 1/247، أبواب نواقض الوضوء، باب 1، ح6.
2- وأوردها بنفس التحريف في (بحوث في علم الأصول: 6/164)، ولعله نقلها عن السيد الخوئي (قدس سره).
3- عرض الشهيد الصدر الأول (قدس سره) جملة منها (راجع مباحث الأصول).

أقول: وهذا كما ترى خلاف الفرض، وهذا التسامح العرفي بلحاظ تحقق ركني الاستصحاب أي وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وإلا فإنهما بالدقة ليسا واحداً، ولا تتحقق وحدتهما إلا على نحو الشك الساري ويكون مجرى لقاعدة اليقين.

والملفت أن بعض الأعلام نفى وجود حالة الشك في المقتضي وأن الحالة سالبة بانتفاء الموضوع، فقد حكى السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عن المحقق في المعارج كلاماً «يُشعر بهذا التفصيل حيث أفاد بأن فرض عدم بقاء المستصحب إما يكون من باب احتمال عدم المقتضي أو وجود المانع والأول خلاف المفروض لأن الكلام بعد الفراغ عن وجوده»(1).أقول: هذا خلاف الواقع كما تشهد به الأمثلة الكثيرة.

دليلان آخران على التفصيل:

وقد ينقدح في الذهن تقريب وجهين آخرين لهذا التفصيل:

أولهما: إنه عند الشك في المقتضي تكون له حصتان: حصة متيقنة وأخرى مشكوكة فنفتقد في الزمان الثاني -وهو اليوم الثلاثون من الشهر السابق بحسب مورد المسألة- إلى ركن الاستصحاب وهو اليقين بالحالة السابقة.

وبتعبير آخر: إن الشك في الزمان الثاني أي الحصة المشكوكة عندما يتعلق بالمقتضي يكون من الشك الساري ويكون مورداً لقاعدة اليقين وليس الاستصحاب.

قد يقال: إن هذا التقسيم بين الحصتين ليس عرفياً وليس له حد فاصل، وجوابه أنه صحيح لكن الوجدان يتحسس أنه في أي الحصتين وهل هو في الحصة

ص: 290


1- بحوث في علم الأصول: 6/154.

المتيقنة أم المشكوكة، وأن بناء العقلاء الذي هو دليل حجية الاستصحاب مستند إلى هذا الإحساس الوجداني بالاستمرار والبقاء.

ثانيهما: إنهم لا يجرون الاستصحاب في بعض صور الشك في المقتضي وذلك عندما يكون الشك ناشئاً من حصول شبهة مفهومية في المستصحب وبضميمة عدم الفصل بين صور الشك في المقتضي تكون النتيجة عدم جريان الاستصحاب عند الشك فيه كما في مسألتنا هذه إذ أن الشك في دخول الشهر الجديد ناشئ من إجمال ما يتحقق به وأنه هل تكفي فيه الرؤية في البلد البعيد أم يشترط فيه تحقق رؤية الهلال في البلد القريب، فإذا تحققت رؤية في بلد بعيد وشككنا في بقاء الشهر السابق أو انتفائه فلا يجري استصحاب بقائه؛ لأن الصحيح عدم جريان الاستصحاب في الموضوع الذي يكون مفهومه مشتبهاً، فهذا الشك يمكن تصوره على أنه شك في مقتضي بقاء الشهر السابق وأنه هل له قابلية البقاء فيما لو اشترطنا الرؤية في البلد القريب أم ليست له ذلك فيما لو اكتفينا برؤيته في البلد البعيد، ومثاله الآخر ما لو شك في أن الغروب الذي جُعل غاية لصلاة الظهرين هل هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية فهذه شبهة مفهومية حكمية وهي من موارد الشك في المقتضي. وقد قلنا بعدم جريان الاستصحاب في موردها.

فهذا التقريب يمكن أن يكون دليلاً على التفصيل أو نقضاً على إطلاقهم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي.إلفات: نقض بعض الأعلام على الشيخ الأنصاري (قدس سره) بموارد أجرى فيها الاستصحاب وهي من الشك في المقتضي(1)

فيكون قد خالف بذلك مختاره في التفصيل.

ص: 291


1- موسوعة السيد الخوئي: 48/33-34، المباحث الأصولية للشيخ الفياض: 12/419.

ويمكن الدفاع عن الشيخ بمنع كونها من هذا الباب ولا نريد الإطالة في سردها ومناقشتها ونذكر أحدها وهو مرتبط بمسألتنا، قال السيد الخوئي (قدس سره): «كما إذا شك في ظهور هلال شوال فإن الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي، لأن الشك -في ظهور هلال شوال- في الحقيقة شك في أن شهر رمضان كان تسعة وعشرين يوماً أو لا، فلم يحرز المقتضي من أول الأمر مع أن الشيخ قائل بجريان الاستصحاب فيه، بل الاستصحاب مع الشك في هلال شوال منصوص بناءً على دلالة قوله (عليه السلام): (صم للرؤية وأفطر للرؤية) على الاستصحاب»(1)،وقال الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): «إلا أنه -أي الشيخ الأنصاري (قدس سره)- في مقام التطبيق لم يلتزم به حرفياً في تمام الموارد، إذ أنه (قدس سره) بنى على جريان استصحاب بقاء شهر شعبان إذا شك في بقائه من جهة الشك في رؤية الهلال، أو بقاء شهر شوال مع أن هذه الموارد من الشك في المقتضي»(2).

أقول: من الواضح أن المورد من الشك في الرافع وهي رؤية الهلال التي ينتهي الشهر السابق بتحققها وإلا فإن الشهر له قابلية الاستمرار للزمان الثاني وإكمال العدة إذا لم يُر الهلال، والرواية التي ذكرها دالة على ذلك أي على عكس ما ذكروه.

وبتعبير آخر: إن الشك في دخول الشهر الجديد له منشآن:

الأول: الشك في رؤية الهلال أصلاً وهذا من الشك في الرافع لأن الشهر فيه مقتضي البقاء إلى اليوم الثلاثين وإتمام العدة إذا لم يرَ الهلال.

الثاني: الشك في كفاية رؤية الهلال المتحققة في بلد لثبوته في بلد آخر غير متحد معه في الأفق، فهنا يوجد يقين برؤية الهلال وإنما الشك في المقتضي

ص: 292


1- المصدر السابق.
2- المباحث الأصولية: 12/420.

لأننا لا نعلم بقابلية الشهر على البقاء في مثل هذه الحالة لاحتمال كفاية الرؤية في البلد البعيد.

فالمستشكل اعتبر إجراء الاستصحاب في الصورة الأولى نقضاً على الشيخ الأنصاري وهي ليست كذلك؛ لأنها من الشك في الرافع.

تتميم: أورد بعض من حضرنا بحثه الشريف عدة إشكالات على القول بكفاية رؤية الهلال في البلدان البعيدة -أي غير المتحدة بالأفق- واعتبرها أيضاً شواهد عرفيةوشرعية تؤيد أن العبرة في دخول الشهر القمري في كل مكان بإمكانية رؤية الهلال في أفق ذلك المكان(1).

وقال عنها في بحثه الشريف بأنها «يمكن الاستدلال بها على القول المشهور»(2)

حتى جعلها مقيّدات للروايات التي استدل بإطلاقها القائلون بوحدة الهلال لجميع البلدان وكفاية الرؤية في بعضها لثبوت الشهر في غيرها من البلدان وإن اختلفت الآفاق، قال (دام ظله الشريف): «وعلى فرض ثبوت الإطلاق فيكون ما تقدم منّا في الوجوه السابقة كافية للتقييد»(3)

ثم قال في نهاية البحث: «لكن الشواهد السابقة خصوصاً الأول والثاني كافية في عدم إمكان اعتماد الوجه الذي أفاده سيدنا الأستاذ» أي السيد الخوئي (قدس سره).

وقد قررت في محاضراتي ستة وجوه(4)

لكنها في الرسالة المطبوعة مؤخراً خمسة لأنه استشكل على الأخير وسنعتمد ما في الرسالة المطبوعة، إلا إذا اقتضت الحاجة إضافة شيء من التقريرات.

ص: 293


1- رسالة: أسئلة حول رؤية الهلال: 10 وما بعدها.
2- تقرير محاضرات 13، 14، 15 /ج2/1417.
3- محاضرة بتأريخ 20/ج2/1417.
4- راجعها في الطبعة الثانية من فقه الخلاف: 4/272 وما بعدها.

قال (دام ظله الشريف): « (الشاهد الأول) أن الشهر القمري - أي ما بين الهلالين - مقياس زمني تداوله العرب قبل الإسلام، والشهر في لغتهم اسم للقمر سُمّي به لشهرته وظهوره، ثم أطلق على ما بين الهلالين لأنه يشتهر بالقمر وفيه علامة ابتدائه وانتهائه.

وإنما اتخذ العرب الأشهر القمرية المقياس الأساس عندهم لحساب الأيام ولم يعتمدوا في ذلك على الأشهر الشمسية التي كانت متداولة عند الفرس والروم - مع أن كثيراً من شؤون الحياة من الزراعة وغيرها مما يختلف باختلاف الفصول التي هي أقسام للسنة الشمسية - من جهة أن الشهر القمري كان مقياساً يناسب حالهم من حيث إن معرفته لا تحتاج إلى الحساب - بخلاف الأشهر الشمسية - كما أنه كان يناسب مناطقهم التي تكون السماء فيها في غالب أيام السنة صحواً مما يتيح معرفة أيام الشهر بالنظر إلى حال القمر في الليل بكل سهولة.

والمنسجم مع اعتمادهم على الأشهر القمرية دون الشمسية هو أن تكون العبرة عندهم في ابتداء الشهر في كل مكان بقابلية الهلال للرؤية في ذلك المكان، فإنه أمر يعد في متناول الجميع: الحضري والبدوي، القريب من أول موضع يرى فيه الهلال والبعيد عنه. وأما جعل المعيار هو ظهور الهلال وقابليته للرؤية في مكان ما - ولو في بلاد الروم أو الفرس أو في بعض البحار- يكون مشتركاً مع مناطقهم في جزء من الليلفهو مما لا ينسجم بوجه مع ما ذكر في وجه اعتمادهم على الأشهر القمرية، فإنه مقياس لا يصل إليه الجميع لوضوح أنه لا سبيل إلى التأكد من رؤية الهلال في الأماكن البعيدة إلا من جهة الحساب العلمي الدقيق أو مع توفر طرق الاتصالات السريعة، وأنّى كان لهم ذلك؟!.

وبتعبير آخر: إنه لو كان بناؤهم على أن المعيار في بداية الشهر القمري هو برؤية الهلال ولو في الأمكنة البعيدة جداً عن أماكنهم لاقتضى ذلك أن لا يبنوا على عدم دخول الشهر الجديد في أماكنهم لمجرد عدم ظهور الهلال فيها -

ص: 294

مع صفاء الجو وفقدان أي مانع محتمل عن الرؤية - إلا كموقف مؤقت إلى أن تأتي الأخبار من الأماكن الأخرى بما كان عليه الحال فيها من حيث روية الهلال

وعدمها - نظير ما إذا غمت السماء عندهم ولم يتيسر لهم الاستهلال - مع وضوح أن الأمر لم يكن كذلك.

وبالجملة: لا ينبغي الشك في أن ما كان معياراً لدى العرب قبل الإسلام في بداية الأشهر القمرية لم يكن سوى ما ذُكر آنفاً دون ما أفاده قدس سره.

ولما جاء الدين الإسلامي الحنيف أقرّ العرب على اعتمادهم على الأشهر القمرية، قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (البقرة:189) أي أنها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم، وقد بنى الشارع المقدس مختلف أحكامه وتشريعاته على حساب الشهور القمرية، ولم يرد منه ما يفي بالردع عما جرت عليه سيرة الناس في ما هو المعيار في بداية الشهر القمري، ولو ورد لاشتهر وذاع لمسيس الحاجة إليه كما هو ظاهر».

ويرد عليه:-

1- إن الاعتماد على الهلال لا يختص بالعرب حتى يتحدث عن مناسبة هذا الحساب لأحوالهم بل عرفته الأمم القديمة كأهل الصين واليونان قبل الميلاد ولهم في ذلك حسابات، وهذا الاعتماد ليس لما ذكره (دام ظله الشريف) وإنما لأن ولادة الهلال ونموّه حتى اختفائه ظاهرة يمكن تمييزها كل شهر، وأنَّ القمر له منازل متدرجة -بالنور- خلال أيام الشهر قال تعالى: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» (يس : 39) «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ» (يونس : 5) فيعرف من كل منزل تأريخ اليوم الذي هم فيه من الشهر فمن الوضوح تمييز الليلة الأولى والثانية عن الليالي البيض والتربيع الأول والثاني عن الثالث والرابع وهكذا، أما الشمس

ص: 295

فلها منظر واحد يتكرر على مدى الأيام فلا يتميز من خلالها شهر عن شهر وأن اليوم هو الأول أو الخامس عشر من الشهر الشمسي، نعم يُعرف من حركة الشمس الفصول الأربعة والسنون الشمسية، فحدد الفرس مثلاً الانقلاب الربيعي يوم النوروز بداية السنة الجديدة وهكذا.

والخلاصة أن ملاحظة الشمس والقمر ليست قضية مانعة جمع وإنما لكل منهما مورده.

2- إن المشكلة التي ذكرها بقوله: «وأما جعل المعيار..» غير واردة فإن الشرع لم يكلفهم الفحص في جميع البلدان وإنما دعاهم إلى اعتماد الرؤية في الحدود المتعارفة ولا يجوز لهم التوقف عن ترتيب الآثار على الرؤية المعتبرة أو عدمها لمجرد احتمال رؤيته في مكان آخر، ويكفيهم عدم العلم بوجود غير ذلك، ثم لو جاءهم ما يخالف ما بنوا عليه ولو بعد مدة قضوا يوماً ونحو ذلك من المعالجات وهذا ما نطقت به الروايات فما المشكلة فيه؟ ولذا تجد إطلاقات كفاية الرؤية في الأمصار واردة في روايات القضاء وليس الأداء حيث في القضاء مدىً واسع من الوقت ولو بعد عدة أشهر، ولو علّق الأداء على الرؤية في الأمصار لحصل الإشكال المذكور، فلا بد أن نلتفت إلى عظمة روايات أهل البيت (عليهم السلام) فلا هي أهملت تبليغ الحكم بكفاية الرؤية في البلاد البعيدة، ولا هي ربطته بالأداء لتعذّر الالتزام بها.

3- يمكن ادعاء أن وسائل الاتصال وإن كانت لا تسمح بمعرفة حال الهلال في البلدان البعيدة إلا أن الشارع المقدس جعل دلالات وعلامات على إمكانية رؤيته في تلك البلدان كالتطوق ورؤية الهلال في نهار اليوم التالي قبل الزوال للدلالة على أن الشهر قد دخل من الليلة السابقة وقد وردت فيها روايات معتبرة فيكون هذا الفهم طريقاً للعمل بها بدل إهمالها، وقد عرضناها في الفصل الأول عن طرق ثبوت الهلال أما اليوم وقد قطعت

ص: 296

وسائل الاتصال أشواطاً مذهلة فالأمر واضح ويكون هذا شاهداً على حيوية الإسلام وقدرته على مواكبة التطورات والتحديات.

4- قوله: «ولم يرد منه ما يفي بالردع» غير تام لوجود الروايات التي استدل بإطلاقها الفريق الآخر على كفاية رؤية الهلال وفي بعضها (أهل الأمصار) وفي البعض الآخر (جميع أهل الصلاة) فتكون هذه الإطلاقات حاكمة على تلك السيرة وموسّعة لها.

5- إن الالتزام بوحدة البلدان المتباعدة بالهلال لا ينافي كون الشهر والهلال معنى متعارفاً ومشهوراً لدى الناس، إذ ما الفرق بين أن يُكتفى لثبوت الهلال في النجف بثبوته في الكويت – القريبة عندهم- أو في مصر – البعيدة عندهم-؟ وأنت ترى المسلمين اليوم يطالبون بهذه الوحدة للعالم كله ولا يرون فيه أمراً مجهولاً.

6- إن هذا الأمر يمكن تصوره عرفاً أو اجتماعياً باعتبار وحدة المرجعية للناس فإذا بنت على كفاية رؤيته في البلدان البعيدة فإن الناس تتبع مرجعيتها.

7- النقض عليه بما ورد في جملة من الروايات من سؤال أهل المدينة لأهل الشام (رواية كريب) وأهل بغداد لأهل المدينة (رواية أبي علي بن راشد) متى صاموا وأفطروا والسؤال عن الهلال في بلاد الأندلس (في الشاهد الخامس). وهذا كاشف عن عدم وجود حزازة عرفية في اعتماد البلدان المتباعدة على بعضها في قضية الهلال.

قال (دام ظله الشريف): « (الشاهد الثاني) أن مقتضى الالتزام بدخول الشهر في البلاد الواقعة في شرق بلد الرؤية من جهة اشتراكها معه في جزء من الليل هو إمّا تبعض الليلة الواحدة فيها بين شهرين بأن يكون أولها إلى اللحظة التي رُئي الهلال فيها في ذلك البلد الغربي من الشهر السابق وما بقي

ص: 297

من الشهر اللاحق، وإما ابتداء الشهر فيها قبل قابلية الهلال للرؤية في أي مكان في الأرض، وكلا الأمرين بعيد عن المرتكزات العرفية».

أقول: هذا الإشكال أورده عدد من المدافعين عن المشهور ومنهم السيد الطهراني في رسالة الردود على السيد الخوئي(1)

وورد مثله في ما نقله المحقق النراقي (قدس سره) عن المانعين من اعتبار رؤية الهلال في النهار بقوله: «لا يصدق ذلك أول النهار قبل الرؤية، فالصوم فيه أو الإفطار يكون لا للرؤية»(2)

حيث يلزم من القول باعتبارها تبعّض النهار فيكون ما قبل الرؤية من الشهر السابق وما بعدها من الشهر اللاحق.

ويرد عليه:-

1- يلتزم القائل بالشق الثاني أي أن ليلة الرؤية في البلد الآخر هي من الشهر الجديد من أولها وإن لم يكن الهلال قابلاً للرؤية ولا محذور فيه بعد قيام الدليل الشرعي على كفاية رؤية الهلال في أي جزء من الليل لاعتبار تلك الليلة هي الأولى من الشهر الجديد باعتبار وحدة الزمان عرفاً، ويمكن تصوره على نحو الشرط المتأخر.

وأذكر لكم مثالاً على ذلك لا يخلو من فائدة تأريخية، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) هاجر في شهر ربيع الأول وسبقه من تلك السنة شهران: محرم وصفر، وقعا قبل الهجرة حيث تبدأ السنة القمرية من شهر محرم، فبعضهم عدَّ السنة الأولى من الهجرة تبدأ من ربيع الأول لذا تكون عنده وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) في صفر من السنة العاشرة من الهجرة وليس الحادية عشرة واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في محرم من سنة 60 للهجرة وليس 61 لكنه بقي رأياً شاذاً والمعمول به أن السنة التي

ص: 298


1- رؤية هلال: 2/1307.
2- مستند الشيعة: 10/427.

وقعت فيها الهجرة هي السنة الأولى ويدخل فيها محرم وصفر باعتبار وحدة السنة وإن كانا قبل الهجرة الفعلية، فإذا رأيتم بعض الاختلاف التأريخي في المصادر فهذا منشأه.

2- ينقض على هذا الشاهد بأن أول أزمنة إمكان رؤية الهلال لو تحقق في بلد فإنه يثبت عنده في البلاد التي إلى شرقه إذا كانت قريبة والقرب عندهم يمتد إلى عدة مئات من الكيلومترات فالهلال يكون هناك غير قابل للرؤية ومع ذلك فإنهميقولون بثبوت الشهر فيأتي عليه نفس المحذور، وربما ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك في البلاد العريضة كإيران فإنهم قالوا به باعتبار وحدة الأرض عرفاً فالمورد مثله.

فهذان الشاهدان اللذان جعلهما عمدة الشواهد لا يتمان، ومن الغريب اعتماد هذه الوجوه الاعتبارية كأدلة، أو مقيدات لظهور الروايات الصحيحة في إطلاق كفاية رؤية الهلال في أي بلد وفي بعضها تصريح بكفاية الرؤية في جميع الأمصار أو من عامة أهل الصلاة، وهذا التعامل لا نعرف له وجهاً.

« (الشاهد الثالث) أن مقتضى كون العبرة في دخول الشهر الجديد في بلد المكلف برؤية الهلال ولو في بلد آخر بعيد عنه جداً هو أن صيام النبي (ص) و الأئمة (عليهم السلام) وفطرهم وحجهم وسائر أعمالهم التي لها أيام محددة في الأشهر القمرية لم تكن تقع في كثير من الحالات في أيامها الحقيقية لوضوح أنهم عليهم السلام كانوا يعتمدون في تعيين بدايات الأشهر الهلالية على الرؤية في بلدانهم أو البلدان القريبة منها مع أن في كثير من تلك الشهور كانت الرؤية متيسرة في الليلة السابقة في بعض الأماكن البعيدة جداً كما يُعرف ذلك بمراجعة البرامج الكمبيوترية الحديثة التي تبين أوضاع القمر لآلاف السنين(1)الماضية

ص: 299


1- هذه مبالغة في قدرات هذه البرامج لأن هناك متغيرات كونية تمنعهم من تصميمها لآماد طويلة.

والآتية.

أي أنه في حالات غير قليلة كان هلال شوال - مثلاً- قابلاً للرؤية في أستراليا أو جنوب أفريقيا أو أمريكا الجنوبية في ليلة السبت مثلاً ولكنه لما لم يكن قابلاً للرؤية في المدينة المنورة أو العراق في تلك الليلة -كما يحدث مثله في زماننا كثيراً- كان النبي (ص) أو الإمام (ع) يصوم ذلك اليوم مع أنه في واقع الحال كان يوم عيد الفطر الذي لا يشرع فيه الصوم في حقه، و هذا بعيد في حد ذاته.

ويزيده بعداً أنهم عليهم السلام لم يكن ينقصهم العلم بما يعرف به وضع الهلال في الأماكن الأخرى،لأنه لا يتوقف إلا على إجراء محاسبة علمية دقيقة للتوصل إلى درجة ارتفاع الهلال على الأفق ومقدار بعده الزاوي عن الشمس ونسبة القسم المنار إلى أكبر قطر يبلغه القرص، وهذه المحاسبة لم تكن بعيدة عن معرفة أهل الحساب من العرب وغيرهم حتى في عصرهم (ع)، فمتى عُلم أن الهلال سيكون في استراليا مثلاً بارتفاع اثنتي عشرة درجة وبعيداً عن الشمس بمقدار ثماني درجات وتبلغ نسبة القسم المنار (3%) مثلاً يقطع عندئذ بكونه قابلاً للرؤية بالعين المجردة في تلك البلدان لولا الموانع من غيم أو نحوه وإن لم يكن قابلاً للرؤية في الجزيرة العربية أو العراق، ولا حاجة في معرفة ذلك إلى علم الغيب لكي يقال: إنهم عليهم السلام لم يكونوا يستخدمونه في هذه المجالات.بل لم تكن معرفة ذلك -إجمالاً - بالذي يتوقف على إجراء المحاسبة الدقيقة وإنما يكفي فيها الوقوف من خلال الاختبار والتجربة على اختلاف حال الأمكنة والبلدان من حيث إمكانية رؤية الهلال فيها وهو ما كان معلوماً للكثيرين.

ومهما يكن فلا ريب في أن صيام النبي (ص) والأئمة (ع) وفطرهم إنما كان وفق ما تقتضيه رؤية الهلال في بلدانهم أو ما يقرب منها وإن كان الهلال -

ص: 300

في واقع الحال - قابلاً للرؤية من قبل ذلك في بعض الأماكن البعيدة جداً كبلاد الشام والحبشة.

ومن الروايات التي تؤكد ذلك معتبرة أبي علي بن راشد قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري عليه السلام كتاباً وأرّخه يوم الثلاثاء لليلة بقيت من شعبان وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان يوم الأربعاء يوم شك وصام أهل بغداد يوم الخميس، وأخبروني أنهم رأوا الهلال ليلة الخميس، ولم يغب إلا بعد الشفق بزمان طويل. قال: فاعتقدت أن الصوم يوم الخميس وأن الشهر كان عندنا ببغداد يوم الأربعاء. قال: فكتب إلي: (زادك الله توفيقاً فقد صمت بصيامنا). قال: ثم لقيته بعد ذلك فسألته عما كتبت به إليه. فقال لي: (أولم أكتب إليك إنما صمت الخميس ولا تصم إلا للرؤية).

ووجه الاستشهاد بهذه الرواية هو تصريح الإمام الهادي عليه السلام فيها بأن يوم الخميس كان أول أيام رمضان عام 232 للهجرة سواء في بلد سكناه (ع) آنذاك وهو المدينة المنورة(1) أو في بلد السائل وهو بغداد، مع أن مقتضى الحسابات الفلكية الدقيقة أن هلال رمضان كان قابلاً للرؤية بكل وضوح في ليلة الأربعاء الموافق ( 20 نيسان عام 847 للميلاد) في معظم القارة الأفريقية والأمريكتين».

أقول: استفاد مقرر الرسالة من مناقشاتنا لتقريرات بحثه في العرض الأول للبحث(2)عام 1430 ه_ من أكثر من جهة:-

ص: 301


1- قال ابن الجوزي في (المنتظم ج3 ص: 364) في حوادث سنة ثلاث وثلاثين ومائتين: (وفي هذه السنة قدم يحيى بن هرثمة -وكان والي طريق مكة- بعلي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر من المدينة). من هامش المصدر.
2- راجع فقه الخلاف: 4/274، الطبعة الأولى 1430 هج_.

1- الدراسة التأريخية للرواية ومراجعة الخرائط الفلكية لهلال شهر رمضان 232 ه_ للتأكد من صحة ما في الرواية وهذه الأمور مما أضيفت إلى الرسالة.

2- إعادة تقريب الاستدلال بالشاهد فقد كان مبنياً على الظن والتخمين برؤية الهلال في الليلة السابقة في بلد يشترك مع بغداد بالليل مستنداً إلى طول مكثه في الأفق، قال (دام ظله الشريف) في تقريرات بحثه: «إذا لاحظنا قول الراوي بأن الهلال مكث بعد الشفق زماناً طويلاً فهذا يعني أن خروجه من المحاق كان منذ أكثر من 15 ساعة، لذا اعتقد الراوي أنه كان قابلاً للرؤية ليلة الأربعاء على الأقل في بعض الأماكن المشتركة مع بغداد في جزء من آخر الليل فلو كان هذا المقدار كافياًخصوصاً على مسلكه من استمرار الليل حتى طلوع الشمس فمقتضاه أن أول شهر رمضان يوم الأربعاء لا لقابليته على الرؤية بل لرؤيته في بلد غربي عن بغداد مشترك معها بالليل مع أن الإمام (عليه السلام) أكد على أن صوم رمضان كان ابتداؤه يوم الخميس فيدلّ قطعاً على عدم الاعتبار بالاشتراك بجزء من الليل. على فرض اعتبار سند الرواية فيستشهد بها على مبنى المشهور»(1).

أقول: هذا الشاهد قابل للمناقشة من عدة جهات:-

1- إن قابلية رؤية الهلال في أستراليا أو الأمريكتين أو جنوب أفريقيا لا تنفعه إلا في الرد على خصوص قول السيد الخوئي (قدس سره) الذي ذهب أولاً إلى وحدة الشهر لجميع البلدان في العالم ثم قيّدها بالاشتراك في الليل، ولا يصلح هذا الشاهد للرد على بعض الأقوال الأخرى كمختارنا في وحدة الهلال للبلدان الإسلامية خاصة.

2- إن الموقف الشرعي في قضية دخول الشهر هو تحرّي الهلال عند غروب شمس التاسع والعشرين في المناطق المتيسرة فإذا ثبتت رؤية دخل الشهر

ص: 302


1- محاضرة بتأريخ 14/ ج2/1417.

الجديد وإلا أكمل العدة وليس عليهم أزيد من ذلك وإذا ثبت لاحقاً رؤية الهلال قبل يوم في بعض البلدان البعيدة أو رؤي الهلال بعد 28 يوماً كما في رواية عبد الله بن سنان وجب عليهم القضاء، وإن تقصّي أخبار الهلال في البلدان موجود في الروايات كرواية أبي علي بن راشد المذكورة في هذا الشاهد ورواية كريب عند العامة فما استبعده واقع وموجود في سيرة الأئمة (عليهم السلام).

3- ذكرنا في أكثر من موضع من البحث أنه على فرض صحة عمل الحاكم بعلمه الشخصي فإنه مختص بفضّ الخصومات ولا يتعدى إلى الحكم بثبوت الهلال لأن مسألة الهلال فيها جنبة إثباتية حيث أن الهلال ظاهرة معروفة ومشهورة للناس وإنما سمي الشهر شهراً لأجل هذا فتلاحظ هذه الحيثية في الهلال ولا يكفي العلم الخاص.

ويظهر من الروايات أن الأئمة (عليهم السلام) لم يجروا الناس على علمهم الخاص ولم يخبروهم به في قضية الهلال كمرسل عبد الله بن سنان(1)

المتضمن صيام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمانية وعشرين يوماً في الكوفة مما يدل على عدم بناء الإمام (عليه السلام) على استعمال علمه الخاص في إثبات رؤية الهلالللناس ولو استعمله لأعلمهم بالهلال من أول الوقت، ولكنه (عليه السلام) أجراهم على ما يعرفون من القواعد، أما هو (عليه السلام) فإنه عارف بتكليفه الخاص، وربما كان الإعلان عن أول شهر رمضان من قبل قاضي الكوفة شريح ولم يشأ (عليه السلام) التدخل في

ص: 303


1- عن عبد الله بن سنان عن رجل قال: (صام علي عليه السلام بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً شهر رمضان، فرأوا الهلال فأمر منادياً ينادي: اقضوا يوماً، فإن الشهر تسعة وعشرون يوماً) (التهذيب: 4/158، ح444.

قراره رعاية لمصالح اجتماعية ولمستوى إيمان الناس وطاعتهم كما في عدة حوادث أخرى.

4- يمكن القول أن الهلال وإن كان قابلاً للرؤية في بلد بعيد عن أهل هذه البلدان التي لم تر الهلال فإن عدم بناء الإمام (عليه السلام) على تلك الرؤية لا يلزم منه عدم اعتبار تلك الرؤية، وإنما لم يعمل بها المعصوم (عليه السلام) لمصالح معينة، من دون أن يضرّ بصحة العمل بعد أن قام الدليل الشرعي عليه، ويمكن تصوره على أساس أن الأزمنة والأمكنة قابلة للتوسعة بالجعل الشرعي إذا ثبت ذلك بالدليل كإجزاء الوقوف في عرفة مع قضاة العامة عند الاختلاف معهم، واتساع منى إلى وادي محسَّر إذا ضاقت بالحجاج وقد تقدم بيان ذلك في مبحث إجزاء الوقوف بعرفة، فاليوم الذي يثبت عند الناس أنه يوم صومهم أو فطرهم أو نحرهم يكون العمل عليه ما لم يظهر الخلاف ووردت في ذلك رواية أبي الجارود وناقشنا المطلب تفصيلاً في بحث إجزاء الوقوف بعرفة(1).

5- إن ما ذكره (دام ظله الشريف) من المعطيات الفلكية والحسابات التي يعرف من خلالها قابلية رؤية الهلال كالبعد الزاوي والارتفاع عن الأفق ونسبة الجزء المنير هي معلومات حديثة ولم تكن معروفة يومئذٍ ففي قوله: «وهذه المحاسبة لم تكن بعيدة عن معرفة أهل الحساب من العرب» نظر، أما المعروف عندهم فكان حساباً يفيد الظن والتخمين(2) وقد نهى عنه الإمام

ص: 304


1- راجع فقه الخلاف: 7/7، ط. الثانية.
2- قال أبو الريحان المسعودي (ت 440 هج_) في كتابه (القانون المسعودي، الباب الثاني، في ذكر الدلائل على مبادئ الصناعة): «الآراء في المقاصد مختلفة والأقاويل بحسبها كثيرة ... ومبادئ هذه الصناعة وإن كانت ضرورية لاستنادها إلى البراهين المساحية فإنها لم تترتب في الكتب المشهورة بحيث تستحكم الثقة بها فيمكن الإشارة إليها والإحالة عليها، وحتى في كتاب المجسطي الذي هو دستور الصناعة وصاحبه إمام أهلها ..» (القانون المسعودي، لأبي الريحان البيروني، مج1، ص 95، ط. بيضون، دار الكتب العلمية). ثم ناقش البيروني في الباب الرابع عشر، الفصل الأول منه لطرق أصحاب الفلك والهيئة في حساب إمكانية رؤية الهلال، ص 339-345 في ذلك الزمان. (الناشر)

في روايات عامة وفي خصوص رواية محمد بن عيسى عن رؤية الهلال في أفريقيا والأندلس(1)،فكيف يعتبر ذلك علامة على إمكانية رؤية الهلال في تلك البلاد البعيدة؟.وقد تنزّل مقرر الرسالة حتى قَبِلَ ما تفيده الاختبارات والتجارب السابقة في قوله: «إنما يكفي فيها الوقوف من خلال الاختبار والتجربة» فهل هذا طريق شرعي لثبوت الهلال؟.

6- أما الرواية التي جعلها مؤكداً لهذا الشاهد ففيها:-

أ- ضعف سندها على مبانيهم لذا قال في التقريرات: «ويؤيده رواية علي» وشكك في سندها في نهاية كلامه حيث قال: «على فرض اعتبار سند الرواية»، وقد ذكرنا في مناقشتنا وجهاً لاعتمادها حيث وصفها في هذه الرسالة بالمعتبرة، وضعف السند لا من جهة أبي علي بن راشد فقد وثّقه الشيخ في رجاله وكان وكيلاً للإمام الهادي (عليه السلام)، ولكن لأن أحمد بن محمد بن الحسن لم يوثّق على مبانيهم، أما نحن فنبني على قبول رواياته بوجه عرفي وعقلائي لأنه من شيوخ المفيد والحسين بن عبيد الله وابن عبدون وقد أخذوا منه وأكثروا الرواية عنه، وتتلمذوا عنده، فقبول هؤلاء الأعاظم للتلمذة عنده والنسبة إليه مع عدم ورود قدح فيه من أحد؛ قرينة عرفية على قبول روايته وهي غير مجرد الرواية عنه التي

ص: 305


1- وسائل الشيعة: 10/297، كتاب الصوم: أبواب أحكام شهر رمضان، باب 15، ح1.

لا تكفي لاعتماد المروي عنه كالذي قلناه في مسانيد ابن أبي عمير وأضرابه.

أو يقال: إن أحمد من شيوخ الإجازة وإن ذكره من باب اتصال السند وإلا فإن الكتب التي يروي منها معلومة الانتساب إلى أصحابها، فلا يضرّ عدم توثيقه، كمن ينقل اليوم لنا رواية عن الكافي فإن عدم وثاقته لا تضرّ بصحة وجود الرواية في الكتاب لأنه بين أيدينا ونستطيع التحقق من ذلك.

وهنا نكتة علمية طريفة تفيد في إثبات صحة الرواية فقد أرفقنا مخطط إمكانية رؤية هلال شهر رمضان/232 هجرية ويظهر منه عدم إمكانية الرؤية يوم الثلاثاء في البلدان التي ذكرتها الرواية (العراق والحجاز) وهذه قرينة على دقة مضمون الرواية وصحّتها من هذه الجهة على الأقل.

ب- إنها لا تفيد التقريب الذي ذكره في التقريرات لأنها بصدد بيان عدم الاعتماد على الظنون والتخمينات بأن الهلال قد مكث طويلاً فهو للّيلة السابقة، وإنما يثبت الهلال بالرؤية كما أفادت روايات عديدة، والملازمة التي تحدّث عنها (دام ظله الشريف) من هذه التخمينات فالرواية ناهية عنها فكيف يستدل بها على إمكانية رؤية الهلال في الليلة السابقة؟.

ج_- إمكان الاستدلال بها على عكس المشهور لأن تأريخها سنة 232 ه_ والإمام الهادي (عليه السلام) لا يزال في المدينة حيث أشخصه المتوكل إلى سامراءعام 233 ه_(1)،والراوي يسأله عن الصوم في بغداد –

ص: 306


1- في (تأريخ الطبري: 11/31 حوادث سنة 233): «وفيها قَدِمَ يحيى بن هرثمة مكة وهو والي طريق مكة بعلي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر من المدينة».

والإمام (عليه السلام) يجيبه: (صمت بصيامنا)- وهذا يعني أن هلالهما واحد حكماً مع أن المشهور لا يعتبر بغداد والمدينة متقاربتين.

«الشاهد الرابع: خبر معمر بن خلاد عن أبي الحسن قال: كنت جالساً عنده آخر يوم من شعبان فلم أره صائماً فأتوه بمائدة فقال: (ادنُ) وكان ذلك بعد العصر فقلت له: جعلت فداك صمت اليوم فقال لي: (ولمَ؟) قلت: جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) في اليوم الذي يُشك فيه أنه قال: يومٌ وُفق له، قال: (أليس تدرون أنما ذلك إذا كان لا يُعلم أهو من شعبان أم من شهر رمضان، فصامه الرجل فكان من شهر رمضان كان يوماً وُفّق له، فأما وليس علة ولا شبهة فلا..).

ووجه الاستشهاد بهذه الرواية هو أن الإمام (عليه السلام) قد جعل المناط في مطلوبية الاحتياط بصيام اليوم الذي يعقب التاسع والعشرين من شهر شعبان هو عدم العلم بكونه من شعبان أو من رمضان، مع أن أقصى ما يقتضيه خلو السماء من الغيم ونحوه وعدم الشبهة في وجود ما يمنع من رؤية الهلال في بلد المكلف هو العلم بعدم ظهوره فيه بنحو قابل للرؤية بالعين المجردة، فلو كان يكتفى في دخول الشهر في بلد بقابلية الهلال للرؤية ولو في أفق بلد آخر لصدق على ذلك اليوم أنه مما لا يُعلم كونه من شعبان أو رمضان فلا يتجه نهي الإمام (عليه السلام) عن صيامه احتياطاً، وهذا ظاهر»(1).

أقول: تقريبه (دام ظله الشريف) مبني على كون النهي عن الصوم كان لعدم وجود احتمال كون يوم الشك من شهر رمضان بعد تعذر رؤيته وعدم وجود علة في السماء فيدلّ على عدم اعتبار الرؤية في البلاد البعيدة، وهو تفسير غير تام لعدة وجوه:-

ص: 307


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 17-18.

1- إن الترديد في يوم الشك موجود حتى على القول المشهور أيضاً لاحتمال رؤية الهلال في بعض البلدان المشمولة بوصف القريبة التي لا يتيسّر وصول أخبارها في ليلة تحرّي الهلال وهي تمتد مئات الكيلومترات عندهم. فمسوِّغ الاحتياط موجود على جميع التقادير فلا يمكن تفسير النهي على هذا الأساس، ولا يتم تقريب الاستدلال.

2- من أين يحصل العلم للناس يومئذٍ بأن الهلال يمكن أن يرى في تلك الليلة في أراضٍ بعيدة ما داموا لم يروه في بلادهم خصوصاً على القول بكفاية الرؤية في البلدان الإسلامية خاصة، وقول الحسّاب منهي عن قبوله لأنه لا يفيد إلا الظن والتخمين.إن قلتَ -ردّاً على النقطتين أعلاه- بأن الترديد ينتفي والعلم يحصل من القطع بالملازمة في الرؤية وعدمها بين البلدين المتقاربين.

قلتُ: تقدّم أن هذه الملازمة لا تتحقق إلا في القدر المتيقن وهو أضيق بكثير مما يلتزمون به في تطبيقات البلدان المتقاربة.

3- الرواية ضعيفة السند عنده لذا وصفها بالخبر، وحَمْلُ النهي على ظاهره بعيد إذ أن استحباب صوم شعبان عموماً وأيامه الأخيرة خصوصاً ثابت في الروايات فلا بد أن نفهم النهي عن صوم يوم الشك في ضوء بعض العناوين الثانوية كنيّته من شهر رمضان أو للرد على الخطّابية الذين قالوا بوجوب صوم شعبان، قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب: «فأما الأخبار التي وردت في النهي عن صوم شعبان وأنه ما صامه أحد من الأئمة (عليهم السلام) فالمراد بها أنها لم يصمه أحد من الأئمة (عليهم السلام) على أن صومه يجري مجرى شهر رمضان في الفرض والوجوب، لأن قوماً قالوا: إن صومه فريضة، وكان أبو الخطاب لعنه الله وأصحابه يذهبون إليه، ويقولون: إن من أفطر يوماً منه لزمه من الكفارة ما يلزم من أفطر يوماً من شهر

ص: 308

رمضان، فورد عنهم (عليهم السلام) الإنكار لذلك، وأنه لم يصمه أحد منهم على هذا الوجه»(1).

فالإمام (عليه السلام) بصدد معالجة فتنة أو شبهة موجودة، فالرواية أجنبية عما استدل به (دام ظله الشريف).

4- إن قوله (عليه السلام): (وُفّق له) يعني أنه وُفّق لصوم يوم من شهر رمضان ولم يأخذ بالرخصة في الإفطار لعدم ثبوت الشهر ثم القضاء لاحقاً إذا بان الخلاف، فمن هذه الناحية لا فرق بين وجود علة في السماء وعدمه، وقوله (عليه السلام): (فلا) لنفي توهم وجوب صوم يوم الشك، ولا يدل على نهي الراوي عن الصوم، لذا لم يأذن له في الإفطار في ذيل الرواية (فقلت: أفطر الآن؟ فقال: لا، فقلت: وكذلك في النوافل ليس لي أن أفطر بعد الظهر؟ قال: نعم).

5- إن مفهوم قوله (عليه السلام): (فأما وليس علة ولا شبهة فلا) -لو سُلّم- فإنه لا إطلاق له حتى يمكن الاستدلال به على نفي رجحان الصوم لشيء آخر غير وجود علة في السماء، كما لو كان لاحتمال رؤيته في بلدان أخرى.

«الشاهد الخامس: معتبرة محمد بن عيسى قال: (كتب إليه أبو عمرو: أخبِرني يا مولاي إنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه ونرى السماء ليست فيها علة ويفطر الناس ونفطر معهم ويقول قوم من الحُسّاب قِبَلنا: إنه يُرى في تلك الليلة بعينها بمصر وافريقية والأندلس، هل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذاالباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم

ص: 309


1- وسائل الشيعة: 10/297، كتاب الصوم، أبواب الصوم المندوب، باب 28، وأبواب وجوب الصوم ونيته، باب 5، باب 6.

خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع: لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته)(1).

ووجه الاستشهاد بهذه الرواية هو دلالة كلام السائل على ارتكاز فكرة اختلاف الآفاق في ذهنه بحيث لم يكن يشك في أنه على تقدير صحّة قول الحسّاب من رؤية الهلال في تلك الليلة بمصر وافريقية والأندلس سيختلف الفرض على أهل الأمصار أي يكون صيام رمضان واجباً على خصوص من كان الهلال قابلاً للرؤية في بلدانهم، ولم يخطر بباله احتمال أن يجب الصيام على أهل بلده بالرغم من عدم قابلية الهلال فيه للرؤية وإن رُئي في بلد آخر.

وأما جواب الإمام (ع) فلا يدل على ردع السائل عن المرتكز المذكور إن لم يدل على إقراره عليه كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى»(2).

أقول: هذا الشاهد قابل للمناقشة بأكثر من وجه:-

1- لا تدل الرواية على ارتكاز فكرة اختلاف الآفاق في ذهن السائل بل بالعكس فإن ظاهر السؤال كونه عن اختلاف الآفاق موضوعاً لا حكماً لقوله: (هل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب)، أي يسأل هل يمكن أن لا ترى بلادٌ الهلال- كبغداد والحجاز- وتراه بلاد أخرى كأفريقيا والأندلس ويكون تعبيره صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا تفريعاً من السائل أو كناية عن إمكان اختلاف أول شهر رمضان وشهر شوال بيننا، وقد تقدم وجود تصور عدم اختلاف البلدان في الآفاق لدى القدماء كذهاب العلامة إلى أن الأرض رغم كرويتها إلا أن الجزء المسكون وهو ربعها لا يظهر فيه اختلاف الآفاق وذهب صاحب الحدائق إلى أن الأرض مسطحة فلا

ص: 310


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 15، ح1.
2- رسالة: أسئلة حول رؤية الهلال: ص 19.

اختلاف في الآفاق فلكياً أصلاً، فالسؤال عن حقيقة هذا الاختلاف ووجوده، ومثل هذه الموضوعات يصح سؤال المعصوم عنها ولا يختص السؤال بالأحكام، ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال.

2- ولو سُلّم ارتكاز السائل فإن الإمام (عليه السلام) أعرض عنه ولم يجبه وأجاب بالنهي عن الظن والتخمين، وهذا الإعراض تفنيد للارتكاز المذكور ولو كان ما ذهب إليه المشهور صحيحاً لكان الأولى في الجواب أن يقال: (إن رؤية الهلال في أفريقيا والأندلس ليس حجة عليكم فلا فرق بين صحة كلام الحسّاب وخطأهم.

فتكون الرواية على خلاف المشهور أدلّ وكأن الإمام (عليه السلام) أراد ترك هذا الحكم ليستنبطه المتأخرون في زمان تقدم وسائل الاتصالات.

الشاهد السادس: -وهو لم يذكر في الرسالة وإنما أنقله من تقريراتي- قال فيه: «وهنا رواية أخرى -أي الشاهد السادس- وهي معتبرة أبي أيوب إبراهيم بنعثمان الخزاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: كم يُجزي في رؤية الهلال؟ فقال: إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظني، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر)(1).

وتقريب الاستدلال: أن ردّ شهادة الواحد إذا لم تكن في السماء علة هو التعارض، فإذا تصدّى جماعة لرؤيته ورأى عدد ولم ير جماعة وكانوا متفقين بالحال فيحصل تعارض بين النافي والمثبت وفي مثله لا تكون البيّنة حجة، والكلام في الذيل بقوله (عليه السلام): (إذا كان في السماء علة قبلت شهادة

ص: 311


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10.

رجلين يدخلان ويخرجان من مصر) فإن شهادة الرجلين الداخلين والخارجين لا معارض لهما فتقبل، لكن الإمام (عليه السلام) قيّد (إذا كان في السماء علة) ومفهومه إذا لم يكن في سمائكم علة فلا تقبل شهادة الرجلين، ووجهه حصول المعارضة، وهذا المفهوم –بعدم القبول- شامل حتى مع الاشتراك في ليلة واحدة، ولو تم هذا المبنى لكان من اللازم القبول.

لكننا استشكلنا في ذلك، لأن مورد الرواية صوم يوم الشك، فقال فيه الإمام (عليه السلام) ليس الصوم بالتظنّي وفي مثل يوم الشك لا يتيسّر كون الرجلين من البلاد البعيدة فليس فيها إطلاق للأماكن البعيدة حتى نستفيد منها المفهوم، فهذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها»(1).

أقول: يكفي في رده ما استشكل (دام ظله) به على التقريب، مضافاً إلى عدم وجود إطلاق للمفهوم والنقض عليه بما لو رُئي في بلد قريب ولم يكن في السماء علة فإنه يأخذ به.

ثم قال (دام ظله الشريف): «لكن الشواهد السابقة خصوصاً الأول والثاني كافية في عدم إمكان اعتماد الوجه الأول –أي وحدانية الظاهرة الكونية - الذي أفاده سيدنا الأستاذ».

أقول: النظرة الإجمالية للوجوه تكشف عن أنها تقريبات اعتبارية واستفادات عرضية غير مقصودة بشكل مباشر من الخطاب حتى تلحق بالظهور فلا تصلح للتصرف في إطلاقات الروايات المعتبرة التي استدل بها القائلون بالتعميم فالأولى الاكتفاء بمناقشة الإطلاق المدعى في تلك الروايات.

ص: 312


1- محاضرة بتأريخ 15/ ج2/1417.

مانع من قول المشهور:

ثم أورد (دام ظله الشريف) في بحثه على قول المشهور بكفاية الرؤية في بلد آخر إذا كانا متقاربين إشكالاً حاصله «عدم إمكان الالتزام بالضابطة الكلية المذكورة أي أن مجرد قرب بلد يرى فيه الهلال من بلد لم يُرَ فيه كافٍ لثبوته في الثاني، فيمكن النقض عليه حتى مع غاية قرب البلدين كما لو رئي في بلد غربي في أول أزمنة إمكان رؤيته، ويكون البلد الشرقي مختلفاً عنه بنصف درجة وهذا يعني غروب الشمس فيه قبل الغربي بدقيقتين، وما دام قد رئي في البلد الغربي وهو في أول أزمنة إمكان رؤيته، فكيف يمكن القول بثبوته في البلد الشرقي، إذن لا يمكن الالتزام بكفاية التقارب مطلقاً.

ويمكن الجواب على ذلك بأحد وجهين:-

أ - إنه قد استفدنا من عدة روايات أنه لا يعتبر رؤية الهلال في خصوص بلد المكلف بل إذا ثبت في مصر آخر كفى، والقدر المتيقن منه أن يكون قريباً من بلد المكلف، والفرض المذكور داخل في القدر المتيقن من إطلاقات هذه الأدلة لو تحقق، فبمعونة هذه الروايات يحكم بكفاية الرؤية في بلد قريب لثبوت الآثار وترتبها في البلد القريب».

وردّ (دام ظله الشريف) على هذا الوجه بما سننقله من عدم وجود إطلاق لتلك الروايات وأنها أجنبية عن هذا المعنى فلا قدر متيقن، ثم قال:

ب - «أن يقال أنه بحسب العادة فإن الهلال لا يرى في بلد لمجرد خروجه من الشعاع بل بحسب الملابسات فإنه لا يرى إلا بعد مضي دقائق (هكذا) حتى تتحقق الرؤية الفعلية، ففي بلد الرؤية لا يكون هذا البلد أول بلد مبتعد عن الشمس بالمقدار اللازم، بل إن الغالب أن الهلال لا يرى رؤية

ص: 313

معتبرة بقيام بيّنة بلا معارض أو بالشياع إلا بعد ابتعاده عن أشعة الشمس بمقدار عدة دقائق. وهذا الأمر الغالب بحسب العادة يقتضي كون الهلال في البلد المطلوب المبتعد نصف درجة قابلاً للرؤية في نفسه، وإذا لم ير فلموانع خارجية كوجود الغبار أو السحاب الخفيف، فالملازمة ثابتة».

أقول: مضافاً إلى الإشكالات المتقدمة على معنى البلدان المتقاربة وتعقيد القوانين الطبيعية المؤثرة في رؤية الهلال فإنه:-1- إن الوجه الثاني الذي اعتمده (دام ظله) لم يحل الإشكال، لأن المستشكل ناظر إلى أول بلد تتوفر فيه إمكانية الرؤية فكيف جاز له افتراض إمكان رؤيته في بلد قبله؟ ولو افترضنا مثل ذلك فننقل الإشكال إلى ذلك البلد.

2- إن قوله (دام ظله): «لا يرى الهلال في بلد بمجرد خروجه من تحت الشعاع» مما يتفق عليه القائلون بالتعميم لذا ميّزوا بين الشهر القمري الطبيعي والشرعي فلا معنى لافتراضه وجعله سبباً لإمكان رؤية الهلال في البلد الشرقي الذي لم يُرَ فيه.

3- إنه يفترض معنى ضيقاً للبلدان المتقاربة بينما يلتزم بكفاية الرؤية في بلدان أبعد من هذا كما ورد في بيان مكتبه: (العراق والبلدان القريبة).

وخلاصة مناقشة القول الأول عدم رجوعه إلى معنى منضبط يمكن الركون إليه واعتماده، إذ لا يعرف ما هي حدود البلدان القريبة التي يقصدونها، فإن أرادوا القريبة جداً أي البلد وما يليه فهذا معنى غريب فقهياً وعرفياً وهو أضيق مما جرت عليه سيرتهم العملية خصوصاً في الدول الكبيرة، كما أن إطلاقات روايات كفاية الرؤية تأباه.

وإن أرادوا أوسع من ذلك حتى مثل شمال العراق وجنوبه فإن القوانين الرياضية للعوامل المؤثرة في العملية أثبتت عدم اتفاقها دوماً في إمكانية الرؤية، بل قد لا تتفق حتى البلدان القريبة جداً في إمكانية الرؤية إذا افترضنا رؤيته في أول أزمنة قابليته للرؤية بحيث لم يكن ممكناً رؤيته قبل ذلك.

ص: 314

وإذا قصدوا بالأمصار القريبة البلاد المتحدة بالأفق وفق القوانين الدقيقة التي اكتشفت، فإنه معنى لا يمكن تعقّله من الروايات لأنها تشمل بلداناً من أقصى شرق الأرض إلى غربها كما في الأشكال المرفقة.

ص: 315

القول الثاني

وهو كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في جميع البلدان التي إلى غربه، وقد استدلوا عليه –كما نقلنا عن الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس والسيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك والسيد الخوئي (قدس سره) في المستند- بالأولوية القطعية، باعتبار أن الأرض تدور من الغرب إلى الشرق، وأن الهلال كلما مرّ عليه الوقت كان أكثر إنارة وأوضح فإذا رئي في بلد عند الغروب، فإن البلاد التي إلى غربه يتأخر الغروب عندها عنه وهو يقتضي كون الهلال أكثر وضوحاً.

قال الشيخ المنتظري (قدس سره): «حيث أن القمر لا يرجع ولا يتوقف في سيره فالرؤية في البلاد الشرقية تستلزم ثبوت الهلال في البلاد الغربية بالأولوية القطعية أيضاً، ولا يمكن رؤية الهلال هناك من دون قبوله للرؤية هنا وهذا القول هو المعتمد عندنا»(1).

وقال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في تعليقته على منهاج الصالحين للسيد الخوئي (قدس سره): «إذا ثبت في المنطقة الشرقية يثبت في المنطقة الغربية دون العكس».

ويرد عليه: أن هذا القول مبني على النظر إلى القضية ببساطة وأنّ الأرض تدور حول محورها بشكل عمودي، وكأن كل البلدان التي تقع على خط طول واحد يكون لها أفق واحد مع أن القضية أعقد من ذلك بكثير وأن لموقع البلد من خطوط العرض دخلاً في قابلية الرؤية، وأن العوامل المؤثرة في قابلية رؤية الهلال كثيرة، والأرض لا تدور عمودية على محورها وإنما بشكل

ص: 316


1- رسالة في (الأفق أو الآفاق في مسألة الهلال) تقرير محاضرات الشيخ المنتظري: 17.

مائل ويختلف اتجاه الميلان باختلاف الفصول وهو يؤثر أيضاً على رؤية الهلال(1).

وقد أصبح من الواضح اليوم إمكانية رؤية الهلال في بلد في أقصى الشرق كأستراليا وعدم رؤيته في بلد إلى غربه كالعراق وبينهما 90 خط طول أي فرق في التوقيت مقداره ست ساعات (لاحظ المخططات المرفقة)، والسبب أن لموقع البلد من خطوط العرض دخلاً في قابلية رؤية الهلال فقد تكون فرصة رؤية الهلال أفضل للجزء الجنوبي من الأرض في بعض الفصول وتكون بالعكس في فصل آخر.وأول من التفت إلى تأثير موقع البلد من خطوط العرض الذي يؤدي إلى بطلان إطلاق هذه الأولوية المحقق النراقي (قدس سره) ونستغرب عدم التفات المعاصرين رغم مرور قرنين من الزمان على ذلك، لذا اشترط في اتحاد البلدين في قابلية الرؤية عدم اختلافهما الكثير في خطوط العرض، وقد شرح (قدس سره) الوجه في ذلك بميلان الأرض عند دورانها الذي عبّر عنه ب_«اضطجاعها إلى الأفق»(2)

وقدّم معلومات فلكية قيّمة عن تأثير خطوط الطول والعرض في رؤية الهلال وقال (قدس سره): «ولكن ذلك لا يختلف إلا باختلاف كثير في العرض».

ص: 317


1- لاحظ في مخطط شوال 1429 (والذي على أثره ألقينا هذا البحث أول مرة) أن الجزء الجنوبي من الأرض هو الذي يتمكن من الرؤية بسهولة، عكس شهر ربيع الثاني 1430 وبينهما ستة أشهر وصادف رؤية هلال شوال يوم الثلاثاء 30/9/2008 (أي في نهاية الصيف وبداية الخريف) ورؤية هلال ربيع الثاني يوم الجمعة 27/آذار/2009 (أي في نهاية الشتاء وبداية الربيع).
2- مستند الشيعة: 10/421.

وقد تحدّث (قدس سره) عن تأثير خطوط الطول والعرض والارتفاع عن مستوى الأفق والبعد الزاوي وغيرها على قابلية الرؤية ومما قال: «وأما الاختلاف لأجل الاختلاف في الطول فهو لأجل أن كل بلد طوله أكثر وعن جزائر الخالدات(1) - التي هي مبدأ الطول على الأشهر(2)

- أبعَد يغرب النَيّران(3)

فيه قبل غروبهما في البلد الذي طوله أقل.وعلى هذا، فلو كان زمان التفاوت بين المغربين معتداً به يتحرك فيه القمر بحركته الخاصة قدراً معتداً به ويبعد عن الشمس، فيمكن أن يكون القمر وقت غروب الشمس في البلد الأكثر طولاً بحيث لا يمكن رؤيته، لعدم خروجه عن الشعاع، ويبعد عن الشمس فيما بين المغربين بحيث يمكن رؤيته في البلد الأقل طولاً.. مثلاً: إذا كان طول البلد مائة وعشرين درجة وطول بلد آخر خمس وأربعين درجة، فيكون التفاوت بين الطولين خمس وسبعين درجة، وإذا غربت الشمس في الأول لا بد أن يسير الخمس والسبعين درجة بالحركة المعدلية حتى تغرب في البلد الثاني، ويقطع الخمس والسبعين درجة في خمس ساعات، وفي هذه الخمس يقطع القمر بحركته درجتين، وقد يقطع درجتين ونصف، بل قد يقطع ثلاث درجات تقريباً.

ص: 318


1- هي مجموعة جزر الكناري التي تقع إلى الغرب من دولة المغرب العربي وإن كانت تحت سيطرة إسبانيا، وهي على خط طول (-16.25 درجة غرب خط كرينتش) (الناشر).
2- كان التقسيم الجغرافي القديم يعتبر خط التقسيم المرجعي هو الجزائر الخالدات تبعاً لبطليموس في كتابه المجسطي لأنها بداية العمارة عندهم -حيث لم تكن الأمريكتان مكتشفتين)، وتبعه الفلكيون المسلمون بحسب ابن خلدون (راجع مقدمة ابن خلدون: 1/89، ط دار البيضاء) وإن كان البتاني والبيروني وأبو الفداء اتخذوا ساحل المغرب العربي الشرقي هو البداية باختلاف 10 درجات عن جزر الخالدات (انظر القانون المسعودي لأبي الريحان البيروني: 2/546، و تقويم البلدان، لأبي الفداء إسماعيل: 7)، وفي عام 1884 قرر الفرنسيون والإنكليز توحيد قياساتهم الجغرافية بالاتفاق على جعل خط كرينتش هو بداية خطوط الطول في مؤتمر أقيم في واشنطن (ذكرت مقررات المؤتمر في A Prime Meridian Time and Universal Day, Gibson Bros), ص199-200). وكان العالم الفلكي البيروني يستخدم خط الوسط الذي يمر في الساحل الإفريقي، الواقع عُرفاً على عشر درجات شرقاً من خط وسط الجزائر الخالدات. (الناشر) وحكى السيد الطهراني (قدس سره) في رسالته حول مسألة الهلال عن الجغرافيين أنهم «واعتبروا هذا التقسيم مبتدئً من جزيرة (فِرو) إحدى جزائر الخالدات التي كانت في غرب إسبانيا مائلاً نحو المشرق وسموها بالطول الجغرافي. ولما أصبحت هذه الجزائر غريقةً تحت الماء ذهبوا يعيّنون المبدأ من رصد (كرينتش) الواقع في ناحية الجنوب الشرقيّ من مدينة لندن ، وذلك لانّ هذه المدينة واقعة في ما يقرب طولاً من أوّل المعمورة من الرُّبع المسكون، ولا يختلف طولها عن جزائر الخالدات إلاّ بدرجات قليلة أوّلاً؛ ولأنّ فيها رصداً يمكن النظر منه إلى الكواكب جميعاً وإلى السيّارات والشمس والقمر وإرصادها في أيّ نقطة من المدار ثانياً» (رسالة حول مسألة الهلال، للسيد الطهراني (قدس سره) ).
3- النيّران: الشمس والقمر.

وعلى هذا، فربما يكون القمر وقت المغرب في البلد الأول تحت الشعاع، ويخرج عنه في البلد الثاني -وهذا هو الارتفاع عن خط الأفق-، أو يكون في الأول قريباً من الشمس فلا يرى لأجله، وفي الثاني يرى لبعده عنها -وهذا هو المعروف بالبعد الزاوي عن سقوط القرص-.

ولمثل ذلك يمكن أن يصير الاختلاف في العرض أيضاً سبباً لاختلاف الرؤية في البلدين، لأنه أيضاً قد يوجب الاختلاف في وقت الغروب وإن لم يختلفا في الطول(1)،فإنه لو كان العرض الشمالي لبلد أربعين درجة يكون نهاره

ص: 319


1- من نافلة القول أن نذكر أن خط الطول عند المحقق النراقي (ت 1245هج_) ليس بمقدار خط الطول في الخرائط الحديثة وإن كان يتفق معه زمنياً، وذلك لاختلاف قياس محيط الأرض، وذلك أن اليوم لما كان 24 ساعة تدور بها الشمس حول الأرض فتم تقسيم اليوم إلى 360 درجة ولكل درجة خط طول (باتجاه الشرق رغم أنه عكس اتجاه الشمس)، فحسابات الشيخ النراقي (قدس سره) الزمانية لخطوط الطول تنطبق على الحسابات الموجودة، ولكن إسقاطها على الخارطة يقل عن مقدار المسافة لخطوط الطول الحديثة، وقد استمر التحديث في خرائط الكرة الأرضية ومعه الاختلاف في رسم خطوط الطول إلى عام 1984 م. (الناشر)

الأطول خمس عشرة ساعة تقريباً، ويكون في ذلك اليوم - الذي يكون الشمس في أول السرطان - النهار الأقصر للبلد الذي عرضه الجنوبي كذلك، ويكون يومه تسع ساعات تقريباً، ويكون التفاوت بين اليومين ست ساعات، ثلاث منها لتفاوت المغرب، ويقطع القمر في هذه الثلاث درجة ونصفاً تقريباً، وقد يقطع درجتين، وتختلف رؤيته بهذا القدر من البعد عن الشمس»(1).

إذن فالأولوية القطعية التي ذكروها لا واقع لها وأصبح بطلان إطلاق هذا القول واضحاً في ضوء المعطيات العلمية الحديثة.

نعم يصح هذا القول في بلدان متقاربة بخطوط العرض مع بلد الرؤية لذا قيّد بعض المعاصرين هذه الكبرى بالتقارب في خطوط العرض، قال (قدس سره): «يشكل بل يمنع إطلاق الحكم بثبوت الرؤية في البلاد الغربية في ما إذا رئي في البلاد الشرقية، نعم لا إشكال فيه في الجملة، وهو فيما إذا كان اختلاف البلاد في العرض يسيراً»(2).

ويظهر من ردود السيد الخوئي (قدس سره) على بعض تلامذته أنه يشترط ذلك كقوله: «فتمام النقاط التي تقع على جهة المغرب منها وعلى خط عرض واحد تكون مشتركة معها في الأفق، ولكن النقاط التي تقع إلى جهة

ص: 320


1- مستند الشيعة: 10/421-422.
2- رسالة حول مسألة روية الهلال، للسيد محمد حسين الطهراني، 84.

الشمال أو الجنوب منها بنحو تخرج عن الدائرة التي تنعكس على الأرض من القمر حين مغرب الشمس عنها لا تكون مشتركة في الأفق معها»(1).

وكذا صحّح بعض من حضرنا بحثه الشريف موقفه من هذه القضية كما نقلنا عن رسالته الصادرة مؤخراً وقد كان خلال البحث يطلق العبارة أحياناً كقوله: «فتارة يكون بلد الرؤية مشتركاً معنا في الأفق وربما من البلاد الشرقية الملازم لقابلية الرؤية في الغربية»(2).

أقول: المشكلة في تحديد هذا التقارب إذ أن مساحة الاشتراك بين البلدان قد تتسع وقد تضيق بحسب فصول السنة ولا يعرفها إلا المتخصصون، والقدر المتيقن لا يمكن الالتزام به كما تقدم في أكثر من موضع.

والخلاصة أن هذا القول صحيح في الجملة وذلك في خصوص البلدان المقاربة في خطوط العرض حول خط الاستواء حيث تبدأ من أول مواضع إمكان الرؤية ثم تتسع خطوط العرض كلما اتجهنا غرباً.

وفي الحقيقة فإن هذا القول يرجع إلى القول الأول في اشتراط وحدة الأفق إلا أنه يوسّع دائرة البلدان المتحدة الأفق إلى البلدان التي إلى غربه فهو ليس قولاً مقابل المشهور، وهذا ما استظهرناه من عبارة الشهيد الأول في الدروس المتقدمة حيث قال: «والبلاد المتقاربة كالبصرة وبغداد متحدة لا كبغداد ومصر، قاله الشيخ، ويحتمل ثبوت الهلال في البلاد المغربية برؤيته في البلاد المشرقية وإن تباعدت، للقطع برؤيته عند عدم المانع».

وفي نهاية هذا القول نسجّل عليه ملاحظتين:-

1- إنهم يبنون على أنه إذا رئي الهلال في مدينة غرب إيران مثلاً –كإيلام- فيثبت الهلال في عموم إيران مع أن بين طرفيها أبعد مما بين العراق

ص: 321


1- رسالة حول مسألة رؤية الهلال: 162.
2- من تقرير محاضرة: 20/ ج2/1417.

ومصر(1) فلماذا يكتفون برؤيته في البلد الغربي في إيران لثبوته في البلد الشرقي هناك ولا يكتفون برؤيته في مصر أو لبنان لثبوته في العراق، والاعتذار بوحدة البلاد جغرافياً غير مقبول فقهياً لأن هذه الحدود الجغرافية مستحدثة ولا يصحّ قراءة النصوص على أساسها، فلا بد من تصحيحه وفق مبنى معتبر شرعاً كثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي أو كفاية ثبوته في البلدان الإسلامية ونحو ذلك.

2- إن وصف الشرق والغرب على نقاط الأرض غير دقيق وإنما هي اعتبارات توافق عليها الناس، لأن الأرض كروية وتدور بشكل دائري فيمكن لنقطة عليها أن تكون شرق نقطة أخرى في الجهة المقابلة من الكرة الأرضية ويمكن أن تكون غربها ويمكن أن تكون كل منهما سابقة للأخرى بحسب اتجاه النظر.

فالوصف المتعارف لهذه الحركة أن يقال بأنها مع عقرب الساعة (Clock-wise) وعكس عقرب الساعة (Counter clock-wise)، أما وصف الشرق والغرب فيصح على الشكل المسطح، ولا يصح على الكروي لأن أية نقطة تكون شرق النقطة الأخرى باتجاه عقرب الساعة وغربها بعكسه، ولا يُعلم في هذه الحركة الدائرية أي من النقاط هي السابقة وأيها هي اللاحقة، وهل أن الليل الذي في هذه البلاد سابق على النهار في تلك البلاد أم لاحق؟ وفي كل آن يوجد شروق على نقطة وغروب على نقطة مقابلة، والأرض دوماً لها نصف مضيء ونصف مظلم، وإن بعض البلدان تقابل بعضها في النصف الآخر (كغرب كندا والولايات المتحدة مع الشرق الأوسط ووسط آسيا حيث أن بينهما 180

ص: 322


1- يتجاوز شرق إيران خط الطول 60 ويقل غربها عن 45 بينما يقترب غرب العراق من 40 ووسط الشام من 37 وشرق مصر من 35.

خط طول) فمن منهما شرق الآخر أو غربه؟ وهذه القضايا لها آثار فقهية في اتجاه القبلة وغيرها.

ومن مفارقات هذه الاعتبارات أن نقطة واحدة (وهي قرب مضيق بيرنك أقصى شمال شرق روسيا وأقصى شمال غرب ألاسكا التابع للولايات المتحدة) وفي لحظة واحدة يكون فيها الزمان يومين متتاليين كالاثنين بلحاظ روسيا والأحد بلحاظ الولايات المتحدة، وهذا أمر غير واقعي إذ هما في نهار واحد وليس نهارين فالاعتماد على هذه الأمور الاعتبارية لإثبات أمور واقعية غير دقيق.

ص: 323

القول الثالث

اشارة

كفاية رؤية الهلال في أي بلد لثبوته في سائر بلدان العالم وإن لم يُعلم اتحادها في الأفق بل ذهب بعضهم إلى الكفاية حتى لو عُلم باختلافها وعدم إمكان رؤية الهلال في البلد الآخر وهي المقصودة بالبلاد البعيدة في اصطلاحات المسألة.

وقد تقدم في بداية البحث أن أول ظهور له كان للعلامة في التحرير والمنتهى، ونسبه في التذكرة إلى بعض علمائنا من دون أن يعيّنه هو ولا غيره ولعل النسبة لم تكن صريحة وواضحة لذا لم يُشر إليه العلامة في كتابه (مختلف الشيعة) المخصص لبيان المسائل الخلافية بين علماء الإمامية.

وأول من تبنى هذا القول الفيض الكاشاني في الوافي ثم صاحبا الحدائق والجواهر والمحقق النراقي (قدس الله أسرارهم) على اختلاف في المبنى، واختاره من المعاصرين السيد الخوئي(1)

قبل أن يعدل إلى تقييده بالاشتراك بالليل وكذا

ص: 324


1- كرر (قدس سره) هذا التعميم في عدة مواضع في المنهاج وبعبارات صريحة حيث ورد فيه: «الظاهر كفاية الرؤية في بلدٍ ما في الثبوت لغيره من البلاد مطلقاً» وجاء: «وهذا القول -أي كفاية الرؤية في بلدٍ ما لثبوت الهلال في بلد آخر ولو مع اختلاف أفقهما - هو الأظهر» وورد أيضاً: «أن رؤية الهلال في بلدٍ ما أمارة قطعية على خروج القمر عن الوضع المذكور الذي يتخذه من الشمس في نهاية دورته، وبداية لشهر قمري جديد لأهل الأرض جميعاً» وجاء أيضاً: «أن الشهر القمري لا يختلف باختلاف الأمصار في آفاقها، فيكون واحداً بالإضافة إلى جميع أهل البقاع والأمصار؛ و... أن الحكم المترتب على ثبوت الهلال -أي خروج القمر عن المحاق- حكم لتمام أهل الأرض، لا لبقعة خاصة» وغير ذلك، ولعل مجموعها يتجاوز عن عشرة مواضع التي بعضها كالصريح في ذلك. ولعله لقوة ظهور هذه الجملات في التعميم نرى في بعض الطبعات الأخيرة من (المنهاج) أن لفظة (مطلقاً) في الجملة الأولى قد بدّلت بقوله: «المشتركة معه في الليل وإن كان أوّل الليل في أحدهما آخره في الآخر» وأن بعد قوله: «في بلد آخر» في الجملة الثانية قد أضيفت: «مع اشتراكهما في كون ليلة واحدة لهما معاً وإن كان أول ليلة لأحدهما وآخر ليلة للآخر» رسالة حول مسألة رؤية الهلال للسيد الطهراني: هامش في صفحة 128.

الشهيد الصدر الأول (قدس الله سريهما) والشيخ الفياض (دام ظله الشريف) وآخرون تقدمت الإشارة إليهم عند استعراض الأقوال.

ونقلنا هناك حكاية بعضهم أن هذا القول هو المشهور لدى العامة وسيأتي ملخّص أقوالهم (صفحة 339) وخالف فيه بعض الشافعية فاشترطوا في ثبوت الهلالالتقارب بين البلدين واستدلوا برواية كريب المتقدمة وهي على خلافه أدلّ لأن سؤال ابن عباس عن وقت رؤية الهلال في الشام ومقارنته بالمدينة يقتضي عدم كون التباعد بينهما مانعاً من الاكتفاء بالرؤية وإنما منعه من العمل برؤية أهل الشام عدم الوثوق بمعاوية وأصحابه كما هو صريح عبارته وليس التباعد بين البلدين ولكنهم لا يريدون أن يفهموها هكذا، وإلا فما معنى سؤال ابن عباس إذا كانت الرؤية في الشام لا أثر لها على أهل المدينة، ووجه في المغني ردّها بأن كريب واحد فلا يفطرون بشهادته(1).

نعم نقلنا هناك إجماعهم على خروج البلاد المتباعدة جداً كإسبانيا والحجاز، أو إندونيسيا والمغرب كما مثّلوا.

وأورد العلامة وجوهاً للاستدلال على هذا القول تناسب ذوق العامة وذكروها في كتبهم كالمغني الذي ينقل عنه عادة قال (قدس سره) في المنتهى: «لنا: أنه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية، وفي الباقي: بالشهادة،

ص: 325


1- المغني لابن قدامة: 3/12.

فيجب صومه؛ لقوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ». وقوله (عليه السلام): (فرض الله صوم شهر رمضان). وقد ثبت أن هذا اليوم منه. ولأن شهر رمضان عدّة بين هلالين وقد ثبت أن هذا اليوم منه. ولأنه يحلّ به الدين ويجب به النذر ويقع به الطلاق والعتاق المتعلقان به عندهم، فيجب صيامه. ولأن البينة العادلة شهدت بالهلال، فيجب الصوم، كما لو تقاربت البلاد. ولأنه شهد برؤيته من يقبل قوله، فيجب القضاء لو فات»(1).

وأضاف في التذكرة: «ولقول الصادق عليه السلام: (فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه)، وقال عليه السلام، في من صام تسعة وعشرين قال: (إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية، قضى يوماً)، ولأن الأرض مسطحة، فإذا رؤي في بعض البلاد عرفنا أن المانع في غيره شيء عارض؛ لأن الهلال ليس بمحل الرؤية»(2).

أقول: كما ترى فإن الوجوه المذكورة مصادرة على المطلوب وما ورد فيها أول الكلام، وإنما ذكرناها للاطلاع على نمط الاستدلال عندهم وتأثّر الاجتهاد الشيعي به أحياناً في بعض الفترات.

وردّ (قدس سره) هذه الوجوه في التذكرة معللاً بقوله: «لأن البلدان المتباعدة تختلف في الرؤية باختلاف المطالع والأرض كرة، فجاز أن يرى الهلال في بلد ولا يظهر في آخر، لأن حدبة الأرض مانعة من رؤيته، وقد رصد أهل المعرفة، وشوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب القريبة لمن جد في السير نحو المشرق وبالعكس.. ونمنع كونه يوماً من رمضان في حق الجميع، فإنه المتنازع، ولا نسلم التعبد بمثل هذه الشهادة، فإنه أول المسألة. وقول الصادق عليه السلام

ص: 326


1- منتهى المطلب: 9/253.
2- تذكرة الفقهاء: 6/123.

محمول على البلد المقارب، لبلد الرؤية، جمعاً بين الأدلة. ونمنع تسطيح الأرض، بل المشهور: كرويتها»(1).

وما يمكن أن يستدل به على هذا القول وجوه:

(الوجه الأول) أنه مقتضى الطبيعة والواقع التكويني وله عدة تقريبات:-

1- إن الأرض مسطحة وليست كروية فلا تختلف آفاق البلدان وإذا رؤي أحدها فلا بد أن يرى في سائر البلدان، وذهب إليه صاحب الحدائق، وذكر شواهد على بطلان القول بالكروية(2).

2- إن الأرض كروية لكن الجزء المسكون منها يسير لا يؤثر فيه تحدّبها من حيث الرؤية فلا تختلف آفاق البلدان، قال العلامة (قدس سره) في المنتهى: «ولو قالوا: إن البلاد المتباعدة تختلف عروضها فجاز أن يرى الهلال في بعضها دون بعض؛ لكروية الأرض.

قلنا: إن المعمور منها قدر يسير هو الربع، ولا اعتداد به عن السماء. وبالجملة إن علم طلوعه في بعض الأصقاع، وعدم طلوعه في بعضها المتباعدة عنه لكروية الأرض، لم يتساو حكماهما، أما بدون ذلك فالتساوي هو الحق»(3).

واحتمل صاحب الجواهر (قدس سره) الأمرين معاً، قال (قدس سره) في رد قول المشهور: «لكنه قد يشكل بمنع اختلاف المطالع في الربع المسكون، إما لعدم كروية الأرض بل هي مسطحة، فلا تختلف المطالع حينئذٍ، وإما لكونه قدراً يسيراً لا اعتداد باختلافه بالنسبة إلى علو السماء

ص: 327


1- تذكره الفقهاء: 6/123-124.
2- الحدائق الناضرة: 13/266.
3- منتهى المطلب: 9/255.

وربما يومئ إلى ذلك قوله (عليه السلام) في الدعاء: (وجعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحداً) » وبعد أن نقل قول المنتهى المتقدم قال عن عدم التساوي في الحكم بسبب التباعد لكروية الأرض: «ويمكن أن لا يكون كذلك، ضرورة عدم اتفاق العلم بذلك عادة، فالوجوب حينئذٍ على الجميع مطلقاً قوي».

أقول: يمكن أن يكون مراد صاحب الحدائق أن الأرض مسطحة في حدود المسكون منها أي أن التحدب في هذا الجزء لا أثر له لأنه بعد أن نقل كلام العلامة المتقدم في المنتهى قال: «وما ذكره (قدس سره) هو الحق».

3- ما تقدم من السيد الخوئي (قدس سره) وخلاصته أن خروج القمر من المحاق ومن تحت شعاع الشمس ظاهرة كونية واحدة تتحقق بخروج القمر عن خطالاقتران بين الشمس والأرض ولا تتأثر بمواقع الأجزاء الأرضية المختلفة وليست هي نسبية تختلف بلحاظ موقع البلد من الكرة الأرضية، فإذا ابتدأ القمر بالتحرك وخرج من المحاق ومن تحت شعاع الشمس فقد بدأ الشهر القمري وقد نقلنا كلامه (قدس سره) وناقشناه بما ملخّصه أن هذا الواقع التكويني وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه ليس مما يثبت به الشهر الشرعي -وهو ما نبحث عنه- لأن ثبوته متوقف على رؤية الهلال، وهذه الرؤية نسبية تختلف بلحاظ موقع الرائي من الكرة الأرضية فقد يراه بعض ولا يراه آخرون بحسب العوامل المؤثرة فيها، ولهذا فرّقنا بين الشهر الطبيعي التكويني الذي يبدأ بخروج الهلال من تحت الشعاع والشهر الشرعي الذي يثبت برؤية الهلال.

(الوجه الثاني) «إطلاقات نصوص البينة الواردة في رؤية الهلال ليوم الشك في رمضان أو شوال وأنه في الأول يقضى يوماً لو أفطر، فإن مقتضى

ص: 328

إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كانت الرؤية في بلد الصائم أو غيره المتحد معه في الأفق أو المختلف.

ودعوى الانصراف إلى أهل البلد: كما ترى، سيما مع التصريح في بعضها بأن الشاهدين يدخلان المصر ويخرجان كما تقدم، فهي تشمل الشهادة الحاصلة من غير البلد على إطلاقها»(1).

أقول: يشير (قدس سره) بذلك إلى مجموعة من الروايات:

كصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (صم لرؤية الهلال، وأفطر لرؤيته، وإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه)(2).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سُئل عن الأهلة فقال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر، قلت: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ فقال: لا، إلا أن يشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم)(3).

وصحيحة زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن الأهلة؟ فقال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر، قلت: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ فقال: لا إلا

ص: 329


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/119-120.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح8.
3- أورد صاحب الوسائل صدره في أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح7، والباقي في الباب 5، ح9.

أن يشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك، فاقض ذلك اليوم)(1).

وموثقة عبد الله بن سنان قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأهلة؟ فقال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر، قلت: إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً، أقضي ذلك اليوم؟ قال: لا إلا أن تشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم)(2).

والروايتان الأخيرتان متحدتان مع صحيحة الحلبي.

وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه بينة عدل من المسلمين)(3).

وذيل صحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنَّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني) إلى أن قال (عليه السلام): (ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر)(4).

ص: 330


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام الصوم، باب 5، ح 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام الصوم، باب 5، ح 19.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام الصوم، باب 11، ح 6.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام الصوم، باب 11، ح 10.

ومصححة(1) حبيب (الخزاعي، الخثعمي الجماعي) قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة، وإنما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر، وكان بالمصر علة فأخبرا أنهما رأياه وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية وأفطروا للرؤية)(2).ويمكن المناقشة في هذا الوجه: بان هذه الطائفة من الروايات أجنبية عن المسالة وليست بصدد البيان من هذه الجهة حتى يتمسك بإطلاقها، وإنما هي مسوقة لبيان حجية البينة كطريق للعلم بثبوت الهلال ومعرفة بداية الشهر، وعلى هذا فإن دعوى الانصراف إلى أهل البلد وردّ السيد الخوئي (قدس سره) عليها سالبة بانتفاء الموضوع، وإن كان قيام البينة في البلد هو القدر المتيقن.

كما يمكن أن يقال(3)

أن الروايات واردة لمعالجة مشكلة كثر ذكرها في الروايات وعرضناها في مبحث ثبوت الهلال بالعدد وهي أن شهر رمضان كامل أبداً فإذا رؤي هلال شوال بعد تسعة وعشرين يوماً فعليهم قضاء اليوم فيريد الإمام (عليه السلام) إزالة هذا الوهم وأن شهر رمضان يصيبه النقصان كبقية الشهور فيمكن أن يرى الهلال بعد تسعة وعشرين يوماً، لكن إذا قامت البينة -وهو الطريق المتعارف لثبوت الهلال- على الرؤية في الليلة السابقة فعليهم القضاء، والردع ظاهر فيها.

ص: 331


1- بناءً على كون إسماعيل في السند: إسماعيل بن سعد الأشعري بمراعاة الطبقة، وأن حبيب هو ابن معلل الخثعمي الثقة، أو أنه حبيب (حارث) الجماعي الذي عظمه الشيخ المفيد.
2- وسائل الشيعة: 10/291، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح13.
3- لاحظ العنوان الذي جعله صاحب الوسائل (10/261) للباب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان.

أقول: يرد على المناقشة الأولى بأن الروايات واردة لبيان سعة ما يثبت به أول الشهر وأنه لا يقتصر على الرؤية الشخصية فيما لو فهمها أحد من (صم لرؤيته وأفطر لرؤيته) ولا يقتصر على شهادة عادلين من أهل البلد وإنما تتعداه إلى شهادة عادلين من البلاد الأخرى مطلقاً فيثبت للروايات إطلاق، وليست واردة لبيان حجية البينة وإن كانت متضمنة لها وهذا ظاهر.

ويرد على الثانية: أن الاحتمال يمكن استظهاره من بعض روايات الباب كصحيحتي الحلبي وزيد الشحام وموثقة عبد الله بن سنان -وقد رجحنا أنها واحدة- لكن بقية الروايات -كصحيحتي منصور بن حازم ومحمد بن قيس- تأبى حملها على هذا المعنى.

قال بعض الأعلام المعاصرين: «لسان هذه الروايات يختلف عما دل على قبول أصل الشهادة والبينة في الهلال، من قبيل ما ورد أنه (لا أُجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين)، لأنها ناظرة إلى حكم قضاء يوم آخر لمن صام تسعة وعشرين يوماً ولو من جهة أنه لم ير الناس الهلال في أول الشهر مع الصحو وعدم علة في السماء. بل قد تبرع الإمام (عليه السلام) في بعضها ابتداءً لبيان حكم القضاء(1)،وقد جعل وجوب القضاء يوماً آخر في هذه الروايات متفرعاً على قيام بينة عدول يشهدون بأنهم قد رأوا الهلال قبل ذلك، ومن الواضح أن هذا مطلق يشمل ما إذا كانت البينة تشهد بذلك في مصر آخر، وما في ذيل معتبرة أبي أيوب تصريح بهذا الإطلاق، فلو كانوجوب القضاء مقيداً برؤية الهلال في نفس البلد كان لا بد من تقييد شهادة البينة بأن تكون من نفس البلد وفي أفقه لا أفق آخر وإلا كان إغراءً بالجهل. فالإطلاق في لسان هذه

ص: 332


1- كما في صحيحة منصور بن حازم.

الروايات واضح لا ينبغي إنكاره، بل لولا الإطلاق اللفظي لكان يتم فيها الإطلاق أيضاً، بملاك ترك الاستفصال ووقوع المكلف في خلاف الواقع»(1).

وأشكل بعض من حضرنا بحثه الشريف على التمسك بإطلاق هذه الروايات من عدة جهات:

فمن جهة قال عن ذيل صحيحة أبي أيوب الخزاز: «فليس فيها إطلاق يشمل حتى البلاد البعيدة، بل القريبة حيث يحتمل فيها رجلان يدخلان ويخرجان، وأما بالنسبة للبعيدة خصوصاً في أزمنة الصدور فلم يكن من المتعارف إمكان دخول أحد من بلد بعيد مختلف الأفق معنا ويخرج حتى نصوم يوم الشك من جهة الرؤية في بلده، فلا إطلاق، والمورد مختص بالقريبة»(2).

ومن جهة أخرى قال: «يمكن الإشكال في الإطلاق بالنسبة للروايتين –أي صحيحتي أبي أيوب ومحمد بن قيس- ونظائرهما في المقام أنها لبيان توسعة الكاشف أي أن هذا اليوم الذي فاتنا يجب قضاؤه وأنه لا يقتصر على الرؤية الشخصية، وليست بصدد توسعة المنكشف، وأن الشهر يبدأ في جميع بقاع الأرض بمجرد خروج الشمس عن المحاق مع ابتعاده مقداراً لا تكون الشمس موجبة للمنع عن رؤية الهلال».

ومن جهة ثالثة قال: «وعلى فرض ثبوت الإطلاق فيكون ما تقدم منا في الوجوه السابقة كافية للتقييد فاستدلاله –أي السيد الخوئي (قدس سره)- بإطلاق البينة محل إشكال»(3).

وكلها قابلة للنقاش:

ص: 333


1- السيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت (ع): العدد 31، صفحة 41.
2- محاضرة يوم 20/ج2/1417.
3- محاضرة يوم 20/ج2/1417.

أما الجهة الأولى فإن انطباق عنوان يدخلان ويخرجان من مصر على البلدان القريبة يومئذٍ لا يقيدها بها؛ لأنها من ضيق تصوّر المتلقي، وتطبيقه على المصاديق الخارجية المتعارفة، وليس من ظهور اللفظ في عدم السعة، هذا إذا نظرنا إلى الصحيحة بلحاظ الأداء ولو بقرينة قوله (عليه السلام): (فلا تؤدوا)، أما إذا لاحظناها من جهة القضاء ولو بقرينة الروايات الأخرى في الباب فإن الرد يكون أوضح؛ لأن زمن وصول البينة واسع جداً ويمكن أن يصل الخبر بعد أشهر، على أن مصححة حبيب لم يرد فيها يدخلان ويخرجان وإنما ورد (إذا كانا من خارج المصر) وهو ظاهر الإطلاق.وقد يريد بهذا الإشكال الانصراف الذي ردّ به المشهور على الإطلاق الذي تمسك به القائل بالتعميم وسنجيبه إن شاء الله تعالى (صفحة 338).

وأما الثانية فإنه أخذ الإشكال من الشيخ الأنصاري (قدس سره) لكنه لم يحسن عرضه فعرضه بالعكس لأن الإشكال يصح إذا اعتبرناها توسعة للمنكشف أي وجوب قضاء يوم إذا ظهر فواته من شهر رمضان كالفوات بسبب المرض والسفر بعد فرض ثبوت الكاشف وهو دخول الشهر الجديد بقيام البينة، وسنناقشه (صفحة 340).

وأما الثالثة فقد ذكرنا الوجوه الستة وناقشناها جميعاً.

والنتيجة أن بعض روايات هذا الوجه يمكن الاستدلال بإطلاقها.

(الوجه الثالث) إطلاق النصوص التي دلّت على وجوب قضاء يومٍ من شهر رمضان إذا عُلم بثبوت الهلال في أي بلد آخر قريباً كان أو بعيداً، ووجوبُ القضاء يعني أنه يوم من شهر رمضان قد ثبت برؤية الهلال في بلد آخر، وهي عدة نصوص ذكر منها السيد الخوئي (قدس سره):-

ص: 334

1- صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين قال: (إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً)(1).

بتقريب أنها «دلّت بمقتضى إطلاقها بوضوح على أن الرؤية في مصر كافية لسائر الأمصار وإن لم يُر فيها الهلال من غير غيم أو أي مانع آخر، ولم يقيّد فيها بوحدة الأُفق مع أن آفاق البلاد تختلف جداً حتى في الممالك الصغيرة كالعراق، فإن شمالها عن جنوبها كشرقها عن غربها يختلف اختلافاً فاحشاً، فعدم التقييد والحالة هذه وهو (عليه السلام) في مقام البيان يكشف طبعاً عن الإطلاق»(2).

2- معتبرة(3) عبد الرحمن بن أبي عبد الله (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هلال شهر رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ قال: لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه)(4).فإنها «دلّت على كفاية الرؤية في بلد آخر سواه اتحد أفقه مع البلد أم اختلف، بمقتضى الإطلاق»(5).

ص: 335


1- وسائل الشيعة: 10/265، أبواب أحكام الصوم، باب 5، ح 13.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/120.
3- في السند القاسم بن محمد الجوهري، وهو مجهول، وقد بنى بعض من حضرنا بحثه الشريف على توثيقه لرواية ابن أبي عمير عنه. (محاضرة يوم 15/ج2/1417) ووثقه السيد الخوئي (قدس سره) لوروده في كامل الزيارات.
4- وسائل الشيعة: 10/254، أبواب أحكام الصوم، باب 3، ح9.
5- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/120.

وروى الشيخ (قدس سره) في التهذيب بالإسناد عنه –أي عبد الرحمن بن أبي عبد الله- (أنه سأله عن ذلك فقال: لا تصم ذلك اليوم إلا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا فصمه)(1).

1- صحيحة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال: لا تصمه إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه، وإذا رأيته من وسط النهار فأتم صومه إلى الليل)(2).

وهي كسابقتها.

2- صحيحة أبي بصير عن أبى عبد الله (عليه السلام): (أنه سئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان؟ فقال: لا تقضه إلا أن يثبت (يبثّ) شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر؟! وقال: لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه)(3).

أقول: الجزء الثاني من الرواية عين رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدمة وقد نقلهما الشيخ الطوسي معاً عن كتاب الحسين بن سعيد، فالجزء الثاني رواية أخرى غير الجزء الأول(4)،وقد جمعهما الحسين بن سعيد في كتابه الذي أخذ منه الشيخ الطوسي لوحدة الموضوع والراوي والمروي عنه (عليه السلام)، قال السيد الخوئي (قدس سره) عن هذه الصحيحة أنها «أوضح من الجميع، فإن في قوله (عليه السلام): (جميع

ص: 336


1- وسائل الشيعة: 10/293، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح2.
2- وسائل الشيعة: 10/278، أبواب أحكام الصوم، باب 8، ح3.
3- وسائل الشيعة: 10/293، أبواب أحكام الصوم، باب 12، ح 1.
4- قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: أنه مما جرى عليه بعض القدماء. (محاضرة يوم 17/ج2/1417).

أهل الصلاة) دلالة واضحة على عدم اختصاص رأس الشهر القمري ببلد دون بلد، وإنما هو حكم وحداني عام لجميع المسلمين على اختلاف بلادهم من حيث اختلاف الآفاق واتحادها، فمتىقامت البينة على الرؤية من أي قطر من أقطار هذا المجموع المركب –وهم كافة أهل الصلاة- كفى.

كما أن قوله (عليه السلام) في الذيل: (يقضي أهل الأمصار) مؤكداً لهذا المعنى، وأنه لا يختلف مصر عن مصر في هذا الحكم، بل هو عام لجميع الأقطار والأمصار، وشامل لجميع بقاع الأرض بمختلف آفاقها.

إذن فمقتضى هذه الروايات الموافقة للاعتبار عدم كون المدار على اتحاد الأفق، ولا نرى أي مقتضٍ لحملها على ذلك، إذ لم يُذكر أي وجه لهذا التقييد»(1).

أقول: أشكل(2) بعض من حضرنا بحثه الشريف على السيد الخوئي (قدس سره) بأنه لم يدرج معتبرة سماعة ضمن هذه المجموعة التي استدل بها وهي مثل صحيحة هشام وفيها عن سماعة أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام): (عن اليوم في شهر رمضان يختلف فيه، قال: إذا اجتمع أهل مصر على صيامه للرؤية فاقضه إذا كان أهل مصر خمسمائة إنسان)(3).

أقول: يمكن رد هذا الإشكال بأن قوله (عليه السلام): (أهل مصر) وردت بحسب نقل صاحب الوسائل (قدس سره) عن الفقيه وعليه يمكن الاستدلال بها، لكن الموجود في النسخة المطبوعة من الفقيه (أهل المصر)(4).

ص: 337


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/121.
2- في محاضرة يوم 16/ج2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح6.
4- من لا يحضره الفقيه، ج2، كتاب الصوم، باب: الصوم للرؤية والفطر للرؤية، ح 1914.

وحينئذٍ لا إطلاق لها، لأن (ال_) عهدية، ولعله لهذا لم يدرج السيد الخوئي (قدس سره) صحيحة سماعة في المجموعة التي استدل بها.

وقد أشكل المشهور على الاستدلال بهذه الطائفة جملةً وتفصيلاً، أما المناقشات الإجمالية فيتحصّل من كلامهم عدة أمور:

(منها) إن لفظ (مصر) لا إطلاق له ليشمل البلدان البعيدة ولا يفيد التعميم لأنه نكرة في سياق الإثبات وإنما ينصرف إلى البلدان المتقاربة بحكم الغلبة ولندرة الاطلاع على أحوال البلدان المتباعدة مع صعوبة المواصلات والتنقل يومئذٍ، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): «وأما الأخبار فالظاهر منها -بحكم الغلبة -البلاد المتقاربة»(1).ويجاب هذا الإشكال بوجوه:-

1- لا نسلّم الانصراف إلى البلدان القريبة خاصة لأن الروايات تتحدث عن قضاء يوم فات من شهر رمضان بعد قيام البينة بدخوله وهذا يمكن العلم به بعد شهر أو شهرين أو أكثر عندما يلتقون معاً في موسم الحج مثلاً لمعلومية اليوم الذي بدأوا به الصوم أو الإفطار كأن يسألونهم: هل صمتم الأربعاء أو الخميس (كما في رواية أبي علي بن راشد المتقدمة (صفحة 301) ) فالروايات يمكن أن تشمل البلدان البعيدة، وها نحن في البحث نناقش هلال شوال بعد ستة أشهر ونقول أن الفطر كان يوم الأربعاء أو الخميس، وهذا السؤال كان معروفاً يومئذٍ، ويسأل الركبان عنه، وقد تعددت الإشارة إليه في الروايات (كرواية أبي كريب صفحة 229 ورواية أبي علي بن راشد وصحيحة محمد بن عيسى صفحة 309).

ص: 338


1- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري: 12/256 وممن ذكر الإشكال وأجاب عليه: النراقي في مستند الشيعة: 10/425 وغيرهما.

نعم، لو كانت الرواية بصدد بيان حكم آني –كصوم يوم غدٍ الذي هو يوم الشك من شهر رمضان - أمكن النقاش في الإطلاق بتعذّر وصول الخبر، وقد تقدمت بعض المناقشات.

2- إن الانصراف إلى الفرد الغالب –لو سلّمناه- لا يفيد التقييد كما هو ثابت في علم الأصول وإلا فإنه ما من مطلق إلا وله فرد غالب ينصرف إليه.

3- ومما يبطل الانصراف ويثبت وجود الالتفات يومئذٍ إلى البلدان البعيدة والقريبة على حد سواء وروده في كلمات أئمة مذاهب العامة وهم معاصرون للأئمة (عليهم السلام) وصدور النص، ونحن نعلم أن كثيراً من روايات المعصومين (عليهم السلام) وأسئلة أصحابهم جاءت تعليقاً على فتاوى العامة ومواقف فقهائهم، فقال الحنفية: «اختلاف المطالع غير معتبر فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب» وقال المالكية: «إذا رئي الهلال، عمَّ الصوم سائر البلدان، قريباً أو بعيداً، ولا يراعى في ذلك اتفاق المطالع ولا عدمها فيجب الصوم على كل منقول إليه» وقال الحنابلة «إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريباً كان أو بعيداً، لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه»(1).

5- إن الإطلاق ظاهر من مثل هذه السياقات فلو لم يكن مراداً للمتكلم لأشار إلى القيد، فترك التقييد في مقام البيان عند قبح تركه يستلزم الإطلاق وإلا يكون فيه تغرير بالمكلف.

6-

(ومنها) ما أورده الشيخ الأنصاري (قدس سره) بقوله: «وأما الأخبار، فالظاهر منها – بحكم الغلبة- البلاد المتقاربة، مع أن الظاهر أن

ص: 339


1- الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 3/1628، طبعة 3.

الإطلاق قي مقامبيان حكم انكشاف كون يوم الشك من رمضان، لا في مقام بيان الكاشف وأنه يحصل بمجرد الرؤية في بلد من البلاد ولو كان في غاية البعد.

فكما لا دلالة في هذا الإطلاق على الشروط المعتبرة في البينة، فكذا لا دلالة على الشروط المعتبرة في البلد –من القرب والبعد- بل المراد بيان حكم الانكشاف بعد فرض ثبوت الكاشف»(1).

أقول:-

1- إن أراد (قدس سره) بالانكشاف ظهور أن اليوم الواجب صومه إذا فات فإنه يجب قضاؤه ليتم إشكاله فإن قضاء الأيام الفائتة من شهر رمضان حكم واضح ومتسالم عليه لدى المسلمين ونطق به القرآن الكريم ولا يحتاج كل هذه الروايات لبيانه، فاحتمال إرادة المنكشف -أي قضاء يوم إذا ثبت فواته من شهر رمضان- بعيد.

وإن أراد انكشاف أن يوم الشك كان من شهر رمضان بثبوت البينة في بلد آخر فهو عين ما يريده المستدل

2- إن التقريب الذي ذكره الشيخ (قدس سره) يلغي نكتة إيراد العموم والإطلاق في الأمصار، وإنما يرد الإشكال على ثبوت القضاء بقيام البينة كما أوردناه على الوجه الثاني المتقدم وليس هنا.

3- إن جواب الإمام (عليه السلام) وإن كان بلسان قضاء اليوم الفائت إلا أن الإمام (عليه السلام) يريد أيضاً لازمه وهو كون ذلك اليوم من شهر رمضان وإن الشهر ثابت برؤية أهل ذلك البلد قبل يوم، إذ أن ثبوت القضاء فرع ثبوت الوجوب وهو فرع كون اليوم من شهر رمضان خصوصاً وأن الإمام (عليه السلام) بيَّن هذا الأمر ابتداءً من غير سؤال في الروايات الأولى، فهي في مقام بيان إطلاق الكاشف.

ص: 340


1- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري: 12/256.

4- إن هذا الإشكال يمكن تصوّره فيما لو كانت في السماء علة من غيم ونحوه، ليقال أن قيام البينة في البلدان القريبة كشف عن وجود الهلال في بلد الغيم لكن بعض الروايات كصحيحة هشام بن الحكم وصحيحة أبي بصير لم يفرض فيها وجود غيم أو مانع عن رؤية الهلال في داخل البلد ليتوهم اختصاص النظر فيها إلى حكم الانكشاف وعدمه لهذا المكلف أو لأهل ذلك البلد، وإنما حكم بذلك لكل من صام تسعة وعشرين يوماً ولو من جهة عدم إمكان رؤية الهلال في مكان الاستهلال ثم قامت بينة على صيام أهل مصر آخر ثلاثين يوماً، وهذا يدلّ على كون المعيار ثبوت رؤية الهلال في أي بلد آخر وإن كان غير متحد في الأفق معه.

(ومنها) ما قاله بعض المعاصرين من «أن جميع المطلقات ناظرة إلى بيان لزوم قضاء صوم يوم أفطر فيه مع رؤية الهلال في غير البلد. وهذا لو لم يكن دالاً على أن فوت صوم شهر رمضان مفروض في المطلقات ولذا عبر فيها بالقضاء وهو التدارك، فلا إطلاق للرواية حتى يلزم التقييد بل الحكم متقيد من الأول لا يكون دالاً علىالإطلاق أيضاً، فإن الإطلاق خلاف ظاهر لفظ القضاء، والتحفظ بظاهر القضاء ينافي الإطلاق، فلا يمكن التمسك بأصالة الإطلاق في هذه الحالة»(1).

أقول: لازم كلامه الفراغ من كون اليوم من شهر رمضان، وحكم قضاء مثل هذا اليوم ليس مورداً لشك السائل، وإلا الروايات مسوقة لبيانه «لأنها صريحة في السؤال عن مبدأ الشهر وأنه هل يكفي فيه رؤية الهلال في بلد آخر مع عدم رؤيته في البلد أم لا؟ فيكون جواب الإمام بوجوب القضاء لا محالة دالاً على

ص: 341


1- نقلها السيد محمود الهاشمي (دام ظله) في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، صفحة 57-58 عن (اعتبار اتفاق الأفق في إثبات رؤية الهلال) للقديري.

تحقق الفوت لصوم رمضان بذلك، وهو معنى كفاية رؤيته في بلد آخر مطلقاً، لتحقق الشهر إما عرفاً وتكوينياً أو شرعاً على الأقل»(1).

(ومنها) ما أورده بعض من حضرنا بحثه الشريف بقوله: «وقبل قراءة الروايات نشير إلى أمر وهو أنه على تقدير التسليم بالإطلاق فما تقدم منا من وجوه مانع عن تحقق الإطلاق، ولا أقل من كونه مقيداً أو مخصصاً فيكون كالقرينة المنفصلة. وهذا جواب عن الروايات الأربعة جميعاً»(2).

أقول: نقلنا هذه الوجوه سابقاً وناقشناها جميعاً ولم يتم منها شيء يصلح لتقييد الإطلاقات.

(ومنها) ما اعتبرها بعض المعاصرين(3)

قرائن عقلية ونقلية توجب حصر المفهوم في بعض أفراد ما ينطبق عليه بعد الاعتراف بتمامية الإطلاق وسنتعرض لذكرها بعد الانتهاء من مناقشة الروايات بإذن الله تعالى.

مناقشة دلالة الروايات تفصيلاً(4)

أما (الأولى) وهي صحيحة هشام بن الحكم فقد أورد على الاستدلال بها من جهتين:-

1- ما ذكره بعض من حضرنا بحثه الشريف بقوله: «ومثلها صحيحة سماعة (الخامسة)، فإن الإمام (عليه السلام) عبّر في الأولى ب_(أهل مصر) وفي الأخرى (اجتمع أهل مصر) وهذا التعبير لنكتة تتعلق بحجية البينة على الرؤية وهي أن لا

ص: 342


1- المصدر السابق: 58.
2- محاضرة يوم 16/ج2/1417.
3- السيد محمد حسين الطهراني في رسالته حول مسألة الهلال: 87.
4- سنعتمد مناقشات بعض من حضرنا بحثه الشريف وقد أورد مثلها المرحوم السيد تقي القمي في مباني منهاج الصالحين: 6/227-230.

يكون لها معارض حكمي نظير قوله (عليه السلام) في روايات أُخر: (ليس الرؤية أن يقوم واحد فيقول رأيته) وينفيه غيره(1)،فالعناية في هذا التعبير بلحاظ قيام الحجة وتعدد الشهود عند أهل مصر، أي أن مجرد الشاهدين من أهل مصر لا يكفي لوجوب القضاء إذ يمكن انفرادهما بالرؤية مع معارضة أهل المصر فلا بد من اجتماع أهل المصر على صدقهما أو الشياع العلمي، وذكر الخمسمائة في المصر لتحصيل الحجة بوجود مستهلين كثر وثبوت الرؤية ولا مدخلية لذكر المصر وليس هو في مقام البيان من هذه الجهة حتى يتمسك بإطلاقه وشموله للقريب والبعيد»(2).

أقول: الإطلاق ظاهر من صحيحة هشام، ولو ألقي النص إلى أي أحد من العرف لما تردد في فهمه والتمسك به عند العمل بحيث يستهجن العرف عدم إرادة الإطلاق منه.

وما ذكره (دام ظله الشريف) من المعنى لا ينافي إرادة الإطلاق، وإرادة المعنيين من تعدد الدال والمدلول؛ لأن الرواية تفترض تمامية البينة بغضّ النظر عن كونها ناشئة من الشياع لدى أهل المصر أو شاهدين يدخلان ويخرجان من المصر أو مطلق الشاهدين وإن شرط عدم وجود معارض حكمي يضعفها

ص: 343


1- يشير (دام ظله الشريف) إلى جملة من الروايات كصحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين، وإذا كان في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر) وصحيحة محمد بن مسلم وفيها: (والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف) (وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح10، 11).
2- محاضرة يوم 16/ج2/1417.

متحقق، وتقريب هذه الدلالة؛ تعليل الإمام (عليه السلام) الصيام بانه (على رؤيته) أي لأجل رؤيته كما قال تعالى: «لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشكُرُونَ» (الحج:37) وقال تعالى: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ» (الإنسان: 8)، وتوجد مجموعة من الروايات تفيد هذا المعنى كقوله (عليه السلام): (صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية) ولا تكون الرؤية معتبرة إلا إذا كانت تامة الشروط ومنها عدم وجود معارض.

نعم يمكن أن يرد إشكاله (دام ظله الشريف) على صحيحة سماعة لو قرأناها (أهل المصر) ولكننا أشرنا إلى اختلاف النسخ في ذلك ولم يستدل بها السيد الخوئي(قدس سره) كما تقدم، وقد ناقشنا أصل هذه النكتة عند البحث في حجية البينة وأنها غير مشروطة بانضمام ما يقويها إليها.

2- إن هذه الصحيحة كالروايات المتقدمة في الوجه الثاني من حيث كونها ناظرة إلى إمكان نقصان شهر رمضان وأنه لا يقضى يوم الشك إلا إذا قامت بينة على كونه من شهر رمضان فليست هي في مقام البيان من جهة البحث.

ويرد عليه ما رددنا به على هذا التقريب هناك وإنّ فهم الإطلاق من البينة ممكن والرد هنا أوضح لوجود (أي مصر) في صحيحة هشام وهو محل الاستدلال ولا يضره افتراض هذا المعنى، وإن الاقتصار على هذا المعنى للصحيحة يلغي نكتة الإتيان بلفظ (أي مصر) وهو ما يميزها عن روايات الوجه الثاني فالقياس بينهما مع الفارق.

وناقش (دام ظله الشريف) في الاستدلال بالروايتين (الثانية والثالثة) أي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله وصحيحة إسحاق بن عمار معاً «لوحدة لسانهما» بقوله: «إنَّ (غمّ) وإن كان يعني لغةً ستر الشيء بشيء آخر وهو يقتضي وجود المستور، أي إن الهلال موجود ولكن ستره السحاب الأبيض أو

ص: 344

الرقيق، إلا أن هذا المعنى غير مراد لأن الرؤية الفعلية غير معتبرة(1)،فهنا إذن مجاز في الإسناد فنسب الستر إلى الهلال باعتبار ستر محله فستر الغمام مطلع الهلال لا نفسه، لأن العلم بوجوده مع ستره كافٍ لثبوته، وهذا هو مورد السؤال بأنه هل يجب علينا أن نصوم في هذه الصورة أم لا؟ وتوجد فتوى لبعضهم –كابن عمر- بعدم وجوب صوم يوم الصحو، ووجوبه إذا كان في السماء علة كالغيم، التي هي منشأ الشك في وجود الهلال.

فموضوع القضاء هو الشك بوجود الهلال في بلده من جهة هل إن الهلال موجود وستره السحاب أم أنه غير موجود أصلاً؟ فكان الجواب أنه إذا شهد أهل بلد آخر ليس فيه غيم فيحصل لنا العلم أن الهلال كان موجوداً وقابلاً للرؤية لكنه سُتر عنا فيجب الصوم، وإلا فلا، والنهي هنا ليس نهياً واقعياً، وإنما هو في مقام توهم الأمر بالوجوب فيدل على عدم الوجوب، فالشك بوجود الهلال من جهة احتمال وجوده في أفق البلد إلا أن السحاب حجبه جزء الموضوع.

وفي ضوء هذا فالروايات لا إطلاق لها ليشمل البلدان التي يُقطع بعدم وجوده فيها لكون السماء صافية، لفقدان أحد أجزاء الموضوع وهو الشك بوجود الهلال وعدمه المستفاد من (غمّ) إذ البلد الآخر موصوف بأن وجود الهلال فيه كاشف عن مستوريته عنا فيجب علينا القضاء. ولا يشمل بلداً نقطع بعدم وجود الهلال فيه ولكننا احتملنا أنه سيتولد في بلد غربي. فأصل تحقق الإطلاق في الروايتين ممنوع في نفسه.

نعم، إذا كان الموضوع هكذا (إذا شككت في يوم أنه من رمضان أو لا، سواء شككت أن الهلال موجود أم لا؟ أو أنه تعلم بعدم وجوده لكن هل سيولد في بلد غربي أملا...) فيمكن استفادة ما قاله (قدس سره) وأما مع

ص: 345


1- أي أنه إذا علم بوجوده تحت الغيم فهذا كافٍ لثبوت الشهر ولا حاجة لرؤيته عرفاً.

التعبير المذكور فلا. فالاستدلال بالروايتين مع قطع النظر عن الجواب الإجمالي غير ممكن»(1).

أقول: ما ذكره (دام ظله) غير تام ولا يضرّ الإطلاق لعدة وجوه:-

1- إن أهل الذوق العربي يفهمون من (غمَّ) أوسع من التغطية بالغمام وغيره لأن معنى الغم الستر والتغطية ويقال: ناصية غمّاء إذا سترت الوجه وإنما سُمّي الغمام غماماً لأنه يستر ضوء الشمس أو السماء ويغطيها فلا يفهم من (غمّ) خصوص حالة وجود الغيم، والرواية لم تذكر وجود غيم أو علة في السماء كما في بعض الروايات الأخرى، فعدم رؤية الهلال أعم من أن تكون لتغطية الغمام موضعه أو لعدم وجوده بالأفق أصلاً، إذ قد يغمّ الهلال في الليالي الصافية أيضاً لكنه يُرى في بلد آخر. ومما يبعّد ما ذكره (دام ظله الشريف) بل يجعله غير مراد ظاهراً أنه على هذا المعنى يلزم لغوية ما ورد في الجواب (إلا أن تراه) لأن الفرض عدم إمكانية الرؤية لوجود المانع وهو الغيم فكيف يقول له: (إلا أن تراه) وهذا يعني أن الجواب لم يتضمن خصوص الغيم.

فالأَولى من المصير إلى المجاز في الإسناد هو تقدير المضاف بحسب المتفاهم العرفي. فيكون التقدير (غم أمر الهلال) وهو معنى عام يشمل ما لو لم يكن موجوداً؛ قال الشاعر: (ليلةُ غُمّى طامسٌ هلالها)(2) وقال في

ص: 346


1- من محاضرتَي يوم 15، 16/ج2/1417.
2- البيت لراجز مجهول، قال: ليلةُ غمّى طامسٌ هلالها أوغلتها ومَكرَهٌ إيغالُها أورده يوسف بن محمد السيرافي (ت 385 هج_) في كتابه شرح أبيات إصلاح المنطق، ص 363، تحقيق محمد عثمان، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، وكتاب إصلاح المنطق لابن السكيت.

اللسان: «ليلةٌ غَمّاء: آخر ليلة من الشهر، سُمّيت بذلك لأنه غمّ عليهم أمرها أي سُتِر، فلم يُدرَ أمِن المقبل أم هي من الماضي»(1)، وهذا المعنى هو الأقرب، لأن غمّ تأتي بمعنى (التبس) كما ورد في قوله تعالى: «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» (يونس: 71)، أي ملتبساً، وفُسِّرت الغمّة بالكربة التي هي معلولة للالتباس، والملتبس إنما هو أمر الهلال.

2- إن غمّ الهلال والتباس أمره له صورتان، إحداهما: احتمال وجوده في السماء لكنه خفي عنهم لستره بالغيم والغبار ونحوه، ثانيهما: إنهم يقطعون بعدم وجوده لأن السماء صافية ولا توجد فيها علة وتصدّى كثيرون لرؤيته ولم يروه ولكنهم يحتملون ثبوته في بلد آخر فيكون حجة عليهم وثابتاً في حقهم.وكل من المعنيين جزئي للموضوع وليس جزءاً له، والجامع يتحقق بوجود أحد أفراده. وليس من الضروري تحققهما معاً لصدقه، والاحتمال الثاني قائم وهو موضوع المسألة، بل إن الرواية ناظرة إليه ونافية للاحتمال الآخر، كما قدمنا.

فما ذكره (دام ظله الشريف) من كون كل منهما جزءاً من الموضوع ليس صحيحاً.

3- إن نتيجة تقريبه (دام ظله الشريف) هو القول الخامس أي كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في البلدان الأخرى ما لم يقطع بعدم وجوده فيها، وليس القول المشهور الذي يستدل له.

4- إن الغمّ ورد في كلام السائل، أما جواب الإمام (عليه السلام) فإنه يفيد قاعدة كلية بأن رؤية الهلال في أي بلد آخر تلزمك حتى لو لم يُر في بلدك، سواء كان عدم الرؤية لعدم وجود المقتضي –أي عدم وجوده أصلاً- أو

ص: 347


1- لسان العرب، مادة (غمم).

لوجود المانع –كغيم ونحوه- مع وجود الهلال، وكلام السائل لا يصلح لتقييده، بل قلنا أن الإمام (عليه السلام) أعرض عن مورد السؤال وهو وجود الغيم -إذا استفدناه من غمّ- وأطلق الجواب بقرينة قوله (عليه السلام): (إلا أن تراه) وهو لا معنى له مع افتراض الغيم.

3- إن التقييد لو كان مراداً واقعاً لقيّد الإمام (عليه السلام) به وهو في مقام البيان، وإلا يلزم التغرير بالمكلف، حاشاهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

وناقش (دام ظله الشريف) في الرواية (الرابعة) وهي صحيحة أبي بصير بعد أن شرح مورد السؤال وموضوعه بأنه «كان الناس أو بعض أهل الكوفة –ومنهم أبو بصير- ملتزمين بعدم صوم يوم الشك لما ورد في الروايات من طرق الخاصة والعامة من النهي عنه، وقد لا يصومونه من جهة الغيم، ثم إذا صاموا (29) يوماً قضوا ذلك اليوم لاحتمال كون يوم الشك من شهر رمضان أو على الأقل لاحتمال صحة ما ورد عنهم (عليهم السلام): (شهران لا ينقصان)، فالتزموا بقضاء هذا اليوم جمعاً بين النهي عن صوم يوم الشك وأن شهر رمضان (30)(1)

يوماً، فيسأل السائل أن صوم يوم الشك استناداً إلى أحد الوجهين هل لازم أم لا؟».

أقول: وبتعبير آخر: إن قضاءهم ليوم الشك الذي لم يصوموه لعدم رؤية هلال شهر رمضان إذا ظهر هلال شوال بعد 29 يوماً من شهر رمضان هل هو مطلق حتى لوكانت السماء صافية وقطعوا بعدم وجود هلال ولو لما ورد من أن شهر

ص: 348


1- وردت عدة روايات في أن (شهر رمضان ثلاثون يوماً لا ينقص أبداً) في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 5)، وقد تقدمت مناقشتها في بحث ثبوت الشهر بالعدد (صفحة 93-95).

رمضان كامل لا ينقص أبداً، أو في خصوص وجود علة في السماء فيحتملون وجود الهلال لكنهم لم يروه بسبب الغيم ونحوه.

وبعد بيان موضوع السؤال قال (دام ظله الشريف): «ومن شرح موضوع السؤال ينفتح جواب على الاستدلال، إذ إن كلامهم في يوم الشك، وشكهم هو الشك المتعارف أول الشهر، وهو أن الشهر هل قد ابتدأ بهذا اليوم أم اليوم التالي، لا إنه هل يرى في البلاد الغربية أم لا، فالقدر المتيقن هو الشك المتعارف، أما من الجهة التي استدلوا بالرواية عليها فلا يُعلم استنادهم إليها ولا دليل عليه».

أقول: كأنه (دام ظله الشريف) يحتمل أن السؤال عن القضاء في خصوص ما لو كان في السماء علة فلا ينعقد إطلاق للصحيحة.

ويرد عليه:-

1- لم يرد ذكر الغيم في السؤال فحمل الرواية عليه تقييد لا وجه له.

2- إن أبا بصير لا يفوته استحباب صوم شهر شعبان عموماً والأيام الأخيرة منه خصوصاً، وأن النهي عن صوم يوم الشك ليس مطلقاً وإنما إذا قصد به شهر رمضان وهو لم يُحرز أو جيء به بداعي وجوبه كما نقل الشيخ في التهذيب هذا القول عن الفرقة (كما تقدم)، أو أنه نهي في مقام توهم الوجوب فيفيد نفي الوجوب.

3- أن شرحه لموضوع السؤال لا يؤثر في الإطلاق لأنه لا يرتبط بموضع الاستدلال كما هو واضح، لأن الاستدلال بلحاظ إطلاق كلام الإمام (عليه السلام) في الجملتين التاليتين فما ذكره (دام ظله الشريف) أمر آخر.

ثم ذكر (دام ظله الشريف) تقريب استدلال السيد الخوئي (قدس سره) بكلتا الجملتين من الرواية أو الروايتين على ما استظهرناه فقال عن الاستدلال بالفقرة الأولى (جميع أهل الصلاة): إن «مبنى ما افاده على حذف وتأويل؛ أما الحذف فإن (حتى يثبت عند جميع أهل الصلاة) أي بلدان أهل الصلاة بحذف

ص: 349

المضاف وهو مألوف، والتأويل استظهار العموم البدلي بمعنى (أي) من (جميع) كما ورد في بعض الروايات وليس العموم الاستغراقي الظاهر منها.

وهذا المعنى الذي يبتني عليه الاستدلال بعيد، فإن الظاهر من هذه الجملة ما ذكره في الوافي من أن المراد بجميع أهل الصلاة أي على أي مذهب من ملل الإسلام فيكفي وجود شاهدين عادلين ولا يختص كونه من المؤمنين أي لا يعتبر شرط الإيمان في الشاهد، وإنما عدول في مذهبهم المشترك معنا في الصلاة، فالرواية ظاهرة أو صريحة بهذا المعنى.

وإذا دار الأمر بين الأخذ بظاهر الرواية أو تأويلها على الوجه الذي بنى عليه استدلاله، فالحمل على الظاهر وإن خالف الإجماع أهون من التأويل.

هذا مع قطع النظر عمّا ذكرنا هنا وفي الرواية السابقة من أن النظر إلى ترك صوم الشك والقضاء بعده. فقد ذكر بعضهم –كما في المغني لابن قدامة- أن بعض الروايات الواردة في قضاء آخر أيام شعبان مناسب لقضاء يوم الشك، فهذا لا أهمية له ولا ربط له في المقام بل ذكرناه استثنائياً».ويرد عليه:

أما (الحذف) فإن كلام السيد الخوئي (قدس سره) لم يتضمن حذفاً وإنما تمسّك بعموم (جميع أهل الصلاة) فإنه يشمل أهل الصلاة بجميع طوائفهم ومذاهبهم -وهو ما اختاره تبعاً للوافي- ويشملهم بجميع بلدانهم أيضاً.

وبتعبير آخر: إن أهل الصلاة منتشرون في بلاد الأرض فقبول الشهادة من جميع أهل الصلاة يعني أنهم في أي بلد كانوا.

على أن حذف المضاف وتقديره (بلدان أهل الصلاة) يمكن استظهاره عرفاً بلا مؤونة:-

أ- لأن الفقرة الثانية (أهل الأمصار) تدل عليه فأهل الصلاة في الفقرة الأولى هم أهل أمصار الصلاة سواء كانت الجملتان فقرتين من رواية واحدة أو من روايتين كما احتملنا.

ص: 350

ب- ولأن روايات الباب دالة على ذلك ففي بعضها (أهل بلد آخر) وفي بعضها (أهل مصر) ونحو ذلك فأهل الصلاة هم أنفسهم أهل هذه الأمصار والبلدان.

وأما (التأويل) فإن كلام السيد الخوئي (قدس سره) لم يتضمنه أيضاً لأن قبول البينة من أي بلد كان لم ينشأ من حمل العموم الاستغراقي على البدلي بل اقتضته نفس الرواية لاكتفائها بثبوت الشاهدين العادلين من جميع أهل الصلاة وليس من حمل (جميع) الظاهر في العموم الاستغراقي على البدلي وهذا ظاهر عرفاً كما أن خطاب الوجوب العيني يشبه خطاب الوجوب الكفائي في كونه متوجهاً إلى الجميع لكن العرف يفهم من هذا المورد أنه وجوب كفائي يتحقق غرضه بفعل البعض فهنا يجزم العرف بأن الرؤية حق لجميع أهل الصلاة لكن إذا قامت بيّنة عادلة من بعضهم كفت في ثبوت الهلال.

مضافاً إلى عدة ملاحظات:-

1- إن حمل (جميع أهل الصلاة) على أهل الطوائف والملل -كما نقله عنه في الوافي وأيّده- بعيد في ضوء ما ذكرناه من القرائن وأن الأقرب حملها على لحاظ البلدان ولأن من شروط الشهود العدالة، ولا أظنه (دام ظله الشريف) يعتقد بعدالة كل أهل الفرق والمذاهب المنتسبة إلى الإسلام.

2- إذا اعتبرنا لفظ (جميع) دالاً على العموم الاستغراقي، فهذا التفسير يلزم منه عدم الاكتفاء بشهادة العدول من أتباع الحق وإنما لا بد من شهادة كل فرق الإسلام على الرؤية وهو كما ترى.

3- إنه (دام ظله الشريف) أراد الفرار من التأويل بالعموم البدلي فوقع فيه حين أخذ بتفسير صاحب الوافي من أن الشرط هو ثبوت البينة عند أي مذهب من ملل الإسلام وليس جميعهم وهذا عموم بدلي بلحاظ الطوائف.

ص: 351

4- إن المورد لو احتاج إلى تأويل لفظ (جميع) الدالة على العموم الاستغراقي على البديل فلا مانع منه لوجود مسوّغاته التي تمنع من حمله على العموم الاستغراقي وهي بعد الالتفات إلى مقدمة وهي أن معنى وجوب القضاء كون اليوم الفائت من1- شهر رمضان وهو يعني دخول الشهر الجديد قبل اليوم الذي اعتقده وبداية الشهر الجديد، وهذه المسوغات هي:-

أ - أنه من غير المحتمل شرعاً ولا عرفاً –باعتبار أن الشهر معنى عرفي- أن يكون شرط دخول الشهر ثبوت الهلال في كل بلاد الإسلام ولدى كل طوائفه، ولا يوجد قائل بذلك.

ب - إنه يقتضي عدم ثبوت قضاء يوم حتى في البلد الذي تقوم فيه البينة على رؤية الهلال منذ ثلاثين يوماً ما لم يثبت القضاء في كل أمصار المسلمين الأخرى! وهو كما ترى مضافاً إلى مخالفته الصريحة للروايات.

5- حمل لفظ (جميع) على العموم الاستغراقي يلزم منه تلقائياً كفاية رؤيته في جميع البلدان، وهو يقتضي أن يكون دخول الشهر في جميع البلدان واحداً لاشتراط ثبوت البينة فيها جميعاً –كما يريد المستشكل- وهذه النتيجة مطابقة لما يريده المستدل ولكن بطريق آخر وهو أن لا يثبت الهلال في أي بلد ولا يقضي أهله حتى يثبت في جميع البلدان ويقضي أهل الأمصار جميعاً وهو معنى وحدة الهلال للجميع.

ثم قال (دام ظله الشريف): «وأما الاستدلال بالجملة أو الرواية الثانية (إلا أن يقضي أهل الأمصار) فإنه مبني على حمل الجمع المحلى باللام (الأمصار) الظاهر في العموم الاستغراقي على البدلي (أيَّ مصر من الأمصار)، وهذا التأويل غير ظاهر، فإن هذا الجمع يدور أمره بين العموم البدلي بمعنى (أي مصر من الأمصار، وإن كان مخالفاً لكم في الأفق وإن لم يتولّد عندكم) وبين أن نقول أن معناه (الأمصار القريبة لكم الممكنة الاطلاع) لأن الاطلاع على

ص: 352

جميع الأمصار بعيد، والتأويل بما أفاده بعيد والمراد بالأمصار: القريبة، والمصر في مقابل الأرياف والقرى لذا ورد إذا كان في المصر خمسمائة أو أكثر.

فالاستدلال بهما على ما أفاده (قدس سره) وجعله أوضح الأدلة محل إشكال ولا يمكننا الموافقة عليه»(1).

أقول: يرد عليه:-

1- إن الجملة التي اقترحها للتعبير عن مراد المستدل هي نفسها التي وردت في الروايات غاية الأمر أن الجزء الأول مذكور بالنص والجزء الثاني مستفاد بوضوح من الإطلاق.

2- إن الاستدلال لا يتضمن حمل ما ظاهره العموم الاستغراقي على البدلي وإن البدلية تحصيل حاصل اقتضته كفاية رؤية شاهدين عادلين وهذان الشاهدان يمكن أن يكونا من جميع الأمصار.3- أن ما اعترض (دام ظله الشريف) به على الجملة الثانية من دوران معنى الأمصار بين الحمل على العموم البدلي والأمصار القريبة فإنه غريب، لأن قسيم العموم البدلي المحتمل هو العموم الاستغراقي، أما ما ذكره (دام ظله) فهو الانصراف وقد أجبنا فيما سبق.

وقد أورد بعض تلامذة السيد الخوئي (قدس سره) نفس الإشكالات ومنها على الجملة الثانية بقوله: «إن الحكم معلق على قضاء أهل كل مصر ولم يعلَّق على قضاء مصر على الإطلاق. وإن شئت قلت: المستفاد أن الشرط الثبوت في جميع الأمصار لا كفاية ثبوته في مصر من الأمصار»(2).

ص: 353


1- محاضرة يوم 17/ج2/1417.
2- مباني منهاج الصالحين للسيد تقي القمي: 6/229.

أقول: تقدم الرد على هذا والذي نريد أن نضيفه قوله: «المستفاد من هذه الجملة جميع بقاع الأرض مشتركة في أول الشهر وأول شهر هذه البقعة أول شهر بقية البقاع.

ويرد عليه: أن الحكم معلق على قضاء أهل كل مصر ولم يعلق على قضاء مصر على الإطلاق. وبعبارة أخرى: لو كان الأمر كما يدعي كان اللازم كفاية ثبوت الهلال في مصر واحد.

وإن شئت قلت: المستفاد من الجملة أن الشرط الثبوت في جميع الأمصار لا كفاية ثبوته في مصر من الأمصار.

وبعبارة واضحة: إن المستفاد من هذه الرواية أنه لو ثبت الهلال في كل مصر من الأمصار يثبت أيضاً في المصر الذي لم يثبت فيه بالرؤية أو بالشهادة وحيث أن دلالة هذه الرواية على المدعى بالعموم الوضعي ترفع اليد عن إطلاق بقية الروايات التي تدل بإطلاقها على أن ثبوت الهلال في مصر من الأمصار يكفي للثبوت على الإطلاق.

ويمكن أن يقال: أن المستفاد من ذيل الحديث بنحو الحصر أن قضاء جميع أهالي الأمصار شرط لوجوب القضاء، ومفهومه عدم كفاية قضاء أهل بعض الأمصار دون بعض فمفهوم هذه الرواية أخص بالنسبة إلى بقية الروايات إذ المستفاد من تلك المطلقات أن الرؤية في مصر من الأمصار على الإطلاق يكفي للثبوت لبقية الأمصار بلا فرق بين كون البلد الذي رؤي فيه واحداً أو متعدداً وبلا فرق بين كون البلد المرئي متحداً في الأفق مع البلد الذي لم ير فيه أو مختلفاً فإن تلك المطلقات لها الإطلاق من جميع هذه الجهات ومفهوم هذه الرواية أخص من تلك المطلقات لأن منطوقها داخل في تلك المطلقات فإن جملة من الفروض الرؤية في جميع الأمصار فهذه الرواية تخصص تلك النصوص.

وعلى فرض الإغماض عن البيان المذكور فلا أقل من التعارض ونتيجته التساقط وبعد سقوط طرفي المعارضة تصل النوبة إلى الأخذ بالروايات

ص: 354

الدالةبظواهرها على أن الميزان بالرؤية في البلد فلاحظ ما ذكرناه واغتنم ولعمري إنه دقيق وبالتلقي بالقبول حقيقي ونشكر المولى على ما أنعم وهو العالم بالأشياء وعيه والتوكل والتكلان»(1).

أقول: يرد عليه:-

1- ما ذكرنا من استبعاد حمل العموم على الاستغراقي.

2- إن ما ذكره (قدس سره) ليس تخصيصاً لإطلاق الروايات الكثيرة الدالة على لزوم القضاء إذا ثبت أن أهل بلد آخر صاموا ثلاثين يوماً أي أن الشهر بدأ عندهم قبل ليلة بل إلغاء لصراحتها في الإطلاق لتعبير الإمام (عليه السلام): (أي مصر) و (أي بلد آخر) و (أهل مصر) ونحو ذلك.

فيكون من باب التعارض وحمل هذا العموم الظاهر في الاستغراقي على إطلاق تلك الروايات -وهي كثيرة وصحيحة وواضحة- أقرب وأولى خصوصاً بعد ملاحظة ما ذكرناه من غرابة الحمل على العموم الاستغراقي.

ولو فرض استقرار التعارض والتساقط فإن النتيجة عدم اشتراط اتحاد الأفق لوجود الأدلة الأخرى الكثيرة عليه.

إضافة: قال بعض المعاصرين المتحمسين لقول المشهور في ضمن ردوده على السيد الخوئي (قدس سره): «والحق أن هذه الإطلاقات لا تقصر عن سائر الإطلاقات الواردة في أبواب الفقه؛ لولا الانصراف والقرائن العقلية والنقلية، الموجبة لحصر المفهوم في بعض أفراد ما ينطبق عليه. وهذه الموانع بأسرها موجودة في المقام»(2).

ثم قال: «أما القرينة العقلية، فهي:

ص: 355


1- مباني منهاج الصالحين للسيد تقي القمي: 6/229.
2- رسالة حول مسألة رؤية الهلال: 87، الطبعة الأولى، مؤسسة العروة الوثقى.

أولاً: أنا نعلم أن ساكني نصف قطر العالم لا يرون الهلال بعد خروجه عن تحت الشعاع دائماً. فإذن تشريع الأحكام المترتبة على الرؤية ثم عدم تنجيزها بتاً بعدم تحقق الرؤية خارجاً، لغو غير صادر من الحكيم.

لأن فائدة تشريع الحكم في مقام الجعل والإنشاء، إمكان تنجزّه في الجملة، بالعلم والقدرة وسائر الشرائط العامة للتكليف؛ وإلا فالحكم المجعول في عالم الإنشاء غير القابل للتنجيز، بعدم تحقق ما يوجب تنجّزه دائماً، عبث محض.

وأنت ترى أن أظهر مصاديق هذا الحكم العقلي الذي ذكرناه هو الحكم بوجوب الصيام أداءً المترتب على الرؤية، بالنسبة إلى نصف العالم، مع عدم إمكان تحققها؛ بمجرد تحققها في القطر الآخر»(1).

أقول:-

1- لا نرى ما ذكره (قدس سره) مانعاً لأن دخول الشهر وإن أصبح فعلياً لأهل الأرض كافة إلا أن الأحكام المترتبة عليه كوجوب الصوم لا تتنجز إلا بتحقق موضوع الحكم وهو حلول الليل لأنه به يبدأ الشهر الجديد فأين المشكلة.

2- إن توجيه التكليف يصحّ بوجود ولو فرد واحد ولا حاجة إلى جريانه في حق الجميع.

3- النقض عليه بوجود أجزاء من الأرض -وهي القريبة من القطبين- لا ترى الهلال أصلاً في بعض المواسم فهل يبطل الحكم بهذا.

ص: 356


1- نفس المصدر السابق: 88.

ثم قال (قدس سره): «وثانياً: حكم الشارع بوجوب القضاء، يوجب تقلّب الحكم على المسلمين؛ لما ذكرنا من أن ساكني نصف القطر لا يرون الهلال دائماً.

فلو حكّم الشارع الرؤية على المسلمين في أقطار العالم وجعل صومهم عليها وعند عدم الرؤية حكّم البينة بعد ستة أشهر أو تسعة أشهر أو سنة على أن في البلدة الكذائية في نقطة خاصة من المغرب مثلاً رئي الهلال، فلا بد وأن يقضوا صيامهم جميعاً في نصف القطر؛ فهل هذا إلا قلب الحكم لجميع الأمة؟ فما معنى هذا التشريع؟ فهلا حكم الشارع لهم بتقديم صيام يوم قبل الشهر، كي لا يقعوا في هذا المحذور؟

إن تشريع القضاء في ما لا يمكن الأداء للمكلف لعدم إمكان العلم بالتكليف، تشريعاً عاماً للجميع، غير معقول؛ ولكن هذا التشريع بالنسبة إلى أفراد خاصة أو في بعض الأحيان لا مانع منه. فتشريع قضاء الصوم في البلاد المتقاربة للبلد المرئي فيه الهلال، من هذا القبيل؛ وأما بالنسبة إلى الجميع فغير صحيح»(1).

أقول: هذا تهويل لا نرى له وجهاً حيث لم يكلّفهم الشارع المقدس بالفحص في جميع البلدان مع صعوبة التنقل والاتصال فيسّر عليهم الصوم والإفطار بناءً على الرؤية وعدمها في بلدهم ثم قضاء يوم إذا بان الخلاف، وقد تقدم ذكر النكتة الإعجازية لأحاديث الأئمة فهم (عليهم السلام) لم يخفوا الحكم بكفاية الرؤية في البلدان البعيدة ولم يطبقوها على الأداء لصعوبة العمل بها وإنما على القضاء لأن فيه سعة من الزمن.

ص: 357


1- المصدر السابق: 89.

وأما قوله: «فهلا حكم..» فهو واقع في الروايات وقد ورد الحث على صوم اليوم الأخير أو الثلاثة الأخيرة من شعبان وأن تكون نيتها استحبابية أو لجامع المطلوبية وتجزي عن رمضان إذا ثبت ذلك لاحقاً.

ثم قال (قدس سره): «وأما القرينة النقلية: فهي الأخبار الواردة من الفريقين، لعلّها تبلغ حدّ التواتر، بإناطة الصيام والفطر بالرؤية .وذلك لأننا نعلم في آخر كلّ شهر قمريّ وهو الفصل بين المقابلتين أو المقارنتين ، أعني 29 يوماً و 12 ساعةً و 44 دقيقهً أنّ القمر خرج عن تحت الشعاع ورئي في مكان ما، وصار الشهر الهلالي المبدو بالرؤية، الشهر الحسابي المعلوم بالقواعد والحساب المذكور، ونحسب هذا المقدار ثم هذا المقدار، وهلم جراً إلى آخر الدهر، فنستريح من الاستهلال والرؤية والشهادة والبينة والقضاء وغيرها جميعاً.

فإذن سقطت الرؤية رأساً، وبطلت هذه الروايات المتظافرة المتكاثرة الدالّة على دخالة الرؤية »(1).

وفيه:-

1- إن هذه المدة بين الاقترانين هي المعدل وإلا فهي تتراوح بين 29 يوماً و 5 ساعات و 29 يوماً و 19 ساعة وهذه الحركة لا يعرفها إلا الخبراء من أهل الفن.

2- إن هذا الحساب يمكن أن يعطينا موعد ولادة الهلال بدقة إلا أنه لا يكفي لمعرفة إمكانية الرؤية لدخول عوامل كثيرة أخرى ذكرناها سابقاً.

3- النقض عليه بما تقدم منه من دخول الشهر في البلد الشرقي غير المتحد في الأفق مع الغربي (كمشهد وبندر عباس) رغم العلم بعدم إمكانية الرؤية في البلد الشرقي معللاً ذلك بوحدة البلاد عرفاً وقد ناقشناه فكما أنه ألغى

ص: 358


1- المصدر السابق نفسه: 90-91.

وجوب الرؤية هناك فليقل بها هنا فإن هذا الاشتراك قد ثبت بالروايات المعتبرة وليس بأمور استحسانية أو اعتبارية.

4- إن هذه المعلومات الدقيقة لم تكن معروفة بتفاصيلها زمن صدور النص فلا بديل عن إناطة الأمر بالرؤية أما اليوم فالبناء عليها ممكن وهي تساعد كثيراً في معرفة إمكانية رؤية الهلال ولا نرى بأساً في الاعتماد عليها إذا حصل الاطمئنان بها لأن الرؤية مأخوذة على نحو الطريقية لا الموضوعية كما بنى (قدس سره) ويظهر من قوله: «دخالة الرؤية».

(الوجه الرابع) إطلاقات روايات الصوم للرؤية والإفطار للرؤية وهي كثيرة، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية)(1) وصحيحة الفضل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية)(2) ورواية أبي العباس (الصوم للرؤية والفطر للرؤية)(3).بتقريب: إن «إطلاق لفظ (الرؤية) يشمل كل رؤية في أي بلد كان لأي محل يحصل لهم الوثوق بتحقق الرؤية في أي بلد كانت» ومن أقسام الرؤية «أن يراه عدلان ويشهدا به عند الحاكم أو غيره، ومقتضى إطلاقها: بالنسبة إلى الآخرين عدم الفرق بين اتحاد الأفق واختلافه فلو رآه شخص في الحجاز وعلم بصدقه شخص آخر في الهند، أو بالعكس وجب ترتيب الأثر، وكذا لو رآه شخص في الحجاز –مثلاً- وجاء إلى الهند أو بالعكس وجب ترتيب الأثر على رؤيته، لشمول الإطلاق لجميع ذلك.

ص: 359


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب احكام شهر رمضان، باب 3، ح2، 12، 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب احكام شهر رمضان، باب 3، ح2، 12، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب احكام شهر رمضان، باب 3، ح2، 12، 4.

وبعبارة أخرى: صرف وجود الرؤية إذا تقاربت الأيام والليالي في الجملة في بلاد العالم منشأ لترتيب الأثر اتحد الأفق أو اختلف»(4).(1).

أقول: يظهر من كلامه (قدس سره) تقريبان للاستدلال: (أحدهما) قوله (قدس سره): «إطلاق..» (ثانيهما) قوله (قدس سره): «وكذا..».

وقد أخذ بعض الأعلام المعاصرين (قدس سره) هذين التقريبين مع تغيير الترتيب فقال (قدس سره) عن هذا الإطلاق: «يمكن تقريبه بنحوين:-

1- إطلاقها لما إذا رأى المكلف الهلال في مكان ثم سافر إلى بلد آخر يختلف معه في الأفق لم ير فيه الهلال رغم استهلال الناس وكون السماء مصحية، فإنه لا إشكال في أن مقتضى هذا الإطلاق وجوب الصوم عليه ذلك اليوم –ولو قضاءً إذا وصله بعد الزوال- حتى إذا كان بحيث لا يمكن أن يرى فيه الهلال وأنه لا بد من اعتبار ذلك اليوم من رمضان، مع أنه لو كان الميزان في تحقق الشهر بالبلد الذي هو فيه فذلك النهار ليس من رمضان بالنسبة إليه لكي يجب عليه صومه، والبلد الذي كان قد رأى الهلال فيه لم يكن موجوداً فيه في نهاره ليصبح وجوب صومه عليه فعلياً. فهذا الإطلاق ينفي تعدد الشهر بتعدد البلاد في حق هذا المكلف، فيتعين لا محالة كفاية الرؤية لبلد لسائر البلدان أيضاً، لعدم احتمال الفرق بين مكلف ومكلف في الحكم الواقعي في البلد الواحد.

2- التمسك بإطلاق الرؤية للأعم من رؤية المكلف نفسه أو رؤية الآخرين، فإن هذه الروايات بعضها وردت بعنوان (صوموا للرؤية) أو (الصوم للرؤية أو بالرؤية) ونحو ذلك».

وقال (قدس سره): «ومثل هذا اللسان ظاهر في أن الميزان في تحقق الشهر ثبوت الرؤية القطعية للهلال من قبل الناس ولو في الجملة أو بمقدار البينة

ص: 360


1- (4) مهذب الأحكام: 10/284.

العادلة بشروطها، فيكون له إطلاق لثبوت الرؤية في بلد آخر ولو كان مختلفاً في الأفق مع بلد المكلف»(1).

أقول: أما التقريب الأول له (قدس سره) فيرد عليه أن صوم هذا المكلف –لو قلنا به ولو على نحو الاحتياط- ناشئ من تنجز الشهر عليه شخصياً بالرؤية وليس لثبوت الشهر في ذلك البلد الذي سافر إليه فيكون الحكم نظير حكم من رأى الهلال وحده فيبلده، كما في صحيحتي علي بن جعفر (أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره، ألهُ أن يصوم؟ قال: إذا لم يشك فليصم وإلا فليصم مع الناس)(2)، فما ذكره (قدس سره) عين المدعى ولا بد من إثباته في المرتبة السابقة على هذا الحكم.

وأما التقريب الثاني فقد أُشكل عليه بأن هذه الروايات أجنبية عن المقام لأنها بصدد بيان أن الشهر لا يثبت بالتظنّي ولا بالتخمين وإنما بالعلم الحاصل من الرؤية كما هو صريح بعضها، وبتعبير بعض الأعلام المعاصرين إنها «مسوقة لبيان الوظيفة الظاهرية عند الشك، وليست بصدد بيان ما يتحقق به الشهر واقعاً من حيث كفاية رؤيته في بلد آخر وعدمها، فلا إطلاق لها».

أقول: وفيه تأمل؛ لاستبعاد تجريد الروايات عن دلالتها على كون الرؤية مما يثبت به الشهر واقعاً، ولذا أجاب (قدس سره): «بأن الحكم الظاهري والوظيفة العملية إنما يستفاد من مفهوم تعليق الصوم على الرؤية لا منطوقه، فإنه لبيان الحكم الواقعي بتحقق الشهر برؤية الهلال أو القطع بطلوعه بنحو بحيث يمكن أن يرى، فيمكن أن يكون فيه إطلاق لرؤيته في البلد المختلف معه في الأفق

ص: 361


1- السيد محمود الهاشمي، في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، صفحة 43.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 4، ح1، 2.

ويكون هذا إطلاقاً في الحكم الواقعي لا جمعاً بين الحكم الظاهري والواقعي، بخلاف ما تقدم فيما سبق»(1).

وعلى أي حال فالإشكال على الإطلاق وارد لذا لا يمكن التمسك بإطلاق الرؤية في المقام لنفي شرط تعدد الشهود أو عدالتهم، أو ما هي شروط الرؤية المعتبرة وهل يكفي فيها حصولها في البلدان المتباعدة فالروايات لا تتكفل بها. ولسنا بحاجة إلى تمامية هذا الوجه للاستغناء عنه بالوجوه الأخرى، وهو لا يزيد عن الاستدلال بإطلاقات البينة في الوجه الثاني.

(الوجه الخامس) التمسك بإطلاق (الناس) في مجموعة من الروايات كصحيحتي علي بن جعفر المتقدمتين (أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره، ألهُ أن يصوم؟ قال: إذا لم يشك فليصم وإلا فليصم مع الناس)(2) (وخبر الشيخ (قدس سره) في التهذيب عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (في قوله عز وجل: «قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنَاسِ وَالحَجِّ»قال: لصومهم وفطرهم وحجهم)(3) وخبر أبي الجارود زياد بن المنذر -الذي قلنا(4) في بحث مستقل سابق بإمكان اعتباره-

ص: 362


1- السيد محمود الهاشمي، مصدر سابق، صفحة 43، ويشير ب_(ما سبق) إلى ما نقلناه عنه من تقريب الاستدلال بإطلاقات الرؤية على القول المشهور صفحة 52 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 4، ح1، 2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح 23.
4- في مبحث إجزاء الوقوف في عرفة مع العامة عند الاختلاف في الهلال، ص 168.

قال: (سمعت أبا جعفر محمد (عليه السلام) يقول: صُم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت)(1).

وتقريبه أن (الناس) مطلق شامل لكل الناس في سائر البلدان وقد أمرنا بمتابعتهم، ولم يذكر أحد هذه الطائفة من الروايات كوجه آخر للاستدلال، ولعل الوجه أنها لا تزيد عما ورد في الطائفة السابقة أي إطلاقات الرؤية لأن المراد بمتابعة الناس بالصوم والإفطار حين رؤيتهم، فالاستدلال هناك بالمضاف وهنا بالمضاف إليه، وتأتي فيه نفس المناقشات.

(الوجه السادس) صحيحة(2) محمد بن عيسى قال: (كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي إنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه ونرى السماء ليست فيها علة ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحسّاب قبلنا: أنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقيا والأندلس، هل يجوز يا مولاي ما قال الحساب في هذا الباب حتى يختلف (العرض) الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا، فوقّع: لا صوم (لا تصومنّ) الشك؛ أفطر لرؤيته وصم لرؤيته)(3).

بتقريب أن السائل كان يقطع بعدم إمكانية رؤية الهلال في بلده لقيام الناس من دون أن يروه وليس في السماء علّة وهو ما أكّده أهل الأرصاد،

ص: 363


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح4.
2- صحّحنا الرواية من دون التحقيق في هوية أبي عمر لأن الظاهر أن محمد بن عيسى رأى توقيع الإمام (عليه السلام) بعينه، والإمام المقصود هو الجواد (عليه السلام) وذلك لأن النجاشي ذكر أن محمد بن عيسى اليقطيني روى عنه (عليه السلام) مكاتبة ومشافهة.
3- وسائل الشيعة: 10/297، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 15، 1.

فالشك الذي حصل عنده وعبَّر عنه: (أشكل علينا) نشأ من قول أهل الأرصاد برؤيته في الغرب فيسأل عن صحة مثل هذا الفرض وإمكان الاعتماد عليه لدخول الشهر الجديد والإمام (عليه السلام) لم يردعه عن هذا الاحتمال وأجابه عنه بأن نهاه عن العمل بالظن دون القطع.ومفهوم كلامه (عليه السلام) أنه لو كان قاطعاً فليعمل بعلمه وأعرض الإمام (عليه السلام) عمّا سأل عنه السائل.

قال السيد أبو تراب الخوانساري (قدس سره) في شرحه لنجاة العباد في الاستدلال بالرواية على التعميم: «إن النهي عن الصوم لأجل كونه شاكاً من قولهم كالصريح في أنه لو كان قاطعاً برؤية أهل تلك البلاد لكان له حكمهم، والحال أنها من البلاد البعيدة بالنسبة إلى بلاد الراوي كما لا يخفى.

بل وظاهر السؤال أن في استخراج أهل الحساب أيضاً إنما كان يمكن الرؤية في تلك البلاد خاصة دون بلد الراوي كما لا يخفى. واحتمال أن يكون المراد إن الرؤية في تلك البلاد موجبة للشك في إمكان الرؤية في بلدك فلا تصم لأجل ذلك فيدل على أن العبرة ببلد المكلف خاصة كما ترى خلاف الظاهر جداً ولو بالنظر إلى أنه لو كان المراد ذلك لقال: صم بالرؤية في بلدك صريحاً ولم يأمر بالصوم بالرؤية بقول مطلق الذي هو في مقابل العمل بقول أهل الحساب ونحوه من الأمور الظنية كما أشرنا إليه مراراً، وإلى أن من البعيد فرض الشك في إمكان الرؤية في بلد الراوي بعد فرض عدم رؤية جميع الناس طراً مع عدم العلة في السماء وكونه في استخراج أهل الحساب غير ممكن الرؤية، فليس إلا الشك في الرؤية في تلك البلاد لقول أهل الحساب بإمكان الرؤية فيها»(1).

ص: 364


1- وما بعده ذكرهما السيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، صفحة 51-52، ونقل الأول عن (رسالة حول مسألة رؤية الهلال: 171) والثاني عن (مجمع المسائل: 1/241).

واستدل بها أيضاً السيد الكلبايكاني (قدس سره) قائلاً: «ولعل ما أخرجه في الوسائل (ثم ذكر الرواية) تدل على ذلك، لأن السائل سأل عن قول أهل الحساب برؤية الهلال في الأندلس وأفريقيا، فيجيب (عليه السلام) بأنه لا صوم مع الشك، ولا يجيب بأن الرؤية في البلاد البعيدة لا تكفي».

وأشكل بعض من حضرنا بحثه الشريف على تقريب السيد الخوانساري (قدس سره) بما أشكل هو (قدس سره) على نفسه في قوله المتقدم: «واحتمال..» فقال (دام ظله): «إن السؤال لم يكن عن وظيفة الراوي فهو يعلم أن وظيفته الإفطار يوم الشك، وإنما سؤاله هل أن ما قاله أهل الحساب من قابلية رؤية الهلال في الغرب أمر ممكن ونتيجته حسب معتقده اختلاف صومهم مع صوم أهل بغداد أي اختلاف البلاد كما يقول المنجمون، والإمام (عليه السلام) أعرض ولم يجبه وأكد على السابق من أنه لا صوم من الشك الذي عبّر عنه السؤال بقوله: (أشكل علينا) فإن عدم الشهود لا يعني عدم وجود المشهود، فلا دليل في الكلام أنه لو كان قاطعاً بكلام أهل الحساب لوجب، فإنه يعلم عدم الوجوب، فالاستدلال بهذه الرواية غير صحيح»(1).(1).

وفيه:-

1- إن هذا الاحتمال أعني كون موضوع السؤال هو نشوء احتمال لدى أهل بغداد باحتمال إمكان رؤية الهلال عندهم لأجل رؤيته في الأندلس باعتبار أن عدم الشهود لا يعني عدم المشهود فرض بعيد لإجماع الناس على عدم وجوده ولتأكيد أهل الحساب لعدم إمكان رؤيته، وأن عدم الشهود يعني عدم المشهود شرعاً لأن المطلوب الشهود لا وجود المشهود بأي نحو كان، وإن كلام السائل نفسه ينفي هذا الاحتمال لأنه جعل صحة هذا الوضع الفلكي تعني اختلاف الفرض بين البلدان فهو يعتقد عدم الملازمة بين

ص: 365


1- من محاضرة يوم 17/ج2/1417.

الآفاق، ويجزم بعدم إمكان الرؤية في بلده، وقد اعترف (دام ظله الشريف) بأن السائل يقطع بعدم دخول الشهر الجديد وهذا يناقض قوله: (أشكل علينا).

2- إن السائل لو كان يسأل عن احتمال الرؤية في بلده بإمكان رؤيته في أفريقيا والأندلس لأجابه الإمام (عليه السلام) بما يناسب سؤاله ويقيد بلزوم الرؤية في بلده وليس يطلقها كما في الرواية.

وقد وردت مثل هذه الأسئلة في مواقيت الصلاة وكان الإمام (عليه السلام) يزجر السائل لأن لأهل كل بلد مواقيته فلو كان الأمر مثل ذلك في الأهلّة لأجاب الإمام (عليه السلام) بمثل ذلك. ولذلك شواهد في الروايات كخبر عبيد الله بن زرارة عن الصادق (عليه السلام) قال: (..إنما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنا، وإذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلا ذلك، وعلى أولئك أن يصلّوا إذا غربت عنهم)(1).

وفي معتبرة أبي أسامة زجره الإمام (عليه السلام) لصعوده الجبل للتأكد من غروب الشمس وقال له: (ولمَ فعلتَ ذلك؟ بئس ما صنعت إنما تصليها إذا لم ترها) وقال (عليه السلام): (إنما عليك مشرقك ومغربك وليس على الناس أن يبحثوا)(2).

3- إن هذا الاستظهار خلاف الظاهر لأن السائل كان قاطعاً بعدم وجوب الصوم عليهم لعدم رؤية الهلال، وإن الذي أوجب الشك والترديد حيث عبر: (أشكل علينا) هو قول أهل الحساب برؤية الهلال في الأندلس ومصر، فسؤاله وإن كان بلسان إمكان اختلاف الفرض على أهل الأمصار واقعاً، وعدمه بحيث أن رؤيته في الأندلس كافية لثبوته في بغداد أو الكوفة،

ص: 366


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 16، ح22.
2- وسائل الشيعة: 4/198، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 20، ح2.

إلا أن السؤال في الحقيقة عن وجوب الأخذ بأقوال المنجمين على فرض صحته من حيث كفاية رؤيته هناك لثبوته هنا بقرينة جواب الإمام (عليه السلام) عن حكم الصوم وليس عن إمكان الاختلاف وعدمه فيكون مراد السائل عن إمكان البناء على رؤيتهم والصوم بصومهم، والإمام (عليه السلام) أمضى هذا الارتكاز في ذهن السائل وأجابه بعدم الاعتبار بقول أهل الحساب وعدم وجوب الصوم بالتظني والتخمين، ولازمه أنه مع حصول العلم فإنه يجب عليهم الصوم، غاية الأمر أن السائل جعل حساب الفلكيين منشأ لهذا الاحتمال لتعذر وجود قنوات للتواصل يومئذٍ غيره، والسؤال عن حكم الأداء وهو صوم يوم الشك وليس عن قضاء يوم من شهر رمضان حتى يمكن تصور وصول الخبر متأخراً.

4- قوله (دام ظله الشريف): «فلا دليل في الكلام أنه لو كان قاطعاً» هذا استفدناه من مفهوم جواب الإمام (عليه السلام) وليس من كلام السائل، وقوله: «فإنه يعلم بعدم الوجوب» لا قيمة لهذا العلم وقد ألغاه الإمام (عليه السلام) بالمرة في جوابه.

5- بناءً على استظهاره (دام ظله الشريف) يكون توجيه السؤال إلى الإمام (عليه السلام) غير لائق بمقام الإمامة، لأن السؤال عن إمكان اختلاف أفق الهلال بين بغداد والأندلس بذاته يوجّه إلى الفلكيين فما جدوى السؤال عن صحة كلام أهل الحساب؟ ولماذا ينهاه الإمام (عليه السلام) في جوابه عن صوم يوم الشك، فالصحيح ما ذكرناه من كون السؤال عما وراء هذا السؤال وهو وجوب متابعتهم في الهلال ليتّحد الفرض أو عدم متابعتهم فيختلف الفرض فيتم الاستدلال.

فالاستدلال بالرواية ممكن وأنه لو حصل القطع بثبوت الرؤية هناك فإنه كافٍ لثبوته هنا، وإن عدم الأخذ بقول أهل الحساب لا لما يلتزم به المشهور من اشتراط اتحاد الأفق وإنما لعدم إفادة العلم من كلامهم، وهذا ظاهر من جواب

ص: 367

الإمام (عليه السلام) وهو الذي يصحّح فهم عدم اشتراط وحدة الأفق خلافاً للمشهور، وإن تقريب الاستدلال بها لا يقل عمّا استدل به من استفادات في شواهده الخمسة وجعلها مقيدات لإطلاق الروايات.

مما تقدم يظهر النقاش فيما قاله بعض أعلام العصر (قدس سره): «إن دلالة الرواية على عكس المطلوب أوضح، حيث أن الإمام (عليه السلام) كان بصدد بيان قاعدة كلية لجميع الناس في جميع الأصقاع تأكيداً لأهمية إحراز الموضوع وتحققه حتى يترتب عليه الحكم وأن الأمور المشكوكة لا تصلح للموضوعية، وفي الحقيقة يقول (عليه السلام): حيث إن موضوع الصوم والفطر هو رؤية الهلال، فإن كنت شاكاً في تحققه في بلدك –وإن تحقق في أفريقية والأندلس على ما يقوله الحُسّاب- فلا تصم حتى ترى الهلال، ولا يكون موضوع حكمك ما ليس في متناول يدك، وهو رؤية الهلال في مصر أو الأندلس، بل الموضوع هنا أمر يسهل الوصول إليه والظفر به، وهو الرؤية في بلدك أو حواليه أو البلاد المتقاربة منه، ولذا لم يقل (عليه السلام) في جوابه: (لو تيقّنت من قول الحساب بالرؤية هناك، كفى لك ذلك هنا).فجوابه (عليه السلام) هنا يكون نظير ما مرّ في خبر عبيد الله بن زرارة من قوله (عليه السلام): (..إنما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنا، وإذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلا ذلك، وعلى أولئك أن يصلّوا إذا غربت عنهم)(1)(2).

أقول:-

1- جعْله الشك في إمكانية رؤية الهلال في بلده بسبب إمكانية رؤيته في

ص: 368


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 16، ح22.
2- رسالة في (الأفق أو الآفاق في مسألة الهلال) للشيخ المنتظري (قدس سره): 47-48.

الأندلس رددنا عليه مفصلاً.

2- إن ما ذكره من النصيحة بقوله: «وفي الحقيقة» تبرع منه (قدس سره) لم تتضمنه الرواية، ولم تفترض أي شك عند السائل في إمكانية رؤية الهلال في بلده وهو يقطع بعدمها.

3- ما مثّل به من خبر زرارة قياس مع الفارق، لاختلاف المسألتين أعني وحدة الهلال واختلاف المشارق والمغارب والخبر حجة عليه لا له كما قرّبنا سابقاً.

وقال (قدس سره): «وكأن الإمام (عليه السلام) أعرض عن جواب سؤال السائل صريحاً وأجابه بما يفيده في مقام العمل، وإن كان يفهم من خلاله جواب السؤال أيضاً؛ حيث إن السائل لم يسأل الإمام (عليه السلام) عن تكليفه بالصيام ولم يكن له في ذلك إشكال؛ لأنه صرّح بعدم رؤيته وعدم رؤية الناس الهلال من دون وجود علة في السماء، بل الظاهر أن في استخراج أهل الحساب كانت الرؤية ممتنعة في بلده حيث أناط إمكان الرؤية على نظرهم بتلك البلاد البعيدة خاصة، فهو كان بانياً على عدم كفاية الرؤية في البلاد البعيدة لبلده على فرض الوقوع، ولكنه كان شاكّاً في اختلاف الآفاق وأنه هل تجوز الرؤية في بلدٍ فيترتب عليها أحكام الرؤية وعدم الرؤية في آخر فلا يترتب عليها أحكامها، ولعله كان يتخيّل أن الأرض مسطّحة، فتأمل»(1).

أقول: ذكرنا أن السؤال يصبح غير لائق بمقام الإمامة بناءً على هذا التقريب، ولم يفسِّر لنا إذن لماذا يقول السائل: (أشكل علينا) إذا كان قاطعاً بعدم رؤيته في بلده وما هو منشأ شكّه غير احتمال بنائهم على رؤية تلك البلدان.

ص: 369


1- المصدر السابق، صفحة 49.

(الوجه السابع) خبر علي بن أبي حمزة(1)

وفيه: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير: جعلت فداك، الليلة التي يرجى فيها ما يرجى، فقال:في ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قال: فإن لم أقوَ على كلتيهما، فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب، قال: قلت: فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى، فقال: ما أيسر أربع ليالٍ تطلبها فيها)(2).

بتقريب أن الإمام (عليه السلام) أوجب الأخذ برؤية أهل الأرض الأخرى وهي مطلقة من حيث اتحاد الأفق وعدمه فنتمسك بإطلاقها، ووصف بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله) دلالة الرواية بأنها واضحة «فإنه إذا كان الميزان في دخول الشهر برؤية الهلال في البلد وإن لكل بلد شهره وليلة قدره فلماذا يكلف بطلبها ضمن أربع ليال أي طلب ليلة إحدى وعشرين ضمن ليلتين وليلة ثلاث وعشرين ضمن ليلتين بمجرد خبر يجيء من أرض أخرى؟! فالرواية واضحة الدلالة على أن ليلة القدر واحدة للبلدين والأرضين وليست لكل منهما

ص: 370


1- نسب السيد الهاشمي الرواية إلى علي بن أبي حمزة الثمالي تبعاً للطبعة الأولى من الوسائل وهي كذلك في نسخة الكافي، وفي الطبعة الحديثة إلى (أبي حمزة الثمالي)، إلا أن الظاهر زيادة كلمة الثمالي من النسّاخ سهواً، ففي التهذيب (علي) وفي الفقيه (علي بن أبي حمزة) وهو البطائني، الذي يروي عنه القاسم بن محمد الجوهري كثيراً، وهو قائد أبي بصير يحيى بن القاسم، وقد صرحت الرواية بأن السائل هو أبو بصير. ولأن السيد الهاشمي ذهب إلى كونه الثمالي فقد عالج سند الرواية من جهة الجوهري فقط بناءً على صحة كفاية رواية الثلاثة (ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي) عنه، أو وروده في كامل الزيارات.
2- وسائل الشيعة: 10/354، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 32، ح3.

ليلة قدر غير أخرى، ومن هنا قال (عليه السلام): (ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها!)، وإطلاقه يشمل البلاد البعيدة غير المتحدة مع بلد المكلف في الأفق»(1).

أقول: لا يمكن الاستدلال بهذا التقريب، لأن الظاهر أن توجيه الإمام (عليه السلام) كان رجاءً لإدراك الواقع بلحاظ التردد في تحديد أول الشهر لاحتمال أن الرؤية في ذلك البلد الآخر كاشفة عن وجود الهلال في أفق بلد السائل، أما التقريب الذي ذكره المستدل فإن لازمه الاكتفاء بليلتين فقط طبقاً للبلد الذي رآه أولاً فيثبت الهلال في جميع البلدان ولا حاجة للعمل في أربع ليالٍ.

والخلاصة أن الرواية تفيد الوظيفة عند التردد واحتمال الخلاف في أول الشهر وليست لبيان اعتبار الرؤية في أي بلد قامت فيه فلا إطلاق لها.

نعم يمكن تقريب الاستدلال بها بأن رؤية الهلال في بلده هذه الليلة يلزم منه عدم رؤيته في الليلة السابقة وهو غير مقيد بكون السماء فيها علة أم لا، والمفروض أن عدم رؤية الهلال في هذا البلد كاشفة عن عدم إمكان رؤيته في كل البلدان المتحدةفي أفقها معه بحسب تعريف الملازمة التي ذكروها. فهذه الرؤية المخالفة تكون في بلد غير متحد بالأفق ومع ذلك أخذها الإمام بنظر الاعتبار وأوجب الاحتياط بمقتضاها.

(الوجه الثامن) إن هذه المسألة عامة البلوى، ومرتبطة بشعائر مهمة في الإسلام كالصوم والإفطار والحج إضافة إلى المناسبات الدينية الكثيرة التي تقاربها بالأهمية، لذا كانت محط أنظار الناس واهتمامهم، وكان الاختلاف في الهلال موجوداً وكانوا يسألون القوافل القادمة والركبان من شتى البلدان القريبة والبعيدة عن يوم صومهم وإفطارهم، ومسألة بهذه الأهمية وبهذا الاتساع حريّة بأن يشار إليها في روايات المعصومين (عليهم السلام) وفي كلمات

ص: 371


1- السيد محمود الهاشمي، مصدر سابق، صفحة 54.

قدماء الفقهاء الذين يفتون على طبق النصوص، خصوصاً وإن الخلاف كان موجوداً في زمان الإمامين الصادقين (عليهما السلام) بين فقهاء العامة بل إن مشهورهم على عدم الفرق وقد نقلنا كلماتهم عندما ناقشنا الانصراف، فلو كان هذا التفصيل في الآفاق بين البلدان موجوداً مع توفر الدواعي العديدة لبيانه، لأشار إليه الأئمة (عليهم السلام) ولما تركوا شيعتهم يخوضون في هذا الخلاف الذي أدى بهم إلى الاختلاف والتنازع، ولأشير إلى التفصيل في واحدة من الروايات على الأقل. فترك الاستفصال مع الحاجة الشديدة إلى البيان دليل على الإطلاق.

بل إننا نجد الإطلاق هو الموجود في الروايات كما قرّبنا، وعليه الارتكاز لدى بعض أصحاب الأئمة –كما قرّبنا أيضاً- وأمضى الأئمة (عليهم السلام) هذا الارتكاز ولم يصححوه في أذهان شيعتهم فهذا الوجه كاشف بمقدار يفيد الاطمئنان عن كون مراد الشارع الأقدس هو الإطلاق وعدم اشتراط اتحاد الأفق.

وقد جعل السيد الخوئي (قدس سره) من الشواهد على عدم اعتبار اتحاد الأفق «سكوت الروايات بأجمعها عن اعتبار اتحاد الأفق في هذه المسألة ولم يرد ذلك حتى في رواية ضعيفة».

وقال بعض تلامذته في الرد «إنه لا ملزم لبيانه وإنما رتّبت الأحكام على الموضوعات على نحو القضية الحقيقية ففي كل مورد تحقق الموضوع يترتب عليه حكمه وإلا فلا»(1).

وفيه: إن الموضوع متفق عليه وهو ثبوت الرؤية المعتبرة شرعاً المستفاد من روايات (صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية) إلا أن الخلاف في أن الرؤية هل تعتبر مطلقاً في أي بلد أم في خصوص المتحدة بالأفق لاتفاقهم على أن الرؤية

ص: 372


1- مباني منهاج الصالحين: 6/232.

المعتبرة شرعاً لا تختص ببلد المكلف ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وقال بعض من حضرنا بحثه الشريف في الجواب: «إن سكوت الروايات بأجمعها عن اعتبار اتحاد الأفق في رؤية الهلال إن تم -ومرّ أنه غير تام- فهو إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على تمامية القول الآخر، وهو أن العبرة في دخول الشهر في كلمكان برؤية الهلال في ذلك المكان، فإنه الذي لا يحتاج إلى البيان حيث يجري الناس عليه وفق ارتكازاتهم، وأمّا القول الآخر بكون العبرة برؤية الهلال في مكان ما على الكرة الأرضية تشارك بلد المكلف في جزء من الليل فهو الذي يحتاج إلى البيان»(1).

أقول: عُلم جوابه مما تقدم فإن المسلمين كانوا يتبادلون السؤال عن أول الشهر وإن تباعدت بلدانهم فأهل بغداد يسألون المدينة -كما في رواية أبي علي بن راشد- وأهل المدينة يسألون الشام -كما في رواية كريب- وأهل بغداد يسألون عن أفريقيا والأندلس -كما في رواية محمد بن عيسى- وإن الارتكاز العام لدى الطوائف الإسلامية كان وحدة المسلمين في أوائل الشهور وإن تباعدت بلدانهم فلو كان هذا الموقف غير سليم لعلّق الأئمة (عليهم السلام) كما في أغلب رواياتهم، بل الذي وجدناه في الروايات اعتماد الرؤية في أي بلد آخر وإن جاءت متأخرة وقضاء يوم.

وردّ تلميذ ثالث بقوله: «والشهرة بين متأخري الأصحاب من الفرق، لا تدل على عدم اشتهار الفرق بين متقدميهم، بل الأمر كذلك لبنائهم على الرؤية والحكم بالثبوت في البلاد غير المرئي فيها الهلال التي يصل إليها الخبر من الخارج عادة.

ص: 373


1- أسئلة حول رؤية الهلال وأجوبتها: 33.

ولم يعرف منهم الحكم في البلاد المتباعدة غير المرئي فيها الهلال التي لا يصل إليها الخبر إلا بعد أزمنة طويلة بحسب ذلك العصر، ولو كان بناؤهم على ترتيب أحكام الثبوت فيها لنُقل إلينا يقيناً، لأن الصيام والفطر في رمضان ليسا من الأمور الخفية، لرجوعهما إلى مجتمع أهل البلد»(1).

وفيه: إنه مخالف للواقع لما ورد من سؤال البلاد المتباعدة كما تقدم، ووجود الإطلاق في الروايات والارتكاز الممضى لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وإن اعتماد الرؤية في البلدان القريبة خاص بالحكم الأدائي لأنه المقدار المتيسر يومئذٍ، ولم يكن ممكناً سؤال أهل البلدان البعيدة، أي الانتظار والتوقف عن صوم غدٍ أو إفطاره حتى تأتيهم أخبار البلدان البعيدة، وهو لا ينافي حجية الرؤية في البلاد البعيدة لذا وجب القضاء عند حصول العلم بها، والقضاء يعني فوات الواجب ويلزم منه ثبوت الشهر قبل ليلة.

وقد استدل بعض أعلام العصر بنفس التقريب على عكس هذا القول أي على القول المشهور، فقال (قدس سره): «ولو كان الثبوت في بلد وقطر كافياً لجميع البلاد والأقطار، لكان اللازم على المعصومين (عليهم السلام) بيانه بنحو صريح، بل كان على المسلمين والمؤمنين التحقيق عن رؤيته في ساير البلاد بأن يبعثوا أشخاصاً إلى المناطق البعيدة التي كانت قابلة لرؤية الهلال، حتى تقع أعمالهم العبادية كالصوم والحج ونحوهما في ظروفها الخاصة وأزمانها المقررة في الشريعة، وذلك لأنالمستفاد من الأدلة أن شهر رمضان مثلاً بوجوده الواقعي موضوع لوجوب الصوم، وكذا أيام ذي الحجة مثلاً بوجودها الواقعي ظرف لإتيان المناسك.

ص: 374


1- رسالة (حول مسألة رؤية الهلال) للسيد محمد حسين الحسيني الطهراني (قدس سره): 59.

ما هي وجهة نظركم في هذا الشأن؟ فهل يمكن أن نلتزم أن المسلمين قد غفلوا عن هذه النكتة المهمة والمعصومين (عليهم السلام) أهملوها ولم يبينوا لهم حكم المسألة وفوضوا بيانه إلى العلماء الذين سوف يأتون بعدهم كأمثال المحدث البحراني والمحدث الكاشاني وصاحب الجواهر وغيرهم (رحمهم الله)؟

وهل لا يكون في مثل هذا الأمر تأخير البيان عن وقت الحاجة وتفويت المصلحة على العباد في الأعمال التي لا بد أن تقع في ظروفها الخاصة طوال قرون كثيرة إلى زمن هؤلاء الأعلام؟

وهل يصح أن يوجب الشارع أحكاماً على الناس لجميع الأزمنة، ولكن يكون موضوع تلك الأحكام أموراً مجهولة ليست في متناول أيدي الناس ولا يمكن لهم الظفر به والعثور عليه ولا ينطبق على ما هو مراد الشريعة في بدو الجعل وبعده إلى أن تمضي سنون كثيرة ثم ينطبق على ذلك في العصور المتأخرة بسبب التطورات العلمية والتقدمات الصناعية واطلاع الناس عن رؤية الهلال في قطر من أقطار العالم عن طريق (التلغراف)، (التلفون)، (اللاسلكي)، (التلفزيون)، (الهاتف النقال)، (الطابعة اللاسلكية)، (شبكة إنترنت) وغيرها من الأدوات الاتصالية؟

وهل يمكن الالتزام ببطلان حج من حج برؤية الهلال في بلادهم ليلة الجمعة مثلاً ثم ظهر أن أهل المغرب رأوا الهلال بعد ثماني ساعات في ليلة الخميس لعدم إدراكهم يوم عرفة وليلة العيد ويومه بحسب الواقع؟

وببيان آخر إن مقتضى قوله تعالى: «يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» أن على الناس أن ينظموا أعمالهم الموقتة بالشهور أو الأيام الخاصة كالصوم والحج ونحوهما على الأهلة، وما كان تحت اختيار الناس واطلاعهم في تلك الأعصار هي أهلة بلادهم وما قاربها لا أهلة البلاد البعيدة التي لم يكن لهم في تلك الأعصار طريق إلى الاطلاع عليها.

ص: 375

واختلاف البلاد في تكون الهلال ورؤيته في آفاقها كان أمراً ثابتاً بحسب الواقع، فلو كان الموضوع للصوم والحج ونحوهما الهلال المتكون والمرئي في بلد ما، ولو كان بعيداً جداً للزم بطلان أعمالهم إذا عملوا بها على طبق هلال بلدهم، وقد مضى على الناس قرون وهم كانوا يعملون كذلك لعدم اختراع الوسائل الإخبارية الجديدة بعد.

وعلى هذا فهل يمكن أن يجعل الشارع أحكامه على موضوع لم يكن اختيار المكلفين وحيطة اطلاعهم في تلك الأعصار والقرون إلى القرون الأخيرة التي اخترعت فيها هذه الوسائل.

وهل يمكن أن نلتزم بأن الشارع حكم بحجية البينة القائمة بعد ثلاثة أشهر أو أزيد على أن في البلدة الكذائية البعيدة رئي الهلال وبالتالي فلا بد لجميع الناس الذين أقيمت البينة عليهم أن يقضوا يوماً مثلاً، مع أن تشريع القضاء بنحو عام فيما لا يمكن الأداء لجميع المكلفين من زمن التشريع إلى أزمنة كثيرة، لعدم إمكان العلم بتحققموضوع تكليفهم غير متعارف بل غير معقول، وإن كان لا مانع من ذلك بالنسبة إلى بعض الأفراد أو في برهة خاصة من الزمن؟»(1).

أقول: كلامه (قدس سره) قابل للمناقشة من عدة وجوه منها:-

1- قوله: «لكان اللازم على المعصومين عليهم السلام» إن الأئمة (عليهم السلام) لم يسكتوا وإنما بينوا بشكل صريح من خلال إطلاق كلامهم وهم في مقام البيان، بل الحاجة القصوى للبيان كما أسلفنا ولم يؤخّروا (عليهم السلام) البيان عن وقت الحاجة وقد شرحنا النكتة في ربط بيان الحكم بروايات القضاء لا الأداء.

ص: 376


1- رسالة في (الأفق أو الآفاق في مسألة الهلال) تقريرات بحث الشيخ المنتظري (قدس سره)، 59-62.

2- قوله: «بل كان على المسلمين» يجاب حلاً بأن الشارع المقدس لم يكلّفهم ذلك لأنه متعذّر وإنما كلّفهم بالمتيسّر وهو بلدهم وما يقرب منهم لكنه ألزمهم بقضاء يوم إذا علموا بعد حين أن الهلال قد رؤي قبل ليلة في بلد آخر.

ونقضاً بأن المسلمين لم يتكلفوا البحث حتى في البلاد المتقاربة فإن أهل مكة مثلاً لم يكونوا ينتظرون سؤال أهل المدينة ليبدأوا شهرهم الجديد أو أهل بغداد للبصرة وهي مدن متحدة الأفق عندهم وبينهما مسيرة عشرة أيام بالمعدل.

3- المستدل لا يدعي أن تغير وسائل العلم والمعرفة تؤثر شيئاً في الحكم والمهم تحقق موضوع الحكم الشرعي، فالخمر مثلاً كان يعرف من رائحته واليوم بالتحليل المختبري وبذلك تقدّم العلم في مصداق الخمر من دون أن يفرق في حكمه والمهم تحقق موضوعه، كذلك معرفة زمن دخول الشهر قد يتأخر في تلك العصور للبلدان البعيدة لتخلف وسائل النقل واليوم تقدمت وسائل الاتصال، والموضوع واحد وهو كفاية الرؤية في أي بلد من بلاد المسلمين غاية الأمر أن تقدم وسائل الاتصال اليوم أتاح الفرصة لمعرفة أول الشهر في وقته بينما كان الأثر المترتب سابقاً هو قضاء يوم إذا علم لاحقاً أن أهل بلد قد رأوا الهلال قبل ليلة، فالشارع المقدس لم يجعل «موضوع تلك الأحكام أموراً مجهولة» كما قال (قدس سره) فمن الغريب ما استنكره (قدس سره) بقوله في آخر كلامه: «وهل يمكن أن نلتزم» إلى قوله: «عليهم أن يقضوا يوماً» وهو عين ما ورد في الروايات.

4- قوله (قدس سره): «وما كان تحت اختيار الناس واطلاعهم هي أهلة بلادهم وما قاربها لا أهلة البلاد البعيدة» صحيح لأنه المتيسر يومئذٍ في التكليف الأدائي، لكنه لا يُسقط فرضهم لو علموا بهلال البلاد البعيدة ولو بعد حين، ولذا كانوا يسألون عن قضاء يوم من شهر رمضان بعد انقضائه

ص: 377

وهي مدة كافية لوصول الأخبار من البلدان البعيدة، والإمام (عليه السلام) يلزمهم بقضاء يوم، أما في العصر الحاضر فقد صار معرفة الهلال في البلدان البعيدة متيسراً، وأمامنا عدة روايات تتضمن السؤال عن الهلال في البلدان البعيدة كرواية أبي علي بن راشد ومحمد بن عيسى وأبي كريب.

والغريب أن يجزم (قدس سره) بأن جواب ابن عباس في رواية أبي كريب المتقدمة (صفحة 229): (هكذا أمرنا رسول الله) مرجعه إلى التزامه بقول المشهور من عدم كفاية رؤية الهلال في البلدان المتباعدة –كالشام والمدينة- قال (قدس سره): «وما ذكرناه هو السر في عدم اكتفاء ابن عباس بما رئي من الهلال في بلاد الشام ولا سيما بملاحظة تعليله ذلك بقوله: (هكذا أمرنا رسول الله) وأيضاً بملاحظة كون الشام غربية بالنسبة إلى المدينة، فلا يلزم من رؤية الهلال فيه رؤيته في المدينة، بل قد ذكر السبكي من العامة أن هذا الأمر هو السبب في عدم قبول ابن عباس؛ لا الوجوه المذكورة الأُخر، مثل ما ذكره العلامة (رحمه الله) في مقام الجواب عن هذه القضية بقوله: (ليس هذا دليلاً على المطلوب؛ لاحتمال أن ابن عباس لم يعمل بشهادة كريب، والظاهر أنه كذلك؛ لأنه واحد. وعمل معاوية ليس حجة؛ لاختلال حاله عنده؛ لانحرافه عن علي (عليه السلام) ومحاربته له، فلا يعتد بعمله) »(1).

أقول: ما قاله العلامة (قدس سره) هو الصحيح ولا أقل من احتماله، لكن ابن عباس يستعمل الإيهام في عباراته كما هو معروف.

أما افتراض أن سبب عدم الأخذ لاختلاف الأفق بين المدينة والشام فهو بعيد؛ لأنه على هذا يصبح سؤال ابن عباس لغواً من أصله.

ص: 378


1- المصدر السابق، صفحة 59.

5- قوله (قدس سره): «للزم بطلان أعمالهم ..» غير تام ولا يلزم البطلان إذ أننا نقول بإجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي إذا كان مستنداً إلى حجة شرعية، نعم قد يلزم التدارك لبعض الآثار كقضاء يوم من شهر رمضان، أما في الحج فلا مشكلة، لأننا نرى إجزاء الوقوفين على طبق ما يفتي به قضاة العامة في الحرمين الشريفين بغض النظر عن مطابقته للواقع.

(الوجه التاسع) وهو عرفي وربما أراده السيد الخوئي (قدس سره) بعنوان «الاعتبار» في قوله المتقدم: «إذن فمقتضى هذه الروايات الموافقة للاعتبار»(1)

وحاصل هذا الوجه أن العرف يرى أن التاريخ زمن موحد لكل الناس فإذا قيل هذه ليلة الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الثاني عام 1430 المصادف السابع عشر مننيسان عام 2009 -وهو تأريخ كتابة هذه الكلمات- فهي كذلك لكل الناس الذين عندهم ليل ولا يتوقع أن يكون ذلك متعدداً في البلدان، والشهر أمر عرفي يُرجع إليهم في تحديد مدلوله، قال السيد الخوئي (قدس سره): «فإن القول بوحدة مبدأ حساب الشهور وتأريخها فهو المتطابق مع المرتكزات العقلائية، والمناسب مع ذوق وحدة مبدأ التأريخ لجميع سكان الأرض، وأن الاختلاف والتقدم والتأخر في حساب الأيام أمر على خلاف طباعهم، كما لا تناسب وحدة شعائرهم المرتبطة بالأيام والتواريخ»(2).

أقول: إذا تمت هذه الكبرى فإن إطلاقات الروايات تكون إرشادية لهذا التباني العرفي ومؤكدة له.

قال السيد السبزواري (قدس سره): «والمناط كله على صدق أول الشهر والأولية تصدق عرفاً باشتراك البلاد المختلفة في خروج القمر عن تحت

ص: 379


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/121.
2- رؤية هلال: 2/893 في جوابه على المجموعة الثانية للسيد الطهراني (قدس سره).

الشعاع وبروزه في الأفق ولو في بعض الوقت وإن اختلفت البلاد في الأفق بكثير ما لم يصل الاختلاف إلى مقدار اليوم أو الليلة»(1).

وقال (قدس سره): «ويمكن التشكيل بشكل بديهي الإنتاج بأن يقال: هذه ليلة سبت –مثلاً- في النجف الأشرف بجميع لوازمها العامة الفلكية التي منها كونها أول الشهر وكل ليلة سبت كذلك في النجف ليلة سبت في جميع البلاد إلا ما اختلف فيه الليل والنهار وهذه ليلة أول الشهر في النجف فيكون أول الشهر في الجميع فتأمل»(2).

أقول: قد يقال أن المقدمة الثانية للقياس غير تامة لأنها مصادرة على المطلوب وعين المدعى ما لم تنضم إليها الكبرى العرفية التي ذكرناها إن تمت.

وإلى هذا الوجه يرجع الاستدلال الذي ذكره العلامة (قدس سره) في التذكرة بقوله: «لأنه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية وفي الباقي بالشهادة، فيجب صومه»(3)

وما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) من وجه وهو أنه «يصدق أنه أهلَّ شهر رمضان فيجب الصوم» ورد عليه بمنع «الصدق بالنسبة إلى أهل هذا البلد –أي المتباعد- كما لو فُرض طلوع الفجر بالنسبة إلى بعض وعدم طلوعه بالنسبة إلى الآخرين»(4).

وفيه: إن قياس الهلال على مواقيت الصلاة غير صحيح كما نبّهنا عليه إلا أن يكون من باب التشبيه لتقريب الفكرة.

فالصحيح في ردّ هذا الوجه ما قلناه من كونه مصادرة على المطلوب وعين المدّعى ما لم تنضمّ إليه الكبرى العرفية.

ص: 380


1- مهذب الأحكام: 10/287.
2- مهذب الأحكام: 10/288.
3- تذكرة الفقهاء: 6/123.
4- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الصوم: 12/256.

(الوجه العاشر) ويضم جملة من التقريبات ذكر السيد الخوئي (قدس سره) اثنين منها؛ قال (قدس سره): «ويؤكده ما ورد في دعاء صلاة يوم العيد من قوله (عليه السلام): (أسألك بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً) فإنه يعلم منه بوضوح أن يوماً واحداً شخصياً يشار إليه بكلمة: (هذا) هو عيد لجميع المسلمين المتشتتين في أرجاء المعمورة على اختلاف آفاقها، لا لخصوص بلد دون آخر.

وهكذا الآية الشريفة الواردة في ليلة القدر وأنها خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم، فإنها ظاهرة في أنها ليلة واحدة معينة ذات أحكام خاصة لكافة الناس وجميع أهل العالم، لا أن لكل صقع وبقعة ليلة خاصة مغايرة لبقعة أخرى من بقاع الأرض»(1).

أقول: ويمكن أن يُضاف لها ما في دعاء السمات (وجعلتَ رؤيتها لجميع الناس مرأىً واحداً).

وعلق عليه بعض من حضرنا بحثه الشريف بأن «هذا التأكيد منه لا يعتمد عليه من جهة أن المراد قطعاً ليس الوحدة الشخصية بل الوحدة النوعية.

فالوحدة الشخصية أو الجزئية غير مقصودة في المشار إليه ب_ (هذا)، فإنها للفرد المذكور ويمكن أن يشار به إلى ما له وحدة نوعية كالإنسان.

فإذا بنينا على إرادة الوحدة النوعية، والمسلمون منتشرون في أنحاء المعمورة فلا مانع من الالتزام بتعدد العيد أو ليلة القدر على ليلتين بالأقل»(2).

أقول: ما أفاده السيد الخوئي (قدس سره) هو الأظهر خصوصاً من قوله (عليه السلام): (جعلته للمسلمين عيداً) بل هو الظاهر لأن الحمل على الوحدة

ص: 381


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/122.
2- محاضرة يوم 20/ج2/1417.

النوعية يجعل الإتيان بلفظ (هذا) لغواً ويكون التعبير المناسب (أسألك بحق اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً).

قال (قدس سره) في ردوده على بعض تلامذته: «لا ريب في أن ليلة القدر التي يستفاد من الكتاب والسنة أن فيها تقدير حوادث السنة ليست إلا ليلة واحدة شخصية لا الليل الكلي القابل للصدق على الكثير ولا نفس جزئيات ذاك الكثير حسب كل أفق وصقع، بل هي الواحدة المحدودة بتمام دور الأرض بطلّها الليلي.

وكذا يوم العيد لجميع المسلمين بلفظ (هذا) المفيد للجزئية الشخصية المضافة لجميع المسلمين، لا يلائم إلا ذاك النهار الواحد المحدود بتمام دوره النهاري»(1).ولو تنزّلنا فإن الحمل على الوحدة النوعية لا يزيد عن الاحتمال وكان يكفيه في الرد لأن الاحتمال مبطل للاستدلال أما القطع به كما عبّر (دام ظله الشريف) فهو تكلّف.

نعم يمكن الإشكال عليه بأن تعدد ليلة القدر ويوم العيد في بلدان الأرض حاصل حتى على مختاره (قدس سره) من التقييد بالاشتراك في الليل.

بيان ذلك: أن الهلال قد يرى في أول أزمنة الإمكان في بلد في أقصى الغرب كالأمريكتين وحينئذٍ يكون النهار قد طلع في بلدان أقصى الشرق وتكون بداية الشهر في الليلة التالية ويكون أول شهر رمضان وشوال ونحو ذلك في اليوم التالي فتختلف الأيام على أهل الأرض بأن تكون ليلة القدر عند بعضها الغربي ليلة الأربعاء مثلاً وعند بعضها الشرقي ليلة الخميس وكذا العيد فلا يتحقق مراده من الوحدة.

ص: 382


1- رسالة حول مسألة رؤية الهلال: 113.

وهذا يمكن ردّه بأن وحدة ليلة القدر ويوم العيد يراد به الليل الذي رؤي فيه الهلال الدائر على بقاع الأرض تباعاً بحسب حركة الأرض حتى يستوعبها جميعاً في أربع وعشرين ساعة دائرة على أهل الأرض جميعاً وكذا يوم العيد، وليس هذا الليل أو هذا النهار المتشخص بأنه ليل هذه الرقعة من الأرض المباين لليل الرقعة المقابلة فيوجب التعدد.

أما تسمية الأيام بأن يكون هذا يوم الأحد في الغرب والاثنين في الشرق فهذه أمور اعتبارية مجعولة لأغراض نظامية تقدمت الإشارة إليها، وإن النهار يكون واحداً عند ملتقى أقصى الشرق من روسيا وأقصى الغرب من ألاسكا عند مضيق بيرنك لكن الشرق يعتبره الاثنين والغرب الأحد. فهذا لا يضر في ما نحن فيه لأنه نفس النهار.

(الوجه الحادي عشر) ما قاله السيد السبزواري (قدس سره) من أن عدم الاعتبار بوحدة الهلال لجميع البلدان يسبب «حصول اختلاف وشقاق بين المسلمين والشارع لا يرضى بذلك» «وأئمة الدين (عليهم السلام) لا يرضون بتفريق المسلمين، ولذلك اهتموا بالتقية اهتماماً كثيراً. فكيف يرضون بالتفرقة بين شيعتهم في يوم عيدهم الذي هو أهم الشعائر الدينية والمذهبية، وفي ليلة القدر التي هي أهم المجامع العبادية لبرّهم وفاجرهم»(1).وأخذ به بعض فقهاء العامة المعاصرين قائلاً: «وهذا الرأي –رأي الجمهور- هو الراجح لديّ توحيداً للعبادة بين المسلمين، ومنعاً من الاختلاف غير المقبول في عصرنا»(2).

ص: 383


1- مهذب الأحكام: 10/290.
2- الدكتور وهبة الزحيلي في الفقه الإسلامي وأدلته: 3/1622، الطبعة الثالثة.

أقول: هذا المبدأ وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أن الاستدلال به في هذه المسألة يدخل في باب الاستحسان ما لم يقم عليه الدليل، نعم، يمكن عدّه ملاكاً للجعل في إطلاقات الروايات الدالة على كفاية الرؤية في أي بلد قريباً كان أو بعيداً أي أنه يكون حكمة هذا التشريع.

موانع من القول بعدم اشتراط اتحاد الأفق:

وقد تقدم ذكر جملة منها سمّاها بعض المعاصرين موانع عقلية ونقلية ووصف بعض من حضرنا بحثه الشريف جملة منها بأنها شواهد على لزوم اتحاد الأفق ومقيدات للإطلاق، وذكر بعضهم موانع أخرى:

(منها) ما أفاده بعض المعاصرين بقوله: «ولا يمكن التمسك بالإطلاق لرفع هذا الشك وإثبات أنه لا يختلف الخروج عن المحاق باختلاف البقاع، فإن هذا أمر تكويني عبر عنه بالظاهرة الكونية، ولا مجال لإثبات الأمور التكوينية بالإطلاقات، بل لا بد من مراجعة الفن المربوط بهذا الأمر وتحقيق أنه هل يختلف الخروج عن المحاق باختلاف البقاع أو لا يختلف من العلم المدون له.

إن قلتَ: الأمر التكويني وإن لا يثبت بإطلاق الدليل الشرعي إلا أن الإطلاق يثبت حكم ذلك الأمر، فلو قال الشارع: إن الفقاع خمر، يثبت حكم الخمر للفقاع وإن لا يثبت خمرية الفقاع، فإنه من الأمور التكوينية، وفيما نحن فيه لو قال الشارع: (فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه) يثبت حكم وجوب القضاء وإن لا يثبت أن اليوم الذي أفطر فيه كان من شهر رمضان.

قلتُ: مضافاً إلى أنه خلاف ما هو بصدده فإنه في مقام إثبات أن اليوم المذكور من شهر رمضان والإفطار الواقع فيه إفطار في شهر رمضان، ومضافاً إلى أنه خلاف المقطوع به بيننا وبين الأصحاب من عدم وجوب القضاء لو لم يكن الإفطار في شهر رمضان، ومن عدم جواز الإفطار لو علم أن اليوم من شهر رمضان، بل لا يقول بذلك مسلم فضلاً عن الفقهاء لا يكفي الإطلاق المذكور

ص: 384

لإثبات ذلك، بل لابد من دليل خاص لإثبات الحكم في صورة عدم الموضوع وهو الشهر، فإن المحتمل في هذه المطلقات أمران:

أحدهما: أن يكون التعبد بالقضاء مطلقاً ولو لم يكن اليوم المفطَر فيه من الشهر.

وثانيهما: اختصاص الحكم بصورة كون اليوم المذكور من الشهر.والثاني لو لم يكن موافقاً لظاهر الدليل من جهة التعبير بالقضاء فإنه ظاهر في فوت الصوم في الوقت، فلا أقل من احتمال الأمرين، فيسقط الإطلاق عن الاستدلال، لمخالفة كل من الاحتمالين للظاهر من جهة.

فالمتحصل: أنه لو أراد من التمسك بالإطلاقات إثبات الشهر واقعاً في بلد لم ير فيه الهلال فهذا من إثبات التكوين بالتعبد»(1).

أقول: يرد عليه:-

1- ليس في القول بالتعميم مخالفة للتكوينيات لأن القائل به يتفق مع المشهور في تحقق الظاهرة الكونية وهي خروج الهلال من المحاق ورؤيته في بلدٍ ما وإنما الخلاف في ما بعد ذلك فإطلاقات الروايات تفيد كفاية هذه الرؤية لثبوته في البلدان الأخرى، وأن خروج الهلال من المحاق واكتسابه ضوءاً يمكّن أهل الأرض في الجملة من رؤيته بداية لدخول شهر جديد وتحقق الليلة الأولى من الشهر للجميع سواء رأوه أم لا، وفق الاعتبار الذي قرّبناه.

2- قوله: «وإن لا يثبت..» في ذيل ما أورده على نفسه لمصلحة القائل بالتعميم بقوله: «إن قلت» لا نقول به، لأننا نلتزم بكون اليوم الذي يقضى هو من شهر رمضان لثبوت الشهر في جميع البلدان وهذا سرّ وجوب قضائه.

ص: 385


1- السيد محمود الهاشمي، مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، صفحة 56-58، ونسبه إلى (اعتبار اتفاق الأفق في إثبات رؤية الهلال) للشيخ القديري.

3- لو تنزلنا وقلنا أن في هذا القول تصرفاً من قبل الشارع في الظواهر التكوينية والحقائق الخارجية فهذا مما لا مانع منه، إذ من صلاحيات الشارع توسيع الموضوع الخارجي وتضييقه، كإخراج الفاسق من زمرة العلماء الذين يجب إكرامهم، وكإدخال المتقي فيهم، ومثاله في الشرعيات حكمه بانتهاء الليل عند الفجر مع أنه مستمر تكوينياً إلى طلوع الشمس، وكاعتبار الإمناء عند النساء مع عدم حصوله تكويناً عندهن بالمعنى الذي يحصل عند الرجال، وكإلحاق الحيض الحكمي بالحيض الحقيقي وكالذي يذهب إليه المشهور من عدم تحقق المغرب بسقوط القرص حتى تزول الحمرة المشرقية عن سمت الرأس ونحوها.

«ولهذه التحديدات أحد محملين وتفسيرين، لأنها إما أن تكون بصدد بيان تحديد شرعي خاص يختلف عن التحديد العرفي التكويني العام أو الخاص بعرف معين –سواء بلغ اللفظ والاسم المستعمل في ذلك المعنى الشرعي حد الحقيقة أم لا- فكما يوجد هناك حيض تكويني طبي له تحديده الخاص كذلك يوجد حيض شرعي له تحديده الشرعي، وإما أن تكون بصدد بيان نفس ذاك الأمر التكويني العرفي حقيقة ودقة باعتباره مفهوماً دقيقاً قد يخطأ فيه النظر السطحي العرفي، فإن الشارع من شأنه في مثل هذه المفاهيم العرفية التكوينية التحديد والبيان وتصحيح الأفهام إذا كانت تلك المفاهيم متعلقات للأحكام الشرعية ومحطاً لحاجة الناس، ويكون البيان الشرعي عندئذ حجة بل موجباً للقطع بصحة ذلك التحديد إذا علم بصدوره عن الشارع، وأن ما يقولهأهل الفن إذا كان على خلافه فهو إما أن يكون خطأً منهم أو محمولاً على مصطلح خاص كما تقدم في الشهر النجومي.

فكلا هذين النحوين –المحملين- في التحديدات الشرعية في الأمور التكوينية ثابت في الفقه كما لا يخفى على المتتبع الخبير، فلا يصح طرح مفاد الروايات إذا كانت متعرضة لأمر تكويني كمبدأ الفجر أو الزوال أو الغروب أو

ص: 386

الشهر لمجرد دعوى كونها من الأمور التكوينية وأنه لا مجال للتعبد فيها ولا بد فيها من مراجعة أهل الفن»(1).

(ومنها) ما قاله بعض الأعلام لدى الاستدلال على القول المشهور بقوله تعالى: «يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (البقرة: 189) وحاصله: أن «الميقات ليس تكوّن الهلال في وقت من الأوقات وخروجه عن المحاق مطلقاً، بل تكوّنه ورؤيته عند الغروب، وهذا القيد هو المهم في هذا الاستدلال، والمتبادر من الآية بحكم كونه خطاباً لعامة الناس في أقطار الأرض وأي جزء منها، هو أن ميقات كل إنسان هو هلاله وقت غروب الشمس عن أراضيه، وعلى ذلك فلا تكون الرؤية في بقعة من البقاع دليلاً على دخول الشهر في جميع الآفاق أو الآفاق التي تشارك معها في جزء من الليل، إذ لو التزمنا بذلك يلزم أن يكون بدء الشهر فيه هلاله المتحقق في ثلث الليل أو نصفه مع أن الميقات هو هلاله وقت الغروب في أراضيه»(2).

وقال عن القول بالتعميم في موضع آخر منه أنه «مما لا يمكن الالتزام به، إذ معنى ذلك أن نلتزم ببدء الشهر فيه من ثلث الليل ونصفه ويكون ذاك بداية الشهر الشرعي في تلك الآفاق»(3).

أقول: هذا الإشكال قريب مما أورده جمع من لزوم تبعض الليلة على القول بالتعميم وقد أجبناه، ويضاف له:-

1- من المسلَّم لدى الجميع عدم اقتصار ثبوت الشهر على رؤية الهلال في بلد المكلَّف عند الغروب بل تكفي رؤيته في البلاد الأخرى وإنما الكلام في حدود هذه البلاد فالمناط الذي ذكره غير تام وهو مخالف لمفاد الروايات.

ص: 387


1- السيد محمود الهاشمي في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، صفحة 59-60.
2- الشيخ جعفر سبحاني في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 40، صفحة 112.
3- المصدر السابق، صفحة 107.

2- النقض عليه وعلى المشهور بمثله فإن معنى البلاد المتقاربة عندهم يتسع لبلدان تتفاوت أوقاتها بزمان فننقل الإشكال إلى البلدان التي يثبت فيها الشهر بعد المغرب برؤية الهلال في بلاد متقاربة معها لكنها متأخرة عنها في الغروب.

والنتيجة في نهاية البحث في القول الثالث تمامية عدة وجوه للاستدلال على عدم اشتراط اتحاد الأفق وثبوت الشهر في بلد برؤية الهلال في أي بلد آخر وإن لم يكن متحداً معه في الأفق، لكن ذلك في الجملة لأن بعض الوجوه المذكورة لا تفيد التعميم لكل بلدان الأرض، ولما يأتي من لزوم تقييد هذا الإطلاق كما في القول السادس وعدمالأخذ بهذا القول على إطلاقه بحيث تكفي رؤية الهلال في أي بلد لثبوت الشهر في سائر بلدان العالم.

ص: 388

القول الرابع

وهو وحدة الهلال للبلدان المختلفة بشرط اجتماعها في الليل، قال السيد الخوئي (قدس سره): «إن هذا –أي وحدة الشهر لجميع بقاع الأرض- إنما يتجه بالإضافة إلى الأقطار المشاركة لمحل الرؤية في الليل ولو في جزء يسير منه بأن تكون ليلة واحدة ليلة لهما وإن كانت أول ليلة لأحدهما وآخر ليلة للآخر المنطبق –طبعاً - على النصف من الكرة الأرضية دون النصف الآخر الذي تشرق عليه الشمس عندما تغرب عندنا، بداهة أن الآن نهار عندهم فلا معنى للحكم بأنه أول ليلة من الشهر بالنسبة إليهم.

ولعله إلى ذلك يشير سبحانه وتعالى في قوله: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» باعتبار انقسام الأرض بلحاظ المواجهة مع الشمس وعدمها إلى نصفين لكل منهما مشرق ومغرب، فحينما تشرق على أحد النصفين تغرب عن النصف الآخر وبالعكس. فمن ثم كان لها مشرقان ومغربان.

والشاهد على ذلك قوله سبحانه: «يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» الظاهر في أن هذا أكثر بعد وأطول مسافة بين نقطتي الأرض، إحداهما مشرق لهذا النصف، والأخرى مشرق للنصف الآخر.

وعليه فإذا كان الهلال قابلاً للرؤية في أحد النصفين حكم بأن هذه الليلة أول الشهر بالإضافة إلى سكنة هذا النصف المشتركين في أن هذه الليلة ليلة لهم وإن اختلفوا من حيث مبدأ الليلة ومنتهاها حسب اختلاف مناطق هذا النصف قرباً وبعداً طولاً وعرضاً، فلا تفترق بلاد هذا النصف من حيث الاتفاق في الأفق والاختلاف في هذا الحكم»(1).

ص: 389


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/118-119.

وبيّن (قدس سره) في موضع آخر الوجه في ذلك فقال: «إنّ رؤية الهلال في نقطة من الأرض عند غروب الشمس فيها إنّما يوجب الحكم بأنّ النهار القادم بعد ذلك الليل من الشهر القادم ، بالنسبة إلى تمام النقاط من الكرة الأرضيّة التي تشترك مع منطقة رؤية الهلال في ذلك الليل ، دون النقاط التي لا تشترك معها في تلك الليلة .

والروايات الخاصّة أيضاً لا تدلّ على أكثر من هذا المقدار، حيث تأمر بقضاء النهار القادم بعد ليل الرؤية ولو في مصر آخر. وواضح أنّ هذا لا يشمل ما إذا كانت رؤية الهلال في نقطة المغرب معاصراً مع النهار عندنا؛ فإنّه ليس نهار ما بعد تلك الليلة التي هي ليلة الرؤية .وهذا إن كان مطابقاً مع المرتكزات العرفيّة ، بأن فرض أنّ العرف أيضاً يكتفي في دخول الشهر الجديد أن يخرج الهلال عن تحت الشعاع بنحو قابل للرؤية في نقطة مشتركة معنا في الليل ولو كان المقدار الباقي منه عندنا أقلّ منه في تلك النقطة ، لأنّ الميزان عنده وقوع النهار الذي يلي الرؤية بعد خروج الهلال سواء وقعت ليلته كاملةً بعده أم لا؛ فقد تطابق المستفاد من الروايات مع المرتكزات ، وإلاّ فلا أقلّ من أن يكون الحكم الشرعيّ بالصوم بمقتضى الروايات المذكورة منوطاً بذلك .

وعلى كلّ حال ، لا إشكال في عدم وجود ارتكاز معاكس على الخلاف ، لكي يتجرّأ أن يرفع اليد به عن مقتضي ظهور أدلّة الباب المتمثّلة في الروايات الخاصّة التي استند إليها في اختيار القول بعدم لزوم الاشتراك في الآفاق»(1).

وقد صوَّر بعض الأعلام المعاصرين (قدس الله نفسه) مساعدة العرف على ذلك بقوله: «لا شك عندنا في أن الميزان لتحقق الشهر القمري عند العرف

ص: 390


1- رسالة حول رؤية الهلال: 163.

إنما هو تحقق الدورة الجديدة لحركة القمر وسيره حول الأرض، والذي يكون بخروجه من المحاق وظهوره بحيث يكون قابلاً للرؤية على شكل هلال، فإنه بداية دورته الجديدة ومبدأ احتساب الشهر القمري الجديد عرفاً، قال سبحانه وتعالى: «فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» غاية الأمر حيث أنه في لحظة خروج الهلال تكون البقاع على الكرة الأرضية من حيث الوقت والنهار والليل مختلفة، أي نصف الكرة في النهار ونصفها في الليل، فإذا اعتبرنا الميزان في احتساب دخول الشهر عرفاً من أول النهار لا من نصفه أو ربعه أو ثلثه كما يساعد عليه الاعتبار العرفي كان اللازم القول بتحقق الشهر في تلك اللحظة في النقطة التي يمكن فيها رؤية الهلال عند غروب الشمس وجميع النقاط الشرقية التي تشترك معها في الليل ولو بقليل ليكون من بداية نهارها الجديد من الشهر الجديد.

وهذه الضابطة وإن كانت قد تختلف أيضاً من شهر إلى شهر آخر بلحاظ الأمصار والبقاع، إلا أنه لا ضير فيها بعد أن كانت مبتنية على نكتة موضوعية عرفية في كيفية احتساب مبدأ الشهر القمري، وهي لزوم وقوع النهار بتمامه داخل الشهر القمري، وهذا هو الذي جعل الأستاذ (قدس سره) يقيد فتواه بالقيد المذكور»(1).

أقول: هذا التقييد لا محصّل له ومن مستأنف القول وذلك لعدة أمور:-

1- إن هذا القيد تحصيل حاصل فهو ليس قيداً حقيقةً وإنما هو بيان للواقع الخارجي أي أن هذا القيد توضيحي وليس احترازياً ولا يعتبر هذا التقييد تغييراً في فتوى السيد الخوئي (قدس سره) وإنما هو توضيح لمراده، فإن قولنا إن جميع بلدان العالم بهلال واحد لا يعني دخول الشهر فيها جميعاً في نفس لحظة دخوله في أولها لأن من المقطوع به أن نصف الكرة الأرضية

ص: 391


1- مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 31، صفحة 61.

فيها نهار، والشهر إنما يبتدئ شرعاً بالليلة ولا يمكن عدُّ ذلك النهار من الشهر الجديد، وإنما نعني به أن المغرب حينما يحلّ في تلك البلاد فإن الليلة ستكون هي الأولى من الشهر الجديد وإن لم يروا الهلال، وهذا المعنى يقول به حتى الطرف الآخر لأنه حينما يلتزم بأنه إذا رئي في بلد شرقي فإنه يثبت في البلد الغربي الملازم له بالرؤية فإنه يعني بذلك أنه حين حلول الليل عليه تكون ليلته كالأول وليس في نفس الآن وهذا واضح.

2- في الحقيقة فإن بلاد العالم كلها تشترك بالليل مع البلد الذي رُئي فيه الهلال وقت المغرب وهذا يعني عدم خروج أي بلد بهذا القيد فيصبح لغواً؛ لأنه حينما يُرى الهلال في أول أزمنة إمكانه في بلد فإن بلدان العالم بين نصفٍ شرقي سبق بلد الرؤية في الليل حتى وصل بعضها إلى آخره في وقت غروب بلد الرؤية وبين نصفٍ غربي سيلحقه بالليل حتى يكون بلد الرؤية في آخر الليل وذلك البلد في أوله(1)، والنتيجة أن جميع البلدان تشترك مع بلد الرؤية في الليل، فهذا القول يلزم منه اشتراك بلدان العالم جميعاً في ثبوت الهلال.

نعم قد يرى الهلال في أول لحظات إمكانية رؤيته في أقصى غرب الكرة الأرضية كالأمريكتين وحينئذٍ يكون الليل قد انحسر عن شرق الأرض كاليابان فتكون بداية الشهر الجديد عندهم من الليلة التالية. لكن هذا التقسيم اعتباري كما قلنا في أكثر من موضع.

3- إن الليل يختلف طولاً وقصراً بحسب اختلاف الفصول في السنة، وهذا يعني أن بلاداً تشترك مع غيرها بحكم الهلال في زمن الليل الطويل فتكفي

ص: 392


1- بل يثبت في جميع البلدان الغربية بحسب ما يبني عليه المشهور من ثبوت الشهر في جميع البلدان غرب بلد الرؤية.

الرؤية فيها، ولكنها لا تشترك مع نفس البلاد عندما يكون الليل قصيراً، وهذا معنى شاذ فقهياً وعرفياً.

4- لو فرض أن البلدان التي تجتمع مع بلد الرؤية تصل إلى حد النجف مثلاً فيلزم منه أن العمارة والبصرة وديالى لا يثبت فيها الهلال فيختلف أول الشهر في هذه المدن وهذه نتيجة لا يلتزم بها صاحب هذا القول.

5- ما تقدم ذكره من لزوم تعدد ليلة القدر ويوم العيد على أهل الأرض بين النصف المشترك مع بلد الرؤية في الليل، والنصف غير المشترك خلافاً لما استدل (قدس سره) به.

فهذا القول إذن لم يغيّر في القول السابق شيئاً.

أما استدلال السيد الخوئي (قدس سره) بالآيتين فغير ظاهر للنقض عليه بقوله تعالى: «وَرَبُّ المَشَارِقِ» (الصافات: 5) إذ في كل لحظة تغرب الشمس عن أرضوتشرق على أرض أخرى، ولأن غاية ما تدل عليه كون كوكب الأرض ذا نصف مضيء وآخر مظلم، وهذا ليس محل النقاش في المسالة، وكذا كون ابعد مسافة هي ما بين المشرقين بعد افتراض أنهما نقطتان متقابلتان وعلى خط الاستواء.

وحاول هنا السيد السبزواري (قدس سره) أن يجمع بين هذا القول الذي اختاره وعبّر عن الشرط بعد الاختلاف بمقدار الليل، وبين ملاك الوحدة بين المسلمين الذي استدل به وذكرناه في الوجه التاسع من الاستدلال على الوجه السابق، قال (قدس سره): «لا يؤثر فيه –أي وحدة الظاهرة الكونية لجميع البلدان- اختلاف الأفق مطلقاً، إلا إذا كان الاختلاف بمقدار اليوم أو الليلة وهو غير متحقق في البلاد الإسلامية- التي وجب عليهم الصيام-»(1).

ص: 393


1- مهذب الأحكام: 10/286.

أقول: كأنه (قدس سره) لاحظ رؤية الهلال في بلدان المسلمين وهي فعلاً لا تختلف في آفاقها بمقدار الليل، ولم يلحظ (قدس سره) في كلامه هذا ما قلناه أي فيما لو رئي الهلال في منطقة –كغرب الأمريكتين- تجتمع بليلة واحدة مع بعض البلدان الإسلامية دون البعض الآخر، فعلى مبناهم لا يجتمع عندئذٍ المسلمون على هلال واحد.

ص: 394

القول الخامس

وحاصله كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في البلدان الأخرى إلا ما عُلِم اختلاف أفقه، قال العلامة (قدس سره) في المنتهى: «إذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على جميع الناس سواءً تباعدت البلاد أو تقاربت» ثم قال: «ولو قالوا: إن البلاد المتباعدة تختلف عروضها فجاز أن يُرى الهلال في بعضها دون بعض لكروية الأرض.

قلنا: إن المعمور منها قدر يسير هو الربع، ولا اعتداد به عند السماء، وبالجملة إن عُلم طلوعه في بعض الأصقاع وعدم طلوعه في بعضها المتباعد عنه لكروية الأرض لم يتساوَ حكماهما، أو بدون ذلك -أي العلم- فالتساوي هو الحق»(1)

واستجوده صاحب المدارك(2)

(قدس سره).

وجعل النراقي (قدس سره) العلم بعدم وجود الهلال موجباً «لرفع اليد عن إطلاق الأخبار أو عمومها» لكنه (قدس سره) اختار وحدة الهلال لجميع البلدان وأفاد بأنه «قد دلّت الأخبار على أنه إذا ثبتت الرؤية في بلد يثبت حكمها للبلد الآخر أيضاً بقول مطلق» من دون التقييد بهذا القيد، ولا تنافي بين الأمرين لأن هذا الاختلاف القطعي بين بلدين «مما لا يحصل العلم به البتة»(3)،فالشرط غير متحقق، ولا مقيِّد لهذا الإطلاق.

وقال السيد الحكيم (قدس سره): «الأخذ بإطلاق النص غير بعيد إلا أن يُعلم بعدم الرؤية، إذ لا مجال حينئذٍ للحكم الظاهري»(4).

ص: 395


1- منتهى المطلب: 9/254، 255، تحقيق مجمع البحوث الإسلامية.
2- مدارك الأحكام: 6/172.
3- مستند الشيعة: 10/422-425.
4- مستمسك العروة الوثقى: 8/470.

فدليلهم إذن هو أن الروايات أسست إطلاقاً يقتضي كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوت الشهر في سائر البلدان الأخرى، وهو حكم ظاهري يرتفع مع العلم بعدم وجود الهلال للقطع باختلاف الآفاق.

ويناقش هذا القول من عدة جهات:-

إن الإطلاقات التي استدل بها في المقام التي ذكرناها في الوجوه المتقدمة، إما أن يتم الإطلاق فيها فتفيد القول بالتعميم وتشمل حتى البلدان التي نقطع بعدم وجود الهلال فيها؛ لأن الدليل الشرعي حاكم على ما يقتضيه الواقع الخارجي، وإما أن1- لا يتم الإطلاق فيها فتفيد قول المشهور وهو اشتراط اتحاد الأفق، ولا يمكن استفادة هذا القول الخامس منها، فإن الصوم والإفطار لا يكون إلا بإحراز ثبوت الرؤية بالطرق المعتبرة فعدم العلم بالخلاف غير كافٍ لدخول الشهر.

وبتعبير آخر: إن اكتفاءهم بكون البلد مما لا نعلم اختلاف الأفق فيه منافٍ لما دلّ على اشتراط الرؤية وعدم الاجتزاء بالتظني، فإن تمسّكوا بالإطلاقات في التوسعة فإنها شاملة لما يُقطع بعدم الرؤية فيه.

2- ما قلناه من أن الشهر أمر عرفي، والعرف يرى أن دخول الشهر في أي بلد يعني دخول الشهر على أهل الأرض، فإذا تم هذا فرؤية الهلال في كل بلد أو احتمالها غير دخيلة في تحقق الشهر.

3- إن لسان الإطلاقات في المقام ليس لسان الحكم الظاهري، لأن موضوع الحكم الظاهري هو عدم العلم بالواقع، والروايات تفيد بيان حكم واقعي وهو دخول الشهر برؤية الهلال في أي بلد آخر ولو بلسان قضاء يوم وهذا حكم واقعي وليس ظاهرياً حتى يرتفع عند القطع بالعدم، فاستدلالهم سالبة بانتفاء الموضوع.

نعم يُوجد في المقام حكم ظاهري وهو عدم وجوب الصوم إلى أن يُرى هلال شهر رمضان وعدم جواز الإفطار حتى يرى هلال شوال وهما

ص: 396

حكمان ظاهريان لأنه أخذ في موضوعهما عدم العلم بثبوت الهلال في بلد آخر لا نعلمه مع أن احتمال ثبوته في يوم الشك ويأتي خبره لاحقاً قائم لذا أوجبت الروايات تداركه بالقضاء، ويستفاد هذان الحكمان صريحاً من مثل خبر أبي علي بن راشد عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام) في حديث قال: (لا تصم إلا للرؤية)(1) وبالدلالة الالتزامية من مثل صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية)(2).

وذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف هذا القول فقال: «القول الثاني المخالف للمشهور ما ذكره جمع من المحققين ونسب إلى العلامة في المنتهى والنراقي، ومنهم صاحب المستمسك وبعض المحشين على العروة وهو الشيخ محمد رضا آل ياسين، وهو التزام الاختلاف إلا أن ثبوته في بلد وإن لم نعلم اتحاده معنا يكفي للحكم الظاهري فلا يشترط العلم بالاتحاد وإنما يكفي عدم العلم.

وتقريب ذلك أن المستفاد من جملة من الروايات المتقدمة بعنوان (إطلاقات البينة) جعل حكم ظاهري للبلدان التي يُشَك في وجود الهلال فيها- ولو من جهة الشك في مقدار مكث الهلال في أفق البلاد التي رئي فيها فلا تثبت الملازمة في الرؤية بينالبلدين- هو البناء على تلك البينة فتكون حجة في حق أهل البلد المشكوك، فالشك في الملازمة يكون كافياً».

ثم شرح قول السيد الحكيم (قدس سره) أعلاه شرحاً مزجياً فقال: « (أما لو رئي في الغربية) على وجه لا يوجب القطع بقابليته عندنا من جهة القرب أو طول مكثه (فالأخذ بإطلاق النص) وهي صحيحة هشام بن الحكم

ص: 397


1- وما يليه وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أحكام شهر رمضان، باب 3، ح25، 2.

المتقدمة ونحوها وما دل على الاكتفاء بشهادة عدلين بالرؤية (غير بعيد إلا أن يعلم بعدم الرؤية في بلدنا فينتفي موضوع الحكم الظاهري)، أي شبه قاعدة مضروبه للشاك لا من جهة حجية الأمارة بل على مستوى الأصل».

ورد (دام ظله) عليه بأنه يستلزم «حمل المصر على أفراد نادرة فيكون من باب التخصيص بالأكثر وهو مستهجن، فإن البلاد (أهل مصر) بلحاظ الطول والعرض قد يكون مشتركاً معنا فنعلم بقابلية الرؤية في بلدنا، أو بلداً شرقياً في الطول وقريباً في العرض فيُقطع بقابلية الرؤية في البلد الآخر، وإذا كان بلداً غربياً لكن من جهة طول مكث الهلال فنقطع بالرؤية فيه، فكل هذا خارج عن مصب الحكم الظاهري، ويبقى تحت عنوان (أهل مصر) أهل بلد غربي فيشك فيه وهذا تخصيص بالفرد النادر، وهو محتمل في الرواية إلا أنه بعيد جداً أن يراد مصر بهذه القيود، فإن كيفية جعل الأحكام الظاهرية المجعولة للشاك من قبيل الأصول واضح، وأما هذا اللسان فليس لسانه لسان جعل حكم ظاهري».

واستقرب (دام ظله) أن يراد بهذه النصوص الأمصار «المتحدة الأفق بالمعنى العام أي أن رؤيته في بعضها ملازمة لرؤيته من جهة الوحدة طولاً وعرضاً ويكون إرشاداً إلى أمر واقعي، ولا يجري في موارد الشك في الملازمة.

وإذا دار الأمر بين الأمرين –أي الاستظهارين- ولم نقل بلزوم حملها على الأمصار التي نعلم بالملازمة بينها، فلا اقل من الإجمال مع الرأي الآخر فالاستظهار غير واضح»(1).

أقول: تقدمت المناقشات في مثل هذه الكلمات كحمل المصر على البلاد المتقاربة واعتبار طول المكث علامة على رؤيته في البلاد الشرقية، والملازمة في الرؤية بين الشرقية والغربية ونحوها، ونشير الآن فقط إلى ما ذكره من لزوم

ص: 398


1- محاضرة يوم 20/ج2/1417.

التخصيص بالفرد النادر بحمل المصر على ما لا نعلم بالرؤية وعدمها فيه. وهو غير تام، لأن أكثر البلدان هي مما لا نعلم بأمر الهلال فيها، وبحسب كلام النراقي فإنه لا يمكن تحصيل هذا العلم، لذا اختار القول بالتعميم.

أما دوران الأمر الذي ذكره أخيراً فمردود بتقريبات الإطلاق المتقدمة.

ص: 399

القول السادس

اشارة

وهو كفاية رؤية الهلال في أي بلد من بلاد المسلمين التي يصدق عليها أنها بلدان أهل الصلاة لثبوته في البلدان المشتركة معه بهذا العنوان بل غيرها وإن لم يكن الهلال قابلاً للرؤية فيها. وهو مختارنا الذي أثبتناه في الرسالة العملية (سبل السلام)(1)

ولم نجد قائلاً به.

دليلنا إطلاقات الروايات النافية لاشتراط اتحاد الأفق، وقد ذكرناها في القول الثالث ولكن الإطلاق لا يؤخذ على سعته لكل بلدان العالم وإنما يُقيَّد ببلدان المسلمين لعدة وجوه:

(الأول) التمسك بالعنوان الوارد في صحيحة أبي بصير المتقدمة (صفحة 336) من قوله (عليه السلام): (إلا أن يبث شاهدان عادلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر)(2)

فإنه يشملهم بجميع بلدانهم وبتعبير آخر: إن أهل الصلاة منتشرون في بلاد الأرض فقبول الشهادة من جميع أهل الصلاة يعني أنهم في أي بلد كانوا. قال السيد الخوئي (قدس سره): «فإن في قوله (عليه السلام): (جميع أهل الصلاة) دلالة واضحة على عدم اختصاص رأس الشهر القمري ببلد دون بلد، وإنما هو حكم وجداني عام لجميع المسلمين على اختلاف بلادهم من حيث اختلاف الآفاق واتحادها»(3).

وبذلك نتجنب حمل الجملة على حذف المضاف وتقديره (بلدان أهل الصلاة) الذي أشكل عليه بعض من حضرنا بحثه الشريف وأجبناه (صفحة 349) وأضفنا إن هذا التقدير ليس بعيداً ويمكن استظهاره عرفاً بلا مؤونة بقرينة

ص: 400


1- سبل السلام، قسم العبادات، المسألة (1429)، ط. الخامسة.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 12، ح1.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/121.

ما ورد في الجزء الآخر من الرواية (لا تصم ذلك اليوم الذي يُقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصم) والظاهر منه أن النظر إلى جميع أهل الصلاة بلحاظ بلدانهم وانتشارهم بالأمصار، فأهل الأمصار في الجزء الثاني يراد بهم أهل الصلاة في جزئها الأول ويكون التقدير «جميع بلدان أهل الصلاة».

وعلى هذا تحمل إطلاقات روايات الباب الأخرى الدالة على ذلك ففي بعضها (أهل بلد آخر) وفي بعضها (أهل مصر) ونحو ذلك فأهل الصلاة هم أنفسهم أهل هذه الأمصار والبلدان.ويمكن أن يرد على هذا الاستدلال إشكال حاصله عدم التنافي بين المطلقات (أي مصر) وهذا المقيَّد (بلدان أهل الصلاة) لأنهما مثبتان فلا مسوغ لحمل المطلق على المقيّد وإنما يؤخذ بإطلاقه، نظير الخطابين المثبتين (أعتق رقبة) و (أعتق رقبة مؤمنة) فإنه لا تعارض بين الخطابين ويمكن الأخذ بهما معاً، وتحمل الصفة الزائدة على عناية زائدة كالاستحباب.

وبتعبير آخر: إنما يقع التنافي لو كان للجملة المقيدة مفهوم فيُقيّد به إطلاق الآخر، والجملة هنا ليس لها مفهوم.

وجوابه: إن هذا الكلام صحيح كبروياً لو كان الجعل متعدداً، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) وقال: (أكرم العلماء العلويين) فهنا يجب إكرام مطلق العلماء مع عناية زائدة بالعلويين منهم ولا يقيَّد الأمر الأول بهذا القيد الزائد.

أما إذا كان الجعل متحداً؛ كما لو قال: (أكرم طلبة العلم) وقال: (أكرم طلبة العلم المشتغلين) فإننا نعلم أن الأمر واحد وهو إكرام طلبة العلم، لكن ليس مطلق من حمل عنوانهم وارتدى زيّهم وإنما خصوص المشتغلين منهم.

والمقام من الثاني لظهور كون الحكم المجعول واحداً ولكن المولى أجمل خطابه أولاً وأُريد به أصل الحكم في الجملة لمصلحةٍ ما كتهيئة الأذهان أو بيان أهمية الحكم، أو إزالة ارتكاز سابق كاشتراط اتحاد الأفق، فأراد رفعه إجمالاً

ص: 401

بخطاب كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوت الشهر في البلاد الأخرى وإن لم تَرَ الهلال الأعم من كونه موجوداً في آفاقها أو غير موجود في الجملة من دون أن يبيّن حدود البلدان الداخلة، ثم يبيّن في خطاب آخر الحكم بالتقييد المذكور أي بلدان أهل الصلاة والجعل واحد، وهنا لا يمكن التمسك بإطلاق الخطاب الأول لأنه مجمل.

(الثاني) انصراف لفظ (مصر) في الإطلاقات عن بلاد غير المسلمين، لانقطاع التواصل معها يومئذٍ إما مطلقاً أو في شأن الهلال كأوروبا المسيحية والصين ووسط وجنوب أفريقيا أو لعدم اكتشافها أصلاً كالأمريكتين أو الشرق الأقصى أو استراليا.

وهذا الانصراف يصلح لإخراج هذه المصاديق وتقييد المطلق ببلاد المسلمين خاصة بتقريبين:-

أ - لأن المولى ليس في مقام البيان بلحاظها فلا يكون الإطلاق شاملاً لها.

ب - عدم جواز التمسك بالعام -الذي هو كفاية الرؤية في أي بلد- في الشبهة المصداقية، والبلدان غير الإسلامية مما نشك بشمول العموم لها بما هو حجة إن شملها بعنوانه.

وهذا الانصراف ليس كالانصراف إلى البلدان القريبة الذي بنى المشهور استدلاله عليه ورددنا عليه بوجوه.

(الثالث) سيرة المسلمين فقد كان بعضهم يسأل بعضاً عن يوم صيامهم وإفطارهم عندما يلتقون في موسم الحج وغيره وكان السؤال شاملاً لبلدان المسلمين دون غيرها وهذه السيرة ممضاة من قبل الأئمة (عليهم السلام) ولم يردعوا عنها كما تقدم في الاستدلال على القول الثالث فنقتصر على مقدار ما ثبت منها وهي البلاد الإسلامية.

(الرابع) التخلص من بعض الإشكالات الواردة على القولين الآخرين النافيين لشرط اتحاد الأفق كعدم عرفية الاعتماد على رؤية الهلال في مناطق غير

ص: 402

مسكونة غرب الولايات المتحدة في المحيط الهادي حتى لو كانت مشتركة بالليل مع بعض الدول الإسلامية ولذا لا نراهم يبنون عملياً على مثل هذه الرؤية مع أنها حجة على مبناهم.

وتترتب على ما تقدم نتيجتان:-

1- إن هذا التقييد بلحاظ بلد الرؤية، لا بلحاظ من يجري عليهم حكم الرؤية، أي أن التقييد ببلدان أهل الصلاة من حيث الرائين فيجب أن تكون الرؤية في أحد بلاد المسلمين، فيثبت الشهر في حق جميع المسلمين وإن لم يكونوا في بلاد الإسلام لأن إطلاقات البينة والرؤية والإطلاقات الخاصة جارية فيهم من غير تقييد.

ونتيجة ذلك: أن الهلال إذا رئي في بلاد الإسلام جرى حكمه على المسلمين جميعاً حتى وإن كانوا مغتربين في غير بلاد الإسلام تمسكاً بالإطلاقات التي ذكرناها في وجوه الاستدلال على القول الثالث كإطلاقات البينة والأدلة الخاصة وغيرها. وإنما ورد التقييد في جانب بلد الرؤية فقط.

2- إن هذا القول يحقق ملاك وحدة المسلمين بالاستناد إلى الدليل حيث يأخذ بإطلاقات الروايات في حدود ما يستظهر منها، وليس للاستحسان.

إن قلتَ: إن هذه النتيجة خلاف ما استظهرتموه من المعنى العرفي للشهر وكونه واحداً لجميع أهل الأرض.

قلتُ: تقدّم أن من حق الشارع المقدس توسيع وتضييق حدود الحقائق الخارجية سواء كانت تكوينية أو عرفية بحسب ما يراه من الملاك، مضافاً إلى أن مختارنا يتفق مع الفهم العرفي بوحدة الشهر لجميع بلدان العالم فيما لو كانت الرؤية في أحد بلاد المسلمين.

إن قلتَ: إن رواية أبي علي بن راشد المتقدمة (صفحة 301) تفيد بأن الإمام الهادي (عليه السلام) بنى على كون بداية شهر رمضان سنة 232 هجرية

ص: 403

يوم الخميس، مع أن المخطط المرفق لرؤية هلاله تفيد بإمكانية رؤية الهلال مساء الثلاثاء في بعض بلاد المسلمين كجنوب المغرب والجزائر، فتكون نقضاً على هذا القول.

قلتُ:-

1- ليست هذه الأجزاء من بلاد المسلمين يومئذٍ حيث اقتصر وجودهم على الجزء الشمالي المتاخم للساحل.

2- ما قاله المتخصصون من حصول تغيّر في المواقيت قدّروه بحوالي دقيقة كل مائة سنة فلا يمكن الوثوق بكون هذا هو المخطط بالدقة لذلك اليوم.

إذ قد ينسحب قليلاً إلى الغرب وحينئذٍ تخرج البلاد الإسلامية يومئذٍ منها، فالبرنامج الذي استخرجت منه هذه المخططات قد لا يغطي بدقة تلك الفترة.

3- ما نقلناه (صفحة 248) من اعتراف محرري هذه التقاويم من وجود مقدار من المخالفة للواقع فيها.

مناقشة أدلة هذا القول:هذا ولكن يمكن المناقشة في الوجوه المتقدمة للتقييد ببلاد المسلمين.

أما الأول فلأن:-

أ- الحمل المذكور غير ظاهر وفيه تكلّف ولا يكفي لتقدير المحذوف.

ب- لأن أهل الصلاة منتشرون في غير البلاد الإسلامية أيضاً فلماذا التقييد بها.

ج_- إن الفقرة الثانية واردة في رواية أخرى جمعهما صاحب الأصل -وهو الحسين بن سعيد- كما استظهرنا (صفحة 336)، وليس في رواية واحدة حتى يمكن استظهار الحمل المذكور.

ص: 404

وأما الثاني: فلأن الانصراف ليس منشأه عدم شمول النص لبلاد غير المسلمين وإنما لعدم تعارف مجيء الناس منها ومثله لا يقيد المطلق لأن الأحكام مأخوذة على نحو القضايا الحقيقية ولا تختص بزمان صدورها.

وأما الثالث فلنفس ما ذكرناه في الرد على الثاني.

وحينئذٍ لا وجه لتقييد إطلاقات ما دلّ على كفاية الرؤية إذا تحققت في أي بلد آخر ويكون القول بوحدة الهلال لجميع بلدان العالم قريباً مع ملاحظة أن الشهر القمري يبدأ من الليل فالبلاد التي يكون فيها نهار عند الرؤية لا يحلّ فيها الشهر الجديد إلا إذا دخل عليها الليل.

ولكن تبقى هنا بعض الإشكالات منها:

عدم عمل الأئمة (عليهم السلام) بهذا فقد كانوا يبنون على ما هو المتعارف لدى الناس في المنطقة مع أننا نقطع بأن الهلال كان يرى في أجزاء كثيرة من العالم قبل منطقتنا ومن الشواهد على ذلك أن هلال شهر رمضان سنة 232 ه_ كان في أجزاء كبيرة من أفريقيا والأمريكتين ليلة الأربعاء بينما اعتبر الإمام الهادي (عليه السلام) بداية الشهر يوم الخميس كما في رواية أبي علي بن راشد، وقد أجبناه (صفحة 303).

وما يتبع ذلك من كون صوم المعصومين (عليهم السلام) وفطرهم وحجهم في غير المواقيت الشرعية.

وقد أجبنا عنهما (صفحة 299 وما بعدها) وقدمنا عدة وجوه لعدم منافاتها الإطلاق.

وملخّص جواب الأول أن هذا يكون يومئذٍ من باب عمل الأئمة (عليهم السلام) بعلمهم الخاص والمعروف أنهم لم يكلّفوا الناس العمل به لأن أمر الهلال فيه جنبة إثباتية حيث جعله الله تعالى ميقاتاً للناس فلا يعمل لهم بأمر غير معروف لديهم.

ص: 405

وأما جواب الثاني فإن الإمام (عليه السلام) له حق التصرف في الأحكام الشرعية توسعة وضيقاً في الزمان -كإجزاء الوقوف في عرفة مع العامة- والمكان -كتوسيع منى إلى وادي محسَّر إذا ضاقت بالحجيج- والتفصيل هناك.

وعلى أي حال فإذا استظهرنا الإطلاق من الروايات على سعته واستطعنا دفع الإشكالات فإن القول بكفاية الرؤية في جميع بلدان العالم هو الأقرب، وإن رجحنا انصراف الإطلاق عن غير البلاد الإسلامية مع وجود إشكالات على وحدة الهلال لجميع بلدان العالم فالمعتمد هو القول الأخير مع إمكان الوصول إلى ما هو أوسع منه بحكم الحاكم الشرعي.والمختار أن الهلال إذا رؤي في أحد بلاد المسلمين فقد ثبت الشهر في جميع بلدان أهل الصلاة أما غيرها فالأمر للحاكم الشرعي، وإن رؤي في غير بلاد المسلمين فالأمر للحاكم الشرعي فإن شاء اعتمد عليه بإنشاء حكم شرعي بدخول الشهر الجديد وإلا فلا.

وهذا الإنشاء يستند إلى معطيات عديدة يعرفها الحاكم الشرعي.

وأعتقد أن هذا هو ما جرى عليه الأئمة المعصومون (عليهم السلام) فقد أجروا الناس في عصرهم على ما يعرفون وأمروا شيعتهم أن يصوموا مع الناس ويفطروا مع الناس ويحجّوا مع الناس مع بيانهم أن الأمر أوسع من ذلك لكنهم تركوا لفقهاء العصور سعة الاستفادة منها بحسب ظروفهم.

ص: 406

فرعان

الفرع الأول: لو رُئي الهلال رؤية معتبرة في بلد غير مسلم كالولايات المتحدة غرباً أو استراليا شرقاً –حيث ينتشر المسلمون في أصقاع الأرض بفضل الله تعالى- ولم يُر الهلال في بلاد المسلمين ، فما حكمهم وما حكم المسلمين في بلاد الإسلام؟

الجواب أن حكمهم البناء على الرؤية عندهم وعند من يعلم باتحاد الأفق معهم ولكن هذا الحكم لا يجري على بلاد الإسلام لأنهم خارج التقييد المذكور أما هم فيشملهم ما دلّ على وجوب الأخذ بالرؤية وثبوتها على الآخرين بالبينة، ويكون حالهم كمن رأى الهلال وحده دون المسلمين الذي نطقت به صحيحتا علي بن جعفر المتقدمتين.

نعم على ما قرّبناه من إمكان القول بوحدة الهلال لجميع بلدان العالم أينما رؤي تكون الرؤية المفروضة كافية لثبوت الشهر، وإلا فيمكن تعميم حجية الرؤية الثابتة في البلدان غير الإسلامية بإنشاء الحاكم الشرعي حكماً على طبقه فيكون ملزماً للمسلمين في بلادهم لما تقدم من ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي عندما تتوفر ظروف إنشاء الحكم الشرعي كحفظ المجتمع الإسلامي من الاختلاف والفتنة، أو حماية الإسلام من التوهين.

الفرع الثاني: في المناطق القطبية حيث يستمر النهار ستة أشهر عندما يكون ميل القطب باتجاه الشمس والليل ستة أشهر عندما يكون مائلاً بعيداً عنها فإن الهلال تستحيل رؤيته في تلك المناطق فكيف يتم تحديد أوائل الشهور؟

والجواب يختلف بحسب الأقوال في المسألة، فمن يقول بكفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في كل بلدان العالم باعتبار أن رؤية الهلال ظاهرة كونية

ص: 407

واحدة لجميع أهل الأرض أو للتمسك بالإطلاقات على سعتها فإنه لا مشكلة وكذا إذا رؤي في بلد يشترك مع القطب في الليل على القول الآخر.

أما على الأقوال الأخرى فإن أول الشهر للمناطق القطبية يتحدد بأحد طريقين:-

1- حكم الحاكم الشرعي فإنه يلاحظ وضعهم فينشئ حكماً بدخول الشهر الجديد وفق المنهج الذي يراه حجة كمساواتهم مع أقرب البلدان التي يثبت فيها الهلال سواء برؤية الهلال فيها أو بشمولها بحكم الثبوت، ونقصد بالأقربية من حيث إمكانية رؤية الهلال، أو طبقاً لرؤيته في بعض بلاد المسلمين كما قرّبنا على القول المختار ونحو ذلك.

2- إذا اتفق مراجع الدين على أول الشهر فيثبت في حقهم وإذا اختلفوا عمل على طبق المتأخر لعدم جواز العمل على طبق المتقدم باعتبار عدم تحقق الرؤية عندهم ولا يكون صوم أو إفطار إلا بالرؤية، وليس لهم أن يتأخروا عن القول المتأخر للقطع بعدم تأخر أول الشهر عن أحد هذين اليومين لأن القضية مانعةخلو ولأن الشهر القمري لا يزيد عن ثلاثين يوماً، ولا ثمرة تتحقق لهم من التأخير.

وتوجد تفاصيل أخرى عند مناقشة أحكام الصلاة والصوم بالنسبة لهم.

ص: 408

ملحق: مخططات رؤية الهلال في كل بقاع العالم لأيامٍ مختارة

المخططات التالية تمثل إمكانية رؤية الهلال في كل بقاع العالم في الأيام التي أُشير إليها خلال البحث، وقد عُبِّر فيها عن الدرجات المتفاوتة لإمكانية الرؤية بألوان مختلفة.

وتعريف الألوان في المخطط هي:-

1- اللون الأحمر (Red): يعني أن الرؤية مستحيلة، ويكون ذلك حينما لا يكون الهلال مولوداً بعد أي قبل أن يخرج من الاقتران بالنسبة إلى تلك المنطقة فيكون غربه قبل غروب الشمس.

2- المنطقة بلا لون (No Color): تعني أن الرؤية غير ممكنة لأن الاقتران يحصل قبل الغروب ولكن بفترة قليلة لا تسمح برؤيته لشدة توهج الشفق الغربي بعد غروب الشمس.

3- الأزرق (Blue): يعني أن الرؤية غير ممكنة.

4- الأزرق المخضر (Magenta): يعني أن الرؤية تبقى محتملة، ولم يصادف في المخططات أي حالة من هذا النوع.

5- الأزرق المحمر (Cyan): ويعني أنه حالة غير معروفة من حيث الرؤية وعدمها.

6- الأخضر (Green): يعني أن الرؤية ممكنة بالعين المجردة بسهولة.

والمخططات المرفقة بحسب مقياس عودة (Odeh Criterion) ولا يختلف عنها مقياس جنوب أفريقيا (SAAO)، والمقاييس الأخرى كثيراً بما فيها المقاييس المستخدمة من قبل بعض المرجعيات الدينية.وإمكانية الرؤية في التأريخ المحدد تعني أن اليوم التالي يفترض أن يكون أول الشهر اللاحق.

ص: 409

صورة

ص: 410

صورة

ص: 411

صورة

ص: 412

المسألة الرابعة :صيام الأسير والمحبوس إذا لم يتمكنا من معرفة أول شهر رمضان

اشارة

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): «الأسير والمحبوس إذا لم يتمكنا من تحصيل العلم بالشهر عملا بالظن، ومع عدمه تخيرا في كل سنة بين الشهور فيعينان شهراً له، ويجب مراعاة المطابقة بين الشهرين في سنتين بأن يكون بينهما أحد عشر شهراً، ولو بان بعد ذلك أن ما ظنه أو اختاره لم يكن رمضان فإن تبين سبقه كفاه لأنه حينئذ يكون ما أتى به قضاء، وإن تبين لحوقه وقد مضى قضاه، وإن لم يمض أتى به، ويجوز له في صورة عدم حصول الظن أن لا يصوم حتى يتيقن أنه كان سابقاً فيأتي به قضاء، والأحوط إجراء أحكام شهر رمضان على ما ظنه من الكفارة والمتابعة والفطرة وصلاة العيد وحرمة صومه ما دام الاشتباه باقياً، وإن بان الخلاف عمل بمقتضاه»(1).

أقول: تضمنت المسألة عدة مطالب:

المطلب الأول

قوله (قدس سره): «الأسير والمحبوس إذا لم يتمكنا من تحصيل العلم بالشهر عملا بالظن».

أقول: يمكن الاستدلال على الحكم بدليل الانسداد عند من يقول به باعتبار انسداد باب العلم عند المكلف فيتعين عليه العمل بالظن، وقد عبّر بهذا اللفظ الشيخ كاشف الغطاء، قال (قدس سره): «من انسدَّ عليه طريق معرفة أول

ص: 413


1- العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي: 2/214، كتاب الصوم، طرق ثبوت الهلال، المسألة (8).

شهر رمضان وضاع عليه بين الشهور، يصوم ما يغلب على ظنه أنه شهر رمضان»(1).

ويرد عليه:-

1- انفتاح باب العلم لوجود النص الصحيح في المسألة ولو لم يوجد نص فهناك عمومات أو أصول عملية يجب الرجوع إليها.

2- التأكيدات المستمرة من الشارع المقدس على النهي عن العمل بالظن.

فالصحيح الاستدلال بالنص وهو موجود، وقبل ذلك نبيّن الآراء الفقهية السائدة لدى المسلمين في ذلك العصر، فقد بُحثت المسألة لدى فقهاء العامة منذ عصر المعصومين (عليهم السلام) لابتلاء المسلمين بحصول مثل هذه الحالات.

قال ابن قدامة في المغني: «قال -يعني الخرقي(2)-:

وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير فإن صام شهراً يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه وإن وافق ما قبله لم يجزه.

وعلق ابن قدامة شارحاً فقال بعدها: وجملته أن من كان محبوساً أو مطموراً، أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر فاشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى ويجتهد، فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه ولا يخلو من أربعة أحوال:

أحدها: أن لا ينكشف له الحال فان صومه صحيح ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد.

ص: 414


1- كشف الغطاء: 4/59.
2- أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن احمد الخرقي (ت 334 هج_) صاحب كتاب المختصر في فقه ابن حنبل الذي يشرح ابن قدامة عباراته في المغني.

الثاني: أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء، وحكي عن الحسن بن صالح(1) أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان وليس بصحيح -أي قول الحسن- لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلةإذا اشتبهت، أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد، فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها فما لم توجد لم يجز الصوم.

الحال الثالث: وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء، وقال بعض الشافعية يجزئه في أحد الوجهين كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم، وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم لعظم المشقة عليهم، وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم، ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم.

الحال الرابع: أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده أجزأه وما وافق قبله لم يجزئه»(2).

ثم قال: «وإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وإن وافق الشهر لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو نوى ليلة الشك إن كان غداً من رمضان فهو فرضي، وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي

ص: 415


1- الحسن بن صالح بن حي من زعماء البترية -وهم فرقة من الزيدية- من أقران سفيان الثوري، كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، اختفى سبع سنين في نفس موضع عيسى بن زيد وجدَّ المهدي العباسي في طلبهما، توفي سنة 168 هج_. (الأعلام للزركلي: 2/208 عن الفهرست لابن النديم: 1/305 وتهذيب التهذيب: 2/285، وميزان الاعتدال: 1/230 وغيرها).
2- المغني: 3/101، المسألة (2116)، ط. دار الفكر.

عليه الصيام ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القبلة ويصلي على حسب حاله ويعيد، وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد؟ على وجهين كذلك يخرج على قوله ههنا، وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه وإن لم يبن على دليل لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها»(1).

أقول: هذه هي الآراء الفقهية المعروفة عند صدور النص من المعصوم (عليه السلام) حيث توجد هنا صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: رجل أسَرته الروم ولم يصحّ له شهر رمضان ولم يدر أي شهر هو؟ قال: يصوم شهراً يتوخى(2)

ويحسب، فإن كان الشهر الذي صامه قبل شهر رمضان لم يجزه، وإن كان بعد شهر رمضان أجزأه)(3)

بناءً على تفسير التوخي بتحصيل الظن.

وروى الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة عن الصادق (عليه السلام) ولعله (قدس سره) ناظر إلى نفس الرواية فشرحها قال: (إنه سُئل، عن رجل أسَرته الروم فحبس ولم ير أحداً يسأله فاشتبهت عليه أمور الشهور كيف يصنع في صومشهر رمضان؟ فقال: يتحرى شهراً فيصومه - يعني يصوم ثلاثين يوماً - ثم يحفظ ذلك فمتى خرج أو تمكن من السؤال لأحد، نظر: فإن، كان الذي صامه كان قبل شهر رمضان لم يجز عنه، وإن كان هو هو فقد وُفق له، وإن كان بعده أجزأه)(4).

ص: 416


1- المغني: 3/102، المسألة (2118).
2- هذه بحسب الشيخ الصدوق في الفقيه، وورد التعبير (يتوخاه) في الكافي والتهذيب.
3- وسائل الشيعة:10/276، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 7، ح1.
4- وسائل الشيعة: 10/277، المصدر السابق، ح2.

أقول: التوخي هو تحري بلوغ القصد وبذل الوسع في الوصول إلى المطلوب وبه عبَّر الشيخ المفيد (قدس سره) لذا يطلق على الطريق القاصد والمعتمد (الوخى) فمفاد الرواية أن من ليس له طريق إلى العلم بدخول شهر رمضان يبذل وسعه ويجتهد في تحصيل شهر يكون احتمال كونه شهر رمضان أقرب من أي احتمال آخر فيصومه فإن ظهر لاحقاً أنه وافق شهر رمضان الواقعي كان مجزياً وكذا إن تأخّر عنه لأنه سيكون قضاءً وإن ظهر تقدمه لم يكن مجزياً لعدم تنجّز موضوعه وعليه قضاؤه في وقت آخر.

وقد ورد التعبير بالتحري واستفراغ الجهد في روايات المعصومين (عليهم السلام) في مورد مماثل وهو عدم معرفة القبلة، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (يجزئ التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة)(1)

وفي موثقة سماعة (أنه سأله عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس والقمر ولا النجوم؟ فقال (عليه السلام): تجهد (تجتهد) رأيك وتعتمد القبلة بجهدك)(2).

وينبغي إيضاح عدة أمور في ضوء فقه الحديث:

الأول- استدلال المشهور مبني على تفسير التوخي بمعنى تحصيل الظن، وقد صرّحوا بذلك.

قال بعض من حضرنا بحثه الشريف أن «الظاهر من كلام المصنف أن المراد بالتوخي المظنون كونه رمضان وقد تعرّض له هنا وفي مباحث النية».

أقول: يلاحظ في كلمات الأصحاب أنهم أطلقوا التوخي على عدة معانٍ:-

1- الاحتمال الراجح مطلقاً.

2- الاحتمال الراجح نسبياً أي بلحاظ غيره.

3- التحري بهدف الوصول إلى المطلوب ولو لم ينتج رجحاناً.

ص: 417


1- وسائل الشيعة: 4/307، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، باب 6، ح1، 3.
2- وسائل الشيعة: 4/307، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، باب 6، ح1، 3.

والصحيح هو الثالث لكن المشهور أخذ بالأول حيث جعلوه مرادفاً للظن، قال السيد الحكيم (قدس سره): «الظاهر من التوخي العمل بما هو أقرب إلى الواقع فيختص بالظن»(3).(1)

وقد استعملوا لفظ الظن في معناه المنطقي أي الاحتمال الراجح مطلقاً الذي يزيد عن 50% بينما يراد بالتوخي معناه المتقدم فيشمل الأعم منه ومن الاحتمال الأقوى أي الراجح نسبياً حيث أن معنى الظن قد لا يتحقق هنا لأن احتمال كون هذاالوقت هو غير شهر رمضان يتوزع على عدة أشهر فقد يكون صاحب الاحتمال الأقوى 30% أو قريباً منه واحتمال أنه ليس رمضان 70% لكن هذه النسبة المتبقية تتوزع على عدة شهور فيقل احتمال كل شهر على حدة عن 30% الذي هو احتمال الشهر المتوخى مع أنه أقل من 30% وفي هذه الحالة يكون هذا الشهر متوخى إلا أنه غير مظنون بالمصطلح.

وقد يصدق التوخي -الذي هو محاولة الوصول إلى الشيء مع قصد الوصول إليه والاهتمام به بغضّ النظر عن تحقق المطلوب وعدمه- مع تساوي الاحتمالات إذا تحرّى ثم اختار أحدها برجاء كونه الراجح، وقد لا يصدق على الاحتمال الراجح إذا كان تحصيل العلم ممكناً وهكذا كل مورد بحسبه. ففهم المشهور منقوض بكلا الاتجاهين.

وعلى أي حال فالتوخي لا يرادف الظن الراجح مطلقاً، نعم هو أحد أفراده؛ لأن المراد من التوخي هو قصد إصابة الحق والوصول إلى الصواب بأي طريق ممكن الأقوى فالأقوى ولا يصدق على من يتمكن من تحصيل درجة عالية إذا اكتفى بما هو أدنى فيختلف بحسب الموارد، فإذا حصل بالعلم فهو وإلا فبالأمارة وإلا فبالظن بتجميع القرائن وقد تصل النوبة إلى صيام أحد الشهور برجاء أن يكون هو شهر رمضان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 418


1- (3) مستمسك العروة الوثقى: 8/477.

وهذه الإقوائية التي يصدق معها التوخّي يمكن أن تثبت من تجميع القرائن أو الإحساس الوجداني ولو من القرعة -كما سيأتي في كلام صاحب الجواهر (قدس سره)- فإن كثيراً من الناس يحصل لهم رجحان بنتيجة القرعة، قال ابن منظور «وفي الحديث: قال لهما: اذهبا فتوخيا واستهما أي اقصدا الحق فيما تصفانه من القسمة، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة»(1).

الثاني- صرّح المصنف (قدس سره) وفاقاً للمشهور بأن المورد من باب العمل بالظن وحكي عن المنتهى والتذكرة الإجماع على ذلك فيكون خارجاً بالدليل الخاص -وهي الصحيحة- من عمومات العمل بالظن وخصوص ما دلّ على النهي عن العمل بالظن في الهلال كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية)(2)

وموثقة سماعة (صيام شهر رمضان بالرؤية وليس الظن)(3)، وللمورد نظائر في الفقه كما في الظن بالقبلة.

وظاهر المشهور أن الظن منزّل منزلة العلم عند تعذّر تحصيله وشهر رمضان المظنون منزلة الشهر الواقعي المعلوم لذا رتّبوا عليه أحكامه المذكورة في المسألة، لكن الذي يظهر من الأحكام الواردة في الرواية أن المورد ليس من باب العمل بالظن وإلا لنُزِّل الظن منزلة العلم ونتيجته الاجتزاء بالعمل؛ قال صاحب الجواهر (قدس سره): «ليس في النص الذي هو العمدة في المقام إطلاق منزلة ونحوها، ومجردوجوب الصوم للظن أعم من ذلك»(4)،(4)فالرواية لا تفيد هذا التنزيل وإنما تفيد أمراً تكليفياً بوجوب التحري وترشد إلى كيفيةٍ رجاء إصابة الواقع وهو يتطلب التحرّي وبذل الوسع في الوصول إليه، ولازمه عدم الاجتزاء

ص: 419


1- لسان العرب: 4/4244، مادة (وخى).
2- وسائل الشيعة: 10/252، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح2، 6.
3- وسائل الشيعة: 10/252، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح2، 6.
4- (4) جواهر الكلام: 16/383.

عند تبيّن عدم مطابقته للواقع، وسيأتي مزيد من التفصيل عند مناقشة الأحكام المترتبة على الشهر المتوخى إن شاء الله تعالى.

الثالث- إن النص صرّح بحكم الأسير فما وجه التعميم للمحبوس؟

قال السيد الحكيم (قدس سره): «فالتعدي عنه إلى المحبوس كأنه لفهم العرف المناط المشترك بينهما» ،(1)وردّ السيد الخوئي (قدس سره) بأنه قياس محض، وأن التعميم «لفهم المثالية من ذكر الأسير إذ لا يكاد يتأمل في أن العرف يفهم من مثل هذه العبارة أن نظر السائل معطوف إلى ما ذكره بعد ذلك من قوله: ولم يصح له شهر رمضان، فالمقصود بالذات من مثل هذا السؤال التعرف عن حكم من لم يعرف شهر رمضان ولم يميزه عما عداه، وإنما ذكر الأسير تمهيداً ومن باب المثال من غير خصوصية فيه، ولا في خصوصية الأسير من كونه من الروم بحيث لو كان من الزنج أو من غيرهم من المشركين لم يعمه الحكم فإن هذا غير محتمل جزماً»(2).

أقول: توجد هنا عدة تعليقات:-

1- لا مانع من التعدية بوحدة المناط إذا كان ظاهراً من النص كما فهم (قدس سره).

2- إن المناط لا يقتصر على قوله (عليه السلام): (ولم يصحّ له شهر رمضان) وإلا لأورد عليه بأن العبارة غير موجودة هكذا في الكافي وإنما توجد فيه (لم يصم شهر رمضان) ولا علاقة لها بالمناط المذكور لكن المناط مصرّح به أيضاً في الفقرة التالية وهو قوله (عليه السلام): (ولم يدر أي شهر) فلا يضر هذا الاختلاف.

ص: 420


1- مستمسك العروة الوثقى للسيد محسن الحكيم: 8/476.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/127.

3- نستطيع الجزم بأن جواب الإمام (عليه السلام) ناظر إلى المناط المذكور في السؤال وليس إلى عنوان الأسير الذي ذكره السائل فقد يورد السائل في كلامه تفاصيل لا يكون الجواب مختصاً بها، كمن يراجع الطبيب فإنه يذكر له تفاصيل لا دخل لها في تشخيص المرض ووصف علاجه.

4- إن تداول المسألة لدى فقهاء العامة يومئذٍ بالمناط العام المذكور يعتبر قرينة على إرادة التعميم في كلام الإمام (عليه السلام) لأنهم (عليهم السلام) كانوا يعلقون بأجوبتهم على ما كان مثاراً في أوساط فقهاء العامة، والشاهد على هذا اللحاظ أن السائل تناول الأسير ولم يسأل عن المحبوس مع أن الشيعة مبتلون يومئذٍ بالحبس وليس بالأسر لأن الذين يقعون في الأسر يومئذٍ من جيش الدولة ليسوامن أتباع أهل البيت إلا نادراً، فجواب الإمام (عليه السلام) لا يعنيهم، أما أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فقد كانوا مبتلين بالحبس في سجون الظالمين، نعم قد تكون النكتة في ذلك أن السؤال عن المحبوس قد يكون مخالفاً للتقية فصار السؤال عن الأسير المتّحد معه في المناط، ويمكن الاستفادة من هذه الالتفاتة لمعرفة الفطنة والحذر في التعامل مع السلطات الظالمة.

والسؤال الآن هل يشمل الحكم غير الأسير والمحبوس فيشمل مثلاً من ألقي في جزيرة منقطعاً عن الناس فأضاع حساب الشهور؟.

والجواب: إن الدليل إن كان الصحيحة فإن المناط فيها عدم الدراية بشهر رمضان وهو عام، وإن كان تنقيح المناط فإنه يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو مثلاً من جهل الشهور بفعل قهري خارج عن إرادته وهو ما يجمع الأسير والمحبوس دون من ذهب باختياره إلى موضع لم يدر فيه الشهر.

الرابع- ظهور لفظ (يحسب) في وجوب التبيّن بعد الصوم لاكتشاف المطابقة مع شهر رمضان الواقعي وعدمها.

ص: 421

الخامس- في وجه إجزاء الصوم إذا انكشف تأخره عن الشهر الواقعي مع عدم نيّة القضاء.

وسنناقش هذين الأمرين في المطالب التالية عند تعرّض المصنف لها.

المطلب الثاني

اشارة

قوله (قدس سره): «ومع عدمه تخيرا في كل سنة، بين الشهور فيعيّنان شهراً له»

لو تحرّى متوخياً شهر رمضان فلم تنتج محاولته أي ترجيح لزمان على آخر فقد ذهب العلامة (قدس سره) وغيره ومنهم المصنف إلى اختيار أي شهر، ونفى صاحب الجواهر(1)

وجود خلاف فيه، بل حكى عن بعضهم الإجماع عليه وعن المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب.

ويمكن الاستدلال على التخيير عند عدم الظن بمقتضى القواعد تارة وبالنص تارة أخرى أما على مستوى القواعد فبتقريبين على الأقل:-

1- إن المورد من دوران الأمر بين المحذورين فيتعذر الاحتياط فيه ويتعين التخيير.بيان ذلك: أنه يوجد في المقام علم إجمالي بوجوب شهر رمضان في كل سنة وهو مشتبه بين الشهور ومقتضاه وجوب صوم كل الأشهر المشتبهة لإدراك شهر رمضان الواقعي.

وفي مقابله يوجد علم إجمالي بوجود يومي العيدين ضمن هذه الأشهر المشتبهة ويحرم صومهما فيدور الأمر بين محذورين الوجوب والحرمة.

ص: 422


1- جواهر الكلام: 16/383.

قال المحقق العراقي (قدس سره) في تعليقته على العروة: «ومع عدم العلم ينتهي الأمر في كل يوم إلى الدوران بين المحذورين فيخرج المورد من موضوع الاحتياط بالمرة».

وقال السيد الحكيم (قدس سره): «المقام من قبيل الدوران بين المحذورين، وحينئذٍ يتخير بين الصوم والإفطار، كما هو مقتضى حكم العقل عند الدوران بين المحذورين لا التخيير في تعيين الشهر»(1).

ويرد عليه:-

أ- إن حرمة صوم العيدين تشريعية لا ذاتية ولا يتحقق ملاكها في المقام لأن المحبوس يصوم احتياطاً عما في الذمة رجاء إدراك الواقع ولا تشريع فيه، حيث أن التشريع المحرم هو الإتيان بما ليس من الدين على أساس أنه من الدين.

ب- إن المورد ليس من دوران الأمر بين المحذورين وهما الوجوب والحرمة لوجود ثالث وهو الاستحباب وأفراده هي الأكثر بين الشهور بعد إخراج ما يجب وما يحرم صومه.

ج_- ولو تنزّلنا وقلنا أن الحرمة ذاتية فإن إجراء التعارض بين حرمة صوم يومين ووجوب صوم شهر كامل يحتاج إلى إعادة نظر فلعل شبهة الحرمة تصبح غير محصورة فتكون غير منجزة إذا كانت نسبتها ضئيلة أو أنها لا تصلح لمعارضة العلم الأول لأنها غير متوازنة معه وهذا الشرط يحتاج إلى بحث مفصّل في علم الأصول، ولرفع الاستغراب ننقل كلام السيد السبزواري (قدس سره) في هذا المجال قال: «إن موضوعه -أي الدوران- ما إذا كان احتمال الوجوب

ص: 423


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/477.

والحرمة متساوياً لا أن يكون احتمال الحرام من الضعيف النادر»(1).

د- لو فرض كون المورد من دوران الأمر بين المحذورين فإن نتيجته التخيير بين الفعل والترك في كل يوم، وليس التخيير بين الشهور.

2- إن التعيين سقط اعتباره بالعجز فيبقى أصل الصوم فيتخير فيه شهراً من كل سنة، وسيأتي ردّ صاحب الجواهر (قدس سره) وقال في المستمسك «إن التعيين قيد في الواجب، فالعجز عنه عجز عن الواجب مسقط له، مع أن العجز إنما هوعن العلم بالتعيين، لا نفسه فاللازم الاحتياط بالتكرار إلى أن يحصل العلم بأداء الواجب في وقته»(2).

أقول: احتملنا في بحث الصلاة والصوم في المنطقة القطبية(3) أن وجوب الصوم في شهر رمضان مأخوذ على نحو تعدد المطلوب، فإذا تعذّر إيقاعه في شهر رمضان الواقعي فيتعين عليه صوم شهر من السنة.

وأما على مستوى النص فيمكن التمسك بصدق التوخي الذي أمرت به الرواية فيكون ممتثلاً، وبتعبير آخر: إن النص لم يقيد تحصيل الشهر الذي يصومه بالظن لأن التوخي لا يرادف الظن بل معناه تحري الشيء وطلب الوصول إليه فإن ترجح لديه ظن فهو وإلا فقد أدى ما عليه ويتخير شهراً، فالعرف يرى أن من تحرّى وطلب الوصول إلى شهر رمضان الواقعي فتساوت عنده الاحتمالات فاختار أحدها للزوم صوم شهر في السنة أنه متوخّي، كمن بعث شخصاً إلى السوق لشراء السلعة الأفضل فوجد بعد الفحص المعروضات ذات نوعية واحدة فأتى بأحدها فإنه يُعَدُّ

ص: 424


1- مهذب الأحكام: 10/294.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/477.
3- فقه الخلاف: 3/349، ط. الثانية.

ممتثلاً، وهذا المعنى يوافق عليه اللغويون ويناسب كلام بعض الأساطين كالعلامة (قدس سره) في التذكرة قال: «لو كان بحيث لا يعلم الأهلّة كالمحبوس، أو اشتبهت عليه الشهور، كالأسير مع الكفار إذا لم يعلم الشهر، وجب عليه أن يجتهد ويغلب على ظنه شهراً أنه من رمضان، فإن حصل الظن بنى عليه».

وقال في المسألة التالية: «لو لم يغلب على ظن الأسير شهر رمضان لزمه أن يتوخى شهراً ويصومه ويتخيّر فيه»(1).

أقول: تراه اعتمد الظن أولاً ثم اعتبر التوخي المؤدي إلى التخيير، فتأمل(2).

ومنه يُعلم النظر في إشكال السيد الحكيم (قدس سره) على الاستدلال بالصحيحة على التخيير لكون «الظاهر من التوخي العمل بما هو أقرب إلى الواقع فيختص بالظن»(3).فالاستدلال في المقام يكون بالنص، ومنه يُعلم النظر في جعل السيد الخوئي (قدس سره) مستند المشهور منحصراً بما تقتضيه القواعد الأولية من التنزل من الامتثال القطعي إلى الظني ومنه إلى الاحتمالي فأفتوا بالتخيير(4).

ص: 425


1- تذكرة الفقهاء: 6/142، المسألة (86).
2- وجه التأمل: أن السلعة المطلوبة في المثال غير معينة واقعاً فيمكن التخيير أما في مسألتنا فإن شهر رمضان متعين في نفسه ولكنه اشتبه على المكلف ولعل هذا مراد السيد الحكيم (قدس سره) في قوله: «إن العجز إنما هو عن العلم بالتعيين لا نفسه».
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/477.
4- موسوعة السيد الخوئي: 22/133.

والنتيجة قبول قول المشهور بالتخيير ولكن لا يكون اعتباطياً بل يعيّنه بالقرعة لأنها لكل أمر مشكل والمقام منه.

نعم يسجَّل على المصنف (قدس سره) أنه أخذ مسلماً شمول الاشتباه لجميع أشهر السنة والصحيحة لم تذكر ذلك، مضافاً إلى أن من اليسير حصر الاشتباه في ثلاثة أشهر مثلاً للعلم بأن شهر رمضان خلال هذه السنين يقع في الشتاء أو في الصيف ونحو ذلك، وحينئذٍ يُسأل عن الفرق بين مختاره هنا في التخيير وما قاله في المسألة التالية: «إذا اشتبه شهر رمضان بين شهرين أو ثلاثة أشهر مثلاً فالأحوط صوم الجميع وإن كان لا يبعد إجراء حكم الأسير والمحبوس».

ويترتب على هذه الملاحظة نتيجتان:-

1- إن التخيير يكون بين الأشهر المحتملة لوقوع شهر رمضان فيها لا جميع شهور السنة فإنه فرض نادر أن يشتبه الشهر في كل شهور السنة.

2- إن الاحتياط غير ملزم في المسألة التالية كما هو غير ملزم في مسألتنا لشمول الصحيحة لهما معاً وخلوّها من لفظ السنة بل ندرة هذا المورد المانع من حملها عليه.

وعلى أي حال فقد أشكل على القول بالتخيير فريقان ذهب كل منهما إلى قول في المسألة في ضوء ما تقدم من الردود فهنا قولان آخران مقابل قول المشهور:

أحدهما: سقوط الأداء عنه وتعيّن القضاء عليه: واختاره الشيخ كاشف الغطاء، قال (قدس سره): «والظاهر أنه مع انسداد باب الظن يسقط تكليف صوم الأداء، وإذا مضت السنة لزمه القضاء»(1)

لكنه (قدس سره) احتاط بأن يأتي بصوم شهر ناوياً به احتمال كونه شهر رمضان.

ص: 426


1- كشف الغطاء: 4/59.

ونفى المحقق النراقي (قدس سره) وجود الدليل على التخيير واحتمل السقوط أيضاً(1)،كما احتمله صاحب الجواهر حيث قال في معرض ردِّه على اختيار أي شهر «لا دليل على هذا التخيير، ودعوى انحصار الامتثال فيه بعد العلم ولو بالإطلاقات والاستصحاب ونحوهما ببقاء التكليف يدفعها منع العلم ببقاء التكليف، بل لعل العلمبسقوطه لعدم الطريق إلى امتثاله متحقق، والتخيير لم يثبت كونه طريقاً شرعاً، والانتقال إليه من مجرد فرض الخطاب بالصوم ممنوع، سيما مع تعدد الطرق الممكن تكليف الشارع بها في هذا الحال من القرعة وغيرها»(2) ثم قال: «ولعله لذلك كله وغيره مال بعض المحققين من مشايخنا إلى سقوط الأداء عنه، ويتعين عليه القضاء»، ويقصد به الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) كما نقلنا عنه».

أقول: يرد عليه:-

1- وجود الدليل على التخيير وهو صدق التوخي في بعض مراتبه على التخيير فتشمله الصحيحة، وحينئذٍ يتعيّن الامتثال به عند تساوي الاحتمالات ومع وجود طريق للأداء لا يجوز الانتقال إلى القضاء اختياراً، ومنه يُعلم النظر في عبارة صاحب الجواهر (قدس سره) «بل لعل العلم بسقوطه لعدم الطريق إلى امتثاله متحقق».

2- إن القرعة وغيرها من الطرق هي من وسائل التوخي والترجيح كما تقدم ويعتمدها القائل بالتخيير قبل ذلك للترجيح، فافتراض التساوي بين المحتملات يأتي بعد فشل جميع وسائل التوخي أو عدم جريان صدق التوخي عليها، فالإحالة على الطرق الأخرى فات وقتها.

ص: 427


1- مستند الشيعة: 10/430.
2- جواهر الكلام: 16/383.

3- إن وجود علم إجمالي بوجوب صيام شهر في السنة يمنع من جريان الأصول المؤمّنة في أطرافه سواء في ذلك الاستصحاب وغيره وحينئذٍ لا وجه لسقوط الأداء، وإنما يجب العمل بمقتضى هذا العلم الإجمالي لولا الصحيحة.

ثانيهما: صيام كل الشهور ليدرك شهر رمضان الواقعي لتنجّز العلم الإجمالي، ومقتضاه الاحتياط في أطرافه: وذهب إليه السيد الخوئي(1)

(قدس سره) وتبعه تلميذه الشيخ الفياض(2)

(دام ظله الشريف) باعتبار أن «مقتضى العلم الإجمالي بوجوب صيام في أحد هذه الشهور هو الاحتياط وصيام كل الشهور بأمل أن يدرك الواقع بنية ما في الذمة أعم من الأداء والقضاء، وأما إذا لم يمكن هذا الاحتياط واضطر إلى تركه في بعض الشهور ولو من جهة أن الاحتياط التام يوجب العسر والحرج فيجب عليه حينئذٍ الاقتصار في تركه بمقدار الضرورة وهو ما يدفع به العسر والحرج دون الأكثرباعتبار أن الاضطرار في أطراف العلم الإجمالي إذا كان إلى بعض غير المعين لا يوجب سقوطه عن التنجيز، فمن أجل ذلك لا بد من الاحتياط في الباقي»(3).

ويرد عليه:-

1- لا وجه للعمل بما تقتضيه القواعد بعد ورود النص الخاص وتحقق الامتثال على أساسه.

2- ولو تنزّلنا وفرضنا عدم شمول الصحيحة بإطلاقها لمورد تساوي المحتملات فإن الالتزام بالاحتياط التام في المقام الذي هو من التدريجيات محل نظر إذا اضطر لبعض أطرافها؛ لأن العلم الإجمالي في التدريجيات

ص: 428


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/127.
2- تعاليق مبسوطة: 5/201.
3- تعاليق مبسوطة: 5/201.

ينجّز وجوب الموافقة الاحتمالية وليس الموافقة القطعية، وسيأتي بيانه مختصراً إن شاء الله تعالى.

3- إن هذا العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم إجمالي أصغر منه باشتباه شهر رمضان في ثلاثة أشهر لعلم المكلف بأنه يقع في الصيف أو الشتاء مثلاً وشك بدوي في الباقي.

4- إن العلم الإجمالي بوجوب صيام شهر في السنة وإن كان منجزاً في المقام وهو يمنع من جريان الأصول المؤمّنة في أطرافه سواء كانت استصحاباً أو غيره، إلا أن المكلف لما صام شهراً توخاه فاختاره، فإن هذا العلم ينحل ويمكن إجراء الأصول المؤمّنة في الباقي؛ لأن الشك فيها يصبح بدوياً.

فائدة: الصحيحة في المقام وما تقدّم (صفحة 417) عن قبلة المتحيّر تكشف عن قاعدة كبروية في مباحث العلم الإجمالي وهي تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية فقط وعدم وجوب الموافقة القطعية فتكفي الموافقة الاحتمالية ومنه يُعلم أن كثيراً من الاحتياطات التي نلتزم بها وفقاً للقواعد هي عسر منفي في الشريعة السمحاء ومنه يُعلم النظر في قول المستمسك: «لا مصحح للقول بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي» لأن مبناه وهو اختصاص صدق التوخي على الظن خاصة.

ونستذكر هنا أن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يلفت أنظار أولاد عمه من بني الحسن (عليه السلام) في رسالته إليهم وهم في سجن المنصور العباسي المظلم إلى الاحتياط والإعادة وكانوا يقسمون أوقات الصلاة بناءً على أوراد وتسبيحات علي بن الحسن بن الحسن.

ويلاحظ هنا أن السيد الخوئي (قدس سره) قوّى الاجتزاء بالتخيير في مبحث قبلة المتحيّر(1) وأنه يصلي إلى أية جهة شاء إذا تحرى ولم يترجح لديه

ص: 429


1- موسوعة السيد الخوئي: 11/457.

اتجاه ولم يقل بلزوم الصلاة إلى أربع جهات أو ثلاث ليضمن وقوع صلاته باتجاه القبلة استناداًإلى النصوص، والموردان من سنخ واحد، والنص في الموردين بنفس المضمون واستعملت لفظ التحري والتوخي وهما مترادفان.

ومنه يُعلم النظر في عدة مواضع من قول السيد الحكيم (قدس سره): «وقياس المقام بما لو تعذرت الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع قياس مع الفارق، لأن الصلاة لا تترك بحال، ولخصوص النص الوارد في تلك المسألة»(1).

تنبيه: توجد أقوال أخرى في المسألة سنضيفها في المطلب السادس عند تعرض المصنّف لبعضها.

فرعان:-

1- قول المصنف: «فيعينان شهراً له» موافق للنص وفتوى المشهور وهو ظاهر في عدم جواز صيام ثلاثين يوماً ملفقة بين شهرين، أو تفريق الشهر على عدة أشهر، فيصوم ثلاثة أيام من كل شهر مثلاً.

2- لو كان في الأسر أو السجن أكثر من واحد فهل يجب عليهم اختيار شهر واحد باعتبار أن شهر رمضان واحد لا يتعدد؟ أو يجوز لكل واحد أن يتوخى ويختار ظناً أو احتمالاً؟ الظاهر الثاني لأن تكليف كل واحد منهم وهو التحري ليس موضوعاً لتكليف غيره فيمكن أن يؤدي تحري كل واحد إلى غير ما أداه الآخر، ولا دليل على وحدة الشهر المتوخى.

ص: 430


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/477.

المطلب الثالث

قوله (قدس سره): «ويجب مراعاة المطابقة بين الشهرين في سنتين بأن يكون بينهما أحد عشر شهراً».حكى في الجواهر عن بعض الأصحاب الإجماع على وجوب المطابقة المذكورة بأن يكون بين الشهرين المتخيرين «أحد عشر شهراً لا أزيد ولا أنقص» وقال في وجهه: «وإلا كان أحد الشهرين على اليقين غير رمضان».

أقول: لا يقين من وقوع المخالفة القطعية لو فصل بغير الأحد عشر شهراً لاحتمال تأخر أو تقدّم الشهر المتوخى أولاً عن الواقعي بعدة شهور، ولو تحقق اليقين بأنه صام غير رمضان فإنه لا ضير فيه ما دام يصوم بنية عموم المطلوبية بانياً على أنه إن ثبت تقدم صومه على شهر رمضان الواقعي فإن عليه القضاء فلو حصل له العلم بالسبق ولو من صومه شهرين في فترة لم تشتغل ذمته بأزيد من واحد وجب عليه صوم شهر آخر في زمان لا يعلم بوقوع السبق فيه.

نعم، بما أن المطلوب بحسب الصحيحة هو التوخي وتحرّي الشهر الأقرب لشهر رمضان، فإذا أدى الفصل بين الرمضانين إلى عدم صدق التوخي لم يجزئه وهذا هو المعيار في المسألة وليس كون الفصل أحد عشر شهراً تحديداً.

المطلب الرابع

قوله (قدس سره): «ولو بان بعد ذلك أن ما ظنه واختاره لم يكن رمضان».

وهو ظاهر في عدم وجوب حساب الأشهر التي تلي الشهر الذي توخّاه أو تعين عليه بالظن لتتسنى له مطابقة ما صامه مع الواقع فقال (قدس سره):

ص: 431

«إذا بان» مع أن ظاهر قول الإمام (عليه السلام): (يحسب) في الصحيحة ورواية الشيخ المفيد (قدس سره) وجوب الحساب بعد الشهر الذي توخّاه أو تعيّن عليه بالظن وهو ما استظهره بعض من حضرنا بحثه الشريف، ونقل قوله (دام ظله الشريف) في التعليقة: «ويجب عليه أن يحتسب الشهر الذي يصومه ليتسنى له المطابقة أو عدمها»(1).

أقول: ما ذكره الماتن (قدس سره) أصحّ:-

1- لأن المورد مجرى لقاعدة الإجزاء فإن المكلف المتوخي قد أدّى المأمور به الظاهري على وجهه وهو يقتضي الإجزاء فلا يحتاج إلى تبيّن المطابقة مع الواقع، وهذه القاعدة جارية في مثل المورد كمن أكمل عدة شعبان لعدم الرؤية فإنه لا يجب عليه سؤال البلدان لاحتمال رؤيته في بلد آخر فيجب عليه القضاء كما دلّت عليه النصوص المعتبرة وهكذا.

2- ولما احتملناه من أن الصوم بلحاظ وقوعه في شهر رمضان مأخوذ على نحو تعدد المطلوب فإذا أفطر لعذر كالمرض والسفر أتى به في شهر آخر وكذا منتعذّر عليه معرفة الشهر فإنه يسقط وجوب إيقاعه في شهر رمضان الواقعي ويكتفى بإتيانه في الشهر المتوخى.

أما استظهاره الوجوب من الصحيحة فإنه مبني على كون الواو في (ويحسب) استئنافية، ولكن يحتمل كونها عاطفة على (يتوخى) فتفيد وجوب الحساب الداخل في التوخي وليس الحساب لتبيّن المطابقة، وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال ولو أريد منها الاستئناف لكان استعمال (ثم) أولى.

ص: 432


1- محاضرة بتأريخ 27/ج2/1417.

المطلب الخامس

قوله (قدس سره): «فإن تبيّن سبقه كفاه لأنه حينئذٍ يكون ما أتى به قضاءً» أي إذا تبيّن سبق شهر رمضان الواقعي للشهر الذي توخّاه فصامه صحّ صومه لأنه سيكون قضاءً لشهر رمضان السابق عليه، وهو موافق لقوله (عليه السلام) في الصحيحة: (وإن كان بعد شهر رمضان أجزأه).

ولكن تقدم قول شاذ من العامة -للحسن بن صالح- بعدم الإجزاء وعلّله في المغني بأنه «صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان».

وناقش بعض من حضرنا بحثه الشريف في الإجزاء؛ لأنه متوقف على أن المطلوب في القضاء الإتيان بنفس الماهية خارج الوقت وليس متقوماً بجهة قصدية، لكن المختار أن القضاء متوقف على قصد هوهوية العمل مع الفائت، والمفروض عدم نية قضاء الفائت فكيف يجتزأ به؟ فيكون مفاد الرواية بالاجتزاء تعبدياً لا أنه على مقتضى القاعدة»(1).

أقول: إن هذا الذي توخى شهر رمضان وتحرّاه بين الشهور قاصد إلى امتثال ما أمر به وتفريغ ذمته منه على النحو الذي يعلمه الله تعالى من الأداء والقضاء، وهذا القصد كافٍ، لذا قال (دام ظله الشريف) بكفاية وجود «تعيين إجمالي فلا يعتبر القضاء أن يُعلم القضاء بعنوانه».

ثم ذكر الفقهاء هنا أمثلة للزوم المطابقة في عدد الأيام بين ما قضاه وما اشتغلت ذمته، فإذا تبين بأن الواجب كان ثلاثين يوماً والشهر الذي صامه تسعة

ص: 433


1- محاضرة بتأريخ 27/ج2/1417 هج_.

وعشرين فعليه إضافة يوم وإن تبين أن ما قضاه كان في شوال فعليه إضافة يوم لعدم صحة يوم العيد.

وإن كان الواجب تسعة وعشرين والذي صامه تسعة وعشرين فلا شيء عليه إلا أن يكون في العيد فيجب إضافة يوم والأمر في ذلك كله واضح.

المطلب السادس

قوله (قدس سره): «ويجوز له في صورة عدم الظن أن لا يصوم حتى يتيقن أنه كان سابقاً فيأتي به قضاءً».

أقول: هذه الفقرة تتضمن قولين آخرين في المسألة مقابل قول المشهور بالتخيير الذي تقدم في المطلب الثاني:

الأول: أن لا يصوم شيئاً من الشهور حتى يصل إلى الشهر الثاني عشر وحينئذٍ يجب صومه إما أداءً إن طابق شهر رمضان الواقعي أو قضاءً إذا فات الشهر فينوي بصومه ما في الذمة.

الثاني: التخيير بين أن يصوم شهراً يختاره كما ذهب إليه المشهور وحينئذٍ عليه القضاء إذا بان أنه صام قبل شهر رمضان الواقعي، وبين أن لا يصوم حتى يصل إلى الشهر الثاني عشر فيتيقن باشتغال ذمته بصوم شهر أداءً أو قضاءً، وهذا ما اختاره السيد صاحب العروة (قدس سره).

وبهذين القولين مع ما تقدم في المطلب الثاني يصبح لدينا خمسة أقوال في المسألة.

وقد يستدل لهذا الجواز باستصحاب عدم دخول شهر رمضان إلى حين حصول اليقين بدخوله في أول الشهر الثاني عشر أما الآن أو قبله.

ويرد عليه: بعدم جريان مثل هذا الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي المنجّز لما ذكرناه من أن الأصول المؤمنة لا تجري في الأطراف المقرونة

ص: 434

بالعلم الإجمالي وإنما في أطراف الشبهة البدوية، فما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من جريان الأصول وتعارضها وتساقطها غير تام كبروياً، ولو تيقّن بدخول شهر رمضان أما الآن أو قبله فإنه لا يتعين عليه الصوم لاحتمال دخول الشهر قبل ذلك فاشتغلت ذمته بالقضاء وهو موسّع.

وقد يستدل له بسقوط الاحتياط لدوران الأمر بين المحذورين كما قرّبنا سابقاً -وممن ذكره المحقق العراقي في تعليقته على العروة- ورددناه بجملة أمور منها أن حرمة صوم العيد تشريعية لا ذاتية ولا تشريع في المقام، وأن الأمر يدور بين الوجوب والحرمة والاستحباب الذي هو الغالب وليس بين المحذورين وغير ذلك.وعلّل السيد الخوئي (قدس سره) القول بالجواز بأنه «مبني بحسب الظاهر على عدم تنجيز العلم الإجمالي لدى تعلّق الاضطرار ببعض الأطراف غير المعين وأنه لا فرق بينه وبين تعلّقه بالبعض المعين في عدم التنجيز على ما صرّح به صاحب الكفاية. إذن لا ملزم له في الإتيان بالصوم فعلاً، بل يؤخر حتى يتيقن بمضي رمضان ثم يقضيه.

ولكنه بمراحل عن الواقع، بل فاسد جزماً كما بيّناه في الأصول، للفرق الواضح بين التعلق بالمعين وغير المعين»(1).

ويرد عليه:-

1- لم يفرض في كلام المصنف (قدس سره) الاضطرار حتى يبني الاستدلال عليه.

2- الصحيح هو انحلال العلم الإجمالي في التدريجيات إذا اضطر إلى بعض أطرافه بلا فرق بين المعين منها وغير المعين وفاقاً لصاحب الكفاية وغيره

ص: 435


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/133.

فما ذكره (قدس سره) من التفصيل بين المعيّن فينحل وغير المعين فلا ينحل لا نوافق عليه.

وردّ السيد الخوئي (قدس سره) على اليقين بوجوب صوم الشهر الثاني عشر بناءً على دخول المسألة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير قال (قدس سره): «فإنا وإن علمنا إجمالاً بوجوب الصوم في هذا اليوم يقيناً إما تعييناً لكونه من رمضان، أو تخييراً بينه وبين سائر الأيام لو كان الشهر قد انقضى -إلا أن في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير تجري البراءة عن التعيين.

إذن فوجوب الصوم في خصوص هذا اليوم مشكوك فيه فتجري فيه البراءة عنه»(1).

ويرد عليه:-

1- عدم جريان مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المقام لأن القضاء واجب موسع وليس تخييرياً، والتخيير بين أفراد الموسع عقلي لا شرعي بخلاف التخييري ونسبة الوجوب إلى بعض الأفراد الطولية في الواجب الموسع من قبيل الواسطة في العروض وهو من أوضح المجازات إذ الواجب قضاء يوم إلى آخر العمر.

2- إن الوجوب في الواجب التخييري متعلق بالعنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما وفي التعييني نفس أحد الأمرين فلا يوجد قدر متيقن ينحلّ إليه العلم الإجمالي حتى تجري البراءة في الزائد.

أما التقريب الذي ذكروه لجريان البراءة فيجري «فيما يصح فيه تصوير الحالة على أنها أقل أو أكثر وهذا ينطبق على الكلي الحقيقي لا الانتزاعي.

ص: 436


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/131.

3- ما ذكره بعض من حضرنا بحثه الشريف من أن المسألة تجري فيما إذا وجدت ماهية واحدة فشك في وجوبها هل على نحو التعيين أو التخيير، أما المقام فليس الأمر كذلك بل بين وجود ماهيتين، ماهية وجوب الصوم أداءً لشهر رمضان وماهية وجوب قضائه فهنا واجبان لا واجب واحد متردد فحينئذٍ يكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين ولا يتعين أحدهما بجريان أصالة البراءة»(1).

المطلب السابع

قوله (قدس سره): «والأحوط إجراء أحكام شهر رمضان على ما ظنّه من الكفارة والمتابعة والفطرة وصلاة العيد وحرمة صومه ما دام الاشتباه باقياً، وإن بان الخلاف عمل بمقتضاه».

أقول: ترتيب هذه الأحكام كلاً أو بعضاً مبني على تنزيل الشهر المتوخى منزلة شهر رمضان الواقعي وفي المسألة ثلاثة أقوال:-

1- إن الصحيحة تدل على تنزيل صوم هذا الشهر منزلة صوم رمضان فقط فيجب صومه وتترتب عليه آثار صوم رمضان خاصة كوجوب المتابعة وحرمة الإفطار وثبوت الكفارة عليه واختاره السيد الحكيم (قدس سره).

2- أوسع من الأول وأن الصحيحة تفيد تنزيل الشهر المتوخى منزلة شهر رمضان الواقعي فتترتب عليه آثار الرمضانية ولوازمها ككون اليوم الأول بعده عيداً يحرم صومه وتجب فطرته وتستحب صلاته ونحو ذلك وهو مختار صاحب العروة (قدس سره).

3- عدم التنزيل مطلقاً وهو الصحيح.

ص: 437


1- محاضرة بتأريخ 29/ج2/1417.

وقد تحمّس السيد الخوئي (قدس سره) للتنزيل الثاني قائلاً: «لا ينبغي التأمل في وجوب ترتيب الصوم بما له من الأحكام من الكفارة ونحوها على مظنون الرمضانية» ثم توسّع إلى «ترتيب ما هو من لوازم(1)

الرمضانية -كوجوب الفطرة بعد مضي ثلاثين يوماً واستحباب صلاة العيد في غده؛ لأن المذكور في صحيحة عبد الرحمن: ولم يصحّ له شهر رمضان- إلخ وظاهره تنزيل هذا الشهرمنزلة رمضان الواقعي لا تنزيل صومه منزلة صومه، فإذن يكون الظن حجة في تشخيص رمضان كالبينة ونحوها، لا في مجرد وجوب الصوم»(2).

أقول: ما ذكره وفاقاً للمصنف وجملة من الأصحاب غير صحيح لوجوه:-

1- كونه غير ظاهر من الصحيحة كما قدمنا، ونقلنا قول صاحب الجواهر (قدس سره): «ليس في النص الذي هو العمدة في المقام إطلاق منزلة ونحوها، ومجرد وجوب الصوم للظن أعم من ذلك».

2- ما نبّهنا إليه من أن الموجود في الكافي (ولم يصم) فلا يتم تقريبه (قدس سره) المبني على إفادة (لم يصح) التنزيل.

3- إن التنزيل مبني على تفسير التوخي بتحصيل الظن وقد رددنا عليه.

4- ولو كان الأمر كما استظهروه لوقع الصوم مجزياً حتى إذا بان الخلاف فإن مقتضى التنزيل حصول حكم واقعي ثانوي غير الحكم الواقعي الأولي سعة أو ضيقاً أن التوخي تكون له موضوعية، بينما تأمر الرواية بالقضاء إذا بان الخلاف.

ص: 438


1- لأن لازم اعتباره شهر رمضان كون اليوم الذي يليه هو الأول من شوال فتترتب عليه أحكامه.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/135.

والذي نستظهره من الرواية أنه إجراء عملي رجاء إدراك الواقع والخروج من عهدة العلم الإجمالي باشتغال الذمة بصيام شهر في السنة لكفاية الموافقة الاحتمالية وعدم لزوم الاحتياط التام تخفيفاً وتيسيراً، وقد أبطل السيد الخوئي (قدس سره) القول بالموضوعية في قبلة المتحيّر(1).

ثم أمر (عليه السلام) بالحساب لتبيّن المطابقة مع الشهر الواقعي وهذا البيان بعيد عن التنزيل في مقام الإثبات وحجيّة الظن كالبينة والعلم عند تعذّر تحصيلهما.

ولو شككنا أمكن إجراء الأصل النافي لهذه التكاليف.

ومما تقدم يظهر النظر في ما ذهب إليه السيد الحكيم (قدس سره) من اختيار القول الأول، وأن التنزيل بخصوص صوم الشهر المتوخى منزلة «شهر رمضان بما له من الأحكام الشرعية لا غير، ومنها وجوب الكفارة والمتابعة، وأما وجوب الفطرة وصلاة العيد وحرمة صومه، ونحوها من أحكام اللوازم فغير ظاهر»(2).

نعم وجوب المتابعة استفدناها من قوله (عليه السلام): (شهر يتوخاه) وهو ظاهر في متابعة ثلاثين يوماً، أما الكفارة فإن ثبوتها متوقف على انكشاف كون الشهر المتوخى قد طابق الشهر الواقعي أو تأخر عنه دون ما لو تبيّن سبقه.انتهى تحرير هذه المسألة يوم 23 شعبان /1440 هج_

الموافق 29/4/2019

بفضل الله تبارك وتعالى

ص: 439


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 11/455.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/479.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.