فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية : صوم المسافر المجلد 3

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الناشر

مقدمة الناشر (للطبعة الأولى)

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ألّف الفقهاء (قدس الله أرواحهم) الكثير من الكتب والرسائل في (صلاة المسافر)، لكنّ أحداً منهم لم يكتب(1)

في (صوم المسافر)، وربما كان عذرهم أن أكثر أحكام السفر مشتركة بين الصلاة والصوم للأحاديث الدالة على الملازمة بين التقصير والإفطار، وإن كتاب الصلاة يسبق بحسب المنهجية المتعارفة كتاب الصوم فيتم تناول المباحث في كتاب الصلاة، وليس من الصحيح تكرارها في كتاب الصوم.

ولكننا خلال متابعتنا وحضورنا لبحث سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) والذي يتعرض فيه للمسائل الخلافية المعمّقة، وجعل منها بعض المسائل المتعلقة بصوم المسافر، ثم استطرد منها –بحسب ما اقتضاه البحث- إلى مسائل أخرى من صوم المسافر وقضائه وجدنا أن المباحث الاستدلالية الخاصة ب-(صوم المسافر) كثيرة ومعمقة، ولا يمكن الاكتفاء بما يتقدم بحثه في كتاب الصلاة، لذا كان من المفيد إصدار هذا الكتاب المستقل الذي يجمع جملة من المباحث الاستدلالية في أحكام صوم المسافر وقضائه.

ونلفت النظر هنا إلى أن سماحته تناول في بحثه الشريف عدة مسائل تتعلق بالمسافر كأحكام مَن عملُه السفر أو إمكان تعدد الوطن إلا أننا لم ندرجها هنا لأن وضعها في كتاب الصلاة أليق، وهي منشورة في الأجزاء المتعددة من فقه الخلاف.

ص: 3


1- راجع كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة).

وزاد في أهمية هذا الكتاب:

1- المنهجية المتميزة التي اتبعها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في بحثه الشريف الذي تصدر تقريراته تباعاً في موسوعة (فقه الخلاف)، والذي تميّز بالعمق العلمي والاستيعاب والموسوعية واستقصاء الأقوال والاحتمالات والجرأة العلمية وامتزاج العلوم –كالأصول والرجال والعقائد والتأريخ والعلوم الأكاديمية- في بوتقة واحدة، واتساق المسائل المتعددة في منظومة منسجمة متكاملة وغيرها من الخصائص.

2- الإبداع في عدد من النتائج التي توصّل إليها سماحته في البحث والتي لم يسبق لها أحد مما ساهم في حل جملة من المشكلات المثارة في هذه المسائل ككون الحضر وما بحكمه شرط واجب أم وجوب، وأن سقوط الصوم عن المسافر رخصة أم عزيمة، وحدود الملازمة بين التقصير والإفطار، مضافاً إلى بعض التأسيسات الأصولية التي تناولها بمقدار ما يسعه البحث، كالمناقشة في كبرى عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية، وأن مقدمات الوجوب لا يجب تحصيلها وأن مقدمات الواجب يجب تحصيلها، والعلاقة بين مطلب تعلق الأمر بالطبائع أو بالأفراد، ومطلب جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، وأطروحة المرجّح المساوي التي أسسها سماحته، ونحوها.

3- إن جمع المسائل ذات الموضوع الواحد –كصوم المسافر- في بحث واحد كشف عن حصول حالات من عدم الانسجام في الحكم بين هذه المسألة وتلك في الكتب الفقهية، بل كشف أن بعض الأبحاث تعتبر من مستأنف القول الذي لا جدوى منه، فإذا جاز الصوم المندوب في السفر فلا معنى للخلاف في جواز الصوم المنذور في السفر ولزومه لأن موضوعه الصوم المندوب في ذاته، وإذا جاز الصوم المنذور في السفر فلا معنى للبحث والخلاف في جواز السفر في النذر المعين إذ لا مشكلة حينئذٍ في البين حتى يبحث فيها، وهكذا.

ص: 4

إن موسوعة (فقه الخلاف) تمثل منعطفاً في البحث الاستدلالي المعاصر، وتعيد لمدرسة النجف الأشرف تألّقها وتفوقها ورصانتها، ففي الكتاب استعراض نادر لآراء ومباني واستدلالات القدماء والمعاصرين ومن مدرستي النجف وقم وغيرهما.

وهذا الكتاب شاهد على ذلك «لِمَنْ ألقَى السَمعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» أو «تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ».

ويقع الكتاب في قسمين:

الأول: أحكام صوم المسافر.

الثاني: مسائل في قضاء صوم المسافر مما له دخل ببعض مطالب القسم الأول.

وقد ألحقنا بالكتاب مسائل متفرقة من كتاب الصوم.

استغرق البحث في بحوث هذا الكتاب واحداً وثلاثين أسبوعاً دراسياً ابتداءً من الأول من صفر 1433 ه- الموافق 26/12/2011 حتى 18/محرم/1434 الموافق 3/12/2012.

نسأل الله تعالى أن يديم علينا ألطافه وتوفيقاته –ومنها هذا البحث الشريف- ببركات جوار سيد الأوصياء وإمام المتقين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ص: 5

ص: 6

البحث الأول: من أحكام الصوم في السفر

اشارة

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الأول : من أحكام الصوم في السفر

أجمع كل العلماء على سقوط الصوم في السفر الموجب لتقصير الصلاة في الجملة وعدم صحته إلا ممن استثني، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ومن فعله عامداً عالماً بالنهي عنه أثم حيث وصفهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعصاة.

وهذا الحكم واضح ومعروف عندنا نحن الإمامية، ولكن للمسألة تفصيلات وفروع تتطلب بحثاً معمقاً، قال العلامة (قدس سره) عن أحد فروع هذا البحث وهي مسألة(1)

حكم المسافر إذا خرج أثناء النهار: ((هذه المسألة أحد المطالب الجليلة طوّلنا الكلام فيها))(2).

وقد بُحث اشتراط الحضر وما بحكمه –كالإقامة عشرة أيام ومن عمله السفر- في كتب الأصحاب في موضعين (أحدهما) في شرائط وجوب الصوم و(ثانيهما) في شرائط صحة الصوم أو من يصح منه الصوم، أي أنه شرط وجوب وشرط واجب، هذا ولكننا سنفرد بحثاً مستقلاً لبيان الموضع المناسب لهذه المسألة بإذن الله تعالى.

ص: 9


1- سنتعرض لها صفحة (91) بإذن الله تعالى.
2- مختلف الشيعة: 3/341.

الاستدلال من القرآن الكريم على كون الإفطار في السفر عزيمة لا رخصة:

استدل على اشتراط الحضر في الصوم وسقوطه عن المسافر بموضعين من كتاب الله تعالى:

(الأول) قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة: 185) بناءً على أن المعنى هو أن ((من شهد منكم المصر وحضر ولم يغب في الشهر، والألف واللام في الشهر للعهد والمراد به شهر رمضان فليصم جميعه)) –كما في مجمع البيان- وقدفسّر الإمام الصادق (عليه السلام) الآية بهذا المعنى في رواية عبيد بن زرارة قال: (قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله عز وجل: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» قال: ما أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه)(1).

ويوجد للآية معنى آخر وهو أن من شهد الشهر أي رأى الهلال.

(الثاني) قوله تعالى: «أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» وفي الآية التي تلتها «وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» (البقرة: 184، 185).

قال العلامة الطبرسي (قدس سره) في تقريب الاستدلال على الاشتراط وكون الإفطار عزيمة لا رخصة: ((وفيه دلالة على أن المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار لأنه سبحانه أوجب القضاء بنفس السفر والمرض، ومن قدَّر في الآية فأفطر فقد خالف الظاهر))(2)،وقال مثله السيد المرتضى (قدس سره) في الانتصار والشيخ (قدس سره) في الخلاف(3) وغيرهما.

ص: 10


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 1، ح8.
2- مجمع البيان، للشيخ الطبرسي: 1/493 تفسير الآية (184).
3- الانتصار، للسيد المرتضى: 191، الخلاف، للشيخ الطوسي: 2/201.

أقول: في ذيل كلامه (قدس سره) ردّ على من قال بالتخيير بين الصوم والإفطار في السفر لأنه يستلزم تقدير كلمة ((فأفطر) أو ((ولم يصوموا)) بعد كلمة سفر والأصل عدم التقدير.

وحكي عن ابن حجر في فتح الباري(1)

إقراره بدلالة الآية على أن الإفطار على نحو العزيمة لكن الجمهور تأولوا فيه فقالوا بالإضمار أي تقدير ((ولم تصوموا)) وإلا فإن الظاهر وجوب الإفطار والقضاء في أيام أُخر، وهذا هو التأويل المخالف للظاهر الذي أشار إليه الطبرسي في نهاية كلامه المتقدم.

وأورد السيد المرتضى (قدس سره) هنا إشكالاً وأجابه قال: ((فإن قيل: فيجب أن تقولوا مثل ذلك في قوله: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ» ولا تضمروا فحلق، قلنا: هكذا يقتضي الظاهر ولو خلينا وإياه لم نضمر شيئاً لكن أضمرناه بالإجماع ولا إجماع ولا دليل يقطع به في الموضع الذي اختلفنا فيه))(2).

أقول: تقريب النقض أنكم أوجبتم الفدية على من حلق لأذى في رأسه قبل أن يبلغ الهدي محله بمقتضى قوله تعالى: «وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنكَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ» (البقرة: 196) فقدرتم (فحلق) لوجوب الفدية، فلماذا لا يقدَّر مثله في آية الصوم أيضاً؟.

فأجاب (قدس سره) بالفرق بين الموردين من جهة وجود الدليل على التقدير في آية الحج دون آية الصوم.

ص: 11


1- فتح الباري في شرح صحي البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني: 4/183.
2- الانتصار: 66.

وقد قرّب السيد الخوئي (قدس سره) الاستدلال بالآية بأن ظاهرها ((ولا سيما بمقتضى المقابلة تعيّن القضاء، فلا يشرع منهما الصوم فعلاً))(1)

فهو يتبع بذلك ما ذكره العلامة (قدس سره) في التذكرة في تقريب الاستدلال بالآية، قال (قدس سره): ((والتفصيل قاطع للشركة، فكما أن الحاضر يلزمه الصوم فرضاً لازماً، كذا المسافر يلزمه القضاء فرضاً مضيقاً، وإذا وجب عليه القضاء مطلقاً، سقط عنه فرض الصوم))(2)،بل صرّح بذلك في موضع آخر فقال (قدس سره): ((فبمقتضى المقابلة وأن التفصيل قاطع للشركة))(3)،وسنذكر بيانه (قدس سره) للمقابلة (صفحة 33-44 وما بعدها).

وعرضه بعض أساتذتنا بوجه آخر ذكره في بحثه الشريف تقريره ((إن نفس قوله تعالى: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ» بعد قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ» بقوة التخصيص، أي لم يكتب الصيام عليه فيكون صيامه في المرض والسفر بلا أمر فيبطل))(4).

أقول: قوله: ((بلا أمر)) ظاهر في اعتبار الحضر شرط وجوب، وأنه بالسفر يسقط الوجوب، لكن غاية المستفاد من الآية أنه يتعين على المريض والمسافر الصوم في أيام أُخر وهو أعمّ من كون الصوم غير مأمور به أو أنه غير صحيح لاختلال شروط الواجب وسنبحثه لاحقاً بإذن الله تعالى، مضافاً إلى أنه يُنقض على تقريبه (دام ظله) بصحة الصوم في السفر للجاهل فلو لم يكن هناك أمر لما صحّ.

ص: 12


1- المستند في شرح العروة الوثقى من الموسوعة الكاملة لآثار السد الخوئي: 21/461.
2- تذكرة الفقهاء: 6/152.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/406.
4- السيد السيستاني في محاضرة بتأريخ 26/ج2/1416.

وبوجوب القضاء على من أفطر لسفرٍ في شهر رمضان واستمر به إلى رمضان المقبل، ووجوب القضاء عن من أفطر في شهر رمضان للسفر ثم مات قبل أن يتمكن من القضاء وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، فعدم صحة الصوم لوجود المانع –وهو السفر- لا لعدم وجود المقتضي –وهو الأمر-.وناقش (دام ظله الشريف) في الاستدلال بالآية على كون الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة من دون الحاجة إلى التقدير ليُرَدَّ بأنه تأويل على خلاف الأصل، بما حاصله ((إنه في موارد تعليق الأمر بشيء على عنوان ثم قال المولى: إذا شقّ عليك ذلك أو كنت مريضاً فائت به في وقتٍ آخر، فظاهره إذا لم تأتِ به في حال كونك مريضاً، كما إذا قلنا لتلميذ: اكتب الصفحة الفلانية في اليوم الفلاني فإن كنت مريضاً أو مسافراً أو شقّ عليك ذلك فاكتبها في غيره، فيفهم العرف من التعليق على عنوان عذري –كالمرض والسفر- الذي هو مظنة المشقة أن وجوب القضاء مبني على عدم الإتيان من دون التصريح به أي يكتفي بذكر السبب عن المسبب، ولا يبني في مثل هذه الموارد على التصريح، فحينئذٍ يمكن الخدشة في الاستدلال بالآية من جهة عدم الحاجة إلى التصريح بعدم الصيام، وأن الآية تدل على الرخصة في الإفطار وليس العزيمة، وليس هذا تأويلاً كما ذكره ابن حجر))(1).

أقول: يرد عليه:-

1- إن الآية ظاهرة في تعيّن الإفطار على المريض والمسافر بأي نحو من التقريبات المتقدمة، ومنها التقريب الذي نقلناه عنه (دام ظله الشريف) من جهة ظهور الآية في التخصيص.

2- المثال العرفي الذي ذكره لا ينطبق على ما نحن فيه لأننا لا نفهم التعليق من الحكم هنا وأن الآية ظاهرة في أن وجوب القضاء لنفس المرض

ص: 13


1- بحث السيد السيستاني في محاضرة بتأريخ 26/ج2/1416.

والسفر هنا، وإنما يوجد هنا مقابلة وتشقيق في الحكم بين من شهد الشهر فيصوم ومن سافر فيفطر.

نعم يمكن أن يجري المثال في الذين يطيقونه لقوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» (البقرة: 184) أي إذا أفطروا، ولهم أن يصوموا مع المشقة.

نعم يمكن استفادة عدم دلالة الآية على كون الإفطار رخصة لا عزيمة بفعل النبي(1) (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره لفتح مكة، فقد اتفقت روايات الفريقينعلى أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)خرج لفتح مكة في

ص: 14


1- يظهر هذا المعنى من كتب العامة، وسننقل تصريح الزهري في ذلك (صفحة 21)، والتعبير نفسه موجود في روايات أهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي في صحيحة العيص، وكان الزهري من تلامذة الإمام السجاد (عليه السلام)، وإن مسلم روى الحادثة في صحيحه عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) عن جابر (ح 90). وأخذ منهم الإشكال بعض أساتذتنا فقال (دام ظله الشريف): ((فابن شهاب الزهري وهو من أكابر التابعين عرف الناسخ والمنسوخ وأن الفطر كان آخر ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) )) ثم قال: ((رواياتنا في المنع متظافرة ولكن ننقل بعض ما يدل على صحة كلام الزهري ففي صحيحة العيص بن القاسم)) محاضرة بتأريخ 25/ج2/1416. وقد أورد (دام ظله) الإشكال بحادثة كراع الغميم المذكورة على الاستدلال بالآية على كون السقوط عزيمة في نفس المحاضرة المذكورة واعتبرها قرينة خارجية ولم يقرّب موضع الإشكال وضمّها إلى القرينة الداخلية المتقدمة يعني ظهور الآية في الرخصة وخلص إلى نتيجة أن الآية تدل على الرخصة في الإفطار لا العزيمة.

شهر رمضان وأفطر في كُراع الغميم(1)، فيظهر أنه كان صائماً رغم أن المسافة عن المدينة أضعاف مسافة التقصير والإفطار، وكان الفتح في السنة الثامنة للهجرة، وهذه الآية في سورة البقرة التي هي من أوائل السور نزولاً في المدينة عدا ما استثني منها وليس منه محل البحث، مضافاً إلى أن الفقرة المقصودة جزء من آية فرض الصوم الذي كان في أوائل الهجرة.

وبهذه الصدد وردت من طرقنا صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافراً أفطر، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر، ثم أفطر الناس معه وتم ناس على صومهم فسماهم العصاة، وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله)(2).

بتقريب: أن قوله (عليه السلام): (وأفطر) ظاهر في كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان صائماً.

ويمكن المناقشة في هذا التقريب باحتمال أن معنى (أفطر) أي فعل ما ظاهره ذلك بأن شرب الماء علناً، وهو لا يلزم منه أنه كان صائماً بل يعتقد من كان يظنه صائماً أنه قد أفطر باعتبار أن الصوم أمر يخفى على الآخرين.

وربما أن الإمام (عليه السلام) لم يقل (وأفطر) وإنما قال: (وشرب) لكن الراوي فهم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أفطر، والشاهد على هذا الاحتمال وجود الرواية في كتب العامة وليس فيها ذكر الإفطار بل الشرب كما

ص: 15


1- وهو وادي أمام عُسفان يبعد حوالي (80) كيلومتراً شمال مكة باتجاه المدينة على ما قيل.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 1، ح7.

سيأتي (راجع روايةجابر الأنصاري (صفحة 20) بل إن مسلم رواها في صحيحه(1)

عن جعفر عن أبيه عليهما السلام عن جابر وليس فيها (وأفطر).

وحينئذٍ نفهم من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إعلان الإفطار بعد أن كان مستتراً به لحسم مسألة المنع من الصوم في السفر بعد أن كان أصحابه مختلفين في فهم الآية فمنهم من يصوم ومنهم من يفطر، ولم يؤمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بجمعهم على بيان واحد حيث اقتضت الحكمة الإلهية إبقاء كل منهم على فهمه عدة سنوات كتعريضهم لمزيد من التربية أو أي أمر آخر حتى جاء وقت الحسم، أما هو (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان الأمر واضحاً عنده بعدم الصيام وإن لم يعلنه.

ويدلّ على هذا صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوم في السفر في شهر رمضان ولا غيره، وكان يوم بدر في شهر رمضان، وكان الفتح في شهر رمضان)(2)

ولا أدري لماذا غفل عنها المستشكل.

ويؤيده ما ورد في مجمع البيان قال: ((روى العياشي بإسناده مرفوعاً إلى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله قال: لم يكن رسول الله يصوم في السفر تطوّعاً ولا فريضة حتى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير فدعا رسول الله بإناء فيه ماء فشرب وأمر الناس أن يفطروا فقال قوم قد توجه النهار ولو تممنا يومنا هذا فسمّاهم رسول الله العصاة فلم يزالوا يسمّون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله))(3).

فالمورد نظير ما ورد في مسألة تحريم الخمر التي كان شُربها متفشياً عندهم في الجاهلية إلا من عصم الله فلما نزلت آية سورة البقرة امتنع عنها البعض

ص: 16


1- صحيح مسلم: 2/785، كتاب الصوم، ح90.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 11، ح4.
3- مجمع البيان، تفسير الآية (184) من سورة البقرة، ذكره صاحب الوسائل (باب 12، ح6) وردّه.

واستمر عليها آخرون وهكذا في آية سورة النساء، وفي كل مرة يقول قائلهم: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، حتى نزلت آية المائدة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ» (المائدة: 90-91» فحسم أمرها بالحرمة وكُسرت دنان الخمر.

وهذا الوجه لفهم الحادثة مبني على حسن الظن بالصحابة الذين كانوا صائمين، ولعل الأمر غير ذلك بأن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بيّن من أول الأمر لزوم الإفطار لكنهم عصوه، كما ثبت في موارد عديدة ارتكابهم لما نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) كنهيهم عن صلاة نوافل شهر رمضان جماعة، حتى حُسم الأمر في حادثة كراع الغميم، وقد عصوه بعدها كما هو واضح، فيكون الحال كقضيةجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة وإماماً من بعده ببيانات متكررة من أول البعثة حتى حسم الأمر في بيعة الغدير.

وعلى أي حال فإنه يمكن أن نضيف تقريبين آخرين لدلالة الرواية على كون الإفطار رخصة قبل هذه الحادثة:

(أولهما) فهم الصحابة لظهور الآية في الرخصة والتخيير بين الصوم والإفطار فصام البعض وأفطر البعض الآخر طيلة تلك المدة وهم عرب أقحاح ويفهمون النصوص بذوق سليم ولم تتعرض اللغة العربية يومئذٍ للتهجين والاختلاط.

(ثانيهما) دلالة قوله (عليه السلام) في ذيل الصحيحة: (وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ) على أن سقوط الصوم في السفر على نحو العزيمة كان الأمر المتأخر أما قبل ذلك فلم يكن كذلك وإنما كان التخيير.

ص: 17

أقول: بناءً على هذه القرائن الثلاث فإن الاستدلال بالآية على كون الإفطار في السفر عزيمة لا رخصة كما في كلمات جملة من الأعلام المتقدمين والمتأخرين قابل للمناقشة.

وإن كان يمكن المناقشة في هذين التقريبين أيضاً، أما فهم الصحابة للرخصة فيمكن أن يكون مبنياً على القرائن كصدور الأمر بالإفطار في السفر مقترناً مع حصول المشقة لشخصٍ ما –كما يظهر من بعض رواياتهم- فخصّوا الرخصة بمن يشقّ عليهم الصيام ونحوه، وليس لقصور في ظهور الآية في العزيمة، أي أنهم قيّدوا الحكم بقرينة الحال، فيكون هذا الفهم اجتهاداً منهم وليس استظهاراً من الآية.

وأما القرينة الأخرى فتناقش بأن المراد من الأول والآخر ما قرّبناه من البيان غير الحاسم أولاً والبيان الحاسم أخيراً.

وفي ضوء الرد على تقريبات الاستدلال بالآية على كون السقوط رخصة يعلم النظر في تأمل بعض أساتذتنا في الاستدلال بالآية من جهة القرائن الداخلية –أي الخدشة في الاستظهار كما سبق- والخارجية –أي حادثة كراع الغميم- وبنائه على أن الصحيحة تدل على أن السقوط كان قبل ذلك على نحو الرخصة وبعدها على نحو العزيمة.

والذي يراجع كلمات الأستاذ يجد أنه مقتنع بظهور الآية في الرخصة بغضّ النظر عن حادثة كراع الغميم؛ لذا التزم بظهورها في الرخصة للمريض أيضاً مع عدم وجود مثل هذه الحادثة، قال (دام ظله الشريف) معلقاً على الاستدلال بالآية للزوم الإفطار: ((ناقشنا في ذلك، وأن عنوان المرض كالسفر يفهم منه العرف أنه إن لم تفعل كذا فكذا فالاستدلال محل إشكال والعمدة الروايات))(1).

ص: 18


1- من تقرير بحثه الشريف، محاضرة بتأريخ 9/شعبان/1416.

وهذه المناقشات لتعميق البحث وإلا فإننا في غنى عن ذلك لوفرة الروايات.

المسألة في روايات العامة وأقوال فقهائهم:وما دمنا في أجواء الكلام عن الرخصة في الإفطار حين السفر فلنستعرض أقوال العامة في المسألة لأن المشهور عندهم هو القول بالتخيير بين الصوم والإفطار في السفر، ورواياتهم على طوائف:

(منها) ما دلّ على أن الحكم هو التخيير، ففي صحيح البخاري بسنده عن عائشة (أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)(1).

وروى عن أبي الدرداء قال: (خرجنا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره في يوم حارٍّ حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي (صلى الله عليه وآله) وابن رواحة).

وروى عن أنس بن مالك قال: (كنّا نسافر مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يعِب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم).

وفي الدر المنثور عن معاذ بن جبل في حديث طويل وفيه: ((قوله: «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهرَ فَليَصُمهُ» فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخّص فيه للمريض والمسافر، وثبّت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام))(2).

(ومنها) ما دل على النهي عن الصوم وهي بنحوين:

ص: 19


1- الروايات الثلاث في صحيح البخاري: 3/33، ح1943، و 34، ح 1945، 1947.
2- الدر المنثور، للسيوطي: 1/176.

(الأول) الإفطار بلحاظ حصول المشقة والضعف عن تحمّل الصوم أي أن الرخصة مخصوصة ببعض الأحوال التي اقترنت بصدورها ومنها ولاية الحاكم كما في التقوي على مجاهدة الأعداء.

ففي صحيح مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: (كنّا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم يرون: أن من وجد قوةً فصام فإن ذلك حسن ويرون: أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن)(1).

أقول: هذا شاهد على ما احتملناه من كون التخيير اجتهاداً منهم وليس بناءً على ظهور الآية.

وروى مسلم أيضاً في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: (سافرنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنكم قد دنوتم من عدوّكم والفطر أقوى لكم) فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال: (إنكم مصبِّحو عدوكموالفطر أقوى لكم فأفطروا) وكانت عزمة فأفطرنا) ثم قال –أي أبو سعيد- لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك في السفر)(2).

وروى مسلم أيضاً بسنده عن جابر بن عبد الله قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّل عليه، فقال: ما له؟ قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس البر أن تصوموا في السفر)(3).

ص: 20


1- صحيح مسلم: كتاب الصيام، ح96.
2- صحيح مسلم: كتاب الصيام، ح102.
3- صحيح مسلم: كتاب الصوم، ح92.

(الثاني) النهي المطلق وهو الحكم المتأخر زماناً.

روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح إلى مكة فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة)(1).

وهكذا رواها الترمذي والنسائي في سننهما(2).

وروى البخاري الحادثة نفسها عن ابن عباس ولم يذكر الذيل في العصاة وإنما قال: (فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر)(3).

وروى مسلم الحادثة في صحيحه عن ابن عباس وفي ذيل الرواية (قال: وكان صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره)(4).

ورواها بسند آخر عن الزهري ثم نقل قول الزهري ((وكان الفطر آخر الأمرين وإنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآخر فالآخر)).

وروى النسائي وابن ماجة في سننهما عن عبد الرحمن بن عوف قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر)(5).

ص: 21


1- صحيح مسلم: كتاب الصوم، ح90.
2- سنن الترمذي: 2/107، ح 705، السنن الكبرى للنسائي: 2/101، ح 2571.
3- صحيح البخاري، ح1948.
4- صحيح مسلم: كتاب الصوم، ح88.
5- السنن الكبرى: 4/183، ح2267، سنن ابن ماجة: 1/532، ح1666. وروي في كتبنا بسند معتبر: الكافي: 4/127، ح3، تهذيب الأحكام: 4/217، ح5.

وروى النسائي في سننه بطرق متعددة عن عمرو بن أمية الضمري قال: (قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سفر فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية، فقلت: إني صائم، فقال: تعال ادنُ مني حتى أخبرك عن المسافر، إن الله عز وجل وضع عنه الصيام ونصف الصلاة)(1).

والنتيجة: أنه حتى لو قلنا بأن الحكم كان أولاً التخيير بين الصوم والإفطار في السفر بمقتضى ظهور الآية والروايات المرخّصة فإن الحكم قد نُسخ في حادثة كراع الغميم وأصبح الإفطار عزيمة لا رخصة حتى سمّى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المفطرين بالعصاة فيكون الحكم المتأخر هو وجوب الإفطار مطلقاً وإن لم يستلزم المشقة، وقد تقدَّم تعليق الزهري بأن الصحابة كانوا يأخذون بآخر ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ووافقهم بعض أساتذتنا في دلالة الآية بمعونة الروايات على الرخصة في الإفطار والصيام لكنه أخذهم بالحكم المتأخر زماناً(2).

وعلّق الترمذي في سننه في ذيل حديث جابر في العصاة قائلاً: ((واختلف أهل العلم في الصوم في السفر، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرهم أن الفطر في السفر أفضل، حتى رأى بعضهم عليه الإعادة إذا صام في السفر.

واختار أحمد وإسحاق الفطر في السفر. وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرهم: إن وجد قوة فصام فحسن وهو أفضل وإن أفطر فحسن وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن مبارك.

ص: 22


1- السنن الكبرى: 4/178، ح 2286.
2- محاضرة بتأريخ 27/ج2/1416.

وقال الشافعي إنما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصيام في السفر) وقوله حين بلغه أن ناساً صاموا فقال (أولئك العصاة) فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله تعالى، فأما من رأى الفطر مباحاً وصام وقوي على ذلك فهو أعجب إليّ))(1).

أقول: هذا تأويل منهم للنص الذي هو مطلق.

وقال الشيخ (قدس سره) في الخلاف ناقلاً أقوالهم: ((كل سفر يجب فيه التقصير في الصلاة يجب فيه الإفطار، وقد بينا كيفية الخلاف فيه، فإذا حصل أنمسافراً لا يجوز له فيه أن يصوم، فإن صامه كان عليه القضاء وبه قال أبو هريرة وستة من الصحابة(2).

وقال داود: هو بالخيار بين أن يصوم ويقضي وبين أن يفطر ويقضي، فوافقنا في وجوب القضاء، وخالف في جواز الصوم. وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامة الفقهاء: هو بالخيار بين أن يصوم ولا يقضي وبين أن يفطر ويقضي، وبه قال ابن عباس. وقال ابن عمر: يكره أن يصوم، فإن صامه فلا قضاء عليه))(3).

وقال العلامة (قدس سره) في التذكرة: ((وبه –أي وجوب الإفطار في السفر- قال أبو هريرة وستة من الصحابة، وأهل الظاهر. قال أحمد: كان عمر وأبو هريرة يأمران المسافر بإعادة ما صامه في السفر. وقال باقي العامة: إن صومه جائز واختلفوا في الأفضل. فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو ثور:

ص: 23


1- سنن الترمذي: كتاب الصوم، باب 18، ص 198، مصر، دار ابن الهيثم 2004.
2- ظهر مما تقدم ومما في المغني لابن قدامة (3/90) أن منهم عمر فقد كان وأبو هريرة يأمران الصائم في السفر بالإعادة، ومنهم عبد الرحمن بن عوف الذي روى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)، لكن ابن قدامة قال عقب ذلك: ((وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول)) لروايات أخر عرفنا وجه الجمع بينها.
3- الخلاف: 2/201 المسألة (53).

إن الصوم في السفر أفضل من الإفطار، وقال أحمد والأوزاعي وإسحاق: الإفطار أفضل، وبه قال عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر (لروايتي عائشة وأنس المتقدمتين (صفحة 19) ) والحديثان لو صحّا، حملا على صوم النافلة، جمعاً بين الأدلة. والتخيير ينافي الأفضلية وقد اتفقوا على أفضلية أحدهما وإن اختلفوا في تعيينه))(1).

أقول: جمع (قدس سره) بين الروايات بحمل التخيير على النافلة وهو خلاف ظاهر بل صريح جملة من الروايات كرواية أبي سعيد الخدري وجابر الأنصاري، فيحسن إضافة ما قدمناه من تفسيرها بالنسخ بناءً على فهمه من ذيل صحيحة العيص بن القاسم وكما تقدم عن الزهري، أو حملها على ما قدمناه من الجمع بينها بالترتيب التأريخي لحسم الحكم.

الاستدلال على حكم الإفطار بروايات أهل البيت (عليهم السلام):

وهي كثيرة بلغت حد الاستفاضة بل التواتر، نذكر جملة منها لنكات سنذكرها بإذن الله تعالى، ويوجد غيرها كثير يأتي بعضها بحسب تفاصيل البحث إن شاء الله تعالى:-1- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سمى رسول الله صلى الله عليه وآله قوماً صاموا حين أفطر وقصر عصاة، وقال: هم العصاة إلى يوم القيامة وإنا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا)(2).

في قوله (عليه السلام): (إلى يوم القيامة) تعريض بمن قيَّد النهي بظرفه الخاص في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن

ص: 24


1- تذكرة الفقهاء: 6/154 مسألة (93).
2- الروايات الثماني الأولى تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 1، ح3، 4، 5، 7، 8، 9، 10، 12، 2.

النهي مطلق، وفيه تعريض أيضاً بمن يريد أن يعبد الله تعالى من حيث هو يريد لا من حيث يريد الله تبارك وتعالى فيشدّد في مورد الرخصة فيصوم حتى مع الضرر ويظن أنه بذلك يحسن صنعاً، كالخوارج قديماً والتكفيريين والمتعصبين والمتحجرين والمتقدسين اليوم وكلهم ضال زائغ عن الطريق، وقد ورد في الحديث الشريف (إن الله تعالى يحب أن يؤخذ برُخَصِه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)(1).

2- مصححة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه؟).

3- صحيحة يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر، ثم قال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا، فقال: يا رسول الله إنه علي يسير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان أيحب أحدكم لو تصدق بصدقة أن ترد عليه؟).

أقول: صدر الرواية أورده الكليني والسند في الكافي غير تام لوجود عبد الملك بن عتبة فيه وهو مشترك بين الهاشمي المجهول والصيرفي الثقة، وبقرينة رواية علي بن الحكم عنه فهو الأول، لكن الشيخ الصدوق رواها من دون صدرها بطريقه إلى يحيى بن أبي العلاء وهو

ص: 25


1- وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 29، ح20.

صحيح في المشيخة، فمن وصف الرواية مع صدرها بالصحة عليه الالتفات إلى هذا.

4- صحيحة العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافراً أفطر، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر1- فشربه وأفطر، ثم أفطر الناس معه وتم ناس على صومهم فسماهم العصاة، وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله).

5- رواية(1) عبيد بن زرارة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله عز وجل «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ» قال ما أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه).

6- معتبرة محمد بن حكيم قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو أن رجلاً مات صائماً في السفر ما صليت عليه).

أقول: لم يرد توثيق صريح في محمد بن حكيم إلا أن الكشي روى عن يونس أن محمداً ممن نصبه الإمام الكاظم (عليه السلام) للمناظرة في المسجد النبوي الشريف وكان (عليه السلام) يُسَرُّ بفعله لذا وصفه السيد الخوئي (قدس سره) في المعجم بأنه ممدوح.

ص: 26


1- رواها المشايخ الثلاثة بطرق لا تخلو من مناقشة وقد حاولوا تصحيح سند الشيخ الصدوق في الفقيه عن عبيد، والطريق في المشيخة صحيح إلا من جهة الحكم بن مسكين الذي وثقه السيد الخوئي (قدس سره) لكونه من رجال كامل الزيارات ثم عدل عن الكبرى، ووثقه بعض أساتذتنا لرواية ابن أبي عمير والبزنطي عنه (محاضرة 27/ج2/1416) ونحن لا نعتمد هذه الكبرى في من أسندوا عنهم وإنما في من أرسلوا عنهم.

7- صحيحة صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن (عليه السلام) (أنه سئل عن الرجل يسافر في شهر رمضان فيصوم، قال: ليس من البر الصوم في السفر).

8- رواية الشيخ الصدوق في العلل بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل أهدى إلي وإلى أمتي هدية لم يهدها إلى أحد من الأمم كرامة من الله لنا، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: الإفطار في السفر، والتقصير في الصلاة، فمن لم يفعل ذلك فقد رد على الله عز وجل هديته).

9- ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث قال: (وأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال قوم: يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فإن الله عز وجل يقول: «فَمَنْ كَانَ مِنكُمْ مَرِيضاً أو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرٍ» فهذا تفسير الصيام).

10- صحيحة معاوية بن عمار قال: (سمعته يقول: إذا صام الرجل رمضان في السفر لم يجزه وعليه الإعادة)(1).

11- صحيحة معاوية بن وهب البجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (قلت: إن دخلت بلداً أول يوم من شهر رمضان ولستُ أريد أن أقيم عشراً، قال: قصّر وأفطر، قلت: فإن مكثت كذلك أقول:

ص: 27


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 2، ح1.

غداً أو بعد غد فأفطر الشهر كله وأقصر، قال نعم، هذا ((هما)) واحد إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت)(1).

12- خبر(2)

سماعة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في حديث: (وليس يفترق التقصير والإفطار، فمن قصر فليفطر).

13- موثقة سماعة قال: (سألته عن الصيام في السفر، قال: لا صيام في السفر قد صام ناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فسماهم العصاة، فلا صيام في السفر إلا الثلاثة أيام التي قال الله عز وجل «فِي الحَجِّ»)(3).

14- صحيحة زرارة المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله يصوم في السفر في شهر رمضان

ص: 28


1- الرواية والتي بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 4، ح1، 2، وصحيحة معاوية بتمامها موجودة في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح17.
2- لوجود علي بن السندي في سند الرواية ولم يوثق، ونلفت النظر إلى أن الموجود في الطبعة المتداولة للوسائل (علي بن السندي وعثمان بن عيسى عن سماعة) مما يوهم بوجود طريقين أحدهما موثق فلا مشكلة في السند، لكن الصحيح علي بن السندي عن عثمان بن عيسى. وأورده بتمامه في (باب 5، ح9) وسنده معلق على سابقه فراجع. ولعل هذا التوهم هو منشأ وصف الرواية بالموثقة في عدد من المصادر منها (المستند في شرح العروة الوثقى: 21/463).
3- الرواية والتي بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 11، ح1، 4.

ولا غيره، وكان يوم بدر في شهر رمضان، وكان الفتح في شهر رمضان)(1).

15- موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (قال (عليه السلام): إذا سافر فليفطر لأنه لا يحلُّ له الصوم في السفر فريضة كان أو غيره، والصوم في السفر معصية)(2).

فائدة: قسّم بعض أساتذتنا روايات الباب إلى عدة طوائف، وجعل في الأولى صحيحة يحيى بن أبي العلاء ومصححة ابن أبي عمير ووصفها بأنها ((لا تدل على سقوط الصوم على نحو العزيمة بل الرخصة وورد فيها أن الإفطار في السفر كالتقصير هدية من الله، وليس أمراً أخلاقياً ردُّ الهدية وهذا لا يدل على المدعى وهو عدم الجواز))(3).

وفيه: إنه كما ترى؛ فإن الله تعالى هو المشرِّع فهل يجوز الرد عليه؟، خصوصاً وأن هذا التشبيه جاء كالتعليل للنهي عن الصوم في صحيحة يحيى بن أبي العلاء، وأن هذا المعنى سيق في بعضها (الرواية 8) على نحو الزجر والاستنكار.

مضافاً إلى أنه ضُمَّ في الروايات مع تقصير الصلاة –كما في رواية العلل- وهو عزيمة مع أن الآية الشريفة فيه أقرب إلى الرخصة في قوله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» (النساء: 101)، واستدل الإمام (عليه السلام) على الوجوب فيها بقوله تعالى: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا» (البقرة: 158) أي أن الإمام (عليه السلام) استدل بنفس الآية على الوجوب من دون معونة قرائن خارجية.

ص: 29


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 11، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح8.
3- محاضرة بتأريخ 26/جمادى الثانية/1416.

نعم يمكن إيراد مثل صحيحة عبد الله بن سنان في هذا القسم فقد ورد فيها قول أبي عبد الله (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى قد رخّص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمة وتخفيفاً لموضع التعب والنصب ووعث السفر)(1)

الحديث فهي صريحة في الرخصة بغضّ النظر عن الروايات المانعة.

وجعل (دام ظله الشريف) في الثانية الروايات التي وصفت الصائمين في السفر بالعصاة وفي الثالثة الروايات الناهية عن الصوم في السفر ونحوها، وهو تقسيم غير مُجدٍ في ما نحن فيه، لاتفاقها على النهي.

تنبيهان

(الأول) النقوض على الملازمة بين التقصير والإفطار والجواب عنها:السفر الموجب للإفطار هو ما اجتمعت فيه شروط السفر الموجب لقصر الصلاة من حيث قصد المسافة الشرعية وعدم كونه سفر معصية، وأن لا ينوي الإقامة عشرة أيام وأن لا يكون السفر عملاً له أو عمله في السفر.

وقد دلّت على ذلك صحيحة معاوية بن وهب ورواية سماعة المتقدمتان وغيرهما كما في رواية أبان بن تغلب عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خيار أمتي الذين إذا سافروا أفطروا وقصّروا)(2)

الحديث، وفي صحيحة عمار بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: من سافر قصّر وأفطر)(3)

الحديث، ومرسلة سليمان الجعفري في المحاسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل من سافر فعليه التقصير والإفطار)(4) الحديث، ورواية العيون عن الفضل بن

ص: 30


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 13، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 1، ح6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 8، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 11، ح11.

شاذان عن الرضا (عليه السلام) –في كتابه إلى المأمون- قال: (وإذا قصّرت أفطرت، ومن لم يفطر لم يجز عنه صومه في السفر وعليه القضاء لأنه ليس عليه صوم في السفر)(1).

أقول: ظاهر الملازمة أنها في الشروط الموجبة لكليهما كما عنوناه، وليس في مواردهما وهو ظاهر كلمات الأصحاب أيضاً، قال السيد المرتضى في الانتصار: ((لا خلاف بين الأمة في أن كل سفر أسقط فرض الصيام ورخص في الإفطار فهو بعينه موجب لقصر الصلاة)) ونحوه في الغنية.

وفي ضوء هذا لا يرد النقض على الملازمة طرداً وعكساً بالبقاء على الصيام إذا سافر بعد الزوال مع قصر الصلاة، وبالإفطار إذا عاد بعد الزوال مع إتمام الصلاة، وبصلاة التمام دون الصوم في أماكن التخيير؛ وبالصوم المنذور في السفر –على القول به-، وإنما لا يرد النقض لأن متعلق الملازمة الشروط وهي ثابتة غير منقوضة، وهذه الموارد استثناء من أحد طرفيها أي من حكم التقصير في الصلاة، أو من حكم الإفطار في الصوم كلاً على حدة. فالتمام في أماكن التخيير استثناء من حكم التقصير في السفر، والبقاء على الصوم في السفر بعد الزوال استثناء من حكم الإفطار في السفر، وليس من الملازمة.

ومن ذلك يتضح عدم الحاجة إلى التكلّف في توجيه خروج هذه الموارد كالذي قاله صاحب الجواهر (قدس سره) من أن ((ورود أحد الأماكن –أي الأربعة- ليس من السفر في شيء، وأما الفرق بينهما في المسألة السابقة وهي فيما لو سافر بعد الزوال فقد يقال بعدم اندراجه في الكلية، لأنه باعتبار كونه بعد الزوال كالذي قد فرغ منه، فلا يؤثر السفر فيه، كما يومي إليه حكم القادم من السفر، فإنه قبل الزوال يصوم إذا لم يكن قد تناول شيئاً، بخلافه بعد

ص: 31


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 2، ح4.

الزوال، بل وناسي النية ونحوه مما يشعر بكون الزوال منتهى الخطاب بالصوم، فلا يندرج حينئذ في الكلية، أو يلتزم تخصيصها بذلك للأدلة السابقة والله أعلم))(1).

أقول: مضافاً إلى ما تقدم من الجواب المغني فإن جوابه (قدس سره) عبارة عن دعاوى لا يمكن الالتزام بها، مضافاً إلى عدم استيعابه لموارد النقض الأخرى.

وأجاب الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك معلقاً على قول المحقق (قدس سره): ((وكل سفر يجب قصر الصلاة فيه يجب قصر الصوم، وبالعكس، إلا لصيد التجارة على قول)) قال (قدس سره): ((يستثنى من الكلية الثانية –أي الكلية المعكوسة- نية السفر في مواضع التخيير الأربعة، فإن قصر الصلاة فيها غير متعين بخلاف الصوم. ويمكن تكلف الغنى عن الاستثناء بالتزام كون قصر الصلاة في هذه الأربعة واجباً تخييراً بينه وبين التمام، لأن الواجب – وهو الصلاة - لا يتأدّى إلا بأحدهما، فيكون كل واحد منهما موصوفاً بالوجوب)).

أقول: للخصم أن يأخذ الفرد الآخر وينقض به مضافاً إلى عدم استيعاب جوابه (قدس سره) لكل موارد النقض.

وقد حكى (قدس سره) جواباً لا نعلم قائله حاصله أن عكس الموجبة الكلية موجبة جزئية وهي تجتمع مع خروج بعض الأفراد، قال (قدس سره): ((ولا يجوز أن يحمل العكس المذكور على الاصطلاحي وهو العكس المستوي – لتكون القضية فيه جزئية لأن المعكوس موجبة كلية فلا ينافيه خروج بعض الأفراد - لأن الاستثناء الذي بعده يدل على كلية العكس لأنه استثناء منه، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فتعين إرادة العكس اللغوي))(2)،أي نفس الكبرى بعكس ترتيب طرفيها تجنباً للتكرار، وهو جواب صحيح، إلا أن الوجه

ص: 32


1- جواهر الكلام: 17/143.
2- مسالك الأفهام: 2/84.

لا يستحق الذكر لأن موضع الإشكال ليس كلام المحقق (قدس سره) وإنما كيفية فهم ما ورد في الأدلة الشرعية.

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((الملازمة ثابتة من الطرفين إلا ما خرج بالدليل، فإن قام الدليل على التفكيك فهو، وإلا فالعمل على الملازمة))(1).

أقول:هذا الكلام صحيح إثباتاً من باب التسليم للنص، إلا أنه لا يحلّ المشكلة ثبوتاًلأننا نريد أن نجيب عن معنى صدور هذه الكبرى مع وجود عدد من النقوض، وإن كثرة الاستثناءات لا تبقي للملازمة معنى.

فائدة: ذكروا موارد أخرى لنقض الملازمة استند بعضها إلى أقوال فقهية شاذة(2)

فلا نوردها.

ونشير هنا إلى موارد ثلاثة:-

أحدها: الاستثناء الذي ذكره المحقق (قدس سره) وهو صيد التجارة، فقد ((حكى ابن إدريس الإجماع على الإتمام في الصلاة والقصر في الصوم، وهو قول الشيخ في النهاية والمبسوط)).

أقول: لم يثبت هذا الإجماع مضافاً إلى مخالفته للنصوص؛ لأن الملازمة ثابتة هنا بين الإتمام والصوم أو الإفطار والقصر، والمائز بينهما في كون السفر حقاً أو معصية. ففي موثقة سماعة قال: (ومن سافر فقصّر الصلاة وأفطر إلا أن يكون رجلاً مشيعاً لسلطان جائر أو خرج إلى صيد)(3)

الحديث.

ووردت هذه الضابطة في أكثر من رواية منها موثقة عبيد بن زرارة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصّر أو يتم،

ص: 33


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/485.
2- جواهر الكلام: 17/140.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 8، ح4.

قال: يتم لأنه ليس بمسير حق)(1)

والتجارة لطلب الرزق مسير حق وبها قوام حياة الناس وأن تسعة أعشار الرزق في التجارة.

وورد في خصوص سفر التجارة ما رواه الشيخ بسند صحيح عن عمران بن محمد بن عمران القمي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله قال: (قلت له: الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين يقصّر أو يتم؟ فقال: إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصّر، وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة)(2).

ثانيها: من سافر قبل الزوال من دون أن يبيّت نية السفر من الليل فقد ورد النص بأنه يصوم ويقصّر الصلاة كرواية صفوان عن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث قال: (لو أنه خرج من منزله يريد النهروان ذاهباً وجائياً لكان عليه أن ينوي من الليل سفراً والإفطار، فإن هو أصبح ولم ينو السفر فبدا له من بعد أن أصبح في السفر قصر ولم يفطر يومه ذلك)((3).

أقول: سنتعرض لهذا البحث عند الحديث عن مدخلية تبييت النية في الإفطار بإذن الله تعالى.

ثالثها: سفر النزهة والسياحة بحسب المحكي عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد:

وتقدم أن المسافر سفر معصية يجب عليه الصوم كما يجب عليه إتمام الصلاة، وقد دلّت عليه صحيحة عمار بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: من سافر قصر وأفطر إلا أن يكون رجلاً سفره إلى صيد أو في معصية الله أو رسول لمن يعصي الله أو في طلب عدو أو شحناء أو سعاية أو ضرر على قوم من المسلمين)(4) وموثقة سماعة قال: (قال: سألته عن

ص: 34


1- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 9، ح4، 5.
2- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 9، ح4، 5.
3- (1) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح11.
4- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 8، ح3، 4.

المسافر (إلى أن قال:) ومن سافر فقصر الصلاة وأفطر إلا أن يكون رجلاً مشيعاً لسلطان جائر أو خرج إلى صيد أو إلى قرية له تكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصر ولا يفطر)(1).

مضافاً إلى الروايات التي دلّت على وجوب صلاة التمام لمثله بضميمة روايات الملازمة بين التمام والصوم.

هذا ولكن العلامة (قدس سره) حكى عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد القول بوجوب الصوم والقضاء، قال (قدس سره): ((قال ابن أبي عقيل: إن خرج متنزهاً أو متلذذاً أو في شيء من أبواب المعاصي يصوم، وليس له أن يفطر، وعليه القضاء إذا رجع إلى الحضر، لأن صومه في السفر ليس بصوم، وإنما أمر بالإمساك عن الإفطار لئلا يكون مفطراً في شهر رمضان في غير الوجه الذي أباح الله – عز وجل - له الإفطار فيه، كما أن المفطر في يوم من شهر رمضان عامداً قد أفسد صومه، وعليه أن يتم صومه ذلك إلى الليل لئلا يكون مفطراً في غير الوجه الذي أمره الله تعالى فيه بالإفطار، ونحوه قال ابن الجنيد))((2).

أقول: قوله: ((لأن صومه في السفر ليس بصوم)) مخالف للروايات المتقدمة الآمرة بالصوم، فدعواه (رحمه الله) لا أساس لها.

وردّ العلامة (قدس سره) عليهما بقوله: ((وإذا كان هذا الصوم واجباً وقد فعله فيسقط القضاء عنه، لما ثبت من أن الأمر يقتضي الإجزاء، ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد.

احتجّ: بأن السفر منافٍ للصوم، وقد أتى به، فلم يكن هذا الصوم معتبراً في نظر الشرع، بل كان كإمساك المفطر اختياراً.

ولعموم قوله تعالى: «وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرٍ».

ص: 35


1- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 8، ح3، 4.
2- (1) مختلف الشيعة: 3/341-343، المسألة (78).

والجواب: لا نسلم أن السفر مطلقاً مناف للصوم، بل السفر الذي يجب فيه القصر.

والآية لا تدل على مطلوبه، إذ مضمونها فليفطر وعليه عدة من أيام أخر، وهذا المسافر لا يجوز له الإفطار)).(الثاني) إنما لا يصح الصوم من المسافر إذا كان عالماً بالحكم، أما إذا كان جاهلاً فيصحّ، نظير ما ورد في الصلاة فإن الجاهل لو أتم صلاته في السفر أجزأته.

وقد دلت على الحكم عدة أخبار معتبرة منها:

صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل صام شهر رمضان في السفر، فقال: إن كان لم يبلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ذلك فليس عليه القضاء وقد أجزأ عنه الصوم)(1).

وصحيحة الحلبي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل صام في السفر، فقال: إن كان بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ذلك فعليه القضاء، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه).

وصحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من صام في السفر بجهالة لم يقضه).

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سافر الرجل في شهر رمضان أفطر، وإن صامه بجهالة لم يقضه).

ص: 36


1- الروايات الأربع تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 2، ح2، 3، 5، 6.

وبهذا يقيد إطلاق صحيحة معاوية بن عمار في نفس الباب قال: (سمعته يقول: إذا صام الرجل رمضان في السفر لم يُجزه وعليه الإعادة)(1).

ويشترط في إجزاء صوم الجاهل بقاء جهله إلى آخر النهار وأما لو علم بالحكم في الأثناء فلا يصح صومه لعدم شمول الروايات المتقدمة له فيكون مأموراً بالإفطار بمقتضى إطلاقات الإفطار في السفر.

وهنا سؤالان:

أولهما: ((هل الحكم مختص بما إذا جهل أصل الحكم أو يشمل الجهل ببعض خصوصياته أيضاً، كما إذا ظن أن سفراً يُعصى فيه يوجب الإتمام ولو لم يكن أصل السفر معصية؟ اختار بعض الأجلّة الثاني ونسبه إلى إطلاق الأصحاب وهو الأظهر لإطلاق الجهالة في صحيحتي العيص والمرادي))(2).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الجاهل بأصل الحكم والجاهل بالخصوصيّات، مثل ما لو تخيّل عدم كفاية المسافة التلفيقيّة فيالتقصير، أو عدم(3)

لزوم تبييت النيّة ونحو ذلك، فيصدق أنّه صام بجهالة حسبما ورد في تلك النصوص، ولا ينافيه ما ورد في البعض الآخر منها من إناطة عدم القضاء بعدم بلوغه نهي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لوضوح أنّ المراد بلوغ النهي عن شخص هذا الصوم بما له من الخصوصيّات، لا عن طبيعي الصوم في السفر الذي مرجعه إلى أنّه إن كان مشرِّعاً في صومه فقد عصى وعليه القضاء، وإلاّ فلا قضاء عليه، ومن المعلوم عدم انطباق ذلك على المقام.

ص: 37


1- الحديث الأول في الباب.
2- مستند الشيعة: 10/357.
3- الظاهر زيادة كلمة (عدم) وإلا انتقض المثال، فالصحيح أنه تخيّل لزوم التبييت ليجب الإفطار، ولما لم يبيّت النية صام وجهل أن تبييت النية ليس شرطاً للإفطار.

وكيفما كان، فلا ينبغي التأمّل في أنّ مقتضى إطلاق النصّ والفتوى عدم الفرق في المقام بين الجهل بأصل الحكم أو بخصوصيّاته، فالاعتبار بنفس العلم والجهل، فإن صام عن علم بطل، وإن كان عن جهل بأن اعتقد الصحّة ولو لأجل الجهل بالخصوصيّة صحّ))(1).

أقول: يمكن القول بالاختصاص لصدق العالم بالحكم على العالم بأصله وإن جهل الخصوصيات، ولصدق عنوان بلوغ نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصوم في السفر عليه فلا يجزئه كما في صحيحتي الحلبي وعبد الرحمن البصري، فكان عليهم (قدس الله أرواحهم) أن يأخذوا بإطلاق بلوغ نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بإطلاق الجهالة؛ لأنها تشير إلى ذلك النهي وليست تعبيراً مستقلاً.

إن قلتَ: إن الوارد فيهما (ذلك) والتقريب ((يتم إذا جعل المشار إليه الصوم في السفر، ويحتمل أن يكون فعله، أي نهى عن صومه الذي صامه))(2).

قلتُ: هذا وجه لطيف إلا أنه خلاف الظاهر بقرينة السؤال، فيريد ب-(ذلك) نوع الصوم في السفر لا شخصه، وليس صحيحاً حمله على شخص الصوم لأنه يلزم تخصيص الأكثر؛ لأن الناس كلهم جاهلون بما يصح من الصوم في السفر كالمنذور المقيد به وثلاثة أيام بدل الهدي أو قضاء الحاجة ونحوها، إلا عند القلة من أهل العلم والفضل.

ومنه يُعلم النظر في ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) آنفاً من الاستبعاد باعتبار أن ((مرجعه إلى أنه ..)) لأن العصاة كما سماهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا فعلاً يشرعون مقابل تشريعه في محضره المقدَّس كما تشهد واقعة الغميم وغيرها.

ص: 38


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/474-475.
2- مستند الشيعة: 10/357.

اللهم إلا أن تكون الخصوصيات المجهولة بنحو يصدق معه الجهل بأصل الحكم كما لو كان يعتقد أن مسافة القصر الامتدادية لمُريد الرجوع ليومه هي (44 كيلومتراً) للذهاب فقط فسار أزيد من (22 كيلومتراً) وأقل من (44 كيلومتراً).

ثانيهما: هل يلحق الناسي بالجاهل؟

لا يلحق الناسي بالجاهل لعدم شمول الأدلة له فيبقى مشمولاً بإطلاقات ما دلّ على وجوب الإفطار في السفر، وقيل بالإلحاق، قال الشهيد الثاني (قدس سره) معلقاً على قول الشهيد الأول (قدس سره) في اللمعة: ((والناسي يلحق بالعامد)) قال: ((لتقصيره في التحفظ، ولم يتعرض له الأكثر مع ذكرهم له في قصر الصلاة بالإعادة في الوقت خاصة، للنص، والذي يناسب حكمها فيه عدم الإعادة، لفوات وقته ومنع تقصير الناسي ولرفع الحكم عنه، وإن كان ما ذكره أولى))(1).

أقول: هذا تنقيح مناط يلحق بالقياس فلا يكون حجة، والحجة هي النصوص وقد عرفنا مقتضاها.

ص: 39


1- شرح اللمعة، كتاب الصوم، المسألة الخامسة.

هل الحضر وما بحكمه قيد للوجوب أم للواجب؟

بُحثت(1) مسألة اشتراط الحضر وما بحكمه في الصوم في موضعين من كلمات الفقهاء، (أحدهما) شرائط الصحة و (ثانيهما) شرائط الوجوب؛ ولذا قالوا لا يصح الصوم من المسافر وقالوا لا يجب الصوم على المسافر، فهل هذا صحيح؟ أي كون الحضر هو من شرائط الوجوب في الصوم، ومن شرائط الصحة كما هو ظاهر كلماتهم بل صريحها(2).

وفيه: إن هذا خلف تقسيمهم الشروط في علم الأصول على نحو القضية مانعة الجمع بأنها إما شروط وجوب أو شروط وجود أي للواجب، وبتعبير

ص: 40


1- لاحظ كتاب العروة الوثقى وشروحه كالمستمسك والمستند، ولم يُشِر أحدٌ إلى هذا البحث.
2- قال السيد الخوئي (قدس سره): ((إن صحة صوم رمضان كوجوبه مشروطة بالحضر)) (المستند في شرح العروة الوثقى: 22/24).

آخر إن قيدية الحضر للصوم إما أن تعود إلى الهيأة أو إلى المادة؟ ورتّبوا على ذلك فرقاً، وهو أن شروط الوجوب لا يجب تحصيلها، بينما شروط الواجب يجب تحصيلها، مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من الاختلاف في الأصول الجارية عند الشك في الشرائط بين الصحة والوجوب.

وحينئذٍ نتساءل هل أن الحضر شرط للوجوب، وأن ما ذكروه من شرطيته في الصحة تبع لذلك، باعتبار أن كل شرط للوجوب هو شرط للصحة لأنَّ خلو الفعل من الأمر يجعله غير مشروع كصلاة الحائض مثلاً، إلا أن ينضمَّ له أمر آخر كعبادات الصبي التي ورد الدليل على استحبابها.

وعلى هذا فما معنى بحث الشرط من جديد في شرائط الصحة؟.

أم أنه شرط للصحة أي أنه من قيود الواجب، وأن الوجوب ثابت على كل حال حتى إذا اختل الشرط وإنما لا يكون صحيحاً حينئذٍ، وبتعبير آخر: إن معنى الصحة فيالمصطلح مطابقة المأتي به للمأمور به، فالصحة فرع هذه المطابقة، أما وجود الأمر ومتعلقه –أي المأمور به- فمفروغ منه.

وقد اعترف السيد الخوئي (قدس سره) بتداخل المعنيين للصحة في الأمور التي ذكروها، قال (قدس سره) معلقاً على عنوان العروة الوثقى في شرائط الصحة: ((وهي بين ما يكون شرطاً في الصحة وما هو شرط في تعلق التكليف، وعلى أي حال فهي معتبرة في الصحة إما لكونها شرطاً للأمر أو للمأمور به))(1).

أقول: هذا التداخل غير مقبول لما عرفنا من الفرق في الآثار والأصول الجارية، وقد امتد هذا الخلط ليشمل ما هو صريح في كونه من شروط الوجوب كالخلو من الحيض والنفاس.

معاني الصحة والفساد:

ص: 41


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/452.

ولإتمام الفائدة نقول: قد تطلق الصحة على معنى أخصّ من هذا، وهو عدم لزوم الإعادة، مقابل معنى الفساد وهو عدم الغنى عن الإعادة، وإنما كان أخصّ لأن الأداء قد يتحقق بالفعل لكنه لا يغني عن لزوم الإعادة لنقص حصل فيه يجب سدّه، ومثاله ما في صحيحة زرارة في من أفسدا حجهما بالجماع من إعادة الحج من قابل، وفيها سأل زرارة (فأي الحجتين لهما؟ قال: الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا والأخرى عليهما عقوبة)(1).

وقد تَحصَّل مما تقدَّم أن للصحة ثلاثة معان:-

1- وجود أمر يصحّح التعبّد بالفعل وإلا فلا يصح كصلاة الحائض والنفساء وصومهما.

2- مطابقة المأتيّ به للمأمور به فلا تصح الصلاة بلا وضوء مثلاً.

3- عدم لزوم القضاء والإعادة.

وبحسب علمي فإن كتب الأصحاب لم تفرد بحثاً مستقلاً لبيان الموضع المناسب لشرط الحضر وأنه من شروط الوجوب أو الصحة، رغم مدخليته في بعض الفروع الفقهية التي ذكروها مما يمكن أن تستند إليه في بعض الوجوه –بغضّ النظر عن النصوص- كجواز السفر اختياراً في شهر رمضان.

وتترتب على هذا البحث ثمرات فقهية عديدة غير الفرع المذكور كوجوب قضاء الصوم على الولي فيما إذا مات الشخص قبل أن يتمكن من القضاء، أو وجوب القضاء على المفطر لسفر إذا استمر به العذر إلى رمضان التالي بغض النظر عن الروايات، مما سنبحثه لاحقاً بإذن الله تعالى، كما أنه يساعدنا على تفسير النصوص الواردة في تلك الفروع.

أدلة المشهور على كون الحضر شرط وجوب:

ص: 42


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب كفارات الاستمتاع، باب 3، ح9.

ويمكن دعوى إجماع الأصحاب على كون الحضر من شروط الوجوب، بضم مقدمتين:-

1- الإجماع على عدم وجوب الحضر وما بحكمه للإتيان بالصوم ابتداءً ولا استدامة؛ لذا أجمعوا على جواز السفر في شهر رمضان اختياراً، إذ لا يعرف فيه الخلاف، إلا من أبي الصلاح الحلبي فقد حكى العلامة (قدس سره) عنه قوله: ((إذا دخل الشهر على حاضر لم يحل له السفر مختاراً))(1) وخلافه غير قادح.

2- التسليم بكبرى أن ما لا يجب تحصيله هي شروط الوجوب عكس شروط الواجب، بغضّ النظر عن مبنى الشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي يمنع من عودة القيود إلى الهيأة أصلاً.

وبضمّ هاتين المقدمتين تتحقق لدينا دعوى الإجماع على كون الحضر من شروط الوجوب، وقد صرّح كثير منهم بأن هذا المشهور مبني على هاتين المقدمتين، أما ذكره في شرائط الصحة فلأنه متفرع عنه بناءً على المعنى الأول الذي ذكرناه، قال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((الثاني: في الشروط، وهي قسمان: الأول: ما باعتباره يجب الصوم، وهو سبعة)) ثم قال: ((والإقامة أو حكمها، فلا يجب على المسافر ولا يصح منه. بل يلزمه القضاء))(2).

ويمكن تحصيل وجه ثانٍ من كلام المشهور للاستدلال على أن القيد للوجوب، فقد قرّب السيد الخوئي (قدس سره) كون الحضر شرطاً للوجوب من الآية الشريفة، قال (قدس سره): ((المستفاد منها تقسيم المكلفين إلى أقسام ثلاثة:

ص: 43


1- مختلف الشيعة: 3/326، المسألة 73.
2- شرائع الإسلام، للمحقق الحلي: 1/149.

قسم يجب عليه الصيام متعيّناً.

وقسم يتعيّن في حقه القضاء، وهو المريض والمسافر.

وقسم لا يجب عليه لا هذا ولا ذاك وإنما تجب عليه الفدية فقط، وهم الذين يطيقونه، أي من يكون الصوم حرجاً عليه كما هو معنى الإطاقة، كالشيخ والشيخة.

وبما أن موضوع الحكم الثاني هو المريض والمسافر فبمقتضى المقابلة وأن التفصيل قاطع للشركة بكون موضوع الحكم الأول هو من لم يكن مريضاً ولا مسافراً فيكون المكلّف بالصيام هو الصحيح الحاضر، فقد أُخذ في موضوع الحكم أن لا يكونالمكلّف مسافراً فيكون الوجوب مشروطاً به بطبيعة الحال، لأنّ الموضوع –كما ذكرناه في الواجب(1)

المشروط- هو ما كان مفروض الوجود عند تعلّق الحكم، سواء أكان غير اختياري كدلوك الشمس بالإضافة إلى وجوب الصلاة، أم كان اختياريّاً كالسفر والحضر والاستطاعة ونحوها، فمعنى قولنا: المستطيع يحجّ: أنّه على تقدير تحقّق الاستطاعة وعند فرض وجودها يجب الحجّ، فلا يجب التصدّي لتحصيله، لعدم وجوب تحصيل شرط الوجوب.

وعليه، فيجوز للحاضر السفر ولا يجب على المسافر الحضر، لعدم وجوب تحصيل شرط التكليف لا حدوثاً ولا بقاءً، فلو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا بجواز السفر في شهر رمضان ولو لغير حاجة لأنّ الواجب مشروط ولا يجب تحصيل الشرط كما عرفت))(2).

ص: 44


1- كرر (قدس سره) هذا العنوان وهو ليس دقيقاً لأن المشروط –في المصطلح الأصولي- من تقسيمات الوجوب لا الواجب كوجوب الحج المشروط بالاستطاعة، والزكاة ببلوغ النصاب.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/406-407.

أقول: تحصّل من كلامهم المتقدم وجهان للاستدلال على كون السفر شرطاً للوجوب هما:

الأول: ظهور الآية وأن مقتضى المقابلة عدم وجود أمر بالصوم للمسافر، وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((مقتضى إطلاقات الكتاب والسنة أن المسافر غير مأمور بالصيام))(1).

وقد نقلنا (صفحة 13) تعبير بعض أساتذتنا عن ذلك بخروج المسافر من خطاب الوجوب تخصيصاً.

وفيه: إن مفاد الآية تعيُّن القضاء على المسافر في أيام أُخر، وهو أعم من كون الشرط المتخلف –وهو الحضر- راجعاً إلى الوجوب فلا أمر، أو إلى الواجب باعتباره من شرائط الصحة، ولذا منعنا من دعوى التخصيص، وليس لسان الآية لسان تخصيص وإنما بيان حكم آخر يخصّ المريض والمسافر.

الثاني: ضم المقدمتين اللتين ذكرناهما آنفاً.

أما المقدمة الأولى فسنناقشها في فرع مستقل بإذن الله تعالى، وسنجد أن الإجماع على جواز السفر اختياراً في شهر رمضان لوجود الدليل الخاص وليس لأنه مقدمة وجوب لا يجب تحصيلها.

وأما المقدمة الثانية فيرد عليها:-

1- المناقشة في كبرى أن مقدمات الوجوب مما لا يجب تحصيلها.

2- ولو تنزّلنا وسلّمنا بها فإن عكسها غير مسلَّم، والاستدلال هنا وقع بعكسها أي بأن كل ما لا يجب تحصيله فهو من مقدمات الوجوب وهو ليس مسلّماً، وسنذكر جملة من القائلين بأن بعض مقدمات الواجب مما لا يجب تحصيله أيضاً.

ص: 45


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/476.

ونريد هنا أن نتوقف عند كبرى عدم وجوب تحصيل شروط الوجوب وما يتحد معها في الملاك كعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية وهي كبرى مسلّمة عندهم إلا أنهم لم يبنوا عليها وخالفوها ولو احتياطاً في موارد كثيرة لأن العمل بها دائماً يؤدي إلى تضييع أحكام الدين، فلا يُعمل بها إذا خيف من حصول ذلك، كالاختبار لمعرفة حصول الاستطاعة(1)،وبلوغ نصاب الخمس في المعادن، وتصفية النقد المغشوش لمعرفة بلوغ نصاب الزكاة، والعلم بتحقق الموضوع من مقدمات الوجوب والمفروض عندهم عدم وجوب تحصيلها.

ويؤيده خبر زيد الصائغ عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقد أفتى بمقتضاه المشهور(2)

وفيه (قلت: وإن كنت لا أعلم ما فيها من الفضة الخالصة إلا أني أعلم أن فيها ما يجب فيه الزكاة؟ قال: فاسبكها حتى تخلص الفضة ويحترق الخبيث ثم تزكي ما خلص من الفضة لسنة واحدة)(3).

نعم إذا دلّ الدليل على عدم وجوب الفحص أو عُلم بناء الشارع المقدس على التسامح في موردٍ ما للتيسير على العباد –كالشك في النجاسة الخبثية أو حلّيّة ما في سوق المسلمين- فلا مانع من الأخذ بها، فما استدلوا به في صحيحة(4) زرارة على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية مطلقاً

ص: 46


1- مواضعها في العروة الوثقى: المسألة (20) من الاستطاعة، والمسألة (13) من خمس المعادن والمسألة (3) من زكاة النقدين.
2- ذُكر مع مناقشته في مسألة (الزكاة في العملة المتداولة) من كتاب الزكاة وهو المجلد الخامس من فقه الخلاف: 5/100 (الناشر).
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 7، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 37، ح1، في الثوب الذي أصابه شيء من النجاسات وفيه: (قلت: فهل عليَّ إن شككتُ في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا).

غير تام ويمكن دعوى اختصاصه بمورده وأمثاله، فالتجريد عن الخصوصية في غير محله لاحتمال اختصاصها بباب النجاسة لمصلحة التيسير على العباد.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((يعتبر في الحكم بوجوبها –أي الزكاة في الدراهم المغشوشة- العلم بالبلوغ نصاباً، أما لو شك فلا وجوب للأصل وغيره، بلالمعروف أيضاً عدم وجوب التصفية ونحوها للاختبار، بل عن المسالك لا قائل بالوجوب، ووجه ذلك أن كل مقدمات الوجوب لا يجب تحصيلها ولا تعرفها، لكن قد يناقش بأن الأول مسلم بخلاف الثاني، ضرورة معلومية الوجوب في مثله من مذاق الشرع، وأنه ليس المراد الوجوب إذا اتفق حصول العلم بوجود الشرط، فلا يجب حينئذٍ على من احتمل في نفسه الاستطاعة مثلاً أو ظنها اختبارُ حاله، ولا على من علق نذره على شيء مثلاً تعرف حصوله ونحو ذلك، إذ هو كما ترى فيه إسقاط لكثير من الواجبات، نعم هو كذلك حيث لا يكون له طريق إلى التعرف، أو كان فيه ضرر عليه بحيث يسقط بمثله وجوب المقدمة، ولعلّه لذلك مال بعض المحققين هنا إلى وجوب التعرف بالتصفية أو غيرها، وهو قوي جداً إن لم يكن إجماع على خلافه))(1).

أقول: رغم تسليمه (قدس سره) بعدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب إلا أنه استثنى منها بعض موارد العلم بتحقق الموضوع وهي من مصاديق تلك المقدمات.

وعلى أي حال فإن هذه الكبرى وإن كانت جارية على الألسنة إلا أنه لم يقم دليل عليها إلا في الموارد التي علم تسامح الشارع المقدس فيها تخفيفاً على العباد، والإجماع المحكي غير معتبر مضافاً إلى المناقشة فيه صغروياً كما تقدم.

هذا ولكن السيد الخوئي (قدس سره) أصرّ على كلّيّة هذه الكبرى ورد النقوض عليها، قال (قدس سره): ((عدم وجوب الفحص في الشبهات

ص: 47


1- جواهر الكلام: 15/196.

الموضوعية مما لا إشكال فيه ولا خلاف، إلا أنه ذكر جماعة وجوب الفحص في بعض موارد الشبهات الموضوعية مما كان العلم بالحكم فيه متوقفاً على الفحص عادة: (منها): ما إذا شك في المسافة فقالوا يجب الفحص والسؤال من أهل الخبرة، مع كون المورد مجرى لاستصحاب عدم تحقق المسافة. و (منها): ما إذا شك في تحقق الاستطاعة إلى الحج من حيث المال أو من جهة أخرى. و (منها): ما إذا شك في زيادة الربح عن مؤونة السنة، واستدلوا لوجوب الفحص في هذه الموارد بأن جعل الحكم في مورد يتوقف العلم به على الفحص يدل بالملازمة العرفية على وجوب الفحص، وإلا لزم اللغو في تشريعه.

وفيه: أن الكبرى المذكورة وإن كانت مسلّمة، إلا أنها غير منطبقة على الأمثلة المذكورة، فإن العلم بتحقق المسافة في السفر وبلوغ المال حد النصاب أو كفايته للحج أو زيادته عن مؤونة السنة قد يحصل، بلا احتياج إلى الفحص وقد يحصل العلم بعدمه، وقد يكون مشكوكاً فيه كبقية الموضوعات الخارجية نعم ربما يتفق توقف العلم بالموضوعات المذكورة على الفحص. والتوقف أحياناً من باب الاتفاق لا يوجبوجوب الفحص، وإلا لوجب الفحص عن أكثر الموضوعات))(1).

أقول:-

1- تقسيمه (قدس سره) التوقف إلى حالات ثلاث يسمى في مصطلحات اليوم ((هروب إلى الأمام)) لأن الكلام في وجوب الفحص عند الشك فلا معنى لفرض تحقق العلم أو عدمه بلا فحص.

2- قوله (قدس سره): ((التوقف أحياناً لا يوجب وجوب الفحص)) إن أراد به الوجوب مطلقاً بحيث يكون هذا التوقف الاتفاقي كالمصلحة النوعية الموجبة للحكم فهذا مما لا يقول به الناقض ولا يقول بوجوب

ص: 48


1- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة: 47/591.

الفحص مطلقاً. وإن أراد به عدم الوجوب حتى في نفس موارد التوقف الاتفاقية فهذا خلف الفرض في الموارد المذكورة وأمثالها مع ما قلناه من لزوم تضييع أحكام الدين.

ويظهر التراجع عن هذه الكبرى في الجملة أيضاً من كلمات النائيني (قدس سره) فقد حكى عنه السيد الخوئي (قدس سره) أنه ((اعتبر في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية أن لا تكون مقدمات العلم بأجمعها تامة. وأما فيما إذا كانت المقدمات تامة بحيث لا يحتاج حصول العلم إلا إلى مجرد النظر، فلا تجري البراءة، بل لا بد من النظر وتحصيل العلم أو الاحتياط. ومثل لذلك بما إذا كان المكلف بالصوم في سطح لا يتوقف علمه بطلوع الفجر إلا على مجرد النظر إلى الأفق، فلا يجوز له الرجوع إلى استصحاب بقاء الليل أو البراءة، بدون النظر، لأن مجرد النظر لا يعد من الفحص عرفاً ليحكم بعدم وجوبه)).

إلا أنه (قدس سره) بخل عليه حتى بهذا المقدار من الخروج عن الكبرى فردّ عليه بقوله: ((إن مجرد النظر وفتح العين من دون إعمال مقدمة أخرى وإن كان لا يعد من الفحص، إلا أن الفحص بعنوانه لم يؤخذ في لسان دليل ليكون الاعتبار بصدقه عرفاً، بل المأخوذ في أدلة البراءة إنما هو الجاهل وغير العالم. ولا شك في أن المكلّف بالصوم في المثال المذكور جاهل بطلوع الفجر، ولا دليل على وجوب النظر ليكون مقيّداً لإطلاقات الأدلة الدالة على الاستصحاب أو البراءة، فالإطلاقات المذكورة محكمة لا وجه لتقييدها))(1).

أقول: يبعد الالتزام بجريان الاستصحاب في مثل هذا الشك، وأدلة حجيته منصرفة عن مثله، وبناء العقلاء –الذي هو دليل حجية الاستصحاب- على لزوم الفحص في بعض موارد هذه الشبهات، وكذا سيرة المتشرعة، إلا ما قام

ص: 49


1- مصباح الأصول: 47/592-593.

الدليل على عدم وجوب الفحص فيها بملاك التيسير على العباد ولا يستلزم تضييع أحكام الدين.وعلى أي حال فإننا لا نريد أن نطيل النقاش لأننا لسنا في بحث أصولي، وما نريد أن نثبّته هنا هو عدم صحة الاستناد إلى هذه الكبرى في الفروع التي سنتعرض لها بإذن الله تعالى كجواز السفر في شهر رمضان اختياراً بغضّ النظر عن الروايات، أو قل إن هذه الكبرى لا تصلح للمانعية فيما لو قام دليل على خلافها؛ لأن حاصل ما تقدم عدم وجود دليل على ما التزم به المشهور من كون الحضر من شرائط الوجوب.

نعم قد يدعى ظهور بعض الروايات في كون الحضر من شرائط الوجوب، كقوله (عليه السلام) في موثقة زرارة الآتية في مسألة النذر في السفر عن أبي جعفر، قال (عليه السلام): (لا تصوم، قد وضع الله عنها حقه) وهو ظاهر في عدم تكليفها به، وليس مجرد عدم صحته منها.

ويرد عليه: إن وضع الحق يعني إسقاط الأداء والامتثال وهو أعم من سقوط الوجوب، أو عدم صحة المأتي به على ذلك الحال، كالقول بسقوط الصلاة عن فاقد الطهورين بمعنى عدم تمكنه من الإتيان بها، مع أنها واجبة وعليه قضاؤها. وسنفصل الكلام هناك بإذن الله تعالى.

أدلة كون الحضر شرط واجب والإشكال عليه:

ويمكن التقدم أكثر في الإشكال على المشهور وادعاء وجود الدليل على أن الحضر من شروط الواجب لا الوجوب من خلال عدة وجوه نشير إليها باختصار، وسنتناولها بعناوين مستقلة إن شاء الله:

(الأول) وجود فروع فقهية دلّت عليها النصوص المعتبرة يستكشف منها ثبوت الوجوب على المسافر لكنه أُلزم بترك امتثال الواجب وهو مسافر لأن من شروط صحته الحضر وقضائه في ما بعد، سنتعرض لها في القسم الثاني من

ص: 50

الكتاب، ومن تلك الفروع: وجوب القضاء عنه إذا مات قبل أن يتمكن من القضاء لموته في شهر رمضان نفسه مثلاً، ووجوب القضاء على من أفطر لسفر وإن استمر عذره إلى رمضان المقبل، ومقتضى هذه الأحكام أن الوجوب ثابت وإن كان مسافراً ولا يتوقف على الحضر، وإنما لا يصح منه الصوم في السفر، ولذا وجب عليه القضاء وإن لم يتنجّز ظرفه.

وثبوت الكفارة على من أفطر متعمداً في نهار شهر رمضان ثم سافر، بعكس الحائض والنفساء مثلاً فإنها غير مكلفة بشيء من ذلك. مما يعني عدم السنخية بين اشتراط الخلو من الحيض والنفاس –الذي هو من شروط الوجوب قطعاً- واشتراط الحضر فيكون من شروط الواجب.

أو قد يقرّب بما سنقوله في الوجه الرابع بإذن الله من عدم إمكان تبعيض الفعل بلحاظ الوجوب وإمكان تبعيضه بلحاظ الصحة، ونهار الصائم يمكن تبعيضه بلحاظ السفر وعدمه، فهو من الثاني.

(الثاني) مقتضى التعليل الوارد في ذيل صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة مرضت في شهر رمضان وماتت في شوال فأوصتني أن أقضي عنها، قال: هل برأت من مرضها؟ قلت: لا، ماتت فيه، قال: لاتقضي عنها، فإن الله لم يجعله عليها)(1)

الحديث، بينما ورد في المسافر وجوب القضاء كما في موثقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت فماتت قبل أن يخرج رمضان هل يُقضى عنها؟ فقال: أما الطمث والمرض فلا، وأما السفر فنعم)(2) وغيرها مما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 51


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أحكام شهر رمضان، باب 23، ح12.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أحكام شهر رمضان، باب 23، ح16.

ومقتضى الجمع أن الصوم مما جعله الله تعالى على المسافر، وستأتي التفاصيل عند بحث الفرعين بإذن الله تعالى.

(الثالث) ما تقدم (صفحة 24-28) من دلالة جملة من الروايات على أن المبطل للصوم في السفر هو اقترانه بعنوان المعصية لنهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصوم في السفر إذا بلغه ذلك، لذا صحَّ من الجاهل، فالصوم في السفر مأمور به وواجب، إلا أنه إذا اقترن بالعلم بالنهي كان مبغوضاً ولا يمكن التقرب إلى المولى بما يبغضه، وهذا إخلال بشرائط الواجب لا الوجوب الذي هو ثابت.

وبتعبير آخر: إن المقتضي لوجوب الصوم موجود باقٍ، وإنما منع من صحته في السفر نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسمية من تعمد مخالفته بالعصاة.

(الرابع) إن الوجوب أمر بسيط وهيأة ارتباطية واحدة لجميع آناته غير قابل للتفكيك والتبعيض، وإن الصوم يتطابق فيه وقت الوجوب مع وقت الأداء، فوجوب الصوم غير قابل للتبعيض، فإما أن يوجد في تمام الوقت أو لا يوجد كذلك؛ لذا فإن المرأة لو رأت الدم ولو لحظة قبل الغروب بطل صومها ولو ارتكبت قبل ذلك ما يوجب الكفارة لا يترتب عليه أثر.

فاعتبار الحضر شرط وجوب ينافي هذا؛ لأن من سافر خلال النهار أو رجع إلى وطنه كذلك يكون بعض يومه متصفاً بالوجوب وبعضه لا، وهذا خلاف ما تقدم، أما لو كان شرط واجب فيمكن أن يوصف الواجب في بعض الوقت بأنه صحيح وفي بعضه الآخر أنه ليس بصحيح بلحاظ عروض المنافي كالسفر قبل الزوال مثلاً، والواجب هو ما يمكن أن يكون كذلك لأنه مركب من أجزاء وشرائط فيمكن أن يبدأ صحيحاً في الحضر ثم لا يكون كذلك إذا أنشأ سفراً.

ص: 52

وحينئذٍ يأتي إشكال بأن الحضر إذا كان من شروط صحة الصوم أي من شروط الواجب فكيف جاز السفر اختياراً، مع أن المسلّم عندهم أن شروط الواجب مما يجب تحصيله فيجب الحضر لأداء الصوم.وجوابه بعدم الالتزام بكبرى أن شروط الواجب مما يجب تحصيله كالذي قلناه في شروط الوجوب فإنهما مما لا دليل عليهما، ولا مانع من أن يرخّص المولى بترك الواجب من خلال عدم توفير شرطه مع قضائه في وقت آخر لمصلحةٍ ما، ففي المقام يمكن أن تكون المصلحة رفع الحرج الذي يسببه المنع من السفر طيلة شهر رمضان المبارك، أو مراعاة ذوي الإرادة الضعيفة عن امتثال الأمر بالصوم خصوصاً في الأيام الحارة فيوجِد لهم باباً شرعياً للخروج من عهدة التكليف، أو لجعله باباً للاحتياط والتخلص في أيام الشك.

ويوجد من ناقش أو خالف هذه الكبرى كالشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي ذهب إلى استحالة رجوع القيود إلى الهيأة أصلاً، ورجوعها كلها – ما يجب تحصيله وما لا يجب- إلى المادة أي الواجب(1).

والسيد الحكيم (قدس سره) الذي ذهب إلى التفصيل في شروط الواجب بين ما يجب تحصيله وما لا يجب قال (قدس سره): ((إن الحضر –لو سلم كونه شرطاً للوجود- فلم يؤخذ شرطاً على نحو يجب تحصيله كسائر شرائط الوجود، بل أُخذ بنحو لا يجب تحصيله))(2)

وسيأتي كلام له (قدس سره) في مسألة حرمة السفر على من بذمته واجب معين ليتمكن من أدائه، وستأتي مناقشته بإذن الله تعالى.

ص: 53


1- موسوعة السيد الخوئي: 44/142.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/381.

وخلاصة البحث: وجود المانع من القول بأن الحضر من شروط الوجوب، لثبوته على المسافر كما يستكشف من جملة من الفروع الفقهية التي دلّت عليها النصوص المعتبرة.

فهو من شروط الواجب الذي لا يصحّ من المسافر المقصّر في صلاته، ولا مانع من الالتزام بكونه مما يجوز تركه اختياراً للنص الخاص.

إن قلتَ: إن الإشكال ثابت على كلا التقديرين فكما يمكن أن يقال أن الحضر من شروط الواجب وثبت جواز السفر اختياراً بالدليل الخاص، كذلك يمكن أن يقال بأن الحضر من شروط الوجوب وإنما ثبت القضاء بالدليل الخاص في الموارد المذكورة، فالأمر فيهما سيان.

قلتُ: إن هذا بحد ذاته ردّ على المشهور الذي سلّم بكون الحضر من شروط الوجوب.

مضافاً إلى أنهما ليسا سيان فإن وجوب القضاء من دون تحقق شرطه، وهو تحقق القدرة على القضاء في الزمن القابل له، مما لا يمكن تفسيره بالنص؛ لأن النص لا يخالف الواقع، والقدرة من شروط التكليف، ولا قدرة على القضاء حتى يجب، لذا لم يجب على الحائض والنفساء.وبتعبير آخر: إن التعويل على النص يحلّ الإشكالات الإثباتية، والإشكال هنا ثبوتي.

أما اعتبار الحضر من شروط الواجب، وتفسير جواز السفر في شهر رمضان اختياراً بالنص فممكن أن يرخّص فيه الشارع لمصلحة مما ذكرنا ويأمر بالقضاء في أيام أخر.

فائدة: إذا أردنا تنظير المطلب بمورد آخر من الفقه فهي صلاة فاقد الطهورين، فإن الأقوى وهو المشهور أنها تسقط أداءً وتجب عليه قضاءً، فالطهور من شروط الواجب، فيسقط وجوب الامتثال أداءً، لكن وجوب

ص: 54

الفعل باقٍ فيصدق بذلك الفوات ويجب القضاء بفواته، وقد وقع القوم هناك بمثل هذا الإشكال وجوابه هذا.

تقريب لاعتبار الحضر شرط وجوب:

وفي ختام هذه الفقرة من البحث نقول: إن أبى الخصم إلا اعتبار الحضر وما بحكمه من شرائط الوجوب لا الواجب، فليكن على نحو يختلف عن شرطية العقل والخلو من الحيض والنفاس، وهذا الفرق ظاهر من آثارهما فرؤية الدم ولو لحظة من النهار تسقط وجوب الصوم وتبطله، بينما السفر ليس كذلك إذ يُصحَّح في بعض الأحوال.

وحينئذٍ يمكن تقنينه على أحد شكلين:

أولهما: فهم الوجوب على مستويات وأشكال من حيث الفعلية وعدمها عند فوات شرطه، بحيث قد تسقط مرتبة من مراتبها وتبقى مرتبة أخرى منها، فوجوب الصوم يسقط من أصله بطروّ الحيض والنفاس، لكنه يبقى بمرتبة من الاقتضاء توجب القضاء دون الأداء في السفر، وبذلك يضاف تقسيم جديد إلى تقسيمات الوجوب بلحاظ مراتبه يتكفل علم الأصول بتسميته وبيان خصائصه.

وبتعبير آخر: إن فوات بعض الشروط (تارة) تسقط المقتضي للتكليف –كالحيض والنفاس- فلا قضاء إلا بأمر جديد، و(تارة) تسقط الفعلية أو التنجيز ويبقى الوجوب في مرحلة الاقتضاء ومنه السفر بلحاظ الصوم على أن يتنجّز ويصبح فعلياً إذا انتفى السفر الموجب للإفطار أو انتهى وقت الأداء.

وهذا مطلب يقدم كأطروحة لحل بعض المشاكل الأصولية في مبحث الأوامر كالترتب.

ص: 55

ثانيهما: أن تُصنَّف شرائط ومقدمات الوجوب إلى ما يكون على نحو الشرط –كأحد أجزاء العلة بالمعنى العقلي- وإلى ما يكون على نحو عدم المانع، فالخلو من الحيض والنفاس، والعقل أخذت على نحو الشروط بالمعنى العقلي للوجوب، أما الحضر فأخذ على نحو عدم المانع للوجوب أي أن السفر مانع عن الوجوب الذييكون ثابتاً إلا أن استقراره مراعى بالحضر، ولا بد أن يعاد النظر في كبرى أن مقدمات الوجوب لا يجب تحصيلها في ضوء هذا التصنيف.

نكتة: يظهر من عدة نصوص أن المانع المذكور هو نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تقدم (صفحة 35) في صحيحتي عبد الرحمن بن أبي عبد الله والحلبي، فإذا ثبت أن صوماً ما لم يتعلق به نهي فيكون صحيحاً؛ لذا صحّ صوم غير العالم بالنهي.

ويمكن إطلاق العنان للخيال ليحدس –والله العالم- أن حكم الصوم في السفر –بحسب القضاء الإلهي- كان التخيير بين الصوم والإفطار لمراعاة حال المسافرين عبر الأزمنة وتنوع وسائط النقل، لكن إصرار بعض الصحابة على الصوم بشكل يُخشى منه أن يؤدي إلى تضييع الرخصة التي تصدَّق الله تعالى بها على عباده حدا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفرض حكم الإفطار تعييناً بعد أن كان تخييراً وأُقرَّ كتشريع.

وسيأتي في عدة مواضع من البحث قراءة الروايات بنحو يعطي هذه النتيجة. نعم قد يُدّعى ظهور بعض الروايات في كون السقوط عزيمة لا رخصة كما في موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته ما حد المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر «مَن كانَ مَرِيضاً أو عَلى سَفَرٍ» إلخ)(1).

وفيه:-

ص: 56


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 20، ح4.

1- إن لفظ (يجب) ورد في كلام السائل وهو ليس بحجة ولم يثبت تقرير الإمام (عليه السلام) له لأنه في مقام البيان من جهة أخرى.

2-إن الوجوب لغةً بمعنى الثبوت كقوله تعالى: «وَجَبَتْ جُنُوبُهَا» وثبوت الإفطار أعم من كونه لسقوط الأمر به أم لصحته.

3-ولو تنزلنا فإنه على القول بكون الإفطار في السفر رخصة يكون الصوم في السفر أحد فردي التخيير ويتحقق به الامتثال فيصدق عليه كونه (واجباً) لهذا المعنى.

ومما تقدم يظهر أكثر من ثمرة لهذا البحث، ومنها فهم مناطات الأحكام الفرعية في هذا العنوان وتحقيق الانسجام بينها وفق منظومة متسقة وليس التعامل معها كأحكام مشتتة غير متناسقة. وستأتي تفاصيل أخرى عند مناقشة بعض الفروع الآتية كلزوم الإقامة للإتيان بالنذر المعين ونحوه بإذن الله تعالى.

فائدة: قلنا إن صاحب العروة (قدس سره) جعل عنوانين أحدهما لشرائط الصحة والآخر لشرائط الوجوب، وأعاد ذكر جملة من الشروط مما اعتبره البعض تكراراً لا وجه له.

ومما تقدم يظهر وجه لهذا التقسيم يريد أن يقول من خلاله أن بعض الشروط مشتركة بينهما وبعضها خاص بالوجوب دون الصحة كالبلوغ فإن صوم الصبي ليسواجباً إلا أنه يصح منه. وبعضها خاص بالصحة دون الوجوب كالإسلام فإن غير المسلم مكلّف بالصوم إلا أنه لا يصح منه.

وعلى ما اخترناه فإن الحضر وما بحكمه من شرائط الصحة دون الوجوب، بمعنى الوجوب الاقتضائي الذي ذكرناه.

ص: 57

الموارد المستثناة من حكم الإفطار في السفر

يندرج تحت هذا العنوان عدة موارد، يُبحث بعضها في مواضع أخرى، نذكر منها:

(الأول) صوم ثلاثة أيام بدل الهدي عند عدم وجدانه:

بلا خلاف ولا إشكال، قال تعالى: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ» (البقرة: 196) فيُتمسك بإطلاقها الشامل لمن لا يصح منه الصوم في السفر –كمن لم ينو الإقامة- وقد دلت عليه روايات معتبرة عديدة في كتاب الحج، أبواب الذبح، وليس هذا محل عرضها.

(الثاني) صوم بدل البَدَنة ممن أفاض من عرفات قبل الغروب عامداً وهو ثمانية عشر يوماً:

يجب على الحاج الوقوف بعرفة إلى الغروب فلو أفاض قبل ذلك عامداً كانت عليه كفارة بدنة، فإن عجز عنها صام ثمانية عشر يوماً مخيراً بين الإتيان به في مكة أو في الطريق أو بعد الرجوع إلى أهله، كما دلّت عليه النصوص فيُتمسك بإطلاقها ومحل المسألة في كتاب الحج.

(الثالث) صوم ثلاثة أيام في المدينة أيام الأربعاء والخميس والجمعة لطلب حوائج الدنيا والآخرة:

وقد ثبت استحبابه بالروايات المعتبرة بغضّ النظر عن البحث الآتي في جواز الصوم المندوب في السفر، ومن تلك الروايات صحيحة معاوية بن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): صُم الأربعاء والخميس والجمعة وصلّ ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء عند الاسطوانة التي تلي رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليلة الخميس ويوم الخميس عند اسطوانة أبي لبابة، وليلة

ص: 58

الجمعة عند الاسطوانة التي تلي مقام النبي (صلى الله عليه وآله) ))(1) الحديث.

وروايات الباب تعيّن أيام الصوم بالمذكورات ولا توجد رواية مطلقة لتُفهم الثلاثة على نحو تعدد المطلوب، فقول صاحب العروة (قدس سره): ((والأفضل إتيانها في الأربعاء والخميس والجمعة)) لا وجه له إلا إلغاء الخصوصية وهو مما لا دليل عليه، خصوصاً عنده (قدس سره) حيث منع من الصوم المندوب في السفر.

نعم عند من يجوزه يمكن صوم الثلاثة في غير الأيام المذكورة بداعي الاستحباب العام، ولعله (قدس سره) ذكر الأفضلية بلحاظ القائلين بالجواز مطلقاً فأراد تنبيههم إلى الفعل المخصوص، أو أراد التفضيل المطلق لا المضاف بلحاظ الأفراد الأخرى، ومنه يعلم وجه للدفاع عن المصنف (قدس سره) أمام من استشكل عليه بهذا.وسيأتي تفصيل الكلام في هذه المسألة في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

أما ما نريد بحثه هنا فهي عدة موارد

ص: 59


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المزار، باب 11، ح4.

(الأول: الصوم المندوب)

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((الأقوى عدم جواز الصيام المندوب في السفر))، وحكى القول بعدم الجواز ((عن الصدوقين والقاضي والحلي وجماعة من المتأخرين بل هو المشهور عند القدماء كما صرّح به المفيد بل يظهر منه أن عليه عمل فقهاء العصابة، وقال الحلي: إنه مذهب جملة المشيخة الفقهاء من أصحابنا المحصّلين))(1).

أقول: وصف هذا القول بالمشهور عند القدماء غير دقيق، نعم صرّح به الصدوقان أما الشيخ المفيد (قدس سره) فإنه ظاهر أول كلامه في المقنعة حيث قال: ((ولا يجوز لأحد أن يصوم في السفر تطوعاً ولا فرضاً))(2)

واستثنى من التطوع صوم ثلاثة أيام للحاجة في المدينة والنذر، لكنه (قدس سره) قال بعد ذلك: ((وقد روي حديث في جواز التطوع في السفر بالصيام، وجاءت أخبار بكراهة ذلك، وأنه ليس من البر الصيام في السفر، وهي أكثر وعليها العمل عند فقهاء العصابة، فمن أخذ بالحديث لم يأثم إذا كان أخذه من جهة الاتباع، ومن عمل على أكثر الروايات واعتمد على المشهور منها في اجتناب الصيام في السفر على كل وجه سوى ما عددناه كان أولى بالحق)) فظاهر كلامه الأخير الجواز، وقال الشيخ (قدس سره) في النهاية: ((يكره صيام النوافل في السفر على كل حال، وقد وردت رواية في جواز ذلك، فمن عمل بها لم يكن مأثوماً، إلا أن الأحوط ما قدمناه))(3)،وقال نحوه في المبسوط(4)،أما السيد المرتضى وسلار فقد ذكرا رواية الجواز ولم يعلقا.

ص: 60


1- مستند الشيعة: 10/349.
2- المقنعة، للشيخ المفيد: 350.
3- النهاية: 162.
4- المبسوط: 1/285.

واستدل على المنع بصحيحة البزنطي قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصيام بمكة والمدينة ونحن في سفر، قال: أفريضةٌ؟ فقلت: لا ولكنه تطوع كما يتطوع بالصلاة، فقال: تقولُ: اليوم وغداً؟ قلتُ: نعم، فقال: لا تصم)(1).

وذيل موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) الواردة في من نذر صوم شهر فسافر وفيها: (إذا سافر فليفطر لأنه لا يحل له الصوم في السفر فريضة كان أو غيره، والصوم في السفر معصية)(2).وما رواه العياشي مرفوعاً إلى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصوم في السفر تطوعاً ولا فريضة)(3).

وصحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوم في السفر في شهر رمضان ولا غيره، وكان يوم بدر في شهر رمضان، وكان الفتح في شهر رمضان)(4)

بضميمة عمومات المنع التي تقدمت (صفحة 24 وما بعدها) الكاشفة عن أن ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصوم في السفر للنهي عنه.

وبهذا يرد على تعليق صاحب الوسائل على رواية العياشي إذ قال في ذيلها: ((هذا لا يدل على التحريم بوجه لأنه كان يترك المحرمات والمكروهات وكثيراً من المندوبات والمباحات)).

ويمكن أن يستدل على عدم الجواز بما يأتي في البحث التالي من عدم صحة نذر الصوم في السفر إذا أطلق ولم يقصد السفر، لعدة روايات دلّت

ص: 61


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 12، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح8.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 12، ح6.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 11، ح4.

على ذلك، ولو كان الصوم المندوب جائزاً في السفر لصحّ نذره ولوجب الوفاء به.

فالروايات المانعة عن صحة نذر الصوم في السفر إذا أطلق كاشفة عن منع الصوم المندوب في السفر الذي هو موضوع النذر كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

وقيل بالجواز مطلقاً –كما عن ابن حمزة- أو مع الكراهة وحكي عن ((جماعة –كالتهذيبين والنهاية والوسيلة والشرائع والشهيد، وجمع آخر، بل نسب إلى الأكثر- فجوّزوه مع الكراهة كبعضهم أو بدونها كآخر))(1)

لعدة روايات تفيد الجواز، فحملوا النهي في الطائفة الأولى على الكراهة جمعاً بينها كصحيحة سليمان بن جعفر الجعفري قال: (سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: كان أبي (عليه السلام) يصوم يوم عرفة في اليوم الحار في الموقف ويأمر بظلّ مرتفع فيُضرب له)(2).

وخبر إسماعيل بن سهل عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خرج أبو عبد الله (عليه السلام) من المدينة في أيام بقين من شعبان، فكان يصوم ثم دخل عليه شهر رمضان وهو في السفر فأفطر فقيل له: تصوم شعبان وتفطر شهررمضان؟ فقال: نعم شعبان إليّ إن شئت صمت وإن شئت لا، وشهر رمضان عزم من الله عز وجل عليّ الإفطار)(3).

وخبر الحسن بن بسام عن رجل قال: (كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في ما بين مكة والمدينة في شعبان وهو صائم، ثم رأينا هلال شهر رمضان فأفطر، فقلت له: جُعلتُ فداك، أمس كان من شعبان وأنت صائم

ص: 62


1- مستند الشيعة: 12/350.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 12، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 12، ح4.

واليوم من شهر رمضان وأنت مفطر؟ فقال: إن ذلك تطوع ولنا أن نفعل ما شئنا، وهذا فرض فليس لنا أن نفعل إلا ما أُمرنا)(1).

ولا يخفى ما في سند الخبرين من ضعف في السند من عدة جهات ففيها عدد من الضعاف والمجاهيل، وجبره البعض بعمل المشهور، و ((الاعتضاد بإطلاق ما دلّ على صوم التطوع الذي بينه وبين ما دل على حرمة الصوم تعارض العموم من وجه))(2).

أقول: لم تثبت كبرى انجبار ضعف الخبر بعمل المشهور عندنا، كما لم تثبت الصغرى أي شهرة العمل بها عند القدماء لينجبر الضعف عند من قال بهذه الكبرى، قال السيد صاحب الرياض: ((إلا أنهما ضعيفا السند غير معلومي الجابر حتى الشهرة، لكونها متأخرة، وأما القديمة فهي على المنع مطلقاً، كما يستفاد من المفيد في المقنعة))(3).

مضافاً إلى استبعاد رواية رجل مجهول لمثل هذه الحالة عن الإمام (عليه السلام) ولم ينقلها أحد من خواصه وأهل بيته الذين كانوا يرافقونه في مثل هذه الأسفار كما تشهد روايات عديدة.

أما الاعتضاد المذكور فغريب لأن النسبة وإن كانت بحسب الظاهر العموم من وجه –باعتبار إطلاق استحباب الصوم في السفر والحضر وإطلاق حرمة الصوم في السفر سواء كان فريضة أو ندباً فيتعارضان في المجمع وهو محل البحث- إلا أنها بالتأمل وبملاحظة أقوائية الظهور وبشهادة الوجدان بقوة العموم المطلق أي أن أدلة الحرمة مقيدة لاستحباب التطوع بالصوم.

ص: 63


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 12، ح5.
2- كما في جواهر الكلام: 16/339.
3- رياض المسائل: 5/400.

أما صحيحة الجعفري فإنها لو تمت دلالتها على المراد فإنه يتعذر الجمع الذي ذكروه بحمل روايات المنع على الكراهة؛ لأن موثقة عمار آبية عن الحمل على الكراهة فلا يمكن الجمع بينهما بالحمل على الكراهة.مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من أن الكراهة في المقام يراد بها أقلية الثواب، وهي غير الكراهة بمعنى المرجوحية التي تكون ظاهر حصيلة الجمع بين الطلب والنهي هنا لقوله (عليه السلام): (معصية) و (لا يحل).

ولعل القائل بالجواز مطلقاً نظر إلى ما ذكرناه من عدم إمكان الجمع فأخذ بمفاد روايات الجواز فقط من دون جمع، مع استبعاد التزام الإمام (عليه السلام) الظاهر من قوله: (كان أبي يصوم) بأمر مكروه.

ومنع المحقق صاحب الحدائق (قدس سره) من الحمل على الكراهة بناءً على ما كرره في غير موضع ((من أن حمل اللفظ الدال على التحريم على الكراهة وإخراجه عن حقيقته مجازٌ لا يصار إليه إلا مع القرينة، ووجود المعارض من الأخبار ليس قرينة على ذلك، وأيضاً فإن الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بالدليل الواضح، واختلاف الأخبار ليس بدليل على ذلك، ولعل أخبار الجواز إنما خرجت مخرج التقية كما هو الغالب في اختلاف الأخبار))(1).

أقول: رددنا على هذا المبنى في غير موضع.

وفي ضوء ما تقدم تكون النتيجة وقوع التعارض بينها، فنُعمل المرجحات وهي لمصلحة القول بعدم الجواز كموافقة الكتاب وبيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفة العامة حيث أصبح الإفطار في السفر من مميزات مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

لكن الذي يزيل الإشكال من أصله أن الصحيحة قاصرة عن معارضة ما دل على المنع لأكثر من وجه:-

ص: 64


1- الحدائق الناضرة: 13/200.

1- إنها خاصة بموردها –أي يوم عرفة- فيمكن الالتزام بخروج هذا المورد عن عمومات المنع كما خرج صيام ثلاثة أيام بالمدينة، والتجريد عن الخصوصية إلى كل صوم مندوب لا وجه له، فلا ظهور للصحيحة في جواز مطلق الصوم المندوب.

2- لو تنزلنا وقبلنا ظهور الرواية في جواز الصوم المندوب فإن الظاهر لا يعارض الصريح في الروايات المانعة فلا بد من توجيهها بما لا ينافيه.

3- إن الرواية تحكي فعل المعصوم (عليه السلام) وهو مجمل، ولا دليل على أن صوم أبي الحسن (عليه السلام) كان ندباً فلعله فرض عليه بالنذر المشترط بالسفر ونحوه مما قالوا بجوازه، وليعلم الآخرين أن الصوم يوم عرفة ليس مرجوحاً إذا لم يضعف عن الدعاء يوم عرفة.

أو إنه كان ثالث ثلاثة بدل الهدي لأنه كان محل إشكال عند البعض كما يظهر من صحيحة رفاعة بن موسى قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتمتع لا يجد الهدي، قال: يصوم قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة) إلى أن قال: (قلت: يصوم وهو مسافر؟ قال: نعم، أليس هو يومعرفة مسافراً؟ إنا أهل بيت نقول ذلك لقول الله عز وجل: «فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ»)(1).

ولا يضرّ في هذه الاحتمالات التعبير في الرواية بقوله: (كان أبي يصوم) الدالة على الاستمرار لإمكان تكرار الفعل لتأكيد الأغراض المذكورة.

4- إن الرواية مجملة من جهة ما نحن فيه وظاهرها أنها مسوقة لمشروعية صوم يوم عرفة لمن كان على صعيدها أو كان الحر شديداً وإن

ص: 65


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 46، ح1.

أضعفه ذلك عن العمل مثلاً ونحوها، وليست بصدد البيان من جهة كون هذا الصوم مندوباً أو على أي نحو آخر.

5- إن المسافة من مكة إلى عرفة وإن كانت موجبة للقصر يومئذٍ فتوجب الإفطار أيضاً، إلا أنه من الممكن تصور السفر على نحو لا يوجب القصر والإفطار كما لو كان سفر مراحل بأن نوى الإمام (عليه السلام) الخروج من مكة إلى منى يوم الثامن للاستحباب ونحوه، ومن هناك قصد عرفة يوم التاسع وهي مسافة لا توجب القصر.

6- إن موثقة عمار سمّت مثل هذا الصوم معصية وهي مما لا يُتصور صدورها من المعصوم (عليه السلام) خصوصاً وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصم فرضاً ولا ندباً في السفر بحسب صحيحة زرارة المتقدمة، والإمام المعصوم (عليه السلام) أولى الناس بالتأسي به (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي ضوء هذه الأمور فلا بد من حمل الصحيحة على صومٍ جائز في السفر كثلاثة بدل الهدي، أو النذر المشترط في السفر –على القول به- ونحوه مما سيأتي بإذن الله تعالى، وهذا التقييد لا بد من ارتكابه بلحاظ الروايات المانعة.

تتميم: ذكرت وجوه أُخر للاستدلال على الجواز مع الكراهة، منها:

الأول: بقراءة الروايات على نحو آخر، كالذي قرّبه السيد صاحب الرياض بصحيحة البزنطي، قال (قدس سره): ((إن المفهوم من الصحيحة الفرق بين الصوم الفريضة والنافلة، لسؤاله عليه السلام في مقام الجواب عن كون صومه أيهما، ولولا الفرق لاتجه الجواب به ب-:(لا تصم) مطلقاً من غير استفسار.

ص: 66

فهو أوضح شاهد على الفرق، وليس إلا كون النهي في النافلة للكراهة، إذ لا فارق آخر بينهما غيره إجماعاً. فما عليه الأكثر لعله أظهر))(1)

وأخذ به صاحب الجواهر(2)

(قدس سره).وأيده بالروايات المذكورة الدالة على الجواز.

أقول: الوجه مع لطافته إلا أنه لا يصلح كدليل للجواز خصوصاً مع وجود الروايات المانعة، مع أن الفرق لا ينحصر بهذا إذ يمكن أن يكون وجهه الاستغراب من السؤال لوضوح الحكم بالنسبة إلى الفريضة فلما علم (عليه السلام) أنه تطوع أجابه.

أو ما احتمله المحقق النراقي (قدس سره) من إمكان ((أن يكون الاستفسار لأمر آخر غير ما ذكر، مثل أن يكون غرضه أنه لو كان فريضة يأمره بالمقام والصيام إن أمكن، سيما إن كانت الفريضة مما يتضيق وقتها كواجب معين، أو كان غرضه أنه إن أجاب بالفرض يستفسر عن أنه هل هو النذر المقيد أم غيره))(3).

وعنون صاحب الوسائل (قدس سره) الباب بجواز الصوم المندوب في السفر على كراهة، ووجّه صحيح البزنطي بأنه ((مخصوص بمكة والمدينة وبمن يقول: اليوم وغداً)) وعلّق على موثقة عمار بقوله: ((هذا يحتمل الحمل على الكراهة في الندب، وعلى غير الفريضة من الواجبات بالسنة، وعلى التطوع المنذور بقرينة أوله))(4).

ص: 67


1- رياض المسائل: 5/401.
2- جواهر الكلام: 16/339.
3- مستند الشيعة: 10/352.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 12، ذيل الحديث 9.

أقول: هذه محامل بعيدة ومخالفتها للظاهر واضحة، وغاية المناقشات المذكورة إجمال الطائفتين وسقوط حجيتها عن المطلوب فنرجع إلى عمومات المنع.

الثاني: ((فحوى ما دلّ على جواز نذره الظاهر في ثبوت مشروعيته قبله))(1).

أقول: هذا الوجه لا يثبت المشروعية قبل النذر، إذ لعل الصوم المندوب في السفر محرم بعنوانه، إلا أنه إذا تغيّر العنوان بالنذر أصبح جائزاً، وهذا ما نبحثه في العنوان التالي بإذن الله تعالى.

وقد قربنا (صفحة 62) الاستدلال بنفس الوجه على عدم الجواز من جهة عدم صحة النذر المطلق.

الثالث: لقاعدة التسامح بأدلة السنن.

ويرد عليه: أنها لا تجري هنا؛ لأن الصوم في السفر محرم، إلا ما خرج بدليل معتبر فلا موضوع للقاعدة.ويرجّح المنع –على نحو ما قلناه في المرجح المساوي- ما ورد من عدم صوم ثلاثة أيام المسنونة لكل شهر في السفر وقضائها لاحقاً وهي من أوضح الصوم المندوب، فلو كان جائزاً لكان صوم الثلاثة أيام أولى مصاديقه، ومما ورد في ذلك موثقة(2)

عبد الله بن سنان في حديث قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يصوم (صوماً وقد وقّته على نفسه أو يصوم من)(3) أشهر الحرم فيمر به الشهر والشهران، يقضيه؟ قال: فقال: لا يصوم في السفر

ص: 68


1- جواهر الكلام: 16/339.
2- في السند عمرو بن عثمان وهو مشترك بين الثقة وغيره، ويُعلم أنه الثقفي الثقة بقرينة الطبقة ورواية ابن فضال عنه (راجع رجال النجاشي).
3- هذه الزيادة رواها في ح6، باب10، أبواب من يصح منه الصوم، وتركها هنا.

ولا يقضي شيئاً من صوم التطوع إلا الثلاثة الأيام التي كان يصومها في كل شهر، ولا يجعلها بمنزلة الواجب إلا أني أحب لك أن تدوم على العمل الصالح)(1).

وصحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن صوم ثلاثة أيام في الشهر هل فيه قضاء على المسافر؟ قال لا)(2)،بتقريب المفروغية من عدم صحة الصوم في السفر فيسأل عن القضاء.

ورواية المرزبان بن عمران(3)

قال: (قلت للرضا عليه السلام: أريد السفر فأصوم لشهري الذي أسافر فيه؟ قال: لا، قلت: فإذا قدمت أقضيه؟ قال: لا، كما لا تصوم كذلك لا تقضي)(4).

ص: 69


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 21، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 21، ح 3.
3- الأشعري القمي: لم يوثق له كتاب رواه صفوان فيوثق عند من يكتفي بذلك.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 21، ح4.

(الثاني: الصوم المنذور في السفر)

وقوع الصوم المنذور في السفر له حالات ثلاث بلحاظ إرادة وقصد الناذر له:

الأولى: أن يطلق النذر ويهمل لحاظ السفر كأن يُحدد نذره بصوم كل خميس من دون التفات إلى أنه قد يقع سفر في يوم الخميس فهل يشمله بنذره أم لا؟ فهنا نذره مهمل من هذه الناحية، وإن كان اللفظ بذاته مطلقاً شاملاً لكل خميس لكن الناذر لم يطلق نذره بهذا اللحاظ.

الثانية: أن يطلق نذره مع إرادة الناذر للإطلاق سواء صادف الخميس كونه حاضراً أو مسافراً، أي لاحظ في التزامه بالنذر حتى لو وقع سفر في اليوم المعين.

الثالثة: أن ينذر صوماً معيناً ويقيّده بكونه في السفر كأن ينذر أن يسافر كل خميس لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) صائماً.

وقد اختلف الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في صحة هذا الصوم ولزوم الوفاء به بحسب ما يستظهر من الروايات. فمنهم من أوجبه مطلقاً كالشيخ المفيد (قدس سره) والمشهور أوجبه في خصوص الثانية والثالثة، واستشكل المحقق الحلي والسيد صاحب المدارك والعلامة المجلسي (قدس الله أرواحهم) في قول المشهور، واستشكل صاحب الحدائق (قدس سره) ولذا احتاط(1)

ومثله السيد صاحب الرياض (قدس سره) بعدم إيقاع مثل هذا النذر.

وقبل قراءة الروايات ومناقشة الدليل الإثباتي، نشير إلى إشكال ثبوتي حاصله: أن الصوم في السفر معصية كما نطقت به الروايات(2)،وقد أجمعوا

ص: 70


1- الحدائق الناضرة: 13/193.
2- مثل صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سمى رسول الله صلى الله عليه وآله قوماً صاموا حين أفطر وقصر عصاةً، وقال: هم العصاة إلى يوم القيامة، وإنا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا) وسائل الشيعة: 8/518، أبواب صلاة المسافر، باب22، ح5.

على أنه يشترط في صحة النذر ولزومه أن يكون متعلقه راجحاً أو متساوياً على أقل التقادير، فكيف يمكن تصور صحة هذا النذر؟ وإذا لم يصح النذر فالحديث عن صحة الصوم سالبة بانتفاء الموضوع، ونتيجته أنه إذا وجدت رواية على صحته في الجملة فلا بد من تأويلها بناءً على هذا الإشكال العقلي، وقد يتحصل لدينا من تحرير هذا البحث أن منعهم من الوجوب هنا مع وجود الروايات المعتبرة في بعض موارد النذر هو لهذا الإشكال الثبوتي الذي ولَّد قناعة بعدم قبول الروايات لأمر أو لآخر، باعتبار أن الحكم بكون متعلق النذر أمراً راجحاً عقلي غير قابل للتخصيص وإن كان صريح كلماتهم أن منشأ الإشكال هو عدم تمامية الدليل.والملاحظ أن كثيراً من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لم يتعرضوا لهذا الإشكال هنا(1)

وانشغلوا بمناقشة الدليل الإثباتي كما سيأتي بإذن الله تعالى.

لكن بعضهم تعرّض له في كتاب الحج (مسألة الإحرام قبل الميقات بالنذر)(2)

فمنع منه البعض انطلاقاً من هذا الإشكال –كما سيأتي في كلام صاحب العروة (قدس سره)- فيمكن أن يكون الإشكال هو نفسه في مسألة الصوم المنذور في السفر، خصوصاً إذا اتفق القول في المسألتين على المنع.

وقد منعت الأحاديث الشريفة من الإحرام قبل الميقات وشبّهته بالصلاة

ص: 71


1- لاحظ: مدارك الأحكام: 6/148-149، رياض المسائل: 5/398، مستند الشيعة: 10/352-354، جواهر الكلام: 16/334-338، مستمسك العروة الوثقى: 8/408، المستند في شرح العروة الوثقى: 21/464-468، وقد وجدتُ لاحقاً أن المرحوم السيد محمد الشيرازي (قدس سره) قد أشار إليه هنا في كتابه (الفقه: 35/383).
2- كصاحب العروة الوثقى وشرّاحها، راجع المستند في شرح العروة الوثقى: 24/317.

قبل الوقت(1) إلا أن روايات معتبرة صححته بالنذر، ومما ورد في ذلك صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل جعل لله عليه شكراً أن يحرم من الكوفة، قال: فليحرم من الكوفة وليفِ لله بما قال)(2)،والأولى التعرّض للإشكال هنا في كتاب الصوم لأنه أسبق بحسب المنهج الفقهي المتعارف، وقد ذكروه شاهداً في كتاب الحج وكأنه مسلَّمٌ مع أنه لم تسبق مناقشته.

قال السيد صاحب العروة (قدس سره) في مسألة الإحرام قبل الميقات بالنذر: ((ولا يضر عدم رجحان ذلك بل مرجوحيته قبل النذر مع أن اللاّزم كون متعلق النذر راجحاً، وذلك لاستكشاف رجحانه بشرط النذر من الأخبار، واللاّزم رجحانه حين العمل ولو كان ذلك للنذر، ونظيره مسألة الصوم في السفر المرجوح أو المحرّم من حيث هو مع صحّته ورجحانه بالنذر، ولا بدّ من دليل يدل على كونه راجحاً بشرط النذر، فلا يرد أن لازم ذلك صحّة نذر كل مكروه أو محرّم، وفي المقامين المذكورين الكاشف هو الأخبار، فالقول بعدم الانعقاد –كما عن جماعة لما ذكر- لا وجه له، لوجود النصوص وإمكان تطبيقها على القاعدة))(3).

أقول: توضيح كلامه (قدس سره) في تطبيق الحكم على القاعدة: بأن المنذور وإن كان مرجوحاً في نفسه إلا أنه أصبح راجحاً في ظرف العمل بالنذر وهذا كافٍ للزومه ووجوب الوفاء به، ولا ينقض عليه بإمكان تعلّق النذر بكل حرام أو مكروه إذا كانيصححه النذر؛ لأن القول بالصحة عند تعلق النذر ليس مطلقاً وإنما إذا دلّ الدليل عليه.

ص: 72


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المواقيت، باب 9، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المواقيت، باب 13، ح1.
3- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/317.

ويرد عليه: أنه ما دام قد اعترف (قدس سره) بأن اللازم كون متعلق النذر راجحاً، فإن صحة النذر لا يمكن تفسيرها بالدليل الخاص لأن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص، والنذر لا يقلب الواقع عما هو عليه أو قُل إنه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم مع أن الثاني متأخر عن الأول.

وعليه فلا بد من وجه آخر لتفسير صحة النذر إذا دلّ الدليل على صحته، بغير النذر نفسه.

وأورد عليه السيد الحكيم (قدس سره) بأن ((هذا على ظاهره غير معقول، لأن صحة النذر مشروطة بمشروعية المنذور، فلو كانت مشروعيته مشروطة بالنذر لزم الدور، ولا يمكن العمل بالأخبار إذا دلت على أمر غير معقول))(1).

وأجاب السيد الخوئي (قدس سره) على إشكال الدور بأن: ((المتوقَف عليه يغاير المتوقِف عليه فلا دور، لأنّ صحّة النذر وإن كانت متوقفة على رجحان متعلقه ولكن رجحان المنذور غير متوقف على صحّة النذر، بل إنما يتوقف على نفس النذر))(2).

أقول: هذا الجواب قد لا يحل الإشكال لأن رجحان المنذور لا يتوقف على النذر بما هو هو بل بما هو صحيح أي أن الرجحان متوقف على الصحة فيرجع الإشكال.

والجواب على إشكال الدور يمكن أن يكون بأكثر من وجه:

(منها) أن يقال في المقدمة الأولى أن صحة النذر متوقفة على رجحان متعلقه أو قيام الدليل على صحته كما في المقام فينحلّ الإشكال.

ونتيجته القول بالتخصيص الذي لم نرضه.

ص: 73


1- مستمسك العروة الوثقى: 11/298.
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/320.

(ومنها) أن هاتين المقدمتين لا تجتمعان لأن من يقول في المقدمة الثانية بأن الرجحان متوقف على صحة النذر، لا يقول بالمقدمة الأولى أي توقف صحة النذر على رجحان متعلقه.

والصحيح في الجواب أن يقال: أن أصل هذا الإشكال الثبوتي غير وارد لأنه ليس كل صوم في السفر معصية بدليل الاستثناءات الموجودة كالعاصي بسفره ومن عمله السفر والموارد المتقدمة، وإنما المعصية ما تعلق به نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونطقت بذلك روايات عديدة، فإذا دلّ الدليل على صحة الصوم المنذور في السفر فإنه غير منهي عنه وليس مرجوحاً فيزول الإشكال من أصله.

وبعبارة أخرى: إن اشتراط عدم كون متعلق النذر مرجوحاً حكم عقلي، لقبح التقرب بعمل مبغوض.والأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص، إلا أنه إذا ورد دليل معتبر على صحة فرد من أفراد الصوم في السفر فإنه يكشف عن خروج هذا الفرد من عموم المنع، وإن عمومات حرمة الصوم في السفر لا تشمل هذا الفرد فلا يكون قبيحاً ويصح تعلق النذر به؛ لأن الصوم المحرم في السفر ما نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا دل الدليل المعتبر على صحة تعلق النذر به فإنه يكشف عن عدم دخوله في المنهي عنه.

وإنما خرج بعض الأفراد عن عموم النهي لملاك في كل منها، كحرمان العاصي بسفره من هدية الله تعالى، أو من عمله السفر يعتاد عليه فلا توجد مشقة حتى يكون حكمه الإفطار ونحوها، فناذر الصوم في السفر له ملاك أيضاً.

والملاحظ أن كلا التشريعين –لزوم الإفطار في السفر، والإحرام من المواقيت- من جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما دلّت عليه الروايات الشريفة، فيمكن أن يكون مجعولاً في مورد دون آخر. ويمكن لمعصومٍ آخر أن يتحرك خارج هذا التشريع، كالزكاة التي فرضها رسول الله (صلى

ص: 74

الله عليه وآله وسلم) على الأصناف التسعة، وأضاف أمير المؤمنين (عليه السلام) إليها الخيل وقد تقدّم البحث فيها(1).

ومما تقدم اتضح أن خروج صوم المنذور في السفر بالتخصص لا التخصيص، فليس هو استثناءً من الحكم بلزوم رجحان متعلق النذر حتى يقال بأن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.

ومما تقدم يظهر الإشكال في معالجة السيد الخوئي، قال (قدس سره): ((ويمكن أن نلتزم بالتخصيص في المورد بدعوى أن لزوم الرجحان في متعلق النذر ليس من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص، وإنما هو حكم شرعي تعبدي يقبل التخصيص، فيمكن الالتزام بوجوب الوفاء بالنذر في مورد نذر الإحرام قبل الميقات ونذر الصوم في السفر وإن كان الرجحان فيهما ناشئاً من قبل النذر، لاستكشاف رجحانه بشرط النذر من النص.

وبتعبير آخر: لو اعتبرنا الرجحان النفسي في متعلق النذر فلا محيص عن التخصيص بالنص الوارد في الموردين، وإن اعتبرنا مطلق الرجحان ولو كان الرجحان ثابتاً في ظرف العمل وناشئاً من قبل النذر فلا موجب للتخصيص، فإن الإحرام قبل الميقات وإن كان مرجوحاً في نفسه إلاّ أنه راجح في ظرفه بالنذر فالشرط حاصل.

والظاهر أن ما ذكره المصنف من الاكتفاء بالرجحان في ظرف العمل الناشئ من قبل النذر هو الصحيح، ولا داعي للالتزام بالرجحان الذاتي مع قطع النظر عن تعلق النذر به، إذ لا دليل لفظي على اعتبار الرجحان في متعلق النذر، وإنما استفدنا ذلك من أن النذر جعل شيء على ذمّته لله تعالى، فلا بدّ أن يكون ذلك الفعل قابلاً للإضافة إليه تعالى والاستناد إليه سبحانه، وما كان مرجوحاً في نفسه غير قابل للإضافة إليه تعالى، ولكن يكفي في ذلك مجرد كون

ص: 75


1- هذا بحسب ترتيب الدرس قد تأخرت هذه المسألة في الطبعة الثانية: 5/211.

الفعل راجحاً ولو في ظرف العمل، ولا يلزم ثبوت الرجحان الذاتي له قبل العمل))(1).

أقول: مضافاً إلى ما يرد عليه (قدس سره) مما قلناه سابقاً من كون الحكم من الأحكام العقلية، وأن خروج الفرد بالتخصص لا التخصيص فإنه يمكن تأشير أكثر من ملاحظة في كلامه (قدس سره):-

1- وقوع التهافت بين عدد من فقراته، كقوله أولاً: ((لزوم الرجحان في متعلق النذر ليس من الأحكام العقلية)) وقوله أخيراً: ((وإنما استفدنا ذلك من أن النذر جعل شيء ..)) وليس هذا إلا حكم العقل الذي أشار إليه بقوله: ((فلا بد ..)).

وكقوله في رجحان المنذور بأنه ((حكم شرعي تعبدي يقبل التخصيص)) وقوله: ((لا دليل لفظي على اعتبار الرجحان في متعلق النذر)) وهو وإن كان يمكن رفعه بكون الدليل التعبدي غير لفظي كالإجماع إلا أنه لا يظهر من كلامه ذلك.

مضافاً إلى ما قلناه سابقاً من أن الاكتفاء بالرجحان في ظرف العمل إن قُبِل ففي غير المرجوح.

2- ما استظهره (قدس سره) وفاقاً للماتن من الاكتفاء بالرجحان في ظرف العمل الناشئ من نفس النذر وإن لم يكن كذلك في نفسه، يأتي عليه إشكال الدور إذا اشترط الرجحان في متعلق النذر، مضافاً إلى مخالفته لظاهر الروايات(2).

ص: 76


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 27/320-321.
2- راجعها في وسائل الشيعة: كتاب النذر والعهد، باب 17.

وقال (قدس سره): ((لا ريب في دلالة الروايات على صحّة هذا النذر وانعقاده ووجوب الوفاء به..، فإنّ المتّبع هو النصوص، فلا أثر للبحث عملاً وإنما هو بحث علمي))(1).

أقول: وجود الروايات المعتبرة الدالة على الصحة لم يمنع عدداً من الأساطين من القول بعدم الانعقاد، ولعل وجهه كما أسلفنا قناعتهم باستحالته فاضطروا إلى تأويل النصوص فالبحث عملي إذن لإزالة المانع عن الأخذ بالنصوص.

الاستدلال بالروايات:

ونعود الآن إلى النصوص بعد معالجة المانع الثبوتي من القول بالانعقاد ونطبقها على الحالات الثلاث التي ذكرناها:الأولى: إطلاق النذر مع الغفلة عن وقوع السفر في ظرف امتثاله، بحيث لو التفت فإنه لا يستطيع تحديد مراده وربما يرفض شمول النذر لحالة السفر، والمشهور عدم صحة الصوم، لعمومات المنع وعدم وجود المُخرِج منها كما خرج النذر المقيد بالسفر بصحيحة ابن مهزيار.

مضافاً إلى وجود الروايات المانعة الخاصة بالمسألة منها:-

1- صحيحة كرّام قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام إني جعلت على نفسي أن أصوم حتى يقوم القائم فقال: صم ولا تصم في السفر)(2).

2- موثقة عمار الساباطي قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقول: لله علي أن أصوم شهراً أو أكثر من ذلك أو أقل، فيعرض له أمر لا بد له أن يسافر أيصوم وهو مسافر؟ قال: إذا سافر

ص: 77


1- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/321.
2- الأحاديث الستة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح9، 8، 3، 5، 2، 4 على الترتيب.

فليفطر لأنه لا يحل له الصوم في السفر فريضة كان أو غيره، والصوم في السفر معصية).

3- موثقة زرارة قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن أمي كانت جعلت عليها نذراً إن الله رد (إن يرد الله) عليها بعض ولدها من شيء كانت تخاف عليه أن تصوم ذلك اليوم الذي يقدم فيه ما بقيت، فخرجت معنا مسافرة إلى مكة فأشكل علينا لمكان النذر، أتصوم أو تفطر؟ فقال: لا تصوم، قد وضع الله عنها حقه وتصوم هي ما جعلت على نفسها، قلت: فما ترى إذا هي رجعت إلى المنزل أتقضيه؟ قال: لا قلت: أفتترك ذلك؟ قال: لا لأني أخاف أن ترى في الذي نذرت فيه ما تكره).

4- رواية(1)

عبد الله بن جندب قال: (سأل أبا عبد الله عليه السلام عبادُ بن ميمون وأنا حاضر عن رجل جعل على نفسه نذر صوم وأراد الخروج في الحج، فقال عبد الله بن جندب: سمعت من زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سأله عن رجل جعل على نفسه نذر صوم يصوم فمضى فيه (فحضرته نية) في زيارة أبي عبد الله عليه السلام قال: يخرج ولا يصوم في الطريق، فإذا رجع قضى ذلك).

5- رواية القاسم بن أبي القاسم الصيقل قال: (كتبت إليه، يا سيدي رجل نذر أن يصوم يوماً من الجمعة (كل يوم جمعة) دائماً ما بقي، فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى (أو يوم جمعة) أو أيام تشريق أو سفر أو مرض، هل عليه صوم ذلك اليوم أو قضاءه أو كيف يصنع يا سيدي؟ فكتب إليه: قد وضع الله عنك الصيام في هذه الأيام كلها، ويصوم يوماً بدل يوم إن شاء الله تعالى).

ص: 78


1- سند الرواية معتبر إلا من جهة يحيى بن المبارك الذي لم يرد فيه توثيق علماً أنه من رجال تفسير القمي.

6- رواية علي بن أبي حمزة عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل جعل على نفسه صوم شهر بالكوفة، وشهر بالمدينة، وشهر بمكة من بلاء ابتلي به، فقضى له أنه صام بالكوفة شهراً ودخل المدينة فصام بها ثمانية عشر يوماً ولم يقم عليه الجمال، فقال: يصوم ما بقي عليه إذا انتهى إلى بلده ولا يصومه في سفر). وموثقة عبد الله بن سنان المتقدمة (صفحة 68) وغيرها فراجع أحاديث الباب.

وفي مقابل هذا حكي(1)

عن الشيخ والمفيد والسيد المرتضى والديلمي في المراسم صحة صوم النذر المعيَّن مطلقاً وإن لم يقيده بالسفر لوجهين:

أولهما: عموم وجوب الوفاء بالنذر وأن إطلاق النذر يتناول السفر.

وفيه: إن وجوب الوفاء بالنذر مشروط بصحته المشروطة بعدم كونه معصية، والصوم في السفر معصية إلا ما خرج بدليل، ولا دليل يخرج هذا الفرد فيبقى تحت عمومات المنع.

ولكن هذا الجواب غير كافٍ لوحده –كما اكتفى العلامة (قدس سره) في المختلف وغيره فراجع- لمن جوَّز الصوم المندوب في السفر لأنه لا يرى دخول هذا الفرد تحت المنع، فلا بد من إرجاعه إلى ذلك البحث أولاً؛ لأن الخلاف سيكون مبنائياً.

ثانيهما: لرواية(2)

إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يجعل لله عليه صوم يومٍ مسمى، قال: يصوم أبداً في السفر والحضر)(3).

ص: 79


1- حكاه العلامة (قدس سره) في مختلف الشيعة: 3/329-330.
2- في سند الشيخ ضعف من جهة جعفر بن محمد بن أبي الصباح، وفي سند الكليني محمد بن إسماعيل المختلف فيه وقد ذكرنا في بعض الأبحاث وجهاً لقبول روايته (فقه الخلاف: 5/418)، فوصف السيد صاحب المدارك لها بأنها ضعيفة جداً لا يخلو من مبالغة (مدارك الأحكام: 6/149).
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح7.

أقول: الرواية لا تقوى على معارضة الروايات المتقدمة المعتبرة سنداً والصريحة في المنع، مع إمكان حمل هذه الرواية على ما لو أطلق نذر الصوم بلحاظ السفر والحضر بقرينة صحيحة ابن مهزيار الآتية إن شاء الله تعالى.

ويلاحظ هنا أنه لا غرابة ممن التزم بوجوب الوفاء مطلقاً هنا إذا كان ممن يقول بصحة الصوم المندوب في السفر –الذي هو متعلق النذر؛ لعدم المانع بغضّ النظر عن الروايات على خلافه- لكن الغريب أن يلتزم بالمنع هنا من قال بالجواز هناك –كصاحب الجواهر (قدس سره)- لعدم وجود ملاك لعدم انعقاد النذر، والتعليل بالروايات لا يسوّغه؛ لأن الروايات الناهية هنا تكشف عن عدم صحته هناك –أي الصوم المندوب- فلا بد من رجوعه إلى ذلك المطلب لتصحيحه، وهذا الانسجام بين الأحكام وجعلها في منظومة منسجمة هو من مميزات بحثنا بفضل الله تبارك وتعالى.ومنه يُعلم النظر في كلام صاحب الجواهر (قدس سره): ((ولا غرابة بعد الدليل في عدم مشروعيته مع إطلاق النذر وإن قلنا بجواز صوم الندب في السفر، كما لا غرابة في مشروعيته بالنذر عليه خصوصاً وإن قلنا بحرمة الصوم ندباً في السفر كما هو واضح))(1).

أقول: هذا قياس مع الفارق إذ عرفنا الملاك المصحح في الثاني دون الأول. وقد قرّبنا (صفحة 62) الاستدلال بالمنع هنا في النذر المطلق على منع الصوم المندوب في السفر لأن الروايات المانعة هنا كاشفة عن ملاك المنع هناك.

الثانية: ما لو أطلق نذر الصوم بلحاظ السفر أي أنه يصوم سواء كان حاضراً أو مسافراً.

ص: 80


1- جواهر الكلام: 16/336.

وهو مما استثني من المنع ((واستثناؤه وصحة صومه هو الحق المشهور بين الأصحاب، بل في المنتهى نفي الخلاف عنه، وفي الحدائق: أن الحكم اتفاقي عندهم))(1).

الثالثة: ما لو قيّد نذره الصوم بالسفر، وهو أولى بالصحة من سابقه وأوضح في انطباق الدليل عليه.

والوجه في صحتهما:-

1- رواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يجعل لله عليه صوم يوم مسمّى، قال: يصوم أبداً في السفر والحضر)(2).

بتقريب حملها على ما لو لاحظ الصوم في السفر في إطلاقه أو تقييده، لعدم إمكان الأخذ بإطلاقها لمنافاته الروايات المعتبرة في الحالة الأولى.

أقول: في سند الرواية ضعف أشرنا إليه آنفاً مع أطروحة لمعالجته، والحمل المذكور ليس عرفياً ظاهراً من الرواية، وإنما هو تبرعي للتخلّص من إشكال الإطلاق فلا يكون حجة.

نعم يمكن استظهاره من الإطلاق الذي ذكره الإمام (عليه السلام) وهو لم يرد في السؤال مما يكشف عن وجود قرينة حالية أو ارتكازية أو مقالية على أن الناذر أراد الإطلاق الملاحظ فيه السفر.

2- صحيحة ابن مهزيار قال: (كتب بُندار مولى إدريس: يا سيدي نذرت أن أصوم كل يوم سبت، فإن أنا لم أصمه ما يلزمني من الكفارة؟ فكتب عليه السلام وقرأته: لا تتركه إلا من علة، وليس عليك صومه في سفر ولا مرض إلا أن تكون نويت ذلك، وإن كنت أفطرت منه

ص: 81


1- مستند الشيعة: 10/353.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح7.

من غير علة فتصدق بقدر كل يوم على سبعة مساكين، نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى)(1).

لكن المحقق الحلي (قدس سره) قال في المعتبر: ((ولمكان ضعف هذه الرواية جعلناه قولاً مشهوراً))(2)

لذا لم يُفتِ بمضمونها، ونسبة القول إلى المشهور لا يعني وجود مخالف كما اعترف الجميع، ولكن لضعف المستند، كما استشكل فيها السيد صاحب المدارك (قدس سره) وقال إن ((الاحتياط يقتضي عدم التعرض لإيقاع هذا النذر))(3)،وقال العلامة المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول: ((المسألة قوية الإشكال))(4).

وكذا احتاط صاحب الحدائق (قدس سره) والسيد صاحب الرياض (قدس سره) بعدم إيقاع مثل هذا النذر(5)،ووجدت في المعاصرين الشيخ المنتظري (قدس سره) يستشكل في قول المشهور(6).

وقد استُغرب هذا التضعيف من المحقق (قدس سره)، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ولا ندري ما هو وجه الضعف الذي يدعيه المحقق))(7)

وهو كلام المحقق السبزواري (قدس سره) في الذخيرة(8)،ومع ذلك فقد فُسر الضعف الذي ذكره المحقق (قدس سره) بعدة احتمالات يعود بعضها إلى السند وبعضها إلى المتن.

ص: 82


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح1.
2- المعتبر، للمحقق الحلي: 2/684.
3- مدارك الأحكام: 6/149.
4- مرآة العقول: 24/344.
5- الحدائق الناضرة: 13/193، رياض المسائل: 5/399.
6- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، للشيخ المنتظري: 284.
7- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/465.
8- حكاه عنه في الحدائق الناضرة: 13/191.

(أما) ما يعود إلى السند فمن جهات:

إحداها: الإضمار وعلى تعبير الشهيد الثاني (قدس سره) بأنه ((خبر مقطوع ضعيف))(1)

وأجيب بأن ابن مهزيار من أجلاء الأصحاب ولا يضمر إلا عن المعصوم (عليه السلام) ولو لم يعلم صدورها عن الإمام (عليه السلام) لما اعتنى بروايتها، مضافاً إلى ورود التعبير في المكاتبة ب-((يا سيدي))، وقد أثبتتها جوامع الحديث على أنها رواية عن المعصوم (عليه السلام)، وأثبتها ابن مهزيار في كتبه وهي معتمدة عند الأصحاب ولم يثبت فيها إلا عن المعصوم (عليه السلام).

((وكان وكيلاً للإمام الجواد والهادي (عليهما السلام)، وكانت المراسلات تأتي إلى الأهواز عن طريقه. ولعل نظر المحقق إلى هذا الإشكال فقد ذكر في موضع من المعتبر (وأما النذر فكله معتمد على كتابات مجهولة) وقد اشتملت كتبه على كتب الحسين بن سعيد الأهوازي وزيادة –بحسب البرقي- والزيادة تضمنت المكاتبات عن الأئمة (عليهم السلام) لأنه لا يستدرك بما ليس للمعصوم (عليه السلام) ومنزلته وكونه وكيلاً للإمام (عليه السلام) دليل على أن المكاتب هو الإمام الجواد أو الهادي (عليهما السلام) ))(2).

ثانيها: جهالة حال بُندار مولى إدريس صاحب المكاتبة.

وأُجيب بأن ذلك لا يضر لأن ابن مهزيار قد قرأ بنفسه جواب الإمام (عليه السلام) فهو راوي المكاتبة ولا يضرّ كون المكاتب هو بندار، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وهذا أوضح من أن يخفى على من هو دون المحقق فضلاً عنه، ولكنه غير معصوم، فلعله غفل عن ذلك، أو إنه أسرع في النظر

ص: 83


1- مسالك الأفهام: 2/46.
2- من محاضرة السيد السيستاني (دام ظله الشريف) يوم 5/رجب/1416.

فتخيّل أن بندار واقع في السند))(1).

أقول: سنذكر لاحقاً أن مراد المحقق (قدس سره) بالضعف هو من جهة المتن وليس السند، فلا حاجة لفرض الغفلة أو العجلة في النظر خصوصاً وأنه (قدس سره) يناقش حكماً يخالف فيه المشهور الذي لم يوجد مخالف فيه.

ثالثها: اشتراك أحمد بن محمد، ويجاب بأنه هنا مردد بين ابن عيسى وابن خالد لرواية الصفار عنهما وروايتهما عن ابن مهزيار وكلاهما ثقتان، ويتعين أنه ابن عيسى لاشتراكه مع أخيه عبد الله بن محمد في نقل الرواية.

مضافاً إلى أننا في غنى عن هذا الإشكال المبني على كون طريق الرواية ما ذكره صاحب الوسائل (قدس سره) من سند الشيخ (قدس سره). لكن الكليني (قدسسره) رواها بسند صحيح نقي عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن علي بن مهزيار، ولم يذكره صاحب الوسائل ولعل السبب أن الكليني لم يوردها في كتاب الصوم بل في باب النذور(2).

(وأما) ما يعود إلى المتن وهو العمدة خصوصاً على ما ذكره صاحب الحدائق (قدس سره) من أن ((هذا الاصطلاح الذي نوعوا عليه الأخبار إنما وقع بعد عصر المحقق في زمن العلامة (رضوان الله عليه) أو شيخه أحمد بن طاووس وإن كان قد تحدثوا به في زمانه كما يشير إليه كلامه في المعتبر إلا أن مراد المحقق كثيراً كما يفهم من عباراته من وصف الضعيف السند بأنه حسن والصحيح السند بأنه ضعيف إنما هو باعتبار المتن جرياً على الاصطلاح القديم كما لا يخفى على من تأمل كلامه))(3).

وقد نوقش المتن من جهتين بل أكثر كما سنذكر بإذن الله تعالى:

ص: 84


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/465.
2- الكافي: كتاب الأيمان والنذور والكفارات، باب النذور، ح10.
3- الحدائق الناضرة: 13/191.

إحداها: ((عطف المرض على السفر مع أنّ جواز الصوم حال المرض وعدمه لا يدوران مدار النيّة، بل يُناطان بالضرر وعدمه، فإذا كان بمثابة يضرّه الصوم فهو غير مشروع ولا يصحّحه النذر وإن نواه .

ويندفع: بأنّ هذه القرينة الخارجيّة تكشف عن أنّ الإشارة في قوله (عليه السلام): (إلاّ أن تكون نويت ذلك) ترجع إلى خصوص السفر لا مع المرض)).

ثانيها: ((اشتمال ذيلها على أنّ كفّارة حنث النذر التصدّق على سبعة مساكين مع أنّه معلوم البطلان، فإنّه إمّا كفّارة رمضان –أي كبيرة مخيرة- أو كفّارة اليمين، أعني: عشرة مساكين، على الخلاف المتقدّم في ذلك.

ويندفع: بأنّ غايته سقوط هذه الفقرة من الرواية عن الحجّيّة، لوجود معارض أقوى، فيرفع اليد عنها في هذه الجملة بخصوصها، والتفكيك بين فقرات الحديث في الحجّيّة غير عزيز كما لا يخفى، فلا يوجب ذلك طرح الرواية من أصلها.

على أنّ هذه الرواية في نسخة المقنع مشتملة على لفظ: (عشرة) بدل: (سبعة)، فلعلّ تلك النسخة مغلوطة كما تقدّم في محلّه.

وكيفما كان، فلا إشكال في الرواية، ولا نعرف أيّ وجه لتضعيفها لا سنداً ولا متناً، وقد عمل بها المشهور، فلا مناص من الأخذ بها))(1).

قال العلامة المجلسي (قدس سره) بعد أن أشار إلى هذين الوجهين: ((قوله (عليه السلام): (لسبعة مساكين) كذا في التهذيب أيضاً، والصدوق (رحمه الله) نقل في الفقيه مضمون الخبر فذكر عشرة مكان سبعة، وكذا في المقنع على ما نقل عنه،وهو الظاهر مؤيداً للأخبار الدالة على الكفارة الصغرى))(2).

ص: 85


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/366.
2- مرآة العقول: 24/344.

ثالثها: ما أورده المحقق النراقي (قدس سره) وأشار إليه صاحب الجواهر (قدس سره): ((بأن يكون المراد بقوله (عليه السلام): (إلا أن تكون نويت ذلك) أن يكون نوى الصوم ثم سافر))(1).

وبيانه أن يحمل على ما لو نوى الصوم من الليل أي لم ينوِ السفر من الليل، ثم عرض عليه قصد السفر بعد الفجر فإنه يجب عليه أن يصوم ذلك اليوم في السفر؛ لأن من شروط الإفطار في السفر- كما في روايات البحث التالي- تبييت النية. فيكون المنوي في النذر الصوم وليس نذر الصوم في السفر كما فهم المشهور من الصحيحة. ولا أقل من الاحتمال الموجب للإجمال فلا يكون حجة.

وأُجيب بأنه في غاية البعد عن الظاهر، وأن احتماله وإجمال المراد لا يضرّ بمقالة المشهور؛ لأنه ((على فرض الاحتمال يحصل في المخصص الإجمال، والعام المخصص بالمجمل ليس حجة في موضعه، فعمومات المنع من الصوم أو المنذور منه في السفر لا تكون حجة في المورد وتبقى عمومات الوفاء بالنذر فارغة عن المعارض فيه)).

وفيه: إن هذا الجواب يجري في عموم هذه الصحيحة خاصة، ولا يجري في العمومات المانعة الأخرى؛ لأن هذا المخصص بالنسبة إليها منفصل فلا يسري إجماله إلى العام الذي يكون حجة ولا يخرج فردٌ منه إلا بدليل أقوى منه، والمجمل ليس حجة.

حصيلة النظر في الرواية:

قد يكون المحقق (قدس سره) محقاً في وصف الاستدلال بالرواية بالضعف، والأجوبة المذكورة لا تصلحه.

ص: 86


1- مستند الشيعة: 10/353، جواهر الكلام: 16/335.

أما الأول فلأن اسم الإشارة يعود –بحسب المتعارف في المحاورة- إلى القريب –وهو المرض – أو الجميع فيكون إرجاعه إلى البعيد –وهو السفر- فقط للتخلص من الإشكال غير مقبول، وتقبّل ضعف الاستدلال بالرواية أولى من جعل ذلك قرينة على عودة اسم الإشارة إلى السفر.

وأما الثاني أي ورود لفظ السبعة بدل العشرة، فلا يردّه ورود لفظ العشرة في المقنع لأنه ليس من الرواية في شيء بل هو كتاب فقهي يتضمن فتاوى الشيخ الصدوق (قدس سره)، والتغيير اجتهاد منه بحسب ما يراه حجة بينه وبين الله تعالى، وقد ورد لفظ السبعة في كتب الأخبار المتعددة في الكافي والتهذيب والاستبصار، على تنوع طرقها. أما في الفقيه فقد ذكر فتواه بمضمون الخبر وذكر عشرة بدل سبعة ولميذكر نص الرواية(1)،ولذا عبّر العلامة المجلسي (قدس سره) بأنه ((نقل في الفقيه مضمون الخبر فذكر عشرة مكان سبعة وكذا في المقنع)) والخلاصة عدم وجود رواية بالعشرة مقابل السبعة.

ودفعه بأن ((غايته سقوط هذه الفقرة من الرواية عن الحجية لوجود معارض أقوى، فيرفع اليد عنها في هذه الجملة بخصوصها .. إلخ)) لا يصح في المكاتبات التي يفترض أنها نص مكتوب من قبل الإمام (عليه السلام) وليست رواية شفهية حتى يمكن التفكيك بين فقراتها.

إن قلتَ: إن المكاتبة قد رويت عن ابن مهزيار شفاهاً فيصح هذا الدفع.

قلتُ: الظاهر أن الأمر ليس كذلك لأن الصحيحة أخذت من كتب ابن مهزيار المعتمدة وهو قد أثبت المكاتبة بنفسه فيها.

وأما الثالث فهو احتمال يمكن الأخذ به كأطروحة للخروج من الإشكال.

ويضاف إلى هذه الإشكالات المذكورة في كتب الأصحاب، إشكالات أخرى تضعف الاستدلال بالصحيحة:-

ص: 87


1- من لا يحضره الفقيه، ج3، باب الأيمان والنذور والكفارات، ح4300.

1- إطلاق المنع من الصوم المنذور في السفر في بعض الروايات بدرجة يقوي شمولها لحالة ما لو لاحظ الناذر السفر كصحيحة كرام المتقدمة فإن من نوى الصوم حتى قيام القائم لا بد أنه يخطر في ذهنه عروض السفر عليه.

2- إصرار الإمام (عليه السلام) في أكثر من رواية على إلفات نظر السائل بقوله: (ولا تصم في السفر) كصحيحتي كرام وابن مهزيار، رغم عدم تعرض السائل له مما يشير إلى أهمية المنع من الصوم في السفر حتى لو نذر فيه.

3- شمول عموم التعليل الوارد بصيغة الاستنكار في ذيل موثقة زرارة بقوله (عليه السلام): (قد وضع الله عنها حقه وتصوم هي ما جعلت على نفسها) وهو غير قابل للتفكيك بين لحاظ السفر وعدمه في النذر كما ذهب إليه المشهور؛ لأن الاستنكار شامل لكل ما جعل الإنسان على نفسه، ومقتضاه عدم صحة نذر الصوم في السفر مطلقاً.

4- مضافاً إلى عمومات المنع التي يصعب على الفقيه أن يخرج منها بمثل هذا الاستظهار المتضمن لجملة من الإشكالات والمخالفات، فيتحقق الإشكال الثبوتي المتقدم الذي هو ثابت، وإنما خرج ما خرج تخصصاً بدليل قوي عن عموم المنع، وهو غير متوفر هنا بعد الذي قلناه.

فإن استطعنا أن نحمل الرواية على معنى مقبول فهو، كحمله على الاحتمال المتقدم أي ما لو نوى الصوم من الليل ثم عرض عليه قصد السفر بعد الفجر فإنه يجب عليه أن يصوم ذلك اليوم؛ لأن من شروط الإفطار في السفر تبييت النية كما سيأتي في البحث التالي إن شاء الله تعالى. ويكون المنوي في قوله (عليه السلام): (نويت ذلك) الصوم، وليس نذر الصوم في السفر كما فهم المشهور.

ص: 88

وعلى أي حال فقول المشهور لا يخلو من إشكال، والإعراض عنه مشكل أيضاً، فلا محيص عن الأخذ بمقتضى الاحتياط وهو تجنب عقد مثل هذا النذر، وإذا أنشأه فليصم بنية ((رجاء المشروعية)).

ووجدت الشيخ المنتظري (قدس سره) من بين المعاصرين ممن يستشكل في قول المشهور، قال (قدس سره) في تعليقته على العروة الوثقى: ((استدلوا لذلك بصحيحة ابن مهزيار ودلالتها غير واضحة، وفي المتن اضطراب))(1).

ويقويه: بناءً على ما احتملناه من كون الحكم المقرر في القضاء الإلهي في السفر هو التخيير بين الصوم والإفطار، إلا أن الإلزام بالثاني كان من جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب تمرد العصاة. ففي الموارد التي يدل الدليل على صحة الصوم لا مانع من الأخذ بها، وتكون وظيفة ذلك الدليل إخراج المورد من عمومات النهي، ومنها نذر الصوم المقيد في السفر ويكون أثر النذر إخراجه من دائرة المنع وإعادته إلى حكم التخيير.

ويكون هذا وجهاً للأخذ بكلتا الطائفتين من الروايات، ولا يؤثر هنا كون النذر من موارد مقولة: (ما لو جاز وجب) لأن النذر أدّى وظيفته في إخراج الفرد من عمومات النهي وانتهى أثره، أي أن وظيفة النذر الكشف عن أن هذا الفرد ليس مما نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون محرماً، وحينئذٍ يحتاج الوجوب إلى دليل جديد، مضافاً إلى وجود أدلة النهي التي تنظر إلى الفرد الآخر من التخيير وهو الإفطار، ولكن لا شك في أن مقتضى الاحتياط ما ذكرناه.

فروع على القول بالوجوب:

1- ظاهر الصحيحة أن المراد بالعنوان ما أصبح واجباً بالنذر، لا ما كان في نفسه كذلك كصوم رمضان أو القضاء أو الكفارة ونحوها، فلا

ص: 89


1- التعليقة على العروة الوثقى، للشيخ المنتظري: 2/245.

يمكن تصحيح الإتيان بها في السفر بالنذر.

2- لو نذر الصيام سفراً ولم يفِ بنذره في وقته المحدد لعذر أو غير عذر، فلا يصح الإتيان به سفراً في وقت آخر لانصراف الدليل عن القضاء واختصاصه بالمنذور في وقته.

3- صحة هذا الصوم في السفر مختصة بالناذر نفسه، فلو مات قبل الوفاء بنذره لم يصح من القاضي عنه في السفر.

ص: 90

(الثالث: السفر بعد الزوال)

المسألة من مصاديق عنوان أوسع وهو حكم الصائم إذا سافر أثناء النهار على فرض جواز السفر وهو ما سنبحثه لاحقاً بإذن الله تعالى، فلو سافر الصائم أثناء النهار، فهل يجب عليه الإفطار مطلقاًَ أم لا؟ وما هي الضابطة في ذلك، هل هو الزوال، فيفطر إذا سافر قبل الزوال ويتم صومه إذا سافر بعده؟، أو هو تبييت نية السفر من الليل فيفطر، ويتم صومه إذا عرض عليه قصد السفر بعد الفجر؟ أم هما معاً؟ أم كفاية أحدهما؟ أم شيء آخر؟.

ونظراً لتعارض الأدلة الواردة في المسألة فقد تعددت الأقوال إلى ستة أو سبعة بحسب ما أوردته كتب الأصحاب (قدس الله أرواحهم)، بل إن بعضهم يعدل من قول إلى قول في نفس الموضع، كالعلامة (قدس سره) في المختلف حيث اعتمد أولاً قول المفيد –وهو الأول- ثم استقرب الخامس كما سنذكر إن شاء الله تعالى، وكابن إدريس الذي قال عن قول المفيد: ((وإلى هذا القول أذهب وبه أفتي)) ثم ذكر قول ابني بابويه –وهو الثالث- وقال: ((وهذا القول عندي أوضح من جميع ما قدمته من الأقوال)).

أقوال علماء العامة:

ولمدخلية رأي العامة في الترجيح بين المتعارضين، يحسُن عرض فكرة عن اختلاف أقوالهم.

قال ابن قدامة: ((ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال:

(أحدها) أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له.

(الثاني) أن يسافر في أثناء الشهر ليلاً فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها في قول عامة أهل العلم. وقال عبيدة السلماني وأبو مِجْلَز

ص: 91

وسويد بن غفلة: لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر لقول الله تعالى «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ» وهذا قد شهده.

ولنا قول الله تعالى: «فَمَنْ كَانَ مِنكُمْ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر» وروى ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر وأفطر الناس متفق عليه، ولأنه مسافر فأبيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر، والآية تناولت الأمر بالصوم لمن شهد الشهر كله وهذا لم يشهده كله.

(الثالث) أن يسافر في أثناء يوم من رمضان فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلاً، وفي إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان (إحداهما) له أن يفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر لما روى عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثمقرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال اقترب فقلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل. رواه أبو داود، ولأن السفر معنى لو وجد ليلاً واستمر في النهار لأباح الفطر فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر (والرواية الثانية) لا يباح له الفطر ذلك اليوم وهو قول مكحول والزهري ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة.

والأول أصح للخبر، ولأن الصوم يفارق الصلاة فإن الصلاة يلزم إتمامها بنيته بخلاف الصوم))(1).

ص: 92


1- المغني: 3/34-35.

أقول: يظهر من العاملين بالرواية الثانية اشتراط تبييت النية والشروع في السفر قبل الفجر لإباحة الفطر في السفر؛ لأنهم لم يرخّصوا في الإفطار لمن عرض عليه السفر بعد الفجر، فتتعين الرخصة في الإفطار للمسافر التي قالوا بها في من أنشأ السفر من الليل.

ويظهر من أسماء الآخذين بالرواية الثانية أنهم أكثر أئمة المذاهب عدا أحمد بن حنبل ومدرسته –ومنهم ابن قدامة- فقد أخذوا بالأولى وقالوا بالرخصة للمسافر مطلقاً.

وقال أحد أعلامهم المعاصرين عن السفر المبيح للفطر أنه يشترط فيه ((عند الجمهور: أن ينشئ السفر قبل طلوع الفجر، إذ لا يباح له الفطر بالشروع في السفر بعدما أصبح صائماً، تغليباً لحكم الحضر على السفر إذا اجتمعا. وإن شرع في الصوم ثم تعرض لمشقة شديدة لا تحتمل عادة أفطر وقضى لحديث جابر –أي قضية كراع الغميم-، قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل، وهو قول الجمهور.

وأجاز الحنابلة للمسافر الإفطار ولو سافر من بلده في أثناء النهار ولو بعد الزوال، لأن السفر معنى لو وجد ليلاً واستمر في النهار، لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، وعملاً بما رواه أبو داود عن أبي بصرة الغفاري الذي أفطر بعد شروعه في السفر، وقال: إنها سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ))(1).

ص: 93


1- الفقه الإسلامي وأدلته: ج3، صفحة 1695.

أقوال علمائنا(1) في المسألة:

قال المحقق النراقي (قدس سره): ((اختلف الأصحاب في الوقت الذي إذا خرج فيه المسافر يجب عليه الإفطار على أقوال:

الأول: اعتبار الزوال، فإن خرج قبله أفطر وأن خرج بعده صام، اختاره الإسكافي والمفيد والكليني والفقيه والمقنع والمختلف والمنتهى، بل أكثر كتب الفاضل، وفخر المحققين واللمعة والروضة، وغيرهم من المتأخرين، وهو المحكي عن الحلبي، إلا أنه أوجب القضاء مطلقاً))(2).

واستدل لهذا القول بعدة روايات منها:

1- صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم، ويعتد به من شهر رمضان)(3)

الحديث.

2- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم، قال: فقال: إن خرج من قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقض ذلك اليوم، وإن خرج بعد الزوال فليتم يومه).

3- صحيحة عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يسافر في شهر رمضان يصوم أو يفطر؟ قال: إن خرج قبل الزوال

ص: 94


1- راجعها في مختلف الشيعة: 3/334-341، مدارك الأحكام: 6/286-290، رياض المسائل: 5/487-493، مستند الشيعة: 10/358-362، وجواهر الكلام: 17/134-139.
2- مستند الشيعة: 10/358.
3- الأحاديث الأربعة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح1، 2، 3، 4 على الترتيب.

فليفطر، وإن خرج بعد الزوال فليصم، وقال(1):

يعرف ذلك بقول علي عليه السلام: (أصوم وأفطر حتى إذا زالت الشمس عزم علي) يعني الصيام).

4- موثقة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا خرج الرجل في شهر رمضان بعد الزوال أتم الصيام فإذا خرج قبل الزوال أفطر)

أقول: الروايات صحيحة سنداً وصريحة دلالة في اعتبار الزوال في السفر وأضيفت إليها وجوه أخرى نذكرها للاطلاع على الأفق الاجتهادي الواسع للعلامة، وإلا فإنهاعبارة عن أقيسة واستحسانات لا حجية فيها متأثرة بفكر فقهاء العامة أو عمومات وإطلاقات لا يصح الرجوع إليها بعد ورود الأدلة المخصصة والمقيدة لها.

قال العلامة (قدس سره): ((والمعتمد عندي: قول المفيد رحمه الله.

لنا على وجوب الإفطار مع الخروج قبل الزوال: أنه مسافر فيدخل تحت قوله تعالى: «أوْ عَلَى سَفَرٍ».

ولأن أكثر النهار مضى وهو مسافر، فكان له حكم جميعه على ما عهد في عرف الشرع من اعتبار الأكثر باعتبار الجميع في المبيت بمنى.

ولأن هذا الزمان محل النية في الصوم للساهي والجاهل، فوجب أن يكون محل النية في الإفطار لمن تجدد له عزم السفر المنافي للصوم.

وعلى إتمام الصوم لو خرج بعد الزوال: قوله تعالى: «ثُمَّ أتِمُّوا الصِيَامِ إلى اللَيلِ».

ص: 95


1- هكذا في نسخة الكافي، أما في الوسائل فوردت (فقال) ونحن أثبتناها من الأول، وسيأتي التحقيق فيها إن شاء الله تعالى.

ولأنه شرع في الصوم، وعقده عقداً مشروعاً، فوجب أن يكون صحيحاً؛ عملاً بالاستصحاب.

ولأنه مأمور قبل الفجر بالصوم، فوجب أن يكون مجزياً؛ لما ثبت أن الأمر للإجزاء.

ولأنه قد مضى أكثر النهار صائماً، فوجب اعتباره في جميع النهار قضاء للأكثر بحكم الجميع على ما تقدم.

ولأنه سفر لا يوجب قصر صلاة ذلك النهار، فوجب أن لا يوجب قصر صومه.

أما المقدمة الأولى: فقد بيناها في كتاب الصلاة(1).

وأما المقدمة الثانية: فللأخبار الدالة على أن السفر الموجب لقصر الصوم هو الموجب لقصر الصلاة، وينعكس بالنقيض إلى أن السفر الذي لا يوجب قصر الصلاة لا يوجب قصر الصوم))(2).

(الثاني) اعتبار تبييت النية وقصد السفر قبل الفجر، فإن بيّتها وجب الإفطار في أي وقت خرج، وإلا فيصوم، ((ذهب إليه الشيخ في النهاية والمبسوط والاقتصاد والجمل والقاضي وابن حمزة والمعتبر والشرائع والنافع والتلخيص)).

واستدلوا له بروايات أُخر:-

ص: 96


1- اختار (قدس سره) في مسألة (لو سافر بعد دخول الوقت) قول ابن أبي عقيل والشيخ الصدوق في المقنع وهو وجوب الإتمام عليه (مختلف الشيعة: 2/540، المسألة 396).
2- مختلف الشيعة: 3/336-337.

1- صحيحة رفاعة قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان حين يصبح قال: يتم صومه (يومه) ذلك)(1)

الحديث.

2- موثقة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (في الرجل يسافر في شهر رمضان أيفطر في منزله؟ قال: إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله، وإن لم يحدث نفسه من الليلة ثم بدا له في السفر من يومه أتم صومه).

3- مصححة صفوان بن يحيى عمن رواه عن أبي بصير قال: (إذا خرجت بعد طلوع الفجر ولم تنو السفر من الليل فأتم الصوم واعتد به من شهر رمضان).

4- رواية صفوان، عن الرضا (عليه السلام) في حديث قال: (لو أنه خرج من منزله يريد النهروان ذاهباً وجائياً لكان عليه أن ينوي من الليل سفراً والإفطار، فإن هو أصبح ولم ينو السفر فبدا له من بعد أن أصبح في السفر قصر ولم يفطر يومه ذلك).

5- رواية صفوان، عن سماعة وابن مسكان، عن رجل، عن أبي بصير قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا أردت السفر في شهر رمضان فنويت الخروج من الليل فإن خرجت قبل الفجر أو بعده فأنت مفطر، وعليك قضاء ذلك اليوم).

واستدل له أيضاً ب-((الأمر بالإتمام في الآية الشامل للخارج قبل الزوال خرج منه المبيت بالإجماع، فيبقى ما عداه، ولاستصحاب صحة صومه المعتضد بظاهر قوله تعالى: «وَلا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُم» ضرورة أنه إذا كان السفر

ص: 97


1- الأحاديث الخمسة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح5، 10، 12، 13 على الترتيب.

بدون تبييت فهو حاصل بعد انعقاد الصوم، بخلاف ما إذا كان مبيتاً، فإنه لم ينو الصوم فلم ينعقد، بل في المعتبر ولو قيل يلزم على ذلك لو لم يخرج أن يقضيه التزمنا ذلك، فإنه صامه من غير نية إلا أن يجدد ذلك قبل الزوال))(1).

أقول: النقاش في مثل هذه الاستدلالات واضح كالذي ذكرناه في نظائرها في القول الأول.

(الثالث) ((اعتبار التبييت والخروج قبل الزوال معاً، وهو محتمل المبسوط بل ظاهره، فإنه قال فيه: ومن سافر عن بلده في شهر رمضان وكان خروجه قبل الزوال، فإنكان بيت نية السفر أفطر، وعليه القضاء، وإن كان بعد الزوال لم يفطر، ومتى لم يبيت النية للسفر وإنما تجددت أتم ذلك اليوم ولا قضاء عليه(2).

فإن قوله: لم يفطر، ظاهر في صحة الصوم))(3).

أقول: للشيخ (قدس سره) أقوال متعددة فإذا جُعِل بعضها قرينة على بعض، فإنه يحتمل أن يكون مراده بقوله: ((لم يفطر)) وجوب الإمساك وقضاءه فيما بعد، فقد قال في الاقتصاد: ((من شرط الإفطار تبييت النية للسفر من الليل، فإن لم يبيتها وحدث له رأي في السفر صام ذلك اليوم ولا قضاء عليه، وإن بيّت النية من الليل ولم يتفق له الخروج إلا بعد الزوال تمّم وقضى ذلك اليوم))(4).

ونحوه في الجمل والعقود وكذا في النهاية وأضاف إليه: ((وإن خرج قبل طلوع الفجر وجب عليه الإفطار على كل حال، وكان عليه القضاء))(5).

ص: 98


1- جواهر الكلام: 17/136.
2- المبسوط: 1/284.
3- مستند الشيعة: 10/361.
4- نقلناه من (المعجم الفقهي لكتب الشيخ الطوسي): 4/239.
5- النهاية: 161-162.

وقال في الخلاف: ((إذا نوى الصوم قبل الفجر، ثم سافر في النهار، لم يجز له الإفطار، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال أحمد والمزني: له الإفطار))(1).

وقال في موضع آخر ((إذا تلبّس بالصوم في أول النهار، ثم سافر آخر النهار، لم يكن له الإفطار، وبه قال جميع الفقهاء إلا أحمد فإنه قال: يجوز له أن يفطر))(2).

وقال في التهذيب: ((ومتى خرج الإنسان إلى السفر بعدما أصبح فإن كان قد نوى السفر من الليل لزمه الإفطار، وإن لم يكن نواه من الليل وجب عليه صوم ذلك اليوم، وإن خرج قبل طلوع الفجر وجب عليه أيضاً الإفطار وإن(3)

لم يكن قد نوى السفر من الليل)) وذكر أخبار شرط التبييت.

ثم أورد صحيحتي الحلبي ومحمد بن مسلم من أخبار شرط الزوال، وقال (قدس سره): ((فهذان الخبران وما يجري مجراهما فالوجه فيهما أنه إذا خرج قبل الزوال وجب عليه الإفطار إذا كان قد نوى من الليل السفر، وإذا خرج بعد الزوال فإنهيُستحب(4) له أن يُتم صومه ذلك، فإن أفطر فليس عليه شيء، وإن لم يكن قد نوى السفر من الليل فلا يجوز له الإفطار على وجه))(5).

قال المحقق النراقي (قدس سره) تبعاً للسيد صاحب الرياض(6):

((وحجته الجمع بين أخبار القولين الأولين، حيث إن التعارض بينهما بالعموم

ص: 99


1- الخلاف: 2/204، المسألة (58).
2- الخلاف: 2/219، المسألة (80).
3- لا يخفى عدم الانسجام بين هاتين الفقرتين فكيف يخرج إلى السفر قبل الفجر وهو ليس ناوياً له من الليل.
4- يظهر من كلامه (قدس سره) هذا قول آخر وهو التخيير لمن سافر بعد الزوال وكان مبيّتاً النية من الليل وهو القول الخامس الآتي.
5- التهذيب، ج4، باب 57: حكم المسافر في الصيام، ذيل ح41، ح47.
6- رياض المسائل: 5/493.

والخصوص من وجه، فيقيد عموم كل منهما بخصوص الآخر، فإن الظاهر يحمل على النص.

ومثل هذا الجمع لا يحتاج إلى شاهد، بخلاف الجمع بينهما بالاكتفاء بأحد الأمرين – كما اتفق لبعض المتأخرين(1) - فإنه يحتاج إلى الشاهد))(2).

أقول: هذا الوجه من الجمع سنعرضه ونناقشه في فصل ((تحليل الروايات والأقوال)) وسنذكر هناك أيضاً أكثر من شاهد على الجمع الآخر ب-(أو) بإذن الله تعالى، فكلا الجمعين من سنخ واحد ولا مرجح لما ذكره (قدس سره).

وردّ عليه (قدس سره) بأنه ((مبني على تقييد كل من أخبار الأول والثاني بالآخر، فيقال: إن المراد بأخبار الإفطار قبل الزوال: أنه مع التبييت، وبأخبار الإفطار مع التبييت: أنه إن كان قبل الزوال، ويبقى الجزء الآخر من الأخبار الأولى – وهي الصوم بعد الزوال مطلقاً - بلا معارض، فيعمل به.

وعلى هذا، فيبقى حكم السفر قبل الزوال بدون التبييت خارجاً عن الفريقين، مسكوتاً عنه فيهما، وحينئذ فالحكم بوجوب الصوم فيه – لعمومات الصوم، دون الإفطار، لعمومات وجوب الإفطار في السفر - لا وجه له.

والحاصل: أن إيجاب الصوم على غير المبيت إذا خرج قبل الزوال إن كان من جهة خروجه عنهما فيطالب بدليله على هذا الحكم فيه، وإن كان من جهة ترجيح أخبار التبييت بالنسبة إليه فيطالب بوجه الترجيح، وكلاهما مفقودان))(3).

ص: 100


1- صرح السيد صاحب الرياض (قدس سره) بأنه صاحب الوسائل (قدس سره) حيث عنون الباب الخامس: ((اشتراط تبييت نية السفر بالليل أو الخروج قبل الزوال)) فجمع بينهما ب-(أو).
2- مستند الشيعة: 10/362.
3- مستند الشيعة: 10/364.

أقول: ردّ المحقق النراقي (قدس سره) فيه نظر كثير، فإن الإفطار قبل الزوال مع التبييت هو من القدر المتيقن ولا يحتاج إلى جمع وتقييد.

وقوله: ((ويبقى الجزء الآخر .. بلا معارض)) غير دقيق لأنه معارض بإطلاق الإفطار مع عدم التبييت حتى بعد الزوال.

وقوله: ((فيبقى حكم السفر..)) ليس هذا وحده بل وحكم السفر بعد الزوال مع التبييت.

وبقية كلامه (قدس سره) يتعلق بمناقشة وجه الجمع بين الطائفتين.

(الرابع) ((عدم اعتبار شيء منهما، بل وجوب الإفطار في أي جزء خرج من النهار، اختاره والد الصدوق في الرسالة والعماني والسيد والحلي وابن زهرة وظاهر الإرشاد))(1).

واستدل له بعمومات ما دل على لزوم الإفطار في السفر كالآية الشريفة، والروايات الكثيرة وهي مطلقة لم يلحظ فيها أي تفصيل.

واستدل له أيضاً بالملازمة المذكورة في عدة روايات بين تقصير الصلاة والإفطار، والمفروض لزوم التقصير في السفر مطلقاً فالصوم كذلك.

واستدل له بروايات خاصة بالمقام كرواية عبد الأعلى: في الرجل يريد السفر في شهر رمضان، قال: (يفطر وإن خرج قبل أن تغيب الشمس بقليل)(2).

ومرسلة المقنع: (من خرج بعد الزوال فليفطر وليقض ذلك اليوم)(3).

والرضوي: (فإن خرجت في سفر وعليك بقية يوم فأفطر)(4).

وحكى العلامة (قدس سره) عن علي بن بابويه احتجاجه ((بأنه مسافر،

ص: 101


1- مستند الشيعة: 10/360-361.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح14.
3- المصدر السابق، ح15.
4- فقه الرضا: 208.

فوجب عليه التقصير مطلقاً، لعموم الآية. ولأن السفر منافٍ للصوم. والصوم عبادة لم تقبل التجزّي، وقد حصل المنافي في جزء منه فأبطله، إذ يمتنع اجتماع المتنافيين، فيبطل الصوم أجمع ببطلان جزئه))(1).

وقال ابن إدريس: ((وهذا القول عندي أوضح من جميع ما قدّمته من الأقوال، لأن أصحابنا مختلفون في ذلك، وليس على المسألة إجماع، ولا أخبار مفصّلةمتواترة، فالتمسك بالقرآن حينئذٍ أولى، لأنه مسافر بلا خلاف، ومخاطب بخطاب المسافرين من تقصير صلاة وغير ذلك))(2).

أقول: هذا القول لا يمكن المساعدة عليه لضعف مستنده، أما الرضوي فلضعفه في نفسه ((ومعارضته بمثله المذكور في كتاب الصلاة منه، وهو قوله: (وإن خرجت بعد طلوع الفجر أتممت صوم ذلك اليوم وليس عليك القضاء، لأنه دخل عليك وقت الفرض على غير مسافرة)(3).

وأما مرسلة المقنع، فللضعف الخالي عن الجابر أيضاً، سيما مع عدم عمل صاحب المقنع بها أيضاً، وهو من مخرجات الخبر عن الحجية))(4).

وأما خبر عبد الأعلى فقال عنه الشيخ (قدس سره) في التهذيب: ((إنه موقوف غير مسند إلى أحد من الأئمة (عليهم السلام) وما يكون هذا حكمه لا يعترض به الأخبار الكثيرة المسندة، ولو صح كان الوجه فيه ما ذكرناه من أن من خرج قبل مغيب الشمس وكان قد بيّت نية السفر يجوز له الإفطار، وإن كان يكون به تاركاً فضلاً ومهملاً ما هو أولى به إلا أنه لا يكون بذلك عاصياً يستحق به العقاب))(5).

ص: 102


1- مختلف الشيعة، للعلامة الحلي: 3/474.
2- السرائر:1/392.
3- فقه الرضا: 159.
4- رياض المسائل: 5/492، مستند الشيعة: 10/364-365.
5- التهذيب: ج4، باب 57: حكم المسافر في الصيام، ذيل ح 49.

وضعفت دلالتها أيضاً ((بما قيل من احتمال كون (حرج) فيه بالحاء المهملة، فيكون الظرف فيه متعلقاً بقوله: (يفطر) والمعنى حينئذٍ أن على المسافر في شهر رمضان أن يتناول مفطراً ولو قبل مغيب الشمس وإن كان يعسر عليه ذلك، إجراءً للسنة؛ ومخالفة للمنافقين الذين يصومون في السفر، وعلى كل حال فمثله لا يصلح معارضاً لتلك النصوص))(1).

أما العمومات فلا يمكن الاستدلال بها بعد القطع بالخروج منها بالروايات المفصّلة المتقدمة، فالرواية معارضة بإطلاقها لما هو ((أكثر منها عدداً وأصح سنداً وأوضح دلالة وأشهر عملاً وأخص مدلولاً)) أي مجموع روايات القولين الأول والثاني لأنهما يكوّنان قولاً مشتركاً في نفي هذا الإطلاق.

وأما وجه ابن بابويه وهو قوله: ((ولأن السفر منافٍ للصوم وقد حصل المنافي)) فهو مصادرة على المطلوب إذ ليس كل سفر منافياً للصوم والمقام من محل الخلاف.ووجدت هنا وجهاً لطيفاً للرد على هذا القول نقله السيد صاحب المدارك (قدس سره) عن بعض المفسرين فذكر ((أن في العدول من قوله: (مسافرين) إلى قوله (على سفر) إيماءً إلى أن من سافر في بعض اليوم لم يفطر، لأن لفظ (على) يدل على الاستعلاء والاستيلاء، فيكون المراد إن كنتم على سفر يعتد به ويُعدُّ سفراً))(2).

وقد تعجب العلامة (قدس سره) من اضطراب ابن إدريس وتحيّره في الأقوال ثم قال (قدس سره): ((وقد كان الواجب عليه حيث لم يظهر له دليل، ووجد الأخبار المتواترة غير دالة على شيء، وانتفى الإجماع في المسألة:

ص: 103


1- جواهر الكلام: 17/138-139.
2- مدارك الأحكام: 6/288.

أن يرجع إلى الأصل، وهو استصحاب الحالة في إتمام الصوم، والتمسك بعموم الآية، وهو قوله تعالى: «ثُمَّ أتِمُّوا الصِيَامَ إلى اللَيلِ» )).

أقول: عمومات لزوم الإفطار في السفر من الآيات والروايات الشريفة مقدمة على هذه العمومات لأنها أخص منها فهي المرجع.

(الخامس) ((التخيير بين الصوم والإفطار إن خرج بعد الزوال، وتحتم الإفطار إن خرج قبله، وهو المحكي عن التهذيبين والمختلف.

لصحيحة رفاعة: عن الرجل يريد السفر في رمضان، قال: (إذا أصبح في بلده ثم خرج فإن شاء صام وإن شاء أفطر)(1)،بتقييدها بما بعد الزوال للمقيدات))(2).

أقول: الصحيحة مطلقة، وقال العلامة (قدس سره) في وجه تقييدها: ((واعلم أنه ليس بعيداً من الصواب تخيير المسافر بين القصر والإتمام إذا خرج بعد الزوال، لرواية رفاعة بن موسى الصحيحة، وإنما قيّدنا ذلك بالخروج بعد الزوال جمعاً بين الأخبار))(3).

أقول: يتبادر إشكال على كلام العلامة (قدس سره) حاصله أنه لماذا يُسلِّم لزوم الإفطار قبل الزوال ويجمع دليل التخيير مع دليل الصوم بعد الزوال، ولا يقوم بالعكس بأن يسلِّم بلزوم الصوم بعد الزوال ويحمل دليل التخيير على الإفطار قبل الزوال، ودليلهما واحد؟.

وهذا ما ورد في كلام قال المحقق النراقي (قدس سره) فقال في ردِّه: ((والصحيحة لا تختص بما بعد الزوال، والحكم بخروج ما قبله بالدليل، فيبقى الباقيليس بأولى من العكس، لأن أدلة وجوب الإفطار لو خرج قبل الزوال

ص: 104


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح7.
2- مستند الشيعة: 10/362.
3- مختلف الشيعة: 3/341.

مطلقاً ليس بأقوى من دليل وجوب الصوم لو خرج بعده كذلك، فلا يظهر وجه لهذا الجمع))(1).

(السادس) التخيير في تمام اليوم، لإطلاق هذه الصحيحة.

قال السيد صاحب المدارك (قدس سره) أيضاً في الرد على القول الخامس: ((إن هذا الحمل بعيد جداً، نعم لو قيل بالتخيير مطلقاً كما هو ظاهر الرواية لم يكن بعيداً وبذلك يحصل الجمع بين الأخبار))(2).

وفيه: إنه مخالف للإجماع، وهو (قدس سره) نفسه لم يعمل به واعتمد قول المفيد (قدس سره)، مع معارضته لاتفاق روايات الطائفتين الأولى والثانية، ومما يزيد في ضعفه ولزوم الإعراض عنه موافقته لمذهب العامة.

إن قلتَ: يمكن الاستدلال على هذا الوجه بحصول التعارض بين طائفتي الروايات الأولى والثانية ويُصار حينئذٍ إلى التخيير من باب (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك).

قلتُ: إن المختار عند التعارض هو التساقط واللجوء إلى مرجحات باب التعارض، مضافاً إلى أن العمل بمقتضى التعارض بين الدليلين من التساقط وغيره إنما يجري في المساحة التي تعارضا فيها، وتبقى آثار الدليلين الأخرى على حالها لعدم المبرّر لسقوطها عن الحجية، ففي المقام لا يسقط لازم الطائفتين من نفي أي قول مطلق بعد أن وردت في التفصيل.

فينبغي حمل الرواية على ما لا ينافي تلك الروايات كفهم التخيير على أنه إن شاء الإفطار فليسافر، وإن شاء الصوم فليمكث في بلده.

وستأتي معاني أخر عند معالجة التعارض بإذن الله تعالى.

ص: 105


1- مستند الشيعة: 10/363.
2- مدارك الأحكام: 6/290.

(السابع) وجوب الصوم مطلقاً إلا أن يسافر قبل الفجر.

وهو عكس القول الرابع لابن بابويه، واستدل له بعدة روايات:-

1- موثقة سماعة قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: من أراد السفر في رمضان فطلع الفجر وهو في أهله فعليه صيام ذلك اليوم إذا سافر لا ينبغي له أن يفطر ذلك اليوم وحده، وليس يفترق التقصير والإفطار إذا قصر فليفطر)(1).1- روايته الأخرى قال: (سألته عن الرجل كيف يصنع إذ أراد السفر؟ قال: إذا طلع الفجر ولم يشخص فعليه صيام ذلك اليوم، وإن خرج من أهله قبل طلوع الفجر فليفطر ولا صيام عليه) الحديث.

2- رواية سليمان بن جعفر الجعفري قال: (سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرجل ينوي السفر في شهر رمضان فيخرج من أهله بعد ما يصبح، فقال إذا أصبح في أهله فقد وجب عليه صيام ذلك اليوم إلا أن يدلج دلجة(2).

وفيه: إنه مخالف للإجماع، ومعارض بإطلاقه لما اتفقت عليه الطائفتان الأولى والثانية من الاشتراط، مع أن موثقة سماعة يتعارض فيها الذيل مع الصدر لأن من سافر في النهار عليه التقصير فعليه الإفطار.

فتحمل الروايات على الإرشاد إلى إتمام الصوم في أهله إذا طلع الفجر عليه وعدم السفر، لأنه قد عقد الصوم لقوله تعالى: «وَأنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم» ولقوله تعالى: «وَلا تُبطِلُوا أعمَالَكُم» وهذا المعنى يلوح من استعمال لفظ (ينبغي) ومن قوله: (وحده) أي لا يخسر صوم تمام رمضان وتحصل فيه ثغرة في

ص: 106


1- الروايات الثلاث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح9، 8، 6.
2- حكي عن الصحاح: 1/315 ((أدْلَجَ القوم: إذا ساروا من أول الليل، فإن ساروا من آخر الليل فقد ادَّلَجوا –بتشديد الدال-)).

هذا اليوم، وتشهد له روايات كثيرة(1).

ولعله لذلك قيل أنه ((لم يقل به أحد، بل لا يبعد أن يكون مبنى هذا الخبر على حرمة السفر في شهر رمضان من بعد الفجر إذا لم تدعُ حاجة إليه، لاستلزامه إبطال الصوم الواجب، فلذلك كان عليه إتمام الصوم، بخلاف ما إذا أدلج، فإنه لم يقطع صومه وإن لم يضطر إلى السفر، بل قيل: إنه يجوز أن يكون تبييت النية في النصوص المزبورة كناية عن السفر المضطر إليه بناءً على الغالب))(2)،وبذلك يكون النص أجنبياً عما نحن فيه.

نكتة: سيجيء في الخارطة المحتملة لأحكام الصوم في السفر (صفحة 199) وجه لهذا القول بأن من أدلج يتعين عليه الإفطار في السفر، أما من سافر بعد الفجر فإنه يتخيّر.(الثامن) التخيير بين الصوم والإفطار لو خرج قبل الزوال، وتعيّن الصوم عليه لو خرج بعده، وهو نتيجة البحث الآتي (صفحة 138) ولم نعلم قائلاً به.

ص: 107


1- كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصبح وهو يريد الصيام ثم يبدو له فيفطر، قال: هو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار، قلتُ: هل يقضيه إذا أفطر؟ قال: نعم لأنها حسنة أراد أن يعملها فليتمها، قلتُ: فإن رجلاً أراد أن يصوم ارتفاع النهار أيصوم؟ قال: نعم) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيّته، باب 4، ح13.
2- جواهر الكلام: 17/137.

تحليل الروايات والأقوال:

بعد طرح الأقوال الأربعة الأخيرة للمناقشات المتقدمة فيها، بقيت عندنا الأقوال المرتبطة بطائفتي الروايات المذكورة في القولين الأولين وكيفية الجمع بينهما، وتوجد هنا عدة محاولات:

(المحاولة الأولى) تحليل الاستدلال بتلك الروايات والأخذ بالأقوى منها:

أما (الطائفة الأولى) فلم أجد من ناقش الاستدلال بها بخصوصها نقاشاً يُعتدُّ به؛ لصحة أسانيدها ووضوح دلالتها وشهرة العمل بها، ومن لم يعمل بها فلابتلائها بالمعارض ونحوه.

لكن بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) أورد إشكالات على الاستدلال بهذه الروايات على قول مدرسة الشيخ المفيد (قدس سره)، الذي استقر عليه رأي المتأخرين من زمان العلامة وولده فخر المحققين والشهيدين (قدس الله أسرارهم) حتى المعاصرين.

ولذا فإنه (دام ظله الشريف) تردد واحتاط في المسألة، فقال في الرسالة العملية: ((إذا سافر قبل الزوال وجب عليه الإفطار على الأحوط لزوماً خصوصاً إذا كان ناوياً للسفر من الليل، وإن كان السفر بعده وجب إتمام الصيام على الأحوط لزوماً لا سيما إذا لم يكن ناوياً للسفر من الليل))(1).

أقول: التعبير ليس متيناً إذ ليس مقتضى الاحتياط ما ذكره (دام ظله الشريف) بل الصوم بنية رجاء المشروعية والقضاء كما سنبين بإذن الله تعالى.

وعلى أي حال سنورد إشكالاته على الروايات بحسب الترتيب الذي ورد في بحثه الشريف.

1- صحيحة عبيد بن زرارة:

ص: 108


1- منهاج الصالحين: 1/311، المسألة (1038).

وحاصل الإشكال فيها: أن قوله (عليه السلام) في الذيل: (فقال: يعرف..) شارح للصدر وهو ظاهر في كون المسافر مخيراً بين الصوم والإفطار ولو في حال المسافرة، حتى إذا زالت الشمس عزم عليَّ الصيام وقبل ذلك يكون مخيراً، وهذا القول لعلي (عليه السلام) إما في خصوص من سافر، أو يعمّ كل من كان مخيراً بين الصوم والإفطار قبل الزوال كقاعدة كلية وأظهر مصاديقها المسافر وقاضي شهر رمضان، فلا يدل على الجزء الأول من قول هذه المدرسة وهو لزوم الإفطار على من سافر قبل الزوال.

بل يمكن دعوى أنه لا يدل على الشق الثاني أيضاً لعدم إفادة (عزم عليَّ) الوجوب باعتباره أمراً في مورد توهم الحظر لكثرة من قال به من العامة فلا يفيد مقالة المفيد(1).

وذكر (دام ظله الشريف): أنه لم يتعرض أحد من فقهائنا أو شرّاح الحديث لما ذكرنا، وإنما أوّلوا قول علي (عليه السلام) بأن لي أن أسافر وأفطر، أو أبقى وأصوم، أي لا يجب عليَّ إتمام الصوم ولو كان اليوم من شهر رمضان ما دام الوقت قبل الزوال، لكنه خلاف الظاهر الذي هو ما ذكرناه من التخيير والقدر المتيقن حال السفر.

وفيه:-

أ- لا يظهر من الذيل أنه شارح للصدر، لوضوح تقدّم الجواب التام عليه، ولم يتعقب السؤال مباشرة حتى يكون شارحاً له كما هو المتعارف.

ب- إن لفظ (فقال) ورد في نسخة الوسائل، أما في الكافي وهو الأصل الذي أخذ منه صاحب الوسائل فقد ورد فيها (وقال) وهو ظاهر في أنه كلام مستأنف أي رواية أخرى، أضافها الراوي وليس شرحاً للجواب.

ص: 109


1- من محاضرتي السيد السيستاني (دام ظله الشريف) بتأريخ 16، 17/رجب/1416.

ج-- مما يرجح كون هذا الذيل مما أضافه الراوي: خلوّ موثقة عبيد الأخرى التي رواها ابن بكير عنه وتلك رواها حماد عن عبيد والمظنون أنها رواية واحدة لعبيد مع تبديل طرفي الحكم، والذيل أُتي به من رواية أخرى لمناسبة رآها الراوي.

د- إن هذا الذيل غير منسجم مع جواب الإمام (عليه السلام) الذي سبقه ومفاده لزوم الإفطار قبل الزوال بينما مفاد قول علي (عليه السلام) هو التخيير فلا يصلح أن يكون شارحاً له.

ه-- إن الاستشهاد بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الذيل يشعر بشهرة هذا القول عنه (سلام الله عليه) كما وجدناه في نظائره، ولم يرد في روايات الباب شيء من هذا، فكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أجنبي عما نحن فيه.ولدى التتبع وجدنا نظير هذه الرواية في موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (أن علياً (عليه السلام) قال: الصائم تطوعاً بالخيار ما بينه وبين نصف النهار، فإذا انتصف النهار فقد وجب الصوم)(1) فالذيل يتعلق بصوم التطوع.

وهو قول رواه العامة أيضاً عن علي (عليه السلام) فقد روى الصنعاني(2) في وقت النية لصوم التطوع عدة روايات منها بسنده عن الحارث

ص: 110


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيته، باب 4، ح11.
2- عبد الرزاق بن همام الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني (126-211) من أهل صنعاء ممن أخذ عنه في اليمن أحمد بن حنبل، قال عنه ابن حجر في تهذيبه: ((ثقة حافظ مصنف شهير وكان يتشيع)) ووصفه الذهبي بأنه ((خزانة علم)) وذكره أصحابنا فعدّه البرقي ممن اختص بالصادق (عليه السلام) وكذا الشيخ (قدس سره) في رجاله: ((وكان أحد الأعلام من علماء الشيعة كما يظهر مما ذكره النجاشي في ترجمة محمد بن بكر همام بن سهيل)) (معجم رجال الحديث: 10/15)، وتوجد ترجمة وذكر له في (الأعلام للزركلي: 4/126، وفيه مصادر ترجمته، كتهذيب التهذيب وميزان الاعتدال وطبقات الحنابلة)، (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة:2/432).

(أن علياً قال: هو بالخيار إلى نصف النهار ما لم يطعم الطعام، أو يكون قد فرضه من الليل) وروى عن ابن جريح قال: أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه: (أن رجلاً أتى علي بن أبي طالب فقال: أصبحت ولا أريد الصيام، فقال: أنت بالخيار بينك وبين نصف النهار، فإن انتصف النهار فليس لك أن تفطر)(1).

فنحن إذن في غنى عن تفسير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) بما يوافق الحكم في المسألة لأنه أجنبي عن روايات الباب.

وعلى فرض أن ذيل الرواية منها فلنا توجيهان له يرفع كل منهما الإشكال على الاستدلال بالرواية:

أولهما: أن الذيل متعلق بالشق الثاني من الجواب المتقدم عليه لرفع الاستغراب من ذهن السائل ونحوه، فكأن الإمام (عليه السلام) لما أجاب في الشق الأول (إن خرج قبل الزوال فليفطر) فإن هذا معلوم لدى السائل لأنه موافق لعمومات الكتاب والسنة في إفطار المسافر، لكن الشق الثاني وهو قوله (عليه السلام): (وإن خرج بعد الزوال فليصم) غريب على ذهن السائل لعدم معروفيته خصوصاً وأن كلمات العامة خالية من هذا التفصيل تماماً، فلرفع الاستغراب من ذهن السائل ذكر الإمام (عليه السلام) أن هذا له نظير في كلام علي (عليه السلام)، وفي ضوء هذا يكون الذيل من الرواية إلا أن الحكم الوارد فيه لا يتعلق بالسؤال.

ثانيهما: المعنى الذي فهمه المشهور يمكن قبوله لينسجم مع الصدر، ومعناه أن الصائم مخير قبل الزوال فله أن يتم صومه، وله أن يفطر مطلقاً في

ص: 111


1- المصنف للصنعاني: 4/274 وروى مثلها عن ابن عباس في الصفحة السابقة عليها.

غير رمضان والنذر المعين، أما فيه فبإنشاء السفر قبل الزوال، وأن إنشاء الصوم عند الفجر لا يوجب إتمامه، أي أن تخييره يحصل بالتسبيب، أما إذا صار الزوال فليس له أن يفطر حتى لو سافر، ويكون الزوال هو الحد الفاصل وهو المانع من الإفطار.

والشاهد على ظهور النص في هذا المعنى ورود مثله في روايات من رجع إلى أهله قبل الزوال فهو بالخيار إن شاء تناول المفطر في سفره ودخل أهله مفطراً، أو يمسك حتى يدخل بلده فيجدد نية الصوم(1).

وحينئذٍ يكون مفيداً لقول المفيد (قدس سره) ونافياً لقول الشيخ (قدس سره) من اشتراط تبييت النية.

نعم يمكن أن يشكل على هذا بأنه غاية ما يدل عليه هو الشق الثاني من الحكم وهو وجوب إتمام الصوم على من سافر بعد الزوال، أما لزوم الإفطار على من سافر قبله فلا تدل عليه لاحتمال كون الحكم هو التخيير حتى في حال السفر، وهذا الاحتمال في الذيل يوجب إجمالاً يسري إلى صدر الرواية فيسقطه عن الحجية.

ويجاب بوجوه:-

1- إنه قد ثبت بالوجوه المتقدمة أن الذيل منفصل، فإجماله لا يسري إلى الصدر الذي يبقى على حجيته.

2- إنه قد ثبت بالإجماع –بعد سقوط الأقوال الأخرى وضعف مداركها وعدم قدح مخالفة أصحابها- أن الإفطار إذا جاز في فرد من أفراد السفر فإنه يجب.

ص: 112


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 6.

3- إن روايات الطائفتين –وهي العمدة في الباب- تنفي القول بالتخيير وتلزم بالإفطار في مورده، ولا موجب لسقوط جميع آثار الحجية حتى لو قلنا بالتعارض في أثرٍ ما.

4- ضعف القول بالتخيير لموافقته لقول العامة فلا يُعبأ به.

فهذا الاحتمال مردود ويرتفع الإجمال.

وقد يُشكل أيضاً على الصحيحة بناءً على كون الذيل منها من جهة الاضطراب بين صدرها وذيلها فلا تصلح للاحتجاج، وعلى أي حال فإنها ليست الوحيدة فتوجد روايات أخر في الباب.

2- موثقة عبيد بن زرارة:

والإشكال فيها نفس ما ذُكر في الصحيحة باعتبار الإجمال الذي حصل فيها، وبما أن الصحيحة والموثقة رواية واحدة فتكون الموثقة مجملة أيضاً.وفيه: ما أجبنا به هناك من كون الذيل أجنبياً، ورفع الإجمال المذكور، مضافاً إلى أن الإشكال الوارد على الصحيحة –لو سُلِّم- فإنه لا يسري إلى الموثقة وإن ظُنَّ أنهما رواية واحدة، كما أن سقوط بعض فقرات الرواية الواحدة عن الاعتبار لا يسقط بقية فقراتها عنه.

3- صحيحة محمد بن مسلم:

أشكل (دام ظله الشريف) بأن الاستدلال بها على الشق الأول من الحكم –أي لزوم الإفطار بالسفر قبل الزوال- بالمفهوم، وهو لا يدل عليه، إذ أن مفهوم الصحيحة ((وأما إذا لم يسافر بعد نصف النهار فلا يجب عليه الصيام)) وهو أعم من لزوم الإفطار أو الرخصة بينه وبين الصوم.

فلو قيل: ((إذا جاءك زيد فأكرمه)) فإن مفهومها ((إذا لم يجيء زيد فلا يجب إكرامه)) وهو أعم من أنه يحرم، فكذلك الخروج قبل الزوال حكمه عدم وجوب الصوم، فالرواية ساكتة عن كونه مخيراً أو يتعين عليه الإفطار.

ص: 113

أقول: هذا يمكن تتميمه بالروايات والإجماع –بالنحو الذي وصفناه أعلاه- على أن الإفطار في السفر متى جاز وجب والقول بالتخيير متروك لأنه قول العامة، ولاتفاق الطائفتين المعتمدتين على نفيه، وهذا بغض النظر عن بقية روايات المسألة التي نصّت على كلا الشقين.

4- صحيحة الحلبي:

أشكل عليها (دام ظله الشريف) من جهة جعلها المعيار للإفطار الخروج من البيت مع أن المتسالم عليه أن المعتبر هو الخروج من البلد لا المنزل، ولا يوجد مورد استعمل فيه البيت مكان البلد، وهذا يوهن الرواية.

أقول: الصحيحة لا تأبى الحمل على الخروج من البلد لنفس هذا التسالم والارتكاز المذكور، ومع ذلك فإن هذا التعبير ورد في كلام السائل وليس في جواب الإمام (عليه السلام)، وقد ورد مثله في كلام الإمام (عليه السلام) في موثقة علي بن يقطين في الطائفة الثانية من روايات هذه المسألة فضلاً عن غيرها فهذا التعبير ليس شاذاً، وقوله: ((ولا يوجد مورد استعمل ..)) غير دقيق.

وأما (الطائفة الثانية):

فنوقشت بضعف أسانيد أكثرها، فالروايتان الأخيرتان من جهة الإرسال قبل صفوان وبعد سماعة أو ابن مسكان فلا تصححه كبرى صحة مراسيل صفوان وتصحيح ما يصح عن صفوان ونظرائه.ووصف صاحب الحدائق (قدس سره) الرواية (4) بالصحة(1)،((ولم يجد –السيد الخوئي (قدس سره)- لها محملاً عدا السهو والغفلة وإنما العصمة لأهلها، إما منه أو من النساخ))(2)،فحمله (قدس سره) على الغفلة والسهو.

ص: 114


1- الحدائق الناضرة: 13/405.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/479.

أقول: لعل وصفه لها بالصحة لذوقه الذي ينظر إلى المتن لا السند ونسب هذا المنهج إلى القدماء (تقدم كلامه صفحة 84) فيصحح من الروايات ما يطمئن إلى صدوره عن المعصوم (عليه السلام) بمعونة القرائن الداخلية والخارجية، أو لبنائه على شمول كبرى ((إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم للمورد كما ورد في الرياض(1)

وقد أجبناه.

وأما الرواية (3) فصُحح إرسال صفوان بكبرى صحة مراسيله وهي معتمدة عندنا.

وأما رواية ابن يقطين فقد رواها الشيخ بطريقه عن ابن فضال وهو ضعيف وإنما وثقناه بوجه ذكرناه في بعض أبحاثنا المتقدمة(2)،واعتمده السيد الخوئي(3)

(قدس سره) وبعض أساتذتنا.

وبقي سند صحيحة رفاعة لا إشكال فيه، ووصف البعض جميع روايات هذه الطائفة بأنها ((ضعيفة السند فلا تعارض الأخبار الصحيحة))(4)،إلا أنه أشكل على متنها من جهة توقف الاستدلال بها على قراءة الصحيحة بلفظ (حين يصبح) ولكن الموجود في نسخ التهذيب المطبوعة حديثاً لفظ (حتى يصبح) وكذا في بعض الكتب الفقهية مثل المعتبر والمنتهى(5).

ص: 115


1- رياض المسائل: 5/487.
2- هذا بحسب ترتيب الدروس، وفي هذه الطبع أصبح في فقه الخلاف: 5/214.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/479.
4- مدارك الأحكام: 6/289، وسنعرض لاحقاً وجهاً لذلك من جهة عدم كون رفاعة وابن فضال من الإمامية.
5- حكاه السيد الحكيم (قدس سره) في مستمسك العروة الوثقى: 8/416، وذكره أيضاً السيد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة الوثقى: 13/405، (راجع المعتبر للمحقق الحلي: 2/716 ومنتهى المطلب للعلامة (ط.ق.): 2/599).

ويُردّ هذا الإشكال بتعين قراءة (حين يصبح) وهو الموجود في الوسائل لأكثر من وجه:-1- رواية الوافي(1)

لها بهذا اللفظ وطريق الفيض (رحمه الله) إلى التهذيب معتبر كما ورد في كلام جملة من الأصحاب (قدس الله أرواحهم) منهم السيد الخوئي، إلا أن هذا وحده غير كافٍ إلا أن يثبتوا أرجحية نسخة الوافي.

2- إن من سافر ليلاً واستمر على سفره حتى طلوع الفجر من القدر المتيقن للزوم الإفطار، وقد ورد في الرواية أنه يتم صومه. فهذه القراءة تخالف المتيقن والإجماع.

3- إن الشيخ (قدس سره) جعلها دليلاً على قوله: ((ومتى خرج الإنسان إلى السفر بعد ما أصبح فإن كان قد نوى السفر من الليل لزمه الإفطار)) وقوله: ((وإن خرج قبل طلوع الفجر وجب عليه أيضاً الإفطار))(2)

فلا بد أن تكون القراءة (حين أصبح) وإلا كانت على خلاف العنوان.

4- يمكن فهم أن السفر وقع بعد طلوع الفجر حتى على قراءة (حتى يصبح) أي لم يعرض له السفر حتى أصبح إما أن مراد المتكلم –الذي وردت الكلمة في سؤاله -هذا وقد فهم الإمام (عليه السلام) مراده، أو أن الذوق يساعد عليه بمناسبة الحكم والموضوع كفهم «لا أُقسِمُ بِيَومِ القِيَامَةِ»، بأنه (أقسمُ) أو باحتمال سقوط (لا) من قبل (يعرض).

ص: 116


1- الوافي: 12/155 كتاب الصيام، باب 48، متى يفطر المسافر، ح10941.
2- التهذيب: ج4، باب 57: حكم المسافر والمريض في الصيام، ح43.

5- لو تنزلنا فإنها لا تنفع المستدل –أي المشترط تبييت النية- ولا تثبت مدعاه.

مضافاً إلى أنه لم يُعلم منشأ الأمر بإتمام الصوم، هل لأنه أصبح في وطنه ولم يخرج قبل طلوع الفجر فتكون كروايات القول السابع المتقدمة (صفحة 106)، أم غيرها من المعاني الآتية فلا يتعين المعنى الذي بُني عليه الاستدلال للقول الثاني.

وأما رواية ابن يقطين فإنه ((يحتمل فيها عدم السفر أصلاً))(1)،أي أن البداء بمعنى العدول عن السفر.

ويحتمل أن الرواية أجنبية عن المقام فإنها بصدد الرد على بعض فقهاء العامة الذين جعلوا نية السفر كالسفر في الترخيص بالإفطار، فله أن يفطر في منزله ما دام نوى السفر.مضافاً إلى ما أشكل به بعض أساتذتنا من أن الموثقة لا تدل ((على مدعى الشيخ فقد ورد فيها (إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر)، وبين حديث النفس وتبييت النية فرق وكل منهما غير الآخر، فحديث النفس يستعمل كثيراً بمعنى الوساوس، وهو مذكور في كثير من الأبواب كقوله (عليه السلام): (إذا قمت إلى الصلاة فلا تحدث نفسك)، وفي المعجم المفهرس للحديث النبوي –وهو من كتب العامة- الجزء الأول أحاديث كثيرة، وأيضاً قد استعمل في ما يساوق اللفظين كالرواية في الكافي وفيها: (حدثت نفسي أن أهدم ديارهم وأسبي نساءهم فقال (عليه السلام): ما حصل لك من البلاء من هذا)(2)،أما في المقام فيمكن الخدشة في الموثقة من جهة المغايرة)).

ص: 117


1- جواهر الكلام: 17/137.
2- الكافي: 4/215.

هذا على صعيد المناقشة التفصيلية للروايات، فإذا ضممنا إليها المناقشات الإجمالية للطائفة الثانية، تتوفر حينئذٍ بين أيدينا عدة معطيات ترجح القول الأول وتضعف الثاني، منها:-

1- إن روايات الطائفة الأولى أصح سنداً وأوضح دلالة ولمخالفتها للعامة إذ لا توجد أي إشارة إلى علاقة الزوال بالإفطار في كلمات العامة، أما الطائفة الثانية فقد ضعّفها جمع من حيث جهة صدورها لموافقتها لمشهور العامة من اشتراط تبييت النية فتحمل على التقية.

وقد تقدم (صفحة 93) أن شرط الرخصة في الإفطار عندهم هو إنشاء السفر من الليل فقد لا يكتفون بتبييت النية، فالحمل على التقية لا موضوع له، مضافاً إلى أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا صريحين في بيان حكم الإفطار في السفر وتسمية من صاموا بالعاصين.

نعم هنا توجيهان للحمل على التقية:

أولهما: ضم الاكتفاء بنية السفر من الليل للرخصة في الإفطار وإن لم يشرع فعلاً من الليل كما ذكرنا أعلاه.

ثانيهما: أن نحمل التقية على معناها الواسع ومبرراتها العديدة، ومنها توجيه الشيعة إلى مواقف متعددة في المورد الذي يتسع لذلك، لكي لا يكون لهم موقف موحّد يعرفهم به الطغاة فيستأصلونهم، ويعرف ذلك من صحيحة سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله إنسان وأنا حاضر، فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلون العصر وبعضهم يصلي الظهر، فقال: أنا أمرتهم بهذا لو صلوا على وقت واحد عرفوا فأخذوا برقابهم)(1).أقول: غاية هذا الوجه تبرير صدور الأجوبة المختلفة ولا يتكفل بترجيح أحد القولين على الآخر فلا يثبت المدعى به.

ص: 118


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 7، ح3.

2- يمكن تصوّر أن بعض روايات الطائفة الثانية أجنبية عمّا نحن فيه وإنما وردت لبيان أحكام أخرى، وقد ذكرنا آنفاً جملة من تلك المعاني كحمل موثقة علي بن يقطين على المسألة المثارة عند العامة وهي أن من نوى السفر جاز له الإفطار في منزله قبل أن يصل حد الترخص، وقد تقدمت رواية أبي بصرة الغفاري (صفحة 92) في جواز ذلك، أو تحمل على أن نية السفر وحدها فضلاً عن تحديث النفس به لا تضر بنية الصوم فليتمه ويجتزئ به. وهذا المعنى محتمل في صحيحة رفاعة وموثقة علي بن يقطين، فلا دليل في الروايات على وقوع السفر فعلاً، وإن قوله (عليه السلام) يتم الصوم أو اليوم أي في بلده ولا يضره الترديد وحديث النفس.

أو تحمل على اشتراط تبييت نية الصوم لصحته، فمن بيَّت نية السفر أخلَّ بهذا الشرط وعليه القضاء حتى لو أتم يومه ولا يجتزئ به، وقد تقدمت كلمة المحقق الحلي (قدس سره) في المعتبر، ولعل هذا يصلح وجهاً لفهم ورود كلمة (يومه) بدل (صومه) في بعض النسخ لأنه ليس صوماً يجتزأ به.

3- ورجّح بعض الأساطين(1)

(قدس الله أرواحهم) القول الأول لموافقة الجزء الأول من الحكم –وهو الإفطار إذا خرج قبل الزوال- مع عمومات الكتاب والسنة الدالة على لزوم الإفطار في السفر، وموافقة الجزء الثاني من الحكم –وهو لزوم الصوم إذا خرج بعد الزوال- للإجماع المحكي في الخلاف(2).

ص: 119


1- رياض المسائل: 5/491، مستند الشيعة: 10/359، كتاب الصوم للشيخ الأنصاري (قدس سره): 259.
2- الخلاف: 2/219، كتاب الصوم، المسألة (80).

وفيه: لا تمييز بين القولين من هذه الناحية؛ لأن الجزء الأول من هذا القول وهو الإفطار إذا بيّت النية موافق أيضاً لعمومات الكتاب والسنة.

وأما الجزء الثاني فيرد عليه كبروياً بعدم حجية الإجماع المحكي، وصغروياً بعدم وجود مثل هذا الإجماع، فيشترك القولان بالرد عليهما من هذه الناحية، فما حكي عن الخلاف من الإجماع غير ثابت لوجود خلاف فيه ممن اشترط التبييت مطلقاً كالشيخ في بعض كتبه والمحقق الحلي فإنه يلتزم بالإفطار إذا بيّت وإن خرج بعد الزوال، وممن قال بالتخيير مطلقاً –وهو القول السادس المتقدم- وممن قال بالإفطار مطلقاً- وهو الرابع- وممن قال بالتخيير بعد الزوال –وهو الخامس- فأين الإجماع مع وجود هذا الخلاف الكثير؟.مضافاً إلى معارضة هذا الإجماع المحكي لصحيحة حريز الآتية (صفحة 150) بالتقريب المذكور هناك.

فهذا الوجه لتقوية القول الأول ليس تاماً، وسيأتي مزيد وجوه لفهم معنى الطائفة الثانية في المحاولة الثانية بإذن الله تعالى.

وقد التزم جملة من الأساطين بالقول الأول لبعض وجوه الترجيح التي ذكرناها(1)،وحينئذٍ لا يحتاج الفقيه إلى الانتقال إلى المحاولة التالية.

ص: 120


1- راجع رياض المسائل: 5/491، مستند الشيعة: 10/359، جواهر الكلام: 17/136.

(المحاولة الثانية)

الجمع بينهما، وهنا عدة أشكال:

(الأول): حمل الطائفة الثانية على الأولى بتقريب أن التعبير بتبييت النية كناية عن السفر قبل الزوال؛ لأن الغالب في من عزم على السفر من الليل أن يشرع في سفره عند الفجر ونحوه، أما من عرض عليه قصد السفر بعد الفجر فإنه يستغرق وقتاً في تحضير لوازم السفر والخروج من البلد، فيكون خروجه بعد الزوال غالباً، فعاد هذا الشرط إلى شرط قبل الزوال، فتأمل(1).

ولا تأبى بعض روايات الطائفة الثانية هذا الوجه كالرواية (4).

(الثاني): حمل روايات إتمام الصوم عند عدم التبييت على النصيحة واستحباب ذلك بترك نية السفر وإتمام ما عزم عليه من الصوم تطبيقاً لقوله تعالى: «وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ» (البقرة:184) أي أن تصوموا عند توفر شروطه خير من أن تتسببوا لرخصة الإفطار بالسفر ونحوه، ويؤيده قوله تعالى: «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ» (محمد:33) ومن لم يبيّت يكون قد أصبح صائماً ثم بدا له.وقد ورد مثلها في صوم التطوع وقضاء شهر رمضان كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألته عن الرجل يقضي رمضان، ألهُ أن يفطر بعد ما يصبح قبل الزوال إذا بدا له؟ فقال: إذا كان نوى ذلك من الليل وكان من قضاء رمضان فلا يفطر ويتم صومه)(2)

الحديث، ورواية عيسى قال: (من بات وهو ينوى الصيام من غد لزمه ذلك، فإن أفطر فعليه قضاؤه) الحديث.

ص: 121


1- يمكن أن يكون وجهه بأن هذا المعنى ليس أولى من العكس بأن تحمل الطائفة الأولى على الثانية فيقال أن التعبير بالسفر قبل الزوال كناية عن تبييت النية لأن الغالب في من يسافر قبل الزوال أن يكون مبيتاً لنية السفر بعد الفجر لما ذكرناه.
2- الروايات الثلاث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيته، باب 4، ح6، 12، 13 على نفس الترتيب.

وقد عُلل ذلك في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصبح وهو يريد الصيام ثم يبدو له فيفطر، قال: هو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار قلت: هل يقضيه إذا أفطر؟ قال: نعم لأنها حسنة أراد أن يعملها فليتمها) الحديث.

أقول: بعض روايات هذه المسألة تقبل هذا الحمل كصحيحة رفاعة وموثقة علي بن يقطين أما البقية فتحمل على هذا المعنى بقرينة هاتين الروايتين.

(الثالث): حمل الطائفة الثانية على التقية كما قدمنا.

وإلى هذا الوجه ذهب جمع من المحققين كصاحب الحدائق(1)

(قدس سره) وإنما اعتبرناه من وجوه الجمع مع أنه من المرجحات لتعبير البعض بذلك، قال عنه السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((بل هذا الجمع أولى، لرجحان المستفيضة الآتية –أي أخبار الزوال- سنداً واعتضاداً بفتوى جماعة من أعيان القدماء وأكثر المتأخرين، مع وضوح الشاهد عليه نصاً(2)

واعتباراً))(3).

أقول: قرّبنا (صفحة 118) أكثر من وجه لمعنى الحمل على التقية.

(الرابع): العمل بكلتا الطائفتين والأخذ بكلا الشرطين للإفطار على نحو البدلية أي بالجمع بينهما ب-(أو) كما ذهب إليه صاحب الوسائل (قدس سره)، فيكفي تبييت النية أو الخروج قبل الزوال للزوم الإفطار، نظير ما قيل في الأخذ بعلامتي حد الترخص وهما خفاء الجدران وخفاء الأذان فيكتفى بتحقق أحدهما، جمعاً بين دليلي (إذا خفي الأذان فقصّر) و (إذا خفيت الجدران فقصّر).

ص: 122


1- الحدائق الناضرة: 13/406.
2- وهو قوله (عليه السلام): (خذ بما خالف العامة) منه رحمه الله.
3- رياض المسائل: 5/489.

وفيه: إن هذا النحو من الجمع إنما يمكن الأخذ به لو كان كلٌ من الدليلين متكفلاً ببيان أحد الشرطين، ويستفاد نفي الآخر من المفهوم كما في مثال حد الترخص، فيُقيَّد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر.أما في المقام فإن كلاً من شقّي الحكم مبيَّّن في النص صريحاً وبالدلالة المطابقية (إذا خرج قبل الزوال أفطر، وإذا خرج بعد الزوال أتم صومه) (إذا بيّت نية السفر أفطر، وإذا لم يبيّت أتم صومه) وهو ظاهر في كون هذا الشرط سبباً وحيداً للإفطار والصوم لجعله وحده المناط فيهما نفياً وإثباتاً، فلا يقبل الجمع مع أي سبب آخر، وإذا ورد دليل على سبب آخر فيكون معارضاً له.

ومع ذلك فإني أورد هنا بإذن الله تعالى أكثر من شاهد لهذا الوجه من الجمع خلافاً لما تقدم (صفحة 100-101) من تعليق السيد صاحب الرياض والمحقق النراقي (قدس الله سريهما) على هذا القول بأنه يحتاج إلى شاهد:-

1- مرَّ علينا وسيأتي إن شاء الله تعالى الجمع بين سببي الإفطار ب-(و) أي لا يُرخَّص في الإفطار إلا إذا بيّت النية وخرج قبل الزوال، فلو نقلنا هذا الجمع إلى ما بعد الزوال –لعدم رجحان الأول على الثاني- وقلنا إن شرط إتمام الصوم مجموع الشرطين أي عدم تبييت النية والخروج بعد الزوال، كانت نتيجته أن تخلف أحدهما يوجب الإفطار وهو عين قول صاحب الوسائل (قدس سره)، وهذا الوجه من الجمع أي التخيير بين السببين.

وبهذا التقريب وجدنا علاقة بين الجمع ب-(و) والجمع ب-(أو) لعلها لم تذكر في علم الأصول وينظر إلى الجمعين كأنهما متباينان.

2- على فرض فشل محاولات الترجيح والجمع بين الطائفتين، ووقوع التعارض، فيكون العلاج على بعض المباني التخيير في الأخذ بأحدهما من باب (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك).

ص: 123

3- على المبنى الآخر عند التعارض وهو التساقط والرجوع إلى العمومات الفوقانية وهي تقتضي الإفطار مطلقاً يخرج منها القدر المتيقن من الصوم وهو ما لو سافر بعد الزوال ولم يبيّت النية، وهو ينتج قول صاحب الوسائل (قدس سره) كما قدمنا.

أقول: وسيأتي مزيد نقاش لهذا الجمع عند تحليل الشكل الخامس من الجمع.

(الخامس): الأخذ بكلا الشرطين في جانب الإفطار أيضاً ولكن بضمهما وجمعهما ب-(و)، ويكون كل منهما جزء السبب، فيكون شرط الإفطار تبييت النية والخروج قبل الزوال معاً، فإذا تخلّف أحدهما أو كلاهما وجب إتمام الصوم، وهو قول مدرسة الشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط كما تقدم.

ووجه مثل هذه الأشكال من الجمع ما عُبِّر عنه بأن (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)(1)

ونحوه من الحرص على العمل بما صحّ من روايات أهل البيت (عليهم السلام) والتوفيق بينها بما يمكن من المحامل.

وفيه:-1- إن قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) محكومة بقواعد الجمع من كونه عرفياً جارياً لدى أهل المحاورة ومستنداً إلى قرائن، ولا يصح أي جمع ولو كان تبرعياً، والجمع المذكور مما تأباه نصوص الطائفتين؛ لأن كلاً من الشرطين قد ذُكر بشقّيه نفياً وإثباتاً، وهو ظاهر في كون هذا الشرط سبباً تاماً للإفطار والصوم، ولا يقبل الانضمام إلى أي سبب آخر، كالذي قلناه عن الجمع ب-(أو)، وإذا ورد دليل على سبب آخر فيكون معارضاً له، نعم لو ذُكر أحد شقّي الشرط وحُصِّل الآخر من المفهوم أمكن فرض تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر.

ص: 124


1- نسبت الكلمة إلى ابن أبي جمهور الأحسائي صاحب كتاب (غوالي اللئالي).

2- إن أصحاب هذا القول لم يبيّنوا لنا الوجه في اختيار الجمع بين السببين في جانب الإفطار، ولم يجمعوا بينهما في جانب الصوم فيشترطون الخروج بعد الزوال وعدم تبييت النية معاً لوجوب إتمام الصوم.

وتظهر الثمرة في تخلف أحدهما، فعلى ما قالوه يلزم إتمام الصوم، وعلى الآخر يلزم الإفطار، وكلا الشقين منصوصان، ولا وجه لتقديم أحد اللحاظين على الآخر.

وقد تقدم (صفحة 100-101) بيان السيد صاحب الرياض والمحقق النراقي (قدس الله سريهما) لوجه هذا الجمع بأنهما دليلان النسبة بينهما عموم من وجه فيُقيَّد عموم كل منهما بخصوص الآخر، ومثله لا يحتاج إلى شاهد بخلاف الجمع السابق بالاكتفاء بأحدهما فإنه يحتاج إلى شاهد.

وقد وصف الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذا القول بأنه ((لم نقف له على مستند)).

أقول: سنذكر (صفحة 135) بإذن الله تعالى وجهين لترجيح هذا الجمع على الآخر.

ثم علق (قدس سره) على استدلالهما –بعد أن وصف صاحب الرياض بأنه بعض مشايخ مشايخنا وصاحب المستند بأنه بعض مشايخنا- له بقولهما: ((يقيد عموم كل منهما بخصوص الآخر)) بأنه ((استدلال عجيب لأن العامّين من وجه إذا كانا متعارضين فالجمع بينهما لتقيد عموم كل منهما بخصوص الآخر من المحالات العقلية، لأنه جمع بين النقيضين)) وبعد ذلك ضرب مثالاً لتقريب الفكرة إلا أنه لم يكن واضحاً وسنوضحه إن شاء الله تعالى، ثم قال: ((وإن لم يكونا متعارضين فهما يجتمعان، فلا يحتاج إلى تقييد عموم واحدٍ

ص: 125

منهما بخصوص الآخر، لأن التقييد والتخصيص فرع التعارض والتنافي))(1).وبعد أن طبق وقوع المحال على هذه المسألة لو جُمعت قضاياها الأربع بهذا الجمع قال: ((فالتحقيق أن اللازم في تعارض العامين من وجه حمل عموم أحدهما وظهوره على خصوص الآخر ونصوصه، وإبقاء الآخر وظهوره على حاله))(2).

أقول: هذا إشكال لفظي إذ لا شك أن هذا هو مراد السيد صاحب الرياض والمحقق النراقي بدليل النتيجة التي خرجا بها وهو الاستدلال على الجمع بين السببين للزوم الإفطار كما سنبيّن بإذن الله تعالى، أما كلمتهما فإما هي تسامح في التعبير، أو هو ذكر للقاعدة الكلية وليس تطبيقها فمرادهما أن العلاج يكمن في تقييد عموم هذا بخصوص ذاك أو العكس وقد استدلا بتطبيقها على سببي الإفطار، والشاهد على هذا ذكرهما المصداق الآخر لتطبيق القاعدة وهو جمع صاحب الوسائل الذي هو مقتضى الجمع بين السببين في لزوم الصوم كما قرّبنا (صفحة 119) أي عكس هذا التقييد وجعلاه مقابلاً له، فهما لا يريدان التقييدين معاً، لكن الغرابة ترد بشكل أوضح في صياغة كلام السيد الحكيم (قدس سره) لهذا الاستدلال على قول الشيخ في المبسوط، قال (قدس سره): ((وكأن وجهه تقييد إطلاق كل ما دل على الإفطار بالخروج قبل الزوال، على الإفطار إذا بيّت النية بالآخر))(3).

أقول: لا تنافي بين القضيتين ويمكن اجتماعهما، فما ذكره (قدس سره) من الاجتماع لا التقييد.

ص: 126


1- كتاب الصوم للشيخ الأنصاري (قدس سره): 261.
2- المصدر السابق: 262.
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/415.

فالإشكال على هذا الجمع إنما هو الأخذ به دون الآخر بلا مرجح، وهو ما أشار إليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) بقوله: ((فالتحقيق ارتكاب التقييد في أحد المطلقين، ولذا لا بد من وجود المرجح، لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح)).

بيان ذلك: أن كلاً من الطائفتين أفادت قضيتين فاجتمعت عندنا أربع قضايا:-

1- إذا سافر قبل الزوال أفطر.

2- إذا سافر بعد الزوال أتم صومه.

3- إذا بيّت النية وسافر أفطر.

4- إذا لم يبيّت النية وسافر أتم صومه.

وتحصل منها أربع حالات:-

1- السفر قبل الزوال مع تبييت النية.

2- السفر بعد الزوال مع تبيت النية.

3- السفر قبل الزوال مع عدم تبييت النية.

4- السفر بعد الزوال مع عدم تبييت النية.وبملاحظة القضايا الأربع نجد أنها لا تعارض بينها في نفسها إذ لا مانع من كون حالة معينة –كالصوم والإفطار- لها أكثر من سبب أو يشترك فيها أكثر من سبب، وإنما التعارض يقع بين إطلاقات بعضها مع بعض.

فالتعارض هنا يقع بين إطلاقي القضية الأولى والرابعة لأن مقتضى إطلاق الأولى (إذا سافر قبل الزوال أفطر سواء بيّت النية أم لا) ومقتضى إطلاق الرابعة أنه (إذا لم يبيت النية أتم صومه سواء سافر قبل الزوال أو بعده).

ويقع التعارض بين إطلاقي الثانية والثالثة كذلك؛ لأن مقتضى إطلاق الثانية (إذا سافر بعد الزوال أتم صومه وإن بيّت النية) ومقتضى إطلاق الثالثة (إذا بيّت النية أفطر وإن سافر بعد الزوال).

ص: 127

ووجوه الجمع المتصورة(1)

أربعة:-

1- أن نقيد الأولى بالرابعة، ونقيّد الثالثة بالثانية فتكون حصيلة التقييد الأول (إذا سافر قبل الزوال أفطر إلا إذا لم يبيت) وحصيلة التقييد الثاني (إذا بيّت السفر أفطر إلا إذا خرج بعد الزوال) مع إبقاء الثانية والرابعة على حالها، ونتيجة هذين التقييدين الجمع بين سببي الإفطار ب-(و) فلا إفطار إلا إذا بيّت نية السفر وخرج قبل الزوال، وهو قول الشيخ في المبسوط الذي نحن بصدده.

2- عكس هذا الجمع بأن نقيّد الرابعة بالأولى والثانية بالثالثة، فتكون حصيلة التقييد الأول (إذا لم يبيت نية السفر أتم إلا إذا سافر قبل الزوال) وحصيلة التقييد الثاني (إذا خرج بعد الزوال أتم إلا إذا بيّت نية السفر) مع إبقاء الأولى والثالثة على حالها، ونتيجة هذين التقييدين الجمع ين سببي الصوم ب-(و)، فلا يجب إتمام الصوم إلا إذا خرج بعد الزوال ولم يكن مبيّتاً النية.

وهو يؤدي إلى قول صاحب الوسائل (قدس سره) لأن تخلف أي من السببين أو كليهما يوجب الإفطار بناءً على هذا الجمع.

واتضح من بيان التقييدين معنى المحال الذي قصده الشيخ الأنصاري (قدس سره) من تقييد عموم كلٍّ منهما بخصوص الآخر، أي العمل بالصورتين أعلاه معاً، فيلتزم أن سبب الإفطار هو السفر قبل الزوال وتبييت النية وما عداه من الحالات الثلاث حكمه الصوم، ويلتزم أيضاً أن سبب الصوم هو السفر بعد الزوال وعدم تبييت النية معاً، وما عداه حكمه الإفطار، فينتج أن في حالة تخلف

ص: 128


1- ذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذه الصور في كتاب الصوم: 263، وذكرها باختصار السيد الحكيم (قدس سره) في مستمسك العروة الوثقى: 8/416.

أحدهما كما لو سافر قبل الزوال ولم يبيت، أو بعد الزوال وكان مبيتاً فحكمه لزوم الصوم والإفطار في آن واحد وهو محال.

3- أن نقيّد الرابعة بالأولى والثالثة بالثانية، أو قل: نقدّم الأولى والثانية على الثالثة والرابعة، ونتيجته إلغاء شرط تبييت النية، والأخذ بسببية الزوال،1- فيفطر إذا سافر قبل الزوال وإن لم يبيّت، ويصوم إذا سافر بعد الزوال وإن بيَّت. وهو قول مدرسة الشيخ المفيد (قدس سره) ووصفه الشيخ الأنصاري (قدس سره) بالمشهور.

4- أن نقيّد الأولى بالرابعة والثانية بالثالثة أو قل: نقدم الثالثة والرابعة على الأولى والثانية، ونتيجته إلغاء شرط الزوال، والأخذ بسببية تبييت النية، فيفطر إذا بيّت نية السفر وإن خرج بعد الزوال، ويصوم إذا لم يبيّت نية السفر وسافر ولو قبل الزوال، وهو قول الشيخ الطوسي (قدس سره) في غير المبسوط والمحقق الحلي (قدس سره).

وكلامنا فعلاً في الترجيح بين الصورتين الأولى والثانية، إذ لا مسوِّغ للأخذ بأحدهما دون الآخر بلا مرجح، أما الصورتان الثالثة والرابعة فسنذكر لاحقاً عدم إمكان اختيارهما في هذه المرحلة.

وحينئذٍ تكون الصورة الأولى للجمع كالثانية من حيث احتياجهما إلى المرجح، ومنه يُعلم النظر في قول السيد صاحب الرياض والمحقق النراقي (قدس الله سريهما) في أن الأول لا يحتاج إلى شاهد، والثاني يحتاج إلى ذلك، وإذ لا ترجيح فيقع التعارض ويُرجع إلى قواعده ومرجحاته.

وأخذ السيد الحكيم (قدس سره) أصل المطلب من الشيخ الأنصاري (قدس سره) وانتهى إلى تحقق التعارض لعدم المرجح بعد أن عرض القضايا الأربع، لكنه صوّر التقييدات المحتملة بشكل آخر، قال (قدس سره): ((الطائفة الأولى من النصوص قد صرحت بشرطيتين: إحداهما: إذا خرج قبل الزوال

ص: 129

أفطر، وثانيتهما: إن خرج بعد الزوال صام. وكذا الطائفة الثانية أيضاً تعرضت لشرطيتين: إحداهما: إذا بيت النية أفطر، وثانيتهما: إذا لم يبيت النية صام. وحينئذ يدور الأمر في مقام الجمع بين الطائفتين إما بتقييد الأولتين منهما إحداهما بالأخرى، ولازمه اعتبار أمرين في الإفطار: الخروج قبل الزوال، وتبييت النية معاً. وإما بتقييد الثانيتين منهما إحداهما بالأخرى، ولازمه اعتبار أمرين في الصوم: الخروج بعد الزوال، وعدم تبييت النية ولا يمكن البناء على الجمع بين التقييدين معاً، للزوم التناقض فإن مفاد التقييد الأول: اعتبار أمرين في الإفطار، وكفاية عدم أحدهما في الصوم، ومفاد الثاني: اعتبار عدم كل منهما في الصوم، وكفاية أحدهما في الإفطار. فيتعين إما البناء على الأول، أو على الثاني. وإذ لا مرجح، لا مجال للبناء على أحدهما، لأنه بلا شاهد))(1).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

1- إن محل التعارض بين إطلاقي الرابعة والأولى وبين الثانية والثالثة، وليس بين الأوليين منهما ولا بين الثانيتين كما ذكر (قدس سره) وقد أوضحناه.

2- إن ما عرضه من التقييدين ليس تقييداً بل هو جمع بين القضيتين لعدم التنافي بينهما وهما القدر المتيقن.

3- إن المحال المذكور في كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) ناتج من الأخذ بكلا التقييدين اللذين ذكرناهما في الصورتين الأولى والثانية المتقدمتين لا بما ذكره (قدس سره).

إن قلتَ: بناءً على هذين التقييدين نتجت أيضاً نفس القضيتين اللتين حصلتا من الجمع فلماذا أصبح محالاً في التقييد وقدراً متيقناً في الجمع؟

ص: 130


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/416.

قلتُ: إن الجمع والتقييد وإن اتفقا في هاتين القضيتين الناتجتين، إلا أنه في الجمع لا يلزم منه تحقق الحكم الآخر في الحالات الثلاث الأخرى، ويكون ساكتاً عنها، أما في التقييد فيلزم منه كون الحكم في الحالات الأخرى هو المقابل لحاصل التقييد فيحصل المحال عند الجمع بين التقييدين.

وعلى أي حال فإن هذه النتيجة –أي استقرار التعارض والرجوع إلى المرجحات- لم يرتضها السيد الخوئي (قدس سره) فإنه يعتقد بإمكان الجمع وترجيح الصورة الأولى أي جمع الشيخ في المبسوط قال (قدس سره): ((إن المعارضة بين الطائفتين معارضة بالإطلاق لا بالتباين، بمعنى: أنّه لا يمكن العمل بإطلاق كلّ من الطائفتين، وإلاّ فأصل التفرقة في الجملة ممّا لا معارض له، إذ لا مانع من الالتزام بذاتي التفصيلين، أعني: التفكيك بين التبييت وعدمه، وبين ما قبل الزوال وما بعده بنحو الموجبة الجزئية، وإنّما يمتنع الالتزام بهما على سبيل الإطلاق، لما بينهما من التضادّ، فالإشكال من ناحية الإطلاق فقط لا أصل الحكم))(1).

((وعليه، فيرفع اليد عن إطلاق الطائفة الأُولى الناطقة بالإفطار لو سافر قبل الزوال، وتُحمَل على ما لو كان مبيّتاً للنيّة، بشهادة صحيح رفاعة الصريح في وجوب الصوم على من سافر قبل الزوال من غير تبييت، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان حين يصبح، (قال: يتمّ صومه (يومه) ذلك).

فإنّ قوله يعرض، ظاهر في عروض السفر وحدوث العزم عليه من غير سبق النيّة فتكون هذه الصحيحة كاشفة عن أنّ الطائفة الثانية المتضمّنة للتفصيل

ص: 131


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/482.

بين التبييت وعدمه ناظرة إلى هذا المورد، -أعني: ما قبل الزوال- فيكون الحكم بالصيام لو سافر بعد الزوال الذي تضمّنته الطائفة الأُولى سليماً عن المعارض.ونتيجة ذلك: هو التفصيل بين ما قبل الزوال وما بعده، وأنّه في الأوّل يحكم بالإفطار بشرط التبييت، وفي الثاني بالصيام مطلقاً. وهذا هو التفصيل المنسوب إلى الشيخ في المبسوط كما سبق، وهو الصحيح، فيكون الإفطار في السفر مشروطاً بقيدين: وقوعه قبل الزوال وتبييت النيّة ليلاً، فلو سافر بعده أو سافر قبله ولم يبيّت النيّة بقى على صومه، فتكون هذه الصحيحة وجهُ جمع بين الطائفتين، فلا تصل النوبة إلى إعمال قواعد الترجيح))(1).

((وعلى الجملة: فبهذه العملية الناتجة من بركة صحيحة رفاعة ترتفع المعارضة من البين، وكنّا قد عملنا بكلتا الطائفتين ففرّقنا بين ما قبل الزوال وما بعده بالحكم بالصيام في الثاني مطلقاً، وبالإفطار في الأوّل بشرط التبييت، كما وفرّقنا أيضاً بين التبييت وعدمه حسبما تضمّنته الطائفة الثانية بالإفطار في الأوّل دون الثاني، لكن في مورد خاصّ وهو ما قبل الزوال. وهذا نوع جمع بين الأخبار ينحسم به الإشكال))(2).

أقول: لم نتحقق وجهاً لهذا الترجيح، وإن وصفه بعض أساتذتنا بأن له وجهاً(3):-

1- لأننا عرضنا عدة معانٍ لهذه الصحيحة مما يجعلها أجنبية عن المسألة، وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال.

2- لو تنزلنا فإن صحيحة رفاعة ناظرة إلى مدخلية التبييت في الإفطار ولا يتعين من ظاهرها وقوع السفر قبل الزوال فلعله عرض عليه قصد

ص: 132


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/481-482.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/483.
3- محاضرتا 20/رجب/1416 و 2/شعبان/1416.

السفر بعد أن أصبح ولم يشرع فيه إلا بعد الزوال، فهي من أدلة القول الثاني لا الترجيح. فرجع كلامه (قدس سره) إلى الترجيح بلا مرجح.

3- لو تنزلنا وقبلنا بالوجه الذي قاله (قدس سره) وأن الصحيحة ناظرة إلى عروض نية السفر بعد الفجر وشروعه في السفر كذلك فورد الحكم بإتمام الصوم وهو يقيد الطائفة الأولى بالرابعة، فإنه تبقى العملية ناقصة لعدم حل التعارض بين الثانية والثالثة.

نعم لنا أن نتممه له بأنه إذا وُجد وجه لتقييد الأولى بالرابعة فلا بد من تقييد الثالثة بالثانية (الصورة الأولى) وإلا لزم إلغاء السبب الآخر للإفطار والصوم وهو ما سنرد به على الصورتين الثالثة والرابعة.

4- من النقطة أعلاه يُعلم النظر في قوله (قدس سره): ((فيكون الحكم بالصيام لو سافر بعد الزوال الذي تضمنته الطائفة الأولى سليماً عن المعارض؛ لأن هذه القضية –وهي الثانية- معارضة للقضية الثالثة بإطلاقها فالمعارض موجود)).ثم ذكّر (قدس سره) بما التزم به في علم الأصول من أن مورد إعمال المرجحات حصول التعارض بين ذاتي الدليلين لا إطلاقيهما، فعلى فرض استقرار التعارض وعدم إمكان الترجيح بصحيحة رفاعة فإنه لا يسوغ اللجوء إلى مرجحات باب التعارض، قال (قدس سره): ((ولو أغمضنا النظر عن هذه الصحيحة كانت النتيجة أيضاً كذلك، فإنّ المعارضة بين الطائفتين إنّما هي بالإطلاق لا بالتباين ليرجع إلى المرجّحات حسبما عرفت، فلا بدّ إمّا من رفع اليد عن إطلاق الطائفة الأُولى الناطقة بالبقاء على الصوم فيما لو سافر بعد الزوال وتقييدها بمقتضى الطائفة الثانية بما إذا لم يبيّت النيّة وأمّا إذا كان ناوياً للسفر من الليل فيفطر حينئذ، أو أن نعكس الأمر فيبقى هذا الإطلاق على حاله وتُقيَّد الطائفة الثانية المفصّلة بين تبييت النيّة وعدمه بما قبل الزوال، كي

ص: 133

تكون النتيجة أنّه إن سافر بعد الزوال يصوم مطلقاً وإن سافر قبله يصوم أيضاً إن لم يبيّت النيّة وإلاّ فيفطر، فأحد هذين الإطلاقين لا مناص من رفع اليد عنه، وظاهرٌ أنّ المتعيّن هو الثاني، إذ لا محذور فيه بوجه، ونتيجته ما عرفت، بخلاف الأوّل، إذ نتيجته الالتزام بأنّه إن سافر قبل الزوال أفطر مطلقاً، وإن سافر بعده أفطر بشرط التبييت وإلاّ بقى على صومه، وهذا ممّا لم يقل به أحد أبداً، ولا وجه له أصلاً كما لا يخفى، ولا يمكن إلحاق ما قبل الزوال بما بعده في الاشتراط المزبور، وإلاّ بطل الفرق بين ما قبله وما بعده، مع أنّ تلك الطائفة صريحة في التفرقة.

وبعبارة أُخرى: الطائفة الأُولى صريحة في التفرقة بين ما قبل الزوال وما بعده في الجملة، كما أنّ الثانية صريحة أيضاً في التفرقة بين التبييت وعدمه في الجملة أيضاً، ولا موجب لرفع اليد عن أصل التفرقة، لعدم المعارضة من هذه الجهة، وإنّما المعارضة من ناحية الإطلاق فحسب كما مرّ غير مرّة، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما، والمتعيّن ما عرفت، لسلامته عن المحذور، بخلاف العكس، فإنّه غير قابل للتصديق))(1).

أقول: بغضّ النظر عن الكبرى التي ذكرها (قدس سره) بناءً على ما اختاره في علم الأصول، وسنعرضها في المحاولة الثالثة بإذن الله تعالى، فإنه لم يأتِ (قدس سره) بجديد ولم يبيّن وجهاً للترجيح، مع ما في كلامه (قدس سره) من المناقشات كقوله: ((وهذا مما لم يقل به أحدٌ أبداً)) وقد علمنا ما فيه لذهاب صاحب الوسائل (قدس سره) له، مضافاً إلى أن وجود قائل بالأول –وإن كان مثل الشيخ الطوسي (قدس سره)- وعدم وجود قائل بالثاني لا يغني من الحق شيئاً. وعلى تعبير بعض أساتذتنا: إننا نفرض أنفسنا قبل تصنيف كتاب المبسوط

ص: 134


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/483-484.

وهو آخر ما صنفه الشيخ (قدس سره) وحينئذٍ لم يكن قائل لا بهذا القول ولا بذاك فبأي وجه رجّح الشيخ (قدس سره) أو نرجّح لو كنا محله؟وفي الكتب الأصولية الذين تعرضوا لوجوه تقديم أحد العامين على وجه لم يذكروا هذا الوجه(1).

وقوله (قدس سره) عن الوجه الآخر للجمع بأنه ((لا وجه له أصلاً)) مردود بما ذكرناه من الوجوه والشواهد (صفحة 123) وسيأتي غيرها بإذن الله تعالى.

وقوله: ((لا يمكن إلحاق ما قبل الزوال بما بعده..)) لا موضوع له لأن كلا القولين أخذا بالشرطين وإن اختلفا في كيفية تأثيرهما في الصوم والإفطار.

نعم يمكن تقديم وجهين لترجيح جمع الشيخ (قدس سره) في المبسوط أي مراعاة الجمع بين السببين في جانب الإفطار لا الصوم:

أحدهما: أن يقال أن كل أدلة المسألة بيانية لعمومات الإفطار ومفصلة لها أي أنها بصدد بيان وتفصيل شروط ما به يتحقق الإفطار في السفر، أي أن النظر يكون موجهاً إلى القضيتين الأوليين من الطائفتين فيجمع بينهما ب-(و)، أما القضيتان الثانيتان من الطائفتين فمذكورتان بالتبع واللازم، فهما منطوقان إلا أنهما في الحجية كالمفهوم، وهذا واضح من عنوان الباب عند الأصحاب فقد ذكرهما الكليني والشيخ (قدس الله سريهما) في شرائط السفر الموجب للقصر وعنونه صاحب الوافي ((باب متى يفطر المسافر))(2)

وجعلهما صاحب الوسائل (قدس سره) في شروط الإفطار.

وفيه:-

ص: 135


1- محاضرة 2/شعبان/1416.
2- الوافي: 11/153، باب 48.

1- إن هذا البيان غير وافٍ بالمطلوب، إذ يمكن بناءً على هذا اللحاظ الجمع بين السببين ب-(أو) كما في بيان المشهور حد الترخص.

2- إنه يمكن عرض عكس الفكرة وتكون مرجحاً لجمع صاحب الوسائل (قدس سره) فيقال إن لحاظ شرط إتمام الصوم أولى لأن سياق الحديث في الاستثناء من عموم لزوم الإفطار في السفر فيكون المطلوب بيان ما به الخروج من هذا العموم أي إتمام الصوم، فيكون اللحاظ موجهاً إلى القضيتين الثانيتين من الطائفتين وتكون الأوليان كالمفهوم، فلا ترجيح.

ثانيهما: إن جمع الشيخ (قدس سره) أوفق بالاحتياط، أو قل إن الاحتياط ممكن إذا أخذنا به؛ لأنه لا يجيز الإفطار إلا في القدر المتيقن عند اجتماع السببين، وفي ما عداه يستطيع الإمساك عن المفطرات بنية رجاء المشروعية(1)

فإن كان الحكمالواقعي هو الصوم فقد أتى به، وإن كان الإفطار فهو لم يخالفه بعد أن أتى به بالنية المذكورة.

أما الجمع الآخر فإنه يلزم بالصوم في القدر المتيقن ويرخص في الإفطار في الحالات الثلاث الأخرى –تخلف أحدهما أو كليهما- فإذا كان الحكم الواقعي هو الصوم عند تحقق أحد السببين –عدم التبييت وبعد الزوال- فيكون قد رخّص في الحكم الإلزامي وهو محذور.

وفيه: إن الاحتياط أصل يتنجز المصير إليه إذا لم يحصل الاطمئنان بدليل على الحكم، فمن حصل له الاطمئنان بترجيح قول أو وجه مما تقدم فلا حاجة إلى الاحتياط، ورغم ذلك فإنه يمكن العمل بالاحتياط لحسنه في نفسه مع النية المذكورة.

ص: 136


1- عدا ما إذا سافر بعد الزوال ولم يكن مبيتاً فيصوم بنية جزمية لأنها من القدر المتيقن.

وقد بنى على هذا الاحتياط جملة من الأعاظم (قدس الله أرواحهم)، قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((وكيف كان فالاحتياط مما لا ينبغي تركه في أمثال هذه المقامات وهو هنا يحصل بتبييت النية ثم الخروج قبل الزوال فإنه يجب الإفطار على جميع الأقوال، وعليه تجتمع الأخبار الواردة في هذا المجال))(1).

وقال السيد صاحب الرياض (قدس سره) أن الأحوط عدم المسافرة إلا قبل الزوال مع تبييت النية(2).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وإن كان الاحتياط الذي هو ساحل بحر الهلكة لا ينبغي تركه، وهو هنا يحصل بالتبييت مع الخروج قبل الزوال دون غيره، لدوران الأمر بين وجوب الصوم وحرمته فيما عداه))(3).

أقول: تمام مقتضى الاحتياط ما ذكرناه.

(السادس): العمل بالصورة الثالثة من الصور الأربع المتقدمة (صفحة 129) فينتج قول مدرسة الشيخ المفيد (قدس سره)، وممن أخذ به الشيخ الأنصاري (قدس سره) واعتبره المذهب المشهور وقال في وجه ترجيحه: ((إن جل المرجحات الموجبة لترجيح أخبار إناطة الإفطار بالخروج قبل الزوال من موافقة الكتاب ومخالفة العامة، مختص بأحد الحكمين المستفادين من تلك الأخبار، وهو: الإفطار إذا خرج قبل الزوال وإن لم يعزم السفر من الليل، بل وعزم الصوم.

ص: 137


1- الحدائق الناضرة: 13/407.
2- رياض المسائل: 5/493.
3- جواهر الكلام: 17/139.

وأما الحكم الآخر المستفاد منها، وهو: الصوم مع الخروج بعد الزوال فلا مرجح لها بالنسبة إليه، لعدم جريان عمومات الإفطار وعدم معلومية مذهب العامة فيه.اللهم إلا أن يكتفى فيه بالشهرة ونقل الإجماع عن الخلاف مضافاً إلى ظهور الإجماع المركب، إذ كل من قال بوجوب الإفطار بالخروج قبل الزوال وإن لم يعزم السفر ليلاً قال بالإتمام بالخروج بعد الزوال وإن عزم السفر ليلاً))(1).

أقول: هذه الصورة لا مجال للأخذ بها في هذه المرحلة (أي المحاولة الثانية) لأنه يلزم منه إلغاء الطائفة الثانية من الروايات والمفروض تماميتها، فمحل هذا القول في المحاولة الأولى وقد لخّصنا هناك هذا الوجه من الترجيح وأجبنا عنه عند عرضه باختصار (صفحة 120) وذكرنا هناك مخالفة الإجماع المحكي لصحيحة حريز الآتية (صفحة 150).

(السابع): الصورة الرابعة من الصور الأربع المتقدمة، ونتيجتها العمل بشرط تبييت النية دون الآخر، وهو قول الشيخ (قدس سره) في بعض كتبه والمحقق الحلي (قدس سره).

ويرد عليه ما قلناه في رد الوجه السابق من لزوم إلغاء الآخر ولا مجال له هنا.

(الثامن): دلّت الروايات على أن الإمام (عليه السلام) قد يعطي أجوبة مختلفة في مورد الأحكام الموسعة كالتخيير والترخيص مراعاة لبعض المصالح العامة والخاصة، وهذا يقتضي أنه إذا وردت أحكام مختلفة في موردٍ ما، فهذا كاشف

ص: 138


1- كتاب الصوم للشيخ الأنصاري (قدس سره): 264.

عن كون الحكم موسعاً، والمقام منه؛ لأن الإمام (عليه السلام) لا يرخص في الأحكام الإلزامية كما سيأتي في رواية الميثمي (صفحة 141) إلا لخوف ضرورة وهي غير متوفرة هنا.

فهذا الوجه من الجمع مبني على كون حكم المسافر بالنسبة للصوم هو التخيير بين الصوم والإفطار فهذه الأجوبة المختلفة كلها صحيحة ومطابقة لتكليف المسافر، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد يلاحظ مصلحة عامة في إعطاء الأجوبة المختلفة وقد صرحت به صحيحة أبي خديجة (صفحة 118) وهو الحفاظ على الشيعة، وأوردنا رواية شاهدة على ذلك.

أو أنه (عليه السلام) يراعي حالة في السائل فيجيبه بما يوافقه، فإذا كان سفره في أول النهار وتنتظره مشقة كثيرة فيقول له أفطر، وإذا كان سفره بعد الزوال وقد مرّ أكثر النهار فيدعوه إلى إتمام الصوم وتحصيل أجره.

وإذا بيّت نية السفر قال له أفطر لأنه لم يعقد نية الصوم ولم يتلبس بالعمل، وإذا كان لم يبيّت نية السفر، أي أصبح صائماً دعاه إلى إتمام الصوم لأنه بدأ بعمل صالح فيحسُن إتمامه.ونظير هذا ما ورد في كفارة الإفطار المتعمد في شهر رمضان، ففي موثقة سماعة (عن رجل لزق بأهله فأنزل، قال (عليه السلام): عليه إطعام ستين مسكيناً، مد لكل مسكين) وفي رواية المشرفي (من أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً فعليه عتق رقبة مؤمنة ويصوم يوماً بدل يومه) وورد في موثقة سماعة (قال: عليه عتق رقبة أو إطعام ستين مسكيناً أو صوم شهرين متتابعين) ومثلها صحيحة عبد الله بن سنان(1).

ص: 139


1- الروايات الأربع تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 8، الأحاديث 1، 11، 12، 13.

وينبغي الالتفات إلى أن هذا التخيير –لو تم الدليل عليه- فهو مختص بمن سافر قبل الزوال، فإذا صار الزوال فقد عزم عليه الصوم وإن سافر بعد ذاك؛ لأنه مقتضى الأدلة المتقدمة، ولأن الزوال وقت لزوم النية في ما هو أقل منه لزوماً لقضاء شهر رمضان، فهذا ليس أقل منه.

أما الدليل على كون حكم السفر في نهار شهر رمضان هو التخيير فيمكن أن يكون عدة وجوه:-

1- صحيحة رفاعة التي تقدمت في القول الخامس وفيها (عن الرجل يريد السفر في رمضان، قال: (إذا أصبح في بلده ثم خرج فإن شاء صام وإن شاء أفطر)(1).

فتصلح هذه الصحيحة بياناً للحكم الواقعي وتشرح معنى الأجوبة المختلفة، كموثقة سماعة المتقدمة في بيان خصال الكفارة على نحو التخيير الرافعة لظهور الروايات الأخرى في التعيين.

2- إن هذا الوجه يستوعب كل روايات الباب ويرفع التعارض من بينها؛ لأن كل ما جاءت به الروايات هي مصاديق لهذا القول، ولكون الروايات المتعارضة معتبرة، فإن وجود معنى جامع لها يكون أمراً راجحاً.

3- إن نفس هذا الاختلاف في الأجوبة مع الاطمئنان بصدور كلتا الطائفتين عن المعصوم (عليه السلام) يكون كاشفاً عن أن الحكم هو التخيير؛ لأن مورد صدور الأخبار المختلفة عن المعصوم (عليه السلام) هي الأحكام الموسعة كما ورد في صحيحة عبد الأعلى بن أعين قال: (دخلت أنا وعلي بن حنظلة على أبي عبد الله (عليه السلام) فسأله علي بن حنظلة عن مسألة فأجابه فيها، فقال له علي: فإن كان كذا

ص: 140


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح7.

كان كذا، فأجابه بوجه آخر، فقال له: وإن كان كذا كان كذا، فأجابه بوجه آخر، حتى أجابه فيها بأربع وجوه فالتفت إلي علي بن حنظلة فقال: يا أبا محمد قد أحكمناها، فمنعه أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: لا تقل هكذا يا أبا الحسن فإنك رجل ورع، إن منالأشياء أشياء ضيقة ليس تجري إلا على وجه واحد، منها وقت الجمعة ليس لها إلا وقت واحد حين تزول الشمس، ومن الأشياء أشياء موسعة تجري على وجوه كثيرة وهذا منها، والله إن له لعندي سبعين وجهاً)(1).

ورواية العيون بسنده عن أحمد بن الحسن الميثمي (أنه سأل الرضا (عليه السلام) يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الشيء الواحد) إلى أن قال: (قلت: فإنه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول (صلى الله عليه وآله) مما ليس في الكتاب وهو في السنة ثم يرد خلافه فقال كذلك قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أشياء نهي حرام فوافق في ذلك نهيه نهى الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرايض الله ووافق في ذلك أمره أمر الله تعالى، فما جاء في النهى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو نحرم ما استحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا يكون ذلك أبداً؛

ص: 141


1- الاختصاص: 287، وروى شطراً منها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة، باب 8، ح21، من قوله (عليه السلام): (إن من الأشياء أشياء..).

لأنا تابعون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مسلّمون له كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تابعاً لأمر ربه عز وجل مسلماً له، وقال عز وجل «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا»، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدين، ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول فما كان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهي إعافة أو أمر فضل، فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه) الحديث.

وفيه: (وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً أو بأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله))(1).ورواية عبد الله بن زرارة قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اقرأ مني على والدك السلام وقل له: إني أعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قرّبناه وحمدنا مكانه؛ لإدخال الأذى في من نحبه ونقربه) إلى أن قال: (فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي (عليه السلام) وأمرتك به، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق، ولو أذن لنا لعلمتم أن الحق في الذي أمرناكم، فردوا

ص: 142


1- عيون أخبار الرضا: 240، باب 30 ما جاء من الأخبار المنثورة، وذكر في ذيلها وجهاً لقبول الرواية رغم ورود المسمعي في سندها.

إلينا الأمر وسلّموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها، والذي فرّق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله خلقه، وهو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها، فإن شاء فرق بينها لتسلم)(1).

إن قلتَ: إن رواية واحدة لا تكون كافية لتأسيس الحكم في مثل هذه المسألة الخلافية، فلو كان الحكم فيها هو التخيير لوردت فيه روايات متعددة.

قلتُ:-

1- لا فرق بين الرواية الواحدة والمتعددة من هذه الناحية ما دامت تامة الحجية.

2- إن الرواية الدالة بالمطابقة على الحكم وإن كانت واحدة هنا إلا أننا نقلنا روايات تكشف بدلالة الاقتضاء عن حكم التخيير، كما ستأتي (صفحة 186) عدة روايات تؤدي نفس النتيجة في المورد المقابل أي من رجع إلى وطنه من السفر.

(التاسع) أن نجرّد كلا الطائفتين من إطلاقيهما، باعتبار أن من مقدمات الحكمة التي يثبت بها الإطلاق: عدم البيان، وفي المقام تصلح كل طائفة أن تكون بياناً يمنع من استمرار الإطلاق في المقدار الذي ينافي الطائفة الأخرى بعد أن انعقد ابتداءً لعدم ورود المقيِّد، فتكون كل قضية مهملة في هذا المقدار وتتحول إلى قضية موجبة جزئية بالقدر الذي لا يتنافى مع الطائفة الأولى، فمن سافر قبل الزوال أفطر ولكن ليس مطلقاً كما إذا لم يبيت وتكون ساكتة عن محل الاستثناء، ومن سافر بعد الزوال صام ولكن ليس مطلقاً كما إذا بيّت حيث تكون مهملة في هذا المستثنى.

ص: 143


1- رجال الكشي، وأوردها عنه في معجم رجال الحديث: 7/227.

نعم من سافر قبل الزوال وبيّت النية أفطر جزماً، ومن سافر بعد الزوال ولم يبيت صام جزماً لأنهما قدر متيقن تشترك فيه الطائفتان، وبذلك يزول التعارض من أصله لزوال موضوعه وهو إطلاق الطائفتين.

وهذا الوجه يفترق:-

1- عن وجه الجمع للشيخ (قدس سره) في المبسوط بأنه ساكت عن الحالتين خارج القدر المتيقن، وجمع الشيخ يحكم فيهما بالصوم.

2- ويفترق عن المانع الذي ذكره السيد الخوئي (قدس سره) عن استعمال المرجحات بأن خروجه تخصّص لعدم وجود تعارض هنا كما ذكرنا، بينما خروجه عند السيد الخوئي (قدس سره) بالتخصيص لأنه افترض وجود التعارض لكنه ليس مورداً لإعمال مرجحات باب التعارض.

أما الحالتان المسكوت عنهما فتؤخذ من العمومات الفوقانية التي سنذكرها بإذن الله تعالى، ونؤجل باقي الكلام إلى المحاولة الثالثة لارتباط المطلب بموانع إعمال المرجحات.

إن قلتَ: قد تقدم أن تقييد كل من الطائفتين بالأخرى محال للزوم التناقض، فهذا الوجه محال.

قلتُ: هذا الوجه لا يُلزِم بتقييد كل من الطائفتين بالأخرى، بل يقف عند عدم الأخذ بإطلاقيهما، فبين الوجهين فرق، ولا توجد استحالة في ما ذكرناه.

(المحاولة الثالثة) في الترجيح بين الطائفتين بمرجحات باب التعارض من الجهتية أو الصدورية أو المضمونية على فرض فشل المحاولتين السابقتين واستقرار التعارض.

ص: 144

وهنا يواجهنا إشكال قبل التعرّض لهذه المرجحات في أصل إمكان الرجوع إلى هذه المرجحات وإعمالها لوجود المانع، ويمكن تحصيل ثلاثة موانع، اثنان منها كبروية، والثالث صغروي يتعلق بالمقام:

(الأول) ما تقدم من السيد الخوئي (قدس سره) وبنى عليه في علم الأصول من أن الإطلاق ثابت بحكم العقل، وليس من مدلول اللفظ حتى يكون صغرى لقوله: ((يأتينا عنكم الحديثان المختلفان)) حتى نُعمل المرجحات الواردة فيهما، حيث قال (قدس سره) هناك: ((أما إذا كان العموم في كل منهما مستفاداً من الإطلاق، فتسقط الروايتان في مادة الاجتماع من الأول، بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات. وذلك لأن الإطلاق بمعنى اللا بشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول اللفظ، إذ اللفظ موضوع للماهية المهملة التي يعبر عنها باللا بشرط المقسمي، فلا يروي الراوي عن الإمام (عليه السلام) إلا بثبوت الحكم للطبيعة المهملة. وأما إطلاقه فهو خارج عن مدلول اللفظ، ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة. وعلى هذا فلا تعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما، فإنه لا تنافي بين الحكم بوجوب إكرام العالم على نحو الإهمال، وحرمة إكرام الفاسق كذلك ليقع التعارض بين الخبرين الدالين عليهما. ولا سبيل للعقل إلى الحكم بأن المراد منهما وجوب إكرام العالم ولو كان فاسقاً، وحرمة إكرام الفاسق ولو كان عالماً فإنه حكم بالجمع بين الضدين. والحكم – بالإطلاق في أحدهما دون الآخر- ترجيح بلا مرجح، فيسقط الدليلان معاً فيمادة الاجتماع، ويرجع إلى دليل آخر من عموم أو إطلاق. ومع فقده يكون المرجع هو الأصل العملي))(1).

ص: 145


1- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 48/516.

وشرح في موضع آخر مراده من سقوط الدليلين أي إطلاقيهما قال (قدس سره): ((وأما إن كانت النسبة بينهما العموم من وجه، وكان العموم في كل منهما بالإطلاق، يسقط الإطلاقان في مورد الاجتماع، لما ذكرناه من أن الإطلاق غير داخل في مدلول اللفظ، بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن جريانها في هذه الصورة. وذكرنا أن المستفاد من الكتاب ذات المطلق لا إطلاقه، كي يقال: إن مخالف إطلاق الكتاب زخرف وباطل))(1).

أقول: المبنى الذي اختاره (قدس سره) من أن الإطلاق ((خارج عن مدلول اللفظ، ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة)) ليس صحيحاً، إذ أن الإطلاق يستفاد من اللفظ لكن لا بالدلالة الوضعية بل السياقية بمعونة القرائن ومقدمات الحكمة ونحوها، أما وظيفة مقدمات الحكمة فهي إثبات أن تمام المراد الجدي للمتكلم في عالم الثبوت هو ما صدر منه في عالم الإثبات، وهو ما يعرف بأصالة تطابق عالمي الإثبات والثبوت.

وهذا هو مختار السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وبعض أساتذتنا، قال السيد الشهيد (قدس سره): ((إن مقدمات الحكمة لا تقتضي إلا مطلباً واحداً دائماً في جميع المقامات، وهو أن ما أخذ موضوعاً للحكم في مقام الإثبات –وهو الطبيعة- تمام الموضوع له ثبوتاً))(2).

فالإطلاق يستفاد من ظهور اللفظ لكن بمعونة مقدمات الحكمة، قال (قدس سره): ((إن المتكلم له ظهوران حاليان كاشفان عن الإرادة الجدية، أحدهما الظهور السلبي في أن ما سكت عنه ولم يذكره في مرحلة الإثبات غير ثابت في مرحلة الثبوت والجد، فليس هناك شيء قد قصده ولم يقله، وهذا هو

ص: 146


1- المصدر السابق: 48/517.
2- بحوث في علم الأصول: 7/285.

أساس الظهورات الإطلاقية في المطلقات. والآخر الظهور الإيجابي في أن ما ذكره في مرحلة الإثبات ثابت في مرحلة الثبوت أيضاً، فليس هناك شيء قد قاله ولم يقصده، وهذا هو أساس الظهورات التقييدية في المقيدات))(1).واختاره أيضاً بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) فإنه بعد أن أوضح مبنى السيد الخوئي (قدس سره) المتقدم بالتفصيل قال عنه أنه ((محل خدشة وقد بيناه في علم الأصول، فإن الظهور تارة يكون مستنداً إلى الوضع وأخرى إلى اللفظ وما يكتنفه، فالظهور المدعى في مقام الإثبات هو المستند إلى الوضع، فإذا قال: أكرم عالماً وكان متمكناً من التقييد ولم يقيّد وهو في مقام البيان: ينعقد له ظهور في التوسعة، لكنه من ناحية مجموع الدلالة الوضعية وبقية المقدمات ومنها عدم التقييد، فقوله: (أكرم عالماً) يعني أي عالم، فإنكار ظهور اللفظ في الإطلاق محل خدشة))(2).

(الثاني) عدم إعمال المرجحات لانتفاء موضوعها أصلاً وهو التعارض، وقد قرّبنا ارتفاعه في الوجه التاسع من وجوه الجمع (صفحة 143) وملخّصه أن التعارض نشأ من الأخذ بإطلاقي الطائفتين وهو غير ثابت بعد ورود البيان الآخر وأن كل قضية من القضايا الأربع هي مهملة بقوة الموجبة الجزئية، ولا تنافي بين القضايا الموجبة الجزئية.

ونتيجة هذا التقريب الأخذ بالقدر المتيقن، وهو الإفطار إذا سافر قبل الزوال مع تبييت النية، والصوم إذا سافر بعد الزوال مع عدم تبيت النية، أما في الحالتين الأخريين فنرجع إلى العمومات الفوقانية التي يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

وهذه الكبرى مبحوثة في علم الأصول حيث وقع الخلاف في صلاحية

ص: 147


1- بحوث في علم الأصول: 7/283.
2- محاضرة بتأريخ 3/شعبان/1416.

كل من البيانين لمنع بقاء الإطلاق في الآخر وإن انعقد أولاً، ووجه القائلون بعدم الصلاحية للفريق الآخر ((إشكالاً عويصاً حاصله: أنه يستلزم عدم جواز التمسك بالإطلاق كلما شك في ثبوت الحكم لفرد أو حال مما يشمله الإطلاق، لاحتمال وجود مقيّد منفصل لم يصل إلينا، إذ الشك في ذلك يساوق الشك في ثبوت الإطلاق وعدمه))(1).

أقول: هذا الإشكال يأتي على من منع انعقاد الإطلاق من أصله، ولا يأتي على ما قلناه من انعقاده أولاً، وتزلزله حينما ورد البيان الآخر، كالعام الذي ينعقد له ظهور في العموم ثم يأتي مخصص منفصل.

وفي المسألة تفاصيل إلا أننا لسنا بصدد البحث الأصولي، والخلاصة في رد هذا الوجه: أن العرف يستظهر التعارض في مقام الإثبات من هذين الخطابين، فلا مجال لنفيه، ولعلهما ليسا كذلك في مقام الثبوت، إذ يمكن أن يكون الراوي قد غفل عن القيد أو أنه لم ينقله لتصوره عدم مدخليته في الحكم، وربما أخفاه المتكلم لضرورة، لكن هذه الاحتمالات لا تبرر عدم الأخذ بالإطلاق في عالم الإثبات.(الثالث) بعد التسليم بالكبرى أي حصول التعارض، وإمكان إجراء المرجحات فيها، إلا أنه أشكل على المقام صغروياً أي من جهة عدم اشتمال المقام على ما يتم الترجيح به، قال بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف): ((وإنما الكلام في الصغرى فهل يجوز تقديم الطائفة الأولى على الثانية؟ ادعى جماعة ذلك لوجهين:-

1- إن رواياتها أصحّ سنداًَ فرواتها كلهم إمامية، أما الثانية فليس كذلك؛ لأن رواية علي بن يقطين مصدرها كتب ابن فضال –وهو فطحي-، ورفاعة اشتهر عنه أنه واقفي.

ص: 148


1- بحوث في علم الأصول: 7/280.

وهذا يمكن الخدشة فيه، فإن رفاعة وإن ذكر أنه واقفي لكنه عدل، والوقف بعد وفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) كان عند أغلب الأفراد إذ لم يتيقنوا بوفاته، وبعد ذلك ظهر الحق ورجعوا إلى الإمام الرضا (عليه السلام).

أما الترجيح بلحاظ العقيدة فإنه غير ثابت عندنا من جهة أن مقبولة عمر بن حنظلة واردة بلحاظ الفتويين المختلفتين لا الحديثين المختلفين على ما فصلناه في مبحث التعارض.

2- إن الطائفة الأولى مخالفة للعامة إذ لا تفصيل عندهم بين ما قبل الزوال وما بعده، أما الطائفة الثانية فموافقة لهم؛ لذا عد الشيخ (قدس سره) في من أوجب تبييت النية مشاهير العامة.

وهذا ليس بصحيح إذ ليس في كلامهم التفصيل بين التبييت وعدمه، سواء كان السفر اختيارياً أو لا، فإن هنا فرقاً بين ما يكون مفسداً للصوم فهذا نية الإمساك عنه مقوم للصوم، وبين ما يكون موجباً لزوال الموضوع كالحيض والسفر، وقد فصله صاحب الجواهر، فلا يقال أن التبييت وعدمه موافق للعامة))(1).

فإشكاله (دام ظله) من جهة عدم تمامية ما ذكر من المرجحات، مضافاً إلى وجود صحيحة رفاعة في المقام التي تحل التعارض قال (دام ظله): ((فإعمال المرجحات مخدوش من هذه الجهة فيبقى التعارض لولا الجمع الدلالي ببركة صحيحة رفاعة ونتيجته قول الشيخ (قدس سره) في المبسوط وسيدنا الأستاذ (قدس سره)، وإلا فيكون التعارض بين الطائفتين موجوداً وإن كانا على نحو العامين من وجه ولا بد من الرجوع إلى العموم الفوقاني وهو ما دلّ على أن المسافر يجب عليه الإفطار مطلقاً، ويحكم بوجوب الصوم

ص: 149


1- محاضرة بتأريخ 4/شعبان/1416.

في مورد واحد وهو إذا سافر بعد الزوال ولم يبيت النية، وتكون نتيجة العموم الفوقاني ما قاله صاحب الوسائل (قدس سره) )).

أقول: ما ذكره (دام ظله) من عدم الفرق بين كون الرواية صحيحة وموثقة من ناحية الحجية والاعتبار صحيح فلا يُعدّ هذا مرجحاً.

أما مخالفة العامة فقد ذكرنا تقريبين لها (صفحة 118) إلا أنها لا تنفع في الترجيح لما ذكرناه هناك.نعم يوجد مرجح هنا للطائفة الثانية على نحو (المرجح المساوي) الذي شرحنا فكرته في بعض أبحاثنا السابقة(1)

وهي رواية صحيحة لم يذكرها الأصحاب هنا وإنما وردت في كتاب الزكاة.

وذكروها في موضع آخر من كتاب الصوم، وهو عدم سقوط الكفارة فيما لو تناول المفطر ثم سافر، وهي المسألة الثالثة من مسائل القضاء الآتية بإذن الله تعالى.

وهي صحيحة حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم قالا: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): أيما رجل كان له مال فحال عليه الحول فإنه يزكيه، قلت له: فإن وهبه قبل حله بشهر أو بيوم؟ قال ليس عليه شيء أبداً. قال: وقال زرارة عنه: إنه قال: إنما هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوماً في إقامته ثم خرج في آخر النهار في سفر فأراد بسفره ذلك إبطال الكفارة التي وجبت عليه، وقال: إنه حين رأى هلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة ولكنه لو كان وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شيء بمنزلة من خرج ثم أفطر إنما لا يمنع الحال عليه، فأما ما يحل عليه فله منعه)(2).

ص: 150


1- هذا بحسب ترتيب الدروس والطبعة السابقة، أما في هذه الطبعة فتجده: 6/285.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 12، ح2.

أقول: الرواية ظاهرة في عروض نية السفر أثناء النهار بعد تورطه بما يوجب الكفارة، وأن حكم المسافر إذا لم يبيت نية السفر الإفطار وإن كان خروجه بعد الزوال فترجح الطائفة الثانية.

وفيه:-

1- إن عدم بطلان الكفارة لم يتضح وجهه، إذ يمكن أن يكون حكم هذا المسافر الإفطار وأن هذا الإفطار اللاحق لا يبطل وجوب الكفارة الذي ثبت قبل السفر فيتحقق مراد المستدل، ويمكن أن يكون لعدم كون الحكم في مثله الإفطار.

2- إن هذا المرجح المساوي معارض بمرجح مساوٍ آخر للطائفة الأولى وهي الروايات(1)

الواردة في حكم الصيام لمن رجع إلى أهله فصرّحت بالتفصيل بين من دخل بلده قبل الزوال ولم يتناول المفطر فيجدد نية الصوم، وبين من دخل بعد الزوال فلا يصح منه الصوم.

فيستأنس منها بمقتضى المقابلة أن المعيار في الصوم والإفطار عند الخروج من البلد هو الزوال أيضاً.وهكذا نرجع في كل مرة إلى المربع الأول كما يقال، وحينئذٍ فما هو المرجع في موردي التنافي؟

يمكن أن يقال –كما تقدم عن بعض أساتذتنا- بأن المرجع هي عمومات الإفطار إلا في القدر المتيقن من حكم الصوم ونتيجته قول صاحب الوسائل (قدس سره).

إلا أنه يمكن القول: إن عمومات الإفطار لا إطلاق لها فهي تفيد حكم المسافر في الجملة، فلا يصح أن يقال إن حكم المسافر في شهر رمضان هو

ص: 151


1- راجعها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 6، وستأتي في الفرع الثاني بإذن الله تعالى.

الإفطار إلا بإضافة (في الجملة) للعلم بأن الحكم ليس كذلك بالدقة لخروج كثير من الموارد عنه، وحينئذٍ يمكن دعوى سريان الإجمال في أي مورد إلى هذا العموم فلا يمكن التمسك به للشك في كونه من مصاديقه ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وحينئذٍ يكون المورد مجرى لعموم فوقه وهي عمومات وجوب الصوم على كل مسلم بعد الشك في خروجه بالمخصِّص وهي عمومات الإفطار، فيبقى تحت العام وهو وجوب الصوم، إلا في القدر المتيقن من لزوم الإفطار في ما إذا سافر قبل الزوال مع تبييت النية ونتيجته جمع الشيخ (قدس سره) في المبسوط وبذلك نرجع مرة أخرى إلى المربع الأول.

وفي ضوء التعارض المستمر كما تقدم من دون الجزم بترجيح إحدى الطائفتين، يكون من الراجح العمل بالاحتياط في ما إذا سافر قبل الزوال ولم يبيِّت النية أو سافر بعد الزوال وكان مبيّتاً النية فيصوم رجاء المشروعية ويقضي، وإذا أراد الإفطار في السفر فليبيّت نية السفر من الليل وليخرج قبل الزوال.

إلا أن هذا الاحتياط ليس وجوبياً لأن البحث كان تنزلياً؛ لعدة مرجحات للطائفة الأولى يمكن تلخيصها من المطالب المتقدمة، منها:-

1- إن الطائفة الأولى أصح سنداً وأكثر عدداً مما يجعلها الأقرب لمراد المعصوم (عليه السلام) واقعاً.

2- وإنها أوضح دلالة على المطلوب، بينما احتملنا للطائفة الثانية معاني عديدة تجعلها أجنبية عن المسألة، ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال.

3- مخالفة الطائفة الأولى للعامة قطعاً، بينما قرّبنا موافقة الطائفة الثانية لجمهورهم ومشهور فقهائهم.

ص: 152

4- الاستئناس بروايات مسألة من يرجع إلى بلده ففيها تفصيل واحد بلحاظ الزوال فقط فمقتضى المقابلة كونه كذلك في المسافرة من البلد.

وبناءً على ما احتملناه من كون الحكم هو التخيير بين الصوم والإفطار مطلقاً فإنه لا يفرّق في الأخذ بكلتا الطائفتين.فالأقوى التفصيل بلحاظ الزوال، ويستحب الاحتياط بالصوم رجاء المشروعية، والقضاء لاحقاً في موردي التعارض، وهما فيما لو سافر قبل الزوال ولم يبيّت، وفيما لو سافر بعد الزوال وكان مبيّتاً النية.

ص: 153

فروع

(الفرع الأول) هل يجوز السفر في شهر رمضان اختياراً؟

لا إشكال ولا خلاف في جواز السفر في نهار شهر رمضان في الجملة بدلالة الروايات الكثيرة التي تقدمت خلال البحث والتي ستأتي، وإنما الخلاف في كون هذا الجواز مطلقاً أو مقيداً ف-((المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً))(1)

جواز السفر في شهر رمضان والإفطار فيه اختياراً من غير ضرورة ولو للفرار من الصوم –كما في العروة الوثقى ومن تأخّر عنه-، وخالف فيه أبو الصلاح فقال في الكافي: ((إذا دخل الشهر على حاضر، لم يحل له السفر مختاراً))(2).

وقد اقتصرت أغلب المصادر على نسبة الخلاف إليه فقط.

وحكى المحقق النراقي (قدس سره) الخلاف ((عن الإسكافي والعماني، حيث قالا بعدم جواز الإفطار في سفرة للتلذذ والتنزه وإن أوجبا القضاء))(3).

أقول: لم يقرّب لنا المحقق النراقي (قدس سره) الوجه في نسبة الخلاف إليهما؛ فعبارتهما لا يظهر منها خلاف في المسألة؛ لأن مورد كلامهما سفر المعصية كما يظهر من العبارة التي نقلناها (صفحة 34)، فيكون كلامهما أجنبياً، لذا فإن العلامة (قدس سره) لم يُشر إلى خلاف لهما هنا، ونقل كلامهما في موضع آخر وهو حكم سفر المعصية.

ويمكن تقريب مراد المحقق النراقي (قدس سره) بأن يقال أن السفر للتلذذ والتنزّه ليس معصية، فما الذي جعلهما كذلك بحيث أدرجت في هذا العنوان؟

إنه السفر من غير ضرورة وهو منهي عنه فأصبح سفر معصية.

ص: 154


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/437.
2- مختلف الشيعة: 3/326، المسألة (73).
3- مستند الشيعة: 10/369.

نعم عبارة ابن الجنيد أوضح في جريانها هنا قال: ((ولا أستحب لمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم، أن يخرج إلى سفر إلا أن يكون لفرض حج أو عمرة أو ما يُتقرب به إلى الله عز وجل، أو يصون نفسه وماله، لا في تكاثر وتفاخر، وإن خرج في ذلك أو في معصية الله عز وجل، لم يفطر في سفره، وكان عليه مع صيامه القضاء))(1).

أقول: التعبير ب-(لا أستحب) يطلق على الحرمة عند القدماء وحكمه بالصيام شاهد على ذلك.ويظهر الخلاف أيضاً من الشيخ المفيد في المقنعة وتبعه الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب –الذي هو شرح لكتاب أستاذه المفيد- ولم يشيروا إليه فقد نقل قول المقنعة: ((ولا ينبغي للإنسان أن يخرج إلى السفر في شهر رمضان إلا لضرورة تدعوه إلى ذلك ويكون سفره في ذلك طاعة أو مباحاً، فأما ما له عنه مندوحة فلا يجوز الخروج فيه))(2)

ثم أورد مرسلة علي بن أسباط الآتية ومقتضاها انتهاء الحظر في الثالث والعشرين من الشهر، إلا أن ظاهر كلاميهما العموم.

فمشهور القدماء إذن على عدم الجواز، ومما تقدم يظهر أن الخلاف موجود في عدة اتجاهات:-

1- أصل الحكم بين المنع والجواز.

2- وعلى القول بالجواز بين كراهة السفر وأفضلية الإقامة أو الاختلاف بحسب الموارد.

3- وفي امتداد الحظر على طول الشهر أو إلى خصوص الثالث والعشرين.

4- وفي حدود الضرورة، لتشمل تشييع المؤمن أو استقباله كما ورد في الروايات الشريفة.

ص: 155


1- مختلف الشيعة: 3/346، المسألة (82).
2- التهذيب، ج4، باب 57: حكم المسافر والمريض في الصيام، ح1.

وبذلك تتعدد الأقوال في المسألة.

وقد استدل(1)

للجواز بأن الأصل إباحة السفر، وبإطلاق قوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر» الشاملة لمن شهد أول الشهر، ولأن المنع من السفر يتضمن ضرراً وحرجاً فيكون منفياً بقوله تعالى: «وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسْرَ».

كما احتج أبو الصلاح بقوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ» بتقريب أن المراد منه من كان حاضراً أول الشهر.

أقول: لا تخلو هذه الوجوه من مناقشات تظهر من أبحاثنا المتقدمة، ولا يُصار إليها مع وجود الأدلة الخاصة وهي على نوعين:

أحدهما: مقتضى القواعد فيستدل على القول بالجواز بضم مقدمتين باعتبار أن الحضر وما بحكمه من شروط الوجوب ((فلا يجب التصدي لتحصيله لعدم وجوب تحصيل شرط الوجوب.

وعليه فيجوز للحاضر السفر ولا يجب على المسافر الحضر، لعدم وجوب تحصيل شرط التكليف لا حدوثاً ولا بقاءً))(2).

أقول: بحثنا هاتين المقدمتين في ما سبق (صفحة 42) وشككنا في تمامية كلتا المقدمتين، كما أن استدلالهم هذا يلزم منه الدور؛ لأنهم بنوا كون الحضر وما بحكمهمن مقدمات الوجوب على جواز السفر اختياراً، والآن يستدلون على الجواز بكونه مقدمة وجوب.

أما القول بعدم الجواز فيستدل عليه ((بإطلاق ما دل على وجوب الصوم بناءً على كون الحضر من شرائط الوجود، لا الوجوب)).

ص: 156


1- هذه الاستدلالات وردت في مختلف الشيعة للعلامة (قدس سره).
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/407.

ورُدَّ بأن ((الحضر –لو سُلِّم كونه شرطاً للوجود- فلم يؤخذ شرطاً على نحو يجب تحصيله كسائر شرائط الوجود، بل أخذ بنحو لا يجب تحصيله كما قد يقتضيه ظاهر الآية، وصحيحا الحلبي ومحمد بن مسلم كافيان في إثبات ذلك))(1).

أقول: ناقشنا مثل هذه المقدمات سابقاً، فالمعتمد الروايات.

(ثانيهما) الروايات، وهي على طائفتين:

(الطائفة الأولى) ما استدل بها على الجواز وهي:-

1- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحاً، ثم يبدو له بعد ما يدخل شهر رمضان أن يسافر؟ فسكت، فسألته غير مرة فقال: يقيم أفضل إلا أن تكون له حاجة لا بد له من الخروج فيها أو يتخوف على ماله)(2).

((وهي –كما ترى- صريحة في جواز السفر من غير حاجة مع أفضليّة الإقامة ، لدرك فضل الصيام في شهر رمضان الذي هو من أهمّ أركان الإسلام، وقد تضمّن بعض الأدعية المأثورة طلب التوفيق لذلك بدفع الموانع من فرض أو سفر، إلا مع الحاجة فلا أفضلية حينئذٍ للإقامة))(3).

ص: 157


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/381.
2- الرواية والتي بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 3، ح1، 2.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/407، وقد تقدمت عبارة المستمسك.

2- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (أنه سئل عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيام؟ فقال: لا بأس بأن يسافر ويفطر ولا يصوم).

أقول: اكتفى(1)

جملة من الأعلام بهاتين الصحيحتين الموجودتين في هذا الباب من الوسائل، مع أن الاستدلال بهما قابل للنقاش.

أما صحيحة الحلبي فمن جهتين:-

1- إن الأفضلية تحتمل الأفضلية المطلقة مقابل ما لا فضل فيه وليس الأفضلية النسبية التي بنى عليها المستدل، وبين أيدينا قوله تعالى: «وإِنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَكُمْ» وهي لا تدل على الرخصة مع الأفضلية وبه نرد على فهم العامة.

2- إن سكوت الإمام (عليه السلام) المتكرر يُفهم منه –وفق الممارسة العملية للمسؤولية- أن الحكم هو الرخصة المشروطة، ولكن الإمام (عليه السلام) يخشى من إلقائها إلى المجتمع، لما عُرف عن الناس أنهم يأخذون بالرخصة ويهملون شرطها، ووظيفة الإمام (عليه السلام) هداية الأمة إلى الكمال، فالجواز إذن ليس مطلقاً.

فالتمسك بإطلاق الصحيحة على جواز السفر وإن كان لغاية الفرار عن الصيام(2)

في غير محله.

وأما الاستدلال بصحيحة محمد بن مسلم فيرد عليه:-

1- إن لفظ (يعرض) ورد في كلام السائل ولا يُعلم مراده فيكون اللفظ مجملاً ولا يصح التمسك بإطلاقه.

ص: 158


1- راجع مستمسك العروة الوثقى: 8/381، المستند في شرح العروة الوثقى: 21/407-408.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/411.

2- لا يخلو اللفظ المذكور من إشعار إلى كون السفر كان لضرورة عقلائية أو شرعية مما ذكرته الروايات الأخرى؛ لأنه ليس هو الذي قرر السفر اختياراً وإنما عرض عليه قصد السفر بأمر خارجي فهذه قرينة نافية للإطلاق.

3- لو تنزلنا وقلنا بإطلاق لفظ (يعرض) ليدل على جواز مطلق السفر ولو لم يكن لضرورة فإنه يمكن تقييده بروايات الطائفة الثانية.

4- من المحتمل أن موردها من كان ناوياً الإقامة في غير وطنه وعرض له السفر أي الرجوع إلى وطنه، فيسأل الراوي عن حكم السفر أصلاً وحكم الأيام المتبقية من الإقامة لوجود قول بوجوب إتمامها لتصحيح ما تقدّم منه من الأيام فأجابه الإمام (عليه السلام) على السؤالين بنفي البأس عن أصل السفر وأن حكم الإفطار في السفر جارٍ عليه ولا يجب عليه إتمام العشرة، فتكون الرواية أجنبية عمّا نحن فيه.

وهذا احتمال له شاهد وهو قوله (عليه السلام) في الذيل: (ويفطر ولا يصوم) وفيه إشارة إلى القول الآنف بالصوم حتى لو سافر حتى يتم العشرة، مضافاً إلى أنه على تقريب المستدل يكون قوله (عليه السلام): (ويفطر ولا يصوم) بلا موضوع، أما على تقريبنا فقد ظهر وجه الحكمين.

إن قلتَ: هذا الاحتمال لا يضر بالاستدلال لأنه أيضاً سفر من محل الصوم اختياراً ولا يفرَّق فيه كونه الوطن أو محل الإقامة.

قلتُ: الفرق موجود لأن عروض السفر من محل الإقامة متعين بوجود ضرورة لعدم جواز قطع الإقامة، فهذه قرينة نافية للإطلاق.فالصحيحتان لا تدلان على الجواز مطلقاً خصوصاً مع وجود الطائفة الثانية الدالة على المنع.

ص: 159

نعم توجد روايات أُخر أوردها صاحب الوسائل (قدس سره) في أبواب صلاة المسافر، منها:-

3- صحيحة علي بن يقطين (في حديث) (أنه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يشيع أخاه إلى المكان الذي يجب عليه فيه التقصير والإفطار، قال: لا بأس بذلك)(1).

4- صحيحة حماد بن عثمان قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل من أصحابي قد جاءني خبره من الأعوص(2)

وذلك في شهر رمضان (أتلقاه؟ قال: نعم، قلت:) أتلقاه وأفطر؟ قال: نعم، قلت: أتلقاه وأفطر أم أقيم وأصوم؟ قال: تلقاه وأفطر).

5- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (إذا شيع الرجل أخاه فليقصر، قلت: أيهما أفضل يصوم أو يشيعه ويفطر؟ قال: يشيعه؛ لأن الله قد وضعه عنه إذا شيعه).

أقول: الروايات تدلّ على جواز السفر ولكن لمسوِّغ وهو هنا تشييع مؤمن أو استقباله، وليس الجواز مطلقاً حتى للفرار من الصوم –كما قيل-.

وأضاف لها صاحب الجواهر (قدس سره) الاستدلال ب-((فحوى ما دلَّ على استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) في شهر رمضان المتوقف امتثاله للنائي على السفر))(3).

أقول: هذا الاستدلال غير تام لوجوه:-

1- إنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، إذ يمكن افتراض أن المسافر ينوي الإقامة ونحوه مما لا ينافي الصوم كما في أزمنتنا الحاضرة.

ص: 160


1- الروايات الثلاث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 10، ح 1، 2، 6.
2- الأعوص: موضع قرب المدينة المنورة على مسافة أميال منها.
3- جواهر الكلام: 17/157.

2- سيأتي ما ينفي هذا الاستدلال بتقديم الإقامة للصيام على السفر لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في روايات الطائفة الثانية.

3- ولو تنزلّنا وقبلنا دلالتها فإنها أخص من المدّعى لأن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) أمر راجح ومدّعاهم الجواز مطلقاً.

(الطائفة الثانية) الروايات المانعة، وهي عديدة منها:-

1- رواية الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن هارون بن الحسن بن جبّلة (جميلة) عن سماعة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: جعلت فداك، يدخل علي شهر رمضان فأصوم بعضه فتحضرني نية زيارة قبر أبي عبد الله عليه السلام فأزوره وأفطر ذاهباً وجائياً أو أقيم حتى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال له: أقم حتى تفطر، فقلت له: جعلت فداك، فهو أفضل؟ قال: نعم، أما تقرأ في كتاب الله: «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ»)(1).

وفي السند هارون بن الحسن بن جبلة (وليس جميلة كما في بعض النسخ) وهو غير معروف لدى الرجاليين ولم تنقل عنه غير هذه الرواية، ولعله لذلك استظهر بعض أساتذتنا ((أن في العبارة اشتباهاً وإن الصحيح هارون بن الحسن عن ابن جبلة))(2)،ولم يذكر (دام ظله) وجه هذا الاستظهار، ولعله لما ذكرناه.

ص: 161


1- الروايات الخمس تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 3، ح7، 8، 3، 4، 6 على الترتيب.
2- محاضرة بتأريخ 14/ذ.ح./1415 ه-.

ويقوي احتمال الاشتباه في الاسم أن السند تعرض لاضطراب في النقل، فقد أورده الشيخ (قدس سره) معطوف السند عما قبله فقال: ((وعنه عن هارون بن الحسن بن جبلة عن سماعة..))(1)

والذي قبله هكذا ((محمد بن يعقوب عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير..))(2)

والرواية غير موجودة في الكافي، مضافاً إلى أنه من المعلوم أن محمد بن يعقوب لا يروي بلا واسطة عن يعقوب بن يزيد.

وذكر في الحديث الذي يليه: ((عنه عن علي بن السندي عن حماد بن عيسى))(3)،وقد أرجع صاحب الوسائل الضمير في الثلاثة إلى محمد بن علي بن محبوب مع أنه لم يرد في سند المتقدم بل في الحديث اللاحق(4).أما صاحب الوافي(5)

فقد أرجع الضمير في الأولى إلى ابن محبوب، ولعله استظهر الاشتباه في اسم محمد بن يعقوب وأن الصحيح محمد بن علي بن محبوب لتقارب (محبوب) مع (يعقوب) وإن ابن محبوب يروي عن يعقوب بن يزيد، أما الثانية والثالثة فأرجع الضمير فيهما إلى أحمد بن محمد الذي ورد في الحديث السابق على الرواية المبدوءة بمحمد بن يعقوب(6).

ولعل ما ذكره صاحب الوسائل هو الأصح لأن رواية محمد بن يعقوب هي السابقة على رواية ابن جبلة، وما دام استظهر الاشتباه

ص: 162


1- التهذيب، ج4، باب 72، الزيادات، ح29.
2- نفس المصدر، ح28.
3- نفس المصدر، ح30.
4- نفس المصدر، ح31.
5- الوافي: 11/150 كتاب الصوم، باب 47: السفر في شهر رمضان.
6- نفس المصدر، ح27.

وأن الصحيح محمد بن علي بن محبوب، فهذه معطوفة عليها، ولأن أحمد بن محمد يروي بواسطة عن محمد بن علي بن محبوب فكيف يروي بواسطة واحدة أيضاً عن ابن جبلة كتاب ابن محبوب الذي هو مصدره، كمعتبرة الحسين بن المختار التي صرح بأخذها من كتاب ابن محبوب(1).

وعلى أي حال فلا إشكال في السند من هذه الناحية لأن ابن محبوب وأحمد بن محمد ثقتان، وإنما ذكرنا هذا لبيان ما وقع من خلط في السند يشجعنا على دعوى الاشتباه في هارون بن الحسن بن جبلة.

ومن المعلوم أن هارون بن الحسن بن محبوب ثقة روى عن أبيه الحسن بن محبوب وغيره، ولم يضبط الرجاليون رواية له في الكتب الأربعة.

وابن جبلة فقيه ثقة وإن نسب إليه الوقف –كما عن النجاشي- فالرواية معتبرة على هذه التقريبات.

لكن إثبات الاشتباه في السند لا يكفي لإثبات ما استظهره بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) لعدم وجود دليل عليه، مضافاً إلى أن هارون بن الحسن بن محبوب ليست له رواية في الكتب الأربعة.

2- رواية الحسين بن المختار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تخرج في رمضان إلا للحج أو العمرة، أو مال تخاف عليه الفوت، أو لزرع يحين حصاده).

أقول: وصف صاحب الحدائق (قدس سره) الرواية بالقوية(2)،ويُقرَّب اعتبار الرواية بناءً على توثيق علي بن السندي كما نقل الكشي عن نصربن الصباح قوله: ((علي بن إسماعيل ثقة وهو علي

ص: 163


1- الحديث 85 من الباب.
2- الحدائق الناضرة: 13/411.

بن السندي لقب إسماعيل بالسندي)) وضعفها السيد الخوئي(1)

(قدس سره) وبعض أساتذتنا(2)

من جهة الإشكال عليه بوجود بعض الفوارق بينهما منشأه حمل علي بن إسماعيل على عناوين معينة لا تتطابق مع وضع علي بن السندي وطبقته، لكنه تحميل لكلام نصر بما لم يقله لكثرة من تسمّى علي بن إسماعيل(3).

والإشكال الآخر أن نصر نفسه لم يوثّق وإن نقل عنه الكشي كثيراً، فلا يُعتدّ بتوثيقه، ويمكن الرد عليه بنقل الكشي له من دون معارض.

3- رواية المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخروج إذا دخل شهر رمضان؟ فقال: لا، إلا فيما أخبرك به: خروج إلى مكة، أو غزو في سبيل الله، أو مال تخاف هلاكه، أو أخ تخاف هلاكه، وإنه ليس أخاً من الأب والأم) وفي الكافي (أخ تريد وداعه).

أقول: حكى السيد الخوئي (قدس سره) تعبير البعض عنها بالصحيحة وردَّ عليه بأنها ضعيفة السند جداً ((فإن في السند علي بن أبي حمزة البطائني وكان واقفياً كذاباً متهماً))(4).

أقول: تقدم(5)

منا تقريب لإمكان العمل بروايات علي إذا لم يقم شاهد على الكذب كمعارضتها مع رواية معتبرة أو فيها تأييد لمذهبه

ص: 164


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/410.
2- محاضرة بتأريخ 3/ذ.ح./1415 ه-، وهي أول محاضرة بدأت بها حضور بحثه الشريف.
3- راجع معجم رجال الحديث: 12/52.
4- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/408.
5- فقه الخلاف: 7/82، ط. الأولى، و فقه الخلاف: 7/447، ط. الثانية.

الفاسد. نعم في طريق الصدوق إليه محمد بن علي بن ماجيلويه وهو لم يوثّق، وقُرِّبَ توثيقه بأن الصدوق ترضّى عليه.

4- رواية الشيخ الصدوق في الخصال بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: (ليس للعبد أن يخرج إلى سفر إذا حضر شهر رمضان، لقول الله عز وجل: «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ»).

أقول: في السند الحسن بن راشد جد القاسم بن يحيى وهو لم يوثّق فالسند ضعيف، إلا أن السيد الخوئي (قدس سره) وصفها بالمعتبرة لأن الحسن من رجال كامل الزيارات.5- مرسلة علي بن أسباط عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا دخل شهر رمضان فلله فيه شرط، قال الله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ» فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلا في حج، أو في عمرة، أو مال يخاف تلفه، أو أخ يخاف هلاكه، وليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه، فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث شاء).

6- رواية العياشي في تفسيره عن الصباح بن سيّابة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن ابن أبي يعفور أمرني أن أسألك عن مسائل، فقال: وما هي؟ قال: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي أليَ أن أسافر؟ قال: إن الله يقول: «فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَهرَ فَلْيَصُمْهُ» فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه)(1).

ص: 165


1- هذه الرواية والتي تليها تجدهما في جامع أحاديث الشيعة، أبواب من يجب عليه الصوم، باب 13، ح3، 16.

7- ما في فقه الرضا (عليه السلام): (وكان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا صام الرجل ثلاثاً وعشرين من شهر رمضان جاز له أن يذهب ويجيء في أسفاره).

8- ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن الفضل البغدادي قال: (كتبت إلى أبي الحسن العسكري (عليه السلام): جعلتُ فداك يدخل شهر رمضان على الرجل فيقع بقلبه زيارة الحسين (عليه السلام) وزيارة أبيك (عليهما السلام) ببغداد فيقيم في منزله حتى يخرج عنه شهر رمضان ثم يزورهم أو يخرج في شهر رمضان ويفطر، فكتب (عليه السلام): لشهر رمضان من الفضل والأجر ما ليس لغيره من الشهور فإذا دخل فهو المأثور)(1).

ومثلها رواية داود الصرّمي في نفس الباب التي أوردها ابن إدريس في آخر كتاب السرائر نقلاً من كتاب مسائل الرجل ومكاتباتهم.

أقول: حتى لو لم يثبت اعتبار سند هذه الروايات كل واحدة على حدة، فإنه يحصل الاطمئنان بصدور مضمونها عن المعصوم (عليه السلام) لتطابقها وتعدد رواتها في مختلف الطبقات، وتنوّع مصادرها، وهي بمجموعها دالة على النهي عن السفر في شهر رمضان إلا لأمر راجح ندب إليه الشارع المقدس حتى ولو استلزم الإفطار في شهر رمضان وقضاءه في وقت آخر.

وحصيلة ما تقدّم من الروايات لا يخلو من أحد أمرين:-1- أنها إرشاد إلى ما في صوم رمضان من الثواب الذي لا ينبغي للمؤمن تفويته وإن كان بعذر مبيح للإفطار إلا لأمر أرجح منه، فتكون على نحو قوله تعالى: «وَأَنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَكُمْ».

ص: 166


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المزار، باب 91، ح1، 2.

2- أنها ناهية عن إيجاد العذر المرخص للإفطار إلا لأمر راجح شرعاً أو عقلائياً كالذي ورد في ترك الطواف لقضاء حاجة مؤمن ونحوه.

وعلى أي حال فما قيل من الرخصة في السفر اختياراً حتى لو كان للفرار من الصوم مما لا دليل عليه في ضوء الروايات المتقدمة التي هي أخص من المدعى، بل وجدنا أن الدليل على خلافها.

ولعل ما استظهروه كان بدافع المرتكز في أذهانهم وصرّحوا به وهو كون الحضر من شروط الوجوب فلا يجب تحصيله قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن الصوم لا يجب إلا على الحاضر، وإنه لا يجب عليه أن يحضر حتى يكون مكلفاً، بل هو باقٍ على إباحة السفر له))(1)،وقد تقدمت المناقشة فيه.

والظاهر عدم اختصاص مسوّغات السفر بما ذكر لأنها لم تذكر على نحو الحصر فيُجرَّد المورد عن الخصوصية إلى كل أمر ثبت رجحانه وأهميته شرعاً أو عقلائياً، وكان مما يُخشى عليه الفوت لو أُجّل السفر إلى ما بعد انقضاء شهر رمضان.

فيمكن إلحاق ما لو كان السفر للفرار من مخالفة الواقع احتياطاً كما لو حصل خلاف بين محتملي الأعلمية في ثبوت أول شهر شوال، حيث يدور الأمر بين وجوب الصوم وحرمته فيكون الاحتياط بالسفر أمراً فيه رجحان.

وكذا بالنسبة للشخص الذي لا يجد في نفسه صبراً على اجتناب المفطرات بحيث يخشى عليه الوقوع في المعصية بترك الصوم بلا مبرر، فيُنصح بالسفر فراراً من المعصية وليس من الصوم.

ومما تقدم يظهر وجه ما اختاره الشيخان المفيد والطوسي وأبو الصلاح (قدس الله أسرارهم) من النهي عن السفر في شهر رمضان لمن اجتمعت عنده شروط الأداء إلا لضرورة، وهذا التعبير أنسب لهداية الناس

ص: 167


1- جواهر الكلام: 17/157.

وتقريبهم إلى الطاعة، إذ يمكن أن يقول المفتي: ((يجوز السفر في شهر رمضان إذا وجدت ضرورة لذلك)) ويمكن أن يقول: ((لا يجوز السفر في شهر رمضان إلا لضرورة)) ومؤداهما واحد، لكن الثاني أنسب لحال الناس حتى يمتنعوا من السفر حتى يتأكدوا من المبرر وبهذا اللسان وردت الطائفة الثانية، أما التعبير الأول فإن الناس تأخذ منه الرخصة وتتسامح في الشرط، وهذا ما ورد في صحيحة الحلبي في الطائفة الأولى؛ لذا سكت الإمام (عليه السلام) أكثر من مرة قبل أن يجيب، ومؤداهما واحد وهي الرخصة المشروطة أي عدم الجواز إلا لضرورة.لكن هذه الضرورة أوسع من الاضطرار المسوِّغ لارتكاب المحرمات كأكل الميتة.

ووجهه أن مرتبة وجوب الإقامة مقدمة للإتيان بالصوم أضعف من غيرها بحيث يسقط بأي أمر أرجح شرعاً أو عقلائياً ويقضيه في أيام أخر، ولا يلزم من هذه التوسعة في مسوِّغات السقوط كون السفر جائزاً اختياراً وإن كانت الإقامة أفضل.

أي لا تصلح هذه التوسعة وجهاً لفهم المشهور بتقريب أنه لو كان السفر منهياً عنه لما جاز لهذه الأمور التي لا يُعدّ بعضها من الضرورات، للنقض عليه بنظائر للمسألة كالذي قالوه في سقوط وجوب السورة بعد الحمد وأن مرتبة وجوبها ضعيفة، وقد تقدّم في مسألة سابقة.

ومثله عدم جواز خروج المعتكف من المسجد ولكنه يجوز لبعض الأمور الراجحة شرعاً أو عقلائياً أو تقتضيها العادة كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها، ثم لا يجلس حتى يرجع، ولا يخرج في شيء إلا لجنازة أو

ص: 168

يعود مريضاً، ولا يجلس حتى يرجع، قال: واعتكاف المرأة مثل ذلك)(1)،وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا إلى الجمعة أو جنازة أو غائط)، ورواية(2)

الصدوق في الفقيه بسنده عن ميمون بن مهران قال: (كنتًُ جالساً عند الحسن بن علي عليهما السلام فأتاه رجل فقال له: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله إن فلاناً له علي مال ويريد أن يحبسني، فقال: والله ما عندي مال فأقضي عنك، قال: فكلِّمْه، قال: فلبس عليه السلام نعله، فقلت له: يا بن رسول اللهصلى الله عليه وآله أنسيت اعتكافك؟ فقال له: لم أنس ولكني سمعت أبي

ص: 169


1- الروايات الثلاث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الاعتكاف، باب 7، ح2، 6، 4.
2- ميمون بن مهران من خواص أمير المؤمنين (عليه السلام) وسند الشيخ الصدوق إليه ضعيف، لكن الشيخ الكليني روى بسنده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يتضمن هذه الحادثة، نذكر الرواية تشجيعاً لعمل المعروف، قال صفوان: (كنت جالساً مع أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يقال له: ميمون، فشكي إليه تعذر الكراء عليه، فقال لي: قم فأعن أخاك، فقمت معه فيسر الله كراه، فرجعت إلى مجلسي، فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما صنعت في حاجة أخيك؟ فقلت: قضاها الله بأبي أنت وأمي، فقال: أما أنك إن تعين أخاك المسلم أحب إلي من طواف أسبوع بالبيت مبتدئاً، ثم قال: إن رجلاً أتى الحسن بن علي عليهما السلام فقال: بأبي أنت وأمي أعنّي على قضاء حاجة، فانتعل وقام معه فمر على الحسين عليه السلام وهو قائم يصلي، فقال: أين كنت عن أبي عبد الله تستعينه على حاجتك؟ قال: قد فعلت بأبي أنت وأمي فذكر أنه معتكف، فقال: أما لو أنه أعانك كان خيراً له من اعتكافه شهراً) (وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 28، ح3) فتكون شاهداً على صحتها.

يحدث عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: من سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنما عبد الله عز وجل تسعة آلاف سنة صائماً نهاره، قائماً ليله).

إن قلتَ: على القول بالمنع يكون السفر بلا مسوِّغ –كما لو كان للفرار من الصوم- سفر معصية ويكون حكمه الصوم لا الإفطار.

قلتُ: لا مانع من الالتزام بذلك ويكون مصداقاً لحرمة المقدمات المفوّتة التي يفوت الواجب بها، ويكون حكمه حينئذٍ الصوم والقضاء ولو احتياطاً، وقد تقدّم تقريب كلام العماني وابن الجنيد بما يؤدي إلى هذا المعنى.

ونشير هنا إلى فوائد مرتبطة بالمسألة:

(الأولى): في المراد بالكراهة التي قرن المشهور حكم الجواز بها، فهل المراد بالكراهة المعنى الأخص أي المرجوحية؟ أم أن الحكم هو أفضلية الإقامة فلو سافر يكون قد ارتكب الكراهة بالمعنى الأعم أي تقديم عمل مستحب على آخر أفضل منه في مورد التزاحم بين مستحبين، أي ترك الأولى، وقد اختلفت أنظار الفقهاء في ذلك تبعاً لفهمهم الروايات، فقد فضلت الروايات تارةً الإقامة والصوم على المستحب الآخر كزيارة الحسين (عليه السلام)، وفضلت (تارة) السفر على الصوم كما في الحج والعمرة ومشايعة المؤمن أو قضاء حاجته.

ويفهم من كلام الأكثر حمل النهي عن السفر على الكراهة جمعاً بين الروايات، قال العلامة في التذكرة ((يكره السفر في رمضان إلا لضرورة لما فيه من التعريض لإبطال الصوم، ولمنعه عن ابتداء العبادة وإحراز فضيلته في شهر رمضان))(1).

وقال صاحب المدارك(2): إن الإقامة أفضل، وحملها السيد الحكيم (قدس سره) على المعنيين معاً لعدم المنافاة، قال (قدس سره): ((فمقتضى

ص: 170


1- تذكرة الفقهاء: 6/226 مسألة (159).
2- مدارك الأحكام: 6/304.

صحيح الحلبي أفضلية الإقامة من جهة إدراك الصوم ولا يبعد أن يكون النهي عن السفر عرضاً لملازمته لترك الأفضل))(1)

وقال (قدس سره): ((لا تنافي بينهما لإمكان كون الحضر أفضل، وكون السفر فيه منقصة موجبة للكراهة))(2).والرابع عدم وصف شيء بعينه بالكراهة أو الأفضلية وإنما يختلف بحسب الموارد، قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((إن ظاهرها –أي الروايات- الاختلاف في الأفضلية في بعض المواضع وأن السفر في بعضها أفضل من الصيام، فإطلاق القول بأفضلية الصيام، وكراهة السفر من ما لا وجه له))(3)

وهو حصيلة كلام المحقق النراقي (قدس سره) وتبعه بعض أساتذتنا قال: ((إن المستفاد من الروايات لا كراهة السفر بالمعنى الأخص ولا استحباب الإقامة بالمعنى الأخص، فإن الصوم يترتب عليه ثواب كبير فينظر حينئذٍ: هل هذا الثواب المترتب على الصوم الواجب أهم وأكثر –كما لو كان السفر لزيارة الحسين (عليه السلام)- أم أن الثواب المترتب على المستحب الآخر الذي يتوقف على السفر أهم وأكثر كمشايعة المؤمن؟ والروايات بصدد بيان المفاضلة بين ما يترتب على الصوم أو الشيء الآخر المتوقف على السفر النافي لموضوع الصوم. والإمام (عليه السلام) يجيب بأن الصوم أفضل إلا في موارد))(4).

أقول: إن أريد بهذا التقريب معنى الإرشاد الذي ذكرناه فهو، وإن أريد به إلغاء عهدة الترجيح على الفقيه أو المكلف بقوله: ((فينظر حينئذٍ)) فهذا مما لا معنى له لأنه لا الفقيه يعرف ولا المكلف يعرف مقادير الثواب واقعاً حتى

ص: 171


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/439.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/382.
3- الحدائق الناضرة: 13/409.
4- محاضرة بتأريخ 15/ذ.ح./1415.

نرجّح، إلا أن نعود إلى النصوص وما يستظهر منها، ونتيجته الترجيح للإقامة إلا في الموارد المستثناة، وإن هذا الأمر الإرشادي لزم منه أمر تكليفي بالنهي عن السفر اختياراً إلا في ما استثني.

وهنا إشكال أورده بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) عقب كلامه السابق عن ترجيح أكثرهما ثواباً، فقال: ((وحينئذٍ نسأل: ما هو المستحب المزاحم الآخر؟ هل هو الإقامة المحققة لموضوع الصوم لا مطلق الإقامة كإقامة المريض المفطر لمرضه؟ أم نفس الصيام مستحب، فربما يستشكل بعدم معقولية اجتماع الوجوب والاستحباب فإن صوم رمضان واجب، وبين الحكمين فرق، فإن الوجوب مقيد من ناحية الهيأة (إن كنت مقيماً فيجب الصوم) أما الاستحباب فغير مقيد، فيستحب الصوم ولو بالإقامة، فالإقامة من قيود المادة في المستحب والهيأة في الواجب))(1).

أقول: المستحب الآخر هو الإقامة المحققة لموضوع الصوم وليس الصوم نفسه، بناءً على مختارهم من عدم وجوبها وتعيّنها لإمكان السفر اختياراً والإفطار، وقد ورد ذكرها صريحاً في السؤال في الروايات المتقدمة، فالإشكال منتفٍ.(الثانية): هل الأفضل الإقامة وصوم رمضان أم السفر لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)؟

صريح رواية أبي بصير (رقم 1) وظاهر روايتي البغدادي والصرمي (رقم 8) تقديم صوم رمضان، وهو أيضاً مقتضى إطلاق النهي في روايات الطائفة الثانية إذ لم تذكر زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ضمن المستثنيات.

وقد رفض بعض الأعلام هذه النتيجة، قال المحقق صاحب الحدائق (قدس سره): ((إن في عدم استثناء زيارة الحسين (عليه السلام) كما دل عليه

ص: 172


1- محاضرة بتأريخ: 14/ذ.ح./1415.

خبر أبي بصير وخبر محمد بن الفضل وخبر السرائر إشكالاً، إذ لا تقصر عن بعض هذه المستثنيات إن لم تزد عليها. ولا يبعد حمل الأخبار المذكورة على التقية.

والعجب من جمود صاحب الوسائل على العمل بخبري محمد بن الفضل والسرائر حيث لم يذكر غيرهما مع معلومية رجحان زيارة الحسين (عليه السلام) على استحباب التشييع الذي تكاثرت به الأخبار المتقدمة من ما لا يخفى على العارف. والله العالم))(1).

أقول: فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في نفسها لا تمنع من كون الإتيان بصوم شهر رمضان أفضل حتى وإن ورد معادلتها للحج والعمرة مرة أو مرات في بعض الروايات؛ لأن هذه الأفضلية يكفي في صدقها أن تثبت من بعض الجهات دون غيرها فكون زيارة الحسين (عليه السلام) كالحج والعمرة أو أفضل منهما بلحاظ الثواب لا يلزم منه الاجتزاء بها عن أداء الفرض ونحوها من الآثار.

كما يمكن أن نفهم تلك الروايات المفضلة لزيارة الحسين (عليه السلام) على بعض الشعائر الدينية على أنها أخذت الحالة بلحاظ الظروف الموضوعية التي مرّت بها هذه الشعيرة المقدسة فكانت زيارة الحسين (عليه السلام) وإقامة شعائره جهاداً أفضل من الحج والعمرة.

والخلاصة أن هذا كله لا يلزم منه تقديمها على صوم رمضان خصوصاً مع وجود هذه الأدلة التي تقدم صوم رمضان معللة ذلك، والمعلل يُقدَّم .

واستبعد بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) حمل الروايات على التقية؛ لصدورها في زمان سابق على منع المتوكل العباسي وقد صدر من

ص: 173


1- الحدائق الناضرة: 13/412.

المعصومين (عليهم السلام) روايات كثيرة تحث على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فلا مسوِّغ لحملها على التقية.

أقول: هذا الجواب ممكن بالنسبة لرواية أبي بصير، أما روايتا البغدادي والصرمي فمن القريب حملهما على التقية لصدورها عن الإمام الهادي (عليه السلام) المعاصر للمتوكل العباسي أي في ذروة التضييق على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)،ولأن جواب الإمام (عليه السلام) مجمل مناسب للتقية فقد ذكر الإمام (عليه السلام) أن لشهر رمضان من الفضل والأجر ما ليس لغيره، ثم قال (عليه السلام): فإذا دخل فهو المأثور أي المفضل، ولم يُعلم تفضيله على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) أم على غيره من الشهور.

لكنه (دام ظله الشريف) استدرك قائلاً: ((لكن عمل الشيعة على السفر للزيارة في أوقات رمضان جارية مستمرة ولا يبعد العمل على هذه السيرة))(1).

أقول: لا يمكن التعويل على هذه السيرة صغروياً ولا كبروياً، أما صغروياً فلأن المتشرعة في الأعصار المتأخرة يذهبون إلى كربلاء بعد الزوال ويعودون قبل زوال اليوم التالي فلا يفطرون لأجل الزيارة، ولا نعلم ماذا كانت السيرة في الأعصار الماضية، وأما كبروياً فلعدم الاطمئنان بكونها تعبدية كاشفة عن رأي المعصوم (عليه السلام)، واحتمال استنادها إلى فتوى الفقهاء، أو المكانة التي تحتلها القضية الحسينية في قلوب الموالين بحيث يجعلونها بديلاً عن الواجبات كمن ينفق فيها ولا يدفع الحقوق الشرعية، أو يفعل المحرمات معتقداً أن بكاءه على الحسين (عليه السلام) يدخله الجنة ولو كان مجرماً، ونحوها.

وذكر السيد الخوئي (قدس سره) تقريباً لرواية أبي بصير ليستدل به على أفضلية الزيارة على صوم رمضان ولم يذكر قائله، قال (قدس سره):

ص: 174


1- محاضرة بتأريخ 15/ذ.ح./1415.

((إن السؤال ناظر إلى أنّه هل يخفّف الزيارة فيقتصر على الأقلّ الممكن بأن يذهب صباحاً ويزور ويرجع مساءً –مثلاً - أو أنّه يقيم هناك يوماً أو يومين؟ فأجاب (عليه السلام) بأنّ الإقامة أفضل وأنّه لا بأس بفوات الصيام عنه، لأنّه مكتوب على من شهد الشهر، أي كان حاضراً في بلده، وهذا ليس كذلك، وعليه فيُعدّ هذا من خصائص زيارة الحسين (عليه السلام) ))(1).

أقول: هذا خلاف الظاهر تماماً لوضوح أن السائل ناظر إلى أن الإقامة في بلده لإتمام الصوم إلى أن يخرج شهر رمضان ويأتي عيد الفطر فيخرج بعده إلى زيارة الإمام (عليه السلام) أفضل، أم الخروج إلى الزيارة في شهر رمضان وإن استلزم إفطار أيام، فأجابه الإمام (عليه السلام) بأفضلية الإقامة مستشهداً بالآية الشريفة.

ولو نوقش في سند رواية أبي بصير الدالة على أفضلية الصوم، فإن ظهور الروايات الأخرى وإطلاقات البعض الآخر من دون ذكرها في المستثنيات كفاية.

والذي نستظهره أن الموقف الأصلي الأول إزاء هذه المسألة هو كون الإقامة وصوم شهر رمضان أفضل خصوصاً إذا أمكن الجمع بين الصوم والزيارةبالسفر بعد الزوال والعودة قبل الزوال اليوم التالي أو الإقامة عند حرم الحسين (عليه السلام).

نعم قد تكون الزيارة أفضل في بعض الظروف التي تكون فيها الزيارة وإحياء ذكرى أبي عبد الله (عليه السلام) من أرقى مصاديق الجهاد، كما في فترات صعبة كثيرة مرّت بها هذه الشعيرة المقدسة قديماً وحديثاً.

ص: 175


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/409.

(الثالثة): في ما دلّت عليه مرسلة علي بن أسباط (رقم 5) وما في الفقه الرضوي (رقم 7) من ارتفاع النهي –تحريماً أو كراهة- بعد انتهاء الليلة الثالثة والعشرين.

والمرسلة ضعيفة الإسناد من أكثر من جهة، والفقه الرضوي ليس رواية معتبرة السند، فلا مسوِّغ لتقييد إطلاقات النهي خصوصاً مع تعليل رجحان الإتمام بأنه ممن شهد الشهر وهو يتضمن صومه كله، ويتأكّد هذا الرجحان عند الالتفات إلى عظمة العشر الأواخر من شهر رمضان، والحث على التفرغ للعبادة وهجر المباحات، فكيف يرد الترخيص بترك صوم هذه الأيام العظيمة؟.

نعم يمكن أن يُفهم وجه لهذا الترخيص بالنسبة للبعض الذين ليست لهم المطاولة والمصابرة لإتمام الشهر بحيث يقعون في حرج من الاستمرار فيُرخّص لهم بالسفر والإفطار لدفع الحرج.

وقد حمله جملة منهم على أن الكراهة تكون أخف بعد ثلاث وعشرين ليلة.

ص: 176

(الفرع الثاني) صوم المسافر إذا رجع إلى وطنه وما بحكمه

إذا كان الشخص في سفر فحكمه الإفطار لحرمة الصوم في السفر، وإن عزم على العودة إلى وطنه أو ما بحكمه، فحكم الإفطار باقٍ ما دام خارجاً.

فإن لم يرتكب المفطر في الخارج: ودخل قبل الزوال وجب عليه تجديد نية الصوم ويجتزى به، وإن دخل بعد الزوال أو تناول المفطر أثناء سفره فلا يصح منه الصوم ووجب عليه القضاء، وإن استحب له الإمساك بقية اليوم.

وهذا هو المشهور حتى قيل بأنه ((هو الصحيح الذي لا خلاف فيه بين أصحابنا والأصل الذي يقتضيه المذهب))(1).

أقول: سنجد مخالفين عديدين غير من توقّف واحتاط في المسألة.

ويوجد إطلاقان مقابل تفصيل المشهور، فقد حُكي الخلاف عن ابن زهرة فقال بعدم صحة صومه مطلقاً وعليه القضاء وأطلق ((استحباب الإمساك للمسافر إذا قدم أهله))(2)

من دون تفصيل بين ما قبل الزوال وما بعده، ولكنهم ضعّفوه أو أوّلوه بما لا يخالف المشهور أي ((يجب تنزيله على ما بعد الزوال))(3).

كما خالف الشيخ (قدس سره) فأطلق في النهاية وجوب إتمام الصوم والاجتزاء به قائلاً: ((المسافر إذا قدم أهله، وكان قد أفطر، فعليه أن يمسك بقية النهار تأديباً، وكان عليه القضاء، وإن لم يكن قد فعل شيئاً ينقض الصوم، وجب عليه الإمساك، ولم يكن عليه القضاء، فإن طلع الفجر وهو بعد خارج البلد كان مخيراً بين الإمساك مما ينقض الصوم ويدخل بلده، فيتم صومه ذلك

ص: 177


1- السرائر لابن إدريس: 1/407 وكذا غيره، راجع مستند الشيعة: 10/366.
2- جواهر الكلام: 17/6.
3- جواهر الكلام: 17/6 وتبعه في مستمسك العروة الوثقى: 8/435.

اليوم وبين أن يفطر))(1) وقال: ((والأفضل إذا علم أنه يصل إلى بلده، أن يمسك عمّا ينقض الصيام، فإذا دخل إلى بلده تمم صومه ولم يكن عليه قضاء)).

لكنه (قدس سره) التزم في المبسوط بتفصيل المشهور فقال: ((فأما إذا أمسك في أول النهار ثم دخل البلد وجب عليه الامتناع وتجديد النية إن كان قبل الزوال ولا قضاء عليه، وإن كان بعد الزوال أمسك وعليه القضاء))(2).

أقول: لأجل ذلك استظهر العلامة (قدس سره) ((أن مراد الشيخ في النهاية ما فصّله في المبسوط، وقد ذكر ذلك في التهذيب أيضاً وهو خيرة المفيد)) وقال صاحبالجواهر (قدس سره): ((يجب تنزيله على ما قبل الزوال، وإلا كان محجوجاً بما عرفت بل في محكي السرائر أنه مخالف للإجماع))(3).

أقول: لنا ملاحظتان على كلامه (قدس سره):-

1- إننا لدى مراجعة السرائر نجد أن ابن إدريس لم يدّعِ الإجماع على التفصيل المذكور، وإنما على خصوص الشق الثاني وهو عدم صحة الصوم إذا قدم بعد الزوال، فقد قال في معرض ردّه على إطلاق الشيخ (قدس سره): ((فعلى إطلاقه أنه إذا قدم بعد الزوال ولم يكن قد تناول ما يُفسد الصيام، يجب عليه الإمساك، ولا يجب عليه القضاء وهذا خلاف الإجماع))(4).

2- إننا لا نجد وجهاً لهذا التأويل، خصوصاً وأن الشيخ ذكر مثل هذا الإطلاق في الخلاف فقال: ((وأما المسافر فإن كان نوى الصوم لعلمه

ص: 178


1- النهاية: 160.
2- المبسوط: 1/284.
3- جواهر الكلام: 17/8.
4- السرائر: 1/407.

بدخوله إلى بلده وجب عليه الإمساك بقية النهار ويعتد به))(1)،كما أنه ذكر في المبسوط نفس الذيل الذي نقلناه عن النهاية في أفضلية الإمساك في السفر ولم يقيد العلم بالدخول قبل الزوال.

فدعوى الإجماع التي حكاها عن السرائر غير تامة لمخالفة الشيخ وابن زهرة، بل يمكن نسبة المخالفة إلى كل من قال بوجوب الإفطار في السفر ولو حصل آناً ما وهو القول الذي حكي في المطلب المتقدم (صفحة 100) عن جملة من أعلام القدماء كوالد الصدوق والعماني والسيد والحلي وظاهر الإرشاد مضافاً إلى ابن زهرة، وإلا عُدَّ نقضاً عليهم، وقال أبو الصلاح: ((وإذا قدم المسافر وقد بقيت من النهار بقية أمسك تأديباً))(2).

وعلى أي حال فدعوى الإجماع ونفي الخلاف غير تامة لوجود قولين مقابل المشهور، وسيأتي احتمال غيرهما، فالعمدة في الاستدلال هي الروايات، وهي متعارضة ظاهراً.

فلا بد من قراءة الروايات، وهي على طائفتين:

الطائفة الأولى: ما استدل بها على قول المشهور:لا يوجد ما يدل على تفصيل المشهور بشقّيه إلا رواية سماعة قال: (سألته عن الرجل كيف يصنع إذا أراد السفر؟ إلى أن قال: إن قدم بعد زوال الشمس أفطر ولا يأكل ظاهراً، وإن قدم من سفره قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم إن شاء)(3).

ص: 179


1- الخلاف: 2/203 المسألة (57).
2- الكافي في الفقه: 182.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 6، ح7.

أقول: الاستدلال بها يواجه أكثر من إشكال ففي سندها علي بن السندي وقد تقدم الكلام في وثاقته ومحاولة معالجتها، وقد اعتبرها جمعٌ(1)

من دون أن يعالجوا هذه المشكلة أو يشيروا إلى معالجتها في موضع سابق.

وأما من حيث المتن فإن في ذيلها قوله (عليه السلام): (إن شاء) الظاهر في التخيير، وأجاب السيد الخوئي (قدس سره) عن هذا الإشكال بأن ((الظهور المزبور إنّما يسلّم لو كان التعبير هكذا: فله صيام ذلك اليوم إن شاء، بدل قوله: (فعليه) إلخ.

أمّا التعبير ب-(على) فهو ظاهر في الوجوب، وحيث إنّه لا يجتمع مع المشيئة فلا بدّ إذن من حملها على المشيئة السابقة على دخول البلد، يعني: هو مخيّر ما دام في الطريق وقبل أن يدخل بين أن يفطر فلا يجب عليه الصوم، وبين أن لا يفطر ويدخل البلد ممسكاً فيجب عليه الصوم، فالمشيئة إنّما هي باعتبار المقدّمة وأنّ له اختيار الصوم باختيار مقدّمته وهو الإمساك قبل الحضور، كما له اختيار الإفطار حينئذ لا باعتبار نفس الصوم، لما عرفت من منافاة المشيئة فيه مع الظهور في الوجوب المستفاد من كلمة (عليه)، وقد صرّح بالتخيير المزبور في بعض الروايات الأُخر كما ستعرف))(2).

أقول: لا توجد منافاة بين حمل (إن شاء) على التخيير بين الصوم والإفطار، وبين ظهور (فعليه) في الوجوب بتقريبين:-

1- يمكن حمل الوجوب على المرتبة السابقة بأنه هو الذي كتب على نفسه الصوم وأوجبه، وفي طول هذا الوجوب أصبح واجباً تعيينياً عليه، وإلا فهو بالخيار، ولو شاء اختار الإفطار وعليه القضاء، ولعل

ص: 180


1- كالسيد الحكيم (قدس سره) في مستمسك العروة الوثقى: 8/434 فوصفها بالموثقة.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/17.

هذا أظهر من حمل المشيئة على المشيئة السابقة ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال.

2- إنه مخيَّر فعلاً بين الصوم والإفطار فإن اختار الإفطار فعليه القضاء في أيام أُخر، وإن اختار الصوم فقد أجزأه وتحقق به الامتثال وسقط الفرض، وبهذا اللحاظ صحّ وصف هذا الفرد بالوجوب وإطلاق قوله: (فعليه) على هذا الفرد.

كما أن كل فرد من أفراد الواجب التخييري يسمى (واجب) مع أنه يجوز تركه، وإنما وصف بالوجوب للملاك الذي ذكرناه.والفرق بين الوجهين أن الوجوب في الأول بلحاظ إيجابه على نفسه والثاني بلحاظ اختياره فرد الصوم دون الإفطار، وكلاهما وجوب لا ينافي الاختيار.

1- ولو افترضنا المنافاة فالمفروض تقديم صريح لفظ (إن شاء) في التخيير على ظهور (فعليه) في الوجوب التعييني؛ لأن الصريح مقدّم على الظاهر.

وقد استدل المشهور بروايات أُخر إلا أنها –لو تمت- تدل على الشق الأول من تفصيلهم، وهي:-

1- موثقة أبي بصير قال: (سألته عن الرجل يقدم من سفر في شهر رمضان، فقال: إن قدم قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم ويعتد به)(1).

أقول: أُشكل على الاستدلال بها بأنه ((لم يفرض فيها عدم الإفطار قبل ذلك، ولكن يمكن استفادته من نفس الموثقة، نظراً إلى التعبير

ص: 181


1- الأحاديث الثلاثة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 6، ح6، 4، 5 على نفس الترتيب.

ب-(صيام ذلك اليوم)، لوضوح عدم تحقق الصيام المزبور إلا مع عدم سبق الإفطار، وإلا لقال: (عليه صيام بقية النهار)، فإسناد الصوم إلى تمام اليوم كشف عن فرض عدم سبق الإفطار كما لا يخفى. ومع الغض عن ذلك فغايته استفادة التقييد من الروايات الأخر))(1).

2- رواية البزنطي قال: (سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل قدم من سفر في شهر رمضان ولم يطعم شيئاً قبل الزوال، قال: يصوم).

3- رواية يونس في حديث، (وقال: في المسافر يدخل أهله وهو جنب قبل الزوال ولم يكن أكل فعليه أن يتم صومه ولا قضاء عليه، يعنى إذا كانت جنابته من احتلام).

أقول: أُشكل(2)

على الاستدلال بها من جهتين:-

أ- ورود لفظ (قال) مرة واحدة في طبعة الوسائل المتداولة، فتكون ظاهرة في أنها فتوى يونس لا كلام الإمام (عليه السلام) ولها نظائر عنه.

وأُجيب بوجود لفظ (قال) مكررة في صدر الحديث في الكافي والتهذيب الذي نقل عنه، لكن صاحب الوسائل (قدس سره) لمّا قطّع الحديث حصل هذا الإشكال، فقد بدأ الكليني رواية الحديث عن ((علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس(قال: قال في المسافر الذي يدخل أهله في شهر رمضان) إلى أن قال: (وقال..)، وقد أورد صاحب الوسائل هذا الصدر في الباب التالي، وكذا في الطبعة المحققة حديثاً فالرواية مضمرة، ومضمرات يونس

ص: 182


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/17.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/17.

معمول بها، على أنها رويت في الفقيه عن يونس عن موسى بن جعفر (عليه السلام) فينحل الإشكال.

أقول: ما ورد في الكافي لا يحل الإشكال لظهور (قال وقال) أنهما كلام محمد بن عيسى ويونس لا كلام الإمام (عليه السلام) فتكون من فتاوى يونس وليست مضمرة له عن المعصوم (عليه السلام).

نعم ما في الفقيه يحل الإشكال(1)

إلا أن المشكلة في عدم ذكر الشيخ الصدوق (قدس سره) طريقه في المشيخة إلى يونس فتكون الرواية مرسلة، إلا أنهم اعتمدوا(2) في ذكر الطريق على ما أورده الشيخ (قدس سره) في الفهرست من طرق عديدة إلى يونس، وذكر في اثنين منها الشيخ الصدوق، فتكون هذه من طرق الشيخ الصدوق إلى يونس.

وهذه معالجة لا تخلو من إشكال؛ لأن الشيخ (قدس سره) إنما ذكر طرقه إلى كتب يونس، وأنّى لنا العلم بأن الشيخ الصدوق (قدس سره) أخذ هذه الرواية من كتب يونس، وإن ابتدأ السند باسمه، فإن هذا بمجرده لا يعني أخذه منه كتابه.

اللهم إلا أن يجاب بأن الشيخ (قدس سره) قال: ((أخبرنا بجميع كتبه ورواياته)) ثم ذكر طرقه فهي لا تختص بالكتب بل تجري في الروايات أيضاً.

ص: 183


1- وصفها (قدس سره) بالمعتبرة (مستند العروة الوثقى: 22/18، 20) ولم يُشر إلى هذا الإشكال على سند الشيخ الصدوق إلى يونس.
2- راجع مثلاً خاتمة وسائل الشيعة، ج19، مشيخة الصدوق.

وينقل بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) ((أن المتتبع للفقيه يجد أن الشيخ الصدوق يبتدئ بأسماء لا كتب لهم، وآخرين ممن لم ينقل عنهم فلعله نقل ذلك من الكافي، وببالي أن المجلسي الأول قال: إن مرسلات الصدوق هي مسندات الكافي، فهو يأخذ من الكتب إما على سبيل الإرسال أو يبتدئ بأسماء بعض الرجال ولا يتعب نفسه بمراجعة الكتب))(1).أقول: من السهل التأكد من هذه النتيجة بمطابقة أسماء من ابتدأ بهم رواياته المذكورين في المشيخة مع الفهارس المعدّة لأصحاب الكتب والأصول كفهرست الشيخ والنجاشي، وقد وجدت مصداق ذلك.

أ- ومن جهة إطلاق لفظ الجنابة فيشمل البقاء على الجنابة متعمداً وهو من المفطرات فيكون ممن تناول المفطر في سفره، فالحكم بإتمام الصوم لا يستقيم مع مقالة المشهور.

وقد أُجيب بصريح الذيل لو كان من كلام الإمام (عليه السلام)، أما لو كان من كلام يونس –كما احتمل الشيخ- فقد قيل بأنه كذلك ((لأن الراوي وهو يونس يرويها عن الإمام (عليه السلام) هكذا، وأنه (عليه السلام) إنما قال ذلك في فرض الاحتلام لا التعمد، فيصدق –طبعاً - في حكايته))(2).

ص: 184


1- محاضرة بتأريخ 12/ذ.ق./1416.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/18.

أقول: قد يقال بأن هذه دعوى عهدتها على مدعيها، إذ قد يدعي آخر بأنها تفسير من يونس بناءً على ما كان يضمر هو من موضوع، وهو لا يصلح لتقييد كلام الإمام (عليه السلام).

نعم رُدّ الإشكال بقول الإمام (عليه السلام): ((في الجواب (أن يتم صومه) فإنه دليل على أن المراد بالجنابة الاحتلام ونحوه مما لا يضر في الصوم، فيكون موضوع الحكم: الذي لم يستعمل جميع المفطرات في ذلك اليوم إلى أن دخل البلد، فالأخبار واردة لتشريع الامتثال لا لتشريع موضوع الامتثال))(1),

أما الجزء الثاني من تفصيل المشهور فلا يمكن الاستدلال عليه بمفهوم الروايات المتقدمة لأن قيد قبل الزوال ورد في كلام السائل في روايتي البزنطي ويونس فلا يُعلم مدخليته كشرط في الجواب.

ولو ورد في كلام الإمام (عليه السلام) –كما في موثقة أبي بصير- فإن المفهوم لا يتعين بلزوم الإفطار بعد الزوال لاحتمال أن يكون الحكم هو التخيير، وبتعبير آخر: إن مفهوم (فعليه) هو (ليس عليه صوم) وهو أعم من لزوم الإفطار أو التخيير بينه وبين الصوم.

نعم هذا الجزء منصوص عليه في رواية سماعة التي قلنا عنها أنها الوحيدة التي تفيد تفصيل المشهور بعد معالجة سندها.

ويمكن الاستدلال عليه بموثقة محمد بن مسلم وهي موجودة في الباب اللاحق، ولم يستدلوا بها هنا، قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقدممن سفر بعد العصر في شهر رمضان فيصيب امرأته حين طهرت من الحيض أيواقعها؟ قال: لا بأس به)(2).

ص: 185


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/435.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 7، ح4.

بتقريب أن عدم وجوب الصوم عليه لرجوعه بعد الزوال، ويشكل على الاستدلال بها من جهة عدم وجود ما يدل على أنه لم يتناول مفطراً في سفره، ومن البعيد أن لا يتناول شيئاً إلى العصر، فلا يتم الاستدلال بها؛ لاحتمال أن جواز الإفطار من جهة تناوله المفطر وليس لدخوله بعد الزوال، فالرواية مجملة.

(الطائفة الثانية) وهي الروايات الدالة على ما يخالف المشهور، وهي عديدة:-

1- صحيحة رفاعة بن موسى قال (سألت: أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقبل في شهر رمضان من سفر حتى يرى أنه سيدخل أهله ضحوة أو ارتفاع النهار قال: إذا طلع الفجر وهو خارج ولم يدخل فهو بالخيار إن شاء صام، وإن شاء أفطر)(1).

2- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يقدم من سفر في شهر رمضان فيدخل أهله حين يصبح أو ارتفاع النهار، قال: إذا طلع الفجر وهو خارج ولم يدخل أهله فهو بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر).

3- صحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (فإذا دخل أرضاً قبل طلوع الفجر وهو يريد الإقامة بها فعليه صوم ذلك اليوم، وإن دخل بعد طلوع الفجر فلا صيام وإن شاء صام).

ص: 186


1- الروايات الثلاث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 6، ح 2، 3، 1 على نفس الترتيب.

كيفية الجمع بين الطائفتين:

ويثار هنا سؤال بأن الطائفة الثانية أقوى سنداً وأوضح دلالة مما عليه المشهور فكيف تعاطوا معها، ويمكن تحصيل أكثر من موقف للمشهور إزاء الطائفة الثانية من الروايات:

الأول: حملها على ما لا ينافي الطائفة الأولى فحملها أكثرهم على التخيير قبل القدوم بين أن يمسك ويجدد النية عند الدخول قبل الزوال، أو يتناول المفطر خارج بلده للرخصة فيه ويسقط عنه الوجوب، قال الشيخ (قدس سره) في التهذيب عن صحيحتي رفاعة ومحمد بن مسلم: ((فإذا طلع الفجر عليه وهو خارج البلد فهو بالخيار إن شاء صام في ذلك اليوم وإن شاء أفطر إلا أن الإمساك والعزم على صوم ذلك اليوم أفضل))(1)،وتبعه ابن إدريس (قدس سره) بكلام أوضح قائلاً: ((فإن طلع الفجر وهو بعد خارج البلد، كان مخيراً بين الإمساك مما ينقض الصوم ويدخل بلده ويتمم صومه ذلك اليوم وبين أن يفطر، فإذا دخل في بلده أمسك بقية النهار، تأديباً ثم قضاه))(2).

أقول: ويرد عليه:-

1- إنه خلاف الظاهر؛ لأن موضوع السؤال هو حكم المسافر إذا دخل أهله، وقد أجاب الإمام (عليه السلام) بهذا الجواب كما في صحيحة محمد بن مسلم الأولى. بل في صحيحة محمد بن مسلم الثانية تصريح بأن التخيير حكمه إذا دخل محل إقامته.

2- إن هذا التفسير يلغي القيد الذي ذكره الإمام (عليه السلام) وهو طلوع الفجر على المسافر وهو خارج؛ لأن المسافر مخيَّر دائماً في سفره

ص: 187


1- التهذيب، ج4، كتاب الصيام، باب 61، ح5-8.
2- السرائر: 1/407.

على هذا النحو بين أن يستمر على سفره ويفطر، أو يعود إلى بلده ويصوم، فما معنى إضافة الإمام لهذا القيد؟.

بل إن نفس عدول الإمام (عليه السلام) عن قيد زمن الدخول وإهماله، وذكر قيد جديد هو طلوع الفجر عليه وهو خارج شاهد على أن المعيار في الحكم هو هذا القيد لا ما ذكره السائل.

وحاول السيد الخوئي (قدس سره) تقريب هذا المعنى عند مناقشته الاستدلال بالطائفة الثانية فقال عن الروايتين الأولى والثانية: ((فإن الخيار فيها مقيد بطلوع الفجر وهو خارج ولم يدخل أهله، فلا خيار فيما لو طلع الفجر وهو داخل، أو طلع وكان خارجاً إلا أنه دخل أهله بعد ذلك، أي عند ارتفاع النهار وقبل الزوال. فهي أيضاً واضحة الدلالة على أن الخيار إنما هو في ظرف عدم الدخول لا بعده))(1).وفيه: إن من طلع عليه الفجر وهو داخل فحكمه الصوم بلا إشكال، وهو خارج عن موضوع الرواية الذي هو من طلع عليه الفجر وهو خارج بلده، وهذا له حالان فإما أن يدخل بلده أو لا يدخل، فأما من طلع عليه الفجر خارجاً وبقي كذلك ولم يدخل أهله فحكمه متعين بالإفطار وهذا واضح، فكيف يفترضه موضوع حكم الخيار في الرواية؟.

فيتعين موضوع الرواية في من طلع عليه الفجر خارج بلده ثم دخل وقد نصّت عليه صحيحة محمد بن مسلم الأخرى فحكمه التخيير بين الصوم والإفطار، وبتقريب آخر إن الواو في قوله (عليه السلام): (ولم يدخل) حالية والجملة بيان لوصف (خارج) وليست لإضافة قيد جديد كما هو مقتضى تقريب السيد الخوئي (قدس سره).

ص: 188


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/19.

وقال (قدس سره) عن الثالثة: ((فإن نفي الصيام عنه مستند إلى ما افترضه من كونه مسافراً حال الطلوع، ولا صيام على المسافر كما هو ظاهر، ومع ذلك فقد علّق الصوم على مشيئته بقوله (عليه السلام): (وإن شاء صام)، غير أنه لم تبيّن كيفيته في هذه الرواية، وقد أُشير إليها في الروايات الأُخر من اختيار الإمساك وهو في الطريق إلى أن يدخل بلده قبل الزوال فيجدد النية ويصوم. إذن فالروايات بمجموعها تدل على مقالة المشهور حسبما عرفت))(1).

أقول: اتضح مما تقدم بعد كلامه (قدس سره) عن الصحة وعن ظهور الرواية.

والنتيجة أن مفاد هذه الروايات أن من طلع عليه الفجر وهو خارج بلده ولم يدخله بعد فحكمه التخيير بين الصوم والإفطار إذا دخل.

الثاني: إهمال الطائفة الثانية لإعراض الأصحاب عنها، قال السيد الحكيم (قدس سره) بعد أن أشار إلى الحمل السابق: ((فإن لم يمكن ذلك الحمل فلتطرح لإعراض الأصحاب عنها))(2).

أقول: يناقش هذا الموقف صغروياً وكبروياً، أما صغروياً فلأن تعدد الأقوال في المسألة شاهد على عدم إعراض الأصحاب، إما بتقريب أخذ البعض بالطائفة الثانية أو عدم أخذ البعض –كالشيخ وابن زهرة (قدس الله سريهما)- بالطائفة الأولى وهذا يعني أنهم لاحظوا الطائفة الأولى ولم يعرضوا عنها، فليست الطائفة الأولى بلا معارض أو إعراض، فلا يتم مطلوب المشهور.

ص: 189


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/20.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/435.

وما استشكال البعض في المسألة إلا بلحاظ هذه الروايات المتعارضة، كصاحب المدارك قال (قدس سره): ((والمسألة محل إشكال، وكيف كان فالمعتمد ما عليه الأصحاب))(1).

وقال المحقق السبزواري (قدس سره) في الذخيرة: ((ولو قدم المسافر قبل الزوال ولم يتناول أتم واجباً وأجزأه لا أعرف في ذلك خلافاً بين الأصحاب)) وأورد روايات الطائفة الأولى، ثم قال: ((ويعارض هذه الأخبار ما رواه الكليني عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام).)) ثم ذكر روايات الطائفة الثانية وحكي عنه في الكفاية قوله: ((ويعارضه أقوى منه يدل على التخيير))، ثم قال بعد كلامه السابق في الذخيرة: ((والمسألة محل إشكال والاحتياط في الصوم إذا دخل قبل الزوال والمستفاد من صحيحة محمد بن مسلم وحسنة رفاعة أن المسافر إذا علم أنه يدخل قبل الزوال كان مخيراً بين الصوم والإمساك والتقييد بما قبل الزوال يقتضى عدم وجوب الصوم إذا دخل بعد الزوال وهو المشهور بين الأصحاب))(2).

وأما كبروياً، فلأن إعراض الأصحاب الموجب لوهن الرواية –لو قلنا به- هو ما كان تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) وهذا غير متحقق هنا كما هو واضح لأنه مدركي.

ويمكن أن نضيف هنا عدة وجوه للجمع بين الروايات، يؤدي بعضها إلى مقالة المشهور، ونعرضها بنفس التسلسل:

الثالث: أن نقول إن روايات الطائفة الثانية ليست بصدد بيان حكم من دخل بلده عائداً من السفر، وإنما هي ناظرة إلى خلاف في حكم من علم

ص: 190


1- مدارك الأحكام: 6/199.
2- ذخيرة المعاد للمحقق السبزواري:3/525-526.

أنه سيدخل بلده قبل الزوال أو عموم النهار، فهل يجب عليه أن يمسك عن المفطرات حتى يتم صومه في بلده أم لا؟ فالإمام (عليه السلام) يريد أن يثبّت التخيير وعدم الوجوب، ومع ذلك فيوجد من قال بالوجوب من علمائنا وإن حكي الإجماع على عدم الوجوب(1)،إلا أن الوجوب ظاهر الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة، قال: ((فإذا علم المسافر أنه يدخل إلى وطنه قبل الزوال أمسك عما ينقض الصيام)) فقوله: ((أمسك)) ظاهر في الوجوب.

والمشهور عند العامة زمن صدور هذه النصوص أي قبل تشكّل المذاهب الأربعة أن من أبيح له الإفطار أول النهار لعذر –كالحائض والنفساء والمسافروالصبي- إذا زالت أعذارهم أثناء النهار كما لو رجع المسافر إلى بلده أنه يلزمهم الإمساك بقية النهار وإن تناول المفطر وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وتبعهم أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي: لا يلزمهم الإمساك، ((فأما إن نوى الصوم في سفره أو مرضه أو صغره ثم زال عذره في أثناء النهار لم يجز له الفطر رواية واحدة))(2).

وحينئذٍ نقول: إن الحكم إذا كان بحق من تناول المفطر هو وجوب الإمساك فكيف بمن لم يتناول بعدُ وهو يعلم أنه سيدخل بلده ويزول عذره؟ فلعل وهماً كان يومذاك بوجوب الإمساك عن المفطرات حتى يدخل بلده ويتم صومه، وجاءت هذه الروايات لدفعه.

وبناءً على هذا الوجه فالطائفة الثانية ناظرة إلى ما قبل دخول البلد ولا تنافي الطائفة الأولى، لكن يمكن الإشكال عليه من جهة ظهور روايات الطائفة الثانية في كون التخيير بعد دخول البلد.

ص: 191


1- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي (قدس سره): 6/162 المسألة (99).
2- المغني لابن قدامة: 3/75.

الرابع: اعتماد قول جديد في المسألة يكون جامعاً لروايات الباب ورد في طيّات كلام المحقق السبزواري (قدس سره) المتقدم (صفحة 190)، حاصله أن من قدم إلى بلده قبل الزوال تخير بين الصوم والإفطار، أما من قدم بعد الزوال فيتعيّن عليه الإفطار، وهو مضمون رواية سماعة المتقدمة (صفحة 179).

ويمكن تقريب كونه جامعاً لروايات الباب بناءً على عدة معطيات:-

1- إن الطائفة الثانية دلت على أن حكم المسافر إذا طلع عليه الفجر وهو خارج أهله هو التخيير بين الصوم والإفطار إذا دخل أهله، وهو حكم مطلق لم يفرق بين كون الدخول قبل الزوال أو بعده، وركّزت تلك الروايات على أن المعيار هو طلوع الفجر عليه وهو خارج بلده، بل الإمام (عليه السلام) أعرض في صحيحة محمد بن مسلم عما ذكره السائل من كون الدخول قبل الزوال، وذكر القيد الذي ذكرناه مما يعني أن المعيار هو ما ذكرناه.

2- إن هذا الإطلاق يقيد بكونه في خصوص الدخول قبل الزوال لوجهين:-

أ- رواية سماعة(1)

التي أوردناها في الطائفة الأولى (صفحة 179) بعد معالجة سندها.

ب- فوات محل نية الصوم فيما لو دخل بعد الزوال؛ لأن حدها الاضطراري أو الثانوي هو الزوال، ولا تصح بعده في صوم رمضان حتى للعناوين الثانوية.

ص: 192


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 6، ح7.

أما من دخل بعد الزوال فيتعيّن عليه الإفطار بمعنى عدم صحة الصوم منه، أما جواز تناول المفطر فسنبحثه لاحقاً بإذن الله تعالى.

3- حمل تفصيل روايات الطائفة الأولى على أنه إرشاد إلى أحد فردي التخيير بلحاظ حال السائل وظروف المسألة كالذي قلناه في الوجه الثامن من البحث السابق (صفحة 138).

ويبدو أن هذا الوجه ناجح في وضع كل واحدة من الروايات في موضعها، ولم أجد قائلاً به، لكن حكى بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) هذا القول عمّن وصفه ((بعض المتأخرين))(1)

وعرّفه في اليوم التالي بأنه صاحب السداد(2) –وهو الشيخ حسين آل عصفور بحسب ما ورد في موضع آخر-، وقال عنه بأنه ((لا يمكن المساعدة عليه، لأن الدليل عليه صحيحة محمد بن مسلم ورفاعة، والتخيير فيها مطلق لما قبل الزوال وما بعده، فاختصاص القول بالتخيير بما قبل الزوال لا وجه له))(3).

أقول: ذكرنا آنفاً وجهين للتقييد بما قبل الزوال فإشكاله (دام ظله) غير تام.

نعم يمكن الإشكال على هذا الوجه بأنه من البعيد الالتزام بأن من دخل بلده قبل الزوال ولم يتناول مفطراً له أن يختار الإفطار؛ لاجتماع شروط وجوب الصوم وصحته بعد البناء على امتداد وقت النية إلى الزوال للمضطر، وهذا منه وعدم تناوله المفطر. فيتعين عليه الصوم.

ص: 193


1- محاضرة بتأريخ 13/ذ.ق./1416.
2- كتاب (سداد العباد ورشاد العباد) للشيخ حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عصفور البحراني ابن أخ الشيخ يوسف صاحب الحدائق، توفي عام 1216 ه-، وله تتميم الحدائق، وكتاب السداد متن جامع لفروع المسائل الفقهية مع الاستدلال. (راجع الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 12/111).
3- محاضرة بتأريخ 14/ذ.ق./1416.

وجوابه: أن هذا أحد فردي التخيير لو قلنا به فلا منافاة، اللهم إلا أن نبني على أن مثل هذا غير داخل في من تصح منه النية إلى الزوال. ولكن هذا مخالف لصريح موثقة أبي بصير المتقدمة.

وبعد ضمّ تقريب تعيّن الإفطار بعد الزوال إلى ما ذكرناه آنفاً من تعيّن الصوم قبل الزوال ينتج تفصيل المشهور، وهو ما نبني عليه عملاً.

إن قلتَ:لم تبق ثمرة للتخيير الوارد في الروايات بعد انتهاء النتيجة إلى تفصيل المشهور.

قلتُ: تظهر الثمرة على مستويين:

أولهما: على المستوى العام لمسألة من سافر أثناء النهار من بلده أو عائداً إليه، فيأتي هذا الحكم ليتمم رسم تلك الصورة العامة أي على مستوى رسم منظومة أحكام الصوم في السفر وهذه المسألة منها، وسيأتي ذكر هذه المنظومة (صفحة199) تحت عنوان (خارطة الأحكام)، فتراعى الثمرة بلحاظ هذه الصورة العامة، ونتيجتها أن حكم المسافر التخيير في السفر، فيستطيع من يسافر من بلده أن يختار الصوم حتى لو سافر قبل الزوال، فيأتي هذا المطلب هنا ليتمم صورة المطلب هناك باعتبار أن موضوعهما واحد وإن لم يفرِّق الحكم بالتخيير بلحاظ الراجع لأنه ثابت له على كل حال.

ثانيهما: على المستوى الخاص بهذا المطلب، فإن معنى التخيير حال السفر بناءً على هذا الوجه هو أن المسافر مخيَّر حال السفر إن شاء أفطر وإن شاء نوى الصوم في السفر ويجدد النية قبل الزوال مراعاة للمشهور، ولا يتعيَّن عليه الإفطار في السفر، وهذا غير معنى التخيير عند المشهور الذي لا يرى صحة الصوم في السفر.

وبناءً على هذا الوجه فإنه تصح منه نية الصوم في السفر ويخرجه من دائرة النهي والمنع وكونه معصية، فإذا نوى الصوم في السفر قبل الزوال، جاز

ص: 194

له إتمامه إذا دخل بلده بعد الزوال لوجود المقتضي وعدم وجود المانع الذي يفترض أنه فوات زمن النية.

وبهذا التقريب نستطيع أن نوسّع دائرة التخيير إلى ما بعد الزوال ونخرج عن تفصيل المشهور.

الخامس: القول بالتخيير مطلقاً بمقتضى روايات الطائفة الثانية، وعلى هذا يكون تفصيل الطائفة الأولى من باب ذكر بعض أفراد التخيير.

وقد استوجهه بعض أساتذتنا لكنه أورد(1)

إشكالاً عليه من جهة المنافاة بين قوله (عليه السلام) في موثقة أبي بصير في الطائفة الأولى: (فعليه صيام ذلك اليوم) الظاهرة في التعيين، وقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: (فلا صيام عليه وإن شاء صام) والعرف يأبى الجمع بينهما، ويقع التعارض.

وأجاب (دام ظله) بارتفاع المنافاة؛ لأن ((مرجع هاتين الجملتين إلى التخيير بين الفعلين أي الصوم والإفطار، فتكون المسألة مورداً لرواية مخيرة وأخرى معينة فيحكم بالتخيير، لأن ما يدل على التخيير مقدم على ما يدل على التعيين، نظير قوله (أعتق رقبة أو صم شهرين متتابعين)، وليس الكلام من قبيل التخيير بين الفعل والترك حتى يقال بتحقق المنافاة واستقرار التعارض)).

أقول: هذا تقريب منا لمراده (دام ظله) مع صعوبة تحصيله إلا بمشقّة واحتراف.

ويرد عليه: أن الإشكال لا موضوع له لأن الوارد في صحيحة محمد بن مسلم التخيير (وإن شاء صام) ولم يتوقف (عليه السلام) عند (فلا صيام عليه) حتى يفرض التنافي.

ص: 195


1- نفس المحاضرة.

ولو تم هذا الدفع فإنه يضاف إلى ما قدمناه (صفحة 180) من تقريبات لعدم وجود منافاة بين التعيين والتخيير في المقام.

لكن المشكلة في هذا القول من جهة ما ذكرناه في الوجه السابق من لزوم تقييد هذا الإطلاق بما قبل الزوال، وعدم إمكان الالتزام بالتخيير بعد الزوال لفوات محل النية فيتعين الإفطار.

ثم قال (دام ظله): ((إذا أمكن الجمع بهذا النحو –أي التخيير مطلقاً- فلا تعارض، ولعل بناء صاحبي الكفاية والمدارك على التخيير مطلقاً لأجل هذا، أي أن الجمع بين الطائفتين يقتضي التخيير، وهذا له وجه.

وحيث أنه خلاف المشهور بل المجمع عليه، فيمكن أن يقال: إن دخل قبل الزوال يصوم على الأحوط وجوباً ويعتد به، فإنه إن كان القول بالتخيير فصومه صحيح، وهو موافق للمشهور الذي قال بالتعيين ولا نريد مخالفتهم.

وأما بالنسبة إلى ما بعد الزوال، فإذا أغمضنا النظر عما في النهاية لعدم إمكان الأخذ به قطعاً لمخالفته الإجماع، فصومه باطل قطعاً على مسلك المشهور ومسلك السيد المرتضى ولا نحتاج إضافة قيد الأحوط وجوباً))(1).

تبع (دام ظله الشريف) بذلك المحقق السبزواري (قدس سره) وقد نقلنا كلامه (صفحة 190) وكأنه جعل المقيِّد للتخيير بما قبل الزوال هو عدم مخالفة المشهور أو الإجماع، وقد ناقشنا ذلك، ولسنا بحاجة إليه بعد الوجهين الذين قدمناهما (صفحة 192).

وقد صرح (دام ظله) بهذه النتيجة في رسالته العملية فقال (دام ظله الشريف): ((وإذا كان مسافراً ولم يتناول المفطر حتى دخل بلده أو نوى فيه الإقامة، فإن كان دخوله قبل الزوال صام يومه على الأحوط وجوباً ويجتزئ

ص: 196


1- من محاضرة بتأريخ 14/ذ.ق./1416.

به، وإن كان بعده لم يجب عليه صيامه، ولو صام لم يجتزئ به على الأحوط لزوماً))(1).

أقول:-

1- هذا رجوع إلى قول المشهور مع كثرة الاحتياطات وهو أمر غير محبَّذ.

2- إن مقتضى الاحتياط القضاء في الداخل قبل الزوال أيضاً لتأخير النية عن الفجر وجوازه مختص بالمضطر والمسافر ليس منه بحسب ما سيأتي منه (دام ظله الشريف) (صفحة 198).

3- لم يبيِّن لنا حكم من لم يصم وقد دخل قبل الزوال فهل عليه الكفارة؟ وكذا الوجه في عدم الاجتزاء بالصوم إذا قدم بعد الزوال ما دام حكمه هو التخيير.السادس: استقرار التعارض، لعدم نجاح أي من الوجوه المتقدمة للجمع:

وهو بحث تنزلي كما هو واضح لاعتمادنا تفصيل المشهور، بعد قيام الدليل عليه، وعدم وجود المنافاة بين الطائفتين فلا تعارض، لكن بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) لما صوّر التعارض بين الجملتين (فعليه الصيام) و (لا صيام عليه) في ما سبق، وعرض وجهاً لرفع التنافي، قال (دام ظله الشريف): ((وإن قلنا إن هذا ليس جمعاً عرفياً لعدم رجوعه إلى التخيير بين فعلين، فالتعارض مستقر –أي بين موثقة أبي بصير (صفحة 181) وفيها (فعليه صيام)، وصحيحة محمد بن مسلم (صفحة 186) وفيها (فلا صيام)، وحيث لا يوجد هنا شيء يُعتدُّ به في مقام الترجيح؛ لأن رواية أبي بصير وإن خالفت العامة إلا أنها مختصة بما قبل الزوال، ورواية محمد بن مسلم القاضية بالتخيير

ص: 197


1- منهاج الصالحين: 1/311، المسألة (1038).

لم يقل بها إلا متأخرو الشافعية، ولا أقل من عدم ثبوت المرجح، فلا بد من الرجوع إلى العمومات.

فإن قلنا إن المرجع هو مسلك السيد المرتضى (قدس سره) في استظهار لزوم الإفطار من عمومات القرآن «أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» فمجرد كونه مسافراً موجب للبطلان وهذا شخص يصدق عليه أنه مسافر حين طلوع الفجر، فيتوجه إليه خطاب القضاء، ويتم مسلك السيد المرتضى إما للجمع أو كما يقولون أنها أخبار آحاد)).

أقول: مثل هذه العمومات قد يناقش في صحة الرجوع إليها لاتفاق الدليلين المتعارضين على الخروج منها، وحجيتهما ثابتة ولا تسقط بالتعارض إلا في المقدار الذي تحقق التعارض فيه، وهذه كبرى(1)

قد لا تكون محققة في علم الأصول وأشرنا إلى مورد آخر لها (صفحة 151) وحينئذٍ يكون المرجع العمومات التي فوقها أي عمومات وجوب الصوم.

على أن فرض التعارض غير تام لعدم وجود منافاة كما قرّبنا ذلك بأكثر من وجه (صفحة 180).

ثم قال (دام ظله الشريف): ((أما إذا استظهرنا من الآية الرخصة في الإفطار أي تخيير المسافر ابتداءً بين الصوم والإفطار، وإن لزوم الإفطار في السفر إنما ثبت بالسنة النبوية الشريفة حين عدَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بقي على الصوم في السفر من العصاة، وأنه ليس من البر الصوم في السفر، والصيام في السفر معصية، ففي حال السفر ليس له أن ينوي الصوم لا مطلقاً، فإن ضممنا إليها أن تأخير النية إلى الزوال صحيح للمعذور، فيكون موضوع الصوم قد تحقق فإن هذا شخص في بلده غاية الأمر أنه أخّر النية من جهة السفر، فلا بد من الحكم بالصحة قبل الزوال، لكننا لم نجزم واحتطنا إذ أن تأخير النية إلى الزوال اختياراً لا نفتي به،ونتيجة الاحتياط تقتضي أنه إذا

ص: 198


1- وهي كبرى اشتراط كون العمومات الفوقانية التي يُرجع إليها عند استقرار التعارض بين الدليلين المتعارضين مما لا يتفق الدليلان على نفيها.

دخل قبل الزوال، جدّد النية وصام إلا أنه يقضي لتأخيرها إلى الزوال، والحكم –بشقّيه- مبني على الاحتياط اللزومي عندنا))(1).

أقول: قوله: (إذ أن تأخير النية إلى الزوال اختياراً) لا موضوع له هنا لأن المسافر ليس مختاراً وقد نصّت موثقة أبي بصير على صحة بل وجوب صومه إذا قدم قبل الزوال فالتوقف والاحتياط لا وجه له.

خارطة لأحكام الصوم في السفر:

بعد الانتهاء من البحث في حكم المسافر إذا عاد إلى بلده وبضمّه إلى ما تقدم في بحث من خرج من أهله مسافراً، تحصّلت لدينا خارطة لمجموع أحكام الصوم في السفر تكون جامعة لروايات الباب، ملخّصها:

أن من سافر من أهله قبل طلوع الفجر يتعين عليه الإفطار في السفر (بمقتضى روايات القول السابع صفحة 106)، وإن من سافر بعد الفجر تخيَّر إن خرج قبل الزوال (لصحيحة رفاعة في القول الخامس صفحة 104)، وإن صام برجاء المشروعية فالأحوط له القضاء، أما من خرج بعد الزوال فيصوم ويجتزئ به.

أما من عاد إلى أهله، فإن طلع عليه الفجر وهو خارج بلده فهو مخيَّر في الطريق بين الإمساك لتجديد نية الصوم إذا وصل قبل الزوال، أو الإفطار وعليه القضاء، وكذا هو مخيّر إذا وصل بلده ولم يتناول مفطراً، لكن الأحوط له تجديد نية الصوم والاجتزاء به.

وإذا وصل بعد الزوال فلا يصح منه الصوم، وسنناقش وجوب الإمساك عليه، إلا أنه يلزمه على كل حال قضاء ذلك اليوم، إلا إذا نوى الصوم في الطريق قبل الزوال فله إتمامه بنية رجاء المشروعية إذا دخل أهله بعد الزوال والأحوط له القضاء.

ص: 199


1- محاضرة بتأريخ 14/ذ.ق./1416.

فوائد:

ونلحق هنا بعض الفوائد الفرعية:-

الأولى: تقدّم كلام الشيخ (قدس سره) في استحباب إمساك المسافر عمّا ينقض الصوم إذا علم بدخول البلد قبل الزوال، لكن ظاهر الشيخ المفيد (قدس الله سره) الوجوب، حيث قال في المقنعة: ((فإذا علم المسافر أنه يدخل إلى وطنه قبلالزوال أمسك عما ينقض الصيام)) فقوله: (أمسك) ظاهر في الوجوب، ثم قال (قدس سره): ((فإذا علم أنه يدخل بعد الزوال أو عزم على ذلك قصّر في الصوم والصلاة))(1).

أقول: لا دليل على الوجوب الذي استظهرناه من كلام الشيخ المفيد (قدس سره) بل الدليل على خلافه؛ لأن المسافر مخيَّر بين الصوم والإفطار بمقتضى الروايات المعتبرة.

نعم يمكن أن نستدل للوجوب بمقتضى المقابلة مع أحكام من سافر من بلده في الخارطة المتقدمة فيكون حكم من خرج من موضع سفره قبل الفجر عائداً إلى أهله وظنّ أنه يدخل بلده قبل الزوال فعليه أن ينوي الصوم –لصحة نيته في السفر منه كما تقدم- ويجب عليه الإمساك حينئذٍ، وهذه خطرات على الذهن أحببنا إيرادها لتأييد مطلب الشيخ المفيد (قدس سره) إن كان كما استظهرناه.

وكلام الشيخ المفيد (قدس سره) أوفق بمبانيه من الشيخ (قدس سره) لأنهما اختارا عدم جواز السفر في شهر رمضان إلا لضرورة، ولا يفرق بينهما

ص: 200


1- المقنعة: 354.

في الملاك –وهو عدم التفريط بالواجب إلا لمسوّغ- بين من خرج من بلده أو رجع إليه، ما دام قادراً على الإتيان به لدخوله قبل الزوال.

الثانية: لا يشترط في صحة الصوم المندوب عودة المسافر إلى بلده قبل الزوال خلافاً لشهر رمضان، فإذا رجع المسافر إلى أهله بعد الزوال ولم يتناول مفطراً يصح منه الصوم المندوب، خلافاً لشهر رمضان؛ لوجود المقتضي وهو امتداد نية الصوم المندوب إلى المغرب وهو المشهور المنصور(1).

وعدم وجود المانع وهو دخول البلد بعد الزوال لاختصاص التفصيل بصوم شهر رمضان.

الثالثة: بضمّ الروايات بعضها إلى بعض يتحصل أن المعتبر في الدخول قبل الزوال هو البلد وليس حد الترخّص ولا داره، وسنتعرض لمزيد من التفاصيل في فرع مستقل بإذن الله تعالى.

ص: 201


1- كما في صحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصائم المتطوع تعرض له الحاجة، قال: هو بالخيار ما بينه وبين العصر، وإن مكث حتى العصر ثم بدا له أن يصوم وإن لم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ذلك اليوم إن شاء) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيته، باب 3، ح1.

(الفرع الثالث) جواز السفر في الواجب المعين

تقدم أن المشهور جواز السفر اختياراً في شهر رمضان، فهل الحكم يجري في عموم الواجب المعين أيضاً؟ كما لو تعيّن بالنذر وأخويه أو بإجارة أو مع تضيق وقت القضاء –على القول به-.

وأدرج بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) في موارد جريان المسألة الثالث من أيام الاعتكاف(1)

إلا أنه غير صحيح، والمورد خارج موضوعاً لوجوب المكث في المسجد على المعتكف، فلا يجوز له الخروج اختياراً فضلاً عن السفر، ورتبة هذا المنع أسبق من المسألة محل البحث فلا يصح إدراج عنوان الاعتكاف فيها.

ويظهر من كلام لاحق له أنه اختار عدم جواز السفر للمعتكف ووجوب الإتيان بالصوم(2)،إلا أن الصحيح خروجها تخصصاً وليس تخصيصاً لحكم الجواز، فلا يصح فرض الموضوع ابتداءً.

ولنبدأ أولاً بالواجب المعيّن بالنذر ثم نتعرض للموارد الأخرى بإذن الله تعالى.

(أولاً- النذر) وينبغي الالتفات إلى ملاحظتين:

الأولى: تنقيح موضوع البحث وهو تعلق النذر بصوم يوم معيّن من دون ربط التزامه بالحضور حين الإنشاء ولا البناء عليه، لكنه التفت بعد الإنشاء إلى اشتراط الحضر في صحة الصوم، فهل يجب عليه الحضر أو ما بحكمه مقدمة للوفاء بنذره؟

ص: 202


1- محاضرة بتأريخ 18/ذ.ق./1416، وأصرّ على ذكره في رسالته العملية (منهاج الصالحين: 1/312 المسألة 1040).
2- محاضرة بتأريخ 20/ذ.ق./1416.

وبذلك يخرج موردان عن البحث لعدم الخلاف فيهما:أحدهما: ما لو نذر صوم اليوم المعيّن معلقاً على الإقامة، أي بنى على الالتزام بمقتضى النذر إن اتفق حضوره في ذلك اليوم، فلو اتفق كونه مسافراً فإنه لا يلتزم بمقتضى النذر، فمثل هذا يجوز له السفر اختياراً لعدم وجوب تحقيق مقدمات موضوع النذر.

ثانيهما: ما لو تعلق نذره بالصوم والإقامة معاً، فيلزم نفسه بالحضر مقدمة لأداء الصوم في اليوم المعين، وهذا تجب عليه الإقامة لأنها جزء من النذر، والإخلال بها مخالفة للنذر، فلا يجوز له السفر اختياراً.

وهذه الصور الثلاث غير الصور الثلاث المتقدمة في الصوم المنذور في السفر؛ لأن لحاظ القسمة هناك إلى نية الصوم في السفر، أما هنا فاللحاظ إلى مدخلية الحضر في النذر.

وبناءً على المشهور من جواز السفر اختياراً في شهر رمضان، وهو أوضح الواجبات المعينة وأهمها فإن البحث يكون حينئذٍ عن إلحاق غيره من الواجبات المعينة به، أو عن تعميم الجواز إلى سائر الواجبات المعينة، بحيث يكون موضوع الحكم بالجواز طبيعي الصوم المعين لوحدة الملاك وهو اشتراط الوجوب في الجميع بالحضور وانتفاء الموضوع إذا سافر.

أو أن حكم الجواز خاص بشهر رمضان ولا يلزم منه تعميم الجواز، فلا يجوز له السفر اختياراً وتجب عليه الإقامة مقدمة للوفاء بالنذر، وإذا سافر لغير ضرورة عُدّ مخالفاً للنذر ووجبت عليه الكفارة.

الثانية: المفروض انتفاء موضوع البحث عند المشهور لالتزامهم بصحة الصوم المنذور في السفر مطلقاً أو مقيداً بالسفر، وبناءً على هذا فلا يفرق سفر الناذر أو حضوره لصحة الإتيان به على كلا الحالين. فلا موضوع لهذه المسألة عندهم.

ص: 203

نعم قد يقال بجريان البحث بناءً على القول بعدم صحة الصوم في السفر في ما لو أطلق نذره ولم يقيده بالسفر، أو يطلقه بلحاظ السفر والحضر، وحينئذٍ لا يصح إتيانه في السفر وهذا صحيح، ولكن ينبغي الإشارة إلى المطلب مع ما سنذكره (صفحة 213) من عدم خلو الحالة الوجدانية للناذر من إحدى الصورتين اللتين أخرجناهما من البحث ولازمه عدم تحقق الفرض المذكور:

وفي المسألة قولان:

(القول الأول) جواز السفر اختياراً:

اختاره صاحب الجواهر (قدس سره) ((وكذا في نجاة العباد، وأمضاه شيخنا الأعظم (ره) وسيدنا المحقق الشيرازي (ره) وغيرهما، وهذا هو الأقوى))(1).واستدل عليه بمقتضى القواعد وبالروايات:

(الأول) على مستوى القواعد ويتكون من مقدمتين:

أولاهما: ما قيل في الدليل على جواز السفر اختياراً في شهر رمضان من ((أن الصوم لا يجب إلا على الحاضر، وأنه لا يجب عليه أن يحضر حتى يكون مكلفاً، بل هو باقٍ على إباحة السفر له، ولا تجب له الإقامة، فيكون الحاصل من مجموع الأدلة وجوب الصوم على من كان حاضراً وعدمه على المسافر إلا ما خرج بالدليل))(2).

وإن قلت إن الحضر وما بحكمه من قيود الواجب أي الوجود والصحة لا من قيود الوجوب فيقرَّب عدم وجوب تحصيله بأن ((وجوب تحصيل شرط الواجب يتوقف على أخذ مطلق وجوده شرطاً للواجب. أما لو كان المأخوذ شرطاً له وجوده لا بداعي الأمر امتنع وجوب تحصيله، للزوم

ص: 204


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/440.
2- جواهر الكلام: 17/157-158.

الخلف، فإن حصوله يكون بداعي الأمر، كما هو ظاهر))(1) وما نحن فيه من الثاني.

أقول: تقريب مراده (قدس سره) أن شروط الواجب تارة يكفي في الدعوة والتحريك إليها نفس الأمر بالواجب كاقتضاء الأمر بالصلاة التحريك نحو الوضوء، وأخرى لا يكفي داعي الأمر بالواجب في ذلك وإنما يؤخذ وجودها الاتفاقي، فالأولى واجبة التحصيل دون الثانية، بل يمتنع القول بوجوب تحصيلها للزوم الخلف؛ لأن وجوب تحصيلها بداعي الأمر بالواجب خلف الفرض.

ثانيهما: تعميم ملاك الجواز إلى غير صوم شهر رمضان قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل لعل ذلك كذلك في كل صوم قد تعين كقضاء شهر رمضان عند مجيء الأشهر الأخر، وصوم الكفارة لو تعين، وصوم النذر))، وقد بيّن السيد الحكيم (قدس سره) وجه التعميم بأنه ((إذا ثبت كون الشرط في صوم رمضان الحضر من باب الاتفاق، فلا بد من التعدي إلى غيره، كما تقتضيه قاعدة الإلحاق التي استقر بناؤهم على العمل بها في سائر الحدود المعتبرة في صوم رمضان وسائر الموارد، إلا أن يقوم دليل على خلافها))(2).

أقول: هذا الدليل غير تام؛ للمناقشة في مقدمتيه:

أما الأولى: فلما تقدم (صفحة 50) من عدم الدليل على كون الحضر من مقدمات الوجوب، بل ذكرنا أكثر من وجه على كونه من قيود الواجب.

أما تقسيم السيد الحكيم (قدس سره) لقيود الواجب فهو مجرد دعوى لا دليل عليها أراد من خلالها التوفيق بين كون الحضر من قيود الواجب وأنه مما لايجب تحصيله لقيام الدليل على جواز السفر اختياراً في شهر

ص: 205


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/439.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/440.

رمضان، أو أنه تخريج لكبرى الشيخ الأنصاري (قدس سره) من استحالة رجوع القيود إلى الهيأة وأنها كلها راجعة للمادة، مع الاعتراف بأن بعضها مما لا يجب تحصيله.

بل إن دعواه (قدس سره) تتضمن الدور لأن كون شرط الواجب من أحد القسمين متوقف على معرفة كونه واجب التحصيل أو لا، وهذا متوقف على الأول، فلا جدوى في هذا التقسيم.

واستبعد بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) هذه الدعوى ووصفها بعدم المعقولية، بتقريب أن المصلحة في أخذ قيد ما إما أن تجعله تحت دائرة الطلب فيكون من قيود المادة أي الواجب، أو تكون المصلحة قاصرة عن اقتضاء جعل القيد تحت دائرة الطلب فيكون من قيود الهيأة أي الوجوب، كشرط الاستطاعة في الحج، فإن المصلحة في الحج لا تقتضي تحقيقه بحيث يكون التحريك إلى الحج تحريكاً للاستطاعة، فلا يكون القيد تحت دائرة الطلب، ويكون من قيود الوجوب، فما دام القيد قد أخذ وجوده من باب الاتفاق فهو من قيود الوجوب، أما تقسيم قيود الواجب إلى ما يجب تحصيله بنفس داعي الأمر، وإلى ما لا يجب تحصيله فهذا في نفسه غير معقول(1).

أقول: هذا بيان للفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب، وليس رداً على تلك الدعوى، ولم يبيّن لنا وجه عدم المعقولية.

أما المقدمة الثانية فيرد عليها أنها تجريد عن الخصوصية في غير مورده، إذ خصوصية شهر رمضان في الحكم بالجواز موجودة كرفع الحرج عن الناس فيما لو منعوا من السفر شهراً كاملاً مع شدة حاجتهم للسفر والتنقل، أو أن المصلحة إيجاد باب للاحتياط في يوم الشك، أو فتح منفذ لمن يصعب عليه الامتثال ولا يريد أن يقع في المعصية ونحوها، وهذه الخصوصية غير

ص: 206


1- محاضرة بتأريخ 19/ذ.ق./1416.

موجودة في نذر يوم معين ونحوه.

على أن جواز السفر في شهر رمضان إنما ثبت بالدليل الخاص، وليس بملاك معين حتى يُعمّم فالتعميم إلى غيره يحتاج إلى دليل.

(الثاني) الروايات: وقد استدل القائلون بالجواز بثلاث روايات مع أن تقريباتهم للاستدلال بها جارية في غيرها من الروايات التي أوردناها في الصوم المنذور (صفحة 77) كصحيحة ابن مهزيار ورواية الصيقل وكصحيحة كرام الآتية وغيرها مما سنذكر بإذن الله تعالى.وقد اعتبرها السيد الخوئي (قدس سره) الدليل في المقام(1)،بينما جعلها السيد الحكيم (قدس سره) معضداً(2)

للاستدلال بالقواعد الذي ذكرناه في المستوى الأول.

والروايات هي:-

الأولى: صحيحة علي بن مهزيار في حديث، قال: (كتبت إليه –يعني: إلى أبي الحسن (عليه السلام)-: يا سيدي، رجل نذر أن يصوم يوماً من الجمعة دائماً ما بقي، فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر، أو أضحى ، أو أيام التشريق، أو سفر، أو مرض، هل عليه صوم ذلك اليوم، أو قضاؤه؟ وكيف يصنع يا سيدي؟ فكتب إليه: قد وضع الله عنه الصيام في هذه الأيام كلها، ويصوم يوماً بدل يوم إن شاء الله)(3).

بتقريب: إن ((قوله: يوماً من الجمعة، إما أن يراد به يوماً معيّناً من الأسبوع أو خصوص يوم الجمعة، وعلى التقديرين فقد دلّت على أن طبيعي الصوم الذي أوجبه الله –سواء أوَجب بسبب النذر

ص: 207


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/26.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/440.
3- وسائل الشيعة: كتاب النذر والعهد، باب 10، ح1.

أم بغيره- مشروط وجوبه بالحضور وأنه ساقط في هذه الأيام كلها التي منها أيام السفر، وأنه متى صادف هذه الأيام يقضيه ويصوم يوماً بدل يوم. وهذا هو معنى الاشتراط))(1).

أي اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالحضور، وسننقل كلامه في الاشتراط (صفحة 218).

فنكتة استدلاله (قدس سره) أن الصحيحة تدل على أن وجوب الوفاء بالنذر مشروط بالحضور، وشرائط الوجوب لا يجب تحصيلها.

فهو لم يستدل على الجواز مباشرة وإنما استدل على ملزومه وهو كونه شرط وجوب وشرط الوجوب مما لا يجب تحصيله، فالحضر لا يجب تحصيله، وقد علقنا على هذا في ما سبق.

أقول: بغضّ النظر عن قصور قلم المقرّر (رحمه الله تعالى) في تقريب الوصول إلى المطلوب فإنه يرد على الاستدلال بالصحيحة أمور:-

1- إن الرواية مجملة من جهة محل البحث لأنها تتعرض إلى عدم صحة صوم النذر في السفر، ولم تبيِّن وجه هذا السفر هل هو اختياري أم اضطراري، بل قد يُدّعى ظهوره في الثاني بقرينة نظرائه.

2- ظهورها في كون اليوم غير معين وإنما هو يوم من الأسبوع فتكون أجنبية عن محل البحث، أما ما ذكره (قدس سره) من احتمالالمقصود صوم خصوص الجمعة فبعيد(2)،وأما أنه يوم معين من الجمعة ففيه تقدير والأصل خلافه.

ص: 208


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/28.
2- يمكن تقريب هذا المعنى أن الرواية وردت بطريق آخر للشيخ الطوسي (قدس سره) عن الصفار عن القاسم الصيقل (وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب الصوم المحرم، باب 1، ح6) وجاء في الوسائل (يوماً من الجمعة) وفي هامش المحقق أنها في المصدر (كل جمعة).

وعلى الأقل فإن ما ذكرناه يكون احتمالاً في مقابل الاحتمالين المذكورين، إن لم يكن أقوى منهما، وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال.

إن قلتَ: قوله: (ذلك اليوم) ظاهر في كونه معيناً وبقرينة أنه لو لم يكن معيناً لما صحَّ وقوعه في فطر أو أضحى؛ لأن الأسبوع أوسع من هذه المناسبات.

قلتُ: هذا لم يقله السيد الخوئي (قدس سره) ونحن كنا بصدد الرد على استدلاله، وأن هذه التقريبات مقبولة، إلا أن الاحتمال الذي ذكرناه لا يأبى الحمل على الكلي في المعيَّن الذي قربناه.

3- إن غاية ما تدل عليه الصحيحة سقوط الصوم المنذور في السفر، ولا يتعين في كون الحضر شرط وجوب كما أفاد (قدس سره) فيمكن أن يكون شرط صحة، ولا يتم التقريب الذي ذكره (قدس سره) المبني على اشتراط الصوم بالحضر.

إن قلتَ: قوله (عليه السلام): (قد وضع الله) ظاهر في سقوط الوجوب.

قلتُ: هذا غير كافٍ كالقول بأن الله قد وضع الصلاة عن فاقد الطهورين مع أن الوجوب لم يسقط وإنما الصحة ويجب عليه القضاء.

4- إن انتهاءه (قدس سره) إلى نتيجة كون الحضر من شرائط الوجوب وكأنها هي المطلوب لا فائدة فيها، بعد أن أثبت سقوط الوجوب بالسفر، لما تقدّم من المناقشة في كبرى عدم وجوب تحصيل شرائط الوجوب.

ص: 209

5- وقد يُشكل على صحة الرواية من جهة أن الموجود في الكافي (وكتب إليه)(1)

ويشهد له ما في الجواب أيضاً، وليس (كتبت) كما في الوسائل، فالكاتب إما مجهول أو هو بندار مولى إدريس بقرينة بعض الروايات السابقة عليها وهو لم يوثق، ولم يقل ابن مهزيارأنه قرأ جواب الإمام (عليه السلام) لنصحح به المكاتبة كالتي صححناها (صفحة 83).

لكن هذا الإشكال يمكن الإجابة عليه بأن عطف (وكتب) ليس على مجهول أو بندار وإنما على الرواية السابقة عن علي بن مهزيار قال (قلت)، أي أن ابن مهزيار سأل الإمام (عليه السلام) مشافهة تارة وأخرى مكاتبة، ولما فرّقها صاحب الوسائل بدّل التعبير (وكتب) إلى (وكتبت).

وقد روى الكليني المشافهة بطريقين أحدهما مستقل والآخر مع المكاتبة بطريق آخر في روايتين مستقلتين متتاليتين كما روى الشيخ المشافهة والمكاتبة من كتاب علي بن مهزيار، والطرق كلها صحيحة. فلا إشكال من هذه الناحية.

لكن الإنصاف أن الإشكال وارد وأن المكاتب هو القاسم الصيقل وهو لم يوثق. فقد أوردها الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب بسنده عن الصفار عن القاسم الصيقل (أنه كتب إليه يا سيدي) الحديث، وذكرها صاحب الوسائل (قدس سره) في أبواب الصوم المحرم(2).

ص: 210


1- الكافي، ج7، باب 285: النذور، ح12.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب الصوم المحرم، باب 1، ح6.

الثانية: صحيحة زرارة وموثقته قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن أمي كانت جعلت عليها نذراً إنْ الله رد (إن يرد الله) عليها بعض ولدها من شيء كانت تخاف عليه أن تصوم ذلك اليوم الذي يقدم فيه ما بقيت، فخرجت معنا مسافرة إلى مكة فأشكل علينا لمكان النذر، أتصوم أو تفطر؟ فقال: لا تصوم، قد وضع الله عنها حقه وتصوم هي ما جعلت على نفسها، قلت: فما ترى إذا هي رجعت إلى المنزل أتقضيه؟ قال: لا قلت: أفتترك ذلك؟ قال: لا لأني أخاف أن ترى في الذي نذرت فيه ما تكره)(1).

بتقريب: أن مراده ((أن الله تعالى قد وضع حقّه المجعول ابتداءً فأسقط الصوم في السفر، فكيف بالحق الذي جعلته هي على نفسها بسبب النذر؟! فإنه أولى بالسقوط، فإن جملة (وتصوم هي) إلخ، بمثابة الاستفهام الإنكاري كما لا يخفى. إذن فهذه الرواية المعتبرة كسابقتها واضحة الدلالة على أن طبيعي الصوم بأي سبب وجب من نذرٍ أو غيره مشروط وجوبه كصحّته بعدم السفر))(2).

أقول: ويرد على الاستدلال بالصحيحة:-

1- ما ورد على سابقتها من أنها بصدد بيان حكم الصوم والإفطار في السفر وليست ناظرة إلى حكم نفس السفر من حيث الجواز وعدمه، وأن وضع الحق لا يتعين بسقوط الوجوب، وأن انتهاءه إلى نتيجة كون الحضر من شرائط

ص: 211


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح3، وأوردها بسند آخر مع شيء من الاختلاف في المتن، في كتاب النذر والعهد، باب 13، ح2.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/29.

الوجوب لا تنفعه بعد تقريبه سقوط الوجوب، للمناقشة في كبرى عدم وجوب تحصيل شرائط الوجوب.

2- ظهور الرواية في أن السفر كان لحج أو عمرة وهو خارج عن دائرة الجواز اختياراً الذي ذكروه فيكون الدليل أخصّ من المدّعى.

وقُرِّب الاستدلال بالروايتين المتقدمتين من جهة الإطلاق المقامي؛ لأن السائل ذكر سفر الناذر ولم ينهه الإمام (عليه السلام) في الجواب فيكون جائزاً، ولو لم يكن كذلك لنهى عنه الإمام (عليه السلام).

ويرد عليه: بأن انعقاد الإطلاق المقامي هنا دعوى عهدتها على مدعيها إلا أن يأتي شاهد عليها، إذ لا يجب على الإمام (عليه السلام) أن يذكر في جوابه كل الشروط والقيود والموانع المرتبطة بالحكم، وإلا لاتسع الجواب. وهذا ليس مألوفاً في الروايات.

ولو قلنا به فإنه دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن لا مطلقاً كما هو مقتضى هذا القول، والقائل بعدم الجواز يقول بجوازه في الجملة أي على نحو الموجبة الجزئية كما في موارد الاضطرار أو بعض الاستثناءات فلا يضرُّه هذا الإطلاق ولا يثبت مطلوب المستدل على الجواز.

وصحّح بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) التقريب في خصوص صحيحة ابن مهزيار ((لأن موردها نذر صوم يوم من الجمعة فهو يتكرر أسبوعياً، فيكون الإمام (عليه السلام) في معرض البيان، ويكون من المناسب بيان أنه لا يجوز السفر الاختياري لو كان السفر محرماً، وحيث أن الإمام (عليه السلام) لم يذكر هذا فلذلك يستفاد

ص: 212

من عدم الذكر جواز السفر في هذه الموارد اختياراً. وهذا لا يأتي في رواية زرارة فإن فيها يوماً من السنة، واتفق كونه في الحج.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب رواية علي بن مهزيار والاستدلال بها على جواز سفر الناذر، فالمعتمد خصوص هذه الصحيحة لا ما أفاده سيدنا الأستاذ للفرق الذي بيّناه مع رواية زرارة))(1).

أقول: يأتي عليه (دام ظله الشريف) جملة مما تقدم ككون الإطلاق المقامي دليلاً لبياً، وأنه دعوى عهدتها على مدعيها، والتوقف في صحة سند روايةابن مهزيار، ويأتي عليه أيضاً بعض مما ذكرناه قبل ذلك ككون اليوم غير معيَّن، واحتمال كون السفر اضطرارياً بقرينة نظرائه من الموارد.

مضافاً إلى نكتة مهمة لم يشيروا إليها وهي ظهور الرواية في كون الناذر على سفر حينما حلَّ وقت الوفاء بالنذر، وهذا يعني عدم القدرة على الامتثال لمانعية السفر من الصوم الصحيح، لسبق عدم صلاحية اليوم للوفاء بالنذر، فلا تتحقق القدرة على الأداء ويسقط النذر لعدم القدرة، فيختص الجواز –لو تم دليله- بما لو سافر قبل حلول زمن الوفاء بالنذر، لا مطلقاً كما هو مقتضى كلامهم، وسنشير إلى هذه النكتة بإذن الله تعالى.

الثالثة: رواية عبد الله بن جندب قال: (سأل: أبا عبد الله عليه السلام عباد بن ميمون وأنا حاضر عن رجل جعل على نفسه نذر صوم وأراد الخروج في الحج، فقال عبد الله بن جندب: سمعت من زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سأله عن رجل جعل على نفسه نذر صوم يصوم فمضى

ص: 213


1- محاضرة بتأريخ 19/ذ.ق./1416.

فيه (فحضرته نية) في زيارة أبي عبد الله عليه السلام قال: يخرج ولا يصوم في الطريق، فإذا رجع قضى ذلك)(1).

وتقريب الاستدلال واضح لقوله (عليه السلام) في الجواب: (يخرج) الصريح في جواز السفر.

أقول: نقلنا النص من كتاب الصوم في الوسائل، وفيه اشتباهات عديدة، لكن النص المذكور في كتاب النذر والعهد في وسائل الشيعة، هو الصحيح المطابق للأصل المنقول منه وهو الكافي والتهذيب، أما اشتباهات النص المذكور في كتاب الصوم فنذكرها باختصار:-

أ- أنه بدأها بقوله (سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عباد بن ميمون وأنا حاضر) إلخ وهذا غير موجود في الأصل (أي الكافي والتهذيب) ولو كان المسؤول أبا عبد الله (عليه السلام) فكيف يجيب عبد الله بن جندب؟.

ب- زاد في السند (عن أبي جميلة) وهو غير موجود في الأصل.

ج-- وذكر السيد الخوئي (قدس سره) اشتباها آخر أورده على صاحب الوسائل (قدس سره) جاء فيه: ((إن كلمة (من زرارة) الموجودة في الوسائل هنا سهو قطعاً إما من قلمه الشريف أو من النسّاخ، والصحيح كما في الكافي والتهذيب، وفي الوسائل نفسه في كتاب النذر: مَن رواه، بدل: من زرارة، ولعل تشابهالحروف أوجب التصحيف.

ص: 214


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح5، ورواها في كتاب النذر والعهد، باب 13، ح1 مع اختلافات سنذكرها.

إذن فلم يُعلم من يروي عنه عبد الله بن جندب، فتتصف طبعاً بالإرسال))(1).

أقول: هذا الإيراد غير تام، ولا يوجد تصحيف؛ لأن الشيخ أورد الرواية في موضعين من التهذيب (أحدهما) هنا في كتاب الصوم ونقلها من كتاب محمد بن الحسن الصفار (في باب 72: الزيادات، ح116) وجاء فيها: (سمعت من زرارة)، و(ثانيهما) في كتاب النذر (ج8 من التهذيب، باب: 14 في النذور، ح15) عن الكليني في الكافي وفيها (من رواه)، وقد أثبت صاحب الوسائل في كل من الموضعين نقل الشيخ فيهما، فتصلح رواية الصفار في رفع إجمال رواية الكليني، وعلى الأقل فإنه لا تصحيف وإنما هما نقلان، ويتم التصرف معهما على هذا الأساس.

وعلى أي حال فالرواية المذكورة ضعيفة سنداً لوجود يحيى بن المبارك ولم تثبت وثاقته إلا بناءً على مختار السيد الخوئي (قدس سره) من توثيق رجال تفسير القمي وهو منهم، وهي كبرى غير تامة.

نعم لا يبقى عند السيد الخوئي (قدس سره) ما يضعف به الرواية لأنه ذكر سببين لضعفها (أحدهما) وجود يحيى بن المبارك والمفروض أنه ثقة على مبانيه، (ثانيهما) الإرسال في قوله: (من رواه) ووقوع التصحيف في زرارة، وقد علمنا عدم وجود تصحيف.

وخلاصة المناقشة في الاستدلال بهذه الرواية أمور:-

1- ضعف السند لوجود يحيى بن المبارك وهو لم يوثّق.

2- إنها أخصّ من المدعى لوجود المرجّح في السفر وليس مطلقاً كما يبني عليه القائلون بالجواز.

ص: 215


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/27.

3- الشك في كون المروي عنه هو زرارة لوروده مجهولاً في الكافي والتهذيب عنه، فاحتمال التصحيف وارد.

4- عدم ظهور الرواية في كون الصوم معيناً.

ونتيجة ما تقدم عدم وجود دليل على جواز السفر اختياراً في الواجب المعيَّن.

(القول الثاني) حرمة السفر اختياراً

قال السيد صاحب العروة (قدس سره) بعد أن اختار جواز السفر اختياراً في شهر رمضان: ((وأما غيره من الواجب المعيّن فالأقوى عدم جوازه، إلا مع الضرورة، كما أنه لو كان مسافراً وجب عليه الإقامة لإتيانه مع الإمكان))، وخالفهتلامذته المحشّون على العروة وتلامذتهم عدا السيد أبي الحسن الأصفهاني (قدس سره) فقد احتاط فيه(1).

وربما يظهر من صاحب الحدائق (قدس سره) المنع أيضاً لقوله في مسألة قضاء الصوم إذا تضيّق وقته بمجيء شهر رمضان القادم، بعد أن نقل قول الشهيد (قدس سره) في الدروس: ((لا يجوز تأخير قضاء رمضان عن عام الفوات اختياراً وتجب المبادرة)) قال (قدس سره): ((وعلى هذا فلو تمكن من القضاء وأخلَّ به ثم عرض له سفر لا يتمكن معه من القضاء في ذلك الوقت المعيّن، فإن كان سفراً مباحاً أو مستحباً فلا إشكال في وجوب تقديم قضاء الصيام عليه وعدم مشروعية السفر والحال هذه، وإن كان واجباً كالحج الواجب ونحوه فإشكال ينشأ من تعارض الواجبين ولا سيما حجة الإسلام، وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى دليل وإن كان مقتضى قواعد

ص: 216


1- العروة الوثقى مع تعليقات عدد من المراجع العظام: 3/624.

الأصحاب تقديم ما سبق سبب وجوبه كما صرّحوا به في جملة من المواضع))(1).

ونقل المحقق النراقي (قدس سره) هذا الكلام عنه ومنع من الكبرى أي توقيت القضاء بين الرمضانين(2)

ولم يتعرض للصغرى أي حكم حرمة السفر.

قال السيد الحكيم (قدس سره) في وجه القول بعدم الجواز: ((لأن الحضر من شرائط الواجب، فيجب تحصيله، كسائر شرائط الواجب. ويشهد لذلك: صدق الفوت بترك الصوم في السفر، ووجوب القضاء، ولو كان من شرائط الوجوب التي لا يجب تحصيلها لم يكن وجه لذلك، لأن انتفاء شرائط الوجوب يقتضي انتفاء الملاك المشرع للواجب، ومع انتفائه لا معنى للفوات والقضاء.

أقول: فالدليل على حرمة السفر ووجوب الحضور وما بحكمه هو كون الحضر من شرائط الواجب التي يجب تحصيلها إما مطلقاً، أو في حصة منه تشمل المقام بناءً على التفصيل الذي ذكره السيد الحكيم (قدس سره)، فالحضر وما بحكمه واجب التحصيل ليتمكن من الوفاء بالنذر، ويكون السفر محرماً.

وبصياغة أخرى يستدل على عدم الجواز بأن السفر مما يفوت به الواجب، فيكون محرماً لحرمة ما يُسمى بالمقدمات المفوِّتة.

وبتعبير آخر: إنه بمقتضى إطلاقات وجوب الوفاء بالنذر، فهذا النذر يجب الوفاء به، ولما كان الحضر مقدمة للواجب ويفوت بتركها فيكون تحصيله واجباً لوجوب المقدمات التي يفوت الواجب بتركها. والعرف يساعد على ذلك؛ لأنه يَعُدُّ من سافر اختياراً حانثاً بنذره.

ص: 217


1- الحدائق الناضرة: 13/306.
2- مستند الشيعة: 10/455.

والخلاصة أن تقريب الاستدلال يمكن أن يكون تارةً بعنوان حرمة السفر لتفويت الواجب بسببه وصدق حنث النذر، وتارة بعنوان وجوب الحضر وما بحكمه لأنه مقدمة لامتثال الواجب الفعلي المنجّز.

ويرد على هذا التقريب أنه مصادرة على المطلوب؛ لأن فرض كون النذر واجباً فعلياً غير تام، إلا إذا طلع عليه فجر اليوم المعين وهو حاضر، فيمكنه السفر قبل هذا الموعد فلا يكون وجوب الوفاء فعلياً لانتفاء شرط القدرة على الامتثال باعتبار عدم قدرة المسافر شرعاً على الصوم.

ولا يصح هنا إجراء حكم المقدمات المفوتة؛ لأن موضوعها تفويت الواجب الفعلي في زمانه، وهنا وإن كان فوَّت الناذر الصوم بسفره اختياراً، إلا أنه فوّته بما هو صوم وليس بما هو واجب لعدم تلبّس هذا الصوم بالوجوب.

ولا يصح التمسك بإطلاقات وجوب الوفاء بالنذر لعدم فعلية الواجب بفوات شرطه، نعم تجري هذه التقريبات للمنع من السفر بعد طلوع الفجر، لذا يحصل عندنا قول بالتفصيل لم يُشِر إليه الأصحاب وسنبينه إن شاء الله تعالى.

واعترف السيد الخوئي (قدس سره) بأن مقتضى القاعدة هو عدم الجواز، قال (قدس سره) في وجه حرمة السفر ووجوب الإقامة مقدمة للوفاء بالنذر: ((نظراً إلى أن متعلق النذر لما كان هو الصوم الصحيح وهو متقوم بالحضور، فلا جرم كان وجوب الوفاء مشروطاً به.

فنقول لا ينبغي التأمل في أن مقتضى القاعدة مع الغض عن ورود نص خاص في المقام هو عدم الاشتراط –أي عدم اشتراط الوجوب بالحضر وتعليقه عليه- تمسكاً بإطلاق دليل الوفاء بعد القدرة عليه بالقدرة على مقدمته وهو ترك السفر أو قصد الإقامة فيجب من باب المقدمة. ومن المعلوم أن ثبوت الاشتراط في صوم رمضان لدليل خاص لا يستلزم الثبوت في غيره بعد فرض

ص: 218

اختصاص الدليل به، وكون الصوم حقيقة واحدة لا ينافي اختصاص بعض الأقسام ببعض الأحكام كما لا يخفى.

إذن فلو كنا نحن ودليل وجوب الوفاء بالنذر كان مقتضاه وجوب الوفاء وعدم جواز الخروج للسفر))(1).

أقول: لا تخلو الصياغة من قصور القلم عن تقرير المطلب.

ويمكن تقريب مراده (قدس سره): أن وجوب الوفاء بالنذر مطلق غير معلق على فرض الحضور، خلافاً لشهر رمضان فإن الوجوب معلق على فرض الحضور، فمن لم يكن حاضراً فلا وجوب، وعندئذٍ فمقتضى إطلاق وجوب الوفاء بالنذر تحصيل الحضور وما بحكمه لأن الوجوب فعليّ منجّز.

ويرد عليه:-1- إن هذا تقريب لكون الحضور شرطاً للواجب وليس للوجوب، لذا أوجب مقدمته، ولو كان الحضور شرط وجوب، لما وجب، وهو خلاف ما صرّح به في بداية المسألة.

2- إن إطلاقات وجوب الوفاء بالنذر هنا وفي سائر الموارد مهملة بلحاظ القيود والشروط الأخرى، فدليلها لا يقتضي الاشتراط ولا عدمه؛ لأنها ليست بصدد البيان من هذه الجهة، فإطلاقات وجوب النذر مثلاً غير ناظرة إلى القدرة على الامتثال وعدمها وإنما هو أمر يُعرف من دليل آخر.

3- إن وجوب الوفاء بالنذر لا يقتضي وجوب تحصيل مقدماته إلا بعد أن يصبح فعلياً، وهذا لا يكون إلا بطلوع الفجر عليه وهو حاضر، فله أن يسافر قبل ذلك، كما له أن يمنع من تحقق موضوع الوجوب،

ص: 219


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/25-26.

ومثاله ما لو نذر أن يحج إن بلغت أمواله مقداراً ما فكان ينفق منها لمنع وصولها ذلك المقدار حتى لا يجب عليه الوفاء بالنذر.

4- ما ذكرناه سابقاً من أن المشهور –ومنهم السيد الخوئي (قدس سره)- لم يشترط الحضر في صحة الصوم المنذور (المندوب) في السفر، فلا معنى للحديث عن وجوب الحضر مقدمة لامتثال الواجب، نعم يصح كلامهم في حصة من الثلاث، وكان عليهم تحديد موضوع جريان المسألة كما قلنا في الملاحظة (صفحة 203).

وفي ضوء ما تقدم فإنه يُسجَّل على تقريبات القول بعدم الجواز ابتناؤها على كون وجوب النذر فعلياً منجزاً، وقد تقدمت المناقشة فيه؛ لأن من شروط فعلية وجوب الامتثال كون المنذور مقدوراً، والصوم في السفر غير مقدور شرعاً فلا يكون الوجوب فعلياً، ولا يجدي في فعليته كونه مقدوراً بالتسبيب أي بترك ما يوجب الإفطار؛ لأن تحصيل هذه المقدمات ليس واجباً، كشرط الاستطاعة للحج فإنه غير واجب التحصيل وإن كان ممكناً.

وعلى هذا فيجب التفصيل بين ما لو كان السفر قبل الفجر أو بعده، فإذا خرج من بلده قبل الفجر أو كان مسافراً حين حلول اليوم المعيَّن فإنه يصدق عليه عدم القدرة على الامتثال عند حلول وقته وهو الفجر، فلا يكون الواجب فعلياً قبل الفجر لعدم تحقق موضوعه، ولا بعد الفجر لانتفاء القدرة على الامتثال، فلا تجب مقدماته ولا يصدق على تركها تفويت الواجب لأنه لا وجوب ولا واجب، ولا يجري على السفر حكم المقدمات المفوتة.

أما إذا طلع عليه الفجر وهو لم يخرج فقد تنجّز عليه وجوب الوفاء ولا يجوز له الإتيان بما ينافيه، فيجوز السفر في الصورة الأولى دون الثانية، والروايات التي استدلوا بها على جواز السفر –لو تمت دلالتها- فإنها ظاهرة في الأولى دون الثانية، أي الشروع في السفر قبل حلول يوم النذر المُعيَّن.

ص: 220

ولو حلّلنا كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) سواءً القائلين بالجواز أو عدمه لوجدناها تنطلق من تصوّر مسبق لحالة الناذر على إحدى الصورتين اللتين أخرجناهما من البحث، فإما أن يتصور تعليق نذره على اتفاق الحضور فقال بجوازالسفر اختياراً؛ لأن الالتزام به معلق، أو تصور أن التزامه بالنذر مطلق فأوجب عليه الحضور وما بحكمه للوفاء به.

ولا يبعد أن يكون الأمر خارجاً كذلك، فيبنى الحكم في المسألة على وجدان الشخص وما انطوى عليه قصده، فإن كان على نحو وحدة المطلوب أي أنه نذر صوم هذا اليوم المعيَّن على كل حال لم يجز له السفر اختياراً، وإن كان على نحو تعدد المطلوب بأن نوى صوم اليوم المعيّن إن تيسَّرت شروط امتثاله جاز له السفر وقضاؤه في ما بعد.

والغالب في من نذر هو الثاني، فيجوز له السفر ولا يجب عليه الوفاء إلا إذا كان حاضراً مع ملاحظة ما ذكرناه من التفصيل بين كونه مسافراً قبل طلوع الفجر أو بعده.

أما لو فرض أن نذره من الثاني أي خلاف الغالب فيحرم عليه السفر، وحينئذٍ تفهم النصوص على أنها ناظرة إلى الحالة الغالبة التي يجوز فيها السفر، ومن يكون نذره على خلاف الغالب فإنه خارج عن موضوع النصوص المتقدمة.

بل يمكن دعوى المفروغية من الجواز عند السائل وأقرّه الإمام (عليه السلام) على ذلك، لذا لم يسأل عن حكم السفر من حيث الجواز وعدمه، مع أنه الأهم والأسبق في المرتبة، وإنما سأل عن حكمه من حيث الصوم والإفطار.

وهذا تقريب آخر للروايات ويصلح شاهداً على الإطلاق المقامي المؤيَّد بكون الغالب في الأسفار أنها ليست اضطرارية فيجوز السفر اختياراً.

وتحصّل مما تقدم وجود عنصرين مؤثرين في حكم سفر الناذر:-

1- توقيت السفر قبل فجر اليوم المعيَّن أو بعده.

ص: 221

2- التزام الناذر وقصده ووجدانه إزاء الصوم وعلاقته بالحضر.

فالأقوى جواز السفر اختياراً إذا أطلق نذره ولم يأخذ في التزامه الحضور لأدائه، وكان سفره قبل طلوع الفجر.

ولا يوجد دليل ينافيه لأن الواجب ليس فعلياً قبل الفجر لعدم تحقق موضوعه، ولا بعد الفجر لانتفاء القدرة شرعاً على الإتيان به، فلا تجب مقدماته، ولا يحرم ما يفوِّت متعلق النذر.

ولو تنزلّنا فإن الروايات حاكمة على هذا الدليل على المنع المبني على القواعد.

(ثانياً- العهد واليمين وغيرهما)

عمّم السيد الخوئي (قدس سره) القول بالجواز إلى كل أفراد طبيعي الصوم المعيَّن –عدا الإجارة لما سيأتي إن شاء الله تعالى- بنفس نكتة الاستدلال الوارد في صحيحتي ابن مهزيار وزرارة، وقال (قدس سره) في بيان عمومية نكتة الاستدلال لأن الصحيحتين ((يستفاد منها أن طبيعي الصوم أيّاً ما كان مشروطٌ وجوباً وصحةً بالحضور كما هو الحال في صوم شهر رمضان، ولا ضير في الالتزام به حتى في موارد النذر، فإنه وإن كان الالتزام النذري مطلقاً إلا أنه قابل للتقييد من ناحيةالشرع، فيقيِّد من بيده الأمر وجوب الوفاء بما التزم بما إذا كان مقيماً حاضراً، لا على سبيل الإطلاق، لكي تجب الإقامة بحكم العقل مقدمةً للوفاء))(1).

أما رواية عبد الله بن جندب فالاستدلال بها ((في غير محله لاختصاص موردها بالنذر، فيحتاج التعدي لمطلق الصوم إلى دليل آخر، هذا أولاً. وثانياً إنها قاصرة السند)).

ص: 222


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/26.

ثم قال (قدس سره) في النتيجة: ((ومن هنا ذهب جمع من المحققين إلى عدم الفرق في الاشتراط –أي اشتراط الوجوب بالحضور وانتفاء الموضوع باختيار السفر كما قال (قدس سره)- بين صيام رمضان وغيره، وأن الوجوب مطلقاً مشروط بالحضور، ويسقط بالسفر))(1).

أقول: تقدمت مناقشة تقريبه (قدس سره) للاستدلال بعدة أمور، ككونها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وأن دلالتها لا تتعين في سقوط الوجوب فيمكن أن تجري في سقوط الصحة.

وإذا استدل بالإطلاق المقامي للروايات فإنه دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو اختصاص موضوعها بالنذر.

ويضاف إليها:

أن هذا الاستدلال متوقف على كون الضمير في قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مهزيار: (قد وضع الله عنه) وفي صحيحة زرارة: (قد وضع الله عنها) يعود إلى مطلق من جعل على نفسه شيئاً، وهو غير ظاهر من الرواية للتصريح في كون موضوعها النذر.

نعم كان يمكنه الاستدلال على التعميم بصحيحة كرام قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني جعلت على نفسي أن أصوم حتى يقوم القائم، فقال: صم، ولا تصم في السفر، ولا العيدين ولا أيام التشريق، ولا اليوم الذي تشك فيه من شهر رمضان)(2).

بتقريب أن الجعل أعم من أن يكون بالنذر أو العهد أو اليمين.

ويرد عليه بغض النظر عن المناقشات المتقدمة:-

ص: 223


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/29.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب بقية الصوم الواجب، باب 11، ح1.

1- إن هذا الجعل مبيّن بأنه يمين في رواية أخرى عن كرام نفسه بطريق فيه ضعف قال: (حلفت فيما بيني وبين نفسي أن لا آكل طعاماً بنهار أبداً حتى يقوم قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخلت على أبي عبد الله(عليه السلام) فسألته، فقال: صم إذن يا كرام، ولا تصم العيدين ولا ثلاثة التشريق ولا إذا كنت مسافراً ولا مريضاً)(1)

الحديث.

ولعل هذا كان نهياً من الإمام (عليه السلام) عن هذا الخلف الذي هو –بحسب مصطلح اليوم- إضراب عن الطعام وعلّمه البديل وهو الصوم.

2- إن الجعل قد لا يكون متعيناً في الحصة الملزمة، بل يطلق الجعل على الإنشاء غير الملزم، فلا يتعين الجعل في الملزم ويكون مجملاً لا يصح الاستدلال به، كما يظهر من رواية أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل جعل على نفسه أن يصوم إلى أن يقوم قائمكم؟ قال: شيء عليه، أو جعله لله؟ قال: بل جعله لله، قال: كان عارفاً أو غير عارف؟ قلت: بل عارف، قال: إن كان عارفاً أتم الصوم، ولا يصوم في السفر والمرض وأيام التشريق)(2).

والنتيجة عدم وجود دليل على تعميم الجواز لو قلنا به.

نعم تأتي هنا التفاصيل كافة التي ذكرناها في مسألة النذر من حيث مدخلية قصد الناذر ووقت خروجه في السفر قبل الفجر أو بعده.

ص: 224


1- المصدر السابق، نفس الباب، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب بقية الصوم الواجب، باب 11، ح3.

(ثالثاً- الإجارة)

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ثم إنه قد صرح بعضهم بجريان هذا الحكم فيما وجب بالإجارة أيضاً، فلو كان أجيراً لزيد في صوم يوم معين ساغ له السفر وسقط عنه وجوب الوفاء لان التكليف به كسائر أقسام الصيام مشروط بالحضر بمناط واحد.

أقول: لا ريب في أن الأجير المزبور لو سافر ليس له أن يصوم للنهي عنه في السفر كما مر، إلا أن الكلام في جواز السفر وعدمه، وأن وجوب الوفاء هنا هل هو مشروط أيضاً أو أنه مطلق؟

الظاهر هو الثاني، بل لا ينبغي التأمل فيه.

وتوضيحه: إنك قد عرفت في وجوه تصوير النذر في المقام أنه يمكن إنشاؤه معلقاً على الحضور، ومعه لا خلاف كما لا إشكال في جواز السفر لقصور المقتضي من الأول وعدم وجوب تحصيل شرط الوجوب.ولكن هذا لا يجري في باب الإجارة لقيام الإجماع على بطلان التعليق في العقود إلا فيما قام الدليل عليه كما في الوصية والتدبير.

نعم، لو جرى التعليق فيها كان التمليك من الأول معلقاً على الحضر كما في النذر لعدم استحالة التعليق في المنشآت غير أنه باطل في غير ما ثبت بالدليل كما عرفت. فلا بد إذن من فرض الكلام في الإجارة المطلقة غير المعلقة على الحضور، وإلا لكانت الإجارة باطلة في نفسها سواء أسافر أم لا)).

أقول: يمكن إلغاء الفرق بينهما؛ لأن الإجارة المطلقة يمكن إرجاعها إلى المعلقة لاشتراط صحة الصوم بالحضر فالتعليق موجود وإن لم يذكره، وكلاهما يصححان بتقريب واحد، وهو كون العقد على نحو تعدد المطلوب أي أنه آجره على صوم هذا اليوم المعين إن كان حاضراً وإلا ففي يوم آخر.

ثم قال (قدس سره): ((ومن البين أن الإجارة المزبورة غير مشمولة للنصوص المتقدمة لتدل على انسحاب الاشتراط إليها، كيف وقد ملك

ص: 225

المستأجر العمل في ذمة الأجير بمجرد العقد من غير إناطة على الحضر حسب الفرض ومعه كيف يرخص الشارع في تضييع هذا الحق وعدم تسليم المال إلى مالكه؟!.

وبعبارة أخرى: النصوص المذكورة ناظرة إلى ما تضمن الحكم التكليفي المحض وأن ما كان حقاً لله سبحانه إما ابتداءً أو بعد الجعل والالتزام – كما في النذر- فهو مشروط بالحضور وساقط عند السفر، وأما ما تضمن الوضع أيضاً وكان مشتملاً على حق الناس فتلك الأدلة قاصرة وغير ناهضة لإسقاط هذا الحق كي تكون بمثابة التخصيص في دليل وجوب تسليم المال وإيصاله إلى صاحبه كما لا يخفى.

وعلى الجملة لا تحتمل دلالة هذه النصوص على الترخيص في ارتكاب الغصب. إذن فلا مناص للأجير المزبور من ترك السفر، ومن قصد الإقامة لو كان مسافراً مقدمة للصيام وتسليم العمل المملوك إلى مالكه فلاحظ))(1).

أقول: قد ناقشنا في استدلاله (قدس سره)، ولكنه لو تم ما ذكره فنتيجته شمول مناط الحكم للإجارة لأنها أيضاً مما جعله على نفسه، ولا يفرق بين أن يكون جعله بنذر أو شرط أو إجارة.

والفرق الذي ذكره غير تام؛ لأن النذر والإجارة فيهما تمليك الحق للغير فالنذر تمليك لله تعالى؛ لذا جاء في صيغته (لله عليّ) والإجارة تمليك للغير من البشر، فلا بد على مختاره من القول بالجواز حتى في الإجارة.

أما الحديث عن الغصب فلا موضوع له؛ لأن القول بالجواز لا يستلزم إسقاط الصوم نهائياً عن ذمة الأجير وإنما نقله إلى يوم آخر غير المعيَّن.

نعم يأتي هنا ما ذكرناه في النذر من أن هذه المجعولات تابعة للقصد، وعليه يبتني الحكم، والظاهر أن الغالب في الإجارة أن العقد يقع على الصوم

ص: 226


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/29-31.

ومقدماته الممكِّنة من أدائه ومنها الحضر فهو –أي الحضر وما بحكمه - داخل في التزامات العقد ويجب الوفاء به؛ لأن غرض المستأجر حصول الصوم في اليومالمعيَّن إما لشرفه وعظيم ثوابه، أو لأي غرض آخر، لا حصوله متراخياً متى تحققت شروط أدائه.

فهذه هي نكتة الفرق بين الإجارة والنذر، فلو فرض أن المستأجر لم يكن حريصاً على أداء النذر في الوقت المعين، وإن وقّته بزمان معين إلا أنه لا يمانع من الإتيان به في زمان آخر، فإنه يجوز السفر اختياراً لكنه خلاف الظاهر، ولعل هذا سبب ميلهم الوجداني إلى القول بعدم الجواز في الإجارة وإن لم يستطيعوا تقنينه بدليل فقهي صحيح.

ونتيجة البحث في هذا الفرع: التفصيل بين النذر وأخويه وبين الإجارة، فيجوز السفر اختياراً في الأول بالشروط التي ذكرناها دون التالي.

ص: 227

(الفرع الرابع) لا يجوز للصائم تناول المفطر إذا خرج في سفر يوجب الإفطار حتى يبلغ حد الترخّص:وهذا الحكم مشهور بين الأصحاب حتى ادعي عليه الإجماع، ولم ينقل الخلاف فيه عن أحد، عدا ما حكاه العلامة (قدس سره) عن علي بن بابويه والد الصدوق من الخلاف فيه، وتقريبه: أنه نقل قوله: ((وإن خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه))(1)

وسيأتي في الفرع التالي ما يمكن أن يستدل به على هذا القول وتوجيهه.

فإذا ضممنا إلى هذا القول الملازمة بين التقصير والإفطار، قال (قدس سره): ((ومتى وجب عليك التقصير في الصلاة أو التمام لزمك في الصوم مثله))(2)

كانت النتيجة أن والد الصدوق يقول بجواز إفطار المسافر عند خروجه من منزله.

إلا أن هذا الخلاف لا يُعتدّ به –وإن تبع العلامة عليه بعض الأعلام كالسيد الخوئي(3)

(قدس سره)-؛ لعدم صحة نسبة هذا القول إلى والد الصدوق، فإنه يوافق المشهور، قال (قدس سره): ((وإن كان –أي السفر- أكثر من بريد فالتقصير واجب، إذا غاب عنك أذان مصرك))(4)،ويشهد على عدم مخالفته في هذه المسألة أيضاً قوله عقيب هذا: ((وإن كنت في شهر رمضان فخرجت من منزلك قبل طلوع الفجر إلى السفر أفطرت إذا غاب عنك أذان

ص: 228


1- فقه الرضا: 162.
2- فقه الرضا: 161.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 20/191.
4- فقه الرضا: 159.

مصرك))، فكلامه (قدس سره) صريح في موافقة المشهور، وقال مثله ولده في المقنع.

فنسبة العلامة (قدس سره) الخلاف له غير دقيقة، والذي يظهر من سياق كلمات علي بن بابويه أنه أراد من عبارته التي نسب العلامة إليه الخلاف فيها، الحكم في الجملة أي أن المسافر يستمر على القصر إذا خرج بسفره حتى يعود إلى منزله، فهي مهملة من حيث شروط القصر ولا إطلاق لها.

وبالرغم من عدم وجود مخالف صريح في هذا الحكم بعد أن نفينا المخالفة المحكية عن والد الصدوق (قدس سره)، إلا أن جواز تناول المفطر قبل حد الترخّص يفترض أن يكون مؤدى قول العلامة (قدس سره) ومن وافقه في المسألة الثالثة من قضاء المسافر التي ستأتي إن شاء الله تعالى في سقوط الكفارة عمن تناول المفطر متعمداً ثم عرض له المسقط للصوم من سفر أو مرض أو حيض وغيرها، لأنه استدل على السقوط بانكشاف عدم وجوب الصوم ذلك اليوم لاستحالة تكليفه به، ومقتضاه أنه إذا علم بطروّ العذر –كالحيض- أو عزم عليه –كالسفر- جاز له الإفطار لانكشاف عدم التكليف بالصوم في ذلك اليوم من أول الأمر فما الداعي إلى اشتراط بلوغ حد الترخّص لتناول المفطر؟.لكنه (قدس سره) في هذه المسألة اختار عدم جواز تناول المفطر قبل حد الترخص(1)

واستدل له بما ورد في تقصير الصلاة بأنه لا يكون إلا بعد بلوغ حد الترخّص، وكأنه (قدس سره) ضمّ إليها الملازمة بين التقصير والإفطار.

أقول: تقدم الإشكال على هذا بأنه –حسب الظاهر- يُعدُّ من الكلام غير المنسجم مع بعضه؛ لأن دليله على سقوط الكفارة حاكم على الملازمة لأنه أخصّ منها، فلا يقاس وجوب الصوم حتى بلوغ حد الترخّص على وجوب صلاة التمام حتى ذاك، لسقوط التكليف بالصوم.

ص: 229


1- مختلف الشيعة: 3/343، المسألة (79).

أو يقال: إن الملازمة غير شاملة للمورد للفرق بين الصلاة والصوم، فإن وجوب الصلاة ثابت على تقدير الحضر والسفر، وإنما تختلف كيفية المأمور به، أما الصوم فإن وجوبه ينتفي بالسفر –على مذهب الأصحاب- وهو ذو هيأة ارتباطية لا تقبل التبعيض، فينكشف بالسفر عدم وجود الأمر به أصلاً، فلا يبقى مانع من تناول المفطر، فقياس الصوم على الصلاة في هذا الحكم قياس مع الفارق.

ويظهر من بعض أعلام العصر: الإقرار بهذه النتيجة حيث أورد على مختاره سقوط الكفارة بنفس الإشكال، قال (قدس سره): ((فإن قلت: فعلى ما ذكرت يلزم جواز الإفطار لمن يعلم بتحقق السفر منه ولو قبل الوصول إلى حد الترخّص، بل قبل التلبس بالسفر.

قلتُ: لعل وجوب الإمساك فيه من جهة التأدب واحترام الشهر))(1).

أقول: هذا تسليم منه بالإشكال وإن أجاب عنه بأمر آخر.

ويظهر من بعض الأعلام المعاصرين أنه مقتنع بعدم حرمة تناول المفطر عند العلم بالعذر حيث أنه بعد أن اعتبر مقتضى الأدلة عدم سقوط الكفارة مطلقاً قال: ((نعم: الظاهر بل المقطوع به المستفاد من النص والفتوى، حرمة الإفطار، وإن علم بالعذر من أول النهار، وإن كان ربما احتمل عدم الحرمة، لأن الواجب الصوم، ولا صوم هنا، فحاله حال من يعلم بأنه لا وقت له للصلاة كاملة، حيث علمت المرأة مثلاً أنها يفاجئها الحيض بعد مقدار ركعة من أول الوقت مثلاً.

وحال من يعلم أنه لا يقدر على الإتيان بالحج، حيث يعلم أنه بعد الإحرام، لا يقدر على الوقوفين، وسائر الأفعال، أو أنه لا يقدر على العمرة، حيث يعلم أنه بعد الإحرام، لا يقدر على الطواف، وسائر الأفعال، وحال من

ص: 230


1- كتاب الصوم للشيخ المنتظري (قدس سره): 291.

يعلم أنه لا يقدر على تمام الاعتكاف حيث يعلم بالمرض بعد صوم اليوم الأول، وحال من لا يعلم بأنه لا يقدرعلى تمام الوضوء والغسل، إلى غيرها من الأمثلة، لكن الظاهر بل المستفاد من الأدلة والفتاوى، أن وجوب الإمساك بالنية ليس محل تأمل))(1).

أقول: الصحيح في الجواب الذي يندفع به الإشكال على العلامة أن يقال: إن العلم بحصول العذر لا يسقط الصوم، وإنما المسقط هو تحقق العذر خارجاً، فعلى المكلف أن ينوي الصوم ويلتزم بمقتضياته حتى يحصل المسقط وإن جزم بحصوله. فالإشكال غير وارد أصلاً، ومنه يتضح الرد على العلم المعاصر الذي توسَّع في الرخصة، أما الموارد الأخرى التي ذكرها فهي من القياس مع الفارق.

وإذا كان الحديث عن السفر خاصة، فمما يرفع إشكال التهافت بين الحكمين ظاهراً ما بنينا عليه –خلافاً للمشهور- من كون الحضر وما بحكمه شرط واجب لا شرط وجوب، فوجوب الصوم ثابت على أي حال وهو منشأ حرمة تناول المفطر، وما يحصل بالسفر هو سقوط شرط صحة امتثال الجواب.

الاستدلال على هذا الحكم:

إن هذا الحكم على خلاف القاعدة؛ لأن مقتضى كون السفر موجباً للإفطار تحقق الرخصة بمجرد الخروج من البلد لصدق عنوان السفر عليه؛ لأن معنى السفر لغة هو البروز والانكشاف والانجلاء عن البلد فيتحقق العنوان بالخروج عن البلد.

ص: 231


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي: 35/175.

لكن الأصحاب (قدس الله أرواحهم) أرسلوا الحكم المذكور هنا –في كتاب الصوم- إرسال المسلّمات ولم يستدلوا عليه واكتفوا بنفي الخلاف والإشكال فيه، أو الاستدلال بالملازمة بين التقصير والإفطار(1).

وبحسب استقرائي فإنه لا توجد نصوص خاصة تدل عليه هنا، فما يوجد في كلمات بعض الأعلام من وجودها والتمسك بإطلاقها دعوى لا يوجد ما يثبتها، كقول السيد الخوئي (قدس سره): ((وكذلك الروايات حيث تضمنت المنع عن تناول المفطر قبل أن يخرج المسافر من حد الترخّص))(2).

نعم سنقرّب الاستدلال ببعض النصوص ونناقشها بإذن الله تعالى، ولو اعتبرناها فإنها ليست من النصوص الخاصة بالمسألة كما توهم عبارته (قدس سره).

ويمكن أن نورد هنا باختصار عدة وجوه ونفصّلها في الفرع التالي بإذن الله تعالى.الأول: الإجماع، وهو ليس بعيداً لشذوذ المخالف أو أن كلامه مأوَّل، إلا أنه يمكن المناقشة فيه من جهة كونه مدركياً مبنياً على الملازمة التالية لتصريحهم بالاستناد عليها.

الثاني: الإطلاقات الدالة على وجوب الصوم فتشمل كل حاضر حتى يسافر.

وفيه:-

1- احتمال خروج المورد موضوعاً عن هذه الإطلاقات عند العلم بحصول العذر؛ لانكشاف عدم الوجوب من أول اليوم كما مال إليه بعض الأعلام ممن نقلنا كلامهم آنفاً.

ص: 232


1- جواهر الكلام: 17/144، مستمسك العروة الوثقى: 8/437.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/356.

2- إن هذا الدليل مجمل؛ لأنه يمنع من تناول المفطر ما دام حاضراً، ولا يعيّن الحد الذي يُرخَّص فيه بالإفطار، ويمكن أن يكفي فيه تحقق عنوان السفر بالخروج من البلد فيبقى حد الترخص بلا دليل.

الثالث: مكون من مقدمتين:-

إحداهما: الروايات الدالة على عدم جواز تقصير الصلاة حتى يبلغ حد الترخص، كصحيحة محمد بن مسلم (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يريد السفر فيخرج، متى يقصّر؟ قال: إذا توارى من البيوت)(1).

ثانيهما: الملازمة بين تقصير الصلاة والإفطار، وقد دلّت عليها عدة روايات ذكرناها في هذا البحث(2)

كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (هذا واحد، إذا قصَّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت) ورواية سماعة قال: (قال أبو عبد الله –في حديث- وليس يفترق التقصير والإفطار فمن قصّر فليفطر)(3)

وغيرهما.

أقول: هذا الوجه هو المعتمد عندهم، حتى أنهم إذا ذكروا اشتراط حد الترخّص للإفطار استدلوا مباشرة بروايات التقصير في الصلاة(4)،بتقريب أن الإمام (عليه السلام) اكتفى ببيان الملازمة بين الإفطار والتقصير عن تكرار ما قاله من الشروط في تقصير الصلاة فكأنه (عليه السلام) أحال عليها، والمورد منها.

لكن يمكن المناقشة في جريان الملازمة هنا بأنها غير شاملة له؛ لأن موضوعها –بحسب ظاهر النص والفتوى- شروط السفر الموجب للتقصير

ص: 233


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 6، ح1.
2- فقه الخلاف: 7/372.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 4، ح1، 2.
4- لاحظ كمثال: الطوسي (قدس سره) في التهذيب: ج4، باب 57: حكم المسافر والمريض، ح50.

كالقصد إلى السفر ومقدار المسافة الشرعية، وعدم كونه من مستثنيات التقصير، ونحوها،فالتوسع بتطبيق الملازمة حتى لمثل هذه الموارد –وهو اشتراط بلوغ حد الترخص- لا دليل عليه.

أما النص كصحيحة معاوية بن وهب ففيها عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه قال: إذا دخلت بلداً وأنت تريد المقام عشرة أيام فأتمّ الصلاة حين تقدم، وإن أردت المقام دون العشرة فقصّر وإن أقمت تقول: غداً أخرج أو بعد غدٍ ولم تجمع على عشرة فقصّر ما بينك وبين شهر، فإذا أتم الشهر فأتم الصلاة، قال: قلت: إن دخلت بلداً أول يوم من شهر رمضان ولستُ أريد أن أقيم عشراً، قال: قصّر وأفطر، قلت: فإن مكثت كذلك أقول: غداً أو بعد غد فأُفطر الشهر كله وأقصّر؟ قال: نعم هذا (هما) واحد، إذا قصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت)(1).

أقول: من الواضح أن موردها ما ذكرناه أي شروط السفر الموجب للتقصير، وليس للملازمة إطلاق يتعدى إلى غيره.

وأما الفتوى فإنها ناظرة أيضاً إلى خصوص ما ذكرناه فقد عبّروا بأن ((كل سفر أوجب التقصير في الصلاة أوجب الإفطار في الصوم))(2)،وقال الشيخ الصدوق في المقنع: ((واعلم أن كل من وجب عليه التقصير في الصلاة في السفر فعليه الإفطار، وكل من وجب عليه التمام في الصلاة فعليه الصيام، متى أتمّ صام ومتى قصّر أفطر))(3).

فنظرهم إلى شرائط السفر الموجب للتقصير وليس إلى سائر الأحكام الأخرى كمحل الرخصة للتقصير –وهو حد الترخّص- وتوسّعهم هذا في تطبيق الملازمة هو أحد أسباب وقوعهم في

ص: 234


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 15، ح17.
2- العبارة لابن إدريس (قدس سره) في السرائر: 1/332.
3- المقنع: 196.

النقوض عليها وعدم نجاحهم في الإجابة عليها كما نبّهنا عليه في موضع آخر من البحث.

إن قلتَ: إن بلوغ حد الترخّص ذكروه ضمن شرائط قصر الصلاة فيكون داخلاً في مورد الملازمة بالمعنى المتقدم فتجري فيه.

قلتُ: إن بلوغ حد الترخّص من شروط التقصير لا من شروط السفر الموجب للتقصير، فهو متأخر رتبةً عن شروط السفر الذي هو مورد جريان الملازمة، أي أننا بعد أن نستوفي شروط السفر الموجب للتقصير، نسأل عن الحد الذي يقصّر فيه مَن جمع شروط السفر الموجب للتقصير، فيُجاب بأنه يقصّر عند حد الترخّص.

بل يمكن أن نستظهر نهي الإمام (عليه السلام) عن مقايسة أحكام الصلاة بالصوم للمسافر إلا فيما نُصَّ عليه، من قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بنسنان –في حديث- قال (عليه السلام): (وأوجب عليه –أي المسافر- قضاء الصيام ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة إذا آب من سفره، ثم قال: والسنة لا تقاس)(1).

ووجه عدم صحة المقايسة أن الوجوب باقٍ في الصلاة وإنما ينتقل من هيأة إلى أخرى فوردت النصوص في وضع حد الانتقال بالتكليف، أما في الصوم فينكشف سقوط الوجوب وارتفاع التكليف أساساً من أول الأمر –على مبناهم من اعتبار الحضر شرط وجوب-.

الرابع: ما دلّ على أن الحائض لا تفطر حتى ترى الدم كصحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة تطمث في شهر رمضان قبل أن تغيب الشمس؟ قال (عليه السلام): تفطر حين تطمث)

ص: 235


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 13، ح5.

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة أصبحت صائمة فلما ارتفع النهار أو كان العشي حاضت، أتفطر؟ قال: نعم، وإن كان وقت المغرب فلتفطر)(1).

بتقريب أن المستفاد ((من هذا التقييد عدم جواز الإفطار قبل ذلك؛ لأن الحيض إنما يمنع عن الصوم من حين حدوثه))(2).

وبضميمة تنقيح المناط وعدم اختصاص الحكم بالحيض وأنه شامل لكل مسقطات الصوم ومنها السفر، وتتميم الاستدلال بأن عنوان السفر يصدق عند بلوغ حد الترخّص.

وفيه: إن المقدمات الثلاث الموصلة للنتيجة ليست تامة، إذ أن الظاهر من الروايتين خصوصاً الثانية أن قوله: (تفطر حين تطمث) ليس مقابل عدم جواز الإفطار قبل ذلك وإنما مقابل من يتوهم عدم جواز الإفطار إذا حاضت بعد الزوال حتى قبيل المغرب.

والتجريد عن خصوصية المورد لا دليل عليه، أما التتميم الأخير فهو وجه مستقل سيأتي أدناه وسنناقشه بإذن الله تعالى.

الخامس: إن عنوان المسافر لا يصدق عرفاً إلا عند بلوغ حد الترخّص، قال العلامة (قدس سره): ((حد ابتداء السفر أحدهما –أي خفاء الجدران والأذان- فيكونهو نهايته، إذ الأقرب لا يُعدُّ قاصده مسافراً كما في الابتداء))(3)

وتبعه آخرون ممن سنذكرهم في الفرع التالي.

ص: 236


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 25، ح1، 2.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/360.
3- مختلف الشيعة: 2/353، المسألة (393).

السادس: إن مفهوم الوطن أوسع من نفس البلد ويشمل ضواحيه حتى حد الترخّص فالسفر الذي هو الخروج من الوطن لا يتحقق إلا ببلوغه، وهو ظاهر صاحب الرياض (قدس سره) وغيره، كصاحب الجواهر (قدس سره) حيث علّل انقطاع حكم القصر للعائد إلى وطنه عند بلوغ حد الترخص ب-((انقطاع صدق السفر عليه عرفاً واندراجه في الحاضر عند أهله وفي منزله ووطنه بالوصول إلى الحد المزبور))(1).

أقول: يرد على هذين الوجهين أنهما خلاف الفهم العرفي المحكّم في مداليل الألفاظ، ولم يُعلم أن الشارع المقدّس طرح معنى جديداً للسفر أو الوطن على نحو الحقيقة الشرعية خلاف المعنى العرفي، وسنناقش هذه الأفكار في الفرع التالي بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

فالصحيح في فهم اشتراط حد الترخّص –لو تمت أدلته- ليس هو تضييق مفهوم السفر العرفي، ولا توسيع مفهوم الوطن العرفي، وإنما يعني: أن الشارع المقدّس قيّد حكم التقصير والإفطار في السفر ببلوغه، وهو الظاهر من قوله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ» (النساء:101) فحكم التقصير مشروط بالضرب في الأرض أي السير فيها فلا يكفي مجرد الخروج من البلد، وقد حدّدته الروايات بما اصطلح عليه حد الترخّص، إذ لا يوجد احتمال آخر غيره.

ومما تقدم يظهر عدم وجود دليل معتد به على هذا الحكم في الصوم، وإن كان ثابتاً في تقصير الصلاة، وبما أن الحكم على خلاف القاعدة فيرجع إليها عند عدم وجود دليل على اشتراط بلوغ حد الترخّص.

ويمكن التقدم خطوة للأمام في مخالفة المشهور، فيستدل عليها بما يعرف بالدليل الخامس، وحاصله: أن عدم ورود ولو رواية فيه مع شدة الحاجة إليه

ص: 237


1- جواهر الكلام: 14/300.

والابتلاء الكثير به يضع علامات استفهام –كما يقال- عليه، والاتكال على الملازمة بين الإفطار والتقصير لا يكفي في أمثاله للحاجة إلى البيان الواضح.

هذا ولكن مع ذلك فإن الاحتياط لا يُترك إذ لا يسعنا إلا الالتزام به للإجماع عليه مع احتمال كون الإجماع تعبدياً لاتصاله بالجيل المعاصر للمعصومين (عليهم السلام)، أو للإجماع على جريان الملازمة الثابتة بين التقصير والإفطار في مورده.وتأكيد هذا الاحتياط بأكثر من وجه نذكره باختصار ونشير إليه مفصلاً في الفرع التالي:

منها: ما ورد في عدة روايات كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (إن الله تبارك وتعالى قد رخّص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمة وتخفيفاً لموضع التعب والنصب ووعث السفر)(1)

وهذا المعنى لا يحصل إلا ببلوغ حد الترخّص فما فوق.

ومنها: معنى نفسي وجداني؛ لأن بلوغ هذا الحد يحسم قرار السفر ويزيل كل الصوارف والموانع عن الاستثناء والرجوع، أما قبله فيكون قرار السفر متزلزلاً غير مستقر، تتنجّز أحكام المسافر إلا عند استقرار موضوعه.

إن قلتَ: لم تظهر ثمرة من هذا البحث للانتهاء إلى نفس فتوى المشهور.

قلتُ: لا شك في تحقق الثمرة العلمية باستحداث هذه المباحث التي لم تتعرض لها كتب الأصحاب (قدس الله أرواحهم).

وأما الثمرة العملية فإن هذه الفتوى ما دامت ليست جزمية فلا يُجزم بترتب الآثار كوجوب الكفارة على من تناول المفطر بمجرد خروجه من البلد قبل بلوغ حد الترخّص خلافاً للمشهور.

ص: 238


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 13، ح5.

ونكتفي بهذا المقدار من الكلام هنا وسنزيده تفصيلاً في الفرع التالي بإذن الله تعالى، وإنما حررنا الفرع للإنصاف والأمانة العلمية حتى لا نسلّم بشيء دون دليل معتبر.

(الفرع الخامس) في المراد من حد الترخّص واعتباره في الذهاب والإياب:

تقدّم في الفرع السابق أن المسافر لا يبدأ بتقصير الصلاة والإفطار عند خروجه من بلده حتى يبلغ حد الترخّص، ولولا ذلك لكان الواجب التقصير والإفطار لمجرد الخروج من البلد لصدق عنوان السفر عليه، ولكن دلّت الآية الشريفة «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ» (النساء:101) على أن شرط التقصير صدق الضرب في الأرض أي السير فيها، وقد شرحته الروايات وحدّدته بما اصطلح عليه ((حد الترخّص)).

وقد عُرِّف حد الترخص في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بعلامتين أو حدّين هما:-

1- خفاء الجدرانوشرحوا معنى خفاء الجدران بأنه ((خفاء جدران البيوت لا خفاء الأعلام والقباب والمنارات، بل ولا خفاء سور البلد إذا كان له سور ويكفي خفاء صورها وأشكالها، وإن لم يخف أشباحها)).(1)

أقول: هذا التقييد خلاف ظاهر التعبير إلا أنهم لجأوا إليه للإشكال الذي سيأتي، وكانوا في غنى عن تكلف شرح العنوان، لأنه ليس من الألفاظ الشرعية حيث لم يرد في الروايات، وإنما هو مصطلح متشرعي تداولوه منذ القدم: فقد قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: (( لا يجوز التقصير للمسافر إلا إذا توارى

ص: 239


1- العروة الوثقى، كتاب الصلاة، فصل في صلاة المسافر، المسألة (58).

عنه جدران بلده، أو خفي عليه آذان مصره)) وهو قول البرّاج وسبقه الشيخ الصدوق والسيد المرتضى إلى ذلك.

ولم يعبّر به الشيخ المفيد (قدس سره) حيث قال: ((لا يجوز التقصير في الصلاة والإفطار في الصوم حتى يغيب عنه آذان مصره على ما جاءت به الآثار. وهو قول أبي الصلاح . وقال ابن أبي عقيل : على من سافر عند آل الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا خلّف حيطان مصره، أو قريته وراء ظهره وغاب عنه منها صوت الآذان أن يصلي صلاة السفر ركعتين))(1).

والموجود في الروايات تواريه هو –أي المسافر- عن أهل البلد ، كما في صحيحة محمد بن مسلم قال: (قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يريد السفر متى يقصّر؟ قال: إذا توارى من البيوت)(2).

ولعل الفقهاء عبّروا به لتعذر معرفة هذا الحد يومئذٍ للمسافر نفسه وهو المخاطب بالتكليف، وإن هذا الحد الذي ذكرته الرواية إنما هو بلحاظ أهل البلد، لذا عبّروا: ((بلازم هذا الأمر وهو خفاء الجدران، حيث إن المسافر إذا نظر إلى جدران البيوت فلم يرها وخفيت عنه يظهر له بوضوح أن أهل البيوت أيضا لا يرونه، وأنه متستر ومتوارٍ عنهم، لما بينهما من الملازمة، فجعلوا هذا معرفاً لذلك ولا بأس به))(3).

أقول: هذا لازم غير مطابق فلا يمكن العمل به؛ لأن تواري المسافر عن البيوت يتحقق بمسافة تقلّ كثيراً عن اللازم المذكور يصل إلى عدة أضعاف كما هو معروف، فلا يصح للمسافر البناء عليه.

وإذا أريد التعبير بلازمه فينبغي أن يقال تواري أهل البيوت عنه، لأن تواريه عن البيوت يعني تواريه عن أهلها لا نفس البيوت وببيان آخر: إن

ص: 240


1- مختلف الشيعة: 2/533 المسألة (392).
2- الوسائل : كتاب الصوم، أبواب صلاة المسافر ، باب 6، ح1.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 20/194.

الروايةفيها مضاف مقدّر وأصلها تواريه عن أهل البيوت، نظير قوله تعالى: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا» (يوسف:82) أي أهل القرية.

فالتعبير الأصح وهو الموافق لصحيحة ابن مسلم أن تكون العلامة: خفاء أهل البيوت عنه وليس خفاء البيوت الذي عبّروا عنه بخفاء الجدران.

لذا عبّر السيد الخوئي (قدس سره) في تعليقته على العروة عند ذكر خفاء الجدران: ((بل المناط تواري أهل البيوت، فإنه يستكشف به تواري المسافر عن البيوت))(1)، على أنهم في غنى أيضاً عن هذه الانتقالة لأن تواري المسافر عن البيوت أمر يمكن تحديد مقداره كثلث فرسخ مثلاً أو نصف فرسخ، فيكون هذا المقدار معروفاً لدى المسافر.

وقد ورد التعبير عن حد الترخّص بمسافة محدّدة في أكثر من رواية كرواية عمرو بن سعيد قال: (كتب إليه جعفر بن محمد (أحمد) يسأله عن السفر في كم التقصير؟ فكتب (عليه السلام) بخطّه وأنا أعرفه: قد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا سافر أو خرج في سفر قصّر في فرسخ)(2)

الحديث، وحكاية أبي سعيد الخدري التي رواها الشيخ (قدس سره) قال: (كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا سافر فرسخاً قصّر الصلاة)(3). وهذا المقدار لا يعني أنه الحد، إذ من الممكن أن يكون التعبير به لأنه من المتيقن ويتحقق الحد قبله كما يشهد به الواقع.

2- عدم سماع الأذان

وقد ورد في روايات عديدة كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن التقصير قال: إذا كنت في الموضع الذي

ص: 241


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 20/ 205.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب صلاة المسافر، باب 6، ح2، 4.
3- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب صلاة المسافر، باب 6، ح2، 4.

تسمع فيه الآذان فأتّم ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الآذان فقصرّ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك)(4). وصحيحة حماد بن عثمان المروية في المحاسن عنه (عليه السلام) (إذا سمع الآذان أتمّ المسافر). وهذه العلامة هي الأشهر والأكثر وروداً في الروايات لذا اكتفى بها البعض كما نقلنا عن الشيخ المفيد (قدس سره) ويظهر التسالم عليها بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كما يظهر من رواية إسحاق بن عمار الآتية.

والملحوظ في هاتين العلامتين الشأنية لا الفعلية، أي تحقق الرخصة عند بلوغ ما من شأنه تحقق هاتين العلامتين؛ لأن التعويل على عدم سماع الآذان فعلاًبناءٌ على الفرد النادر، لندرة خروج المسافر في وقت ارتفاع الآذان، ولندرة رفعه من أطراف البيوت، لوجود المساجد في أوساط الحي أو المدينة، وقد ورد التعبير بالموضع في بعض الروايات للإشارة إلى هذا المعنى كرواية إسحاق بن عمار الآتية عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)(1).

وعليه فلا جدوى في تقريب المعارضة بين الحدين بتقريب أن البلد قد يكون مصراً كبيراً والآذان في وسطه (( فربما لا يصل الصوت إلى آخر البلد فضلاً عن خارجه، أو أنه ينقطع لدى الابتعاد عنه قليلاً كمائة متر أو مائتين، مع أن الجدران أو البيوت بعدُ ظاهرة لا تخفى إلاّ بعد طيّ مسافة بعيدة))(2) فهذا كله مبني على لحاظ المصاديق.

والظاهر أن لهذه العلامة منشأً نفسياً، فإن في بلوغ هذا الموضع إِمضاءً لعزم السفر الذي يصدق عنوانه من حين الخروج من البلد، إلا أنه يبقى عرضة للفسخ بسبب الصوارف النفسية أو الموانع الخارجية حتى بلوغ هذا الحد فيستقر العزم، ولعل في رواية إسحاق بن عمار عن الأمام أبي الحسن موسى

ص: 242


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب صلاة المسافر، باب 3 ح11.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 20/198.

(عليه السلام) إشارة إلى ذلك بقوله: (قلت: أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: بلى إنما قصرّوا في ذلك الموضع لأنهم لم يشكّوا في مسيرهم وأن السير سيجدّ بهم في السفر)(1).

ويمكن القول كأطروحة أن العلامتين -أي تواري المسافر وعدم سماع الآذان- تعبّران عن مسافة واحدة تقريباً كما تقتضيه العادة، وهذه المسافة الواقعية هي الحد، والعلامتان مؤشران تقريبيان عليها، وحينئذٍ يكون افتراض التفاوت الكبير بينهما مبنياً على ما اصطلحوه من عنوان خفاء الجدران، ومنه يعلم النظر فيما سلّموا به من ضرورة ((اختلافهما في المقام، وحصول أحدهما وهو عدم سماع الآذان قبل خفاء الجدران دائماً، فإنّ شعاع البصر ومدى إبصاره أبعد بكثير من مدى الأمواج الصوتية، ولذا ربما يرى الإنسان في البيداء شخصاً من بعيد ويناديه بأعلى صوته فلا يسمع، وهذا واضح لكلّ أحد))(2).

وكل منهما كاشفة عن بلوغ الحد، فلا حاجة للدخول في بحث ترجيح الجمع بينهما ب- (أو)، لأنّ استقلالية كل منهما هو مقتضى العلامية، وليس كل منهما شرطاًحتى يحصل التعارض بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الأخرى ونبحث في كيفية حلٍّه بعد التسليم بعدم التعارض بين منطوقيهما.

وبتعبير آخر: إن الشرط هنا مسوق لبيان تحقق موضوع القصر بالعلامة المذكورة، فلا مفهوم للجملة، والقضية مهملة عند عدم تحقق العلامة إذ غاية ما تدل عليه عدم تحقق هذه العلامة ولا تنفي غيرها.

إن قلت: إن صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (صفحة 241) صرّحت بمفهوم خفاء الآذان فلا يمكن نفيه.

ص: 243


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب صلاة المسافر، باب3 ج11، وتمام الحديث في علل الشرائع : 367 باب 89 نوادر علل الصلاة.
2- المستند في شرح العروة: 20/197.

قلت:-

1- سيأتي (صفحة 254) أنه توجد نسخة أخرى للحديث رواها الشيخ (قدس سره) في الاستبصار ليس فيها صدر الرواية وقد أشار إلى ذلك بعض المحققين(1)

وعليه فلا يكون المفهوم مصرحاً به وتكون كبقية الروايات.

2- لو تنزلنا وقلنا بوجود المفهوم فإنه لا إطلاق له لما قرّبناه في بعض المباحث السابقة(2)،فيزول التعارض من أصله لزوال سببه.

ويرتبط حد الترخص فقهياً بحكم المسافر من التقصير والإفطار عند خروجه من بلده أو العودة إليه، وبغضّ النظر عن الروايات فإنّ مقتضى القاعدة جريان أحكام المسافر عليه بمجرد خروجه من بلده لصدق عنوان السفر عليه حينئذٍ، إذ أن معنى السفر الانكشاف والبروز وهو يتحقق بخروجه من بلده، وتنتفي عنه أحكام المسافر بمجرد دخوله إلى بلده، لأنّ العنوان يزول عنه إذا رجع في أوّل دخوله البلد.

إلا أنّ الروايات دلّت على مدخلية حدّ الترخّص في أحكام المسافر، مع تقريبات ذكروها، والكلام يكون في جهتين:

(الجهة الأولى) عندما يسافر من بلده:

والمشهور الذي ادّعي عليه الإجماع اعتبار حد الترخص في المسافر من البلد، فلا يجوز له تقصير الصلاة ولا الإفطار من الصوم قبله.

وقد تقدم في الفرع السابق أن عمدة دليلهم هي الروايات في باب الصلاة وأنها كافية لتعميم الحكم إلى باب الصوم للملازمة بين حكمي التقصير والإفطار، فكأن الأئمة (سلام الله عليهم) اكتفوا بذكر الملازمة في باب الصوم

ص: 244


1- راجع الحدائق الناظرة: 11/378، رياض المسائل: 4/372، جواهر الكلام: 14/301.
2- راجع الوجه التاسع (صفحة 143).

وإرجاعهم إلى روايات باب الصلاة لبيان الاشتراط ومعرفة المراد بحد الترخّص، وقد ناقشنا كل ذلك، إلا أننا قرّبنا وجوهاً لصحة الاشتراط.ومن الروايات الدالة على الملازمة ما تقدم في صحيحة معاوية بن وهب (إذا قصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت) ورواية سماعة (ليس يفترق التقصير عن الإفطار، فمن قصّر فليفطر)(1)،وصحيحة عمار بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: من سافر قصّر وأفطر)(2)،وموثّقة سماعة عنه قال: (سألته عن المسافر) إلى أن قال: (ومن سافر فقصّر الصلاة وأفطر).

وفي صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (يقصّر الصلاة، والصيام مثل ذلك)(3)

الحديث وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (سألته عن المكارين) وفيها قال (عليه السلام): (إذا كان مختلفهم فليصوموا وليتموا الصلاة إلاّ أن يجِدَّ بهم السير فليفطروا وليقصروا)(4).

وفي رواية العلل والعيون بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام): (وإذا قصّرت أفطرت)(5)

ورواها في تحف العقول، ومثلها روايته في الخصال بسنده عن الأعمش عن جعفر الصادق (عليه السلام)(6)،والمورد

ص: 245


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 4 ح1، 2.
2- الرواية والتي بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر باب 8 ح3، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب14، ح7.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر باب13 ، ح5.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر باب2، ح17، 19.
6- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر باب 17 ، ح8.

الذي نحن فيه مجرى لهذه الملازمة سواء على فهم المشهور أو على ما قدّمناه من فهم.

وقد دلّت الروايات على أن حكم التقصير يبدأ من حد الترخص كصحيحتي محمد بن مسلم وعبد الله بن سنان المتقدمتين، فالإفطار مثله.

وحكى العلاّمة (قدس سره) الخلاف عن ابن بابويه والد الصدوق وأنّه يرى جواز التقصير حينما يخرج من منزله ونقل قوله: ((وإذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه))(1)

وقال: ((احتج ابن بابويه بما روي عن الصادق (عليه السلام) أنّهقال: (إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه)(2)

وقد رواه ولده الصدوق مرسلاً))(3)

في الفقيه، بتقريب أنّ ابن بابويه وجدها في بعض الكتب كما ظفر بها ابنه.

وفي صحيحة علي بن يقطين التي تقدّمت في اشتراط تبييت النيّة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): (في الرجل يسافر في شهر رمضان أيفطر في منزله؟ قال: إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله)(4)

وقد ورد في غيرها ذكر الخروج من المنزل في كلام السائل كصحيحة الحلبي(5).

أقول: يرد على هذا القول:-

1- إن هذا المعنى غير محتمل في نفسه لعدم صدق عنوان السفر بخروجه من منزله حتى يخرج من بلده.

2- المناقشة في الاستدلال بالروايات فإنّ رواية الصدوق مرسلة، وإن صحيحة ابن يقطين يمكن أن يُقال عنها أنّها ليست في مقام البيان من هذه

ص: 246


1- فقه الرضا: 162.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 7 ، ح5.
3- مختلف الشيعة: 2/534، المسألة (392).
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5 ، ح10.
5- نفس الباب، ح2.

الجهة، ويمكن دعوى إجمالها كمرسلة حمّاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يخرج مسافراً، قال: يقصّر إذا خرج من البيوت)(1).

وتبيّنها صحيحتا محمد بن مسلم وعبد الله بن سنان المتقدمتان فيفسّر الخروج من البيوت ببلوغ حد الترخّص.

3- ما قيل من أنّها تحمل على التقيّة لما قرّبناه من ذهاب بعض العامة إلى كفاية الشروع في السفر وحكى الشيخ (قدس سره) عن عطاء قوله: ((إذا نوى السفر جاز له القصر وإن لم يفارق موضعه))(2).

ولأجل ذلك نحتمل أن ابن بابويه أراد بالخروج من المنزل الخروج من البلد فيصدق عليه السفر عرفاً حينئذٍ، لكن هذا الفهم العرفي قيّده الشارع المقدس في الروايات المتقدمة ببلوغ حدّ الترخص، وهذا حاكم على الأول، فقول ابن بابويه مخالف لهذه الروايات المعتبرة بل للآية الشريفة أيضاً.وهذا كله بناءً على صحة نسبة المخالفة إليه (قدس سره)، ولكن الصحيح عدم صحة ذلك كما قرّبنا في الفرع السابق.

ص: 247


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 6، ح9.
2- الخلاف: 1/572.

(الجهة الثانية) اعتباره في الإياب:

اختلف الفقهاء (قدس الله أسرارهم) في الحد الذي يتم فيه المسافر عند عودته إلى وطنه على أقوال:

(القول الأول) الوصول إلى حد الترخص بالعلامتين المذكورتين كما في الذهاب، وقد نسب إلى ((المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً كما عن الذكرى))(1)

وحكاه في الرياض عن ((عامة من تأخر إلاّ من ندر))(2).

واستدل له مضافاً إلى الروايات بتقريبين يبدوان متداخلين:

أحدهما أن ((حد ابتداء السفر أحدهما فيكون هو نهايته، إذ الأقرب لا يُعدُّ قاصده مسافراً كما في الابتداء))(3)،وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((للقطع بكون المراد من التحديد بذلك عند الذهاب الكشف عن حال المسافر واقعاً بأنه قبل الوصول إليه مندرج في الحاضر وخارج عن اسم السفر من البلد والضرب في الأرض عنها، فلا يتفاوت بين الذهاب والإياب في ذلك))(4).

وقال السيد البروجردي (قدس سره) موضحاً: ((المتبادر منه بمناسبة الحكم والموضوع هو أن اعتبار تواري البيوت وخفاء الآذان من جهة أنهما ما لم يخفيا لم يحصل عرفاً مفهوم السفر الذي أخذ فيه

ص: 248


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/ 93.
2- كصاحب الحدائق والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع، وقال صاحبا المدارك والذخيرة بالتخيير وحكى في المستمسك عن الأردبيلي قوله: ((أنه حسن لو وجد القائل به)).
3- مختلف الشيعة: 2/ 535 المسألة (393).
4- جواهر الكلام: 1/300.

الغيبوبة عن الوطن، فيتوقف القصر على تجاوز المسافر عن الحدود التي يتردد فيها أهالي البلد غالباً ترددهم في نفس البلد ويكون الكون فيها بنظرهم كوناً في نفس البلد بحيث يعدّونه مصداقاً للحضور من جهة ظهور آثار البلد من البيوت ونحوها وسماع الأصوات المرتفعة فيه، ولا يكون بحسب نظر العرف فرقاً في ذلك بين الخروج والرجوع قطعاً كما لا يخفى وجهه))(1).ثانيهما ما قاله صاحب الرياض (قدس سره) من ((اشتراط القصر بالسفر، ولا يصدق عرفاً على من بلغ هذا الحد، وهذا هو السر في اشتراط أصل هذا الشرط، وقد استدل به جمع))(2).

وتبعه على ذلك صاحب الجواهر (قدس سره) فعلّل وجوب التمام عند بلوغ حد الترخص ب- ((انقطاع صدق السفر عليه عرفاً واندراجه في الحاضر عند أهله وفي منزله ووطنه بالوصول إلى الحد المزبور))(3).

فالتقريب الأول يؤخر صدق عنوان السفر إلى حد الترخص أي أنه يضيّق هذا العنوان.

والثاني يوسّع مفهوم الوطن لتشمل دائرته ما حوله إلى حد الترخّص.

وفيه: إن كلا التقريبين خلاف الظاهر، أما التقريب الأول فلأن السفر يصدق عرفاً بالخروج من البلد لتحقق معناه وهو البروز والانكشاف، ولولا النصوص لما كان وجه لاعتبار حد الترخص، ولا

ص: 249


1- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 310 تقريرات السيد البروجردي (قدس سره) بقلم الشيخ المنتظري (قدس سره).
2- رياض المسائل: 4/ 370.
3- جواهر الكلام: 14/ 300.

يزول تلبسه بالعنوان إلا بعد وصوله فعلاً إلى بلده وأكّدته صحيحة أبي ولاد الآتية (صفحة 259) وفيها قوله (عليه السلام) (لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك) بضميمة ما سنذكره إن شاء الله تعالى من أن المراد بالمنزل البلد.

ولنا على ذلك شاهدان أيضاً:-

1- أنهم يحسبون مسافة القصر من سور البلد ومنتهى بيوته إلى البلد الآخر، ولو كان ما قالوه حقاً لبدأوا عدّ المسافة من حد الترخص، وقد ورد في الروايات التصريح بأن مبدأ حساب المسافة من البلد(1).

2- ما التزموا به في أن المناط في رجوع الصائم إلى بلده قبل الزوال وبعده هو البلد –راجع العروة والمستمسك كمثال- بضميمة الملازمة بين الصوم والإتمام، ويشهد له أيضاً تسميتهم الحد بحد الترخّص وليس حد السفر.

وأما التقريب الثاني فلأن البلد لا يصدق على خارجه ولذا اختلفوا بشدة في مسألة جواز خروج المقيم في بلد إلى ما حوله وهل أن ذلك ينافي صدق الإقامة عرفاً أم لا؟.

ولعله لذلك عدّل السيد الحكيم (قدس سره) التعبير عن هذه الوجه، فقال ((ويدل عليه ما دل عليه في الذهاب، لظهوره في أن ما بين حدالترخص والبلد خارج عن حكم السفر، وأنه بحكم البلد، من دون خصوصية للذهاب))(2).

ص: 250


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 14 ،5 ،4 ،2.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/ 93.

أقول: كأنّه (قدس سره) جعل للسفر معنى شرعياً تعبدياً يبدأ من حد الترخص، أي جعل للسفر حقيقة شرعية غير المعنى العرفي.

وفيه:-

1- إن النصوص المشار إليها غير ظاهرة في كونها بصدد بيان وجعل معنى المسافر شرعاً، بل ظاهرها جعل حكم للمسافر المعروف معناه، بل الموجود في الروايات تأكيد معنى المسافر عرفاً واستمرار صدقه حتى عودته إلى بلده، كما في صحيحة أبي ولاد الآتية (صفحة 259) (لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلكِ).

فروايات حد الترخّص تقيّد حكم المسافر، ولا ترخّص له بالتقصير والإفطار حتى يصل إلى حد الترخص، وليس أنها تتصرف في الموضوع –الذي هو السفر- فتضيقه.

وقد اعترف (قدس سره) بذلك في كتاب الصوم، فعلل جعل الدخول إلى البلد والخروج منه المناط في ملاحظة ما قبل الزوال وبعده قائلاً: ((لأن الظاهر من أدلة حد الترخّص كونها مقيدة لإطلاق أدلة أحكام المسافر، لا حاكمة عليها بجعل ما دون الحد من البلد، كي يكون حد الترخص حداً للسفر ابتداءً وغاية، بل الحد حد للترخص لا للسفر))(1).

2- إنه (قدس سره) نفسه لم يلتزم بهذا الجعل الشرعي لذا جعل المناط في سفر الصائم قبل الزوال وبعده وكذا في رجوعه هو البلد وليس حد الترخّص، قال (قدس سره): ((الظاهر أن المناط في

ص: 251


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/436.

الشروع في السفر قبل الزوال وبعده وكذا في الرجوع منه هو البلد لا حد الترخص))(1).

3- لو تنزلنا فإننا نحتمل أن هذا الجعل خاص بالذهاب فقط، لأن الخصوصية في اعتبار حد الترخّص في الذهاب دون الإياب محتملة من عدة جهات:

(إحداها) هو المعنى النفسي الذي ذكرناه سابقاً وهو غير متحقق في الإياب.(ثانيها) ما ذكرناه من أن جعل حد الترخص هو لتجسيد معنى الضرب في الأرض الذي ذكرته الآية الشريفة كشرط لقصر الصلاة قال تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ» (النساء: 101) فالصلاة لا تُقصّر حتى يصدق الضرب في الأرض، وهو السير في الأرض لكن مقداره مجمل لم تبيّنه الآية وإنما الروايات، وهذا المعنى غير موجود في الإياب لاستمرار صدق عنوان المسافر عليه.

(ثالثها) دلت بعض الروايات المتقدمة على أن تشريع التقصير والإفطار في المسافر لمراعاة حال المسافر من التعب والمشقة، وعليه فمن الطبيعي تأخيرهما في الذهاب إلى أن يحصل له شيء من التعب عند بلوغ حد الترخص.

أما في الإياب فإن التعب والمشقة مستمران لدى المسافر ولا ينتهيان عند حد الترخص فيكون للتفريق بينهما وجه.

(رابعها) إن اشتراط حد الترخص تقييد لحكم المسافر فيمكن للشارع المقدس أن يقيّده في الذهاب دون الإياب، وليس هو

ص: 252


1- منهاج الصالحين: 1/245 المسألة (15) من شرائط صحة الصوم.

تصرفاً من الشارع في معنى الوطن أو السفر –الذي قرّبوه ورددنا عليه- حتى يُعمَّم إلى الإياب.

ومما تقدم يعلم النظر في استدلال السيد البروجردي (قدس سره) حين قال: ((والمذكور في صحيحة ابن مسلم وإن كان حكم الخروج فقط لكن العرف يلغي الخصوصية، بحيث لو لم يكن حكم الرجوع مذكوراً في صحيحة ابن سنان أيضاً لاستفدنا من الروايتين حكم الرجوع أيضاً. والظاهر أن ابن مسلم أيضاً استفاد ذلك))(1).

أقول: ليس المورد مما يرجع فيه إلى العرف؛ لأن النزاع ليس في مداليل الألفاظ، مضافاً إلى أن الخصوصية محتملة كما قدمنا، ولا يظهر أن ابن مسلم استفاد ذلك بل على العكس، إذ لعل ابن مسلم كان متيقناً من استمرار عنوان السفر حتى دخول البلد في الإياب، وإنما سأل عن بداية التقصير عند الخروج منه فقط.

وبعد سقوط التقريبين فالعمدة في الاستدلال ما ذكروه من الروايات وهي روايتان:-

الأولى: ذيل صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك).

الثانية: إطلاق صحيحة حمّاد بن عثمان المروية في المحاسن عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا سمع الآذان أتمّ المسافر).أقول: يمكن المناقشة في الاستدلال بذيل صحيحة عبد الله بن سنان بأكثر من وجه:-

ص: 253


1- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 309 تقريرات المرحوم السيد البروجردي (قدس سره) بقلم المرحوم الشيخ المنتظري (قدس سره).

1- عدم الاطمئنان بصدور القضية الأولى في صدر الرواية؛ لأنّ الشيخ (قدس سره) رواها في الاستبصار(1)

بدون صدر الرواية الذي هو محل الشاهد في الاستدلال فلم يذكر فيها التمام إذا لم يخف الآذان في الذهاب كي يرجع إليه التشبيه في الإياب، ويقتصر التشبيه حينئذٍ على القصر عند الخفاء وهو ليس محل النزاع، وليس للجملة مفهوم –كما قرّبنا سابقاً- حتى يستدل به.

وقد تقدم (صفحة 244) أن عدداً من المحققين(2)

ذكروا قضية وجود بعض النسخ ليس فيها صدر الرواية، كما سيأتي كلام صاحب الرياض (قدس سره)، وظاهر كلامه ووصفه النسخة التي فيها الصدر بالمشهورة أنه يتحدث عن نسخة أخرى من التهذيب الذي هو مصدر رواية الصدر، وليس الاختلاف مع الاستبصار وبذلك يعزّز الإشكال على صدر الرواية، ولعله فهم ذلك من قول صاحب الحدائق ((وليس في بعض نسخ الحديث أول الحديث إلى قوله (فأتم) )) لكن كلام صاحب الحدائق (قدس سره) يحتمل إرادة نسخة الاستبصار لأنّه ذكر أن النسخة الأخرى للحديث وليس للكتاب.

ويكفي هنا دخول الاحتمال لبطلان الاستدلال، ومع ذلك قد تُقدَّم رواية الاستبصار، لوجهين:-

أ- إن السؤال عن التقصير فيناسبه ذكر القضية الثانية فقط، أما القضية الأولى فأجنبية عن السؤال.

ص: 254


1- الاستبصار: ج1، باب143: من يقدم من السفر إلى متى يجوز له التقصير، ح1.
2- الحدائق الناضرة: 11/ 378، رياض المسائل: 4/372، جواهر الكلام: 14/301.

ب- أن الشيخ (قدس سره) أخذها في التهذيب من كتاب الصفار، بينما رواها في الاستبصار عن شيخه المفيد عن شيخه أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه عن الصفار، وهذا قد يقوّي رواية الاستبصار باعتبار أخذها من أفواه الفقهاء الثقات الأخيار، أما رواية التهذيب فمن كتاب وإن كان مُجازاً من الثقات بروايته، فالطريق الأول أوثق.

2- لو تنزلنا وسلمنا وجود الصدر أو تحققه بالمفهوم، فإن التشبيه في الذيل لا يلزم منه التطابق في القضيتين بل يكفي فيه تشابههما في القضية الثانية وهي ليست محل النزاع.ولذا احتمل صاحب الرياض (قدس سره) أن يكون المراد ب- ((تشبيه الإياب بالذهاب فيها تشبيهه به في وجوب القصر عند خفاء الآذان خاصة، لا عدمه عند ظهوره، سيما وإن بعض النسخ ليس فيه ذكر هذا في الذهاب، فلا يشمله التشبيه صريحاً، بل ولا ظهوراً إلاّ ظهوراً لا يمكن الاعتداد به جداً))(1).

أما رواية حمّاد بن عثمان فيمكن مناقشتها من جهتين:-

1- السند، فإنها في المحاسن هكذا (وبإسناده عنه قال: إذا سمع الآذان أتم المسافر)(2)

فإمّا أن يكون سند الحديث معلقاً على سابقه وهو مرسل ينتهي إلى حماد عن رجل، أو هو مقطوع.

2- المتن فإنّ إطلاق رواية حمّاد مشكوك، فظاهرها أقرب إلى الإجمال، ولعل لها جزءاً مقتطعاً من رواية تدل على مورده،

ص: 255


1- رياض المسائل: 4/372.
2- المحاسن للبرقي: 307، الباب 33 من كتاب السفر، ح 127.

والذي يقوّيه احتمال كون هذه الرواية صدر صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة وقد روي بطريق آخر.

ومما يبعد الالتزام بهذا القول أمران:-

1- إن مقتضى إطلاقهم عنوان حد الترخص في الإياب كفاية إحدى العلامتين لانتهاء حكم السفر، وهو يعني جعل خفاء الجدران وظهورها أحد الحدين الفاصلين بين القصر والتمام، ونحن نعلم أن الجدران تظهر من مسافة بعيدة، وحينئذ يشكل الالتزام بسقوط حكم السفر من هذه المسافة البعيدة لأنه أمر لا يساعد عليه العرف والوجدان.

ولعله لهذا ولعدم ورود هذه العلامة في روايات الإياب اكتفى المحقق الحلي (قدس سره) بجعل حد الترخص في الإياب هو ظهور الآذان خاصة.

2- وقوعهم في مخالفة الملازمة بين التقصير والإفطار، لأنهم يلتزمون بالتمام إذا بلغ حد الترخّص، وبتجديد نية الصيام عند دخول البلد (خذ كلام صاحب العروة الآتي (صفحة 271 نموذجاً) فتختل الملازمة بين حد الترخص والبلد مع أنه ليس من موارد الاستثناء منها.

وبتعبير آخر: نسأل ما حكم صيام المسافر العائد إلى بلده إذا حلّ عليه الزوال وهو بين حد الترخص والبلد، فمقتضى حكمهم بالتمام إذا بلغ حد الترخّص أن يصوم بضميمة الملازمة بين الصوم والتمام.ومقتضى جعل المناط في تجديد نية الصوم دخوله البلد قبل الزوال هو الإفطار لدخوله بعد الزوال، وهذا تناقض أو خرق للملازمة.

ص: 256

نكتة: ذكر الأصحاب خلافهم في العلاقة بين العلامتين وكيفية تأثيرهما في القصر عند الذهاب، وجمع المشهور بينهما ب-(أو)، فيكفي تحقق أي من العلامتين لتقصير الصلاة، ومقتضاه اشتراط انتفائهما معاً عند العود لإتمام الصلاة، أي أن الجمع بين سماع الآذان ورؤية الجدران في الإياب يكون ب-(و)، لأن كلاً منهما موجب للقصر عند الذهاب، فلا يرتفع ذلك إلاّ بارتفاع الموجب وهو لا يتحقق إلا برفعهما.

ولكن ظاهر كلماتهم وإطلاق عنوان حد الترخص في الإياب كالذهاب كفاية أحدهما، وصرح البعض بعدم الفرق(1)،وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا ريب في عدم اعتبارهما معاً هنا للإجماع عليه ظاهراً))(2)

وقال (قدس سره): ((لم أعرف من الأصحاب من اعتبر ذلك))، وهو خلاف مقتضى ما التزموا به في الذهاب كما قربناه آنفاً.

ويمكن أن نحصل من هذه النكتة على وجه آخر لاكتفاء المحقق الحلي (قدس سره) بظهور الأذان خاصة، حاصله: أن المعتبر في التمام ظهورهما معاً كما قرّبنا ولما كان الآذان هو المتأخر ظهوراً كان الشرط منوطاً به وكأنه هو الحد الفاصل، وعلى أي حال فقد ضعّفوا هذا القول منه ومن العلامة في التحرير(3)

أو أوّلوا خلافهما، كقول صاحب الجواهر (قدس سره) بأن المحقق (قدس سره) يريد ((المثال من ذكر الآذان كما يومئ إليه قوله ((وكذا)) أو إنهما متلازمان عنده فمتى

ص: 257


1- استظهره في رياض المسائل: 4/373 ونسبه إلى القيل وفي الهامش إن القائل هو الوحيد البهبهاني في حاشيته المخطوطة على المدارك.
2- جواهر الكلام: 14/ 301.
3- رياض المسائل: 4/ 374.

تحقق أحدهما تحقق الآخر)) ووصف صاحب الرياض نسبة الخلاف إليهما توهماً.

(القول الثاني) دخول المسافر منزله:

حكى العلاّمة (قدس سره) هذا القول عن ابن بابويه والد الصدوق وابن الجنيد، وحكاه المحقق في المعتبر عن السيد المرتضى وجعله صاحب الحدائق (قدس سره) الأظهر.

وقد دلّت عليه عدة روايات منها:-

1-صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا)(1).

2- موثقة عبد الله بن بكير قال : (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنزل فيمر بالكوفة وإنما هو مجتاز لا يريد المقام إلا بقدر ما يتجهز يوماً أو يومين؟ قال : يقيم في جانب المصر ويقصر، قلت: فإن دخل أهله؟ قال: عليه التمام).

3- موثقة إسحاق بن عمار، عن أبي إبراهيم (عليه السلام)، قال: (سألته عن الرجل يكون مسافراً ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة، أيتم الصلاة أم يكون مقصراً حتى يدخل أهله؟ قال: بل يكون مقصراً حتى يدخل أهله).

ص: 258


1- الروايات الستة الأولى في الوسائل، أبواب صلاة المسافر، باب 7 ح1، 2، 3، 4، 5، 6.

4- صحيحة العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يزال المسافر مقصراً حتى يدخل بيته) .

5- مرسلة الصدوق – محمد بن علي بن الحسين - قال: (روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إذا خرجت من منزلك فقصر إلى أن تعود إليه).

6- صحيحة علي بن رئاب (أنه سمع بعض الواردين يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة وله بالكوفة دار وعيال فيخرج فيمر بالكوفة يريد مكة ليتجهز منها وليس من رأيه أن يقيم أكثر من يوم أو يومين؟ قال: يقيم في جانب الكوفة ويقصر حتى يفرغ من جهازه، وإن هو دخل منزله فليتم الصلاة),

7- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجاً قصروا، وإذا زاروا ورجعوا إلى منزلهم أتموا)(1).

8- صحيحة أبي ولاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها قوله (عليه السلام): (إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريداً فكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالتقصير لأنك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك)(2).

أقول: أكثر الروايات صحيحة السند، وصريحة الدلالة في اعتبار الوصول إلى المنزل والأهل كشرط للرجوع إلى أحكام التمام والصيام.وقد اعترف المشهور بذلك، إلا أنهم لم يعملوا بها وأخذوا بالقول الأول (إما) لأجل بعض الموانع التي ذكروها، قال السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((ولولا الشهرة العظيمة المرجّحة

ص: 259


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 3، ح8.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب5، ح1.

للأدلة الأوّلة لكان المصير إلى هذا القول في غاية القوة لاستفاضة نصوصه، وصحة أكثرها، وظهور دلالتها جملة، بل صراحة كثير منها))(1).

وقال (قدس سره): ((لولا الشهرة لكان المصير إلى هذا القول متعيناً بلا شبهة، بل معها أيضاً لا تخلو المسألة عن شبهة)).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره) عن الاستدلال بهذه الروايات: ((إن ذلك كله في مقابلة الترجيح بالشهرة مخالف لأصول المذهب خصوصاً مثل هذه الشهرة التي قيل أنها كادت تكون إجماعاً))(2).

(أو) إنهم تأوّلوها لرفع منافاة هذه المجموعة للمجموعة الأولى، وقد ذكر الشيخ (قدس سره) وجهاً تبعه عليه من بعده كما هو شأن كثير من المشهورات، قال (قدس سره): ((لا تنافي لأن قوله: لا يزال المسافر مقصراً حتى يدخل أهله أو بيته، يكون مطابقاً لما ذكره في الخبر الأول من إنه إذا خفي عليه الآذان قصّر بأن يكون حد دخوله إلى أهله غيبوبة الآذان عنه))(3).

أقول: حمل الشيخ الأهل و المنزل على بلوغ حد الترخص بعيد جداً لعدة وجوه:-

1- إن لازمه توسيع معنى الوطن والبلد ليصل إلى حد الترخص أو تضييق معنى السفر لينتهي بالوصول إلى حد الترخّص، وقد استبعدناهما فيما سبق وأنه خلاف النصوص.

ص: 260


1- رياض المسائل: 4/ 372.
2- جواهر الكلام: 14/ 302.
3- الاستبصار: ج1، باب143، من يقدم من السفر إلى متى يجوز له التقصير.

2- إباء عدد من النصوص ذلك بصراحة، كموثقة إسحاق بن عمار وصحيحتي معاوية بن عمار والحلبي خصوصاً الأول ((المتضمن لدخول البلد والحكم فيه مع ذلك بالقصر، إلى دخول الأهل.

وحمله على أن الحكم به معه إنما هو لسعة الكوفة يومئذٍ، فلعل البيوت التي دخلها لم يبلغ حد الترخص المعتبر في مثلها، وهو آخر محلته كما مضى.يدفعه عموم الجواب الناشئ عن ترك الاستفصال، مضافاً إلى قوله بعد الحكم بالتقصير: (حتى يدخل أهله).

وتأويل جميع ذلك وإن أمكن إلا أنه بعيد جداً، مع أن مثله جارٍ في أدلّة المشهور بتقييد العمومات بهذه، لكونها بالنسبة إليها أظهر دلالة، بل صريحة))(1).

واستجود صاحب الوسائل (قدس سره) جمع الشيخ (قدس سره) وعلّله: ((لوضوح الدلالة هناك وعدم التصريح هنا بما ينافيها، فهذا ظاهر وذاك نص صريح)) ثم قال (قدس سره): ((ويمكن الجمع بحمل هذه الأحاديث على من لا يريد الوصول إلى منزله، وحمل الأحاديث السابقة على من قصد الوصول إلى أهله ودخول منزله كما يظهر من بعضها، ويمكن الحمل على التقية))(2).

أقول: الوجه الأول مجرد تبرع واستحسان انتصاراً للمشهور، وأما الحمل على التقية فمما لا يحتاج إلى رد.

ص: 261


1- رياض المسائل: 4/372.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر ، باب 7، ذيل ح6.

وناقش السيد صاحب الرياض (قدس سره) في ((دلالة ما عدا الموثّق منها بورودها جملةً مورد الغالب، من أن المسافر إذا بلغ إلى حدّ الترخص يسارع إلى أهله من غير مكث للصلاة، كما هو المشاهَد غالباً من العادة، فلا يطمئن بشمول إطلاق الحكم بالقصر إلى دخول الأهل لمحلّ البحث، فتدبّر)).

أقول: هذا تبرّع منه (قدس سره) واستحسان لا وجه له إلاّ الهروب من مخالفة المشهور.

وأضاف (قدس سره): ((وأما الموثق فهو وإن لم يجرِ فيه ذلك، لكن الجواب عنه بعد الذبّ عمّا عداه سهل؛ لقصور السند، وعدم المقاومة لأدلة الأكثر بوجوه لا يخفى على من تدبّر.

هذا مع احتماله كغيره الحمل على التقيّة، كما صرّح به في الوسائل، قال: لموافقتها لمذهب العامة))(1).

أقول: السند معتبر كما اعترف (قدس سره)، ولا قوة في أدلة الأكثر –أي المشهور- أكثر مما في أدلة هذا القول خصوصاً بعد انضمام روايات القول الثاني إليها، وأما الحمل على التقية فإنه مما لا يحتاج إلى رد.ووصف السيد الخوئي (قدس سره) هذه الروايات بأنها ((مقطوعة البطلان في أنفسها حتى مع قطع النظر عن المعارضة –أي مع صحيحة عبد الله بن سنان - ضرورة أن التقصير خاص بالمسافر، ولاشك أن المسافر لدى رجوعه عن السفر يخرج من هذا العنوان بمجرد دخوله البلد، سواء دخل منزله أم لا))(2).

ص: 262


1- رياض المسائل: 8/477.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 20/ 202.

أقول: القطع ببطلانها حتى من دون وجود المعارض مما لا ينبغي قوله لأن الأحكام بيد الشارع المقدس فكما أخّر التقصير إلى حد الترخص في الذهاب مع صدق عنوان السفر بالخروج من البلد، فله أن يؤخر حكم التمام حتى دخول المنزل وإن انتفى عنوان السفر بدخول البلد، فلماذا يكون مثل هذا الجعل مقطوع البطلان.

ثم قال (قدس سره): ((فلا مناص من طرح هذه الروايات، أو حملها على التقية لموافقتها للعامة كما احتمله صاحب الوسائل، فهي ساقطة عن درجة الاعتبار)).

نعم يمكن توجيه هذه الروايات بما سيأتي في القول الثالث من حمل الأهل والمنزل على البلد لتداوله عرفاً ولما قلناه من استبعاد بقاء حكم القصر عليه حتى مع دخوله البلد حيث ينتفي معه صدق عنوان السفر عرفاً فكيف يبقى حكمه وهو التقصير؟.

وهذا الفهم أولى من وصف هذه الأخبار الكثيرة المعتبرة الصريحة بأنها مقطوعة البطلان.

(القول الثالث) انتهاء حكم السفر عند دخول البلد ولم يذكروه (قدس الله أرواحهم) مع القولين السابقين عند تعرضهم للمسألة. نعم أشار إليه السيد الخوئي (قدس سره) عند ذكره –ضمن روايات القول الثاني- لرواية حمّاد بن عثمان الآتية، وتخلّص من معارضتها للقول الأول بعد تضعيف سندها بحمل دخول المصر على حد الترخص ((بأن يراد من المصر المعنى الجامع الشامل لحد الترخّص، أي المصر ونواحيه وتوابعه، فإن من بلغ في رجوعه إلى حد يسمع فيه آذان المصر يصح أن يقال ولو بضرب من العناية التي لا يأباها العرف أنه دخل

ص: 263

المصر فلا تنافي بينها وبين الصحيحة –أي صحيحة عبد الله بن سنان-))(1).

وعلى أي حال فإنه يدل على هذا القول الصدق العرفي لزوال تلبس المسافر بالعنوان عند دخوله بلده وإن لم يصل منزله، كما إن صدق العنوان في الذهاب يبدأ من خروجه من البلد، وإنما خرجنا منه في الذهاب فاشترطنا التقصير عند حد الترخّص لوجود الدليل الخاص والمفروض عدمه في الإياب بعد المناقشة في روايات القول الأول.

وقد دلّت عليه جملة روايات:-

1- رواية حماد بن عثمان المروية في المحاسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المسافر يقصّر حتى يدخل المصر)(2).

أقول: وصفت جملة من المصادر الرواية بالصحيحة بحسب سندها في الوسائل، لكنها في المصدر –أي كتاب المحاسن(3)-

مرسلة لأن حمّاداً رواها عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام).

2- و 3- موثقة ابن بكير وصحيحة علي بن رئاب المتقدمتان في مجموعة القول الثاني بتقريب أن مقتضى المقابلة مع عدم دخول بلده، يكون المراد بدخول منزله أي البلد، والتعبير عن البلد بالمنزل متداول في الروايات كما سنذكر بإذن الله تعالى.

4- الروايات الدالة على أن المسافر ينقطع عنه حكم السفر إذا مرّ بوطنه أو موضع له فيه منزل كصحيحة إسماعيل بن الفضل قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسافر من أرض

ص: 264


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 20/ 204.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب6، ح8.
3- المحاسن للبرقي: 307، باب33 من كتاب السفر: جمل من التقصير، ح125.

إلى أرض وإنما ينزل قراه وضيعته، قال: إذا نزلت قراك وأرضك فأتمّ الصلاة، وإذا كنت في غير أرضك فقصّر)(1).

ومفهوم صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال (كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير)(2).

5- الروايات الواردة في كتاب الصوم، التي جعلت المناط في تجديد نية الصوم قبل الزوال عند دخول المسافر أهله، وهو تعبير استظهر منه الفقهاء دخول البلد، وقد تقدمت (صفحة 186) بعض تلك الروايات في البحث كصحيحتي محمد بن مسلم وصحيحة رفاعة بن موسى بضميمة الملازمة بين القصر والإفطار.وقد التزم المشهور بذلك، وصرحوا في كلماتهم بدخول البلد عندما يذكرون أحكام الصوم في الإياب، وقد تقدمت كلمات الشيخ (قدس سره) كقوله في المبسوط: ((فأمّا إذا أمسك في أول النهار، ثم دخل البلد وجب عليه الامتناع وتجديد النية إن كان قبل الزوال))(3)

ونحوها من الكلمات، وهذا شاهد على أنهم لا يشكّون في أن المراد بالأهل البلد، وأن انتهاء السفر هو بدخول البلد، وأن حد الترخّص هو حد لابتداء الرخصة بالتقصير والإفطار كما هو صريح العنوان، وليس هو حداً للسفر كما حاولوا في تقريب استدلالاتهم، وتقدّم (صفحة 251) اعتراف السيد الحكيم (قدس سره) بذلك.

إن قلت: يمكن الفصل بين المسألتين وادعاء عدم الملازمة فينتفي الإشكال.

ص: 265


1- وسائل الشيعة: كتاب، أبواب صلاة المسافر، باب 14، ح1، 2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 14، ح1، 2.
3- المبسوط: 1/ 284.

قلت: هذا غير ممكن لوحدة موضوعهما، ولأنّه يلزم على التفكيك نقض الملازمة بين الإتمام والصيام على النحو الذي قرّبناه (صفحة 244) وسيأتي مزيد من التفصيل لهذه النكتة بإذن الله تعالى.

والغريب أن الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لم يستفيدوا من الملازمة هنا في مسألة الإياب فيلاحظوا روايات باب الصوم عند البحث في كتاب الصلاة، مع ارتباطها الوثيق، كما استفادوا منها في مسألة الذهاب واكتفوا بروايات كل باب في موضعها.

تحليل الأقوال وتقييمها:

أما القول الثالث فيساعد عليه فهم العرف لمعنى السفر والمسافر والذي هو المرجع في تحديد مداليل الألفاظ، والشارع المقدّس لم يتدخل في وضع معنى جديد له، بل أكّده كما في صحيحة أبي ولاّد المتقدمة، وإن الروايات الكثيرة في أبواب متعددة وموارد متنوعة من أحكام المسافر كحساب مسافة التقصير، وانقطاع حكم السفر بدخول البلد، وصوم المسافر إذا عاد إلى بلده وغيرها، بحيث جعلت منه معنى مقطوعاً به في ذوق الشرع المقدس.

وتحمل عليه روايات القول الثاني لمعروفية إطلاق الأهل والمنزل على البلد والوطن كما فهم المشهور من ورود لفظ الأهل في روايات صوم المسافر إذا عاد إلى أهله أن المراد به البلد وعبّروا به في كلماتهم كما تقدّم.

ويساعد عليه العرف فإن من يُسأل أين أهلك ومنزلك فإنه يجيب بالبلد الذي يستوطنه كما هو صريح روايتي إسماعيل بن الفضل وعلي بن يقطين المتقدمتين وغيرهما، وأنه أيضاً مقتضى المقابلة في موثقة ابن بكير وصحيحة علي بن رئاب المتقدمتين.

ص: 266

وهذا المعنى يظهر من مقتضى المقابلة بين السفر –الذي عرفنا أنه الخروج من البلد –ودخول الأهل والبيت، في روايات كثيرة.

ولو تأمّلنا في روايات القول الثاني لوجدنا أنها نفسها تتضمن ما يدل على هذا المعنى كصحيحة العيص بن القاسم التي رويت كاملة في موضع آخر قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر ثم يدخل بيته قبل أن يصليها، قال: يصلّيها أربعاً، وقال: لا يزال يقصّر حتى يدخل بيته)(1)،وهي بنفس لسان روايات الصائم العائد إلى بلده التي ورد فيها لفظ (الأهل).

فروايات القول الثاني لا تأبى الحمل على القول الثالث، بل إن في بعضها ما يشهد على ذلك كما قدمنا.

وما يظهر منها خلاف ذلك يمكن رده إليه، كصحيحة معاوية بن عمار في أهل مكة، فإنها وردت بسند صحيح بإضافةٍ يظهر منها المراد، فعنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم ثم رجعوا إلى منى أتموا الصلاة، وإن لم يدخلوا منازلهم قصروا)(2)

كما وردت بنفس هذا المضمون عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)(3).

أقول: فمعناها حينئذ أن أهل مكة إذا وردوا منى من عرفات ومزدلفة قصّروا فيها لاستمرار تلبّسهم بعنوان السفر أما إذا رجعوا إلى مكة فقد انقطع سفرهم فإذا خرجوا إلى منى أتمّوا لأنهم لم ينشئوا سفراً جديداً لوقوع منى دون المسافة الشرعية، فهذه الرواية التي اعتبرت من أقوى وأصرح ما دل على اعتبار المنزل أجنبية عن المطلب.

ص: 267


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب21، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب3، ح4، 3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب3، ح4، 3.

وأما موثقة إسحاق بن عمار فتحمل على دخول المسافر بيوت الكوفة المتناثرة على أطرافها وليست من البلدة نفسها، فقد كانت الكوفة واسعة جداً وتتصل بها قرى وضياع ممتدة على مسافة واسعة ولكنها خارج عن نفس البلدة، والشاهد على ذلك، ما قرّبناه من موثقة ابن بكير وعلي بن رئاب فقد عبّر الإمام (عليه السلام) بأنه يقيم ب-(جانب الكوفة) ولم يعدّ إقامته في الكوفة نفسها، مع أن إقامته كانت بطبيعة الحال في مكان مأهول تصدق عليه الإقامة، فهو من هذه القرى المتصلة.فالأقوى إذن القول الثالث استناداً إلى التقريبات المتقدمة، ولا تقوى أدلة المشهور على معارضته، مضافاً إلى ما فيها في نفسها من مناقشات تقدمت (صفحة 253 وما بعدها)، فماذا بقي للمشهور ليتمسك به؟

قال السيد الخوئي (قدس سره) في تقديم دليل المشهور: ((فالترجيح مع صحيحة ابن سنان، لموافقتها مع السنة القطعية، وهي العمومات الدالة على وجوب التمام على كل مكلف، المقتصر في الخروج عنها على المقدار المتيقن وهو المسافر، ومخالفة هذه لها، فلا ينبغي التأمل في تقدّم الصحيحة عليها))(1).

أقول: هذا يدل على عكس مطلوبه ويفيد وجوب القصر في المقام بتقريبين:-

1- إن هذا المسافر صدق عليه عنوان السفر منذ خروجه من بلده فتجري عليه عمومات التقصير، ولما بلغ حد الترخص نشك في دخوله تحت الخاص وهو بلوغ الوطن فيبقى تحت العام،

ص: 268


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 20/ 203.

فالعمومات الجارية في المقام هي عمومات وجوب التقصير على المسافر، وهذا مسافر حتى يدخل بلده كما أقر (قدس سره) فحكمه التقصير حتى يدخل بلده.

2- إن هذا المسافر كان على يقين من حكم القصر طول سفره، ولما بلغ حد الترخص شكّ في رجوعه إلى التمام فيستصحب حكم القصر، وهو مقدم على العام الذي ذكره (قدس سره).

وبتقريب جامع: إن عمومات التمام خُصَّت بالقصر من حين تلبسه بالسفر، فإذا وصل حد الترخص في الإياب شككنا وحينئذٍ يُقدّم استصحاب الخاص على عموم العام.

وبعد هذا كله لا يبقى للمشهور ما يتمسك به لتبرير أخذه بالقول الأول إلاّ الشهرة التي ضغطت عليهم فأوّلوا النصوص المقابلة، مع اعترافهم ببعد تأويلهم، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((وهذا الجمع –أي جمع الشيخ (قدس سره)- وغيره وإن كان بعيداً لكن لا بأس به بعد إعراض المشهور عنها بنحو يوجب وهنها))(1).

أقول: هذه الشهرة قابلة للمناقشة بأمور:-

1- صغروياً بعدم ثبوتها بعد مخالفة والد الصدوق وابن الجنيد والسيد المرتضى وعدد من المتأخرين تقدم ذكرهم كصاحب الحدائق، واحتياط جماعة وتوقف آخرين، وذهاب غيرهم إلى التخيير كصاحب المدارك، قال (قدس سره): ((ولو قيل بالتخيير بعد الوصول إلى موضع يسمع فيه الآذان بين القصر

ص: 269


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/ 94.

والتمام إلى أن يدخل البلد كان وجهاً حسناً))(1) وتبعه صاحب الذخيرة.

2- إن هذه الشهرة فتوائية فلا تصلح للترجيح الذي يتحقق بالشهرة الروائية وهي متحققة في الطائفة الثانية بما لا يقل عن الأولى.

3- إن الشهرة إنما تكون مرجحة في ما لو أعرض الأصحاب عن الطائفة الأخرى بحيث كانت من الشاذ النادر، وكان إعراضهم تعبدياً، وروايات الطائفة الثانية لم يعرض عنها الأصحاب حتى من لم يعمل بها فإنه تأوّلها واجتهد في فهمها على غير ظاهرها جمعاً بينهما وبين الطائفة الأولى.

فالشهرة التي تمسكوا بها في المقام غير معتبرة.

والنتيجة: إن الأقوى العمل بالقول الثالث ومقتضاه رجوع المسافر إلى حكم التمام بمجرد دخوله إلى البلد، والعمل بالقول الأول مشكل، ولو حصل تردد فيصار إلى الاحتياط كما عليه البعض، قال صاحب الرياض (قدس سره): ((والاحتياط يقتضي تأخير الصلاة إلى بلوغ الأهل، أو الجمع بين الإتمام والقصر))(2).

أما القول بالتخيير كما على المدارك والذخيرة أخذاً بالطائفتين فهو ضعيف والإجماع المركب على خلافه.

ص: 270


1- مدارك الأحكام: 4/ 459.
2- رياض المسائل: 4/ 373.

أحكام الصوم:

وبتطبيق النتائج السابقة على أحكام الصوم في السفر يتحصّل ما يلي:-

1- لا يجوز للمسافر الذي حكمه الإفطار تناول المفطر إذا خرج من بلده إلا إذا بلغ حد الترخّص.

المناط في ما قلناه من أن المسافر من بلده إذا أراد أن يحافظ على صومه خرج بعد الزوال، خروجه من البلد لا حد الترخص، لأن1- صدق السفر يبدأ من حين الخروج من البلد، أما تأخير التقصير والإفطار إلى حد الترخّص فإنه ثبت بالدليل الخاص.

2- المناط في وجوب الصوم على المسافر إذا رجع قبل الزوال: دخوله البلد قبل الزوال لا حد الترخص ولا منزله.

ومما تقدم يعرف وجه احتياط صاحب العروة، قال (قدس سره): ((والظاهر أن المناط كون الشروع في السفر قبل الزوال أو بعده، لا الخروج عن حد الترخص، وكذا في الرجوع المناط دخول البلد، لكن لا يترك الاحتياط بالجمع إذا كان الشروع قبل الزوال والخروج عن حد الترخص بعده وكذا في العود إذا كان الوصول إلى حد الترخص قبل الزوال والدخول في المنزل بعده))(1).

أقول: في صدر كلامه (قدس سره) اعتراف بأن الشروع في السفر يبدأ من البلد لا من حد الترخص وهذا التزام بالمعنى العرفي الذي ذكرناه، لكنه (قدس سره) اختار في كتاب الصلاة انقطاع حكم القصر عن المسافر عند العود إذا بلغ حد الترخّص واحتاط استحباباً بتأخير الصلاة إلى الدخول في

ص: 271


1- العروة الوثقى: فصل في شرائط وجوب الصوم، المسألة (1).

منزله، أو الجمع بين القصر والتمام إذا صلى قبله بعد الوصول إلى الحد))(1).

(الفرع السادس) من آداب المسافر في شهر رمضان:

مما ذُكر للمسافر من آداب في شهر رمضان:-

1- كراهة التملي من المفطرات أثناء سفره وإن كان معذوراً عن الصوم.

2- استحباب الإمساك عند عودته إلى بلده في الموارد التي لا يصح الصوم منه كقدومه بعد الزوال أو قبل الزوال وقد تناول المفطر.

وكما ترى فإن الموضوع في المسألتين مختلف، إذ موضوع الأولى المسافر أثناء سفره، وموضوع الثانية بعد عودته إلى وطنه، لكن المشهور لم يوضّح هذا الفرق وخلط بين المسألتين حتى استدلوا بروايات إحداهما على الأخرى، فذكروا موثقة محمد بن مسلم الآتية في الأدب الثاني ذكروها في الأول(2).

وعلى أي حال فالكلام في مقامين:-

(الأول) كراهة الجماع والتملي من المفطرات:هل يجوز للمعذور من الصوم –كالمسافر- التوسع في ممارسة المفطرات كيف شاء باعتبار عدم تكليفه بالإمساك عنها؟

وقد فصلنا في عنوان المسألة بين الجماع وغيره من المفطرات خلافاً لما في الكتب الفقهية؛ لأن المفطرات ليست على نحو واحد في الحكم، فإن جواز الأكل والشراب ولو بمقدار الحاجة المتعارفة مما لا خلاف فيه، أما الجماع فيوجد من حرّمه كما سيأتي بإذن الله تعالى، فلا بد من التفكيك في الحديث عنها.

ص: 272


1- العروة الوثقى: فصل في صلاة المسافر، المسألة (57).
2- كما في الحدائق الناضرة: 13/413، مستند العروة الوثقى: 22/32.

ففي المدارك: أن كراهة التملي من الطعام والشراب مما قطع به الأصحاب(1)،وفي المسالك: نفي الخلاف عنه.

أما الجماع فالمشهور كراهة إتيانه، والروايات الواردة في المسألة على طائفتين:

الأولى: ما دل على الجواز، ومنها:-

1- صحيحة عمر بن يزيد قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسافر في شهر رمضان، ألهُ أن يصيب من النساء؟ قال: نعم)(2).

2- موثقة أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يسافر ومعه جارية في شهر رمضان هل يقع عليها؟ قال: نعم).

3- موثقة داود بن الحصين قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسافر في شهر رمضان ومعه جارية أيَقع عليها؟ قال: نعم).

ومثلها روايتا سهل بن اليسع وعبد الملك بن عتبة الهاشمي (ح2، ح3).

الثانية: ما دل على النهي، ومنها:-

1- صحيحة عبد الله بن سنان قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسافر في شهر رمضان ومعه جارية له، أفله أن يصيب منها بالنهار؟ فقال: سبحان الله أما يعرف هذا حرمة شهر رمضان؟!، إن له في الليل سبحاً –أي فراغاً- طويلاً، قلت: أليس له أن يأكل ويشرب ويقصّر؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى قد رخّص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمة وتخفيفاً لموضع التعب والنصب ووعث السفر، ولم

ص: 273


1- مدارك الأحكام: 6/301.
2- الروايات الأربع تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 13، ح1، 4، 7 بنفس الترتيب.

يرخّص له في مجامعة النساء في السفر بالنهار في شهر رمضان، وأوجب عليه قضاء الصيام ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة إذا آب من سفره، ثم قال: والسنة لا تقاس، وإني إذا سافرت فيشهر رمضان ما آكل إلا القوت وما أشرب كل الريّ)(1)،ومثلها روايته الأخرى (ح6، في نفس الباب).

2- رواية(2)

محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سافر الرجل في شهر رمضان فلا يقرب النساء بالنهار في شهر رمضان فإن ذلك محرم عليه).

أقول: يستدل على كراهة التملي من الطعام والشراب بذيل صحيحة عبد الله بن سنان حيث كان المعصوم (عليه السلام) يقتصر على مقدار الحاجة فيتأسّى به، ومراعاة لحرمة شهر رمضان، كما صرّحت به صحيحة عبد الله بن سنان.

أما الجماع فهو موضوع أكثر الروايات، ومقتضى الجمع بين الطائفتين كراهته، وهي في الطعام والشراب أقل كما يظهر من صحيحة عبد الله بن سنان.

ويعمَّم الحكم من المسافر إلى غيره من المعذورين لنفس التعليل الوارد في صحيحة ابن سنان.

وفي مقابل المشهور فإنه توجد عدة أشكال أخرى للتعاطي مع الروايات:-

ص: 274


1- الحديثان تجدهما في نفس المصدر السابق: نفس الباب، ح5، 8.
2- وصفها السيد الحكيم (قدس سره) في (المستمسك: 8/442) بالصحة، وفي سندها –بحسب التهذيب- محمد بن أبي العلاء وهو غير معروف بالرواية سوى موضع واحد في الكافي، لكن الصحيح كما في الاستبصار محمد عن العلاء، وهو موافق لما في الفقيه وبيّنه بأنه محمد بن عبد الله بن هلال وهو مجهول الحال.

1- الأخذ بالطائفة الثانية ونتيجتها القول بالحرمة وحمل الجواز في الطائفة الأولى على حالة الاضطرار إلى الجماع، وهو مختار الشيخين وأبي الصلاح، قال الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة: ((ولا يجامع أحدٌ ممن ذكرناه –أي المعذورين من الصوم- إلا أن تدعوه إلى ذلك حاجة شديدة))(1).

واستدل الشيخ (قدس سره) في التهذيب على الحرمة برواية محمد بن مسلم وروايتي عبد الله بن سنان، ثم قال عن روايات الجواز: ((فهذه الأخبار وما يجري مجراها في إباحة الوطء للمسافر في شهر رمضان محمولة على من غلبته الشهوة ولم يتمكن من الصبر عليها، ويخاف على نفسه الدخول في محظور، فحينئذٍ أبيح له وطء المحللات، فأما من يقدر على الصبر عن ذلك فليس له أن يطأ حسب ما قدمناه.

مع أنه ليس في شيء من هذه الأخبار أن للمسافر أن يطأ ليلاً أو نهاراً، وإنما وردت متعرية من اقتران ذكر الزمان بهما، ويمكن أن يكون المراد بهابالليل دون النهار، غير أنه ورد في بعض الأحاديث ما يتضمن ذكر النهار فالوجه فيه ما ذكرناه))(2)

ثم ذكر موثقة محمد بن مسلم (ح10 من الباب).

وقال (قدس سره) في موضع آخر: ((ليس لمن أفطر في شهر رمضان لعذر أن يواقع أهله، إلا أن يخاف على نفسه من شدة الحاجة إليه، ولا يأمن من مواقعة قبيح فحينئذٍ يسوغ له ذلك، فأما مع الاختيار فلا يجوز))(3).

ص: 275


1- المقنعة، للشيخ المفيد: 352.
2- التهذيب، ج4، باب 58: العاجز عن الصيام، ح16.
3- التهذيب، ج4، باب 61: حكم المسافر يقدم، ح4.

وقال أبو الصلاح في الكافي: ((الفضل عندي أن يوقّر الرجل شهر رمضان ويمسك عن النساء في السفر بالنهار إلا أن يكون يغلبه الشبق ويخاف على نفسه، وقد رخّص له أن يأتي الحلال كما رخّص للمسافر الذي لا يجد الماء إذا غلبه الشبق أن يأتي الحلال، قال: ويؤجر في ذلك كما أنه إذا أتى الحرام أثم))(1).

أقول: يمكن أن يكون وجه هذا القول تصريح رواية محمد بن مسلم بالحرمة، فيُأوَّل الجواز في الطائفة الأولى بحالة الاضطرار وخشية الوقوع في الحرام.

وبتعبير آخر: إننا أمام تصرفين، فإما أن نجمع بين الطائفتين بحمل النهي على الكراهة وهو مسلك المشهور، ولا ضير في ورود لفظ التحريم في رواية محمد بن مسلم؛ لأن التعبير به عن المكروهات مستعمل في النصوص. أو أن نأخذ بصريح الحرمة ونتصرف في الطائفة الأولى بتقييد الجواز بخوف الوقوع في الحرام.

وتصرّف المشهور ليس أقوى من الآخر، فلا يُعدّ قول الشيخين وأبي الصلاح شاذاً نادراً وأنه بلا دليل كما رُدَّ عليه.

وبناءً على مسلك المشهور تكون الكراهة في الجماع شديدة، خصوصاً مع استعمال لفظ التحريم في رواية محمد بن مسلم، وعدم مقايسة الجماع على الأكل والشرب في صحيحة عبد الله بن سنان وجعله قياساً ماحقاً للدين، أي أن تحليل الأكل والشرب –بمقدار الحاجة- لا يلزم منه تحليل الجماع، كما أن إلزام المسافر بقضاء الصوم لا يلزم منه إلزامه بقضاء الناقص من صلاة التمام مع اشتراكهما في الفوت بالسفر.

ص: 276


1- الحدائق الناضرة: 13/415.

فالأمر في الصلاة يدور بين التام والناقص، أما في الصوم فيدور بين الأداء والترك، فالطعام والشراب كالصلاة، أما الصوم فكالجماع من هذه الناحية.

2- العمل بروايات الجواز وحمل روايات الحرمة على التقية.وهو مختار صاحب الحدائق، قال (قدس سره): ((والأظهر عندي حمل هذه الأخبار التي استدل بها الشيخ على التقية، والعامة وإن كانوا هنا على قولين أيضاً فمذهب الشافعي كما نقله في المنتهى موافق للقول المشهور ومذهب أحمد موافق لمذهب الشيخ، إلا أنه لما كان أصحابنا (رضوان الله عليهم) متقدموهم ومتأخروهم عدا الشيخ على القول بالجواز عملاً بالأخبار المتقدمة فإن ذلك يوجب العلم أو الظن المتاخم له بأن ذلك هو مذهب الأئمة (عليهم السلام) فإن مذهبهم إنما يُعلم بنقل شيعتهم وأتباعهم كما أن مذهب كل إمام من أئمة الضلال إنما يُعلم بنقل أتباعه وتدينهم به))(1).

أقول: لا وجه لهذا الحمل، فإن المخالف لا ينحصر بالشيخ (قدس سره) كما قدمنا، فإن لم نأخذ بقول الشيخين وأبي الصلاح فإن ما ذهب إليه المشهور أوفق بالمتفاهم العرفي، إلا أنه (قدس سره) لما أنكر على الأصحاب هذه الطريقة من الجمع في مواضع كثيرة من كتابه فقد اضطر إلى هذا الجمع، قال (قدس سره): ((قد عرفت بما قدّمنا في غير موضع ما في الجمع بين الأخبار بالحمل على الكراهة والاستحباب وإن اشتهر ذلك وصار قاعدة كلية بين الأصحاب))(2).

ص: 277


1- الحدائق الناضرة: 13/415.
2- الحدائق الناضرة:13/415.

وردّ المحقق النراقي (قدس سره) على القولين أعلاه بأنه ((لو قطع النظر عن ذلك –أي الجمع بالحمل على الكراهة- لوجب طرحها –أي روايات الحرمة- للشذوذ المخرج لها عن الحجية، وعلى فرض التعارض يجب الرجوع إلى أصالة عدم التحريم))(1).

أقول: ظهر من ذهاب جملة من أعلام القدماء إلى الحرمة أن هذه الروايات ليست شاذة.

3- حمل روايات الجواز على التقية.

قال المحدث الكاشاني (قدس سره): ((ويشبه أن يكون الحكم بالجواز ورد مورد التقية، والاحتياط هنا مما لا ينبغي تركه))(2).

أقول: يرد عليه ما أوردناه على صاحب الحدائق (قدس سره).فالصحيح هو كراهة التملي من الطعام والشراب للمعذور أكثر من الحاجة الاعتيادية، والكراهة أشد في إتيان الجماع؛ مراعاة لحرمة شهر رمضان، وهذا التفريق واضح من صحيحة عبد الله بن سنان وموثقة سماعة.

(الثاني) الإمساك التأديبي:

وقد عُبر عنه بصوم التأديب، وله موارد، قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((قد صرّح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يستحب الإمساك تأديباً –وإن لم يكن ذلك صياماً- في مواطن: المسافر إذا قدم أهله أو بلداً يعزم الإقامة فيها بعد الزوال أو قبله وقد أفطر))(3)

إلى آخر الموارد.

ويدل عليه:-

ص: 278


1- مستند الشيعة: 10/373.
2- الوافي: 11/159، كتاب الصيام، باب 49.
3- الحدائق الناضرة: 13/416.

1- موثقة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقدم من سفر بعد العصر في شهر رمضان فيصيب امرأته حين طهرت من الحيض أيواقعها؟ قال: لا بأس).

2- موثقة سماعة قال: (سألته عن مسافر دخل أهله قبل زوال الشمس وقد أكل، قال: لا ينبغي له أن يأكل يومه ذلك شيئاً ولا يواقع في شهر رمضان إن كان له أهل) (1).

3- رواية محمد بن عيسى عن يونس قال: (قال في المسافر الذي يدخل أهله في شهر رمضان وقد أكل قبل دخوله، قال: يكفّ عن الأكل بقية يومه وعليه القضاء).

4- رواية الزهري عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث قال: (أما صوم التأديب فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم، إلى أن قال: وكذلك المسافر إذا أكل أول النهار ثم قدم أهله أُمر بالإمساك بقية يومه وليس بفرض).

5- رواية الجعفريات بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في حديث: (وإن هي اغتسلت من حيضتها وجاء زوجها من سفر فليكفَّ عن مجامعتها، فهو أحبّ إلي إذا جاء في شهر رمضان) (2).أقول: مقتضى الجمع بين الجواز والنهي هو القول بالكراهة، وهو ظاهر موثقة سماعة والجعفريات والزهري، للتعبير عن الحكم ب-(لا ينبغي) و (هو أحب إليّ) و (صوم التأديب).

ص: 279


1- الأحاديث الأربعة الأولى تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 7، ح 1، 2، 3، 4.
2- مستدرك الوسائل، ج7، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح1.

ويلاحظ أن موثقة سماعة صريحة في حكم من دخل أهله قبل زوال الشمس وقد أكل، أما من دخل أهله بعد زوال الشمس بحيث لا يصح منه الصوم على المشهور –سواء أكل أو لم يأكل- فيُتمسَّك للجواز بموثقة محمد بن مسلم وموثقة سماعة الآتية في الهامش، ويستدل على الكراهة بجمعها مع إطلاقات روايات يونس والزهري والجعفريات، وإذا أشكل على سندها، تُمّمت دلالتها بقاعدة التسامح بأدلة السنن، والتشبّه بالصائمين بالإمساك عن المفطرات من سنن شهر رمضان.

ومنه يُعلم جواب ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من التفريق، قال (قدس سره): ((وأمّا بالنسبة إلى من دخل بعد الزوال فلم نجد عاجلاً ما يدلّ على استحباب الإمساك، بل لعلّ الوجه الاعتباري يقتضي التفصيل واختصاص الاستحباب بالأول، نظراً إلى أنّ الداخل ما قبل الزوال بما أنّه كان في معرض الوجوب لفعليّته عليه لو لم يفطر في الطريق فيستحبّ له التشبّه بالصائمين مواساةً بهم.

وأمّا الداخل بعد الزوال فحاله من حيث عدم وجوب الصوم عليه معلوم، سواء أكل أم لا.

وكيفما كان، فلم نعثر على ما يدلّ على الاستحباب في الثاني. نعم، دلّت رواية سماعة المتقدّمة(1) –التي عرفت أنّها ضعيفة السند بعلي بن السندي- على عدم التجاهر بالأكل ظاهراً، احتراماً لشهر رمضان، ولكن هذا

ص: 280


1- موثقة سماعة قال: (سألته عن الرجل كيف يصنع إذا أراد السفر؟ إلى أن قال: إن قدم بعد زوال الشمس أفطر ولا يأكل ظاهراً، وإن قدم من سفره قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم إن شاء) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 6، ح7.

أمر آخر غير استحباب الإمساك حتّى في بيته، الذي هو محلّ الكلام كما لا يخفى))(1).

أقول: تبيّن مما تقدم وجود عدة روايات في حكم ما بعد الزوال بعد تتميمها بما ذكرناه.

ويمكن التقدم خطوة وادعاء وجوب الإمساك على هؤلاء؛ لأنهم مخاطبون بالصوم، وتناولهم المفطر حال السفر لعذر لا يلغي هذا الوجوب إذا حضروا، لاجتماع الشرائط وزوال المانع وهو العذر، فالمقتضي –وهو الوجوب- موجود والمانع –وهو العذر- مفقود، وإن وجب عليهم القضاء، كذي العطاش أو من أفطر متعمداً فليس له تناول المفطر مرة أخرى بحجة انتفاء موضوع الصوم لأن المنتفي صحة الصوم وليس موضوعه، ورواية يونس ظاهرة في الوجوب لورود الجملة الخبرية في الجواب، فتحمل عليه موثقة سماعة، واستعمال (لا ينبغي) في الحرمة مألوف.ولا يضر نفي الوجوب في رواية الزهري لأنه من العامة فلا تقوى على المعارضة مع إمكان توجيهها.

وأما الداخل بعد الزوال فهو أوضح بوجوب الإمساك؛ لأن حكمه عدم صحة الصوم منه ووجوب القضاء، وليس سقوط الوجوب عنه كما ذكر (قدس سره)، وثمرته: وجوب الإمساك عليه. والنتيجة وجوب الإمساك مطلقاً سواء كان دخوله قبل الزوال أو بعده.

وهذا ما قال به الشيخ المفيد (قدس سره) فقد ذكر في المقنعة: ((وإذا أفطر المريض يوماً من شهر رمضان ثم صحّ في بقية يومه وقد أكل وشرب فإنه يجب عليه الإمساك وعليه القضاء لذلك اليوم، وكذلك المسافر إذا قدم في بعض النهار إلى منزله))(2).

ص: 281


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/20.
2- المقنعة: 354.

أقول: لكن يرد عليه ما في موثقة محمد بن مسلم –وهي الأولى في المجموعة- فتكون هذه المعتبرة قرينة على صرف ما ظاهره الوجوب إلى الاستحباب الذي تمت تقريباته، إذ من البعيد أن نقيد وجوب الإمساك بالطعام ولا يشمل الجماع، أو نقيد الوجوب بما قبل الزوال لاختصاص الجواز في هذه الموثقة بما بعد الزوال فنقول بالتفصيل بين ما قبل الزوال فيجب الإمساك، أو ما بعده فيستحب، ويمكن أن يكون الوجه الاعتباري الذي ذكره السيد الخوئي (قدس سره) قرينة عليه لكنه نفى الاستحباب أيضاً عما بعد الزوال.

لكن يمكن رد الإشكال بالموثقة بأن قوله: (بعد العصر) لا يدل على الفورية فيمكن حمله على التراخي فيشمل ما بعد الغروب.

إن قلتَ: هذا الحمل لا يُبقي معنى للسؤال للجزم بجواز الجماع ليلاً في شهر رمضان.

قلتُ: يمكن أن يكون السؤال مسوقاً لحالة أخرى وهي جواز مواقعة الزوجة بمجرد نقائها من الدم وإن لم تغتسل فتكون أجنبية عن محل البحث ويكون قول السائل: ((بعد العصر)) لاستثناء المانع من جهة الصوم.

وعلى أي حال فإن الحكم بوجوب الإمساك تقتضيه القواعد على مختارنا من كون الحضر وما بحكمه من شرائط الصحة فواضح، وأما على مبناهم من كونه شرطاً للوجوب فالأمر كذلك لأن المفروض اجتماع شروط الوجوب بالحضر ولا ينفيه تناول المفطر لعذر كما قدمنا.

فالسيد الخوئي (قدس سره) والمشهور مطالبون بالدليل على جواز تناول المفطر لمثله بعد أن وجهنا موثقتي محمد بن مسلم وسماعة، ولا يكفيهم انتفاء موضوع صحة الصوم؛ للنقض عليه بالموارد المتقدمة كمن أفطر متعمداً في شهر رمضان، أو لحرج أو تقية فإنه لا يجوز له الاسترسال بتناول المفطر.

ص: 282

البحث الثاني: مسائل في قضاء صوم المسافر

اشارة

ص: 283

ص: 284

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثاني

البحث السادس : مسائل في قضاء صوم المسافر

يفترق قضاء الصوم إذا فات بسبب السفر عن قضائه إذا فات بسبب الأعذار الأخرى في بعض الأحكام، ويتبين ذلك من خلال عدة موارد جعلناها في البحث السابق كاشفة عن كون الحضر وما بحكمه من شروط الواجب –أي الصحة- لا الوجوب، خلافاً للمشهور الذي ادعي عليه الإجماع.

ويمكن جعلها كاشفاً(1) عن كون الإفطار في السفر هو رخصة وليس عزيمة بحسب الحكم الأولي، وإنما يصبح محرّماً إذا اقترن بالعنوان الثاني كمعصية أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فنختار هنا مسائل ثلاث تؤكد هذا الفرق:

المسألة الأولى

اشارة

إذا فات شهر رمضان أو بعضه بمرض أو حيض أو نفاس، ومات المكلف في نفس شهر رمضان أو بعده بحيث لم يتمكن من القضاء لاستمرار العذر، لم يجب القضاء عنه، لكن الفوات إذا كان بسبب السفر وجب على وليه القضاء عنه، مطلقاً حتى لو لم يتمكن من القضاء.

فهنا مطلبان:

ص: 285


1- وتنضمّ بذلك إلى عدة موارد تقدمت في أصل البحث عن صوم المسافر حيث قرأنا عدة روايات في أحكام مختلفة بقراءة تدل على هذا الاحتمال.

(المطلب الأول) عدم وجوب القضاء عنه لو كان الفوات بمرض أو حيض أو نفاس ومات قبل أن يتمكن من القضاء، وهو حكم مجمع عليه، وقد دلّت عليه عدة روايات منها:-

صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: (سألته عن رجل أدركه رمضان وهو مريض فتوفي قبل أن يبرأ؟ قال: ليس عليه شيء ولكن1- يقضى عن الذي يبرأ ثم يموت قبل أن يقضي)(1).

2- صحيحة أبي مريم الأنصاري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا صام الرجل شيئاً من شهر رمضان ثم لم يزل مريضاً حتى مات فليس عليه قضاء..، وإن صحّ ثم مات صام عنه وليه) الحديث.

3- رواية(2)

منصور بن حازم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المريض في شهر رمضان فلا يصح حتى يموت؟ قال: لا يقضى عنه، والحائض تموت في شهر رمضان؟ قال: لا يقضى عنها)(3).

ص: 286


1- هذه الرواية والتي بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان باب 23 ح2، 7.
2- وصفها السيد الخوئي (قدس سره) بالصحيحة (المستند: 22/181) وفي سندها محمد بن عبد الحميد وهو مختلف في وثاقته؛ للاختلاف في فهم كلام النجاشي فيه: ((محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار، روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين، له كتاب النوادر رواه عنه عبد الله بن جعفر)) (رجال النجاشي: 339، رقم (906). أقول: أرجع بعضٌ التوثيق إلى محمد وبعضٌ –كالسيد الخوئي (قدس سره)- إلى الأب فيكون محمد مجهول الحال، لكن السيد الخوئي (قدس سره) بنى على توثيقه لوروده في كامل الزيارات وهي كبرى عدل عنها. ولا نبني على كفاية مثل قول العلامة (قدس سره) في الخلاصة: ((طريق محمد بن علي بن بابويه إلى منصور بن حازم صحيح)) (الخلاصة: 227) وفيه محمد بن عبد الحميد؛ لأنه رأي اجتهادي وليس شهادة حسية.
3- هذه الرواية والروايات الأربع التي تليها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 23، ح9، 10، 14، 13، 12 على الترتيب.

4- موثّقة سماعة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل دخل عليه شهر رمضان وهو مريض لا يقدر على الصيام فمات في شهر رمضان أو في شهر شوال؟ قال: لا صيام عليه ولا يقضى عنه، قلت: فامرأة نفساء دخل عليها شهر رمضان ولم تقدر على الصوم فماتت في شهر رمضان أو في شوال؟ فقال: لا يقضى عنها).

5- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته عن الحائض تفطر في شهر رمضان أيام حيضها فإذا أفطرت ماتت؟ قال: ليس عليها شيء).

6- مرسلة عبد الله بن بُكير عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل يموت في شهر رمضان، قال: ليس على وليه أن يقضي عنه ما بقي من الشهر، وإن مرض فلم يصم رمضان ثم لم يزل مريضاً حتى مضى رمضان وهو مريض ثم مات في مرضه ذلك فليس على وليه أن يقضي عنه الصيام، فإن مرض فلم يصم شهر رمضان ثم صح بعد ذلك ولم يقضه ثم مرض فمات فعلى وليه أن يقضي عنه؛ لأنه قد صح فلم يقض ووجب عليه).

7- رواية(1) أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة

ص: 287


1- وصفها عدد من الأعلام بالصحيحة كالعلامة (قدس سره) في (مختلف الشيعة: 3/401) والمحقق النراقي في مستند الشيعة: 10/442 وكذا السيد الخوئي (قدس سره) في (المستند: 22/182، 184) والسيد السيستاني في (محاضرة بتأريخ 15 شوال 1417)، وفي سند الرواية محمد بن يحيى وهو مشترك بين الثقة وغيره، ووصف سندها بالصحة يعني أنه بنى على أنه الخثعمي أو الخزاز وكل منهما ثقة، وهو ظن ليس بعيداً، إلا أننا لو حاسبناه –أي السيد الخوئي (قدس سره)- على ما عنده (قدس سره) من معلومات فإن هذا لم يثبت؛ لأن عنوان (محمد بن يحيى) الذي روى عنه علي بن الحكم –كما في المقام- مشترك لا يتعين بأحدهما، أما المعنون بالخزاز والخثعمي فلم يذكر علي بن الحكم في من روى عنهما (راجع معجم رجال الحديث: 18/30-34) فلا دليل على ما ذهب إليه، ومجرد توافق الطبقة غير كافٍ كما هو واضح إلا إذا لم يشاركهما غير الثقة في ذلك، ولا تمييز بالراوي والمروي عنه.

مرضت في شهر رمضان وماتت في شوال فأوصتني أن أقضي عنها؟ قال: هل برئت من مرضها؟ قلت: لا، ماتت فيه، قال: لا تقضي عنها، فإن الله لم يجعله عليها، قلت: فإني أشتهي أن أقضي عنها وقد أوصتني بذلك؟ قال: كيف تقضي عنها شيئاً لم يجعله الله عليها، فإن اشتهيت أن تصوم لنفسك فصم).

8- موثقة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ومثلها صحيحته الآتية وفيها (ثم قال لي: أرأيت لو أن رجلاً مرض في شهر رمضان ثم مات فيه أكان يُصام عنه؟ قلت: لا). وهي من المرجّح المساوي –الذي أسسناه- لو كان ثَمَّ تعارض.

أقول: الروايات صريحة في إفادة المطلوب، وعُلِّل الحكم في مرسلة ابن بكير ورواية أبي بصير بأن وجوب القضاء لا يستقر حتى تتمكن منه بأن تصحّ في وقت يمكن قضاء الصوم فيه، وإلا فلا يجب.

أي أن لوجوب القضاء ركنين: زوال العذر –وهو المرض-، وكون الوقت مما يصح القضاء فيه. وقد عُبِّر عن مجموع الآمرين بالتمكن من القضاء.

فهذه الروايات أخرجت المريض والحائض والنفساء من عموم وجوب القضاء الوارد في الآية الكريمة.

ويظهر من بعض الروايات أن هذا الحكم كان مسلّماً عند أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، كما في صحيحة زرارة وهي طويلة وفيها (لو أن رجلاً مرض في شهر رمضان ثم مات فيه أكان يصام عنه؟ قلت: لا، قال: فكذلك

ص: 288

الرجل لا يؤدي عن ماله إلا ما حال عليه الحول)(1).أقول: هذه الرواية خير مثال لفكرة المرجّح المساوي التي طرحناها فيما سبق(2) لو وُجد معارض لروايات سقوط القضاء.

(المطلب الثاني) وجوب القضاء عنه إذا كان سبب الفوت السفر مطلقاً حتى لو لم يتمكن من القضاء.

ويدل عليه من القرآن الكريم عموم قوله تعالى: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» (البقرة:184) ما دام لا يوجد دليل على إخراج المورد من عمومها كما خرج عنوان المرض والحيض والنفاس، بضميمة ما دل على أن ما اشتغلت به ذمة الميت يجب على وليّه قضاؤه.

لا يقال: إن إطلاق الآية قاصر عن شمول المقام ((لظهور الإطلاق في أمر المكلف نفسه بالقضاء، وحيث يمتنع ذلك في مستمر العذر ونحوه كما في المقام لم ينهض الإطلاق المذكور بإثبات انشغال ذمته بالقضاء ليشرع تفريغها بالقضاء عنه))(3).

فإنه يقال: إن الامتناع المذكور غاية ما ينتج معذورية المكلف عن أداء القضاء، ولا يمنع من ثبوت القضاء في ذمته فيقضي عنه وليه.

كما تدل على وجوب القضاء عن المسافر وإن لم يتمكن من القضاء عدة روايات منها:-

1- موثّقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت فماتت قبل أن يخرج رمضان، هل

ص: 289


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة النقدين، باب 11، ح5.
2- بحسب ترتيب الدروس والطبعة الأولى، أما في هذه الطبعة فهي في: 6/285.
3- مصباح المنهاج: الصوم، 351

يقضى عنها؟ فقال: أما الطمث والمرض فلا، وأما السفر فنعم)(1).

2- صحيحة(2)

أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت فماتت قبل خروج شهر رمضان، هل يقضى عنها؟ قال: أما الطمث والمرض فلا، وأما السفر فنعم).

3- رواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يسافر في شهر رمضان فيموت، قال: يقضى عنه، وإن امرأة حاضت في شهر رمضان فماتت لم يقض عنها، والمريض في شهر رمضان لم يصح حتى مات لا يقضى عنه).

4- موثّقة أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل سافر في شهر رمضان فأدركه الموت قبل أن يقضيه؟ قال: يقضيه أفضل أهل بيته).

أقول: يقرَّب الاستدلال بهذه الموثقة من جهة إطلاق وجوب القضاء عنه سواء تمكن منه أو لم يتمكن.

وهذا التفصيل بين السفر وغيره هو القول المعتمد لدى أكثر متأخري المتأخرين منذ صاحب الحدائق (قدس سره) حتى اليوم، وحكي عن بعض القدماء كما ((عن التهذيب والفقيه والمقنع والجامع للشرائع واختاره في المدارك))(3).

ص: 290


1- الروايات الأربع تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 23، ح 16، 4، 15، 11.
2- هكذا وصفها جملة من الأعلام بالصحيحة كصاحب الحدائق (قدس سره) (الحدائق الناضرة: 13/330) والنراقي (قدس سره) في (مستند الشيعة: 10/440) والسيد الخوئي (قدس سره) في (المستند: 22/185) وستأتي مناقشة سندها بإذن الله تعالى.
3- مستند الشيعة: 10/440.

قول مشهور بإلحاق السفر بغيره:

لكن المشهور لدى القدماء والمتأخرين وقليل من متأخري المتأخرين كالسيد صاحب الرياض (قدس سره) والشيخ الأنصاري(1)

(قدس سره)، بحيث ادعي عليه الإجماع واعتبر المخالف شاذاً، هو عدم الفرق بين السفر وغيره من الأعذار فلا يجب القضاء عن الجميع، وحكى الشيخ (قدس سره) الإجماع عليه، قال: ((إذا أفطر رمضان ولم يقضه ثم مات فإن كان تأخيره لعذر مثل استمرار المرض أو سفر لم يجب القضاء عنه ولا الكفارة، وبه قال الشافعي، دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً فإن إيجاب ذلك يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه))(2).

أقول: إجماعات الشيخ (قدس سره) ليست مبنية على استقراء كلمات الأصحاب السابقين ليكون إجماعاً حقيقياً، وإنما بنيت على أن ما فهمه من الروايات أو ما استنبطه من القواعد هو ما ينبغي أن ينعقد الإجماع عليه.

وقد نقلنا خلاف جملة ممن تقدموا عليه ومنهم هو (قدس سره) في التهذيب، فقد نقل العلامة (قدس سره) قوله: ((إن ما يفوت في السفر يجب قضاؤه على الولي على كل حال، سواء مات في السفر أو تمكّن من قضائه ولم يقضه))(3)

لكن قوله (قدس سره) في النهاية موافق لما في الخلاف.

وقال صاحب الحدائق (قدس سره): ((أما في السفر فظاهر الأكثر أيضاً أنهكذلك، فلو لم يتمكن من القضاء لم يجب القضاء عنه))(4).

وقال السيد صاحب الرياض (قدس سره) عند قول المحقق الحلي

ص: 291


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الصوم: 296.
2- الخلاف: 2/207، المسألة (64).
3- مختلف الشيعة: 3/399، المسألة (120).
4- الحدائق الناضرة: 13/330.

(قدس سره) في المختصر النافع: ((وروي القضاء عن المسافر ولو مات في ذلك السفر، والأولى مراعاة التمكن ليتحقق الاستقرار)) قال (قدس سره) عن روايات هذا الحكم: ((وهي – مع قصور أكثرها سنداً وضعف بعضها دلالةً- لم أرَ عاملاً بها صريحاً، بل ولا ظاهراً، عدا الشيخ في التهذيب، مع أنه رجع عنه في الخلاف إلى ما عليه الماتن وأكثر الأصحاب مدعياً عليه الإجماع، وهو الأقوى))(1).

أقول: الذي يمكن أن يستدل به لهؤلاء العلماء الأعلام أو يبرّر لهم عدم العمل بروايات التفريق بين السفر وغيره أمور قيلت أو يمكن أن تقال:

أولها: ما تقدم في كلمات الشيخ (قدس سره) من عدم الدليل على وجوب القضاء والأصل وعدمه، ولعله لذلك قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((والظاهر أن من ذهب من أصحابنا إلى المشهور لم يقف على هذه الأخبار كملاً، ولذلك أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد أن نقل عبارة المصنف –وهي قوله: ولا يقضي الولي إلا ما تمكن الميت من قضائه فأهمله إلا ما يفوت بالسفر فإنه يقضى ولو مات مسافراً على رواية- قال: هي رواية منصور بن حازم .. ثم ساق الرواية ثم قال بعد ما اختار قول المشهور: والرواية مع عدم صحة سندها يمكن حملها على الاستحباب أو الوجوب لكون السفر معصية وإن بعد))(2).

أقول: كيف يُتصوَّر عدم وقوفهم على هذه الأخبار وقد رواها الشيخ (قدس سره) بنفسه في التهذيب وبنى على القضاء عن المسافر مطلقاً، فلا بد أنه يريد عدم الدليل المعتبر كما صرّح به صاحب الرياض (قدس سره) فيما نقلناه عنه آنفاً وغيره؛ للمناقشة في هذه الروايات كما سيأتي بإذن الله تعالى.

ص: 292


1- رياض المسائل: 5/442.
2- الحدائق الناضرة: 13/331.

وعلى أي حال فإن هذا الوجه قابل للمناقشة من عدة جهات:-

1- إننا لا نحتاج إلى دليل لوجوب القضاء على المسافر لإطلاق الآية الشريفة، وإنما يحتاج إلى الدليل من يُخرج بعض الموارد من وجوب القضاء كما في المطلب الأول، فنفس عدم وجود ما يُخرج المسافر من وجوب القضاء كافٍ لاشتغال ذمته به.

2- الدليل موجود وهي روايات الطائفة الثانية لصراحة بعض الروايات وصحة أسانيد عدة منها.

أما المناقشات التي أوردت على هذه الروايات أو يمكن إيرادها على مبانيهمفهي (تارة) من حيث السند (وأخرى) من حيث الدلالة.

أما من حيث السند فيمكن أن يقال بضعف سند رواية محمد بن مسلم لأن الشيخ نقلها بطريقه عن ابن فضال وهو ضعيف، وكذا تُضعّف لنفس السبب رواية منصور بن حازم مضافاً إلى وجود محمد بن الربيع في السند وهو لم يوثّق.

وقد أجبنا عن هذا الإشكال بتصحيح طريق الشيخ إلى ابن فضال بوجه ذكرناه سابقاً(1).

ونضيف لهم إمكان الإشكال على صحيحة أبي حمزة بما لم يُلتفت إليه في ما توفّر لديَّ من كتب الأصحاب، فقد رواها الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه بإسنادهما عن علي بن الحكم عن أبي حمزة.

وفي هذا السند شبهة إرسال لأن علي بن الحكم –وهو من أصحاب الإمام الجواد (عليه السلام) وذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) في رجال الإمام الرضا (عليه السلام)- لا يمكنه الرواية مباشرة عن طبقة أبي حمزة الثمالي الذي توفي بعد الإمام الصادق (عليه السلام) بسنتين (وليس في حياة

ص: 293


1- تأخّر هذا البحث في هذه الطبعة فتجده في فقه الخلاف: 5/214.

الإمام الصادق (عليه السلام) كما في معجم رجال الحديث: 5/92).

وقد وقع مثل هذا السقط والتصحيف، كذكر أبي حمزة بدل علي بن أبي حمزة كثيراً في روايات علي بن الحكم (راجع معجم رجال الحديث، ج11).

وهذا الإسناد أولى بالإشكال مما ذكر في ترجمة الحسن بن محبوب حيث أشكل على روايته عن أبي حمزة الثمالي بلا واسطة مع أنه لم يدرك حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، وأولوية الإشكال من جهة أن الحسن أقدم طبقة من علي بن الحكم.

ويجاب بأن هذا الإشكال في السند وارد إلا أنه لا يضر باعتمادها؛ لأن مضمونها صحيح بموثقة محمد بن مسلم.

(أما) من حيث الدلالة فيقال عن الأُوَل –كما في النص الآتي للشهيد الثاني في المسالك- بأنها محمولة على ما إذا كان السفر سفر معصية أو كونها ظاهرة في الاستحباب، أو أن السؤال عن جواز القضاء وعدمه وليس وجوبه –كما عن الشيخ الأنصاري (قدس سره)-، فأجاب الإمام (عليه السلام) بجوازه عن المسافر دون المريض ونحوه.

ويرد عليها: أنها محامل بعيدة وخلاف الظاهر كما ورد الإقرار بذلك في كلمات الشهيد الثاني (قدس سره).

كما يمكن الإشكال على موثقة أبي بصير من جهة الدلالة، إذ قد يشكل على الإطلاق بأنه غير تام لأن الحديث ليس بصدد البيان من هذه الجهة بل من جهة من يتحمل القضاء عن الميت أو سقوطه بالموت.إلا أن يجاب بأن هذا غير محتمل في حق أبي بصير وأمثاله فلا بد أن يكون السؤال عمّا نحن فيه من ثبوت القضاء على الولي وإن لم يتمكن الميت من القضاء.

أو يشكل عليها من جهة ظهور جواب الإمام (عليه السلام) بكونه

ص: 294

استحبابياً، ولو كان واجباً لكان على أكبر الأولاد الذكور قضاؤه.

ويجاب: بأن مثل هذا الاختلاف في التعابير أمر معروف في الروايات.

ولعل الإشكالات المتقدمة جعلت صاحب الرياض (قدس سره) يقول قوله المتقدم فيها وكذا غيره حتى وصف هذا القول بالشذوذ.

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((وهذه الروايات –مضافاً إلى ما في سندها- مخالف لعمل المشهور، حتى قيل: إنه لا عامل بها عدا الشيخ في التهذيب، مع أن الروايتين الأوليين ليستا صريحتين في الوجوب، إذ يحتمل أن يكون عن جواز القضاء عن المرأة إذا ماتت غير متمكنة عن القضاء فأجاب (عليه السلام) بعدم الجواز في المرض والطمث وبالجواز في السفر))(1).

أقول: رمي القول بالتفريق بالشذوذ والندرة لا يضره؛ لعدم تماميته صغروياً: لذهاب عدد من القدماء إلى هذا القول كما عن الفقيه والمقنع والشيخ في التهذيب والجامع للشرائع.

وكبروياً: لأن الإعراض اجتهادي كما هو واضح من كلماتهم وليس تعبدياً.

وعلى أي حال فإن مثل هذه الروايات كافية لحصول الاطمئنان بالحكم كما هو المعروف لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) مع ما قلناه من عدم الحاجة إلى الدليل على الوجوب.

ثانيها: تقريب دلالة بعض الروايات على إلحاق السفر بغيره في الحكم(2)،وحينئذٍ يكون مقتضى الصناعة حمل ما دلّ بظاهره على وجوب القضاء عن الميت في الروايات الأربع المتقدمة على الاستحباب وبذلك نحصل

ص: 295


1- موسوعة الشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الصوم: 297.
2- وردت هذه التقريبات في عدة مصادر منها (مستند الشيعة: 10/441) ومستمسك العروة الوثقى: 8/49) و (المستند في شرح العروة الوثقى: 22/183).

على وجه آخر للحمل على الاستحباب الذي قاله الشهيد الثاني (قدس سره) وغيره:

(منها) مرسلة ابن بكير المتقدمة في روايات المطلب الأول، فقد ورد في ذيلها (فإن مرض فلم يصم شهر رمضان ثم صح بعد ذلك ولم يقضه ثم مرض فمات فعلى وليه أن يقضي عنه؛ لأنه قد صح فلم يقض ووجب عليه) ((فإن تعليل القضاء بقوله: (لأنه قد صحّ..) إلى آخره، يكشف عن أن مورده من كان متمكناً منه فلم يقضِ، فيستفاد من سقوطه عمن لم يكن متمكناً منه، فيعمّ المسافر الذي مات قبل أنيتمكن من القضاء))(1).

وأُجيب بأنه ((حكم مختص بمورده وهو المريض فقسمه إلى قسمين: قسم استمر به المرض فلا يقضى عنه، وقسم برئ منه وصح ولم يقض فمرض ومات فيقضى عنه، فلا وجه للتعدي عن مورده إلى كل من تمكن ولم يقض كالمسافر كما لا يخفى.

على أنها ضعيفة السند بالإرسال، فلا تصلح للاستدلال))(2).

أقول: هذا الجواب صحيح لأن تقريب التعميم مبني على تنقيح المناط وهو ليس بحجة، لكن يرد على قائله –وهو السيد الخوئي (قدس سره)- بأنه لم يعطنا خصوصية للتفريق، إذ أنهم يرون السفر كالمرض أعذاراً نافية للوجوب فالمناط فيهما واحد، وحينئذٍ يكون التجريد عن الخصوصية ظاهراً على مبانيهم لأن التعليل بأنه (قد صحّ..) يراد منه التمكن من القضاء وليس الصحة بذاتها، فيكون حكم المسافر الذي لم يتمكن من القضاء كالمريض ونظرائه.

نعم هذا الجواب يصحّ على مبانينا من التفريق بين السفر وغيره من الأعذار المذكورة من حيث كونها شروط وجوب أو شروط صحة.

ص: 296


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/183.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/183-184.

وأما الإرسال فيمكن دفعه بما قربناه سابقاً من دلالة قول ابن بكير (بعض أصحابنا) على التوثيق عرفاً.

ولو تنزلنا وقلنا بأن للتعليل عموماً فإنه مقيد بغير المسافر، فلا تصل النوبة إلى الجمع بحمل ما ظاهره وجوب القضاء على الاستحباب؛ لأن التصرف في الموضوع –بإخراج السفر من عموم التعليل- مقدَّم رتبةً على التصرف في الحكم بحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب، بل هو وارد عليه ومزيل لموضوعه أصلاً.

(ومنها) صحيحة أبي بصير المتقدمة (رقم (7) من الطائفة الأولى) ((فإن مقتضى عموم التعليل في قوله (عليه السلام): (فإن الله لم يجعله عليها) أن كل من لم يجعل الله عليه ذلك –ومنه المسافر- لا يقضى عنه.

ويندفع بأنه إنما يتجه لو كان مرجع الضمير في قوله (عليه السلام): (لم يجعله) هو الصوم، ولم يثبت بل لا يمكن المساعدة عليه للزوم تخصيص الأكثر فإن كثيراً ممن لم يجعل الله الصوم عليه يجب عليه أو عنه القضاء كالحائض والنفساء والمريض والمسافر إذا تمكنوا من القضاء. فالظاهر أن مرجع الضمير هو (القضاء) ويستقيم المعنى حينئذ وهو أن كل من لم يجعل الله عليه القضاء فلا يقضى عنه، لأن القضاء عنه فرع ثبوت القضاء عليه. والمريض لا قضاء عليه بمقتضى النصوصالمتقدمة. وأما المسافر فلم يرد فيه مثل تلك النصوص، بل مقتضى إطلاق الآية المباركة وجوب القضاء، فإن تمكن يأتي به مباشرة وإلا فيقضى عنه))(1).

أقول: أصل التقريب غير تام، وجوابه (قدس سره) عليه كذلك.

أما أصل التقريب، بناءً على أن المراد بالجعل: وجوب الصوم؛ فلأنه

ص: 297


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/184.

مصادرة على المطلوب لأن كون الصوم غير واجب على المسافر أول الكلام وهو محل الخلاف، إذ إننا نقول بوجوبه إلا أنه لا يصح منه، لذا فتصحيحه (قدس سره) لتقريب المستدل بناءً على هذه القراءة ليس في محله.

وسيأتي أنه بناءً على إرجاع الضمير إلى الصوم فإنها تدل على عكس مطلوبهم.

وأما جوابه (قدس سره) فيرد عليه:-

1- الإشكال فنّياً على صياغته حين جعل التمكن من القضاء قيداً للحكم بوجوب القضاء، إذ على هذه الصياغة لا يصح النقض المذكور؛ لأن وجوب القضاء على الحائض والنفساء والمريض ليس مطلقاً وإنما مراعى بالتمكن من القضاء، فلا يصح أن يقال إن هؤلاء لا وجوب عليهم أداءً وعليهم القضاء، ويصحّ أن يقال أن هؤلاء لا أداء عليهم كما لا قضاء عليهم في الجملة لوجود شرط وهو التمكن من القضاء، فلا قضاء عليهم إلا إذا تمكنوا، إذ أن هذا القضاء بأمر جديد وتنجّزه مشروط بشيء آخر غير الفوات وهو التمكن منه المتضمن لزوال العذر وأهلية الزمان للقضاء، لذا لم يجب إذا لم يتمكنوا من القضاء. فلا يتم الجواب المذكور، ويبقى الإشكال على مبانيهم.

2- ولو كان مرجع الضمير (القضاء) فإن الإشكال باقٍ أيضاً ولا يمكن إلزام الخصم به؛ لأن أدلة وجوب القضاء على المسافر من الآيات والروايات –أي الطائفة الثانية- لم يعتمدها الخصم فيكون القضاء عنه مصادرة على المطلوب، ولو كانت تامة عنده لثبت وجوب القضاء عنه بها مباشرة، وتكون مخصصة لعموم التعليل هذا كما تقدم.

3- على هذا الجواب تكون الصحيحة أجنبية عن المقام لأنها تصبح دليلاً على الحكم بتفرع وجوب القضاء عن الميت على وجوبه عليه قبل موته، وهذا غير ما نحن فيه.

ص: 298

4- قوله (قدس سره): ((لأن القضاء عنه فرع ثبوت القضاء عليه)) وهو مسلَّم عنده، وينقض عليه بنفس المورد الذي هو بصدده، فإن من أفطر لسفر ومات لم يجب عليه القضاء لعدم التمكن ومع ذلك فقد دلت النصوص على وجوب القضاء عنه.ثالثها: ما ذكره المحقق النراقي (قدس سره) حاكياً له عن صاحب الرياض (قدس سره) وغيره وهو حاصل الجمع بين الوجهين السابقين فاستدلوا ب-((الأصل السالم عن المعارض بالمرة لاختصاص عمومات القضاء عن الميت بما إذا وجبت عليه، وقصور ما استدل به للقول الأول –أي وجوب القضاء مطلقاً سواء تمكن من القضاء أم لا- عن إفادة الوجوب رأساً، وعموم غير صحيحة أبي حمزة بالنسبة إلى المتمكن من القضاء وغيره، فيخصّ بالأول للخبر المعلل –أي مرسلة ابن بكير وصحيحة أبي بصير- غاية الأمر تعارضهما والرجوع إلى الأصل))(1).

أقول: يرد عليه-

1- لا يصح الرجوع إلى الأصل لوجود الدليل المعتبر من الآية الكريمة والروايات المعتبرة بعد دفع الإشكالات عليها والمناقشة فيها.

2- كبرى اختصاص عمومات القضاء عن الميت بما وجبت عليه لا تنفع المستدل لأن المسافر مما وجب عليه القضاء مطلقاً بمقتضى الطائفة الثانية، فدعوى عدم الوجوب عند عدم التمكن محل النزاع.

3- أما قصور ما استدل به للقول الأول فقد تقدمت مناقشته والجواب عنها، والعلاقة بين روايات وجوب القضاء في السفر والخبرين المعللين هي التخصيص وإخراج السفر من موضوع عموم التعليل؛ لأنها أخص منه

ص: 299


1- مستند الشيعة: 10/441، والأصل فيه ما في رياض المسائل: 5/442.

وليس العكس كما أفاد (قدس سره).

وأما العلاقة مع بقية روايات المطلب الأول فهي التباين كما هو واضح، فلا تعارض ولا رجوع إلى الأصل.

رابعها: ما قاله العلامة (قدس سره): ((أنه معذور غير متمكن من القضاء فيسقط عنه، لاستحالة التكليف بالممتنع، ولأن وجوب القضاء على الولي تابع لوجوبه على الميت))(1).

وفيه: أنه لا مجال لمثل هذه الاستدلالات بعد ورود النص المعتبر بوجوب القضاء عن المسافر مطلقاً. ولو تنزلنا فإن كلاً من المقدمتين غير تامة؛ لأن الجواب مبني على المعروف عندهم من سقوط الوجوب أداءً عن المسافر كغيره من ذوي الأعذار، وهو أول الكلام؛ لأننا ندعي أن الوجوب ثابت، وأن الحضر ليس بشرط وجوب، فمنشأ القضاء وجوب الصوم أداءً عليه وإن لم يصح منه، فلا يؤثر عليه عدمتمكنه من القضاء، وبتعبير آخر: إنه كان متمكناً من الأداء –بترك السفر أو الإقامة في سفره- وهو كافٍ في وجوب القضاء عنه.

وأما استحالة التكليف بالقضاء فلا يضر بوجوبه على الولي، لأن الأحكام الشرعية أمور تعبدية فيمكن للشارع المقدس أن يأمر بالقضاء عن الميت مع عدم تمكنه منه وليس هو من التكليف بغير المقدور، فالمحال هو تكليف المسافر الذي مات بالقضاء.

ويمكن تلخيص أدلة المشهور بقصور أدلة وجوب القضاء عن المسافر عن إخراجه من عموم التعليل في مرسلة ابن بكير وصحيحة أبي بصير لضعفها في نفسها سنداً أو دلالة، أو بحملها على الاستحباب لأنها ((بعد إعراض المشهور عنها قاصرة عن تقييد الإطلاق –أي عموم التعليل- خصوصاً بعدما

ص: 300


1- مختلف الشيعة: 3/400.

أومي إليه في خبر أبي بصير من العجب وأنه كيف القضاء عما لم يجعله الله تعالى))(1).

أقول: قد تقدمت مناقشة كل ذلك بالتفصيل.

فالنتيجة: عدم وجود دليل لمشهور القدماء والمتأخرين عنهم على إلحاق السفر بغيره من الأعذار، بل الدليل على خلافه، والصحيح هو التفصيل بين السفر وغيره من الأعذار، ولا نعلم وجهاً للإعراض عن الروايات الدالة على وجوب القضاء عن المسافر مطلقاً حتى رميت بالشذوذ والهجران.

فالقائلون بالإلحاق في مأزق حقيقي؛ لأن نصوص السفر تأخذ بتلابيبهم مما حدا بهم إلى التصرف في النصوص، قال بعض الأعلام: ((وحمل مثل هذه الأخبار على الندب من أحسن طرق الجمع في هذا الحكم المخالف، لما أرسلوه إرسال المسلّمات من أن وجوب القضاء يدور مدار صحة الخطاب به ومع العدم لا موضوع له، ولا وجه لحمل مثل صحيح ابن مسلم على سفر المعصية لأنه بلا شاهد وبلا قرينة))(2).

أقول: لو أنهم أخذوا بالنصوص –وإن لم تُفهم على وفق القواعد- لكان أولى وأجدر من صرفها عن وجهها.

مأزق القول بالتفصيل:

هذا ولكن القائلين بالتفصيل وقعوا في مأزق أيضاً لم يفلحوا في الخروج منه، وله منشآن:

(المنشأ الأول) قولهم بأن الحضر من شروط الوجوب كالصحة والخلو من

ص: 301


1- جواهر الكلام: 17/38.
2- مهذب الأحكام: 10/308.

الحيض والنفاس، وحينئذٍ يكونون مطالبين ببيان الفرق بينها حتى وجب القضاء على ولي المسافر دون غيرها من الأعذار، وهذا الإشكال لا يأتي على المختار من كون الأول شرطاً للواجب –أي الصحة- والبقية شرطاً للوجوب، فإن هذه الروايات تكون منسجمة معه ومنطلقة منه.

وقد دفع هذا المأزق بعض المحققين لاستكشاف الفرق غير ما قلناه من كون الحضر شرطاً للواجب والبقية شرطاً للوجوب، ولو تنزلنا فيأتي ما قلناه في البحث السابق من كون فعلية الوجوب على مراتب بعضها أقوى وأهم من بعض، وقلنا إن هذه الأطروحة تنفع كتفسير لمبحث الترتب، ففعلية وجوب الصوم في السفر غيرها في العناوين الأخرى.

وعلى أي حال فقد ذكرت للفرق هنا أكثر من محاولة:

(الأولى) ((ما يقال من أن القضاء ليس تابعاً لفعلية الخطاب به، بل يكون تابعاً للملاك وهو موجود))(1).

وفيه:-

1- إنها مجرد دعوى لا دليل عليها.

2- ما ثبت أصولياً أن الملاك –لو أمكن معرفته- فإنه مما لا تجب طاعته، حتى يتحرر الخطاب الذي تجب طاعته.

3- إن هذه الدعوى يمكن أن تقال في غير المسافر كالمريض والحائض إذ لا يوجد فرق. وإن قيل إن الفرق: النصوص المفيدة للتفصيل فإنه يقال: إن هذا دليل بذاته ولا يحتاج بعده إلى مثل هذه الدعوى.

(الثانية) ما حكاه الشهيد الثاني (قدس سره) أنه ((قيل: والسر في وجوب القضاء عن المسافر خاصةً تمكن المسافر من الأداء، وهو أبلغ من التمكن من القضاء، بخلاف المريض والحائض)) ثم قال (قدس سره):

ص: 302


1- مهذب الأحكام: 10/308.

((يشكل الفرق في السفر الواجب))(1).

وردّ عليه صاحب الحدائق (قدس سره) بأن ((ما استشكله شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) من أنه ربما يكون السفر ضرورياً أو واجباً فالظاهر أنه لا وجه له، فإن بناء الأحكام على الأفراد الغالبة المتكررة، والعلل الشرعية لا يجب اطرادها بل يكفي وجودها في أكثر الأفراد كما لا يخفى))(2).ثم صاغ الفرق بتعبير آخر فقال (قدس سره): ((والظاهر أن بناء الحكم المذكور في الفرق بين الفائت بالسفر وغيره إنما هو من حيث أن عذر المرض والطمث من جهة الله عز وجل وهو أعذر لعبده كما ورد في جملة من أخبار الإغماء وغيرها، وعذر السفر من قبل المكلف ويمكنه تركه والإتيان بالأداء فوجب القضاء عنه لذلك))(3).

أقول: يرد على أصل الوجه والرد عليه:-

1- إنه اجتهاد وتنقيح مناط لا دليل عليه.

2- إن هذه التقريبات –لو تمت- فإنها تظهر وجهاً للحكمة في التفريق، ولا تفلسف وجه الفرق بين السفر وغيره من الأعذار؛ لذا فإن ما ذكروه لا يحل الإشكال على مبانيهم ما دام السفر شرط وجوب عندهم، إذ لم يتنجز الوجوب على الميت حتى يقضى عنه، بل نستطيع أن نقول: إن هذا الوجه يقرِّب عدم كون الحضر شرط وجوب لإقرارهم بثبوته على المسافر، فهو شرط صحة.

3- ما قاله صاحب الحدائق (قدس سره) من كون الغالب المتكرر في السفر أن لا يكون ضرورياً أو واجباً مما لا يمكن المساعدة عليه، بل العكس هو الأقرب خصوصاً بملاحظة عصر صدور النصوص حيث لا يكون السفر إلا

ص: 303


1- مسالك الأفهام: 2/63.
2- الحدائق الناضرة: 13/332.
3- الحدائق الناضرة: 13/331.

لواجب أو لضرورة غالباً.

4- إن هذا الوجه ينتج القول بالتفصيل بحسب نوع السفر وهو أخصّ من المدعى الذي هو وجوب القضاء على المسافر مطلقاً وإن كان سفراً اضطرارياً يُعذر فيه العبد.

قول آخر في المسألة:

ويظهر أن هذه الفكرة الأخيرة وجد فيها الشهيد الثاني (قدس سره) خروجاً من المأزق فحوَّل إشكاله السابق إلى قول بالتفصيل، فعلّق على قول الشهيد الأول (قدس سره) في اللمعة: ((وفي القضاء عن المسافر خلاف أقربه مراعاة تمكنه من المقام والقضاء)) قائلاً في الروضة: ((ولو بالإقامة أثناء السفر كالمريض، وقيل: يُقضى عنه مطلقاً لإطلاق النص وتمكنه من الأداء بخلاف المريض وهو ممنوع، لجواز كونه ضرورياً كالسفر الواجب فالتفصيل أجود))(1).

أما في المسالك فاكتفى بذكر الإشكال وقوّى القول المشهور عند القدماء، قال (قدس سره) بعد ذكر إشكاله المتقدم: ((ومن ثم ذهب جماعة من الأصحاب إلى اعتبار التمكن من القضاء في وجوب القضاء عنه –كغيره- ولو بالإقامة في أثناء السفر وهو الأقوى، والرواية (وهي رواية منصور بن حازم) –مع عدم صحة سندها-يمكن حملها على الاستحباب، أو على الوجوب لكون السفر معصية وإن بعد))(2).

ورد عليه السيد صاحب الرياض (قدس سره) بعد أن نسب له هذا القول في الكتابين –والصحيح أنه في شرح اللمعة دون المكاسب- فقال (قدس

ص: 304


1- شرح اللمعة الدمشقية، ج2، كتاب الصوم، المسألة الرابعة.
2- مسالك الأفهام: 2/63.

سره): ((ولشيخنا في المسالك والروضة قول آخر بالتفصيل بين السفر الضروري فالثاني –أي اشتراط التمكن لوجوب القضاء كبقية الأعذار- وغيره فالأول –أي وجوب القضاء مطلقاً-.

ولم أقف على مستنده، عدا أمر اعتباري استنبطه مما ذكره في الدروس توجيهاً للرواية، من أن السر فيها تمكن المسافر من الأداء، وهو أبلغ من التمكن من القضاء إذا كان ترك السفر سائغاً، وما ذكروه في ردِّه بقوله: وهو ممنوع لجواز كونه ضرورياً كالسفر الواجب، فالتفصيل أجود.

وهو كما ترى، فإنه اجتهاد صرف لا دليل عليه أصلاً، فلا يمكن الاستناد إليه جداً))(1).

أقول: مضافاً إلى كونه اجتهاداً فإنه ينقض عليه طرداً وعكساً فيما لو نفست المرأة اختياراً أو حاضت كذلك باستعمال بعض العلاجات مع أن النص مطلق، وبأن التعليل أخص من المدعى ومنافٍ لإطلاق الروايات، ويضاف إلى ذلك عدم وجود دليل على شمول المسافر بسقوط القضاء ليخرجه من إطلاق الآية الشريفة، وعدم اقتصار روايات استثناء المسافر على رواية منصور بن حازم.

(المنشأ الثاني) أنهم سلّموا بأن القضاء عن الميت فرع ثبوت القضاء عليه، ولا قضاء على من مات قبل أن يتمكن من القضاء لاستحالة تكليفه به؛ لأنه من غير المقدور، فبأي وجه ثبت القضاء على الولي؟.

وهذا الإشكال لا يأتي علينا أيضاً لأننا نقول بفعلية الوجوب على المسافر واشتغال ذمته بالصوم، وإذا لم يؤدِّ لعدم التمكن فيجب على وليه قضاؤه.

ص: 305


1- رياض المسائل: 5/443.

فائدتان

(الأولى) على القول بإلحاق السفر بغيره من الأعذار فإن المناط في وجوب القضاء هو التمكن منه، وليس زوال نفس العذر، فلو حاضت المرأة أو مرضت أول شهر رمضان ثم طهرت أو برأت من ذلك الحيض والمرض في نفس الشهر، ثم حاضت أومرضت أول شوال وماتت في ذلك العذر لم يجب القضاء عنها لعدم التمكن منه.

لكن صياغة بعض الأصحاب توهم بوجوب القضاء بزوال نفس العذر وإن لم يتمكن من القضاء كقول صاحب العروة (قدس سره): ((إذا فاته شهر رمضان أو بعضه بمرض أو حيض أو نفاس ومات فيه لم يجب القضاء عنه))(1).

أقول: ظاهر قوله: (فيه) أي في ذلك العذر فينقض عليه بما لو لم يمت في ذلك العذر لكنه مات بعذر آخر بعد زوال الأول من دون أن يتمكن من القضاء كما في المثال الذي ذكرناه، فمقتضى تعبيرهم قضاء ما فات بالعذر الأول.

وهذا التعبير وإن كان موافقاً لألفاظ بعض النصوص، كقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: (ولكن يقضى عن الذي يبرأ ثم يموت) وقوله (عليه السلام) في صحيحة أبي مريم: (وإن صحّ ثم مات)، إلا أن المراد ليس زوال نفس العذر مطلقاً بل مع التمكن من القضاء بزوال كل عذر.

وبتعبير آخر إن الإطلاق الظاهر من الروايتين المذكورتين يُقيَّد بما دلّ في غيرها على اشتراط زوال كل عذر أي التمكن من القضاء، كما في صحيحة محمد بن مسلم الأخرى (عن الحائض تفطر في شهر رمضان أيام حيضها فإذا أفطرت ماتت، قال: ليس عليها شيء) وروايتي أبي بصير (رقم 7 من الطائفة الأولى) وأبي حمزة (رقم 2 من الطائفة الثانية) لأن الثاني أخص من الأول.

ص: 306


1- العروة الوثقى، كتاب الصوم، فصل في أحكام القضاء، المسألة (12).

(الثانية) تحصّل من البحث في هذه المسألة أكثر من وجه لتأكيد ما قلناه من ثبوت وجوب الصوم فعلاً على المسافر، وإن الوجوب لا يسقط بالسفر، وإنما لا يصح منه:-

1- ثبوت القضاء في ذمته ووجوبه على الولي مع أن الميت لم يتمكن من القضاء حتى يتحقق الوجوب عليه، فالمفروض سقوط القضاء كما سقط عنه في الأعذار الأخرى، وهذا يكشف عن ثبوت الوجوب على المسافر وإن القضاء ثبت بنفس ذلك الوجوب، فليس الحضر شرط وجوب وإنما شرط لتنجيز الفعل وصحة امتثاله فهو شرط واجب، خلافاً للمشهور الذي ادعي عليه الإجماع.

2- التعليل الوارد في رواية أي بصير حيث عللت عدم القضاء عن المريض بقوله (عليه السلام): (فإنّ الله لم يجعله عليها) ومقتضاه أنّ وجوب القضاء في حالة كون العذر هو السفر لأنّ الله تعالى جعله عليها.

ولا فرق بين أن يكون مرجع الضمير في (لم يجعله) هو الصوم أو القضاء، أما على الأول فواضح، وأما على الثاني فلأنّه يرجع إليه، لأن ملاك جعل القضاء وعدمه هنا هو وجوب الأداء وعدمه، بعد فرض عدم تحقق موضوع القضاء.

(فروع)

1- إذا مرضت بعض الشهر ثم حاضت في بعض آخر أو بالعكس ثم ماتت قبل أن تتمكن من القضاء، لم يجب على وليها القضاء لصدق العنوان المسقط وإن تعددت مصاديقه.

2- إذا أفطر لسفر وعاد إلى وطنه في شهر رمضان ثم طرأ عليه المرض ونحوه حتى مات فلم يتمكن من القضاء لم يجب على وليه القضاء، لكن إذا أفطر لمرض ونحوه وبرأ منه في شهر رمضان ثم عرض له السفر

ص: 307

واستمر به حتى مات فإنه يقضي عنه.

والفرق أن المستفاد من الروايات –كالتعليل في مرسلة ابن بكير- أن التفصيل بين السفر وغيره يُلحظ في العذر المانع من القضاء، لا العذر الموجب للإفطار.

3- الحكم بوجوب القضاء عن المريض ونحوه انحلالي، فلو تمكن من قضاء بعضٍ دون بعض، وجب على الولي قضاء ما تمكن دون ما لم يتمكن.

4- لا فرق في سقوط القضاء عن الحائض ونحوها مع عدم التمكن بين ما لو كان الحيض اعتيادها أو كان بعلاج لإطلاق النصوص وصدق العنوان.

ص: 308

المسألة الثانية

اشارة

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((إذا فاته شهر رمضان أو بعضه لعذر واستمر إلى رمضان آخر: فإن كان العذر هو المرض سقط قضاؤه على الأصح وكفّر عن كل يوم بمد، والأحوط مدّان، ولا يجزئ القضاء عن التكفير، نعم الأحوط الجمع بينهما.

وإن كان العذر غير المرض كالسفر ونحوه فالأقوى وجوب القضاء، وإن كان الأحوط الجمع بينه وبين المد))(1).

أقول: في هذه المسألة عدة مطالب نعرض منها ما يرتبط بالغرض من البحث:

(المطلب الأول) سقوط القضاء عمن أفطر لمرض واستمر به المرض حتى رمضان الآخر.

وهذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ((وفي الروضة عُزي غيره إلى الندرة، مشعراً بدعوى الإجماع))(2)،وإن كان خلاف مقتضى إطلاق الآية الشريفة، إلا أن المورد خرج منها بالروايات المعتبرة العديدة، ونحن نقول بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لأنه من مصاديق بيان الكتاب الكريم، وهي واحدة من وظائف المعصومين (عليهم السلام).

على أن الروايات في المقام تتجاوز حدود أخبار الآحاد، ووصفها العلامة وصاحب الرياض والمستند (قدس الله أسرارهم) بالمستفيضة، قال (قدس سره): ((العموم قد يُخصَّص بأخبار الآحاد، خصوصاً إذا استفاضت واشتهرت واعتضدت بعمل أكثر الأصحاب))(3)،وبلغ بها صاحب الجواهر (قدس سره) حد التواتر الذي احتمله صاحب الرياض مع ((عدم المعارض

ص: 309


1- العروة الوثقى: أحكام القضاء، المسألة (13).
2- رياض المسائل: 5/433.
3- مختلف الشيعة: 3/385، المسألة (111).

المعتد به عن العمل بها))(1).

ومن تلك الروايات:-

1- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قال: (سألتهما عن رجل مرض فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر، فقالا: إن كان برأ ثم توانى قبل أن يدركه الرمضان الآخر صام الذي أدركه وتصدق عن كل يوم بمد من طعام على مسكين وعليه قضاؤه، وإن كان لم يزل مريضاً حتى أدركه رمضان آخر صام الذي أدركه وتصدق عن الأول لكل يوم مد على مسكين وليس عليه قضاؤه)(2).

2- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (في الرجل يمرض فيدركه شهر رمضان ويخرج عنه وهو مريض ولا يصح حتى يدركه شهر رمضان آخر، قال: يتصدق عن الأول، ويصوم الثاني، فإن كان صح فيما بينهما ولم يصم حتى أدركه شهر رمضان آخر صامهما جميعا ويتصدق عن الأول).

3- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من أفطر شيئاً من رمضان في عذر ثم أدرك رمضان آخر وهو مريض فليتصدق بمد لكل يوم، فأما أنا فإني صمت وتصدقت).

4- خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا مرض الرجل من رمضان إلى رمضان ثم صح فإنما عليه لكل يوم أفطره فدية طعام وهو مد لكل مسكين، قال: وكذلك أيضاً في كفارة اليمين وكفارة الظهار مداً مداً، وإن صح فيما بين الرمضانين فإنما عليه أن يقضي الصيام، فإن تهاون به وقد صح فعليه الصدقة والصيام جميعاً لكل يوم مداً إذا فرغ من ذلك

ص: 310


1- جواهر الكلام: 17/25.
2- الأحاديث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 25، ح1، 2، 4، 6، 8، 9، 11 على الترتيب.

الرمضان).

5- علل الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام (في حديث) قال: (إن قال: فلم إذا مرض الرجل أو سافر في شهر رمضان فلم يخرج من سفره أو لم يقو من مرضه حتى يدخل عليه شهر رمضان آخر وجب عليه الفداء للأول وسقط القضاء، وإذا أفاق بينهما أو أقام ولم يقضه وجب عليه القضاء والفداء؟ قيل: لأن ذلك الصوم إنما وجب عليه في تلك السنة في هذا الشهر، فأما الذي لم يفق فإنه لما مر عليه السنة كلها وقد غلب الله عليه فلم يجعل له السبيل إلى أدائها سقط عنه وكذلك كل ما غلب الله عليه مثل المغمي الذي يغمى عليه في يوم وليله فلا يجب عليه قضاء الصلوات كما قال الصادق عليه السلام: كل ما غلب الله على العبد فهو أعذر له: لأنه دخل الشهر وهو مريض فلم يجب عليه الصوم في شهره ولا في سنته للمرض الذي كان فيه، ووجب عليه الفداء لأنه بمنزلة من وجب عليه الصوم فلم يستطع أداه فوجب عليه الفداء، كما قال الله تعالى: «فَصِيَامُ شَهرَينِ مُتَتَابِعَينِ فَمَنْ لَمْ يَستَطِعْ فَإطعَامُ سِتِّينَ مِسكِيناً» وكما قال: «فَفِديَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُك» فأقام الصدقة مقام الصيام إذا عسر عليه، فإن قال: فإن لم يستطع إذا ذاك فهو الآن يستطيع؟ قيل لأنه لما دخل عليه شهر رمضان آخر وجب عليه الفداء للماضي لأنه كان بمنزلة من وجب عليه صوم في كفارة فلم يستطعه فوجب عليه الفداء، وإذا وجب عليه الفداء سقط الصوم والصوم ساقط والفداء لازم، فإن أفاق فيما بينهما ولم يصمه وجب عليه الفداء لتضييعه والصوم لاستطاعته).

6- صحيحة(1) علي بن جعفر في كتابه، وخبره في قرب الإسناد عن أخيه

ص: 311


1- لعلي بن جعفر كتابان في مسائل الحرام والحلال، أحدهما مبوَّب والآخر غير مبوّب، وقد نقل الحميري في قرب الإسناد كثيراً منها، وفي سنده ضعف لعدم توثيق عبد الله بن الحسن، لكن جمعاً من الأعلام صححوا من تلك الروايات ما نقله صاحب الوسائل عن كتاب علي بن جعفر باعتباره نقلاً مباشراً من الكتاب منهم السيد الخوئي (قدس سره) لذا وصف هذه الرواية بالصحيحة (المستند: 22/186)، إلا أن هذا الطريق يمكن الإشكال فيه لأن صاحب الوسائل يرويه بالوجادة وهو طريق غير موثوق به لدى المحققين، وقد أورد المجلسي (قدس سره) نصّ الكتاب غير المبوَّب في (بحار الأنوار: 10/249-291) وفيه عدة موارد تعزّز هذا الإشكال، لا تخفى على من راجعه. إن قلتَ: لنا طريق لتصحيح كتاب علي بن جعفر هذا بمطابقة الروايات الواردة فيه مع ما رواه المشايخ في الكتب الأربعة فإذا وجدنا مطابقة في موارد كثيرة تعززت –بتراكم الاحتمالات- صحة هذه النسخة من كتاب علي بن جعفر. وفيه:- 1- إن هذا المقدار من التطابق حتى لو وصل إلى (70%) ونحوه فإنه لا يحل العلم الإجمالي بوجوب الفحص والتثبت لتحصيل الاطمئنان بالصدور، أو قل إنه لا يلغي احتمال عدم الصدور أو عدم مطابقة النص في الروايات الباقية. 2- إن هذه العملية غاية ما تثبت أن هذا الكتاب نسخة من كتاب علي بن جعفر إلا أنه لا يُعلم بأي مستند وصلت؛ لأن مرويات علي بن جعفر في الكتب الأربعة بأسناد مختلفة.

موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل تتابع عليه رمضانان لم يصح فيهما ثم صح بعد ذلك كيف يصنع؟ قال: يصوم الأخير ويتصدق عن الأول بصدقة لكل يوم مد من طعام لكل مسكين).

7- خبر العياشي في تفسيره عن أبي بصير قال: (سألته عن رجل مرض من رمضان إلى رمضان قابل ولم يصح بينهما ولم يطق الصوم، قال: يتصدق مكان كل يوم أفطر على مسكين بمد من طعام، وإن لم يكن حنطة فمد من تمر وهو قول الله «فِديَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ» فإن استطاع أن يصوم الرمضان الذي استقبل وإلا فليتربص إلى رمضان قابل فيقضيه، فإن لم يصح حتى رمضان قابل فليتصدق كما تصدق مكان كل يوم أفطر مداً مداً، فإن صح

ص: 312

فيما بين الرمضانين فتوانى أن يقضيه حتى جاء الرمضان الآخر فإن عليه الصوم والصدقة جميعاً، يقضى الصوم ويتصدق من أجل أنه ضيع ذلك الصيام).

8- رواية أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره بسنده عن أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): أيّما رجل كان كبيراً لا يستطيع الصيام أو مرض من رمضان إلى رمضان ثم صحّ فإنما عليه لكل يوم أفطر فيه فدية طعام، وهو مد لكل مسكين)(1).وهذا القول مشهور عند أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ومن تلاهم كما يظهر من عرض السؤال في علل الفضل بن شاذان وكأنه مسلَّم.

وفي الفقه الرضوي ((وإذا مرض الرجل وفاته صوم شهر رمضان كله ولم يصمه إلى أن يدخل عليه شهر رمضان القادم فعليه أن يصوم هذا الذي قد دخل عليه ويتصدق عن الأول لكل يوم بمد من طعام، وليس عليه القضاء إلا أن يكون قد صح في ما بين الرمضانين فإذا كان كذلك ولم يصم فعليه أن يتصدق عن الأول لكل يوم بمد من طعام ويصوم الثاني فإذا صام الثاني قضى الأول بعده، فإن فاته شهر رمضان حتى دخل الشهر الثالث وهو مريض فعليه أن يصوم الذي دخله ويتصدق عن الأول لكل يوم بمد من طعام ويقضي الثاني))(2).

واستُدل لهذا القول بغير الروايات كما عن العلامة (قدس سره) بأن ((العذر قد استوعب وقت الأداء والقضاء، فوجب أن يسقط عنه القضاء.

أما استيعاب وقت الأداء فظاهر. وأما استيعاب وقت القضاء: فلأن وقته فيما بين الرمضانين، إذ لا يجوز له التأخير عنه.

ص: 313


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 15، ح12.
2- فقه الرضا: 25.

وأما السقوط حينئذٍ: فلعدم الوقت، وكما لو استوعب الإغماء والحيض وقت الصلاة.

لا يقال: ينتقض ذلك بما لو صحّ فيما بينهما ولم يقضه.

لأنا نقول: إنه لتفريطه استقر عليه القضاء، فوجب عليه الإتيان به بعد الرمضان الثاني، بخلاف صورة النزاع.

ولأن الأصل براءة الذمة، ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولم يثبت في صورة النزاع))(1).

أقول: قدم العلامة (قدس سره) هذه الوجوه على الروايات وهو مسلك لا جدوى منه، إذ لولا الروايات لقلنا بوجوب القضاء لإطلاق الآية «فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ» إذ أنها لا تختص بسنة الفوات.

قولان آخران:

وفي مقابل هذا القول المشهور حكي قولان آخران، ويوجد اشتباه كثير في نسبة الأقوال إلى أصحابها كما يظهر لمن تتبع المصادر، كحكاية القول بالقضاء دونالفدية عن ابن بابويه في رسالته(2)

مع تصريحه فما نقلناه عنه آنفاً من ذهابه إلى القول المشهور، وعلى أي حال فهنا قولان آخران:

(القول الأول) القضاء دون الفدية وحكاه العلامة في المختلف عن ابن أبي عقيل وابن البراج وابن حمزة وأبي الصلاح وهو ظاهر الشيخ (قدس سره) في الخلاف مدعياً الإجماع، قال (قدس سره): ((من فاته صوم رمضان لعذر من مرض أو غيره فعليه قضاؤه، فإن أخّر القضاء إلى أن يدركه رمضانٌ آخر صام

ص: 314


1- مختلف الشيعة: 3/383.
2- مختلف الشيعة: 3/382، جواهر الكلام: 17/25، كتاب الصوم للشيخ الأنصاري: 287، مسألة (18) وحكاه عن المحقق في المعتبر، مستمسك العروة الوثقى: 8/497، مستند العروة الوثقى: 22/186.

الذي أدركه وقضى الذي فاته، فإن كان تأخيره لعذر من سفر أو مرض استدام به فلا كفارة عليه دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً قوله تعالى: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» (البقرة: 185) وهو القضاء))(1).

أقول: دعوى الإجماع بعيدة لمخالفة الأكثر، ومنهم الشيخ نفسه في كتبه الأخرى، قال في النهاية ونحوه في المبسوط مختصراً: ((إن فات المريض صوم شهر رمضان، واستمر به المرض إلى رمضان آخر ولم يصح في ما بينهما، صام الحاضر، وتصدق عن الأول عن كل يوم بمدين من طعام، فإن لم يمكنه فبمد منه، فإن لم يتمكن لم يكن عليه شيء وليس عليه قضاء))(2).

وذهب إلى هذا القول ابن إدريس (قدس سره) قال: ((فإن فات المريض صوم شهر رمضان، واستمر به المرض إلى رمضان آخر، ولم يصح فيما بينهما، صام الحاضر وقضى الأول.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه الله إلى أنه يتصدق عن الأول عن كل يوم، بمدين من طعام، فإن لم يمكنه فبمد منه، فإن لم يتمكن، لم يكن عليه شيء، وليس عليه قضاء.

والأول يعضده ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» فأوجب على المريض القضاء، فمن أسقطه يحتاج إلى دليل، ولا إجماع معنا في المسألة، والقائل بما ذهب إليه شيخنا قليل، فبقي ظاهر التنزيل، فلا يجوز العدول عنه بغير دليل، وإنما قد ورد به أخبار آحاد، لا توجب علماً ولا عملاً.وذهب ابن بابويه في رسالته، إلى أن الرجل إذا مرض، وفاته صوم

ص: 315


1- الخلاف: 2/206، المسألة (63).
2- النهاية: 158، المبسوط: 1/286.

شهر رمضان كله، ولم يصمه إلى أن يدخل عليه شهر رمضان قابل، فعليه أن يصوم الذي دخل، ويتصدق عن الأول كل يوم بمد من طعام، وليس عليه القضاء، إلا أن يكون صح فيما بين شهري رمضان))(1).

أقول: في كلام ابن إدريس (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

1- لا مجال للاستدلال بعموم الآية لأن سقوط القضاء دلّت عليه الروايات المتقدمة، وقد ثبت في علم الأصول أن حجية خبر الواحد المعتبر أمرٌ مفروغ منه، وأن الصحيح جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر فضلاً عما لو بلغ حد الاستفاضة والشهرة؛ لأن السنّة مبيّنة للكتاب وشارحة له، وهذا البيان من وظائف المعصومين (عليهم السلام) فيؤخذ به، فما ذكره ابن إدريس (قدس سره) غير تام.

2- قوله: ((والقائل به قليل)) مردود لأن القول بسقوط القضاء هو المشهور من لدن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كما قدمنا، حيث أرسل ابن شاذان هذا الحكم إرسال المسلّمات في سؤاله.

3- الاستدلال بعموم التنزيل لا يؤدي إلى ما ذهب إليه من القضاء مطلقاً وإنما إلى التفصيل بين من تمكن من القضاء ولو بعد رمضان القابل أو بعده فيجب، أو لم يتمكن مطلقاً فلا يجب؛ لظهور كون الأيام المعدودات مشروطة بالقدرة، ونتيجته التفصيل الآنف، وإلا لزم التهافت مع مختاره في المسألة السابقة.

وناقش السيد صاحب الرياض (قدس سره) في كلام ابن إدريس من جهة التشكيك: ((في أصل شمول هذا الإطلاق لزمان مؤخر عن السنة، لكونها المتبادر منه خاصة))(2).

ص: 316


1- السرائر: 1/399، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- رياض المسائل: 5/434.

أقول: لا وجه لهذا التبادر والانصراف عرفاً، ولو سلّمناه فإنه لا يقيد الإطلاق، نعم قد يقال أنه أراد بالتبادر ظهور هذا المعنى والظهور حجة، وهذا أمر وجداني عهدته على مدعيه، وسيأتي (صفحة 362) وجه لطيف يستفاد منه توقيت القضاء بما بين الرمضانين.

واستدل العلامة (قدس سره) في المنتهى على هذا القول أي وجوب القضاء بمثل ما ذكره ابن إدريس (قدس سره).

ورد العلامة نفسه في المختلف على هذا الاستدلال بقوله: ((العموم قد يُخصَّص بأخبار الآحاد، خصوصاً إذا استفاضت واشتهرت واعتضدت بعمل أكثرالأصحاب))(1).

واستدل (قدس سره) لهم ((بأن العبادة لا تسقط بفواتها كالدين)).

وأجاب (قدس سره) بأن ((وقت القضاء قد فات على ما بيّناه فيسقط، والقضاء في العبادة إنما يجب بأمر جديد على ما حُقّق في أصول الفقه، بخلاف الدين فإنه لا وقت له)).

أقول: تحديد وقت القضاء بما بين الرمضانين تحصّل من روايات القول المشهور، والخصم لا يسلّمها، والآية مطلقة، لذا كان الأولى في الإجابة أن يقال إن التسليم بتعلق القضاء وتشبيهه بالدين أول الكلام ومصادرة على المطلوب؛ لأن القضاء لا يتعلق بالذمة إلا إذا صحّ بين الرمضانين، وهو منتفٍ في المقام بحسب الفرض فلا قضاء، نعم لو تعلّق القضاء بقدرته عليه بين الرمضانين فإنه يجب الوفاء به ولو بعد سنين كالدين.

فلم يتبق لهذا القول دليل سوى رواية أبي الصباح الكناني –وهي على رواية الكليني والتي نقلها صاحب الوسائل- قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل عليه من شهر رمضان طائفة ثم أدركه شهر رمضان قابل،

ص: 317


1- مختلف الشيعة: 3/385.

قال: عليه أن يصوم وأن يطعم كل يوم مسكيناً، فإن كان مريضاً فيما بين ذلك حتى أدركه شهر رمضان قابل فليس عليه إلا الصيام إن صح، وإن تتابع المرض عليه فلم يصح فعليه أن يطعم لكل يوم مسكيناً)(1).

أقول: قُرِّب الاستدلال بالفقرة الوسطى (فإن كان مريضاً في ما بين ذلك..) حيث حكم (عليه السلام) بالقضاء دون الفدية.

وأُجيب بأن الرواية على قول المشهور أدلّ لأن الفقرة الظاهرة في المقام هي الأخيرة حيث ذُكر فيها استمرار المرض وتتابعه خلال الرمضانين فأوجب (عليه السلام) عليه الفدية دون القضاء، وتكون هذه الفقرة قرينة على أن المراد من الفقرة الوسطى مَن مرض بين الرمضانين من دون استيعاب لتلك المدة لقوله: (في ما بين ذلك) وبمقتضى المقابلة مع الفقرة الأخيرة، فيتعلق القضاء بذمته حينما صحّ خلال العام، وإن لم يفعل لمباغتة المرض فيقضي بعد رمضان الآخر ولا فدية عليه لعدم صدق التواني والإهمال عليه.

وهذا الفهم أورده المحدث الكاشاني في الوافي قال (قدس سره): ((بيان: فإن كان مريضاً فيما بين ذلك لعل المراد به حدوث مرضه بعد ما مضى ما يمكنه القضاء فيه من الوقت مع عزمه عليه أي كان مريضاً فيما بين عزمه على القضاءوبين شهر رمضان فليس عليه إلا الصيام، يعني دون التصدق وذلك لاستقرار القضاء في ذمته وعدم تقصيره في فواته لسعة الوقت، فقوله إن صحّ إشارة إلى ما قلنا من تمكنه من القضاء فيما مضى وقوله فإن تتابع المرض عليه في مقابلة ذلك، يعني وإن لم يتمكن أولاً من القضاء والحاصل أن هاهنا ثلاثة احتمالات ولكل حكم غير حكم الآخر: أحدها عدم تمكنه من الصيام أصلاً حتى أدركه الشهر من قابل وحكمه التصدق خاصة دون القضاء، والثاني تمكنه منه وتهاونه به إلى أن يفوت وحكمه القضاء

ص: 318


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 25، ح3.

والتصدق معاً، والثالث تمكنه منه وعزمه عليه مع سعة الوقت من غير تهاون حتى أدركه مرض آخر حال بينه وبين القضاء حتى أدركه الشهر من قابل وحكمه القضاء خاصة دون التصدق))(1).

وذكره المحقق النراقي(2) (قدس سره) وتبعه السيد الخوئي إلا أنه (قدس سره) فهمه من نفس العبارة وليس من القرينة، أي جعله ظاهر الفقرة الثانية بغضّ النظر عن قرينية الفقرة الثالثة، قال (قدس سره): ((ظاهر قوله (عليه السلام): (فإن كان مريضاً ..) إرادة المرض فيما بين ذلك، أي في بعض أيام السنة))(3).

أقول: الفهم العرفي لا يساعد على هذا الاستظهار، فطريق المحدث الكاشاني في فهم هذا الوجه من القرينة أقرب مما ذكره السيد الخوئي (قدس سره).

وبناءً على هذا تفيد الرواية قول المشهور لذا استدل بها صاحب المدارك(4)

على قولهم، وكذا الشيخ الأنصاري(5) (قدس سره).

لكن يمكن المناقشة في فهم المحدِّث الكاشاني لابتنائه على قرينة المقابلة بين الأقسام الثلاثة –كما صرح (قدس سره)-، لكن هذه القرينة –لو تمت- فإنها تتوجه على رواية الشيخ في التهذيب لانفراده بقوله (عليه السلام) في أول الرواية: (إن كان صحَّ فيما بين ذلك ثم لم يقضه حتى أدركه رمضان قابل فإنَّ) ثم قوله (عليه السلام): (عليه أن يصوم) إلخ الموجود في الكافي ولم يرد هذا الجزء في رواية الكافي، فإن فيه (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل عليه من شهر رمضان طائفة ثم أدركه شهر رمضان قابل قال (عليه

ص: 319


1- الوافي: 11/169، باب -54: من توالى عليه رمضانان، ح3.
2- مستند الشيعة: 10/446.
3- مستند العروة الوثقى: 22/187.
4- مدارك الأحكام: 6/213-214.
5- كتاب الصوم: 287، مسألة (18).

السلام): عليه أن يصوم ..) أما في الاستبصار فلم تذكر الفقرة الأولى كلها ففيه بهذا الإسناد عن أبي عبد الله (عن رجل كان عليه من شهر رمضان طائفة ثم أدركه شهر رمضان قابل، قال (عليهالسلام): فإذا كان مريضاً..).

وفي ضوء هذا الاختلاف في محل الاستدلال وبقاء الفقرة الثانية على ظهورها يمكن أن يكون وجه لما ذكره المستدل، ويكون موضوع الفقرة الثانية من لم يصحّ بين الرمضانين لظهور العبارة في ذلك، وعدم صلاحية الفقرة الثالثة للقرينية بمقتضى المقابلة؛ لأن الظاهر من موردها هو مَن لم يصحّ مطلقاً حتى بعد رمضان الآخر، أي استمر به المرض وتتابع عدة رمضانات.

واعترف المحقق النراقي (قدس سره) بظهور الفقرة الثانية فيما نحن فيه لولا ظهور الفقرة الثالثة في من استمر به المرض حتى رمضان القادم ((ولو لم يقبل ذلك فلا أقلّ من الإجمال المسقط للاستدلال))(1).

مضافاً إلى الإشكال الذي أورد (2)

على سندها لأن الرواية وردت بطرق ثلاثة:

أحدها: للكليني في الكافي بسند صحيح عن محمد بن إسماعيل عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح.

ثانيها: للشيخ الطوسي بسنده إلى الكليني.

ثالثها: للشيخ الطوسي بسنده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن الفضيل.

فالطرق الثلاثة تتحد في كون الراوي عن الكناني هو محمد بن فضيل وهو مشترك بين الضبّي الثقة والأزدي الذي ضعّفه الشيخ(3)

صريحاً، وكل منهما يروي عن الكناني وفي طبقة واحدة فلا يتعين بالثقة.

ص: 320


1- مستند الشيعة: 10/446.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/187.
3- رجال الشيخ: 343 رقم (5124).

وتوجد محاولات لتصحيح سند الرواية أشار إليها السيد الخوئي (قدس سره) باقتضاب قائلاً: ((وقد حاول الأردبيلي في جامعه لإثبات أن المراد به محمد بن القاسم بن الفضيل الثقة، وقد أسند إلى جده، وأقام على ذلك شواهد لا تفيد الظن فضلاً عن العلم، فإنه أيضاً معروف كذينك الرجلين وفي طبقة واحدة ولا قرينة يُعبأ بها على إرادته بالخصوص.

وعلى الجملة: لا مدفع لاحتمال كون المراد به الأزدي))(1).

أقول: لم يذكر (قدس سره) تلك الشواهد في تقريرات بحثه ويجيب عنها تفصيلاً وذكر أحدها في المعجم، وقد بيّن الأردبيلي (قدس سره) أهمية هذه المحاولات بقوله: ((وإنما أطنبنا الكلام في هذا المقام لأنه كان فيه نفعاً كثيراً عظيماً في تصحيح أخبارالأئمة عليهم السلام))(2)

وقدّرها بعض أساتذتنا بثلاثمائة رواية، وقد ذكر الأردبيلي ثلاثة وجوه لتأكيد أن محمد بن الفضيل هذا هو محمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار الثقة، لذلك قال: ((وقد يُتوهم أن محمد بن الفضيل هذا مجهول وليس كذلك))، والوجوه هي:

الأول: ما ذكره (قدس سره) في ترجمة محمد بن الفضيل قال: ((لما تتبعنا بقدر وسعنا تتبعاً تاماً وجدنا محمد بن الفضيل الصيرفي الكوفي الأزدي الضعيف ومحمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار النهدي البصري الثقة في مرتبة واحدة، وكثيراً ما يعبَّر عنه باسم جده أيضاً فيكونان مشتركين، ووجدنا رواة ومروياً عنهم مشتركين بينهما ورواة ومروياً عنهم مختصين بكل واحد منهما))(3).

أقول: هذا ظن لا يمكن الاعتماد عليه، إذ أن مجرد اشتراكهما في الطبقة والرواة عنهم في الجملة لا يكفي لإثبات التطابق بالاسم.

ص: 321


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/187.
2- جامع الرواة: 2/183.
3- جامع الرواة: 2/175.

الثاني: ما ذكره في ترجمة محمد بن القاسم بن الفضيل قال: ((لما تتبعنا وجدنا روايته –أي الصدوق في الفقيه- عن محمد بن القاسم بن الفضيل في موضعين وعقد في مشيخته طريقاً إليه بقوله: وما كان فيه عن محمد بن القاسم بن الفضيل فقد رويته عن فلان وفلان إلخ، فبعيد أن يعقد اليه طريقاً لأجل هذين الموضعين فقط))(1)

ثم استنتج اتحاد الاسم.

أقول: نقل السيد الخوئي (قدس سره) هذا الوجه أيضاً عن السيد التفريشي في ترجمة إبراهيم بن نعيم العبدي –وهو اسم أبي الصباح-، وذكر في جوابه أن أكثر من مائة شخص روى عنهم الشيخ الصدوق (قدس سره) في الفقيه ولم يذكر طريقه إليهم في المشيخة، وفيهم من هو كثير الرواية، فلا دليل على صحة هذا الوجه(2).

وبتعبير آخر: إن الشيخ الصدوق (قدس سره) لم يلتزم بذكر طرقه في المشيخة إلى كل من نقل عنهم في الفقيه، فعدم ذكر طريقه إلى محمد الفضيل لا يعني أنه محمد بن القاسم بن الفضيل، إذ لعله من الطرق المائة التي لم يذكرها.

وأضاف له بعض أساتذتنا جواباً آخر، قال (دام ظله الشريف): ((إن هذا التصحيح محل إشكال، وتوضيحه: أن المراجع إلى المشيخة يعرف بأن الصدوق (قدس سره) يلاحظ في ترتيب المشيخة ترتيب ما ابتدأ باسمه في الفقيه إلا في مواضع نادرة، فإذا ذكر السند إلى عمار الساباطي فإنما بحسب ما ابتدأ باسمه في الفقيه، فبملاحظة هذا يعرف أن من كان ناظراً إليه في طريق المشيخة عندئذٍ بحسبالترتيب هو خصوص محمد بن القاسم بن الفضيل، فإن الترتيب يقتضي ذلك، لأن الرواية وردت في الفقيه (مج2/صفحة 115) وبحسب المشيخة يناسب إرادة هذا.

ص: 322


1- جامع الرواة: 2/175.
2- معجم رجال الحديث: 17/164.

وأما أن الصدوق لا بد أن يذكر من يكثر الرواية عنه، فليس هذا قانوناً فقد ينقل عن شخص ولم يذكره في المشيخة، وهم كثير))(1).

أقول: هذا الترتيب من الصدوق في المشيخة متوقع ويساعد عليه مسلك أهل الفن، ولكن من غير المتوقع أن يسير عليه إلى نهاية الكتاب؛ لأن طريقة عمله ستكون بتسجيل قائمة بأسماء من روى عنهم في الفقيه ثم يدوّن في المشيخة ما استحضر لديه من طرقه إليهم، وإذا لم يستحضر طريقاً لأحدهم فإنه لا يؤخر عمله حتى يجده، بل يدون ما يوجد عنده؛ لذا فقد تنخرم هذه الكبرى، ولنا على ذلك شاهدان:-

1- ما ذكره آنفاً تبعاً للسيد الخوئي (قدس سره) من أن مائة من أصحاب الأصول الذين نقل عنهم في الفقيه لم يذكر إليهم في المشيخة، فغياب هؤلاء يُخلُّ بالترتيب أكيداً.

2- إجراء مطابقة بين ترتيب الفقيه والمشيخة وستجد الاختلاف منذ أول الأسماء(2).

إذن لا يظهر أن الملتزم بهذه الكبرى طابق ترتيب الأسماء في الفقيه والمشيخة إلى النهاية.

والنتيجة أن هذه الكبرى تدخل في باب القرائن والمؤيدات؛ لأنها

ص: 323


1- تقرير بحث السيد السيستاني، محاضرة بتأريخ 16/شوال/1417.
2- أول أحاديثه المسندة في الفقيه كان عن هشام بن سالم (ح4) ثم علي بن جعفر (ح6) ثم عمار الساباطي (ح8) ثم أبي بصير (ح24) ثم إسحاق بن عمار (ح28) ثم يعقوب بن عثيم (ح30) وهكذا. لكنه في المشيخة ذكر أولاً عمار الساباطي ثم علي بن جعفر ثم إسحاق بن عمار ثم يعقوب بن عثيم وتأخر هشام بن سالم عدة أسماء، وأبو جعفر الأحول تأخر عن ترتيبه ب-(13) اسماً أما عمرو بن أبي المقدام الذي ترتيبه (13) في الفقيه (ح80) فقد تأخر عشرات الأسماء.

روعيت في الجملة كما هو مقتضى سلوك أهل الفن عند تحرير مثل هذه الرسائل.

الثالث: ما قاله في نفس الموضع من ((إن الصدوق (رحمه الله تعالى) روى أخباراً كثيرة في الفقيه معلقاً عن محمد بن الفضيل مطلقاً وعن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني أيضاً، وإن أكثر الأخبار التي روى عنه عن أبي الصباح فيه وجدناها في كتاب آخر مثل التهذيب والكافي، رواها بعينها رواة محمد بن القاسم بن الفضيل عن أبي الصباح)).أقول: إذا ثبت بالاستقراء مطابقة السند والمضمون في الروايات سوى كون المذكور في أحدها محمد بن الفضيل وفي المصادر الآخرى محمد بن القاسم بن الفضيل فهذا شاهد معتدّ به على اتحاد الاسم، إلا أن هذا الفرض بعيد.

وهذا الوجه لم يذكره بعض أساتذتنا، لكنه ذكر وجهاً آخر حاصله ((أن نقول أنه في المقام توجد خصوصية تفيد كون المقصود من محمد بن فضيل هذا الراوي عن أبي الصباح هو محمد بن القاسم بن فضيل، والخصوصية هي رواية الحسين بن سعيد عنه.

وأصل هذا الوجه مذكور في كلام جامع الرواة حاصله أن خمسة من الرواة منهم الحسين بن سعيد ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب قد رووا عن شخص بعنوان محمد بن الفضيل، وهم بأنفسهم نقلوا عن محمد بن القاسم، فنحتمل أو يستكشف أن المعنون متحد، إلا أن هؤلاء الخمسة تارة يعبرون بمحمد بن الفضيل، وأخرى محمد بن القاسم بن الفضيل من باب التنوع في التعبير وإلا فإن المعنون متحد، والرواية محل البحث رواها الشيخ (قدس سره) بسنده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن الفضيل))(1).

فهذا الوجه لو تم فإنه يصحح أحد طرق هذه الرواية وهو طريق الشيخ

ص: 324


1- محاضرة بتأريخ 17/شوال/1417.

(قدس سره) إلى الحسين بن سعيد.

ونقض عليه بما أورده النجاشي(1)

من أن لمحمد بن فضيل الصيرفي الأزدي –الذي هو محل الإشكال- كتاباً رواه ابن أبي الخطاب، فانخرمت القاعدة المذكورة.

أقول: لم يرد في كلام الأردبيلي هذا المعنى وإنما قال بعد أن أورد الوجوه المتقدمة ((فيظهر من مجموع هذه القرائن أن محمد بن الفضيل الذي روى عنه فيه كثيراً هو محمد بن القاسم بن الفضيل الثقة والله أعلم.

ومن نظر وتأمل في هاتين الترجمتين حق النظر والتأمل ظهر له أن محمد بن الفضيل الذي روى عنه الحسين بن سعيد ومحمد بن إسماعيل بن بزيع وغيرهما كثيراً في كتب الأخبار هو محمد بن القاسم بن الفضيل الثقة))(2).

أقول: لا يظهر من كلامه (قدس سره) أنه وجه جديد كما ذكر بعض أساتذتنا خصوصاً وأنه ذكره بعد انتهائه من ذكر النتيجة، فذكره لهذه الاسماء من باب التعريف وليس الدليل أو القرينة.

ولعل ما ذكره بعض أساتذتنا كوجه مستقل هو فهم منه للوجه الثاني المتقدم بلحاظ هذه الأسماء.وأضاف (دام ظله الشريف) وجهاً آخر عبَّر عنه بأنه ((محاولة تصحيح الطريقين الآخرين للرواية وهما للكليني في الكافي والشيخ في التهذيبين عنه، وذلك لأن في السند محمد بن إسماعيل عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح. فيقال حينئذٍ إن الشيخ (قدس سره) ذكر في رجاله أن لأبي الصباح أصلاً »رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع ومحمد بن الفضيل وصفوان بن يحيى عنه«(3).

ص: 325


1- رجال النجاشي: 367، رقم (995).
2- جامع الرواة: 2/183.
3- رجال الشيخ: 123، رقم (1230).

وهذا يعني أن ابن بزيع روى عن أبي الصباح مباشرة، وفي ضوء هذا فمن المحتمل وقوع تصرف في سند هذه الرواية والصحيح محمد بن إسماعيل ومحمد بن الفضيل عن أبي الصباح.

وهذا الوجه غير صحيح إذ لا يمكن الاعتماد على ما ذكره الشيخ في رجاله لأنه مخالف لما في التهذيب، فإن محمد بن إسماعيل يروي عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح لا مباشرة، وقد ذكر في عشرات الروايات أن محمد بن إسماعيل يروي بواسطة عن أبي الصباح))(1).

أقول: هذه التخطئة للشيخ (قدس سره) لا وجه لها؛ لأن محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني –المرَّدد بين البرمكي والنيسابوري- ليس هو ابن بزيع الذي يروي أصل أبي الصباح الكناني.

وبهذا يرد على محاولة التصحيح المذكورة وليس بما أورده (دام ظله الشريف).

أما نحن فلنا محاولة أخرى لتصحيح رواية الفضيل من دون هذه المحاولات العلاجية لأنها انطلقت من البناء على عدم وثاقة محمد بن الفضيل الأزدي، ولكن يمكن أن نذكر وجهاً لتصحيح الرواية بتوثيق محمد بن الفضيل الأزدي الصيرفي بما أثنى عليه الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) في رسالته العددية حيث عدّه ((من الفقهاء والرؤساء الأعلام، الذين يؤخذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، ولا يطعن عليهم بشيء، ولا طريق لذم أحد منهم))(2)

أما تضعيف الشيخ له فلا يضر إذ لعله مبني على اتهامه بالغلو كما ذكر في موضع من رجاله(3) وهي تهمة دخلهاتسامح كبير كالذي حكي عن

ص: 326


1- محاضرة بتأريخ 17 / شوال/1417.
2- معجم رجال الحديث: 17/163.
3- ذكره الشيخ (قدس سره) في رجاله في أكثر من موضع فقد ذكره في أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) برقم (4259) من دون وصف وفي أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) برقم (5124) ووصفه بالضعيف وفي أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) برقم (5423) وقال عنه: ((يرمى بالغلو)).

الشيخ الصدوق أنه يقول بأن نفي السهو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الغلو(1)،فهذا اتهام لا يضر بوثاقته وجرح لا يعارض شهادة الشيخ المفيد (قدس سره) بالثناء والفقاهة.

وهذا الوجه أوضح مما ذكروه وأقربها لتصحيح الرواية إن أمكن.

ونتيجة المناقشة في الاستدلال برواية الكناني: أنها لم تتم دلالة وسنداً فلا تعارض أدلة المشهور، وإن تمت ببعض التقريبات التي ذكرناها فإنها لا تقوى على معارضة قول المشهور، لأقوائية أدلة المشهور، خصوصاً عند من يرى قطعية الصدور بالتواتر ونحوه –كما ذكر صاحب الجواهر- وهذه ظنية فيقدّم قول المشهور.

وإن لم نقل ذلك فإنه يقع التعارض بين الروايات؛ لأن قول المشهور نافٍ للقضاء (بصريح صحيحة محمد بن مسلم والإطلاق السكوتي للروايات الأخرى) والقول المقابل يوجبه.

وحينئذٍ يكون الترجيح بموافقة الكتاب لرواية الكناني لأن مقتضى الآية الشريفة وجوب القضاء مطلقاً.

وإن تنزلنا فالترجيح لقول المشهور لمخالفته العامة بحسب حكاية الشيخ في الخلاف(2)،وممن حملها على التقية صاحب الرياض (قدس سره)(3).

(القول الثاني) وجوب القضاء والفدية معاً.

فقد ((حكي عن ابن الجنيد أنه احتاط بالجمع بين القضاء والصدقة

ص: 327


1- من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق: 1/360.
2- الخلاف: 2/207.
3- رياض المسائل: 5/434.

وقال أنه مروي، حكاه عنه في الدروس))(1).

واحتمل المحققان صاحبا المدارك والحدائق (قدس سرهما) أن تكون الرواية التي أشار إليها ابن الجنيد هي موثقة سماعة قال: (سألته عن رجل أدركه رمضان وعليه رمضان قبل ذلك لم يصمه فقال: يتصدق بدل كل يوم من الرمضان الذي كان عليه بمد من طعام، وليصم هذا الذي أدركه، فإذا أفطر فليصم رمضان الذي كان عليه، فإني كنت مريضاً فمر علي ثلاث رمضانات لم أصح فيهن ثم أدركت رمضاناً آخر فتصدقت بدل كل يوم مما مضى بمد من طعام، ثم عافاني الله تعالى وصمتهن)(2).بتقريب: جمع الإمام (عليه السلام) بين الفدية وقضاء الأشهر الفائتة.

وأُجيب:-

1- بأن الرواية ((ضعيفة السند، ولم يسندها إلى الإمام))(3).

وفيه: إن الرواية معتبرة لأن رواتها ثقات وإن كان أكثرهم من الواقفة، وعدم إسناد أبي بصير إلى الإمام (عليه السلام) لا يضره كما هو واضح.

2- بأنه لم يذكر فيها استمرار المرض في ما بين الرمضانين(4).

أقول: هذا صحيح خصوصاً وأن الإمام (عليه السلام) فرّع كلامه على ما سبقه في صدر المسألة الظاهر في من صحَّ بين الرمضانين.

نعم قد يُقال: إن ظاهرها مستمر المرض؛ لأن المعصوم (عليه السلام) لا يتقاعس عن القضاء في ما لو صحّ بين الرمضانين.

ولكن يرد على هذا باحتمال أن الإمام (عليه السلام) أفطر رمضان لمرض وصحَّ بين الرمضانين لكن أعاقه عن القضاء عذر آخر كسفر ونحوه،

ص: 328


1- مدارك الأحكام: 6/215، الحدائق الناضرة: 13/301.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 25، ح5.
3- مختلف الشيعة: 3/385، جواهر الكلام: 17/26.
4- في مختلف الشيعة للعلامة: 3/385 ومستند الشيعة: 10/446 وغيرهما.

فلا يتم الاستدلال بها.

3- إمكان حملها على الاستحباب كما استقربه الشيخ (قدس سره)، إما لأن ظاهرها ذلك كما حكاه صاحب الرياض (قدس سره)، أي بغضّ النظر عن المعارضة، أو إنه مقتضى الجمع العرفي مع روايات القول المشهور، أو بقرينة صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من أفطر شيئاً من رمضان في عذر ثم أدرك رمضان آخر وهو مريض فليتصدق بمد لكل يوم، فأما أنا فإني صمت وتصدقت)(1).

ففعل الإمام (عليه السلام) ظاهر في الاستحباب.

والأفضل في جواب الاستدلال بالموثقة أن يقال: أنها لا تنافي روايات قول المشهور لأن فعل الإمام (عليه السلام) أعم من الوجوب وهو حريص على فعل المستحبات كالواجبات، فتحمل على الاستحباب بقرينة روايات المشهور الدالة على نفي الوجوب.

ويمكن الاستدلال على قول ابن الجنيد بما يحتمل أنه معنى آخر لقوله: أنه مروي، بمعنى أنه مستفاد من الروايات بنحوٍ ما، ك- ((كونه مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين –أي ما دلّ على القول المشهور والقول الأول-)) أي أنه طريق للجمع بين رواياتهما.

وفيه: أنه ((ساقط، لأن الطائفتين كما تشتركان في إثبات كلٍّ من الأمرين تشتركان أيضاً في نفي كل منهما، فلو بني على الجمع بالإثبات كان الجمع بالنفي أولى. وأولى منهما الجمع بالتخيير، لكنه غير عرفي بل الظاهر أن المقام منالتعارض الذي هو موضوع الترجيح، الموجب لتقديم الطائفة الأولى لا غير))(2).

ص: 329


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 25، ح4.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/497.

أقول: لو كان مفاد الطائفة الأولى وجوب الفدية على نحو اللابشرط، ومفاد الثانية وجوب القضاء كذلك لأمكن الجمع بينهما بالضم أي ربطهما ب-(و) ولو من باب تحصيل فراغ الذمة اليقيني، أو التخيير بينهما ب-(أو) كما هو مقتضى القاعدة في مثل المورد كخصال الكفارة.

لكن هذا التصرف غير ممكن في المقام لأن كلاً من الطائفتين يثبت الواجب المعيَّن وينفي الآخر لقوله في صحيحة محمد بن مسلم: (وليس عليه قضاؤه) وفي رواية أبي الصباح (فليس عليه إلا الصيام).

فيقع التعارض بينهما ولا مجال للضم ولا للتخيير، فنعمل مرجّحاته، لكن فرض التعارض تنزّلي لما تقدّم.

وعلى فرض تحقق التعارض فإن الترجيح للطائفة الثانية خلافاً لما قاله (قدس سره) لموافقتها للكتاب.

اللهم إلا أن نجعل موافقة الثانية للعامة بنحو يوهن حجيتها ولو بلحاظ استفاضة الطائفة الأولى.

وعرض صاحب الجواهر (قدس سره) وجهاً آخر بقوله: ((اللهم إلا أن يقال بالجمع استناداً في القضاء للعمومات وفي الفدية إلى أولوية السفر من المرض الذي هو أعظم الأعذار، لكن لا أظنّ قائلاً به، مع احتمال منع الأولوية هنا))(1).

أقول: لا معنى للأولوية بعد أن عُلِم حكم السفر.

وفي ضوء ما تقدم فالقول بوجوب الجمع بين القضاء والفدية المنسوب إلى ابن الجنيد لا وجه له.

نعم إنْ أراد من الاحتياط استحبابه لحسنه في نفسه أو خروجاً من شبهة الخلاف أو تأسياً بفعل الإمام (عليه السلام) فلا بأس به، وهذا التوجيه أنسب

ص: 330


1- جواهر الكلام: 17/32.

بكلام ابن الجنيد الموافق للمشهور لقوله: ((وإن كان أفطر لمرض واتصل به المرض إلى رمضان آخر أو رمضانين أو ثلاثة، تصدّق عن سائر الرمضانات عن كل يوم مداً من طعام، وقضى آخر رمضان منها برئ عقيبه، ولو صام جميعها مع الصدقة كان أحوط))(1).

أقول: فنسبة القول بوجوب الجمع إلى ابن الجنيد وعدُّه وجهاً مستقلاً عن قولالمشهور ليس دقيقاً.

قول رابع بالتخيير:

لولا تصريح صحيحة محمد بن مسلم بنفي القضاء ونفي رواية أبي الصباح لغير القضاء وتحقق التعارض، لكان يمكن أن يكون القول بالتخيير وجهاً للجمع بين الروايات، إذا كان كل منهما على نحو اللا بشرط، فيقال أن الطائفة الأولى أوجبت القضاء باعتباره أحد فردي التخيير، وأوجبت الطائفة الثانية القضاء لنفس الاعتبار.

ويمكن حتى على هذا توجيه القول بالتخيير باعتبار أن قوله (عليه السلام): (وليس عليه قضاؤه) محمول على نفي الوجوب فيمكن أن يجتمع مع الجواز، أو أن النفي إضافي بلحاظ من امتثل البدل بدفع الفدية، فلا قضاء عليه حينئذٍ أي أنها تنفي الجمع.

لكن هذا الوجه لم يقل به أحد. نعم حكى صاحبا المدارك والحدائق عن العلامة (قدس الله أسرارهم) في التحرير أنه ((قال بعد أن قوّى ما ذهب إليه ابن بابويه من وجوب القضاء دون التكفير: ونقل عن الشيخين القول بوجوب التكفير دون القضاء. وعلى قول الشيخين لو صام ولم يكفّر فالوجه الإجزاء. وهو يؤذن بكون مذهب الشيخين هو التخيير بين القضاء والتكفير،

ص: 331


1- مختلف الشيعة: 3/386 مسألة (113).

والأمر ليس كذلك؛ لأن صريح كلامهما والأدلة التي تقدمت مما استدلوا به إنما هو تعيّن التكفير دون القضاء))(1).

ص: 332


1- مدارك الأحكام: 6/215، الحدائق الناضرة: 13/306.

(المطلب الثاني) فيما لو كان العذر غير المرض كالسفر الموجب للإفطار واستمر به إلى رمضان الآخر، فهل يلحق بالمرض أم لا؟

وفي المسألة قولان:

(القول الأول) هو عدم الإلحاق فيجب القضاء على من أفطر لسفر واستمر به العذر إلى رمضان القادم، كما لو كان في بلاد بعيدة وسافر إلى الحج أو إلى التجارة من دون أن يقيم في بلدٍ ما، وهذا هو مقتضى إطلاق الآية الشريفة، ولا يوجد دليل معتبر يخرج السفر من إطلاقها كما خرج المرض.

كما يمكن الاستدلال على وجوب القضاء على المسافر بأدلة المسألة السابقة إما بتقريب وحدة المناط، وهو عدم مدخلية التمكن من القضاء في وجوبه على المسافر، وهو حجة لأنه مستنبط من النص.

أو ما قيل من التمسك بإطلاق رواية منصور بن حازم وموثقة أبي بصير(1)

في المسألة السابقة، بتقريب أن زمن الموت مطلق فهو مفتوح لما بين الرمضانين وأزيد.

وترقى السيد الحكيم (قدس سره) فتمسك بالأولوية في هذه المسألة واستدل ((بما دلّ على وجوب القضاء عن المسافر إذا مات في سفره فإن وجوبه هنا بطريق أولى))(2).

أقول: الأولوية غير ظاهرة ولا بيّنها في كلامه (قدس سره)، إلا أن تقرَّب بأن من مات وانقطعت عنه إمكانية القضاء ومع ذلك فقد اشتغلت ذمته بالقضاء بدليل تكليف وليه به، فإن من كان حياً واستمر به العذر إلى رمضان القادم أولى بوجوب القضاء لإمكان امتثاله بعد رمضان القادم بتوسعة زمن وجوب

ص: 333


1- تقدمت (صفحة 290).
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/499.

القضاء.

وفيه: أن هذه الاحتمالات والظنون غير معتبرة فلا تكون حجة، ولسنا بحاجة إلى الأولوية ما دام المناط واحداً.

وسنشير إلى بعض الوجوه للاستدلال على هذا القول من خلال النقض على القول الثاني بإذن الله تعالى.

(القول الثاني) بالإلحاق:

لم يتعرض القدماء للمسألة، قال بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف): ((فإن القوم كلهم تعرضوا في متونهم الفقهية حتى الصدوق في المقنع لخصوص المرض،تبعاً للروايات في الكافي والتهذيبين))(1).

أقول: أما رواية الفضل بن شاذان التي هي عمدة دليلهم على الإلحاق فقد رويت في العلل والعيون.

لكنه (دام ظله الشريف) عاد في اليوم التالي وقرَّب ذهاب الشيخ الصدوق إلى الإلحاق تبعاً لابن شاذان بوجهين هما ((إما من جهة ما ذكره المحقق البحراني في الدرر النجفية (صفحة 400) بدعوى أن الصدوق رواها ولم يناقش في سندها فهو معتقد بها بلا فرق.

أو لوجه آخر وهو أن الصدوق حينما أورد رواية الفضل في العلل فإنه كان يقول في كل مورد يخالف ما جاء فيها: أنه غير صحيح أو يقول أن الفضل قد خلط أو أن الرواية وردت بذلك وهو غير صحيح، وهنا لم يعلق، فعدم مخالفة الصدوق لعلل الفضل تكشف عن موافقته له في هذا المورد، أما عدم ذكره هذه المسألة في المقنع فلعله لندرة الفرض وبناؤه في المقنع على الفروض الواردة)).

ص: 334


1- محاضرة للسيد السيستاني (دام ظله الشريف) بتأريخ 22/شوال/1417.

أقول: هذا التقريب غير تام لأن الصدوق كان يتصدى لذكر المخالفة حينما يكون الاختلاف في الرواية لا في فتاوى الفضل وفيما اجتهد فيه الفضل وذكره من فروض الأسئلة فلا يستكشف رأيه من عدم التعليق.

أما الشيخ الطوسي فإنه لم يُشر إلى المسألة أيضاً في كتبه إلا أنه صرّح بالإلحاق في كتاب الخلاف كما تقدم (صفحة 315).

لكن هذا –ومثله وجوب القضاء المحكي عن الحسن بن أبي عقيل- لم يُعد منهما خلافاً في المسألة واطراداً لحكم المرض وعملاً برواية الفضل ((سيما وقد عرفت أن الشيخ (رحمه الله) يقول بالقضاء في استمرار المرض فضلاً عن غيره فلا وجه لحكاية الخلاف عنه هنا))(1).

نعم اختار هذا القول عدد من المتأخرين كصاحب الحدائق والمحقق النراقي(2)

(قدس الله سريهما) وهو ظاهر الرياض(3)

لاستدلاله برواية الفضل بن شاذان التالية.

وقد استدل على إلحاق السفر بالمرض بروايتين، إذا تمت الحجة بهما فإنهما يخصصان ما استدل به على الوجوب من إطلاق الآية والرواية، والروايتان هما:

(الأولى) صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (منأفطر شيئا من رمضان في عذر ثم أدرك رمضان آخر وهو مريض فليتصدق بمد لكل يوم، فأما أنا فاني صمت وتصدقت)(4).

بتقريب أن العذر في صدر الرواية مطلق فيشمل السفر.

وأجيب بأنه محمول على المرض خاصة بقرينة قوله (عليه السلام) بعد

ص: 335


1- جواهر الكلام: 17/33.
2- الحدائق الناضرة: 13/308.
3- رياض المسائل: 5/435.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 25، ح4.

ذلك: (وهو مريض)؛ لذا فهو ((قاصر عن تخصيص ما دل على القضاء من الآية والرواية))(1)،وتنظّر في هذا التقييد آخرون –كصاحب الرياض (قدس سره)- وقوّوا ظهوره في العموم.

أقول: لو سلّمنا بإطلاق لفظ العذر(2)

فإن غاية ما يخرج به عن إطلاق الآية ما لو أفطر بعذر مطلقاً –كالسفر- لكنه لما زال العذر ابتلي مباشرة بالمرض إلى رمضان القادم ولم يتمكن من القضاء، فلا تشمل ما نحن فيه من كون العذر هو السفر المستمر خاصة.

وهذه الصورة سنتناولها في الفرع الملحق بإذن الله تعالى.

(الثانية) رواية الفضل بن شاذان(3)

في العلل (وهي الرواية رقم (5) في المجموعة المذكورة في المطلب الأول) لتصريحها بذكر السفر.

وقد وصفها بعض الأعلام(4)

بالصحيحة –كصاحب الجواهر (قدس سره)- والمصححة –كالسيد الحكيم (قدس سره)- وغيره.

وقد قرّب بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) وجهين لذلك:-

1- ((إن أحد الطريقين على الأقل وهو عن ابن عبدوس عن ابن قتيبة يمكن تصحيحه))

ص: 336


1- جواهر الكلام: 17/33.
2- وسنشير إلى نقض عليه (صفحة 350) بإذن الله تعالى.
3- الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) ومحل الشاهد فيها: (إن قال: فلم إذا مرض الرجل أو سافر في شهر رمضان فلم يخرج من سفره أو لم يقو من مرضه حتى يدخل عليه شهر رمضان آخر وجب عليه الفداء للأول وسقط القضاء، وإذا أفاق بينهما أو أقام ولم يقضه وجب عليه القضاء والفداء؟).
4- جواهر الكلام: 17/33، مستمسك العروة الوثقى: 8/499، مهذب الأحكام للسيد السبزواري (قدس سره): 10/311، فقه الصادق: 12/474 (ط-ح).

أقول: سنذكر وجوهاً لذلك فيما يأتي ونناقشها إن شاء الله تعالى.

2- ((إن الصدوق لا ينقل في الفقيه إلا ما هو حجة، وقد نقل عن علل الفضل بن شاذان فهذا دليل على صحة ما في العلل، إلا ما صرّح بعدم صحته في العلل وأسقطه في العيون لاحتمال بنائه على إيراد ما يعتقد بصحته في العيون.

وحينئذٍ يقال إن الصدوق قد حصل له اطمئنان وإن كان من غير جهة التوثيق))(1).

أقول: هذه اجتهادات لا تكون حجة على غير من يعتقد بها، وللشيخ الصدوق مشايخ، قال هو في أحدهم –وهو أحمد بن الحسين أبو نصر- : ((ما لقيتُ أحداً أنصب منه))(2)

لأنه كان يقول اللهم صلِّ على محمدٍ فرداً، كي لا يدخل في الصلاة أحد من أهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين).

وبرواية الفضل استدل صاحب الحدائق، قال (قدس سره): ((لا يخفى أن رواية الفضل بن شاذان المنقولة من كتابي العلل والعيون عن الرضا صريحة في السفر وأن حكمه حكم المرض فلا مجال للتوقف في ذلك. وبه يظهر قوة ما ذهب اليه الشيخ في الخلاف))(3).

أقول: يمكن مناقشة الاستدلال بالرواية من عدة جهات:

أولاً: من جهة (المتن) لأن عنوان السفر ورد في كلام السائل ولم يتضمن الجواب الإشارة إليه بل أهمله وأعرض عنه وهذا يشعر بالفرق بين السفر والمرض.

وأجاب بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) بجوابين:-

((1- إن الإمام (عليه السلام) على تقدير صدور الجواب عنه لم يردعه عن

ص: 337


1- محاضرة بتأريخ 23/شوال/1417.
2- معاني الأخبار: 56/ح4.
3- الحدائق الناضرة: 13/308.

عدّ السفر كالمرض ولو لم يكن كذلك لبيّنه))(1).

أقول: وفيه: إن نفس إهمال الإمام (عليه السلام) وعدم التعرض لذكره في السؤال يشعر بعدم تطابق حكمه مع المرض وأن السائل أخطأ حين توهّم عدم الفرق بينهما.

((2- إن الجواب وإن ركّز على المرض ولم يذكر السفر، إلا أن التعليل المذكور فيها عام وهو قوله (عليه السلام): (لأنه دخل الشهر ..) وقوله (عليه السلام) في نهاية الرواية: (والصوم لاستطاعته)، فالمعيار هو الاستطاعة وعدمها، وفي السفر توجد عدم استطاعة شرعية من جهة الإذن في السفر وهو مانع شرعي، فإن قلنا بإلحاق السفر فلا بد من تخصيصه بالاضطراري)).

أقول: التعليل الأول مبني على تنقيح المناط وهو ليس بحجة، والتعليل الثانيالمبني على التمكن من القضاء خاص بالمرض كما حررناه في المسألة السابقة، وتعميمه إلى السفر بلا دليل.

ثانياً: من جهة إعراض الأصحاب عن العمل بها حتى أنهم لم يتعرضوا للمسألة أصلاً، كما قرّبنا (صفحة 334)، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا أظن قائلاً بكونه –أي السفر- كالمرض في الاقتصار عليها –أي الفدية-، وإن كان هو ظاهر صحيح الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام)، إلا أنه مع اتحاده وعدم ظهور العمل به قاصر عن معارضة الآية والرواية)) وقال في الصفحة التالية: ((ومنه يُعلم حينئذٍ مهجورية الخبرين –أي هو وصحيحة عبد الله بن سنان- فلا بأس بطرحهما أو حملهما على ما يقتضي الاختصاص

ص: 338


1- محاضرة بتأريخ 23/ شوال/1417.

بالمرض))(1).

وقال السيد الحكيم (قدس سره): ((لكن الحديث وإن جمع في نفسه شرائط الحجية، ساقط عنها بالهجر، إذ لم يعرف قائل به. وإلحاق السفر بالمرض وإن نسب إلى ابن أبي عقيل والخلاف، فليس ذلك عملاً منهما به أو بمضمونه، لما عرفت من أن المحكي عنهما في المرض وجوب القضاء دون الكفارة))(2).

أقول: يمكن الرد على دعوى الهجران بأمرين:-

1- إن الفضل بن شاذان أرسل الحكم إرسال المسلّمات ولم يسأل عنه وإنما سأل عن علته، ومنهجه في الرسالة هو هذا أي البحث عن علل الأحكام المشهورة والمعروفة، وهذا يكشف عن شهرة هذا الحكم لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) المعاصرين لهم ومنهم الفضل بن شاذان.

2- ربما كان عدم تعرض القدماء للمسألة لعدم تصورهم لموضوعها باعتباره فرضاً نادراً لا للإعراض عن العمل برواية الفضل.

لكن يمكن ردهما معاً:

أما (الأول) فلاحتمال أن ابن شاذان كان يسجِّل الأحكام التي يعتقد بها هو ويعلّلها، فلا يستفاد منها مشهورية الحكم ومعروفيته.

وأما (الثاني) فلأن القدماء كانوا يوردون الفروع التي تذكر في الروايات بغضّ النظر عن كونها نادرة أو متعارفة، فلو كانوا يعتقدون بحجية هذه الرواية لتعرضوا لمسألة السفر.

ص: 339


1- جواهر الكلام: 17/32-33.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/499.

التشكيك في كون رسالة العلل لابن شاذان روايةً عن الإمام الرضا (عليه السلام):ثالثاً: إن المظنون أن هذه الرسالة هي من تأليف الفضل نفسه استناداً إلى الروايات مع ضم استنباطاته منها وفهمه لها، وليست هي رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام)، وتوجد روايات في العلل لغير الفضل وبعضها مفصّلة ومطولة كرواية محمد بن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام) في العيون، ورواية الفضل تشبهها، حتى ألّف الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) كتاباً في (علل الشرائع).

فغاية ما يقال فيها أنها روايات مرسلة للفضل بن شاذان، وذلك لقرينتين:

أولاهما: إن الشيخ (قدس سره) عدَّ الفضل بن شاذان في رجاله من أصحاب الإمامين العسكريين (عليهما السلام) ولم يُذكر أنه من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) ولا ولده الإمام الجواد (عليه السلام).

بل إن النجاشي ذكر في رجاله عن الفضل: ((كان أبوه من أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني وقيل عن الرضا (عليهما السلام) ))(1)،واستظهر منه السيد الخوئي (قدس سره) أن هذا الكلام يعود إلى شاذان والد الفضل، وشرح ذلك بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) وأضاف: ((ويونس توفي بعد الرضا بسنين ولم يذكر في الفضل ذلك فهو لم يدرك الرضا، وإن مجموع هذه العلل يحتاج إلى مجالس وصحبة طويلة فيكون من المعمرين ولم يثبت))(2).

ص: 340


1- رجال النجاشي: 306، رقم الترجمة (840).
2- محاضرة بتأريخ 23/شوال/1417.

أقول: يمكن ردّ هذا الإشكال بوجوه:-

أ- إن الفضل روى عن صفوان بن يحيى ومحمد بن أبي عمير ومن هم في طبقتهما وهم من أصحاب الإمام الكاظم والرضا والجواد (عليهم السلام) وتوفي ابن أبي عمير في حياة الإمام الجواد (عليه السلام) فلا يبعد أن يروي الفضل عن الإمام الرضا (عليه السلام).

ب- روى الكشي بسنده قول الفضل بن شاذان: ((أنا خلف لمن مضى أدركت محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وغيرهما وحملت عنهم منذ خمسين سنة))(1)

فإذا علمنا أن الفضل توفي في عهد الإمام العسكري المستشهد سنة (260 هج-) فلا يكون بعيداً روايته عن الإمام الرضا (عليه السلام) المستشهد سنة (203 هج-).

ج- إن عبارة النجاشي المتقدمة لعل الأظهر فيها كون الموصوف بها الفضل لا أباه كما لا يخفى على من راجع، وهذا ما فهمه صاحب الوسائل (قدس سره) حيث أ- أخبر بها عن الفضل نفسه قال (قدس سره) في خاتمة الوسائل: ((الفضل بن شاذان روى عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، وقيل: عن الرضا (عليه السلام) ))(2).

د- إن علي بن محمد بن قتيبة روى عن أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) فتكون طبقة الفضل الذي روى عنه ابن قتيبة معهم، فقد روى الشيخ الصدوق عن ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان النيشابوري الثقة عن الإمام الرضا(3) (عليه السلام).

ص: 341


1- معجم رجال الحديث: 13/317.
2- وسائل الشيعة: خاتمة الكتاب، رقم (906).
3- كالذي أورده العلامة المجلسي في (بحار الأنوار: 5/200، ح 22) عن كتب الصدوق، (معاني الأخبار: 145، باب 86، ح2. عيون أخبار الرضا: 1/120، باب 11، ح28. التوحيد: 241-242، باب 35، ح1).

ومن الطريف أن حمدان بن سليمان ذكره الرجاليون في أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) ولم يذكروه في أصحاب الرضا (عليه السلام) عدا ما ورد في النسخة المطبوعة من رجال الشيخ(1)،فتكون مشكلته نفس مشكلة الفضل بن شاذان.

ه-- ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) بعد أن ذكر عبارة النجاشي المتقدمة: ((ظاهر النجاشي حيث خص والد الفضل بروايته عن الجواد عليه السلام وعلى قول عن الرضا عليه السلام، عدم رواية الفضل عن الرضا عليه السلام، وهو أيضاً ظاهر الشيخ حيث أنه لم يعد الفضل من أصحاب الرضا ولا من أصحاب الجواد عليهما السلام، ولكن الظاهر أن ما ذكره الصدوق هو الصحيح، وذلك لقرب عهده وطريقه إلى الفضل، ويؤكد ذلك أن والد الفضل روى عن أبي الحسن الأول عليه السلام، فلا بعد في رواية الفضل نفسه عن الرضا عليه السلام، فقد روى محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن شاذان، عن أبي الحسن موسى عليه السلام. الروضة: الحديث 138))(2).

أقول: فهذه القرينة على عدم صحة رواية العلل غير تامة، ولا أقل من دخول الاحتمال المبطل للاستدلال بها.

ثانيهما: وجود قرائن من نفس الرواية تقوي كونها من تأليف الفضل، فإن من دقق النظر في نظم الرواية يشعر بأنها ليست من كلام الإمام (عليه السلام) وإنما من وضع الفضل للاستفادة منها في الجدال والمناظرة، والذي يعزّز هذا وجود فقرات منها لا يمكن صدورها من الإمام المعصوم (عليه

ص: 342


1- معجم رجال الحديث: ج6.
2- معجم رجال الحديث: 13/323.

السلام) أو لا تصح نسبتها إليه ولا تناسب مقامهم:

(منها) قوله: ((فإن قال: فأخبرني من تلك العلل معروفة موجودة هي؟ أم غير معروفة ولا موجودة، قيل بل هي معروفة وموجودة عند أهلها. فإن قال: أتعرفونها أنتم أم لا تعرفونها، قيل لهم منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه)).

(ومنها) قوله في صلاة الكسوفين: ((فإن قال: فلِمَ غُيِّرت عن أصل الصلاة التي افترضها الله، قيل: لأنه صلّى لِعلّةِ تغيُّر أمر من الأمور وهو الكسوف فلما تغيَّرت العلة تغيّر المعلول))(1).

أقول: هذا كلام يناسب أهل القياس والرأي ولا يعرف مثله عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام).

ولعل هذا النمط من التفكير معروف عن الفضل(2)

لذا سأله ابن قتيبة الراوي عنه –فيما سننقله - بأن الرسالة من استنباطه واجتهاده أم أنها كلام رواه عن أبي الحسن (عليه السلام)، وتفوح من هذا السؤال رائحة التشكيك.

لذا شكك عدد من الأساطين في كونها رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام)، ومنهم الشيخ الصدوق نفسه كما أورد العلامة المجلسي (قدس سره) في البحار، قال (قدس سره): ((إن الفضل (رحمه الله) ذكر تلك العلل من غير رواية، ثم لما سأله ابن قتيبة هل قلت جميع ذلك برأيك أو عن خبر؟ قال:

ص: 343


1- عيون أخبار الرضا: 328.
2- ومن الشواهد على ذلك: التذييل الطويل للفضل عقب روايته صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي رويت بطريق آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (بنات الابنة يرثن إذا لم تكن بنات كٌنَّ مكان البنات) (فروع الكافي: ج7، كتاب المواريث، باب 54: ميراث ولد الولد، ح3، 4) فذكر فروعاً كثيرة للمسألة وانتهى إلى الرد على ((الذين أرادوا إبطال الحسن والحسين (عليهما السلام) بسبب أمهما)) وتعليل ذلك وذكر ((الدليل على خطأ القوم في ميراث ولد البنات)).

بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا المرة بعد المرة، والشيء بعد الشيء فجمعتها، ويظهر من الصدوق (رحمه الله) أنه حمل هذا الكلام على أن بعضها سماعي وبعضها استنباطي ولذا تراه يقول في مواضع وغلط الفضل بن شاذان فيذلك، وهذا مما يضعف الاحتجاج به))(1).

وحكى من استقرأ بعض كلمات الشيخ الصدوق (قدس سره) في الفقيه أنه يشكك في كونها رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام)؛ لقوله في عدة موارد: ((ويروى عن الفضل بن شاذان ويذكر أنه سمعه من الرضا (عليه السلام) ))(2).

ولا يخفى على المتتبع معرفة الأحاديث الأصلية التي اقتبس منها الفضل بعض ما ورد في رسالته(3)؛

لذا فإن الشيخ الصدوق قال بعد أن ذكر علة تأخير خطبتي العيد عن الصلاة وتقدمهما في الجمعة الواردة في رواية العلل: ((قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: جاء هذا الخبر هكذا))(4) ثم ذكر نصّاً آخر.

ص: 344


1- بحار الأنوار: 86/206.
2- محاضرة بتأريخ 23/شوال/1417.
3- كقوله: (وكذلك كل ما غلب الله عليه .. فهو أعذر له) وهو مأخوذ من صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل ما غلب الله عليه فليس على صاحبه شيء) ومن صحيحة علي بن مهزيار (أنه سأله –يعني أبا الحسن الثالث (عليه السلام)- عن هذه المسألة –يعني مسألة المغمى عليه – فقال: لا يقضي الصوم ولا الصلاة، وكلما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر) (وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 24، ح3، 6). ولمحمد بن سنان رواية مطولة في العلل عن الإمام الرضا (عليه السلام) أوردها الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا: 303 -311، باب 33.
4- عيون أخبار الرضا: 325.

أقول: لو كان الصدوق يعتقد أن هذا من كلام الإمام الرضا (عليه السلام) فإنه لا معنى لتعليقته هذه

رابعاً: ضعف السند بطريقيه فقد ذكر الشيخ الصدوق (قدس سره) في أول الرواية: ((حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار بنيسابور في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال: قال أبو محمد الفضل بن شاذان النيسابوري.

وحدثنا الحاكم أبو محمد جعفر بن نعيم بن شاذان عن عمه أبي عبد الله محمد بن شاذان قال: قال الفضل بن شاذان النيسابوري: إن سأل سائل فقال:))(1).وقال (قدس سره) في آخرها: ((وحدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار (رضي الله عنه) قال: حدثنا علي بن قتيبة النيسابوري قال: قلت للفضل بن شاذان لما سمعت منه هذه العلل: أخبرني عن هذه العلل أذكرتها عن الاستنباط والاستخراج وهي من نتائج العقل أو هي مما سمعته ورويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد الله عز وجل بما فرض ولا مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما شرع وسنّ ولا علل ذلك من ذات نفسي بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) المرة بعد المرة والشيء بعد الشيء فجمعتها، فقلتُ: فأُحدّث بها عنك عن الرضا (عليه السلام)؟ قال: نعم.

حدثنا الحاكم أبو محمد جعفر بن نعيم بن شاذان النيسابوري (رضي الله عنه) عن عمه أبي عبد الله محمد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان أنه

ص: 345


1- عيون أخبار الرضا: 312، الباب (34)، طبعة أنصاريان، قم، الأولى 1426ه-.

قال: سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) متفرقة فجمعتها وألّفتها)).

أما ضعف الطريق الأول فلأن ابن عبدوس وابن قتيبة لم تثبت وثاقتهما.

نعم استفاد البعض توثيق ابن عبدوس بعدة تقريبات:-

1- قول الشيخ الصدوق في ذيل رواية له مقارناً لمتن نقله بطريق آخر عن حمزة بن محمد العلوي مع اختلاف ما هذا نصّه: ((وحديث عبد الواحد بن محمد بن عبدوس رضي الله عنه عندي أصح))(1).

أقول: هذا لا يدل على التوثيق بل يدل على الاطمئنان إلى صحة الرواية لأي مبنى يراه الصدوق كالبناء على أصالة العدالة المعروف عند القدماء أو لقرائن حصلت عنده، بل المعروف عن الشيخ الصدوق (قدس سره) أنه لا يدقق في أسناد الروايات، وإنما يعتمد في ذلك على ما رواه شيخه ابن الوليد كما صرّح (قدس سره) بذلك.

فهذه كلها اجتهادات لا تفيد توثيقاً، إلا أن يصرّح بما يفيد ذلك ليكون شهادة حسّية.

2- ما ذكره المحدث النوري (قدس سره) في خاتمة المستدرك بناءً على تصحيح العلامة (قدس سره) في التحرير رواية للصدوق عن ابن عبدوس الواردة في لزوم كفارة الجمع على من أفطر في شهر رمضان على حرام.

أقول: هذا مما لا يمكن التعويل عليه في التوثيق؛ لاحتمال أن العلامة (قدسسره) بنى على مثل التقريبات المتقدمة في قبول الرواية.

3- ما قاله السيد صاحب المدارك (قدس سره) في ذيل الرواية التي أشار

ص: 346


1- عيون أخبار الرضا: 339 نهاية الباب (35).

إليها العلامة آنفاً: ((أقول: إن عبد الواحد بن عبدوس وإن لم يوثق صريحاً لكنه من مشايخ الصدوق المعتبرين الذين أخذ عنهم الحديث فلا يبعد الاعتماد على روايته))(1)

وعقب المحدث النوري على هذا بقوله: ((وكفى به مصححاً مع ما عُلم من مداقّته في السند، وتبعه جماعة))(2).

أقول: هذه المباني لا يعوَّل عليها في التوثيق بحسب ما هو المعمول عندهم؛ لأنها اجتهادات من أصحابها، وإن كان بعضها قريباً من الوجدان والفهم العرفي.

وأما علي بن محمد بن قتيبة فقد قُرِّب توثيقه بأمور: منها كونه من مشايخ الكشي وقد نقل عنه في رجاله كثيراً، وبقول النجاشي فيه: ((عليه اعتمد أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال))(3)

ووصفه الشيخ الطوسي بأنه ((فاضل))(4)،ورواية شيخ القميين أحمد بن إدريس عنه، وكذا روى عنه الحسن بن حمزة العلوي الطبري المرعشي الذي قالوا في ترجمته: كان من أجلاء هذه الطائفة وفقهائها، يروي عنه شيوخ أصحابنا كالمفيد وابن الغضائري وابن عبدون، وتصحيح العلامة لأكثر من رواية فيها القتيبي في ترجمة يونس بن عبد الرحمن(5).

أقول: هذه الكلمات غير كافية لتوثيقه على مصطلحاتهم، وأما اعتماد الكشي عليه فكذلك، فإن النجاشي بعد أن أثنى على الكشي قال: ((ولكن يروي عن الضعفاء كثيراً))(6).

ص: 347


1- مدارك الأحكام: 6/84.
2- خاتمة المستدرك: 4/453، رقم (198).
3- رجال النجاشي: 259، رقم (679).
4- رجال الشيخ: 429 رقم (6159).
5- خاتمة المستدرك: 4/457، رقم (203).
6- رجال النجاشي: 372، رقم (1018).

وأما الطريق الثاني فقد روى فيه الصدوق عن أبي محمد جعفر بن نعيم بن شاذان ولو يوثَّق في كتب الرجال.

ورواها هو عن عمه محمد بن شاذان وهو محمد بن شاذان بن نعيم وهو نفسه محمد بن أحمد بن نعيم وكنيته أبو عبد الله كما في رجال الكشي والشيخ(1)،وقد وردت فيه روايات مادحة منها ما رواه الصدوق والطوسي (رضي الله عنهما) بسندهما عن الكليني في التوقيع الشريف بواسطة محمد بن عثمان العمري إلى إسحاق بن يعقوب: (وأما محمد بن شاذان بن نعيم فإنه رجل من شيعتنا أهل البيت (عليهم السلام) )(2).

محاولات أخر لتصحيح رواية العلل لابن شاذان

وتعرض المحدث النوري في خاتمة المستدرك إلى ذكر طرق الشيخ في الفهرست والمشيخة والنجاشي في رجاله إلى كتاب العلل. ثم قال: ((مع أن الطريق في المشيخة والفهرست صحيح على المصطلح فلا مجال للوسوسة))(3).

وفيه: صغروياً ما تقدم من الكلام في ابن قتيبة؛ لأنها جميعاً تنتهي إلى القتيبي عن الفضل، عدا طريق الشيخ الطوسي في المشيخة فإنه ينتهي إلى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن محمد بن إسماعيل عن الفضل.

وهو لا ينفع هنا لأننا نريد تصحيح طريق الصدوق إلى رسالة الفضل بن شاذان أما طريق الشيخ فهو يصحح ما رواه هو من أخبار الفضل.

وكبروياً بأن هذا من الموارد التي لا تصح فيها نظرية تعويض السند؛ لأنها تعالج المشكلة فيما رواه المشايخ في كتبهم عن العلل لا مطلق ما ورد في العلل.

ص: 348


1- معجم رجال الحديث: 15/28، رقم (10155).
2- معجم رجال الحديث: 15/29، رقم (10155).
3- خاتمة المستدرك: 5/83-85، رقم (254).

نعم قد يقال هنا التقريب الذي ذكرناه (صفحة 311) في كتاب علي بن جعفر، ويجاب عنه بما ذكرناه فلا نعيد.

وفي ضوء ما تقدم فإن الرواية لا يمكن تصحيحها، ومنه يُعلم النظر في وصف عدد من الأعلام كصاحب الجواهر(1)

(قدس سره) وغيره لها بالصحيحة والسيد الحكيم(2)

(قدس سره) لها بالمصححة.

ويُعلم أن سقوط اعتبارها لعدم وجدانها لشرائط الحجية خلافاً لجمع ممن قال أن الحديث جامع لشرائط الحجية إلا أنه ساقط عنها بالهجر كما تقدم (صفحة 339).

خامساً: معارضة رواية العلل للروايات الدالة على وجوب القضاء عن الميت إذا أفطر لسفر ومات فيه قبل أن يتمكن من القضاء؛ لوحدة المناط في كلا الموردين كما قرّبنا.

وتحصل من البحث أن ما استدل به على سقوط القضاء عن المسافر –كالمريض- إذا استمر به السفر إلى العام القادم: غير تام، ولا يقوى على إخراج هذا الفرد من مقتضى إطلاق الآية الشريفة ولا على معارضة ما استدل به على وجوب القضاء على المسافر.

نقضان على القول بالتعميم:

ويمكن النقض على القول بالتعميم أو قل: الاستدلال بالصحيحة ورواية العلل على التعميم بأمرين:-

1- شمول الحكم –ولو بالإجماع المركب الذي استدل به المحقق النراقي(3)

ص: 349


1- جواهر الكلام: 17/33.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/499.
3- مستند الشيعة: 10/448.

(قدس سره) فعمّم سقوط القضاء إلى كل الصور-لأعذار أخرى لا أعتقد أنهم يقولون بها، كمن أعطي منوماً قبل الصوم فنام بين الرمضانين، أو من أفطر لتقية واستمر به العذر كذلك، أو من أفطر لحرج كذلك، أو المرأة المرضعة قليلة اللبن، ونحوهم من ذوي الأعذار.

فعموم الملاك –وهو استمرار العذر كما في صحيحة ابن سنان ولو بالتلفيق بين بعض الأعذار والمرض–يشملها، مع أن القول بسقوط القضاء مخالف لإطلاق الروايات في هذه الموارد.

2- إن عموم التعليل الذي ورد في رواية الفضل بن شاذان بقوله (عليه السلام): (كل ما غلب الله على العبد فهو أعذر له) ومثّل له بالمغمى عليه، لا يجري في المسافر ونحوه من الأعذار التي ذكرناها؛ لأنها من اختيار العبد حتى السفر الضروري، ولو بكون المقدمات اختيارية، فيكون بعض الرواية ناقضاً لبعضها.

ولعل هذا الإشكال دفع المحقق النراقي (قدس سره) إلى تحرير فرع عن التفصيل في السفر، قال (قدس سره): ((وهل السفر المسقط استمراره للقضاء ما كان واجباً أو ضرورياً، أو أعم منهما ومن غيرهما؟ ظاهر الروايتين: الثاني وهو الأظهر، وصرّح بعض متأخري المتأخرين في شرحه على الدروس(1)

بالأول، وهو الأحوط))(2).

وقد ثبت الآن في نهاية المسألة الثانية أنها تدل أيضاً –كالمسألة الأولى- على أن الحضر وما بحكمه شرط واجب لا وجوب، والسفر لا ينافي الوجوب، أو أنها تدل على ما قربناه في أكثر من موضع من كون الإفطار في السفر رخصة وليسعزيمة بحسب الحكم الأولي، وإنما أصبح منهياً عنه بالعنوان الثانوي

ص: 350


1- مشارق الشموس: 476 (من هامش الكتاب).
2- مستند الشيعة: 10/449.

كنهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه.

فرع

قال السيد صاحب العروة (قدس سره) في ذيل المسألة محل البحث: ((إن كان سبب الفوات هو المرض، وكان العذر في التأخير غيره مستمراً من حين برئه إلى رمضان آخر أو العكس، فإنه يجب القضاء أيضاً في هاتين الصورتين على الأقوى، فالأحوط الجمع، خصوصاً في الثانية)).

ووجههُ أن مقتضى إطلاق الآية الشريفة وجوب القضاء إلا ما خرج بدليل، والثابت خروجه من أفطر بالمرض واستمر به المرض إلى رمضان القابل كما تقدم، فيبقى غيره تحت العام، خصوصاً ما لو كان العذر المانع من القضاء هو غير المرض؛ لأن المسقط للقضاء في الأدلة هو استمرار المرض.

نعم بناءً على الفهم الذي قدمناه لصحيح عبد الله بن سنان، فإنه يمكن القول بسقوط القضاء عمن أفطر في رمضان لعذر مطلقاً، وإن لم يكن المرض كالسفر وزال العذر لكنه ابتلي بالمرض طول الزمن الصالح للقضاء بين الرمضانين.

ويستفاد ظهور الصحيحة في استمرار المرض من تطبيق الإمام (عليه السلام) مضمونها على نفسه، ولا يليق بشأنه المقدس أن يكون قد استطاع القضاء ولم يقضِ، أو مما قال السيد الخوئي (قدس سره) عن الصحيحة: ((إن ظاهرها –ولو بمعونة عدم التعرض لحصول البرء في البين- استمرار المرض بين الرمضانين. ومع الغض والتنزّل عن هذا الاستظهار فغايته الإطلاق لصورتي استمرار المرض وعدمه فيقيد بما دل على وجوب القضاء لدى عدم الاستمرار، فلا جرم تكون الصحيحة محمولة –بعد التقييد- على صورة

ص: 351

الاستمرار))(1).

وهذه الصورة المستفادة من الصحيحة أخصّ مما ذكر في المتن؛ لأن قوله (قدس سره): ((من حين برئه)) يشمل ما لو أفطر بعذر واستمر به العذر إلى ما بعد العيد ثم تجدد له عذر المرض واستمر به إلى رمضان القادم، وهو مورد خارج عن القدر المعتبر من الصحيحة ونعني به استيعاب المرض لما بين الرمضانين. فلا بد لمن قال بالقضاء مستنداً إلى الصحيحة المذكورة أن يفصّل.

وحينئذٍ تكون المحتملات أكثر من صورتين، وهي:-

من أفطر بعذر غير المرض وزال عنه في رمضان وتجدد له عذر المرض في رمضان نفسه أو بعد العيد مباشرة، أي أن المانع من القضاء كان المرض على طول الزمان الممتد بين الرمضانين وهو القدر المتيقن خروجه من إطلاق الآية1- بمقتضى صحيحة عبد الله بن سنان.

2- من أفطر بعذر غير المرض كالسفر واستمر به إلى ما بعد العيد ثم تجدد له عذر المرض بعد زواله مباشرة من دون التمكن من القضاء.

وعكسهما صورتان أخريان، فكلام صاحب العروة (قدس سره) لم يفصل بين صورتي كل حالة.

وبكلمة مختصرة إن المسقط للقضاء هو كون العذر المانع منه بحسب الصحيحة هو المرض المستمر ما بين الرمضانين مهما كان العذر الموجب للإفطار في شهر رمضان.

ومنه يتضح أن الصحيح هو عكس ما قاله في العروة الوثقى: ((خصوصاً في الثانية)) لأن اشتغال الذمة بالقضاء في الصورة الأولى أقرب لكون العذر المانع من القضاء غير المرض.

ص: 352


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/193.

إشكال وجوابه للسيد الخوئي (قدس سره):

وذكر السيد الخوئي (قدس سره) هنا إشكالاً وأجابه، قال (قدس سره): ((فإن قلت: إطلاق الصحيحة من حيث شمول العذر للسفر وغيره معارض بإطلاق الآية المباركة الدالة على وجوب القضاء على المسافر سواء استمر به المرض إلى رمضان قابل أم لا، فكيف يمكن الاستناد إليها؟!))(1).

وقرّب بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) الإشكال ((بأن الآية تحكم بوجوب القضاء والرواية بعدمه، فإذا قلنا أن الآية الشريفة حيث إنها قطعية السند تكون مقدمة على الرواية في مورد التعارض لتقديم القطعي على الظني، فالمشهور عندهم أنه إذا كانت الرواية مخالفة للآية لا تكون حجة لاشتراط عدم مخالفة الخبر للكتاب، ويريدون بالمخالفة المعنى المنطقي أي التباين الكلي والجزئي (في منطقة المجمع)، وإلا يتعارضان ويتساقطان))(2).

أقول: يمكن أن ندّعي عدم جدوى تحرير الإشكال إلا على صعيد الدراسات الأولية التعليمية، لوضوح أن العلاقة بين الآية والصحيحة هي العام والخاص وهذا ليس من التعارض ولا المخالفة للكتاب لأنه من صميم وظيفة المعصوم (عليه السلام).

وتقريبه أن لسان الصحيحة أن (من استمر به المرض إلى رمضان القادم فلا قضاء عليه مهما كان العذر الذي أفطر به) فتكون الصحيحة مخصِّصة لقوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر» وهذا الخاص المستفاد من الصحيحة مطلق لأي عذر. وسيأتي مزيد بيان لهذه النسبة إن شاء الله تعالى.وقد أجاب السيد الخوئي (قدس سره) بجوابين، ينفي الأول وجود التعارض من أصله، ويفترض الثاني تسليم التعارض، فقال في:

ص: 353


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/193.
2- محاضرة بتأريخ 24/شوال/1417.

الأول: ((قلتُ: كلا، لا معارضة بينهما وإن كانت النسبة بين الإطلاقين عموماً من وجه، إذ الصحيحة ناظرة إلى الآية الكريمة، فهي حاكمة عليها شارحة للمراد منها، لا من قبيل الحكومة المصطلحة، بل بمعنى صلاحيتها للقرينية بحيث لو اجتمعا في كلام واحد لم يبق العرف متحيراً في المراد.

فلو فرضنا أن الصحيحة كانت جزءاً من الآية المباركة بأن كانت هكذا: (فإن كنتم مرضى أو على سفر فعدة من أيام أخر، ومن كان معذوراً فأفطر ثم استمر به المرض إلى رمضان آخر فليتصدق) لم يتوهم العرف أية معارضة بين الصدر والذيل، بل جعل الثاني قرينة للمراد من الأول، وأن وجوب القضاء خاص بغير المعذور الذي استمر به المرض، أما هو فعليه الفداء ليس إلا.

وهذا هو المناط الكلي في تشخيص الحكومة وافتراقها عن باب المعارضة كما نبهنا عليه في بعض مباحثنا الأصولية، فإذا لم يكن تعارض لدى الاتصال وفي صورة الانضمام لم يكن مع الانفصال أيضاً))(1).

ويرد عليه:-

1- اعتبار النسبة بين الدليلين هي العموم من وجه غير دقيق، وقد قال في تقريبها عندما صوَّر الإشكال: أن الآية عامة بلحاظ شمول وجوب القضاء لمن استمر به المرض ولغيره، والصحيحة عامة بلحاظ شمول العذر لغير الحيض والنفاس.

ويجتمعان في من أفطر بمرض أو سفر واستمر به عذر المرض إلى رمضان المقبل، فالآية توجب القضاء والرواية تنفيه.

هذا ولكن الصحيح أن النسبة بين الدليلين هي العموم والخصوص المطلق.

بيانه: أن الآية تنحلّ إلى عامّين هما: («من كان مريضاً فعدة من أيامٍ

ص: 354


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/194.

أُخر»)، و(من كان مسافراً فعدةٌ من أيامٍ أخر)، أما الصحيحة فهي خاص بلحاظ العموم الأول، ومباين بلحاظ العموم الثاني؛ لأن لسانها: من استمر به المرض بين الرمضانين فلا قضاء عليه مهما كان العذر الذي أفطر به، فهي من إطلاق الخاص المقدم على عموم العام.

هذا إذا أريد بالعذر مطلق العذر، أما إذا استظهرنا منه المرض خاصةً بالبيان المتقدم فإنها تكون مخصصة بوضوح وتخرج عن محل البحث لأنها تصبح الصورة الأولى التي تقدمت في المطلب الأول.

2- على القول بأن النسبة هي العموم من وجه فإنه (قدس سره) لم يبين لنا وجه تقديم الصحيحة على الآية في مادة الاجتماع، ومقتضى القاعدة تساقطهما في مادة الاجتماع.

أما ما ذكره من قبول العرف للجمع بين الدليلين من دون تحيّر، فمرجعه كون النسبة بالدقة هي العموم والخصوص المطلق، فخصصت الآية بالصحيحة، ولو كانت النسبة العموم والخصوص حقاً لطولب ببيان نكتة التقديم.

والشاهد على كون المصحِّح للجمع هو كون النسبة العموم والخاص المطلق هو ما ذكره من نتيجة الجمع بين الدليلين عند اتصالهما فهي صورة التخصيص.

3- إنه (قدس سره) شرح مراده من الحكومة في المقام وهي غير الحكومة المصطلحة، لكنه أراد بها في النهاية الحكومة المصطلحة عندما بيّن وجه افتراقها عن التعارض.

ونترك بقية التعليقات لبعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) الذي سلّم أن النسبة هي العموم من وجه، فعلّق أولاً على المناط الكلي المذكور في آخر كلامه والذي اعتمد عليه ككبرى كلية وحاصله ((إذا فرض دليلان مستقلان بحيث إذا فرض ضم أحدهما إلى الآخر لا يرى العرف أي تعارض بينهما بل يعدّ

ص: 355

أحدهما قرينة على مراد الآخر، فيحكمون بالجمع العرفي، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وقد تكرر منه أن الضابط في جمع الدليلين هو هذا المعنى لقوله المتقدم: ((بمعنى صلاحيتها للقرينية ..)) بلا فرق بين ما لو كانا متصلين أو منفصلين.

وما ذكره (قدس سره) غير تام؛ لوجود الفرق بين المتصلين والمنفصلين، إذ في المتصلين لا يُعدُّ تنافياً ولا مانع من كون أحدهما قرينة على الآخر بالجمع في خطاب واحد، أما في المنفصلين فالظهور ينعقد في الإطلاق لكل منهما فهما ظهوران متعارضان ويكون بينهما تعارض، بعكس المتصلين حيث يمكن أن يكون أحد العامين من وجه مانعاً من ظهور الآخر في الإطلاق، والنتيجة أن مقايسة الانفصال بالاتصال غير وجيه))(1).

أقول: لا توجد مقايسة في كلام السيد الخوئي (قدس سره) بين المتصلين والمنفصلين حتى يرد عليها، وإنما أراد أن الخطابين المنفصلين إذا أمكن جمعهما بخطاب متصل واحد فلا تعارض، ويؤخذ بنتيجة الجمع، أما الخطابان المتصلان فهما واحد حقيقة ولا يحتاج إلى الجمع.

مضافاً إلى الرد عليه كبروياً؛ لأن المتصلين والمنفصلين واحد من هذهالناحية –أي من جهة القرينية وتصرّف الأقوى ظهوراً في الآخر-، أما اختلافهما من ناحية أخرى كانعقاد ظهور كل منهما بدوياً فلا علاقة له بما نحن فيه.

ثم علق (دام ظله) على دعوى الحكومة بجوابين قائلاً: ((ما أفاده من دعوى الحكومة محل خدشة، فإن المعيار في الحكومة إما التضييق أو التوسعة تعبداً، وأما مجرد النظر فإنه لا يحقق الحكومة، على أنه (قدس سره) لم يبيّن

ص: 356


1- محاضرة بتأريخ 28/شوال/1417.

وجه ادعاء النظر فالآية تدل على وجوب القضاء، والصحيحة على وجوب الفداء)).

أقول: الجوابان مردودان:

أما الأول فلأن السيد الخوئي (قدس سره) شرح مراده من الحكومة وأنها بالمعنى العام أي تصرّف الدليل الحاكم بالمحكوم كتصرف الخاص بالعام والمقيد بالمطلق وليس المعنى المصطلح، فهذا الرد لا موضوع له.

وأما الثاني فلأن نظر أحد الدليلين إلى الآخر أمر وجداني يستظهر من نفس الدليلين، كنظر الخاص إلى العام كما في المقام، وقد بيّنا وجهه.

وعرض (دام ظله) هنا وجهاً ثانياً للجواب بدلاً عن جواب السيد الخوئي (قدس سره) قال فيه: ((نعم نستطيع تصحيح مقصود سيدنا الأستاذ بنكتة أخرى، وهي ما ذكر في علم الأصول من أنه إذا كان عامّان من وجه بحيث لا يلزم من تخصيص أحدهما بالآخر محذور عكس الاتجاه الآخر، فلا يتساقطان ونخصّص بالاتجاه الذي لا يلزم منه محذور.

وهذه القاعدة تجري فيما نحن فيه، فلو قدمنا الآية على الصحيحة يلزم محذور. أما إذا فعلنا العكس فلا يلزم محذور، فإذا خصصنا الصحيحة بالآية فإن التنيجة انحصار موردها بالحائض والنفساء ويلزم منه محذور أن الإمام (عليه السلام) طبّق على نفسه –في الذيل- ومن المعلوم أن الموضوع لا يجري في الرجل، فلا يمكن إدخال المجمع في الآية.

والصحيح تخصيص الآية بالصحيحة ولا يلزم منه محذور، فمن استمر به المرض لا يجب عليه القضاء، ويبقى للآية مصاديق، فنحن نوافق سيدنا الأستاذ في تقديم الصحيحة على الآية إلا أننا نختلف معه في الطريق))(1).

أقول: هذا تقريب لطيف، وإن كان يمكن ردُّه بعدم لزوم المحذور المذكور عند

ص: 357


1- محاضرة بتأريخ 28/شوال/1417.

تخصيص الرواية بالآية وإخراج المرض والسفر منها، إذ يبقى تحت عنوان العذر غير الحيض والنفاس، مثل الإفطار للتقية أو للحرج أو النوم المستوعب. وهي ليست حالات نادرة حتى يلزم محذور تخصيص الأكثر.

وقد ردّ (دام ظله) في الدرس التالي هذا التقريب بقوله: ((لكن هذا الوجه الذي ذكرناه محل إشكال فإنه إنما يصحّ لو فرض عدم وجود دليل ثالث كما في المقام، وهي الروايات الكثيرة الدالة على أن استمرار المرض من رمضان إلى رمضانيوجب الفدية فهو خارج عن المراد الجدّي للآية وداخل في صحيحة ابن سنان)).

أقول: ما سمّاه بالدليل الثالث أجنبي عن المقام لأن موضوع تلك الروايات الكثيرة من أفطر للمرض واستمر مرضه بين الرمضانين، وهي الصورة التي تقدمت في المطلب الأول، وكلامنا في العذر الملفق.

ثم قال (دام ظله): ((أما المسافر الذي ترك الصوم لعذر لكن عرض عليه المرض من رمضان إلى رمضان وهو أحد موردي التعارض من وجه فلا محذور في إخراجه من الصحيحة، إذ أن ما في الذيل من تطبيق الإمام (عليه السلام) أنه صام وتصدق كان موضوعه استمرار المرض، وعلى هذا لا يمكن التمسك بهذا الوجه لرفع المعارضة، فإن مورد المعارضة وإن كان كل من الشقين، إلا أن أحدهما –وهو المريض المستمر- لا إشكال في دخوله وإنما يقع التعارض بين الآية والرواية في المسافر الذي استمر مرضه، والذي لا يقتضي دخوله في الآية الشريفة))(1).

ثم قال (دام ظله): ((الوجه الثالث: أنه إذا كان هناك دليل مشتمل على حكم بالعنوان الأولي من غير تعرّض للعناوين الثانوية العذرية، ودليل آخر مشتمل على حكم آخر وقد أُخذ في موضوعه عنوان ثانوية عذرية، فيقدم

ص: 358


1- محاضرة: 28/شوال/1417.

ما أُخذ فيه ذلك، ففي الآية ذُكر من كان مريضاً أو على سفرٍ فيقضي، ولم يذكر فيه عناوين ثانوية كالمرض والسفر، أما في الصحيحة فذكر فيها أن من استمر عليه إلى رمضان فهو متعرض إلى عذر عن القضاء فحكمه الفدية، فأخذ فيه العنوان الثانوي، أما الآية فتدل بالإطلاق لا من جهة التعرض لجميع العناوين الثانوية)).

أقول: هذا تقرير كلامه (دام ظله) كما هو، ولعله أراد بالعنوان الثانوي استمرار المرض بين الرمضانين. وحينئذٍ يكون قد رد على نفسه حينما طالب السيد الخوئي (قدس سره) ببيان معنى كون الصحيحة ناظرة إلى الآية، فهذا الوجه واحد من معاني النظر.

ثم انتهى (دام ظله) إلى القول: ((فمن هذه الجهة يمكن الالتزام بأنه ليس بين الصحيحة والآية مخالفة وتعارض ومستقر، بل تقدم الصحيحة على مفاد الآية في خصوص محل البحث وهو المسافر الذي طرأ عليه مرض مستوعب))(1).

أما الجواب الثاني للسيد الخوئي (قدس سره) على الإشكال بناءً على تسليم المعارضة فيكون الخبر ساقطاً لمخالفته للكتاب فقال فيه: ((ثانياً: لو سلّمنا المعارضة فإنما هي بالإطلاق المتحصل من جريان مقدمات الحكمة لا في الدلالة الوضعية. وقد ذكرنا في محله أن في تعارض الإطلاقين بالعموم من وجه يحكم بالتساقط ولا يرجع إلى المرجحات من موافقة الكتاب ونحوه لكون موردها ما إذا كانت المعارضة بين نفس الدليلين لا بين الاطلاقين، بل المرجع بعد التساقط أمر آخر من عموم أو أصل، ومقتضى الأصل في المقام البراءة عن القضاء الذي هو بأمر جديد مدفوع بالأصل لدى الشك فيه، إذ ليس لدينا عموم يدل على القضاء عدا ما سقط بالمعارضة المفروضة، ولكن يحكم بوجوب الفداء

ص: 359


1- محاضرة بتأريخ: 28/شوال/1417.

استناداً إلى عموم موثقة سماعة))(1).

أقول: كأنه (قدس سره) يقول: إن مرجحات باب التعارض لا يمكن إعمالها في المقام على فرض حصوله بين الآية والصحيحة؛ لأن التعارض نشأ من إطلاقي الآية والرواية، واستفادة الإطلاق حكم عقلي من مقدمات الحكمة وليس من مدلول اللفظ، وأخبار التعارض والترجيح مختصة بما إذا كان التعارض ناشئاً من ذاتي الدليلين ومدلوليهما، فإذا حصل تعارض بين الإطلاق فالمرجع مباشرة هو العموم –إن وجد- وإلا –كما في المقام- فالمرجع الأصل.

أقول: هذا الجواب غير تام؛ لأننا أجبنا في بعض الأبحاث السابقة على هذا المبنى الأصولي له (قدس سره) وقلنا إن الإطلاق مستفاد من دلالة الألفاظ وليس من حكم العقل، غاية الأمر أن الظهور تارة يستفاد من الوضع، وأخرى من السياق وما يرتبط به من قرائن كمقدمات الحكمة، واستفادة الإطلاق من الثاني. وبالإطلاق يثبت سعة مقام الإثبات وبضميمة أصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت يستفاد سعة عالم الثبوت أيضاً.

فالتعارض في المقام بين الظهورين حقيقة، ويصدق على الصحيحة أنها مخالفة للكتاب.

وهنا عرض بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) وجهاً للجواب، قال عنه أنه بيّنه في علم الأصول يلتقي مع جواب السيد الخوئي (قدس سره) في النتيجة وهي عدم جريان مرجحات باب التعارض وبالتالي عدم سقوط الصحيحة لمعارضها الكتاب، ولكن لمسلك آخر ((وحاصله: أن ما دلّ على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب لا يشمل المخالفة من وجه، واختاره

ص: 360


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 22/194، ويريد بموثقة سماعة المتقدمة في القول الثاني (صفحة 328).

جماعة، وقلنا: إن ما ورد في ذلك يدلّ على المخالفة التباينية)).

أقول: تقدّم النقاش في كون النسبة بين الآية والصحيحة هي العموم من وجه والتباين الجزئي، وقلنا أنها بالدقة العموم والخصوص المطلق.

وأما المبنى الذي ذكره فلا يمكن تسليمه على نحو الكبرى؛ لأن مخالفةالكتاب أمر عرفي وجداني، وقد يتحقق في العامّين من وجه خصوصاً إذا كانت مادة الاجتماع هي الجهة الملحوظة في الدليلين، أو كانت مادتا الافتراق نادرتين.

ثم بيّن (دام ظله) المرجع عند التعارض والتساقط، بعد عدم سقوط الصحيحة لمخالفتها الكتاب، فقال (دام ظله): ((ففي المقام يقع التعارض بين الآية المباركة والصحيحة في وجوب القضاء وعدمه، وحيث أنه لا مرجح لا بد من الحكم بالتساقط والرجوع إلى دليل آخر، فإن ثبت عموم يدل على أن كل من فات عليه شيء من شهر رمضان قضاه، فهو المرجع، لكن تقدم عدم ثبوت مثله، فيرجع إلى الأصل، وهو البراءة أو مطلق الأصل الترخيصي كالأصل العدمي، لكن لما كنا نعلم بوجوب أحدهما فنحتاط بهما معاً، لكن سيدنا الأستاذ (قدس سره) أجرى البراءة من القضاء، أما الفدية فيدل عليها موثقة سماعة، ومعلوم أن العلم الإجمالي إذا كان حجة على طرف فلا مانع من إجراء الأصل الترخيصي في الآخر، فيجب الفداء دون القضاء))(1).

أقول: قوله بعدم وجود عموم يرجع إليه تبعاً لأستاذه يمكن المناقشة فيه بإمكان تقريب وجود عام فوقاني وهو قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدودات» (البقرة: 183-184) بالنظر إليها على نحو تعدد المطلوب إذ لم تقيَّد الأيام المعدودات في شهر رمضان في نفس الآية فينعقد لهذه الآية عموم، وفي ضوء

ص: 361


1- محاضرة بتأريخ: 29/شوال/1417.

هذه الأطروحة فالواجب: واجبان، أحدهما: هو صوم أيام معدودات وثانيهما: كونها في شهر رمضان، فإن حصل له عذر عن الصيام في شهر رمضان كفى المطلوب الأول في إثبات القضاء ولا يحتاج إلى أمر آخر.

وهذا التقريب يصلح أن يكون دليلاً على كون قضاء شهر رمضان وهو بين الرمضانين؛ لأن المكلف مطالب بصوم أيام معدودات في كل سنة فإذا لم يقدر على الإتيان بها في شهر رمضان وجب عليه إتيانها في بقية أشهر السنة.

ثم قال (دام ظله) بعد شرح موثقة سماعة: ((فليس لموثقة سماعة عموم يدل على وجوب الفداء دون القضاء.

ونتيجة البحث كله: أن في مورد فرض السفر ثم مرض عن القضاء، فلا مانع من العمل بصحيحة عبد الله بن سنان بناءً على ما قوّيناه من كونه عنواناً عذرياً فيقدّم على الآية في مورد التعارض، والتعارض غير مستقر، ومقتضى هذا كفاية الفداء، لكن القائل بذلك قليل جداً؛ لذلك نحتاط.

أما عكسه وهو المريض ثم سافر فلم يقض بين رمضانين فهذا مما لا يمكن استظهاره من موثقة سماعة مع قلة القائل؛ لذا احتطنا في جمع الصور التي قال بها الشيخ الصدوق وابن شاذان من وجوب الفداء خلافاً للمشهور الذي أوجب القضاء. وقد ظهر وجه الاحتياط من جهة العلم الإجمالي والتوقف في العمل بصحيحة ابن سنان لقلة القائل وضعف ظهور موثقة سماعة وأندرية القائل به فلا بد من الاحتياطبالقضاء مع الفدية، أما الماتن –أي صاحب العروة- فقد احتاط استحباباً))(1).

أقول: قرّبنا فهم الصحيحة ومورد حجيتها في (صفحة 351-352)، فكثرة الاحتياطات أمر مرجوح.

ص: 362


1- محاضرة بتأريخ: 29/شوال/1417.

المسألة الثالثة

اشارة

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((إذا أفطر متعمداً ثم سافر بعد الزوال لم تسقط عنه الكفارة بلا إشكال، وكذا إذا سافر قبل الزوال للفرار عنها، بل وكذا لو بدا له السفر لا بقصد الفرار على الأقوى.

وأما لو أفطر متعمداً ثم عرض له عارض قهري من حيض أو نفاس أو مرض أو جنون أو نحو ذلك من الأعذار، ففي السقوط وعدمه وجهان، بل قولان أحوطهما الثاني وأقواهما الأول))(1).

أقول: عدم سقوط الكفارة بالسفر بعد الزوال مما لا خلاف فيه؛ لأن حكم المكلف حينئذٍ وجوب إتمام الصوم فلا أثر لهذا السفر في سقوط الكفارة.

وإنما الكلام في السفر قبل الزوال الموجب للإفطار وكذا في طروّ الأعذار الأخرى كالحيض والنفاس والمرض، وما ذكره صاحب العروة (قدس سره) من التفصيل أحد الأقوال في المسألة.

ونلفت النظر قبل ذكر الأقوال في المسألة إلى وجود خلط في كلام جملة من الفقهاء بين الحكم التكليفي وهو عدم جواز تناول المفطر في نهار الصوم قبل طروّ العذر، والحكم الوضعي هو سقوط الكفارة عمن تناول المفطر عمداً قبل طروّ العذر ثم حصل له ما يسقط فرض الصوم، وهذه الملازمة بين الأمرين تحتاج إلى دليل، فقد يجب عليه الإمساك لكنه لو خالف وتناول المفطر فلا تجب عليه الكفارة.

نعم قد يقال بأن الأمرين مرتبطان لأن من لم يمتثل أمر اجتناب المفطرات يصدق عليه عنوان الإفطار الموجب للكفارة، وهذا ما سنذكره ضمن الاستدلال على الأقوال في المسألة.

ص: 363


1- العروة الوثقى: فصل في كفارة الصوم، المسألة (11).

قال السيد الخوئي (قدس سره) في الاستدلال على عدم سقوط الكفارة بعروض ما يبطل معه الصوم: ((إن المستفاد من قوله تعالى: «كُلُوا وَاشرَبُوا» إلى قوله: ««فَمَنْ كَانَ مِنكُم مَرِيضاً أوْ عَلَى سَفَرٍ» إلخ: أن كل مكلف مأمور في شهررمضان بالإمساك عن الأكل والشرب من بعد طلوع الفجر –وقد قيل: إن حقيقة الصوم هو الكفّ عن خصوص الطعام والشراب وقد أُلحق بهما بقية المفطرات- وبإتمام الصيام إلى الليل، وقد استثني من ذلك المريض والمسافر. وظاهره من كان كذلك بالفعل، وأما من يكون مسافراً فيما بعد فهو غير داخل في الاستثناء، بل تشمله الآية المباركة من النهي عن الأكل والشرب بعد طلوع الفجر، فهو مأمور بالإمساك ما لم يتلبّس بالسفر.

وكذلك الروايات، حيث تضمّنت المنع عن تناول المفطر قبل أن يخرج المسافر إلى حد الترخّص))(1).

يلاحظ على قوله: ((وكذلك الروايات..)) عدم وجود روايات خاصة تدل على هذا الحكم وإنما يستفاد من النهي عن تقصير الصلاة قبل حد الترخّص بضميمة الملازمة بين قصر الصلاة والإفطار، أو أنه (قدس سره) يقصد بالروايات ما ورد في الحائض بعد التجريد عن الخصوصية، وسيأتي عرضها ومناقشتها بإذن الله تعالى.

وأما ثبوت الكفارة في ذلك فيستدل عليه ((بإطلاقات الكفارة لدى الإفطار العمدي))(2) وفيه عودة إلى نفس الإشكال.

ثم قال (قدس سره): ((وهذا يجري في غير السفر أيضاً من سائر الموانع من الحيض والنفاس والجنون بل الموت، فلو كان يعلم بموته بعد ساعة إما لكونه محكوماً بالإعدام، أو لذهابه إلى الجهاد وميدان القتال، لم يجز له

ص: 364


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/356.
2- المصدر السابق: 22/23.

الإفطار حينئذٍ بزعم أنه غير متمكن من إتمام الصوم، بل هو مأمور بالإمساك، فلو أفطر تعلّقت به الكفارة.

وكذا الحال في ذات العادة التي نعلم بتحيّضها بعد ساعة من النهار، فإنه لا يجوز لها الإفطار قبل ذلك. ويدل على حكم هذه بالخصوص –مضافاً إلى ما سمعت من إطلاق الآية المباركة والروايات- خصوص الأخبار الواردة في الحيض، للتصريح في بعضها –وهي روايتان-: إنها (تفطر حين تطمث) فيستفاد من هذا التقييد عدم جواز الإفطار قبل ذلك؛ لأن الحيض إنما يمنع عن الصوم من حين حدوثه، أما قبله فهي مأمورة بالإمساك، فلو أفطرت لزمتها الكفارة كما عرفت))(1).

أقول: هذا كلام صحيح لكن مؤداه حرمة تناول المفطر قبل طروّ العذر وهو غير ما نحن فيه، والملازمة بين مخالفة الأمر بالإمساك ووجوب الكفارة الذي ذكره في السطر الأخير هو محل البحث وعين المدعى، وهو يحتاج إلى دليل وكان ينبغيإطلاق الكلام فيه لا في الحكم الآخر.

والحكم في الحائض وإن كان كما ذكره (قدس سره) إلا أن استدلاله –وغيره كذلك- بالرواية ليس تاماً؛ لأن قوله (عليه السلام): (تفطر حين تطمث) ليس مقابل عدم جواز الإفطار قبل ذلك كما قرّبه هو وغيره (قدس الله أرواحهم)، وإنما مقابل من يتوهم عدم جواز الإفطار إذا حاضت بعد الزوال أو قبيل المغرب فيفيد قول الإمام (عليه السلام) أن حكمها الإفطار حين رؤية الدم مطلقاً وإن كان ذلك قبل الغروب بلحظة، كما يدل عليه سياق الصحيحة عن العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة تطمث في شهر رمضان قبل أن تغيب الشمس؟ قال (عليه السلام): تفطر حين

ص: 365


1- المصدر السابق: 21/360.

تطمث)(1).

وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة أصبحت صائمة فلما ارتفع النهار أو كان العشي حاضت، أتفطر؟ قال: نعم، وإن كان وقت المغرب فلتفطر).

المسألة عند العامة:

تعرّض علماء العامة للمسألة، ولهم فيها عدة أقوال، قال ابن قدامة: ((وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جُنّ أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثنار النهار لم تسقط الكفارة وبه قال مالك والليث وابن الماجشون وإسحاق. وقال أصحاب الرأي لا كفارة عليهم، وللشافعي قولان كالمذهبين.

واحتجوا بأن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقاً فلم يجب بالوطء فيه كفارة كما لو قامت البيّنة أنه من شوال.

ولنا أنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها، ولأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ عذر)).

وأجاب على النقض المذكور بأنه خلاف مسألتنا فيما ((إذا تبيّن أنه من شوال فإن الوطء غير موجب لأنّا تبيّنا أن الوطء لم يصادف رمضان والموجب إنما هو الوطء المفسد لصوم رمضان))(2).

وقال العلامة (قدس سره) في التذكرة: ((قال زفر: تسقط بالحيض والجنون، دون المرض والسفر، وقال بعض أصحاب مالك: تسقط بالسفر دون المرض والجنون))(3).

ص: 366


1- والحديث الذي بعده وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 25، ح1، 2.
2- المغني: 3/64.
3- تذكرة الفقهاء: 6/84.

الأقوال في المسألة:

خلت هذه المسألة من الروايات الخاصة، لذا فقد خلت منها كتب القدماء المبنية على متون الروايات كالمقنع والمقنعة والهداية والنهاية، وإنما استحدثت في الكتب الاجتهادية التفريعية كالمبسوط؛ لذا كان لإعمال القواعد فيها مجالٌ واسع، واقتربت أقوال الإمامية وطريقة استدلالهم مما نقلناه عن العامة.

والأقوال في المسألة عديدة:

(القول الأول) عدم سقوط الكفارة مطلقاً مهما كان السبب المبطل للصوم، وحكي عن الأكثر وهو قول أكثر الأصحاب كما في المدارك والحدائق، وهو قول الشيخ (قدس سره) وحكاه العلامة عن ابن الجنيد، قال الشيخ (قدس سره) في المبسوط: ((من فعل ما يوجب عليه الكفارة في أول النهار ثم سافر أو مرض مرضاً يبيح له الإفطار، أو حاضت المرأة، فإن الكفارة لا تسقط عنه بحال))(1).

وحكى في الخلاف الإجماع عليه، قال (قدس سره): ((إذا وطأ في أول النهار ثم مرض أو جُنَّ في آخره لزمته الكفارة ولم تسقط عنه، دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً قد اشتغلت ذمته بالكفارة حين الوطء بلا خلاف وإسقاطها يحتاج إلى دليل))(2).

واختاره من المعاصرين السيد الخوئي (قدس سره).

أقول: استدلوا على هذا القول بعدة وجوه:-

أولاً: الإجماع الذي حكاه الشيخ (قدس سره) في الخلاف.

وفيه: كبروياً ما قدمناه من مناقشة إجماعات الشيخ (قدس سره)،

ص: 367


1- المبسوط: 1/274.
2- الخلاف:2/219، المسألة (79).

وصغروياً بعدم تحصيله في المسألة؛ لخلوّ كتب القدماء منها فلا يتحقق ملاك حجية الإجماع، قال العلامة (قدس سره): ((والإجماع الذي ادعاه الشيخ لم يثبت عندنا))(1).

ثانياً: ما ورد في كلام الشيخ (قدس سره) أيضاً من أن الذمة قد اشتغلت بالكفارة وإسقاطها يحتاج إلى دليل، فيستصحب وجوبها، أو يقال أن اشتغال الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً.

وفيه: إن وجوب الكفارة أولاً عين المدعى وهو محل الخلاف، إذ الخصم يقول بأن الكفارة تجب عند الإخلال عمداً بيوم يثبت وجوب صومه، والوجوب عند تناول المفطر كان بدوياً ثبت خلافه إذ لم يستقر هذا الوجوب.ثالثاً: وهو الوجه الذي بنى عليه القائلون بعدم السقوط مطلقاً، وجعلوا الوجوه الأخرى مؤيدات ومؤكدات، ولخّصه السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: ((ويمكن أن يستدل له بما دلّ على وجوب الصوم إلى أن يسافر فإنه ظاهر في أنه صوم صحيح، فيدخل في عموم ((من أفطر وهو صائم متعمداً فعليه الكفارة))(2).

وفيه:-

1- إننا نتفق معه في وجوب الإمساك حتى يتحقق العذر، إلا أن تسميته صوماً مما لا يمكن المساعدة عليه لأن الصوم هو الإمساك ما بين الحدين ولا يقبل التبعيض.

2- النقض عليهم بموارد يجب فيها الصوم إلا أن الكفارة لا تجب بالمخالفة

ص: 368


1- مختلف الشيعة: 3/318، المسألة (62).
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/359.

كمن تناول المفطر متعمداً فإنه مأمور بمواصلة الصوم فلو تناولها لم يتكرر الوجوب ولو في بعض المفطرات.

3- تقدم (صفحة 365) أنه لا توجد روايات خاصة تدل على وجوب الصوم إلى حين طروّ المفطر حتى يتمسك بإطلاقها.

4- لو تنزّلنا فإن أدلة وجوب الكفارة على من أفطر متعمداً في نهار شهر رمضان منصرفة عمّن بان لاحقاً أن صومه كان باطلاً من أول الأمر كالمرأة إذا رأت الدم ولو في آخر النهار.

ولمزيد من التفصيل نعرض بيان السيد الخوئي (قدس سره) فقد استدل بأن من تناول المفطر قبل طرو السبب ((يصدق عليه أنه أفطر في شهر رمضان متعمداً وقد أُخذ الإفطار كذلك موضوعاً لوجوب الكفارة في غير واحد من النصوص، فإن المأخوذ في لسان بعضها وإن كان هو عنوان الصائم الذي ربما يُتأمل في صدقه على من سيتلبس بالسفر، ولكن المذكور في أكثرها هو عنوان الرجل كما في صحيحة جميل(1)

وغيرها، وكذلك في نصوص الجماعة(2)

المتضمنة (رجل جامع أو أتى أهله في شهر رمضان) أو نحو ذلك، فإن هذه العناوين صادقة على من تناول المفطر من الأكل أو الشرب أو الجماع ونحو ذلك، فهو رجل مأمور بالإمساك بمقتضى الآيةوالروايتين وقد أفطر متعمداً في

ص: 369


1- روى الكليني بسند صحيح عن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سُئل عن رجل أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً؟ فقال: إن رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: هلكت يا رسول الله! فقال: مالك؟ قال: النار يا رسول الله! قال: ومالك؟ قال: وقعت على أهلي) الحديث. (وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 8، ح2).
2- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) التي رواها الكليني عن (عدة من أصحابنا في رجل أفطر من شهر رمضان..) الحديث (المصدر السابق: ح1).

شهر رمضان، ومعنى أفطر: أنه نقض هذا العدم وقلبه إلى الوجود، فإن الإفطار مقابل للإمساك الذي هو صوم لغوي، ولا يتوقف صدقه على تحقق الصوم الشرعي، بل كل من كان مأموراً بالإمساك –سواء أكان ذلك مصداقاً للصوم الشرعي أم لا- فأول ما يتناوله مما ينتقض به العدم وينثلم به الترك فهو إفطار، فيصح أن يقال أنه أفطر، أي أتى بشيء يضاد الإمساك وينافيه، فهذه الإطلاقات وافية لإثبات الكفارة في المقام إذ يثبت بها أن الممنوع عن الأكل والشرب إذا أفطر –أي رفع اليد عما كان عليه من الامتناع- تعلقت به الكفارة، سواء أتى بعدئذٍ بما يكون مبطلاً للصوم في حد نفسه –كالسفر- أم لا))(1).

وقال (قدس سره): ((وكيف ما كان، فلا شك أن مقتضى إطلاق الأدلة من الكتاب والسنة وجوب الإمساك من لدن طلوع الفجر لكل مكلف في شهر رمضان ما لم يكن مسافراً آنذاك.

ثم إن هذا قد يكون مأموراً بالإتمام إلى الليل، وأخرى لا، كما لو عرضه السفر قبل الزوال، وعلى أي حال، فلو أفطر وهو في البلد ففي الوقت الذي أفطر هو مأمور بالصوم، لا بالصوم المعهود المتعارف حتى يقال: إنه ينكشف بالسفر عدمه، بل بالصوم اللغوي، أي بالإمساك عن الأكل والشرب ما لم يسافر، فحينما أفطر كان إفطاره مقروناً بالأمر بالصوم فيشمله جميع ما ورد من أن من أفطر في شهر رمضان متعمداً فعليه الكفارة))(2).

أقول: هذا رجوع إلى المربع الأول كما يقال؛ لأن وجوب الإمساك في نهار يجب صومه وإن كان ثابتاً، إلا أنه لا يلزم منه ثبوت الكفارة عند المخالفة إذا لم يستقر وجوب ذلك الصوم، لعدم صدق الإفطار عليه حينئذٍ بالمعنى الموجب

ص: 370


1- المستند في شرح العروة: 21/356-357.
2- المستند في شرح العروة الوثقى:21/358.

لها؛ لأن الإفطار الموجب للكفارة هو ما قابل الصوم بالمعنى الشرعي(1)،أما وجوب الإمساك إلى حين حصول السبب المسقط للصوم فهذا شيء آخر غير وجوب الصوم، وله ملاكه كاحترام شهر رمضان.

وما قاله من أن مخالفة الصوم بالمعنى اللغوي أي الإمساك موجب للكفارة عين المدّعى الذي ينفيه الخصم ومصادرة على المطلوب؛ لأن الصوم إما أن يتصف بالوجوب أو بعدمه وهو غير قابل للتجزئة، والمفروض أنه ثبت عدمه، فلا يتحقق معنى الإفطار المقابل لمعنى الصوم الشرعي.

نعم يثبت بالمخالفة كون المتناول متجرياً وآثماً على القول بحرمة هذا الفعل.وما ذكره (قدس سره) من ورود عنوان (الرجل) في بعض الروايات لا ينفعه؛ لأن الخصم يرى أن هذا العنوان لم يؤخذ بما هو هو وإلا كثرت النقوض عليه، ولا بما هو ممسك بالمعنى اللغوي لما قدمناه، وإنما بحال كونه صائماً يوماً يتصف صومه بالوجوب، فلفظ الرجل يُقيَّد بهذا العنوان كما هو واضح.

ثم قال (قدس سره): ((بل يمكن أن يقال: إنها تدل على المطلوب بأزيد من الدلالة الإطلاقية، فإن السفر لو كان مسقطاً للكفارة لأشير إليه في هذه الأخبار الواردة في مقام البيان، ولا سيما مثل صحيحة جميل المشتملة على اضطراب السائل بقوله: هلكت وأهلكت(2) .. إلخ، فإنه أسهل طريق للتخلص من الكفارة التي هي تكليف شاقّ لأغلب الناس، فنفس السكوت وعدم التعرض لهذا المفرّ في شيء من النصوص أقوى شاهد على عدم تأثيره

ص: 371


1- وهو المعنى الظاهر من روايات وجوب الكفارة (راجعها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 8).
2- هذه العبارة وردت في رواية الصدوق بسنده عن عبد المؤمن الأنصاري (ح5 في نفس الباب)، وقد تقدمت رواية جميل وهما تحكيان عن نفس الحادثة.

في سقوط الكفارة))(1)

وانتهى إلى القول: ((فهذه الإطلاقات كافية لإثبات المطلوب)).

أقول: هذا الطريق للاستدلال الذي يتحمس له السيد الخوئي (قدس سره) كثيراً والذي يسمى بالدليل الخامس لا يصلح أن يكون دليلاً تاماً، وإنما يصلح للتأييد، ويرد عليه في خصوص المقام-

1- لم يثبت أن إطعام ستين مسكيناً أشق وأكثر نفقة من إعداد الزاد والراحلة لمسيرة يوم كامل مع من يحتاج من المرافقين في تلك الظروف الشاقة وعلى عجل ليكون خروجه من حد الترخّص قبل الزوال.

2- إن هذا التقريب لو تمّ فإنما يدل على عدم سقوط الكفارة بالسفر كمُسقط يمكن الإتيان به لإسقاط الكفارة، فلا يمكن الاستدلال به على عدم سقوطها في الأسباب غير الاختيارية كالحيض والنفاس والمرض.

3- لا دليل في الرواية على أن الفعل قد وقع في زمان يمكن معالجته بالسفر قبل الزوال فلعله وقع بعد الزوال أو قريباً منه بحيث لا يتمكن من الخروج من حد الترخّص قبل الزوال، فالرواية مجملة ولا يمكن الاستدلال بها.

4-

رابعاً: ورود النص الخاص –بحسب تعبير السيد الخوئي (قدس سره)-بذلك، وهي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم وهي رواية مفصلة في كتاب الزكاة ننقل منها محل الشاهد، (قالا: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أيما رجل كان له مال فحال عليه الحول فإنه يزكّيه، قلت له: فإن وهبه قبل حلّه بشهر أو بيوم؟ قال: ليس عليه شيء أبداً، قال: وقال زرارة عنه أنه قال: إنما هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوماً في إقامته ثم خرج في آخر النهار في سفر فأراد بسفره ذلك إبطال الكفارة التي وجبت عليه، وقال: إنه حين رأى هلال الثاني

ص: 372


1- المصدر السابق: 21/357.

عشر وجبت عليه الزكاة، ولكنه لو كان وهبهاقبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شيء بمنزلة من خرج ثم أفطر، إنما لا يمنع الحال عليه، فأما ما لا يحل فله منعه)(1) إلخ.

قال السيد الخوئي (قدس سره) في تقريب الاستدلال: ((حيث دلّت على أن من حال الحول على ماله وجبت عليه الزكاة ولا تسقط بعدئذٍ بالهبة، فإن الهبة اللاحقة لا تؤثر في سقوط الزكاة السابقة، فهو نظير ما لو أفطر الإنسان فوجبت عليه الكفارة في شهر رمضان ثم سافر آخر النهار، فكما أن السفر اللاحق لا يؤثر في سقوط الكفارة السابقة فكذا فيما نحن فيه.

ومنه تعرف أن المشار إليه في قوله: (إنما هذا )) إلخ، هو الصدر، أعني: من حال الحول على ماله قبل أن يهب، الذي هو المقصود بالبيان والمسوق له الكلام، دون ما بعده الذي فرض فيه الهبة قبل حلول السنة، الواقع كجملة مستأنفة كما لا يخفى))(2).

وأجيب: بأن عدم سقوط الكفارة بالسفر بعد الزوال مما لا إشكال ولا خلاف فيه لأن حكم المسافر حينئذٍ وجوب إتمام الصوم فلا أثر للسفر في سقوطها.

وبتعبير آخر: إن تعميم الاستدلال بالرواية لما نحن فيه –وهو كون السفر قبل الزوال لا يسقط الكفارة- قياس مع الفارق، لأن الإمام (عليه السلام) شبّه عدم سقوط الزكاة بعد استقرارها بالسفر بعد الزوال الذي لا تسقط به الكفارة بلا خلاف.

أما في السفر قبل الزوال فاستقرار الكفارة محل الخلاف والإشكال فلا يمكن تشبيهها بإسقاط الزكاة بعد استقرارها.

ص: 373


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 12، ح2، ونقل محل الشاهد في أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 58، ح1.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/358-359.

لكنه (قدس سره) قرّب الاستدلال بها على ما نحن فيه بقوله: ((وإنما قيَّد (عليه السلام) السفر بآخر النهار لأنّه أوقع في التشبيه بمحلّ الكلام وأتمّ، إذ المشبّه هو الهبة بعد حلول الحول واستقرار الوجوب وتعيّن الزكاة على نحو لا يمكن التخلّص عنها، ولأجل ذلك كان الأوقع تشبيهه بمن سافر آخر النهار، أي بعد الزوال، بحيث كان الصوم متعيّناً في حقّه ولا يمكن التخلّص عنه بأيّ وجه، بخلاف ما قبله، لعدم استقرار الوجوب عليه بعد، لإمكان التخلّص عنه حينئذ بالسفر، فمن أجل هذه النكتة شبّهه (عليه السلام) بالسفر بعد الزوال.

وإلاّ فالذي يظهر من ذيل الرواية أنّ العبرة في الكفّارة بجواز الإفطار وعدمه، وأنّه لو أفطر في زمان لا يسوغ له الإفطار ثمّ سافر وإن كان قبل الزوال لم تسقط عنه الكفّارة ، حيث قال (عليه السلام) في الذيل: (ولكنّه لو كان وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شيء بمنزلة من خرج ثمّ أفطر) إلخ، حيث شبّه (عليه السلام) الهبة قبل حلول الحول المانعة عن تعلّق التكليف بالزكاة بالصائم الذي خرج عن بلده ثمّ أفطر، فقيّد الإفطار بالخروج عن البلد، ومعلوم أنّ هذا حكم ما قبل الزوال، وإلاّفبعده لا يجوز الإفطار خرج أم لم يخرج.

وعلى الجملة: قد تضمّن الذيل نفي البأس عن الهبة قبل حلول الحول، لأنّه وهبه في وقت حلال، إذ لم يكن التكليف بالزكاة متوجّهاً إليه وقتئذ، فهو بمنزلة الصائم الذي خرج إلى السفر وأفطر بعد خروجه –الذي لا يكون إلاّ قبل الزوال بطبيعة الحال كما عرفت- فإنّ هذا الإفطار لا يوجب الكفّارة، لوقوعه في وقت حلال، لعدم كونه مكلّفاً بالصوم عندئذ. فيظهر من تقييد الإفطار بالخروج أنّه لو أفطر قبل الخروج لم تسقط عنه الكفّارة وإن خرج وسافر، لوقوع الإفطار حينئذ في وقت غير حلال.

فيظهر من ذيل الصحيحة بوضوح أنّ العبرة في الكفّارة وعدمها بكون الإفطار في وقت سائغ وعدمه، فإن أفطر في زمان لم يكن الإفطار جائزاً في

ص: 374

حقّه –كما لو كان قبل خروجه، أو كان بعد الزوال وإن كان بعد خروجه- لم تسقط عنّه الكفّارة، وأمّا إذا أفطر في زمان يجوز له الإفطار –كما لو أفطر بعد خروجه قبل الزوال- سقطت، أي لم تتعلق به الكفّارة حينئذ، فالصحيحة واضحة الدلالة على المطلوب ، فلا بأس بالاستدلال بها ، ولا وجه للمناقشة فيها))(1).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

1- إنه لا يظهر من الصحيحة ما أراد (قدس سره)؛ لأنها إنما أعطت المثال البيِّن لاستقرار الكفارة –وهو السفر بعد الزوال لإبطال الكفارة المستقرة في الذمة-، والمثال البيِّن لعدم ثبوتها- فيما لو تناول المفطر بعد تجاوز حد الترخّص قبل الزوال- من دون إشارة إلى ما نحن فيه.

2- قوله (قدس سره): ((وإنما قيَّد (عليه السلام) السفر بآخر النهار..)) لا يمكن المساعدة عليه، إذ لو كان السفر مطلقاً لا يقتضي السقوط، لما قيّد الإمام (عليه السلام) السفر بآخر الزوال، وما ذكره (قدس سره) من الوجه لا حاجة إليه خصوصاً إذا أدّى إلى الإيهام كما في المقام، فهذا التقييد يدلّ على عكس مطلوبهم.

3- قوله: ((إن العبرة في الكفارة بجواز الإفطار وعدمه)) وقوله: ((فيظهر من ذيل الصحيحة بوضوح أن العبرة في الكفارة وعدمها ..)).

4-

أقول: هذا عين محلّ الخلاف بل لا يمكن المساعدة عليه؛ لأن عدم جواز الإفطار قبل الخروج إلى السفر لا يفرَّق فيه بين كون السفر قبل الزوال أو بعده.

والظاهر من الصحيحة أن العبرة ليست بكون الزمان مما يجوز الإفطار فيه أم لا وإنما هي باستقرار الكفارة وعدمها، فشبّه الكفارة المستقرة بالزكاة المستقرة وعدمها بعدمها، وكون المورد من الزكاة المستقرة محل خلاف، أي أن

ص: 375


1- المصدر السابق: 21/359.

المناط هو ثبوت الكفارة على نحو لا يسقطها العذر الطارئ وعدمه، فلا يتم استدلاله.

وقد صرّح الإمام (عليه السلام) بذلك بقوله في ذيل الرواية: (إنما لا يمنعالحال عليه، فأما ما لا يحل فله منعه) لكن السيد الخوئي (قدس سره) لم ينقل هذا الذيل عندما أورد محل الشاهد من الصحيحة.

كما تكشف عن هذا المناط روايات أخر في باب الزكاة، كموثقة زرارة، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أباك قال: من فرَّ بها من الزكاة فعليه أن يؤديها، فقال: صدق أبي إن عليه أن يؤدي ما وجب عليه، وما لم يجب عليه فلا شيء عليه منه، ثم قال لي: أرأيت لو أن رجلاً أغمي عليه يوماً ثم مات فذهبت صلاته، أكان عليه وقد مات أن يؤديها؟ قلت: لا، قال: إلا أن يكون أفاق من يومه، ثم قال لي: أرأيت لو أن رجلاً مرض في شهر رمضان ثم مات فيه أكان يصام عنه؟ قلت: لا، قال: وكذلك الرجل لا يؤدي عن ماله إلا ما حلَّ عليه)(1).

خامساً: ما ورد في كلمات جملة من الأعمال كصاحب المدارك قال (قدس سره): ((إنه أوجد المقتضي وهو الهتك والإفساد بالسبب الموجب للكفارة فيثبت الأثر))(2).

واحتمله صاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((يمكن أن يكون مبنى الكفارة: التكليف ظاهراً الذي به يحصل هتك الحرمة بالجرأة))(3) وقرّبه بعض الأعلام المعاصرين بأن ((المناط كله في وجوب الكفارة لهتك حرمة شهر رمضان، والإفطار العمدي في الصوم المستجمع لشرائط الصحة ظاهراً مع

ص: 376


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح5.
2- مدارك الأحكام: 6/114.
3- جواهر الكلام: 16/306.

حكم الشرع بوجوب الصوم وهو متحقق في الصورتين فلا وجه لما يقال: من أنه بالسفر يستكشف عدم الصوم في الواقع، فلا موضوع للكفارة، وذلك لأن الهتك المتحقق خارجاً مع حكم الشرع بوجوب الصوم لا ينقلب عما وقع عليه في الواقع من القبح بتفويت الصوم بالسفر اختياراً.

ومنه يظهر عدم الفرق بين السفر وعروض سائر الموانع الغير الاختيارية –كالحيض والمرض والجنون- لأن الصوم في الواقع مشروط بعدم هذه الأمور ومع عروض واحد منها يستكشف أنه لم يكن تكليف بالصوم في علم الله تعالى، ولكن لا ريب في ثبوت الوجوب الظاهري في الجميع، فيتحقق الهتك بالنسبة إلى نقض هذا الوجوب في الجميع، والكفارة إنما تتعلق بهذه الجهة التي وقعت في شهر رمضان في الصوم الواجب ظاهراً.

ويمكن تقرير الدليل بنحو الشكل الأول البديهي الإنتاج بان يقال: هذا الشخص لا يجوز له الإفطار في هذا اليوم عمداً وكل من لا يجوز له الإفطار عمداًتتعلق به الكفارة قهراً، فهذا تتعلق به الكفارة.

ويشمل الدليل عروض الموانع الاضطرارية أيضاً، وبعبارة أخرى موضوع الكفارة إنما هو نقض الحكم الظاهري بوجوب الصوم لا كون الصوم واجداً للشرائط إلى المغرب في علم الله تعالى))(1).

وفيه:-

1- حلاً: بأنَّ جعل المناط في الوجوب هو الهتك على نحو يدور وجوب الكفارة مداره تنقيح مناط لا حجية له.

2- نقضاً: بمن ظنّ طلوع الفجر فتناول المفطر عمداً، ثم ظهر له بقاء الليل فقد تحقق منه الهتك في شهر رمضان لوجوب الصوم عليه ظاهراً إلا أنه لا كفارة عليه.

ص: 377


1- مهذب الأحكام للسيد السبزواري: 10/175-176.

3- إن هذا الوجه لو تم، فإنما يتم في خصوص من لا يعلم سبب الإفطار، أما من يعلم بأنه سيسافر أو أن المرأة ستحيض فيسقط عنهم الصوم لانتفاء شرط الوجوب، فصدق الهتك محل إشكال بل منع، ويكون الدليل أخصّ من المدّعى.

4- إن الحكم الظاهري هو مؤدى الطرق والأمارات المجعولة من قبل الشارع لغرض إحراز وتحصيل أكبر قدر ممكن من الأحكام الواقعية، وليس هو حكماً واقعاً وحقيقة، فإذا انكشف الحكم الواقعي فإن الحكم الظاهري لا يترتب عليه أي أثر، غاية الأمر ينطبق عليه عنوان التجرّي، فقوله (قدس سره): ((لا ينقلب عما وقع عليه الواقع، لا واقع له)).

أما القياس الذي ذكره (قدس سره) فإن مقدمته الثانية لا يسلّمها الخصم –كالعلامة (قدس سره) الذي منع من تناول العازم على السفر مفطراً قبل حد الترخّص ولا يوجب الكفارة عند المخالفة-، وتسمية الحالة بالإفطار أول الكلام، والصحيح التعبير عنها بتناول المفطر.

(القول الثاني) السقوط مطلقاً وقد حكاه المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع، ونُسب إلى العلامة في جملة من كتبه(1)،إلا أن الموجود فيها سقوط الكفارة إلا إذا أتى بالمسقط –كالسفر- للفرار منه، وربما كان الوجه في الإطلاق أن عدم السقوط في هذا المورد مما لا خلاف فيه، قال السيد صاحب المدارك (قدس سره):((واعلم أن موضع الخلاف ما إذا لم يكن المسقط من فعل المكلف، بحيث يقصد به إسقاط الكفارة، فإنها لا تسقط، وإلا لزم إسقاط

ص: 378


1- مستند الشيعة: 10/541، فقه الصادق: 12/235.

الكفارة عن كل مفطر باختياره والإقدام على المحرمات))(1).

قال العلامة في التذكرة: ((لو جامع أو أكل أو شرب في أول النهار بعد عقد صومه، ثم تجدد عذر مسقط للصوم –كجنون أو مرض أو حيض أو نفاس- في أثناء النهار، فالوجه عندي: سقوط الكفارة، وهو قول بعض علمائنا(2).

ولو سافر سفراً اختيارياً، فإن لم يقصد به زوال الكفارة عنه، فالأقرب: أنه كالعذر، وإن قصد به إسقاط الكفارة لم تسقط، وإلا لزم إسقاط الكفارة عن كل مفطر باختياره، والإقدام على المحرمات))(3).

وقال (قدس سره) في المختلف: ((وقيل بالسقوط، وهو الأقرب عندي، إن كان المسقط من قبل الله تعالى كالحيض والمرض والإغماء والجنون، أو من قبله وإن كان باختياره لا لذلك كالسفر، أما لو كان غرضه من فعل المسقط إسقاط الكفارة فلا، كما لو أفطر ثم خرج إلى السفر لإسقاطها، فإن الكفارة لا تسقط عنه))(4).

واختاره أو قوّاه عدد من الأعلام المعاصرين، منهم الشيخ المنتظري (قدس سره)، معللاً بأن ((الصوم عبارة عن الإمساك من الفجر إلى الليل بنحو الوحدة والارتباط، وعدم السفر والحيض ونحوهما شروط للواجب، والوجوب معاً)) ((فمن كان في علم الله مسافراً حين الزوال أو حائضاً في بعض اليوم ينكشف بذلك عدم توجّه التكليف بالصوم إليه إذ الصوم مجموع الإمساكات من الفجر إلى الغروب بنحو الارتباط، والمفروض عدم وجوبه على من لم يكن واجداً لشرائطه المذكورة، والكفارة في الروايات مترتبة على

ص: 379


1- مدارك الأحكام: 6/115.
2- كما يظهر من حكاية المحقق له في الشرائع.
3- تذكرة الفقهاء: 6/83-84، المسألة (46).
4- مختلف الشيعة: 3/318، مسألة (62).

إفطار الصوم لا مطلق الإمساك))(1).

وسبقه إلى هذا البيان السيد الحكيم (قدس سره) معتبراً إياه ظاهر الأدلة(2).

وأصل هذا الوجه للعلامة (قدس سره) حيث استدل على هذا القول –بعد أصالة عدم الوجوب عند الشك- بوجهين، أحدهما: أن ((هذا اليوم غير واجب صومه عليه في علم الله تعالى، وقد انكشف لنا ذلك بتجدد العذر، فلا تجب فيه الكفارة، كما لوانكشف انه من شوال بالبينة)).

وبعبارة أخرى إن الكفارة إنما تجب إذا تناول المفطر في يوم يجب عليه صومه ويصح منه فأبطله بالمفطر، فإذا سقط وجوب الصوم بطروّ أحد الأسباب فإنه يكشف عن عدم كون إمساكه من أول النهار صوماً شرعياً فلا كفارة بتناول المفطر.

أما وجوب الإمساك قبل تحقق العذر، فعلى تقدير الالتزام به –لوجود المخالف- فإنه لا ينافيه لإمكان كونه لمراعاة حرمة الشهر كما تدل عليه صحيحة عبد الله بن سنان في الفرع السادس(3)،لا لوجوب الصوم حقيقة، فيكون الإمساك المذكور من قبيل الإمساك بعد الإفطار عمداً، فإنه لا يدل على كونه صوماً حقيقة.

أقول: أُجيب (قدس سره) –كما في الحدائق-: ((بأن الأحكام الشرعية والتكاليف الواردة من الشارع إنما بنيت على الظاهر لا على نفس الأمر والواقع، فإن الحلال والحرام والطاهر والنجس ليس إلا عبارة عن ما كان كذلك في نظر المكلف لا عن ما كان واقعاً لقولهم (عليهم السلام): (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه)) وقولهم: (كل شيء

ص: 380


1- كتاب الصوم: 290-291.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/359.
3- من القسم الأول من الكتاب والرواية موجودة في (صفحة 273) (الناشر).

طاهر حتى تعلم أنه قذر) ونحو ذلك. وبه يظهر قوة ما ذكره الشيخ (قدس سره).

وأما القياس على انكشاف كونه من شوال فهو قياس مع الفارق لأنه بعد انكشاف كونه من شوال لا يصدق عليه أنه أفطر يوماً من شهر رمضان فلا تجب عليه كفارة، وأما في ما نحن فيه فلا خلاف في أنه أفطر يوماً من شهر رمضان لغير عذر وإن طرأ العذر بعد ذلك فتتناوله الأخبار الدالة على وجوب الكفارة على من كان كذلك.

وبالجملة فإن الأخبار الدالة على وجوب الكفارة على من أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً شاملة بإطلاقها لهذه الصورة وتجدد العذر لا يصلح لإسقاطها بعد ثبوتها، وقول ذلك القائل –إنه غير واجب صومه في علم الله تعالى- مدفوع بأن الوجوب ليس مبنياً على علم الله تعالى الذي هو عبارة عن الواقع ونفس الأمر كما عرفت))(1).

أقول: قد أجبنا (صفحة 378) عن المقطع الأول وقلنا فيه أن الأحكام الظاهرية ليست أحكاماً حقيقة، وتنتفي حجيتها إذا انكشف الواقع.

أما قوله في المقطع الثاني بأنه قياس مع الفارق فلا وجه له، لأننا لا نجد فرقاً بين محل البحث والمثال المذكور فكلاهما صوم واجب ظاهراً، ثم بان الخلاف بظهور عدم الوجوب واقعاً بعدئذٍ، أما الفرق في سبب وموضوع الانكشاف حيث أنه تارة بعروض سبب مسقط للوجوب وتارة بكونه خارج رمضان فإنه مما لا يفرق فيمانحن فيه.

فهذه المناقشة لكلام العلامة (قدس سره) غير مجدية.

نعم يمكن الإيراد على استدلال العلامة (قدس سره) من عدة جهات:-

ص: 381


1- الحدائق الناضرة: 13/232.

1- إن ما ذكره (قدس سره) تام على مبنى المشهور من سقوط الوجوب عند حصول هذه الأسباب من غير تفصيل بين السفر وغيره، باعتبار أن أعدامها جميعاً شروط وجوب، وهو ما ناقشنا فيه.

2- استثناؤه (قدس سره) من يسافر للفرار –وقد تقدم نفي الخلاف عنه- لا يظهر له وجه معتدٌ به لأنه (قدس سره) علل هذا الاستثناء –فيما نقلناه من كلامه في التذكرة- بقوله (قدس سره): ((وإن قصد به –أي السفر- إسقاط الكفارة لم تسقط، وإلا لزم إسقاط الكفارة عن كل مفطر باختياره، والإقدام على المحرمات)).

أقول: هذا الاستثناء مخالف لعموم الدليل الذي ذكره على سقوط الكفارة وهو انتفاء الوجوب من أصله بعروض المسقط، فإنه عام فيجب الأخذ بعمومه، ولا يجوز الخروج عنه بما قال.

وبتعبير آخر: إذا أذن الشارع بإزالة الأثر بهذه الطريقة بحسب ما يفيده العموم فلا معنى للاعتراض عليه بهذا الإشكال؛ لأن متناول المفطر أسقط بسفره وجوب الصوم، فكأن من تورّط بما يوجب الكفارة له سبيلان، أحدهما: امتثالها بإحدى الخصال الثلاث المعروفة، وثانيهما: إسقاط موضوع الكفارة من أصله بدل امتثالها، وكل ذلك بإذن الشارع المقدس، وهذا الثاني ليس أقل مؤونة من الأول أي امتثال إحدى خصال الكفارة.

وإذا عُدّ هذا الحكم إغراءً بالإقدام على المحرمات، فإن الإشكال يجري أيضاً على نفس تشريع الكفارة، بل الإشكال هناك أأكد لأن الإثم باقٍ على من امتثل الكفارة إلا أن يغفره الله تعالى، أما إذا أسقط موضوع الكفارة وزال الوجوب من أصله، فينكشف أنه ليس آثماً لأنه لم يرتكب محرماً فقد تناول المفطر في يومٍ لا يجب صومه.

نعم ينطبق عليه عنوان التجري وتترتب آثاره المذكورة في علم

ص: 382

الأصول.

مضافاً إلى أن مقتضى هذا الوجه عدم سقوط الكفارة في كل مسقط اختياري، ونتيجته القول بالتفصيل بين المسقط القهري والاختياري لا عدم السقوط مطلقاً.

وعلى أي حال فإن هذا التفكير منه (قدس سره) قريب من أصل عند العامة معروف ب- (سد الذرائع) فلعله بناه عليه، أو أنه (قدس سره) بنى على تنقيح المناط لما يعرف بمقابلة الفاعل بنقيض مقصوده كما يستفاد من ذوق الشرع المقدس بحرمان القاتل من الميراث.

والأقرب من هذين الاحتمالين أنه (قدس سره) فهم من صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم السابقة أن ملاك عدم سقوط الكفارة بالسفر بعد الزوال هوبسبب قصد الفرار منه، كما يظهر من صاحب المدارك (قدس سره) حيث استدل بالصحيحة على نفي الخلاف في عدم سقوط الكفارة إذا كان المسقط من فعل المكلف لإسقاط الكفارة(1)،وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وإلا فهو –أي صحيح زرارة ومحمد بن مسلم- دال على بعض الدعوى، وهو ما إذا كان المسقط من فعل المكلف مقصوداً به إبطال الكفارة))(2).

ووردت في هذا المعنى روايات عديدة صريحة في ذلك، كموثقة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحليّ فيه زكاة؟ قال: لا إلا ما فرَّ به من الزكاة)(3)،ومثلها موثقة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (قلت له: فإنه فرَّ به من الزكاة، فقال: إن كان فرَّ به من الزكاة فعليه الزكاة)، لكنها بقرينة روايات أُخر

ص: 383


1- مدارك الأحكام: 6/115.
2- جواهر الكلام: 16/306.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح6، 7.

كموثقة زرارة المتقدمة (صفحة 376) تفيد أن الفرار لا ينفع في سقوط الزكاة إذا استقر وجوبها، فلا تنفع في الاستدلال هنا؛ لأن استقرار الكفارة محل الخلاف وعين المدعى.

والنتيجة أن هذه الأطروحات كلها مردودة، فتفصيله (قدس سره) يبقى بلا دليل.

ثانيهما: قوله (قدس سره): ((وكونه مكلفاً في الابتداء بالصوم ظاهراً لا يقتضي وجوبه في نفس الأمر، فإنّا بيّنا عدم الوجوب، وإلا لزم التكليف بالمحال، فإنه في أول هذا اليوم لو كان مكلفاً بالصوم المشروط بالطهارة مع تعذّر حصولها، لزم التكليف بالمحال)).

أقول: ما ذكره (قدس سره) في بيان منشأ الخلاف مبني على المطلب المعنون أصولياً ب- ((جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه)) –وستأتي مناقشته لاحقاً بإذن الله تعالى- وظاهر كلامه أنه يذهب إلى امتناعه، لكن ينقض عليه باختياره عدم جواز تناول المسافر للمفطر قبل حد الترخّص، فكيف صحّ توجيه الأمر إليه؟

اللهم إلا أن يقال أن وجوب الإمساك قبل بلوغ حد الترخّص واجب مستقل لا علاقة له بوجوب الصوم، وحينئذٍ يكون مطالباً بإثبات الدليل عليه؛ لأن من أوجبه انطلق من وجوب صوم ذلك اليوم عليه، فلا يستطيع أن يستدل بإجماع ونحوه، أما الملازمة بين التقصير والإفطار فلم يثبت شمولها للمورد، وإذا صحّت هنا في مقام الإثبات فإنها تكون نقضاً على الإشكال في مقام الثبوت. وقد بحثنا هذا المطلب في الفرع الرابع.

(القول الثالث) التفصيل بين الأسباب الاضطرارية للإفطار والأسباب الاختيارية فتسقط الكفارة في الأول دون الثاني، قال صاحب الجواهر (قدس

ص: 384

سره): ((وقيل –كما في فوائد الشرائع- تسقط إن لم يكن المسقط اختيارياً كسفر ونحوه، وإن كنت لم أتحقق قائله))(1)،وقوّاه صاحب العروة (قدس سره) كما قدّمنا.

ومقتضاه أن السفر ليس له حكم واحد، وإنما بفصَّل فيه بين كونه اختيارياً فلا تسقط الكفارة، أو اضطرارياً فتسقط، كما قرّب السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك، بل التفصيل في بقية الأسباب كالحيض والنفاس، فإن كانت بتسبيب من المرأة لم تسقط الكفارة، وإن كانت بشكل طبيعي سقطت الكفارة.

والظاهر أن وجهه ما تقدم حين عرض قول العلامة (قدس سره) من نفي الخلاف عن كون إيقاع السبب المبطل للصوم اختياراً للفرار من الكفارة لا يسقطها، وقد ناقشناه وظهر أنه لا دليل عليه.

ويظهر من السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك أن لهذا التفصيل وجهاً آخر سنذكره عند التعرض لمناشئ الاختلاف في المبنى الثالث بإذن الله تعالى.

مناشئ الاختلاف في المسألة والقول المختار

أشرنا إلى عدم وجود نص خاص في المسألة، وبعد الاطلاع على استدلال الأصحاب واستقراء كلماتهم، يمكن تحصيل عدة مناشئ للاختلاف بحسب المباني التي استندوا إليها، وهي عديدة:

(المبنى الأول) ما ذكره العلامة (قدس سره) من عدم إمكان القول بثبوت الوجوب ظاهراً حتى تحقق السفر ((وإلا لزم التكليف بالمحال، فإنه في أول هذا اليوم لو كان مكلفاً بالصوم المشروط بالطهارة مع تعذّر حصولها لزم التكليف بالمحال)).

ص: 385


1- جواهر الكلام: 16/306.

قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): ((وذكر العلامة ومن تأخّر عنه(1)

أن مبنى المسألة على قاعدة أصولية، وهي أن المكلَّف إذا علم فوات شرط الفعل هل يجوز أن يكلِّف به أم يمتنع؟ فعلى الأول تجب الكفارة، وعلى الثاني تسقط))(2).

وهو المطلب المعنون في علم الأصول ب-((جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاءشرطه))، ويراد بشرطه شرط مجعوله أي امتثاله فيكون البحث: هل يجوز جعل الأمر وتشريعه من الآمر مع علمه بانتفاء شرط مجعوله الذي جعله على ذلك التقدير أم لا؟

ووافق صاحب الجواهر (قدس سره) العلامة (قدس سره) في كون هذا المطلب هو مبنى المسألة، ولذلك قال عن عدم سقوط الكفارة: ((لا لصدق الإفطار إذ التحقيق انتفاء الأمر بالمشروط مع العلم بانتفاء شرطه)).

أقول: بغضّ النظر عما سيأتي من مناقشة المبنى فإن تعبيره قد لا ينطبق على موضوع البحث لو أراد به النتيجة الحاصلة وهي انتفاء الأمر بالمشروط عند انتفاء شرطه لأنه مسلّم، نعم لو أراد بالانتفاء عدم جواز مثل هذا الأمر، كان داخلاً في هذا البحث.

ويرد على هذا المبنى:-

1- كبروياً: من حيث المطلب الأصولي فإننا لا نرى بأساً في الجواز لمصلحة تعود إلى الجعل نفسه كحصول الامتثال إلى حين انتفاء الشرط كما في المقام حيث يراد المحافظة على حرمة وقدسية شهر رمضان التي صرّح بها الإمام في صحيحة عبد الله بن سنان (صفحة 272) وغيرها، أو

ص: 386


1- كفخر المحققين في إيضاح الفوائد: 1/230، والشهيد الثاني في المسالك: 1/74 (منه).
2- مدارك الأحكام: 6/114.

لاختبار مستوى التسليم والطاعة كأمر إبراهيم الخليل (عليه السلام) بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، نعم قد يكون غير جائز بعناوين ثانوية كما لو كان مستهجناً أو قبيحاً أو لغواً ونحو ذلك مما يبحث في علم الأصول.

2- صغروياً: إذ التحقيق أن الحكم في المسألة غير مبتنٍ على هذا المطلب الأصولي؛ لأن الأوامر تتعلق بالطبائع لا بالأفراد(1)،أي أن الآمر يتصور طبيعي المكلف الحاضر أو المرأة الخالية من الحيض والنفاس ويوجّه لهم الأمر بالصوم، -والمفروض تحققها في زمن النية عند الفجر- وليس أنه يتصور الفرد بما له من الخصوصيات، ونحن نعلم أن طروّ العذر إنما يكون بلحاظ الأفراد.

والشاهد على ذلك النقض عليهم بالتزامهم بصحة مثل هذا الأمر مطلقاً بغضّ النظر عن سقوط الكفارة وعدمها مما يعني أن الخلاف ليس مبنياً عليه، لذلك أوجبوا الإمساك قبل حصول سبب الإفطار وأفتوا بعدم جواز تناول المفطر قبل طرو العذر حتى مع علمه بذلك.

وقد جزم العلامة (قدس سره) –القائل بسقوط الكفارة على هذا المبنى- بما اختاره الشيخ (قدس سره) من أنه ((لا يجوز للمسافر الإفطار إلا أن يغيب عنه جدران بلده أو يخفى عليه أذان مصره))(2)

وإنما اختلف مع الآخرين في سقوطالكفارة ((لأن الإفطار في اليوم الذي يسقط فيه الصوم بعده لا يوجب كفارة)).

أقول: هذا بحسب الظاهر كلام لا يتلاءم مع بعضه؛ لأن المفروض إذا انكشف سقوط الوجوب فلا وجوب من أول الأمر، وحينئذٍ ما المانع من تناول المفطر

ص: 387


1- لم يربط الأصوليون بين مبحث (جواز الأمر مع انتفاء شرطه) ومبحث (تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد) مع وضوح العلاقة كما ذكرنا.
2- مختلف الشيعة: 3/343، المسألة (79).

قبل حد الترخّص أو قبل طروّ العذر مطلقاً إذا علم بأن هذا يوم لا يجب صومه.

وقد دافعنا عن العلامة (قدس سره) بافتراض أن وجوب الإمساك وحرمة تناول المفطر بأمر مستقل غير مترشّح من وجوب الصوم الذي قال باستحالته، ودليله الملازمة بين التقصير والإفطار.

لكن هذه المحاولة غير تامة، إذ لم يثبت شمول الملازمة لهذا المورد كما فصّلنا في الفرع الرابع، ولو صحّت هنا – في مقام الإثبات- لكانت نقضاً على هذه الاستحالة في مقام الثبوت، وستكشف عن عدم الإشكال الثبوتي؛ لأن حرمة تناول المفطر قبل حد الترخص ليس إلا لوجوب عقد نيّة الصوم حتى طرو العذر المسقط، كما قدّمنا.

هذا ولكن الصحيح في ردّ النقض على العلامة (قدس سره) بأن يقال أن المسقط للسفر هو تحقق السبب نفسه لا العلم به فلا تنافي بين المسألتين مع ما قلناه من كون وجوب الإمساك مستقلاً.

ونفى السيد صاحب المدارك (قدس سره) أيضاً هذا البناء ببيان آخر فقال: ((وعندي في هذا البناء نظر، إذ لا منافاة بين الحكم بامتناع التكليف بالفعل مع علم الآمر بانتفاء الشرط كما هو الظاهر، وبين الحكم بثبوت الكفارة هنا لتحقق الإفطار في صوم واجب بحسب الظاهر)) ووافقه صاحب الحدائق (قدس سره)، إذ قال بعد نقل كلام المدارك هذا: ((كما هو واضح، ومرجعه إلى عدم اندراج ما نحن فيه تحت القاعدة المذكورة لجواز أن يكون وجوب الكفارة مبنياً على وجوب الصيام بحسب الظاهر وإن قلنا أنه يمتنع التكليف في الصورة المذكورة))(1).

أقول: أوردنا كلاميهما (قدس الله سريهما) لتأييد عدم ابتناء المسألة على هذا

ص: 388


1- الحدائق الناضرة: 13/233.

المطلب، وإلا فإن كلاميهما قابل للمناقشة؛ لأن الكفارة إنما وجبت لتحقق الإفطار في صوم واجب ظاهراً بنفس هذا الأمر الذي قالوا باستحالته، فكيف يقال بعدم المنافاة؟

وأضاف صاحب المدارك (قدس سره): ((نعم لو انكشف بعد الإفطار كون ذلك اليوم من غير شهر رمضان، كما لو ثبت بالبينة أنه من شوال سقطت الكفارة قطعاً؛ لأن الكفارة إنما تتعلق في نهار شهر رمضان، والمفروض كونه من شوال))(1).

وقال آخرون مثل هذا كالمحقق النراقي قال (قدس سره): ((والقياس علىظهور أنه من شوال باطل، إذ لا يصدق عليه أنه أفطر نهاراً من شهر رمضان))(2).

أقول: تقدم أن هذا الفرق لا أثر له بناءً على ما التزموا به من كفاية وجوب الصوم ظاهراً لثبوت الكفارة، وهو متحقق فيهما معاً، وإن اختلف الموردان في سبب سقوط الصوم؛ ولذا احتاط صاحب العروة (قدس سره) في عدم سقوط الكفارة في هذا المورد أيضاً قال (قدس سره): ((لو أفطر يوم الشك في آخر الشهر ثم تبيّن أنه من شوال فالأقوى سقوط الكفارة، وإن كان الأحوط عدمه، وكذا لو اعتقد أنه من رمضان ثم أفطر متعمداً فبان أنه من شوال، أو اعتقد في يوم الشك في أول الشهر أنه من رمضان فبان أنه من شعبان))(3).

إلفات: ونلفت النظر هنا إلى وجود عدم انسجام بين كلمات المحقق الحلي (قدس سره) أيضاً فقد تردد في سقوط الكفارة وعدمها في المسألة محل البحث، قال: ((فرع: من فعل ما تجب به الكفارة ثم سقط فرض الصوم بسفر أو حيض

ص: 389


1- مدارك الأحكام: 6/114.
2- مستند الشيعة: 10/542.
3- العروة الوثقى، فصل في ما يوجب الكفارة، المسألة (12).

وشبهه، قيل تسقط الكفارة، وقيل: لا، وهو الأشبه))(1)،إلا أنه جزم بثبوتها على من تناول المفطر قبل حد الترخّص، قال (قدس سره): ((لا يفطر المسافر حتى يتوارى عنه جدران بلده أو يخفى عليه أذانهن فلو أفطر قبل ذلك كان عليه مع القضاء الكفارة))(2).

أقول: المفروض أن المسألتين من سنخ واحد، فالاختلاف في الفتوى غير مبرر، وورد هذا الإشكال في كلمات صاحب الجواهر(3)

(قدس سره).

إلا أنه يمكن الدفاع عن المحقق (قدس سره) بأن الجزم إنما هو بغضّ النظر عن استمراره في السفر حتى يقطع المسافة الشرعية أو عدوله عنه والعودة إلى وطنه، وعدم السقوط حينئذٍ لا خلاف فيه، وإنما التردد والخلاف فيما لو واصل سفره حتى بلغ المسافة الشرعية وهو كلامه الأول.

(المبنى الثاني) ما احتمله السيد الحكيم (قدس سره) في توجيه القول بعدم السقوط مطلقاً بقوله: ((اللهم إلا أن يقال: إن دعوى كون السفر ونحوه إذا وقع في أثناءالنهار كان مبطلاً للصوم في أول الأمر مما لا شاهد عليها. إذ يحتمل كونه مبطلاً له وناقضاً له من حينه. فإذن لا يبعد البناء على وجوب الكفارة مطلقاً))(4).

بتقريب: أن العذر إذا كان يسقط الصوم من حين عروضه فتثبت الكفارة لصدق موضوع وجوبها المستمر من الفجر حتى حصول المسقط، وإن كان العذر يسقط الصوم من أول الأمر أي من الفجر سقطت الكفارة لأن

ص: 390


1- الشرائع، كتاب الصوم، المقصد الثاني: فيما يترتب على ذلك، المسألة الحادية عشرة.
2- الشرائع، كتاب الصوم، النظر الثالث في اللواحق، المسألة الخامسة.
3- جواهر الكلام: 1/306.
4- مستمسك العروة الوثقى: 8/361.

تناول المفطر كان في زمان لا يجب صومه فلا يصدق الإفطار الموجب للكفارة.

وأخذه منه بعض الأعلام المعاصرين فقال (دام ظله): ((وكيف كان فمبنى الكلام في المسألة أن عروض العذر مبطل للصوم من حينه، مع مشروعيته من أول الأمر، أو كاشف عن بطلانه وعدم مشروعيته من أول الأمر، نظير قيام البينة في أثناء النهار برؤية هلال العيد في الليلة الماضية.

ولا ينبغي التأمل –بعد النظر في الأدلة والرجوع للمرتكزات- في الأول، فتشرع نية الصوم بل تجب مع العزم على السفر في أثناء النهار والعلم به، ويصح الصوم لو اتفق عدم السفر، كما لا يجوز الإفطار بمجرد العلم بتحقق السفر، بل لا بد من الشروع في السفر والوصول لحد الترخّص. كما تضمنت النصوص أن المرأة تفطر حين تطمث، لا أن الطمث كاشف عن عدم صحة صومها من أول الأمر))(1).

أقول: في كلامه (دام ظله) عدة موارد للنظر:-

1- لم يبين لنا ما هي هذه الأدلة والمرتكزات التي يرجع إليها لمعرفة صحة أحد الشقّين، فإن قصد بها وجوب نية الصوم والإمساك حتى يحصل العذر، فقد قلنا أنه لا ينفع لأنه حكم آخر لا يستفاد منه هنا، أي أن مخالفة هذا الوجوب لا يتحقق بها موضوع وجوب الكفارة. وقد يكون هذا الوجوب لمراعاة حرمة شهر رمضان أو لاحتمال عدم طروّ العذر فيستمر بصومه، فلا يلزم من وجوب الإمساك إلى حين العذر كونه يوماً يجب صومه حتى تجب الكفارة بإفطاره، وهذا الوجوب عقدنا فرعاً خاصاً لمناقشته.

2- إن هذا التفصيل لا يمكن الاعتماد عليه كمنشأ للحكم ولا يصلح أن يكون –بعنوانه- معياراً للخلاف؛ لأنه متفرّع ومسبَّب عن تفصيل سابق

ص: 391


1- مصباح المنهاج، كتاب الصوم: 188.

فيكون منشأ الخلاف ذلك المبنى، وهو أن السبب المبطل للصوم إن كان على نحو شرط الوجوب –كالعقل والخلو من الحيض والنفاس- فإن حصول السبب يكشف عن سقوط الصوم من أول الأمر وتسقط الكفارة معه.

وإن كان شرط واجب –كالسفر- فإن الوجوب موجود من أول الأمر، وإنما ينتفي شرط الصحة عند حصول السبب، فلا تسقط معه الكفارة.

والوجه فيه: أن الوجوب أمر بسيط لا يقبل التبعيض، فوجوب الصوم المنبسط على تمام النهار إما أن يكون متحققاً في تمام الوقت أو لا، ولو حصل ما يُخلّ به لحظة من النهار –كما لو حاضت لحظة قبل الغروب بحسب النصوص المتقدمة- كشف عن وجوده في تمام الوقت.

3- أما فهمه لحديث (تفطر حين تطمث) تبعاً لمن سبقه فقد شرحنا معناه وهو غير ما ذكروا. ومن الغريب قوله: ((لا أن الطمث كاشف ..)) مع أن هذا ظاهر، ولعله من عدم قدرة القلم على البيان فأراد به عدم جواز إفطارها من أول الأمر حتى لو علمت بتحيّضها بعدئذٍ.

ومما تقدم يُعلم النظر في قوله (دام ظله) بعد ذلك: ((ولا ينافي ذلك كون الصوم هو الإمساك في تمام النهار بالشروط المعهودة –من الحضر والخلوّ من الحيض ونحوها- بنحو الارتباطية. إذ لا يراد بذلك إلا عدم مشروعية الصوم بعض النهار، مع كون الشروط المعهودة شروطاً في البقاء على الصوم، لا في أصل حدوثه، بحيث لا يشرع إلا بواجديتها في تمام النهار. ومع مشروعية الصوم يكون موضوعاً لحرمة الإفطار، ولوجوب الكفارة به، ولا دليل على مسقطية حدوث العذر لها بعد أن لم يكن كاشفاً عن عدم مشروعية الصوم من أول الأمر، بحيث لا يتحقق معه الإفطار الذي هو موضوع للحرمة

ص: 392

ولوجوب الكفارة))(1).

أقول: ما ذكره (دام ظله) من معنى الارتباطية بقوله: ((إذ لا يراد بذلك ..)) صحيح ولكنه لا ينفي ما ذكرناه من المعنى وهو عدم قابلية وجوب الصوم للتبعيض.

(المبنى الثالث) هو التفصيل في الحكم بلحاظ كون السبب المبطل للصوم شرط وجوب أم شرط واجب:

قال السيد الحكيم (قدس سره): ((فالأولى أن يقال: إن السفر في أثناء النهار إن كان عدمه شرطاً للوجوب –يعني: لثبوت ملاك الصوم- كان الصوم قبله بلا ملاك، فلا يكون الإفطار قبله موجباً للكفارة. وإن كان عدمه شرطاً للواجب –وهو الصوم- كما يقتضيه صدق الفوت والقضاء في حق المسافر، فيقال: فاته الصوم، ويجب عليه قضاؤه، إذ الفوت إنما يصدق في ظرف وجود الملاك، والقضاء فرع وجوب الأداء وفوته، كان اللازم البناء على وجوب الكفارة كما لو أفطر ولم يسافر، إذ لا فرق بينهما في وجوب الصوم، وفي حرمة إيقاع المفطر غير السفر، وفي جواز الإفطار بالسفر. ومجرد اختلافهما بوجود السفر وعدمه لا يؤثر فرقاً في وجوب الكفارة. لأن موضوع الكفارة الصوم الصحيح الواجب على المكلف صحة تأهلية، وهذا المعنى لا يختل بوجود السفر باختياره.

نعم لو كان السفر غير اختياري كان موجباً للمنع عن التكليف بالصوم لأنه مع الاضطرار إلى السفر لا يقدر على إتمامه، فلا يكون مكلفاً به، فينتفي موضوعالكفارة، لأنه الصوم الواجب. أما السفر الاختياري فلا يمنع عن القدرة على الصوم التام، ولا عن التكليف به من غير جهة السفر.

ص: 393


1- مصباح المنهاج، الصوم، 189.

وبذلك يظهر الفرق بين الموانع الاختيارية والاضطرارية، فتجب الكفارة بالإفطار قبل الأولى، ولا تجب به قبل الثانية. فالحيض والنفاس ونحوهما لا توجب سقوط الكفارة لو اتفق وقوعها اختياراً من المكلف بعد صدور المفطر كالسفر الاختياري. ولو وقعت اضطراراً اقتضت سقوط الكفارة، كالسفر الاضطراري))(1).

أقول: ما بدأ به أولاً من هذا المبنى –أعني التفصيل بلحاظ كون السبب شرط وجوب أم شرط واجب- هو الصحيح، وقد تقدّم منا تقريبه في أكثر من موضع، لكن تحوّله إلى ما ذكره من التفصيل في السفر بين الاختياري فيكون شرط واجب، والاضطراري فيكون شرط وجوب للوصول إلى نتيجة التفصيل بين الأعذار الاختيارية والاضطرارية بقوله: ((نعم لو كان السفر ..)) غير تام، إذ يرد عليه:-

1- ما تقدم من أن الأوامر تتعلق بالطبائع لا بالأفراد، وعروض الاضطرار ونحوه من العناوين الثانية من أحوال الأفراد فلا تنافي التكليف ولا تمنع منه حينئذٍ، لكنه إذا اضطر إلى السفر يفطر ويقضي.

وبتعبير آخر: إن أدلة الاضطرار حاكمة على إطلاقات وعمومات الأحكام وليست مخصّصة أو مقيدة لها لأنها ليست ناظرة إليها بهذا اللحاظ، وإنما حاكمة عليها فتتصرف فيها. فكون السبب –كالسفر- شرط وجوب أو واجب راجع إلى كيفية اعتباره من قبل الشارع، ولا علاقة له بكونه اضطرارياً أو اختيارياً.

2- النقض عليه بصور أخرى للاضطرار كالتقية والحرج فهل يقول بسقوط الوجوب فيها؟

3- إن النتيجة التي انتهى إليها كلامه هي التفصيل بين الأعذار الاضطرارية

ص: 394


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/359-360.

والاختيارية، ومقتضاه –كما صرّح- كون الحيض والنفاس إذا حصلا بالتسبيب لا ينافيان الوجوب ولا يكون الخلو منهما شرط وجوب وهذا مخالف لإطلاقاتهم المسلّمة عندهم.

القول المختار:

فالصحيح هو التفصيل بين السفر بعنوانه، وبين الأسباب الأخرى كالحيض والنفاس والمرض والجنون بعناوينها، وليس كونها أسباباً اختيارية أو قهرية.

فلا تسقط الكفارة إذا كان السبب المبطل للصوم السفر؛ لأن الحضر ومابحكمه شرط واجب، وتخلفه لا يسقط وجوب الصوم فتناول المفطر يوجب الكفارة ولا تسقط بالسفر بعده، ومثله في الحكم التقية والحرج.

أما الأعذار الأخرى المسقطة للوجوب فتسقط الكفارة لسقوط الوجوب من أول النهار فلا يتحقق موضوع وجوب الكفارة، غاية الأمر اتصاف من تناول المفطر بالمتجرّي وتترتب عليه آثاره.

ص: 395

ص: 396

البحث الثالث: هل يجوز للمسافر ضم نية قضاء الصوم عما في الذمة إلى نية صوم ثلاثة أيام لقضاء الحاجة في المدينة المنورة؟

اشارة

ص: 397

ص: 398

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثالث: هل يجوز للمسافر ضم نية قضاء الصوم عما في الذمة

إلى نية صوم ثلاثة أيام لقضاء الحاجة في المدينة المنورة؟

(مسألة) هل يجوز للمسافر ضم نية قضاء الصوم عما في الذمة إلى نية صوم ثلاثة أيام لقضاء الحاجة في المدينة المنورة؟

لم أجد من تعرض لحكم هذا الفرع فضلاً عن البحث الاستدلالي فيه.

ومن نافلة القول الحديث عن دلالة الآيات الكريمة والروايات الشريفة المتواترة على عدم جواز الصوم في السفر، وقد ذكرناه مفصلاً في الأبحاث السابقة.

وقد استُثني من عمومات النهي عن الصوم في السفر صيام ثلاثة أيام في المدينة المنوّرة بالأدلّة المعتبرة، حيث وردت عدة روايات في استحباب هذا الصوم منها:-

1- صحيحة معاوية بن عمار في الكافي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): صُم الأربعاء والخميس والجمعة وصلّ ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء عند الاسطوانة التي تلي مقام النبي صلى الله عليه وآله وادع بهذا الدعاء لحاجتك وهو: اللهم إني أسألك بعزتك وقوتك وقدرتك وجميع ما أحاط به علمك أن تصلي على محمد وعلى أهل بيته وأن تفعل بي كذا وكذا)(1).

2- صحيحة معاوية بن عمار في التهذيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن كان لك مقام بالمدينة ثلاثة أيام صمت أول يوم الأربعاء وتصلي ليلة

ص: 399


1- الحديث وما بعده في وسائل الشيعة: ج14/350-352، كتاب الحج، أبواب المزار وما يناسبه، باب11، ح4، 1، 3، 2 بحسب الترتيب.

الأربعاء عند اسطوانة أبي لبابة وهي اسطوانة التوبة التي كان ربط نفسه إليها حتى نزل عذره من السماء، وتقعد عندها يوم الأربعاء ثم تأتي ليلة الخميس (الاسطوانةَ) التي تليها مما يلي مقام النبي صلى الله عليه وآله ليلتك ويومك، وتصوم يوم الخميس، ثم تأتي الاسطوانة التي تلي مقام النبي صلى الله عليه وآله ومصلاه ليلة الجمعة فتصلي عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الجمعة، فإن استطعت أن لا تتكلم بشيء في هذه الأيام فافعل إلا ما لا بد لك منه ولا تخرج من المسجد إلالحاجة، ولا تنام في ليل ولا نهار فافعل فإن ذلك مما يعدُّ فيه الفضل) إلى أن قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فإنك حريّ أن تقضى حاجتك إن شاء الله).

3- صحيحة الحلبي في الكافي عن أبي عبد الله قال: (إذا دخلت المسجد فإن استطعت أن تقيم ثلاثة أيام. الأربعاء والخميس والجمعة فتصلي بين القبر والمنبر يوم الأربعاء عند الاسطوانة التي عند القبر فتدعو الله عندها وتسأله كل حاجة تريدها في آخرة أو دنيا، واليوم الثاني عند اسطوانة التوبة، ويوم الجمعة عند مقام النبي صلى الله عليه وآله مقابل الاسطوانة الكثيرة الخلوق فتدعو الله عندهن لكل حاجة وتصوم تلك الثلاثة الأيام).

4- رواية مرازم قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: الصيام بالمدينة والقيام عند الأساطين ليس بمفروض، ولكن من شاء فليصم فإنه خير له إنما المفروض صلاة الخمس وصيام شهر رمضان فأكثروا الصلاة في هذا المسجد ما استطعتم فإنه خير لكم، واعلموا أن الرجل قد يكون كيساً في أمر الدنيا فيقال: ما أكيس فلاناً! فكيف من كاس في أمر آخرته).

5- مرسلة ابن قولويه في المزار قال: (روي عن بعضهم عليهم السلام قال: إذا كان لك مقام بالمدينة ثلاثة أيام فأتم الصلاة وكذلك أيضاً بمكة إن أقمت ثلاثاً فأتم الصلاة، فإذا كان لك مقام بالمدينة ثلاثة أيام صمت يوم الأربعاء

ص: 400

وصلّ ليلة الأربعاء عند أسطوانة التوبة وهي أسطوانة أبي لبابة التي ربط إليها نفسه، ثم ذكر مثل الحديث الأول).

فإذن قد خرجنا من عمومات النهي عن الصوم في السفر بهذه الروايات المرخّصة فهذه هي المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: لا شك أن المورد قابل في نفسه لتداخل النيّات كاعتبار صوم ثلاثة أيام الاعتكاف قضاءً عما في الذمة، أو جعل قضاء أيام شهر رمضان في شهري رجب وشعبان لتحصيل فضيلتهما ففي مكاتبة الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) للحميري: (إن نعم شهر القضاء رجب)(1)

وفي صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كُنَّ نساء النبي (صلى الله عليه وآله) إذا كان عليهنّ صيام أخّرن ذلك إلى شعبان كراهة أن يمنعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (حاجته) فإذا كان شعبان صمن وصام (معهن))(2)

فإمضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تأخيرهن للقضاء مع أنه طاعة ينبغي المبادرة إليها كتحصيل هذا الملاك.

والنتيجة جواز نية القضاء إلى نية هذا الصوم.إن قلتَ: إن الفقهاء عنونوا هذا الصوم استثناءً من النهي عن الصوم المندوب في السفر لا من عموم النهي عن الصوم في السفر فتسرية الحكم إلى صوم القضاء مشكل بل ممنوع.

قلتُ:-

أ- إن الروايات نظرت إلى جواز هذا الصوم مستقلاً أما العنونة المذكورة فهي في كلام الفقهاء.

ص: 401


1- وسائل الشيعة: 10/480، أبواب الصوم المندوب، باب 26، ح14.
2- وسائل الشيعة: 10/486، كتاب الصوم، أبواب الصوم المندوب، باب 28، ح2.

ب- إن هذه النية المصححة متحققة في فرض المسألة وإن لم نهملها فالرخصة في الصوم ثابتة وإنما الكلام في ضم نية القضاء إليها.

وقد يُشكل على الإجزاء من جهة أن الرخصة في صوم الثلاثة أيام في المدينة قد وردت بقيد قضاء الحاجة فأي عنوان آخر للصوم يبقى تحت عمومات النهي عن الصوم في السفر، ويكفي الشك في صحته لإبقائه تحت هذه العمومات، مضافاً إلى أن الأصل الجاري في المقام وهو الاحتياط يقتضي ذلك.

ويجاب الإشكال بوجوه:-

1- إن تقييد هذا الصوم بقضاء الحاجة ورد في كلام الفقهاء وليس في كلام الإمام (عليه السلام)، نعم ورد في بعض الروايات (وسل حاجتك فإنك حري أن تقضى) ونحو ذلك وهذا لا يقيد رخصة الصوم بها وإنما هو بيان لبعض فضائل هذا الصوم وثمراته كما في كثير من الأعمال التي تذكر فيها بعض الفوائد من دون التقييد بها، والشاهد على عدم التقييد أنه لو صام الثلاثة أيام قربة إلى الله تعالى من دون نية طلب الحاجة فلا نقول بعدم صحة صومه لعدم اشتراط قصد جهة الفعل في النية.

ويظهر من بعض الروايات المتقدمة أن الفعل أقرب إلى الاعتكاف، وصومه لا ينافي ضم نيّة القضاء إليه.

2- لو تنزلنا وقلنا بوجود هذا العنوان في الروايات فإنه على نحو الحيثية التعليلية لا التقييدية أي أن العنوان علة لزوال المنع من الصوم في السفر وتحوله إلى الاستحباب وليس قيداً في الرخصة، ولذا فهو قابل لضم أي نيّة أخرى بعد ارتفاع الحظر.

ص: 402

3- إن هذا الإشكال يأتي لو صام بغير نية قضاء الحاجة فيمكن أن يقال أنه لم يأت بالنية المصححة، أما فرض المسألة فإنه يأتي بهذه النية ويضم إليها غيرها، فالنية المصححة متحققة لكن على نحو اللا بشرط وليس البشرط لا.

4- إن الرواية صريحة بأن المصحِّح للصوم هو مقام ثلاثة أيام في المدينة لا أزيد فلسانها كلسان صوم من نوى الإقامة عشرة أيام في غيرها من البلدان فكأن الإقامة ثلاثة أيام في المدينة تعدل إقامة عشرة أيام في غيرها من جهة تصحيح الصوم، لذا ورد في مرسلة ابن قولويه الحكم بإتمام الصلاة أيضاً أي أنها رتبت سائر آثار الإقامة عشرة أيام في بلد على إقامة ثلاثة أيام في المدينة.لا يقال: لعل إتمام الصلاة من جهة كون المدينة من أماكن التخيير وليس من جهة ترتيب آثار الإقامة.

فإنه يقال: هذا الاحتمال غير وارد لأن الرواية ظاهرة في كون إتمام الصلاة لأجل المقام ثلاثة أيام ومتفرع عليه لوجود الفاء.

5- إن المبطل للصوم ليس السفر بعنوان مطلق وإنما بعنوان كونه عصياناً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لذا يصح الصوم من المسافر الجاهل بالحكم إجماعاً، وقد ورد في ذلك صحيح الحلبي (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل صام في السفر، فقال: إن كان بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن ذلك فعليه القضاء، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه)(1)؛ وصحيح عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من صام في السفر بجهالة لم يقضه)(2).

ص: 403


1- و (2) وسائل الشيعة: 10/179، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 2، ح3، 5.
2- و (2) وسائل الشيعة: 10/179، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 2، ح3، 5.

وتقريب الاستدلال أن الصوم في المدينة لا يقترن بالمبطل لأنه لم يصم عصياناً وإنما بنية مصححة معتبرة فتصح منه كل نية.

فتحصّل مما تقدم أن المقتضي للجواز موجود وهو ما دلّ على جواز هذا الفرد من الصوم بل استحبابه، والمانع مفقود وهو المبطل للصوم في السفر وأن المورد قابل للتداخل.

وجه آخر للجواز: حاصل من ضمّ مقدمتين:

إحداهما: ما دلّ على جواز صلاة المسافر في المدينة تماماً وإن كان مكثه بمقدار صلاة واحدة ففي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج البجلي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمام بمكة والمدينة؟ فقال: أتمَّ وإن لم تصلِّ فيهما إلا صلاة واحدة)(1) بل في مصححة عمر بن رياح عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (أمرُّ على المدينة فأتم أو أقصِّر؟ قال: أتمّ)(2).

ثانيهما: ما دلّ على الملازمة بين القصر والإفطار وبين الإتمام والصوم كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (هذا واحد، إذاقصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت) ورواية سماعة قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) - في حديث- وليس يفترق التقصير والإفطار فمن قصّر فليفطر)(3).

ولعل هذه الملازمة هي الوجه في ضمّ إتمام الصلاة إلى الصوم في مرسلة ابن قولويه غير الوجهين السابقين.

ص: 404


1- وسائل الشيعة: 8/525، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 25، ح5.
2- وسائل الشيعة: 8/525، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 25، ح9.
3- وسائل الشيعة: 10/180، كتاب الصيام، أبواب من يصحّ منه الصوم، باب 4، ح1، ح2.

وقد اكتفى الفقهاء بهذه الملازمة في مسائل الصوم التي لم يرد فيها نص حتى أنهم حينما ذكروا اشتراط حد الترخّص للإفطار استدلوا مباشرة بروايات التقصير في الصلاة، فالاستدلال يتضمن مقدمة مطوية هي هذه الملازمة بين الإفطار والتقصير.

وبضمّ المقدمتين تكون النتيجة جواز الصوم في المدينة لجواز الصلاة تماماً فيها.

أقول: يرد عليه:-

أ- خلو روايات التخيير وهي مستفيضة عن ذكر الصوم فلو كان الصوم ملحقاً بالصلاة في التخيير لذكرته الروايات ولو في واحدة منها، بل في موثقة عثمان بن عيسى قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين؟ فقال: أتمها ولو صلاة واحدة)(1)

فبالرغم من أن السؤال كان عن الصلاة والصوم إلا أن الإمام (عليه السلام) أجاب عن الصلاة خاصة وأهمل الصوم على ما في أكثر النسخ من تأنيث الضمير بل في كتاب قرب الإسناد (أتم الصلاة ولو صلاة واحدة)، وفي بعضها تصريح بأن المطلوب في الحرمين: مكة والمدينة كثرة الصلاة كما في صحيحة علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) وفيها (قد علمت يرحمك الله فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما، فأنا أحبّ لك إذا دخلتهما أن لا تقصر وتكثر فيهما من الصلاة)(2).

ب- الملازمة ليست مطردة بحيث يستدل بإطلاقها وقد بيّنت وجه عدم الإطلاق، وحاصله أن العبارة أريد بها تلخيص لشروط الإفطار في السفر

ص: 405


1- وسائل الشيعة: 8/529، باب 25، ح17.
2- وسائل الشيعة: 8/525، أبواب صلاة المسافر، باب 25، ح4.

وعدم تكرارها اكتفاءً بما ذكر من شروط قصر الصلاة كالقصد إلى السفر وقطع المسافةالشرعية وعدم كون المورد من مستثنيات التقصير ونحو ذلك، فالتوسع بتطبيق الملازمة لا دليل عليه.

وقد أوردت في الأبحاث المتقدمة (صفحة 30)(1)

نقوضاً على عموم الملازمة.

ج-- إن هذا الوجه لو تم فإنه يدل على جواز الصوم في المدينة مطلقاً ويكفي في جوازه المرور بها كما تقدم، وحينئذٍ لا يبقى وجه لصدور روايات صوم الثلاثة أيام في المدينة.

د- إن الملازمة الواردة في الروايات هي بين التقصير والإفطار وليس بين الصوم والتمام والمقام من الثاني لا الأول.

إن قلتَ: على المختار من جواز ضم نية أي صوم آخر في الثلاثة أيام يلزم أحد محذورين، إما صحة نية صوم شهر رمضان في المدينة إذا حصل السفر فيه بضمها إلى هذه النية وهو بعيد، إن لم يصح صوم رمضان وقلنا بصحة صوم القضاء فيه لزم محذور آخر للإجماع على عدم صحة صوم غير شهر رمضان فيه.

قلتُ في جواب الشق الأول:-

1- لا يلزم ذلك ولم نقل به لأن صوم شهر رمضان غير قابل لتداخل النيات.

2- إن البعد ناشئ من عدم الالتفات إلى المسألة والتأمل فيها وإلا فلا بُعد للحكم إذا تم الدليل عليه خصوصاً على تقريب كون الثلاثة أيام في المدينة إقامة تترتب عليها أحكامها كما أن المسافر في شهر رمضان إذا أقام

ص: 406


1- في الطبعة الأولى تجدها في الفقه الباهر في صوم المسافر: 30.

عشرة أيام صحّ منه صومه، بل إن الجاهل بالحكم إذا صام رمضان في السفر صحّ صومه، فمناط الصحة في الجميع واحد وهو وجود المصحح للصوم في السفر وعدم وجود مانع منه.

ونقولُ في جواب الشق الثاني على فرض التنزل إليه فلا مانع منه لأن المنع عن صوم غير شهر رمضان فيه منصرف عن المورد ومختص بالحاضر دون المسافر كما هو ظاهر عبارات الأصحاب كقول الشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط: ((فأما إذا كان مسافراً سفراً يوجب التقصير فإن صام بنية رمضان لم يجزه، وإن صام بنية التطوع كان جايزاً، وإن كان عليه صوم نذر معين ووافق ذلك شهر رمضان فصام عن النذر وهو حاضر وقع عن رمضان ولا يلزمه القضاء لمكان النذر، وإن كان مسافراً وقع عن النذر وكان عليه القضاء لرمضان، وكذلك الحكم إن صام وهو حاضر بنية صوم واجب عليه غير رمضان وقع عن رمضان ولم يجزه عمانواه، وإن كان مسافراً وقع عما نواه، وعلى الرواية التي رويت أنه لا يصام في السفر فإنه لا يصح هذا الصوم بحال))(1).

ففي جميع الموارد المذكورة لا يقع صوم غير رمضان فيه إلا عنه وهو حكم خاص بالحاضر دون المسافر.

وعلى أي حال فإن الوجه الأول كافٍ لذا فإن القول بجواز ضم نيّة القضاء غير بعيد.

نعم إذا حصل شك وتردد في الحكم بالجواز لعدم تمامية الدليل أو من جهة الإشكال عليه فيكون الحكم في المسألة عدم الجواز لتقريبين:

ص: 407


1- المبسوط: 1/277. ط المكتبة الرضوية.

1- إن الشك في خروج المورد من عمومات النهي عن الصوم في السفر يقتضي بقاءه تحتها؛ لأن الشك في دخول الفرد تحت الخاص يقتضي بقاءه تحت العام.

2- إن المورد مجرى لقاعدة الاحتياط؛ لأن اشتغال الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً، فاشتغال ذمة المسافر بالقضاء يستدعي امتثالاً يتيقن معه من فراغ الذمة.

الإشكال على عدم الجواز:

مضافاً إلى إمكان تقريب أكثر من وجه للقول بعدم الجواز، منها:-

1- دعوى ظهور بعض الروايات في صوم القضاء في المدينة كصحيحة البزنطي قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصيام بمكة والمدينة ونحن في سفر؟ قال: أفريضة؟ فقلت: لا، ولكنه تطوّع كما يتطوع بالصلاة، فقال: تقول: اليوم وغداً؟ قلت: نعم، فقال: لا تصم)(1).

ويرد عليها أنها ليس فيها جديد غير عموم المنع من الصوم المندوب في السفر، ونحن قد خرجنا منه بالرخصة الواردة، كما أننا لا نعلم وجه سؤال للإمام (عليه السلام) (أفريضة) وماذا سيجيب لو قال السائل: نعم.

ويمكن الاستدلال ببعض الروايات الأخرى على النهي كرواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل مرض في شهر رمضان فلما برأ أراد الحج كيف يصنع بقضاء الصوم؟ قال: إذا رجع فليصمه)(2)،بتقريب أن عقبة بنخالد كوفي ولمثله يراد بالحج مجموع السفرة من الكوفة

ص: 408


1- وسائل الشيعة: 10/202، أبواب من يصح منه الصوم، باب 12، ح2.
2- وسائل الشيعة: 10/194، أبواب من يصح منه الصوم، باب 8، ح2.

إلى مكة مروراً بالمدينة والمكث فيها والرواية تتضمن النهي المطلق عن القضاء وتأجيله إلى حين العودة والنهي يشمل المدينة.

أقول: حمل الرواية على هذا المعنى بعيد لإمكان أن ينوي الإقامة عشرة أيام في المدينة أو مكة ويصوم قضاءً، مضافاً إلى أنه ليس في الرواية دلالة على المطلوب لأن الظاهر أن السؤال عن مزاحمة قضاء شهر رمضان للحج وأنه لو انتظر إلى أن يتم قضاء ما فاته فإن الوقت لا يسعه لإدراك الحج فيسأل عن حكم القضاء، ويظهر من السؤال أن عدم صحة الصوم في السفر مسلّم لذا حصلت المزاحمة.

إن قلتَ: نقرّب الاستدلال بنحو آخر وهو أن ضم نية صوم القضاء إلى استحباب الأيام الثلاثة لو جاز في المدينة لعلّمه الإمام (عليه السلام) للسائل لمساعدته على إفراغ ذمته.

قلتُ: إنه احتمال لا يصل إلى حد الظهور فليس من واجب الإمام أن يعلّمه هذه التفاصيل أو أنه (عليه السلام) فضّل له الأخذ بالرخصة، أو أن الثلاثة أيام لا تغني السائل عن قضاء جميع ما فاته كما لو كان الشهر كله ونحو ذلك، ولو أراد لعلّمه مقام عشرة أيام حيث لا إشكال في صحة القضاء.

2- إن روايات النهي عن الصوم في السفر آبية عن التخصيص إلا بدليل قطعي وليس المورد من هذا القبيل كرواية عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سافر فليفطر لأنه لا يحل له الصوم في السفر فريضة كان أو غيره، والصوم في السفر معصية)(1).

ص: 409


1- وسائل الشيعة: 10/199، أبواب من يصح منه الصوم، باب 10، ح8.

أقول: يرد عليه أنها دعوى بعيدة لكثرة التخصيص الوارد فيها كصوم ثلاثة أيام في الحج بدل الهدي «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ» (البقرة: 196) وصوم الجاهل وصوم النذر والصوم المستحب كما في صحيحة رفاعة بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (قلت يصوم وهو مسافر؟ قال: نعم، أليس هو يوم عرفة مسافراً)(1).

وفي رواية عقبة بن خالد قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تمتع وليس معه ما يشتري به هدياً فلما أن صام ثلاثة أيام في الحج أيسر،أيشتري هدياً فينحره أو يدع ذلك ويصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله؟ قال: يشتري هدياً فينحره ويكون صيامه الذي صامه نافلة له)(2).

وكثرة التخصيص هذه تدعو إلى الشك في صحة إطلاق الحكم ببطلان الصوم في السفر وإنما بقيود معينة فيكون خروج موارد صحة الصوم في السفر من التخصص لعدم تحقق قيود الموضوع لا التخصيص الذي هو فرع وجود عموم.

وربما استظهر البعض أن النهي عن الصوم في السفر خاص بشهر رمضان، وإذا وجدت رواية مطلقة فإن الصوم محمول عليه واللام عهدية، أما غير شهر رمضان فالحكم فيه التخيير ولا يكون منهياً عنه إلا إذا انطبق عليه عنوان عصيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد فصلنا الكلام في مباحث صوم المسافر المتقدمة.

فالأقوى في المسألة جواز ضم نية القضاء إلى صوم ثلاثة أيام طلب الحاجة في المدينة المنورة لوجود المقتضي وعدم وجود المانع.

ص: 410


1- الكافي: 4/506.
2- الكافي: 4/510.

والمورد ليس عديم النظير فقد صحح المشهور صوم النذر في السفر مع أن النذر لا يتعلق بالحرام ولا يصححه والمقام أولى منه بالجواز لورود الرخصة به، والأحوط عدم الضمّ.

فائدة تتعلق بقاعدة التسامح بأدلة السنن:

لو لم يكن الدليل على استحباب صوم ثلاثة أيام في المدينة معتبراً فإن ما اصطلحوا عليه بقاعدة التسامح بأدلة السنن لا تجري في المقام.

وفي هذا نقض على من قال بأن مفاد أحاديث من بلغ استحباب الفعل الوارد في خبر ضعيف سواء قلنا بأن هذه الأحاديث تتمم حجية الخبر الضعيف أو أنها هي الحجة بعد أن ينقح الخبر الضعيف موضوعها؛ لأن نتيجة مبناهم ثبوت الاستحباب بدليل معتبر فيكون مستثنى من النهي، ولا أظنهم يقولون بذلك بل يتمسكّون بعمومات النهي عن الصوم في السفر فيما لو ورد خبر ضعيف عن استحباب صوم في السفر، ولذا فإن من قال بجواز الصوم المندوب في السفر مطلقاً أو مع الكراهة لم يستدل بأحاديث من بلغ وإنما بالروايات الخاصة الواردة في المقام(1).وعلة عدم جريانها لوجود(2)

النهي، فعلينا أن نضيف شرطاً لجريان القاعدة لم يذكره الأصحاب (قدس الله أرواحهم) في حدود مراجعتي لكتبهم وهو عدم وجود نهي سابق في المورد.

ص: 411


1- راجع (صفحة 60-70).
2- أشرت إجمالاً إلى عدم جريانها، راجع (صفحة 68).

البحث الرابع: كيفية الصوم في المناطق التي لا يتميّز فيها الليل والنهار

اشارة

كالمناطق القطبية حيث يستمر كلٌ من النهار والليل أياماً وربما أشهراً فلا يتميّز حدّا الصوم وهما الفجر والمغرب، وقد فصّلنا الكلام في حكم الصوم مع الصلاة في مثل هذه المناطق في الجزء الثاني المخصَّص لمسائل كتاب الصلاة (صفحة 341).

ص: 412

مسائل متفرقة من كتاب الصوم

ص: 413

ص: 414

بسم الله الرحمن الرحيم

المسألة الأولى: كفاية تسليم الطعام في الكفارة

اشارة

من خصال الكفارة إطعام عدد من المساكين ك-(عشرة) في حنث اليمين والإفطار متعمداً في قضاء شهر رمضان أو (ستين) كالإفطار متعمداً في نهار شهر رمضان أو قتل الخطأ وغيرها.

وقد أجمع الفقهاء -كما سنذكر إن شاء الله تعالى- على تحقق الامتثال بتسليم المسكين الطعام وإن اختلفوا لاحقاً بكفاية المد واستحباب المدين أو لزوم تسليم المدين، ولم يشترطوا الإطعام الفعلي حتى الإشباع بل لم يذكروه وإنما ذكروا تسليم الأمداد وإن كان الظاهر من كلماتهم التخيير.

وقد قال المعاصرون نصاً واحداً تقريباً ومنهم شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) قال: ((مصرف كفارة الإطعام الفقراء إما بإشباعهم وإما بالتسليم إليهم كل واحد مد والأحوط استحباباً مدان ويجزي مطلق الطعام من التمر والحنطة والشعير والأرز والماش وغيرها مما يعتبر طعاماً))(1)

ومحل الشاهد أنه أشار إلى الاجتزاء بكلا الشكلين : (الطعام) المشار اليه بكلمة (إشباعهم) وهو لا يكون إلا بالإطعام الفعلي وتسليم (الطعام) المشار إليه بالمصاديق المذكورة.

وقد صرّح السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بكفاية كلا الشكلين بوضوح قال قدس سره: ((والإطعام له صورتان:

إحداهما: أن يولم للعدد المطلوب مجتمعين أو متفرقين في بيته أو في مطعممن المطاعم أو في أي مكان آخر فيقدم لهم طعاماً بقدر يشبعهم.

ص: 415


1- منهاج الصالحين، للشيخ الفياض: 1/408، مسألة (1037).

وثانيتهما: أن يقدم لكل واحد منهم ثلاثة أرباع الكيلو من الخبز أو الحنطة أو الطحين))(1).

أما سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فبعد أن ذكر هذا النص تبعاً لسابقيه قال: ((الأحوط وجوباً أن يكون بدل المد وجبة طعام مشبعة))(2)

والتزم بهذا الاحتياط عملياً فقد كان لا يقبض الكفارة على أساس الطعام من طحين ونحوه وإنما بلحاظ الوجبات المشبعة بالمقدار المتوسط أو المتعارف.

وقد فهمت منه (قدس سره) مشافهة أن الوجه في ذلك أن النص القرآني عبّر عن الكفارة بقوله (إطعام) في مثل قوله تعالى: «فَكَفَّارَتُهُ إطعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ من أوسَطِ ما تُطعِمُونَ أهلِيكُم» (المائدة : من الآية89) بينما عبرعن الفدية بكلمة (طعام) في مثل قوله تعالى: «وَعَلى الذينَ يُطيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِين» (البقرة : من الآية184) لذا لا إشكال في إجزاء تسليم الطعام في الفدية أما في الكفارة فإن كلمة (إطعام) ظاهرة في الإطعام المباشر.

أقول: وربما كان هذا المعنى هو ظاهر عدد من الآيات القرآنية كقوله تعالى: «الذي أَطعَمَهُم من جُوعٍ» (قريش: 4) أي أشبعهم.

لكن الصحيح أن هذا الاحتياط غير لازم لعدة وجوه يمكن تصنيفها إلى مستويين:

المستوى الأول: نفي المانع عن القول بالتخيير بين الإطعام وتسليم مقدار من الطعام خلافاً لما التزم به سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) من الإلزام بالإشباع استظهاراً من الآية الشريفة، ويتضمن عدة وجوه:

الأول: إنه ورد في القرآن الكريم استعمال لفظ الطعام بدل الإطعام في

ص: 416


1- الفتاوى الواضحة، للسيد الشهيد الصدر الأول: 585.
2- منهج الصالحين، للسيد الشهيد الصدر الثاني: العبادات، كتاب الصوم، مسألة (49).

قوله تعالى: «وَلا يَحُضُّ على طَعامِ المِسكينِ» (الماعون:3) أي إطعامه فلا مانع إذن من أن يكون لفظ الإطعام بمعنى الطعام في محل البحث.

الثاني: إن قوله تعالى: «من أوسط ..» يمكن أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره (طعاماً) فتكون الآية «فكفارته إطعام عشرة مساكينَ طعاماً من أوسطِ».

الثالث: إن اختلاف التعبير القرآني بين الكفارة والفدية بأن الأول بلفظ «إطعام» والثاني بلفظ «طعام» ليس لاختلاف ما يمتثل به كل منهما، بل لاختلاف كيفية صدورهما من الفاعل ولو استقصينا موارد «الإطعام» في الكفارات لوجدناها متعلقة بالأفعال الصادرة عمداً كالظهار (سورة المجادلة:4) وحنث اليمين (سورة المائدة : 89) أما كفارة الأفعال غير العمدية كقتل الخطأ فلم يرد فيها ذلك، قال تعالى: «فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهلِهِ وتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمنَةٍ، فَمَن لَمْ يَجِد فَصِيامُ شَهرَينِ مُتَتابِعينِ تَوبَةً من اللهِ، وكَانَ اللهُ عَليماً حَكيماً» (النساء:92) لذا عبر بالإطعام للإيحاء بنسبة الفعل إلىفاعله وضرورة تصديه للتكفير (الذي هو بمعنى الستر والتغطية) عن ذنبه، أما الفدية فتثبت في موارد الرخصة فلا توجد مسؤولية وتبعة على الفاعل وإنما هو حكم تعبدي.

الرابع: لم أجد قائلاً بهذا الإلزام ومن نقل الخلاف ففي كفاية المد أو وجوب المدين الظاهر منه الإجماع على الاجتزاء بتسليم الطعام، قال صاحب الحدائق: ((المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن الذي يُعطى لكل فقير مد، ونقل عن الشيخ في المبسوط والخلاف الإطعام لكل مسكين مدّان)) ثم ذكر استدلال الشيخ ورد العلامة في المختلف عليهما (1).

نعم، يوجد توهّمٌ ودفعٌ ذكره السيد الحكيم (قدس سره) ولا أدري إن كان من ابتكاره أو أنه وجده في كلمات أحد المتقدمين مما يوحي بوجود قائل باشتراط الأكل والإشباع ذكر (قدس سره): ((وتوهم: أنه لا بد من أكل الفقير

ص: 417


1- الحدائق الناضرة: 13/223.

لها، ليتحقق الإطعام المعتبر في الكفارة كتاباً وسنة.

مندفع: بأن الإطعام مفسّر في النصوص ببذل الطعام لهم ليأكلوه أو تمليكهم إياه فلا يعتبر في الأول التمليك ولا يعتبر في الثاني الأكل، ولو اعتبر الأكل في الجميع لزم عدم الاجتزاء بمجرد التصدق حتى يتحقق الأكل في الخارج، وهو خلاف المقطوع به من النصوص))(1).

الخامس: إن التعبير بلفظ الطعام يختص بما يصدق عليه العنوان كالحنطة أو الرز ولا يشمل اللحم مثلاً كما ورد عن المعصومين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: «وَطعَامكم حِلٌ لهم» (المائدة :5) أما التعبير بالإطعام فيشمله كما ورد في النصوص الواردة في المسألة فيحقق الإرادة الإلهية في إطعام الفقراء هذه الألوان التي لا يذوقونها إلا في مثل هذه المناسبات.

فالتعبير بالإطعام جاء لتعميم ما يقع به الامتثال وليس لتخصيصه.

وهذه الوجوه قابلة للمناقشة وإنما ذكرناه لتنمية الملكة وكتقريبات لإمكان القبول بالتخيير الذي سيأتي الدليل عليه إن شاء الله تعالى ونحن لسنا بحاجة إليها لأن الإمكان ذاتي.

المستوى الثاني: الدليل على عدم الإلزام بالإطعام وكفاية تسليم الطعام والتخيير بينهما، وقد دلّت عليه روايات معتبرة كثيرة والسنة الشريفة شارحة للكتاب الكريم ومفسرة له كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (في كفارة اليمين؛ يطعم عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة أو مد من دقيق وحفنة)(2) الحديث، وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في كفارة قتل الخطأ (فإن لميستطع أطعم ستين مسكيناً مدّاً مداً)(3) الحديث، وصحيحة أبي خالد القمّاط أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول: (من كان

ص: 418


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/378.
2- وسائل الشيعة: كتاب الإيلاء والكفارات، أبواب الكفارات، باب 12، ح1.
3- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب 10، ح1.

له ما يطعم فليس له أن يصوم، يطعم عشرة مساكين مداً مداً)(1) الحديث، وصحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله عليه السلام في كفارة اليمين فقال ابو عبد الله (عليه السلام) (كفارته إطعام عشرة مساكين مداً مداً دقيق أو حنطة)(2)

الحديث، والباب (14) من أبواب الكفارات في وسائل الشيعة وعنوانه (باب أنه يجزي في الإطعام مد لكل مسكين).

ووردت روايات أُخر بألسنة عديدة يمكن تقريبها على تسليم الطعام لا الإطعام، ومنها:

أ- التعبير بالإعطاء وهو ظاهر في الطعام كصحيح يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن (عليه السلام) :(سألته عن رجل عليه كفارة إطعام عشرة مساكين أيعطي الصغار والكبار سواء ...إلخ) (3)

ومصحح إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن إطعام عشرة مساكين أو إطعام ستين مسكيناً أيجمع ذلك لإنسان واحد يعطاه؟ قال :لا، ولكن يعطي إنساناً إنساناً كما قال الله تعالى. قلت: فيعطيه الرجل قرابته إن كانوا محتاجين؟ قال: نعم) (4) الحديث.

ب- ذكر بعض المصاديق من الطعام كالتمر في موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن قال (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا أتصدق عنك فأعطاه تمراً لإطعام ستين مسكيناً قال: اذهب فتصدق بها) (5) وكالحنطة في صحيحة هشام ابن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام في كفارة اليمين (مدّ مدّ من حنطة

ص: 419


1- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب 12، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الإيلاء والكفارات، أبواب الكفارات ، باب 12، ح4.
3- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب17،ح3.
4- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب16،ح2.
5- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب2، ح1.

...إلخ)(1).

ج-- ورود ألفاظ الكفارة بنفس ألفاظ الفدية كالتعبير بالتصدق في صحيحة عبدالله بن سنان(2) عن أبي عبد الله عليه السلام: (في رجل وقع على أهله في شهر رمضان فلم يجد ما يتصدق به على ستين مسكيناً ..الخ) وهي تدل على وضوح المعنى في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وموثقة سماعة أعلاه.

أما الشكل الثاني وهو الإطعام الفعلي المباشر فلا إشكال في الاجتزاء به:

1- لأنه ظاهر الآية فإن المنصرف من لفظ الإطعام هو الإشباع.

2- الإجماع على الاجتزاء به، وإنما لم يذكره الفقهاء صريحاً لوضوحه بشهادة الآية الشريفة .

3- وروده في الروايات كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل افطر من شهر رمضان متعمداً يوماً واحداً من غير عذر؛ قال: يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً..الحديث) (3)

ومحل الشاهد قوله (عليه السلام): (يطعم) وصحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن «أوسَطِ مَا تُطعِمُونَ أهلِيكُم»(4)

قال: ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك .قلت: وما أوسط ذلك؟ فقال: الخل والزيت والتمر والخبز يشبعهم به مرة واحدة) (5)الحديث.

ص: 420


1- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب 14، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب8 ،ح3. وتوجد روايات مثلها في نفس الباب وغيره.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم،أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 8، ح1.
4- سورة المائدة: 89.
5- وسائل الشيعة: كتاب الإيلاء والكفارات، ابواب الكفارات ، باب14، ح5.

إلفات: توجد رواية مرسلة للعياشي في تفسيره عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله قال: سألته عن قوله تعالى: «مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ» في كفارة اليمين قال: ما يأكل أهل البيت يشبعهم يوماً وكان يعجبه مد لكل مسكين) (1).

ونقل السيد الحكيم (قدس سره)(2)

أن المفيد رحمه الله اعتبر في كفارة اليمين أن يشبعهم طول يومهم لكن الرواية ضعيفة بالإرسال ويمكن حملها على الاستحباب أو على إرادة المرة واحدة كل يوم جمعاً بينها وبين صحيحة أبي بصير التي سبقتها والتي صرحت بكفاية الإشباع مرة واحدة .ولا يبعد دعوى السيد الحكيم فيالمستمسك التواتر قال: ((للنصوص الكثيرة الدالة على الاكتفاء به بل لعلها متواترة الوارد بعضها في كفارة اليمين وبعضها في كفارة شهر رمضان بضميمة عدم القول بالفصل بين أنواع الكفارات))(3).

أقول: كان عليه قدس سره أن يضيف (من هذه الناحية) لاختلاف الكفارات في بعض التفاصيل فاشترط بعضهم الأوسطية في الطعام في كفارة اليمين خاصة وبعضهم احتاط بوجوب دفع مدين لكل مسكين في كفارة الظهار(4)

متمسكاً بمصححة أبي بصير في كفارة الظهار (تصدق على ستين مسكيناً ثلاثين صاعاً، لكل مسكين مُدّين مدّين)(5)

وقد اعترف (قدس سره) ببعض الخصوصيات في بعض الكفارات حيث قال: ((وعليه فالجمع العرفي يقتضي التقييد بذلك –أي اشترط نوع مخصوص من الطعام –في خصوص كفارة

ص: 421


1- وسائل الشيعة،كتاب الإيلاء والكفارات، أبواب الكفارات، باب12، ح9.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/374.
3- مستمسك العروة الوثقى: 8/374.
4- الفتاوى الواضحة: 586.
5- وسائل الشيعة: كتاب الإيلاء والكفارات، أبواب الكفارات باب 14، ح6.

اليمين والتعدي إلى غيرها يتوقف على عدم الفصل وهو غير ثابت))(1).

فالنتيجة:

أن الصحيح هو القول بالتخيير فإن شاء سلم كل مسكين مداً وإن شاء أطعمهم وجبة طعام مشبعة، وهو مستفاد من الروايات فعن أبي جميلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم والوسط الخل والزيت وأرفعه الخبز واللحم والصدقة مد من حنطة لكل مسكين) (2)

الحديث، ولا قائل بالفصل بين كفارة اليمين وغيرها من الكفارات من هذه الناحية.

وقد عبّرت صحيحة الحلبي بجملة (وإن شئت) للدلالة على التخيير فعنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في قول الله عز وجل «من أوسط ما تطعمون أهليكم» قال: هو كما يكون أن يكون في البيت من يأكل المد ومنهم من يأكل أكثر من المد ومنهم من يأكل أقل من المد فبين ذلك، وإن شئت جعلت لهم أدماً والأدم أدناه ملح وأوسطهالخل والزيت وأرفعه اللحم)(3).

ومنها يفهم أن الوسط له عدة مصاديق تبعاً للأسلوب المختار:

فإن اختار التصدق فالوسط يعني بالمقدار وقد عيّنه بالمد باعتبار أن البعض يأكل أكثر من مد والبعض أقل منه وهو الوسط والوسط في جنس الطعام مما يصدق الطعام عليه. إلا ما قيل من اشتراط الحنطة ودقيقها في كفارة اليمين وهي وسط في الجنس.

وإن اختار الطعام فالوسط يعني بالنوع أي نوع الطعام المقدم للفقراء فاعلاه اللحم واقله الملح والوسط بينهما هو الخل والزيت. وكلا الفهمين

ص: 422


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/376.
2- وسائل الشيعة: كتاب الإيلاء والكفارات، أبواب الكفارات، باب 14، ح2.
3- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب 14، ح3.

للوسط الوارد في الآية الشريفة مجزٍ بحسب صحيحة الحلبي وهذا شاهد آخر على صحة القول بالتخيير لأن إجزاءهما يعني صحة الامتثال بأي منهما .

ص: 423

عودة إلى قول سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره)

ولفهم وجه التزام سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر بأحد فردي التخيير دون الآخر يمكن ذكر وجه آخر غير ما ذكره من ظهور الآية الشريفة، أن الأصل الجاري عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو الاحتياط بالأخذ بالتعيين والمفروض أن الحكم يدور بين تعين الإطعام أو التخيير بينه وبين تسليم الطعام ولذا احتاط (قدس سره) وجوباً.

وجوابه بعدة وجوه:

1- إن الأصل لا معنى للعمل به مع وجود الدليل من الروايات وهي وفيرة ومعتبرة.

2- لو تنزلنا فإنه لا يوجد شك هنا في وقوع الامتثال بتسليم الطعام حتى يدور الأمر بين التعيين والتخيير حيث لم يشك أحد من الفقهاء وأجمعوا على الاجتزاء به.

وحتى حينما ورد ذكر طرفي التخيير في رواية واحدة كصحيحة الحلبي الأخيرة فإن الإمام (عليه السلام) قد ذكر تسليم الطعام وألحق به الإطعام بعد قوله (عليه السلام): (إن شئت) إذا اعتبرنا التقديم مرجحاً فلم يترجح الإطعام حتى بهذا المقدار فلم يتحصل لنا وجه حتى للاحتياط الاستحبابي.

ص: 424

بسم الله الرحمن الرحيم

المسألة الثانية:مفطّريّة رمس الرأس في الماء

اشارة

القول بالمفطرية هو ((المشهور شهرة عظيمة، بل ادعي الإجماع))(1) وقد أحصى صاحب الحدائق عدة أقوال في المسألة فقال (قدس سره): ((وللأصحاب رضوان الله عليهم في هذه المسألة اختلاف زائد فذهب جملة منهم -الشيخان والسيد المرتضى في الانتصار والشيخ في النهاية والجمل والاقتصاد وابن البراج إلى أنه موجب للقضاء والكفارة، قال العلامة في المختلف ورواه ابن بابويه في كتابه، ونسبه في المبسوط إلى أظهر الروايات، ثم قال: وفي أصحابنا من قال أنه لا يفطر. وقال في الاستبصار: ولست أعرف حديثاً في إيجاب القضاء والكفارة أو إيجاب أحدهما على من ارتمس في الماء، ونقل عن أبي الصلاح أنه يوجب القضاء خاصة، وذهب الشيخ في الاستبصار إلى أنه محرم لا يوجب قضاءً ولا كفارة، واختاره المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والمختلف والسيد السند في المدارك، ونقل في المختلف عن علي بن بابويه أنه عدَّه في المفطرات، وذهب ابن إدريس إلى أنه ينقص الصوم ولا يبطله ونقله عن السيد المرتضى، ونقله في المختلف عن ابن أبي عقيل أيضاً.

وقد تلخّص من ذلك أن الأقوال في المسألة أربعة:-

أولها: القول بإبطال الصوم ووجوب القضاء والكفارة.

ثانيها: القول بالتحريم خاصة مع صحة الصوم.

ثالثها: القول بالجواز على كراهة.

ص: 425


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/262. ونُسِب الإجماع إلى السيدين المرتضى وابن زهرة في الانتصار والغنية (رياض المسائل: 5/340).

رابعها: القول بوجوب القضاء خاصة))(1).

ووافق المشهور وهو القول الأول على نحو الجزم أو الاحتياط من المعاصرين السيد الخوئي والسيدان الشهيدان الصدران (قدس الله أسرارهم) وشيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) في رسائلهم العملية واختار السيد الحكيم (قدس سره) القول بالكراهة وهو الثالث وتبعه السيد السيستاني (دام ظله) حيث قال بالكراهية الشديدة من دون أن يضرّ بصحة الصوم(2).

دليل المشهور

واستدل المشهور بعدة روايات:

(منها) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الصائم يستنقع في الماء ويصبُّ على رأسه الماء ويتبرّد بالثوب وينضح بالمروحة وينضحالبوريا تحته ولا يغمس رأسه في الماء)(3).

و(منها) صحيحة محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء)(4).

و(منها) صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا

ص: 426


1- الحدائق الناضرة: 13/133.
2- منهاج الصالحين، ج1، ص321.
3- وسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب3، ح2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب1، ح1. ورد لفظ (ثلاث) في موضعين من التهذيب (ج4 الباب45، ح1، والباب54، ح1) وورد لفظ (أربع) في موضع آخر منه (ج4، الباب72 في الزيادات، ح39) وفي الأخير (ما يضرُّ) بدل (لا يضرُّ).

يرمس الصائم ولا المحرم رأسه في الماء)(1).

و(منها) موثقة حنان بن سدير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصائم يستنقع في الماء؟ قال: لا بأس ولكن لا ينغمس)(2)الحديث.

و(منها) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه)(3).

و(منها) صحيح يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم)(4).

و(منها) صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: (سألتُ أبا عبد الله عليه السلام: هل يدخل الصائم رأسه في الماء؟ قال: لا ولا المحرم) الحديث(5).(5)

و(منها) رواية مثنى الحنّاط والحسن الصيقل قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصائم يرتمس في الماء؟ قال: لا ولا المحرم).(6).

و(منها) ما رواه الصدوق في كتاب الخصال قال: حدثنا محمد بن الحسن (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه محمد بن خالد البرقي بإسناد رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خمسة أشياء تفطر الصائم: الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء والكذب على الله ورسوله وعلى الأئمة عليهم السلام)(7).

وتقريب الاستدلال بها يكون بعدة وجوه:-

ص: 427


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب3، ح8.
2- و (3) و (4) وسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب3، ح6، 7، 1.
3- و (3) و (4) وسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب3، ح6، 7، 1.
4- و (3) و (4) وسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب3، ح6، 7، 1.
5- (5) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 58، ح6.
6- (6) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 3، ح4.
7- وسائل الشيعة: الموضع السابق، باب2، ح6.

1- إن العرف يفهم من الأمر بشيء مرتبط بعبادة أو معاملة شرطيته في الصحة ومن النهي تأثيره في الفساد ((بقرينة كون المقصد الأهم للشارع بيان الصحة والفساد، حتى صار ذلك من تفاهم أهل العرف في خطاب المتعلق بعبادة أو معاملة مما يوصف بالصحة والفساد، وعليه بنوا كثيراً من الشرائط والموانع كما لا يخفى على المتتبع))(1).

2- أخذ عنوان الصائم في الروايات مما يعني أن النهي عن الارتماس مرتبط بالصوم وليس راجعاً إلى نفس الفعل فلا يصح ما قيل: ((إن غاية النهي تحريم الفعل المذكور ولا يوجب فساد الصوم لأن النهي هنا عن أمر خارج عن العبادة))(2).

3- صحيحة محمد بن مسلم الثانية الظاهرة في أن الإضرار إنما هو من جهة المفطرية خصوصاً إذا جعلنا ضمه إلى الخصال الأخرى في هذا المورد قرينة على وحدة الحكم فيها جميعاً. وإلى هذه القرينة أشار السيد صاحب المدارك (قدس سره) بقوله: ((نعم في رواية ابن مسلم إشعار بمساواته للأكل والشرب والنساء ولكنها غير صريحة)).

((وقال شيخنا الشهيد في كتاب شرح نُكت الإرشاد- بعد أن نقل القول بالكفارة وأنهم لم ينقلوا عليه دليلاً معتمداً- ما صورته: ويمكن الاحتجاج بعطفه على ما يوجب الكفارة في صحيح محمد بن مسلم المتقدم))(3).

ووصف السيد الخوئي (قدس سره) ظهورها بأنه قريب من الصراحة وقال: ((إذ من الواضح أن المراد بالإضرار بالصوم من حيث هو صوم لا

ص: 428


1- جواهر الكلام: 16/228.
2- الحدائق الناضرة: 13/135.
3- الحدائق الناضرة: 13/137.

بذات الصائم، ولا معنى له إلا الإخلال والإفساد.

وإن شئتَ قلت: ظاهر الصحيحة دخل الاجتناب عن تلك الأمور في طبيعي الصوم وإن كان تطوعاً، إذ لا مقتضي للتقييد بالفريضة، وحيث لا يحتمل حرمة الارتماس في الصوم المندوب تكليفاً بعد فرض جواز إبطاله اختياراً، فلا مناص من أن يراد بالإضرار: الإبطال، دون الحرمة التكليفية، إذن فلهذه الروايات قوة ظهور في المفطرية))(1).

وفي الفقرة الثانية من كلامه (قدس سره) أكثر من تعليق:-

أ. إن المشرِّع لاحظ الفرد الواجب حينما أطلق كلامه فيكون الارتماس محرماً بلحاظه.

ب. يمكن تصوُّر حرمة فعل أو وجوب آخر في الفعل المستحب حينما يلحظ ظرف استمرار الشخص بإتيانه والتزامه بإتمام العمل وإن كان قادراً على ترك العمل من أساسه وأمثلته في الشريعة كثيرة كالمحرمات على المعتكف في اليومين الأولين وهو فعل مستحب، قال (قدس سره): ((الظاهر أن المحرمات المذكورة مفسدة للاعتكاف من دون فرق بين وقوعها في الليل والنهار، وفي حرمتها تكليفاً إذا لم يكن واجباً معيَّناً ولو لأجل انقضاء يومين منه إشكال، وإن كان أحوط وجوباً))(2).

أما مرفوعة الخصال فهي صريحة في المفطرية.

ومع عدِّه من المفطرات فإن وجوب القضاء والكفارة بارتكابه عمداً لا يحتاج إلى دليل خاص كما صوّر الشهيد الأول (قدس سره) في كلامه المتقدم لعموم الملازمة التي وردت في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله

ص: 429


1- المستند في شرح العروة الوثقى (المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 21/161.
2- منهاج الصالحين: ط29، ج1، ص292، المسألة 1080.

(عليه السلام) (في رجل أفطر في شهر رمضان متعمداً يوماً واحداً من غير عذر؟ قال: يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً، فإن لم يقدر على ذلك تصدّق بما يطيق)(1).

ولا أعتقد أنَّ الشيخ الطوسي (رضوان الله تعالى عليه) لا يرى هذه الملازمة حينما قال: ((ولست أعرف حديثاً في إيجاب القضاء والكفارة أو إيجاب أحدهما على من ارتمس في الماء))(2)،فقد قال (قدس سره) بوجوبهما في الكذب على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن أدلته خالية من ذكرهما(3).

ومنه يُعلم أيضاً المناقشة في قول صاحب الحدائق (قدس سره): ((إنه لم ينقل الأصحاب دليلاً لمن قال بوجوب القضاء والكفارة وإنما نقلوا القول بذلك عن من قدّمنا ذكره مجرداً))(4).

روايات معارضة

توجد عدة روايات أوجبت صرف ظهور الروايات المتقدمة عن القول الأول لدى جمع من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) وتشكّلت لديهم بعد الجمع بين الطائفتين أقوال أخرى في المسألة؛ وهي:-

(الأولى) موثقة إسحاق بن عمار: (رجل صائم ارتمس في الماء متعمداً، عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال (عليه السلام): ليس عليه قضاؤه ولا يعودَنَّ)(5).

(الثانية) رواية الشيخ (قدس سره) في التهذيب والاستبصار بسنده عن علي بن

ص: 430


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 8، ح1
2- الاستبصار: كتاب الصيام، باب 42، ح2.
3- كتاب الاقتصاد،287.
4- الحدائق الناضرة: 13/135.
5- وسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 6، ح1.

الحسن بن فضال، عن محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (يكره للصائم أن يرتمس في الماء)(1).

(الثالثة) رواية الحناط والصيقل المتقدمة، بضميمة وحدة السياق مع ذيلها: (قال: وسألته عن الصائم أيلبس الثوب المبلول؟ قال: لا)(2).

وهنا قولان:-

(الأول) إن الارتماس محرم تكليفاً ولا يقدح في صحة الصوم، ودليله الجمع بين الطائفتين فإنه معنى مناسب للنهي الوارد في روايات الطائفة الأولى خصوصاً مع اقترانه بنهي المحرم ويتحقق به الإضرار الذي ورد في صحيحة محمد بن مسلم أما القضاء فتنفيه موثقة سماعة المتقدمة وقد ((اختاره جماعة كثيرة بل في مصباح الفقيه نسب إلى أكثر المتأخرين))(3)،(2)ومنهم المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع؛ قال: ((ويجب الإمساك عن الارتماس، وقيل: لا يحرم بل يكره، والأول أشبه، وهل يفسد بفعله؟ الأشبه لا)) والشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك؛ قال (قدس سره): ((وأصحّ الأقوال تحريمه من دون أن يفسد الصوم))(4).(3)

(الثاني) كراهية الارتماس، قال السيد الحكيم (قدس سره) في وجهه: ((والجمع العرفي بينهما- أي بين الطائفة الأولى من الروايات وموثقة إسحاق- يوجب حمل ما سبق على الكراهة، كما عن المرتضى في أحد قوليه وابن إدريس وغيرهما.

ومن ذلك يظهر ضعف ما عن الشيخ في الاستبصار، والعلامة، وولده والشهيد الثاني وغيرهم، من حمل النهي على الحرمة التكليفية - واختاره في

ص: 431


1- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب3، ح9، 4.
2- (3) الفقه للسيد محمد الشيرازي: 34/229.
3- (4) مسالك الأفهام: 2/16.

الشرائع والمدارك، فإنه خلاف المعهود بينهم في الجمع بين النهي والرخصة الواردين في مقام بيان الماهيّات، فإن بناءهم على حمل النهي على الكراهةالوضعية، ولا ينافيه في المقام: قوله (عليه السلام) في الموثق (ولا يعودنّ) لقرب حمله على ذلك، كما يظهر بأقل ملاحظة لنظائر المقام))(1).

أقول: إن كلا القولين قابلان للمناقشة.

أما (القول الأول): فلأن موثقة إسحاق بن عمار إن كانت قادرة على صرف روايات القول المشهور -عدا الثانية- عن ظهورها في المانعية عن صحة الصوم إلى النهي التكليفي بمقتضى الجمع باعتبار أن نفي القضاء فيها يعني عدم بطلان الصوم إلا أنها لا تقوى على معارضة صحيحة محمد بن مسلم الظاهرة في إضرار الارتماس بصحة الصوم لوجوه:-

1- إنها غير صريحة في رمس الرأس فلعل الرجل الصائم ارتمس بجسمه دون الرأس أو أنه رمس رأسه على التعاقب والأصل عدمه والمشروط (وهو بطلان الصوم) عدم عن عدم شرطه (وهو رمس الرأس) فظهورها ليس أقوى من ظهور الطائفة الأولى حتى تتصرف فيها خصوصاً مع تصريح الروايات الناهية عن الرمس بذكر الرأس.

2- إنها موافقة للعامة ((فالذي يظهر منهم(2) أن أحداً منهم لم يقل بالبطلان. نعم الحنابلة منهم ذهبوا إلى الكراهة إذا لم يكن الارتماس للتبريد أو الغسل))(3)؛ فتحمل على التقية وتطرح، لأن الرشد في خلافهم كما عبّر الإمام (عليه السلام).

قال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) في الرد على هذا الترجيح: ((ودعوى أن الموثقة موافقة للعامة، والصحيحة مخالفة لهم فلا بد من

ص: 432


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/263.
2- كما في الفقه على المذاهب الأربعة: 1/513- 516.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/164.

تقديم الصحيحة عليها تطبيقاً للترجيح بمخالفة العامة. مدفوعة: بأنَّ تطبيق هذا الترجيح منوط بكون الموثقة موافقة لكل مذاهب العامة على نحو لا تكون مندوحة للتخلص عن الحمل عليها، وأما إذا كانت موافقة لبعضها ومخالفة لبعضها الآخر فلا مقتضي لحملها على التقية تطبيقاً للترجيح بمخالفة العامة لتوفر الطريق للتخلص عنها والمقام من هذا القبيل فجواز الارتماس وعدم بطلان الصوم به ليس أمراً اتفاقياً لدى العامة كلاً، فإذن لا موجب لحملها على التقية لإمكان التخلص عنها))(1).

3- وقد رددنا على مثل هذا الدفع فيما تقدم بأن الحمل على التقية لا يشترط فيه ذلك، لأن التقية قد تقتضي إلقاء الخلاف بين الشيعة لدفع كيد الظالم فيجيب الإمام (عليه السلام) بأجوبة مختلفة يكون الحق منها أحدها والأخرى تشابه أقوالاً عند غيرهم وإن لم يكن متفقاً عليها.

4- إن رواتها وإن كانوا ثقات إلا أنَّ بعضهم كعبد الله بن جبلّة من غير الإمامية فتكون الطائفة الأولى هي الأرجح لشمولها بقوله (عليه السلام) (خذ ما اشتهر بين أصحابك) الذين هم الإمامية الإثنا عشرية وليس مطلق الشيعة.

5- وفرة الروايات المعتبرة على القول المشهور مما يوجب الاطمئنان بصدور هذا المعنى عن المعصوم (عليه السلام) بحيث يلحق معارضها بالشاذ النادر ويكون مشمولاً بقوله (عليه السلام): (ودع الشاذ النادر).

أما اقتران نهي الصائم عن الارتماس في بعض الروايات بنهي المحرم عنه فإنه غير كافٍ لصرفه إلى النهي التكليفي كالمحرم لأن هذا حصل بدليل خارجي وهو غير محرز في المقام فيبقى النهي على ظاهره وهو

ص: 433


1- تعاليق مبسوطة: 5/64.

الإرشاد إلى المانعية من صحة الصوم. وقد أجمل صاحب الجواهر (قدس سره) الرد على ما سمّاه ب-(خبر) إسحاق بن عمار بقوله: ((وخبر إسحاق بن عمار قاصر عن المعارضة سنداً ودلالة من وجوه))(1)

ولم يذكر شيئاً منها، على أن الإشكال في السند لا نعلم له وجهاً على مبانيه (قدس سره) إلا ما سيأتي في إلفات النظر بإذن الله تعالى.

إلفات نظر:

ضعّفَ بعضهم -كصاحب الجواهر (قدس سره) حين سمّى الموثقة خبراً على غير عادته ووصف الرواية بقصور السند عن المعارضة- سند موثقة إسحاق بن عمار بدعوى أن عمران بن موسى الواقع في طريقها مردّد بين أن يكون الخشاب المجهول الحال، أو الزيتوني الأشعري القمّي الثقة، وقيل في ردّه: ((إن عمران بن موسى الخشاب لا وجود له أصلاً، والمسمى بهذا الاسم شخص واحد وهو الزيتوني الثقة، فإن جامع الرواة وإن ذكر في ترجمة عمران بن موسى الخشاب ما يقرب من خمسين رواية إلا أنه ليس في شيء منها تصريح بالخشّاب، ولا الزيتوني، وكلها بعنوان عمران بن موسى، ما عدا رواية واحدة ذكرها الشيخ في التهذيب بعنوان عمران بن موسى الخشاب (التهذيب: 6/37)، فتخيَّل أن جميع تلك الروايات عنه، وهو وهم نشأ من سقط كلمة (عن) في نسخة التهذيب، والصحيح عمران بن موسى، عن الخشاب الذي هو حسن بن موسى الخشاب ويروي عمران بن موسى عنه كثيراً، فالخشاب شخص آخر يروي عمران عنه، لا أنه لقب لعمران نفسه كما توهم.

ص: 434


1- جواهر الكلام: 16/229.

والذي يكشف عنه بوضوح أن الشيخ يروي هذه الرواية عن ابن قولويه في كامل الزيارات، وهي مذكورة بعين السند والمتن في الكامل (كامل الزيارات: 29/10) لكن بإضافة كلمة (عن) فالسقط من الشيخ جزماً، فإن جميع نسخ التهذيب على ما قيل خالية عن كلمة (عن) فالاشتباه من قلمه الشريف، والمعصوم من عصمه الله تعالى.

وكيفما كان؛ فليس لدينا شخص مسمى بعمران بن موسى الخشاب لتوجب جهالته وهْناً في السند، وإنما هو شخص واحد مسمى بعمران بن موسى الزيتوني الأشعري القمّي المشهور الذي هو ثقة))(1).

أقول: ذكرنا هذا لعدة أمور:-

1- الرد على الإشكال في السند كما تقدم من صاحب الجواهر (قدس سره).

2- لإلفات النظر إلى مثل هذه الاشتباهات التي تفقدنا خيراً كثيراً وقد سجّلت مثل هذه الموارد وربما سنحت الفرصة لعرضها خلال البحوث القادمة.

3- لكي نعطي الحق للميرزا النائيني (قدس سره) الذي قال في مجلس بحثه وسمِعه تلميذه السيد الخوئي (قدس سره) فروى كلمته: ((إن المناقشة في إسناد روايات الكافي حرفة العاجز))(2)، والرواية وإن وردت في كتابي التهذيب والاستبصار إلا أنه من الصحيح أن الاكتفاء بمثل هذه الإشكالات السندية وطرح الرواية حرفة العاجز.

4- ولتأكيد ما تقدم منا أن الرواة حينما يطلقون اسماً فهو ينصرف إلى الشخص المشهور المعروف في زمانهم، أما الإجمال والترديد فقد نشأ لدى أرباب المعاجم المتأخرين لحشرهم الأسماء على نسق واحد أو لمثل

ص: 435


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/162.
2- معجم رجال الحديث: المدخل/99.

هذه الاشتباهات.

وأما (القول الثاني) فلأن موثقة إسحاق بن عمار لا تتضمن ترخيصاً حتى يجمع بينه وبين روايات النهي بحمل الأخير على الكراهة، بل تضمن ذيلها النهي أيضاً، وغاية ما فيها أنها لم توجب القضاء.

ويمكن أن نتصور السيد الحكيم (قدس سره) فكّر هكذا: بأن صحيحة محمد بن مسلم صرّحت بإضرار الارتماس بالصوم، والإضرار يمكن أن يكون على مستويين:-

(أولهما) الظاهر ويعني إفساد الصوم وعدم صحّته.

(ثانيهما) الباطن ويعني التقليل من درجة القبول ونيل الكمال.

ولما كان الأول غير ممكن لنفي موثقة إسحاق القضاء الذي يعني عدمالبطلان فيتعين الثاني.

وفيه:-

1- إنه لا ينتج القول بالكراهة خاصّة وإنما يجري على القول بالتحريم أيضاً فكلاهما مضرّ بهذا المعنى.

2- إن صياغة الرواية آبية عن الحمل على هذا المعنى لوجود أمور كثيرة تضرّ بالصوم على هذا المعنى؛ نعم، لو كان النص على نحو (الارتماس مضرّ بالصوم) لأمكن حمله عليه، أما النص المذكور فلا.

نعم، يمكن ترتيب وجه من كلام السيد الحكيم (قدس سره) للقول بالكراهة مكون من مقدمتين:

(أولاهما) إن الأمر والنهي حينما يتعلقان بعبادة أو معاملة توصف بالصحة والفساد يحمل على الشرطية والمانعية أي الحكم الوضعي ولا مجال لحمله على الحكم التكليفي.

(ثانيتهما) إن النهي هنا لا يمكن حمله على المانعية من الصحة أي البطلان لنفي موثقة إسحاق القضاء فيحمل على الكراهة الوضعية.

ص: 436

وفيه:-

1- إن الأصل في الأوامر والنواهي في مقام بيان الماهيات ما ذكر إلا أنها يمكن حملها على الأحكام التكليفية كالحرمة والوجوب إذا تعذر حملها على الوضعية كما استدل أصحاب هذا القول، وأمثلته في الفقه كثيرة كجملة من تروك الإحرام ومنها النظر في المرآة.

2- ما ذكرنا من الوجوه في عدم قوة موثقة إسحاق على معارضة روايات القول المشهور.

3- إنه (قدس سره) وقع في ما هرب منه بحسب هذا التقريب إذ أنه انتهى إلى حكم تكليفي وهي الكراهة إذ لا معنى للكراهة الوضعية ولا وجود للكراهة في الأحكام الوضعية وإنما هي قسم من الأحكام التكليفية.

ويمكن أن أذكر هنا معنى للكراهة الوضعية لكنه لم يَدُر في خلد السيد الحكيم (قدس سره) قطعاً ولا هو مناسب للانطباق على محل البحث ولكنه معنىً للعنوان فأقول فيه: إن الكراهة الوضعية هي حكم المورد الذي تتحقق فيه مفسدة وضعية لم تبلغ حداً ينطبق عليه حكم إلزامي ولم يرد فيه دليل شرعي على الكراهة حتى يدخل ضمن الأحكام الإلزامية؛ كالتدخين الذي ثبتت فيه عدة مفاسد صحية واقتصادية واجتماعية ولكنها لم ترقَ إلى مستوى الإفتاء بحرمته، وكموارد التقبيح العقلي التي لا تصل إلى مستوى ملزم.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((إذ الكراهة الوضعية لا نتعقل لها معنىً صحيحاً، وهل بإمكان العرف أن يجمع بين قوله: صحيح، وقوله: باطل، أو بين قوله: يعيد، وقوله: لا يعيد؟! فإن معنى إضرار الارتماس بالصوم أن صومه باطل كما لو أكل أو شرب، ومعنى (ليس عليه قضاؤه) كما في موثقة إسحاق: أن صومه صحيح، ومعه كيف

ص: 437

يمكن الجمع بينهما، وعلى الجملة فكراهة البطلان كاستحباب البطلان لا يرجع إلى محصّل يساعده الفهم العرفي))(1).

أقول: المعنى الذي ذكره (قدس سره) للارتماس وإن كان هو الظاهر إلا أنه لا مانع من حمل الإضرار على مستويات الكمال ودرجة القبول إذا دلّ الدليل على كونه ليس مفطراً وليس حراماً ولو ثبت الأول فقط حُكِمَ بالثاني ولا داعي للتنزّل إلى الكراهة، فصياغة السيد الخوئي (قدس سره) فيها مقدار من عدم الموضوعية إذ لا يقصد السيد الحكيم (قدس سره) استحباب البطلان أو كراهة البطلان.

نعم، كان للسيد الحكيم (قدس سره) أن يتمسك بخبر عبد الله بن سنان للحمل على الكراهة لورود كلمة (يكره) فيه وهو ((دليل السيد المرتضى ومن معه ممن ذهب إلى الجواز على كراهة))(2)،لكن هذا لا ينفعه أيضاً لأكثر من وجه:-

1- قد يقال بضعف سند الرواية؛ لأن الشيخ (قدس سره) رواها بسنده عن علي بن الحسن بن فضال وطريقه إليه ضعيف بعلي بن محمد بن الزبير الذي لم تثبت وثاقته.

2- إن الكراهة وردت في كثير من الروايات بمعناها الأعم الشامل للحرمة فحملها في خبر ابن سنان على الحرمة أولى من حمل جميع ما ورد في روايات الطائفة الأولى من النهي على الكراهة، قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): ((فإن كثيراً ما تستعمل بمعنى التحريم بل ربما ظهر من بعض الروايات كونها حقيقية فيه))(3).

ص: 438


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/163.
2- الحدائق الناضرة: 13/135.
3- الحدائق الناضرة: 13/136.

وربما استدل أيضاً برواية الحناط والصيقل المتقدمة، بضميمة وحدة السياق مع ذيلها (قال: وسألته عن الصائم أيلبس الثوب المبلول؟ قال: لا)(1).

وفيه:-

1- إن الرواية ضعيفة.

2- إن وحدة السياق ليست حجة فكثيراً ما جُمعَ الواجب والمستحب في سياق واحد.

نعم، قد يوجد ظهور في ذلك فيكون هو الحجة لكنه غير متوفر في المقام خصوصاً مع الفصل بين السؤالين.

واتضح مما تقدم الرد على خبر الدعائم عن الصادق (عليه السلام): (إنهكره للصائم شمّ الطيب والريحان والارتماس في الماء)(2).

فالسند ضعيف ووحدة السياق ليست حجة والكراهية يمكن حملها على الحرمة، ولو قلنا بها فلا دليل على شمول الارتماس للرأس.

نتيجة البحث

إن القول بالكراهة أضعف الأقوال، وأحوطها قول المشهور بمفطرية الارتماس وأنه يوجب القضاء والكفارة، وهو قول قوي.

ولا يبعد القول بحرمة الارتماس على الصائم تكليفاً بمعنى أن مرتكبه يأثم من دون أن يوجب قضاءً ولا كفارة.

ودليله الجمع بين روايات الطائفة الأولى الناهية عن الارتماس وموثقة إسحاق التي نفت وجوب القضاء.

أما صحيحة محمد بن مسلم فيضعف دلالتها الإجمال والترديد لوجود

ص: 439


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب3، ح4.
2- نقلها عن (دعائم الإسلام: 1/275، الفقرة 5) السيد محمد الشيرازي (قدس سره) في كتاب الفقه: 34/226.

الرواية في موضع آخر من التهذيب بلفظ (ما يضرّ) التي يُفهم منها العتب لعدم تحمّل التكليف بالصوم مع يسره، وحينئذٍ يكون وروده مع المحرم في رواية واحدة منسجماً.

ص: 440

بسم الله الرحمن الرحيم

المسألة الثالثة: هل أنّ قراءة القرآن في نهار شهر رمضان لمن لا يحسنها من المفطّرات

اشارة

المعروف عن سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أنه كان يستشكل في قراءة الصائم للقرآن في نهار شهر رمضان وهو لا يحسنها ويراها من المفطرات، وهذه الفتوى سبّبت عزوفاً لدى مقلديه عن تلاوة القرآن.

وإثبات هذا الحكم متوقف على تمامية مقدمتين: كبرى وصغرى:-

(الأولى) وهي الكبرى بأن الكذب على الله تبارك وتعالى من المفطرات.

(الثانية) وهي الصغرى بأن قراءة القرآن ممن لا يحسنها من الكذب على الله تبارك وتعالى.

لأن من قال بفساد الصوم بمثل هذه القراءة إنما أدخلها تحت هذا العنوان.

الأدلة على مفطرية الكذب على الله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)

(الأول): الإجماع: ونسبه في الجواهر(1)

إلى السيدين المرتضى وابن زهرة في الانتصار والغنية ونقل عن الخلاف نسبته إلى الأكثر.

ويردّ عليه بوجوه:-

1- إنه مدركي، فمن الواضح استناد المجمعين إلى النصوص التالية (صفحة 437) فيعود الاستدلال إلى النصوص.

ص: 441


1- جواهر الكلام: 16/224.

إنه لا وجود للإجماع، قال في المعتبر: ((إن دعواه مكابرة))(1)

وفي الجواهر: ((المنع من عدم الخلاف فيه بل يمكن نفي الخلاف في عدمه))1- وحتى الشهرة المحكيّة في الدروس قال عنها صاحب الجواهر: ((لم نتحققها))(2).

2- إن من حكى الإجماع وهو السيد المرتضى قد خالفه في الجمل مما يقدح في حجيته، فقد نقل عنه العلامة (قدس سره) قوله: ((الأشبه: أنه يُنقِص الصوم وإن لم يبطله))(3).

3- مخالفة أكثر المتأخرين له ك-((الحلي والمحقق في المعتبر والشرائع والعلامة في التذكرة والمختلف ونسب إلى أكثر المتأخرين))(4)؛

مما يوهن الإجماع.

(الثاني): قاعدة الاشتغال قال السيد المرتضى (قدس سره): ((والحجة في ما ذهبوا إليه إجماع الطائفة، وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة من الصوم))(5) وذكرها السيد الحكيم (قدس سره) ولم يبين وجهها، ويمكن تقريبها بشكلين:-

أ. إن اشتغال الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً ولا يتحقق الفراغ اليقيني من اشتغال الذمة بوجوب الصوم إلا باجتناب هذا المفطر المحتمل.

ب. إنه من الشك في المحصل وتجري فيه قاعدة الاشتغال.

ص: 442


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/252، جواهر الكلام: 16/224.
2- جواهر الكلام: 16/225.
3- المختلف للعلامة: 3/267.
4- مستمسك العروة الوثقى: 8/252.
5- الانتصار: 63.

ويرد عليها: بأن القاعدة لا تجري لأن الشك في أصل التكليف أي في أصل كون الكذب على الله ورسوله من المفطرات وليس في المكلَّف به، أو قل إن الشك في المحصل لامتثال المكلف به مسببي عن الشك السببي المتعلق بمفطرية الكذب التي لم تثبت إلى الآن بحسب الفرض.

(الثالث): النصوص وهي عديدة وجملة منها معتبرة فهي العمدة في المقام:

(منها) موثقة سماعة التي رواها الشيخ الطوسي بسنده عن علي بن مهزيار عن عثمان بن عيسى عن سماعة (قال: سألته عن رجل كذب في رمضان؟ فقال: قدأفطر وعليه قضاؤه. فقلت: فما كذبته؟ قال: يكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم))(1).

(ومنها) موثقته الأخرى التي رواها الشيخ الطوسي بسنده عن الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسى عن سماعة: (سألته عن رجل كذب في شهر رمضان؟ فقال: قد أفطر وعليه قضاؤه وهو صائم يقضي صومه ووضوءه إذا تعمّد).

(ومنها) معتبرة أبي بصير التي رواها الشيخ الطوسي بسنده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي بصير (قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الكذبة تنقض الوضوء وتفطر الصائم. قال: قلت له: هلكنا. قال: ليس حيث تذهب إنما ذلك الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة (عليهم السلام)).

(ومنها) معتبرة أخرى عن أبي بصير التي رواها الشيخ الطوسي بطريقه إلى ابن بزيع عن منصور بن يونس عن أبي بصير عن أبي عبد الله

ص: 443


1- الرواية والروايات الأربع بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب2، ح1، 3، 2، 4، 6.

(عليه السلام): (إن الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة (عليهم السلام) يفطر الصائم).

(ومنها) مرفوعة الخصال إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خمسة أشياء تفطر الصائم: الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة (عليهم السلام)).

(ومنها) مرفوعة أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)؛ قال: (من كذب على الله وعلى رسوله وهو صائم نقض صومه ووضوءه إذا تعمّد)((1).

وقد نوقشت من عدة جهات:-

1- ضعف السند، ذكرَهُ العلامة (قدس سره) حيث أن بعض رواتها ليسوا من الإمامية الإثني عشرية فسماعة ومنصور بن يونس -الذي روى موثقتي أبي بصير- وعثمان بن عيسى من الواقفة، ((وإن الكشي روى حديثاً عن منصور بن يونس أنه جحد النص على الرضا (عليه السلام) لأموال كانت في يده))(2).

وفيه: إن المعيار في قبول قول الراوي وثاقته ولا يضرّ فيها عدم معرفته بالإمامة الحقة وهؤلاء الرواة ثقات فتكون رواياتهم معتبرة وتدخل في القسم الموثق الذي هو حجة.

2- ((إن بعض تلك النصوص -كموثقة أبي بصير- مشتمل على ما لا يقول به أحد من علماء الفريقين، وهو نقض الوضوء بالكذب على الله أو الرسول، فلا بد من الحمل على النقض بالعناية بإرادة نقض مرتبة

ص: 444


1- (1) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب2، ح7.
2- مختلف الشيعة: 3/269.

الكمال حيث أن الشخص المتطهر لا ينبغي له أن يكذب على الله ورسوله، لأنه لا يلائم روحانيته الحاصلة من الوضوء.

فبقرينة اتحاد السياق تحمل ناقضيته للصوم على ذلك أيضاً أي على إرادة مرتبة الكمال لا الحقيقة كي يفسد الصوم به))(1)، خصوصاً لو قُرِأت معتبرة أبي بصير بالصاد وليس بالضاد كما احتمله صاحب الجواهر (قدس سره)(2).

ويؤيد هذه النتيجة نصوص أخرى شبيهة بها لا إشكال في حملها على هذا المعنى كرواية عقاب الأعمال في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ومن اغتاب أخاه المسلم بطل صومه ونقض وضوءه)(3) وفي كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس قال: (رأيت في أصل من كتب أصحابنا قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الكذبة لتفطر الصائم والنظرة بعد النظرة والظلم كله قليله وكثيره)(4)، ورواية تحف العقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيته لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (يا علي احذر الغيبة والنميمة، فإن الغيبة تفطر والنميمة توجب عذاب القبر)(5).

وتردّ هذه المناقشة بوجوه:

أ. إن بعض الروايات المعتبرة المتقدمة كموثقة سماعة الأولى ومعتبرة أبي بصير الثانية لم تتضمن ناقضية الكذب للوضوء فيمكن الاعتماد عليها.

وهذه المناقشة مردودة لأن المظنون أن روايتي سماعة هما

ص: 445


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/134.
2- جواهر الكلام: 16/225.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب2، ح5، 9، 10.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب2، ح5، 9، 10.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب2، ح5، 9، 10.

رواية واحدة رواها عنه عثمان بن عيسى لعلي بن مهزيار تارة (ح1 في الباب) وللحسين بن سعيد تارةً أخرى (ح3 في الباب) وكذا روايتا أبي بصير فهما رواية واحدة رواها عنه منصور بن يونس لابن أبي عمير تارة (ح2 في الباب) ولابن بزيع (الذي يقع في طريق الصدوق إلى منصور) تارة أخرى (ح4 في الباب) ومنشأ الظن وحدة السؤال والراوي فيكون من البعيد تكراره على الإمام (عليه السلام) ورواية روايتين متعددتين للراوي عنهما، وإنما حصل تقطيع ونقل بالمعنى .

وقد كرر السيد الخوئي (قدس سره) أكثر من مرة(1) أن هذا التعدد يوجب الإجمال، وقال أيضاً إن خلوّ إحدى الروايتين من تلك الزيادة يوجب عدم الوثوق بتحققها ومعه فلا يناقش في قدحها في الظهور كما لا يخفى(2).

وهو غير صحيح، فما دامت الروايتان معتبرتين فيؤخذ بمجموع مضمونيهما سواء وجد جزء في الأخرى أو لم يوجد حتى وإن ظُنَّ أنهما رواية واحدة صدرت من المعصوم (عليه السلام)، إذ من الممكن أن يُقطِّع الراوي الرواية ويذكر محل الحاجة لواحد ويذكرها كاملة لآخر مع عدم وجود التنافي بينهما كما لو أن شخصاً نقل لآخر أن زيداً اشترى داراً ونقل لثالث أنه اشترى الدار بكذا مبلغ ونقل للرابع أن فيها كذا غرفة فيؤخذ بالتفاصيل جميعاً.

نعم يحصل الإجمال فيما لو كانت الرواية واحدة بالأصل

ص: 446


1- المستند في شرح العروة الوثقى (المجموعة الكاملة): 21/135، 136.
2- المستند في شرح العروة الوثقى:نفس الصفحة.

+++ ولكنها ذُكِرت بصور مختلفة في نُسَخ الكتب فتكون مجملة لعدم معرفة الصياغة الصحيحة منها، وهذا تفريق دقيق.

ب. إن انتظام أشياء متعددة في سياق واحد لا يعني اشتراكها في الحكم كورود غسل الجمعة والجنابة في خطاب واحد، فإذا دلّ دليل خارجي على عدم وجوب غسل الجمعة فلا يسري ذلك إلى شريكه وهو غسل الجنابة خصوصاً مع تنوع مادتيهما في المقام (تنقض، تفطر). فحمل ناقضية الكذب للوضوء على نقص الكمال لا يلزم منه حمل مفطرية الكذب على مثله.

ج-. إن الإفطار إذا حملناه على نقص الكمال فما معنى وجوب القضاء في موثقة سماعة؟ ومن البعيد حمل اللفظ على معنى كمالي.

ص: 447

أدلة القائلين بعدم المفطرية

لم يكتفِ القائلون بعدم المفطرية بردّ أدلّة المفطرية وإنما أضافوا وجوهاً أخرى للقول بالعدم منها:-

1- الأصل؛ لأن الشك في أصل التكليف فتجري فيه أصالة البراءة، ولأن ((الأصل صحة الصوم))(1).

ورُدَّ بأن الأصل لا معنى له للعمل به مع وجود النصوص المعتبرة الدالة على المفطرية.

2- ما دلّ على حصر المفطرات في النصوص الصحيحة بما لا يشمل هذا المفطر (قاله في الجواهر) وتبعه السيد الحكيم في المستمسك(2)

فقال: ((واعتضاده -أي القول بحمل المفطرية على نقص الكمال- بما دلّ على حصر المفطر في غيره)) وهو يشير -كما صرّح به العلامة (قدس سره) في المختلف- إلى صحيحة محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء)(3).

أما رواية الخصال المذكورة سابقاً فهي مرفوعة فلا تُعارض الصحيح.

ونوقش هذا الوجه بأمور:-

أ. إن الحصر وإن كان ظاهراً من النص المذكور إلا أنه مستفاد من الإطلاق فلا مانع من رفع اليد عنه إذا دلَّ دليل على مفطرية أشياء

ص: 448


1- مختلف الشيعة: 3/268.
2- مستمسك العروة الوثقى: 2/253.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب1، ح1.

أخرى ومن المقطوع به وجود مفطرات أخرى غيرها كتعمد البقاء على الجنابة حتى الفجر.

اللهم إلا أن يقال إن تعمد البقاء ليس من المفطرات حقيقة وإنما هو يجعل المكلف محلاً غير قابل للصوم كالسفر والحيض إلا أن هذين من شرائط الوجوب فلا يضر الإتيان بهما ولو اختيارياً بينما الاغتسال من الجنابة قبل الفجر من شرائط الواجب فلا يعذر المكلف في تركه. ويُرد هذا بوجود مفطرات أخرى ثبتت بالدليل كتعمّد القيء ولا يَرِد فيها هذا الاحتمال.أ. مضافاً إلى ما ورد في موضع من التهذيب(1)

من لفظ (ما يضرُّ) وهي تدل على الحث والترغيب الممزوج باللوم والعتب ولا تدل على الحصر بشيء.

ج-. إن الحصر في مثل هذه الروايات وبقرينة ما دلّ على وجود مفطرات أخرى يكون إضافياً أي بلحاظ أمر ما وليس مطلقاً ويُعرَف هذا الأمر بملاحظة القرائن وظروف المسألة كما لو أبدى أحدٌ ضجره من الصوم وأنه يحرمه من اللذات كذاك الشاعر الذي نظم في ذمّ شهر رمضان أبياتاً مطلعها: عفا الله عن شهر الصيامِ فإنه يُجنّبنا اللذّات في الروحِ والجسمِ فعندما يجيب الإمام (عليه السلام) باستصغار حجم تأثير المفطرات فلا يكون جوابه مطلقاً وإنما بلحاظ ما ذكره السائل. كما لو سأل أحد طلبة العلم زميلاً خارجاً من المسجد: هل يوجد أحد؟ فيجيبه زميله: لا؛ أي بلحاظ الطلبة الذين يحضرون معه لا مطلقاً.

ص: 449


1- التهذيب: ج4، الباب72 في الزيادات، ح39.

1- اشتمال موثقة سماعة الثانية على قوله (عليه السلام): (وهو صائم) وهذا يعني أن الإفطار المذكور فيها لا يعني فساد الصوم بل يبقى صائماً وإن أثِم وإنما يحمل الإفطار على المنقصة الأخلاقية وفي درجات الكمال. ((فيتعين حمله على الصوم الحقيقي، وحمل ظاهر (أفطر) على نقض الكمال، فيتعين حمل النصوص على ذلك، ولا سيما مع تأييده بنقض الوضوء، واعتضاده بما دلّ على حصر المفطر في غيره))(1).

ونوقش بأن هذا المعنى غير متعين إذ يمكن إبقاء معنى (أفطر) على ظاهره وحمل الصيام على المعنى الحكمي أي أنه وإن بطل صومه بالكذب لكنه باقٍ بحكم الصائم فلا يجوز له تناول المفطرات بحجة بطلان صومه ولو فعل فإنه مفْطر متعمد، كمن أخلّ بالنية ونوى تناول المفطّر فإن صومه بطل وعليه القضاء، ويصدق عليه ما ورد في النص من أنه صائم باعتبار عدم جواز تناوله المفطر وبنفس الوقت هو يقضي صومه ولكنه لا يجوز له تناول المفطر وإلا وجبت عليه الكفارة. وليس المعنى الأول الذي ذكره السيد الحكيم (قدس سره) -أي حمل الصوم على المعنى الشرعي الصحيح والإفطار على المعنى الأخلاقي- أولى من المعنى الثاني الذي قرّبناه- بحمل الإفطار على معناه الحقيقي والصوم على معناه الحكمي- فالنص يكون مجملاً ولا يُستَدلّ به على المفطرية أو عدمها وهذا كافٍ في ردّ هذا الإشكال.

ص: 450


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/253.

نتيجة البحث

ولو تحقق بسبب هذه المناقشات المؤدية إلى إجمال أدلة كلا الطرفين تعارض فكيف يُحل؟

قد يقال بترجيح القول بالمفطرية لأن القول الآخر موافق للعامة والتزم به في الوسائل في ذيل أحاديث الباب (2) من أبواب ما يمسك عنه الصائم لكن في مقابل ذلك يمكن أن يقال: ((إن المراد بنصوص المقام التعريض بها في قضاة العامة -أي السلطة- ورواتهم وأتباعهم بقرينة اشتمالها على نقض الوضوء بالكذب فيكون المطلوب حينئذٍ بيان حال صومهم وصلاتهم أي أنهم لا صوم ولا صلاة بسبب ذلك))(1).

وهو معنى لطيف فإن هؤلاء لم يأتوا مدينة العلم من أبوابها فيكون إخبارهم كذباً على الله ورسوله وأخذاً للعلم من غير أهله فيُحبط أعمالهم فعبر الإمام (عليه السلام) بهذا التعبير البليغ وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا وإن الكلمة لتنصرف على سبعين وجهاً لنا منها جميعها المخرج)(2).

وعندئذٍ فالمرجع هو الأصل والأصل الجاري في المقام هي البراءة لأن الشك في أصل التكليف؛ وقوّاه صاحب الجواهر (قدس سره) وإن احتاط بالقول بالمفطرية وكذا السيد الحكيم (قدس سره)(3).

لكن الإنصاف إن الروايات الدالة على المفطرية معتبرة سنداً وألفاظها ظاهرة في المطلوب ولا يضرّ دلالتها وجود مدلول غيرها معها في السياق ولا

ص: 451


1- جواهر الكلام: 16/225.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص2، ح3.
3- جواهر الكلام: 16/225، مستمسك العروة الوثقى: 8/253.

مجال لجريان الأصل فالقول بعدم المفطرية مجازفة لكن الاطمئنان بالقول بالمفطرية غير متحقق لما ذكرناه من القرائن على الإطار العام للنصوص والإشكالات التي ذكرناها على الدلالة فيحسُن حينئذٍ القول بالاحتياط الوجوبي بالاجتناب.وجزم بالمفطرية أو احتاط وجوباً بها السيد الخوئي والشهيدان الصدران (قدست أسرارهم) والسيد السيستاني والشيخ الفياض (دام ظلهما الشريف).

هل إن قراءة القرآن ممن لا يحسنها كذب على الله وعلى رسوله؟

والسؤال الثاني هو: هل إن قراءة القرآن لمن لا يحسنها تدخل ضمن هذا العنوان أم لا وإذا انطبق عليها العنوان فهل هي مفطرة كما هو أم أنها خارجة عنه تخصيصاً؟

الصحيح عدم شمول الحكم للحالة لجملة من الوجوه والاستبعادات تندرج ضمن ثلاثة عناوين:-

(الأول) عدم صدق الكذب على هذه الحالة.

(الثاني) لو كانت من الكذب فإنها ليست مقصودة بالمفطرية.

(الثالث) ورود الرخصة في قراءة العامة.

وتفصيلها كالتالي:-

1- انصراف أدلة الكذب على الله وعلى رسوله عن هذا المورد فلا تكون مشمولة بإطلاقه والوجدان قاضٍ بذلك حتى مع الالتفات إليه بحيث يقطع أن مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (قد كثرت علي الكذابة فمن

ص: 452

كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)(1)

لا يشمل المورد وإنما يراد به أمثال من يفتري الأحاديث ويقلب معانيها كمن يروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن آية «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ واللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ» (البقرة: 207) نزلت في عبد الرحمن بن ملجم المروية عن سمرة بن جندب(2)،ومثل المغيرة بن سعيد، فقد روى الكشي في رجاله أن هشام بن الحكم سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسُّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه، فيأمرهم أن يبثّوها في الشيعة)(3) الحديث.

2- لازم هذا القول تعطيل القرآن فإن أكثر الناس لا يحسنون القراءة وهذا مخالف للحثّ الأكيد على تلاوة القرآن خصوصاً في شهر رمضان كخبر جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)(4) وخبر علي بن أبي حمزة؛ قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير: جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: لا، قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، فقال: في ثلاث ليالي؟ فقال: ها وأشار بيده ثم قال: يا أبا محمد إن لرمضان حقاً وحرمة لا يشبهه شيء

ص: 453


1- الكافي: ج1، باب اختلاف الحديث، ح1. في كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) نقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال بعده: (ثم كُذبَ عليه من بعده).
2- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 4/73.
3- معجم رجال الحديث: 18/317.
4- وسائل الشيعة: ج4، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، باب18، ح2.

من الشهور، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل، إن القرآن لا يقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً وإذا مررت بآيةٍ فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله الجنة وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ بالله من النار)(1).

لا يقال: إن هذا يُفهم منه ضرورة تعلم الناس للقراءة الصحيحة وليس ما فهمتم.

فإنه يقال: هذا صحيح لكن أغلب الناس قاصرون عن إدراك القراءة الصحيحة؛ نعم، قد يقال إن هذا الاستحباب لا يتعين أن يكون في النهار ليذكره الأئمة (عليهم السلام) ضمن المفطرات فلتكن القراءة في الليل كما هو صريح الرواية المتقدمة. ويجاب عنه بأن القائل بالمفطرية يراه كذباً على الله تعالى وحرمته واحدة سواء في الليل أو في النهار، كما أن الليلة في الرواية الآنفة يراد بها مجموع الليل والنهار بالدلالة المطابقية والالتزامية كما يقال كل جمعة أي كل أسبوع.

3- إن اللحن في الكلام ومخالفة أصول القراءة الصحيحة كان موجوداً من أول صدر الإسلام بعد أن دخلت أقوام غير عربية في الإسلام وهذا واضح من قضية أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما أمر أبا الأسود الدؤلي أن يكتب قواعد اللغة العربية وهو (عليه السلام) يملي عليه ويعطيه أصولها بعد أن وجد في مصرهم لحناً على تعبيره (عليه السلام)(2) فلو كان ذلك مخلاً في الصوم وسبباً لفساده لورد حديث واحد يلفت نظر المكلفين إلى هذا الأمر.

إن قلتَ: تكفي هذه النصوص العامة.

ص: 454


1- وسائل الشيعة: ج4، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، باب27، ح4.
2- الفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي: 1/680.

قلتُ: لا تكفي لعدم التفات حتى المتشرعة إلى شمولها للمورد فلا بد من عناية خاصة بالمورد.

إن قلتَ: مع عدم الالتفات لا يكون مفطراً لأن المفطّر تعمدُ الكذب وهو غير متحقق فلا داعي إلى إلفاتهم ويكون صغرى ل-(دعوا الناس على غفلاتهم).

قلتُ: إذن لماذا نلفتهم ولا نفعل كما فعل المعصومون (عليهم السلام)؟

4- يوجد في المأثور عن المعصومين (سلام الله عليهم) - وهذه المرحلة متقدمة عن النقطة السابقة - خلاف ذلك من التسهيل والتسامح وإمضاء ما هو موجود، والروايات على شكلين:-

أ. التي عالجت الحالات الخاصة كالذي نُقِل عن بلال الحبشي مؤذّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يلفظ الشين سيناً فيقول في أذانه: (أسهد أن لا إله إلا الله)، قال ابن قدامة ((فأما إن كان اللثغ لثغة لا تتفاحش جاز أذانه، فقد روي أن بلالاً كان يقول (أسهد) بجعل الشين سيناً))(1) وقال السيد محسن الأمين العاملي (قدس سره): ((قد اشتهر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سين بلال عند الله شين))(2).

وقد استبعد ذلك عدد من الأعلام منهم ابن كثير وقال: ((ليس له أًصل وهو المعتمد فقد ترجمه غير واحد بأنه كان أندى الصوت حسنه، فصيح الكلام. ولو كانت فيه لثغة لتوفرت الدواعي

ص: 455


1- المغني لابن قدامة: 1/445.
2- هامش الطبعة الجديدة لكتاب تحرير الأحكام للعلامة الحلي: 1/228 نقلاً عن أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: 3/603.

على نقلها ولَعابَها أهل النفاق عليه المبالغون في التنقيص لأهل الإسلام))(1).

لكن هذا الاستبعاد مردود فإن مثل هذا القلب متعارف لدى غير العرب فالفارسي يلفظ الحاء هاءً ويقول (هسين) والضاد زاياًً ويقل (زالّين) والثاء سيناً فيقول (سِمار) وإن طال مكثه في بلاد العرب وبلغ أسنى المراتب العلمية ولا يستنكر ذلك أحد. بل إن بعض القبائل العربية تقلب الحروف في لهجاتها فتلفظ الجيم ياءً ونُقل أن عبد الله بن مسعود كان يقرأ القرآن بلغة هذيل فيقول (عتى حين) وقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحب أن يسمع القرآن من ابن مسعود. ولم يُنقل لنا استنكار للحالة. نعم روى المتقي الهندي عن كعب بن مالك (قال: سمع عمر رجلاً يقرأ هذا الحرف (ليسجننّه عتى حين) فقال له عمر: من أقرأك هذا؟ قال: ابن مسعود، فقال عمر: (ليسجُننّه حتى حين) ثم كتب إلى عبد الله يأمره أن يُقرئَ الناس بلغة قريش)(2).

ونقل القرطبي في تفسيره ((وقال آخرون: أما إبدال الهمزة عيناً وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأبه الجلّة، واحتجوا بقراءة ابن مسعود: ليسجننه عتى حين، ذكرها أبو داوود، وبقول ذي الرمّة:

فعيناكِ عيناها وجيدُكِ *** جيدها ولونُك إلا عنها غير طائلِ

يريد إلا أنها))(3)،وهي موجودة اليوم حيث يقرأ البعض (السؤال) سعالاً و(القرآن) قرعاناً و(أنان) عناناً.

ص: 456


1- كشف الخفاء للعجلوني: 1/464.
2- كنز العمال: 2/593.
3- تفسير القرطبي: 1/45.

ومن المطمأن به وجود مثل هذه الحالات في المجتمع الإسلامي في عصر الأئمة المعصومين (عليه السلام) ولم يرد عنهم (عليهم السلام) نهي للصائمين عن مثلها ولم يجد أحد ممن حملوا علوم الأئمة (سلام الله عليهم) في الحالة مشكلة حتى يسأل عنها الإمام (عليه السلام).

ب. التي عالجت الحالات العامة: فإن المستفاد من الروايات أن القرآن نزل بحرف واحد وإنما جاء تعدد القراءات من قبل الرواة وساعد على ذلك تأخّر تنقيط الكلمات وضبط حركاتها الإعرابية، حيث كانت الحروف في المصاحف مهملة ثم أعجمت وكذا الحركات الإعرابية واختلفت اجتهادات القرّاء والرواة في وضعها. ففي صحيحة الفضيل بن يسار قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا أعداء الله لكنه نزل على حرفٍ واحد من عند الواحد))(1)، وفي خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة)(2) وغيرها. وكانت هذه القراءة عند الأئمة (سلام الله عليهم) ففي خبر عبد الله بن فرقد والمعلّى بن خنيس قالا: (كُنّا عند أبي عبد الله ومعنا ربيعة الرأي فذكرنا فضل القرآن فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ، فقال ربيعة: ضال؟ فقال: نعم ضالّ، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): أما نحن فنقرأ على قراءة أبي)(3) وسواء قرأناها (أَبِي) أي الباقر (سلام الله عليه) أو (أُبَيّ) بن كعب المعروف بسيد القراء فالنتيجة واحدة لأن أُبيّ كان ملازماً لأهل بيت العصمة ويأخذ منهم.

ص: 457


1- و (2) و (3) أصول الكافي: ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، الأحاديث 13، 12، 27.
2- و (2) و (3) أصول الكافي: ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، الأحاديث 13، 12، 27.
3- و (2) و (3) أصول الكافي: ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، الأحاديث 13، 12، 27.

هذا ولكن ورد الترخيص من أهل البيت (سلام الله عليهم) للناس بأن يقرأوا كما هو موجود بين أيديهم وبالطريقة التي يقرأ بها الناس، ففي صحيحة سالم أبي سلمة بن مكرّم قال: (قرأ رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا أستمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله: كُفَّ عن هذه القراءة اقرأ كمايقرأ الناس حتى يقوم القائم عليه السلام فإذا قام القائم قرأ كتاب الله عز وجلّ على حدِّه)(1) الحديث.

إن قلتَ: إن المراد بالناس أهل البيت (سلام الله عليهم) كما ورد في تفسير قوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ» (النساء: 54) فتكون دالّة على عكس المدّعى لأنها تلزم بقراءة أهل البيت (سلام الله عليهم).

قلتُ: إن هذا المعنى وإن تقدّم منّا في مناسبة سابقة(2)

لكنه غير محتمل في هذه الرواية كما هو واضح من السياق بل هي ناهية عن الجهر بهذه القراءة.

وروى الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في الخصال بسنده عنهم (سلام الله عليهم): (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتاني آتٍ من الله فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفٍ واحد، فقلت: يا ربِّ وسِّع على أمتي فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف)(3) ويمكن أن نفهم السبعة لا على نحو الحد وإنما للإشارة إلى الكثرة كما هو معروف في لغة العرب والقرآن الكريم.

ص: 458


1- أصول الكافي: الموضع السابق، ح 23.
2- فقه الخلاف: 1/126، ط. الأولى، و فقه الخلاف: 7/13، ط. الثانية.
3- وما بعدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 74، ح6، 2.

وفي مرسلة الكافي عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قلت له: جعلت فداك إنا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها، ولا نُحسِن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: لا، اقرأوا كما تعلّمتم فسيجيئكم من يعلمكم). وفي رواية مسعدة بن صدقة قال: (سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول: إنك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح وكذلك الأخرس في القراءة في الصلاة والتشهد وما أشبه ذلك، فهذا بمنزلة العجم والمحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح)((1) الحديث. وروى الكليني بسنده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربيته)(2).

ولا خصوصية للأعجمي والأخرس وإنما تشمل كل من يتعذر عليه أداء الكلمات بمخارجها الفصيحة وحركاتها الإعرابية.ومشكلة عدم التفريق بين (الضاد) و(الظاء) لا يكاد ينجو منها أحد لاختلاف العلماء أصلاً في مخرج الحرف، ومقتضى القاعدة عدم جواز القراءة بكل الاحتمالات لما سنقوله إن شاء الله في النقطة التاسعة. وقد حمل سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) أخبار (اقرأوا كما يقرأ الناس) على التقية فلا تصلح أن تكون دليلاً على إمضاء القراءات المعروفة بين الناس(3).

وهو بعيد لأكثر من وجه:

ص: 459


1- (1) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 67، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 30، ح4.
3- ما وراء الفقه: 1/289.

أ. إن القراءات عديدة وصلت إلى سبع بل عشر وأكثر من ذلك حتى وصلت إلى السبعين(1)

فهي ليست محصورة حتى يُتَّقى من المخالفة وإن بعضها بلغ حد السماجة(2)

وهي عبارة عن اجتهادات لأصحابها فلا تقية في إحداث قراءة جديدة.

ب. ظاهر النصوص يفيد بأن قبول التنوع إنما هو للتخفيف والتسهيل.

ج-. لو قبلنا التقية في الأحاديث فليست التقية في جهة الصدور حتى تسقط عن الحجية وإنما أخذت التقية كعنوان ثانوي يغيّر الحكم الأولي بلحاظ العسر والحرج والضرر بمعنى أن تكليف الأمة الأولي هو القراءة بالحرف الذي أُنزل به القرآن ثم خفف الحكم بسبب التقية إلى جواز القراءة بكل الحروف المعروفة فالجواز حكم واقعي ثانوي.

وخلاصة هذه النقطة: قيام الدليل على جواز قراءة الناس بالمقدار الذي يحسنونه.

5- إن نقل كلام الآخرين ما دام محافظاً على المضمون وليس مخلاً بالمعنى ليس كذباً ويصحّ أن نقول عنه قال، وقد تبانى أهل المحاورة على ذلك وعليه جرى ديدن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ورواة أحاديثهم فإنهم كانوا ينقلون بالمعنى وقد اختلفت عباراتهم فيما بينهم وكلهم يقولون قال الإمام (عليه السلام)؛ وكان ذلك -أي نقل المضمون- برضا الإمام (عليه السلام). بل الأمر أكثر من ذلك فإن الله تبارك وتعالى نقل كلاماً عن كثير من المخلوقات (إنسان وحيوان) نجزم بأنهم لم يقولوا ذلك وإنما كان مضمون كلامهم وإن بعضهم لم يكونوا يتكلمون اللغة العربية وبعضهم ليس لغتهم من سنخ لغة البشر (كنملة سليمان) وحتى من يتكلم العربية فإنه لم يكن كلامه بالنص القرآني المعجز ومع كل ذلك فقد نسب القرآن

ص: 460


1- ما وراء الفقه: 1/286.
2- ما وراء الفقه: 1/300.

الكريم إليهم جميعاً هذه الأقوال فهل هذا كله من الكذب؟ سبحان الله.ومحل الشاهد إن الكلام المنقول وإن لم يكن مطابقاً للصادر فتصح نسبته إليه ما دام محافظاً على المعنى ولا يُعَدُّ كذباً.

6- إن الكذب كالصدق من شؤون الإخبار وقارئ القرآن غالباً لا يقصده وإنما هو يقرأ القرآن لما علمه من ثواب قراءة القرآن من دون أي لحاظ آخر؛ نعم، لو أخبر عن الله تعالى بأنه قال كذا حينئذٍ تندرج المسألة في البحث.

7- إن الكذب إنما يكون بلحاظ المعنى المقصود للمتكلم فإن كان مخالفاً للواقع كان كذباً وإلا فلا، وليس بلحاظ انطباق اللفظ على الواقع، ولذا لم يفرّقوا بين كون الكلام على نحو الحقيقة أو المجاز أو الكناية فلو قال: (زيد كثير الرماد) ولم يكن كذلك واقعاً بحسب اللفظ ولكنه كان كريماً وأراد باللفظ الكناية عن كرمه عُدَّ صادقاً.

ولذا لم يعتبر الفقهاء من الكذب ما إذا نقل المتكلم كلاماً غير واقعي عن كتاب ونسبه إلى الكتاب لا إلى من نُسِبَ إليه الكلام كما لو قال الصائم روي في كتاب الكافي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال كذا أو روى الخطيب الفلاني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال كذا؛ فإنه صادق حتى لو لم يكن الحديث صادراً عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يستشكلوا على الشعراء الذين يصوّرون بلسان الحال أموراً غير واقعية لأجل التفجّع أو المدح ونحوه من دون نكير لأنه ليس في مقام الإخبار.

فحينما يُنشد دعبل الخزاعي بين يدي الإمام الرضا (عليه السلام):

مدارسُ آياتٍ خلَتْ من تلاوةٍ *** ومَنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ

أرى فيأهم في غيرهم متقسِّماً *** وأيديهِمُ من فيئِهم صفِراتِ

فإن اللفظ غير مطابق للواقع لأن منازل أهل البيت كانت تعجُّ بالتلاوة والصلوات لكنها بحسب المعنى كانت مطابقة للواقع.

ص: 461

8- إن المفطرات إنما يترتب عليها الأثر لو كان المكلف ملتفتاً إلى مفطّريتها وأغلب الناس غير ملتفتين إلى مفطّرية القراءة غير الصحيحة للقرآن الكريم اللهم إلا أن يقال إن ذلك في المفطرات المحللة في نفسها لا المحرمة والقراءة غير الصحيحة كذب محرّم، وهذه دعوى تحتاج إلى إثبات.

9- إنه توجد قراءات عديدة للقرآن وقد أفتى الفقهاء بجواز القراءة بجميعها إذا كانت متداولة في زمان المعصومين (عليهم السلام) ولم يعترضوا عليها فتجد للكلمة الواحدة عدة قراءات وهي معروفة لمن اطلع على علوم القرآن ومثب-ّتة في مصاحف كثيرة والمفروض أنها إنما نزلت بقراءة واحدة وهذا الاختلاف إنما نشأ من القرّاء وحينئذٍ يكون ذلك مفطّراً!! بل لا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن نهاراً في شهر رمضان للعلم الإجمالي بأن بعض هذه القراءات ليست من التنزيل فيتولد من أي قراءة شك في المحصّل فعليه الاحتياط بالترك.

10- إن سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وغيره استشكلوا على مفطرية الكذب فيما ((إذا تكلم به غير موجه خطابه إلى أحد ولم يكن هناك منيسمعه، أو كان موجّهاً إلى من لا يفهمه كالحيوان أو الميت، والأظهر الصحة))(1)

فلو فُرضَ صحة المسألة محل البحث فكان ينبغي نصيحة الصائم أن يقرأ القرآن منفرداً من دون أن يستمع إليه أحد.

11- إننا انتهينا في الجهة الأولى من البحث أن القول بمفطرية الكذب على الله تعالى ورسوله مبني على الاحتياط وهو أصل لا يثبت لوازمه فلو ارتكب الصائم الكذب فإنه مخالف لمقتضى الاحتياط لكنه لا يثبت بها القضاء أو الكفارة.

ص: 462


1- منهج الصالحين: ج1، ص244، المسألة 1349.

والنتيجة أنه إذا كانت القراءة غير مخلّة بالمعنى فلا تكون مفطرة خصوصاً مع عدم الالتفات إلى أنها غير صحيحة أو أن القراءة غير الصحيحة من الكذب على الله وعلى رسوله -كما قيل- وكذا لا تكون مفطرة مع عدم قصد الإخبار.

وأستغربُ من تشدد سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) في هذه المسألة بينما هو (قدس سره) لا يرى داعياً للالتزام بقواعد واضحة أو معروفة لتلاوة القرآن حتى على مستوى الاحتياط الاستحبابي مع أن هذا الأمر القراءة متعلق بالصلاة التي تستوجب القراءة الصحيحة أما في مسألتنا فلا نحتاج إلى أزيد من إثبات أن الخطأ في القراءة ليس من الكذب المفطر، قال (قدس سره): ((بل الأمر عند فقهائنا أكثر من ذلك كما سنرى حيث يعتبر من واضحات وأوليات علم التجويد: المنع من الوقف مع الحركة ومن الدرج بالسكون. فإن سكّن الفرد الحرف الأخير وجب عليه الوقف. وإن حرّكه وجب عليه الدرج.

ولا أعهد أحداً من الفقهاء من أفتى بوجوب ذلك بصراحة لوضوح عدم الدليل من الكتاب والسنة عليه، فهم بين محتاط وجوباً ومحتاط استحباباً كما عليه -أعني الاستحباب- بعض أساتذتنا والسيد الأستاذ.

ولا يخفى أن الدليل معهم، فإن السرعة في قراءة القرآن الكريم مفروضة ومنتشرة، كما أن سائر الطبقات ومختلف الثقافات، بل حتى مختلف اللغات من يقرأ القرآن الكريم. وهذا أمر يشكل سيرة قطعية قائمة منذ زمان المعصومين (عليهم السلام) إلى العصر الحاضر، الأمر الذي يبرهن على أن كل التسامحات التي تحدث مع سرعة القراءة أو عدم إتقانها النسبي، مما لا يخل بالمعنى أو بأقل درجات الفصاحة أو لم يكن عمدياً، فهو مسموح به شرعاً.

ص: 463

وبدلاً من أن نتوقع النهي عن هذه السيرة فإننا نرى العشرات من الروايات الدالة على الإكثار من قراءة القرآن وتكراره الأمر الذي يشكل إمضاءً لتلك السيرة لا نهياً عنها.

ومن الواضح أن أكثر قواعد التجويد عدداً بل أكثرها وضوحاً مما لا يلتزم به الناس في القراءة البطيئة فضلاً عن السريعة، الأمر الذي يجعل الاحتياط الوجوبي بالنسبة إليها أمراً متعذراً، فضلاً عن الفتوى بالوجوب.وأما الوجه في الاحتياط الاستحبابي؛ فليس إلا توخّي عدم مضادة قول من يرى الاحتياط الوجوبي))(1).

وليته (قدس سره) قال مثل هذا الكلام في مسألتنا حتى لا يسيء مقلدوه فهم الفتوى فيعرضوا عن قراءة القرآن في شهر رمضان.

إن قلتَ: إن ما قاله السيد الشهيد الصدر (قدس سره) إنما يخصّ قواعد تلاوة القرآن ومسألتنا في قراءته وبينهما فرق فلا يقاس عليه إذ أن التلاوة غير الملتزمة بقواعدها لا تغيّر المعنى كالقراءة المضبوطة.

قلتُ:-

1- إن قواعد تلاوة القرآن تتضمن قواعد القراءة فلا تلاوة صحيحة بدون قراءة صحيحة.

2- إننا تمسكنا بعموم التعليل الوارد في كلامه (قدس سره) الشامل لما نحن فيه لوحدة المناط فيهما.

3- إن من التلاوة غير المضبوطة ما يغيّر المعنى كما لو قال (لا إله) وسكت ولم يقل (إلا الله) فقد ورد في مثل هذه الكلمة أن أوّلها كفر وآخرها إيمان.

ص: 464


1- ما وراء الفقه: 1/299.

المسألة في المصادر

وفي حدود المصادر التي راجعتها لم أجد من تعرّض للمسألة إلا المرحوم السيد محمد الشيرازي (قدس سره) حيث نقل هذا الإشكال من دون ذكر صاحبه فقال (قدس سره): ((ثم إنه ربما أشكل بعض في قراءة القرآن لحناً، وكذلك الأدعية والأخبار الواردة عنهم (عليهم السلام)، لأنه إسناد والحال إن الآية مثلاً لم ينزلها الله سبحانه، كما يقرأ هذا اللاحن، ولذا أُشكل في ذلك في غير شهر رمضان واحتمل البطلان في شهر رمضان، قال: بل ربما قرأ القارئ اللاحن كفراً كما لو قرأ بصيغة الخطاب في دعاء كميل (وتجرأتَ بِجهلِكَ)(1) وهكذا.

أقول: والظاهر انصراف الكذب والكفر والافتراء عن مثل ذلك، خصوصاً واللغة الفصحى إنما هي نادرة المثال منذ أول الإسلام والذي لا يلحن أندر من النادر، ولذا ورد أن الرجل الأعجمي في الأمة إذا قرأ القرآن رفعته الملائكة عربياً كما سبق في بحث القراءة، بل تكليف العامة بالصحة من أصعب التكاليف، ولذا ذهب جمع كبير منالفقهاء إلى عدم الإشكال في القراءات الملحونة لحناً لا يخرجها عن الصورة العرفية))(2).

ص: 465


1- هكذا ورد في المصدر، والأصل (وتَجَرّأتُ بِجَهلي) ونحن لا نقصد مثل هذا التغيير.
2- الفقه: 34/206.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.