فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية : كتاب الصلاة المجلد 2

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء الثاني

كتاب الصلاة

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية-مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف- 1441 ه-/2020م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

البحث الأول: كيفية تحديد الفجر في المناطق التي لا يتميز فيها

اشارة

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الأول:كيفية تحديد الفجر في المناطق التي لا يتميز فيها

البحث الأول:كيفية تحديد الفجر في المناطق التي لا يتميز فيها(1)

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله وصلى الله على سيد خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وصلني عبر البريد الالكتروني من بعض إخواننا العراقيين المؤمنين في السويد سؤال عن كيفية تحديد الفجر عندهم في الصيف حيث يقصر الليل ليصل إلى ثلاث ساعات فقط، أو أقلّ يكون الليل خلالها عبارة عن لون فاتح شبيه بلون الفجر ويبقى هكذا حتى طلوع الشمس.

وقال إن لديهم مركزاً إسلامياً شيعياً أصدر مواقيت للصلاة وفي الصيف يحتاطون بصلاة الفجر قبيل طلوع الشمس بنصف ساعة.

وهو يسأل عن صحة هذا التوقيت وإمكانية تحديد الفجر بالدقة ليتسنى تحصيل فضيلة صلاة الصبح وتحديد منتصف الليل لأداء صلاة الليل باعتبار أن الليل من المغرب إلى الفجر ولتعيين وقت الإمساك المطابق لطلوع الفجر.

وقد استدعى سؤاله معلومات في ذهني اطلعتُ عليها قبل عدة سنوات في حياة سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حين طبع الترجمة العربية لكتاب (المواقيت الإسلامية) للبروفيسور الماليزي محمد إلياس وقدّم له السيد الشهيد الصدر (قدس سره) الذي ذكر عدة مشاكل يواجهها المسلمون في مناطق متعددة من العالم تتطلب حلولاً من الفقهاء، وأكد السيد الشهيد الصدر (قدس سره) أهمية مثل هذه البحوث بقوله في المقدمة: ((والمشكلة الأكثر إلحاحاً في عالم اليوم بالنسبة إلى أوقات الصلاة هي ما يعانيه أهل البلدان الشمالية في الكرة الأرضية، وكلها الآن مسكونة من قبل جاليات إسلامية كبيرة من مختلف المذاهب والمشارب، وكلهم محتاجون إلى تعيين أوقات الصلاة ولا

ص: 7


1- بدأ إلقاء البحث يوم 13/ ربيع الأول/1428 المصادف 2/4/2007.

يوجد هناك (مرشد عام) يمكن التعويل عليه، كما لا يمكن الفتوى بترك الصلاة والعبادة!! في مثل تلك المناطق من العالم، مثل السويد والنرويج وفلندا وشمال إنجلترا وكندا والاسكا وجرينيلاند وشمال ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي وغيرها))(1).

والمشكلة تنشأ من قصر الليل بحيث تتصل الحمرة الممتدة بعد الغروب بالحمرة المنتشرة قبل الشروق فلا يتميز الفجر.

والسؤال الذي أثاره المرسل لا يختص بالسويد فإنه ((يُلاحظ خلال الأشهر مايس وحزيران وتموز في الأقطار التي تقع فوق خط 48.5 ْ أي ما بين خطي 50 ْْ – 60 ْ (بضمنها المملكة المتحدة) عدم ظهور الفجر الصادق على الأفقوالذي تعتمد عليه بداية وقت صلاة الفجر بصورة كلية حسب الشريعة الإسلامية))(2).

وقد نقل هذا الكتاب الحلول الشرعية المقترحة لتحديد الفجر في مثل هذه المناطق وقال: ((وقد قام العلماء المهتمون بهذه المشكلة بكل جديّة وإخلاص بإجراء البحوث والاستكشافات الخاصة بهذا المجال وقد خلصوا بأربعة بدائل يمكن اتباعها بسهولة واطمئنان وورع كلي! وهي كالآتي:-

1- منهج الأيام المتقاربة: وفي هذا المنهج يمكن التأكد فيه من الفجر الصادق بالرجوع إلى الأيام التي تسبق مباشرة الأيام التي تختفي فيها علامات الفجر الصادق عند الأفق، أي أنه إذا بدأ الفجر الصادق بالاختفاء في 13 مايس فيكون بداية الفجر الصادق هي نفسها في يوم 12 مايس إلى أن يبدأ بالظهور حقيقة بعد نهاية شهر تموز.

2- منهج تنصيف الليل: وتبعاً لذلك المنهج، يقسّم الليل إلى قسمين متساويين ويعتبر القسم الأول على أنه وقت ليل، أما القسم الآخر فيعتبر على أنه فجر حتى تطلع الشمس ويتم تحديد وقت صلاة الصبح والسحور تبعاً لذلك.

ص: 8


1- المواقيت الإسلامية لمحمد إلياس، الصفحة (ي) من المقدمة.
2- المواقيت الإسلامية لمحمد إلياس ص61 من الترجمة العربية.

3- منهج البلدان القريبة: ونحتاج أن نعرف بدقة -في هذا المنهج- مقدار الفترة الزمنية بين الفجر الصادق وشروق الشمس في أقرب الأقطار المجاورة، حيث بالإمكان استخدام هذا الوقت كمقياس لتحديد وقتي الصبح والسحور.

4- منهج أقسام الليل السبعة: يعتبر هذا المنهج مناسباً جداً وسهل التكيّف لهذا الغرض وتبعاً لهذا المنهج يجب تقسيم الفترة ما بين غروب الشمس الحقيقي وشروقها إلى سبعة أجزاء متساوية على اعتبار أن الأجزاء الستة الأولى داخلة ضمن وقت الليل والجزء السابع والأخير يمكن اعتباره كفترة الفجر الصادق، ويحدد وقت صلاة الصبح والسحر على هذا الأساس))(1).

ثم قال: ((ولأجل إزالة الارباك المتسبب عن استخدام المناهج الأربعة في وقت واحد (باستخدامها وفق الأهواء الشخصية) وخلال اجتماع العلماء عام 1982 فقد تم اختيار المنهج الرابع بالنسبة للملكة المتحدة)).

وقال: ((ومن أجل المحافظة على وحدة الكلمة للأمة الإسلامية، فقد تم إقامة اجتماع مهم جداً ضم العديد من المدرسين والعلماء بمختلف الطوائف في ديوسبري/ يوركشاير في 9 حزيران 1982 وبعد تبادل وجهات النظر قرّروا بالإجماع تبني المنهج الرابع (تقسيم الليل إلى سبعة اجزاء) وتم التوقيع من قبل جميع الحضور على الموافقة في الحال، لكن بعض العلماء قرر عدم التمسك بهذا القرار في السنة اللاحقة أي عام 1983)).

ولعل ما نقله السائل عن المركز الإسلامي الشيعي من تحديد طول الفجر بنصف ساعة من أصل ثلاث ساعات أو أقل مبني على هذه النسبة حيث اختاروا سدس المدة الزمنية ونحوها.

وقد ذكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) عدة معالجات لمثل هذه المشاكل كأطروحات وأجاب عنها، وقال (قدس سره) إنها بالنسبة للّيل الطويل

ص: 9


1- المواقيت الإسلامية، محمد إلياس ص61-62، وقد نقل عن كتيب بالإنكليزية عن الصبح الصادق وصلاة الفجر صدر في بولتون عام 1985.

والنهار الطويلوهي كما سترى تخص الطويل منها بحيث ينعدم الآخر أو يكاد كما في القطبين، لذلك فقد أشار إليها في فصل (أوقات القطبين) في كتاب ما وراء الفقه(1).

وقال (قدس سره) إن للفقهاء بمختلف مذاهبهم عدة أطروحات محتملة بهذا الصدد ومنها(2):

((الأولى: سقوط الصلاة والصوم باعتبار أنها إنما تجب عند حصول أوقاتها فإذا لم تحصل لم تجب.

إلا أن هذا غير ممكن شرعاً، بل لعله على خلاف ضرورة الدين لأننا بذلك نكون قد تركنا أهم عبادتين في الإسلام)).

أقول: إن عدم تحصيل أوقات الصلاة المفروضة لا يلزم منه سقوط وجوبها أصلاً لأن وجوبها مأخوذ على نحو تعدد المطلوب فإذا سقط وجوبها المشروط بالأوقات بقي وجوبها الإجمالي وهي خمس صلوات في اليوم بغضِّ النظر عن الأوقات.

((الثانية: تطبيق الصلاة على أقرب المناطق التي تتميز فيها الأوقات)).

وأجاب عنه (قدس سره) بأنه يواجه صعوبة وصول أخبار تلك المناطق في زمن دخول وخروج الأوقات ويرد عليه أنها مشكلة لوجستية- بحسب التعبير اليوم- وليست شرعية ومحلولة بأجهزة الاتصالات المتقدمة حالياً.

((الثالثة: تطبيق الصلاة على الأوقات الموجودة في البلد الرئيسي الذي كان يسكنه الفرد في العالم، فلو كان من باكستان طبق صلاته على وقتها ولو كان من مصر طبق صلاته على وقتها وهكذا)).

وردّ (قدس سره) على هذه الأطروحة بصعوبات عديدة:

((منها: صعوبة الاتصال اليومي المستمر.

ومنها: أن الفرد قد يكون له بلد معين غير تلك المنطقة التي هو فيها كما لو كان أهله قاطنين فيها من زمن بعيد.

ص: 10


1- ما وراء الفقه: 1/447، ط. إيران.
2- مقدمة الترجمة العربية لكتاب المواقيت الإسلامية، الصفحة (ه- ي).

ومنها: أن الأفراد قد يكونون مجتمعين هناك من بلدان مختلفة من العالم، فتختلف وتتشوش أوقات صلاتهم وصومهم إلى درجة مزعجة ملفتة للنظر، وليس المفروض في المجتمع المسلم الواحد حصول مثل ذلك التشوش)).

وقد ذكرنا الرد على مثل الأول سابقاً.

أما الآخران فهما صحيحان إلا أن التعليل بعدم وجود المقتضي أولى من التعليل بوجود المانع، إذ لا يوجد دليل على هاتين الأطروحتين.

نعم يمكن تقريب الاستدلال بالاستصحاب على الأخيرة وكذا على التي قبلها إذا افترضنا أنها منطقة سكناه قبل انتقاله إلى هذه، ويرد عليه:

أولاً: إنه مقطوع بالأيام التي تتضح فيها الأوقات.

وثانياً: إنه من استصحاب الكلي من القسم الثالث وهو غير جارٍ لأن موضوع الحالة اللاحقة (وهي مناطق شمال خط 48.5 ْ) غير موضوع الحالة السابقة (وهي مناطقهم الأصلية)، بل الدليل على عدمه لأن من الثابت أن مواقيت الصلاة إنما تلاحظ بالنسبة لمكان المصلي، وفي خبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول: (صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصليالمغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قومٍ آخرين بعد، فقلت: إنما علينا أن نصلي إذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا، وليس علينا إلا ذلك، وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم)(1).

((الرابعة: أن يطبق المكلفون الصلاة والصوم على أيام مكة المكرمة بصفتها البلد الرئيسي في الإسلام)) وأجاب (قدس سره): ((إلا أن هذا مما لا دليل عليه وأهمية تلك المنطقة في الدين صحيحة أكيداً إلا أنها لا تقتضي تطبيق أوقات الصلاة عليها)).

((الخامسة: أن يطبق صلاته وصيامه على المناطق المعتدلة أي مدار السرطان القريب من أوقات مكة المكرمة)).

ص: 11


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 16، ح22.

ويرد عليها نفس ما ورد على السابقة.

((السادسة: تقسيم وقت الساعة إلى أربعة أقسام فيصلي الظهر بعد الثانية عشرة للنهار الذي يكون على خط طوله، والمغرب والعشاء على الثانية عشرة الأخرى ويصلي الصبح عند السادسة)).

وأجاب (قدس سره): ((وهذا مجرد اقتراح لا يوجد عليه أي دليل شرعي)).

((السابعة: حرمة الذهاب إلى منطقة من هذا القبيل مع الاختيار إلا مع الإكراه من قبل متسلط ظالم، أو أمر من إمام عادل)).

ورد عليه بعدة أمور:-

((1- إن هذه الحرمة مما لا دليل على ثبوتها، فتكون مورداً لجريان أصالة البراءة لا محالة. وخاصة إذا التفتنا إلى ما هو ثابت فقهياً من عدم وجوب إحراز الموضوع. مع العلم أن الكون في بلد اعتيادي لأوقات الصلاة هو من قبيل إحراز الموضوع، فلا يكون الوجود فيه واجباً، ولا الخروج عنه محرماً.

2- إن الفرد قد يكون ساكناً هناك أساساً، ويتعذر عليه الخروج، في حدود إمكانياته الشخصية.

3- إن حرمة الذهاب إنما تتسجل احياناً مع لزوم ترك العبادات في تلك المناطق، وأما مع إمكان تطبيقها، ولو طبقاً لبعض الأطروحات الأخرى فلا إشكال)).

ثم لخص (قدس سره) النتيجة بأن أغلب هذه الأطروحات بل الكل مما يواجه بعض الصعوبات ولكن الأحوط هي الأخيرة ولو باعتبار حرمة ما يسمى بالمقدمات المفوّتة ولا شك في أنَّ الكون في البلاد الاعتيادية أحوط من هذه النواحي الشرعية وأكثر فراغاً للذمة. ومنه يتضح الرد على الوجه الأول الذي قاله (قدس سره) لأن في الذهاب إلى بلد لا تتميز فيه الأوقات تضييعاً للواجب وهو محرم لأنه من المقدمات المفوتة وكان (قدس سره) لا يلتزم بوجوب مثل هذه المقدمات لعدم فعلية وجوب ذي المقدمة ثم التزم بها حينما بحثها في درس الأصول.

ص: 12

قال (قدس سره): ((وإذا كان للفرد بلد رئيسي في المناطق الاعتيادية عمل على وقت ذلك البلد، وكان ملزماً بتحصيل الاطمئنان لحصول الأوقات فيه.

وإذا لم يكن له بلد رئيسي أمكن العمل على تقسيم الساعة الذي ذكرناه في الأطروحة السادسة، وإذا لم يستطع ذلك عمل على وقت مكة المكرمة أو مدارالسرطان الذين هما متساويان تقريباً))(1).

وهذه النتائج منه (قدس سره) لا يمكن المصير إليها بأي حال من الأحوال بعدما تقدّم من عدم الدليل على أي منها سوى بعض الحالات التي سنشير إليها في نهاية البحث بإذن الله تعالى.

وعلى أية حال فإن أغلب هذه الأطروحات لمعالجة مشاكل البلدان التي لا تتحقق فيها الأوقات الشرعية للصلوات فهي لا ترتبط بمسألتنا التي يفترض فيها وجود هذه الأوقات لكن المشكلة في كيفية تحديدها. وإنما ذكرناها لإمكان الاستفادة من بعضها كحلول محتملة في المسألة التي نحن بصددها.

وقد ذكر حلاً لمورد مسألتنا بعد ذلك بقوله (قدس سره):

((أما إذا كان الليل قصيراً جداً بحيث تغرب الشمس قليلاً ثم تشرق بعد نصف ساعة مثلاً، بحيث تختلط الحمرة المغربية لليوم السابق بالحمرة المشرقية لليوم اللاحق، ومن ثم يبقى الأفق في حمرة مستمرة من قبل هذا الغروب إلى الشروق. أو قل خلال هذا الليل القصير كله، ومن ثم لم يتميز الفجر بوضوح.

إلا أنه من الممكن القول تماماً، بأن الشمس إذا بلغت غاية بعدها من الأفق في الغروب، ثم بدأت بالصعود التدريجي، فذلك البدء بالصعود هو الفجر بلا شك، لأن مدة ما بين الطلوعين في البلاد الاعتيادية أكثر من ذلك أكيداً.

فإن قلتَ: إنه نصف الليل.

قلنا: نعم، ولكنه فجر في نفس الوقت، وقد اجتمع الأمران باعتبار قصر الليل لا أكثر ولا أقل.

ص: 13


1- من مقدمة السيد الشهيد الصدر (قدس سره) لكتاب المواقيت الإسلامية لمحمد إلياس الصفحة (ه- ي- ز ي).

ومن ثم يمكن للمكلف أن يحسب بالساعة أو بأية طريقة مقدار نصف مدة الليل، ويعتبر ما بعدها فجراً، في كل البلاد أو الزمان الذي تستمر فيه الحمرة طول الليل القصير.

أما إذا زالت الحمرة لبقاء الليل فترة أطول، فهذا معناه أن الفجر سيتأخر عن نصف الليل بمقدار ما))(1).

وملخص كلامه (قدس سره) ببيانٍ منا: إن لهاتين الحمرتين حالات:

الأولى: إنهما تكونان متداخلتين ولا تتميزان لقصر الليل فالفجر منتصف الوقت.

الثانية: إن الحمرتين تتميزان حيث تضعف الأولى تدريجياً إلى نقطة ثم تبدأ بالازدياد إلى حين الشروق فالفجر هي نقطة التغيّر هذه.

الثالثة: إن الحمرة تزول ثم بعد وقت يبدأ الضوء بالظهور تدريجياً وهذه هي الحالة في البلدان الاعتيادية ويكون الفجر عند ظهور الضوء.

وله (قدس سره) مبنى آخر ورد في كتاب (ما وراء الفقه) الذي سبق تأليفه كتابة مقدمة (المواقيت الإسلامية) بعشر سنوات تقريباً حيث ذكر (قدس سره) فيه أن الفجر أي (فترة ما بين الطلوعين) جزء من الليل وتحدّد كنسبة منه وقال (قدس سره): ((إن نسبتها إلى الليل أو النهار لم يتيسّر، وإن كان بحسب الظن أنها عشر مدة الليل)) ونقل عن أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في بعض فتاواه أنه قال: (إنها سبعالليل)(2).

أقول: يبدو أن كلاً منهما قد لاحظ النسبة في يومٍ ما من السنة ثم عمّمها إلى كل الأيام بضميمة ارتكاز لديهما أن نسبة طول الفجر إلى طول الليل ثابتة في كل أيام السنة.

ويوجد هذا المعنى في كلمات السيد الخوئي (قدس سره) فقد نقل رواية محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أول وقت ركعتي

ص: 14


1- من مقدمته (قدس سره) لكتاب (المواقيت الإسلامية) الصفحة (زي).
2- ما وراء الفقه : 1/215.

الفجر، فقال: سدس الليل الباقي)(1)

وعلّق (قدس سره) عليها بقوله: ((فإن السدس الباقي ينطبق على ما بين الطلوعين مع شيء قليل قبله، بناءً على ما هو الصواب من أن الليل اسم لما بين غروب الشمس وطلوعها))(2)

إلا أنه (قدس سره) ضعّفها بمحمد بن حمزة بن بيض فلا تصلح إلا للتأييد.

وعزّز هذا الرأي بقوله (قدس سره): ((وإن هذه الفترة تطول بطول الليل وتقصر بقصره)).

وردَّ على المشهور لدى الناس والمعتمد في مواقيت الصلاة عند غير أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من أنَّ مدتها ساعة ونصف تماماً على طول أيام السنة وقال (قدس سره): ((إلا أن المطمأن به كذب هذه الشهرة، وتتراوح بحوالي ساعة وعشرين دقيقة إلى ساعة وخمس وأربعين دقيقة. وضبط مدتها طيلة أيام السنة لم يتيسر)).

وكان (قدس سره) قبل ذلك قد أشار إلى وجود خلاف في كون الفترة من الليل أو من النهار أو ليست منهما وأشار إلى وجود رواية أنها ساعة ليست من الليل ولا من النهار، إلا أنه (قدس سره) رجّح من الناحية الفقهية المستفادة من السنة الشريفة أن تكون من النهار وليست من الليل لوجهين:-

1- إن وجوب الصوم يبدأ من الفجر، والصوم إنما يكون في النهار، ولا يجوز إلحاق أي جزء من الليل به.

2- إن القرآن الكريم وصفه بالصبح في قوله تعالى: «وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ» (التكوير:18).

انتهى كلامه (قدس سره).

وقد نسب السيد الحكيم (قدس سره) القول بأن هذه الفترة من النهار إلى أكثر أهل اللغة والمفسرين والفقهاء والمحدثين والحكماء والإلهيين والرياضيين(3).

ويبدو أن هذا المعنى كان مرتكزاً في أذهان البعض في زمان الأئمة

ص: 15


1- وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، باب50، ح5.
2- شرح العروة الوثقى: 11/255.
3- مستمسك العروة الوثقى: 5/83.

(عليهم السلام) كما يظهر من سؤال يحيى بن أكثم القاضي لأبي الحسن الأول (عليه السلام) حين سأله عن صلاة الفجر لِمَ يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار وإنما يجهر في صلاة الليل؟ فقال (عليه السلام): (لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يغلسبها لقربها للّيل)(1).

ثم قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) ولا يترتب أثر فقهي على أنها من الناحية العرفية هل هي ليل أو نهار، ولعله (قدس سره) يقصد بالناحية العرفية أي الخارجية وهي ليست مهمة بعد أن استدل من الناحية الشرعية على أنها من النهار.

وفي كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:

الأول: إن قوله (قدس سره) إن هذه الفترة تطول بطول الليل وتقصر بقصره مخالف للواقع بوضوح ومن حسن الصدف أنني أكتب هذه الكلمات في زمن الانقلاب الصيفي (21/6) حيث يكون أقصر ليل (سبع ساعات وخمس وخمسين دقيقة) وأطول فجر (ساعة و45 دقيقة) فهو لا يطول بطول الليل ولا يقصر بقصره وبالتالي فلا يصح تحديده كنسبة ثابتة من الليل.

وقد أجريتُ تحليلاً إحصائياً ورياضياً على نقاط مختارة من السنة في بلدنا وظهر أن الفجر لا يطول بطول الليل ولا يقصر بقصره وكذا لا يطول بطول النهار ولا يقصر بقصره أي غير مرتبط بحركتهما بالضبط فقد يطول بطولهما وقد يقصر (لاحظ الأشكال المجاورة)(2).

ص: 16


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب25، ح3.
2- وهي مأخوذة من كتاب (الرياضيات للفقيه).

صورة

ص: 17

صورة

ص: 18

ومن النتائج التي يمكن قراءتها من المخططات أن طول الفجر يتأثر مباشرة بالفرق بين الليل والنهار ففي انقلاب الفصل إلى الربيع والخريف حيث يتساوى الليل والنهار (بإدخال الفجر ضمن الليل تكوينياً كما سيأتي بإذن الله تعالى) والفرق بينهما(صفر) يكون أقصر فجر وفي انقلاب الفصل إلى الصيف حيث أطول فرق بينهما يكون أطول فجر(1).

وإذا جرينا مع سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) في تفريع قوله: ((وإن هذه الفترة تطول بطول الليل وتقصر بقصره)) على جعل هذه الفترة مساوية لنسبة ثابتة من الليل، ولما لم تثبت هذه النسبة لا بلحاظ الليل ولا بلحاظ النهار فإن الفجر سوف لا يكون من الليل ولا من النهار وهذا ما ينسجم مع عدة روايات سنذكرها إن شاء الله تعالى.

الثاني: إن ما استدل به (قدس سره) -من كون الفجر جزءاً من النهار شرعاً إذا أراد بالنهار الفترة ما بين طلوع الشمس إلى غروبها- غير تام.

أما ابتداء الصوم منه فإنه لا يعني أنه جزء من النهار لأن الصوم مرتبط باليوم وليس بالنهار قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيّاماً مَعدُودَاتٍ..» وقال تعالى: «..فَمَنْ كانَ منكُم مَريضاً أو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر» (البقرة:183-184)، ويوجد فرق في المعنى اللغوي بين اليوم والنهار.

فهذا حكم تعبدي كدخول بعض الوقت في وقت صلاة المغرب مما بعد سقوط القرص حتى ذهاب الحمرة المشرقية، والاعتماد عليه للخروج بهذه النتيجة العامة استقراء ناقص فينقض بأن وقت صلاة الظهر الذي هو عند الزوال وهو منتصف النهار يحتسب ما بين طلوع الشمس إلى الغروب ولا يدخل فيه الفجر ولو كان منه لَحُسِب.

وأما الاستدلال بتنفس الصبح فإنه مردود بأن اعتباره صبحاً بلحاظ انحسار الظلام لا بكونه نهاراً مضيئاً فعلاً حتى يلحق بالنهار وقد ورد في كلماته (قدس سره) قوله: ((بياض الفجر في الأفق وإن شُبِّه بالبياض الحقيقي، ولكنه

ص: 19


1- الرياضيات للفقيه، طبعة النجف، ص252.

على أي حال من الناحية الواقعية هو قلة في الظلام وليس نوراً متكاملاً فهو أشبه بزرقة السماء إلى أي شيء آخر. ولكنه في وسط سواد السماء بجميع أطرافها يراه الفرد وكأنه أبيض حقيقي))(1).

وإذا صحّ إلحاق الفترة بالنهار لوجود هذا البياض فيقتضي إلحاق ما بعد سقوط القرص في الغروب به أيضاً ولا يقول به أحد.

الثالث: تقليله (قدس سره) من أهمية معرفة كون الفجر من الليل أو من النهار المرادف لليوم من وجهة نظره رغم دخولها في مسائل عديدة كالتي نحن بصددها.

((إن تحديد كون الفترة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس هل من الليل أو من النهار بحث مهم لمعرفة مبدأ النهار أو اليوم بناءً على ترادفهما ومنتهى الليل وحدّهما بحساب الساعة وهي الطريقة الأسهل مع قطع النظر عن الطرق الطبيعية للمعرفة كعبور الشمس عن دائرة نصف النهار لمعرفة الزوال أو حساب حركة الظل ونحوها فإنه يندر وجود من يعرف ذلك اليوم وتصعب متابعتها. حيث تتوقف على ذلك أحكام عديدة، فموعد صلاة الظهر منتصف النهار وانتهاء صلاة المغرب عند منتصف الليللغير المضطر- على قول- وأقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام وكذا أكثر النفاس، ومنتصف الليل له دخل في بعض المناسك في منى، ولمنتصف النهار دخل في أحكام غسل الجمعة وخيار المجلس ثلاثة أيام وأقل الاعتكاف ثلاثة أيام ومدة الإقامة للمسافر حتى يتم الصلاة عشرة أيام، وصلاة الليل تبدأ بمنتصف الليل وكثير من المناسبات الدينية والزيارات تتعلق بالأيام والليالي ففي كل ذلك من أي حد يبدأ النهار أو اليوم وفي أي حد ينتهي الليل؟ وهل منتصف الليل ما بين المغرب وطلوع الفجر- لو لم تكن فترة ما بين الطلوعين منه- أو ما بين المغرب وطلوع الشمس- لو كانت تلك الفترة منه-؟ أو إذا كانت من النهار فلماذا لا يكون منتصفه بين طلوع الفجر والمغرب لا طلوع الشمس والمغرب))(2).

ص: 20


1- ما وراء الفقه، مج1 ص211.
2- الرياضيات للفقيه، طبعة النجف، ص247.

التحقيق في المسألة

إن الفترة ما بين الطلوعين هي من الناحية التكوينية جزء من الليل وامتداد له أما ظهور البياض فيها فهو لا يعبر عن ظاهرة فلكية كالشروق والغروب وإنما هو انحسار في ظلمة الليل بسبب قرب مواجهة هذه النقطة للشمس التي تحصل بالدقة عند الشروق.

وهذا الانحسار التدريجي للظلمة هو كالانحسار التدريجي للضوء بعد غروب الشمس حتى تذهب الحمرة المغربية بعد أكثر من ساعة من سقوط القرص فكما لا يعني هذا اجتزاءً من أول الليل فكذا لا يعني الفجر اجتزاءً من آخر الليل.

أما من الناحية التشريعية فقد لاحظ الشارع المقدس بدء النشاط اليومي للناس مع انبلاج الفجر وظهور الضوء - أو انحسار الظلمة كما قلنا- فأعطى خصوصية لهذه الفترة ورتب لها أحكاماً كوجوب صلاة الصبح وكراهية النوم والإمساك عن المفطرات للصائم ونحوها.

فهي تمثل بداية اليوم شرعاً ونهاية الليل أما النهار فهو باقٍ على حاله يمتد من شروق الشمس إلى غروبها.

وقد دلت على هذا التقسيم الثلاثي رواية(1)

عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة، لا تفوت صلاة النهار حتى تغيب الشمس ولا صلاة الليل حتى يطلع الفجر، ولا صلاة الفجر حتى تطلع الشمس)(2)ويؤيدها غيرها(3)

فما بين الطلوعين ليس من الليل ولا من النهار شرعاً.

ص: 21


1- وصفها السيد صاحب الرياض بالموثقة (رياض المسائل: 2/176) لوجود أحمد بن الحسن بن علي بن فضال لكن فيها علي بن يعقوب الهاشمي الذي روى كتاب مروان بن مسلم ولم يرد فيه توثيق وإن لم يرد فيه تضعيف.
2- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 10، ح9 وأرسل الصدوق عن زرارة نحوه في باب 4، ح3..
3- كمعتبرة زرارة في الوسائل، أبواب المواقيت، باب 10، ح3.

تقريب آخر لهذه النتيجة

ويمكن تقريب كون فترة ما بين الطلوعين ليست من النهار ولا من الليل بأن يقال:

إنها ليست من النهار لورود روايات معتبرة تطبق الزوال على منتصف النهار ولا يتحقق ذلك إلا بكون مبدأ النهار طلوع الشمس ومنتهاها غروبها ومنها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سأل عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم، قال: فقال: إن خرج من قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقضِ ذلك اليوم، وإن خرج عند الزوال فليتم يومه)(1)

وصحيحة زرارة التي ورد فيها: (وقال تعالى: «حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى» وهي صلاة الظهر وهي أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي وسط النهار)(2)

ولا يضر ما ورد بعد ذاك من قوله (عليه السلام): (ووسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر) لاحتمال أن الكلمة الأصلية (باليوم) لا (بالنهار) لبعد تكرار التعليل بالنهار مرتين وإذا كان هذا الاحتمال وارداً فإنه ينطبق على مختارنا الآتي.

وقد دفع السيد الخوئي (قدس سره) هذا الإشكال بنحو آخر حاصله ((ابتناء الإطلاق المزبور على ضرب من التوسع والتجوز بعلاقة المجاورة والمشارفة نظراً إلى امتداد الوقت إلى طلوع الشمس وجواز الإتيان بها قبيل الشروق، بل لعله هو الغالب لعامة الناس فمن ثم صح إطلاق صلاة النهار عليها وإن لم تكن منها حقيقة))(3)

وهو بعيد أولاً لأن الإمام (عليه السلام) بصدد التحديد وليس التقريب، وثانياً لأنه لو كان كلامه (عليه السلام) على نحو التقريب لكان الأولى به أن يقرب الزوال- الذي هو منتصف الوقت بين طلوع الشمس وغروبها- على منتصف النهار - الذي هو منتصف الوقت بين طلوع

ص: 22


1- وسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5، ح2.
2- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب2 ، ح1.
3- شرح العروة الوثقى: 11/196.

الفجر وغروب الشمس- على القول الآخر ووجه الأولوية أن هذا الوقت نصف ذاك.

ويمكن استفادة أن الفجر ليس من النهار من طائفة من الروايات كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (قال: كان علي (عليه السلام) لا يصلي من الليل شيئاً إذا صلى العتمة حتى ينتصف الليل، ولا يصلي من النهار شيئاً حتى تزولالشمس)(1)

ونحوها فإنها ظاهرة في أن الفجر ليس من النهار وإلا لاستثنى صلاته كما استثنى صلاة العشاء في صدر الحديث الشريف.

وأنها ليست من الليل لاستفادة ذلك من كثير من الآيات والروايات ذكر كثيراً منها صاحب الجواهر والمجلسي في البحار (المجلد 80) ومنها قوله تعالى: «سَلامٌ هِيَ حَتى مَطلَعِ الفَجرِ» (القدر:5) إذ الظاهر ظهور (حتى) في أن ما بعده غاية للموضوع فتدل على انتهاء ليلة القدر بطلوع الفجر ((واحتمال جعل الغاية تقييداً لإخراج بعض الليلة لا ينبغي أن يُصغى إليه))(2)

وبمقتضى المقابلة في قوله تعالى: «وَاللَيلِ إذ أَدبَرَ، والصُبحِ إذَا أَسفَرَ» (المدثر:33-34) وقوله تعالى: «وَاللَيلِ إذَا عَسعَسَ، والصُبحِ إذا تَنَفَّسَ» (التكوير:17-18) ومثل قوله تعالى: «وَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلُوعِ الشَمسِ وَقَبلَ الغُرُوبِ، وَمِنَ اللَيلِ فَسَبِّحهُ» (ق:37-40) ((لظهوره بمقتضى المقابلة في أن التسبيح قبل الطلوع- المراد به صلاة الفجر- واقع في غير الليل))(3).

إلا أن السيد الخوئي (قدس سره) وصف كل تلك الآيات بأنها ((قاصرة الدلالة)) ويعني الدلالة على كون الفجر خارج الليل. وهو بعيد عن الظاهر لمن تأمل بموضوعية.

ومع ذلك نضيف له (قدس سره) وجهاً آخر لعدم كون الفترة من الليل فإن الصلوات الليلية سواء كانت واجبة كالعشائين للمضطر أو مستحبة تنتهي بطلوع الفجر لانتفاء موضوعها وهو الليل وهذا متسالم عليه، دلت على الثاني

ص: 23


1- وسائل الشيعة: أبواب المواقيت، الباب 36، ح6.
2- جواهر الكلام: 7/220- 226.
3- مستند العروة الوثقى: 11/193.

روايات معتبرة كثيرة كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يقوم من آخر الليل وهو يخشى أن يفاجئه الصبح يبدأ بالوتر أو يصلي الصبح على وجهها حتى يكون الوتر آخر ذلك؟ قال: بل يبدأ بالوتر، وقال: أنا كنت فاعلاً ذلك)(1)

وصحيحة إسماعيل بن جابر قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أوتر بعدما يطلع الفجر؟ قال: لا)(2)

وصحيحة جميل بن دراج قال: (سألت أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن قضاء صلاة الليل بعد الفجر إلى طلوع الشمس فقال: نعم)(3)

فقد أقرّ الإمام (عليه السلام) السائل بانتهاء وقتها عند الفجر وإتيانها قضاءً ودلت على الأول صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إن نام رجل ولم يصلّ صلاة المغرب والعشاء أو نسي، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلهما، وإن خشي أن تفوتهإحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة)(4)

ورواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصل الظهر والعصر، وإن طهرت من آخر الليل فلتصل المغرب والعشاء)(5)

وهم يحددون ذلك بالفجر وقد سلّم السيد الخوئي (قدس سره) هذا وذكر تسالم الأصحاب عليه ((والإجماع القطعي حيث لم ينقل عن أحد امتداد الوقت إلى طلوع الشمس))(6)

إلا أنه (قدس سره) علله بالدليل الخاص وليس لانتفاء موضوع الليل، قال (قدس سره): ((وأما بناءً على ما هو الصواب من إلحاقه- أي الفجر- بالليل وأنه اسم لما بين غروب الشمس وطلوعها فالحكم بانتهاء الوقت بطلوع الفجر يحتاج إلى إقامة الدليل لفرض بقاء الليل إلى طلوع الشمس)) وكلامه (قدس سره) مخالف للظاهر والمتسالم بين الأصحاب من

ص: 24


1- وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، باب 46، ح2.
2- وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، باب 46، ح6.
3- وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، باب 56، ح1.
4- وسائل الشيعة: أبواب المواقيت، باب 62، ح3.
5- وسائل الشيعة: أبواب الحيض، باب 49، ح10.
6- مستند العروة الوثقى: 11/269.

انتفاء الموضوع ولأنه يلزم منه تخصيص الأكثر بل الكل كالصلوات الواجبة والمندوبة وكإباحة المفطرات. ولأن الروايات المعتبرة ما تقدم منها وما لم يذكر وصفت هذا الوقت المنتهي بالفجر بأنه آخر الليل.

ص: 25

روايات مؤيدة

الأولى: رواية عمر بن أبان الثقفي قال: (سأل النصراني الشامي الباقر (عليه السلام) عن ساعة ما هي من الليل ولا هي من النهار، أي ساعة هي؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس)(1).

الثانية: رواية أبي هاشم الخادم قال: (قلت لأبي الحسن الماضي عليه السلام: لمَ جعلت صلاة الفريضة والسنة خمسين ركعة لا يزاد فيها ولا يُنقص منها؟ قال: لأن ساعات الليل اثنتا عشرة ساعة، وفيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ساعة، وساعات النهار اثنتا عشرة ساعة فجعل الله لكل ساعة ركعتين، وما بين غروب الشمس إلى سقوط الشفق غسق، فجعل للغسق ركعة)(2).

أقول: إنما جعلناها مؤيدة لأن في سنديهما إشكالات خصوصاً في الثانية فتصلحان للتأييد.

الثالثة: مرفوعة الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (سئل عن الخمسين والواحدة ركعة، فقال: إن ساعات النهار اثنتا عشرة ساعة، وساعات الليل اثنتا عشرة ساعة ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ساعة ومن غروب الشمس إلى غروب الشفق (غسق)، فلكل ساعة ركعتان، وللغسق ساعة)(3)

وهي بالإضافة إلى ضعف السند فإن القول بخروج الغسق من الليل غير محتمل.

ص: 26


1- مستدرك الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 49 في النوادر، ح5 رواها عن تفسير علي بن إبراهيم ورواها الكليني في روضة الكافي.
2- وسائل الشيعة : أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، الباب13، ح20.
3- وسائل الشيعة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب13، ح10.

مؤيِّد آخر

ويؤيده أيضاً ما ورد في عدة روايات(1)

بعضها موثّقة في تفسير قوله تعالى: «إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا» (الإسراء: 78) (يعني صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فإذا صلى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرتين تثبتها ملائكة الليل وملائكة النهار) ولو كانت الفترة من الليل خاصة أو من النهار خاصة لشهدت الصلاة طائفة واحدة من الملائكة فهي ليست منهما بهذا المعنى أي خاصة لذا اشترك فيها ملائكة الليل والنهار لتداخلهما فيها.

وبذلك أيضاً تبطل أطروحة جعل الفجر نسبة من الليل التي اختارها العلماء المجتمعون في يوركشاير وما أفتى به المركز الإسلامي الشيعي في السويد. وكذلك ما قال به الشهيدان الصدران (قدس سرهما) ويبدو أن كلاً منهما لاحظ اليوم الذي هو فيه وحدد نسبة الفجر ثم عمّمها إلى كل السنة ظناً منه أنها ثابتة لجميع الأيام.

ص: 27


1- رواها في مستدرك الوسائل في أبواب المواقيت، الباب 9، الأحاديث 9، 11، 12 عن تفسير العياشي ورواها في الوسائل، أبواب المواقيت، باب 28، ح 1، 3 وفي أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب 13، ح 19.

إشكالات على هذه النتيجة

(الأول): وصف السيد الخوئي (قدس سره) هذه النتيجة بأنها ((مضافاً إلى شذوذ قائلها موهونة في نفسها لضعف مستندها فإنه روايتان))(1)

ثم نقل (قدس سره) روايتي أبي هاشم الخادم وعمر بن أبان الثقفي.

أقول: نقلنا رواية ثالثة ونحن نتفق معه في ضعف إسنادها لذا جعلناها مؤيدات إلا أن الدليل لا ينحصر بها فقد ذكرنا لها أكثر من وجه.

أما شذوذ القائلين بها فسنناقشه في إشكال مستقل.

(الثاني): إنه قول بالفصل وخروج عن الإجماع المركب، وفيه:-

1- إننا لم نستقص الأقوال في المسألة حتى نتأكد من هذا الشذوذ وقال المجلسي في البحار ((وذهبت طائفة إلى أن ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ليس من النهار ولا من الليل، بل هو زمان منفصل عنهما))(2).

ونقل صاحب الحدائق عن المحقق مير محمد باقر الداماد (قدس سره) قوله ((وأما إخراج ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس من الليل والنهار واعتبار زمانه على حياله ساعة فقد ورد به بعض الأخبار عنهم عليهم السلام)) وبعد أن ذكر رواية سؤال النصراني قال: ((فاستشكل على ذلك من باعه في تتبع العلوم قاصر زاعماً أن هذا أمر لم ينعقد عليه اصطلاح ولم يذهب إليه ذاهب أصلاً))(3).

وذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) في معرض الرد عليه(4)

واستفاده العلامة المجلسي من بعض الوجوه لولا أنه رد عليه بما لا يغني وسنشير إليه بإذن الله تعالى.

وأنقل هنا كلاماً لشيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) يوحي بقبوله لهذه النتيجة قال (دام ظله): ((إن ما بين الطلوعين لو لم يكن داخلاً في اليوم لم يكن داخلاً في الليل جزماً لأن ما هو المتفاهم من الليل

ص: 28


1- شرح العروة الوثقى: 11/192.
2- بحار الأنوار، المجلد 80، ص76.
3- الحدائق الناضرة: 6/54.
4- الخلاف: 1/226.

والمرتكز في الأذهان عرفاً لا يعم ما بينهما))(1).

2- إننا لا نقول بحجية الإجماع المركب ولا نرى بأساً في الخروج عنه لعدم توفر مناط حجية الإجماع فيه ولتوفر الدليل على خلافه.

3- إن لهذا الإجماع مناشئ سنذكرها لاحقاً في أسباب اختلاف الفقهاء في المسألة فهو إجماع مدركي معلوم المنشأ والعبرة بمدركه.

(الثالث): ما قاله المجلسي في البحار: ((دليلنا على فساد قول الفرقة الأولى- وهو ما نقلناه عنه (قدس سره)- قوله تعالى: «يُولِجُ اللَيلَ في النَهارِ ويُولِجُ النَهارَ فيالليلِ» (الحج: 61) وهذا ينفي أن يكون بينهما فاصل)). وهو عين ما ردّ به الشيخ الطوسي (قدس سره) على هذا القول(2).

وفيه:-

1- عدم الالتفات إلى مثل هذه التقريبات الاحتمالية بعدما تقدم من الأدلة.

2- إن ما اخترناه لا ينافي الآية فإن فترة ما بين الطلوعين يتداخل فيها ظلام الليل مع انتشار البياض وقد عبّرت عنه الآية الشريفة بدقة «حَتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأَبيَضِ مِن الخَيطِ الأسوَدِ من الفَجرِ» (البقرة:187).

3- إن هذه الآيات الشريفة ليست بصدد بيان النعم والمنّ على العباد وليست بصدد استيعاب الزمن فلا يستدل بها من هذه الناحية، والقرآن حينما يريد المقابلة الزمنية فإنه يستعمل مفردة اليوم بدل النهار في مقابل الليل وهو عين ما اخترناه ونظير ذلك قوله تعالى: «وهُوَ الذي جَعَلَ اللَيلَ والنَهارَ خِلفَةً لِمَن أرَادَ أَن يَذَّكَّر أَو أَرادَ شُكُوراً» (الفرقان: 62) ومثل هذه التقريبات لتفسير الآيات الشريفة يمكن أن تعارضها تقريبات لتفسير آيات أخرى كقوله تعالى: «جَعَلَ لَكُم الليلَ لِتَسكُنُوا فِيهِ والنَهارَ مُبصِراً لِتَبتَغُوا فِيهِ مِن فَضلِهِ» (يونس:67) وقوله تعالى: «وَجَعلنا اللَيلَ والنَهارَ آيَتَينِ فَمَحَونا آية اللَيلِ وجَعلنَا آيَةَ النَهارِ مُبصِرَةً لِتَبتَغوا فَضلاً مِن ربِّكم ولِتَعلَموا عَددَ السِنينَ والحِسابَ وكُلَّ شيءٍ فَصَّلناهُ تَفصِيلاً» (الإسراء: 12) فإن آية النهار هي الشمس فيكون النهار مرتبطاً بوجودها.

ص: 29


1- تعاليق مبسوطة: 3/19.
2- الخلاف: 1/266.

مناشئ اختلاف الفقهاء (قدست أسرارهم)

نحن الآن بين يدي ثلاثة مصطلحات هي (الليل) ، (النهار)، (اليوم) وما حصل من اختلاف واضطراب بين كلمات الفقهاء يرجع في بعض أسبابه إلى عدة أمور:

الأول: التزامهم بأن الزمن هو إما ليل أو نهار على نحو مانعة الخلو وحينئذٍ رتبوا معها مقدمة أخرى فما دام الفجر ليس من الليل لانتهائه مثلاً بطلوع الفجر بشهادة قوله تعالى: «سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطلَعِ الفَجرِ» (القدر:5) فهو من النهار أو ما دام الفجر ليس من النهار الذي يبدأ من طلوع الشمس فهو من الليل ولذا تجد أن نمط استدلالهم كله مبني على هذا الاتجاه فمثلاً حشد العلامة المجلسي في البحار عشرات الآيات والروايات على مدى عشرات الصفحات(1)

لإثبات أن الليل ينتهي بالفجر وكأن لازمه الوحيد هو ابتداء النهار بالفجر لارتكاز هذه الملازمة عنده وعدم وجود فاصل بينهما وكذا صاحب الجواهر وغيرهما.

والمقدمة الأولى وإن ورد فيها عدد من الأحاديث كخبر المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إن الله خلق السنة اثني عشر شهراً، وجعل الليل اثني عشر ساعة، وجعل النهار اثني عشر ساعة، ومنا اثني عشر محدثاً) إلا أنها ضعيفة ولا تدل على الانحصار ووجود روايات أخر تضيف إليها (وساعة أخرى لا من الليلولا من النهار) إذ ليس من المعلوم أن الساعات المذكورة في الرواية هي الساعات المعمول بها عرفاً بحيث يكون اليوم العرفي (24) ساعة مضافاً إلى أنها تحدثت عن النهار ولم تتطرق إلى اليوم وبينهما فرق كما سيأتي بإذن الله تعالى فهذه المقدمة من لزوم ما لا يلزم فقد يكون فترة ما بين الطلوعين لا من الليل ولا من النهار وإنما خُصّ هذان بالذكر لغلبتهما كتقسيم

ص: 30


1- بحار الأنوار، للمجلسي: 80/72-146.

البشر إلى ذكر وأنثى رغم وجود جنس ثالث هو الخنثى وله أحكامه الخاصة المغايرة للذكر والأنثى في الميراث وغيرها لكن المخصوص بالذكر هو الذكر والأنثى على خلاف مذكور في محله.

ويؤيده بعض الروايات التي مضمونها أن الله قد خلق النهار اثنتي عشرة ساعة والليل كذلك وساعة لا من الليل ولا من النهار(1)، وقد تقدم ذكر مجموعة منها. وهذا الكلام نقوله على مستوى عدم المانع وأما على مستوى وجود المقتضي فالدليل لنفي كونه من الليل أو النهار هو ما تقدم.

الثاني: جعل اليوم مرادفاً للنهار أو عدم التمييز بين ما يبدأ بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس فهل اليوم هو الأول والثاني النهار أم بالعكس.

وربما زاد في تشوشهم اختلاف اللغويين وورود الليل مقابل النهار في بعض الآيات الشريفة كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً» (الفرقان: 62) وقال: «أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً» (يونس: 24) وقابل به البيات في قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً» (يونس:50) ووروده مقابل اليوم في آيات أخرى كقوله تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» (الحاقة:7) «سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» (سبأ:18).

فاختار عدد منهم ابتداء النهار من طلوع الفجر كابن فارس(2)

قال: ((النهار: انفتاح الظلمة عن الضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس)) واختار فخر الدين الطريحي الثاني قال: ((قال الشيخ أبو علي: الفجر شق عمود الصبح وهما فجران أحدهما المستطيل وهو الذي يصعد طولاً كذنب السرحان ولا حكم له في الشرع، والآخر هو المستطيل المنتشر في أفق السماء وهو الذي يحرم عنده الأكل والشرب لمن أراد الصوم في رمضان وهو ابتداء اليوم))(3).

ص: 31


1- وسائل الشيعة: أبواب المواقيت، باب 28، ح 1، 3، وفي أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب 13، ح19، وفي المستدرك: أبواب المواقيت، باب 9، ح9، 11، 12.
2- معجم مقاييس اللغة، مادة (نهر)، ج5.
3- مجمع البحرين: 3/434. عن مجمع البيان: 5/438 في مادة (فجر).

واكتفى ابن منظور بنقل القولين فقال: ((النهار ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس وقيل: من طلوع الشمس إلى غروبها))(1)

لكنه جزم في معنى اليوم فقال: ((اليوم معروف مقداره من طلوع الشمس إلى غروبها))(2).أما الراغب الأصفهاني فقد فصل بين الحد الشرعي والأصل اللغوي فقال: ((والنهار: الوقت الذي ينتشر فيه الضوء، وهو في الشرع ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس)).

وفي الأصل ((ما بين طلوع الشمس إلى غروبها))(3)

وجزم بأن ((اليوم يعبر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها))(4).

واختار السيد الخوئي (قدس سره) أن مبدأ اليوم طلوع الشمس وعنده أنه مرادف للنهار(5) والليل من غروب الشمس إلى طلوعها.

أما السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فاختار بداية اليوم من الفجر وعبّر عنه بالنهار أيضاً.

والظاهر أن أقوال أهل الشرع واللغة مدركية فاعتمد الفقهاء على استقراء الاستعمالات والمورد الرئيسي هو ابتداء الصوم وعلى أقوال الفلكيين أحياناً وعلى أقوال اللغويين التي هي ايضاً مدركية أي مستندة إلى بعض المدارك والمباني فيكون الدليل تلك المباني ومنها:-

1- المقابلة مع الليل التي أشرنا إليها.

2- معنى النهار وهو الانفتاح وفي المقام خصوص انفتاح الظلمة على الضياء وهو يمكن تطبيقه على الفجر لأن الصبح يفجر الليل ويشقّه ويمكن تطبيقه على طلوع الشمس باعتبار أن الفجر لا يمثل انفجار الضياء بل انحسار الظلمة.

ص: 32


1- لسان العرب، مادة (نهر)، 3/728.
2- لسان العرب: مادة (يوم)، 3/1021.
3- المفردات: مادة (نهر) ص507.
4- المفردات، مادة (يوم) ص553.
5- مستند العروة الوثقى: 11/188، 192.

وبهذا المقدار لا نستطيع الاطمئنان إلى أقوالهم بشكل كامل حتى نعود إلى وضع المفردة في القرآن الكريم فنجد ما يلي:-

1- إن ما استعمل مقابل الليل كفترة زمنية هو (اليوم) وليس النهار كالآيات المتقدمة أما (النهار) فوضع مقابل الليل لا من هذه الجهة وإنما لمعانٍ أخرى كالمن على العباد بجعلهما خلفةً فواحد للحركة وآخر للسكون وكالتحذير من أن العذاب قد ينزل على العباد في حالة وعي والتفات وحذر وقد يكون وهم في حالة غفلة وسكون ونوم كالليل وهكذا وقد تقدم ذكر الآيات الشريفة كلها.

2- إن الصوم الذي يبدأ بطلوع الفجر قد ارتبط زمنياً باليوم وليس بالنهار وان اشتهر ذلك لاحقاً تسامحاً أو لغلبة فترة ما بين طلوع الشمس وغروبها ونحوها قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعدُودَاتٍ» (البقرة:183) وقال تعالى: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» (البقرة:184) وقال تعالى: «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ» (البقرة: 196). وكذا في الروايات الكثيرة في كتاب الصوم، نعم ورد في بعضها ذكر النهار كالسؤال (عن الرجل يحتلم بالنهار في شهر رمضان يتمّ يومهكما هو؟ فقال: لا بأس)(1)

وهي لا تنافي ما ذكرناه لأن النهار جزءٌ مما يُصام فيه وهو اليوم.

3- من الواضح أن الصبح الذي هو مبدأ النشاط اليومي يبدأ من طلوع الفجر ففي تعريف الفرسخ في الروايات بأنه (مسيرة يوم للإبل بأثقالها) وفي فتاوى الفقهاء (من أصبح جنباً.. الخ) أي طلع عليه الفجر وتسمى صلاة الفجر بصلاة الصبح وفي كلمات العرب كالأشعث بن قيس وكان يستعجل عبد الرحمن بن ملجم لقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) (النجا النجا فقد فضحك الصبح)(2) وكان عند الفجر وقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

ص: 33


1- وسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب35، ح2.
2- كشف الغمة، للأربلي: 2/64.

(عند الصباح يحمد القوم السُرى)(1)

والسرى السير بالليل.

فالصبح الذي هو الفجر هو مبدأ اليوم والنشاط اليومي.

أما النهار فقد سمي به ما بين طلوع الشمس وغروبها كما في الروايات الواردة في تحديد الزمان وهو منتصف النهار(2)

وما ورد من أنه (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصلي من النهار شيئاً حتى تزول)(3)

وقد تقدم ذكر جملة منها.

فاليوم يبتدئ من طلوع الفجر والنهار يبتدئ من طلوع الشمس وينتهيان بالغروب حيث يبدأ الليل إلى طلوع الفجر وبذلك نحلّ الإشكالات الكثيرة.

1- الفجر ليس من الليل خاصة ولا من النهار خاصة وإنما لوحظ شرعاً كفترة مستقلة عنهما، نعم يتكون اليوم من مجموع الفجر والنهار، ويؤَيَّد ذلك بالالتفات إلى نكتة لطيفة في رواية سماعة عن الإمام (عليه السلام) (قال سماعة: قال أبو حنيفة لأبي عبد الله (عليه السلام): كم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم بل أقل من ذلك. قال: فاستعظمه، فقال: يا عاجز لمَ تنكر هذا؟ إن الشمس تطلع من المشرق وتغرب في أقل من يوم..)(4).

ويظهر من كلام شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) اختياره لهذه المعاني، قال: ((ثم إن الليل يطلق في مقابل اليوم لا في مقابل النهار، فإن النهار أسم لما بين طلوع الشمس وغروبها جزماً دون اليوم، فإنه اسم لما بين طلوع الفجروغروب الشمس))(5).

2- منتصف النهار وهو الزوال يحسب ما بين طلوع الشمس وغروبها بعد

ص: 34


1- نهج البلاغة، ج4.
2- راجع الوسائل، أبواب المواقيت.
3- وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، باب36، ح7.
4- الاحتجاج، ج2، ص197.
5- تعاليق مبسوطة: 3/19 ولا أستبعد أن هذه القناعة تولّدت لديه بعد قراءته لكتاب (الرياضيات للفقيه) الذي أهديت نسخة منه إليه (دام ظله) بعد طبعه عام 1419ه- قبل كتاب (تعاليق مبسوطة) وقد عبّر سماحة شيخنا الأستاذ عن ثنائه على الكتاب بعد مدة بكلمات أحتفظ بها لنفسي.

أن وضّحنا حدّيْه فما كان مرتبطاً شرعاً باليوم كحساب مدة الحيض التي أقلها ثلاثة أيام وأكثرها عشرة أيام يأخذ هذا المعنى بنظر الاعتبار فإذا رأت المرأة الدم ليلاً فلا تعتد به وتبدأ الحساب من الفجر وتنتهي الثلاثة عند الفجر أيضاً وهكذا المناسبات والزيارات وغيرها وما كان مرتبطاً بالنهار (كحساب منتصف النهار لمعرفة وقت الزوال) يحسب من طلوع الشمس إلى غروبها.

الثالث: عدم التفريق في لحاظ هذه الفترة بين الناحية التشريعية والواقعية فإن ما بين الطلوعين قد ثبت من مجموع ما تقدم من الأدلة انها ليست من الليل ولا من النهار شرعاً وهي فترة مستقلة، نعم يتشكل من مجموعها والنهار عنوان (اليوم) وتترتب على كل من هذه العناوين والموضوعات آثارها الشرعية لكن هذه الفترة من ناحية تكوينية هي من الليل وانتشار الضوء فيها ناشئ من الاقتراب لمواجهة الشمس بطلوعها على تلك النقطة فلا ينافي كونها من الليل كما أن الفترة بعد سقوط القرص تشهد انتشاراً للضوء يمتد لفترة حتى ذهاب الحمرة المغربية بسبب الحركة الدائرية للأرض حول الشمس وبهدوء وتدريج ولا يوجد خلاف في عد هذه الفترة من الليل ولا تمثل الظاهرتان تغيّراً فلكياً متميزاً كظاهرتي الشروق والغروب مثلاً.

وعلى هذا فيكون منتصف الليل من الناحية التكوينية ما يقابل منتصف النهار ويحسب بتنصيف الوقت بين غروب الشمس وطلوعها لا الفجر لأن الملحوظ في تحديده الواقع التكويني وليس الاعتبار الشرعي، وتؤيده أكثر من رواية منها عن عمر بن حنظلة أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له: (زوال الشمس نعرفه بالنهار، فكيف لنا بالليل؟ فقال: للّيل زوال كزوال الشمس، قال: فبأي شيء نعرفه؟ قال: بالنجوم إذا انحدرت)(1) ومنها عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (دلوك الشمس زوالها، وغسق الليل بمنزلة الزوال من النهار)(2)

ومنها رواية الحسين بن علي بن بلال قال: (كتبت

ص: 35


1- وسائل الشيعة: أبواب المواقيت، باب 55، ح1.
2- وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، باب 55، ح2.

إليه في وقت صلاة الليل، فكتب عند زوال الليل وهو نصفه أفضل، فإن فات فأوله وآخره جائز)(1). وفي ضوء ذلك فإن الروايات التي تحدثت عن منتصف الليل كوقت لانتهاء الصلاة المفروضة للمختار وكوقت لابتداء صلاة الليل يمكن فهمها أنها على نحو المشير للموضوع التكويني المذكور أو أنها على نحو التأسيس (بضميمة ما دلّ على وصف ما قبل الفجر بأنه آخر الليل) لفهم جديد للّيل وهو المنتهيبطلوع الفجر.

ولذا احتاط السيد صاحب العروة في تحديد منتصف الليل فقال (قدس سره): ((ويُعرف نصف الليل بالنجوم الطالعة أول الغروب إذا مالت عن دائرة نصف النهار إلى طرف المغرب، وعلى هذا فيكون المناط نصف ما بين غروب الشمس وطلوعها لكنه لا يخلو عن إشكال. لاحتمال أن يكون نصف ما بين الغروب كما عليه جماعة، والأحوط مراعاة الاحتياط هنا وفي صلاة الليل التي أول وقتها بعد نصف الليل))(2).

وفي ضوء هذا الفصل بين الفهم التكويني والفهم الشرعي للّيل لا يصحّ التمسك بالتقريبات الفلكية لتحديد الموضوع وتعميمها على الحدود الشرعية كما فعل السيد الخوئي (قدس سره) عندما استدل على كون الفجر من الليل(3)

وبالغ الأعمش فأجاز تناول المفطرات إلى طلوع الشمس كما سننقل عن البحار بإذن الله تعالى.

ولذا وقع السيد الخوئي (قدس سره) في أكثر من مفارقة:

أولها: قوله إن انتهاء الصلوات الليلية بطلوع الفجر هو للدليل الخاص وليس لانتفاء الموضوع وتقدّم التعليق عليه.

ثانيها: محاولته الجمع بين ما دلّ على استحباب الإتيان بصلاة الليل في الثلث الأخير من الليل وفي بعضها في السدس الأخير منه حيث قال بعدم التنافي لأن ((مبدأ السدس الأخير من الليل الذي ينتهي بطلوع الفجر هو مبدأ

ص: 36


1- وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، باب 44، ح13.
2- شرح العروة الوثقى: 11/187.
3- شرح العروة الوثقى: 11/188.

الثلث الباقي منه إلى طلوع الشمس، فالتعبير الأول مبني على الغضّ عما بين الطلوعين باعتبار انتهاء وقت صلاة الليل بذلك، والتعبير الثاني مبني على رعايته، فلا اختلاف إلا بمقدار لا يعتنى به))(1) وهو إضافة إلى مخالفته للظاهر من الأدلة مبني على ثبات نسبة الفجر إلى الليل وهو مخالف للواقع كما ذكرنا.

أما عدم ارتباط طول فترة ما بين الطلوعين وقصرها بطول الليل وقصره فإنه لا ينافي الجزئية لأنه يتأثر بعوامل فلكية متعددة كاتجاه محور دوران الأرض حول نفسها بالنسبة للشمس وغيرها.

ص: 37


1- شرح العروة الوثقى: 11/273.

جولة مع صاحب البحار

أطنب العلامة المجلسي (قدس سره) في كتاب (بحار الأنوار) في سرد الأدلة على كلام المشهور في اعتبار فترة ما بين الطلوعين من النهار وبدأ الحديث في المجلد الثمانين، صفحة 74 تحت عنوان (تحقيق منتصف الليل ومنتهاه ومفتتح النهار شرعاً وعرفاً ولغةً ومعناه) وانتهى صفحة 146، ويمكن تسجيل عدة ملاحظات في كلامه (قدس سره) مما يتعلق بالمسألة محل البحث:

1- إن توسعه في الكلام كان بسبب احتدام النزاع في عصره في تحديد الليل والنهار شرعاً وعرفاً ولغة وهل أن ابتداء النهار من طلوع الفجر أو طلوع الشمس ووصْفه النزاع بأنه قديم واضمحل لكن بعض أصحابنا في زماننا جددوا النزاع القديم (ص74) وقال: ((وعندنا أنه لا يُفهم في عرف الشرع ولا في العرف العام ولا بحسب اللغة من اليوم أو النهار إلا ما هو من ابتداء طلوع الفجر)) فهو (قدس سره) يجعل اليوم والنهار مترادفين وهذا مما سيلقي بظلاله على أدلته الآتية.

2- اعترف (قدس سره) بأن النزاع ليس محسوماً في كلام أهل اللغة ولا المنجمين ولا العرف وإنما هو محسوم عند أهل الشرع قال (قدس سره): ((نعم بعض أهل الحرف والصناعات لما كان ابتداء عملهم من طلوع الشمس قد يطلقون اليوم عليه وبعض أهل اللغة لما رأوا هذا الاصطلاح ذكروه في كتب اللغة ويحتمل أن يكون كلاهما بحسب اللغة حقيقي وكذا المنجمون قد يطلقون اليوم على ما بين الطلوع إلى الغروب، لكن لا ينبغي أن يستريب عارفٌ بقواعد الشريعة وإطلاقاتها في أنه لا يتبادر مع عدم القرينة مع النهار إلا ما هو مبتدء من طلوع الفجر، وكذا اليوم بأحد المعنيين وقد يطلق اليوم على مجموع الليل والنهار)) (ص75) وإرجاع كلام اللغويين إلى عادة أهل الحرف فيه بعد عن الواقع لأن كلام أهل اللغة أسبق من عادة أهل الحرف كما أن العرب كانت تبتدئ نشاطها اليومي

ص: 38

وأهمه السفر من الفجر.

3- أشار إلى قول طائفة بأن ما بين الطلوعين ليس من الليل ولا من النهار واكتفى بردهم بقوله تعالى: «يُولِجُ اللَيلَ في النَهارِ ويُولِجُ النَهارَ في اللَيلِ» وقال (قدس سره): ((وهذا ينفي أن يكون بينهما فاصل)) (ص77) وقد سبقه في هذا الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتاب الخلاف(1)، قد علّقنا عليه.

4- نقل كلمات كثيرة للفقهاء والمفسرين يظهر منها أن الليل غير شامل للفجر ككلام المحقق في المعتبر وغيره ((فمن نذر اعتكاف يوم فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع فجره)) (ص78) وفيه أننا نقول أيضاً بأن الفجر خارج من الليل شرعاً إلا أن ذلك لا يلزم منه أن يكون من النهار فإنه ليس منه أيضاً، نعم هو جزء من اليوم فما قاله المحقق في المعتبر صحيح لو نذر اعتكاف يوم ولكنه لا يكونملزماً لو نذر اعتكاف (نهار). وهذا الخلط بين اليوم والنهار تكرر كثيراً فهو يريد أن يثبت أن الفجر من النهار لكن الأدلة التي يوردها تذكر اليوم وليس النهار، ونقل أقوال من قالوا بترادف اليوم والنهار كأحمد بن محمد بن علي المقري(2) وقول الخليل بن أحمد في كتاب (العين): ((النهار ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس والليل خلاف النهار))(3).

5- يظهر أن القائلين بأن الفجر ليس من النهار وإنما من الليل تبعاً للمنجمين ولوجوه أخرى طبقوها على موضوعات الأحكام الشرعية فقد نقل عن الشهيد في الذكرى ((صلاة الصبح من صلاة النهار عند الكل إلا أبا محمد الأعمش إذ حُكيَ عنه أنها من صلاة الليل بناءً على أن أول النهار طلوع الشمس حتى للصوم فيجوز الأكل والشرب إلى طلوع الشمس عنده، قال في الخلاف: وروي ذلك عن حذيفة لقوله تعالى: «وَجَعَلْنَا آيَةَ النَهَارِ

ص: 39


1- الخلاف، للشيخ الطوسي: 1/266.
2- المصباح المنير، للمقري: 81.
3- معجم العين، للخليل الفراهيدي: 83.

مُبْصِرَةً» وآية النهار الشمس)) (ص97) وهو قول غريب نتج من الخلط بين التحديدات الفلكية والشرعية.

وقرَّب بعضهم هذه النتيجة بدلالة الآية الشريفة: «حَتى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأَبيَضُ من الخَيطِ الأَسوَدِ من الفَجرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِيامَ إلى الليلِ» حين قال: ((حقيقة استعمال لفظ (ثم) التراخي وظاهر الإتمام أن يكون بعد حصول بعض الشيء، ولا بد أن يجعل للنهاية المذكورة في الآية المذكورة مبدأ تدل القرينة عليه، والأقرب أن يكون المبدأ المنوي في الكلام أول النهار حتى يكون في قوة أن يقال: ثم أتموا الصيام في زمان مبتدئ من أول النهار منتهٍ إلى الليل، ويكون مكافئاً لقوله تعالى: «يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ» فإن المراد هنا ترخيص الأكل من أول الليل إلى وقت التبيين، وإذا قيل سرتُ إلى آخر الكوفة كان المتبادر منه سرت من أوله إلى آخره ولا يستقيم أن يجعل المبدأ زمان التبيين لمنافاته التراخي المستفاد من ثم، وظاهر معنى الإتمام ولا جزء من النهار من غير تعيين ولا جزءاً معيناً من النهار مثل النصف أو الثلث وأمثالهما، وحينئذٍ نقول: لو كان طلوع الشمس مبدأ النهار ومنتهى الليل استقام اعتبار هذه المعاني في الآية، لأن الله تعالى لما خص الترخيص بأول الليل إلى وقت الفجر، ظهر منه وجوب الإمساك في بقية الليل ثم أمر بإتمام الإمساك المذكور من أول النهار إلى أول الليل فصحّ معنى ثم والإتمام وظهر حسن التعبير بهذا النحو بخلاف ما لو كان مبدأ النهار الفجر إذ لا يصح حينئذٍ معنى ثم ولا الإتمام إلا بالعدول عن الظاهر وارتكاب تكلف ولا يظهر حسن التعبير بهذا الوجه)) (ص93-94)، وقابله العلامة المجلسي (قدس سره) في الإصرار على الموقف فردّ على استظهاره من الآية الشريفة بأن الشمس علامة النهار وهي طالعة من أول الفجر ((وإن تأخر رؤية جرمها))!.

6- نُقلَ عن النيسابوري في تفسير قوله تعالى: «إنَّ في خَلقِ السَماواتِ والأَرضِ واختِلافِ الليلِ والنَهارِ» (البقرة: 164) قوله: ((أما النهار فإنه عبارة عن مدةكون الشمس فوق الأفق وفي الشرع بزيادة ما بين طلوع

ص: 40

الفجر الصادق إلى طلوع جرم الشمس، وأما الليل فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق أو بنقصان الزيادة المذكورة)) (81) وهو قريب مما اخترناه.

7- بدأ (قدس سره) من (ص85) بالاستدلال بالآيات الشريفة ودلالاتها متنوعة فبعضها تقابل الليل والنهار (وبعضها) تقابل الليل باليوم (وثالثة) تشير إلى انتهاء الليل بطلوع الفجر (وأخرى) تفيد دخول الفجر في اليوم وهي منسجمة مع ما اخترناه وتقدمت وجوه تقريبها وعدم منافاتها في الآيات التي قابلت الليل والنهار لم تكن بصدد استيعاب الزمن وإنما كانت بصدد أمور أخرى كبيان النعم أو التخويف والتحذير ونحوها فلا تنفي وجود فاصل بينهما لكن الآيات التي تتحدث عن استيعاب الزمن كانت تقابل الليل واليوم وهو ما اخترناه.

وأحصى في المقام إحدى وعشرين آية وانتهى منها (ص103).

8- وبدأ (قدس سره) (ص105) بذكر الأخبار الدالة على المطلوب وقد تجاوزت المائة واستغرق ذكرها والتعليق عليها إلى (ص145) ولم تخرج طريقة الاستدلال بها عما ذكرناه من التعليق على الاستدلال بالآيات الشريفة ومن الطريف أن يكون أول خبر بدأ به دالاً على غير مدّعاه ومطابقاً لما استنتجناه وهي رواية سماعة في الاحتجاج (ص197) قال: (قال أبو حنيفة لأبي عبد الله (عليه السلام): كم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم بل أقل من ذلك، قال: فاستعظمه فقال: يا عاجز لمَ تُنكر هذا؟ إن الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، في أقل من يوم).

فإن مسيرة الشمس هي النهار وهو أقل من اليوم بمقدار ما بين الطلوعين على مختارنا وقد اعترف بذلك فقال: ((ظاهره أن الأقل باعتبار انضمام ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس)) (ص105).

والرواية الثانية كانت عن أبي هاشم الخادم المتقدمة وذكر في ذيلها عن أبي الريحان البيروني في (القانون المسعودي) نقلاً عن براهمة الهند ((أن ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلك ما بين غروب الشمس وغروب

ص: 41

الشفق خارجان عن الليل والنهار، بل هما بمنزلة الفصل المشترك)) (ص106).

9- أشار (قدس سره) إلى الأخبار الظاهرة في ((أن فترة الفجر ليست من النهار كتلك التي تطبق نصف النهار على زوال الشمس والذي لازمه أن النهار ما بين طلوع الشمس وغروبها ووصفها بأنها موهمة لخلاف ما ذكرنا)) ص(134) ومنها صحيحة الحلبي المتقدمة وأجاب عنها ((بأن الانتصاف هنا مبني على التقريب والتخمين)) وفيه أن الأصل عدمه وأن هذه المدة الزمنية ليست قليلة حتى تصلح للتقريب ونقل صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان علي (عليه السلام) لا يصلي من الليل شيئاً إذا صلى العتمة حتى ينتصف الليل، ولا يصلي من النهار حتى تزول الشمس) ورواية الصدوق في الفقيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصلي بالنهار شيئاً حتى تزول الشمس) ونحوه روى الشيخ عن زرارة. وهي ظاهرة في أن الفجر ليس من النهار وإلا لاستثنى صلاته وقال: (لا يصلي بالنهار بعد صلاةالصبح شيئاً) كما قال مثلها عن صلاة العشاء، لكن العلامة المجلسي (قدس سره) أوّلَها لتناسِب مختاره ((بحملها على أنه لم يكن يصلي من نوافل النهار شيئاً إلى الزوال إلا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي ركعتي نافلة الفجر قبل الفجر مع صلاة الليل، أو يقال: استعمل لفظ النهار في جزئه مجازاً)) وهو خلاف الظاهر وبعيد عن الواقع لأن وقت نافلة الفجر قبل الفريضة بعد الأذان ويجوز دسّها في صلاة الليل بوقت مقارب له.

10- وقد اعترف (قدس سره) في ذيل هذه الأخبار بالنتيجة التي اخترناها قال (قدس سره): ((ويحتمل أن تكون هذه الأخبار مبنية على اصطلاح آخر أومأنا إليه سابقاً وهو عدم عد ما بين الطلوعين من الليل ولا من النهار، لكنه بعيد)) (ص137).

أقول: ليس فيه بُعدٌ بعد الذي ذكرناه وانسجام الأخبار معه بدون تأويل.

ص: 42

11- في (ص144) ذكر (قدس سره) فذلكة الكلام وأنه (قدس سره) قد بنى بيانه ببراهين قوية أتت بنيانهم من القواعد وأنه لم يترك ريباً في ((أن الليل والنهار واليوم في اصطلاح الشرع والعرف العام بل في أصل اللغة أيضاً لا يتبادر منه إلا ما ينتهي إلى طلوع الفجر أو يبتدي منه)) وقد علمت المناقشات فيه وبناءه على مقدمات مطوية غير تامة وهي اللوازم التي ذكرناها. وكأنه (قدس سره) لم يكتفِ فاستمر بذكر الشواهد وقال: ((وهل يقول أحد من أهل العرف والشرع إذا أتاه قبيل طلوع الشمس طرقتك ليلاً أو أتيتك البارحة)) واختار (قدس سره) زمن قبيل طلوع الشمس لأنه يعلم أن من أتى عند الفجر لا يقول: (أتيتك نهاراً) لأن الظلمة مطبقة فلا يصدق الليل والنهار عليها إلا بنوع من المسامحة في أطرافها لكنه (قدس سره) بنى على اللازم وهو أنه ما دام لم يصدق على قبيل طلوع الشمس أنه ليل فهو نهار.

وهكذا بنى شواهده الأخرى كقوله (قدس سره): ((ولذا ترى الفقهاء يقولون وقت صلاة الليل من النصف إلى آخر الليل، والوتر كلما قرب من آخر الليل أفضل، ولا يفهمون من ليلة الجمعة وليلة العيد وليلة القدر وأمثالها، إلا ما قبل الفجر، وكذا يوم الجمعة ويوم العيد ويوم الغدير وأمثالها)) وكل هذا صحيح لكنه ينطبق على مختارنا، وقال (قدس سره): ((وكذا إذا علق عمل باليوم أو النهار كالأغسال والأعمال المتعلقة بالأيام الشريفة فابتداء وقته الفجر، وإذا نذر رجل أن يعمل عملاً في النهار لا يحنث بإيقاعه قبل طلوع الشمس وإذا نذر أن يعمله في الليل يحنث بإيقاعه بعد الفجر)) وكان عليه (قدس سره) أن يفرق بين اليوم والنهار فإن ما قاله (قدس سره) صحيح لو كان موضوع الحكم اليوم لا النهار فلو نذر شيئاً في النهار فإن الامتثال يقع بفعله ما بين طلوع الشمس وغروبها ولذا فإن تقسيم الأدعية النهارية على الساعات يبدأ بعد طلوع الشمس.

ص: 43

النتائج

من مجموع ما تقدم ظهر أن المناطق التي تعاني من هذه المشكلة التي ذكرت في بداية البحث لها حالتان:

الأولى: مورد مسألتنا وهو وجود الفجر لكنه غير متميز لأن الليل كله عبارة عن بياض خفيف وهو ناشئ من اتصال ضياء ما بعد المغرب بضياء ما قبل طلوع الشمس لقصر الليل وهنا عدة صور تقدمت الإشارة إليها فتارة ينعدم ضوء ما بعد المغرب ثم يوجد ضوء جديد وهو ما قبل الشروق فالفجر عند بدء ظهور الضوء الثاني وتارة لا ينعدم الضوء الأول وإنما يتضاءل إلى درجة ثم يبدأ بالازدياد وحينئذٍ إن أمكن تشخيص تضاؤل هذا الضياء ثم ازدياده فنقطة التحول هي الفجر كما اختاره سيدنا الأستاذ (قدس سره).

وإن لم يكن أو كان الضياء بدرجة واحدة فيحتاط بجعل صلاته في وقت قبل طلوع الشمس بمقدار يكفي لأدائها ويمكن أن يأتي قبلها بصلاة الليل بنية القربة المطلقة.

أما بالنسبة لمنتصف الليل فإنه يُحدَّد بتنصيف الوقت بين غروب الشمس وشروقها.

وإذا حصل الاطمئنان والوثوق بنتائج الحسابات فليفعل مثل ما قمنا به في كتاب (الرياضيات للفقيه) من تنظيم معادلة حسابية تبنى على أساس المعلومات المتوفرة في الأشهر التي يتضح فيها الفجر وباستعمال هذه المعادلة نحصل على أوقات الفترات التي لا يتميز فيها لأن الكون يسير وفق قوانين دقيقة وحسابات منتظمة ولكل حركة يوجد قانون رياضي يصفها بدقة سواء توصل إليه الإنسان أو لا لذا أمكن التنبؤ بدقة بالكسوف والخسوف وولادة الهلال ومواقيت الصلاة وغيرها قال تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (القمر:49).

وبالنسبة لحركة الفجر في بلادنا فقد وصفناه بمخططات كانت نتائجها

ص: 44

مطابقة للواقع على الأرض وليس صعباً على مراكز الدراسات اليوم وصف المعلومات المتوفرة رياضياً وفي برامج الحاسوب الآلي.

فالعبرة في الاعتماد على هذه الطريقة بتحقق الاطمئنان والوثوق بنتائجها وحينئذٍ سيكون هناك متّسع في الوقت لأداء الفريضة والنافلة وصلاة الليل وإذا لم يتحقق فليعمل بالاحتياط الذي ذكرناه.

ومن خلالها يمكن تحديد منتصف الليل الذي يكون هو الحد الأعلى لإباحة المفطرات عندما تتعذر معرفة الفجر.

الثانية: إذا انعدمت الأوقات كما في القطبين وما يجاورها فليصلي حينئذٍ في مجموع الساعات الأربع والعشرين خمس فرائض مرتّبة الأَولى في توزيعها أن يكون على وفق أقرب البلدان التي تتميز فيها أوقات الصلاة وأن يأتي بها بنية ما في الذمة.

هذا لمن كان أصله من تلك المناطق أو هاجر إليها مضطراً كما لو نفاه سلطان ظالم أو أمره من تجب طاعته بالتبليغ والدعوة إلى الإسلام وأما المهاجر اختياراً فنمنعه لأن شرطية الوقت للصلاة وإن كانت من شرائط الوجوب التي قالوا عنها فيعلم الأصول أنها لا يجب تحصيلها كما تقدم قول السيد الشهيد الصدر (قدس سره) إلا أن هذا الوجوب مأخوذ على نحو تعدد المطلوب وينحلّ إلى وجوبين أحدهما مطلق غير مشروط بالوقت وهو وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة وآخر مشروط بالوقت المحدد لهذه الصلوات والأول لا يترك بأي حال أما الثاني فإذا سقط أو تعذّر لانتفاء موضوع الأوقات ونحوه فإن الأول باقٍ ويكون حكم الوقت ما ذكرناه آنفاً ولقيام الارتكاز الشرعي على التلازم بين الوجوبين في الأداء والامتثال منعنا من تفويت هذه الأوقات وتضييعها. فيجب عليه المكث في بلاده للمحافظة على هذه الأوقات مما يعرف بوجوب (المقدمات المفوّتة) والملحوظ فيها حرمة تفويت ذي المقدمة في ظرفه فوجب الإتيان بالمقدمة في ظرفها قبل ظرف الواجب.

وقد كان سيدنا الأستاذ (قدس سره) لا يقول بوجوبها للإشكال المسجّل في محلّه من أن وجوب المقدمة مترشح من وجوب ذيها فكيف تكون واجبة

ص: 45

قبل أن يتحقق وجوب ذيها، وقد عرضتُ عليه (قدس سره) تقريباً غير هذا الوجه للوجوب وحاصله أن الملحوظ فيها حرمة تركها لأن تركها يؤدي إلى تضييع الواجب في ظرفه وهو حرام وحرمة الترك مرادفة لوجوب الفعل فقيل بوجوبها وقد استحسن (قدس سره) هذا الوجه ولما وصل ببحثه إلى هذا المطلب(1)

انتهى إلى نتيجة وجوب المقدمات المفوتة والحمد لله وحده.

نتائج عامة

1- إن فترة ما بين الطلوعين لا من الليل ولا من النهار ولا يمكن تحديدها كنسبة من أحدهما.

2- إن ما يبتدئ بالفجر هو (اليوم) أما النهار فيبدأ من طلوع الشمس وكلاهما ينتهيان بغروب الشمس. ولكن التسامح في الاستعمال أدى إلى ترادفهما فلا بد من التمييز بينهما وتدقيق النظر في موارد استعمالهما في الروايات الشريفة والأحكام الشرعية والسنن والمستحبات. فما ورد بلفظ اليوم له حسابه وما كان بلفظ النهار له حسابه.

3- إن منتصف النهار ما بين طلوع الشمس وغروبها. أما منتصف الليل فلما كان مبتنياً على الواقع التكويني وليس الاعتبار الشرعي فيكون نصف الوقت بين الغروب والشروق وإن كان الاحتياط لا يترك في الفرق بين هذا التحديد لمنتصف الليل والتحديد الآخر المبني على كونه المنتصف بين الغروب والفجر باعتبار انعقاد ظهور شرعي لكلمة (الليل) فيما ينتهي بطلوع الفجر وهو مبنانا في مبحث (الحقيقة الشرعية).

بدأنا بتحرير المسألة يوم 21 جمادى الأولى 1427وانتهينا منها بفضل الله تبارك وتعالى يوم 25 جمادى الأولى 1427.

ص: 46


1- عام 1417 هجرية في مسجد الرأس الشريف المجاور للصحن الحيدري وكان يلقي بحثه الأصولي عصراً، وقد ألحق المسجد بالحرم العلوي تحت عنوان (رواق أبي طالب).

البحث الثاني: هل يتحقق الغروب بسقوط القرص أم بذهاب الحمرة المشرقية

اشارة

ص: 47

ص: 48

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثاني: هل يتحقق الغروب بسقوط القرص أم بذهاب الحمرة المشرقية؟

هل يتحقق الغروب بسقوط القرص أم بذهاب الحمرة المشرقية؟(1)

نقلت المصادر(2)

إجماع العلماء على ((أن أول وقت صلاة المغرب هو غروب الشمس)) واختلفوا في ما يتحقق به الغروب على قولين(3)

رئيسيين ((فالمشهور - وهو الذي عليه الأكثر من المتقدمين والمتأخرين - أنه إنما يُعلم بزوال الحمرة المشرقية عن قمة الرأس إلى ناحية المغرب، وقيل إنه عبارة عن غيبوبة القرص عن العين في الأفق مع عدم الحائل، ونُقِلَ عن الشيخ في المبسوط والمرتضى وابن الجنيد وبه صرّح الصدوق في كتاب العلل، وهو ظاهره في كتاب من لا يحضره الفقيه))(4).

ص: 49


1- (*) بدأ إلقاء البحث يوم 15/ ربيع الأول/1429 المصادف 23/3/2008.
2- منها الحدائق الناضرة: 6/163، جواهر الكلام: 7/106 ونقله عن ((الغنية والذكرى وكشف اللثام وعن الخلاف ونهاية الأحكام وكشف الالتباس، بل في المعتبر وعن التذكرة بإجماع العلماء، بل عن المنتهى أنه قول كل من يحفظ عنه العلم، بل هو من ضروريات الدين)).
3- توجد أقوال أخرى نادرة شاذة لم يُعمل بها: (منها) ما قاله السبزواري في الذخيرة من ((أن غيبوبة الشمس عن الأفق الحقيقي في الأرض المستوية حساً إنما تتحقق بعد غيبوبتها عن الحس بمقدار دقيقة تقريباً وهذا أقل من ذهاب الحمرة المشرقية بكثير)) (رياض المسائل: 2/209). (ومنها) ((تحديد الوقت بذهاب الحمرة المشرقية عن تمام ربع الفلك -أعني عن نقطة الشرق إلى دائرة نصف النهار بتمام نواحيها وجوانبها- من الجنوب إلى الشمال الذي يتأخر ذلك عن الذهاب عن خصوص القمة ببضع دقائق، والقائل بذلك قليل جداً، بل لم نعثر على قائل به صريحاً)) (المستند في شرح العروة الوثقى: 11/169).
4- الحدائق الناضرة: 6/163.

والذي يظهر من تعبير المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع أن القول الثاني مشهور أيضاً لذا عبّر عن القول بذهاب الحمرة من المشرق بأنه الأشهر ((وقد أفتى به - أي القول الثاني- في المدارك صريحاً))(1).

وقد حاول كل من الفريقين تصوير أن لا قائل بالقول الآخر ووجّه كلماته بما يناسب مختاره.

فقال السيد الخوئي (قدس سره) الذي صحّح القول الثاني: ((إن ما أسلفناك من توصيف القول باعتبار ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس بالأشهر والقول الآخر بالمشهور إنما هو لمتابعة المحقق حيث عبّر عن القولين بمثل ذلك.

وبعد ملاحظة الكلمات يظهر أن المصرّحين بزوال الحمرة عن قمة الرأس قليلون، والوارد في عبائر الأكثرين هكذا: ذهاب الحمرة عن المشرق أو زوال الحمرة المشرقية. وهذه العبارة كما ترى غير ظاهرة في ذلك لو لم تكن ظاهرة في زوالها عن نقطة المشرق ومطلع الشمس الملازم لغيبوبة القرص تحت الأفق))(2).

وفي مقابل ذلك فقد وجّه السيد صاحب الرياض (قدس سره) كلمات من نسب إليهم القول الثاني بما لا ينافي المشهور، فجعل إرادة هذا القول من كلام الديلمي والمرتضى والقاضي احتمالاً ((وليس نصاً فيه)) وتنظّر في نسبة القول إلى الاستبصار والفقيه ((لأن الأول كلامه صريح في موافقة المشهور، حيث قال - بعد ذكر جملة من الأخبار الدالة على الأمر بالصبر إلى ذهاب الحمرة-: فالوجه في هذه الأخبار أحد شيئين، أحدهما أن يكون إنما أمرهم أن يمسّوا قليلاً أو يحتاطوا ليتيقّن بذلك سقوط الشمس، لأن حدّها غيبوبة الحمرة من ناحية المشرق لا غيبوبتها عن العين، ثم استشهد عليه بجملة من الأخبار السابقة، ثم نقل ما ظاهره المنافاة لها مما يأتي، وقال بعده: فلا تنافي بين هذين

ص: 50


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 11/168.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 11/186.

الخبرين وبين ما اعتبرناه في غيبوبة الشمس من زوال الحمرة من ناحية المشرق، لأنه لا يمتنع.. إلى آخر ما ذكره.

وأما الفقيه، فلم نجد فيه ما يدل على صحة النسبة عدا ذكره بعض الأخبار الآتية، بناءً على ما قدّمه في أول كتابه من أنه لا يروي فيه إلا ما يفتي به ويحكم بصحته.

وهو - بعد تسليمه- معارض بروايته فيه ما ينافي القول المزبور أيضاً)) ونقل رواية بكر بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) الآتية ثم قال: ((وهو -كما ترى- كالصريح بل الصريح في عدم الاعتبار بغيبوبة الشمس عن النظر، واشتراط شيء زائد من ظهور كوكب، بل جعله بعض المحققين من أدلة الأكثر، قال: لأن ذهاب الحمرة المشرقية يستلزم رؤية كوكب غالباً. ولنعم ما ذكره))(1).

وبنفس السلوكين المتضادّين سار الفريقان في توجيه ما استُدل به من الروايات على القول الآخر بما لا يتنافى مع ما استدل به على قوله.

فالبحث في المسألة فيه عمق علمي، وتزداد أهميتها من جهة ارتباطها بعدة موارد فقهية كتحديد وقت صلاة المغرب والإفطار ونهاية الوقوف في عرفات.

إن قلتَ: لا تظهر ثمرة عملية مهمة للمسألة باعتبار أن الصبر والانتظار لا ضير فيه وهو أحوط والاحتياط سبيل النجاة.

قلتُ:

-1- لا شك أن الاحتياط سبيل النجاة، لكنه لا يعني سد باب الاستنباط والبحث.

2- إن موارد هذه المسألة لا تتفق في مقتضى الاحتياط فمقتضاه في انتهاء صلاة الظهرين اعتبار سقوط القرص عكس حلول الإفطار وصلاة المغرب، مضافاً إلى ما قاله الفقهاء من أن صوم الليل أو جزء منه تشريع محرم لذا فإن سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) كان يرى أن

ص: 51


1- رياض المسائل: 2/107-108.

الاستمرار بالصوم إلى ذهاب الحمرة من صوم الوصال وهو تشريع محرم، فالانتظار هنا بنية الصوم مخالف للاحتياط، نعم يمكن الصبر بنية أخرى كتقديم أداء الصلاة ونحوها.

3- إن كثيراً من المؤمنين يُبتلى بالاجتماع وقت الإفطار مع أبناء العامة وهم يفطرون بسقوط القرص ويكون انتظاره إلى ذهاب الحمرة المشرقية حرجياً أو مخالفاً للتقية، ويكون معذوراً من هذه الجهة، لكن عليه القضاء لو كان الغروب يتحقق بذهاب الحمرة.

وفي الحقيقة فإن محاولة علاج هذه المشكلة هي الثمرة العملية التي توخّيناها من البحث في هذه المسألة، ويمكن تصوّر الحل بأحد شكلين:

الأول: أن نصل إلى نتيجة أن الغروب يتحقق بسقوط القرص عن نظر الرائي عند عدم وجود حائل وهو ما عقدنا مسألتنا من أجل البحث عنه.

الثاني: أن نصل إلى نتيجة عدم الملازمة بين وقت الإفطار الذي هو وقت انتهاء صلاة الظهرين وبين وقت صلاة المغرب فيتحقق الأول بغروب الشمس وسقوط قرصها عن النظر أما الثاني فيتحقق بذهاب الحمرة المشرقية.

وهي نتيجة خلاف الإجماع الذي نقلناه في بداية البحث، ولكنه على أي حال إجماع منقول أولاً ومدركي ثانياً مستند إلى الروايات بضميمة ارتكاز الملازمة بين الغروب والمغرب، فالعمدة النظر في تلك الروايات. وتوجد رواية ظاهرة في هذا التفكيك وهو خبر أبان بن تغلب (قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي ساعة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوتر؟ فقال: على مثل مغيب الشمس إلى صلاة المغرب)(1).

لذا لم يجد السيد الخوئي (قدس سره) حزازة في القول بالتفكيك فقد علّق (قدس سره) على قول صاحب العروة (قدس سره) في المغرب: ((ويعرف بذهاب الحمرة المشرقية عن سمت الرأس)) بقوله: ((بل بسقوط القرص

ص: 52


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب16، ح5.

بالنسبة إلى الظهرين، وإن كان الأحوط لزوماً مراعاة زوال الحمرة بالنسبة إلى صلاة المغرب))(1).

وقال مثله سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((ويعرف الغروب بسقوط القرص. والأحوط لزوماً تأخير صلاة المغرب إلى ذهاب الحمرةالمشرقية))(2)

وهذا يعني أن الاحتياط خاص بصلاة المغرب دون انتهاء صلاة الظهرين.

ولكن السيد السيستاني (دام ظله الشريف) لم يجزم بتحديد الغروب فاحتاط في الأمرين معاً عند الشك فقال: ((ويعرف الغروب بذهاب الحمرة المشرقية عند الشك في سقوط القرص واحتمال اختفائه بالجبال أو الأبنية أو الأشجار أو نحوها، وأما مع الشك فلا يترك مراعاة الاحتياط بعدم تأخير الظهرين إلى سقوط القرص وعدم نية الأداء والقضاء مع التأخير، وكذا عدم تقديم صلاة المغرب على زوال الحمرة))(3).

ولا تخلو عبارته من تشويش فهو يلزم بالاحتياط في حالة افتراض الشك لكن كلامه (دام ظله) يتضمن معنى العلم بموعد سقوط القرص.

أما السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فقد اختار القول المشهور في وقت صلاة المغرب فقال (قدس سره): ((ويبدأ وقت فريضة المغرب بمغرب الشمس، ولا يحصل ذلك بمجرد اختفائها عن العين عند النظر إلى السماء بل بذهاب البقية الباقية من ضوء الشمس في الأفق بعد غيابها وهي الحمرة التي نراها من جهة المشرق عند اختفاء قرص الشمس عن الأنظار، ويعبّر عنه الفقهاء بالحمرة المشرقية فإذا تلاشت هذه الحمرة عن جانب المشرق حلَّ وقت صلاة المغرب، ويحصل هذا عادة بعد غروب قرص الشمس عن الأفق باثنتي عشرة دقيقة أو بحوالي ذلك))(4).

ص: 53


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 11/167.
2- منهج الصالحين، ج1/117، المسألة (615).
3- منهاج الصالحين، 1/167، المسألة (502).
4- الفتاوى الواضحة: 279، الفقرة (32).

وقد عبّر (قدس سره) عن انتهاء وقت صلاة الظهرين بغروب الشمس فقال (قدس سره): ((ويستمر وقت صلاة الظهر إلى غروب الشمس))(1) وهذا يعني أنه (قدس سره) يفرِّق بين غروب الشمس الذي هو وقت انتهاء صلاة الظهرين والمغرب الذي هو وقت صلاة المغرب، وهذا ما صرّح به بقوله (قدس سره): ((وعلى هذا نميّز بين غروب الشمس ومغرب الشمس فمتى قلنا الكلمة الأولى قصدنا سقوط قرص الشمس واستتارها، ومتى قلنا الكلمة الثانية قصدنا ذهاب الحمرة بالمعنى الذي أوضحناه))(2).

أي أنه يقول بوجود مصطلحين (غروب) و(مغرب) وهذا التمييز ليس لغوياً ولا قرآنياً لأنها واحد في اللغة والقرآن قال تعالى: «حَتَّى إذَا بَلَغَ مَغرِبَ الشَمسِ وَجَدَهَا تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ» (الكهف: 86) وقال تعالى: «وَسبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلُوعِ الشَمسِ وَقَبلَ الغُرُوبِ» (ق: 39) وغيرها.وهما كذلك في الروايات كما ستأتي إن شاء الله تعالى، ولكن يوجد من فهِم الغروب بمعنى سقوط القرص، لكن وقت صلاة المغرب هو ذهاب الحمرة بالتعبد الشرعي.

فالانتظار بصلاة المغرب إلى ذهاب الحمرة لخصوصية قام عليها الدليل، لذا فإنه يجد من الطبيعي اعتبار بداية الليل من سقوط القرص حينما يعرّف الليل بأنه ((الفترة الواقعة بين غروب قرص الشمس وطلوع الفجر))(3).

ولكنه (قدس سره) جعل انتهاء الصوم عند المغرب وليس الغروب فقال (قدس سره) في تحديد فترة الإمساك: ((من حين ابتداء وقت صلاة الفجر إلى حين ابتداء وقت صلاة المغرب))(4) وربما كان ذلك للاحتياط بعد الذي تقدم

ص: 54


1- الفتاوى الواضحة: 275، الفقرة (18).
2- الفتاوى الواضحة: 280، الفقرة (32).
3- الفتاوى الواضحة: 280، الفقرة (33).
4- الفتاوى الواضحة: 489، الفقرة (1).

منه (قدس سره)، فإنه جعل الصوم مرتبطاً بالنهار والإفطار بالليل في مسائله التفصيلية(1)

وقد تقدّم منه تعريف الليل.

أقول: التفكيك بين الإفطار وصلاة المغرب لا يستند إلى دليل معتبر فالخبر المتقدم ضعيف السند وغير ظاهر الدلالة في المطلوب ومعارَض بروايات معتبرة عديدة دلّت على الملازمة بين وقت الإفطار وصلاة المغرب كرواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا غاب القرص أفطر الصائم ودخل وقت الصلاة)(2)، أما التفكيك الذي سمعناه فمنشأه الاحتياط ومقتضاه انتهاء صلاة الظهرين عند غروب الشمس وحلول الإفطار وصلاة المغرب عند ذهاب الحمرة المشرقية.

واختار شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) نفس التعاريف والتحديدات كما هو ديدنه غالباً في رسالته العملية لكنه اختار القول الآخر في بحثه فقال: ((وأما وقت العشائين فمقتضى نصّ مجموعة من الروايات المعتبرة أنه يبدأ من حين غروب الشمس أي استتار قرصها، وأما تحديد مبدأ وقتهما بالمغرب الذي يقصد به ذهاب الحمرة عن طرف المشرق بعد اختفاء الشمس عن الأفق واستتارها عن الأنظار فهو وإن كان معروفاً إلا أن إثباته بالدليل لا يخلو عن إشكال، نعم لا بأس بالاحتياط بل لا يترك))(3).

ص: 55


1- لاحظ الفقرة (54) في الصفحة (507) والفقرة (62) في الصفحة (510).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 16، ح20، وراجع الأحاديث 4، 14، 19، 30 من نفس الباب وغيرها.
3- تعاليق مبسوطة: 3/18.

التحقيق في المسألة

قلنا أن في المسألة قولين رئيسيين:

(القول الأول) تحقق المغرب بذهاب الحمرة المشرقية.

استُدل عليه بعدة أدلة (منها) الإجماع - نقله في الجواهر عن السرائر – و(منها) كونه لدى ((سواد الإمامية ضرورة يعرفون بها))(1) وحكى في البحار عن السيد الداماد ((أن عليه العمل عند أصحابنا وعند أساطين الإلهيين والرياضيين من حكماء يونان))(2) حيث قال: ((إن ما في أكثر رواياتنا عن أئمتنا المعصومين (عليهم السلام) وما عليه العمل عند أصحابنا رضي الله تعالى عنهم إجماعاً هو أن زمان ما بين الفجر إلى طلوع الشمس من النهار ومعدودة من ساعاته، وكذلك زمان غروب الشمس إلى ذهاب الحمرة من جانب المشرق، فإن ذلك أمارة غروبها في أفق المغرب، فالنهار الشرعي في باب الصلاة والصوم وسائر الأبواب من طلوع الفجر إلى ذهاب الحمرة المشرقية، وهذا هو المعتبر والمعوّل عليه عند أساطين الإلهيين والرياضيين من حكماء يونان. انتهى))(3).(2).

وهذه وجوه قابلة للنقاش صغروياً أو كبروياً على نحو مانعة الخلوّ، فالإجماع غير ثابت صغروياً كما تقدم وهو مدركي مستند إلى الروايات أو لاعتبارات أخرى كالتي استندت إليها السيرة ومنها الحرص على إبراز خصوصيتهم وهويتهم أو لاستحباب تأخير الصلاة بهذا المقدار لوروده في عدة روايات يقول فيها الإمام (عليه السلام): (مسّوا بالمغرب قليلاً) كإطباقهم على الالتزام بالقنوت عملياً مع اعترافهم باستحبابه أو لحفظ الظاهر من الأصحاب الذين ينكرون أداء صلاة المغرب عند سقوط القرص كما حصل في قضية الربيع

ص: 56


1- و(2) جواهر الكلام: 7/109.
2- (3) جواهر الكلام: 7/150.

بن سليمان (الرواية 13- من الطائفة الأولى الآتية) أو للاحتياط ونحوها من المبررات.

والسيرة بعد ذلك دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المتيقّن وهو جواز الصلاة عند ذهاب الحمرة من دون التحديد به الذي هو حكم إلزامي خارج عن القدر المتيقن.وأما الاحتياط فقد تقدمت المناقشة فيه بعدةوجوه، وينقض على تحديد السيد الداماد (قدس سره) للنهار الشرعي بانتهاء وقت صلاة الظهرين وتسليمه بأمور غير ثابتة.

وحاول صاحب الوسائل (قدس سره) حشد عدة أدلة ذكرها في ذيل الحديث (15) من الباب (16) من أبواب المواقيت فقال: ((واعلم أنه يتعيّن العمل بما تقدّم في هذه الأحاديث يعني الطائفة الأولى الآتية وفي العنوان - حيث جعل عنوان الباب: إن أول وقت المغرب غروب الشمس المعلوم بذهاب الحمرة المشرقية - أما أولاً فلأنه أقرب إلى الاحتياط للدين في الصلاة والصوم، وأما ثانياً فلأن فيه جمعاً بين الأدلة عملاً وبجميع الأحاديث من غير طرح شيء منها، وأما ثالثاً فلما فيه من حمل المجمل على المبين والمطلق على المقيّد، وأما رابعاً فلاحتمال معارضته للتقية وموافقته للعامة، وأما خامساً فلعدم احتماله للنسخ مع احتمال بعض معارضاته له، وأما سادساً فلأنه أشهر فتوىً بين الأصحاب، وأما سابعاً فلكونه أوضح دلالة من معارضه، إذ لم يصرّح فيه بعدم اشتراط ذهاب الحمرة)).

أقول: بعض هذه الوجوه يكون دليلاً كالأول والبعض الآخر يكون مرجّحاً عند التعارض مع الطائفة الثانية.

فالعمدة في الاستدلال هي الروايات، وقد قسّمناها إلى طوائف بحسب معالجتها للحالة:

ص: 57

(الطائفة الأولى) ما استُدلّ به على أن المغرب يتحقق بذهاب الحمرة المشرقية:-

1- صحيحة(1)

بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا غابت الحمرة من هذا الجانب يعني من المشرق فقد غابت الشمس من شرق الأرض وغربها)(2).

بتقريب: أن غيبوبة الشمس التي هي معنى الغروب إنما تتحقق بزوال الحمرة من ناحية المشرق وهو ملازم لزوالها عن قمة الرأس.

2- خبر علي بن أحمد بن أشيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: (وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق، وتدري كيف ذلك؟ قلت:1- لا، قال: لأن المشرق مطلّ على المغرب هكذا ورفع يمينه فوق يساره، فإذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا).

3- مرسلة ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وقت سقوط القرص ووجوب الإفطار (من الصيام) أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقد الحمرة التي ترتفع من المشرق، فإذا جازت قمة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار وسقط القرص)، وهي صريحة في القول الأول.

4- خبر أبان بن تغلب قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي ساعة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوتر؟ فقال: على مثل مغيب الشمس إلى صلاة المغرب).

ص: 58


1- هذا الوصف يظهر من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) ووجهه أن الخبر ((رواه الكليني والشيخ بغير واحدٍ من الأسانيد بل في بعضها من أصحاب الإجماع الذين لا يلتفت إلى من بعدهم في وجه، بل لعلّ التأمل فيه يورث الفقيه الماهر قطعاً بصحته بالمعنى القديم، لكثرة القرائن الدالة على ذلك)) (جواهر الكلام: 7/113) وستأتي المناقشة فيه بإذن الله تعالى.
2- الأحاديث جميعاً تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب16، الأحاديث مع التسلسل: 1، 3، 4، 5، 6، 9، 8، 10، 12، 13، 14، 15، 23.

بتقريب ((أن ما بين غيبوبة الشمس إلى وقت المغرب فاصل زماني كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوتر في مقدار هذا الفصل مما قبل طلوع الفجر، ومن البيِّن أنه لا نظر في ذاك الفاصل إلا إلى تجاوز الحمرة عن قمة الرأس))(1).

5- صحيحة بكر بن محمد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه سأله سائل عن وقت المغرب؟ فقال: (إن الله يقول في كتابه لإبراهيم: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَ-ذَا رَبِّي» وهذا أول الوقت، وآخر ذلك غيبوبة الشفق، وأول وقت العشاء الآخرة ذهاب الحمرة، وآخر وقتها إلى غسق الليل يعني نصف الليل).

بتقريب ذكره صاحب الوسائل في ذيل الحديث عن بعض المحققين معللاً: ((لأن ذهاب الحمرة المشرقية يستلزم رؤية كوكب غالباً)).

6- صحيحة شهاب بن عبد ربه قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا شهاب إني أحب إذا صليت المغرب أن أرى في السماء كوكباً).

بنفس التقريب المتقدم.

7- خبر محمد بن علي قال: صحبت الرضا (عليه السلام) في السفر فرأيته يصلي المغرب إذا أقبلت الفحمة من المشرق يعني السواد.

بتقريب: أن الفحمة إنما تقبل بتجاوز الحمرة عن قمة الرأس.

8- خبر عمّار الساباطي: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنما أمرت أبا الخطاب أن يصلي المغرب حين زالت الحمرة من مطلع الشمس، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب، وكان يصلي حين يغيب الشفق).

9- خبر محمد بن شريح، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (سألته عن وقت المغرب؟ فقال: إذا تغيّرت الحمرة في الأفق، وذهبت الصفرة، وقبل أن تشتبك النجوم).

ص: 59


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 11/173.

10- صحيحة يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (قال لي: مسّوا بالمغرب قليلاً فإن الشمس تغيب من عندكم قبل أن تغيب من عندنا).

5- صحيحة عبد الله بن وضّاح قال: (كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً، وتستتر عنا الشمس، وترتفع1- فوق الجبل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون، أفأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما؟ أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلي: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك).

بتقريب ((عدم كفاية الاستتار المفروض في السؤال ولزوم الانتظار حتى تزول الحمرة، غير أنه (عليه السلام) علله بالاحتياط لمراعاة التقية)) أي ((أن قوله (عليه السلام): (أرى) إلى آخره إما لعلمه بابتلاء السائل بها أو لأنه (عليه السلام) اتقى من الأمر به، لا للاحتياط، وإلا فالإمام لا يأمر عند السؤال عن الحكم الشرعي بالاحتياط، إذ هو طريق الجاهل بالحكم لا الإمام (عليه السلام) كما هو واضح، على أن الاحتياط هنا في فراغ الذمة المشغولة بيقين مع استصحاب النهار، وهو واجب لا يجوز تركه))(1).

6- خبر جارود قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا جارود، ينصحون فلا يقبلون، وإذا سمعوا بشيء نادوا به، أو حدثوا بشيء أذاعوه، قلت لهم: مسّوا بالمغرب قليلاً فتركوها حتى اشتبكت النجوم فأنا الآن أصلّيها إذا سقط القرص).

بتقريب قاله في الوسائل أن ((قوله (عليه السلام) (مسّوا بالمغرب قليلاً) يدل على المقصود، وآخره يدل على عمله بالتقية بقرينة ذكر الإذاعة)).

ص: 60


1- جواهر الكلام: 7/114.

13- خبر الربيع بن سليمان، وأبان بن أرقم وغيرهم قالوا: (أقبلنا من مكة حتى إذا كنا بوادي الأخضر إذا نحن برجل يصلي ونحن ننظر إلى شعاع الشمس -أي الحمرة-، فوجدنا في أنفسنا، فجعل يصلي ونحن ندعو عليه حتى صلى ركعة ونحن ندعو عليه ونقول: هذا من شباب أهل المدينة، فلما أتيناه إذا هو أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، فنزلنا فصلينا معه وقد فاتتنا ركعة، فلما قضينا الصلاة قمنا إليه فقلنا: جعلنا فداك هذه الساعة تصلي؟! فقال: إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت).

بتقريب ((إنها خير شاهد على أن إناطة الوقت بذهاب الحمرة عن قمة الرأس كان من الواضحات عند الإمامية وأمراً مفروغاً عنه بينهم مركوزاً في أذهانهم، وإلا فكيف غضبوا من فعل المصلي قبل أن يعرفوا أنه الصادق (عليه السلام) حيث قالوا فوجدنا في أنفسنا -أي غضبنا-))(1).

وعلل في الوسائل فعل الإمام (عليه السلام) بأنه ((صلى ذلك الوقت للتقية ويحتمل كونه صلى بعد ذهاب الحمرة بالنسبة إلى الوادي، ويكون الشعاع خلف الجبل إلى ناحية المغرب، وقد رآه الجماعة من أعلى الجبل وقد ذكر ذلك الشيخ أيضاً، والله أعلم)).14- صحيحة أبي همّام إسماعيل بن همام قال: (رأيت الرضا (عليه السلام) وكنّا عنده لم يصلّ المغرب حتى ظهرت النجوم، ثم قام فصلّى بنا على باب دار ابن أبي محمود)(2).

15- خبر داود الصرمي قال: (كنت عند أبي الحسن الثالث يوماً فجلس يحدث حتى غابت الشمس، ثم دعى بشمع وهو جالس يتحدث فلما خرجت من البيت نظرت فقد غابت الشفق قبل أن يصلّي المغرب ثم دعى بالماء فتوضّأ وصلّى)(3).

ص: 61


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 11/180.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 19، ح9، 10.
3- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 19، ح9، 10.

(الطائفة الثانية) ما استُدل به على أن وقت الإفطار هو ذهاب الحمرة المشرقية:-

1- صحيحة زرارة قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن وقت إفطار الصائم؟ قال: حين يبدو ثلاثة أنجم)((1).

2- صحيحة زرارة الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (يحل له الإفطار إذا بدت ثلاثة أنجم)(2).

وهما رواية واحدة بحسب الظاهر.

(الطائفة الثالثة) ما استدل به على أن الإفاضة من عرفات تكون بعد الغروب الذي يُعلم بذهاب الحمرة المشرقية:-

1- صحيحة يونس بن يعقوب قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): متى تفيض من عرفات؟ فقال: إذا ذهبت الحمرة من هاهنا، وأشار بيده من المشرق والى مطلع الشمس)(3).(2).

وهي ظاهرة في المقصود باعتبار أن نهاية الوقوف في عرفات يكون بغروب الشمس.

2- موثقته قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): متى الإفاضة من عرفات؟ قال: إذا ذهبت الحمرة، يعني من الجانب الشرقي) والظاهر أنها متّحدة مع سابقتها.

مناقشة الاستدلال بالروايات على القول الأول

لا تخلو الروايات المتقدمة كلها من مناقشات في سندها أو دلالتها أو هما معاً، وسنناقشها تفصيلاً بإذن الله تعالى:

ص: 62


1- (1) و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 52، ح3، ح4.
2- (3) الرواية والتي بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 22، ح2، ح3.

أما الرواية الأولى فإنها وإن رويت بعدة طرق إلا أنها كلها تنتهي إلى القاسم بن عروة ولم تثبت وثاقته بوجه صحيح فهي غير تامة السند ولا الدلالة من جهتين:(الأولى) إنها لم تتعرض إلى المغرب وإنما تعطي علامة تكوينية على غروب الشمس عن الأرض بغياب الحمرة من جهة المشرق؛ إذ أن أغلب الناس لا يتيسّر لهم رؤية سقوط القرص ومعرفة وقته بالدقة لوجودهم في مدن ومساكن فتحجبهم الأبنية والأشجار والمرتفعات فيعلّمهم الإمام (عليه السلام) علامة لمعرفة وقت سقوط القرص الذي يرتبطون به لمعرفة أول وقت صلاتهم وإفطارهم.

وهذا التحديد لعلامة سقوط القرص مما لا يختلف فيه الفريقان، ولا بد أن نفهم من شرق الأرض وغربها أي العالم المنظور للشخص الذي غابت عنه الحمرة، وإلا فالشمس لا زالت طالعة على أقوام في غرب الأرض.

(الثانية) ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) من أن ((المراد من المشرق الوارد فيها على ما يقتضيه ظاهر اللفظ هو خصوص موضع طلوع الشمس وشروقها، في مقابل المغرب الذي يراد به النقطة التي تغرب فيها وتدخل تحت الأفق، كما يفصح عنه التعبير عنه بمطلع الشمس في رواية عمار الساباطي (التسلسل 8) لا جميع جهة المشرق وناحيته من قطب الجنوب إلى الشمال كما هو مبنى الاستدلال، وحيث أن المشرق مطلّ على المغرب بمقتضى كروية الأرض وقد صرّح به في رواية ابن أشيم (التسلسل 2) فارتفاع الحمرة عن نقطة المشرق يدل على استتار القرص ودخوله تحت الأفق بطبيعة الحال. فهذا هو مفاد الرواية ولا دلالة لها بوجه على كاشفية ذهاب الحمرة عن تمام ناحية الشرق أو عن قمة الرأس عن الغروب كما توهّمه المستدل.

وبالجملة فرض كروية الأرض والتقابل بين نقطتي المشرق والمغرب يستدعي وجود الحمرة في المشرق قبيل الاستتار وما دام القرص باقياً، وبعد استتاره ودخوله تحت الأفق ترتفع الحمرة شيئاً فشيئاً إلى أن تزول فيكون هذا الارتفاع الممكن مشاهدته لكل أحد كاشفاً عن ذلك الاستتار الذي هو المدار في

ص: 63

تعلّق الأحكام من وجوب الصلاة وانتهاء الصيام، ولا تتيسّر معرفته غالباً لمكان الجبال والأطلال ونحوهما من الموانع والحواجب التي لا تخلو عنها أقطار الأرض، فجعل الارتفاع المزبور دليلاً عليه وأمارة كاشفة عنه.

إذن فلا ارتباط للرواية بذهاب الحمرة من ناحية المشرق وتجاوزها عن قمة الرأس بوجه، بل هي على خلاف المطلوب أدلّ))(1)

أي من أدلة القول الآخر.

وأما الرواية الثانية فضعيفة السند بابن أشيم(2) وبالإرسال، والنقاش في الدلالة من جهة أن المراد ظاهراً من المشرق هو نقطة طلوع الشمس لا جهة المشرق كلها وذهاب الحمرة من نقطة الطلوع أو قل النقطة في الشرق المقابلة لنقطة غياب القرص في الغرب بحسب ما شرحه الإمام (عليه السلام) وهذا يقترن مع سقوط القرص وتنشأ مع انحسار الحمرة ظلمة تتسع من جهة الشرق ولا يلزم منه بحال التأخير إلى تجاوز الحمرة قمة الرأس مضافاً إلى ما قلناه في سابقتها من أنها بصدد بيان علامة تكوينية فلكية على سقوط القرص.وأما الرواية الثالثة فغير تامة السند بسهل بن زياد وبالإرسال، وهذا الإرسال لا تعالجه كبرى قبول مراسيل ابن أبي عمير لأن الإرسال ليس من ابن أبي عمير وإنما هو ممن بعده لقوله (عمّن ذكره) أي أن ابن أبي عمير ذكر الراوي لكن الذي بعده أخفاه.

على أن الظاهر منها أن الإمام (عليه السلام) بصدد وضع علامة لمعرفة سقوط القرص وغروبه لمن يحجب رؤيته شيء ما كبناء أو جبل أو مرتفع بقرينة ذيلها (وسقط القرص) وإلا فإن سقوط القرص ظاهرة معروفة ومحسوسة، فهذه الرواية التي هي أصرح روايات القول الأول في الدلالة على المطلوب يمكن تفسيرها بالقول الثاني.

وناقش السيد الخوئي (قدس سره) الدلالة من جهة أخرى وهي ((عدم تطابق مضمونها مع ما هو المشاهد بالعيان فإن الناظر إلى جانب المشرق من

ص: 64


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 11/169.
2- وثّقه السيد الخوئي (قدس سره) من جهة كونه من رجال كامل الزيارات وهي كبرى غير تامة.

الأفق لدى الغروب يرى أن الحمرة ترتفع شيئاً فشيئاً إلى أن تزول ثم تحدث حمرة أخرى من ناحية المغرب، لا أن تلك الحمرة تبقى وتتعدى عن قمة الرأس إلى ناحيته كما هو صريح الرواية))(1).

وأما الرواية الرابعة؛ فإنها ضعيفة السند ب- (إسماعيل بن أبي سارة) الذي لو يوثّق، نعم يمكن توثيقه بناءً على كبرى أن ابن أبي عمير لا يرسل ولا يروي إلا عن ثقة وقد روى ابن أبي عمير هذا الخبر عن إسماعيل عن أبان، لكننا صحّحنا هذه الكبرى في شقِّها الأول دون الثاني.

وتناقش دلالتها من جهة احتمال أن تأخير صلاة المغرب عن مغيب الشمس لأجل استحباب التأخير كما ورد في بعض الروايات (مسّوا بالمغرب قليلاً) وليس لأن وقت صلاة المغرب متأخر عن غروب الشمس.

وناقش السيد الحكيم (قدس سره) من جهة أخرى وهي: ((إن ذكر نفس الصلاة لا وقتها يمكن أن يكون من جهة فصل الصلاة عن المغيب غالباً بالسعي إلى المسجد والأذان والإقامة ولا يدل على تأخير وقتها عن المغيب))(2)

وقال مثله(3) السيد الخوئي (قدس سره).

وفيه: إن هذا التعليل مطّرد في كل الصلوات المفروضة فما الخصوصية في صلاة المغرب حتى تذكر؟

وأما الرواية الخامسة؛ فتحمل على الاستحباب ووقت الفضيلة بدليل انتهاء وقت المغرب بغيبوبة الشفق وجعلله أول وقت العشاء مع أن وقتهما مشترك، مضافاً إلى موافقتها لما يلتزم به أبناء العامة على خلاف مذهبنا.

ودفع السيد الخوئي (قدس سره) دلالتها ((بمنع الملازمة: لقضاء الوجدان بمشاهدة بعض الكواكب النيّرة ذات الأجرام الكبيرة قبل ذهاب الحمرة، بل عند الغروبوالسقوط، بل قد يرى قبل السقوط أيضاً ولا أقل من كوكب واحد

ص: 65


1- ونقل هذا المعنى الشيخ المنتظري (دام ظله) عن أستاذيه السيد البروجردي والسيد الخميني (قدس الله سريهما) (التعليقة على العروة الوثقى: 1/234).
2- مستمسك العروة الوثقى: 5/73.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 11/173.

وهو الوارد في الآية المباركة. إذن الرواية على خلاف المطلوب أدلّ وفي قول المشهور أظهر)).

وردّ عليه المقرِّر وهو الشهيد الشيخ مرتضى البروجردي (قدس سره) في الهامش: ((بتقريب آخر يسلم عما أورد عليه في المتن وهو: إن الصحيحة ناظرة إلى وقت جنّ الليل عليه وفي اللغة جنّ الليل على الشيء هو ستره له، ولا ستر إلا مع الظلمة المتأخرة عن الاستتار بكثير أقلّه زوال الحمرة المشرقية عن قمة الرأس، فالعبرة برؤية الكوكب في هذه الحالة لا غير)).

أقول: هذا التقريب يؤخّر الوقت عن المدّعى كثيراً كما هو ظاهر.

وأما الرواية السادسة؛ فقد ضعّف السيد الخوئي سندها ب- (محمد بن حكيم) لكنه (قدس سره) وصفه في المعجم(1)

بأنه ممدوح مستنِداً إلى رواية الكشي عن حمّاد أن الإمام أبا الحسن موسى (عليه السلام) كان يأمره بالكلام والمخاصمة مع أهل المدينة ويرضى بذلك منه.

وهي غير تامة الدلالة على المطلوب من أكثر من جهة (الأولى) أنها تتحدث عن أداء الصلاة وليس أول وقتها فلو كان في الرواية دلالة على تأخير الصلاة حتى ذهاب الحمرة فهو لأدائها، (الثانية) إن الإمام (عليه السلام) قال: (أحب) وهو أعم من الوجوب والاستحباب ويحملها صاحب القول الثاني على الاستحباب بقرينة ما ورد في عدة روايات من الترغيب بالتمسية في صلاة المغرب قليلاً، (الثالثة) إن رؤية الكوكب قد تتزامن مع سقوط القرص بل تسبقه أحياناً وهذا مختلف بحسب البلدان، فلا دلالة في الرواية على المطلوب.

وأما الرواية السابعة؛ فهي ضعيفة السند ب- (محمد بن علي) وأنها تحكي فعل الإمام الرضا (عليه السلام) وهو قد يتأخّر عن أول وقت الصلاة لعذر بقرينة كونه في سفر أو لاستحباب التمسية قليلاً بالمغرب كما ورد في عدة روايات أو لسبب آخر وقد وردت روايات عديدة في ذلك.

وأضاف السيد الخوئي (قدس سره): ((إن الدلالة قاصرة إذ الفحمة إنما تُقبل عند سقوط القرص واستتاره كإقبال البياضة عند الطلوع، فلدى غروب

ص: 66


1- معجم رجال الحديث: 15/39.

الشمس ترتفع الحمرة من نقطة المشرق تدريجياً ويتبعها السواد مباشرة كما يقضي به الحسّ والتجربة. إذن فالملازمة إنما هي بين إقبال الفحمة وبين الاستتار لا بينه وبين الزوال عن قمة الرأس كي تدلّ على القول الأشهر، بل هي في الدلالة على القول المشهور أظهر)).

وأما الرواية الثامنة فهي ضعيفة السند بعلي بن يعقوب الهاشمي وإن وصفها صاحب الجواهر بالموثقة(1) بلحاظ أحمد بن الحسن بن فضال وعمار الساباطي. وهي غير ظاهرة في القول الأول إذ أن زوال الحمرة من مطلع الشمس الذي هو نقطة شروقها يتزامن مع سقوط القرص في النقطة المقابلة من جهة الغروب فهي على القول الآخر أدلّ.وأما الرواية التاسعة فهي ضعيفة السند من جهة علي بن الحارث وبكّار الذي هو بكّار بن أبي بكر الحضرمي ولم يوثَّقا، وأما الدلالة فهي مجملة إذ أن تغيّر الحمرة يبدأ من حين سقوط القرص إلى ذهاب الشفق.

وأما الرواية العاشرة فلا يمكن الاستدلال بها على المطلوب لأن اختلاف البلدان في المطالع والمغارب أمر طبيعي شامل لكل بقاع الأرض وحكم أهل كل بلد ملاحظة غروبهم وشروقهم، فقد ورد عنهم (عليهم السلام): (وإنما عليك مشرقك ومغربك)(2).

وقوله (عليه السلام) في موثقة عبيد الله بن زرارة الآتية (صفحة 72): (إنما علينا أن نصلي إذا وجبت الشمس عنّا).

فغروب الشمس متأخراً في موضع لا يؤثر على وقت صلاة أهل الموضع الآخر الذين يسبقونهم بغروب الشمس، فالأمر بالتمسية قليلاً يمكن حمله على الاستحباب بقرينة ما دلّ على تحقق المغرب بسقوط القرص.

ثم إن هذا القليل يمكن تحققه قبل زوال الحمرة عن قمة الرأس فلا يكون دليلاً على المدّعى.

ص: 67


1- جواهر الكلام: 7/113.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة: أبواب المواقيت، باب 20، ح2.

ولعل الأمر محمول على الاحتياط من جهة احتمال اختفاء القرص خلف الأبنية والمرتفعات والأشجار وليس عن الأفق ولعل هذا وجه تعليل الإمام (عليه السلام) لأن الراوي يسكن في منطقة مظنّة للاشتباه بعكس المنطقة التي يسكن فيها الإمام (عليه السلام) ولا تحمل على اختلاف البلدان.

أما الرواية الحادية عشرة فتناقش دلالتها من حيث احتمال كون السائل شاكّاً في غياب القرص لوجود الحائل وهو الجبل وعدم وثوقه بالمؤذنين من العامة فيرشده الإمام (عليه السلام) إلى الاحتياط في الشبهة خصوصاً مع جريان استصحاب بقاء النهار عند الشك فالشبهة هنا موضوعية وليست حكمية ليلزم حمله على التقية من أجل امتناع إرادته -أي الاحتياط- من الإمام العالم بالأحكام الواقعية بحسب تقريب صاحب الجواهر (قدس سره) المتقدم.

وأما الرواية الثانية عشرة فقد رواها الشيخ بسنده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن ابن رباط عن جارود و(أو) إسماعيل بن أبي سماك عن محمد بن أبي حمزة عن جارود.

وجارود هو ابن المنذر الثقة بقرينة روايته عن أبي عبد الله (عليه السلام) وابن رباط هو علي بن الحسن بن رباط الثقة بقرينة روايته عن جارود. وطريق الشيخ إلى الحسن بن محمد بن سماعة صحيح فالرواية بسندها الأول صحيحة.

لكن سندها الثاني الذي عطفه الشيخ (قدس سره) في التهذيب(1) المطبوع ب-(أو): ((وفي الوسائل أحتملُ الواو)) يوجب الاحتمال والترديد بين الطريقين، وإسماعيل بن أبي سماك أو السماك اختُلفَ في توثيقه لإجمال قول النجاشي الذي قال في أخيه إبراهيم: ((ثقة هو وأخوه إسماعيل بن أبي السماك رويا عن أبيالحسن موسى (عليه السلام) )) فاستفاد العلامة في الخلاصة توثيقه بالعطف على ما سبقه ونفى السيد الخوئي (قدس سره) هذه الدلالة

ص: 68


1- تهذيب الأحكام، ج2، كتاب الصلاة، أبواب الزيادات، باب 13: المواقيت، ح69.

باعتباره معطوفاً على ما بعده أي أن (( (هو وأخوه) ابتداء كلام، وخبره جملة (رويا)))(1)، ولا أقلّ من الإجمال.

أقول: الأظهر ما اختاره العلامة (قدس سره) لأن المعنى المراد لو كان هو ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) لقدّم النجاشي كلمة (روى) فيقول: (روى هو وأخوه عن أبي الحسن (عليه السلام)).

وتناقش دلالة التمسية على المدّعى بما تقدم واستعمل الإمام (عليه السلام) التقية في ترك هذا الاستحباب وليس أنه (عليه السلام) صلى قبل الوقت تقية، فهي تدل على القول الثاني.

ولأن الظاهر ((أن قوله (عليه السلام): (مسّوا..) بيان لصغرى قوله (عليه السلام): (يُنصحون فلا يقبلون). وحينئذٍ تكون صلاته عند سقوط القرص ردعاً لما قد يختلج في أذهان الشيعة من رجحان الانتظار إلى أن تشتبك النجوم(2)، وحينئذٍ تكون على خلاف المشهور أدلّ، لامتناع ردعهم عن ذلك التوهم بفعل الصلاة قبل وقتها، فإن ذلك إيقاع لهم بخلاف الواقع على وجه أعظم، إذ ليس في التأخير إلا فوات الفضل وفي التقديم فوات الصحة كما لا يخفى، وحمله على كونه من صغريات الإذاعة لتكون الصلاة عند سقوط القرص من باب التقية من العامة والفرار من خطر الإذاعة فتدل على المشهور- كما في الوسائل- لا وجه له، لاختصاص ذلك بصورة إذاعة الحق الذي سمعوه لا الباطل الذي شرّعوه كما هو ظاهر الرواية، فقوله (عليه السلام): (قلت لهم: مسّوا بالمغرب قليلاً..) راجع إلى قوله (عليه السلام): (ينصحون فلا يقبلون) وصغرى له لا صغرى لما بعده، وليس قوله (عليه السلام): (قلت لهم: ..) إشارة إلى الإذاعة بوجه))(3).

ص: 69


1- معجم رجال الحديث: 3/107.
2- ورد في ذلك مرسل الصدوق (ملعون ملعون من أخّر المغرب طلباً لفضلها) (وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 18، ح6).
3- مستمسك العروة الوثقى: 5/76.

وأما الرواية الثالثة عشرة فقد ناقشنا قبل عرض الروايات في إمكان الاستدلال بالسيرة - التي نسلّم بوجودها- على تحديد وقت الصلاة.

وأما الروايتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة فهما تحكيان فعل المعصوم (عليه السلام) وهو أعم من أن يدل على التحديد إذ قد يكون التأخير لعذر وإن السيرة دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المتيقن.

وأما روايتا الطائفة الثانية الظاهرتان في الاتحاد فقد ناقشنا دلالتها بمنع الملازمة بين ظهور ثلاثة أنجم والمدّعى وهو ذهاب الحمرة من فوق الرأس خصوصاً مع اختلاف البلدان في هذه الظواهر الفلكية وفي بعض الفصول ترى النجوم في النهار فلا يتم الاستدلال، ولو فرضنا قبول هذه الحالة فلأنها علامة على سقوط القرص في بلد السائل ولذا علّق عليها الشيخ الطوسي (قدس سره): ((ما تضمّنه هذا الخبر منظهور ثلاثة أنجم لا يعتبر به، والمراعى على ما قدمناه من سقوط القرص وعلامته زوال الحمرة من ناحية المشرق وهذا - أي ظهور النجوم- كان يعتبره أصحاب أبي الخطاب لعنهم الله))(1).

وأما روايتا الطائفة الثالثة المتّحدتان فقد تقدم النقاش في مثلها من حيث أنها بصدد وضع العلامة على غروب الشمس لمن لا يتيسّر له ذلك بوجود الحاجب، وأن المراد بالمشرق نقطة شروق وطلوع الشمس كما هو صريح الصحيحة الأولى وذهاب الحمرة عنها ملازم لسقوط القرص فلا يثبت المدعى، بل هي تدل على القول الأول.

(القول الثاني): تحقق المغرب بسقوط القرص مباشرة

وقد تقدّمت عدة روايات معتبرة ضمن ما استُدلّ به على القول الأول وهي أظهر في الدلالة على القول الثاني، مضافاً إلى عدد كبير من الروايات، نقسّمها على طوائف:

ص: 70


1- التهذيب، ج4، كتاب الصوم، باب الزيادات، ح36.

(الطائفة الأولى) ما دلّ على أن المغرب يتحقق بسقوط القرص وهي:-

1- صحيحة(1)

عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها).

2- صحيحة زرارة قال: (قال أبو جعفر (عليه السلام): وقت المغرب إذا غاب القرص، فإن رأيت بعد ذلك وقد صليت أعدت الصلاة، ومضى صومك وتكفّ عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئاً).

3- مرسلة الصدوق قال: (قال أبو جعفر (عليه السلام): وقت المغرب إذا غاب القرص).

4- مرسلته الأخرى قال: (قال الصادق (عليه السلام): إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار ووجبت الصلاة، وإذا صليت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل).

5- خبر جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا غاب القرص أفطر الصائم ودخل وقت الصلاة).

6- صحيحة(2)

داوود بن أبي يزيد (وهو داوود بن فرقد) قال: (قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب).

ص: 71


1- الأحاديث من تسلسل (1) إلى (14) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 16، ح16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 24، 25، 26، 27، 28، 29، 30.
2- هذا بحسب سند الشيخ الصدوق (قدس سره) في المجالس والرواية متّحدة سنداً مع ما رواه الشيخ الطوسي عن داود عن بعض أصحابنا فيحتمل وجود الإرسال في سند الصدوق لكنه سقط من السند وقد أوردها صاحب الوسائل في أبواب المواقيت، الباب 17، ح4. قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((وإرساله غير قادح بعد وجود ابن فضال الذي ورد الأمر - في بعض الأخبار المعتبرة - بالأخذ بكتبه ورواياته وكذا كتب أولاده أحمد ومحمد وعلي وروايتهم)) (المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 6/82). وهذا المبنى الذي تكرر في كلامه (قدس سره) غير تام لوجهين:- 1- إن هذا المعنى ورد في رواية الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتاب الغيبة عن أبي الحسين بن تمام عن عبد الله الكوفي خادم الحسين بن روح عن الحسين بن روح عن أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام): (أنه سُئل عن كتب بني فضال فقال: خذوا بما رووا، وذروا ما رأوا) (وسائل الشيعة: كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، الباب8، ح79) وسندها في غاية الضعف. 2- إن الرواية لا إطلاق لها حتى تقبل كل مرويات بني فضال مهما كان سندها إلى الأئمة (عليهم السلام) فلم يرد هذا حتى في أجلّ الأصحاب وإنما تدعو الرواية إلى عدم التوقف في قبول الخبر لمجرد أن رواية ابن فضال وهو فطحي.

7- موثّقة(1)

عبيد الله بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (سمعته يقول: صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر، فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا وهي طالعة على قوم آخرين بعد، قال: فقلت: إنما علينا أن نصلي إذا وجبت الشمس عنا، وإذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلا ذلك، وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت عنهم).

8- خبره الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: إذا غربت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين إلى نصف الليل، إلا أن هذه قبل هذه، وإذا

ص: 72


1- رواها الصدوق (قدس سره) بسنده إلى عبد الله بن المغيرة وله أكثر من طريق صحيح إليه في المشيخة وإن كان المذكور في الوسائل غير تام لعدم توثيق جعفر بن علي الذي رواه عن جده الحسن بن علي عن جده عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن بكير عن عبيد الله بن زرارة.

زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين، إلا أن هذه قبل هذه). وطريقة إليه صحيح إلا من جهة القاسم بن عروة(1).

9- صحيحة(2) داوود بن فرقد التي رواها الصدوق في المجالس قال: (سمعت أبي يسأل أبا عبد الله (عليه السلام): متى يدخل وقت المغرب،

ص: 73


1- ويوجد طريق آخر لتصحيح الرواية فقد رواها الشيخ في التهذيب والاستبصار بطريق صحيح إلا من جهة الضحّاك بن يزيد (على ما في الاستبصار وهو الموجود في معاجم الرجال وليس زيد كما في التهذيب) عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في قوله تعالى: «أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَمسِ إلى غَسَقِ الليلِ» قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلا أن هذه قبل هذه، ومنها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه) (وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب10، ح4). ودفع الشيخ الأنصاري (قدس سره) الإشكال من جهة الضحاك بوجهين:- 1- رواية البزنطي عنه وقد أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه وأنه لا يروي إلا عن ثقة، وقد دفعنا هذه الكبرى. 2- إن الضحاك بن يزيد هو الضحاك أبو مالك الحضرمي - الذي قال عنه النجاشي أنه ثقة ثقة-: ((إذ لم نجد فيما عندنا من الرجال في عنوان المسمَّين بهذا الاسم من يصلح لكونه هذا الرجل إلا من ذُكر مكنىً بأبي مالك. نعم، يحتمل أن يكون هذا الرجل ممن لم يذكر في الرجال أصلاً، لكن فتح باب هذا الاحتمال مما يسد باب الرجوع إلى كتب الرجال، إذ لو فُرض أنهم ذكروا أيضاً الضحاك بن زيد ووثّقوه قلنا: من أين نعلم أن هذا الرجل هو المذكور في كتب الرجال، فلعله رجل آخر غير من ذكر مشترك معه اسماً وأباً)) (الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قده): 6/46). وهو وجه وجيه حدساً ومنسجم مع كبرى اخترناها في محلّها من أصحاب المعاجم والجوامع للرواة بأسماء تفصيلية كاملة للانصراف والشهرة ويساعد عليه في المقام اتحاد الطبقة.
2- وفي بعض المصادر وصفت بأنها مرسلة علي بن الحكم وهي كذلك في التهذيب والعلل وقال عنها الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((رواية علي بن الحكم مرسلة ضعيفة خالية عن الجابر)) (الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 6/76) لكن سندها في المجالس صحيح.

فقال: إذا غاب كرسيها، قلت: وما كرسيها؟ قال: قرصها، فقلت: متى يغيب قرصها؟ قال: إذا نظرت إليه فلم تره).

10- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال: وقت المغرب من حين تغيب الشمس إلى أن تشتبك النجوم).

11- صحيحة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي المغرب حين تغيب الشمس حيث تغيب حاجبها).

12- خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: وقت المغرب حين تغيب الشمس).

13- صحيحة إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن وقت المغرب؟ قال: مابين غروب الشمس إلى سقوط الشفق).

14- خبر عمر بن أبي نصر قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في المغرب: إذا توارى القرص كان وقت الصلاة، وأفطر).

15- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة)(1).

16- خبر إسماعيل بن مهران قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): (ذكر أصحابنا أنه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر، وإذا غربت دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة، إلا أن هذه قبل هذه في السفر والحضر، وأن1- وقت المغرب إلى ربع الليل. فكتب: كذلك الوقت غير أن وقت المغرب ضيق)(2). الحديث.

16- صحيحة(3)ليث

بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يؤثر على صلاة المغرب شيئاً إذا غربت الشمس حتى يصليها).

ص: 74


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 17، ح1، 14.
2- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 17، ح1، 14.
3- الأحاديث (17) إلى (20) من أبواب المواقيت، الباب 18، ح9، 16، 17، 24.

18- موثقة أبي أسامة زيد الشحّام والصباح بن سيابة قالا: (سألوا الشيخ (عليه السلام) عن المغرب فقال بعضهم: جعلني الله فداك، ننتظر حتى يطلع الكوكب؟ فقال: خطابية؟! إن جبرئيل نزل بها على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سقط القرص).

19- خبر القاسم بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ذكر أبو الخطاب، فلعنه، ثم قال: إنه لم يكن يحفظ شيئاً حدثته، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) غابت له الشمس في مكان كذا وكذا، وصلى المغرب بالشجرة وبينهما ستة أميال، فأخبرته بذلك في السفر فوضعه في الحضر).

20- صحيحة صفوان بن مهران الجمال قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن معي شبه الكرش(1)

المنثور، فأؤخر صلاة المغرب حتى عند غيبوبة الشفق ثم أصليهما جميعاً يكون ذلك أرفق بي؟ فقال: إذا غاب القرص فصل المغرب، فإنما أنت ومالك لله).

21- صحيحة(2) أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): أنت في وقت من المغرب في السفر إلى خمسة أميال من بعد غروب الشمس).

22- خبر إسماعيل بن جابر قال: (كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) حتى إذا بلغنا بين العشائين قال: يا إسماعيل امض مع الثقل والعيال حتى ألحقك، وكان ذلك عند سقوط الشمس، فكرهت أن أنزل وأصلي

ص: 75


1- في كتب اللغة: الكرِش بالكسر ككتف لكل مجترّ؛ بمنزلة المعدة للإنسان وعيال الرجل وصغار ولده فيقال لهم كرش منثورة أي صبيان صغار، قال المجلسي (قدس سره): ((والمراد هنا كثرة العيال أو كثرة الجمال كما يشهد به حاله وآخر الخبر أيضاً والغرض: إني لكثرة عيالي محتاج إلى العمل أو لكثرة جمالي وخوف انتشارها وتفرّقها لا أقدر على تفريق الصلاتين فنهى (عليه السلام) عن تأخير المغرب لذلك، وفيه دلالة ما على مرجوحية الجمع أيضاً)) (البحار: ج83، صفحة 61).
2- الحديثان (21) و(22) أبواب المواقيت، الباب 19، ح 6، 7.

وأدع العيال، وقد أمرني أن أكون معهم، فسرت ثم لحقني أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: يا إسماعيل هل صليت المغرب بعد؟ فقلت: لا، فنزل عن دابته وأذن وأقام وصلى المغرب وصليت معه، وكان من الموضع الذي فارقته فيه إلى الموضع الذي لحقني ستة أميال).

23- موثّقة(1) سماعة بن مهران قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في المغرب إنا ربما صلينا ونحن نخاف أن تكون الشمس خلف الجبل أو قد سترنا منها الجبل؟ قال: فقال: ليس عليك صعود الجبل).

فلو كان المغرب يتحقق بزوال الحمرة عن قمة الرأس فسوف لا يكون معنى لصعود الجبل.

24- الصحيحة إلى أبي أسامة (وهو زيد الشحام) أو غيره -كما في التهذيب- (لكن الصدوق رواها بسنده عن أبي أسامة تعييناً) قال: (صعدت مرة جبل أبي قبيس والناس يصلون المغرب، فرأيت الشمس لم تغب إنما توارت خلف الجبل عن الناس، فلقيت أبا عبد الله (عليه السلام) فأخبرته بذلك، فقال لي: ولم فعلت ذلك؟! بئس ما صنعت، إنما تصليها إذا لم ترها خلف جبل، غابت أو غارت ما لم يتجللها سحاب أو ظلمة تظلها، وإنما عليك مشرقك ومغربك، وليس على الناس أن يبحثوا).

أقول: علّق الشيخ المجلسي (قدس سره) على هذين الخبرين ببيان قال فيه: ((ظاهر هذا الخبر المتقدم -الأول – الاكتفاء بغيبوبة الشمس خلف الجبل وإن لم تغرب عن الأفق ولعله لم يقل به أحد، وإن كان ظاهر الصدوق القول به لكن لم ينسب إليه هذا القول، ويمكن حمله على ما إذا غابت عن الأفق الحسّي لكن يبقى ضوؤها على رؤوس الجبال كما نقلنا عن الشيخ في المبسوط، ولعل الشيخ حملهما على هذا الوجه وليس ببعيد جداً)).

ص: 76


1- الحديثان (23) و(24) أبواب المواقيت، الباب 20، ح1، 2.

ونقل عن والده (قدس سره) في الثاني: ((أن ذَمَّه على صعود الجبل لأنه كان غرضه منه إثارة الفتنة بأن يقول إنهم يفطرون ويصلّون والشمس لم تغب بعد وكان مظنَّة أن يصل الضرر إليه وإلى غيره فنهاه (عليه السلام) لذلك، ويمكن أن يكون المراد بقوله (عليه السلام): (فإنما عليك مشرقك ومغربك) أنك لا تحتاج إلى صعود الجبل فإنه يمكن استعلام الطلوع والغروب بظهور الحمرة أو ذهابها في المشرق أو عنه للغروب وعكسه للطلوع. وهذا الوجه جارٍ في الخبر الآخر أيضاً))(1).

25- صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سألته عن وقت صلاة المغرب؟ فقال: إذا غاب القرص. ثم سألته عن وقت العشاء الآخرة؟ فقال: إذا غاب الشفق، قال: وآية الشفق الحمرة، ثم قال بيده: هكذا)(2).

26- مرسلة الصدوق؛ قال: (قال أبو جعفر (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)).. إلى أن قال: (ثم لا يصلي بعد العصر شيئاً حتى تؤوب الشمس، فإذا آبت وهو أن تغيب صلى المغرب ثلاثاً)(3)الحديث.

27- موثقة ذريح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أتى جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعلمه مواقيت الصلاة) إلى أن قال: (وصلِّ المغرب إذا سقط القرص)(4)الحديث.

28- صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال: (صلّيت المغرب مع أهل المدينة في المسجد فلمّا سلّم الإمام قمت فصلّيت أربع ركعات ثم صلّيتُ العتمة ركعتين ثم مضيت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فدخلت عليه بعد ما أعتمت فقال لي: صلّيتَ العتمة؟ فقلت له: نعم، قال: متى

ص: 77


1- بحار الأنوار: 83/58.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 23، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب 14، ح5.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 10، ح8.

صلّيت؟ قلت: صلّيت المغرب وائتممتُ بصلاتي معهم فلما سلّم الإمام قمت فصلّيتُ أربع ركعات ثم صلّيت العتمة ركعتين ثم أتيتك. فأخذ في شيء آخر ولم يجبني فقلت له: إني فعلت هذا وهو عندي جائز فإن لم يكن جائزاً قمت الساعة فأعدت، فأخذ في شيء آخر ولم يجبني)(1).

وتقريب الاستدلال بوضوح جواز أداء صلاة المغرب مع سقوط القرص مع الجماعة عند البزنطي في جلالة قدره.

3- العلاّمة في المنتهى: عن كتاب مدينة العلم للصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان، قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها)(2).

(الطائفة الثانية) ما دلّ على انتهاء وقت الظهرين بغروب الشمس:

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((إذن فأول وقت المغرب هو آخر وقت الظهرين مقارناً مبدؤه لمنتهاه ومتصلاً به من غير فترة فاصلة، والظاهر أن هذا مما لا خلاف فيه، بل في الرياض دعوى الإجماع عليه)) بضميمة الإجماع على أن الغروب هو وقت صلاة المغرب وهي:-

1- مرسلة داوود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (وبقي وقت العصر حتى تغيب الشمس)(3).

2- خبر القاسم بن عروة عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه: (ثم أنت في وقت منهما - أي الظهرين- جميعاً حتى تغيب الشمس)(4).

3- صحيحة إبراهيم الكرخي قال: (سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام)) إلى أن قال: (فقلت: فمتى يخرج وقت العصر؟ فقال: وقت

ص: 78


1- بحار الأنوار: 83/62، عن قرب الإسناد.
2- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي: 2/28، ح 32.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 4، ح7، 22.
4- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي: 2/28، ح 32.

العصر إلى أن تغرب الشمس وذلك من علة وهو تضييع)(1)الحديث.

4- صحيحة معمر بن يحيى قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: وقت العصر إلى غروب الشمس)((2).

5- خبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة لا تفوت صلاة النهار حتى تغيب الشمس ولا صلاة الليل حتى يطلع الفجر ولا صلاة الفجر حتى تطلع الشمس)(3).

(الطائفة الثالثة) ما دلّ على أن الإفطار يكون عند غروب الشمس:

وأولها الآية الشريفة «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِيَامَ إلى اللَيلِ» (البقرة: من الآية 187) بضميمة أن الليل يبدأ بغروب الشمس حتى عند من ذهبوا إلى تحديد المغرب بذهاب الحمرة وبضميمة الإجماع على أن الغروب هو المغرب، ومن الروايات:-

1- موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (فأما النافلة فله أن يفطر أي وقت شاء إلى غروب الشمس)(4).

2- صحيحة أبي بصير وسماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في قوم صاموا شهر رمضان فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس فرأوا أنه الليل فأفطر بعضهم، ثم إن السحاب انجلى فإذا الشمس، فقال: على الذي أفطر صيام ذلك اليوم إن الله عز وجل يقول: «وَأَتِمُّوا الصّيَامَ إلى اللَيلِ» فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه لأنه أكل متعمداً)(5).

ص: 79


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 8، ح32.
2- (2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 9، ح13.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 10، ح9.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم، باب 4، ح8.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 50، ح1.

3- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (أنه قال لرجل ظن أن الشمس قد غابت فأفطر ثم أبصر الشمس بعد ذلك، قال: ليس عليه قضاء)(1).

4- صحيحة أبي الصباح الكناني قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل صام ثم ظنّ أن الشمس قد غابت وفي السماء غيم فأفطر، ثم أن السحاب انجلى فإذا الشمس لم تغب، فقال: قد تم صومه ولا يقضيه).

وتقريب الاستدلال بالروايات من جهة ظهورها في كون غروب الشمس هو حد الإفطار والليل.

(الطائفة الرابعة) ما دلّ على أن الإفاضة من عرفة عند غروب الشمس:

1- صحيحة معاوية بن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن المشركين كانوا يفيضون قبل أن تغيب الشمس فخالفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأفاض بعد غروب الشمس)(2).

2- صحيحة مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في رجل أفاض من عرفات قبل غروب الشمس، قال: إن كان جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان متعمداً فعليه بدنة)(3).

3- صحيحة ضريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل أفاض من عرفات قبل أن تغيب الشمس؟ قال: عليه بدنة ينحرها يوم النحر، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكة أو في الطريق أو في أهله)(4).

ص: 80


1- والتي بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 51، ح2، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، الباب 22، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 23، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 23، ح3.

الجمع بين الروايات

بالرغم من مناقشتنا في روايات القول الأول واحدةً واحدة إلا أن ذلك لا ينافي الاطمئنان بصدور طلب من المعصوم (عليه السلام) بالصبر والانتظار بعد سقوط القرص عن عين الرائي في الجملة كما في صحيحة يعقوب بن شعيب (مسّوا بالمغرب قليلاً) فلا يمكن إسقاط حجّيتها بالجملة.

فلا بد من التفكير في كيفية الجمع بينها وبين روايات القول الثاني التي بلغت التواتر واعترف بها بعض من ذهب إلى القول الأول كالشيخ الأنصاري (قدس سره) في كلمته التالية.

وللفقهاء (قدس الله أرواحهم) عدة مسالك في معالجة هذا الاختلاف في الروايات:

(المسلك الأول) الأخذ بالقول الأول وإسقاط روايات القول الثاني عن العمل بها لوجه أو آخر من الوجوه الآتية التي سنناقشها تفصيلاً إن شاء الله تعالى، فالقول الأول وإن كان مشهوراً لدى الفقهاء إلا أن طرقهم للوصول إليه كانت عديدة وهذا يضعف دليل الإجماع والشهرة على القول به.

ويرد عليها جملةً أنهم لا يلتزمون بهذه النتيجة في الموارد الفقهية الأخرى.

وهذا مخالف لإجماعهم أن الغروب والمغرب واحد وأن نهاية النهار وبداية الليل واحدة، كالتزامهم بانتهاء وقت الظهرين - وقد تقدّم- بسقوط القرص، أو وجوبأداء الحائض للصلاة إذا طهرت قبل غروب الشمس(1) أو إفطارها إذا طمثت قبل الغروب(2).

ص: 81


1- كصحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا طهرت المرأة قبل طلوع الفجر صلّ-ت المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل أن تغيب الشمس صلّت الظهر والعصر) (وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 49، ح7). وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصلّ الظهر والعصر) الحديث، (وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 49، ح10).
2- كخبر عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة طمثت في شهر رمضان قبل أن تغيب الشمس، قال: تفطر حين تطمث) (وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 50، ح1).

فإذا كان المغرب هو ذهاب الحمرة فلماذا لم يعمّموه إلى الموارد الأخرى وقد تقدّم إجماعهم على أن المغرب والغروب واحد وهو موعد صلاة المغرب.

ويبدو أن الذي شجّعهم على إلغاء العمل بها هنا هو موافقة القول الأول للاحتياط، وهذا ما افتقدوه هناك فلم يجرأوا، فاختيارهم القول الأول في حقيقته إذن ليس لمناقشةٍ في روايات القول الثاني سنداً أو دلالة -وإن ظهر هكذا في كلمات الأكثر- وإنما لاعتبارات أخرى ذكرناها عندما ناقشنا الإجماع والسيرة.

ومن هذه الوجوه التي قيلت أو يمكن أن تقال:

(الأول) الالتزام بالقول الأول وحمل أخبار القول الثاني على التقية، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((فالعجب من هؤلاء المتأخّرين كيف أعرضوا عن ذلك - أي القول الأول - ومالوا إلى القول الآخر مستندين إلى كثرة أخباره وصحّتها عكس القول الآخر، ولم يعلموا أن ذلك في الحقيقة والنظر الصحيح شاهد عليهم لا لهم، لأن أمر التقية في المقام يقضي بورود أكثر من تلك النصوص، ضرورة كونه من الأمور الظاهرة التي تتكرر في كل يوم، ولا يسع التخفي فيها، فحفظوا أنفسهم وشيعتهم بذلك، فكثرة النصوص فيه دون الآخر أكبر شاهد على ما قلنا، وخصوصاً وقد كان في الشيعة سابقاً من لا يحافظ على التقية، ويفضح نفسه وإخوانه وإمامه))(1).

وهذا مما لا يمكن المساعدة عليه:-

ص: 82


1- جواهر الكلام: 7/111.

1- لإباء جملة من الروايات هذا الحمل كالاستشهاد بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن خلال ألسنة بعضها.

2- إن الحمل على التقية فرع المعارضة المستقرة بين الدليلين وهذا ما لم يثبت.

3- إننا ناقشنا تفصيلاً في بعض الروايات التي قيل بحملها على التقية.

إن ما ذكره (قدس سره) من أن كثرة الروايات تأكيد للحمل على التقية غير مفهوم، ولم يكن الأئمة (عليهم السلام)

يحتاجون إلى التقية من هذه الناحية لأن سيرتهم وشيعتهم جارية على تأخير المغرب بهذا المقدار من دون نكير من1- السلطة أو العامة وقد اعترف الجميع بهذه السيرة التي عُرف بها أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم فما الداعي إلى هذا الكم المتواتر من الروايات المخالفة لتلك السيرة مما لم يصدر مثله في أي مورد مهما كان خطره.

نعم يمكن تصوير هذا المعنى بوجه مستقل هو الآتي:

إن بعض الروايات لم تكن بصدد تحديد وقت صلاة المغرب حتى نحتمل فيها التقية وإنما بصدد بيان أمر آخر كوظائف الحائض من حيث الصوم والصلاة أو جواز إبطال صوم النافلة أو الإفاضة من عرفات ونحوها.

وقد سبق منا هذا المعنى عندما شيّدنا فكرة المرجّح المساوي(1).

(الثاني) إن إعراض الأصحاب عن روايات القول الثاني الذي كاد أن يكون إجماعاً دليل على صدورها لجهة غير بيان الحكم الواقعي كالتقية ونحوها، ويحصل الاطمئنان بهذا المعنى مع وضوح الروايات وصحّتها وكثرتها.

وفيه:-

1- منع الصغرى؛ فقد قال جملة من المتقدمين والمتأخرين بالقول الثاني ((وإليه ذهب في الاستبصار على أحد الوجهين في الجمع بين الأخبار وهو مختار السيد المرتضى وابن الجنيد وابن بابويه في كتاب علل الشرائع وظاهر اختياره في الفقيه))(2) ومال إليه من المتأخرين المحقق الأردبيلي والشيخ

ص: 83


1- في الطبعة الأولى من فقه الخلاف: 2/180، وفي هذه الطبعة يكون في: 6/285.
2- بحار الأنوار: 83/51.

البهائي وقوّاه في المدارك والبحار وغيرهم بل استظهرنا من كلام المحقق في الشرائع أنه قول مشهور لكن الآخر أشهر.

2- إن هذا الإعراض إنما يكون مانعاً من الأخذ بالروايات إذا كان تعبدياً كاشفاً عن توجّه عام لدى فقهاء ورواة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا غير متحقق في المقام لاحتمال ذهاب المشهور إلى هذا القول لما دلّ على استحباب التأخير أو للاحتياط أو لأنه علامة على تيقّن الغروب ونحوها فلا يكون مانعاً.

3- إن إعراضهم ليس مطلقاً فقد التزموا بتحقق الغروب بسقوط القرص في نهاية وقت الظهرين وغيرها من الموارد التي تقدّم ذكرها وسيأتي بإذن الله تعالى مما يضعّف قيمة هذا الإعراض.

(الثالث) نسخ القول الثاني بالأول، قال صاحب الوسائل في ما نقلناه من تعيّن العمل بالقول الأول لوجوه منها ((لعدم احتماله - أي القول الأول - للنسخ مع احتمال بعض معارضاته له)) وربما يشير بهذا البعض إلى ما ورد من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفيه:-

1- إن هذا الاحتمال يرد في البعض -وهي التي ورد فيها حكاية فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)- دون الكل فينتقل الكلام إلى الباقي.

2- إن الإمام (عليه السلام) كان بصدد الاستدلال بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس بصدد حكايتها حتى يأتي فيها هذا الاحتمال.(الرابع) الأخذ بالقول الأول لأنه أشهر فتوىً.

وفيه:-

1- إن المرجح في باب التعارض هو شهرة الرواية لا شهرة الفتوى، والشهرة الروائية في المقام للاثنين معاً إن لم تكن للقول الثاني.

2- إن الترجيح فرع التعارض المستقر وهو ما لم يثبت.

ص: 84

(الخامس) الأخذ بالقول الأول لأنه أحوط؛ قال الشيخ الطوسي (قدس سره): ((وطريقة الاحتياط تقتضي ما قلناه –أي ذهاب الحمرة- فإنه إذا صلّى في هذا الوقت كان مؤدّياً بلا خلاف))(1)، وقد أجبنا عليه فيما سبق، ومما قلنا هناك أن مقتضى الاحتياط إن كان هذا بلحاظ صلاة المغرب والإفطار فإن القول الثاني هو الأحوط بلحاظ الظهرين مضافاً إلى ما دلّت عليه النصوص المتقدمة، وأن الاحتياط أصل لا يُعمل به مع توفّر الأمارة.

(السادس) الأخذ بالقول الأول لموافقته للأصل، قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره)(2).

ولعله يشير بالأصل إلى أصالة عدم دخول الوقت عند الشك فيه أو استصحاب بقاء النهار.

وفيه: إنه لا معنى للتمسّك بالأصل مع وجود الدليل.

(السابع) ما قاله صاحب الوسائل من ترجيح القول الأول: ((لكونه أوضح دلالة من معارضه، إذ لم يصرح فيه بعدم اشتراط ذهاب الحمرة)).

وفيه:-

1- إن العكس هو الصحيح فإن القول الثاني صريح في تحديد الوقت بسقوط القرص ولا مدخلية لعدم اشتراط ذهاب الحمرة ونحوها فلا حاجة إلى نفيها وعليه فلا وجه للتمسّك بالإطلاق.

2- إن روايات القول الأول غير صريحة ولا ظاهرة في التحديد أو تعيين المدعى وإنما هي إما ظاهرة في وضع العلامة على غروب الشمس أو أنها ظاهرة في القول الثاني على ما تقدم.

(الثامن) إن غروب الشمس وإن كان معناه واضح عرفاً إلا أن الشارع المقدس تصرّف فيه وحدده بذهاب الحمرة من جهة المشرق كتحديده للعصر والعشاء وغيرها، وهذا التصرف من حق الشارع المقدس.

ص: 85


1- الخلاف: 1/262.
2- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قده): 6/71.

ويمكن أن يستفاد هذا الوجه من كلام صاحب الرياض (قدس سره) فإنه استدل على مختاره من تحديد المغرب بذهاب الحمرة المشرقية ب-((توقيفية العبادة ولزوم الاقتصار في فعلها على المتيقن ثبوته من الشريعة فتوى ورواية، وليس إلا بعد ذهاب الحمرة))(1).

ويظهر أيضاً من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) فإنه ردّ على من قاس غروب الشمس على طلوعها من حيث الاعتبار بالقرص بقوله: ((إنه اجتهاد فيمقابلة النص، فلعل الشارع لم يعتبر ذلك في الطلوع في صلاة الفجر، واعتبره في المغرب))(2).

ويظهر أيضاً من كلام السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حينما فرّق بين الغروب والمغرب.

وفيه:-

1- إنه منافٍ لظهور روايات القول الثاني في التحديد ولظهور روايات القول الأول في الكاشفية.

2- إن هذا التصرف من الشارع المقدس ((لو كان ثابتاً لاشتهر النقل عنه؛ لتوفر الدواعي إليه؛ للابتلاء به في كل يوم))(3) وفيه تأمل من جهة الدعوى بأن روايات القول الأول تكفلت بهذا البيان.

(المسلك الثاني) عدم إسقاط روايات القول الثاني عن الاعتبار ولكنهم تصرّفوا فيها بما لا ينافي روايات القول الأول -وهذا المسلك أولى من سابقه لما في الأول من مخالفة لفهم العرف وظهور بل صريح الروايات- بأحد الوجوه التالية:

(الأول) ما أجاب به العلامة (قدس سره) في المختلف وغيره، وذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((من أنه لا كلام ولا خلاف في أن الوقت غروب الشمس، وإنما الكلام فيما به يتحقق الغروب، وقد فسّر في الأخبار المتقدمة

ص: 86


1- رياض المسائل: 2/205.
2- جواهر الكلام: 7/120.
3- مستمسك العروة الوثقى: 5/77.

بزوال الحمرة، فهي مفسّرة لتلك الأخبار المتواترة أو القريبة منها، لا معتبرة لشيء زائد على ما اعتبر فيها))(1).

وظاهر هذا الكلام أن ((غيبوبة القرص وغروب الشمس ونحو ذلك من هذه العبارات مجملة قابلة للحمل على كل من القولين))(2)

كما صُرّح به في الحدائق.

وعلله صاحب الرياض (قدس سره): ((بأن المراد بسقوط القرص وغيبوبة الشمس سقوطه عن الأفق المغربي، لا خفاؤها عن أعيننا قطعاً، وعليه نبّه شيخنا في روض الجنان، قال: لأن ذلك يحصل بسبب ارتفاع الأرض والماء ونحوهما، فإن الأفق الحقيقي غير مرئي))(3).

وهذا الوجه وإن قاله جملة من الأساطين إلا أنه لا يتم لأن غروب الشمس وسقوط القرص ظاهرة معروفة وليست مجملة ويقابلها طلوع الشمس الذي لم يختلف فيه اثنان وخلت الروايات من بيانه وتعريفه بالحمرة ونحوها، ولذا ورد في روايةالفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في حديث: (غروب الشمس مشهور معروف تجب عنده المغرب)(4).

ولا حاجة إلى تعريفه بالحمرة والنجوم، نعم يمكن وضع علامات عليه لخفائه أحياناً بسبب وجود الموانع وهو ما سيأتي بإذن الله تعالى.

(الثاني) ما قاله الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) من أن ((مقتضى الجمع بين أخبار استتار القرص وأخبار زوال الحمرة، هو أن الأرض وإن كانت كروية وليس شرق الأرض أو غربها إلا خط الأفق، ولكن الاعتبار هنا ليس بغيبوبة الشمس واستتارها عن حسّ المصلي وسقوطها عن أفقه فقط، بل بغيبوبتها عن جميع الأراضي المتساوية السطح بحسب الحس بحيث لا يراها أحد من ساكنيها وتسقط عن أفق الجميع. ويشهد لذلك صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد

ص: 87


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قده): 6/75.
2- الحدائق الناضرة: 6/166.
3- رياض المسائل: 2/209.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 10، ح11.

الله (عليه السلام) قال: قال لي: (مسّوا بالمغرب قليلاً، فإن الشمس تغيب من عندكم قبل أن تغيب من عندنا(1) ))(2).

وهو رأي عميق إلا أنه يواجه إشكالات من عدة جهات:-

1- منافاته مع ما دلّ على أن لكل قوم مشرقهم ومغربهم من الروايات والإجماع وقد تقدّمت رواية أبي أسامة زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (وإنما عليك مشرقك ومغربك)(3).

2- عدم تطابق الدليل مع المدّعى فالمدعى الانتظار حتى تزول الحمرة من جهة المشرق وهي بالمعدل - في مناطقنا- اثنتا عشرة دقيقة، ونقطة غروب الشمس تتحرك خلال هذه المدة على مسافة تزيد على مائتي كيلومتراً وهي أكبر بكثير من المسافة التي تبدو فيها الأرض مسطحة كما افترض الدليل المذكور وهي على أي حال لا تتجاوز بضع كيلومترات وأقل مدى للرؤية الذي ذكروه بعنوان حد الترخّص في أحكام صلاة القصر، والشاهد على أنها أقل من مدى الرؤية الدليل الذي يساق عادة على كروية الأرض من أن الواقف على الشاطئ يرى أول ما يرى صارية السفينة ثم الجؤجؤ ثم يظهر جسمها شيئاً فشيئاً. وبحسب المسافة بالدقة كالتالي:

نصف قطر الأرض عند خط الاستواء (6378) كيلومتراً(4).

فقطر الأرض 6378 × 2 = 12756 كيلومتراً.محيط الأرض المار بخط الاستواء = 12756 × النسبة الثابتة= 40090 كيلومتراً.

وهو ما تقطعه الأرض في دورانها يومياً أي خلال (24) ساعة.

ص: 88


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 16، ح13.
2- التعليقة على العروة الوثقى: 234.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 20، ح2.
4- كروية الأرض ليست منتظمة فإنها مفلطحة مضغوطة من الأعلى ونصف القطر عند القطبين هو (6356.78) كيلومتراً.

إذن: ما تقطعه في الدقيقة الواحدة يساوي 40090 ÷ (24 × 60)= 27.84 كيلومتراً.

وهي مسافة تزيد عما تتمكن العين من رؤيته في الأفق رغم أنها تمثل مسافة دقيقة واحدة فكيف باثنتي عشرة دقيقة.

3- إن الأرض تشهد في كل آن غروب الشمس على نقطة وطلوعها على نقطة أخرى لأن الأرض في حركة مستمرة حول محورها أمام الشمس وحول الشمس أيضاً، فلا يمكن إذن جمع ((الأراضي المتساوية السطح بحسب الحس)) لأننا إذا أردنا جمع نقطة مع التي في شرقها بغروب الشمس في آن، كانت هي بلحاظ النقاط التي في غربها في حالة عدم غروب الشمس، فالوجه المذكور متعذّر.

4- إذا كان دليله (دام ظله الشريف) صحيحة يعقوب المذكورة فإنها يمكن فهمها بأشكال أخرى منها ما تقدم ومنها ما لو كان في وادي أو خلف مرتفع من الأرض أو حاجب فيتراءى له غروب الشمس وهي في الحقيقة لم تغب عن المنطقة عند من لا توجد عنده تلك الموانع فلا يمكن الاستدلال بها.

(الثالث) ما ذكرناه في كتاب (الرياضيات للفقيه)(1) من أن الوجه هو لكي يتساوى وقت الصلاة لدى الموجودين في أوطأ نقطة على الأرض وأعلى نقطة كما لو كان في المنطقة جبل أو ناطحات سحاب فإن غروب الشمس يتأخر كلما صعدنا إلى الأعلى لأن الشرق مطلّ على الغرب بحسب رواية ابن أشيم واقتضته كروية الأرض، فإذا غابت الشمس عن مستوى الأرض فإنها لم تغب عمّن هو في مستوى أعلى من سطح الأرض وهكذا.

إن قلتَ: إن ذهاب الحمرة يتأخّر عمّن هو في الأعلى أيضاً والنتيجة أن وقت المغرب في الأعلى يبقى متخلفاً عمّن هو على الأرض.

ص: 89


1- راجع (صفحة 105 وما بعدها من كتاب الرياضيات للفقيه، طبعة بيروت).

قلتُ: إن الوقت المطلوب لذهاب الحمرة يقلّ تدريجياً كلما ارتفعنا وتنعدم الحمرة في أعلى نقطة وبذلك يحصل توازن في الوقت بين تأخر سقوط القرص في المناطق العليا مع النزول في وقت ذهاب الحمرة.

وقد ضم الكتاب جدولاً يبين فروق الوقت بحسب الارتفاعات وكانت أعلى نقطة في الأرض تتطلب اثنتي عشرة دقيقة أزيد مما على سطح البحر بإجراء عمليات رياضية معمقة تعتمد على حساب النسب المثلثية ولا يناسب عرضه في المقام. وهو وجه لفهم صحيحة يعقوب بن شعيب كما ذكرنا.

وهذا المعنى موجود في كلمات الشيخ الطوسي (قدس سره) حيث قال في المبسوط: ((علامة غيبوبة الشمس هو أنه إذا رأى الآفاق والسماء مصحية ولا حائل بينه وبينها، ورآها قد غابت عن العين عُلم غروبها، وفي أصحابنا من قال يراعى زوال الحمرة من ناحية المشرق وهو الأحوط، فأما على القول الأول إذا غابت الشمس عن البحر (النظر) ورأى ضوءها على جبل يقابلها أو مكان عالٍ مثل منارة الإسكندريةوشبهها فإنه يصلي ولا يلزمه حكم طلوعها بحيث طلعت، وعلى الرواية الأخرى لا يجوز ذلك حتى تغيب في كل موضع تراه وهو الأحوط))(1) ((وإلا لزم اختلاف الوقت باختلاف أمكنة الناظرين سفلاً وعلواً من البئر إلى المنارة، على أن من المقطوع به عدم صدق غيبتها عن النظر مع رؤية ضوئها على قلل الجبال كما هو واضح))(2).

وفيه:-

1- إن هذا لو تم فإنه يراعى في المدن التي تحتوي على مناطق مرتفعة ومنخفضة لا مطلقاً.

2- إنه منافٍ لما دلّ على عدم وجوب صعود الجبل للتأكد من مغيب الشمس كصحيحة زيد الشحام قال: (صعدت مرة جبل أبي قبيس والناس يصلّون المغرب، فرأيت الشمس لم تغب إنما توارت خلف الجبل عن الناس، فلقيت أبا عبد الله (عليه السلام) فأخبرته بذلك، فقال لي:

ص: 90


1- بحار الأنوار: 83/50.
2- جواهر الكلام: 7/118.

ولمَ فعلت ذلك؟! بئس ما صنعت، إنما تصليها إذا لم ترها خلف جبل، غابت أو غارت ما لم يتجلّلها سحاب أو ظلمة تظلها وإنما عليك مشرقك ومغربك وليس على الناس أن يبحثوا)(1).

(المسلك الثالث) وهو ترجيح العمل بروايات القول الثاني والتصرف في روايات القول الأول بما لا ينافيها وهو الرأي المختار.

ص: 91


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب20، ح2.

الرأي المختار

والذي نختاره في وجه الجمع أن روايات القول الثاني ظاهرة بل صريحة في أن المغرب يتحقق بسقوط القرص وهي حالة فلكية معروفة كشروق الشمس وليست مجملة حتى تحتاج إلى تعريف.

أما الأمر بالصبر قليلاً وانتظار ارتفاع الحمرة من جهة المشرق فيمكن فهم عدة وجوه لصدوره عنهم (عليهم السلام):-

1- إن لحظة الغروب قد تخفى بالدقة لوجود الناس في الغالب في مدن ذات عمران وبناء وأشجار أو تكون من جهة المغرب مرتفعات أو غيوم أو أي شيء آخر، والناس محتاجون لمعرفة لحظة الغروب لارتباط إفطارهم وصلاتهم بها وقد يتراءى لهم أن الشمس قد غابت وهي موجودة في الأفق لذلك وردت عدة روايات تفيد وقوع مثل هذا الاشتباه لدى المؤذنين فضلاً عن عامة الناس وكان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) حريصين على أن لا يقعوا في الاشتباه ففي موثقة سماعة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في المغرب: إنّا ربما صلينا ونحن نخاف أن تكون الشمس خلف الجبل أو قد سترنا منها الجبل، فقال لي: ليس عليك صعود الجبل)(1). فأرشدهم الأئمة (عليهم السلام) إلى علامة على تحقق الغروب قطعاً وهو ارتفاع الحمرة من جهة الشرق لأنه مطلّ على الغرب بحسب رواية ابن أشيم وقد عُرف عن الأئمة (عليهم السلام) تعليمهم شيعتهم بعض العلامات على الأوقات للتسهيل عليهم كصحيحة الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم قالوا: (كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع فقال أبو عبد الله (عليه السلام) ألا أنبئكم بأبين من هذا،

ص: 92


1- من لا يحضره الفقيه، ج1، باب مواقيت الصلاة، ح 656.

إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر إلا أن بين يديها سبحة، وذلك إليك إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت)(1).

وخبر علي بن الريّان قال: (كتبت إليه (عليه السلام): الرجل يكون في الدار يمنعه حيطانها النظر إلى حمرة المغرب ومعرفة مغيب الشفق ووقت صلاة العشاء الآخرة متى يصليها وكيف يصنع؟ فوقّع عليه السلام: يصلّيها إذا كان على هذه الصفة عند قصر النجوم والمغرب عند اشتباكها وبياض مغيب الشمس)(2).

وهذا الوجه من الجمع يظهر من كلمات عدد من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، قال الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة: ((حد دخول الليل مغيب قرص الشمس وعلامة مغيب القرص عدم الحمرة من المشرق فإذا عدمت الحمرة من المشرق سقط الحظر وحلّ الإفطار))(3)، وقال ابن إدريس (قدس سره): ((فإذا غربت الشمس ويعرف غروبها بذهاب الحمرة من ناحية المشرق))(4) وفي فقه الرضا (عليه السلام): ((وأول وقت المغرب سقوط القرص وعلامة سقوطه أن يسودّ أفق المشرق)) وفيه ((وقت المغرب سقوط القرص إلى مغيب الشفق)) إلى أن قال: ((والدليل على غروب الشمس ذهاب الحمرة من جانب المشرق وفي الغيم سواد المحاجر. انتهى، والظاهر أن المراد بسواد المحاجر في عبارته (عليه السلام) سواد الأفق من جميع جهاته))(5)وقال ابن أبي عقيل: ((أول وقت المغرب سقوط القرص وعلامة سقوط القرص أن يسودّ أفق السماء من المشرق وذلك عند إقبال الليل وتقوية الظلمة في الجو واشتباك النجوم))(6) ((وفي دعائم الإسلام:

ص: 93


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 5، ح1.
2- الاستبصار، ج1، باب 149، وقت المغرب والعشاء الآخرة، ح33.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 52، ح6.
4- السرائر: 1/195.
5- الحدائق الناضرة: 6/165.
6- بحار الأنوار: 83/51.

عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام): (إن أول وقت المغرب غياب الشمس، وهو أن يتوارى القرص في أفق المغرب، لغير مانع من حاجز يحجز دون الأفق، مثل جبل أو حائط أو غير ذلك، فإذا غاب القرص، فذلك أول وقت صلاة المغرب، وإن حال حائل دون الأفق فعلامته أن يسودّ أفق المشرق))(1).وقال السيد الحكيم (قدس سره): ((فحمل لزوم الانتظار على كونه حكماً ظاهرياً عند الشك أولى من حمله على كونه حكماً واقعياً لتصرّف الشارع الأقدس في مفهوم الغروب))(2).

وقال (قدس سره): ((وعليه فتجوز الصلاة بمجرد عدم رؤية القرص إذا لم يُعلم أنه خلف جبل أو نحوه. والظاهر حصوله -أي العلم- بمجرد تغيّر الحمرة وميلها إلى السواد))(3).

2- حمل الأمر بالتمسية بالمغرب قليلاً على الاستحباب بالجمع بين الروايات بحسب مقتضى الصناعة لمصلحة يراها الشارع المقدس، واختاره الشيخ المجلسي قال (قدس سره): ((لكن العمل بها وحمل ما يعارضها على الاستحباب وجه قوي به يجمع بين الأخبار ويؤيّده بعض الروايات وإن كان العمل بالمشهور أحوط))(4).

وردّ صاحب الحدائق هذا الحمل ب-((استفاضة الأخبار الدالة على أفضلية أول الوقت(5) والأخبار الدالة على النهي عن تأخير المغرب طلباً لفضلها(6). ولو كان مجرد تواري القرص عن النظر هو الوقت الشرعي لها كان الأفضل هو المسارعة بها في ذلك الوقت))(7) وهو مردود، أما

ص: 94


1- مستدرك الوسائل: أبواب المواقيت، باب 13، ح4.
2- و (5) مستمسك العروة الوثقى: 5/77.
3- و (5) مستمسك العروة الوثقى: 5/77.
4- بحار الأنوار: 83/51.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 3.
6- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 18.
7- الحدائق الناضرة: 6/170.

(الأول) فلأنَّ إطلاقات هذه الأخبار قابلة للتقييد بما دلّ على أن وقت الفضيلة للمغرب هو ذهاب الحمرة المشرقية كما أن وقت فضيلة العشاء هو ذهاب الحمرة المغربية(1)، مع أن أول وقت العشاء يدخل مع المغرب إلا أن هذه قبل هذه. وأما الثاني فلأن هذا اللعن يراد به أبو الخطاب وجماعته الذين شرّعوا تحديد وقت المغرب باشتباك النجوم كما في صحيحة ذريح قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أناساً من أصحاب أبي الخطاب يمسّون بالمغرب حتى تشتبك النجوم. قال أبرأ إلى الله ممن فعل ذلك متعمداً) ولا يقصد به اتمسية قليلاً بعد سقوط القرص التي ورد طلبها في نص صحيح.

ويمكن أن يكون استحباب التأخير لما ورد في كراهة الصلاة في بعض الأوقات كخبر الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: (ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاةعند طلوع الشمس وعند غروبها وعند استوائها)(2)

وغيره وحملها الفقهاء على كراهية النوافل المبتدأة وفي مقابله روى الصدوق بإسناده عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي أنه ورد عليه فيما ورد من جواب مسائله عن محمد بن عثمان العمري (قدس سره): (وأما ما سألت عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها فلئن كان كما يقول الناس إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وتغرب بين قرني شيطان، فما أُرغم أنف الشيطان بشيء أفضل من الصلاة فصلّها، وأرغم أنف الشيطان)(3).

حمل الأمر بالانتظار حتى ترتفع الحمرة للاحتياط، لأن الأصل الجاري عند الشك في غروب الشمس هو استصحاب بقاء النهار ولا ينقطع العمل به إلا باليقين بغروبها، وهو ما أشارت إليه صحيحة عبد الله بن وضاح، وهو وجه قاله الشيخ الطوسي (قدس سره) في الاستبصار لتفسير

ص: 95


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، البابان 21، 23.
2- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 38، ح6، 8.
3- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 38، ح6، 8.

أخبار القول الثاني بعد أن ابتدأ بأخبار سقوط القرص وقد قال في مقدمة الكتاب: ((وأن أبتدئ في كل باب بإيراد ما أعتمده من الفتوى والأحاديث)) فقال في تفسيرها: ((أن يكون إنما أمرهم أن يمسّوا بالمغرب قليلاً ويحتاطوا ليُتيقن بذلك سقوط الشمس لأن حدّها غيبوبة الحمرة عن ناحية المشرق لا غيبوبتها عن العين))(3).(1).

4- إن الشمس تغرب وتشرق في كل آن على بقعة من بقاع الأرض وتوجد مدن كبيرة ممتدة يكون الفرق بين شرقها وغربها معتداً به ولكنها على أي حال لا تعدو دقائق فالصبر قليلاً من أجل تحقق الغروب على جميع أهل المدينة ليجتمعوا في صلاتهم على أذان واحد ولعله وجه لفهم صحيحة يعقوب بن شعيب المتقدمة.

5- نفس الوجه السابق لكن بلحاظ وجود تباين في الارتفاعات بين نقاط المدينة الواحدة حتى يسكن بعض الناس على قمة الجبل وآخرون في الوادي فتغرب الشمس عن الذين هم في الوادي بينما يراها من هم على الجبل فلتوحيد وقت صلاتهم أُمر أهل الوادي بالصبر قليلاً وهو وجه لفهم صحيحة يعقوب بن شعيب، وتقرّب الفكرة اليوم على سكان ما يعرف بناطحات السحاب التي يتجاوز ارتفاع بعضها اليوم (500) متراً.

والرأي المختار هو تحقق غروب الشمس بسقوط تمام القرص عن أفق الرائي مع عدم المانع من الرؤية وبه ينتهي النهار وصلاة العصر ويبدأ الليل أما صلاة المغرب والإفطار فالأحوط لزوماً في وقتهما ذهاب الحمرة المشرقية وارتفاعها عن قمة الرأس. وفي خصوص استمرار الصوم هذه الدقائق فلا بد أن لا يكون بنية التشريع لأنه محرم وإنما بنيّة صحيحة أخرى كانتظار تقديم الصلاة على الإفطار لاستحبابه ونحوها.

ولما كان الحكم مستنداً إلى الاحتياط وهو أصل فإذا تناول الصائم المفطر بعد سقوط القرص وقبل ذهاب الحمرة تقيّة أو لظلمة ظنَّ منها دخول

ص: 96


1- (3) الاستبصار، ج1، باب 149، وقت المغرب والعشاء الآخرة، ح16.

الليل فليس عليهقضاء ذلك اليوم ولا إعادة عليه إذا صلّى المغرب مع العامة تقية أو لإظهار وحدة المسلمين وإزالة الشحناء من قلوبهم.

واختار هذا القول عدد من المتقدمين والمتأخرين، منهم السيد صاحب المدارك وقال عنه: ((إنه لا يخلو من قوة، وجعل ما قابله أحوط))(1)، والمحدث الكاشاني في الوافي حيث قال: ((بقي الكلام في الحمرة المشرقية السماوية، والأخبار في اعتبار ذهابها مختلفة، فمنها ما يدل على اعتباره وجعله علامة لغروب الشمس كهذه الأخبار، ومنها ما يدل على أن ذهاب القرص عن النظر كافٍ في تحقق الغروب كالأخبار التي مضت، والمستفاد من مجموعها والجمع بينها أن اعتباره في وقتي صلاة المغرب والإفطار أحوط وأفضل وإن كفى استتار القرص في تحقق الوقت))(2).

ص: 97


1- الحدائق الناضرة: 6/171.
2- الحدائق الناضرة: 6/171.

تنبيهان

(الأول) استدللنا فيما سبق بمعروفية معنى طلوع الشمس كقرينة على معروفية معنى الغروب وبناءً على ما قوّينا من معنى فإنه لا إشكال وأما بناءً على تحديد الغروب بذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس فقد يشكل عليه من جهة اقتضائه الالتزام بانتهاء وقت صلاة الصبح بظهور الحمرة المغربية قبل طلوع قرص الشمس المحسوس بدقائق لأن ظاهر كلماتهم أن الشمس موجودة في الأفق حتى تذهب الحمرة المشرقية ولازمه وجود الشمس في الأفق عند ظهور الحمرة قبل طلوعها الحسي.

وأجاب صاحب الرياض (قدس سره) بقوله: ((إنا لا نقول أن وجود الحمرة دليل على بقاء الشمس في الأفق المغربي للمصلي، بل نقول: إن معه لا يحصل القطع بالغروب الذي هو المعيار في صحة الصلاة، وقطع استصحاب عدم الغروب به، فلا يرد النقض بظهور الحمرة عند الطلوع في أفق المغرب، لأن مقتضى ذلك حصول الشك بذلك في طلوع الشمس على الأفق المشرقي، ولا يقطع به يقين بقاء الوقت، بل بظهور الشمس الحسي فينعكس الأمر))(1).

أقول: هذا التفريق في الأصل الجاري في الموردين تام مضافاً إلى إمكان نية الصلاة (عما في الذمة) عند الشك بطلوع الشمس فلا توجد مشكلة حتى مع الشك، بينما المشكلة حقيقة في الغروب لارتباطه بموارد عديدة.

لكن التقريب الذي ذكره والنتيجة التي خرج بها (قدس سره) -وهو ممن يذهب إلى القول الأول- هي عين القول المختار من علامية ذهاب الحمرة على تيقن الغروب، لذا لم يوافق عليه أصحاب القول الأول كصاحب الجواهر (قدس سره) فقال عنه: ((هو جيد لولا ظهور النصوص والفتاوى بكون الحمرة

ص: 98


1- رياض المسائل: 2/210.

علامة للغروب نفسه لا يقينه))(1) ولذا فقد ذكر وجوهاً أخرى لدفع الإشكال منها:-

1- ((إنه لا يرد على من التزم ذلك كثاني الشهيدين في المقاصد العلية، قال: وإنما كان زوال الحمرة علامة على الغروب لأن الاعتبار في طلوعها وغروبها لما كان بالأفق الحقيقي لا المحسوس، وكان طلوعها يتحقق قبل بروزها بزمن طويل غالباً، ومن ثم اعتبر أهل الميقات مقداراً في الطلوع يُعلم به وإن لم يشاهدوها، فكذلك القول في غروبها لعدم الفرق. انتهى، وقال كاشف اللثام عند بيان آخر وقت للصبح ثم إذا كان زوال الحمرة من المشرق علامة غروب الشمس فالظاهر أن ظهورها في المغرب علامة طلوعها)).

2- ((إنه اجتهاد في مقابلة النص، فلعل الشارع لم يعتبر ذلك الطلوع في صلاة الفجر، واعتبره في المغرب)).

أقول: كِلا الوجهين لا يتمّان أما الأول فلأنه يدفع الإشكال عمّن التزم بذلك وهم قلّة أما أغلب المشهور فلم يلتزموا بذلك، وأما الثاني فلما تقدم في مناقشة القول بالوضع الشرعي لمعنى المغرب غير المعنى اللغوي والعرفي للغروب (صفحة 85).

(الثاني) حكى السيد صاحب الرياض (قدس سره) عن المحقق السبزواري في الذخيرة: ((أن غيبوبة الشمس عن الأفق الحقيقي في الأرض المستوية حسّاً إنماتتحقق بعد غيبوبتها عن الحسّ بمقدار دقيقة تقريباً وهذا أقل من ذهاب الحمرة المشرقية بكثير))(2).

وردّ عليه بوجهين:-

1- ((إن فيه اعترافاً برفع اليد عن المفهوم اللغوي والعرفي واعتبار شيء زائد عليه ولو لدقيقة، ومعه لا يتوجه الاستدلال بالأخبار المزبورة بالتقريب المتقدم)).

ص: 99


1- جواهر الكلام: 7/120.
2- رياض المسائل: 2/209.

2- ((إن كون غيبوبتها عن الحسّ بمقدار دقيقة أقل من ذهاب الحمرة وإن كان صحيحاً، إلا أنه لما كان مجهولاً غير مضبوط لا يمكن إحالة عامة المكلفين ولا سيما العوام منهم عليه، لا جرم وجب إحالته على أمر منضبط وهو ذهاب الحمرة من أفق المشرق أو بدوّ النجم، ونحو ذلك، وعلى هذا فيكون ذهاب الحمرة لتيقّن الغروب كما صرّحت به جملة من النصوص، لا أنه نفس الغروب)).

وقد ورد هذا المصطلح في كلام الشهيد الثاني (قدس سره) فإنه علّق على تحديد المغرب بذهاب الحمرة المشرقية بقوله: ((وهذا هو علامة سقوط القرص في الأفق الحقيقي، كما أن طلوعها فيه يكون قبل بروزها إلى العين بيسير))(1)، وعلّله بما قاله (قدس سره) في روض الجنان ونقله عنه السيد صاحب الرياض (قدس سره) بأن ((ذلك يحصل بسبب ارتفاع الأرض والماء ونحوهما فإن الأفق الحقيقي غير مرئي)) وقد تقدم.

أقول: ربما أرادوا بالأفق الحقيقي أن الأرض كروية وسقوط القرص عن عين الرائي الذي يفترض أنه عن النقطة الأخيرة من محيط الدائرة المقابلة للشمس (التي رمزنا لها بالحرف ((أ)) في الشكل أدناه) لكنها ما زالت ظاهرة بالنسبة للنقطة ((ب)) التي تبدو الأرض مستوية فيما بين النقطتين والتي تقدّر بعدة كيلومترات ويسقط عنها القرص بأقل من دقيقة على ما قدّمنا في الحسابات السابقة.

ص: 100


1- مسالك الأفهام: 1/140.

انتهيت من كتابة البحث يوم الأحد 22/ ربيع الأول/1429 المصادف 30/4/2008 مع اتفاق الطرفين المتحاربين على إيقاف المعارك الجارية منذ خمسة أيام في البصرة وغيرها من مدن العراق الجريح النازف والتي خلّفت كارثة إنسانية وقتل وجرح فيها ما يناهز الألفين من العراقيين فالحمد لله على كل حال وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 101

ص: 102

البحث الثالث: هل يمكن الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة في الصلاة؟

اشارة

ص: 103

ص: 104

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثالث: هل يمكن الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة في الصلاة؟

هل يمكن الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة في الصلاة؟(1)

غرضنا من تحرير هذا البحث السير ولو خطوة على طريق تفعيل دور القرآن الكريم في حياتنا، واستلهام العلاج منه لجميع قضايانا فيما إذا توصلنا إلى إمكان الاكتفاء بمجموعة من الآيات ولا تشترط قراءة سورة كاملة؛ لأن الإلزام بقراءة سورة بعد الفاتحة أوجب الاقتصار على عدد محدد من السور تتلى يومياً في الصلاة، مما أدى إلى إهمال سائر السور والآيات القرآنية التي تسمو بها الروح وتُهذَّب بها النفس ويطهر بها القلب، كما أن طول التكرار للسور نفسها أدى إلى عدم التفاعل معها وفي ذلك خسارة كبيرة إلا من حباهم الله تعالى بمعرفته.

أما إذا كان إمام الجماعة يرتل آيات من القرآن الكريم بما يناسب الحال كالموعظة أو تهذيب الأخلاق أو إلفات النظر إلى أيام شريفة كشهر رمضان أو العشر الأول من ذي الحجة أو التحشيد لقضية معينة كالحج أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الزواج أو إقامة الشعائر الدينية أو تكريم الشهداء والعلماء أو التذكير بحكم شرعي غفلت عنه الناس كالوصية أو كفالة اليتيم أو حرمة الغيبة والربا وتطفيف الميزان وسوء الظن والبهتان وغيرها مما تناولها القرآن الكريم فإنه حينئذٍ نحقق غرض القرآن في كونه شفاء للناس، وفرصة الإنصات والاستماع والتأثر بالآيات الشريفة في الصلاة أفضل من أي فرصة أخرى.

ص: 105


1- بدأ إلقاء البحث يوم 3/ ذو القعدة/1432 المصادف 2/10/2011.

وإلى هذا المعنى أشارت رواية الفضل بن شاذان في الفقيه والعلل والعيون عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: (أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجوراً مضيعاً وليكون محفوظاً مدروساً فلا يضمحل ولا يجهل وإنما بدأ بالحمد دون سائر السور لأنه ليس شيء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد وذلك أن قوله عز وجل الحمد لله إنما هو أداء لما أوجب الله عز وجل على خلقه من الشكر)(1)الحديث.

الأقوال في المسألة:

قال العلامة (قدس سره) في المختلف: ((المشهور أنه يجب على المختار –أي في حال الاختيار- قراءة سورة بعد الحمد في الثنائية والأوليين من الرباعية والثلاثية، وهو اختيار الشيخ في (الجمل) و(الخلاف) و(الاستبصار)، وهو اختيار السيد المرتضى، وابن أبي عقيل، وأبي الصلاح، وابن البراج، وابن إدريس.

وللشيخ (رحمه الله تعالى) قول آخر: إن الواجب الحمد، وأما السورة فإنها مستحبة غير واجبة اختاره في (النهاية)، وهو اختيار ابن الجنيد وسلار))(2).

أقول: يظهر من كلام الشيخ وابن الجنيد عدم الوجوب التعييني للسورة التامة ويجزئ عنها بعض السورة فوجوبها تخييري وليس أنها مستحبة.

وقال الشهيد الأول (قدس سره) في الذكرى: ((تجب سورة كاملة في الثنائية والأوليين من غيرها، على المشهور بين الأصحاب. وخالف فيه: ابن الجنيد وسلار والشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر، فإنهم ذهبوا إلى استحبابها، فعندهم يجوز التبعيض كما يجوز تركها بالكلية))(3).

ص: 106


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 1، ح3.
2- مختلف الشيعة: 2/161 مسألة (89).
3- ذكرى الشيعة: 3/300.

وحُكي الإجماع على الوجوب في مفتاح الكرامة عن بعض كالانتصار والوسيلة والغنية(1)، لكن النسبة لا تخلو من إشكال، لذا لم يستدل بالإجماع الشيخ الطوسي قال (قدس سره): ((الظاهر من روايات أصحابنا ومذهبهم أن قراءة سورة أخرى مع الحمد واجبة في الفرائض ولا يجزي الاقتصار على أقل منها... وقال بعض أصحابنا: إن ذلك مستحب وليس بواجب.. دليلنا: طريقة الاحتياط لأنه إذا قرأ سورة مع الحمد كانت صلاته صحيحة بلا خلاف، وإذا اقتصر على بعضها فليس على صحتها دليل))(2).

وعبّر العلامة (قدس سره) في التذكرة(3)عن القول بالوجوب بأنه الأشهر، وقال المحقق الثاني إنه ((أشهر القولين عندنا))(4) مما يشعر بشهرة القول بعدم الوجوب أو على الأقل عدم ندرة قائله إلى درجة توجب إهماله والإعراض عنه(5).

وبه قال أو مال إليه جملة من المتأخرين أيضاً، قال صاحب مفتاح الكرامة: ((عبارة (المراسم) صريحة في الاستحباب، وهو خيرة (المدارك) و(الذخيرة) و(الكفاية) و(المفاتيح)، وبه قيلَ أو ميل إليه في (المعتبر) و(المنتقى)، وفي (التنقيح): إن قول الشيخ في (النهاية) قويّ ولذلك قال في

ص: 107


1- مفتاح الكرامة: 4/618.
2- الخلاف: 1/335 مسألة (85).
3- تذكرة الفقهاء: 3/130 مسألة (219).
4- جامع المقاصد: 2/243.
5- خلافاً لصاحب الرياض (قدس سره) فإنه بعد أن وجّه عبارات المخالفين بما لا ينافي المشهور عدا الديلمي ((وهو في مقابلة باقي القدماء شاذ كالماتن في المعتبر)) قال (قدس سره): ((ومن هنا ينقدح ندرة القول الثاني وشذوذه فلا ريب في ضعفه)) (رياض المسائل: 3/152). وأخذ منه صاحب الجواهر (قدس سره) طريقته في توجيه تلك العبارات.

(النافع) أظهرهما، ولم يقل: أصحّهما، وفي (الروض): إن الوجوب أولى. وهذا يلوح منه الميل إلى الاستحباب))(1).

ومقابل ما يتراءى من الكلمات المتقدمة من وجود قولين في المسألة: الوجوب والاستحباب فإنه يوجد قول ثالث وهو وجوب شيء مع الفاتحة أعم من كونه سورة تامة أو بعض سورة، فقد حكي عن الإسكافي قوله: ((ولو قرأ بأم الكتاب وبعض سورة في الفرائض أجزأ))(2).

ومال إليه العلامة (قدس سره) في المنتهى ففي مسألة تبعيض السورة قال في آخر كلامه: ((لو قيل فيه روايتان إحداهما جواز الاقتصار على البعض، والأخرى المنع كان وجهاً))(3).

وأخذ الشيخ الطوسي (قدس سره) بهذا فإنه بعد أن ذكر في المبسوط الوجوب مثل كلامه المتقدم في الخلاف قال: ((غير أنه إن قرأ بعض السورة لا يحكم ببطلان الصلاة، ويجوز كل ذلك في حال الضرورة))(4).

أقول: أشكلوا على عبارة الشيخ (قدس سره) ووصفوا كلامه ((من التشويش بمكان))(5)

لما فيه من المنافاة بين القول بوجوب سورة تامة وإجزاء الصلاة بقراءة البعض، ويمكن أن نرفع هذه المنافاة بوجوه:-

1- أن يكون المراد بالوجوب الاستحباب المؤكد، وهو تعبير معروف في روايات أهل البيت (عليهم السلام) كما في غسل الجمعة، وفي كلمات القدماء ومنهم الشيخ الطوسي (قدس سره) ((كما وقع له في التهذيب وغيره في بحث المواقيت))(6).

ص: 108


1- مفتاح الكرامة: 4/619.
2- رياض المسائل: 3/151.
3- منتهى المطلب: 1/ 272
4- المبسوط: 1/107.
5- مفتاح الكرامة: 4/620، جواهر الكلام: 9/332.
6- جواهر الكلام: 9/233.

2- إن وجوب قراءة السورة التامة تخييري والفرد الآخر قراءة بعض السورة بمقدار سورة ولو قصيرة، فقراءة السورة التامة واجب إلا أن الإتيان بالفرد الآخر مجزٍ، وسيأتي في بعض الروايات أن البعض المأمور بقراءته لا يقلّ عن ثلاث آيات وهي مساوية لأقصر سورة تامة في القرآن الكريم. وسيأتي في أقوال فقهاء العامة ما يشبهه.

3- إن وجوب قراءة سورة تامة مبني على الاحتياط –كما هو صريح عبارته (قدس سره) في الخلاف- وهو أصل لا يثبت لوازمه فمن خالفه لا يُجزم ببطلان صلاته.

وهذه وجوه مقبولة ولذا قال السيد صاحب الرياض: ((إن وجوب السورة وإجزاء البعض مسألتان مختلفتان، لا ينافي القول بالإجزاء في الثانية منهما الوجوب في الأولى كما يظهر من المحكي عن المبسوط)).

لكن السيد صاحب الرياض (قدس سره) دفع المنافاة بأنه ((يحتمل إرادة الإسكافي من الإجزاء: الإجزاء في صحة الصلاة بمعنى أنها مع التبعيض صحيحة. وهو يجتمع مع وجوب كمال السورة، كما يظهر من عبارة المبسوط))(1).

ويظهر من كلامٍ له أنه استفاده من كلامٍ للعلامة (قدس سره) فقال: ((وقريب منه الفاضل في المنتهى، حيث إنه –بعد حكمه بوجوب السورة وبكمالها وفاقاً لأكثر علمائنا- حكى المخالفة فيه عن النهاية خاصة، ثم نقل عن الإسكافي والمبسوط عبارتيهما المتقدمة، ومال إلى قولهما بعده، معرباً عن تغاير المسألتين –أي مسألة وجوب السورة بكمالها وعدم صحة الصلاة بتبعيضها-))(2).

ص: 109


1- رياض المسائل: 3/151.
2- رياض المسائل: 3/151.

أقول: كأنه يريد أن يقول إن وجوب قراءة سورة تامة في الصلاة تكليفي وإن الوجوب الشرطي لصحة الصلاة يتحقق امتثاله بقراءة بعض السورة، وهو كما ترى، ومخالف للمعروف عندهم من أدلة الأجزاء والشرائط.

لكن صاحب الجواهر (قدس سره) ردَّ بقسوة على هذا التقريب قال: ((احتمال إرادة التعبدي من وجوب كمال السورة والشرطي من البعض سمج لا يرتكبه فقيه))(1).

أقول: يظهر من الوجه الثالث المتقدم أن الأمر ليس كذلك إذ وجوب إكمال السورة احتياطي تعبداً بالأصل ولا يلزم منه بطلان الصلاة.

ومما تقدم يظهر أن القائلين بعدم وجوب السورة لهم قولان (أولهما) عدم وجوب شيء مطلقاً وعليه أكثر المخالفين للمشهور القائلين بالاستحباب (ثانيهما) وجوب قراءة شيء من القرآن وإن لم يكن سورة تامة كما في كلام الإسكافي المتقدم.

قال المحقق النراقي (قدس سره) عن القول بعدم الوجوب أنه ((المحكي عن الإسكافي ونهاية الشيخ والديلمي والمعتبر والمنتهى، ومال إليه في المدارك والذخيرة،وجمع آخر من المتأخرين(2)

فلم يوجبوا إتمامها كما عن الأول، أو مطلقاً كالباقين))(3).

الحكم عند فقهاء العامة:

حكى الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف والعلامة في التذكرة القول بالوجوب عن ((بعض أصحاب الشافعي إلا أنه جوّز بدل ذلك ما يكون قدر آياتها من القرآن))(4)

وفي المغني لابن قدامة ((لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في

ص: 110


1- جواهر الكلام: 9/233.
2- في الهامش: منهم الفاضل المقداد في التنقيح: 1/198 والمحقق السبزواري في الكفاية: 18، والفيض في المفاتيح: 1/131.
3- مستند الشيعة: 5/95.
4- الخلاف: 1/336 عن الأم: 1/102، تذكرة الفقهاء: 3/130.

أنه يُسنّ قراءة سورة مع الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة ويجهر فيه بالفاتحة، ويُسَرُّ فيما يُسرُّ بها فيه، والأصل في هذا فعل النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن أبا قتادة روى أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطوّل في الأولى ويقصّر في الثانية)) إلى آخر الرواية ثم قال: ((متفق عليه)) ثم قال: ((وقد اشتهرت قراءة النبي (صلى الله عليه وآله) للسورة مع الفاتحة في صلاة الجهر ونقل متواتراً، وأمر به معاذاً فقال: (اقرأ بالشمس وضحاها وبسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى) متفق عليه))(1).

وقال في موضع آخر: ((ولا تكره قراءة أواخر السور وأوساطها في إحدى الروايتين، ونقلها عن أحمد جماعة لأن أبا سعيد قال: أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. وعن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أخرجْ فنادِ في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب) أخرجهما أبو داود. وهذا يدل على أنه لا يتعين الزيادة. وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ في الآخرة من صلاة الصبح آخر آل عمران وآخر الفرقان. وعن إبراهيم النخعي قال: كان أصحابنا يقرأون في الفريضة من السورة بعضها ثم يركع ثم يقوم فيقرأ في سورة أخرى. وقول أبي برزة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأ في الصبح من الستين إلى المائة دليل على أنه لم يكن يقتصر على قراءة سورة، والرواية الثانية يكره ذلك، نقل المروزي عن أحمد أنه كان يكره أن يقرأ في صلاة الفرض بآخر سورة، وقال: سورة أعجب إليَّ، قال المروزي: ولعل أحمد إنما أحب اتباع النبي (صلى الله عليه وآله) فيما نقل عنه وكره المداومة على خلاف ذلك والمنقول عن النبي (صلى الله عليه وآله) قراءة السورة أوبعض سورة من أولها فأعجبه موافقة النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يعجبه مخالفته))(2).

ص: 111


1- المغني: 1/568.
2- المغني: 1/571.

وفي بعض المصادر الحديثة: ((قال الجمهور –غير الحنفية الذين اكتفوا ولو بقراءة آية حال القيام- ركن القراءة الواجبة في الصلاة هو الفاتحة لقوله (صلى الله عليه وآله): (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقوله أيضاً: (لا تجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ولفعله (صلى الله عليه وآله) كما في صحيح مسلم، مع خبر البخاري (صلوا كما رأيتموني أصلي).

وأما قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة فهو سنة))(1).

الاستدلال على وجوب قراءة سورة بعد الحمد:

استدلوا(2)

على الوجوب بأمور:

(الأول) قوله تعالى: «فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» (المزمل:20) بتقريب ذكره العلامة (قدس سره) قال فيه: ((يجب بمقتضى هذا الأمر وجوب قراءة كل ما تيسّر من القرآن في الصلاة –باعتبار أن القراءة لا تجب في غير الصلاة إجماعاً-، خرج عنه ما زاد عن الحمد والسورة بالإجماع فيتعيّن الباقي، عملاً بالمقتضي السالم عن معارضة الإجماع الدال على خلافه))(3).

وجوابه بعد التنزل عن كون الآية واردة في صلاة الليل كما يدل عليه السياق من وجوه (منها): ظهور (ما) في العموم البدلي لا الاستغراقي أي اقرأوا أي شيء تيسّر لكم وليس كل ما تيسّر، (ومنها) عدم وجود مبرر لتقييد إطلاق القرآن بحال الصلاة وحمل الطلب على الاستحباب بقرينة ما دلّ على

ص: 112


1- الفقه الإسلامي وأدلته: 2/834.
2- من المصادر التي فصّلت الاستدلال: الحدائق الناضرة: 8/116-123، رياض المسائل: 3/148-153، مستند الشيعة: 5/90-97، جواهر الكلام: 9/331-336، مصباح الفقيه للهمداني: 12/176-190، المستند في شرح العروة الوثقى من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 14/264-281.
3- مختلف الشيعة: 2/162.

عدم وجوب قراءة القرآن في غير الصلاة كقوله تعالى «فَاستَعِذْ» أولى من تقييد القراءة بحال الصلاة بقرينة الإجماع على عدم الوجوب في غيرها، (ومنها) احتمال كون المراد بطلب القراءة: الصلاة أي صلّوا ما تيسّر لكم وقدرتم على الإتيان به من الصلاة في الليل، وعبّر عن الصلاة بقراءة القرآن لأنها جزؤها على سبيل الكناية.

(الثاني والثالث) واستدلوا أيضاً بالإجماع وسيرة المعصومين (عليهم السلام)، فقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((قد ظهر لك ندرة المخالف فيما نحن فيه أو عدمه،فالإجماعات المحكية حينئذٍ بعد اعتضادها بالتتبع لا ينبغي التأمل في حجيتها في المقام، مضافاً إلى تأييده مع ذلك بأنه المتعارف المعهود من صلاتهم (عليهم السلام) التي أمرنا بالتأسي بها كما دلت عليه جملة من النصوص المتضمنة لفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) وفعل الرضا (عليه السلام) وغيرهما، بل في المنتهى أنه قد تواتر النقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه صلى بالسورة بعد الحمد وداوم عليها، وهو بنفسه مشعر بالوجوب فضلاً عن قوله (صلى الله عليه وآله): (صلوا كما رأيتموني أصلي) ))(1).

أقول: أما (الإجماع) فيمكن المناقشة فيه صغروياً وكبروياً، أما صغروياً فلوجود المخالف ولأن كثيراً ممن قال بالوجوب لم يكن على نحو الفتوى بل للتوقف فيها فاحتاط بالوجوب أو لأنه القدر المتيقن أو لأنه أفضل الأفراد التي يُمتثل بها الواجب أو لأنه المعمول به جيلاً بعد جيل من لدن المعصومين (عليهم السلام) مع كون العمل أعم من الوجوب، وأما كبروياً فلأنه مدركي مستندٌ إلى الروايات بحسب ما يظهر من كلماتهم.

وأما (سيرة المعصومين (عليهم السلام) ) فهي وإن كانت ثابتة عند الفريقين كما في رواية محمد بن أبي طلحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص: 113


1- جواهر الكلام: 9/333-334.

(قرأت في صلاة الفجر بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون وقد فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) )(1).

ورواية زرارة قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلي بقل هو الله أحد؟ فقال: نعم قد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في كلتا الركعتين بقل هو الله أحد لم يصل قبلها ولا بعدها بقل هو الله أحد أتم منها)(2)

ورواية عمران بن الحصين (أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث سرية واستعمل عليها علياً (عليه السلام) فلما رجعوا سألهم فقالوا: كل خير غير أنه قرأ بنا في كل الصلوات بقل هو الله أحد، فقال: يا علي لم فعلت هذا؟ فقال: لحبي بقل هو الله أحد، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ما أحببتها حتى أحبك الله).

إلا أنها لا يمكن الاستدلال بها على الوجوب لأنها أعم باعتبارها تفيد الجواز بالمعنى الأعم، نظير إطباق المتشرعة تبعاً لأئمتهم (سلام الله عليهم) على القنوت في الصلاة وهو ليس بواجب، حتى بضميمة (صلوا كما رأيتموني أصلي) للقطع بعدم لزوم متابعته (صلى الله عليه وآله وسلم) في ما كان يقرأ، وإن التأسي المطلوب هو في أصل القراءة، مضافاً إلى وجود روايات عديدة تصرح بأنهم (عليهم السلام) كانوا يبعّضون السور أحياناً.

ويأتي نفس التقريب والمناقشات في امتثالها من الروايات البيانية للصلاة كصحيحة حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) بعد أن سأله: (تُحسن أنتصلي يا حماد؟) وقرأ فيها الإمام (عليه السلام) سورة التوحيد بعد الحمد، وفي نهاية الرواية قال (عليه السلام): (يا حماد هكذا صلِّ)(3).

وإذا انتقلوا بالاستدلال إلى سيرة المتشرعة كان أبعد عن الصواب؛ لأن سيرتهم قد تجري على المرجوح كإعراضهم عن إقامة صلاة الجمعة مع أنها أفضل فردي التخيير لو لم يقولوا بالوجوب التعييني.

ص: 114


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 24، ح3.
2- الرواية والتي بعدها المصدر، باب 7، ح2، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، باب 1، ح1-2.

(الرابع) واستُدِل أيضاً على وجوب السورة بالأصل، قال العلامة (قدس سره): ((إن وجوب الصلاة في الذمة متيقن فلا يخرج المكلف عن العهدة باليقين إلا بقراءة السورة مع الحمد)).

أقول: لا يصح الاستدلال بالأصل بعد توفر الروايات الخاصة بالمسألة، نعم يمكن أن يكون مرجعاً عند الشك.

(الخامس) فالعمدة في الاستدلال على الوجوب النصوص الخاصة، والروايات الواردة في المسألة على طوائف ثلاث:

الطائفة الأولى: ما دلّ على وجوب قراءة سورة تامة بعد الفاتحة

اشارة

1- صحيحة محمد بن إسماعيل قال: (سألته قلت: أكون في طريق مكة فننزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب، أيصلي المكتوبة على الأرض فيقرأ أم الكتاب وحدها أم يصلي على الراحلة فيقرأ فاتحة الكتاب والسورة؟ قال: إذا خفت فصلِّ على الراحلة المكتوبة وغيرها، وإذا قرأت الحمد والسورة أحب إليّ، ولا أرى بالذي فعلت بأساً)(1).

بتقريب ذكره صاحب الوسائل وغيره(2)

حاصله أنه ((لولا وجوب السورة لما جاز لأجله ترك الواجب من القيام وغيره)) وأضاف السيد الخوئي (قدس سره): ((إذ الواجب لا يزاحمه المستحب، فمع دوران الأمر بين ترك القيام وترك السورة كما هو مفروض الخبر كان المتعين هو الثاني، دون التخيير الذي تضمنته الصحيحة فالحكم بالتخيير لا يستقيم إلا مع وجوب السورة))(3).

2- رواية(4) منصور بن حازم قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تقرأ

ص: 115


1- والروايات الثلاث الأولى تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 4، ح1، 2، 3.
2- كما في رياض المسائل: 3/149.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/272.
4- اعتبرها الكثيرون صحيحة وسيأتي الكلام في سندها بإذن الله تعالى.

في المكتوبة بأقل من سورة ولا بأكثر) ((فإن النهي عن الأقل ظاهر في وجوب1- السورة الكاملة))(1).

3- صحيحة العلاء عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال سألته عن الرجل يقرأ السورتين في الركعة؟ فقال: لا لكل ركعة سورة).

4- معتبرة معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا قمت للصلاة أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال: نعم، قلتُ: فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال: نعم)((2).

5- رواية يحيى بن أبي عمران(3)

قال: (كتبتُ إلى أبي جعفر (عليه السلام): جعلتُ فداك ما تقول في رجل ابتدأ ب- بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب، فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها؟ فقال العباسي: ليس بذلك بأس، فكتب بخطه: يعيدها مرتين رغم أنفه، يعني العباسي).

بتقريب حاصله ((لولا وجوب السورة الكاملة لم يكن في ترك البسملة البأس –الذي هو العذاب- كما قال العباسي فلم يكن وجه لرغم أنفه)).

وبتعبير السيد الخوئي (قدس سره) إنها ((ظاهرة في الوجوب، إذ الأمر بإعادة الصلاة الكاشف عن بطلانها لا وجه له إلا الإخلال بالسورة المأمور بها من أجل فقدها لجزئها وهي البسملة، فلولا وجوب

ص: 116


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/275.
2- (1) والتي بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 11، ح5، 6.
3- كان من وكلاء الإمام الجواد (عليه السلام) فيكون ثقة عند من يعتبر الوكالة عن الإمام توثيقاً.

السورة لما اتجه الأمر بإعادة الصلاة))(1).

6- مفهوم صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأولتين إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوف شيئاً)(2).

بتقريب ((إن مفهومها ثبوت البأس وعدم جواز الاقتصار على فاتحة الكتاب عند الاختيار وعدم الاستعجال، بل لا بد من ضمّ السورة معها))(3)، بضميمة ما قاله في الجواهر: ((إذ البأس إما بمعنى العقاب كما عن القاموس أو المراد منه هنا ذلك للشهرة أو لعدم ظهور القول بالكراهة من القائل بعدمالوجوب))(4)

وبعبارة أخرى ((إن البأس لغة هو الشدة المناسبة للمنع، فهو ظاهر في الحرمة وعدم الجواز))(5).

7- مفهوم خبر الصيقل قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيجزي عني أن أقول في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها إذا كنت مستعجلاً إن أعجلني شيء؟ فقال: لا بأس).

بنفس التقريب السابق مع تقرير الإمام (عليه السلام) لارتكاز الوجوب في ذهن السائل ومفروغيته عنده حتى سأل عن حال الاستعجال.

8- مفهوم معتبرة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها ويجوز للصحيح في قضاء الصلاة التطوع بالليل والنهار).

بتقريب ((إن التقييد بالمريض يدل على عدم جواز الاقتصار على الفاتحة في حال الصحة)).

ص: 117


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/273.
2- والروايتان بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 2، ح2، 4، 5.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/265.
4- جواهر الكلام: 9/334.
5- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/273

9- ما في الفقه الرضوي المنجبر بما مرّ –كما في المستند- من قوله (تقرأ سورة بعد الحمد في الركعتين الأوليين، ولا تقرأ في المكتوبة سورة ناقصة)((1)

وفي الفقه الرضوي أيضاً: (ولا تقرأ في المكتوبة سورة ناقصة ولا بأس في النوافل)(2).

وما في دعائم الإسلام قال: (وروينا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى أن يقرأ في كل صلاة فريضة بأقل من سورة ونهى عن تبعيض السورة في الفرائض وكذلك لا يقرن فيها بين سورتين بعد فاتحة الكتاب ورخّصوا في التبعيض والقران في النوافل)(3).

10- خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يكون مستعجلاً يجزيه أن يقرأ في الفريضة بفاتحة الكتاب وحدها؟ قال لا بأس)(4).

بتقريب: أن الوجوب مفروغ منه عند الرواة في هذا الخبر ونظائره مما سبقه.

11- موثقة سماعة قال: (سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فينسى فاتحة الكتاب إلى أن قال: فليقرأها ما دام لم يركع فإنه لا قراءة حتى يبدأ بها في جهر أو إخفات)(5).

بتقريب ((أنه لولا وجوب السورة لما صحّ إطلاق لفظ البدأة))(6) ومثله ما تقدم (صفحة 105) في رواية العلل.

ص: 118


1- (2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 3، ح3
2- الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام) المعروف بفقه الرضا: 105.
3- دعائم الإسلام: 1/161.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 2، ح6.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة، باب 1، ح2.
6- مستند الشيعة: 5/92.

12- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من غلط في سورة فليقرأ قل هو الله أحد ثم ليركع)(1)

((فإنها لو لم تجب لجاز له الاقتصار على السورة المغلوط فيها فيكتفي بما أتى به ويترك الباقي، ولم يكن وجه للأمر بقراءة سورة أخرى الظاهر في الوجوب))(2)

((حتى أنه يفهم من بعضهم وجوب قراءة «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» في هذه الصورة))(3).

13- ((الأخبار الناهية عن القرِِان بين السورتين في الفريضة، حيث إنه لا وجه له إلا لزوم زيادة الواجب في الصلاة عمداً. أو عن العدول من سورتي التوحيد والجحد إلى ما عدا سورتي الجمعة والمنافقين، حيث إنه لولا وجوب السورة هنا لما حرم العدول عنهما ولم يجب إتمامهما))(4).

وبتعبير آخر حكاه صاحب الحدائق قال (قدس سره): ((النهي حقيقة في التحريم ولا وجه لتحريم ذلك إلا من حيث أنه يلزم زيادة واجب في الصلاة عمداً وهو مبطل لها))(5).

14- ((الأخبار الدالة على تحريم العدول من سورة التوحيد والجحد إلى ما عدا سورتي الجمعة والمنافقون واتفاق جمهور الأصحاب على ذلك، ومن تلك الأخبار صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا افتتحت صلاتك بقل هو الله أحد وأنت تريد أن تقرأ غيرها فامض

ص: 119


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 43، ح1.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/267.
3- الحدائق الناضرة: 8/121.
4- مستند الشيعة: 5/92.
5- الحدائق الناضرة: 8/122.

فيها ولا ترجع إلا أن تكون في يوم الجمعة فإنك ترجع إلى الجمعة والمنافقين)(1).وجه الاستدلال بها أنه لولا وجوب السورة هنا لما حرم العدول عنها وليس وجوبها ناشئاً عن مجرد الشروع فيها، إذ لا شيء من المستحب يجب بالشروع فيه إلا ما خرج بدليل خاص كالحج، ومتى حرم العدول عنها وجب إتمامها، ومتى ثبت الوجوب في هاتين السورتين ثبت في غيرهما إذ لا قائل بالفصل، وجواز العدول في غيرهما من الإتيان بسورة كاملة بعد ذلك لا ينافي أصل الوجوب بل يؤكده، وهذا أقوى ما يمكن أن يستدل به على الوجوب وإن كان بعض مقدماته لا يخلو من المناقشة))(2).

15- صحيحة زرارة في المسبوق: (قرأ في كل ركعة مما أدرك خلف الإمام في نفسه بأم الكتاب وسورة، فإن لم يدرك سورة تامة أجزأته أم الكتاب)(3).

16- ما دل على أنه إذا قرأ سورة الضحى في الصلاة فليقرأ معها ألم نشرح وكذا الفيل والإيلاف ((ولا يتوجه ذلك إلا على القول بالوجوب، لجواز التبعيض على القول الآخر))(4).

وأضاف إليها صاحب الجواهر (قدس سره): ((النصوص الصريحة أو الظاهرة أو المشعرة المذكورة في تضاعيف ما تسمعه من المسائل كعدم القراءة بالسور الطوال وبالعزائم والكف عن القراءة في حال المشي كما نص على ذلك في المصابيح، وفي باب الجماعة والأذان))(5).

ص: 120


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 69، ح2.
2- الحدائق الناضرة: 123.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب 47، ح4.
4- رياض المسائل: 3/148.
5- جواهر الكلام: 9/335.

أقول: قبل مناقشة دلالة هذه الروايات على الوجوب ينبغي التذكير بما قلناه من أن ما يقابل القول بوجوب قراءة سورة تامة بعد الحمد احتمالان بل قولان (أحدهما) عدم وجوب شيء غير سورة الفاتحة مطلقاً (ثانيهما) كفاية قراءة آيات من القرآن الكريم وإن لم تكن سورة تامة، ولا ملازمة بين القولين إذ قد تصلح بعض الروايات المتقدمة لرد الاحتمال الأول دون الثاني.

نعم يمكن تتميم هذه الملازمة بعدم القول بالفصل الذي وردت الإشارة إليه في كلمات جملة من الأساطين، قال العلامة (قدس سره): ((إذا لم تكن السورة واجبة لم تكن أبعاضها واجبة، لأن علماءنا بين قائلين، أحدهما أوجب السورة، والآخر لم يوجبها فلم يوجب أبعاضها فالفرق ثالث))(1).أقول: هذا مردود صغرىً وكبرى، أما صغروياً فلوجود القائل بالفصل كالشيخ (قدس سره) في المبسوط وقد تقدمت كلمته، ولأن القائلين بعدم الوجوب أطلقوا كلماتهم وهي تحتمل القولين بل صرح ابن الجنيد في اشتراط قراءة شيء بعد الفاتحة في الجملة ولو بعض سورة كما تقدم النقل عنه، وأما كبروياً فلأن المجدي –لو تمت الكبرى- القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل كما ذكرنا مراراً.

ونعود الآن إلى مناقشة الروايات:

أما الرواية (1) فلأن الرواية صريحة في أن الأمر بالصلاة على الراحلة لأجل الخوف المصرح به في السؤال (في مواضع فيها الأعراب) وفي الجواب (إذا خفت) وليس لوجوب السورة، فالصلاة في المحمل تقلل الخوف وتهيئ البال للإقبال، وإلا فإنه لا يعتقد أن المستدل يقدّم وجوب السورة على وجوب القيام الذي هو ركن، بل إن الإلزام بالصلاة على الراحلة لأجل المحافظة على

ص: 121


1- مختلف الشيعة: 2/162 ونسبه في رياض المسائل: 3/151 إلى دعوى البعض، وقال به أيضاً في جواهر الكلام: 9/333 وكتاب الصلاة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 1/318.

السورة يستلزم ترك عدة واجبات غير القيام كالاستقبال والاطمئنان فهل وجوب السورة أهم منها جميعاً؟.

وإذا تمسكنا بإطلاق (وإذا قرأت الحمد والسورة أحبّ إليَّ) وعدم اختصاصها بحال النزول من الراحلة وتحقق الخوف عنده فتكون الرواية دالة على عكس المطلوب لأنها تدل على استحباب قراءة السورة حتى في غير الخوف ونحوه. ومثله في الدلالة على عكس المطلوب قوله (عليه السلام): (ولا أرى بالذي فعلته بأساً) أي من ترك السورة مطلقاً على كلا الحالين.

إن قلتَ: ((ظاهر سوق السؤال قطع السائل بوجوب السورة، وإن تردّد في ترجيحها على القيام ونحوه حيثما حصل بينهما معارضة، وهو (عليه السلام) قرره على معتقده، وظاهر التقرير حجة))(1).

قلتُ: هذا الارتكاز مُسلَّم إلا أنه لا يدل على تعيّن وجوب السورة إذ أن منشأه جريان السيرة عليه وهي أعم من كون القراءة لوجوب السورة أو لاستحبابها المؤكد أو لأنها الفرد الأفضل، وعلى ذلك فتقرير الإمام (عليه السلام) لارتكازه أكيد إلا أنه لا ينفع المستدل.

وأما الرواية (2) فإنها –بغضّ النظر عن المناقشة الآتية في السند- مجملة وغير كافية للدلالة على الوجوب للنقض عليه بما لو عدل من سورة إلى أخرى عند جوازه لعدم حفظه أو لأنها من سور العزائم قبل الوصول إلى آية السجدة كما في بعض الروايات أو لو أراد العدول إلى الجمعة والمنافقون يوم الجمعة مما يستلزم الزيادة على السورة وهو ليس محرماً، ولا يمكن دعوى أن هذه الموارد كلها تخصيص للحرمة لقبحه أو لعدم أولوية التخصيص على حمل النهي على الكراهة.

فالزيادة ليست محرمة، فلعل المراد منها عدم قراءة سورتين في ركعة واحدة فعبر عن ذلك بأنه لا أكثر ولا أقل فالمنفي هو أكثر من سورة وعُبِّر عنه

ص: 122


1- رياض المسائل: 3/149 وقرّّبه أيضاً المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه: 12/181.

بالفقرة كاملة التي تقابل بمجموعها كلمة (فقط) فكأنه قال: اقرأ سورة فقط، وفي هذا لجوابلمن رد على الاستدلال بالحديث: ((إنه ظاهر في النهي عن تبعيض السورة والقران بين السورتين ولا تدل على وجوب السورة تامة))(1)، فهي تقرب من صحيحة محمد بن القاسم قال: (سألت عبداً صالحاً هل يجوز أن يقرأ في صلاة الليل بالسورتين والثلاث؟ فقال: ما كان من صلاة الليل فاقرأ بالسورتين والثلاث، وما كان من صلاة النهار فلا تقرأ إلا بسورة سورة)(2) أي فقط واحدة لا أقل من سورة ولا أكثر، مع أنها مسوقة لنفي الأكثر وتكون مجملة بلحاظ الأقل.

ولو سلّمنا دلالتها على النهي عن ما هو أقل من سورة تامة فإنه يجب أن يفهم بضميمة الطائفتين الآتيتين.

وناقش السيد صاحب المدارك (قدس سره) في الاستدلال بالرواية سنداً ومتناً، أما السند فلأن في طريقها محمد بن عبد الحميد، وهو غير موثق(3).

وردَّ عليه المحقق صاحب الحدائق (قدس سره) قال: ((أما الطعن من جهة السند ففيه أن منعه من توثيق محمد بن عبد الحميد ممنوع، والظاهر أنه اعتمد في ذلك على عبارة العلامة في الخلاصة وما كتبه جده (قدس الله أرواحهم) في حواشيها، حيث قال العلامة في الخلاصة: محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين. انتهى. فكتب شيخنا الشهيد الثاني في الحاشية: هذه عبارة النجاشي وظاهرها أن الموثق الأب لا الابن. انتهى.

وأنت خبير بأن ما ذكره في المدارك وإن احتمل بالنسبة إلى عبارة العلامة في الخلاصة إلا أنه لا يتم في عبارة النجاشي التي أخذ منها العلامة هذه العبارة فإن هذه العبارة بعينها في كتاب النجاشي وبعدها بلا فصل: له كتاب النوادر..

ص: 123


1- مستمسك العروة الوثقى: 6/148.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 8، ح4.
3- مدارك الأحكام: 3/350.

إلى آخره. وحينئذ فمرجع ضمير (له) هو مرجع ضمير (كان) كما لا يخفى على العارف بأسلوب الكلام من الأعيان، ولا معنى لرجوع الضمير الأولى إلى الأب والثاني إلى الابن للزوم التفكيك في الضمائر وهو معيب في كلام الفصحاء بل من قبيل التعمية والألغاز. ويؤيده أيضاً أن محمد صاحب الترجمة فجميع ما يذكر فيها يرجع إليه إلا مع قرينة على خلافه، ولهذا عد العلامة في الخلاصة طريق الصدوق إلى منصور بن حازم في الصحيح مع أن محمد المشار إليه في الطريق، وجزم بتوثيقه جملة من علمائنا الأعلام منهم الميرزا محمد صاحب كتاب الرجال وشيخنا المجلسي في الوجيزة وشيخنا أبو الحسن في البلغة وغيرهم))(1).

أقول: عبارة النجاشي بغضّ النظر عن تقطيع العلامة (قدس سره) في نقلها لا تخلو من إيهام فقد قال: ((محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر روى عبد الحميدعن أبي الحسن موسى، وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين، له كتاب النوادر))(2)

فوجود الواو يرجّح عودة التوثيق إلى الأب لا الابن ولو كان الابن هو المقصود لما ذكر الواو كما قال عنه ((له كتاب النوادر)) كما هو دأبهم في وصف صاحب الترجمة كأن يقولوا: (عربي، من بني فلان، أخبرنا بكتبه) من دون وضع الواو، وعلى هذا فوجود الواو ظاهر في كون مرجع ضمير (كان) غير مرجع ضمير (له) خلافاً لما قاله صاحب الحدائق (قدس سره)؛ فيكون الرجل مجهول الحال وهو كذلك عند الشيخ.

وينبغي الالتفات إلى أن السيد الخوئي (قدس سره) استجود هنا –أي في بحثه الشريف- ما قاله صاحب الحدائق (قدس سره) ونقله بطوله في بحثه الشريف وقال: ((فتقطيع العلامة في النقل هو الذي أوقع صاحب المدارك وقبله الشهيد (قدس سره) في الاشتباه مع أن عبارة النجاشي كالصريحة في رجوع

ص: 124


1- الحدائق الناضرة: 8/119-120.
2- معجم رجال الحديث: 16/230.

التوثيق إلى الابن))(1) إلا أنه خالفه في المعجم فبنى على عودة التوثيق إلى الأب عبد الحميد بن سالم واعتبر إرجاع التوثيق إلى الابن توهماً(2).

وقد ظهر مما تقدم أن عبارة النجاشي تحتمل ما قاله صاحب المدارك إن لم تكن ظاهرة فيه ولم يبنِ صاحب المدارك وجدّه على تقطيع العلامة (قدس سره).

وأما من حيث الدلالة فقد ناقش صاحب المدارك (قدس سره) بقوله: ((إن النهي فيها وقع عن قراءة الأقل من سورة والأكثر، وهو في الأكثر محمول على الكراهة على ما سنبينه، فيكون في الأقل كذلك حذراً من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه))(3)، وقرب السيد الخوئي (قدس سره) كلامه بقوله: ((إن النهي قد تعلق بالتبعيض –وهو الأقل من سورة- والقران –وهو الأكثر من سورة- وحيث قد ثبت من الخارج جواز القران فالنهي بالإضافة إليه تنزيهي لا محالة فيكون الحال كذلك في التبعيض، وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى وهو غير جائز، فغاية ما هناك كراهتهما، وهذا لا يقتضي إلا استحباب السورة الواحدة الكاملة لا وجوبها))(4).

وأجاب (قدس سره) بعد فرض التسليم بكراهة القران بين سورتين: بأنه ((إنما يتم ما ذكره بناءً على أن تكون الحرمة والكراهة وكذا الوجوب والاستحباب، معنيين مختلفين للّفظ لغة، وأمّا بناءً على ما هو التحقيق كما بيّناه في الأُصول من عدم استعمال صيغة النهي وكذا الأمر إلاّ في معنى واحد، وإنّما تستفاد الخصوصية من حكم العقل المنتزع من الاقتران بالترخيص في الفعل أو الترك وعدمه، فلا مجال للإشكال أصلاً، إذ النهي حينئذ لم يستعمل إلاّ في معنى واحد وهو طلب الترك، وقد اقترن ذلك بالترخيص في الفعل من الخارج

ص: 125


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/268.
2- معجم رجال الحديث: 9/283.
3- مدارك الأحكام: 3/350.
4- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/268.

بالإضافة إلى القران، ولم يقترن بالنسبة إلى التبعيض فالالتزام بكراهة الأوّل وحرمة الثاني لا يستلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد بوجه))(1).

أقول: مبناه الأصولي صحيح لذا لم نجعل وحدة السياق قرينة على وحدة الظهور، إلا أن المورد ليس صغرى له لأن عندنا هنا فقرة واحدة ومضمونها (اقرأ سورة واحدة فقط) وعبّر عن فقط بقوله: (لا أقل ولا أكثر) وليس عندنا فقرتان حتى يجري ما قاله فالمورد لا يقبل التفكيك الذي ذكره (قدس سره) ويصح النقض الذي ذكرناه، مضافاً إلى أن قوله (قدس سره): ((ولم يقترن بالنسبة إلى التبعيض)) غير دقيق بلحاظ روايات الطائفة الثالثة الآتية التي دلت على جواز التبعيض.

فقوله (قدس سره) في نهاية المناقشة: ((إن هذه الصحيحة قوية السند ظاهرة الدلالة على الوجوب)) غير تام.

وناقش المحقق الهمداني (قدس سره) في دلالتها على قول المشهور ((نظراً إلى أن محط النظر في الرواية هو المنع عن التبعيض والقران وهو لا ينافي الرخصة في تركها رأساً)) ورد عليه بأن ((سوق التعبير يشعر بالمفروغية عن أصل القراءة))(2).

أقول: هذا الإشكال منفي بإطلاق النهي عن الأقل من سورة الشامل لعدمها أصلاً.

وأما الرواية (3) فهي صريحة بأن الحصر إضافي فيها بلحاظ من يقرأ أكثر من سورة نظير ما في (بحث الفاصل الزماني بين عمرتين)(3)

في قوله (عليه السلام): (لكل شهر عمرة) التي كانت مقتطعة من روايات فيها قرينة على المطلوب.

ص: 126


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/269 وسبقه إلى هذا الجواب المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه: 12/178..
2- مصباح الفقيه: 12/178.
3- فقه الخلاف: 7/64-65 المسألة (43)، ط. الأولى، و 7/437 بحسب ط. الثانية.

وأما الرواية (4) فهي أجنبية عن المقام لأنها تفيد وجوب قراءة البسملة في بداية السور، أي جزئية البسملة للسور القرآنية، مضافاً إلى أن الجواب مبني على مفروض السؤال من اختيار السائل لقراءة السورة ولا تنفي الاكتفاء بما دونها.

وأما الرواية (5) ففيها ما في الرواية السابقة فإن إرغام أنف العباسي من جهة تركه البسملة مع ابتدائه سورة جديدة وهو غير صحيح، فالجواب مبني على فرض المسألة بقراءة سورة جديدة ولا دلالة فيها على تعيّن وجوب قراءتها.

وأما الرواية (6) فإنها ليست تامة في إفادة المفهوم الدال على المُدّعى، إذ إن البأس في قراءة الحمد وحدها عند عدم العجلة والخوف يمكن أن يدفع بقراءة بعض السورة ولا يتعين وجوب قراءة سورة كاملة.

وبتعبير آخر إننا لو سلّمنا المفهوم لها فإنها تنفي الاجتزاء بسورة الحمد وحدها عند عدم العذر ولا تنفي إمكان الاكتفاء ببعض السورة.على أن البأس أعم من الحرمة إذ يمكن أن يكون لمطلق الشيء السيئ كالكراهة مثلاً أو الآثار النفسية والقلبية ونحوها. والمعنى في مثل المورد يؤخذ من استقراء موارد الاستعمال وليس من مصادر اللغة فتعبير (لا بأس) له دلالته الخاصة ولا ترتبط بكلمة (بأس) ومعناها اللغوي، إذ تحوّل إلى ما يشبه المصطلح أي الحقيقة الشرعية في نفي مطلق الأمر السيئ كما ورد في ترك الأذان في صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل هل يجزيه في السفر والحضر إقامة ليس معها أذان؟ قال: نعم لا بأس به)(1) مع أن البأس –بمعنى الحرمة- منفي حتى عن ترك الإقامة.

فلا يرد عليه ما قاله السيد الخوئي (قدس سره): ((إن البأس لغة هو الشدة المناسبة للمنع، فهو ظاهر في الحرمة وعدم الجواز)).

ص: 127


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة، باب 5، ح3.

مضافاً إلى ما قيل من أن ((هذا اللسان من البيان أعني تعليق الحكم على عدم العجلة- مما يناسب الاستحباب جداً، كما ورد نظيره في ترك الأذان من الأخبار المتضمنة للأمر بالأذان والإقامة مع جواز الاقتصار على الثانية إذا بادر أمراً يخاف فوته))(1).

بل اعتبر الإمام (عليه السلام) ترك السورة أحب إليه عند الاستعجال كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت: أيُّما أحبُّ إليك إذا كان خائفاً أو مستعجلاً يقرأ سورة أو فاتحة الكتاب؟ قال: فاتحة الكتاب)(2).

وإن كان السيد الخوئي (قدس سره) استفاد منه الوجوب المخفف الذي ((يسقط بمجرد الاستعجال العرفي لأمر دنيوي أو أخروي ولا يناط ذلك بالبلوغ حد الضرر أو العسر أو الحرج كما في سائر الواجبات، وهذا المعنى غير قابل للإنكار كما تشهد به سائر الأخبار لكنه لا ينافي أصل الوجوب ولزوم الإتيان بها عند عدم الاستعجال، وإن كانت مرتبته ضعيفة))(3).

أقول: هذا خلف بنائه على معنى البأس وهي الشدة، مضافاً إلى أنه لا معنى لوصف مراتب الوجوب بالضعف والشدة لأنه ليس كلياً مشككاً وإنما هو أمر بسيط يفيد الإلزام بالشيء، نعم في باب التزاحم يوجد أهم ومهم وهذا شيء آخر غير ضعف المرتبة ويستند إلى قرائن خارجية، فكلامه (قدس سره) فيه اعتراف ضمني بعدم الوجوب.

وأما الرواية (7) فيرِد عليها ما ذكرناه في التعليق على الرواية (6) أما التقريب بتقرير الارتكاز فغير تام لأن بناء السائل على الالتزام بقراءة سورة بعد الحمد هو الفرد الأفضل أو لاستحبابها فمن الطبيعي عدم نهي الإمام (عليه السلام) عنه مضافاًإلى ما نبهنا عليه من عدم دلالة المفهوم على تعيّن ما يجب قراءته بعد الفاتحة بسورة تامة.

ص: 128


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/265.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 1، ح1.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/274.

وأما الرواية (8) فإنها من مفهوم اللقب وهو أبعد المفاهيم عن الحجية ((ومن الجائز أن تكون النكتة في التعرض للمريض بخصوصه عدم تأكد الاستحباب في حقه))(1).

وردَّ السيد الخوئي (قدس سره) على هذا بقوله: ((ويندفع بما حققناه في الأصول من ثبوت المفهوم له لا بالمعنى المصطلح أعني الانتفاء عند الانتفاء بل بمعنى عدم كون الطبيعي على إطلاقه وسريانه موضوعاً للحكم وإلا كان التقييد لغواً محضاً، وعليه فتدلّ الصحيحة بمقتضى المفهوم على أن الموضوع لجواز الاقتصار على الفاتحة ليس هو مطلق المكلفين وأن السورة واجبة على بعضهم في الجملة وهو المطلوب، إذ لا ندعي وجوبها على الإطلاق، ولذا ذكرنا آنفاً سقوطها لدى الاستعجال)).

وفيه:-

1- ما قاله المقرِّر في الهامش من أن ((الذي حققه في الأصول حسبما ضبطناه عنه وأثبته في المحاضرات (5/127) وهو اختصاص المفهوم بالوصف المعتمد على الموصوف دون غير المعتمد كما في المقام فإنه ملحق باللقب وخارج عن محل الكلام)).

2- إن المفهوم يقتضي عدم الاقتصار على الحمد، ولا ينحصر امتثاله بقراءة سورة تامة بل يمكن الاجتزاء ببعض السورة.

وأما الرواية (9) ففيها ما ذكرناه في الفقه الرضوي ودعائم الإسلام.

وأما الرواية (10) فإنها –لو تمت سنداً ودلالة- تمنع من الاجتزاء بسورة الحمد وحدها لغير من ذكر.

وأما الرواية (11) ففيها أن البدأة لا تنحصر بلحاظ السورة التامة بل يمكن بلحاظ الأفعال التي تلي القراءة وهي الركوع والسجود، ولو سلمنا أنها بلحاظ شيء آخر يقرأ فإنه لا يتعين بالسورة التامة ويمكن أن يكون بلحاظ بعضها.

ص: 129


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/266.

وأما الرواية (12) فإن مضمونها لا يلتزم به المشهور، ويمكن حملها على ما لو أراد المصلي أن يقرأ سورة تامة لاستحبابها أو لأنها الفرد الأفضل لا لتعيّنها، مضافاً إلى معارضتها بصحيحة زرارة الآتية (رقم 4 من روايات الطائفة الثالثة).

وأما (13) فمضافاً إلى أن هذا الحكم ليس متفقاً عليه فإنه حكم تعبدي توقيفي لا ملازمة بينه وبين وجوب السورة فيمكن أن تكون السورة مستحبة ويحرم زيادة سورة ثانية.

وأما (14) فهو حكم خاص بهاتين السورتين ولا يمكن تعديته إلى غيرهما، وكم من مستحب يجب بعد الشروع فيه غير الحج كصوم ثالث الاعتكاف وسائر الالتزامات الواجبة فيه، أما عدم القائل بالفصل بين هاتين السورتين وغيرهما من السور كما ادعى المستدل فهو كما ترى.وأما (15) فإن التعبير فيها بلحاظ الغالب والفرد الأفضل والعادة الجارية، وليست في مقام البيان من حيث وجوب السورة.

وأما (16) فيرد عليه أنه مبني على كونهما سورة واحدة والحكم بالضمّ لا كمالها، وهو لم يثبت بل المعروف والمتداول خلافه، فالأمر بالضم في خلافه حكم خاص بهذه السور ولا يرتبط بالتبعيض وعدمه.

أقول: رغم المناقشات المتقدمة إلا أن المنصف يرى أن حصيلة قراءة هذه الطائفة من الروايات وجود أمر في الجملة بقراءة سورة بعد الفاتحة في الصلاة المفروضة بغضّ النظر عن الطائفتين الآتيتين من الروايات.

الطائفة الثانية ما دلّ على عدم وجوب شيء غير الفاتحة: وهي:-

اشارة

1- صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: إن فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة)(1).

ص: 130


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 2، ح1، 3.

2- صحيحة علي بن رئاب عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن فاتحة الكتاب تُجزي وحدها في الفريضة)(1).

أقول: الظاهر أنهما رواية واحدة وردت عن طريق علي بن رئاب إلا أنه روى (تارة) ما سمعه من الإمام (عليه السلام) مباشرة و (تارة) روى عن الحلبي ما سمعه من الإمام (عليه السلام)، ولعل في قوله في الرواية الأولى (سمعته) إشارة تؤيد ذلك فكأن علي بن رئاب يريد أن يقول إن هذا الذي رويته عن الحلبي سمعته بنفسي أيضاً.

وهي على أي حال صريحة في كفاية سورة الفاتحة في صلاة الفريضة مطلقاً أي حتى في حال الاختيار من خلال التمسك بإطلاقها.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على إجزاء بعض السورة: وهي:-

1- صحيحة علي بن يقطين في حديث قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن تبعيض السورة قال: أكره (ذلك) ولا بأس به في النافلة)(2).

إما بناءً على كون الكراهة بالمعنى المصطلح. وإذا نوقش من جهة أنه مصطلح متشرعي متأخر ((وغير معهود في لسان الأخبار، ولم يستعمل فيها إلاّ في المعنى اللغوي أعني المرجوحية المطلقة الظاهرة في التحريم لولا قيام الدليل على الجواز)) فيمكن أن يقرب الاستدلال بالرواية ((من جهة إسناد الكراهة إلى نفسه بصيغة المتكلم، ومقابلته لنفي البأس عنه في النافلة، فإنّه ظاهر في الكراهة الشخصية، وأنّه (عليه السلام) يجتنب عن ذلك لا أنّ الحكم كذلك في الشريعة المقدسة، وإلاّ لقال (عليه السلام) بدل (أكره) لا، فإنّه أخصر وأظهر، فالعدول عنه إلى هذه الكلمة ظاهر فيما ذكرناه من إرادة الكراهة الشخصية المساوقة

ص: 131


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 2، ح1، 3.
2- الروايات الأربع الأولى تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 4، ح4، 5، 6، 7.

للمعنى الاصطلاحي الملازم للجواز كما لا يخفى. نعم، لو كان التعبير هكذا (يكره) أو (مكروه) كان ظاهراً في التحريم))(1).

2- ما رواه الشيخ بسند صحيح عن أبان بن عثمان عمن أخبره عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته هل تقسم السورة في ركعتين؟ قال: نعم، اقسمها كيف شئت).

3- صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل قرأ في ركعة الحمد ونصف سورة هل يجزيه في الثانية أن لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟ فقال: يقرأ الحمد ثم يقرأ ما بقي من السورة)، فكأن جواز تبعيض السورة مسلم عند السائل وإنما يسأل عن الحاجة إلى قراءة سورة الفاتحة وعدمها كالوارد في صلاة الآيات إذا قطّع السورة بين الركوعات.

4- صحيحة زرارة قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجل قرأ سورة في ركعة فغلط، أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته أو يدع تلك السورة ويتحول منها إلى غيرها؟ فقال: كل ذلك لا بأس به وإن قرأ آية واحدة فشاء أن يركع بها ركع).

5- صحيحة إسماعيل بن الفضل قال: (صلى بنا أبو عبد الله (عليه السلام) أو أبو جعفر (عليه السلام) فقرأ بفاتحة الكتاب وآخر سورة المائدة فلما سلم التفت إلينا فقال: أمَا إني أردت أن أعلمكم)(2).

6- صحيحة الحلبي وأبي الصباح الكناني وأبي بصير كلهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يقرأ في المكتوبة بنصف السورة ثم ينسى فيأخذ في أخرى حتى يفرغ منها ثم يذكر قبل أن يركع، قال: يركع ولا يضره)(3) ((فإنها ناظرة إلى من شرع في سورة ثم في أثنائها انتقل غفلة

ص: 132


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/278.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 5، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 36، ح4.

إلى سورة أُخرى، إمّا لمشابهة بعض آيات السورتين كما قد يتفق كثيراً أو لغير ذلك، فقرأ الصدر من سورة والذيل من سورة أُخرى ثم تذكر ذلك قبل الركوع، فحكمه (عليه السلام) بالركوع وأنّه لا يضرّه، مع أنّه لم يقرأ سورة تامّة يدل على جواز التبعيض.

وحملها على نسيان الباقي من السورة التي بيده والانتقال إلى سورة أُخرى تامّة بعيد جداً، إذ ظاهرها أنّ الأخذ في الأُخرى مستند إلى النسيان ومبني عليه كما هو مقتضى فاء التفريع في قوله (فيأخذ). ويبعّده أيضاً: قوله:(حتى يفرغ منها) الظاهر بضميمة قوله (ثم يذكر) في استمرار النسيان والذهول عن الانتقال إلى الفراغ من السورة، فإنّه لا يلائم إلاّ مع المعنى الذي ذكرناه كما لا يخفى))(1).

7- صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يفتتح سورة فيقرأ بعضها ثم يُخطئ ويأخذ في غيرها حتى يختمها ثم يعلم أنه قد أخطأ، هل له أن يرجع في الذي افتتح وإن كان قد ركع وسجد؟ قال: إن كان لم يركع فيرجع إن أحب، وإن ركع فليمض)(2).

فقوله (عليه السلام): (إن أحب) ظاهر في التخيير.

8- خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن السورة أيصلي بها الرجل في ركعتين من الفريضة؟ قال: نعم إذا كانت ست آيات قرأ بالنصف منها في الركعة الأولى والنصف الآخر في الركعة الثانية)(3).

ص: 133


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/280-281.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 28، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 5، ح2.

9- رواية عمر بن يزيد قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيقرأ الرجل السورة الواحدة في الركعتين من الفريضة؟ قال: لا بأس إذا كانت أكثر من ثلاث آيات)(1).

بتقريب حملها على مثل مضمون خبر أبي بصير ومرسلة أبان بن عثمان لتشابه السؤال ولذكر عدد الآيات فيها، فهذا الاحتمال أقوى من حملها على معنى تكرار السورة نفسها في الركعتين.

10- خبر سليمان بن أبي عبد الله قال: (صلّيت خلف أبي جعفر (عليه السلام) فقرأ بفاتحة الكتاب وآي من البقرة فجاء أبي فسئل فقال: يا بني إنما صنع ذا ليفقهكم ويعلمكم)(2).

11- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما سألاه عمن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حين يريد يقرأ فاتحة الكتاب، قال: نعم إن شاء سراً وإن شاء جهراً، فقالا: أفيقرأها مع السورة الأخرى؟ فقال: لا)(3).بتقريب: أن عدم وجوب قراءة البسملة للسورة بعد الفاتحة من جهة عدم لزوم الابتداء من أولها فلا تجب.

12- موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (وعن الرجل يقرأ في المكتوبة سورة فيها سجدة من العزائم، فقال: إذا بلغ موضع السجدة فلا يقرأها، وإن أحب أن يرجع فيقرأ سورة غيرها ويدع التي فيها السجدة فيرجع إلى غيرها)(4).

بتقريب: إن الرخصة بعدم قراءة آية السجدة من دون إتباعها بسورة أخرى دليل على عدم وجوب قراءة سورة تامة.

ص: 134


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 16، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 5، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 12، ح2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 40، ح3.

13- ما رواه الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره عن معلى بن زياد في حديث طويل (أنه قرأ أمير المؤمنين (عليه السلام) في الركعة الأولى من الصلاة التي ضربه فيها ابن ملجم الحمد وإحدى عشرة آية من سورة الأنبياء)(1).

أقول: كثير من الروايات صحيحة سنداً وذات دلالة صريحة على الاجتزاء بقراءة بعض السورة بعد الفاتحة، وقد نوقش الاستدلال بها من جهة ((أن هذه الأخبار –بعد إعراض الأصحاب عنها وقوة احتمال جريها مجرى التقية- لا تصلح معارضة لما عرفت))(2).

واحتمل بعضهم حملها على حال الضرورة(3)

ونحوها مما لا يجوز المصير إليه إلا عند تحقق التعارض وسنذكره عند معالجة التعارض بين الروايات.

أما المناقشة من جهة إعراض المشهور عنها، فهي مردودة كبروياً وصغروياً، أما كبروياً فلوضوح أن إعراض المشهور لا يسقط الرواية المعتبرة عن الحجية وأن هذه الكبرى لو سلمناها فإن مناط السقوط عدم الوثوق بصدورها عن المعصوم (عليه السلام) وهنا نقطع بصدور هذا المعنى عنهم (عليهم السلام) لكثرتها ووضوحها ورواية الأجلاء لها.

وأما صغروياً؛ فلأن الروايات ليس معرَضاً عنها بل يمكن وصفها بالمستفيضة ورواها كبار الرواة كمحمد بن مسلم وزرارة وأفتى بمضمونها عدد من أساطين القدماء والمتأخرين واستظهرنا من وصف العلامة (قدس سره) للقول بالوجوب أنه الأشهر مما يعني شهرة القول المقابل أي العامل بهذه الروايات، فلا يوجد إعراض عن الروايات ولا عن العمل بها.

ص: 135


1- مستدرك الوسائل: 4/160.
2- مصباح الفقيه للهمداني: 12/190.
3- رياض المسائل: 3/152.

ونوقشت أيضاً من جهة ((اختلافها وتعارضها بعضاً مع بعض من حيث إطلاق جواز التبعيض كما في جملة منها(1)،أو التقييد بما إذا كانت ست آيات منصَّفة بين الركعتين كما في بعضها، أو بما إذا كانت زيادة عن ثلاث آيات كما في آخر منها. فكيف يمكن الاستناد إليها أجمع لعدم إمكان المصير إليها بعد تضاد بعضها مع بعض.

مع أن الرواية المشترطة للزيادة عن ثلاث آيات غير صريحة في إرادة التبعيض، بل ولا ظاهرة؛ لاحتمالها إرادة تكرار السورة الواحدة بقراءتها في كل من ركعتي المكتوبة على حده، بل هذا هو الذي فهمه منها جماعة، وإن استبعده الشهيد قائلاً: إنه لو أريد تكريرها لم يكن للتقييد بزيادتها على ثلاث آيات فائدة.

وربما يناقش فيه: بجواز كراهة تكريرها إذا كانت ثلاث آيات تعبداً.

ودفعه بعدم القائل به مشترك الورود بين هذا الاحتمال واحتمال إرادة التبعيض، إذ كل من قال بجوازه لم يشترط الزيادة عليها.

مع أن اشتراطها على هذا الاحتمال يشعر بورود الرواية للتقية، لدلالتها على كون البسملة ليست من السورة، إذ ليس في السور ما يكون مع البسملة ثلاث آيات، فإن أقصرها الكوثر، وهي مع البسملة آيات أربع، فاشتراط الزيادة لا يناسب طريقة الإمامية، فتكون الرواية من جملة الدلائل على ورود أخبار التبعيض للتقية))(2).

أقول: نقلنا كلامه (قدس سره) بطوله إعجاباً بمقدرته العلمية وإلا فإن ما فيه لا يصلح لرد هذه الروايات الصحيحة سنداً الصريحة دلالةً؛ لعدم اقتصار روايات الطائفة على ما ذكرت العدد، ولعدم التنافي بينها حيث يظهر من صحيحة

ص: 136


1- يريد بالمطلق مثل مرسلة أبان بن عثمان (رقم 2) والمقيدة بستة مثل خبر أبي بصير (رقم 8) وبما زاد عن ثلاثة مثل رواية عمر بن يزيد (رقم 9).
2- رياض المسائل: 3/153.

زرارة كفاية كون البعض آية واحدة ولا ينافيها خبر أبي بصير الذي ذكر ثلاث آيات؛ لأنه كان على نحو المثال وليس الاشتراط.

أما كون سورة الكوثر أربع آيات فإنه مبني على المشهور من كون البسملة آية من السور القرآنية وهو مما لا دليل عليه إلا في سورة الفاتحة(1)، نعم البسملة جزء من السور القرآنية إلا أنها ليست آية من آياتها إلا من سورة الفاتحة، فآيات سورة الكوثر ثلاثة.

النسبة بين الرواياتروايات الطائفة الأولى ظاهرة في الأمر بقراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الجملة، ولسان الطائفة الثانية عدم وجوب شيء غير سورة الفاتحة، ولسان الطائفة الثالثة إمكان قراءة

بعض سورة بعد الفاتحة.

فيقال بعدم التعارض بين الطائفتين الثانية والثالثة إذ يحكم باستحباب قراءة شيء من القرآن بعد قراءة الفاتحة وإن لم يجب. نعم يمكن تصوير التعارض بأن هذا الإمكان إضافي أي بلحاظ المركوز في الأذهان الذي جرت عليه السيرة من قراءة سورة تامة بعد الفاتحة فيكون مفادها إمكان قراءة بعض السورة بدل السورة التامة وحينئذٍ يكون هذا البعض واجب القراءة بنفس وجوب بدله. وحينئذٍ يتحقق التعارض بين الطائفتين الثانية والثالثة.

ولما كان التعارض متحققاً بين الطائفتين الأولى والثانية، فالنتيجة تحقق التعارض بين الطائفة الثانية من جهة والطائفتين الأولى والثالثة من جهة أخرى.

ويمكن إخراج الطائفة الثانية من المعارضة لثلاثة أمور أو احتمالات على الأقل:-

1- إن حقيقتها رواية واحدة لا تقوى على معارضة الطائفتين ويقوّي هذا الاحتمال انتهاء سندي الشيخ في كلتيهما إلى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب فلعل إضافة الحلبي أو سقوطه من إحداهما من غفلة بعض

ص: 137


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 11.

رواتهما، خصوصاً على ما بنى عليه ابن داود في رجاله من جعل ابن رئاب في من لم يرو عن المعصومين (سلام الله عليهم) ولم يبيّن وجهاً لذلك وبين يديه رواياته عن الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، إلا أن يكون قد رجّح وجود واسطة بينه وبين المعصوم (عليه السلام) لكثرة سقوطها في رواياته بحسب اختلاف المصادر في نقل أحاديثه(1)، وإذا أردنا أن نذهب أبعد في التشكيك فنقول إن هذا كان معروفاً عنه في حياته بأن يأخذ من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ويرويها مباشرة عنهم (سلام الله عليهم)، ولذا أصرّ في صحيحته المتقدمة على قوله (سمعته) وكأنه للتأكيد أنه ليس فقط روى الحديث عن الحلبي وإنما سمعه هو أيضاً، وقد ذكرنا هذا سابقاً.

2- وجود احتمال أنها لا إطلاق لها وإنما تبين الحكم في الجملة أي إمكان كفاية الاجتزاء بالفاتحة وحدها في الفريضة، وهو ما نقول به عند تحقق أحد العناوين الثانوية كالخوف والمرض.

ويؤيد عدم وجود إطلاق للصحيحة أن الحلبي نفسه روى الاكتفاء بالفاتحة وحدها مشروطاً بما إذا أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئاً (الرواية (6) من الطائفة الأولى)، مما يرجح كون الرواية واحدة إلا أنها رويت مجملة مرة ومفصّلة أخرى،

3- رغم عدم تشكيك أحد في وثاقة علي بن رئاب لوصف الشيخ (قدس سره) له في الفهرست بأنه ((ثقة جليل القدر)) ولم يشكك أحد في وصف رواية ابن رئاب بأنها صحيحة إلا أنه يمكن عرض أطروحة محتملة للتشكيك العلمي الموجب للبحث والتحقيق في وثاقة علي بن رئاب منشأه عدم الاطمئنان بما قاله الشيخ (قدس سره) في الفهرست بأنه ((ثقة جليل القدر)) لعدم ورود توثيق له في كلام النجاشي ولا في رجال الشيخ، وهو لا يناسب وصف الشيخ في الفهرست.

ص: 138


1- راجع عدداً من الموارد في معجم رجال الحديث: 12/22.

ولعل بعض هذه الوجوه دفعت الشيخ (قدس سره) إلى حمل الطائفة الثانية على حال المرض أو الاستعجال أو الخوف.

ومنه يُعلم النظر في استبعاد البعض حمل الشيخ (قدس سره) على تلك العناوين ((ولا سيما الأول، وليس بناؤهم على ارتكابه في أمثال المقام، ولذا قال في المعتبر (واعلم أن ما ذكره الشيخ (قدس سره) تحكيم في التأويل والظاهر أن فيه روايتين وحمل إحداهما على الجواز والأخرى على الفضيلة) ونحوه ما في المنتهى في آخر الفرع الرابع في مسألة جواز التبعيض))(1).

أما الأولى والثالثة فلا تعارض بينها إذ يمكن كون الحكم هو الوجوب التخييري لكل منهما بعد عدم وجود ما يدل على الوجوب التعييني للسورة التامة بعد الفاتحة في روايات الطائفة الأولى، فالأمر بأحد فردي التخيير لا ينافي الأمر بالفرد الآخر، وهذا هو مقتضى القاعدة في مثل هذا المورد، كما لو قال (عليه السلام): (إذا أفطرت متعمداً فأعتق رقبة) وقال (عليه السلام): (إذا أفطرت متعمداً فأطعم ستين مسكيناً) فيكون حاصل الجمع بينهما التخيير. أي نرفع اليد عن ظهور الطائفة الأولى في الوجوب التعييني، فيكون الحكم هنا مثل ما ورد في صلاة الآيات من التخيير بين قراءة سورة تامة أو بعض سورة بين الركوعات مع الإلزام بسورة الفاتحة لكل ركعة وعليه حمل الفقهاء ما دل على قراءة سورة بعد الفاتحة بضميمة ما دلّ على الاجتزاء ببعض السورة(2).

نعم لو كان مفاد روايات الطائفة الأولى تعيّن قراءة سورة تامة وقع التعارض، وهي ليس لها مثل هذا اللسان وإنما اقتضاه ظهورها في الإطلاق، نعم المشهور الذي اشترط قراءة سورة تامة وظاهره تعيّن ذلك حصل عنده التعارض مع الطائفة الثالثة.

ص: 139


1- مستمسك العروة الوثقى: 6/152.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الكسوف والآيات، باب 7.

وحصل عندهم إرباك كبير، فمن جهة لم تكن أدلة الوجوب كافية للاشتراط بسبب المناقشات المتقدمة ومعارضة الطائفتين الثانية والثالثة الصحيحة سنداً والصريحة دلالة، ومن جهة أخرى لم يستطيعوا ردّ الطائفة الأولى والقول بعدم الوجوب بعد أن حصروا أنفسهم بين قولين: وجوب سورة تامة وعدم وجوبها بضميمة عدم القول بالفصل، ودمجوا روايات الطائفتين الثانية والثالثة وجعلوهما مقابل المشهور حتى أنهم نسبوا القول بعدم الوجوب إلى جملة من القدماء والمتأخرين كالإسكافي والشيخ الطوسي والعلامة، مع أنهم قالوا بالوجوب إلا أنهم نفوا كونه تعيينياً فراجع كلماتهم في أول البحث، ولو فككوا بينهما كما فعلنا –وهو الصحيح بلحاظ مفاداتها- لاتضحت الصورة أفضل بفضل الله تبارك وتعالى.

ولعدم وضوح الصورة لديهم توقف في الحكم عدد من أساطين المشهور وعملوا بالوجوب احتياطاً أو كان منشأ فتواهم الاحتياط –كما تقدم عن الشيخ الطوسي والعلامة (قدس الله سريهما)- قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((إن المسألة محلتوقف وإشكال وإن الاحتياط فيها لازم على كل حال، فإن ما استدل به على الوجوب كما عرفت لا ينهض بالدلالة الواضحة التي يمكن بناء حكم شرعي عليها))(1).

وقال صاحب المدارك بعد أن استوجه القول بعدم الوجوب: ((والمسألة محل إشكال، والاحتياط للدين يقتضي أن لا يترك السورة بحال، والله أعلم بحقائق أحكامه))(2).

وقال السيد الحكيم (قدس سره): ((لكن مع ذلك كله –أي المناقشات في أدلة الوجوب- فالنفس لا تطمئن بعدم الوجوب للشهرة العظيمة على الوجوب بل الإجماع ممن يعتد بفتواهم من القدماء عليه، فالمسألة لا تخلو من إشكال ولا

ص: 140


1- الحدائق الناضرة: 8/123.
2- مدارك الأحكام: 3/351.

سيما مع ضعف بعض المناقشات السابقة، فالتوقف فيها متعين والاحتياط طريق النجاة))(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((فالمسألة لا تخلو عن الإشكال ولا نجد في المقام أجدر من التوقف والاحتياط الذي هو سبيل النجاة وحسن على كل حال))(2).

وأعرض المحقق النراقي (قدس سره) عن الاستدلال بكل الروايات المتقدمة وتمسك برواية يحيى بن أبي عمران إنصافاً منه لعدم صلاحية الجميع للاستدلال بعد أن ناقشها. وقد علمت المناقشة في الاستدلال بهذه الرواية.

وكان الحل بين أيديهم وهو الوجوب التخييري بين قراءة سورة تامة أو بعض سورة، وإن الأول أفضل وفيه تأسٍّ بسيرة المعصومين (سلام الله عليهم) مع ما فيه من تحقيق الغرض الكامل للسورة فإن لكل سورة غرضاً وهدفاً توصل إليه لا يتحقق إلا بإتمامها مضافاً إلى الغرض المتحقق من كل آية بل بعض آية.

وبغض النظر عن هذه النتيجة التي توصّلنا إليها، فإننا نريد أن نعالج هذا التعارض بين الطائفتين الأولى والثالثة، أي ما دلّ على تعيّن سورة تامة بناءً على فهم المشهور وما دلّ على الاجتزاء ببعض السورة، ونبحث بلحاظ وجود الطائفة الثانية في دائرة الاعتبار تارة وعدم وجودها تارة أخرى.

وما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه لحل التعارض تقع في مستويات مترتبة:

(المستوى الأول) الجمع العرفي وهو ممكن ومقبول على كلا التقديرين، فعلى فرض إهمال الثانية يكون مقتضى الجمع بين الطائفتين الأولى والثالثة عدم الوجوب التعييني لقراءة سورة تامة وإن استحب ذلك لكنه لا يتعين، والاكتفاء

ص: 141


1- مستمسك العروة الوثقى: 6/154.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/284.

بقراءة بعض السورة وهو ما اختاره ابن الجنيد والشيخ (قدس سره) في النهاية والمبسوط.

وعلى فرض العمل بالطائفة الثانية يكون مقتضى الجمع عدم وجوب أي شيء غير الفاتحة بالتمسك بالطائفة الثانية لأنها أقوى ظهوراً وأصحّ سنداً خصوصاً وأنهم قد ضمّوا إليها الطائفة الثالثة باعتبارها تنفي وجوب سورة تامة وبضميمة عدم القول بالفصل، وهو ما استوجهه السيد صاحب المدارك والمحقق السبزواري وآخرون، وحمل ما دل على قراءة الزائد على الاستحباب ورفع اليد عن ظهورها في الوجوب.

وقد رجحنا نحن الشكل الأول من الجمع –وهو قول الإسكافي والشيخ في النهاية والمبسوط- أي بإخراج الطائفة الثانية من التعارض؛ لأنها لا تقوى على معارضة الطائفتين الأخريين بحسب حصيلة النظر في مجموع الروايات، أما الشكل الآخر الذي أخذ به السيد صاحب المدارك والمحقق السبزواري وآخرون فإنه خلاف الإنصاف كما قدمنا والأخذ به مشكل لأن فيه خروجاً عن كل ما ورد في روايات الطائفة الأولى بل الثالثة أيضاً بالتقريب الذي ذكرناه، ولأن فيه مخالفة لما ذهب إليه المشهور الذي ادعي عليه الإجماع، أي أن الالتزام بكفاية سورة الفاتحة يعني جعل رواية واحدة –وهي صحيحة ابن رئاب- في مواجهة عشرات الروايات في الطائفتين الأولى والثالثة فلا يحصل اطمئنان بها مضافاً إلى المناقشات المتقدمة (صفحة 137).

أما المشهور فلم يأخذ بالجمع العرفي رغم إمكانه فتمسّك بالطائفة الأولى وتصرّف في الثانية والثالثة أما الثانية فقيّدها بالمريض والمستعجل والخائف وحمل الثالثة على التقية لموافقتها للعامة ونحوها.

وقد ردّ السيد الخوئي (قدس سره) على الأول بأنه ((لا يمكن المساعدة عليه وإن ذكره جمع من الأكابر منهم المحقق الهمداني وغيره، إذ ليس هو في المقام من الجمع العرفي في شيء، ضرورة أنّ حمل المطلق على المقيد إنّما يصح فيما إذا أمكن إرادته منه وجاز صرف الإطلاق إليه، لا في مثل المقام ممّا يشبه

ص: 142

الحمل على الفرد النادر، فإنّ موارد الاستعجال والخوف قليلة جداً، فكيف يمكن إرادتها من الإطلاق))(1).

أقول: هذا الرد ليس كافياً لأن الانصراف لا يقتضي تقييد المطلق وإن لم يكن نادراً إلا أن يكون للمطلق ظهور في هذه العناوين الخاصة على نحو ينصرف عن غيرها وهو لم يقله (قدس سره)، على أن موارد الخوف والاستعجال والمرض –إذا تمسكنا بإطلاق المريض والاستعجال لحاجة(2)-

نادرة فلا مانع من الحمل عليه من هذه الجهة.

نعم أشكلنا من جهة احتمال عدم إرادة الإطلاق من الصحيحة وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال خصوصاً مع معارضتها للطائفتين.

وأما الثاني –وهو حمل الثالثة على التقية ونحوها- فإنه على خلاف مقتضى القواعد المعمول بها في أمثال هذا المورد فإنه إذا أمكن الجمع العرفي بحمل الطائفة الأولى على الاستحباب أو الوجوب التخييري فهو متقدم بمرتبتين على الترجيح بمخالفة العامة ونحوها.

وبتعبير آخر إن موافقة العامة لا توجب سقوط الحديث عن الاعتبار إلا عند التعارض فيُرجَّح المخالف للعامة.

(المستوى الثاني) تحقق التعارض وترجيح الطائفة الأولى بمرجحين:

الأول: موافقة المشهور. ويرد عليه –بعد التنزل عما قلناه من إمكان الجمع العرفي مما لا يبقي للتعارض موضوعاً- أن المرجح في باب التعارض هي الشهرة الروائية وهي متحققة لجميع الروايات فلا ترجيح، وحتى على الصعيد الفتوائي فإن الفتوى المخالفة للمشهور ليست من الشاذ النادر الملحق بالعدم كما قربنا.

ص: 143


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/276.
2- من المفيد إلفات النظر أن السيد الخوئي (قدس سره) استظهر هذين الإطلاقين في المستند: 14/285-286.

وقد عبّر السيد الخوئي (قدس سره) عن هذا المرجح ب-((سقوط الطائفة الثانية –أي مجموع الثانية والثالثة على تقسيمنا- عن الحجية بإعراض المشهور عنها فلا تصلح للمعارضة مع الطائفة الأولى الظاهرة في الوجوب)).

أقول: هذه الصياغة تتقدم بمرتبتين على المستوى الذي نحن فيه من الكلام لأنها تشكك في أصل حجية ما استدل به على خلاف المشهور فتسبق التعارض الذي هو فرع الحجية التي هي فرع وجود المقتضي وعدم وجود المانع وقد انتهينا من مناقشتها (صفحة 135).

الثاني: مخالفة العامة فحملوا الطائفتين الثانية والثالثة على التقية لموافقتها للمشهور عند العامة وجعلوا صحيحة إسماعيل بن الفضل وخبر سليمان بن أبي عبد الله المتقدمتين في الطائفة الثالثة شاهداً على ذلك(1)

لقوله (عليه السلام): (أما إني أردت أن أعلمكم) أي تعليمهم جواز التبعيض للتقية وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل اعتذاره (عليه السلام) مع سؤاله في الخبر الثاني كالصريح في ذلك))(2)

وتبعه المحقق الهمداني (قدس سره) قال: ((وكيف كان فالإنصاف أن في اعتذاره (عليه السلام) عن فعله وفعل أبيه(3)

(عليهما السلام) في الخبرين المزبورين إشعاراً بكونه تقية، وأن غرضه من التعليل في الخبر الأول ردع شيعته عن التأسي بفعله الذي هو كالنص في الجواز، ولعل في إجمال ما أراده بالتفقه وعدم شرحه لهم أيضاً إيماءً إليه))(4).

ص: 144


1- مفتاح الكرامة: 4/621.
2- جواهر الكلام: 9/336.
3- إذا أراد بذلك ما في الجواب في خبر سليمان فإنه من استرسال القلم لأن المجيب هو أبو سليمان وليس الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه الباقر (عليه السلام) لكن كنية أبي عبد الله أوجبت التوهم.
4- مصباح الفقيه: 12/190.

وفيه: ما قدمناه أول البحث من كون المشهور عندهم أن قراءة سورة تامة سنة فهو أمر راجح عندهم ورووه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويوجد عندهم من قال بالوجوب فلا مبرر لاتقائهم في هذا الأمر.أما تفسير ذيل صحيحة إسماعيل بن الفضل بالتقريب الذي ذكروه فهو غريب وبعيد عن الفهم، وإن التقية لو اقتضت التبعيض فيبيّن الإمام (عليه السلام) ذلك بالكلام، ولا يسوِّغ هذا البيان حصول المخالفة في الصلاة –لو كانت السورة التامة واجبة- لأن المبيح للعمل الموافق للتقية هو واقع التقية وليس الحاجة إلى بيانها، وظاهر الحال عدم وجود ما يُتقى منه.

أما الإشعار الذي ذكروه للتقية وهو التعليل فظاهره تعليم الإمام (عليه السلام) شيعته الرخصة بجواز قراءة بعض السورة وعدم تعيّن إتمامها الذي جرت عليه سيرتهم (عليهم السلام) وشيعتهم جيلاً بعد جيل، نعم في التعليل إشعارٌ بأن الحالة العامة التي ينبغي لهم المحافظة عليها هي قراءة سورة تامة، وقراءة البعض رخصة لهم.

وما استظهرناه نظير الرخصة التي علمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه في الجمع بين الظهرين من غير علة، ففي موثقة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال (عليه السلام): صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة، وصلى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علة في جماعة، وإنما فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليتسع الوقت على أمته)(1).

إلفات: اعتبر الشيخ الأنصاري (قدس سره) من مرجحات قول المشهور موافقة الكتاب(2)، ولم يقرب كيفيته ولعله بنى على تقريب العلامة (قدس

ص: 145


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 7، ح6.
2- كتاب الصلاة: 1/351.

سره) في المختلف وقد نقلناه (صفحة 112) وناقشناه، ولو تمّ فإنه يصلح عموماً فوقانياً.

(المستوى الثالث) استقرار التعارض والرجوع إلى العمومات الفوقانية وإلا فالأصول العملية:

ويمكن عرض عموم فوقاني في المقام وهو قوله تعالى: «فَاقْرَأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» فلا يتعين قراءة سورة تامة لكننا استبعدنا (صفحة 112) تقريب الاستدلال بالآية على ما نحن فيه؛ لأنها بصدد الحديث عن تلاوة القرآن بقرينة ورود الأمر في عرض الأمر بالصلاة، قال تعالى: «فَاقرَأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَلاةَ»، ولو سلّمنا بأنها كناية عن الصلاة كما قرّبنا هناك فإنها واردة في صلاة الليل، ويمكن جعل الآية عموماً فوقانياً لقول المشهور بالتقريب الذي ذكره العلامة (قدس سره)، وقد نقلناه وناقشناه (صفحة 112).أما الأصل العملي فقد تمسّك الأعلام بأصالة الاحتياط لقاعدة الاشتغال ونقلنا تقريب وكلمات جملة منهم، وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((لا يبعد في مثلها –أي المسألة محل البحث- لزوم الاحتياط تحكيماً لقاعدة الاشتغال))(1).

أقول: الأقوى جريان أصالة البراءة؛ لأنه على فرض إدخال الطائفة الثانية كطرف في التعارض فإن موضوع الشك هو جزئية شيء من القرآن الكريم أعم من السورة التامة أو بعض السورة، والأصل الجاري عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته وعدمهما هو البراءة.

وإذا لم ندخل الطائفة الثانية في التعارض فإن الشك يدور بين التعيين والتخيير، أي تعيّن قراءة سورة تامة أو التخيير بينها وبين بعض السورة، والأصل الجاري هنا هو البراءة لأنه من سنخ الأقل والأكثر الاستقلاليين.

ص: 146


1- كتاب الصلاة: 1/315.

القول المختار:

حصيلة ما تقدم من البحث: أن الأقوى هو قول ابن الجنيد والشيخ الطوسي (قدس الله سريهما) في النهاية والمبسوط وهو التخيير في الركعتين الأوليين بين قراءة سورة تامة أو بعض سورة بعد فاتحة الكتاب وينبغي أن لا يقل بعض السورة عن ثلاث آيات، والفرد الأفضل هو قراءة سورة تامة لوجوه:-

1- إن عليه سيرة المعصومين (سلام الله عليهم).

2- لكثرة الروايات الواردة في فضل قراءة سورة معينة في الفرائض ولم ترد رواية في فضل قراءة بعض سورة في الفريضة.

3- لأن فيه وفاءً لحق السورة كما ورد عنهم (عليهم السلام) في أكثر من رواية (إن لكل سورة حقاً فأعطها حقها من الركوع والسجود)(1)

حيث إن لكل سورة غرضاً تستوفيه بتمامها.

4- لأنه أصبح شعاراً للإمامية أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بعد أن اتخذت العامة قراءة بعض السورة شعاراً لهم لإعلان مخالفتهم لأهل البيت (عليهم السلام) رغم اعترافهم بأن السنة قراءة سورة تامة كما نقلنا عنهم.

لكننا أردنا التأسي بالإمام (عليه السلام) عندما قال: (أما إني أردت أن أعلّمكم) ببيان هذه الرخصة، ولتحقيق الغرض الذي ذكرناه في أول البحث عند تحقق ظرفه بإذن الله تعالى.

والحمد لله ر ب العالمين

وصلى الله على سيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 147


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، باب 8، ح3.

ص: 148

البحث الرابع: تعريف الوطن وإمكان تعدده

اشارة

ص: 149

ص: 150

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الرابع: تعريف الوطن وإمكان تعدده

البحث الرابع: تعريف الوطن وإمكان تعدده(1)

من قواطع السفر ووجوب التمام المرور بالوطن، بحيث لا يرجع إلى حكم القصر إلا بإنشاء سفر جديد بشروطه. وهذه القضية ثابتة بلحاظ الموضوع والحكم.

أما بلحاظ الموضوع فلانقطاع عنوان السفر بالمرور بالوطن، والسفر هو موضوع وجوب قصر الصلاة، فمع انتفاء هذا الموضوع يعود حكمه إلى التمام.

وأما بلحاظ الحكم فللأدلة المعتبرة التي دلت على وجوب إتمام الصلاة للمسافر إذا مرَ بوطنه كموثقة عبد الله بن بكير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنزل فيمرّ بالكوفة وإنما هو مجتاز لا يريد المقام إلا بقدر ما يتجهز يوماً أو يومين، قال: يقيم في جانب المصر ويقصّر، قلت: فإن دخل أهله؟ قال: عليه التمام )(2)،بضميمة ما دل على أن المراد بدخول الأهل أي البلد نفسه، وجواب الإمام (عليه السلام) ظاهر في ذلك.

والروايات المعتبرة سيتكرر ذكرها في المسالة ويدل بعضها مطابقة والآخر بالمفهوم كمعتبرة إسماعيل بن الفضل قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسافر من أرض إلى أرض وإنما ينزل قراه وضيعته، قال: إذا نزلت قراك وأرضك فأتم الصلاة، وإذا كنت في غير أرضك فقصّر )(3).

ص: 151


1- (*) بدأ إلقاء البحث يوم 23/صفر/1429 الموافق 2/3/2008.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 7 , ح 2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 14 , ح 2.

مصاديق عنوان الوطن

وقد وردت في كلمات الفقهاء عدة معان للوطن, أوصلها بعضهم إلى (ثمانية أو أكثر )(1)

لكنها ترجع إلى ثلاثة عناوين رئيسية:

(الأول) الوطن الأصلي: وهو البلد الذي ولد فيه وسكنه مع أبيه بالتبع ولعله ينسب إليه، فهو وطن الآباء والأجداد ولا عبرة بكل هذه الأوصاف وإنما نقصد به محل إقامته الأصلي الذي عاش فيه.(الثاني) الوطن الاتخاذي: وهو المحل الذي اتخذه سكناً لغرض تجاري أو وظيفي أو دراسي أو أي شيء آخر.

وهذا الوطن قد يكون مصاحباً للوطن الأول وفي عرضه وقد يكون بديلاً عنه، مثال الأول: طالب العلم الذي يتوجه إلى النجف لطلب العلوم الدينية ويتخذ له مسكناً له ولأسرته من دون أن يقطع صلته بوطنه الأصلي فيبقى متواصلاً معه كلما سنحت له فرصة ويعود إليه عند إكمال دراسته، وهذا مثال لتعدد الوطن الذي سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومثال الثاني: من هجر وطنه الأصلي واستوطن النجف كبعض العلماء الذين هاجروا إلى النجف من بلادهم الأصلية ولم تعد لهم علقة بها.

(الثالث) الوطن الشرعي: وهو وطن ليس بالمعنى العرفي ولكنه اعتبر بالجعل الشرعي بحسب ما إفادته الروايات، ((وإنما يتحقق بوجود منزل مملوك له في محل قد سكنه ستة أشهر متصلة عن قصد ونية، فإذا تحقق ذلك أتمّ المسافر صلاته كلما دخله إلا أن يزول ملكه))(2).

وقد اختلفت أقوال الفقهاء (قدس الله إسرارهم) في إمكان أن يكون للمكلف أكثر من مكان يصدق عليه عنوان الوطن وتترتب عليه أحكامه، والذين قالوا بالتعدد اختلفوا في المصاديق المشمولة بحكم التمام.

ص: 152


1- مستمسك العروة الوثقى , 8/105.
2- المستند في شرح العروة الوثقى , 20/238 , من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي.

وقد نفى سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) إمكان تعدد الوطن أصلاً, قال (قدس سره): ((هل يصدق عرفاً على الفرد أن له وطنين؟ لا يبدو أن هذا مستساغ عرفاً، فإن الناس عادة يتوطنون بلداً واحداً، وهذه العادة تنتج فهماً عرفياً في طولها يقول: إن الوطن لا يكون إلا واحداً))(1).

وقال (قدس سره): ((إن من يذهب للسكن مدة معتداً بها للدراسة أو التجارة في بلد، تصبح وطناً له، وينتفي بلده الأول عن كونه وطناً له، وان لم يرد ذلك ويكون لهذين البلدين حكمه الخاص به.

وهذا النوع من الاستيطان لا ينافي نية الانتقال بعد مدة طويلة. فإن رجع إلى بلده الأول بعد انتهاء مهمته فهي وطنه، وينقطع استيطانه عن ذلك البلد وان انتقل إلى بلد آخر غيرهما فهو وطنه.

وهذا كله يشمل الطلاب الذين يعودون خلال العطلة الصيفية إلى أهاليهم لأننا قلنا: إن العرف قد يرى صدق الموطن في الاستيطان القليل زماناً، إذا كان مقتضى النظام الاجتماعي هو ذلك، والطالب أمره هكذا لأن مقتضى دراسته هو ذلك، وبقاؤه اقل من سنة في محل دراسته يعني كونه وطناً له.وإذا عاد إلى بلده خلال العطلة لا يصبح وطناً له، ما لم يرجع إليه بعد انتهاء دراسته كلها أو الإعراض عنها أحياناً))(2).

ويقصد (قدس سره) ببقائه أقل من سنة أي أشهر الدراسة التسعة أو الثمانية عدا أشهر العطلة الصيفية وكأنه يفترض أن الطالب يمكث طيلة هذه المدة في بلد الدراسة ولا يعود إلى أهله إلا في نهاية السنة الدراسية وهذا مخالف للواقع الخارجي. فالحكم بانتفاء الوطن الأصلي حتى في العطلة الصيفية المستلزم للصلاة قصراً فيه غريب، ولم يكن يفتي به عملاً.

ويبدو أنه (قدس سره) بهذا الافتراض يريد أن يصحح ما يميل إليه وجداناً من وجوب صلاة التمام على هذا الطالب في بلد دراسته، مضافاً إلى

ص: 153


1- ما وراء الفقه: 1/440 , طبعة بيروت.
2- ما وراء الفقه: 1/444.

تطبيق الفهم العرفي الذي قاله (قدس سره) وكانت له مندوحة عن هذا الافتراض لأن صلاة التمام حكم هذا الطالب من جهة انه محل عمله.

فالعرف الذي استدل به (قدس سره) لا يساعد على هذه الآلية لصدق عنوان الوطن إذ يرى أن وطنه هو بلد سكنه وأهله حتى لو بقي هذه المدة في بلد دراسته، كما يعترض العرف على كفاية هذه المدة - أي اقل من سنة - لصدق عنوان الوطن ونفى جملة من الفقهاء - باعتبارهم أبناء العرف - صدق الوطن حتى على الأكثر من ذلك كالسنة والسنتين.

والعرف يرى ذلك وإنما اعتبروا محل الدراسة وطناً بلحاظ مجموع مدة دراسته لا بلحاظ كل فترة يمكث فيها بمعزل عن المدد الأخرى الذي ورد في كلام سيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره).

ولا بد من الالتفات إلى أن المندوحة التي ذكرناها لوحدة الحكم وهو صلاة التمام في الحالتين لا يعني خلوّها من نقاط الافتراق ومنها:-

1- أن اعتباره وطناً يعني بقاء الحكم على التمام إذا غادر المدينة إلا إذا قصد قطع المسافة الشرعية بينما إذا كان محل عمله فيقصّر بمجرد مغادرته.

2- واعتباره وطناً يستلزم الصلاة تماماً لو جاء لأي غرض بينما لو كان محل عمل فأنه يتمَ إذا جاء لهذا الغرض فقط.

3- أن صلاته في الطريق بين وطنه الأصلي وهذا البلد يكون تماماً إذا افترضناه محل عمل وتكون قصراً إذا افترضناه وطناً.

4- ولو كان وطناً له فيتم حتى لو لم يكن مشغولاً بعمله الذي استوطن من اجله بينما إذا كان محلاً لعمله فيقصّر لو بقي من دون انشغال بعمله كالطالب إذا بقي يومي الخميس والجمعة حيث تتعطل الدروس.

وقد خالف سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) بنفيه لتعدد الوطن أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والمعاصرين، فقال الأول (قدس سره): ((بالإمكان أن يكون لدى الإنسان وطنان))(1)، وقال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف): ((يجوز أن يكون للإنسان وطنان، بأن يكون له

ص: 154


1- الفتاوى الواضحة: 302.

منزلان في مكانين، أحدهما في النجف الأشرف مثلاً والآخر في كربلاء، فيقيم في كل سنة بعضاً منها في هذا وبعضها الآخرفي الآخر))(1), بل قال السيد صاحب العروة (قدس سره) بالإمكان الأكثر من ذلك، قال (قدس سره): ((يمكن تعدد الوطن العرفي، بأن يكون له منزلان في بلدين أو قريتين من قصده السكنى فيهما أبداً، في كل منهما مقداراً من السنة بأن يكون له زوجتان مثلاً كل واحدة في بلدة، يكون عند كل واحدة ستة أشهر أو بالاختلاف، أي اختلاف مدد الإقامة في البلدين، بل يمكن الثلاثة أيضاً، بل لا يبعد الأزيد أيضاً))، وعلّق السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: ((للصدق عرفاً في الجميع))(2).

((ومعنى أن له وطنين أنه لو قصد الوطن الأول في المدة المقررة لسكن الثاني صلى فيه تماماً، مثلاً: أن يتخذ تاجر في بيروت مسكناً صيفياً له في جباع أو كيفون يسكنه خمسة أشهر في السنة ويسكن في بيروت باقي شهور السنة، فيكون كل منهما وطناً له، ومتى وجد في أحدهما وأراد أن يصلي فتكليفه التمام، حتى ولو صلى في كيفون شتاءً وفي بيروت صيفاً))(3).

ومنع سيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره) من ذلك في الموردين (أي من كان له زوجتان أسكنهما في بلدين، ومن كان سكنه في بلد واستوطن بلداً آخر للدراسة أو العمل)، وقال: ((وأما على ما قلناه من عدم إمكان الوطنين عرفاً فالفرد إنما يجب عليه الإتمام في البلد الذي هو فيه، ففي المورد الأول: أي بلد سكنه أتم فيه، وفي المورد الثاني: إذا خرج الفرد للدراسة أو التجارة واستوطن بلداً أتم، ويبقى على ذلك مادام كذلك وقصر في البلد الآخر ما لم يعد إليه))(4).

وجوابه على الأول يوحي بعدم الثمرة من الخلاف لكنه ذكره في جوابه على الثاني وسنشير إليه إن شاء الله تعالى. ولكن الجميع ومنهم السيد الصدر

ص: 155


1- منهاج الصالحين: 1/374 , المسألة 940.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/111.
3- الفتاوى الواضحة: 302.
4- ما وراء الفقه: 1/441.

الثاني (قدس سره) اتفقوا على عدم ثبوت الوطن الشرعي الذي قال به السيد الخوئي (قدس سره) وفاقاً للمشهور على ما نسب إليهم في العروة الوثقى.

أقول: إن تركيز الفقهاء (قدس الله إسرارهم) على صدق الوطن أو نفيه مما لا يلزم لأن موضوع حكم الصلاة تماماً أعمّ من الوطن وهو الشهود والحضور الذي يقابل السفر فإذا انتفى عنوان السفر وجبت صلاة التمام من دون حاجة لصدق الوطن كالبدو الذين بيوتهم معهم ومن لا وطن لهم وإنما ينتقل بأثاثه ولوازمه تبعاً لعمله كموظف لا يستمر في مدينة وإنما ينتقل بحسب مقتضيات عمله وهكذا.

ص: 156

تعريف الوطن وتنقيح موضوع المسألة

الوطن مفهوم عرفي ولذا لم يُزد اللغويون شيئاً عما يفهمه العرف، قال في مجمع البحرين: ((الوطن مكان الإنسان ومحله، ووطنت الأرض توطيناً واستوطنتها أي اتخذتها وطناً))(1).

والقدر المتيقن من الوطن هو المكان الذي يستقر به الإنسان ويعيش فيه حياته الطبيعية بحيث إذا سئل عن محل سكنه أجاب بذلك المكان، ويمارس عمله اليومي فيه والذي يسمى بالوطن العرفي. وإنما يبدأ الخلاف فيما لو ترك ذلك المكان الأصلي له واستوطن مكاناً آخر لأجل العمل والدراسة أو التابعية مع بقاء انتسابه عرفاً إلى ذلك المكان ولم يقطع صلته بالأول فكيف يتعامل مع المكانين، أو قطع هذه الصلة مع الأول ولكن بقي له ملك فيه استوطنه مدة.

وفيما لو كان له منزلان أحدهما صيفي مثلاً والآخر شتوي أو أن له زوجتين في مكانين مختلفين وتتناوب إقامته معهما، أو يضاف إلى هذين المنزلين مكان ثالث لعمله ونحو ذلك من الاحتمالات فهل يصدق الوطن أو الأعم منه مما يوجب صلاة التمام على كل هذه الأمكنة فتنطبق عليه أحكامه. وإنما تجب صلاة التمام حينما ينقطع عنوان السفر وإذا افترضنا أن عنوان الوطن هو هذا العنوان الواسع وهو قريب لما سنجد في الروايات من أن (كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير)، فمعيار صدق عنوان الاستيطان على منزل صحة سلب عنوان السفر عنه، وهذا مقياس مفيد لصدق عنوان الوطن عرفاً. وبغض النظر عما يمكن أن يقال في ثبوت الوطن الشرعي وعدمه فإن العرف هو الحاكم في صدق عنوان الوطن، فالذي يمكث في بلد ما مدة ثمانية أشهر أو تسعة كمن ينتظم في دورة مهنية أو تعليمية أو يرسل بإيفاد من دائرته فإن العرف لا يسميه وطناً ويصدق عليه أنه مسافر لذلك الغرض، نعم لو كان يقضي هذه المدة من كل سنة في ذلك البلد لسنوات فإنه يصدق عليه عرفاً أنه وطن له بلحاظ مجموع المدة التي يقضيها هناك كالطالب الجامعي الذي يسكن الأقسام الداخلية في بلد غير وطنه.

ص: 157


1- مجمع البحرين، للطريحي: 6/237.

وقد صرح السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بعدم كفاية السنة والسنتين لصدق عنوان الوطن عرفاً، فقال: ((فالموقف يرتبط بالمدة التي يعزم المهاجر على قضائها في مهجره، فإن كانت مدة من قبيل أربع سنوات أو أكثر اعتبر المهجر وطناً له وأتمَ فيه الصلاة ويكون من القسم الثالث من الوطن -(الذي عرّفه (قدس سره) بأنه البلدة التي يتخذها مقراً له مدة مؤقتة من الزمن ولكنها طويلة نسبياً على نحو لا يعتبر تواجده فيها سفراً، كالتلميذ الجامعي الذي يتخذ بغداد مثلاً مقراً له مدة أربع سنوات من أجل دراسته)-، وإن كانت المدة قصيرة، كما إذا كان عازماً على البقاء سنة أو سنتين، لم يكن المهجر وطناً بل كان حكمه حكم أي بلد أجنبي))(1).وقال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف): ((ثم إن المهاجر إلى النجف الأشرف إن كان عازماً على البقاء فيه مدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو أكثر، فالنجف مقر له وحكمه حكم الوطن، وإن كان عازماً على البقاء فيه سنتين أو أقل لم يكن النجف مقراً بل حكمه حكم المسافر))(2).

وأصرَّ (دام ظله) على الأربع سنين في كتابه الاستدلالي فقال: ((ولا مانع من الجمع بين الأمرين كالنجفي إذا اتخذ بغداد وطناً ثانياً له بأن يقرر البقاء فيه مدة لا تقل عن أربع سنوات أو أكثر من أجل مهنة كالدراسة أو نحوها وبعد انتهائها يعود إلى بلده فأنه ذو وطنين))(3).

أقول: لا يخلو نفي صدق الوطن عن المدة المذكورة أي ما دون الأربع أو الثلاث من إشكال حلاً ونقضاً، أما حلاً فلأن المعيار ما دام هو عدم صدق عنوان المسافر عليه عرفاً فإن العرف قد يحكم بذلك على من عزم التوطن لمدة سنتين، فلو اكتفوا بذكر المعيار وتركوا التحديد للعرف لكان أدق. قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره): ((والمهم هو صدق السكنى والإقامة في البلد، وهذا يحصل بالسكنى إلى أجل غير محدود أو إلى عدة سنوات معتدٍ بها عرفاً

ص: 158


1- الفتاوى الواضحة: 303.
2- منهاج الصالحين , 1/376 , المسألة 945.
3- تعاليق مبسوطة , 4/414.

كسنتين أو ثلاث على الأقل))(1). وأما نقضاً فبسؤالهم عن حكم الطلاب الذين مدة دراستهم سنتان كطلاب المعاهد الفنية ونووا توطن الأقسام الداخلية فكيف سيكون حكم صلاتهم في عطلة نهاية الأسبوع إذا بقوا في أقسامهم؟

ويمكن النقض عليه بمسألة في كتاب الحج ولم أجد من استفاد منها في المقام، وهي مسألة انتقال فرض من أقام بمكة مدة من التمتع إلى الأفراد، والمشهور أنها سنتان، وعنونوا المسألة بأنه (من كان له وطنان) وتدل عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة لا متعة له)(2), وصحيحة عمر بن يزيد قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): المجاور بمكة يتمتع بالعمرة إلى الحج إلى سنتين فإذا جاوز سنتين كان قاطناً وليس له أن يتمتع)(3)، واكتفى البعض بمضي سنة واحدة واستدل بصحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام): لأهل مكة أن يتمتعوا؟ قال: لا، قلت فالقاطنين بها؟ قال: إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكة)(4), وخبر محمد بن مسلم: (من أقام بمكة سنةفهو بمنزلة أهل مكة)(5).

وربما اكتفت بعض الروايات بستة أشهر كصحيحة حفص بن البختري(6)

وليس هذا مقام الجمع بينها.

إن قلتَ: إن هذا الإلحاق حكمي بمعنى أن من جاور بمكة هذه المدة لحقه حكم أهلها من دون صدق التوطن عليه.

قلتُ: هذا ممكن في بعض الروايات الآنفة, أما بعضها الآخر فصريح بأنه قاطن وأنه من أهل مكة وفي مجمع البحرين: ((قطن بالمكان يقطن من باب قعد: أقام به وتوطَنه فهو قاطن))(7).

ص: 159


1- ما وراء الفقه , 1/439.
2- وسائل الشيعة , كتاب الحج , أبواب أقسام الحج , باب 9 , ح 2,1.
3- وسائل الشيعة , كتاب الحج , أبواب أقسام الحج , باب 9 , ح 2,1.
4- وسائل الشيعة , كتاب الحج , أبواب أقسام الحج , باب 9 , ح3.
5- الشيعة , كتاب الحج , أبواب أقسام الحج , باب 8 , ح4,3..
6- نفس المصدر السابق.
7- مجمع البحرين: 6/300.

وقد قبل سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) قصد التوطن بمكة فقال (قدس سره): ((وأما إذا كانت إقامته بقصد التوطن فوظيفته حج الأفراد أو القران من أول الأمر إذا كانت استطاعته بعد ذلك))(1), وفي هذا قبول ضمني بتعدد الوطن لبقاء عنوان الوطن على بلده الأصلي.

وقد ينكر (قدس سره) ذلك ويقول إن هذا الشخص في طول توطنه مكة ينتفي عنوان الوطن عن بلده الأصلي.

إن قلت: إنه لا تبدو هنالك ثمرة لأن الشخص الواحد لا يكون اثنين فأينما يكون فهو وطنه.

فأنه يقال: إننا لو افترضنا أن الإقامة بمكة سنتين لا ينافيها الخروج عنها وهو ليس ببعيد إذ يبعد المنع من خروجه لقضاء حاجة أو أداء العمرة التي علمنا استحبابها في كل شهر(2), فمع هذا الفرض لو عاد إلى بلده لأمر عاجل فأنه يصلي فيه تماماً.

ويمكن أن نحصل من كلامه (قدس سره) قبولاً لتعدد الوطن إذ قال: ((وإذا حصل ذلك، أي الصدق العرفي للسكنى والإقامة في بلد، لم يكن مهماً الوجود المستمر في البلد، فإذا خرج الفرد أياماً أو أشهراً بل أكثر لم يناف التوطن، نعم لو كان توطنه إلى أجل محدود وخروجه متعدد وطويل الزمن اخلَ ذلك بالتوطن عرفاً))(3), فلو فرضنا شخصاً من أهل البصرة ويطلب العلم في النجف ويترك البصرة أشهراً ولا يأتيها إلا في أشهر التبليغ (محرم وشهر رمضان) ويستوطن النجف في بقية المدة فإن العرف يقبل بكون البصرة والنجف وطناً له بتطبيق كلامه (قدس سره) على المدينتين.

وإن كان الظاهر من كلماته (قدس سره) غير هذا فأنه يرى أن الوطن في المثال هي البصرة في شهري الإقامة فيها والنجف في بقية المدة وكذا طلبة

ص: 160


1- مناسك الحج: 50, المسألة 113.
2- فقه الخلاف: 7/168-425، ط. الأولى، و 2/379 بحسب ط. الثانية.
3- ما وراء الفقه: 1/440.

الجامعات الذين يستوطنون بلد الدراسة مدة ويعودون إلى وطنهم الأصلي في العطلة الصيفية(1).

التحقيق في المسألة

يتوقف القول بتعدد الوطن أو عدمه على معرفة المناط لصدق عنوان الوطن, وقد عرفنا معناه العرفي ونجري الآن مراجعة للروايات للتحقق من المعايير الواردة فيها، والتأمل البدوي في الروايات يوصل إلى أكثر من مناط لإتمام الصلاة:

الأول: وجود ملك له كبيت أو ضيعة أو نخلة:

وتدل عليه:-

1- صحيحة إسماعيل بن الفضل، قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسافر من ارض إلى ارض، وإنما ينزل قراه وضيعته؟ قال: إذا نزلت قراك وأرضك فأتم الصلاة، وإذا كنت في غير أرضك فقصّر )(2).

2- موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يخرج في سفر، فيمر بقرية له أو دار، فينزل فيها؟ قال: يتمّ الصلاة ولو لم يكن له إلا نخلة واحدة ولا يقصّر، وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها ).

3- صحيحة عمران بن محمد قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إن لي ضيعة على خمسة عشر ميلاً خمسة فراسخ، فربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام، فأتمّ الصلاة أم اقصر؟ فقال: قصّر في الطريق وأتم في الضيعة).

4- صحيحة احمد بن محمد بن أبي نصر قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى الضيعة فيقيم اليوم واليومين والثلاثة، يتمّ أم يقصر؟ قال: يتمّ فيها).

ص: 161


1- ما وراء الفقه , 1/444.
2- الروايات من تسلسل 1 – 8 في وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 14 , الأحاديث 18,17,16,15,14,5,2.

5- خبره الآخر الذي يحتمل انه نفس الرواية رواها البزنطي لأحمد بن محمد بن عيسى ولسهل بن زياد قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى ضيعته فيقيم اليوم واليومين والثلاثة أيقصر أم يتمّ؟ قال: يتمّ الصلاة كلما أتى ضيعة من ضياعه).

6- خبر موسى بن الخزرج، قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): اخرج إلى ضيعتي ومن منزلي إليها اثنا عشر فرسخاً، أتم الصلاة أم اقصر؟ فقال: أتم).

7- خبر سهل بن اليسع، قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل يسير إلى ضيعته على بريدين أو ثلاثة، وممره على ضياع بني عمه، أيقصر ويفطر أم يتمّ ويصوم؟ قال: لا يقصر ولا يفطر.8- صحيحة حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (سمعته يقول: خرجت إلى ارض لي فقصرت ثلاثاً وأتممت ثلاثاً) بناءً على ما فهمه صاحب الوسائل من انه قصّر في الطريق وأتم في منزله.

وذكر السيد الخوئي (قدس سره) (1)

وشيخنا الأستاذ الفياض ضمن هذه الطائفة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل له الضياع بعضها قريب من بعض فيخرج فيطوف فيها، أيتم أم يقصر؟ قال: يتمّ )(2), وفي نسخة الكافي (فيقيم فيها).

ولكن الاستدلال بها يحتاج إلى تقريبين:

احدهما: إن هذه الضياع تبعد عن منزله المسافة الشرعية فإن الصحيحة مهملة لهذه الناحية.

ثانيهما: إن قراءة (فيقيم)، لا تفيد نية الإقامة عشرة أيام وبدونهما تكون الرواية مجملة، ويمكن التعويل على جلالة قدر عبد الرحمن بن الحجاج في توفير هذين التقريبين فأنه لا يسأل إلا مع افتراض تحققهما.

الثاني: الاستيطان وتدل عليه:-

ص: 162


1- المستند في شرح العروة الوثقى , 20/240.
2- وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 14 , ح12.

1- صحيحة علي بن يقطين قال: (قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): الرجل يتخذ المنزل فيمر به أيتم أم يقصر؟ قال: كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل وليس لك أن تتمّ فيه )(1).

2- صحيحته الأخرى قال: (سألت أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن رجل يمر ببعض الأمصار وله بالمصر دار وليس المصر وطنه، أيتمّ صلاته أم يقصر؟ قال: يقصّر الصلاة والصيام مثل ذلك إذا مر بها).

3- صحيحته الثالثة عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) انه قال: (كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير).

4- صحيحة سعد بن أبي خلف قال: (سأل علي بن يقطين أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن الدار تكون للرجل بمصر والضيعة فيمر بها، قال: إن كان مما قد سكنه أتم فيه الصلاة وان كان مما لم يسكنه فليقصّر).

أقول: احتمل السيد الحائري (دام ظله الشريف) (اتحادها مع إحدى صحاحه الأول)(2), وهو احتمال وارد بلحاظ وحدة الواقعة ولكنه غير كافٍ للقول باتحاد الرواية وإلا لبطل تواتر حديث الغدير مثلاً باعتبار مرجعه إلى رواية واحدة لأن الواقعة واحدة أكيدا، فالصحيح في وحدة الرواية وحدة الراوي إضافة لوحدة الواقعة.

وهنا الراوي متعدد إذ يظهر أن سعد يروي سؤال علي للأمام الكاظم (عليه السلام) وهو حاضر لمجلس السؤال ويظهر من كلام السيد البروجردي (قدس سره) موافقته على هذه الكبرى لكنه لم يستبعد وحدة رواية سعد مع

ص: 163


1- الروايات من تسلسل 1 – 4 وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب , 14 , الأحاديث 9,7,6,1.
2- مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام) , العدد 45 , ص 44.

صحاح علي من جهة كون (هذا التعبير من سعد لا لحضوره في المجلس بل لشدة اعتماده على نقل أبن يقطين)(1) وهو محتمل إلا انه خلاف الظاهر.

وقد بيّنا في المسألة السابقة ثمرة لوحدة الرواية وتعددها بأن اختلاف ألفاظ الرواية الواحدة بطريقين يستلزم الإجمال والسقوط عن الحجية بينما يستلزم اختلاف ألفاظ الرواية المتعددة للواقعة الواحدة التعارض واستعمال المرجحات لتقديم احدها.

5- صحيحة حماد بن عثمان (وفي التهذيب المطبوع حماد بن عثمان عن الحلبي) عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يسافر فيمرّ بالمنزل له في الطريق يتمّ الصلاة أم يقصر؟ قال: يقصر إنما هو المنزل الذي توطنه)(2).

6- صحيحة علي بن يقطين قال: (قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): إن لي ضياعاً ومنازل بين القرية والقريتين الفرسخ والفرسخان والثلاثة، فقال: كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير)، والاستدلال يكون بالكبرى الكلية المذكورة في ذيل الجواب من دون تقييدها بمورد السؤال لان المسافات المذكورة لا توجب التقصير.

7- صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل في ضيعته، فقال: لا بأس ما لم ينوِ مقام عشرة أيام إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه، فقلت: ما الاستيطان؟ فقال: أن يكون فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها).

الجمع بين الطائفتين

وبغض النظر عما يمكن أن يقال في الجمع بين الطائفتين فأنهما يتفقان

ص: 164


1- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر , 179 , تأليف الفقيه الشيخ حسين علي المنتظري (دام ظله الشريف) تقريراً لأبحاث أستاذه الفقيه السيد حسن البروجردي (قدس سره).
2- الأحاديث من تسلسل 5- 7 وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 14 , الأحاديث 11,10,8.

على إمكان تعدد الوطن، وانه يوجد مكان آخر في عرض محل سكنه وإقامته يمكن أن يستوطنه الإنسان ويقيم فيه ويصلي تماماً.

أما النسبة بين الطائفتين فقد ذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى وجود التعارض بين الطائفتين لأن الطائفة الأولى ((تضمنت جملة منها وفيها الصحاح أن من كانت له ضيعة أو قرية يتمّ الصلاة متى دخلها وان لم يستوطنها، فجعل فيها مجرد الملك مناطاً للإتمام.

وهذه الروايات على كثرتها إن كانت قابلة للتقييد بما دل على اعتبار الاستيطان بإقامته ستة أشهر فهو، وإلا - كما هو كذلك في بعضها – فهي معارضةبطائفة أخرى دلّت على لزوم التقصير في موردها))(1).

فهو (قدس سره) يقول بإمكان تقييد إطلاقات الطائفة الأولى بالثانية -أي عدم كفاية وجود ملك له وإنما لا بد أن يكون مستوطناً لهذا الملك-، لكنه (قدس سره) يرى أن بعض تلك الإطلاقات آبية عن التقييد لذا فقد استحكم التعارض وقد ذكر (قدس سره) وجوهاً لمعالجة هذا التعارض:

الأول: ((حمل الطائفة الأولى على التقية لموافقتها مع العامة)) واعترض شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) على هذا الوجه باعتبار أن الطائفة الأولى ((موافقة لقول بعض العامة ومخالفة لقول الآخر, وحينئذٍ فلا مبرر للحمل على التقية))(2).

ويرد على هذا بأن الموافقة للتقية يمكن أن تلحظ بمعنى أوسع من هذا وهو أصل عدم التزامهم بوجوب قصر الصلاة في السفر. ومع هذا فإن متون الطائفة الأولى تأبى الحمل على التقية إذ يظهر منها أن الإمام عليه السلام يجيب وهو في وضع مستريح ويفصّل في المسألة ويعطي لكل حالة جوابها.

الثاني: (طرحها لمخالفتها مع إطلاقات التقصير التي هي روايات متواترة وسالمة عما يصلح للتخصيص بعد ابتلاء المخصص بالمعارض، فيكون المرجع تلك الإطلاقات وتكون هذه الروايات ساقطة).

واعترض الشيخ الفياض أيضا ((لأن مخالفتها مع الروايات الدالة على

ص: 165


1- المستند في شرح العروة الوثقى , 20/239.
2- تعاليق مبسوطة , 4/418.

وجوب القصر ليست على نحو التباين أو العموم من وجه، بل هي على نحو الإطلاق والتقييد، ومن المعلوم أن هذه المخالفة لا توجب سقوط المقيد عن الاعتبار حتى فيما إذا كان مخالفاً لإطلاق الآيات فضلاً عن الروايات)).

والقاعدة التي ذكرها الشيخ الفياض صحيحة في نفسها أي أن النسبة بين الطائفتين إذا كانت على نحو الإطلاق والتقييد فليس هو تعارضاً حتى تتساقط إلا أن الإشكال في الاكتفاء بها في المقام.

بيان ذلك: أن عبارة السيد الخوئي (قدس سره) وإن ظهرت كوجه واحد إلا أنها تتضمن وجهين:

1- إن الطائفة الأولى تطرح لمخالفتها لإطلاقات أدلة وجوب التقصير في السفر وهذا ما يصلح كلام الشيخ الفياض للرد عليه.

2- إن الطائفة الأولى تتعارض مع الطائفة الثانية فتتساقط ونرجع إلى العموم الفوقاني الذي هو إطلاقات وجوب التقصير في السفر بعد سقوط المقيد بالتعارض وهذا ما لا يصلح كلام الشيخ الفياض للرد عليه.

ولكنه مردود أيضاً لأن القول به يعني سقوط الطائفة الثانية أيضاً وحينئذٍ لا يبقى مورد لقاطعية الوطن للسفر الذي هو ثابت موضوعاً وحكماً. وبتعبير آخر: إننا قلنا أن الطائفتين تتفقان على معنى في الجملة وبه خُصصت عمومات ما دلّ على وجوب التقصير في السفر، فلا يجوز التمسك بالعام لنفي هذا المقدار.

وقد تحصّلت من كلام السيد الخوئي (قدس سره) أربعة وجوه للجمع بغضالنظر عن مناقشتها:-

1- تقييد الطائفة الأولى بالثانية.

2- حمل الطائفة الأولى على التقية.

3- طرح الطائفة الأولى لمخالفتها لإطلاقات وجوب التقصير في السفر.

4- سقوط الطائفتين بالتعارض والرجوع إلى العموم الفوقاني وهو إطلاقات وجوب التقصير في السفر.

ص: 166

وقد رجّح السيد الحائري (دام ظله الشريف) الوجهين الثاني والثالث وكأنه سلّم بعدم إمكان الوجه الأول أي تقييد الطائفة الأولى بالثانية، أما الرابع فقال فيه: ((ولنا بحث مبنائي في الأصول في أصل فكرة تساقط المتعارضين والرجوع إلى المطلق الفوقاني من إبداء احتمال جعل التعارض ثلاثي الأطراف))(1), ولم يتسن لنا الحصول على بحثه الشريف في الأصول لنطبق هذه الكبرى في المقام.

لكن المظنون أنه لا يريد بكلامه هذا نفي الكبرى - وإن كان وصفه بأنه مبنائي ومبحوث في علم الأصول يوحي بذلك - أي وجود عمومات فوقانية يجب الرجوع إليها عند تعارض المخصّصين؛ لأنها كبرى ثابتة وصحيحة، فإذا ورد دليلان متعارضان في حرمة شيء وعدمه تساقطا ويجري الأخذ بعمومات الحل وهكذا, فيكون نقاشه صغروياً, أي أن في بعض الموارد التي يفرض فيها عموم فوقاني فإنه ليس كذلك وإنما هو طرف ثالث إما لأنه ليس عموماً أصلا أو ليس فوقانياً وإنما هو في عرض الدليلين المتعارضين. وهذا المعنى في نفسه صحيح لكن المورد ليس من تطبيقاته فإن عندنا إطلاقات أدلة التقصير في السفر، خرج منها تخصيصاً من مرّ بضيعة أو منزل مملوك له بحسب الفرض ولكن هذا المخصص ابتلي بالمعارض، وهي الطائفة الثانية، فتساقط وبقي الدليل الأصلي وهو وجوب التقصير سالماً من المعارض لأن موضوعه وهو السفر متحقق بحسب الفرض، فليس التعارض ثلاثي الأطراف.

اللهم إلا أن يقرّب المنع من الاستدلال بإطلاقات التقصير على أنها عموم فوقاني بأن أدلة التقصير لا عموم لها لأن لسانها ليس ((من سافر أربعة فراسخ وجب عليه التقصير) حتى يتم التقريب المتقدم، وإنما لسانها (من سافر أربعة فراسخ بشروطه - كعدم كونه سفر معصية - وعدم قواطعه - كالمرور بالوطن - وجب عليه التقصير))، فالحكم مشروط بعدم القاطع ومنه المرور بالوطن ومع إجمال الوطن لا يمكن التمسك بدليل التقصير لسريان الإجمال إليه.

ص: 167


1- مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام): العدد 45 , ص46.

وقد يقرّب هذا المنع بأن موضوع هذا العموم (المسافر) وهو مشكوك التحقق في المقام لاحتمال كون البلد الذي مرّ فيه وطناً وينقطع به عنوان المسافر، وهذا الاحتمال لا يسقط لوجود القدر المتيقن من الخروج من تحت العام الذي ذكرناه. وحينئذٍ فيكون الرد الصحيح هو إجمال العام أو عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وليس لأن التعارض يصبح ثلاثي الأطراف.

أقول: هذا لو سلمنا بما قالوه من التعارض، والصحيح عدم وجود تعارض أصلا لأن الطائفة الأولى مطلقة من حيث استيطان ذلك الملك وعدمه. أما الطائفة الثانية فأنها تقيّد ذلك الملك بالاستيطان فيكون الجمع بين الطائفتين بتقييد الأولى بالثانية.وهذا الجمع مصرّح به في روايات الطائفة الثانية فأنها نفت كفاية الملك لإتمام الصلاة بأسلوبين (الأول) جعل الاستيطان هو المناط وليس الملك، (الثاني) نفي المنزلية عن الدار والضيعة المملوكين وان كانا مما يمر به وإنما لا بد من أن ينزل ويسكن فيهما (لاحظ الروايات: الأولى والرابعة والخامسة)، فهي تنفي كون مجرد الملك سبباً للتمام لأن الملك مفروض في السؤال والإمام يأمر بالتقصير عند المرور به، وفي ضوء هذا فالطائفة الثانية ناظرة إلى الطائفة الأولى وحاكمة عليها فلا مجال لافتراض التعارض.

مضافاً إلى أكثر من رواية صرّحت بعدم كفاية الملك كرواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (من أتى ضيعته ثم لم يُرِد المقام عشرة أيام قصّر، وان أراد المقام عشرة أيام أتمّ الصلاة)(1), وهي صحيحة السند إلا من جهة إسماعيل بن مرار وسيأتي الكلام فيه في المسألة التالية (صفحة 210)، وخبر موسى بن حمزة بن بزيع قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك إن لي ضيعة دون بغداد فأخرج من الكوفة أريد بغداد فأقيم في تلك الضيعة، أقصر أو أتمّ؟ فقال: إن لم تنوِ المقام عشرة أيام فقصّر )(2).

ص: 168


1- وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر و باب 15 , ح6
2- وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 15 , ح7

وبتقريب آخر نقول: إن روايات الطائفة الأولى وردت بلسان النسبة إلى الشخص (ضياعه وقراه وداره) وهذه النسبة غير كافية للظهور في الملك لأنها تصدق على بلد السكن وان لم يكن ملكاً فحينما نقول: (سافر من منزله) فأنه اعم من أن يكون المنزل ملكاً له تعيينا أو انه اتخذه للسكن سواء كان ملكاً له أو غيره بل لعل الثاني اظهر عرفاً في المثال، لأن المنزل يطلق على الدار بلحاظ اتخاذه مسكناً ينزل فيه سواء كان مملوكاً أو غيره، أما الدار فتطلق على نفس البناء سواء اتخذه سكناً أو لا، لذا فإن الإمام (عليه السلام) صحح لأبن يقطين في صحيحته الأولى استعماله لفظ (المنزل) فانه حتى لو ملك داراً فما دام لا يسكنه فهو ليس بمنزل.

والروايات الشريفة تؤكد هذا التفريق فإن السائل عندما يقول: (له دار) فإن الإمام (عليه السلام) يفصّل بين الاستيطان وعدمه (كصحيحة سعد بن أبي خلف) بينما لا يذكر (عليه السلام) المنزل إلا مقترناً بمعنى الاستيطان. وحينئذٍ تكون روايات الطائفة الأولى مجملة من هذه الناحية وتكون الثانية مبيّنة لها بأنه محل الاستيطان مع نفي كفاية مجرد الملك للإتمام.

أما ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من عدم إمكان تقييد الطائفة الأولى بالثانية فلا نعلم له مورداً إلا موثقة عمار بن موسى (الثانية) بتقريب أن هذا المقدار من الملك وهي النخلة غير قابل للسكن ومع ذلك فقد كان كافياً لإتمام الصلاة.

ولكنه غير صالح للمنع:-

1- للإعراض عنها وعدم وجود قائل أن ملك نخلة في ارض يجعلها وطناً، فالقول به شاذ نادر فهو متروك، ولذا قيّد السيد الخوئي (قدس سره) روايات الطائفة الأولى بالإقامة ستة أشهر لصحيحة ابن بزيع ولم يكتف بمجرد ملك نخلة.

2- إن الموثقة لا تقوى على معارضة الصحاح والمعتبرات العديدة التي أكدت على عدم كفاية ملك الضيعة والمنزل ولا بد من الاستيطان فيهما لإتمام الصلاة فكيف يكفي ملك نخلة؟ فلا بد من توجيهها بأن ذكر (ولو نخلة) للإشارة

ص: 169

إلى بقاء الارتباط بهذا الوطن وعدم الإعراض عنه.

3- يمكن أن يقال أن الرواية تدل على عكس المدّعى بتقريب أن الإمام (عليه السلام) نفى توهم أن إتمام الصلاة في الوطن مشروط بملك دار أو ضيعة وأفاد (عليه السلام) أن صدق التوطن لا يستلزم الملك الصالح للسكن بل يكفي أن يكون محلاً لسكنه ومتواصلاً معه مرتبطاً به عرفاً على نحو ينسب إليه ولو لم يكن له فيه ملك إلا نخلة للتعبير عن كونه محل نزوله وإقامته فيكون من الطبيعي للناس يومئذٍ أن تكون له فيها نخلة على الأقل يتعاهدها ويأكل منها، حيث يعتبر ملكها حالة طبيعية لكل فرد في الدار المستأجرة وغيرها.

فلا بد من توجيه الرواية بما لا ينافي التقييد المذكور، وقد ذكرنا وجهين ممكنين لذلك في النقطتين الثانية والثالثة أي للإشارة إلى عدم هجر الوطن، أو للتعبير عن كونه محل نزوله واستيطانه ولو لم يكن له فيه ملك، وقد عبّر السائل في الموثقة بالنزول في القرية والدار فتنسجم مع الطائفة الثانية.

الوطن الشرعي

في مقابل الوطن العرفي الشامل للوطن الأصلي والاتخاذي ذكر الفقهاء مصداقاً آخر للوطن أسموه ب- (الوطن الشرعي) وواضح من عنوانه انه لا يعد وطناً عرفاً لكن جُعل وطناً بالتعبّد ومثل هذا التصرف من صلاحيات الشارع في ضوء ملاك ما، كما انه قد يتدخل لتوسيع مفهوم معين أو تضييقه أو تثبيت حدود مفهوم مشكك كتحديد السفر الموجب للقصر بقطع أربعة فراسخ ذهاباً والرجوع مثلها.

والوطن العرفي ينتفي صدقه بالإعراض عنه إلا ((في صورة واحدة حكم المشهور فيها بالإتمام حتى بعد الإعراض وأسموها بالوطن الشرعي، وهي ما لو كان له ملك سكنه ستة أشهر بقصد التوطن الأبدي، فأنه يتم كلما دخله وان لم يقم عشرة أيام مادام الملك باقياً))(1).

ص: 170


1- المستند في شرح العروة الوثقى , 20/242.

وقد نسب السيد صاحب العروة الوثقى القول به إلى المشهور، لكن الشهرة غير محققة، فإن كلمات القدماء لا تتضمن هذا المعنى، قال الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): ((يعني بذلك - أي صحيحة إسماعيل بن الفضل المتقدمة صفحة 151 - إذا أراد المقام في قراه وأرضه عشرة أيام، ومتى لم يرد المقام بها عشرة أيام قصّر إلا أن يكون له بها منزل يكون فيه في السنة ستة أشهر، فإن كان كذلك أتمّ متى دخلها، وتصديق ذلك))(1), ثم ذكر صحيحة ابن بزيع الآتية: ((والشهرة في هذه المسألة إنما حدثت من عصر المحقق (قدس سره)، فإن عبارة الشيخ في نهايته التي ألّفها لنقلالمسائل المتلقاة عنهم (عليهم السلام)، وكذلك عبارة الفقيه وكلمات القاضي وأبي الصلاح ظاهرة في الخلاف، وبعض القدماء كالمفيد مثلاً لم يتعرض للمسألة أصلا، نعم عبارة المبسوط الذي هو كتاب تفريعي، وكذا السرائر ظاهرة في إثباته ولكن لا تتحقق الشهرة المعتمد عليها بمثل ذلك))(2).

واستدلوا له بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته، فقال: لا بأس ما لم ينوِ مقام عشرة أيام إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه، فقلت: ما الاستيطان؟ فقال: أن يكون فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها)(3), بتقريب أن الرواية فسّرت الاستيطان بأن يكون له - واللام تدل على الملك - في تلك الضيعة منزل قد أقام فيه ستة أشهر.

أقول: إن المتأمل في الرواية لا يراها تختلف عن صحاح علي بن يقطين وحماد بن عثمان المتقدمة في الطائفة الثانية التي تشترط الاستيطان لإتمام الصلاة وعدم كفاية الملك، والفرق أن علي بن يقطين وحماد (أو الحلبي) فهموا معنى الاستيطان فلم يسالوا عنه والإمام (عليه السلام) لم يحتج أن يبين لهم لأن المعنى واضح عرفاً فسكت، ولو سكت ابن بزيع لسكت الإمام (عليه السلام)

ص: 171


1- من لا يحضره الفقيه: كتاب الصلاة, باب الصلاة في السفر, ذيل الحديث 1308.
2- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 204.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة, أبواب صلاة المسافر, باب 14, ح11.

لكن ابن بزيع سأل عن معنى الاستيطان فأجابه الإمام (عليه السلام) بنفس المعنى العرفي الذي لم يحتج إلى بيانه لأبن يقطين والحلبي.

أما وجه سؤال ابن بزيع فليس هو لتصوره معنى جديداً للاستيطان يريد الإمام (عليه السلام) أن يلقيه إليه وإنما أراد أن يستفهم مستغرباً عن إمكان أن تكون الضيعة وطناً ثانياً يتمّ فيه إذا صلى مع وجود وطنه الأصلي ومحل إقامته الذي بدأ منه سفره إلى هذه الضيعة، أي أن سؤاله ليس عن شرح مفهوم الاستيطان ومعناه، فهو واضح عنده، وإنما سأل عن كيفية تحقق استيطان ثانٍ، فرفع الإمام (عليه السلام) استغرابه بأن ذلك ممكن إذا اتخذ في الضيعة منزلاً ووفّر فيه لوازم السكن ليمكث فيه مدة يصدق معها عنوان التوطن وينقطع عنه عنوان السفر.

والستة أشهر التي ذكرها الإمام (عليه السلام) من باب المثال وليس للتقييد باعتبار أن الذهن ينصرف إليها عندما يلحظ وجود وطنين للإنسان، وإلا فيمكن أن تكون مدة الإقامة مختلفة بينهما. فالنصف الثاني من الرواية الذي شرح فيه الإمام (عليه السلام) الاستيطان إنما هو تفسير للمعنى العرفي ببيان أن صدق التوطن يتطلب المكث مثل هذه المدة في السنة، والشاهد على ذلك ورود التعابير بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار في قوله (عليه السلام): (يستوطنه، يقيم) وليست الرواية بصدد جعل معنى جديد للوطن الشرعي.

وأضاف السيد الخوئي (قدس سره) الاستدلال بصحيحة سعد بن أبي خلف قال: (سأل علي بن يقطين أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن الدار تكون للرجل بمصر والضيعة فيمر بها، قال: إن كان مما قد سكنه أتمّ فيه الصلاة، وان كان مما لم يسكنهفليقصّر)، فأنها تدل على أصل المطلب وهو كفاية سكنه مدة ما وبقاء ملكه لإتمام الصلاة وإن أعرض عنها لكنها لم تبين المدة فهي مطلقة وتقيّدها صحيحة ابن بزيع.

وفيه: إن عبارة (سكنه) يستفاد منها أنه لا زال ساكناً فيه وليس انه سكنه فترة ما ثم اعرض عنه فهي كصحيحة حماد والحلبي (إنما هو المنزل الذي توطّنه), ويظهر أن أستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) فهم أيضاً ما فهمناه من

ص: 172

المعنى بقوله: ((غير أن المراد من الأخير- أي صحيح سعد -كما يفهم عرفاً هو انه سكنه ولا زال فيه ولم يعرض عنه، وفي الأخبار الأولى السابقة عليه ما يصلح قرينة عليه))(1).

وتوجد قراءات أخرى للجملة ترجّح هذا المعنى، قال السيد البروجردي (قدس سره): ((إذ لفظة (توطنه) في رواية الحلبي وإن احتملنا فيها بدواً أن تكون ماضياً من التفعّل لكن الظاهر كون التوطّن لغة مستحدثة، ولذا لم يذكر في الصحاح والقاموس, وإنما ذكره المنجد، فيتعين كون لفظة (توطّنه) في الحديث أيضا مضارعاً من الأفعال أو التفعيل))(2), أي تُوطِنُهُ وتُوَطُنُه.

وهنا نشير إلى نكتة وهي أن تقسيم أزمنة الأفعال في اللغة الانكليزية قد يبدو أنه أكثر تفصيلاً منه في اللغة العربية بحسب المعروض في كتب اللغة فيقسّم الفعل العربي بلحاظ الزمان إلى الماضي والمضارع والأمر، أما في الإنكليزية فإن الماضي له ثلاثة أزمنة (الماضي البسيط، الماضي المستمر، الماضي التام)

(was، was being، had been) فالأول يدلّ على حدث وقع في الماضي مرة وانتهى كقولك: (سكن زيد في بغداد), أما الماضي المستمر فيدل على دوامه واستمراره في الزمن الماضي ولا زال ثابتاً كالرواية الآنفة (إن كان مما قد سكنه أتمّ الصلاة فيه) وهذا التقسيم للفعل الماضي يجيب عن إشكال مهم في علم الأصول أوجب القول بعدم دلالة الأفعال على الزمان عند جملة من الأصوليين في مثل قوله تعالى: «وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (النساء:158)، إذ أن الفعل الماضي لو كان يدل على انقضاء الفعل فهل يعني ذلك أن الله كذلك في الماضي فقط! تعالى عن ذلك، فوجدوا الحل في نفي دلالة الأفعال على الزمان وهو مخالف للوجدان، وفي ضوء النكتة التي ذكرناها نفهم (كان) في المثال على أنها ماضي تام وأجيب الإشكال بأن الوصف كان في الماضي ولا زال.

ويوجد وصف التام والناقص ل- (كان) لكن ليس بهذا المعنى فإن النقص بمعنى عدم اكتمال المعاني بمرفوعها (وهو اسمها) والاحتياج إلى خبرها لاكتمال

ص: 173


1- ما وراء الفقه , 1/443.
2- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر , 205.

المعنى، بينما التامة تكتفي باسمها ويكون معناها أصل الوجود لا إضفاء وصف عليه. وهذه التقريبات مني بطبيعة الحال لعدم ورود هذه الأفكار في كتب اللغة، ونحن لا نزعم أن اللغة العربية خالية من هذه الدلالات لكنها تستفاد من ظهور السياقات وليس من الألفاظ المفردة أو المركبة كما في الانكليزية والمسألة معروضة بين يدي الباحثين جزاهم الله خيراً.

ونقل السيد الخوئي (قدس سره) عن جملة من الأعاظم منهم المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه إيراداً على الاستدلال بالصحيحة لإثبات الوطنالشرعي: ((فأنكروا دلالة الصحيحة على الوطن الشرعي، بل هي ناظرة إلى الوطن العرفي، وأنه يجوز أن يكون الشخص ذا وطنين بأن يبني على الإقامة في محل من قرية أو ضيعة ستة أشهر في كل سنة، وبذلك يصبح هذا المحل وطنه العرفي في قبال الوطن الأصلي فهي مسوقة لبيان كيفية اتخاذ المتوطن وطناً ثانياً مستجداً، وأن الوطن كما يكون بالأصل يمكن أن يكون بالاتخاذ والجعل، الذي يتحقق بالإقامة في كل سنة ستة أشهر، فلا دلالة لها على وطن آخر غير العرفي.

وقربوا ذلك بأنا لو فرضنا أن ابن بزيع لم يسأل ثانياً عن الاستيطان لكان الإمام (عليه السلام) يقتصر بطبيعة الحال على الجواب الأول الذي هو ظاهر في الاستيطان العرفي ولم يكن أمراً مجهولاً لا لأبن بزيع ولا لغيره من أهل العرف, غير أنه من باب الاتفاق استوضحه ثانياً، فلو كان المراد معنى آخر- غير العرفي - لكان الجواب مشتملاً على نوع من الإجمال والإبهام غير المناسب لمقام الإمام (عليه السلام).

ويؤيده التعبير بصيغة المضارع في المفسَّر والمفسِّر اعني قوله (يستوطنه), وقوله (عليه السلام) (يقيم) الظاهر في الدوام والاستمرار والتلبس بالحال بأن تكون الإقامة والاستيطان ستة أشهر مستمرة في كل سنة كما قيّده بذلك الصدوق في الفقيه الذي لا ينطبق إلا على المعنى العرفي. فلو كان المراد الوطن الشرعي بأن يناط الإتمام متى دخل بإقامة الأشهر الستة المنقضية وإن أعرض

ص: 174

عنها كما يزعمه المشهور كان اللازم التعبير بصيغة الماضي بأن يقال استوطنه وأقام فيه دون المضارع كما لا يخفى))(1).

وقد صحح السيد الخوئي (قدس سره) دلالتها على ثبوت الوطن الشرعي وردّ على هذا الإشكال بما حاصله أن استثناء الإمام (عليه السلام) لصورة استيطان المنزل ((أمر لا يعرفه أهل العرف، ولم يكن معروفاً عند ابن بزيع ولا عند غيره، ضرورة أن المتعارف من مفهوم الاستيطان لدى الأطراف إنما هو استيطان البلد أو القرية أو الضيعة لا استيطان المنزل، إذ لا يتوقف التوطن بحسب مفهومه العرفي على وجود منزل للتوطن)) فسأل ابن بزيع عن الاستيطان لأنه التفت إلى أنه (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر للوطن وفسّره الإمام (عليه السلام) له.

وقد سبقه الشيخ الأنصاري (قدس سره) إلى ذكر هذا الوجه لسؤال ابن بزيع(2)، ((ويؤيده بل يؤكده ويعيّنه التقييد بستة أشهر، ضرورة أن هذا غير معتبر في صدق العنوان العرفي لتحققه بما دون ذلك جزماً كما لو كان له منازل فأقام في كل منها كل سنة ثلاثة أشهر أو أربعة، فأنه لا إشكال في أن جميع ذلك أوطان له)). ((فالتقييد المزبور كاشف قطعي عن كونه (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر مغاير للوطن العرفي، وهو ما كان مشتملاً على الملك أولاً، وعلى السكونة فيه ثانياً, وأن تكون السكونة ستة أشهر ثالثاً، وبذلك يتحقق الوطن الشرعي)).

وهذا الكلام منه (قدس سره) قابل للنقاش بغض النظر عمّا قدمناه من دلالة الرواية:

1- إن سؤال ابن بزيع كان عن نفس الاستيطان الذي ذكره الإمام (عليه السلام) في جوابه الأول وليس عن معنى آخر ولو سكت ابن بزيع لسكت الإمام (عليه السلام) كما حصل لعلي بن يقطين والحلبي أو حماد، ولم يسأل ابن بزيع عن معنى آخر للوطن لأنه مفهوم واضح عرفاً، وإنما سأل مستغرباً عن

ص: 175


1- المستند في شرح العروة الوثقى , 20 / 243.
2- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري , كتاب الصلاة , 8/109.

إمكان اتخاذ منزل ثانٍ يستوطنه مع وجود منزله الاعتيادي.

2- ما ذكره (قدس سره) من عدم معهودية استيطان المنزل غريب، فإن هذا المعنى ورد في صحاح علي بن يقطين وحماد ولم يستغرباه لأن الوطن يطلق على المنزل عرضاً باعتباره واسطة عروض العنوان على البلد. وقد ورد التعبير عن الوطن بالمنزل في الصحاح المذكورة وغيرها كقوله (عليه السلام) في صحيحة لعلي بن رئاب: (وإن هو دخل منزله فليتمّ الصلاة)(1), ومثلها موثقة ابن بكير، فلا يوجد شيء غير معهود حتى يسال عنه ابن بزيع.

وما ذكرناه من أن إطلاق عنوان الوطن على المنزل بواسطة في العروض إنما هو جري مع المستشكل بناءً على ما يُفهم من أن الوطن يطلق على البلد دون المنزل، وهو فهم مستحدث يخالف الروايات المتقدمة التي صرحت باستيطان المنزل ولورود الكلمة ومشتقاتها كالموطن في القرآن الكريم والسنة الشريفة وتعريف أهل اللغة المتقدم، وفي لسان العرب ((الوطن: المنزل تقيم فيه وهو موطن الإنسان ومحله)) ويؤكد هذا المعنى إطلاق الإمام (عليه السلام) الاستيطان على الضيعة مع أنها لا تكون في بلد عادةً وإنما تكون خارجه، فالاستيطان يطلق حقيقة على المنزل ويطلق على البلد بلحاظ وجود المنزل فيه.

3- إن الصحيحة لا دلالة فيها على الملك فإن اللام ظاهرة في الاختصاص الأعم من الملك وغيره وقد شرح الإمام (عليه السلام) وجهها في الصحيحة بأنها بملابسة الاستيطان، وهذا معنى عرفي جارٍ كما قدمنا، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((إذ اللام لا تفيد إلا الاختصاص، خصوصا بالنسبة إلى المنازل، فانه يفيد الاختصاص من حيث النزول)) لكنه (قدس سره) ذكر وجهاً آخر لإفادة الصحيحة الملك ((من جهة انه لو لم يرد منه ملكية المنزل لم يكن وجه لاعتبار المنزل في الاستيطان في الضيعة، لأن الاستيطان فيها لا يكون إلا في منزل، فكان يكفي قوله: (إلا أن يستوطنها) فأفهم))(2)، ولعل وجه (فافهم) أن الحاجة إلى ذكر المنزل من جهة أنه واسطة في عروض عنوان

ص: 176


1- وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 7 , ح216.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري , كتاب الصلاة , ج8 , ص108.

الاستيطان على الضيعة أو البلد عموماً. ونلفت النظر هنا إلى ما قلناه من الفرق بين الدار والمنزل، فلو كان التعبير (له دار) لكانت ظاهرة في الملك لعدم اشتراط السكن فيها فيكون وجه النسبة هو الملك، أما التعبير (بالمنزل) فوجه نسبته النزول فيها للسكن من دون لحاظ كونها مملوكة أو لا.

4- إعراض الإمام (عليه السلام) عن الضيعة والتأكيد على المنزل الذي يستوطنه يدل على أن المناط هو الاستيطان لا الملك.

5- ذكر الإمام (عليه السلام) للأشهر الستة ليس للتقييد وإنما هو شرح للاستيطان بلحاظ وجود وطنين له فلو افترض السائل أكثر من وطنين لأنقص الإمامالمدة، والمهم هو الصدق العرفي للتوطّن.

6- استعمال الإمام (عليه السلام) صيغة (استفعال) الدالة على الاتخاذ وليس الإعراض الذي يفترضونه في الوطن الشرعي بأنه بلد له فيه ملك قد استوطنه هذه المدة فانه يتمّ حتى لو اعرض عنه.

وأجاب (قدس سره) عمّا ذكره الأعاظم من قرينية استعمال الإمام لصيغة المضارع بأن ((الوجه فيه المفروغية عن أن هذا السائل لم يكن ساكناً في تلك الضيعة قبل ذلك، فأراد (عليه السلام) بيان قضية حقيقية والتعرض لحكم كلي، وان صاحب الضيعة لا يتم فيها إذا لم يقصد الإقامة فيها عشرة أيام إلا بعد أن يقيم ستة أشهر، فإذا انقضت تلك المدة أتمّ متى دخل)) وأضاف موضحاً: ((وما أشبه المقام بالاستفتاء من الفقيه والإجابة عنه بالصورة التالية: امرأة في دارنا لها زوج ولها ابنة صغيرة، وإنني مبتلى بالنظر إلى شيء من بدنها أو لمسه بغير شهوة، قال: ليس لك ذلك، إلا أن تعقد على ابنتها، قلت: وما العقد على ابنتها، قال تتزوجها ولو ساعة فإذا كان ذلك جاز لك النظر واللمس بغير شهوة متى شئت. فإن من الواضح الجلي عدم إرادة الاستمرار والتوالي في العقد والتزويج وان عبّر عنهما بصيغة المضارع))(1).

وهذا القياس منه (قدس سره) مع الفارق لوجه ذكره السيد الحائري (دام ظله): ((وهو أنه فرض في هذا المثال رجل لم يعقد ولم يتزوج بنتها من

ص: 177


1- المستند في شرح العروة الوثقى , 20/247.

قبل، فكان هذا هو مناسبة التعبير بصيغة المضارع، أما في موردنا فصحيحة ابن بزيع ذكرت رجلاً فرضياً يملك ضيعة ولم يفترض عدم استيطانه أو إقامته سابقاً في وقت ما، فلا نكتة في التعبير بالمضارع إلا إرادة الإشعار بالدوام))(1).

ثم ناقش السيد الخوئي (قدس سره) بأن: ((في دلالة هذه الصيغة بمجردها على التجدد والاستمرار نوعاً من التأمل وإن اشتهرت على الألسن، ورب شهرة لا أصل لها، وهل يحتمل التجدد في المثال المزبور أو في مثل قوله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فإن طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا» (البقرة: 230) )).

أقول: مثل هذا النقض غير صحيح لأن هذه الدلالات استفيدت من السياق ومناسبات الحكم والموضوع مضافاً إلى ما نذهب إليه في علم الأصول أن دلالة الأفعال على الزمان إنما هو بالإطلاق لا بالوضع.

وقرّب السيد البروجردي (قدس سره) دلالة الصحيحة على المشهور بأن (لفظ الاستيطان في أخبار المسألة وكذلك الإقامة في رواية ابن بزيع وإن استعملا بلفظ المضارع، لكن يجب القول بانسلاخهما عن الزمان، لعدم جواز حملهما على الحال ولا الاستقبال ولا الاستمرار، فيكون المراد منهما نفس تحقق المادة خارجاً) أي ((تحقق الإقامة خارجاً في منزل بمقدار ستة أشهر، ولا محالة ينطبق ذلك على ما مضى)).

وكان (قدس سره) قد قرّب وجه عدم دلالتها على المستقبل ((بأن إقامة ستة أشهر في المستقبل لا يعقل أن تصير موجبة لثبوت الإتمام فعلاً)) وعدم دلالتها على الحال أي في هذا السفر الذي مرّ فيه بمنزله بأنها ((ليست مراداً قطعاً، إذ محط النظرفي أخبار الباب بيان ثبوت الإتمام بنفس المرور ولو آناً ما من جهة تحقق الاستيطان مع قطع النظر عن هذا السفر)).

وأما وجه عدم دلالتها على الاستمرار فمن جهة ((أن الاعتبار هل يكون بجميع السنوات من زمن التولد إلى الممات بحيث لا يتخلف عنها سنة، أو يكفي

ص: 178


1- مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام), العدد 45 , ص48.

الأقل من ذلك؟ لا شبهة في بطلان الأول، وأما على الثاني فيصير الموضوع مجملاً من حيث المبدأ، فيحتمل أن يكون الاعتبار بعشر سنوات مثلاً قبل الحاضرة, وأن يكون بخمس ونحو ذلك، فمن أي سنة يبتدئ السنوات المعتبرة))(1).

أقول: المناقشة الأخيرة غير تامة لأن العرف هو الحاكم فالمهم تردده على هذه الضيعة وإقامته فيها بالمقدار الذي يصدق عليه الاستيطان عرفاً، فيتمّ (متى دخلها) حسب تعبير الإمام (عليه السلام) وإذا انقطع استيطانه فيها انقطع حكم التمام, وليس الضروري أن تكون ستة أشهر ولا أنها مجتمعة فيمكن أن تكون المدة متفرقة.

وقد فهم الاستمرار من الصحيحة الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) على ما نقلناه عنه ((واستظهره جماعة من متأخري المتأخرين كصاحب المدارك وصاحب المعالم في رسالته والفاضل الجواد في شرح الجعفرية والمحدث المجلسي في بحاره، والسيد في رياضه، والماخوزي في رسالته، والمحدث الكاشاني في المفاتيح))(2).

أقول: إذا كان مرادهم التقية بالإقامة ستة أشهر في كل سنة فهذا مما لا لزوم له، والمهم تحقق المعنى العرفي الذي ذكرناه.

ومن طريف ما يمكن أن يُنقض به على القائلين بالوطن الشرعي سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنه لما دخل مكة فاتحاً صلّى قصراً في منى مع أن له ملكاً قد استوطنه عشرات السنين ولم يخرج عن ملكه بغصب قريش له، وكذا قصّر أمير المؤمنين (عليه السلام) والمهاجرون من أهل مكة، فلو كانت مكة وطناً لهم لما قصّروا في منى لأنها لا تبعد عن مكة المسافة الشرعية دلّت على ذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (حجّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقام بمنى ثلاثاً يصلي ركعتين )(3).

ص: 179


1- البدر الزاهر , نصوص متفرقة في الصفحتين 206 , 207.
2- كتاب الصلاة من المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره) , 8/108.
3- وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 3 , ح9.

والغريب أن الشهيد الأول (قدس سره) في الذكرى استدل بهذه النكتة على عكس المطلب أي على ثبوت الوطن الشرعي وبقاء حكم الوطن مع بقاء الملك ولو مع الهجر والإعراض فقد نقل الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن الشهيد الأول (قدس سره) في الذكرى: ((أن الصحابة لما دخلوا مكة قصّروا لخروج أملاكهم فيدل على أنه لو بقيت أملاكهم لم يقصّروا))(1)

وفيه:-

1- إن هذا استدلال بالمفهوم والسيرة دليل لبّي لا مفهوم له، فمن غير المعلوم أن الصحابة لو لم تخرج أملاكهم عنهم أتمّوا.

2- لا دليل من رواية أو تأريخ على أن أملاك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) قد خرجت منهم بصيغة شرعية تفيد نقل الملك بل هم هُجّروا قسراً وغصبت دورهم.

وكان خروج المسلمين لاعتراض قافلة قريش الذي أدى إلى معركة بدر مقاصة لتلك الأموال المغصوبة، نعم روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (وهل ترك لنا عقيل في مكة عقاراً)(2) ولم يرد في دليل معتبر، ثم إنه بيع فضولي لا يعلم إجازة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له.

3- إن مكة من أماكن التخيير والمستحب هو اختيار التمام(3), فحتى لو ثبت في رواية أنهما (صلوات الله عليهما) أتمّا فربما كان إتمامهم من أجل هذا الاستحباب لا لثبوت الوطن الشرعي.

فالصحيح هو الاستدلال بنص الرواية على نفي ثبوت الوطن الشرعي أو يكون الدليل مجملاً، لأن الصحيحة دلّت على تقصيرهم الصلاة في منى في أيام

ص: 180


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره) , كتاب الصلاة , ج- 8/105.
2- السنن الكبرى، للبيهقي: 6/34.
3- لصحيحة علي بن مهزيار عن الإمام الجواد (عليه السلام): (فأنا أحب لك إذا دخلتهما أن لا تقصّر وتكثر فيهما من الصلاة), وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سالت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمام بمكة والمدينة , فقال: أتمّ وإن لم تصلِ فيهما إلا صلاة واحدة) وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر, باب 25 , ح5,4.

التشريق بقرينة الحج والبقاء في منى ثلاثة أيام فهم في طريق عودتهم من عرفة ولا يتمّون صلاتهم إلا بعودتهم إلى مكة، وليس أنهم أنشأوا سفراً إلى منى من مكة حتى يتم الاستدلال، أما صلاتهم قصراً في مكة فلم نعثر على رواية إلا حدساً.

ونقلت مصادر العامة انه (تواترت الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقصّر في أسفاره حاجّاً ومعتمراً وغازياً محارباً، وقال ابن عمر: (صحبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان لا يزيد في السفر على ركعتين, وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك) وهو حديث متفق عليه، وروي مثله في الصحيحين عن ابن مسعود وأنس)(1), فيُتمسك بإطلاقها لتأييد النقض. نعم يمكن أن يرد على النقض المذكور بأن صحيحة ابن بزيع - لو تمت دلالتها على الوطن الشرعي - مخصصة للسيرة المذكورة لأنها متأخرة عنها زماناً.

ص: 181


1- الفقه الإسلامي وأدلته , د. وهبة الزحيلي , الطبعة الثالثة , المجلد الثاني , ص1338.

فروع

(الأول) من كان له وطنان أتمّ فيهما وقصّر في الطريق لإطلاق دليل وجوب القصر في السفر ولم يستثن هذا المورد، وهي النتيجة التي خرجنا بها في المسألة الأولى، ويعزز تلك النتيجة صحيحة عمران بن محمد قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك إن لي ضيعة على خمسة عشر ميلاً خمسة فراسخ فربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام فأتمّ الصلاة أم اقصّر؟ قال: قصّر في الطريق وأتمّ في الضيعة)(1).

وصحيحة حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: خرجت إلى ارض لي فقصّرت ثلاثاً وأتممت ثلاثاً)(2)

بتقريب أن التقصير كان في الطريق والإتمام كان في الوطن الآخر.

وقد ذكرنا جملة من الفروق بين عدّ البلد الآخر وطناً ثانياً أو محل عمل ومنها الصلاة قصراً في الطريق على الصورة الأولى وتماماً على الثانية. ويصعب تفسير الصحيحة على مباني الشهيد الصدر (قدس سره)، لأن صلاة التمام في الضيعة أن كانت لأن له فيها منزل يستوطنه فإن السيد (قدس سره) لا يرى تعدد الوطن، وإن كان لأجل أنها محل عمله فيجب أن يكون حكمه التمام أيضا في الطريق كما صرّح (قدس سره): ((ويشترط في السفر المؤثر في القصر أن لا يكون السفر عملاً له أو عمله في السفر أو كثير السفر))(3).

إن قلت: يمكن أن نفسرها بما تقدم منه (قدس سره) انه في طول إقامته في البلد الآخر يكون وطناً له وينتفي صدق الوطن عن الأول وحينما يعود إلى بلده الأول يكون وطنه ويقصّر في الطريق.

ص: 182


1- وسائل الشيعة , كتاب الصلاة , أبواب صلاة المسافر , باب 14 , ح14,13.
2- نفس المصدر السابق.
3- ما وراء الفقه , 1/446.

قلت: إن السيد الشهيد (قدس سره) قال ذلك في الإقامة التي يصدق معها التوطن عرفاً كثمانية أشهر أو تسعة في كل سنة كما تقدّم وليس بثلاثة أيام أو خمسة كما تنص الرواية.

(الثاني) كما لا اعتبار في صدق الوطن للأوصاف السابقة على المرور والنزول كوطن الآباء والأجداد أو مسقط الرأس ونحوها مما ذكرناه، كذلك لا اعتبار لما ورد في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) كاشتراط عزمه على الإقامة فيه مدى الحياة أو إلى أمد بعيد واعتبار نية الدوام من اللحظات السابقة.

وإنما هو مفهوم عرفي يراد به المكان الذي يتخذه الإنسان مقراً لأقامته ويجيب به إذا سُئل عن وطنه وعنوانه، ويرجع إليه إذا خرج منه بحيث لو لم يكن له داعٍ للسفر فأنه لا يخرج منه سواء كان له ملك فيه أو لم يكن كما لو استأجر داراً أو سكن في الوقف أو المدارس الدينية وينقطع عنوان السفر موضوعاً عند المرور به.

على أننا قلنا أن موضوع صلاة التمام هو عدم السفر وقد يصحّ هذا في غير الوطن كمن لا وطن له أو من كان بيته معه، فلو افترضنا عدم صدق الوطن لكن صحّ سلب عنوان السفر وجب التمام.

(الثالث) من كان له وطنان أو أكثر أتمّ الصلاة فيها جميعاً متى دخلها حتى لو وردها في غير المدة المقررة للاستيطان فيها كمن يتخذ سكناً في بلد صيفاً وآخر في بلد آخر شتاءً فأنه يصلي في مصيفه تماماً حتى لو ورده شتاءً وفي مشتاه كذلك حتى لو ورده صيفاً، خلافاً لما ذهب إليه سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) بقوله: ((من كانت له مدينتان يسكن فيهما زماناً متساوياً تقريباً إذا ورد إلى إحداهما بنية الزمان الطويل نسبياً كانت وطنه وخرجت السابقة عن وطنيته، فإن عاد إلى الأخرى انعكس الأمر وهكذا، وأما إذا جاء إلى إحداهما بقصد البقاء القصير كأسبوع أو شهر بقيت المدينة الأخرى وطنه دون هذه))(1).

وهو معنى لا يساعد عليه العرف وينافي إطلاق ذيل صحيحة ابن بزيع وفيه (فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها).

ص: 183


1- ما وراء الفقه , 1/445.

(الرابع) يزول عنوان الوطن عن البلد إذا ترك الإقامة فيه واعرض عنه بحيث يصدق عليه عنوان المسافر فيه، والمعيار تحقق هذا المعنى العرفي وليس النية وعدمها فإذا تحقق الإعراض وجب تقصير الصلاة فيه من هذه الناحية لانتفاء حكم التمام بانتفاء موضوعه إلا على القول بصدق المشتق على المنقضي وهو ليس بصحيح، وعلى هذا فلا ينقطع عنوان السفر بالمرور فيه. هذا طبعاً عند من لم يقل بثبوت الوطن الشرعي الذي استثناه بعض الأصحاب من ذلك وناقشنا فيه، وأضاف الشيخ الأنصاري (قدس سره) إلى الوطن العرفي الوطن الأصلي إذا هجره ولكن بقي له ملك فيه، فتأمل في انتفاء الحكم بالتمام لوجهين:1- إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمهاجرين من أهل مكة (لما دخلوا مكة قصّروا لخروج أملاكهم) (وهذا الكلام يدل على أنهم لو بقيت أملاكهم لم يقصّروا) وقد تقدم نقله عن الشهيد في الذكرى.

2- فحوى الدليل على الوطن الشرعي ((فإن استيطان ستة أشهر في سنة واحدة في منزل إذا كان موجباً للوطنية مادام الملك، فالوطن الأصلي مع بقاء الملك حكمه كذلك بالأولوية القطعية فتأمل))(1).

والوجهان مردودان أما الأول فلما تقدّم، وأما الثاني فلبطلان الأولوية لأنها قياس، ولأن الوطن الشرعي لم يثبت.

(الخامس) لا إشكال في كون الوطن العرفي - الذي عرفناه صفحة 157- مما يوجب قطع السفر ويقتضي إتمام الصلاة بل هو القدر المتيقن من الوطن، أما الروايات التي اشترطت الملك أو الاستيطان مدة ستة أشهر ونحوها فهي منصرفة عنه بقرينة سياقها ومناسبة السؤال والجواب والمسألة محل اتفاق.

ولكن استظهر السيد الحكيم (قدس سره) مخالفة صاحب الشرائع لهذا الإجماع في تعريفه للوطن الذي يتمّ فيه المسافر بأنه ((كل موضع له فيه ملك قد استوطنه ستة أشهر فصاعداً)) فأنه ((قد يتراءى الخلاف في ثبوت الوطن العرفي في قبال الوطن الشرعي)) وردّ عليه بأنه ((مما لا ينبغي فإن كثيراً من المتوطنين لا

ص: 184


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري , كتاب الصلاة , 8/106.

ملك لهم في أوطانهم فضلاً عن أن يكون الملك وطناً لهم والالتزام بوجوب القصر عليهم غريب، بل لعله خلاف الضروري))(1).

أقول: لا يخفى هذا المعنى على المحقق الحلي (قدس سره) وإنما ذكر هذا التعريف للوطن لأنه بصدد بيان قواطع السفر الذي يفترض أنه بدأ من الوطن الأصلي، والكلام عن محل آخر ينقطع السفر بالمرور به، وسياق الروايات شاهدة على هذا المعنى والسؤال عن إمكان صلاة التمام في ضيعة أو منزل إذا مرّوا بها في سفرهم وليس الكلام عن تعريف الوطن.

ووجدت كلاماً لطيفاً للسيد البروجردي (قدس سره) يشرح فيه الظروف التأريخية لنشوء المسألة ويصلح لإيضاح ما قلناه، وان كان ظاهراً من الروايات, قال (قدس سره): ((لا يخفى أن كون المرور بالمقر الفعلي والوطن العرفي موجب للإتمام لم يكن أمرا مبحوثاً عنه في عصر الأئمة (عليهم السلام) بل هو أمر واضح لا ينبغي البحث عنه، لما عرفت من أن تعليق الحكم بالقصر على السفر والضرب في الأرض يدل بنفسه على انقطاع السفر حقيقة بالمرور بالمقر الفعلي ومحل الإقامة, فالروايات الواردة في المسألة لا ترتبط بمسالة المرور بالمقر الفعلي الذي ربما يسمى في أعصارنا بالوطن المستجد في مقابل الأصلي، بل الذي كان مبحوثاً عنه في عصرهم (عليهم السلام) كما يظهر للمتتبع هو مسألة مرور المسافر أثناء سفره بضيعة له أو غيرها من الأملاك فكان يفتي بعضهم ومنهم الشافعي في احد قوليه بوجوب الإتمام على من مرّ بملكه، وآخرون بوجوب القصر. ومنشأ توهم الإتمام ما قد اختلج فيأذهانهم من كون الحكمة بوجوب القصر كون السفر موجباً للمشقة المقتضية للتسهيل، ووصول المسافر إلى محل له فيه علاقة ملكية مما يوجب زوال بعض المشقة فناسب الإتمام. وبالجملة كأن المار بملكه يكون برزخاً بين الحاضر والمسافر فألحقه بعضهم بالحاضر وآخرون بالمسافر.

وبعدما كانت المسألة مبحوثاً عنها بين فقهاء العامة صار أصحابنا الإمامية أيضا بصدد استفسار الأئمة (عليهم السلام) عن حكمها فأجابوا تارة بالإتمام

ص: 185


1- مستمسك العروة الوثقى , 8/105.

وأخرى بالقصر، وثالثة بالتفصيل بين صورة الاستيطان وغيرها. فمفروض السائلين في الأخبار هو المسألة المبحوث عنها بين العامة، أعني مرور المسافر أثناء سفره بضيعته أو غيرها من أملاكه، لا المقر الفعلي الذي لا ريب في خروج المسافر بسبب المرور به من كونه مسافراً حقيقة والظاهر أن تفصيل الإمام (عليه السلام) بين صورة الاستيطان وغيرها أيضا إنما يكون بعد انحفاظ أصل موضوع البحث والسؤال، فلا يمكن حمل الاستيطان في الأخبار عن الوطن العرفي بمفاده عند العجم(1).

كيف ! وإلا يلزم أن يكون الاستثناء في قوله (عليه السلام): (إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه) بنحو الانقطاع، إذ المفروض في السؤال كما عرفت عدم كون الضيعة وطناً عرفياً.

ومما يؤيد ما ذكرناه أن الغالب والمتعارف بين مالكي القرى والضياع عدم إقامتهم في ضياعهم المتباعدة عن الأمصار بمقدار يصدق عليها الوطن العرفي العجمي، بل يمرون بها لضبط المحصولات أو التنزه مثلاً ولا سيما مثل ابن يقطين وابن بزيع المتمكنين الذي كثرت ضياعهما، فيكون حمل الاستيطان في هذه الأخبار على مفهومه العرفي عند العجم حملاً له على الأفراد النادرة.

ويشهد لذلك أيضا أن الوطن العرفي باصطلاح العجم وصف للبلد الذي يسكن فيه الشخص، ولا يوصف به المنزل، مع أن الاستيطان في الأخبار قد أضيف إلى نفس المنزل، فيعلم بذلك أن المقصود في الأخبار المفصّلة ليس بيان قاطعية الوطن العرفي العجمي الذي لا ريب في قاطعيته بل لا ينبغي البحث عنها، بل المقصود فيها بيان التفصيل في المسألة التي تداول البحث عنها بينهم مع فرض انحفاظ موضوع البحث والاستيطان المذكور فيها ولا سيما باعتبار إضافته إلى نفس المنزل لا يراد به إلا السكون والإقامة.

ص: 186


1- عرف (قدس سره) الوطن بأنه: ((محل الإقامة والمقر الفعلي للشخص بحسب طبعه ووضعه الفعلي , نعم ربما يتبادر بحسب عرف العجم من تلك الألفاظ مفاهيم أُخر, كمسقط الرأس ومحل إقامة الآباء والأمهات أو ما اتخذ مقراً بالقصد أو نحو ذلك ولكن الاعتبار باللغة وعرف العرب)), البدر الزاهر , 209.

فيصير محصل الروايات أن المار بالضيعة يجب عليه أن يقصّر فيها إلا أن يكون له منزل يسكنه، فإن المارّين بضياعهم على قسمين: قسم منهم لا يهيئ لنفسه في ضيعته منزلاً يسكنه إذا مرّ بها بل ينزل في منازل رعاياه، وقسم منهم يهيئ لنفسه في الضيعة والقرية منزلاً ويعدّ فيه أسباب التعيش لينزل فيه إذا مرّ بقريته لقضاء حوائجه من ضبط المحصولات والتنزه ونحوهما ولكنه مع ذلك لا يكون إقامته في القرية بنحو يصدق عليها أنها مقرّ إقامته وأنها وطن له بمفاد عند العجم حتى يكون وصوله إلى القرية موجباً لخروجه من كونه مسافراً عرفاً، والإمام (عليه السلام) حكم بوجوبالإتمام على القسم الثاني، أعني من كان له فيها منزل يسكنه إذا مرّ بها، وبيّن مقدار السكون الكافي في الحكم بالإتمام في رواية ابن بزيع بكونه ستة أشهر.

والتعبير وان كان بلفظ المضارع لكن الواجب حمله على أصل التحقيق المنطبق على المضي قهراً، لما عرفت من عدم جواز الحمل على الحال أو الاستقبال أو الاستمرار، وليس الحكم بوجوب الإتمام في المقام بسبب صيرورة القرية وطناً عرفياً أو شرعياً، لما عرفت من أن الحكم ليس معلقاً على الوطنية بل الحكم بالإتمام هنا من باب التخصيص ويكون خروجه من أدلة القصر خروجاً تعبدياً، ولا بُعد في ذلك بعدما نهض عليه الأدلة فتدبّر))(1).

أقول: في كلامه (قدس سره) جملة من المناقشات تقدمت في تفصيل البحث.

(السادس) إن الستة أشهر التي ذُكرت في صحيحة ابن بزيع هي من باب المثال، أو لأن الذي ينسبق إلى الذهن عندما يكون للإنسان وطنان أن يقضي في كل منهما ستة أشهر، وإلا فإنها ليست قيداً والمهم هو صدق التوطن عرفاً أو صحة سلب عنوان السفر، ولا يشترط فيها أن تكون متوالية فيمكن أن تكون متفرقة كمن يقضي أشهرا معينة من السنة فيها مع تحقق الشرط المتقدم، والدليل عليه العرف. وتقتضيه طبيعة المسألة وظروفها فإن من له منزل يستوطنه في ضيعة لا يقيم فيه ستة أشهر متوالية وإنما ينزل فيه في مواسم متفرقة.

ص: 187


1- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر, 212- 214.

وأضاف السيد البروجردي (قدس سره) وجهاً لطيفا حاصله: ((أن ظهور قوله (عليه السلام) (ستة أشهر) في دخالة خصوصية السنة يعارض ظهور قوله: (يستوطنه) في كون الاعتبار بالاستيطان العرفي، وفي مقام تعارض المفسِّر والمفسَّر وان كان مقتضى القاعدة ظهور المفسِّر (بالكسر)، لكن هذا فيما إذا لم يكن ظهور المفسِّر أقوى، وفيما نحن فيه ظهوره في إرادة المفهوم العرفي في غاية القوة فيجب رفع اليد عن ظهور المفسِّر (بالكسر) وحمله على كونه من باب المثال أو الغلبة))(1).

(السابع) لا يكفي مجرد النية لإتمام الصلاة في الوطن الاتخاذي، بل لا بد من المكث فيه مدة يصدق معها العنوان، وتختلف هذه المدة قصرا وطولا باختلاف الظروف والملابسات وغرض اتخاذ الوطن، فالطالب الجامعي لا يبدأ بصلاة التمام في بلد بمجرد قبوله في جامعته وإنما بعد أن يكمل معاملة التسجيل ويبدأ العام الدراسي ويبدأ بالدراسة والإقامة في الأقسام الداخلية، لأن مقتضى الفهم العرفي ذلك و ((لأن الاستيطان ليس اسماً لنفس النية فقط، بل للعمل الخارجي الناشئ عن القصد والنية))(2).

ص: 188


1- البدر الزاهر , 211.
2- المستند في شرح العروة الوثقى , 20/236.

البحث الخامس: أحكام صلاة من عمله السفر

اشارة

ص: 189

ص: 190

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الخامس: أحكام صلاة من عمله السفر

أحكام صلاة من عمله السفر(1)

الأصل في صلاة المسافر القصر في الرباعيات وقد دلّت عليه روايات كثيرة((2) وحدّدت شروطه وتفاصيله وقد استثنيت عناوين من هذا الوجوب كالمسافر سفر معصية ومن كانت بيوتهم معهم كأهل البوادي الذين لا مسكن لهم بل يدورون في البراري وينزلون في محل العشب والماء ولا يختص التعليل بسكان البوادي بل إنه يشملهم حتى لو كانوا يسكنون في بعض تنقلاتهم المدن للتسوق ونحوه كالغجر الذين يعبرون من مدينة إلى مدينة ومن دولة إلى دولة فصلاتهم تمام في كل حركتهم هذه -لا غيرها- لأنهم ليسوا في سفر حقيقة فهم خارجون موضوعاً.

ولسنا بصدد البحث فيهما وإنما يهمنا عنوان محدد وهو من كان السفر عملاً لهم ولكن لتداخل العنوان الثاني (من كانت بيوتهم معهم) مع المقصود (من كان عملهم السفر) في كلمات الأصحاب فسنشير إليهما معاً بإذن الله تعالى.

فوردت في الأول موثقة إسحاق بن عمار (قال: سألته عن الملاحين والإعراب هل عليهم تقصير؟ قال: لا بيوتهم معهم)(3)

ولا يضرها الإضمار لجلالة قدر إسحاق فلا ينقل إلا قول المعصوم (عليه السلام)، ومرسلة الجعفري عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الأعراب لا يقصرون وذلك أنَّ منازلهم معهم)(4).

ص: 191


1- بدأ إلقاء البحث يوم 3/شعبان/1427 الموافق 28/8/2006 وهي أول مسألة بحثها سماحة الشيخ المرجع (دام ظله).
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، الباب الأول والثاني.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 11، ح5.
4- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح6.

ووردت في الثاني طوائف من الروايات يأتي تصنيفها بإذن الله تعالى منها صحيحة زرارة قال: (قال أبو جعفر عليه السلام: أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري والكريّ والراعي والاشتقان لأنه عملهم)(1).

ورواه الصدوق في الخصال عن حماد بن عيسى إلا أنه ترك لفظ قد، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ولعله الأصح)) وربما كان السبب ما يعرف من أن (قد) إذا دخلت على الفعل المضارع فإنها تفيد التقليل والمورد ليس كذلك.

ويرد عليه:-

1- لا مانع من حمل (قد) على التقليل أي أن هؤلاء قد يجب عليهم التمام وقد لايجب؛ لأن وجوب التمام على هؤلاء مقيّد بتلبّسهم بهذه الأعمال فلو سافروا من دون هذه العناوين لا يجب عليهم التمام وإن كانوا موصوفين عرفاً بهذه الأوصاف.

2- يحتمل أن (قد) هنا تفيد التحقيق كقوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً» (النور : 63).

والمكاري، هو الذي يكري دابته للسفر، وأما الكريّ، فهو الذي يكري نفسه للخدمة في السفر أما لشخص المكاري لأجل إصلاح دابته ونحوها كالذي يسمى في عرف اليوم (الصانع) لسائق السيارة أو لسائر المسافرين للقيام بحوائجهم في الطرق.

وأما الاشتقان فقد فسّره الصدوق بالبريد (ونقله عنه في الوسائل باب11، ح3) وقال عنه السيد الخوئي (قدس سره) ولم يعرف له وجه وإن ورد ذلك في مرفوعة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: خمسة يتمّون في سفر كانوا أو حضر: المكاري والكري والاشتقان وهو البريد والراعي

ص: 192


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 11، ح2.

والملاح لأنه عملهم)(1)

إذ مضافاً إلى ضعف السند لم يتضح كون التفسير من الإمام (عليه السلام) لجواز كونه تكملة من الصدوق نفسه لا منه (عليه السلام) ولا من ابن أبي عمير والظاهر أن الكلمة غير عربية كما ذكره الشهيد وأنها معرب (اشت بان) ((أي أمير البيادر))(2).

أقول: من البعيد أن لا يعرف الشيخ الصدوق ابن البلاد الفارسية والمدفون فيها والمقارب عصره لعصر صدور النص أصل هذه الكلمة - إن كانت معرّبة عن الفارسية- لذا فإن بعضهم وهو من أهل المعرفة باللغة الفارسية ذكر لذلك وجهاً جامعاً فقال: ((الاشتقان معرب (دشتبان) الذي يرتبط بالصحراء مثل المربوط بالبيادر ينتقل من بيدر إلى بيدر ومثله كل من يلاحظ الصحراء لأجل أمر ولو كان بريداً وإن كان إطلاقه على مثل البريد إنما يكون بعناية))(3)، فالكلمة تتضمن معنى المراقبة والمتابعة والملاحظة ومنهم خفر الحدود مثلاً.

وعلى أي حال فنحن غير محتاجين لمعرفة معنى الكلمة بعد أن ذكر الإمام (عليه السلام) العلة فيمكن التمسك بعموم التعليل لإدخال أمير البيادر والبريد فيه.

ووردت روايات أخرى تذكرهم بعناوينهم من دون التعليل السابق لكنها قيدتهم بالأوصاف كصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المكاري والجمّال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان)(4)

وطائفة ذكرت مجرد العناوين كمعتبرة إسماعيل بن أبي زياد وموثقة السكوني عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه الباقر (عليه السلام) (سبعة لا يقصرون الصلاة: الجابي الذي يدور في جبايته، والأمير الذي يدور في إمارته،

ص: 193


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح12.
2- مستند العروة الوثقى، تقريرات بحث السيد الخوئي (قدس سره) بقلم الشيخ مرتضى البروجردي (قدس سره) 8: 157.
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي : 28 / 158.
4- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح1.

والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق، والراعي، والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر ... إلى آخر الحديث)(1)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (ليس على الملاحين في سفينتهم تقصير ولا على المكاري والجمال)(2).

ولدى قراءة الروايات تظهر لنا عدة ملاحظات:

الأولى: ذكر السيد الحكيم (قدس سره) أن ((المعروف عندهم إرجاع هذا الشرط -من كانت بيوتهم معهم- وما بعده -من كان عملهم السفر- إلى شرط واحد، وإن اختلفت عبارتهم عنه، فعبر المعظم بأن لا يكون سفره أكثر من حضره، ومنهم صاحب الشرائع، وآخر: بأن لا يكون كثير السفر، وثالث: بأن لا يكون السفر عملاً له، ورابع: بأن لا يكون ممن يلزمه الإتمام في السفر، وخامس: بأن لا يكون سفره في حكم حضره، وسادس: اقتصر على العناوين الموجودة في النصوص)) ثم قال: ((وما ذكره المصنف (رحمه الله) -تبعاً لجماعة- أولى، لاختلاف الشرطين مفهوماً، مع تضمن النصوص لكل منهما بخصوصه))(3)

ونبّه إلى هذه الملاحظة السيد الخوئي (قدس سره) أيضاً(4).

ومن قبلهما صاحب الجواهر (قدس سره) تعليقاً على عبارة المحقق الحلي (قدس سره) المتقدمة في الشرائع فقال(5): ((وكيف كان فمما ذكرنا يظهر لك أن عنوان هذا الشرط بذلك أي اتخاذ السفر عملاً كما هو المستفاد من مجموع النصوص أولى مما في المتن وغيره من أنه أن لا يكون سفره أكثر من حضره إذ هو –مع خلو النصوص عنه وإجمال المراد بالأكثرية بل هي على بعض الوجوه غير معتبرة قطعاً- يقتضي وجوب التمام على من اتفق أكثرية

ص: 194


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح9.
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح4، ح8.
3- المستمسك : 8/68.
4- مستند العروة الوثقى : 8/156.
5- جواهر الكلام : 14/275.

سفره على حضره وإن لم يكن عملاً له ولا دليل عليه)) ولذلك عدل عنها المحقق الحلي (قدس سره) في المعتبر حيث قال: ((والأولى أن يقال: أن لا يكون ممن يلزمه الإتمام في سفره))(1)

وهي لا تقل إشكالاً عن سابقتها فإن العاصي بسفره يدخل فيما ذكره مع أنه غير مراد.

فالصحيح ما قالوه من الالتزام بمفاد النصوص خصوصاً وأنهم رتبوا آثاراًعلى الملاكات التي استنبطوها كعنوان (كثير السفر) الذي فرّع عليه سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) عدة مسائل رغم أنه عنوان منتزع ومستنبط لا وجود له في النصوص، إلا أن يقال أنه عرف بتنقيح المناط لكنه مردود كبروياً وصغروياً، أما كبروياً، فلعدم حجية هذا الدليل كالقياس وأما صغروياً، فلأن النصوص ذكرت مناط الحكم وهو أن عملهم السفر فلا مجال لتنقيح المناط وبين عنواني (عمله السفر، كثير السفر) عموم من وجه، إذ قد يكثر السفر للزيارة أو السياحة ونحوها من غير أن يتخذه عملاً له، وربما يكون عملاً له قبل صدق كثرة السفر عليه -كما سيأتي مثاله بإذن الله تعالى- وقد يجتمعان كما هو الغالب، فلا عبرة بكثرة السفر لوحده ما لم يكن عملاً التزاماً بالنصوص.

ومع ذلك فقد قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) في تعداده لشروط القصر إلى أن قال: ((أن لا يتخذ السفر عملاً له)) ثم ذكر العناوين المحتملة لهذا الشرط فقال: ((الرابع: أن يكون كثير السفر باختياره كالتنزه والزيارة والظاهر هو الإتمام أيضاً، إذا كانت المقاصد عقلائية أو دينية، لكن يشترط صدق الكثرة عرفاً كثلاث سفرات في الأسبوع على الأقل، فإن لم تكن المقاصد صحيحة عقلائياً أو دينياً كالتنزه المستمر ونحو ذلك فإنه لا يتم من هذه الجهة))(2)، وقال (قدس سره): ((إذا لم يتخذ السفر عملاً وحرفة ولكن كان له غرض في تكرر السفر بلا فترة مثل أن يسافر كل يوم من البلد للتنزه أو لعلاج مرض، أو لزيارة إمام أو نحو ذلك مما لا يكون فيه السفر حرفة ومهنة، فإن كان الغرض عقلائياً أو دينياً في كل هذه السفرات وتكرر منه السفر في الأسبوع

ص: 195


1- مسالك الأفهام : 1/344.
2- منهج الصالحين : ج1 ص223 المسألة 1243. من طبعة بيروت.

ثلاث مرات أو أكثر، كان كثير السفر عرفاً ووجب عليه التمام))(1).

وما يمكن أن يقال في تبرير الدمج بين العنوانين أمران:-

1- اتحاد بعض المصاديق كالملاحين في السفينة فأنهم تارة يتخذون بيوتهم في سفنهم ويجهزونها باحتياجات المعيشة ويصطحبون عائلاتهم فيكونون من أهل العنوان الأول وتارة يكون عملهم الملاحة في السفن ولهم منازلهم الخاصة على الأرض ويؤيده ورود الملاح في كلا العنوانين.

ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (ليس على الملاحين في سفينتهم تقصير، ولا على المكاري والجمال)(2)

وفي مرفوعة الجعفري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل من سافر فعليه التقصير والإفطار غير الملاح فإنه في بيته وهو يتردّد حيث يشاء)(3).

وفي حديث الإمام الرضا (عليه السلام) لأبي الصلت الهروي عن رجل أنه (قام يسألني عن الملاح يقصر في السفينة. فقلت: لا، لأن السفينة بمنزلة بيته،ليس بخارج منها)(4).

2- إمكان إدخال (من بيوتهم معهم) في (من عملهم السفر) لأنهم كذلك خارجاً باعتبار تنقّلهم المستمر مع اختلاف مدة المكث بين التنقلات.

لكن كلاً من الوجهين غير تام فإن ورود الملاحين في كلا العنوانين تابع لاختلاف اللحاظ فإن الملاح في السفن الكبيرة والمستعملة للأسفار الطويلة يتخذ بيته فيها ويصطحب عائلته ويجهّزها بما يحتاج بيت الأسرة فهو حينئذٍ ممن بيوتهم معهم، وقد لا يكون الملاح كذلك وإنما يكون عمله فقط في الملاحة ويعود إلى أهله عند انتهاء كل سفرة فيكون ممن عمله السفر.

وأما الثاني: فلأن الاعتبار والمعنى اللغوي لا يساعد عليه لأن من كان

ص: 196


1- منهج الصالحين : ج1، ص255، المسألة 1256.
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح4.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح11.
4- مستدرك الوسائل : أبواب صلاة المسافر، باب8، ح3.

بيته معه فإنه لا يصدق عليه السفر فهو خارج موضوعاً واشتراط عدمه لقصر الصلاة من باب تحقق الموضوع لا الحكم خلافاً لغيره من الشروط، أما الآخر فإنه فعلاً وهو عمله.

الثانية: يوجد خلاف بين الفقهاء في اعتبار تكرّر السفر كشرط للصلاة التمام فاشترط بعضهم المرتين وبعضهم الثلاث واكتفى آخرون بالمرة ما دام عنوان (عمله السفر) صادقاً عليه عرفاً، وقد استدل من اعتبر التعدد بأكثر من وجه:

الوجه الأول: ورود معنى الاختلاف والتردد في بعض الروايات وهو يستلزم التعدد ولتنقيح هذا الوجه نقول: إن من يتمّون الصلاة في السفر في مسألتنا تعلق بهم الحكم بحسب ما تفيده الروايات الشريفة على أشكال ثلاثة:-

1- ما علق الحكم فيها على عناوين خاصة كالمكاري والجمال والملاح ونحوها كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (ليس على الملاحين في سفينتهم تقصير ولا على المكاري والجمال)(1).

2- ما دلت على ذلك بعناية كون السفر عملاً لهم كصحيحة زرارة قال: (قال أبو جعفر (عليه السلام): أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري والكريّ والراعي والاشتقان لأنه عملهم)(2).

3- ما دلت على عنوان الاختلاف وعدم وجود مقام لهم كصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان)(3).

ولو كنا نحن والشكل الأول لحكمنا بالتمام متى تحققت ذوات العناوين وإن لم يصدق على المتلبس بها كونها عملاً له، كمن كانت له سيارة يستعملها في حوائجه الشخصية فصادف أن شاهد كثرة الزوار مثلاً وارتفاع أجرة السفر فأجّر سيارته فيتلك السفرة فإنه قد يُطلق عليه المكاري في هذه الحالة وإن لم

ص: 197


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر : باب11، ح4، 8.
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 11، ح2.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 11، ح1.

يكن ذلك عملاً له.

إلا أن الطائفة الثانية خصّت هذه العناوين بمن كان السفر عملاً له فيدور الحكم مدار صدق هذا العنوان الذي ربما يتفق بسفرة واحدة خصوصاً إذا كانت طويلة، بل قد يتفق في إثناء السفر امتهانه لهذا العمل كما لو سافر إلى مدينة تباع فيها السيارات بأسعار مناسبة فاشترى سيارة وتكسّب بتأجيرها.

إلا أن الطائفة الثالثة اعتبرت عنوان الاختلاف المتقوم بالتكرّر مع البناء على الاستمرار على ذلك كما هو واضح.

وفي ضوء هذا قد يفكر البعض بإضافة قيد آخر وهو تكرار السفرة لصدق عنوان أن عمله السفر المتقوم بالاختلاف والتردد، وقد نقل السيد الخوئي (قدس سره) عن الشهيد الثاني احتماله التكرار إلى ثلاث سفرات فلا يتم قبلها كما لا يقصّر بعدها، وعن العلامة في المختلف اختياره اعتبار السفرتين(1).

ولكن هذا غير صحيح لوجهين:

أولهما: ابتناؤه على أن يكون للوصف -وهو التقييد بالاختلاف- مفهوم والصحيح عدمه فلا يدلُّ على أنّ غير هذا المورد غير محكوم بهذا الحكم ليتنافى مع ما سبق.

وقد ذكر السيد الخوئي (قدس سره) هنا فائدة أصولية يحسن ذكرها، قال (قدس سره): ((نعم ذكرنا في الأصول أن له مفهوماً بمعنى آخر وهو الدلالة على عدم تعلق الحكم بالطبيعي على إطلاقه وسريانه وإلا لأصبح التقييد بالوصف لغواً محضاً، وأما أن الحكم خاص بهذا المورد ومنفي عما عداه -كما هو معنى المفهوم اصطلاحاً- فكلاّ، فغايته أن طبيعي المكاري غير محكوم بالتمام لا أنه خاص بمن يختلف، ومن الجائز ثبوته لغير هذا الفرد كمن كان شغله السفر وإن لم يختلف، فلا معارضة بين الطائفتين بوجه))(2).

ص: 198


1- مستند العروة الوثقى : 8/166.
2- مستند العروة الوثقى: 8/168.

ثانيهما: إن قيد (يختلف وليس له مقام) توضيحي لبيان طبيعة عمل المكاري من دون التقييد به نظير قوله تعالى: «وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ» (النساء:23) باعتبار الغالب من دون أن يكون «فِي حُجُورِكُمْ» قيداً في الحكم.

الوجه الثاني: مكاتبة ابن جزك قال: (كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) إن لي جمالاً ولي قوّاماً عليها ولست أخرج فيها في طريق مكة لرغبتي في الحج أو في الندرة إلى بعض المواضع، فما يجب عليَّ إذا أنا خرجت معهم أن أعمل، أيجب عليَّ التقصير في الصلاة والصيام في السفر أو التمام؟ فوقّع (عليه السلام): إذا كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كل سفر إلا في طريق مكّة فعليك القصروالإفطار)(1)

وقد فهم المستدل أن عدم التمام لعدم تكرر السفر وهو ليس بصحيح لأن عدم التمام كون السفر ليس عملاً له فهي أجنبية عن المقام كما سيأتي بإذن الله تعالى في الفروع الملحقة وإنما نحن الآن بصدد قراءة الروايات.

الوجه الثالث: تقوّم عنوان (من عمله السفر) بذلك فلا يصدق أن عمله السفر إذا لم يتعدد وهو مردود لعدم استلزام الصدق العرفي ذلك.

فالمناط ما ذكرناه من صدق عنوان (عمله السفر) عرفاً وهو ما عبّر عنه صاحب العروة الوثقى (قدس سره) بقوله: ((والمدار على صدق اتخاذ السفر عملاً له عرفاً ولو كان في سفرة واحدة لطولها وتكرّر ذلك منه من مكان غير بلده إلى مكان آخر، فلا يعتبر تحقق الكثرة بتعدد السفر ثلاث مرات أو مرتين، فمع الصدق في أثناء السفر الواحد أيضاً يلحق الحكم وهو وجوب الإتمام، نعم، إذا لم يتحقق الصدق إلا بالتعدد يعتبر ذلك)).

وستأتي في ثنايا البحث تفاصيل وإضافات أخرى.

الثالثة: إن العناوين المذكورة في النصوص ليست متحدة في كون عملهم السفر (فبعضهم) كذلك كالمكاري والسائق، وبعضهم يكون السفر مقدمة لعملهم كأمين البيدر أو التاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق أو

ص: 199


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 12، ح4.

الراعي والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر وحكمهم التمام بمقتضى النصوص بلا إشكال.

وما نريد أن نتوصل إليه هو إمكان تعميم الحكم إلى كل من كان له عمل خاص وكان السفر مقدمة له كالموظف والطالب الجامعي وطالب العلوم الدينية والمدرس وغيرهم ممن يكون عملهم في مدينة تبعد عن محل سكناهم المسافة الشرعية حيث يذهبون يومياً أو أسبوعياً أو غيرها إلى محل عملهم ويعودون إلى أهلهم في مقابل من يقول بالاقتصار على مورد النص وهي العناوين الخاصة المذكورة ويضمّ إليهم من كان عمله السفر ممن لم يذكر ضمن العناوين ولكنه مشمول بالتعليل كالسائق.

والصحيح هو التعميم وشمول من كان السفر مقدمة لعملهم لوجهين مرتبطين ببعضهما:-

1- تضمّن نفس النصوص عناوين ليس عملهم السفر وإنما السفر مقدمة لعملهم أو أن عملهم في السفر كالراعي فإن عمله الرعي وطلب الماء والعشب للغنم ومكانه -غالباً لا سيما في القرى- معين على ما قيل فيذهب كل يوم إلى ذلك المكان لأجل رعي غنمه، كما يذهب الطبيب أو المعلم إلى بلد خاص لطبابته ودراسته.

وكذلك الاشتقان على ما تقدم من تفسيره بأمير البيادر المسؤول عن حفظها ورعايتها أو مراقب الصحراء للبريد أو حماية الحدود ونحوها.

2- صدق التعليل الوارد في النص عليهم عرفاً أي قوله (عليه السلام): (لأنه عملهم) فمثلاً لا يبعد أن يقال عرفاً للموظف الذي يسافر يومياً إلى دائرته أو الطالب إلى جامعته من دون أن يتوطن محل عمله كما سيأتي إن شاء الله تعالى: أن السفرعمل له والشاهد على ذلك جمع الإمام لكل هذه العناوين بتعليلٍ واحد في نهاية الحديث.

ص: 200

قواطع الحكم بالتمام لمن عمله السفر

يستفاد من النصوص قطع حكم التمام في حالتين:

الأولى: ما إذا جدَّ في سفره وقد فُسِّر بأن يجعل المنزلين منزلاً واحداً وقد وردت في المسألة روايات كثيرة فيها صحاح كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (المكاري والجمال إذا جدَّ بهما السير فليقصّروا)(1)

وصحيحة الفضل بن عبد الملك قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المكارين الذين يختلفون، فقال: إذا جدّوا السير فليقصّروا)(2)، وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه قال: (سألته عن المكارين الذين يختلفون إلى النيل هل عليهم إتمام الصلاة؟ قال: إذا كان مختلفهم فليصوموا وليتموا الصلاة، إلا أن يجدَّ بهم السير فليفطروا وليقصروا)(3).

وقد أهمل صاحب العروة الوثقى ككثير غيره العمل بظاهر هذه الروايات وحكم بوجوب القصر قائلاً: (وكذا -أي في وجوب إتمام الصلاة في السفر- لا فرق بين من جدَّ في سفره بأن جعل المنزلين منزلاً واحداً وبين من لم يكن كذلك)(4).

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ولكن الظاهر أنه لا سبيل للأخذ بهذه النصوص رغم صحة أسانيدها لمهجوريتها عند الأصحاب وعدم العامل بها إلى زمن صاحب المدارك والمعالم وبعدهما المحقق الكاشاني، وصاحب الحدائق، حتى أن الكليني لم يعتنِ بها ولم يذكر شيئاً منها، بل أشار إليها بقوله: وفي رواية أن المكاري إذا جدَّ به السير ... الخ المشعر بالتعريض والتوقف وأنها موهونة عنده، وإلا لكان عليه أن يذكرها ولا سيما مع صحة أسانيدها فيُفهم من

ص: 201


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب13، ح1.
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب 13، ح2.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب13، ح5.
4- العروة الوثقى : الشرط السابع من شروط القصر.

التعبير عدم اعتنائه بشأنها))(1).

وقد استدل (قدس سره) لمختاره من عدم الأخذ بظاهرها بنمط من الاستدلال استفاد منه في موارد كثيرة فقال (قدس سره): ((هذا والمسألة كثيرة الدوران ومحل للابتلاء غالباً حتى أن بعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كان شغله ذلك كصفوان الجمال، فلو كان القصر ثابتاً للمكاري المجدّ في السير لاشتهر وبان وشاع وذاع وكان من الواضحات، كيف! ولا قائل به إلى زمان صاحب المدارك كما عرفت، فيستكشف من هذه القرينة العامة التي تكررت الإشارة إليها في مطاوي هذا الشرح وتمسكنا بها فيكثير من المقامات عدم ثبوت القصر للمكاري المزبور. إذن، لا بد من رد علم هذه الروايات إلى أهله، أو حملها على بعض المحامل المتقدمة))(2).

ونحن لا نلتزم بأن إعراض الأصحاب عن العمل بالرواية الصحيحة يسقطها عن الاعتبار والحجية ألا أن يكون هذا الإعراض مستمراً عبر الأجيال ومتصلاً بزمان المعصومين (عليهم السلام) أو يكون إعراضاً تعبدياً غير مستند إلى أسباب ودواعٍ فيكون كاشفاً عن إعراض المعصومين (عليهم السلام) لو أمكن ذلك فلا بد من دراسة دوافع الإعراض وظروفه فقد تكون كافية لإسقاط الحجية وقد تكون غير ذلك كما لو كان مدرك الإعراض عدم وضوح المقصود أو عدم انسجامه مع الرأي المشهور يومئذٍ أو هيبة لرأي السلف الصالح بدرجة يصعب الخروج عليه حتى برواية صحيحة ونحوها وهذا كله غير كافٍ.

مضافاً إلى أنه يجب التفريق بين الإعراض وعدم العمل بالظاهر من أجل شيء من الدوافع التي ذكرناها ومجرد الفتوى على خلاف الظاهر من تلك الروايات لا يدل على إعراضهم عنها بل إنه لازم أعم كما لو تركوها لمعارضتها لروايات أخرى أو أنهم تمسكوا بإطلاق الروايات الدالة على التمام في من عمله السفر بل تأوّل الأصحاب وتوجيههم للظاهر دليل على أخذهم بالروايات

ص: 202


1- مستند العروة الوثقى: 8/165.
2- مستند العروة الوثقى: 8/165.

وليس إعراضهم فليس صحيحاً ما قاله من مهجوريتها عند الأصحاب، كيف وقد نقلنا لك توجيه العلامة والشهيد (قدس سرهما).

أما ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من القرينة العامة فمما يلتزم به عملياً إلا أن المورد ليس صغرى له لوجود روايات عديدة نقلنا ثلاثة صحاح وتوجد غيرها تناسب الابتلاء بالمسألة، نعم، الموجود هو عدم العمل بها فعاد المانع إلى الأول.

وقد استشكل شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) على المشهور عدم أخذهم بهذه الروايات واستظهر التفريق بين الحالتين(1)

لكنه لم يذكر معنى مقبولاً لشرط (جَدّ في سفره) فهل إذا كان معدل سير السائق (100

كم/ساعة) فسار بسرعة (140 كم/الساعة) يقصّر في صلاته أو كان يذهب إلى بغداد بين يوم ويوم فذهب في اليوم المتخلل فهل عليه أن يقصر ولعله لذلك احتاط في النهاية بالجمع بين القصر والتمام وترك الإشارة إلى المسألة في رسالته العملية (منهاج الصالحين، الجزء الأول).

ومن هنا فقد تعدّدت محامل الأصحاب لفهم الروايات انسجاماً مع مبانيهم وقد تكلفوا في عدد منها:

فمنها ما عن الشهيد في الروض من الحمل على المكاري أول اشتغاله بالمكاراة فيقصد المسافة قبل تحقق الكثرة ((بناءً على اشتراط تعدد السفر لصدق عنوان من عمله السفر)) ولأجله يجهد عليه السير ويتعب.

ومنها: ما عن العلامة (قدس سره) من الحمل على ما لو قصد المكاري إقامة عشرة أيام نظراً إلى أنه بعد هذه الفترة المستوجبة للاعتياد على الراحة يصعب عليه السير بعدئذٍ، فطبعاً يجدُّ به السير لو بدأ به، ويكون عسراً وشاقاً، فلأجله يقصر،فيكون المراد السفرة الأولى بعد العشرة لاختصاص الجد بها ((وهي مبنية على انقطاع حكم المكاراة بإقامة عشرة أيام واشتراط تعدد السفر مجدداً لصدق العنوان)).

ص: 203


1- تعاليق مبسوطة: 4/380.

ومنها: ما عن الشيخ والكليني (قدس سرهما) من حمل ذلك على ما إذا أسرع في السير فجعل المنزلين منزلاً فسار سيراً غير عادي ولأجله وقع في جدٍ وجهد واستحق من الشارع المقدس أن يخفف عنه ويراعي حاله فيوجب تقصير الصلاة بخلاف الذي يسير وفق المتعارف فهو كالمقيم في بيته.

أقول: وحينئذٍ يكون الجد نسبياً وبحسب وسائل النقل المستعملة فمن كان يسافر من النجف إلى بغداد يومياً مرة واحدة ذهاباً وإياباً يقصر إذا سافر مرتين وهكذا.

والتقصير إنما يكون في الطريق دون المنزل كما هو صريح مرفوعة عمران بن محمد الآتية وظاهر الروايات الأخرى.

وقد استشهد الشيخ (قدس سره) لذلك بأمرين:

أحدهما: ما رواه في الكافي قال: وفي رواية أخرى المكاري إذا جدَّ به السير فليقصر، قال: ومعنى جدّ به السير جعل المنزلين منزلاً(1).

ثانيهما: مرفوعة عمران بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الجمال والمكاري إذا جدَّ بهما السير فليقصرا فيما بين المنزلين ويتما في المنزل)(2).

وفي كلا الأمرين ما لا يخفى فإن الأول: اجتهاد من الكليني نفسه وليس جزءاً من الرواية فلا شهادة فيه ولم يتضح مستنده في هذا التفسير فإن (الجد) لغة بمعنى الشدة، وأحد مصاديقها في المقام جعل المنزلين منزلاً، لا أنها تختص به، وربما يكون جد السير من أجل الحر أو البرد، أو كون الطريق وعراً أو مخوفاً ونحو ذلك.

والثاني: مضافاً إلى ضعف السند من أجل الرفع والإرسال وجهالة حميد بن محمد قاصر الدلالة لعدم التعرض لتفسير الجد بجعل المنزلين منزلاً، بل غايته التفصيل بالتقصير في ما بين المنزلين والإتمام في نفس المنزل. وهذا كما ترى

ص: 204


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب13، ح4.
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب13، ح3.

أجنبي عما نحن بصدده، ولعله لذلك عمل بظاهرها جماعة من المتأخرين كصاحب المدارك والحدائق والمعالم وغيرهم (1).

كما أن الشيخ لم يعمل في كتبه الفتوائية وظاهر الكليني توهينها (2).

والذي يقوى في الذهن أن معناها أن المكارين الذين دأبوا على السفر إلى ما دون المسافة إذا عرضت لهم سفرة خارجة عن المتعارف يقصدون بها المسافة الشرعية أو كانت مكاراتهم إلى المسافة ولكن استجدت لهم سفرة غير مرتبطة بعملهم الذين كانوا يسافرون فيه كما لو سافروا إلى التنزه أو زيارة أحد ونحوها فحكمهمالتقصير ويكون معنى جد السير إنشاء هذا السفر الطارئ الأبعد من المتعارف.

وتكون الروايات حينئذٍ قريبة المعنى من موثقتي إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الذين يكرون الدواب يختلفون كل الأيام أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال: نعم)(3)

و(قال: سألته عن المكارين الذين يكرون الدواب وقلت: يختلفون كل أيام كلما جاءهم شيء اختلفوا، فقال: عليهم التقصير إذا سافروا)(4).

وهذا معنى قريب من ظاهر النصوص خصوصاً صحيحة علي بن جعفر حيث جعلت السفر في مقابل العمل الذي يختلفون فيه، نعم، الرواية الوحيدة الخارجة عن هذا المعنى مرفوعة عمران بن محمد وهي ساقطة عن الحجية كما تقدم.

وقد نقل السيدان الحكيم والخوئي (قدس سرهما) عن الشهيد في الذكرى هذا المعنى(5) لكنه ذكر من أمثلته الحج وهو غير متصور فإن نية الحج لا تعرض بالشكل الذي تقدم وإنما تُنشأ ابتداءً ومن وقت مبكّر لتحضير المقدمات.

ص: 205


1- مستند العروة الوثقى: 8/163-164.
2- المستمسك : 8/72.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب12، ح2.
4- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب12، ح3.
5- مستند العروة الوثقى: 8/163، المستمسك : 8/71.

الثانية: قال في العروة الوثقى: ((يعتبر في استمرار من شغله السفر على التمام أن لا يقيم في بلده أو غيره عشرة أيام، وإلا انقطع حكم عملية السفر وعاد إلى القصر، في السفرة الأولى خاصة دون الثانية فضلاً عن الثالثة، وإن كان الأحوط الجمع فيهما، ولا فرق في الحكم المزبور بين المكاري والملاح والساعي وغيرهم ممن عمله السفر، أما إذا أقام أقل من عشرة أيام بقي على التمام، وإن كان الأحوط مع إقامة الخمسة الجمع، ولا فرق في الإقامة في بلده عشرة بين أن تكون منوية أو لا بل وكذا في غير بلده أيضاً، فمجرد البقاء عشرة يوجب العود إلى القصر))(1).

قال في الجواهر: ((كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعاً، بل في المدارك وعن غيرها أنه مقطوع به في كلام الأصحاب تارة وأن ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه أخرى، بل عن المعتبر نفي الخلاف فيه بينهم بل في شرح المقدس البغدادي أنه حكى الإجماع عليه غير واحد، وهو الحجة التي يجب بسببها الخروج عن إطلاق أدلة التمام))(2)

فحكموا بالقصر في السفرة الأولى واختلفوا في الثانية والثالثة بحسب اختلاف مبانيهم، والتزم به السيد الخوئي (قدس سره) فقال: (إذا أقام المكاري في بلده عشرة أيام وجب عليه القصر في السفرة الأولى دون الثانية فضلاً عن الثالثة، وكذا إذا أقام في غير بلده عشرة منوية، وأما غير المكاري ففيإلحاقه بالمكاري إشكال وإن كان الأظهر جواز اقتصاره على التمام)(3).

وقال في وجه ذلك: ((إن الحكم بالانقطاع بإقامة عشرة أيام مما لا ينبغي التأمل فيه لصحيحة عبد الله بن سنان بطريقي الشيخ والصدوق رضي الله عنهما))(4).

ص: 206


1- العروة الوثقى : المسألة 49 في صلاة المسافر. مستند العروة الوثقى : 8/172-184.
2- جواهر الكلام : 14/279.
3- منهاج الصالحين : طبعة 29، مسألة 917.
4- مستند العروة الوثقى: 8/171.

وهذا الانقطاع في كلامه (قدس سره) يمكن فهمه على عدة وجوه:-

1- الانقطاع في حكم وجوب التمام فيكون حكماً تعبدياً مخصصاً لعموم ما دل على التمام.

2- الانقطاع في صدق عنوان (من عمله السفر) بإقامة عشرة أيام فيكون مشمولاً بعموم أدلة وجوب القصر على المسافر من باب تطبيق القاعدة وليس حكماً تعبدياً وهو مختار صاحب الجواهر قال: ((ومنه يعلم حينئذٍ أن إقامة العشرة تخرجه عن حكم كثير السفر))(1).

3- انقطاع في صدق عنوان المكاري وصحة سلب العنوان فيكون من التخصص لا التخصيص وهو ما نفاه (قدس سره).

وقد استبعد (قدس سره) في موضع آخر أن يكون هذا من التخصص وإنما هو من التخصيص فقال (قدس سره): ((وقد ورد مخصص في خصوص المكاري وأنه إذا سافر بعد إقامة عشرة أيام وجب عليه القصر والإفطار، فإن هذا من التخصيص دون التخصص لوضوح عدم خروج المكاري بإقامة العشرة عن كونه مكارياً ولا سيما في الأزمنة السابقة التي كانت تطول فيها مدة الأسفار، فكان المكاري يسافر من العراق إلى خراسان مدة شهرين تقريباً، وبعد عوده إلى بلده يبقى لعله شهراً ثم يأخذ في السفرة الأخرى وهكذا))(2).

وهذا الحكم منه مناف لما التزم به (قدس سره) من عدم الحاجة إلى تكرر السفر لصدق عنوان (أن عمله السفر) فقال: ((لا يعتبر في وجوب التمام تكرر السفر ثلاث مرات بل يكفي كون السفر عملاً له ولو في المرة الأولى))(3)

فلو فرضنا انتفاء عنوان المكاراة عنه بهذه الإقامة أو انقطاع حكم التمام عنه فإنه بمجرد عودته لمزاولة مهنة المكاراة بإنشاء السفر يصبح حكمه التمام بموجب الفتوى المذكورة، هذا غير الثغرات الموجودة في الحكم مثلاً لماذا يقصّر إذا سافر والمفروض أنه في سفر (إذا كانت إقامة العشرة في البلد الذي يسافر إليه ولم تكن

ص: 207


1- جواهر الكلام: 14/281.
2- مستند العروة الوثقى: 8/181.
3- منهاج الصالحين، ط29، ج1 : مسألة 911.

منوّية) فلماذا لا يقصر وهو في بلد الإقامة خصوصاً إذا تجاوز العشرة وهي الحد المشترط لانتفاء حكم التمام كما هو المدعى؟ وهل هذا الشرط معتبر في الأسفار القريبة والبعيدة على حدٍ سواء مع انحفاظ قصد المسافة الشرعية طبعاً؟.وعلى أي حال فلو عرض الشرط كقادح في صدق عنوان المكاري على بعض التقادير وليس مطلقاً أو في صدق عنوان (من عمله السفر) لكان له وجه كما قال في مسألة أخرى: ((الظاهر أن عملية السفر تتوقف على العزم على المزاولة مرة بعد أخرى، وعلى نحو لا تكون له فترة غير معتادة لمن يتخذ ذلك السفر عملاً له، فالذي يكري سيارته في كل شهر مرة من النجف إلى خراسان ربما يصدق أن عمله السفر، والذي يكري سيارته في كل ليلة جمعة من النجف إلى كربلاء لا يصدق أن عمله السفر، فذلك الاختلاف ناشئ من اختلاف أنواع السفر))(1).

ولعل استبعاد الالتزام بهذا الشرط خصوصاً في الأسفار البعيدة في زيارة المعصومين (عليهم السلام) إذ من النادر عدم مكث المكاري في بلده أو البلد الذي يسافر إليه عشرة أيام، والتفصيل بين الأسفار البعيدة والقريبة مما لا دليل عليه إلا أن يرجع إلى ما قلناه من صدق عملية السفر.

أقول: لعل هذا الاستبعاد هو الذي دفع الفقهاء المعاصرين (الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) ، السيد السيستاني، الشيخ الفياض (دام ظلهما)) إلى عدم القول به بدليل عدم ذكره في أحكام صلاة المسافر عند بعضهم بل إن الشيخ الفياض منع منه صريحاً فقال: ((المشهور أن المكاري إذا أقام في بلده عشرة أيام، وجب عليه القصر في السفرة الأولى دون الثانية، وكذلك إذا نوى إقامة عشرة أيام في غير بلده، ولكنه لا يخلو عن إشكال بل منع، والأظهر التمام وإن كان الأحوط والأجدر استحباباً أن يجمع بين القصر والتمام في السفرة الأولى))(2)

وقال في وجهه: ((لأن النصوص التي استدل بها على هذا الحكم قاصرة إما

ص: 208


1- منهاج الصالحين، ط29، ج1 : مسألة 915.
2- منهاج الصالحين، ط1 : مسألة 933.

سنداً أو دلالة))(1)، وكذا لم يأخذ بها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فقد قال: ((إذا أقام من عمله السفر أو في السفر عشرة أيام في بلده أو في أي بلد آخر، أتمّ إذا خرج بعدئذٍ في عمله ولو لأول مرة))(2).

وقد استدل المشهور على هذا الحكم بوجوه:

الأول: صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المكاري والجمّال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان)(3)

بتقريب(4)

أن الظاهر من المقام المكث عشرة أيام إما لأنها المتبادر منه عند الإطلاق في النص والفتوى أو لأن البناء على إطلاقه يوجب التقصير لكل مكارٍ غالباً، لتحقق الإقامة فيالجملة ولو بعض يوم، وذلك مما لا يمكن الالتزام به إما لأنه يلزم تخصيص الأكثر وهو قبيح أو لأنه قام الإجماع على منع التقصير بإقامة ما دونها.

وفيه:-

1- إننا نمنع هذا التبادر عند الإطلاق فقد يراد من المقام التوطن كما في الآية الشريفة «يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ» (الأحزاب:13) وسيأتي بإذن الله تعالى.

2- إن هذا التقريب مبني على فهم (وليس له مقام) على أنه قيد احترازي مضاف لما سبقه والأظهر أنه تفسير وبيان لما قبله أي (يختلف) فهي تعرّف المكاري المشمول بحكم التمام أنه المزاول لمهنته والمتردد في عمله وليس المقيم فلا يصح الاستدلال بها.

الثاني: ما رواه الشيخ بإسناده عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم، قال: أيما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من مقام عشرة أيام وجب عليه

ص: 209


1- تعاليق مبسوطة : 4/384.
2- منهج الصالحين : ج1، ص 225، المسألة – 1257.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب11، ح1.
4- ملخص ما في الجواهر : 14/280 ونقله عن الرياض.

الصيام والتمام أبداً، وإن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير والإفطار)(1).

والعشرة داخلة في الشق الثاني بوجهين:-

1- إنها بمثابة التصريح بالمفهوم المقابل للشق الأول فتكون شاملة للعشرة وما فوقها.

2- إن مثل هذا التعبير في شموله للحد وارد في القرآن الكريم كقوله تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» (النساء:11) أي الاثنتان فما زاد وكذا في الروايات وكلمات الفقهاء حينما يذكرون عدم العفو عما زاد عن الدرهم من الدم والمراد به الدرهم فما زاد.

فالرواية تامة الدلالة على المطلوب، لكن سندها قابل للمناقشة من جهتين:-

1- ورود إسماعيل بن مرار في سندها وهو مجهول وقد قيل في دفع هذا الإشكال وجهان:-

أ- ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره)(2) من أن إسماعيل من رجال نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى وأن هذه الرواية قد رواها الشيخ في التهذيب من كتابه(3)، وقد استثنى ابن الوليد شيخ الصدوق وتبعه القمّيّون من رجال النوادر جماعة فصرح بعدم العمل برواياتهم(4)، بل قدصرح الصدوق بضعف بعضهم ولم

ص: 210


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب12، ح1.
2- المستمسك : 8/80.
3- التهذيب : ج4، كتاب الصيام، باب حكم المسافر والمريض في الصيام، ح14 وقد رواها محمد بن أحمد بن يحيى عن إبراهيم بن هاشم عن إسماعيل بن مرّار عن يونس.
4- قال النجاشي : ((محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري كان ثقة في الحديث إلا أن أصحابنا قالوا كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمن أخذ، وما عليه في نفسه مطعن في شيء، وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواياته ما رواه عن ... وذكر عدة أسماء ثم قال: قال أبو العباس بن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله وتبعه أبو جعفر بن بابويه (رحمه الله) على ذلك)) معجم رجال الحديث : 15/51.

يذكر الرجل في تلك الجماعة، فعدم الاستثناء يكشف عن الاعتماد على رواياته وكفى بذلك مصححاً على حد تعبيره (قدس سره).

وقد رده السيد الخوئي (قدس سره) بقوله (ان العمل بروايات الشخص لا يستلزم منه توثيقه لعدم العلم بمبنى العمل فلعل مستنده كبرى لا نقول بها كالبناء على أصالة العدالة كما هو مسلك العلامة وغيره).

لكن يمكن رده بوجهين:-

1 - إن الاستثناء لو كان بلحاظ الروايات لتم ما قاله لكن الاستثناء كان للأشخاص فيكون المستفاد توثيق الشخص ولا أقل من العمل برواياته في هذا الكتاب والرواية هذه منقولة منه.

2 ً- إن الاستثناء حتى لو كان بلحاظ الروايات فإن هذه الرواية وردت في كتاب النوادر ولم تُستثنَ ونحن هنا لسنا بصدد توثيق الراوي وإنما قبول الرواية.

لكن الإنصاف أن كلا الوجهين لا ينفعان لأن غاية ما يدل عليه عدم الطعن في الرواية من وجهة نظر ابن الوليد وهو غير ملزم لغيره لاختلاف المباني في قبول الروايات وتوثيق الرجال.

ب- ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره)(1)

من ((أن إسماعيل مذكور في أسانيد علي بن إبراهيم وقد التزم هو في تفسيره -كجعفر بن محمد بن قولويه في كامله- بأن لا يروي إلا عن الثقة، فكانت هذه منه شهادة عامة بتوثيق كل من وقع في إسناد التفسير ولا بد من الأخذ به فإنه لا يقل عن توثيق مثل النجاشي بل هو أعظم لكون عهده أقرب)).

ص: 211


1- مستند العروة الوثقى: 8/176.

لكن هذه الكبرى غير تامة إذ لا يستفاد منها أكثر من توثيق الرواة المباشرين الذين يروي عنهم أو أن الروايات المذكورة موافقة لما عليه الثقات من الأصحاب ولا يدل على توثيق كل رجال الإسناد، قال الحر العاملي في الوسائل: ((وقد شهد علي بن إبراهيم أيضاً بثبوت أحاديث تفسيره وإنها مروية عن الثقات عن الأئمة (عليهم السلام) وكذلك جعفر بن محمد بن قولويه فإنه صرّح بما هو أبلغ من ذلك في أول مزاره))(1)

يشير بها إلى قوله (قدس سره) في مقدمة كتابه (كامل الزيارات): ((وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكنه ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا (رحمهم الله برحمته) ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذّاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم)) فاستفاد المحدثالنوري من هذا البيان شهادة بن قولويه بوثاقة مشايخه فقط، وهم الذين صدَّر بهم سند أحاديث كتابه دون بقية رجال السند(2)

وقد نقل أن السيد الخوئي (قدس سره) عدل عن هذه الكبرى لاحقاً.

2- من حيث الإرسال فإن يونس يرويها عن بعض رجاله وهو مجهول، وقد سلّم السيد الخوئي (قدس سره) بهذا الإشكال ولم ينفع في ردّه أن يونس من أصحاب الإجماع الذين اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، ونفى أن يكون المراد عدم النظر إلى من بعد هؤلاء ممن وقع في السند بحيث يعامل معه معاملة الصحيح وإن كان الراوي مجهولاً بل المراد اتفاق الكل على جلالة هؤلاء ووثاقتهم بحيث لم يختلف في ذلك اثنان وبذلك يمتازون عن غير أصحاب الإجماع(3).

ص: 212


1- خاتمة الوسائل : الفائدة السادسة، ج20، ص68.
2- قواعد الحديث للغريفي : 186.
3- مستند العروة الوثقى: 8/175.

لكننا كتبنا بحثاً مفصلاً(1) في هذه النظرية أي مراسيل محمد بن أبي عمير ونظرائه كيونس الذي عدّوه أفقه من ابن عمير وأن الأصل في هذه الدعوى وهو كلام الشيخ الطوسي في العدة لم يقتصر على الثلاثة محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وإنما قال وغيرهم ونحن وإن كنّا لا ندّعي تعميمها إلى كل أصحاب الإجماع لعدم الدليل إلا أن تعميمها لمثل يونس ليس بعيداً لما ذكره وكانت النتيجة أن الإرسال لا يضرّ بها من هذه الجهة خصوصاً إذا عبر بمثل ما في المقام بقوله: (عن بعض رجاله) فإنها تشير إلى درجة عالية من الوثاقة ولا يبعد أنه عبد الله بن سنان كما في الرواية الآتية لاتحاد السند والموضوع تقريباً أما دقة المضمون فيمكن أن يكون بعض رجال السند نقله في ضوء فهمه لموضوعية العشرة وكونها حداً، نعم، إن هذه المراسيل قابلة للقدح من جهات أخر، أي لو حصلت قرائن على الخلاف، هذا فيما لو لم يذكر اسم من يروي عنه يونس وأمثاله أما إذا ذكر فلا بد من التحقيق فيه لأن ذكر يونس له لعله للخروج من عهدة توثيقه وتحمل مسؤوليته.

فالإشكال في السند ثابت ولا يرقى ما قلناه من الوجوه إلى درجة الاطمئنان.

الثالث: ما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق في من لا يحضره الفقيه بالإسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المكاري إذا لم يستقر في منزله إلا خمسة أيام أو أقل قصّر في سفره بالنهار وأتم صلاة الليل وعليه صيام شهر رمضان، فإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر قصر في سفره وأفطر)(2)

وروى الشيخ أيضاً بالإسناد عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان مثله إلا أنه أسقط قوله: (وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيامأو أكثر)(3).

ص: 213


1- فقه الخلاف: 1/339، ط. الأولى، وسيأتي في فقه الخلاف: 6/209، ط. الثانية.
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر : باب12، ح5.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر : باب12، ح6.

وإذا نوقش في إسماعيل بن مرار في سند الرواية الثانية فإن طريق الشيخ الصدوق (رحمه الله) إلى عبد الله بن سنان صحيح.

وعلق صاحب الوسائل على هذا الحديث بقوله: ((قد عمل بعض الأصحاب بظاهر حكم الخمسة، وأكثرهم حملوا تقصير الصلاة بالنهار على سقوط النوافل وحكموا بالإتمام، ويمكن حمل حكم الخمسة هنا على التقية لموافقته لكثير من العامة)) يريد أن يقول أن أكثر الأصحاب أعرضوا عن العمل بظاهر صدر الحديث بالنسبة للخمسة وهو ما سنناقشه لاحقاً بإذن الله تعالى ومحل الاستدلال هو النصف الثاني من الرواية أي قوله (عليه السلام): (فإن كان له مقام ... إلخ).

وقد أضاف هذا الحديث شيئاً جديداً وهو أن قاطعية الإقامة عشرة أيام لحكم التمام لا تختص بالبلد الذي يسافر إليه وإنما تتحقق بالإقامة في منزله أيضاً بقوله (عليه السلام): (وينصرف) بناءً على دلالتها على تنوّع السبب وليس الاتحاد بين جزئيه.

وبقرينة المقابلة بين الصدر والذيل يكون السفر المذكور في الصدر من منزله والسفر المذكور في الذيل من البلد الذي سافر إليه وأقام فيه فيقصّر فيه ويفطر.

وفي الحقيقة فإن علينا أن نقدم فهماً مقبولاً للرواية ويجنبنا الاستبعادات والثغرات التي ذكرناها سابقاً والتي نجملها فيما يلي مع إضافة أمور أخرى:-

1- التفريق بين صلاة النهار وصلاة الليل فيقصر في الأولى ويتم في الثانية وحملهما على النوافل بمعنى ترك نوافل النهار وأداء نوافل الليل -كما قال صاحب الوسائل- بعيد.

2- التفكيك في الملازمة بين صلاة التمام والصوم فيصلي قصراً في النهار لكنه يصوم. (كما في صدر الرواية) وعاد إلى الملازمة بينهما في الذيل من دون تعليل واضح.

3- القصر في السفر إذا أقام في منزله خمسة أيام أو أقل الشاملة ليوم أو بعض

ص: 214

يوم وهو مما لا يلتزم به أحد.

4- إن المكث في المنزل أو البلد الذي يسافر إليه عشرة أيام طبيعي جداً في ذلك الزمان خصوصاً في الأسفار البعيدة وتخصيص الحكم بما سوى هؤلاء بعيد لأنه تخصيص بالفرد النادر وهو قبيح والتخصص أبعد أي انتفاء عنوان (المكاراة) مطلقاً بالإقامة هذه المدة.

5- إن عنوان (من عمله السفر) يصدق بالعزم على مزاولة المهنة والشروع فيها فلو فرضنا أن حكم التمام أو عنوان المكاراة انقطع بالإقامة عشرة أيام فإنه يعود إلى الحكم بمجرد الشروع من جديد فلماذا يقصّر في السفرة الأولى؟

6- إن إطلاق الروايات يفيد أن إقامة العشرة في البلد الذي يسافر إليه قاطعة لحكم التمام سواء كانت منوية أو غير منوية كما التزم به صاحب العروة الوثقى فيالنص الذي نقلناه وبالغ فيه فقال في العشرة في بلده بلا فرق بين أن تكون منوية أو غير منوية والإقامة في الوطن لا تحتاج إلى نية، واستظهر شيخنا الأستاذ الفياض أن تكون منوية في بلده(1)

وعلى الثاني فإنه لا يحتاج إلى سفر لكي يقصر لأنه في سفر فعلي لذا اشترط بعضهم أن تكون العشرة منوية كما في منهاج الصالحين(2)

للسيد الخوئي (قدس سره).

7- اشتراط الإقامة عشرة أيام في المنزل الذي يسافر إليه وعشرة في منزله كشرط واحد لقصر الصلاة بناءً على فهم الاتحاد والجمع من الواو في (وينصرف) وهو الظاهر ما لم تدل على خلافه قرينة وهي غير موجودة في المقام والمشهور أو الإجماع الذي التزم بذلك ليس بحجة وهذا ما لم يقل به احد، فلا يبقى وجه لما قالوه.

وبتعبير آخر: يقول إنه إذا كان دليل المشهور على قاطعية العشرة لحكم التمام صحيحة عبد الله بن سنان فهي تشترط إقامة عشرة في البلد المسافر إليه وعشرة في الوطن وهذا ما لم يلتزم به احد فما هو دليلهم إذن.

أقول: وفي ضوء هذه التساؤلات فإننا لا بد أن نفهم الرواية بالشكل الذي يجنبنا

ص: 215


1- تعاليق مبسوطة : 4/387.
2- منهاج الصالحين، للسيد الخوئي: العبادات، مسألة (917).

إياها ولا يسعنا أن نطوي عنها كشحاً بعد الاعتراف بصحة سندها كما فعل شيخنا الأستاذ الفياض(1) ولعله (دام ظله) حين وصف الرواية بالضعف لم يلحظ طريقها الآخر الصحيح، وهنا شكلان من الفهم:

الشكل الأول: أن نقول أن العشرة هنا لم تؤخذ من باب الحد أي لا على نحو الموضوعية وإنما على نحو الطريقية لبيان انقطاع حكم المكاري من الإتمام في السفر من خلال انتفاء موضوعه أي عنوان المكاراة أو انتفاء عنوان أن عمله السفر فإن من يستأجر سيارته من النجف إلى كربلاء كل ليلة جمعة ويمضي بقية الأيام في النجف لا يصدق عليه أن عمله السفر، ومن يؤجر نفسه لخدمة الحجاج في السنة ثلاثة أسابيع أو شهر لا يصدق عليه أن عمله السفر، وهكذا فهذه المدد ذكرت بإزاء هذا المعنى الذي ربما يلوح من كلمات المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع فإنه بعد أن ذكر شروط قصر الصلاة للمسافر ومنها ((أن لا يكون سفره أكثر من حضره)) قال (قدس سره): ((وضابطه أن لا يقيم في بلده عشرة أيام، فلو أقام أحدهم عشرة ثم أنشأ سفراً قصّر)) فقوله: ((وضابطه)) ظاهر في قدح هذه المدة بصدق العنوان وليست أمراً تعبدياً. وقد تقدم تعريف السيد الخوئي (قدس سره) لعملية السفر بأنها ((تتوقف على العزم على المزاولة مرة بعد أخرى، على نحو لا تكون له فترة غير معتادة لمن يتخذ ذلك السفر عملاً له)).

وقد استبعد السيد الخوئي (قدس سره) هذا المعنى فقال (قدس سره):((لوضوح عدم خروج المكاري بإقامة العشرة عن كونه مكارياً ولا سيما في الأزمنة السابقة التي كانت تطول فيها مدة الأسفار فكان المكاري يسافر من العراق إلى خراسان مدة شهرين تقريباً، وبعد عوده إلى بلده يبقى لعله شهراً ثم يأخذ في السفرة الأخرى وهكذا)).

واستبعاده (قدس سره) مبني على فهم الخروج عن العنوان حقيقة لكن من قاله يقصد الخروج الحكمي التنزيلي بمعنى عدم ترتيب الآثار الشرعية عليه

ص: 216


1- تعاليق مبسوطة : 4/384-385.

فكأنه بمنزلة من انتفى عنه العنوان، قال أستاذه الكبير الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سره): ((إن الإقامة المذكورة رافعة للموضوع اعتباراً وتنزيلاً ويترتب على كون الإقامة رافعة للموضوع كون المسافر بعد الإقامة كالمبتدئ بالسفر لا بد في إتمامه من سفرتين أو ثلاث على الخلاف وهو يتوقف على تنزيل المكاري مع الإقامة منزلة من لم يكن مكارياً نظير تنزيل المقيم في أخبار عرفات منزلة أهل مكة بعنوانه في لسان الأخبار)) ولم يستظهره لعدم دلالة الروايات على أزيد من أن المقيم يجب عليه القصر في سفره ويرتفع عنه وجوب التمام مضافاً إلى أن ظاهر التعليل بقوله (عليه السلام): (لأنه عملهم) أن الكبرى الكلية من كان عمله السفر يتم ولا يزول هذا العنوان إلا بالإعراض عن الحرفة لا بإقامة العشرة فمع انحفاظ العنوان وقصور دليل الشرطية في غير السفرة الأولى يجب العمل بتلك الكبرى الكلية. لكنه نسبه إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) فقال: ((وعن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في بعض تحريراته في صلاة المسافر تقوية رافعية الإقامة للموضوع شرعاً وأنه لا بد بعد الإقامة من تحقق سفرتين أو ثلاث كالابتداء بدعوى استفادته من صحيحة هشام المتضمنة لقوله (عليه السلام): يختلف وليس له مقام، فإنه علّق وجوب التمام على الاختلاف غير المقرون بالإقامة فإذا تحققت الإقامة فلا يجوز الإتمام))(1)

وقد ناقشناه.

الشكل الثاني: ويتكون من عدة معطيات يمكن استظهارها من الرواية وهي:-

1- إن المدد هنا ذكرت للمثال على ما سيأتي ولم يلحظ فيها الحد.

2- إن (المقام) هنا بمعنى التوطن كما ورد في قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» (الأحزاب : من الآية 13).

3- إن المراد بصلاة النهار أي الصلاة التي يؤديها في طريق السفر لأن السفر يكون في النهار ويعتبر ما يقطعه المسافر في اليوم مقياساً للمسافة فالمسافة الشرعية للقصر وهي ثمانية فراسخ هي مسيرة يوم، ففي موثقة سماعة (عن

ص: 217


1- صلاة المسافر، للسيد محمد حسين الاصفهاني: 99، طبعة جماعة المدرسين.

المسافر في كم يقصر الصلاة؟ فقال: في مسيرة يوم وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ)(1)

وصحيح أبي أيوب: (سألته عن التقصير، قال: فقال: في بريدين أو بياض يوم)(2).

والمراد بصلاة الليل الصلاة التي يؤديها في المنزل الذي يقيم فيه وينهيسفره.

وحينئذ نخرج بنتيجة وهي أن الشخص الذي يكون منزله في بلد وعمله في بلد آخر ويتردد بينهما بغضّ النظر عن مدة مكثه في أي من البلدين له حالتان:

الأولى: أن يتوطن ذلك البلد الآخر ويأتي بين فترة وأخرى مع قطع النظر عن مقدارها ليتفقد أهله ويرعى مصالحه ويدبّر شؤونه ونحوها كبعض طلبة العلوم الدينية الوافدين على النجف الأشرف ويتخذونها وطناً لهم من دون قطع العلاقة التي ذكرناها ببلدهم الأصلي أو كالطالب الجامعي الذي يتخذ من الأقسام الداخلية لجامعته وطناً له بهذا المعنى أو كالمهندس المقيم في مشروع معين بعيداً عن وطنه أو كالعمال في مصانع أو مناجم بعيدة عن حريم المدن.

الثانية: أن لا يتوطن ذلك المكان وإنما يبقى يتردد إليه بحكم عمله كالموظف أو الأستاذ الجامعي أو الطبيب وغيرهم ممن ذكرنا من العناوين في الحالة الأولى ولكن من دون اتخاذ البلد الآخر وطناً له.

فوظيفة الأول الصلاة تماماً في البلد الآخر ويقصر في الطريق لأنه لا يصدق عليه أن عمله السفر باعتباره ليس مسافراً في البلد الآخر وإنما هو متوطن وسفره في قطع المسافة فقط كأي مسافر اعتيادي.

أما الثاني فيتم في البلد الآخر وفي الطريق ذهاباً وإياباً لصدق أن عمله السفر.

فالرواية حينما قالت يقصر في سفره بالنهار أي في الطريق لأن السفر

ص: 218


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح8.

يكون نهاراً ويتم صلاة الليل أي الفرائض التي يؤديها في المنزل الذي اتخذه وطناً ويصوم رمضان طبعاً في هذا المنزل أما الطريق فله أن يفطر وعليه نحمل الشق الثاني من الرواية.

ولا عبرة حينئذٍ بأيام المكث سواء كانت خمسة أو عشرة أو أكثر أو أقل في كلا المنزلين.

ويساعد الاعتبار والعرف على هذا الفهم للرواية لأن الأول لا يصدق عليه أن عمله السفر لأن اتخاذه للبلد الآخر وطناً ينفي عنه الموضوع ولا يسمى مسافراً بل هو حاضر متوطن أما الثاني فيصدق عليه العنوان حتى وإن أقام عشرة أيام غاية الأمر أنه يكون (مسافراً مقيماً) وحينئذٍ يلتقي هذا الفهم مع ما فهمناه من القاطع الأول وهو (من جدَّ في سفره) بأنه يعني من أنشأ سفراً جديداً لا يعتبر عملاً له فيصلي قصراً في الطريق وتماماً في المنزلين بحسب ما أفادته مرفوعة عمران بن محمد وقد فسر الشيخ الطوسي قوله (عليه السلام): (فليقصرا) و(فليقصروا) في صحيحتي محمد بن مسلم والفضل بن عبد الملك أنه في الطريق والتمام في المنزل(1)

ورجع المعنيان إلى معنى واحد بأن من عمله السفر الشاملة لمن عمله في السفر ما دام في سفر لا يصدق عليه أنه عملٌ له فليصلي قصراً في هذا السفر دون المنزل الذي هو محل عمله.

وفي حدود المصادر التي راجعتها فإني لم أجد من يفتي على طبق هذا إلاالسيد الشهيد الصدر الأول في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة)(2)

والشيخ الفياض (دام ظله) -الذي عرفته يجلّ ويحترم آراء الأول في الفقه والأصول- في رسالته (منهاج الصالحين) وقد ذكر أمثلة تفصيلية لتقريب الفكرة وقد استندا في هذا الاستنباط على الاعتبار العرفي المتقدم وليس للأول كتاب استدلالي يتضمن هذه المسألة حتى أعرف تحليله للرواية أما الثاني فقد رفض العمل بها كما تقدم رغم أنها تفيد مطلوبه.

وقد عبّر الشيخ الفياض عن الفرق بين الحالتين بوصف الثاني بأن السفر

ص: 219


1- التهذيب : ج3، كتاب الصلاة، أبواب الزيارات، باب 23، الصلاة في السفر.
2- الفتاوى الواضحة، ص 330.

((حالة عامة)) له دون الأول فقال: ((إنَّ قصد الإقامة ليس كقصد التوطن، لأن الأول قاطع لحكم السفر لا لموضوعه وهو السفر فإنه مسافر مقيم، والثاني قاطع للموضوع، فإنه حاضر ومتواجد في وطنه لا أنه مسافر، وعليه فيكون سفره في المقام حالة عامة لعمله ويكون التمام في كل حالته مستنداً إليه، لا إلى إقامته فيه عشرة أيام فإن وظيفته التمام فيه وفي الطريق ذهاباً وإياباً من جهة أنه في تمام حالات عمله مسافر))(1).

وهو إن أراد الإيضاح بهذا الوصف فلا بأس أما إذا أراد التقييد فإنه يقع في محذور من التزم بعنوان (كثير السفر) وقد لخص الحكم بقوله لاحقاً: ((إنّ من كان له محل عمل يبعد عن بلدته بقدر المسافة الشرعية أو أكثر فيسافر للعمل هناك، فإنه يتم صلاته في الطريق ذهاباً وإياباً وفي محل عمله، شريطة أن لا يكون محل العمل مقراً ووطناً له))(2).

في حين لا نجد عيناً ولا أثراً لمثل هذه التفصيلات الدقيقة عند غيرهما من المعاصرين فلله الحمد على ما ألهم وله الشكر على ما أخّر وقدّم.

إن قلتَ: ما وجه صلاة التمام في بلد عمله بعد أن سلبت عنه صفة (من عمله السفر) خصوصاً على مبنى من لا يرى صحة تعدد الوطن كسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره).

قلتُ: إن لصلاة التمام في البلد الذي استوطنه من أجل عمله وجهين:

الأول: صدق التوطن عرفاً ولغة، فإن الوطن هو المنزل الذي تقيم فيه ويقال وطّن فلان أرض كذا وكذا أي اتخذها محلاً ومسكناً يقيم فيه(3)

وسيدنا الأستاذ الشهيد حينما منع من تعدد الأوطان لأنه يرى عدم مساعدة العرف عليه، قال (قدس سره): ((لا يبدو أن هذا -وهو الصدق العرفي لوجود وطنين للإنسان- مستساغ عرفاً، فإن الناس عادة يتوطنون بلداً واحداً، وهذه العادة

ص: 220


1- منهاج الصالحين : ج1، ص367.
2- منهاج الصالحين، ج1، ص 370.
3- نقلها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) عن المصادر اللغوية في ما وراء الفقه : 1/439، طبعة بيروت.

تنتج فهماً عرفياً في طولها يقول: إن الوطن لا يكون إلا واحداً))(1).

لكننا ندعي العكس لأن أجيال الفقهاء قالت به وهم أبناء العرف واللغة ولا نجد ضيراً في أن يكون للإنسان وطن حقيقي ينتسب إليه وآخر اتخاذي بسبب طبيعة ظروفه الاجتماعية وأضافوا ثالثاً وهو الوطن الشرعي قال عنه السيد الشهيد (قدس سره) ((هناك شيء يسمى بالوطن الشرعي، وهو المكان الذي لا يكون وطناً عرفياً ولا اتخاذياً، وإنما هو مكان له فيه ملك ولو نخلة وكان قد سكن فيه ستة أشهر فصاعداً. الأمر الذي يوجب أن يتم فيه صلاته بحكم الشارع تعبداً، وهو معنى الوطن الشرعي وقد وردت في ذلك رواية معتبرة سنداً، عمل بها عدد من الفقهاء))(2).

الثاني: إننا لا نحتاج إلى دليل على كون الصلاة تماماً أي رباعية لأنها أصل الفرض وإنما نحتاج دليلاً على التقصير وهو حكم المسافر والعرف لا يسمي هذا المتوطن مسافراً ويفرق بوضوح بينه وبين المسافر حتى لو أقام فيسميه (مسافراً مقيماً) فهو نظير (من بيوتهم معهم) فإنه يتم في أي منزلٍ لعدم صدق السفر عليه وهو خارج عن حكم التمام موضوعاً وتخصصاً لا تخصيصاً.

الثالث: إن الروايات لا تأبى ذلك ولا تشير ولا واحدة إلى نفي حالة التعدد وغاية ما أفادت وضع ضابطة لصدق الوطن وهي يمكن أن تنطبق على بلد أو أكثر وقد دلّ بعضها بالمنطوق وبعضها بالمفهوم كصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) أنه قال: (كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير) وصحيحه الآخر (كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل، وليس لك أن تتم فيه) وصحيح سعد بن أبي خلف قال: سأل علي بن يقطين أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن الدار تكون للرجل بمصر والضيعة فيمر بها، قال: إن كان مما قد سكنه أتمَّ فيه الصلاة وإن كان مما لم يسكنه فليقصر)(3) وغيرها.

ص: 221


1- ما وراء الفقه : 1/440 طبعة بيروت.
2- ما وراء الفقه : 1/442.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب4، أحاديث 1، 6، 9.

وقد يضعّف في النفس هذا الفهم أن هذه الحالات المذكورة إنما أفرزتها طبيعة الحياة اليوم ولا يمكن تطبيق الرواية إلا على زمانها المختلف عن نمط الحياة المعاصرة.

ولكننا نجد إمكان التطبيق لأن بغداد عاصمة الدولة الإسلامية يومئذٍ وحواضر الإسلام الأخرى كانت تشهد نشاطاً صناعياً وتجارياً وعلمياً واسعاً وتستقطب أبناء مدن مختلفة بنفس الحال الذي نشهده اليوم وإن الراوي عبد الله بن سنان هو كوفي كان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد، قاله النجاشي(1).

وقد أجبنا بفضل الله تبارك وتعالى من خلال عرض معطيات هذه الفكرة على الإشكالات المتقدمة على الأخذ بظاهر الرواية.

وفي الحقيقة فإن افتراض أن العشرة لم تذكر للحد إذا أمكن قبوله في صحيحة عبد الله بن سنان فإنه لا يمكن قبوله في مرسلة يونس التي يظهر فيها موضوعية العشرة حيث أخذت كحدٍ فاصلٍ بين ما قبلها وما بعدها لكننا لم نفلح في تصحيح سندها ولو تمَّ ولو بالانجبار بالشهرة عند من يقول به مع تمامية دلالتها فتصلح حينئذٍ للدلالةعلى قاطعية إقامة العشرة أيام للحكم بوجوب التمام ولا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام في أول سفرة بعد الإقامة تعبداً بالنص.

أما صحيحة ابن سنان فتبقى دالة على المعطيات المتقدمة ومقومة لمرسلة يونس ولا يضر بحجيتها بهذا الجزء عدم قبول جزئها الآخر وهو ما دون الخمسة أيام حيث لم يلتزم به أحد وهي كبرى معروفة وصحيحة.

وأعود إلى القائلين بقاطعية العشرة لحكم التمام فأقول: إنني لا أفهم معنى لانقطاع الحكم بالتمام إذا أقام عشرة أيام خصوصاً على مباني السيد الخوئي (قدس سره) وهو ممن قال بهذه القاطعية وأن العشرة يشترط فيها أن تكون منوية لأن المقيم ما دام ناوياً للإقامة عشرة أيام فصلاته تمام لأجل الإقامة

ص: 222


1- معجم رجال الحديث : 10/218.

وبمجرد إنشائه السفر قاصداً مزاولة المهنة وعازماً على الاستمرار فيها فإنه يصلي تماماً لصدق عنوان أن عمله السفر فأين موضوع القاطعية؟

ونفس الكلام يجري مع أستاذه الشيخ محمد حسين الأصفهاني الذي قال: ((المعروف بل قيل أنه مقطوع به بين الأصحاب أن يعتبر في الإتمام على المكاري وغيره عدم الإقامة عشرة أيام ويكفي في أصل اعتباره مرسلة يونس المنجبر إرسالها بعمل الأصحاب، ولا يلتفت إلى ما عن بعض المتأخرين من الخدشة في سندها))(1).

وهو (قدس سره) ممن يقوي وجوب التمام على المكاري من أول سفرة.

فإن قيل في دفع الإشكال: أن العشرة غير منوية فلا يجب التمام من هذه الناحية.

قلنا: إن تحقق القاطعية بالمنوية مما لا خلاف فيه عندهم وإنما الخلاف في غير المنوية مضافاً إلى ورود ما قلناه سابقاً على غير المنوية من أنه حينئذٍ في حالة سفر فيه فلماذا يحتاج إنشاء سفر لكي يقصر؟

فإن قلتَ: إنه لا يعلم ببقائه عشرة أيام من أول الأمر فيستصحب تكليفه بالتمام إلى حين تحقق العشرة.

قلتُ: لازم ذلك التقصير بعد العشرة حتى وإن لم يسافر وهذا مما لم يقل به أحد منهم مضافاً إلى ورود (عشرة أو أكثر) في الرواية.

وقد فرّعوا على الحكم بانقطاع عملية السفر للمكاري بإقامة عشرة أيام وتخصيص الحكم بوجوب الصلاة تماماً بمقتضى الروايات المتقدمة عدة فروع:

منها: هل أن هذا الحكم خاص بالمكاري أم يعم مطلق من عمله السفر كالملاح والساعي ونحوهما؟

مقتضى التوقف على حدود النص والرجوع في ما زاد عليه إلى الحكم الأصلي القاضي بوجوب التمام على تلك العناوين وقد اختاره السيد الخوئي (قدس سره) واستظهره المحقق في الشرائع.

ص: 223


1- صلاة المسافر، للسيد محمد حسين الاصفهاني: 97، طبعة جماعة المدرسين.

واختار التعميم السيد اليزدي (قدس سره) في العروة الوثقى(1)

وذكر له وجه وهو الإجماع المدعى على الملازمة بين المكاري وغيره وأن كل من عمله السفروظيفته التقصير بعد إقامة عشرة أيام، وإنما ذكر المكاري في النص من باب المثال دون خصوصية فيه، قال صاحب الجواهر: ((وكيف كان فلا فرق في انقطاع حكم الكثرة وغيرها مما ذكرنا بين المكاري وغيره بلا خلاف محقق أجده فيه وإن اختص النص بالأول، لعموم معقد الإجماع والقطع بعدم الفرق بعد أن كان المناط عملية السفر المنقطع حكمها بإقامة العشرة))(2).

ونحن نقول: إن التعميم وعدمه مبني على فهم وجه قاطعية العشرة لحكم التمام هل هو حكم تعبدي أم لا لانتفاء عنوان من عمله السفر أو عنوان المكاري فعلى الأول يجب القول بالاختصاص وعلى الباقي يمكن التعميم في ضوء صحة الحمل وصحة السلب.

ومنها: أن العشرة أيام القاطعة للحكم التي يقيمها في منزله أو المنزل الآخر هل يشترط فيها أن تكون منوية أم لا فاختار السيد الخوئي (قدس سره) كونها منوية في البلد الذي يسافر إليه وكونها مطلقة في بلده، واختار السيد في العروة مجرد البقاء وان لم تكن منوية حتى في المنزل الآخر ولكنه احتاط بالجمع في ذلك المنزل والغريب أن يشترط شيخنا الأستاذ الفياض في العشرة التي يقيمها في بلده أن تكون منوية(3)

والإقامة في الوطن لا تحتاج إلى نية أو يفسر لنا النية بوجه مقبول وعلى أي حال فقد تقدمت المناقشات في هذا التفصيل.

ص: 224


1- مستند العروة الوثقى : 8/180.
2- جواهر الكلام : 14/283.
3- تعاليق مبسوطة : 4/387.

فروع

الأول: توجد مقالة اشتهرت بين طلبة العلم الذين يرجعون إلى سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حاصلها أن (الصلاة بين التمام والتمام تمام) وقد يكون منشؤها السؤال الشفهي أو الاستقراء من الأجوبة وربما استفيد الحكم من إطلاق ما ورد في قوله (قدس سره): ((إذا كان عمله السفر، أتم ما دام خارجاً في عمله كالسائق سواء كان ذاهباً أم عائداً، وكذلك كثير السفر ما دام العنوان صادقاً عرفاً سواء كان ذاهباً أم عائداً، وكذلك من عمله السفر كالتاجر والمعلم والطالب إذا خرجوا لأعمالهم، فإنهم يتمون في ذهابهم وبلد عملهم وفي طريق العودة أيضاً، ويتمون أيضاً في بلد سكناهم، وكذلك من يدور في عمله بين البلدان، وأما إذا كان السفر لسبب آخر غير العمل فقصّر ذاهباً وراجعاً، فالمهم أنه متى كان الذهاب سبباً للقصر كان العود كذلك))(1).

وقد تبين من خلال النتائج المتقدمة عدم صحة إطلاقها فإن بعض من يصلي تماماً في المنزلين يصلي قصراً في الطريق بينهما وقد مرّ أكثر من مصداق له:

1- من اتخذ محل عمله في البلد الآخر وطناً له.

2- من جدّ في سفره فإنه يقصر في الطريق دون المنزلين بحسب ما يقتضيه ظاهر الصحاح المتقدمة وتفسيرها في ضوء مرفوعة عمران بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقد تقدمت أيضاً بغضّ النظر عن المناقشات التي ذكرناها.

الثاني: لا يشترط في صدق (من عمله السفر) التعدد بخلاف من اشترط ثلاث سفرات أو سفرتين فلا يتم قبلها كما لا يقصر بعدها والصحيح هو الصدق العرفي فإذا عزم على اتخاذ المهنة وهيأ مقدماتها وشرع في أول سفرة فإنه يصدق عليه العنوان عرفاً ويجري عليه حكم التمام فإن الروايات لم تعلق الحكم على ذات العنوان كالمكاري أو السائق وإنما علقته عليه بقيد كونه عملاً له

ص: 225


1- منهج الصالحين، ج1، ص224، المسألة- 1250.

كصحيحة زرارة المتقدمة، فلو فرض أن شخصاً يملك سيارة يستعملها لقضاء حوائجه الشخصية وفي موسم الزيارة أو الأعياد رأى كثرة الزوار وارتفاع أجرة السيارة فآجر نفسه وسيارته فقد يطلق عليه المكاري في خصوص تلك الرحلة لكنه لا يتم في صلاته لعدم صدق عنوان (من عمله السفر).

وقد تقدم الوجه في رفع إشكال التعارض بين هذا الرأي المختار والروايات التي وصفت المكاري بأنه (يختلف) المتضمنة لمعنى التعدد.

وما يمكن أن يستدل به على لزوم التعدد أمور تقدمت ونشير إليها باختصار:-

1-

مكاتبة محمد بن جزك الموجودة في موضع آخر من البحث وهي أجنبية عن المقام وناظرة إلى المورد الذي أوردناها فيه.

2- صحيحة هشام المتقدمة بتقريب أن الاختلاف هو التردد إلى الشيء بالذهاب والإياب ثم العود إليه فتدل على اعتبار التعدد وهو مردود بأن الاختلاف هنا ليسقيداً وإنما هو بيان لمقتضى عمل المكاري وشرح له.

3- ما ذكر من أن عنوان المكاري ونحوه لا يصدق على الشخص إلا بتكرار السفر منه.

وفيه مضافاً إلى عدم الدليل عليه فإنه تقدّم منّا أنَّ المناط ليس هو ذات العناوين وإنما صدق عنوان عملية السفر وهي غير متوقفة على التعدد، ومن هنا قال بعض الأعاظم: ((إن المحقق لعملية السفر اتخاذه شغلاً وحرفة والتلبس به فقط فيتم في السفرة الثانية، بل لولا مخالفة المشهور كان مقتضى القاعدة الإتمام في السفرة الأولى إذ لم ينقل القول بالإتمام في السفرة الأولى إلا من ابن فهد في الموجز وربما ينسب إلى ابن إدريس أيضاً))(1)

على أن التركيز على التعدد مما لا فائدة فيه ما لم يقترن بالقصد والعزم على احتراف المهنة فرجع إلى ما قلناه.

الثالث: لو كان سائقاً داخل المدينة أو إلى أحيائها القريبة كالكوفة والسهلة بالنسبة للنجف مما لا يصدق عليه اسم السفر حتى عرفاً فاتفق أن آجر

ص: 226


1- صلاة المسافر: 94.

نفسه إلى خارج المسافة الشرعية كبغداد أو كربلاء فإنه يقصر في صلاته لعدم صدق عنوان (عمله السفر) والإجارة المتعارفة له وإن كانت له شغلاً إلا أنها ليست سفراً فلا يشملها الحكم.

الرابع: لو كان السفر عملاً له ولكن إلى مدن دون المسافة الشرعية كأبي صخير بالنسبة للنجف فاتفق له السفر خارج المسافة فإنه يقصّر لأنه وإن كان عمله السفر إلا أن مثله مشكوك الدخول في حكم التمام الذي ورد في الروايات لأنها بقرينة التفصيل بين القصر والتمام ناظرة إلى من كان عمله السفر إلى المسافة الشرعية فلا يمكن التمسك بإطلاقها والفرد المشكوك يرجع حكمه إلى الأصل وهو وجوب القصر على المسافر وهذا مختار المعاصرين كالسيد الخوئي (قدس سره) والسيد السيستاني والشيخ الفياض (دام ظلهما) خلافاً للسيد صاحب العروة (قدس سره) الذي أفتى بوجوب التمام مع صدق عنوان المسافر فقال (قدس سره): ((من كان التردد إلى ما دون المسافة عملاً له كالحطاب ونحوه قصّر إذا سافر ولو للاحتطاب إلا إذا كان يصدق عليه المسافر عرفاً وإن لم يكن بحد المسافة الشرعية، فإنه يمكن أن يقال بوجوب التمام عليه إذا سافر بحد المسافة خصوصاً فيما هو شغله من الاحتطاب مثلاً))(1).

وربما تشهد للمختار موثقة لإسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الذين يكرون الدواب يختلفون كل الأيام أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال: نعم)(2)، وموثقته الأخرى (عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن المكارين الذين يكرون الدواب وقلت: يختلفون كل أيام كلما جاءهم شيء اختلفوا.فقال: عليهم التقصير، إذا سافروا)(3).

بتقريب أن اختلافهم كان في حدود البلد أو ما دون المسافة مما لا يعدُّ سفراً شرعياً لذا كان السؤال عن حالهم فيما لو أنشأوا سفراً شرعياً.

الخامس: إذا سافر السائق ونحوه ممن عمله السفر سفراً ليس من عمله

ص: 227


1- المسألة 28 في مستند العروة الوثقى : 8/172.
2- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب12، ح2.
3- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب12، ح3.

كما إذا سافر للحج أو الزيارة قصّر، نعم، لو حج أو زار في نفس السفر الذي هو عمله كما إذا آجر نفسه أو سيارته للحج أو الزيارة أتمّ وكل ذلك بحسب صدق عنوان عملية السفر.

السادس: من كان شغله السياقة في الصيف كتجار بعض المواد الغذائية من الحبوب فحكمه التمام ما دام العنوان صادقاً عليه ولم نشترط في صدق العنوان الدوام والاستمرار ويشهد له ورود مثل الاشتقان -وهو أمير البيادر- والجابي وعملهما في أوقات مخصوصة من السنة، وقد احتاط هنا بالجمع السيد صاحب العروة واستحسنه السيد الخوئي (قدس سرهما).

السابع: ليس (للحملدارية) وهم المتعهدون بنقل الحجاج الكرام إلى الديار المقدسة وخدمتهم ومساعدتهم في تأدية مناسك الحج حكم خاص يختلف عن حكم غيرهم في خضوعه للقاعدة فإن صدق عمله في السفر كبعض المتعهدين في الدول البعيدة كإندونيسيا وماليزيا الذين تستغرق سفرتهم أكثر من شهرين لطول مكثهم في الديار المقدسة أو لاقتضاء برنامجهم المرور على العتبات المقدسة في العراق وإيران وسوريا ونحوها ويمضي أكثر منها في تهيئة المقدمات بحيث يكون عمله عرفاً هو هذا فإنه يتم في سفره.

أما (الحملدارية) في بلادنا فلا يصدق عليهم هذا العنوان حيث لا تستغرق سفرتهم إلا عشرين يوماً أو أكثر بقليل وإلى مثل هذه الحالة نظرت مكاتبة صحيحة محمد بن جزك قال: (كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) إن لي جمالاً ولي قوّام عليها ولست أخرج فيها إلا في طريق مكة لرغبتي في الحج أو في الندرة إلى بعض المواضع، فما يجب عليَّ إذا أنا خرجت معهم أن أعمل أيجب عليَّ التقصير في الصلاة والصيام في السفر أو التمام؟ فوقّع (عليه السلام): إذا كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كل سفر إلا في مكة فعليك التقصير والإفطار)(1).

ص: 228


1- وسائل الشيعة : كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، باب12، ح4.

ابتدأت بتدوين الملاحظات على مصادر البحث يوم 8 جمادى الثانية 1427 المصادف 4/7/2006 وشرعت في كتابة البحث يوم 11 جمادى الثانية وانتهيت منه يوم 21 جمادى الثانية وهي فترة عصيبة شهدت تردي الوضع الأمني إلى أسوأ حالاته وكذا الخدمات من الكهرباء والوقود ولا زال العدو الصهيوني يلقي بحممه على الشعب اللبناني الشقيق فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 229

ص: 230

البحث السادس: حكم إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة

اشارة

ص: 231

ص: 232

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث السادس:حكم إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة

حكم إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة(1)

يوم الجمعة يوم شريف عظّمه الله تبارك وتعالى وجعله فرصة كبيرة لنيل رضاه بما بارك فيه لفاعل الحسنات، عن أبي بصير قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة)((2)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن يوم الجمعة سيد الأيام يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات، ويستجيب فيه الدعوات، وتكشف فيه الكربات، وتقضى فيه الحوائج العظام، وهو يوم المزيد لله فيه عتقاً وطلقاً من النار، ما دعى به أحدٌ من الناس وعرف حقه وحرمته إلا كان حقاً لله عز وجل أن يجعله من عتقائه وطلقائه من النار، فإن مات في يومه أو ليلته مات شهيداً وبُعث آمناً، وما استخف أحد بحرمته وضيّع حقه إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يصليه نار جهنم إلا أن يتوب)(3)، وروى الصدوق أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب في الجمعة فقال: (الحمد لله الولي الحميد... (إلى أن قال)... ألا إن هذا اليوم يوم جعله الله لكم عيداً وهو سيد أيامكم وأفضل أعيادكم، وقد أمركم الله في كتابه بالسعي فيه إلى ذكره، فلتعظم رغبتكم فيه، ولتخلص نيّتكم فيه، وأكثروا فيه التضرع والدعاء ومسألة الرحمة والمغفرة، فإن الله عز وجل يستجيب لكل من دعاه، ويورد النار من عصاه وكل مستكبر عن عبادته، قال الله عز وجل: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر: من الآية60) وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبدٌ مؤمن فيها

ص: 233


1- (*) بدأ إلقاء البحث يوم 4/ ربيع الثاني / 1428 الموافق 22/4/2007.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب40، ح2، 4، 12.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب40، ح2، 4، 12.

شيئاً إلا أعطاه)(1).

وقد فسّرت بعض الروايات الساعة بأنها وقت النداء لصلاة الجمعة فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (أول وقت الجمعة ساعة تزول الشمس إلى أن تمضي ساعة فحافظ عليها فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا يسأل الله عبد فيها خيراً إلا أعطاه)(2)

وفي رواية إنها هي وآخر ساعة من يوم الجمعة.

ومن أجل أن يعيش المسلم هذه الأجواء الإلهية المباركة يوم الجمعة وضع الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم برنامج عمل يهذبون به أنفسهم ويطهّرون أجسادهم ويذهبون درن أسبوع ماضٍ ويتزودون إمداداً لأسبوع قادم وقد حفلت كتب الأدعية والسنن والمستحبات بالكثير منها.

وتاج تلك الأعمال صلاة الجمعة المباركة بدعائها وركعتيها وجماعتهاوخطبتيها، وأحاطوا هذه الشعيرة المقدسة بعناية خاصة فأبانوا فضلها وثواب من يؤدّيها وحذّروا مِن ترْكها فعن الصادق (عليه السلام): (ما من قدمٍ سعت إلى الجمعة إلا حرّم الله جسدها على النار)(3)، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل)(4) أي غفر له ما مضى من ذنوبه وقيل له ابدأ العمل بصفحة بيضاء من جديد، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أما يوم الجمعة فيوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين فما من مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلا خفف الله عليه أهوال يوم القيامة ثم يؤمَر به إلى الجنة)(5)، وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علّة طبع الله على قلبه)(6)، وجاء إعرابي يشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدم الاستطاعة إلى الحج فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): (عليك بالجمعة فإنها حج المساكين)(7).

ومن هنا أوصى الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم بأن لا يضيّعوا وقتهم في هذا اليوم بغير ما يقرّبهم إلى الله زلفى، فعن جابر بن يزيد عن أبي جعفرٍ الباقر

ص: 234


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب40، ح2، 4، 12.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب8، ح13، ح19.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب1، ح7، 3، 9، 11، 17.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب1، ح7، 3، 9، 11، 17.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب1، ح7، 3، 9، 11، 17.
6- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب1، ح7، 3، 9، 11، 17.
7- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب1، ح7، 3، 9، 11، 17.

(عليه السلام) قال: (قلت له قول الله عز وجل: «فَاسَعَوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» (الجمعة:9) قال: قال (عليه السلام): اعملوا وعجلوا فإنه يوم مضيق على المسلمين فيه وثواب أعمال المسلمين فيه على قدر ما ضُيق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): والله لقد بلغني أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس لأنه يوم مضيّق على المسلمين)(1).

ونقل الشهيد الثاني في (رسالة الجمعة) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبة له: (إن الله تعالى فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا لا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برَّ له حتى يتوب)(2).

وقال جابر: كان أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يبكّر إلى المسجد يوم الجمعة حين تكون الشمس قدر رمح فإذا كان شهر رمضان يكون قبل ذلك وكان يقول: (إن لجُمع شهر رمضان على جمَع سائر الشهور فضلاً كفضل شهر رمضان على سائر الشهور)(3).

وفي هذا السياق قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فضَّل الله يوم الجمعة على غيرها من الأيام، وإن الجنان لتزخرف وتُزيَّن يوم الجمعة لمن أتاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وإن أبواب السماء لتفتح لصعود أعمالالعباد)(4).

وكانوا ينهون شيعتهم عن اللغو واللهو ومضيعة الوقت يوم الجمعة أكثر من غيره فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا رأيتم الشيخ يحدّث

ص: 235


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب31، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب1، ح28.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب27، ح2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب42، ح1.

يوم الجمعة بأحاديث الجاهلية فارموا رأسه ولو بالحصى)(1).

حتى أن الأمر ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) بإخراج السجناء للمشاركة في صلاة الجمعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن على الإمام أن يخرج المحبَسين في الدَين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد ويرسل معهم فإذا قضوا ردّّهَم إلى السجن)(2).

هذه الفريضة الإلهية العظيمة حُرِم منها أجيال من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على مدى قرون حينما أُقصي أئمتهم (عليهم السلام) عن قيادة الأمة وتقمَّصها من ليس أهلاً لها وكانت صلاة الجمعة من وظائف الأمير التي لا يمكن مزاحمته فيها وإلا عُدَّ خروجاً وتمرداً على الدولة.

وقد ولَّد طول الإقصاء وعدم أداء الفريضة شعوراً بعدم وجوبها وإمكانية اختيار صلاة الظهر بدلاً عنها وهذا الشعور يمكن قبوله مع وجود المحذور المتقدم أما بعد انحسار اسم الخلافة وفصل الدين عن الدولة بحيث أصبحت السلطات لا ترى من واجباتها القيام بالوظائف الدينية ولا ترى من يؤديها مزاحماً لها في سلطانها فلماذا التقصير في إقامتها وحرمان الأمة من بركاتها؟ بل حتى في عصور الخلافة لا يوجد محذور في إقامتها في القرى والمدن الصغيرة والأرياف، التي ليس من شأن الولاة تعيين أئمة جمعة لها ولذا أفتى أبو حنيفة بعدم وجوبها على أهل القرى، وبالتالي فلا تُعدُّ إقامتها فيها خروجاً على الدولة، ولذا سنسمع في بعض الروايات عتب الإمام الصادق (عليه السلام) على أصحابه أن لا يقيموها في مدنهم متذرعين بعدم إقامة الإمام (عليه السلام) لها لأن وضع الإمام في المدينة المنورة -حيث يقيم الوالي بنفسه أو من ينصبه جمعتها- يختلف عن الحال في مدنهم.

لكن هذا الاتجاه ترسّخ في أذهان الأجيال اللاحقة حيث فهموا من عدم إقامة الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم لها تخييراً في وجوب إقامتها أو صلاة الظهر وقصوراً في اقتضاء الأدلة للوجوب التعييني في مقابل من يرى عدم

ص: 236


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب50، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب21، ح1.

القصور في المقتضي وإنما لم يقمها الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم لوجود المانع الذي زال في العصور الأخيرة فيكون وجوبها تعيينياً وليس تخييرياً، وهذه النكتة إنما قدّمتُ ذكرها الآن لأنها ستكون فيصلاً في النظر في الأدلة وتقييم أقوال الفقهاء.

الأقوال في المسألة:

وفي ضوء هذا الفهم المختلف لسلوك الأئمة (سلام الله عليهم) ولأقوالهموتوجيهاتهم التي تُفرّق بين وظيفتهم ووظيفة الأمة فقد ذهب الفقهاء (أعلى الله مقامهم) إلى ثلاثة أقوال في الجملة بمسألة إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة:

الأول: الوجوب التعييني لصلاة الجمعة.

الثاني: الوجوب التعييني لصلاة الظهر يوم الجمعة ولازمه حرمة إقامة الجمعة.

الثالث: الوجوب التخييري بين الظهر والجمعة.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وهذا الخلاف بين الأصحاب (قدس سرهم) إنما هو بعد الاتفاق منهم على وجوب صلاة الجمعة في الجملة، أعني في زمن الحضور مع الإمام (عليه السلام) أو نائبه الخاص المنصوب من قبله، فإن هذا مما لم يختلف فيه اثنان، بل هو من ضروريات الدين وعليه إجماع المسلمين، وإنما الخلاف في اشتراط وجوبها أو مشروعيتها بحضور الإمام (عليه السلام) فلا تجب تعييناً أو لا تشرع في زمن الغيبة، وعدم الاشتراط)).

أقول: إن هذا التفصيل بين عصر الحضور والغيبة بمعناه المعروف- أي الظهور والغيبة لشخص المعصوم بروحه وجسده- لا أثر له فقهياً كما هو الواضح من سيرتهم (عليهم السلام) فإنهم لم يقيموها إلا في فترة خلافة أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى (سلام الله عليهما) حينما كانت أزمّة الأمور بأيديهما فالعبرة بمقدار قدرة الإمام (عليه السلام) ونائبه الخاص أو العام على إقامتها من دون موانع وهذا ما لم يتيسر لهم إلا في عصر الإمامين أمير المؤمنين والحسن المجتبى (صلوات الله عليهما) من الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

ص: 237

وإذا أريد باشتراط بسط اليد في إقامتها في كلام الفقهاء هذا المعنى - أي عدم المانع- فهو ما نريده وسنفهمه بإذن الله تعالى من الأدلة.

وإن أريد به ملك زمام الأمور وتسلم السلطة أو على تعبير صاحب الجواهر: ((ظهور السلطنة لا ظهور الأجسام))(1)

فهو تضييق لدائرة الحكم وتعطيل لهذه الفريضة الإلهية.

ومسألة وجوب إقامة صلاة الجمعة مما اشتدّ فيها الجدل والاستدلال ووصفها السيد الخوئي (قدس سره) بأنها ((معركة الآراء بين الأعلام))(2)

ولم أجد سجالاً بين الفقهاء كالذي شهدته هذه المسألة وتضمنت مناقشاتهم كلمات شديدة الوقع لم نعهدها منهم في غير هذه المسألة(3)، وعلى أي حال فإننا سنبدأ أولاً بإذن الله تعالى بذكر الأدلة على الوجوب التعييني لكن القائل بالوجوب التخييري زعم وجود قرائن تمنع عن القول به فاستنتج القول بالوجوب التخييري لذا فإننا سنناقش ضمناً هذه الموانع بإذن الله تعالى وسوف لا نهتم بنقل كلمات الفقهاء لتأييد مطلب أو الرد على آخر كما فعلوا (قدس الله أسرارهم) فأطالوا وأطنبوا لتأييد مختارهم بالإجماع لكن هذا الاستدلال لا قيمة له:-1- لعدم تحقق الإجماع أصلاً على أي من القولين (الوجوب التعييني والتخييري) فقد ذهب إلى كل منهما جملة من الأساطين.

2- إن هذا الإجماع مدركي لأن الفقهاء أفصحوا عن دليلهم على مذهبهم فالمناقشة في دليلهم.

ص: 238


1- جواهر الكلام: 11/187.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/14.
3- راجع بعض هذه الكلمات في الحدائق الناضرة: 9/378-395.

الاستدلال بالقرآن

(الآية الأولى)

قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» (الجمعة: 9) وقد ثبت في علم الأصول أن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب فالآية تتضمن وجوب السعي إلى ذكر الله عندما ينادى للصلاة يوم الجمعة ويؤذّن بدخول الوقت كما ذكره المفسرون، وروى الصدوق مرسلاً قال: (روي أنه كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة نادى منادٍ: حرُم البيع حرُم البيع، لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا إلى ذِكرِ اللهِ وَذَرُوا البَيعَ)(1).

ويراد بذكر الله مجموع العبادة المتضمن للخطبتين وصلاة الجمعة فإن الواجب غير محتمل في غيرها من الذكر وسياق الآية يدل على ذلك فقد تفرّع وجوب السعي عن النداء إليها وبقرينة ترك البيع والإذن بالانتشار في الأرض بعد انقضائها فالآية تدل على وجوب السعي إلى صلاة الجمعة حينما يتحقق النداء إليها ولم تؤسس تشريع وجوب إقامة صلاة الجمعة لأنها كانت مقامة قبل نزولها وإنما نزلت توبيخاً لمن انفضّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مقيمٌ لها.

فالآية تعتبر صلاة الجمعة مفروضة الانعقاد والإقامة بدعوة الإمام أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط إليها وإنما نزلت الآية لبيان الحكم بوجوب الحضور فيها وحرمة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة وهي أحكام فرعية لاحقة للحكم بأصل الوجوب فهو تعبير حسن عن وجوب الفعل بوجوب مقدماته، وإذا كان للآية دلالة على وجوب إقامة صلاة الجمعة فبهذا التقريب، ولا يتم التقريب الذي ذكره صاحب الحدائق بقوله: ((فالمستفاد من الآية المذكورة الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة لكل واحد من المؤمنين متى تحقق الأذان لها أو دخول وقته،

ص: 239


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 53، ح4.

وحيث أن الأصل عدم التقييد بشرط يلزم عموم الوجوب بالنسبة إلى زمان الغيبة والحضور))(1)، ولا نفهم حينئذٍ من (إذا) الشرطية التي تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الموضوع وإنما هي جملة شرطية سيقت لبيان تحقق الموضوع ومعناها ((إذا حلّ زوال يوم الجمعة فيجب السعي إلى صلاة الجمعة ويحرم البيع)) ولا يشك العرف في وجوب إقامتها إذا أمر الشارع بالسعي إليها.

فقد روي أنه بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارة وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه الناس من دقيق وبرّ وغيره ثم يضرب الطبل ليؤذن الناس فيبتاعوا منه. فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يُسلِم ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثناعشر رجلاً وامرأة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لولا هؤلاء لسُوّمت عليهم الحجارة من السماء(2).

والآية -في حدود المستفاد منها- خطاب عام فهي تفيد الوجوب التعييني على كل فرد وفي كل زمان شأن كل الآيات الشريفة التي تنزل في مورد معين لكن العمل بها مفتوح إلى يوم القيامة.

روى الكليني عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه حي يجري في من بقي كما جرى في من مضى)(3).

وروى الصدوق عن الإمام الرضا عن أبيه (صلوات الله عليهما): (إن رجلاً سأل أبا عبد الله عليه السلام: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: إن الله لم يجعله لزمان دون زمان وناسٍ دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة)(4).

ص: 240


1- الحدائق الناضرة: 9/399.
2- مجمع البيان للطبرسي، مج5/433.
3- أصول الكافي، باب إن الأئمة هم الهداة.
4- عيون أخبار الرضا: 239، ونقله في البحار مج19 باب ((فضل القرآن وإعجازه)).

ولكن السيد الخوئي (قدس سره) قال(1):

إن الآية لا دلالة لها على الوجوب التعييني بوجه وذلك لوجهين:

((الأول: إنها قضية شرطية وقد علّق فيها وجوب السعي إلى الصلاة على النداء إليها فقال عزّ من قائل إذا نودي للصلاة...... ومعنى ذلك أنه متى ما تحققت إقامة الجمعة في الخارج في نفسها ونودي إليها وجب السعي نحوها وأما أنَّ النداء إليها وإقامتها واجبان مطلقاً على كل مكلف -كما هو المدعى- فلا يستفاد منها أبداً، بل مقتضى المفهوم المستفاد من الجملة الشرطية عدم وجوب صلاة الجمعة إذا لم يناد إليها ولم يتحقق إقامتها))، والإشكال قديم أورده الشهيد الثاني (قدس سره) في رسالته عن صلاة الجمعة(2).

ويرد عليه:-

1- قوله إن الآية لا تدل على وجوب إقامة صلاة الجمعة بوجه وقد مرّ تقريبه وقلنا إنه أأكد في الدلالة على الوجوب وأحسن في التعبير.

2- إن الآية وإن كانت بصورة الجملة الشرطية إلا أنها لا تفيد التعليق أي تعليق الجزاء على الشرط وإنما هي مسوقة لبيان تحقق الموضوع وهو النداء نظير قولنا (إذا رُزقت ولداً فاختنه)؛ وعلى هذا فلا يستفاد من الآية شرطية النداء لوجوب صلاة الجمعة.3- لما كانت الجملة مسوقة لبيان تحقق الموضوع فلا يكون لها مفهوم حتى تدل على عدم الوجوب عند عدم النداء. إن قلتَ: إن من لوازم كون الجملة الشرطية مسوقة لبيان الموضوع كون المفهوم مما لا معنى له وهنا يصحّ المفهوم إذ يقال ((إذا لم ينادَ لصلاة الجمعة فلا تسعوا)).

قلتُ: إن صحة هذا المفهوم ناشئ من ملاحظة الدلالة المطابقية للآية وعدم الالتفات إلى المعنى الحقيقي المكنّى عنه حيث قلنا أن المراد بالنداء

ص: 241


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (ج11 من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي)، تقريرات الميرزا علي الغروي لأبحاث السيد الخوئي، كتاب الصلاة: 17.
2- الحدائق الناضرة: 9/401.

دخول الوقت وحينئذٍ لا يصحّ المفهوم الذي هو ((إذا لم يدخل الوقت فلا تسعوا إلى صلاة الجمعة)) لأنه لا معنى له.

4- إن النداء لا يراد به الأذان الفعلي للصلاة أي إقامتها بحيث أنه لا يجب السعي إليها إلا إذا أقيمت بل إن ذكر النداء ورد كناية عن دخول الوقت كما لو قيل (إذا أذّن المؤذن لصلاة الصبح فأيقظني) فإن المعنى إرادة إيقاظه عند دخول وقت صلاة الصبح سواء أذّن شخص فعلاً أو لا وهذا واضح وعليه فلا مدخلية للمناداة الفعلية لصلاة الجمعة أي إقامتها وإنما هي واجبة ويجب السعي إليها عند دخول الوقت.

الثاني: ((إن السعي بمعنى السير السريع والإسراع في المشي كالعدو والركض فالآية تدلّنا على وجوب السرعة عند الأذان والنداء للصلاة يوم الجمعة ومقتضى المناسبة بين الحكم وموضوعه أن المراد بالذكر فيها هو الخطبة التي كان يلقيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -قبل الصلاة- موعظة وإرشاداً للناس وتخويفاً لهم من عذاب الله سبحانه لا أن المراد به هو الصلاة نفسها.

والوجه في هذه المناسبة أن صلاة الجمعة غير مرتبة على النداء، لوضوح أن بينه وبينها فاصلاً وهو الخطبة وأن وقت صلاة الجمعة يمتد إلى زمان الركوع، فلا يجب الإسراع إليها إلا إذا بلغ الإمام الركوع، وخاف المكلف أن لا يدركه وهو راكع، بحيث لو أدركه وهو كذلك أي راكع لأجزأه من غير كلام.

فإرادة الصلاة من الذكر لا يلائم تفريع السعي على النداء في الآية المباركة، لما عرفت من أن الإسراع إليها غير واجب عند النداء ويجوز التأخير على الحضور إلى أن يركع الإمام، ولأجل ذلك لا يمكننا إرادة الصلاة من الذكر المأمور بالسعي إليه، وبه يستكشف أن المراد به الخطبة، والأمر بالإسراع في المشي عند النداء إنما هو لأجل سماع الخطبة، بقرينة ما قدمناه من أن الحضور للخطبة غير واجب من غير خلاف وبهذه القرينة يحمل الأمر بالإسراع في الآية المباركة على الاستحباب فلا دلالة له على الوجوب)) (1).

ص: 242


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 11/17.

وقد نقلنا كلامه (قدس سره) كاملاً ولم نقطعه إلى فقرات بحسب التعليق عليه ليكون بيانه أوضح ويمكن ترتيبه وتلخيصه بعدة مقدمات:-

1- إن السعي المطلوب في الآية بمعنى الإسراع بمجرد النداء يوم الجمعة.

2- لا يمكن تعلق الإسراع بالصلاة لوجهين (أولهما) وجود الفاصل بينها وبين النداءوهما الخطبتان فلا بد أن يتعلق بهما ليصح تفريع السعي عن النداء و(ثانيهما) إن الإسراع إلى الصلاة غير واجب للاجتزاء باللحوق بالإمام وهو في الركوع.

3- إن الخطبتين غير واجبتي الحضور لقيام الدليل على الاجتزاء بحضور الصلاة قبل قيام الإمام من الركوع.

4- فالإسراع هنا استحبابي وليس وجوبياً.

ويرد عليه:-

1- وأول تعليق هو تنبيه الأمة إلى أن الفقهاء حينما يبيّّنون الحد الأدنى من التكاليف الذي تتحقق به براءة الذمة كالاجتزاء باللحوق بالإمام وهو في الركوع في مسألتنا تبعاً للروايات الشريفة فإنهم بذلك يراعون ذوي الأعذار والمضطر وضعيف الإيمان ولا يقتضي ذلك أن تكون هي الحالة العامة للمختار والذي يجد السعة للتطبيق، لأن الاكتفاء بالحد الأدنى من التكاليف يؤدي إلى ضياع الدين وهذا مجرّب.

أما الحالة العامة المطلوبة من العباد فهو السعي للسمو وارتقاء درجات الكمال، ومن يتشبع روح القرآن وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) يجد فيها تربية المسلم وتعويده على أن يكون في طاعة دائمة لله تبارك وتعالى بكل أشكال الطاعة ولا يقتصر على المعنى الأخص للعبادة «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» (المائدة: 48) «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران:133) خصوصاً في الأوقات الشريفة ومنها يوم الجمعة، وقد تقدمت بعض الروايات في ذلك كما عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (قول الله عز وجل «فَاسعَوا إلى ذِكرِ اللهِ» قال: اعملوا وعجلوا فإنه

ص: 243

يوم مضيق على المسلمين وثواب أعمال المسلمين على قدر ما ضيق عليهم والحسنة والسيئة تتضاعف فيه)، وقال أبو جعفر (عليه السلام): (والله لقد بلغني أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس لأنه يوم مضيق على المسلمين)(1)، وبلغ استعدادهم للصلاة درجة كبيرة فقد روى الصدوق عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لا يشرب أحدكم الدواء يوم الخميس، فقيل: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم ذلك؟ قال: لئلا يضعف عن إتيان الجمعة)(2)، وكان موسى بن جعفر يتهيأ يوم الخميس للجمعة)(3)، وكرهوا السفر بعد فجر يوم الجمعة قبل أداء الصلاة، ونقل الشريف الرضي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى الحارث الهمداني قال: ولا تسافر في يوم الجمعة حتى تشهد الصلاة إلا ناصلاً في سبيل الله أو في أمر تُعذر به)(4)،(2)وتبدأ هذه الكراهة من الصباح الباكر؛ قال الصادق (عليه السلام): (ويكره السفر والسعي في الحوائج يومالجمعة يكره من أجل الصلاة وأما بعد الصلاة فجائز يتبرك به)(5).(3).

هذه هي مدرسة القرآن وليحذر المكلف أن يكون همّه تحصيل عبادة يكون المهم فيها أن تكون مبرئة للذمة فيستطيع الشخص أن يشتغل بما سوى الله تبارك وتعالى حتى ينتهي الإمام من خطبتيه ويبدأ بالصلاة ويصل إلى الركوع فيبادر هذا المؤمن!!! إلى إدراك الإمام وهو راكع فيكفيه هذا الفعل وفي هذا إفراغ للآيات الشريفة من محتواها حيث تحوّل ظاهرها من التعبئة والحشد لهذه الشعيرة المقدسة وتحريم أي ممارسة تشغل عن المشاركة فيها وأوضحها التجارة واللهو إلى استحباب السعي وعدم وجوب حضور الخطبتين وإمكان التأخير إلى حين ركوع الإمام.

ص: 244


1- و (2) و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب31، ح1، 2، 3.
2- (4) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب52، ح6.
3- (5) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 43، ح2.

2- إننا ذكرنا في تقريب الاستدلال بالآية تعلّق وجوب الإسراع بالصلاة لأكثر من وجه: (الأول) ظهور فاسعوا في الوجوب وهو غير محتمل إلا في الصلاة (الثاني) تفريع انتهاء حرمة البيع وإباحة الانتشار بانقضاء الصلاة ولازمه ارتباط الحرمة أولاً بإقامتها (الثالث) ما دلّ على أن الوقت مضيق لها ولخطبتيها اللتين هما جزءٌ منها، وليست هي كصلاة الظهر التي يمتد وقتها إلى قريب غروب الشمس وفي ذلك ورد في الصحيح عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إن من الأشياء أشياءً موسعة وأشياء مضيقة فالصلوات مما وسع الله فيه تقدم مرة وتؤخر أخرى، والجمعة مما ضُيِّق فيها فإن وقتها يوم الجمعة ساعة تزول الشمس)(1)، والآية حينما أوجبت السعي إلى الصلاة فإنها لا تقصد بها الركعتين فقط وإنما مجموع الركعتين والخطبتين فيكون الإسراع واجباً عندئذٍ لتعلقه بواجب وتشهد لذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: (إنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة حتى ينزل الإمام)(2)

وروايات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى.

3- قال الراغب في المفردات: ((السعي المشيُ السريع وهو دون العدْو ويستعمل للجدِّ في الأمر خيراً كان أو شراً، قال تعالى: «وَسَعَى في خَرابِها» «فَلا كُفرَانَ لِسَعيِهِ» «وَسَعَى لَهَا سَعيَهَا...كَانَ سَعيُهُم مَشكُوراً» «وَيَسعَونَ في الأرضِ فسَاداً».. وغيرها، وأكثر ما يستعمل السعي في الأفعال المحمودة))(3)، فالسعي يعني الجد في الأمر ومن مظاهره المشي السريع، وقال الشيخ الجزائري (قدس سره): ((لقد قال الأكثر إن معنى السعي هو المضي والذهاب وانه المتبادر من اللفظ عرفاً ولغة وأن المقصود الإتيان بالصلاة على أي وجه فقد يجب الإسراع إذاتوقف الإتيان بها عليه

ص: 245


1- وسائل الشيعة: 4/136، أبواب المواقيت، باب 7، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 6، ح4.
3- مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني، مادة (سعى).

ولو قبل النداء))(1) من باب المقدمات المفوّتة كالنائي عن موضع إقامتها بما دون الفرسخين ولا توجد عنده وسائل النقل الحديثة وقد يستحب لتحصيل المباكرة إلى المسجد التي تقام فيه لما رواه عبد الله بن سنان (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): فضَّل الله الجمعة على غيرها من الأيام، وإن الجنان لتزخرف وتزين يوم الجمعة لمن أتاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وإن أبواب السماء لتفتح لصعود أعمال العباد)، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) يقول: (اسعَوا أي امضُوا) ويقال اسعوا: اعملوا بها، يقول الله «وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» (الإسراء: 19) وقد فسرت في مواضع عديدة بالمضي والذهاب كالسعي في قضاء حوائج المؤمنين.

وتحصّل من كل ذلك عدم انحصار معنى السعي بالإسراع ولو فسّرناه به فللتنبيه على خصوصيات معينة كحثّ البعيد عن مكان إقامة الصلاة أو لتحصيل مزيد من الأجر بالمباكرة إليها وهذا المعنى الإضافي لا يلغي أصل كونه أمراً بالمضي والذهاب إلى إقامة صلاة الجمعة.

4- على ما ذكره (قدس سره) من عدم وجوب الإسراع إلى الصلاة والاكتفاء بإدراك الإمام وهو راكع فإنه يمكن أن لا تقام صلاة جمعة أصلاً حتى في زمان المعصوم لأنها مشروطة بالعدد وهم خمسة لكي تنعقد فيبدأ الإمام بالخطبتين والصلاة فإذا لم يحضر العدد اللازم لا يبدأ الإمام بشيء ولا تصح جمعة وحينئذ فلنفترض أن الأمر بالمسارعة للحضور عند دخول الوقت هو واجب كفائي على خمسة غير معينين ضمن الأمة فإذا اجتمعوا وفيهم الإمام انعقدت الصلاة وليلتحق بها من أراد عند دخول الإمام في الركوع -على تعبيره (قدس سره)- وهذا المعنى كافٍ في وجوب إقامتها وعدم التقصير فيه. وإن قلت إن هذا مختص بزمان الحضور، قلنا: هذا مما لا دليل عليه.

5- إنه (قدس سره) جعل قرينة على عدم تعلق الإسراع بالصلاة كون

ص: 246


1- قلائد الدرر: 1/218.

(فاسعوا) تدل على الوجوب والإسراع إلى الصلاة ليس واجباً للاجتزاء بلحوق الإمام وهو راكع، فما مصير هذه القرينة وقد توصّل أخيراً إلى أن (فاسعوا) ظاهر في الاستحباب لتعلقه بالخطبتين وحضورهما ليس واجباً.

6- لقد حرّمت الآية الشريفة البيع حين النداء ليوم الجمعة وبه قال الفقهاء وهو من أهم أعمال المجتمع الدنيوية التي تعيق إقامة الصلاة وتؤخر عنها ولا يتردد أحد في فهم أن هذا التحريم مقدمة لوجوب إقامة الصلاة والحضور فيها أي أن حرمة البيع من أجل تفويته للواجب ولذا فإن الحكم بالحرمة لا يختص به وإنما يشمل كل ما يؤدي إلى تفويت الواجب.

وبتعبير آخر: إن الإجماع قائم على حرمة البيع المفوّت لصلاة الجمعة وقد اقترن حكم (ذروا) بحكم (فاسعوا) وهما متلازمان وترك البيع لأجل امتثال السعي ولَمّا كان عدم ترك البيع محرماً فالسعي إلى الصلاة واجب ولا يمكن التفكيك بينهما.

7- من الصحيح قوله (قدس سره) من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الجمعة بلا كلام لورود روايات صحيحة في ذلك(1) لكن هذا لمن أخّره عذرٌ لا لمن ترك المبادرة إلى الخطبتين بلا مسوّغ كالزحام وبعد المسافة أو حاجة ضرورية فهذا يوجد فيه كلام، وقد ذكر في الجواهر قول الصادق (عليه السلام) في صحيح ابن سنان: (الجمعة لا تكون إلا لمن أدرك الخطبتين)(2)

ونحن وإن كنّا مع صاحب الجواهر في وصفها أنها قاصرة ((عن معارضة ما تقدم من وجوه خصوصاً بعد موافقته لمذهب عمر بن الخطاب وعطاء وطاووس ومجاهد فلا بأس بحمله على نفي الكمال أو على إرادة نفي حقيقتها التي هي الركعتان مع ما ناب عن الأخيرتين فمن لم يدركهما لم يدرك الجمعة حقيقة ولو أجزأه ما أدركه))(3)

لكن التنزّل

ص: 247


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب 26.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 26، ح7.
3- جواهر الكلام: 11/147.

بهذا المقدار إنما كان بسبب المعارضة مع الروايات الصحيحة الدالة على الإجزاء ولا ضرورة للتنزل عن أكثر منها كنفي وجوب الحضور لاستماعهما اختياراً، ولا أقل من الاحتياط لوجود روايات ظاهرها وجوب الإصغاء إلى الخطبتين والاستماع إليهما لذا عنون صاحب الوسائل (قدس سره) الباب الرابع عشر من أبواب صلاة الجمعة بقوله: (وجوب استماع الخطبتين... إلخ) وقد علّلته بعض الروايات في الفقيه للصدوق قال: (قال أمير المؤمنين: لا كلام والإمام يخطب ولا التفات إلا كما يحلّ في الصلاة وإنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين فهما صلاة حتى ينزل الإمام)(1)

وفي حديث المناهي عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب، فمن فعل ذلك فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له)(2) وفي ذيل صحيحة الفضل بن عبد الملك عن الإمام الصادق (عليه السلام): (وإنما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين)(3) وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (إنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة حتى ينزل الإمام) ،(3)ومن الممكن حملها على استحباب الحضور والاستماع وكراهة التخلّف بالجمع بينها وبين ما دلّ على الاجتزاء باللحوق بالإمام وهو راكع إلا انه يمكن الجمع بوجه آخر بحمل روايات الإجزاء على حالة وجود العذر وإبقاء روايات الإصغاء على الوجوب لأنها جزء حكمي من الصلاة فلا بد من الاقتصار في جواز تركها على موارد العذر.وذلك الجمع -أي صرف الوجوب عن ظاهره إلى الاستحباب- ليس أولى من تقييد إطلاق روايات الإجزاء.

والذي يرجّح الجمع الذي اخترناه لحن الروايات التي وردت في اعتبار

ص: 248


1- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة، باب 14، ح2، ح4.
2- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة، باب 14، ح2، ح4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب6، ح4.

من أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة وبجمع بعضها إلى بعض يلتفت إلى أنها ليست في مقام الإذن بترك الخطبتين وإنما لرفع توهم في ذهن السائل بأن من فاتته الخطبتان فليست له صلاة لطول ما ترسّخت في أذهانهم من جزئية الخطبتين للشعيرة المقدسة فأجابه الإمام بأن الجمعة لا تسقط ويكون مؤدياً لها لو أدرك مع الإمام ركعة، ومنها صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله عمّن لم يدرك الخطبة يوم الجمعة قال: يصلّي ركعتين، فإن فاتته الصلاة فلم يدركها فليصلّ أربعاً)(1)

فالرواية تتحدث عن عدم إدراك وفيه ما لا يخفى من المعذورية وليس عن ترك متعمد الذي يُعبَّر عنه بعدم الحضور فيمكن القول أن الخطبتين جزء حكمي من الصلاة وليس حقيقياً حتى يؤثر في صحتها لأن وجوب الاستماع للخطبتين تكليفي وليس وضعياً فمن تركه لغير عذرٍ أو أخلَّ فيه أثِم وصحّت صلاته إن التحق بالإمام قبل أن ينهي ركوعه.

لا يقال: إن هذا الوجوب إنما هو معلق على الحضور فيجب الإصغاء على من حضر الصلاة وأقامها وليس على من لم يحضر حتى يستفاد منه وجوب الحضور.

فإنه يقال: إن هذا يلزم منه الدور لأنه بموجب هذا الإشكال علّق وجوب الإصغاء على وجوب إقامة الصلاة وبموجب كلامه الذي نقلناه علق وجوب الحضور على الإصغاء لأنه قال إن الإصغاء ما دام ليس واجباً فلا تجب إقامة الصلاة فلو كنّا وهذا الدليل يكون وجوب الاستماع معلقاً على وجوب إقامة الصلاة.

8- إنه تقدم في تقريب الاستدلال بالآية ما يعيّن إرادة (الصلاة) من قوله تعالى: «ذِكرِ الله»، نعم، لا يراد بالصلاة خصوص الركعتين حتى يقول (قدس سره): ((إن صلاة الجمعة غير مترتبة على النداء لوضوح أن بينه وبينها فاصلاً وهو الخطبة)) وإنما يراد بالصلاة مجموع الشعيرة المقدسة المشتملة على الخطبتين لما علمنا من جزئيتها الحكمية لها بحيث لا يجوز

ص: 249


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 26، ح3.

تركها اختياراً فيكون السعي لها سعياً للخطبتين أيضاً وبذلك تقلل الفجوة مع المعترض (قدس سره) وتكون صلاة الجمعة بمعناها الواسع مترتبة على النداء بلا فصل.

ثم قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ويدلّنا على ذلك قوله عز من قائل: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ... فإن الخير للتفضيل -لا أنه في مقابل الشر- فلا يستعمل إلا فيما إذا كان كلا الطرفين حسناً في نفسه غير أنَّ أحدهما أحسن من الآخر ويشهد عليه تتبع موارد استعمالاتها في القرآن الكريم، فإذا كان الخير بهذا المعنى في الآية المباركة لم تكن فيها أية دلالة على وجوب صلاة الجمعة تعييناً فإن هذا التعبير لسان الاستحباب لأنه المناسب له دون الوجوب لأنه لو كان أمراً حتمياً وواجباً على المكلفين لكان من المناسب بل اللازم أن يحذرهم من تركها ويرتب عليه الذم والعذاب أو غير ذلك ممايدلّهم على وجوبها، لا أن يكتفي بقوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)).

وفيه:-

1- إن كلمة خير كما تستعمل في التفضيل فإنها تستعمل في الخير المحض مقابل الشر كقولهم (علي خير من معاوية) من غير مجازية وقد اعترف هو (قدس سره) بورود هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» (البقرة: 184) لكنه قال: إن هذا إنما ثبت من الخارج بالدليل ونحن نقول أيضاً إن الوجوب هنا ثبت بالأمر السابق عليها المتصل بها على أن النقض ليس منحصراً بهذا المورد حتى يجيب عليه.

2- إن المتتبع لطريقة القرآن الكريم في تربية الأمة يجد أنه لا يقتصر في تحريكهم نحو الواجبات بالتحذير من عقوبةِ تَرْكها ونحو المستحبات ببيان ما فيها من ثواب بل إنه يحرّك مشاعر الترغيب والترهيب معاً كقوله تعالى: «مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَ-وْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا

ص: 250

يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (التوبة: 120-121) وقوله تعالى: «تُؤْمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (الصف: 11) فهل الإيمان بالله ورسوله مستحب بقرينة الذيل غير الخاص بالجهاد الذي يمكن أن يكون مستحباً ويمكن أن يكون واجباً. وفي الأحاديث الشريفة كقولهم (عليهم السلام): (ما تقرّب إليّ عبدٌ بشيء أحب إليّ مما افترضتُ عليه)(1)

ولا شك أن ركعتي صلاة الصبح الفريضة تعدل عند الله تعالى وتستحق من الثواب أضعاف ركعتي النافلة.

3- إن هذا الكلام منه (قدس سره) مبني على لحاظ متشرعي بالتحرك نحو الواجبات خوفاً من العقاب وإلى المستحبات طمعاً في الثواب؛ وفيه غفلة عما في الواجبات من الثواب كما قلنا وفيه تركيز على لازم الوجوب وهو المنع من الترك والعقوبة عليه أكثر من ملاحظة المعنى المطابقي وهو التحرك إلى الفعل طلباً لمرضاة الله تبارك وتعالى والأولى مراعاة المعنى المطابقي إضافة إلى أن مثل هذا اللحاظ المتشرعي ليس بحجة ولا يمكن تحكيمه في فهم النصوص خصوصاً بعد معرفة منشئه.

4- إن هذه الآية لم تؤسس وجوب صلاة الجمعة لأنها كانت مقامة قبل نزول السورة(2)

وإنما هي تأكيدية ومعالجة لحالة معينة فلا يمكن نقض الجواببقرائن موجودة في الآية.

ص: 251


1- الكافي: 2/352، ح7، ح8.
2- لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى أول جمعة بمجرد هجرته إلى المدينة وقبل أن يصل إليها حيث أدركته وهو بين مسجد قبا والمدينة (مجمع البيان للطبرسي) والسورة نزلت بعد ذلك بدليل إشارة الآية إلى الحركة الاقتصادية للمسلمين وانشغالهم بالتجارة بينما كانت مهنتهم قبل الهجرة الزراعة ثم إن راويها جابر بن عبد الله يقول: (فانفض الناس فما بقي غير اثني عشر رجلاً أنا فيهم) -بحسب رواية مجمع البيان- وهو ممن استصغره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد فوصفه بالرجولة يكون بعد ذلك.

(الآية الثانية)

قوله تعالى: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ» (البقرة:238) وقربت دلالتها بوجود رواية في مجمع البيان للطبرسي عن علي (عليه السلام) إن الصلاة الوسطى هي صلاة الجمعة يوم الجمعة والظهر في سائر الأيام(1)

وصحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما فرضه الله عز وجل من الصلاة... إلى أن قال: (وقال تعالى: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى» (البقرة: 238) وهي صلاة الظهر وهي أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي وسط النهار، ثم قال: وأنزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفرة فقنت فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الجمعة للمقام لمكان الخطبتين مع الإمام، فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام)(2).

والرواية الأولى مرسلة فلا يصح الاعتماد عليها والرواية الثانية صريحة في صلاة الظهر وإن نزلت يوم الجمعة كما أن أكثر من قرينة تنفي كونها في صلاة الجمعة، منها:

أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مسافراً بها وصلاة الجمعة غير واجبة على المسافر وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أضاف للمقيم ركعتين فتصبح أربع ركعات والجمعة ركعتان بل يبدو أنها نزلت قبل تشريع صلاة الجمعة حيث وضعت الركعتان المضافتان عن المقيم عند إقامة صلاة الجمعة.

وعلى أي حال؛ فإن الأمر بالمحافظة عليها لا يعني أزيد من الالتزام بها على النحو التي شُرِّعت عليه سواء كانت واجبة تعييناً أو تخييراً نظير قوله تعالى:

ص: 252


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب5،ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب2، ح4.

«فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ» وهذه الخيرات قد تكون مستحبة وقد تكون واجبة.

ص: 253

الاستدلال بالسنة الشريفة

لقد وردت في وجوب صلاة الجمعة وفضلها وآدابها وسننها ومستحباتها وتفاصيل أحكامها المئات من الروايات مما لا يناسب تعطيلها طول تأريخ الإسلام الممتد أربعة عشر قرناً إلا في فترات محددة وتكون هذه الروايات لغواً إذا كانت هذه الفريضة تؤول إلى مثل هذا التعطيل فتوىً أو عملاً وإن بعض الروايات مخالف للتقية فيكون الإمام (عليه السلام) متحملاً لمسؤولية كبيرة وهو يبينها لأنها مخالفة لما عليه العامة فلماذا هذه المجازفة إذا كان مآلها التعطيل؟.

إن قلتَ: إن كثيراً من الأحكام الشرعية معطلة كالحدود والتعزيرات بل عموم الأحكام الاجتماعية في الاقتصاد والاجتماع والإدارة والحكم التي لا يمكن تطبيقها إلا في المجتمع الذي يحكمه الإسلام ويجري فيها نظامه ولا يُعدُّ بيانها من قبل الأئمة (عليهم السلام) لغواً بل فيها أكثر من فائدة:

الأولى: تبليغها وتعليم الأمة إياها لتطبيقها وقت الحاجة وتوّفر الفرصة حيث ينقطع الناس عن المعصوم وينسدّ باب التشريع.

الثانية: لحث المؤمنين على العمل الرسالي الفّعال والدعوة والإرشاد لإقناع البشرية بإقامة النظام الإسلامي في حياتها بعد أن يطّلعوا على كماله ويكون التعطيل بسببهم عند عدم سعيهم لذلك ولله الحجة البالغة عليها.

قلتُ: هذا له أكثر من جواب:-

1- إن هذا عين ما نريد أن نقوله بأن فرصة إقامة الجمعة قد حانت بغضّ النظر عن غيرها.

2- إن هذه الأحكام ليست على نسق واحد من حيث عدم إمكان التطبيق ففي زماننا مثلاً لا مانع من إقامة صلاة الجمعة ولا ترى الحكومات بأساً فيها ولكن تطبيق الحدود والتعزيرات يعُد تمرداً على قوانينها وتأسيس دولة داخل دولة وهو منافسة لهم في سلطانهم فلا يتسامحون معه.

وعلى أي حال فإن هذه الروايات يُستشعر منها الاهتمام الكبير الذي كان يوليه المعصومون (سلام الله عليهم) لهذه الفريضة العظيمة لما لها من آثار

ص: 254

وبركات في توعية الأمة وترسيخ إيمانها وتحصينها من الانحراف ومعالجة مشاكلها ومناقشة قضاياها وبما أن بحثنا فقهي استدلالي فسنقتصر على هذا الجانب ونترك الجوانب الفكرية والاجتماعية والنفسية وغيرها.

وسنختار مصدرين لاثنين من أساطين القائلين بالوجوب التخييري لمناقشتهما وهما صاحب الجواهر (قدس سره) والسيد الخوئي (قدس سره) في تقريرات بحثه التي كتبها اثنان من تلاميذه وهما المرحوم الشهيد الميرزا علي الغروي (قدس سره) في كتاب (التنقيح) والمرحوم الشهيد الشيخ مرتضى البروجردي (قدس سره) في كتاب (المستند في شرح العروة الوثقى) وقد رأيت مطالبه (قدس سره) مرتبة وجامعة للمهم من أفكار مدرسة القائلين بالوجوب التخييري وقد ورد الكثير من هذه الأفكار في كتاب الجواهر لكنها ليست بالترتيب الذي عرضه السيد الخوئي (قدس سره) فجزاه الله خير جزاء المحسنين. فإذا استطعنا دفع ما قيل من الاستبعاد للوجوب التعييني فستبقىأدلة هذا الوجوب سليمة من الموانع.

وقد نقلا معاً كما نقل صاحب الحدائق أن الفقيه المحدث محمد باقر المجلسي والد صاحب البحار ألّف رسالة مبسوطة في تحقيق هذه المسألة وإثبات الوجوب التعييني وأحصى الأخبار الدالّة عليه فقال: ((فصار مجموع الأخبار مائتي حديث فالذي يدل على الوجوب بصريحه من الصحاح والحسان الموثقات وغيرها أربعون حديثاً، والذي يدل بظاهره على الوجوب خمسون حديثاً والذي يدل على المشروعية في الجملة أعم من أن يكون عينياً(1)

أو تخييرياً تسعون حديثاً، والذي يدل بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثاً ثم الذي يدل بصريحه على وجوب الجمعة إلى يوم القيامة حديثان، والذي يدل على عدم اشتراط الإذن بظاهره ستة عشر حديثاً))(2) وقال السيد الخوئي

ص: 255


1- التعبير بالوجوب العيني غير دقيق في المقام لأنه -في المصطلح- مقابل الوجوب الكفائي وليس خلافنا من هذا القبيل وإنما هو في الوجوب التعييني مقابل الوجوب التخييري.
2- الحدائق الناضرة: 9/390.

(قدس سره): ((وهي من الكثرة بمكان ومتجاوزة عن حد الاستفاضة بلا ريب)) وقال: ((ولا يبعد دعوى تواترها بل لا شبهة في تواترها الإجمالي للقطع بصدور بعضها عن المعصوم (عليه السلام) وعدم مخالفة جميعها للواقع، وبهذا نستغني عن التكلم على إسنادها بحيث لو تمت دلالتها على هذا المدعى ولم يكن هناك ما يمنع عن هذا الظهور لم يكن أي مناص من الالتزام بوجوب صلاة الجمعة تعييناً بل الأمر كذلك حتى لو أنكرنا تواترها لكفاية ما فيها من الأخبار الصحيحة والموثقة فلا مجال للتشكيك فيها بحسب السند))(1).

وكأنه بذلك يعرّض بصاحب الجواهر (قدس سره) الذي أعطى تقييماً إجمالياً للروايات بأنها ((بين ضعيف لا جابر له وبين مطلق قد عرفت الحال فيه))(2).

والنتيجة التي خرجنا بها بعد التمعّن في الروايات وجعل بعضها قرينة على بعض نسجلها قبل الدخول في التفاصيل لنكون على ذكرٍ منها عند مناقشة تلك التفاصيل فنقول: إن صلاة الجمعة واجبة تعييناً عند الزوال يوم الجمعة أما صلاة الظهر فهي بديل اضطراري لصلاة الجمعة كبدلية التيمم عن الوضوء فهما فردان مرتبان طولياً وليس عرضياً كما هو مراد القائل بالوجوب التخييري.

لكن إقامة صلاة الجمعة من الوظائف الاجتماعية التي يكون أمرها بيد الإمام المعصوم (عليه السلام) عند حضوره ونائبه الخاص أو العام أي الفقيه الجامع للشرائط فلا يجوز لأحد غير ولي الأمر إقامتها إلا بإذنه شأنها في ذلك شأن إقامة الحدود والقضاء بين الناس والجهاد وقد دلّت على هذا عدة روايات ((كقوله في دعائم الإسلام (روينا عن علي (عليه السلام) أنه قال: لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا للإمام أو من يقيمه الإمام) والمروي عن كتاب الأِشعثيات (إن الجمعة والحكومة لإمام المسلمين) وفي رسالة الفاضل ابن عصفور روى مرسلاً عنهم (عليهم السلام):(إن الجمعة لنا والجماعة لشيعتنا) وكذا روى عنهم (عليهم السلام): (لنا الخمس ولنا الأنفال ولنا الجمعة ولنا

ص: 256


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ميرزا علي الغروي/21.
2- جواهر الكلام: 11/172.

صفو المال) والنبوي المشهور (أربع للولاة: الفيء والحدود والصدقات والجمعة) وفي الصحيفة المعلوم أنها من السجاد (عليه السلام) في دعاء يوم الجمعة وثاني العيدين (اللهم إن هذا المقام مقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها وأنت المقدر لذلك- إلى أن قال- حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدلاً- إلى أن قال- اللهم العن أعداءهم من الأولين والآخرين ومن رضي لفعالهم وأشياعهم لعناً وبيلاً)))(1).

ولذا ورد في خبر عبد الله بن ذبيان (دينار) عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (يا عبد الله ما من يوم عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلا وهو يجدد الله لآل محمد عليهم السلام فيه حزناً، قال: قلت: ولمَ؟ قال: إنهم يرون حقهم في أيدي غيرهم)(2)، والجمعة معدودة من الأعياد وقد دلّت على ذلك روايات عديدة منها ما ورد في أنه إذا اجتمع عيدان يرخّص لمن حضر صلاة العيد أن لا يحضر الجمعة(3)

ومنها ما ورد في تعليل كون صلاة الجمعة ركعتين بأنها عيد وصلاة العيد ركعتان(4).

ومما دل على أن الجمعة من وظائف الإمام عدة طوائف من الروايات (منها) الصريحة بذلك كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها مع الإمام فريضة)(5).

وموثّقة سماعة (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة يوم الجمعة فقال: أما مع الإمام فركعتان، وأما من يصلي وحده فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة)(6)

ورواية الغوالي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله في

ص: 257


1- جواهر الكلام: 11/158.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب 31، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب 15، ح1، 2، 3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 6، ح3.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب1 ،ح8، 12.
6- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب6 ،ح8.

يوم من أيام الجمعة على المنبر: (إن الله فرض عليكم الجمعة، ((إلى أن قال)) فمن تركها في حياتي وبعد وفاتي مع إمام عادل فلا جمع الله شمله)(1)

فالمراد بالإمام هو المعصوم (عليه السلام) لأنه المتبادر من أمثال هذه الروايات كالواردة في أصول الكافي، باب (إن الأرض لا تخلو من حجة) مثل قوله: (إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام) و(لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) و(لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها)ونحوها، ويقوم مقامه في هذه الوظائف نائبه الخاص في حال حضوره ونائبه العام وهو الفقيه الجامع للشرائط في غيبته، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((فهو كالصريح في مغايرة إمام الجمعة لإمام الجماعة، ولا فارق إلا بالنصب المزبور، إذ احتمال كونه لا يُحسِنُ الخطبة التي هي التحميد والصلاة على النبي وآله (عليهم الصلاة والسلام) و يا أيها الناس اتقوا الله وقراءة سورةٍ إن قلنا به في غاية البعد، خصوصاً في ذلك الزمان الذي لا يحتاج فيه إلى تعلم العربية ونحوها مع أنه إمام جماعة وأكثر ذلك يقوله في الصلاة الواجبة)) وتوصل إلى نتيجة ((أن المنساق هنا من لفظ الإمام ما هو الأعم من إمام الأصل عليه السلام ومنصوبه، لا إمام الجماعة الذي هو غير معيّن))(2).

(ومنها) الظاهرة في ذلك كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام): (عن أناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة؟ قال: نعم يصلون أربعاً إذا لم يكن لهم من يخطب بهم)(3)

وخبر الفضل بن عبد الملك عن الصادق (عليه السلام) (إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب بهم جمعوا إذا كانوا خمسة نفر، وإنما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين)(4)

وهي ظاهرة في إمام الجمعة المنصوب لذلك لا عدم وجود من يحسن ذلك لقرينتين:-

ص: 258


1- مستدرك الوسائل، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب1، ح19.
2- جواهر الكلام: 11/160.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب3، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 3، ح2.

أ- التعبير ب-(لهم) وليس (فيهم).

ب- عدم تصور وجود شخص يحسن إمامة الجماعة و لا يحسن إمامة الجمعة لعدم وجود شيء في الجزء الواجب من الخطبتين أزيد مما موجود في الصلاة. وقد أمرت الرواية بإقامتها حينئذٍ لقوله (عليه السلام) (جمعوا) وهو أأكد في الدلالة على الوجوب من صيغة افعل كما قيل في علم الأصول اللهم إلا أن يقال أنها هنا تفيد الترخيص لأنها وردت في مقام توهم الحظر، ومثله موثق ابن بكير (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم الصلاة أيصلون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم إذا لم يخافوا)(1).

(ومنها) ما دلّ على سقوط الفريضة عمّن يبعد فرسخين عنها ولازمها أن مكان الصلاة محدّد من قبل جهة منظمة لها وليست هي إلا الإمام.

(ومنها) الروايات التي قرنت إقامتها بتنفيذ الحدود كخبر طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام): (لا جمعة إلا في مصر تقام فيه الحدود)(2)

وصحيح ابن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام): (تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين،ولا تجب على أقل منهم، منهم الإمام وقاضيه والمدعي حقاً والمدعى عليه والشاهدان والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام)(3).

أقول: وقد نقل الفقهاء هذه الوظائف (أعني القضاء وتنفيذ الحدود ونحوها) إلى المجتهد الجامع للشرائط فيكون منها إقامة صلاة الجمعة، والتعبير عن القائم بوظيفة هذه الشعائر والأحكام بالإمام كما تقدم، وسُمّي أمير الحاج بالإمام في موثق سماعة قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام متى يُذبح؟ قال: إذا انصرف الإمام، قلت: فإذا كنت في أرض ليس فيها إمام فأصلي بهم جماعة، فقال: إذا استقبلت الشمس، وقال: لا بأس أن تصلي وحدك، ولا صلاة إلا مع إمام)(4).

ص: 259


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب12، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، باب3، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، باب2، ح9.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب 2، ح6.

نعم إن إقامتها مشروطة بعدم الخوف والأمن من الضرر وعدم حصول فتنة كما تقدم في موثق ابن بكير وغيره والفقيه هو الذي يقدر الحالة ولذا فإن الأئمة (سلام الله عليهم) لم يقيموها لأن الضرر متحقق حيث كان الأمراء والولاة يرون إقامة الجمعة من اختصاصهم في المدن المأهولة بالسكان أما القرى والأرياف والتجمعات السكانية الصغيرة فلا يعينون لها أئمة للجمعة لذا حث الأئمة أصحابهم على إقامتها فيها لعدم الضرر.

وفي الأزمنة الحاضرة تجب إقامة الجمعة تعييناً حيث لا توجد مثل تلك المحاذير ولو وجدت سقط الوجوب، وقد تحرم إقامتها مع وجود الضرر الذي لا يجوز ارتكابه.

وقد اعترف بعض القائلين بالوجوب التخييري كالسيد الخوئي (قدس سره) بظهور الأدلة وصراحة بعضها في الوجوب التعييني إلا أنهم صرفوها عن ظهورها لا لقرينة دلّت على التخيير كالتي قالوها في علم الأصول، وإنما عدلوا عن الظهور لموانع ذكروها وهي تحتمل وجوهاً وبالتالي لا تصلح لصرف الظهور بل النص.

وأستطيع أن أذكر سببين رئيسيين من ناحية البحث الاستدلالي لا الصوارف النفسية والاجتماعية لذهاب جملة من الفقهاء إلى القول بالتخيير وهما:-

1- فهم عدم إقامة صلاة الجمعة من قبل أصحاب الأئمة وأكثر العلماء على أنه دليل على قصور الأدلة عن إفادة الوجوب التعييني وإلا لأقاموها، رغم وضوح أن عدم إقامتها لأجل وجود المانع كخوف الضرر ونحوه وليس لقصور المقتضي بدليل أن الأئمة (عليهم السلام) لم يقيموها رغم قول هؤلاء الفقهاء بوجوبها التعييني في زمن حضورهم (سلام الله عليهم) والصحيح حينئذٍ أن يكون التفصيل في أحكام المسألة بين حالي القدرة على إقامتها ووجود الموانع منها لا ما جرى عليه الفقهاء من التفصيل بلحاظ حال حضور الإمام وغيبته فقد رأينا عدم وجود أثر فقهي لهذا اللحاظ.

ص: 260

2- الخلط بين الفتوى والعمل أي بين الحكم والتطبيق فإن بعض من أفتى بالحرمة أو التخيير نظر إلى الواقع المعاش وكلهم كانوا في زمن الخلافة الإسلامية التي كان يدعيها العباسيون وكانت التقية محققة أما فتواه في المسألة فهي الوجوب التعييني لو تجرد عن ملاحظة الظروف المحيطة به، وقد تضمنت كلمات بعض1- الفقهاء الحكمين كالشيخ المفيد والطوسي فأخذ كل من الفريقين يدرجهما في قائمته(1)

واعتبره آخرون اختلافاً في كلماتهم، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك وإنما هو تارة يسجّل الفتوى أي الحكم المجرد في المسألة ويذكر تارة أخرى الفتوى بحسب العمل أي التطبيق الذي يُلاحظ فيه كافة الشروط والموانع وهذا ليس تناقضاً في كلامهم.

ونبدأ الآن بعرض مجموعة من الروايات التي تدل على الوجوب التعييني وسنكون قريبين من ترتيب مطالب السيد الخوئي (قدس سره) لمتابعة المناقشات للسبب الذي قدّمناه والله ولي التوفيق:

(منها): صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال: إنما فرض الله عز وجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله عز وجل في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين).(2).

(ومنها): صحيحة زرارة الثانية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال (صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها فريضة مع الإمام فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علة إلا

ص: 261


1- ذكرهما صاحب الحدائق في من قالوا بالوجوب التعييني: (الحدائق الناضرة: 9/378) وعرض به صاحب الجواهر حين قال ((فمن الغريب دعوى بعض المتفقهة أن الشيخ ممن يقول بوجوبها عيناً)) (جواهر الكلام: 11/152).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب1، ح14

منافق)(1). ومثلها صحيحة زرارة الأخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام).

(ومنها): صحيحة عاصم بن حميد عن أبي بصير ومحمد بن مسلم جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل فرض في كل سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها إلا خمسة: المريض والمملوك والمسافر والمرأة والصبي)(2).

(ومنها): صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم قالا: (سمعنا أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام يقول: من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علةٍ طبع الله على قلبه).(3)

(ومنها): صحيحة زرارة الثالثة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يصلّي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجعوا إلى رحالهم قبل الليل، وذلك سنّةٌ إلى يومالقيامة).(4)

(ومنها): صحيحة منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (الجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها إلا خمسة: المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي)(5)، بتقريب أن وجوبها لو لم يكن تعيينياً لكان الناس كلهم معذورين في عدم إقامتها وليس فقط الخمسة المذكورين.

وقد رد السيد الخوئي (قدس سره) الاستدلال بهذه الصحيحة بعد اعترافه بأنها ((كالصريح في الوجوب التعييني وآبية عن الحمل على الوجوب التخييري)) بقوله ((ويدفعه: أن المراد بالصحيحة ليس أنهم غير معذورين في

ص: 262


1- وسائل الشيعة:کتاب صلاة الجمعة وآدابها، باب1، ح8، 14.
2- وسائل الشيعة:کتاب صلاة الجمعة وآدابها، باب1، ح8، 14.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب1، ح11 ومثله الحديث 15 من الباب 1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الباب4، ح1.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 1، ح15.

ترك إقامة الجمعة وأصلها بل المراد أنهم غير معذورين في ترك الحضور لها والسعي نحوها بعدما تحققت إقامتها وصارت منعقدة في الخارج ويشهد لذلك استثناء المسافر وهو لم يُستثن عن أصل وجوب الجمعة ومشروعيتها فإنها مشروعة في حقه بل هي أفضل من أن يختار صلاة الظهر، بل في موثقة سماعة عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: أيما مسافر صلى الجمعة رغبة فيها وحباً لها أعطاه الله عز وجل أجر مائة جمعة للمقيم(1)(2).

وفي كلامه (قدس سره) خلط بين الوجوب والمشروعية فإن المسافر قد رخص له في وجوبها إلا أنها مشروعة بالنسبة إليه فما المنافي للقول بدلالة الرواية على أصل وجوبها لا وجوب الحضور فيها بعد إقامتها.

ومثلها رواية الصدوق في الفقيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبةٍ له: (والجمعة واجبة على كل مؤمن إلا على الصبيّ والمريض والمجنون والشيخ الكبير والأعمى والمسافر والمرأة والعبد والمملوك ومن كان على رأس فرسخين)(3)

ورواية المحقق في المعتبر قال (قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الجمعة حق على كل مسلم إلا أربعة)(4).

(ومنها) موثقة عبد الملك، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال: مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني صلاة الجمعة)(5)

فعدّها الإمام فريضة وزجر عبد الملك لعدم قيامه بها ولو لم تكن واجبة لم يستحق التوبيخ.وهي أدلة على عموم الوجوب لكل أحد في كل زمان بالنص أو لإفادة الجمع المحلى باللام في (الناس) العموم.

ص: 263


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 19، ح2
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 37.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب1، ح6.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب1، ح21 ونحوه الأحاديث 22، 23، 24، 28.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5، ح2.

((وهل يستقيم في الطباع السليمة تجويز أن يكون المعصوم (عليه السلام) في بيان الحكم الشرعي وإفادته يبالغ في وجوب شيء ويقول إنه واجب على كل مسلم في كل أسبوع إلا جماعة خاصة ويقرنه بصلوات واجبة التكرار في اليوم والليلة ومع ذلك لا يثبت ذلك الحكم لأحد من أهل عصره ولا لمعظم المسلمين بل إنما ثبت لقليل مضوا في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزمان خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسوف يثبت في آخر الزمان بعد ظهور القائم (عجل الله فرجه) ليس إلاّ))(1).

وإنما نقلنا النص لنقل شاهد على ما يشعر به القائلون بالوجوب التعييني من أسف لطول تعطيل هذه الفريضة، لا للاحتجاج به، لأن من حق الفريق الآخر أن يقول:-

أ- إن هذا التعطيل سببه الأمة نفسها من جهتين (الأولى) بإعراضها عن قيادتها الحقيقية وهو من نتائج عديدة سيئة وقعت فيها الأمة بسبب تولّي أمورها من لا يستحق وليس الشارع الأقدس هو المسؤول (الثانية) من جهة أن وجوب الجمعة تخييري وهي أفضل الفردين عند الكثيرين فلماذا لم يمتثلوا الفرد الأفضل؟.

ب- إن ندرة تحقق موضوع الواجب لعدم تحقق شرطه ليس فيه قبح كصلاة الآيات الواجبة ومع ذلك فقد لا يتحقق موضوعها (خصوصاً غير الكسوفين) إلا في النادر من الزمان.

وقد نوقشت الرواية الأولى بأنها ناظرة إلى بيان أصل الصلوات الواجبة من الجمعة إلى الجمعة ولم ترد لبيان الشروط وسائر الكيفيات المعتبرة فيها ولا نظر لها إلى أنها واجبة في أي عصر وأنها مشروطة بوجود الإمام أو من نصّبه لها.

ولكن هذه المناقشة مردودة لأنها إنما تأتي لو كان استدلالنا بالرواية على الوجوب التعييني في زمن الغيبة من جهة التمسك بالإطلاق لنفي اشتراط حضور الإمام للوجوب فيقال حينئذٍ إن الرواية ليست بصدد البيان فلا ينعقد لها

ص: 264


1- الحدائق الناضرة: 9/409.

إطلاق يصلح لنفي جزئية شيء أو شرطيته كالعدد والمسافة.

أما تقريبنا للاستدلال بها فكان من جهة شمولها لكل الأفراد والأزمنة بمن فيهم الموجودون في زمن الغيبة والعموم الوارد في الصحيحة كافٍ لدفعه بل ورد في صحيحة زرارة الثالثة المتقدمة (وذلك سنُة إلى يوم القيامة)(1) والتي تدل على الوجوب في كل زمان ولا يختص بزمن الحضور.

فهذه النصوص دالة بصراحة على الوجوب التعييني لصلاة الجمعة في كل زمان، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ومع هذا كله لا يسعنا الحكم بوجوب الجمعة تعييناً، ولا مناص من حمل الأخبار الظاهرة على ذلك على الوجوب التخييري، لأن دلالتها على وجوب صلاة الجمعة وإن كانت تامة كما مرَّ وذكرنا أنها دلالة لفظية وبالعموم إلا أن كونه وجوباً تعيينياً غير مستند إلى اللفظ وإنما يثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة باعتبار أن لفظ الواجب أو الفريضة وأشباههما إنما يكون ظاهراً في التعييني فيما إذا أطلق، ولم يقيّد بما يدل على عدل آخر له، فإن التخييري هو المحتاج إلىمؤونة البيان ولو بمثل إذا لم يأتِ بعَدْله فإذا كان الحال كما عرفت فلا مناص من رفع اليد عن إطلاق الروايات الواردة في المقام وحمله على التخييري لوجوه صالحة للقرينية والمانعية عن الأخذ بظواهرها أعني الوجوب التعييني)) (2).

وما قاله أولاً بمجمله صحيح إلا أنه يمكن الإشارة إلى أكثر من نقطة:-

1- إنه من الصحيح أن الأصل في الواجبات هو التعيين إلا أن يقوم الدليل على التخيير لكن الأصول إنما تؤسَّس لحالة الشك فيرجع إليها، أما في المقام فالأدلة صريحة في الوجوب التعييني على كل فرد -عدا ما استثني- ومثل هذا اللسان لا نحتاج معه الرجوع إلى الأصل.

2- إن صرف الظهور بل صريح النصوص يكون لقرائن تدلّ على البدلية العرضية ذكرت في علم الأصول والقائل بالوجوب التخييري لا يدّعي وجود دليل يوفّ-ر هذه المؤونة الزائدة للوجوب التخييري ولم يرد دليل

ص: 265


1-
2- الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/26.

على إجزاء صلاة الظهر يوم الجمعة إلا على نحو الطولية والبديل الاضطراري لصلاة الجمعة عند تعذر إقامتها لخوف ونحوه كموثقة ابن أبي بكير المتقدمة وغيرها، وما يتمسك به القائل بالوجوب التخييري إنما هي مجرد استبعادات تصلح قرينة -من وجهة نظره- على هذا التقييد فهل تكفي مجرد استبعادات يمكن تفسيرها بعدة وجوه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- غير تقييد الوجوب التعييني للعدول عمّا أفادته الروايات الصحيحة بصراحة؟ وهل أن حجية النصوص بهذه الدرجة من الهشاشة حتى نتحرر منها لمجرد استبعادات؟!

وقد ذكر (قدس سره) عدة وجوه صالحة للمانعية –من وجهة نظره- وهي:-

الأول: ((إن صلاة الجمعة لو كانت واجبة تعيينية لشاع ذلك وذاع ولكان من المسلّمات الواضحات نظير غيرها من الفرائض اليومية فإن حال صلاة الجمعة وقتئذٍ حال الفرائض اليومية بعينها ولم يكن لإنكار وجوبها سبيل ولم يكد يخفى على أحد من المسلمين فضلاً عن العلماء المحققين والباحثين، لوضوح أنها من المسائل عامة البلوى والنصوص فيها كثيرة متضافرة بل لا تبعد دعوى تواترها كما مرّ، ومعه كيف ساغ لفقهائنا الأعلام (قدّس الله أسرارهم) أن ينكروا وجوبها بل قد عرفت تسالم الفقهاء الأقدمين على عدمه ولم ينقل القول بالوجوب التعييني من أحدٍ منهم في المسألة على اختلاف آرائهم في مشروعيتها في عصر الغيبة وعدمها.

فإن المحكي عن الشيخ (قدس سره) جوازها وعن ابن إدريس وسلار حرمتها وعدم مشروعيتها كما اختاره بعض المتأخرين، أفلم تصل إليهم ما وصلت بأيدينا من الأخبار المتقدمة على كثرتها؟! ولا سيما من روى لنا هذه كالشيخ وغيره ممن لا يحتمل غفلته وعدم عثوره عليها كيف وهي بمرأى ومسمع منهم (قدّس الله أسرارهم) وقد ملأوا كتبهم وطواميرهم من تلك الأحاديث، ومع ذلك يدّعي الشيخ (قدس سره) الإجماع على عدم وجوب الجمعة تعييناً كما ادعاه غيره كصاحب الغنية وابن إدريس وغيرهم فهل تراها غائبة عن

ص: 266

أنظارهم أو تحتمل أنهم أفتوا بجواز ترك فريضة من فرائض الله سبحانه -على جلالتهم وعظمتهم-؟! ومع هذا التسالم كيف يمكننا الأخذ بظاهر الأخبار وإطلاقها بل يدلنا هذا على عدم كون الجمعة واجبة تعيينية إذن لا مناص من حمل تلك النصوص على الوجوب التخييري وأفضل الفردين)).أقول: هذا المانع والذي يليه مذكور في كتب الفقهاء السابقين كالحدائق ونقله عن الشيخ الشهيد (قدس سره) فإن صاحب الحدائق بعد أن أثبت الوجوب التعييني قال: ((وإنما وقعت في الشبهة أصحاب الآراء من المتأخرين لما رأوا ترك أجلّة الأصحاب لها برهة من الزمان دون برهة فزعموا أن لها شرطاً آخر غير ما ثبت من الأخبار الصحيحة وأنه قد يوجد وقد لا يوجد وإلا لما تركها هؤلاء الأجلاّء وقتاً دون وقت، كما قال الشيخ الشهيد (قدس سره) بعد إثباته الوجوب العيني بالبرهان: إلا أنَّ عمل الطائفة على عدم الوجوب العيني في سائر الأعصار والأمصار، واتفقت آراؤهم على أن ذلك الشرط إنما هو حضور السلطان العادل أو من نصّبه لذلك))(1).

وفيه:-

1- إننا نأخذ أحكامنا من المعصومين ولا نتركها من أجل قول الفقهاء مهما عظمت منزلتهم وبعد أن دلت النصوص الصريحة الصحيحة على الوجوب التعييني فلا معنى لاستبعاده والعدول عنه لمجرد أن الفقهاء لم يقولوا به أو لم يعملوا به.

2- إن عدم ذيوع الوجوب التعييني ليس على صعيد الفتوى وإنما على صعيد العمل به كما نبهنا في المنشأ الثاني لاختلاف الفقهاء وهو لا يعني عدم ثبوته فإن عوامل كثيرة تساعد على طمس أحكام ثابتة في الشريعة كالزواج المؤقت فإنه متسالم الجواز عندنا بل توجد روايات تحثّ عليه ومع ذلك فإنه أندر من إقامة صلاة الجمعة وكلاهما من المسائل عامة البلوى ولولا النهي عنه لما زنى إلا شقي -كما ورد في الحديث الشريف- ومع ذلك فهو معطَّل كصلاة الجمعة فهذا نقض على القائل.

ص: 267


1- الحدائق الناضرة: 9/392.

إن قلتَ: إنه قياس مع الفارق لأن زواج المتعة جائز فيجوز تركه أما صلاة الجمعة فهي واجبة تعييناً فتركها غير جائز.

قلتُ: هذا صحيح لكن مقصودي تقريب فكرة حاصلها: إن طول التعطيل قد يكون لموانع من دون أن يؤثر في الحكم شيئاً.

3- إن عدم ذيوع إقامة صلاة الجمعة في زمن المعصومين (عليهم السلام) على الأقل كان لوجود المانع عن إقامتها وليس لعدم وجود مقتضي الوجوب التعييني فيها، وهذه فكرة مهمة تُعدَّ محور النفق المظلم الذي دخله فقهاؤنا ولم يخرجوا منه فعطلوا هذه الفريضة المباركة وحرمت الأمة نفسها من آثارها العظيمة كما ساقت نفسها إلى الانحلال الخلقي والكبت الجنسي بسبب تحريمها الزواج المؤقت على نفسها.

وتوضيح ذلك: إن إقامة صلاة الجمعة كانت من وظائف الوالي التابع للسلطة بحسب ما تقتضيه مراسيم الدولة فيؤديها بنفسه أو يعيّن نائباً خاصاً له(1) فلم يكن بمقدور الإمام (عليه السلام) أن يقيمها لأن ذلك يُعدُّ خروجاً على السلطة وتمرداً عليها فيعاقب بالاستئصال وكذا أصحابهم (عليهم السلام) لا يقيمونها مستقلين وقد نبّه الإمام (عليه السلام) أصحابه لذلك ففي رواية حماد بن عيسى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليه السلام) (قال: إذا قدم الخليفة مصراً من الأمصار جمع الناس ليس ذلكلأحد غيره)(2)خصوصاً وإن الخطبة تتضمن وجوباً الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) وهو من أكبر المحذورات في ذلك الزمان فقد ترك ابن الزبير الصلاة على آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة الجمعة في مكة ولما عوتب في ذلك لأنها جزء واجب من الخطبتين قال: أكره أن تشمخ أنوف بني هاشم، وكان لا يستطيع أحدٌ أن يروي حديثاً عن علي بن أبي طالب -وهو رابع الخلفاء الراشدين عندهم- فيكنيه ب-(أبي زينب). نعم، قد يؤدونها مع القوم تقية أو حفظاً لوحدة الأمة ونحوها وكذا كان أصحابهم وأحياناً كانوا

ص: 268


1- و قد اقر بذلک السید الخوئی قدس سره التنقیح 11 / 43
2- وسائل الشیعه کتاب الصلاة ابواب صلاة الجمعه و آدابها باب 20 ح 1

يؤدّون معهم صورة الصلاة ويتمّونها أربع ركعات ظهراً لعدم قناعتهم بعدالة إمام الجمعة، دلّت عليه روايات عديدة ففي صحيحة حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في حديث) قال: (في كتاب علي (عليه السلام) إذا صلوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم ولا تقومنّ من مقعدك حتى تصلي ركعتين أخريين، قلت: فأكون قد صلّيتُ أربعاً لنفسي لم أقتدِ به، فقال: نعم)(1)

وفي صحيحة زرارة (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن أناساً رووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه صلّى أربعَ ركعات بعد الجمعة لم يفصل بينهن بتسليم. فقال: يا زرارة إن أمير المؤمنين (عليه السلام) صلّى خلف فاسق فلما سلم وانصرف قام أمير المؤمنين (عليه السلام) فصلى أربع ركعات لم يفصل بينهن بتسليم، فقال له رجل إلى جنبه: يا أبا الحسن صلّيت أربع ركعات لم تفصل بينهن، فقال: (أما) أنها أربع ركعات مشبهات وسكت فوالله ما عقل ما قال له)(2).

وتقدمت الإشارة إلى تبكير الإمام الباقر (عليه السلام) إلى المسجد.

وفي موثقة أبي بصير قال: (دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) في يوم جمعة وقد صلّيتُ الجمعة والعصر فوجدته...)(3) وهذا شاهد على أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا يؤدونها.

ولأن عدم شيوع إقامتها كان بسبب وجود المانع لا عدم وجود المقتضي كان الأئمة (عليهم السلام) يحثّون أصحابهم على إقامتها في الأمكنة التي لا يوجد فيها هذا المحذور كالمدن الصغيرة والقرى لأن الوالي كان يرى مسؤوليته مقتصرة على إقامة الجمعة في مركز الولاية والمدن الكبيرة فلا تُعدُّ إقامتها في غيرها خروجاً عليه لكن الإمام (عليه السلام) لم يكن يستطيع التوسع في بيان هذا الحكم خشية تحوّله إلى ظاهرة عامة تلفت أنظار السلطة وتوجب قلقها ويقع المحذور، ففي صحيحة زرارة قال: (حثّنا أبو عبد الله (عليه السلام) على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يريد أن نأتيه فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنما عنيتُ

ص: 269


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 29، ح1، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 29، ح1، 3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 10، ح1.

عندكم)(1) وموثقة عبد الملك -أخي زرارة- عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مثلك يهلك ولم يصلِّ فريضة فرضها الله، قال: قلتُ: كيف أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني صلاة الجمعة)(2) وإن كان ذيل الرواية (يعني صلوا جماعة) لا يعلم أنه من الإمام بل الظاهر أنه من الراوي وعلى أي حال إنالسياق يدل عليه وليست هي الرواية الوحيدة في المقام، وقد ورد في عدة روايات أن العائق عن إقامتها لم يكن إلا هذا.

ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمَّهم بعضهم وخطبهم)(3) وكان بطش الحكام بالشيعة قد بلغ حداً مهولاً والأئمة (عليهم السلام) أحرص الناس على شيعتهم وبلغ بهم الشفقة عليهم درجة النهي حتى عن صلاة الجماعة -التي ليست من وظائف الوالي خصوصاً في القرى- إذا كان فيها ما يثير ارتياب السلطة ففي موثقة ابن بكير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم إذا لم يخافوا)(4) وأجاز لأهل القرى أن يقيموها لعدم وجود المانع المتقدم وكان ذلك منهم (عليهم السلام) لأجل إزالة توهم عدم وجوبها عن أذهان شيعتهم الذي يمكن أن يرسخ بسبب طول الترك والتعطيل ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (قال: سألته عن أناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة؟ قال: نعم ويصلون أربعاً إذا لم يكن من يخطب)(5) وصحيحة الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا

ص: 270


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5، ح1.2.4
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5، ح1.2.4
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5، ح1.2.4
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 12، ح1.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 3، ح1.

خمس نفر وإنما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين)(1).

ودلالته على الوجوب ظاهرة من خلال قوله (عليه السلام) (جمعوا).

4- أما تسالم الفقهاء على عدم وجوبها ففيه:-

أ- إنه غير محقق وقد التزمنا بعدم نقل كلمات الفقهاء (قدس الله أسرارهم)؛ وقد نقل صاحب الحدائق(2)

نصوصاً لأساطين فقهاء الطائفة (قدس الله أرواحهم) ظاهرة في الوجوب التعييني كالشيخ المفيد وأبي الصلاح الحلبي وأبي الفتح الكراجكي والطبرسي والكليني والصدوق والشهيد الثاني والسيد صاحب المدارك وصاحب البحار وتحتمله بعض كلمات الشيخ الطوسي (قدس سره).

ب- إنه تسالم اجتهادي وليس تعبدياً فلا ينفع في الاستدلال وإنما يتوجه النظر إلى الأدلة التي استند إليها المتسالمون خصوصاً وإننا نفهم وجود اتجاه غير صحيح في فهم مبررات عدم إقامة صلاة الجمعة في الأزمة التي عاشها المتقدمون حيث كانوا في ظل الدولة العباسية التي ترى شرعية خلافتها وتتعامل وفق ذلك ففسر الفقهاء عدم إقامتها بقصور دليلها عن إفادة الوجوب التعييني وهو في الحقيقة بسبب وجود المانع الذي ذكرناه أو لفهم اشتراط وجود السلطان العادل لإقامتها من بعض النصوص الواردة.

ج-- إننا نعلم أحياناً أن تسالم الفقهاء يكون له مناشئ غير معتبرة كفتوى فقيه له هيبة علمية وقدسية تمنع اللاحقين من الخروج عن دائرة فتاواه احتراماً لهأو خشية من ردود الفعل الاجتماعية كما نقل عن الفقهاء الذين تلوا الشيخ الطوسي وامتدت لأكثر من مئة عام وكاد باب الاجتهاد أن يغلق لولا شجاعة الفقيه ابن إدريس (قدس سره) الذي كسر هذا الطوق.

وقد يكون التسالم مستنداً إلى فهم معين للنصوص يتركز في الأذهان

ص: 271


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 3، ح2.
2- الحدائق الناضرة: 9/378-396.

فيفكر الآخرون في إطاره حتى يُقيِّض الله تعالى من يخرج عنه كالحكم بوجوب نزح البئر من الميتة التي امتدت قرون حتى خالفها العلامة الحلي (قدس سره) على ما قيل.

((قال شيخنا الشهيد الثاني في الدراية: إن أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليداً له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به فلما جاء المتأخرون وجدوا أحكاماً مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه فحسبوها شهرة بين العلماء وما دروا أن مرجعها إلى الشيخ (قدس سره) وإن الشهرة إنما حصلت بمتابعته، ثم قال: وممن اطّلع على هذا الذي تبيّنتُه وتحققّته من غير تقليد: الشيخ الفاضل سديد الدين محمود الحمصي والسيد رضي الدين بن طاووس وجماعة، قال السيد (قدس سره) في كتابه المسمى بالبهجة لثمرة المهجة: أخبرني جدّي الصالح ورّام بن أبي فراس (قدس الله روحه) إن الحمصي حدّثه أنه لم يبقَ للإمامية مفتٍ على التحقيق بل كلهم حاكٍ. وقال السيد عقيب ذلك: والآن ظهر أن الذي يُفتى به ويُجاب على سبيل ما حفظ من كلام العلماء المتقدمين))(1).

5- إن معنى الوجوب التخييري هو كون أفراده في عرض واحد من حيث الامتثال حتى وإن كانت لبعضها أفضلية على بعض وهو لا يكون إلا إذا دلّ الدليل عليه كخصال الكفارة حيث عطف الشارع المقدس بعضها على بعض ب-(أو) وقرائن أخرى ذكرت في محلها ولا يوجد مثل هذا الدليل في المقام وإنما هو شيء تخيّله الفقهاء لحلّ المشكلة التي يواجهونها فمن جهة تدل النصوص على وجوبها التعييني ومن جهة يرون عدم الاهتمام بإقامتها فقالوا بالتخيير وعندئذٍ إذا حُلَّت المشكلة بما ذكرناه فلا مسوغ للقول بالوجوب التخييري لأنه تشريع من غير دليل.

وقد تقدم منا أن بدلية الظهر عن الجمعة طولية كخصال الكفارة المرتبة حيث أن من لم يتمكن من الفرد الأول يأتي بالثاني وهكذا فإن من لم يتمكن من أداء صلاة الجمعة لخوف أو لعدم وجود إمام يخطب -على تعبير بعض

ص: 272


1- الحدائق الناضرة: 9/377.

النصوص- أو لعدم اكتمال العدد فله أن يصلي الظهر بدلاً عنها.

ومن الترخيصات التي أذن بها الشارع المقدس نزول المطر واتفاق العيد يوم الجمعة فمن صلى العيد جماعة يُرخَّص في حضور الجمعة، دلّ على الأول صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لا بأس أن تدع الجمعة في المطر)(1) ودل على الثاني صحيحة الحلبي أنه (سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفطر والأضحى إذا اجتمعا في يوم الجمعة، فقال: اجتمعا في زمان علي (عليه السلام) فقال: من شاء أن يأتي إلى الجمعة فليأت ومن قعد فلا يضرّه، وليصلّ الظهر، وخطب خطبتين جمع فيهما خطبة العيد وخطبة الجمعة)(2).

الثاني: وهو لا يختلف عن الأول من حيث المضمون إلا أن الأول بلحاظ الفتوى والثاني بلحاظ العمل، قال (قدس سره): ((إن صلاة الجمعة لو كانت واجبة تعيينية فلماذا جرت سيرة أصحابهم (عليهم السلام) على عدم إقامتها في زمانهم على جلالتهم في الفقه والحديث فهل يحتمل أن يكونوا متجاهرين بالفسق لتركهم واجباً تعيينياً في حقهم وفريضة من فرائض الله سبحانه؟! فكيف أهملوا ما وجب في الشريعة المقدسة ولم يعتنوا بالأخبار التي رووها بأنفسهم عن أئمتهم (عليهم السلام) ولم يعملوا على طبقها؟!

والذي يدلنا على جريان سيرتهم على ترك الجمعة -مضافاً إلى أنه لم ينقل إلينا إقامتهم لصلاة الجمعة في تلك الاعصار فانهم لو كانوا أقاموها لنقل إلينا لا محالة وظهر وبان- نفس الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) فهذه صحيحة زرارة قال: (حثّنا أبو عبد الله (عليه السلام) على صلاة الجمعة حتى ظننتُ أنه يريد أن نأتيه، فقلتُ: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنما عنيتُ عندكم)(3)وموثقة

عبد الملك-ابن أعين وهو أخو زرارة- عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال: مثلك يهلك ولم يصلِّ فريضة فرضها الله، قال: قلت كيف

ص: 273


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب23، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب15، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب5، ح1.

أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني صلاة الجمعة)(1) فإن الرواية الأولى صريحة في أن زرارة -على جلالته- لم يكن يصلي صلاة الجمعة فلو كانت واجبة تعيينية كيف أمكن أن يخفى على مثله؟ فلو كان عالماً بها وغير مخفية عليه فكيف يحتمل أن يكون تاركاً فريضة من فرائض الله سبحانه -جهراً- مع ما ورد في شأنه وشأن نظرائه من المدح والثناء فمن جريان سيرته على عدم إقامتها -وهو الراوي لجملة من الأخبار الظاهرة في الوجوب- نستكشف كشفاً قطعياً أن صلاة الجمعة ليست واجبة تعيينية على أن الحثّ والترغيب إنما يناسبان الأمور المستحبة وأما الواجبات فلا مجال فيها لهما بوجه بل اللازم فيها التوبيخ على تركها والتحذير على مخالفتها بالوعيد، فهذا اللسان لسان الاستحباب دون الوجوب.

كما أن الظاهر من الموثقة أن عبد الملك -على ما هو عليه من الجاه والمقام- لم يصلّ صلاة الجمعة طيلة حياته ولو مرة واحدة حتى صار بحيث وبخه الإمام (عليه السلام) بقوله: (مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله). فهاتان الروايتان المعتبرتان دلتا على أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) جرت سيرتهم على ترك صلاة الجمعة إلى أن وبخهم (عليه السلام) أو حثهم عليها))(2).

وفي نهاية المناقشة قال (قدس سره): ((وكيف كان فقد استفدنا من الروايات الواردة أن سيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانت جارية على ترك الجمعة ولا يرضى القائل بالوجوب باحتمال أن أصحابهم (عليهم السلام) على كثرتهم وجلالتهم كانوا تاركين لواجب أهم بل متجاهرين بالفسق وترك فريضة من فرائض الله سبحانه،وهذا دليل قطعي على أن صلاة الجمعة ليست بواجبة تعيينية))(3).

ويناقش من عدة جهات:-

1- أول اعتراض هو على هذا النمط من الاستدلال بأن يجعل الرجال - مهما

ص: 274


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب5، ح2.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة):11/ 27-29.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة):11/ 30.

كانوا ما داموا ليسوا معصومين- ميزاناً للحق بينما الصحيح أن يكون الحق المستفاد من القرآن الكريم والسنة الشريفة ميزاناً للرجال كما ورد في الحديث الشريف (لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله)(3) فما دامت النصوص الصريحة الصحيحة دالة على الوجوب التعييني فلا معنى لتحويلها إلى غير ذلك من أجل فعل الأصحاب، ويذكّرني هذا النمط من التفكير بما ورد (أن شاباً سأل أبان بن تغلب: يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله؟ قال أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي بمن تبعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الرجل: هو ذاك، فقال: والله ما عرفنا فضلهم إلاّ باتباعهم إياه)(1).

فنحن نريد مثل هذا الموقف من المجيب لا السائل.

2- إن عدم أداء أجلاّء أصحاب الأئمة (عليهم السلام) للصلاة لم يكن تهاوناً بوجوبها وتركاً متعمداً لفريضة من فرائض الله تبارك وتعالى حتى يلزم تفسيقهم - والعياذ بالله- بحيث جعله دليلاً قطعياً على عدم الوجوب التعييني وإنما تركها أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لوجود المانع عن إقامتها بأنفسهم لها وقد تقدم بيانه ولا يرون اجتماع الشروط فيمن يقيمها لعدم عدالته فسقط التكليف عنهم أو لتوهمهم اشتراط إقامة الإمام بنفسه لها بحسب ما رسخ في أذهانهم من النصوص الكثيرة التي ذكرناها في مطاوي البحث، لذا كان سؤال زرارة (أنغدوا عليك؟) وسؤال عبد الملك (فكيف نصنع؟) لأنهم يتصورون ارتباط إقامتها بإقامة الإمام لها.

3- لماذا تساءل (قدس سره) عن سبب عدم إقامة الأصحاب لصلاة الجمعة وجعله مانعاً من القول بالوجوب التعييني وكان الأبلغ في الحجة أن يجعل عدم إقامة الأئمة (عليهم السلام) أنفسهم صلاة الجمعة حيث لم يقمها أحَدٌ ممن أُقصي منهم (سلام الله عليهم) من الخلافة؟ لعله (قدس سره) أراد أن ينجو من الوقوع في تناقض لأنه ممن يرى وجوبها في عصر الحضور

ص: 275


1- معجم رجال الحديث (من الموسوعة الكاملة): 1/22.

وإنما الخلاف في زمن الغيبة قال (قدس سره): ((إلا أنهم بعد اتفاقهم على وجوبها التعييني مع الإمام (عليه السلام) أو من نصّبه لذلك اختلفوا في أنها عند عدم حضور الإمام (عليه السلام) أو المنصوب الخاص من قبله هل تبقى على وجوبها التعييني كما في عصر الحضور))(1)

ولا يستطيع (قدس سره) أن يقول إن عدم إقامة الأئمة لها دليل على وجوبها التخييري في عصرهم (سلام الله عليهم) وقادح في الوجوبالتعييني فلماذا كان عدم إقامة الأصحاب قادحاً فيه وكاشفاً عن عدمه؟ ونحن قد نبّهنا إلى أن المناط في الوجوب التعييني وعدمه هي القدرة على إقامتها بلا موانع وعدمها لا التفصيل بين الحضور والغيبة الوارد في كلامهم، وربما أيّده بعضهم(2)

بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقمها إلا بعد هجرته وبروز دولته في المدينة المنورة.

4- إن تقصير الأمة في أداء عدد من الطاعات متحقق ومنها نفس صلاة الجمعة فبالرغم من أن القائل بالوجوب التخييري يراها أفضل الفردين كما تقدم منه (قدس سره) في النص الذي نقلناه عنه في الاستبعاد الأول إلا أننا نرى تعطيلهم للفرد الأفضل على مدى تأريخ الإسلام إلا في فترات قليلة رغم وجود ظروف مناسبة لإقامتها.

وقد نستطيع الدفاع عنهم بأن ذلك كان منهم دفعاً للفتنة التي يمكن أن تحصل بسبب التشاح والتزاحم على هذا الموقع الشريف الذي تطمح إليه النفوس المجبولة على حب الرئاسة.

ومن الشواهد الأخرى تقصير الأمة في القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشكل الذي يقاوم الفساد والانحراف والجهل والضلال والغزو الفكري والأخلاقي والاجتماعي لأعداء الإسلام لشروط أضافوها

ص: 276


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/13.
2- سيد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن).

للوجوب وهي قابلة للتشكيك في حصولها كاحتمال التأثير في الآخر ونحوها(1)

وكان يمكن لصلاة الجمعة أن تكون أهم وسائل أداء هذه الفريضة العظيمة التي بها تقام السنن وتحل المكاسب وتأمن المذاهب وتحيى الفرائض وتموت البدع(2)

ولما كانت الأمة على الحال الذي وصلت إليه.

5- ما تقدم من أن الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم كانوا يحضرون صلاة الجمعة ويصلّون مع القوم بنحو من الأنحاء(3)، نعم، هم لم يقيموها

ص: 277


1- راجع بحث (الأسس العامة للفقه الاجتماعي).
2- مضامين أحاديث شريفة موجودة في وسائل الشيعة.
3- النحو الأول: أن يصلّي قبله أو بعده بالإضافة إلى الصلاة معه، ففي صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن أناساً رووا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه صلى أربع ركعات بعد الجمعة لم يفصل بينهن بتسليم؟ فقال يا زرارة إن أمير المؤمنين عليه السلام صلّى خلف فاسق فلما سلّم وانصرف قام أمير المؤمنين عليه السلام فصلّى أربع ركعات لم يفصل بينهنّ بتسليم، فقال له رجل إلى جنبه يا أبا الحسن صلّيتَ أربع ركعات لم تفصل بينهن؟ فقال عليه السلام: إنها أربع ركعات مشبّهات وسكت، فوالله ما عقل ما قال له) (الوسائل، أبواب صلاة الجمعة، باب 29، ح4) وعن أبي بكر الحضرمي: (قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام كيف تصنع يوم الجمعة؟ قال: كيف تصنع أنت؟ قلت:أصلي في منزلي ثم أخرج فأصلي معهم، قال: كذلك أصنع أنا) (باب29، ح3). النحو الثاني: أن يصلي معهم صورة بإضافة ركعتين ففي حديث حمران (قال أبو عبد الله عليه السلام: في كتاب علي عليه السلام: إذا صلوا الجمعة في وقت فصلوا معهم ولا تقومن من مقعدك حتى تصلي ركعتين أخريين، قلت: فأكون قد صليت أربعاً لنفسي لم أقتدِ به، فقال: نعم) (الباب29، ح1) وخبر حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك إنا نصلي مع هؤلاء يوم الجمعة وهم يصلون في الوقت فكيف نصنع؟ فقال: صلوا معهم، فخرج حمران إلى زرارة فقال له: قد أمرنا أن نصلي معهم بصلاتهم، فقال زرارة: هذا ما يكون إلا بتأويل، فقال له حمران: قم حتى نسمع منه، قال: فدخلنا عليه، فقال له زرارة: إن حمران أخبرنا عنك أنك أمرتنا أن نصلي معهم فأنكرت ذلك، فقال لنا: كان الحسين بن علي عليه السلام يصلي معهم الركعتين، فإذا فرغوا قام فأضاف إليها ركعتين) (الباب29، ح5) وحيث أن المقصود صلاته لنفسه جاز أن يقدم الركعتين فيصلي معهم الأخيرتين لنفسه. النحو الثالث: الصلاة معهم تقية، كصحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصف الأول) (الوسائل، أبواب صلاة الجماعة، باب5، ح1) وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ) (الباب5، ح1) وموثقة إسحاق بن عمار قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق أتصلي معهم في المسجد؟ قلت: نعم، قال: صل معهم فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله) (أبواب صلاة الجماعة، باب5، ح7). أما الأصحاب فيظهر من عدة روايات أنهم كانوا يقيمونها كموثقة أبي بصير قال: (دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) في يوم جمعة وقد صليت الجمعة والعصر.. إلخ) (أبواب صلاة الجمعة، باب10، ح1) ومعتبرة عمر بن حنظلة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) القنوت يوم الجمعة فقال: أنت رسولي إليهم فيها، إذا صليتم في جماعة ففي الركعة الأولى وإذا صليتم وحداناً ففي الركعة الثانية) (التهذيب، ج3، باب 1: العمل في ليلة الجمعة ويومها، ح75) وهي ظاهرة في حالة أنها كانت موجودة عندهم.

مستقلين وهذا لايدل على عدم وجوبها التعييني بل لوجود المانع وورود رخصة بأنهم (إذا خافوا) يسقط عنهم الفرض والخوف النوعي متحقق أكيداً لو اتسعت هذه الحالة خارج نطاق الدولة لذا وبّخ الإمام أصحابه على تركها وحثهم على إقامتها بشكل محدود وجزئي لا يتحقق معه المحذور فصحيحة زرارة وموثقة عبد الملك دليلٌ لنا لا علينا لأن الوجوب لو كان تخييرياً لم يكن مبرر للتوبيخ والزجر كما أن من اختار إحدى خصال الكفارة المخيّرة لا يكون ملوماً! مع وجود المبرر لدى الأصحاب ظاهراً لعدم إقامتها وهي التقية عند إقامتهم لها وعدم صحة الائتمام لو أقاموها معهم.

ص: 278

وقد تقول إن التوبيخ لأجل تركهم أفضل الفردين على الدوام ولكن هذا مردود لأن قضية أفضل الفردين هو فهم للحثّ بعد البناء على الوجوب التخييري ونحن استظهرنا فهماً آخر وهو أن الترخيص بتركها لأجل التقية لا يلزم منه تركها بالمرة وعلى الدوام لإمكان الإتيان بها في أزمنة متباعدة وأمكنة متفرقة.

6- إن عدم إقامة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لصلاة الجمعة لم يكن مرْضيّاً عند الأئمة (سلام الله عليهم) حتى يمكن الاستدلال به فهذه صحيحة زرارة وموثقةأخيه عبد الملك تظهران امتعاض الإمام (عليه السلام) من عدم إقامة الشيعة لهذه الفريضة متخذين من عدم إقامة الإمام لها عذراً لتضييعهم فأعلمهم بأن التكليف مختلف وأن ما يمنعه عنها ليس متوفراً بالضرورة عندهم ولكنه لم يستطع أن يوسِّع الدعوة إلى شيعته لإقامتها لما ذكرناه من لزوم التفات الدولة لهذه الظاهرة العامة وملاحقة رموزها وعلى رأسهم الإمام (عليه السلام).

أما ما قاله (قدس سره) من ((أن الحث والترغيب إنما يناسبان الأمور المستحبة.. الخ)) ففيه:-

1- إن الظاهر من الحث هنا في الرواية الطلب المتكرر وليس الترغيب بقرينة قول زرارة (حتى ظننت) والطلب يدل على الوجوب.

2- إن إقامة الجمعة وإن كان مشروطاً بعدم الخوف إلا أن الخوف الملحوظ ليس واحداً بالنسبة لجميع المسلمين فإنه في الجملة متحقق في ظل أولئك الطواغيت إلا أنه مختلف من مكانٍ لآخر ومن وضع لآخر فالتكليف بإقامة الجمعة مختلف من مجتمع لآخر؛ فالحث لوحظ فيه رعاية هذا التفاوت وإلفات نظر الأصحاب إليه من دون أن يحوله الإمام إلى تكليف عام للنكتة التي ذكرناها فالأصحاب وإن كانوا معذورين في تركهم لصلاة الجمعة باعتبار الخوف النوعي إلا أن الإمام حثّهم على تحري مواطن الأمن وعدم البطش ليقيموها ولو في العمر مرة وفي القرى وإن كانوا معذورين بحسب الحالة العامة، وهذا هو المناسب لفهم ما رواه

ص: 279

الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (أحبُّ للرجل أن لا يخرج من الدنيا إلا ويتمتع ولو مرة واحدة وأن يصلي الجمعة ولو مرة)(1).

وورد نظير ذلك في الحج فإنه وإن كان مشروطاً بالاستطاعة إلا أنه لو اتفق عدم الاستطاعة للناس فعلى مجموعة منهم أن يوفروها وإلا فينفق الوالي لكيلا يلزم تعطيل البيت الحرام ففي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو عطل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج إن شاؤوا وإن أبوا فإن هذا البيت إنما وضع للحج)(2)

وصحيحة الفضلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين)(3).

3- إن التعبير بالوجوب والإلزام إنما يناسب الواجبات الثابتة الدائمية كالصلوات المفروضة اليومية وصوم رمضان لا مثل صلاة الجمعة التي لا تتحقق ظروف إقامتها إلا في أزمنة وأمكنة متباعدة.

4- إنه (قدس سره) لا يقول باستحباب صلاة الجمعة وإنما بوجوبها التخييري فينافيه استفادة الاستحباب من الحثّ. وإن قلت إن الاستحباب لاختيار أفضل الفردين فقد تقدّم التعليق عليه.

5- إن الحث حتى لو فهمنا منه الترغيب فإن العرف قد يفهم من الحث أنه موضوع لجامع التحريك والبعث وطلب المبادرة والإسراع نحو الفعل الأعم من الوجوبي والاستحبابي والقرائن هي التي تميّز أحدهما ولو بقرينة أصالة براءة الذمة من الوجوب فإن شخصاً لو دعا آخر غير ملتزم بالصلاة أو أي واجب آخر للالتزام به وكرّر عليه الدعوة فإنه يصدق عرفاً أن يقال: (حثّه على الصلاة) فالحث بمعنى الاستباق الذي ورد في الآية

ص: 280


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب2، ح7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، الباب5، ح1،2
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، الباب5، ح1،2

الشريفة «فَاستَبِقُوا الخَيْرَاتِ» الذي لا يعي-ّ-ن كون الخيرات وجوبية أو استحبابية. قال الراغب ((الحضّ التحريض كالحثّ إلا أن الحث يكون بسوقٍ وسير والحضّ لا يكون بذلك))(1)

فالحث أكثر إلزاماً من الحضّ وقد تعلق الحض بالواجبات في قوله تعالى: «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسكِينِ» (الحاقة: 34) قال الطبرسي: ((إنه كان يمنع الزكاة والحقوق الواجبة))(2).

والنتيجة أن هذه (الوجوه الصالحة للمانعية) عن الأخذ بمداليل الروايات على الوجوب التعييني غير صالحة للمانعية وتبقى النصوص الصريحة الدالة على الوجوب التعييني بلا مانع.

الثالث من الموانع ((الأخبار الواردة في عدم وجوب الحضور لصلاة الجمعة على من كان بعيداً عنها بأزيد من فرسخين، وقد عُدَّ هذا من جملة المستثنيات في بعض الصحاح المتقدمة)) ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنما فرض الله عز وجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله عز وجل في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين)(3)

وصحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام (الجمعة على من إن صلى الغداة في أهله لأدرك الجمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما يصلي العصر في وقت الظهر كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجعوا إلى رحالهم قبل الليل، وذلك سنة إلى يوم القيامة)(4)

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

ص: 281


1- المفردات للراغب، مادة (حضّ).
2- مجمع البيان: مج5/523.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب1، ح1،2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب4، ح1.

عن الجمعة فقال: تجب على كل من كان منها على رأس فرسخين فإن زاد على ذلك فليسعليه شيء)(1).

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (تجب الجمعة على كل من كان منها على فرسخين)(2).

وقد قرّب (قدس سره) وجه المانعية بقوله (قدس سره): ((والوجه في دلالتها على عدم وجوب الجمعة تعييناً أن الحضور لها إذا لم يكن واجباً على النائي بأزيد من فرسخين وبنينا على أن صلاة الجمعة واجبة تعيينية لوجوب إقامتها على من كان بعيداً عنها بأزيد من فرسخين في محله، لأن مفروضنا وجوبها على كل مكلف تعييناً، وإمام الجماعة يوجد في كل قرية ومكان من بلاد المسلمين، اللهم إلا أن يحمل الأخبار على سكنة الجبال ومن يعيش في القلل على سبيل الانفراد وهو من الندرة بمكان إذاً فبأي موجب تسقط صلاة الجمعة عن النائي بأزيد من فرسخين فالحكم بسقوطها عنه بقوله (عليه السلام) فليس عليه شيء يدلّنا على عدم وجوبها تعييناً لا محالة)).(3) .

وفيه:-

1- إننا نستطيع أن نقرّب دلالتها على الوجوب التعييني على عكس ما قرّبه (قدس سره) من مانعيتها عنه من جهة العموم الوارد في الروايتين الأولى والثانية لا من جهة التمسك بإطلاق الوجوب وعدم اشتراطه بحضور الإمام (عليه السلام) لأن الرواية ليست بصدد البيان من هذه الجهة وإنما هي بصدد تحديد مسافة من تجب عليه ويؤيده وجود تعليق في ذيل الرواية في التهذيب (ومعنى ذلك إذا كان إمام عادل)(4) وهو غير ظاهر في صدوره عن المعصوم فقيد إطلاقها، فجعل (قدس سره) الرواية دالة على عدم الوجوب التعييني ((لا محالة)) فيه مبالغة.

2- إن قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (فليس عليه شيء) لا

ص: 282


1- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها،الباب4، ح6،5.
2- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها،الباب4، ح6،5.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/30.
4- التهذیب ج3 باب1 العمل في لیلة الجمعة و یومها ح 80

يعني سقوط التكليف عنه مطلقاً بل بلحاظ هذه الصلاة وأعتقد أن هذا المعنى واضح في أذهان أهل اللغة كقول المضيف لضيفه: لقد أعددت لك في هذه الدار كل شيء أي مما تحتاجه في إقامتك وليس يعني أنه جمع الدنيا لضيفه؛ فالإمام (عليه السلام) يسقط عنه التكليف بالحضور في هذه الصلاة أما ما وراء ذلك كوجوب عقد جمعة غيرها فهو مشمول بالعمومات التي دلّت على وجوب إقامتها عند اجتماع الشرائط ومنها، وجود إمام يخطب على تعبير الروايات.

3- إن وجود إمام الجمعة الجامع لشروطها، ومنها أداء الخطبتين بالمضمون الذي يريده الشارع المقدس ليس بهذه الوفرة في كل قرية ومكان وهو ما سنناقشه لاحقاً بإذن الله تعالى والشاهد على ذلك واقعنا الحالي فليس من السهل إيجاد أئمة جمعات بالعدد الكافي للمدن الكبيرة والصغيرة فضلاً عن القرى والأرياف وعلى رأس كل فرسخ وعلى هذا فلا داعي لحملها على الفرد النادر كما قال (قدس سره) ومنعه بل إن عدم إقامتها لعدم توفر شرطٍ ما.

وقد شرحت هذا المعنى وأوضحته معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال: تجب الجمعة على من كان منها على فرسخين، ومعنى ذلكإذا كان إمام عادل وقال: إذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء)(1) فإن الرواية أذنت بإقامة جمعة أخرى مع توفر الإمام العادل على مسافة فرسخ فضلاً عن الفرسخين، بل يمكن جعلها دليلاً على وجوب إقامتها لأن المورد من مصاديق (إذا جاز وجب) باعتبار أن إقامة الجمعة واجبة وإنما رُخِّص فيها لوجود مانع فإذا زال المانع عاد الوجوب.

4- إنه حتى لو أمكن إقامة صلاة الجمعة في المكان الذي يبعد فرسخين بل فرسخاً واحداً فإن إقامتها بيد الإمام ونائبه الفقيه الجامع للشرائط وقد لا يرى المصلحة في تفريق الناس على جمعات وإنما يجمعهم في مكان واحد

ص: 283


1- وسائل الشیعه کتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها،باب7، ح 2.

ليتحقق الغرض من التشريع.

الرابع من الموانع ((الروايات الواردة في أنَّ كل جماعة ومنهم أهل القرى إذا كان فيهم من يخطب لهم لصلاة الجمعة وجبت عليهم إقامتها وإلا يصلون ظهراً أربع ركعات))، ومنها:-

صحيحة محمد بن مسلم عن احدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن أناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال: نعم ويصلون أربعاً إذا لم يكن من يخطب)(1).

ومعتبرة الفضل بن عبد الملك قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا كان قوم (القوم) في قرية صلوا جمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر وإنما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين)(2).

وموثقة سماعة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة يوم الجمعة فقال: أما مع الإمام فركعتان وأما من يصلّي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر، يعني إذا كان إمام يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلوا جماعة).(3)

وموثقة ابن بكير قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم، أيصلون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم إذا لم يخافوا)(4).

وقرّب (قدس سره) وجه المانعية بقوله: ((وتقريب الاستدلال بتلك الروايات أن المراد فيها بمن يخطب لا بد أن يكون من يخطب لهم - بالفعل- لا مَنْ مِنْ شأنه أن يخطب، وإن لم يتمكن من الخطبة فعلاً، وذلك لأن الظاهر المتبادر من قوله (عليه السلام) - من يخطب - هو الفعلية فحمله على إرادة من يخطب شأناً وقوة بمعنى من له قابلية ذلك خلاف الظاهر جداً.

ص: 284


1- وسائل الشیعه الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها،باب3، ح1، 2.
2- وسائل الشیعه الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها،باب3، ح1، 2.
3- وسائل الشیعه کتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها،باب5، ح 3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 12، ح1.

على أن ذلك فرض نادر لا يمكن حمل الأخبار عليه، لوضوح أن في الأماكن المسكونة من البلاد والقرى يوجد إمام يصلي بأهلها جماعة بل لا يوجد قرية لا يكون لهم فيها إمام يقيم الجماعة إلا نادراً، والإمام الذي يتمكن من قراءة فاتحة الكتاب وإقامة الجماعة يتمكن من الخطبة في صلاة الجمعة قطعاً لأن الفاتحة تجزئ فيالخطبة، ويكفي في الوعظ والإرشاد أن يقول: يا أيها الناس اتقوا الله أو نحوه فأقل الواجب المجزئ من التحميد والثناء وقراءة السورة أمر مقدور لكل إمام يقيم الجماعة، ولا يعتبر في صلاة الجمعة خطبة طويلة حتى يتوقف إلقاؤها على الكمال والمهارة في فن الخطابة.

وعلى الجملة إن في أهل القرى يوجد من يخطب لهم شأناً وقوة ولا توجد قرية لا يوجد فيها من يخطبهم كذلك ومعه لا يبقى أي معنى لتعليق وجوب صلاة الجمعة على وجود من يخطب، ووجوب صلاة الظهر على صورة عدم وجدانه، فلا مناص من حمل الروايات على إرادة من يخطب - فعلاً-.

إذن فالأخبار واضحة الدلالة على أن صلاة الجمعة غير واجبة الإقامة في نفسها، وإنما يؤمر بها على تقدير وجود من أقامها في الخارج بإرادته، وخطب لهم أي أقدم على إقامتها وتهيأ للإتيان بها فإن الواجب حينئذٍ هو صلاة الجمعة، وإن لم يكن هناك من أقدم على إقامتها -بالفعل- فالواجب صلاة الظهر.

وأين هذا من وجوب صلاة الجمعة تعييناً لأنها لو كانت كذلك لوجب الإقدام على إقامتها والمباشرة لخطبتها بحيث لو لم يقمها الإمام - بالفعل- ولم يخطب لهم ارتكب معصية بتركه فريضة تعيينية في حقه وبذلك يحكم بفسقه وسقوطه عن العدالة نظير ما لو ترك بعض الفرائض اليومية متعمداً ومع الحكم بفسقه كيف يجوز أن يصلي بهم أربع ركعات ظهراً -كما لعله ظاهر الروايات- لعدم جواز الائتمام به وقتئذٍ.

هذا بل يمكن أن يقال إن الاستدلال بتلك الروايات غير متوقف على حملها على إرادة من يخطب - بالفعل- فلو حملناها على إرادة من يخطب لهم - شأناً- أيضاً أمكننا الاستدلال بها على عدم وجوب الجمعة - تعييناً- لأنها لو

ص: 285

كانت واجبة كذلك لوجب تعلّم الخطبة على أهل القرى - كفاية- ليتمكنوا منها شأناً وقوة ويقتدروا على إلقائها في الجمعة الآتية ويكون ترك تعلمها محرماً، فإن المقدمات التي يكون تركها مؤدياً إلى ترك الواجب وتعذره في ظرفه واجبة التحصيل لا محالة، ومعه يكون ترك التعليم وإهماله مستلزماً لفسق الإمام وبه يخرج عن قابلية الإمامة في الجماعة، ولا معنى للائتمام به حالتئذٍ كما هو ظاهر الروايات))(1).

ويمكن تلخيص استدلاله (قدس سره) بعدة أفكار:

الأولى: إن المراد ب-(من يخطب) في هذه الروايات من يتصدى لخطبتي الجمعة ويقيم الصلاة فعلاً لا مَن شأنه القدرة على الخطابة لوجهين:-

1- ظهور الروايات في ذلك وليس في الجزء الواجب من الخطبتين أزيد مما في الصلاة.

2- وجود من يحسن الصلاة في كل مكان.

الثانية: لو كان الوجوب تعيينياً لوجب على من يحسن الخطبتين أن يتصدى وإلا فإنه مضيع لواجب وهو مستلزم للفسق فكيف يفترض الإمام (عليه السلام) إقامته للجماعة إن لم يقم الجمعة مع فقده شرط العدالة؟

الثالثة: حتى لو افترضنا أن المراد الخطيب الشأني فتصلح المجموعة للمانعية لأنه يجب حينئذٍ على نحو الوجوب الكفائي على واحد في كل مكان أن يتعلم الخطبتينلإقامة الصلاة ولو ترك التعلم فإنه تارك لواجب وهو مستلزم للفسق فكيف يأمُّ الجماعة.

ويرد عليه:-

1- إنه (قدس سره) لاحظ في ردّه أن القائل بالوجوب التعييني يوكل أمر إقامتها إلى الناس بينما نحن اشترطنا في وجوبها التعييني أن يتصدى الفقيه الجامع للشرائط باعتباره نائباً عاماً للإمام وحينئذٍ فإن معنى (لهم إمام يخطب) أي لهم إمام معين من قبل نائب الإمام.

وفي ضوء هذا لا يبقى مجال لجملة من الإشكالات التي وردت في

ص: 286


1-

كلامه كفسق الإمام إذا لم يتصد فعلاً للخطبتين. لأن الأمر ليس بيده وإنما بتنصيب الفقيه الجامع للشرائط.

2- إننا نستطيع أن نجعل هذا المانع من الوجوب التعييني دليلاً عليه أي عكس ما أفاد (قدس سره) بأكثر من تقريب:-

أ- الترتب الطولي بين صلاة الجمعة والظهر كما في موثقة سماعة وهي صريحة في وجوب صلاة الجمعة تعييناً فإن لم تتم شرائطها فالظهر وليس الوجوب تخييرياً وهي بنفس لسان الكفارة المرتبة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) والقول في المسألتين واحد.

ب- الأمر بإقامتها في معتبرة الفضل بن عبد الملك حيث ورد فيها (فإن كان لهم من يخطب لهم جمعوا) وهي أأكد في الدلالة على الوجوب كما قيل في الأصول، وقد يضعّف هذا التقريب بأنه أمر في مقام توهم المنع فيفيد الترخيص حيث قال أبو حنيفة: ((لا تجب على أهل السواد وإنما تجب على أهل الأمصار))(1)، ومرّ في بعض الروايات أن الجمعة لا تقام إلا في مصر تقام فيه الحدود وتعدد الأسئلة من الأصحاب في المجموعة الآنفة شاهدٌ على ذلك، وهذا الإشكال مقبول صغرى وكبرى إلا أن الترخيص في المقام يلزم منه القول بالوجوب لأنه من تطبيقات قاعدة (إذا جاز وجب).

وكذا تقرب الروايات الأخرى.

3- إن عدم وجود خطباء بالعدد الكافي لتغطية كل التجمعات السكانية سواء كانت قرية أو مدينة ليس فرضاً نادراً خصوصاً إذا التفتنا إلى مواصفات الخطيب الذي تفيده الروايات ولا يُعقل أن يستمر الخطيب طول عمره يقرأ لهم سورة الفاتحة ويقول: (يا أيها الناس اتقوا الله) وينزل فما قيمة هذه الطريقة من أداء صلاة الجمعة وهل هذا هو السر في تشريعها، ونحن نشهد في أزماننا المعاصرة رغم اتساع الحوزة العلمية وبسط نفوذها وزيادة عدد

ص: 287


1- الخلاف للطوسي: 1/597.

أفرادها إلى الآلاف وعشرات الآلاف أحياناً ومع ذلك فإن كل القرى تقريباً ومدناً صغيرة كثيرة بل حتى بعض المدن الكبيرة خالية من المرشد الديني والمبلغ الذي يقيم صلاة الجماعة فضلاً عن الجمعة فما رأيك بزمان المعصوم (عليه السلام) حيث كان التضييق عليهم وعلى شيعتهم في أقصى صور البطش والقسوة.4- قوله (قدس سره): ((لا يبقى أي معنى لتعليق وجوب الصلاة على وجود إمام يخطب)) وقد علمت أكثر من معنى:

أولها: إن من الطبيعي خلوّ الكثير من التجمعات السكانية من خطيب يؤدي صلاة الجمعة بشكلها ومضمونها الوارد في روايات أهل البيت (عليهم السلام).

ثانيها: إن الخطيب قد يكون موجوداً إلا أنه يمنع من تصديه لإقامتها مانع كقوله (عليه السلام) في عدد من الروايات (ولم يخافوا) فقوله (عليه السلام) (فيهم إمام يخطب) أي يستطيع أن يخطب من جميع الجهات الراجعة إليه كشخص والأخرى المتعلقة بظروفه الموضوعية.

ثالثها: إن سرّ إقامة الجمعة هو تحشيد الناس في المنطقة المحددة شرعاً في مكانٍ واحد فقد يوجد إمام يخطب لكن الإمام لا يرى مصلحة في إقامة جمعة أخرى لأنه يريد جمع الكل في موضع واحد وحينئذٍ لا يكون (لهم إمام يخطب) بالمعنى الذي ذكرناه في غير هذا المكان ولا تنعقد جمعة، كما أن الحكمة الإلهية شاءت أن يجتمع مسلمو العالم كلهم في موسم الحج في مكان واحد.

ثم إن وظيفة الإمام هي البيان وتعليم الأمة فيقول إن وجود (إمام يخطب) شرط وليس عليه أن يتحقق موضوعه أوْ لا وهل أن تحققه فرض نادر.

5- يوجد فرق عند المعصومين (عليهم السلام) بين إمام الجمعة والجماعة - وإن كانا بحسب الأقل المجزي الذي تبرأ به الذمة من دون النظر إلى فلسفة

ص: 288

التشريع(1)

ومصالحه واحداً- ومرتبة إمام الجمعة أعلى ومما يشهد لذلك موثقة سماعة المتقدمة قال (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة يوم الجمعة فقال: أما مع الإمام فركعتان وأما من يصلي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر، يعني إذا كان إمام يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلوا جماعة)(2) فلو كان كل إمام جماعة قادراً على أن يكون إمام جمعة فما معنى الذيل في كلام الإمام (عليه السلام) (فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلوا جماعة)(3).ويشهد لهذا التقدم في الرتبة تفاوت متعلقهما في الرتبة فصلاة الجمعة أهم وأعظم من صلاة الجماعة لذا أوجب الشارع انضمام كل الجمعات الواقعة على بعد فرسخين فأقل إلى جمعة واحدة مركزية وأوجب الحضور فيها وتحمل المشقات من أجلها وأوجب استماع الخطبتين وقد اعترف (قدس سره) بهذا الفرق في بعض كلماته فقال (قدس سره): ((إنه لا مناص من أن يكون الإمام فيها - أي الجمعة- ممن يصلح لموعظة الناس وترغيبهم وترهيبهم، فإنها مشهد عام ويحضرها كل من كان في البلد وضواحيه إلى أربعة فراسخ من جوانبه الأربعة أعني ستة عشر فرسخاً بضرب الأربعة في أربعة أو إلى فرسخين من الجوانب الأربعة أعني ثمانية فراسخ

ص: 289


1- مما ورد في سر تشريع صلاة الجمعة وخطبتيها قول الإمام الرضا (عليه السلام): (إنما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأن الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق ومن الأهوال التي لهم فيها المضرةُ والمنفعة، وإنما جعلت خطبتين ليكون واحدة للثناء على الله والتمجيد والتقديس لله عز وجل، والأخرى للحوائج والإعذار والإنذار والدعاء، ولما يريد أن يعلّمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد) (الوسائل: باب25، ح6 عن علل الشرائع وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب5، ح3.
3- وللإنصاف نقول هناك أكثر من وجه يمكن حمل موثقة سماعة عليها غير ما ذكر: الأول: وجود مانع من إقامة الجمعة وتصدي الإمام للخطبتين. الثاني: أن نفهم من قوله (يخطب) أي يرغب أن يخطب وله إرادة لإقامة صلاة الجمعة من دون وجوب عليه.

بضرب الاثنين في الأربعة نظراً إلى استثناء من بعُدَ عن الجمعة فرسخين عن وجوبها أو عن وجوب الحضور لها وإن لم يبلغ حد السفر الشرعي، إذن يجتمع فيها خلق كثير)).

وتوجد ملاحظة حسابية هنا ما كان لنا أن نذكرها لولا تعرضه لها فإن مساحة المنطقة المشمولة بوجوب الحضور ليست مربعة وإنما دائرية حيث يكون مكان انعقاد الجمعة مركزها ونصف قطرها هي المسافة المعتبرة عند الشارع أي فرسخان وتكون المساحة 2´2´3.14 وتساوي (اثني عشر فرسخاً مربعاً ونصف الفرسخ) تقريباً، وإذا أردنا أن نحسبها بالكيلومتر ضربنا هذا الناتج في مربع ما يعادل الفرسخ من الكيلو مترات وهو 5.5 كم فتكون المساحة (2´5.5) ´ (2´5.5) ´ 3.14 وتساوي حوالي (380) كيلو متراً مربعاً وهي مساحة شاسعة فعلاً.

وأضاف (قدس سره): ((والإمام في مثل هذا المجتمع لا بد وأن يكون -بالطبيعة- متمكناً من موعظتهم وترغيبهم وترهيبهم وتحذيرهم ولا يتمكن من ذلك إلا المتصف بالأخلاق الفاضلة من العلم والعدالة وسائر الكمالات المعنوية، كما لا بد وأن يكون متطلعاً على الأوضاع السالفة والحاضرة ومسيطراً على الأمور، فكون إمام الجمعة كذلك أمر يقتضيه طبع الحال في مثل ذاك المجتمع العظيم)) ثم قال (قدس سره): ((إن الجمعة بما أنها مشهد عظيم كان الإمام فيها - بالطبيعة - غير الأئمة في سائر الجماعات المتعارفة))(1).

6- إن من يتتبع ورود (كان) في الروايات المتقدمة يجدها (كان) التامة بمعنى (وُجد) ففي صحيحة محمد بن مسلم (إذا لم يكن من يخطب) وفي موثقة سماعة (فإن لم يكن إمام يخطب) فقد أناطت الوجوب بوجود إمام يخطب ولم تعلّقه على تصدي هذا الخطيب لإقامتها خلافاً لما قاله (قدس سره) من عدم إمكان ترتيب وجوب الصلاة على وجود إمام يخطب

ص: 290


1-

وعدم وجوبها على عدم وجوده.

7- قوله (قدس سره): ((وأين هذا من وجوب... إلخ)) مردود بما تقدم من أن عدم إقامتها كان لوجود المانع وليس تهاوناً في أداء الفريضة حتى يحكم بفسقهم - والعياذ بالله- وبالتالي عدم إمكان الائتمام بهم.

8- قوله (قدس سره): ((بل يمكن... إلخ)) والذي أوجب فيه تعلم الخطبتين من باب المقدمات المفوّتة فإن في هذا المقطع غفلة عن نكتة أصولية واضحة وهي أن شروط الوجوب لا يجب تحصيلها على المكلف كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج لكنها إذا تحققت وجب الحج عكس شروط الواجب كالوضوء للصلاة فإنه يجبتحقيقه ووجود إمام يخطب هو من شروط الوجوب لأنه ينتفي بانتفائه فلا يجب إيجاد إمام يخطب في التجمع السكاني لتجب الجمعة، نعم، إذا وجد من له الأهلية لذلك وأمره الفقيه الجامع للشرائط فيجب عليه إقامتها عند اجتماع العدد المعتبر كما لا يجب الحضر ليجب الصوم ونحوه من الأمثلة.

9- قوله (قدس سره): ((فإن المقدمات التي يكون تركها...إلخ)) هذا هو تعريف المقدمات المفوّتة التي يؤدي تركها في ظرفها إلى تفويت الواجب في ظرفه وهي إنما وجبت لأنها مقدمات الواجب لا الوجوب فهذا الكلام أجنبي عمّا نحن فيه.

الاستدلال على الوجوب التعييني بطائفة أخرى من الروايات:

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((بقي الكلام في نبذة أخرى من الروايات التي استدلوا بها أيضاً على هذا المدعى، ولا يتأتى - في بعضها- الحمل على الوجوب التخييري كما توهم)).

ثم ذكر (قدس سره) صحيحة زرارة الآتية وناقشها ثم صحيحة منصور بن حازم ونحن سنذكرهما مع روايات أُخر في المقام وهي ما دل على وجوبها على المسلمين إذا اجتمع العدد المعتبر ومنها:

صحيحة زرارة قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام) على من تجب

ص: 291

الجمعة؟ قال: تجب على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمَّهم بعضهم وخطبهم)(1).

ومنها: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زادوا، فإن كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم، والجمعة واجبة على كل أحد، لا يعذر الناس فيها إلا خمسة: المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي)(2).

ومنها: صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّ-وا في جماعة)(3).

ومنها معتبرة الفضل بن عبد الملك المتقدمة(4).

ودلالة الروايات على الوجوب صريحة وظاهرة بالعموم والإطلاق وليست توهماً كما قال (قدس سره).

فصحيحة زرارة ظاهرة في استيعاب شروط الوجوب من قبل الإمام (عليه السلام) والسؤال عام (على من تجب) فأوضح الإمام (عليه السلام) أن للوجوب شرطين رئيسيين: العدد وعدم وجود مانع من الخوف ونحوه، ووردت فيها الإشارة إلى الوجوب مرتين في صدر الرواية (تجب) وفي ذيلها (أمّهم) لما قالوه من أنها أكد في الدلالة على الوجوب من صيغة أفعل لأنها تفيد التحقق متجاوزة الطلب إلى امتثاله.

أما صحيحة منصور فالوجوب فيها عام شامل لكل أحد عدا ما استثني وقد تقدم تقريبها ومناقشتها في مجموعة الروايات التي افتتحنا بها الاستدلال.وصحيحة عمر بن يزيد ظاهرة في الوجوب التعييني لقوله (عليه السلام) (فليصلوا).

ص: 292


1- وسایل الشیعه کتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب2، ح4.
2- وسایل الشیعه کتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب2، ح7. وروی ذیله فی باب 1 ح 16
3- وسایل الشیعه کتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب2، ح10.6
4- وسایل الشیعه کتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب2، ح10.6

وقد اعترف السيد الخوئي (قدس سره) بدلالتها على الوجوب التعييني فقال (قدس سره): ((ثم إن ظاهرها وإن كان هو وجوب صلاة الجمعة تعييناً على كل مكلف بعد تحقق اجتماع سبعة في الخارج)) إلا أنه (قدس سره) أضاف: ((غير أن القرائن التي قدمناها على كونها واجبة تخييرية وعدم كونها واجبة تعيينياً إلا فيما إذا كان هناك من يخطبهم بالفعل تدلنا على حمل تلك الروايات أيضاً على الوجوب التخييري. فحاصل الروايات بعد ضم بعضها ببعض أن اجتماع السبعة متى ما تحقق في نفسه للصلاة بأن أقدم بعضهم لأداء الخطبة وتصدى لها بالفعل وجبت إقامتها على المسلمين وإلا فلا وهو معنى الوجوب التخييري))(1).

أقول: إننا نتفق معه (قدس سره) بأنها تدل على الوجوب التعييني بوجود من يخطبهم بالفعل لكن الفرق بيننا أنه يجعل الأمر تخييرياً لتصدي من يخطب بالفعل ونحن نقول إنه ملزم بالتصدي إذا لم يكن هناك مانع من خوف وغيره والإمام أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط هو الذي يحدد ذلك وإلا فإن نتيجة قوله (قدس سره) إمكان تعطيلها حتى في عصر المعصوم إذ يمكن للسبعة أن لا يجتمعوا فلا تجب الجمعة وعلى أي حال فقد ذكر (قدس سره) وجهاً عاماً على دلالة هذه الروايات على الوجوب التعييني بقوله (قدس سره): ((لا دلالة لها على أن صلاة الجمعة واجبة تعيينية بل هي على خلاف المطلوب أدلّ، والوجه فيه أن الحكم بوجوب صلاة الجمعة على سبعة نفر إنما هو في حق غير المسافرين، لوضوح أن المسافر لا تجب عليه الجمعة يقيناً، نعم، هي جائزة في حقه بل مستحبة وأما الوجوب فلا يختصّ بالحاضرين.

وعلى ذلك لا معنى لتعليق الوجوب على وجود سبعة من المسلمين، لأن وجود السبعة متحقق في أي بلدة وقرية، وهل يوجد مكان مسكون للمسلمين ولا يوجد فيه سبعة نفر؟! ولا سيما إذا لاحظنا حوله إلى ما دون أربعة فراسخ من جوانبه الأربع - لئلا يبلغ حد السفر الشرعي- أو إلى فرسخين من الجوانب الأربعة بناءً على عدم وجوبها على النائي عنها بأزيد من فرسخين -كما هو

ص: 293


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/36

كذلك- فما معنى التعليق بوجودهم وبذلك يصبح التعليق فيها لغواً ظاهراً.

وحمله على من يعيش في الجبال ويقطن البراري والقلل على سبيل الانفراد والانعزال أو على أهل الرياضة والرهبان وغيرهم ممن يعيش منعزلاً عن المجتمع غير صحيح، لأنه أمر نادر التحقق بل هو فرض الخروج عن موضوع الوجوب والصحة لعدم صحة الجمعة وعدم وجوبها إلا مع الجماعة ولا تنعقد منفردة فكيف يحمل التقييد في الروايات على الاحتراز عن أمثالهم.

إذن لا مناص من أن يراد من الروايات التعليق على اجتماع السبعة من المسلمين -لا على أصل وجودهم- فمعنى الروايات على ذلك أن السبعة متى ما اجتمعت في الخارج وتحقق اجتماعهم في نفسه لأجل صلاة الجمعة وجبت إقامتها على ما صرح به في الصحيحة حيث قال: فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم.

والتقييد فيها باجتماع السبعة والتعليق على انضمام بعضهم ببعض وتحقق الهيئة الاتصالية إنما هو للاحتراز عما إذا كانوا متفرقين وغير مجتمعين لأجلها.فتدلنا الصحيحة على أن إقامة الجمعة والاجتماع لأجلها غير مأمور بهما في نفسهما فلا وجوب قبل الاجتماع ولا يجب تحصيله، نعم إذا تحقق اجتماعهم وإقامتهم لها في نفسه وجبت على غيرهم إقامتها))(1)

أقول: إننا قدمنا مناقشته (قدس سره) ومع ذلك توجد مناقشات تفصيلية منها:-

1- قوله: ((لا معنى لتعليق الوجوب...إلخ)) تقدم أن وظيفة الإمام بيان الشرائط ولا يضر فيه أن يكون متحققاً أم لا وهل هو يسير الحصول أم لا.

2- قوله: ((لأن وجود السبعة متحقق في أي بلدة وقرية...إلخ)) إذا كنّا نتحدث عن مجرد العدد فهذا الكلام صحيح لأن أي تجمع سكاني لا يقل عن هذا العدد لكننا نتحدث عن سبعة يجتمعون لأداء صلاة الجمعة وهو ليس بهذه الوفرة التي يصفها (قدس سره) وأضرب لك مثالاً لتقريب الفكرة وهو ما نشهده من اجتماع الناس لصلاة الجماعة فإن حياً سكنياً يقطنه عشرة آلاف إنسان أو اكثر لا يجتمع في مسجده لأداء الصلاة إلا

ص: 294


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 35-36.

خمسون في المعدل أي أن نسبة الحضور هي خمسة بالألف وهي ضئيلة جداً وعلى هذه النسبة فإن العدد المعتبر لوجوب صلاة الجمعة يتحصل من عدة آلاف ولا أقل من عدة مئات فيكون الكلام حينئذٍ له معنى لأن كثيراً من التجمعات السكانية في القرى والأرياف لا تتجاوز هذا العدد من السكان.

ويكون تحصيل هذا العدد اكثر صعوبة حينما يعيش المسلمون في بلاد غير إسلامية وتقل نسبتهم فيها وحينما يكون الإقبال على التدين ضعيفاً حيث مرّت بنا فترات لم يكن يصلي في المساجد إلا عدد أصابع اليد من المسنّين في مناطق مكتظة بالسكان المسلمين!.

وبعد ارتفاع الاستغراب لا يبقى مبرر للاسترسال في الخيال بحيث نحمل الرواية على ساكني الجبال والرهبان وأهل الرياضة والعرفان.

3- قوله (قدس سره): ((إذن لا مناص من أن يراد...إلخ)) هذا عين ما نريده بالوجوب التعييني ونفهمه من الروايات وهو غير ما يتبناه من أنه حتى لو اجتمع آلاف الناس فلهم أن لا يقيموا صلاة الجمعة لأنها واجب تخييري لكن سبعة منهم لو أرادوا ذلك فلهم أن يقيموها فيكون (قدس سره) قد أضاف شرطاً قيّد الاجتماع بقصد إقامة الجمعة والأصل عدمه والإطلاق ينفيه أما نحن فنقول إذا اجتمع العدد المعتبر وفيهم إمام يخطب ولم يكن مانع من الصلاة فيجب عليهم إقامتها ضمن توجيهات الإمام أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط. فجزاه الله خير جزاء المحسنين.

4- إن مساجد الشيعة تشهد اجتماع العشرات وأحياناً المئات وفيهم إمام يحسن الخطبتين ومع ذلك فإنهم يصلّون الظهر والعصر جماعة وينصرفون فلماذا لا يقيمون الجمعة؟.

قد يقول (قدس سره) إن اجتماع السبعة ليس بمطلقه شرطاً للوجوب وإنما الشرط اجتماعهم بقصد إقامة الجمعة والتصدي الفعلي للخطبتين من قبل الإمام وهذا مبني على كون الوجوب تخييرياً فكيف يكون دليلاً على الوجوب التخييري فهذا دور ومصادرة على المطلوب، إضافة إلى مخالفته

ص: 295

لصريح النصوص التي أوجبت الجمعة عند اجتماع السبعة ولهم إمام يخطب ولم يخافوا.

5- قد يُفهم من ظاهر الروايات أن اجتماع العدد هو شرط للصحة أي للواجب وليس للوجوب فيجب تحقيقه عندما يأمر الفقيه الجامع للشرائط بإقامة الجمعة ولا يكون هناك خوف فيجب على العدد المعتبر - على نحو الكفاية- أن يجتمعوا لإقامة الجمعة ويأثم الجميع لو لم يجتمع العدد المعتبر، وهذا ظاهر السؤال (على من تجب) ولم يكن (متى تجب) الظاهر في كونه شرطاً للوجوب والقرينة الأخرى ظهور (كان) في صحيحتي منصور بن حازم وعمر بن يزيد بالتامة لا الناقصة أي وجود السبعة فأمرهم بالاجتماع وإقامة الجمعة وسيأتي في النقطة الثامنة مزيد توضيح بإذن الله تعالى.

6- قوله (قدس سره): ((فتدلنا الصحيحة على أن...إلخ)) هذا إذا كانت هي الوحيدة في المقام ولكنها ليست كذلك كما ذكرنا.

7- قوله (قدس سره): ((غير أن القرائن التي قدمناها...إلخ)) ناقشنا تلك القرائن ولم يثبت منها شيء فلا يصح العدول عما دلّت عليه الروايات الصحيحة من أجلها لأنها غير صالحة للمنع. بل إن من المجازفة أن نعطّل هذه النصوص الصريحة المعتبرة من أجل استبعادات توهمناها.

8- بناءً على ما اختاره (قدس سره) من كون العدد المعتبر شرطاً للوجوب ووجهه ((إن الراوي إنما سأله عن أن الجمعة على من تجب))(1) لا تكون ثمرة لهذه المجموعة من الروايات لأن الصلاة واجبة تخييراً سواء توفر العدد أو لم يتوفر على ما أفاد (قدس سره).

فنحن أمام إحدى نتيجتين فإما أن نقول أن العدد المعتبر شرط للصحة وللواجب كما قدّمنا وليس للوجوب أو نقول بالوجوب التعييني وأن اجتماع العدد شرط لهذا الوجوب وهو ما قررناه.

ص: 296


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/34.

وهاتان النتيجتان -بحسب استقراء الروايات- ليستا متعارضتين - أقصد من ناحية العدد المعتبر- بل يمكن الأخذ بهما معاً فالعدد المعتبر في الواجب ليكون صحيحاً هو الخمسة والعدد المعتبر في الوجوب هو السبعة لذلك فإن لساني العددين مختلفان ففي الخمسة كان لسان الإجزاء كقوله (عليه السلام): (ولا جمعة لأقل من خمسة)(1)

و(لا تكون جماعة بأقل من خمسة)(2) و(فإن كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم)(3) و(لا تكون جمعة ما لم يكن القوم خمسة)(4) و(إذا اجتمع خمسة احدهم الإمام فلهم أن يجمعوا)(5) أما السبعة فلسانها الوجوب كقوله (عليه السلام) (إذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم)(6) و(إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا جماعة)(7).

قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف ((تنعقد الجمعة بخمسة نفر جوازاً،وبسبعة تجب عليهم))(8).

ص: 297


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2، ح4، 5، 7، 8، 11، 4، 10.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2، ح4، 5، 7، 8، 11، 4، 10.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2، ح4، 5، 7، 8، 11، 4، 10.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2، ح4، 5، 7، 8، 11، 4، 10.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2، ح4، 5، 7، 8، 11، 4، 10.
6- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2، ح4، 5، 7، 8، 11، 4، 10.
7- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2، ح4، 5، 7، 8، 11، 4، 10.
8- (8) الخلاف: 1/598.

تتميم

وفي نهاية بحثه (قدس سره) في الروايات ذكر أن العناوين المستثناة من وجوب صلاة الجمعة إنما استثنيت من حضورها لا من أصل إقامتها فلا يدل هذا الوجوب على أنه تعييني ولو كان تعيينياً ولا استثناء من أصل الوجوب لما كان أداؤهم للجمعة مشروعاً كالمسافر ومن كان على رأس فرسخين لكن ثبت بالدليل مشروعية أدائهم لصلاة الجمعة بل ورد استحبابها للمسافر وقد رددنا على عنوان المسافر في الصفحة (273) وعلى من كان على رأس فرسخين في مناقشة أخبار الطائفة المذكورة ضمن المانع الثالث الصفحة (281)، وملخصه أنه يوجد خلط في كلامه (قدس سره) بين الوجوب والمشروعية والثاني أعم من الأول فإن سقوط وجوب إقامتها عنه لا يعني عدم مشروعيتها له لأن السقوط سقوط رخصة وليس سقوط عزيمة كما تشهد له رواية حفص بن غياث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في سؤال عجز عن إجابته القاضي ابن أبي ليلى بعد أن سأله: الجمعة هل تجب على العبد والمرأة والمسافر؟ قال: لا، قال: فإن حضر واحد منهم الجمعة مع الإمام فصلاها هل تجزيه تلك الصلاة عن ظهر يومه؟ قال: نعم، قال: وكيف يجزي ما لم يفرضه الله عليه عما فرض الله عليه؟ فما كان عند أبي ليلى فيها جواب، ففسرها الإمام (عليه السلام): (الجواب عن ذلك: إن الله عز وجل فرض على جميع المؤمنين والمؤمنات ورخص للمرأة والعبد والمسافر أن لا يأتوها، فلما حضروا سقطت الرخصة ولزمهم الفرض الأول، فمن أجل ذلك أجزأ عنهم)(1) ولذا كانت الصلاة مشروعة منهم بل مستحبة لبعضهم كالمسافر كما تقدم.

ثم قال (قدس سره): ((وكذلك الحال في الاستثناء عند نزول المطر كما في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (لا بأس أن تدع الجمعة في المطر)(2) لأنه يرجع إلى الاستثناء عن وجوب

ص: 298


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 18، ح1
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 23، ح1

الحضور لها بعد إقامتها إرفاقاً من الشارع كي لا يتبلل المكلف بمجيئه إلى محل الجمعة حالئذٍ.

وإلا فلو كانت واجبة تعيينية لكان من البعيد جداً سقوطها بنزول المطر وشبهه من الطواري فإن حالها حينئذٍ حال بقية الفرائض - كصلاة الفجر- وهل نحتمل سقوطها لحدوث البرودة أو الحرارة أو نزول المطر ونحوها))(1) وهذا قياس منه (قدس سره) رغم عدم وحدة المناط بينهما فإن الجمعة مشروطة بالجماعة والاجتماع عند الإمام وهو مما يستلزم الحرج في بعض الظروف كالمطر فاستلزمت الرخصة للتخفيف أما الفرائض اليومية فغير مشروطة بذلك ويمكن أن يؤديها في داره والفرق الثاني أن الجمعة حينما يسقطها الشارع فإن المكلف ينتقل إلى بدل لها وهي صلاة الظهر أما الفجر ونحوها فإذا أسقطت فلا بدل ويكون منافياً لما دلّ على أن الصلاة لا تسقط بحال ومن هنا كانت عدة رخص في صلاة الجمعة وقد تقدمت عدة عناوين ومنها:

ما لو صادف العيد يوم الجمعة وأدّى المكلف صلاة العيد مع الإمام فيُرخّص في عدم حضور الجمعة ففي صحيحة الحلبي انه (سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفطروالأضحى إذا اجتمعا في يوم الجمعة، فقال: اجتمعا في زمن علي (عليه السلام) فقال: من شاء أن يأتي إلى الجمعة فليأت ومن قعد فلا يضره، وليصلّ الظهر، وخطب خطبتين جمع فيهما خطبة العيد وخطبة الجمعة)(2) فلا وجه لاستبعاده (قدس سره) لمثل هذا الترخيص.

ثم قال (قدس سره): ((إذن صلاة الجمعة واجبة بالوجوب التخييري حسب الأخبار والقرائن المتقدمتين ولا دليل على كونها واجبة تعيينية بوجه، هذا كله في أصل عقدها وإقامتها))(3) وقد علمت الخلل في جميع ما قاله (قدس سره) وأن لا وجه للقول بالوجوب التخييري بالمعنى الذي اختاره (قدس سره).

ص: 299


1- التنقیح فی شرح العروة الوثقی 11/ 38
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب15، ح1.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/40.

نكات متفرقة

(الأولى): ردّ صاحب الجواهر (قدس سره) تعليل ترك أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لصلاة الجمعة بسبب التقية بقوله: ((واحتمال أن ذلك للتقية يدفعه أن الشيعة تجاهروا بما ينافي التقية في أمور كثيرة حتى أنهم (عليهم السلام) تأذّوا منهم بذلك، وقالوا (عليهم السلام): (إنه ما قتلتنا إلا شيعتنا)(1)

ولو أن هذه الفريضة مما تجب علينا عيناً كانت أولى بذلك من غيرها على أن الظاهر إن لم يكن المتيقَن حصول الترك منهم حال عدم التقية، كما يومي إليه صحيح زرارة (حثّنا أبو عبد الله عليه السلام) وموثق عبد الملك (مثلك يهلك ولم يصلِّ فريضة..).))(2)

ولعله بذلك يعرّض بصاحب الحدائق إذ قال: ((لا خلاف بينهم في وجوبها عيناً الحتمي وعدم سقوطها أصلاً إلا للتقية))(3)، وفيه:-

1- إن تجاهرهم بما يخالف التقية لم يكن مقبولاً عند الأئمة (سلام الله عليهم) حتى يستدل به واستياء الأئمة (عليهم السلام) من شيعتهم واضح في النص العام الذي ذكره والخاص بصلاة الجمعة في موثقة عبد الملك.

2- إن ما يخالف التقية على درجات ولا يقاس شيء بالخروج على السلطة وإعلان التمرد عليها من خلال تنظيم صلاة جمعة غير ما تنظمه السلطة

ص: 300


1- لم أجد النص في حدود ما بحثت ولكن وجدت أحاديث بنفس المعنى (منها) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن قتلنا قتل عمد) (ومنها) عنه (عليه السلام) قال: (من أذاع علينا شيئاً من أمرنا فهو كمن قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأً) وفي موثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وتلا هذه الآية «ذَلِكَ بأَنَّهُم كَانُوا يَكفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقتُلُونَ النَبيّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ» قال: والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأُخذوا عليها فقتلوا فصار قتلاً واعتداءً ومعصية. (الوسائل، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب34، ح13، 15، 16.
2- جواهر الكلام: 11/165.
3- الحدائق الناضرة: 9/392.

ولا يرحم الطواغيت أحداً ينافسهم في ذلك حتى أولادهم وخطاب هارون العباسي لولده المأمون شاهد على ذلك وكان أخبث شيء يمكن أن يُنقل عن الأئمة ويؤدي إلى استشهادهم هو دعواهم الإمامة من دون الخلفاء؛ فقياس صاحب الجواهر إقامة الجمعة بغيرها مما يخالف التقية مع الفارق.

وقد ثبت نهي الإمام (عليه السلام) عما دون ذلك كنهيه اثنين من أصحابه عن التمتع في المدينة لأنهما يُكثران الدخول عليه وثبت أيضاً أن الأئمة (عليهم السلام) لم يعملوا بالتقية في موارد شُرِّعت فيها ورُخِّص فيها للأمة الأخذ بها، وهذا شاهد على أن موارد التقية على درجات كقول الإمام الباقر (عليه السلام): (ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً: شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج)(1).

2- ترك الأصحاب إقامة الصلاة في حال عدم التقية كان بسبب توهم عندهم لذا رفعه الإمام (عليه السلام) عن أذهانهم وقد شرحناه، فقول صاحب الجواهر هذا دليل عليه وليس له لأن الإمام (عليه السلام) لم يرتضِ تركها في ظرف عدم التقية وحثّهم على صنع مثل هذا الظرف وقد تقدم.

3- إن اشتراط الأمن وعدم الخوف لوجوب صلاة الجمعة مما نصّت عليه عدة روايات معتبرة ذكرناها فنفي مدخلية التقية في الترك شبهة مقابل البديهة.

(الثانية): فهم البعض من رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين (المؤمنين) ولا تجب على أقلّ منهم: الإمام وقاضيه والمدعي حقاً والمدّعى عليه والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام)(2) أن وجوب الجمعة مشروط بكون الإمام مبسوط السلطة، وهو فهم غير صحيح لوجوه:-

1- لا أحد يشترط وجود هذه العناوين السبعة لوجوب صلاة الجمعة تخييرياً أو

ص: 301


1- الاستبصار، باب جواز التقية في المسح على الخفين.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب2، ح9.

تعيينياً وفي عصر الحضور أو الغيبة وإنما اشترطوا أصل العدد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

2- إن في كلام الإمام (عليه السلام) تعريضاً بالمسلمين وتوبيخاً فإنهم حرموا أنفسهم من بركات صلاة الجمعة بسبب تخاذلهم حتى تقمّص السلطة واعتلاها من هو ليس أهلاً لها.

3- يمكن فهم كلام الإمام (عليه السلام) على أنه تبرير وتفسير لعدم إقامة الإمام صلاة الجمعة بنفسه.

إن الرواية لا تدل على أزيد مما تقدم في خبر طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) قال: (لا جمعة إلا في مصر تقام فيه الحدود)(1)

1- وغيرها مما ذكرنا من الروايات التي تدل على أن إقامة صلاة الجمعة وإجراء الحدود من وظائف الإمام ونائبه الفقيه الجامع للشرائط.

2- هذا كله مضافاً إلى ضعف السند لأن الحكم بن المسكين لم يوثّق وإن وصفه الشيخ الطوسي بأنه فاضل ورواها الصدوق مرسلة عن محمد بن مسلم وطريقه إليه غير تام.

(الثالثة): مما ذُكِر لنفي الوجوب التعييني ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره): ((إنه مما يلزم القائل بالعينية وجوب حضورها مع العامة لأن الفرض المعيّن إذا لم يكن فعله إلا على وجه التقية تعين فعله))(2).

وفيه: إنّ عدم الخوف من شروط الوجوب فإذا لم يتوفر سقط الوجوب ولا حاجة إلى الإلزام بأدائها تقية، فإن ذلك فيما كان وجوبه مطلقاً كالصلاة المفروضة اليومية.

ص: 302


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب3، ح3.
2- جواهر الكلام: 11/166.

فروع

(الأول): حكم الحضور فيها عند إقامتها

سأل السيد الخوئي (قدس سره) سؤالاً هو: ((هل يجب الحضور لصلاة الجمعة فيما إذا أقيمت في الخارج)) وأجاب (قدس سره): ((وأما إذا أقيمت في الخارج بما لها من الشروط فهل يجب الحضور لها أو لا؟ مقتضى بعض الأخبار المتقدمة هو الوجوب التعييني حينئذٍ، إلا أن القائلين بوجوب الجمعة ومنكريه لَمّا لم يفرّقوا بين إقامتها وحضورها بعد الانعقاد لم يسعنا الحكم بوجوب الحضور لها تعييناً بعد الانعقاد، إلا أنه لو لم يكن أقوى فلا أقل من أنه أحوط، فمقتضى الاحتياط الوجوبي هو الحضور))(1).

وفيه:-

1- إنه كان عليه (قدس سره) أن يجزم بوجوب الحضور وهو آخر ما يمكن التنازل إليه تجاه الروايات الصريحة الصحيحة التي دلت على الوجوب خصوصاً إذا اجتمع العدد المعتبر وأمّهم من يخطب ولم يخافوا فماذا بقي من مبرر لعدم الحضور ولماذا التردد أمِنْ أجل أن الفقهاء لم يفرقوا بين إقامتها وحضورها؟ وهل يمكن أن نترك العمل بالنصوص الصحيحة الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) من أجل فهم الفقهاء الذين عاشوا ظروفاً متنوعة شكّلت مسبقات ذهنية شتّتت فهمهم أحياناً عن الاتجاه الصحيح.

2- إنه جعل الحضور في الصلاة بعد انعقادها مقتضى الاحتياط الوجوبي وهو يأذنفي مسائل الاحتياط الوجوبي بالرجوع إلى أعلم الموجودين بعده كما أفاد في الرسالة العملية فإذا كان هذا الآخر ممن لا يرى وجوب الحضور فيكون السيد (قدس سره) قد أدى بهذا المكلف إلى مخالفة النصوص الصريحة الصحيحة وهي مجازفة منه (قدس

ص: 303


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/ 40.

سره) بعدما تقدّم منه (قدس سره) من حمل النصوص عليها.

3- إنه تقدم منه (قدس سره) استفادة وجوب الحضور عند إقامتها فلماذا التردد هنا، قال (قدس سره): ((فتدلنا الصحيحة على إقامة الجمعة والاجتماع لأجلها غير مأمور بهما في نفسهما فلا وجوب قبل الاجتماع ولا يجب تحصيله، نعم، إذا تحقق اجتماعهم وإقامتهم لها في نفسه وجبت على غيرهم أيضا إقامتها)) ويقصد في الفقرة الأخيرة ب-(غيرهم) أي غير المقيمين لها فأوجب عليهم الحضور لإقامتها.

4- قوله (قدس سره): ((لما لم يفرقوا)) بل فرقوا فهذا صاحب الجواهر ينقل عن شرح الإرشاد للشهيد: ((إن من أوجبها في الغيبة تخييراً كالمصنف إنما خيّر في العقد لا في السعي إليها إذا انعقدت فيوجبه عيناً وذلك للأخبار والآية على المشهور في تفسيرها))(1).

(الثاني): اختلف القائلون بالوجوب التخييري في أفضلية أي من الفردين الجمعة أو الظهر؛

فاختار السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والسيد السيستاني (دام ظله الشريف): ((إن إقامة الجمعة أفضل))(2)

واستشكل السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في هذا الاستحباب: ((وإن كان أظهر))(3)

أما شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) فلم يجعل إقامتها أفضل لكنها إذا انعقدت فالأفضل حضورها(4)

حيث لم يوجب الحضور فيها حتى مع انعقادها كالسيد السيستاني، أما السيد الخوئي (قدس سره) فقد سكت عن أفضلية إقامتها لكنه أوجب على نحو الاحتياط الوجوبي الحضور فيها إذا أقيمت كما تقدم.

في مقابل ذلك كله أي أفضلية الجمعة في الجملة اختار بعضهم أفضلية

ص: 304


1- جواهر الكلام: 11/184.
2- الفتاوى الواضحة: 286، ومنهاج الصالحين، ج1 ص307.
3- منهج الصالحين، ج1، مسألة 993، ص184.
4- منهاج الصالحين، ج1، ص281.

الظهر مستدلاً ب-((ترك الأئمة (عليهم السلام) ومعاصريهم ومعاصري الغيبة الصغرى لها مع أنهم لم يكونوا في تقية، ومن المستبعد جداً التزامهم بترك الأفضل تركاً مطلقاً وصحيحة زرارة وموثقة عبد الملك لا تدلان على أزيد مما دل عليه خبر مصباح المتهجد(1) فلا دلالة فيهما على الأفضلية))(2) وفيه:-

1- إننا فهمنا من الحث على إقامتها والتوبيخ على تركها دعوة الأصحاب لتهيئة الظرف المناسب لإقامتها ولو في أزمنة متباعدة وأمكنة نائية وإن ما دلّ على الحث على صلاة الجمعة وفضلها العظيم لا يعني الاستحباب وإنما يعني الحث على العمل لإيجاد الظروف المناسبة لإقامتها فتجب حينئذٍ وإن لم تتوفر لخوف ونحوه فقد تحرم والأمر موكول إلى الإمام ونائبه، فالمورد نظير قوله تعالى: «وإِنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم» فإنه يحث المؤمنين على أن لا يسافروا حتى تتحقق ظروف الصوم فيصوموا وليس هو أفضل فردَي التخيير كما ينسب إلى العامة. حيث قالت مصادرهم ((والصوم عند الحنفية والمالكية والشافعية أفضل للمسافر إن لم يتضرر ودليلهم عموم قوله تعالى «وإِنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم» (البقرة: 184) ))(3).

2- إنا قد رددنا على دعوى أن الترك لم يكن لتقية وكان من غير الممكن إقامتها حتى سراً خشية ذيوع الخبر كقلة الكتمان وذكرنا آنفاً عدة روايات عن معاناة الأئمة (عليهم السلام) من هذه الحالة وتحذيرهم المستمر لشيعتهم منها.

(الثالث): قال الشهيد الصدر الأول (قدس سره): ((وتجب إقامة صلاة الجمعة وجوباً حتمياً في حالة وجود سلطان عادل متمثلاً بالإمام أو في من يمثله، ويراد

ص: 305


1- روى البحار في ج86 ص217 ح63 عن مصباح المتهجد: (إني لأحب للرجل أن لا يخرج من الدنيا حتى يتمتع ولو مرة وأن يصلي الجمعة في جماعة) (الفقه26/365).
2- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 26/367.
3- الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، المجلد الثالث، ص1696.

بالسلطان العادل: الشخص أو الأشخاص الذين يمارسون السلطة فعلاً بصورة مشروعة ، ويقيمون العدل بين الرعية))(1) وربما كان دليله:-

1- رواية زرارة المتقدمة التي ذكرت السبعة الذين تنعقد بهم الجمعة حيث فهموا منها أنها كناية عن وجود السلطان العادل.

2- استقراء التأريخ حيث لم يقمها المعصومون (عليهم السلام) إلا حينما كانوا في أعلى السلطة (في خلافة أمير المؤمنين وولده الحسن عليهما السلام).

3- وجود الروايات التي دلّت على أن الجمعة من وظائف الإمام وقد مرّت.

وكلها قابلة للنقاش:

أما رواية زرارة فقد ذكرنا عدة وجوه لفهمها فضلاً عن المناقشة في سندها.

وأما التأريخ فلأن الأئمة حينما أُقصُوا عن السلطة كانوا في حال تقية شديدة فعدم إقامتها لعدم الأمن لا لأن السلطة ليست بأيديهم، ولعل من الطريف الاستشهاد لذلك بأن الصحابي الشهيد مصعب بن عمير أقامها في المدينة قبل هجرة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إليها حينما بعثه إليها لتعليم أهلها القرآن حيث روى الدارقطني عن ابن عباس قال: ((أذن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجمعة قبل أن يهاجر فلم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير... إلخ، فأول من جمع مصعب بن عمير حتى قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة))(2).

وأما أنها من وظائف الإمام فنحن نقول به إلا أنها لا تعني اشتراط وجود السلطة بأيديهم وإنما تعني أن إقامة الجمعة من وظائفهم وهم يقدّرون إمكانية إقامتها من عدمها وقد تقدّم تفصيل ذلك.

ثم إن الفقهاء لما قالوا بالوجوب التخييري في حالة عدم توفر السلطان العادل، تركوا للمكلفين اختيار أحد الفردين فيمكن لخمسة من المسلمين أن

ص: 306


1- الفتاوى الواضحة: 286.
2- الفقه الإسلامي وأدلته: 2/1280.

يجتمعوا وفيهم إمام يخطب ليقيموا الجمعة(1) ولا يُشترط إذن الفقيه الجامع للشرائط في إقامتها واستدل بعضهم لذلك ب-((إطلاق أدلّة الجمعة وأدلة التخيير بالنسبة إلى حال عدم بسط يد الإمام لغيبته وغيرهما))(2):

أقول: قد أشبعنا البحث مستدلين بالنصوص على أن إقامة الجمعة في كل زمان بيد الإمام أو نائبه الخاص أو العام وهو الفقيه الجامع للشرائط وأن إيكالها إلى العامة يوقع في الفتنة والتزاحم وقد يؤدي إلى الاقتتال وشواهده غير خفية على المعاصرين وكذا في الأزمنة المتقدمة حيث نقل صاحب الجواهر: ((وقوع فتنة عظيمة في أصفهان على مسجد خاص لفعل صلاة الجمعة وكل محلة انتصرت لإمامها، وكان ما كان))(3).

ص: 307


1- الفتاوى الواضحة: 286.
2- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 26: 367.
3- جواهر الكلام: 11/179.

مناقشة القائلين بعدم مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة

وهو أحد الأقوال في المسألة ((فقد ذهب جماعة إلى عدم مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة وحرمتها ونسب ذلك إلى صريح ابن إدريس وسلار وظاهر المرتضى وغيرهم بدعوى أن مشروعيتها تتوقف على حضور الإمام (عليه السلام) أو من نصبه لإقامتها بالخصوص لأنها من شؤونه ومن المناصب المختصة به وحيث لا يمكننا التشرف بحضوره (عليه السلام) ولا إذن لأحد في إقامتها بالخصوص فلا تكون مشروعة))(1).

هذا هو دليلهم على نحو الإجمال وإليه تعود أدلتهم التفصيلية الآتية إن شاء الله تعالى ونحن قد قلنا بأن إقامة صلاة الجمعة هي من وظائف الإمام أو نائبه الخاص أو العام ولا تكون مشروعة بدون إذنهم ولم نخصّص المشروعية بإذن الإمام أو نائبه الخاص، فتعميم الحرمة لزمان الغيبة مما لا نوافق عليه، فقد يمنع الإمام أو نائبه لوجود ضرر فتكون حراماً وقد يأمر بها فتكون واجبة، وقد يأذن بها في ظروف خاصة من حيث الزمان والمكان.

وعلى أي حال فقد استدل القائلون بالحرمة بعدة أدلة نقلها السيد الخوئي (قدس سره) وناقشها(2)(2)ونحن سنحاول المضي معه وتلخيصها والتعليق عليها وإضافة أدلة ومناقشات لم يذكرها إن تطلب الأمر بإذن الله تعالى:

الأول: ((دعوى الإجماع على عدم المشروعية من دون حضوره (عليه السلام) أو وجود منصوب من قبله)).

وردَّ عليها (قدس سره): ((بأن المسألة ليست بإجماعية يقيناً، كيف وقد عرفت أن المشهور هو الوجوب التخييري في مفروض الكلام أعني فرض عدم حضوره (عليه السلام) وعدم منصوب خاص من قبله، فلا إجماع على عدم

ص: 308


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11 / 41.
2- شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11 / 41-55.

المشروعية ولا أنه المشهور بين الأصحاب، نعم، ذهب إليه جمع كما مرّ، كما ذهب المشهور إلى التخيير، فلو كان هناك إجماع تعبدي فإنما هو على نفي الوجوب التعييني لا على نفي المشروعية فالإجماع عليه مقطوع العدم)).

ويريد بالإجماع التعبدي الاجماع المركب من القائلين بالوجوب التخييري والمانعين من مشروعيتها حيث يجتمعان على نفي الوجوب التعييني إلا أنك علمت أنهليس إجماعاً أصلاً لوجود المخالفين وليس تعبدياً للعلم باستناده إلى فهم النصوص الموجودة فلا يكون حجة.

الثاني: ((دعوى أن السيرة من لدن عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء من بعده وكذلك عصر الأئمة (عليهم السلام) جرت على تعيين من يقيم الجمعة كتعيين من يتصدى للقضاء والمرافعات فكانوا ينصبون أشخاصاً معينين لإقامة الجمعات أو التصدي للمرافعات ولم يكن يقيم الجمعة أو تصدى للقضاء إلا من نصب لأجلها بالخصوص ولم يكن يقيمها كل من كان يريد الجمعة، ومقتضى هذه السيرة عدم مشروعيتها عند عدم حضوره (عليه السلام) وعدم منصوب من قبله بالخصوص)).

ونحن نتفق مع هذا القائل بأنه لم يكن يقيمها كل من كان يريد الجمعة لأنها من وظائف الإمام ونائبه في حال غيبته فأئمة الجمعة مأذونون من قبلهما بإقامتها أما دعوى أن سيرة الأئمة (عليهم السلام) جرت على تعيين أئمة الجمعات والقضاة فهي دعوى غريبة لأنه تقدم أن تعيين إمام الجمعة كان من شؤون الخلافة كما كان ينصب القضاة ويعين الولاة ولا يسمح لأحد بالتدخل فيها والأئمة (عليهم السلام) كانوا مبعدين عنها فكيف يتسنى لهم التنصيب إضافة إلى عدم وجود شاهد نقله التاريخ أو الحديث عن ذلك؛ نعم، هم (عليهم السلام) حثوا أصحابهم على إقامتها في الظروف التي لا تستلزم المحذور المتقدم في هذا الإطار ولا يدل على أن إقامة الجمعة من مختصات المعصوم (عليه السلام) ولا تنتقل إلى نائبه العام أعني الفقيه الجامع للشرائط.

الثالث: ((إن وجوب الجمعة عند عدم حضوره أو المنصوب الخاص من

ص: 309

قبله مثار الفتنة والخلاف، ولا يكاد يظن بالشارع الحكيم أن يأمر بما يثير الفتنة والجدال باعتبار وجوب اجتماع كل الناس في مساحة واسعة على إمام واحد ولما كان حبّ الرئاسة مستولياً على قلوب الناس حتى المؤمنين منهم فسيحصل تزاحم بينهم على هذا المنصب وكل جماعة تريد صاحبها وتنتصر له فتقع الفتنة وقد أثبتت بعض الوقائع العملية ذلك وقتل عدد من المسلمين فلا تنحسم مادة النزاع إلا أن ينصب الشارع أحداً لإقامتها بالخصوص فإنه بذلك ترتفع الخصومة ولا يبقى لها مجال والنتيجة إن الجمعة لا تكون مشروعة من دون نصب)).

ويرد عليه:-

1- إن هذه الفتنة المتصورة لم تقع بسبب التشريع وإنما بسبب سوء التطبيق والامتثال ولا ذنب للشارع المقدس فيه.

2- توجد مناشئ متعددة للخلاف بين المسلمين بل بين أبناء الطائفة الواحدة كرؤية الهلال واختيار مرجع التقليد ولا يلزم منه إلغاء شيء بل نعتبره حالة طبيعية لاختلاف الرؤى والاجتهادات وما دام في إطار الحالة الطبيعية فلا مشكلة فيه.

3- عند استلزام مثل هذه الحالة من الفتنة والشقاق فيسقط التكليف في هذه الحالة الخاصة لأجل هذا العنوان الثانوي لا مطلقاً أي إلغاء الحكم من أساس بل يبقى الحكم الأولي على حاله كما تسقط بعض التكاليف كالوضوء والصوم في حالات الحرج والعسر أو إذا تسبّب في اختلال النظام الاجتماعي العام لأن حفظ هذا النظام أهم عند الشارع المقدس أكثر من التكاليف الفردية كالوضوء والصومالتي تسقط في موارد العذر.

4- إن هؤلاء المتزاحمين عليهم أن ينظروا إلى الإمام الذي يقيم الجمعة فإن كان جامعاً للشرائط فما المانع من الائتمام به وفي ذلك قهر لأنفسهم الأمّارة بالسوء النزوعة للاستعلاء وإن لم يكن كذلك فلا تكون الجمعة واجبة الحضور لأنها غير معتبرة شرعاً ويسقط عنهم التكليف وقد ربى المعصومون شيعتهم على تهذيب أنفسهم وتطهير قلوبهم من الأغلال التي تعيق

ص: 310

الانطلاق والسمو نحو الكمال ومنها (حب الرئاسة) وقد وردت في ذمه الأحاديث الكثيرة كقوله (عليه السلام): (ما ذئبان ضاريان في غنم قد غاب عنها رعاؤها بأضر في دين الرجل من حب الرياسة)(1)

فأين هؤلاء الأئمة! من هذه التربية؟.

5- يمكن لهؤلاء المتزاحمين أن يتناوبوا على الصلاة وتحلُّ المشكلة.

6- ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) بناءً على مذهبه: ((إن هذه المناقشة إنما تصح فيما إذا قلنا أن صلاة الجمعة واجبة تعيينية وأما إذا قلنا أنها واجبة تخييرية -كما هو المدعى- فلا يمكن أن يكون في ذلك أي إثارة للفتنة وإلقاء للخلاف لبداهة أن المسلمين إذا رأوا أن إقامة الجمعة -أي اختيار هذا العدل من الواجب التخييري- أدّى إلى التشاجر والنزاع تركوا إقامتها وأخذوا بالعدل الآخر فوجوبها كذلك لا يترتب عليه أي محذور فهذه الشبهة لو تمت -في نفسها- فإنما تجدي لنفي التعيينية ولا تنفي أصل المشروعية أبداً)) وقد رأينا من خلال النقاط المتقدمة أنها لا تجدي أيضاً لنفي الوجوب التعييني ولو سلّمنا بحصولها فإنها تنفي ذلك الفرد الذي حصلت فيه المشكلة لا أصل التكليف.

7- إن حصرها بالإمام (عليه السلام) أو من ينصبه لا يزيل الفتنة ما دامت علّتها وهي النفوس الأمارة بالسوء موجودة فالإمامة من مختصات المعصوم (عليه السلام) وقد بيّنوا ذلك للأمة بوضوح في واقعة الغدير وغيرها ومع ذلك فإن الشقاق الذي حصل بسببها جرّ على الأمة الكوارث والويلات ولا زالت تئِن من آلامه.

8- إن هذه الحالة إنما تحصل لو جوّزنا إقامتها لكل شخص أما نحن فقد جعلناها من وظائف الفقيه الجامع للشرائط فالأمر محسوم بحسب الفرض.

الرابع: ((إن صلاة الجمعة لو قلنا بوجوبها وكانت مشروعة في زمن الغيبة للزم الحكم بوجوبها على من يبعد عن الجمعة فرسخين -أو كان نائياً عنها بأزيد

ص: 311


1- رجال الكشي: 2/793، ح965.

من فرسخين على اختلاف الأخبار كما مرّ- فلا بد أن يقيمها في محله، مع أن غير واحدٍ من الروايات المتقدمة دلَّ على استثنائه وليس المراد بهم هم المسافرون لاستلزامه التكرار في الروايات، بل المراد به هم القاطنون في القرى وغيرها من الأماكن البعيدة من الجمعة فرسخين فمن ذلك نستكشف عدم مشروعيتها من دون الإمام أو منصوبه الخاص لأنه لا وجه لهذا الاستثناء إلا عدم حضور الإمام أو نائبه عندهم)).

وقد ردّه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((والجواب عن ذلك ما أسبقناه من أن الاستثناء إنما هو عن وجوب الحضور لها لا عن أصل الوجوب والمشروعية كيفوقد ورد الأمر في الأخبار بإقامتها على أهل القرى إذا كان لهم إمام يخطب؛ نعم، لا يجب عليهم الحضور للجمعة المنعقدة في البلد إذا ابتعدوا عنها فرسخين)) فسقوط التكليف بلحاظ هذه الصلاة لا مطلقاً وقد دلّت الروايات على إمكانية إقامتها على بعد فرسخ من الأولى.

الخامس: ما رواه الصدوق (قدس سره) بإسناده عن الفضل بن شاذان في (علل الشرائع) و(عيون أخبار الرضا) عن الإمام الرضا (عليه السلام) وورد فيها (ولأن الصلاة مع الإمام أتم وأكمل ولعلمه وفقهه وفضله وعدله)(1) وورد فيها (وليس بفاعلٍ غيره ممن يؤم الناس في غير يوم الجمعة)(2) وقد نقلنا جزءاً من الرواية فيما تقدم وقالوا في تقريب الاستدلال بها أن هاتين الفقرتين تدلان على أن الإمام في صلاة الجمعة لا مناص من أن يكون فقيهاً وفاضلاً وعالماً وعادلاً ومسيطراً على العوام والآفاق حتى يخبر الناس عن الأهوال التي لهم فيها المضرة والمنفعة ويأمرهم بما فيه الصلاح وينهاهم عما يفسدهم فتدل الرواية على اشتراط حضور الإمام أو من نصبه بالخصوص في وجوب الجمعة ومشروعيتها لان تلك الخصال لا تتحقق إلا فيه (عليه السلام) أو في منصوبه الخاص فلا يكتفي فيها بمجرد وجود إمام صالح للجماعة كما نصّت الفقرة الثانية.

ص: 312


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب6، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب25، ح6.

وقد ناقشها السيد الخوئي (قدس سره) بعدة وجوه:-

1- إن هذه الرواية وغيرها مما رواه الصدوق (قدس سره) عن الفضل بن شاذان غير قابلة للاعتماد عليها لأن في طريقه إليه عبد الواحد بن محمد بن عبدون وعلي بن محمد بن قتيبة ولم يدلنا دليل على توثيقهما؛ نعم، قد ترضّى الصدوق على شيخه عبد الواحد بن محمد بن عبدون إلا أن مجرد الترضي منه (قدس سره) لشخص لا يدل على وثاقته فالرواية قاصرة بحسب السند.

2- إنها قاصرة الدلالة على هذا المدّعى وذلك لأنا وإن لم نشترط في وجوب الجمعة ومشروعيتها حضور الإمام (عليه السلام) أو من نصّبه لأجلها إلا أنه لا مناص من كون إمام الجمعة بمواصفات خاصة(1) لا أن الإمام يجب أن يكون كذلك شرعاً لعدم دلالة الرواية عليه، لأنها إنما وردت لبيان الحكمة في تشريع صلاة الجمعة وللحكاية عن الجمعات المنعقدة في الخارج.

3- قال صاحب الوسائل(2) إن جملة (وليس بفاعل غيره ممن يؤمّ الناس...) غير موجودة في العيون.

السادس: موثقة سماعة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة يوم الجمعة فقال: أما مع الإمام فركعتان وأما لمن صلى وحده فهي أربع ركعات وإن صلواجماعة)(3) وقالوا في تقريب الاستدلال بها: ((لأنها دلت -مقتضى المقابلة- على أن صلاة الجمعة مشروطة بحضور الإمام وأنه يغاير الإمام في صلاة الجماعة حيث قال: وإن صلوا جماعة وإلا فالمفروض أنهم متمكنون من الجماعة، بل قد ذكر المحقق الهمداني (قدس سره) أنها كالنص في إمام الجمعة الذي هو شرط في وجوب الركعتين ليس مطلق من يصلي بالناس

ص: 313


1- تقدم نقل بعض نصوصه قدس سره في الصفحة 290
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب25، ح6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب6، ح8.

جماعة)) وقد اتضح الرد مما تقدم بأننا نفرّق بين إمام الجمعة والجماعة بكونه معيّناً من قبل الفقيه الجامع للشرائط وأنه يخطب حيث نصّت الرواية بأنّ لهم إماماً يخطب.

السابع: جملة من الأخبار الواردة في أن الجمعة والحكومة والحدود لهم (عليهم السلام) وقد قدّمنا ذكرها في أول البحث وسلّمنا بدلالتها على أن إقامة الجمعة من وظائف الإمام ونائبه الفقيه الجامع للشرائط، ومضمون الروايات صحيح فلا معنى لمناقشة إسناد بعضها، ولا يخفى ما في هذه الروايات من تعريض بغاصبي الخلافة من الأئمة (عليهم السلام) وتوبيخ المسلمين على نكوصهم عن نصرة إمام الحق فضاعت عليهم بركات كثيرة.

وأضاف السيد الخوئي (قدس سره): ((النقض عليهم بالحكومة فكما أنها تختص بهم (عليهم السلام) ويجوز لغيرهم التصدي لها بإذنهم في ذلك كما في مقبولة عمر بن حنظلة(1) الدالة على جواز التحاكم إلى العلماء العدول فكذلك الحال في إمامة الجمعة. فهل يتوهم أحد عدم جواز تصدي غيرهم (عليهم السلام) للحكومة بدعوى اختصاصها لهم (عليهم السلام)؟! لأننا أيضاً نسلم الاختصاص غير أنّا ندّعي أن إمامة الغير إذا كان مستنداً إلى إذنهم في ذلك -ولو على نحو العموم- لم يكن منافياً للاختصاص)).

الثامن: ما ورد من الأخبار التي حددت عناوين الأفراد السبعة الذين تنعقد بهم الجمعة كما في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين (المؤمنين) ولا تجب على أقل منهم: الإمام وقاضيه والمدعي حقاً والمدعى عليه والشاهدان والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام)(2) ورواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي

ص: 314


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9،.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب2، ح9.

(عليه السلام) قال: (لا جمعة إلا في مصر تقام فيه الحدود)(1) وقد حملها الشيخ على التقية لأنها موافقة لأشهر مذاهب العامة وأضاف صاحب الوسائل في ذيل الحديث5 من الباب5: ((وثانياً إن ما تضمنه من اشتراط أعيان السبعة لا قائل به ولا يقول به الخصم والأحاديث دالة على خلافه، فعُلم أن المراد العدد خاصة إما هؤلاء أو غيرهم بعددهم ومما هو كالصريح في ذلك قوله: ولا تجب على أقل منهم ولم يقل ولا تجب على غيرهم فعلم أنها تجب على جماعة هم بعددهم أو اكثر منهم لا أقل)).

أقول: فإن من العناوين المدعى والمدعى عليه ولا يقول أحد باشتراط حضورهم.

وثالثاً: إن الإمام (عليه السلام) حثّ أصحابه على إقامتها في زمان الخلافة غيرالشرعية كما تقدم.

وتقدمت وجوه متعددة في فهم هذه الرواية

رابعاً: ضعف سندها بالحكم بن مسكين الذي لم يوثق في كتب الرجال.

أقول: المفروض أنه ثقة على مبانيه (قدس سره) لوروده في كامل الزيارات.

التاسع: الروايات التي ورد فيها مثل قوله (عليه السلام): (الصلاة مع الإمام ركعتان) حيث أن المعهود من اللفظ الإمام المعصوم ويرد عليه:-

1- إنه تقدّم منا أن إقامة الجمعة من وظائف الإمام لكننا نفترق عن هذا القائل بأننا ننقلها في عصر الغيبة إلى الفقيه الجامع للشرائط وهم لا يقولون به.

2- إن بعض هذه الروايات ظاهرة في إمام الجمعة الذي وصف بأنه (لهم إمام يخطب).

العاشر: ما ورد من الأخبار الدالة على الإذن لمن صلّى العيد مع الإمام أن لا يحضر الجمعة في نفس اليوم إذا اتفقا، وقد مرت صحيحة الحلبي(2) في هذا المعنى فلو لم يكن إقامة الجمعة حقاً خاصاً بهم لما جاز لهم الإذن في تركها لأنه

ص: 315


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب3، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة العید، باب15، ح1.

ترخيص في ترك فريضة تعيينية.

وفيه: إننا لا ننكر أن إقامة الجمعة حق للإمام لكن ما قيل لا يفيد اختصاص الحق بالإمام المعصوم (سلام الله عليه).

ويحتمل أن هذا من الإمام (عليه السلام) كان بياناً لحكم شرعي لمثل هذه الحالة وليس إذناً خاصاً مسقطاً لحقه كإذن المجتهد بأكل الميتة عند الضرورة مثلاً أو ترك الوضوء عند لزوم الحرج فإنه بيان لحكم وليس استعمالاً لحق ويشهد له ما في رواية إسحاق بن عمار عن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) (إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يقول: إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنه ينبغي للإمام أن يقول للناس في خطبته الأولى: إنه قد اجتمع لكم عيدان فأنا أصليهما جمعاً، فمن كان مكانه قاصياً فأحب أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له)(1) فقوله (عليه السلام) (ينبغي له) ظاهر في كونه يبلغ حكماً شرعياً وليس أنه يرخّص في حق خاص به.

ص: 316


1- ح3.

خلاصة واستنتاج

نظراً لدخولنا في تفاصيل كثيرة خلال البحث فإنه يحسُن تلخيص الأفكار المهمة حيث دلّ القرآن الكريم والروايات الشريفة(1)

على أن صلاة الجمعة واجبة تعييناً عند الزوال يوم الجمعة وهي مشروطة باجتماع العدد المعتبر والأمن من الخوف ونحوه من الموانع وبإذن الإمام المعصوم (عليه السلام) في زمن الحضور أو نائبه العام في زمان الغيبة لأنها من وظائف الإمام بحسب الموقع لا بحسب الشخص.

ولو أن جزءاً يسيراً من هذه الأدلة تعلّق بموضوع آخر لما تردّد الفقهاء في القول بوجوبه، لكنهم ترددوا هنا مع تصريح بعضهم بتمامية دلالة بعض الأدلة على هذا الوجوب - أعني الوجوب التعييني لصلاة الجمعة- لوجود قرائن تمنع من القول بالوجوب التعييني ومنها ما رأوه من عدم إقامتها من قبل الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم العارفين بنهجهم، ونحن متفقون معهم في عدم جريان سيرة الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم على إقامة صلاة الجمعة بشكل خاص بهم إلا أن ذلك كان بسبب وجود المانع وهي التقية وليس لأن الوجوب تخييري.

أما القائلون بالوجوب التخييري فقد وردت عليهم عدة إشكالات:-

1- إن الوجوب التخييري لا دليل عليه صريحاً وإنما هي نتيجة توفيقية قالوا بها لأن الواجب التخييري له صيغ تفيده كالعطف ب-(أو) وغيره مما ذكر في علم الأصول ولا يوجد هنا وإنما قالوا به لقرائن منعتهم من الأخذ بظواهر الأخبار التي تفيد الوجوب التعييني وقد ناقشناها ولم يتم شيء منها كترك أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لها وهو لوجود المانع لا لأن الوجوب تخييري فلا يجوز ترك ظواهر الأخبار لأجلها.

ص: 317


1- قرّبنا الاستدلال بعدة طوائف منها في الصفحات (257-258، 276، 279، 285-286).

2- إنهم قالوا بأن الوجوب تعييني زمن الحضور ولم يذكروا سبب عدم إقامة الأئمة (عليهم السلام) لها بل نفوا أن يكون للتقية، إذن ما السبب؟ والمفروض أنهم لا يقولون بأنه تخييري فالسبب إذن وجود التقية والمفروض الالتزام به عند ارتفاع التقية وهو ما نقول به.

إن التخييري ليس من أقسام الوجوب حتى يحمل لفظه الوارد في الروايات عليه بل هو من أقسام الواجب والدليل صحة السلب عن فرد التخييري فلا يقال عتق الرقبة واجب على من أفطر متعمداً في شهر رمضان وإنما تعلق الوجوب بالعنوان الانتزاعي وهو عنوان الكفارة لكن عتق الرقبة وصوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً أفراد يقع الإجزاء والامتثال للواجب بها ويسقط التكليف بأدائها فهي من أفراد الواجب. وحينئذٍ فلا يصحّ حمل ألفاظ الوجوب الواردة في الروايات على الجمعة باعتبارها فرداً تخييرياً وإنما باعتبارها واجباً تعيينياً. وقد قال السيد الخوئي (قدس سره) مثل هذا في علم الأصول وفي الفقه؛ قال (قدس1- سره): ((إن متعلق الوجوب إنما هو الجامع الانتزاعي المنطبق على كل من الطرفين أو الأطراف، وليس الطرف بنفسه متعلقاً للتكليف بوجه، وإنما هو محقق للامتثال ومسقط للأمر المتعلق بالجامع من أجل انطباقه عليه))(1).

ص: 318


1- المستند في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 21/352.

مقتضى الأصل

جرى ديدن فقهائنا على تأسيس الأصل الجاري في المسألة التي يبحثون فيها ليكون هو المرجع عند فقدان الدليل اللفظي التام فيها وهنا تساءل السيد الخوئي (قدس سره): ((فهل يقتضي الأصل وجوبها تعييناً، أو تخييراً، أو إنه يقتضي الحرمة وعدم المشروعية))(1).

والمرجع عادة يكون عند عدم تمامية الدليل الخاص بالمسألة أما لفقدانه أصلاً أو لتعارضه مع العمومات الفوقانية، وقد قال (قدس سره) بوجودها وهي ((إطلاق الأخبار الواردة في أن الواجب في كل يوم سبعة عشر ركعة وخمس فرائض وهي متضافرة بل متواترة إجمالية، فعلى تقدير كونها مطلقة - كما هي كذلك- لا مناص من أن نتشبث بإطلاقها)). وفيه:-

1- إن هذا الإطلاق مخصص بما دل على وجوب صلاة الجمعة عند الزوال يوم الجمعة وإقامة المعصومين لها وحينئذٍ قد يقول (قدس سره) إن ذلك كان في عصر الحضور ونحن نتحدث عن عصر الغيبة. والجواب: إن التخصيص مطلق من حيث الزمان ومتصل بنفس النص وليس منفصلاً كما في صحيحة زرارة الأولى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنما فرض الله عز وجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله عزوجل في جماعة وهي الجمعة.. إلخ) فالتكليف منقسم أصلاً إلى وجوب صلاة الظهر فيما عدا الجمعة والجمعة فيها أي إن ظهور إطلاقات وجوب الظهر منعقد بما عدا الجمعة من أول الأمر وليس أنه انعقد بشمولها ثم خرجت الجمعة.

2- إن هذه الإطلاقات توصل إلى غير النتيجة التي أراد، قال (قدس سره): ((ومقتضاه – أي الإطلاق- عدم مشروعية الجمعة رأساً، وأن الواجب هي صلاة الظهر يوم الجمعة، وإلا لم يكن الواجب سبعة عشر)) أو لأن

ص: 319


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/56.

فرض الظهر متيقن الوجوب بهذا الإطلاق كل يوم والمفروض عدم تمامية دليل لإخراج يوم الجمعة وفرض صلاة الجمعة فيه فالواجب صلاة الظهر. لكن الذي يهوّن عليه عدم حاجته إلى الرجوع إلى العمومات الفوقانية لتمامية الدليل اللفظي الخاص عنده على الوجوب التخييري.

3- إنها ليست لها إطلاق من جهة نفي وجوب فردٍ آخر غيرها على نحو الطولية أو العرضية مع واحد منها لأنها مجملة من هذه الناحية ولعله إلى هذا الإشكال كان (قدس سره) يشير بقوله: ((وقد نفرض الشك مع البناء على عدم الإطلاق من هذه الجهة)) أي جهة نفي الفرد الآخر.

الأصول العملية الجارية في المقام

ولو فرض عدم وجود إطلاق فوقاني فالمرجع حينئذٍ الأصول العملية.

وقبل الدخول فيها أودّ إلفات النظر إلى أنه (قدس سره) وغيره يصرح بالوجوب التعييني في عصر الحضور ثم يسعى لتأسيس الأصل في زمن الغيبة من دون أن يفسّر لنا سبب عدم إقامة المعصومين من لدن غصب حقهم في الخلافة للصلاة خصوصاً عند من ينفي أن يكون المانع هو التقية، فهل الوجوب تخييري حتى في عصرهم (سلام الله عليهم)؟ هذا ما لم نجده في كلماته (قدس سره) مع أن له مدخلية في تأسيس الأصل كالاستصحاب.

ثم إنه (قدس سره) طبق المورد مباشرة على مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير وكان ينبغي له (قدس سره) أن يطبق أصل الاستصحاب على المسألة لوجود حالة سابقة وهي الوجوب التعييني في عصر الحضور واشترط (قدس سره) – وهو الصحيح- عدم جريان الاستصحاب لجريان هذه المسألة قال (قدس سره): ((إن محل الكلام إنما هو فيما إذا لم يكن في البين أصل لفظي من الإطلاق ونحوه، ولا استصحاب موضوعي يرتفع به الشك، كما إذا علمنا بالتعيين ثم شككنا في انقلابه إلى التخيير أو بالعكس، فإنه مع وجود أحد

ص: 320

الأمرين يرتفع الشك فلا تصل النوبة إلى البراءة أو الاحتياط))(1).

إلا أنه (قدس سره) أخّر الكلام في الاستصحاب واستعمل أصلاً آخرَ وقد يكون معه حق من جهته باعتبار أن مبناه عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية فلا يجري الاستصحاب في المقام لذا عليه أن يؤسس أصلاً آخر وهو ما سار عليه ونحن بما أننا نرى جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية لإطلاق أدلة حجيته من هذه الجهة ولعدم صلاحية ما ذكر من الموانع عن جريانه في هذه الحالة فمقتضاه ثبوت الوجوبالتعييني لأنه الحالة السابقة المتيقنة وقد أيّد (قدس سره) ذلك فقال: ((وعلى المشهور من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية يستصحب وجوبها التعييني في عصر الغيبة)).

وكان يمكنه (قدس سره) الإشكال على جريان الاستصحاب من جهتين غير ما ذكر من مبناه الخاص في علم الأصول من عدم جريانه لأن الخلاف مع القائل به سيصبح مبنائياً وهما:-

الأولى: عدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة باعتبار أن المتيقن هو الوجوب التعييني زمن الحضور والمشكوك هو الوجوب زمن الغيبة، لكن هذا الإشكال مردود لأن هذا المقدار من الشك لا بد من وجوده لتتم شروط الاستصحاب.

الثانية: إنه من استصحاب الكلي من القسم الثالث لأن الوجوب التعييني زمن الحضور متيقن الارتفاع بغيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) والوجوب في زمن الغيبة مشكوك الحدوث فلا يجري الاستصحاب وهذا الإشكال في الاستصحاب مفيد للقائل بالوجوب التخييري لأنه اشترط في الوجوب التعييني حضور الإمام المعصوم، ولعل صاحب الجواهر (قدس سره) أراد هذا حين رد على الاستدلال بالاستصحاب قائلاً: ((إن الحكم قد تعلق بالحاضرين الواجدين للشرط- وهو الحضور- فاستصحابه بحيث يثبت الحكم على غيرهم غير معقول))(2).

ص: 321


1- مصباح الأصول (من الموسوعة الكاملة): 47/520.
2- جواهر الكلام: 11/177.

لكن هذا الإشكال مردود على مختارنا بعدم اليقين بارتفاع الوجوب في زمن الحضور لعدم وجود الدليل على تقييد الوجوب بحضور الإمام وإن كانت إقامتها من وظائفه (عليه السلام) لكنها ليست من مختصّاته.

وقد ناقشنا أدلة ذلك في مناقشة القائلين بعدم المشروعية في زمان الغيبة.

ثم شرع السيد الخوئي (قدس سره) في بيان الصور المحتملة في المسألة الناشئة من دوران الأمر بين الأقوال الثلاثة في المسألة (الوجوب التعييني لصلاة الجمعة، الوجوب التخييري بينها وبين صلاة الظهر، عدم مشروعية صلاة الجمعة) وجزّء الصور بافتراض مسألة لكل احتمالين منهما وهنا نقول إن المسألة ليست قابلة للتجزئة وإنما هي واحدة يدور الأمر بين احتمالاتها وتناقش كمسألة واحدة لأن الشك المتصور فيها هو هكذا يدور بين أطراف ثلاثة، وحينئذٍ يتعارض الأول والثالث لأنها من دوران الأمر بين المحذورين الوجوب والحرام وتُختار صلاة الظهر من فردي التخيير إن كان المراد بالحرمة الذاتية كما لو وجد ضرر محقق في إقامتها ويأتي بالفردين معاً إن كان المراد الحرمة التشريعية أي عدم الصحة لانتفاء الشرط وهو حضور الإمام وإنما وجب الإتيان بهما معاً لإمكانه بلا محذور.

إن قلتَ: إن صلاة الظهر تعاني من نفس التعارض لأن أمرها يدور بين المحذورين وهما الحرمة (على القول بالوجوب التعييني لصلاة الجمعة) والوجوب (على القول بعدم مشروعية صلاة الجمعة).

قلتُ: الأمر مختلف لأن هذه الأحكام لصلاة الظهر أُخذت على نحو اللوازم لأحكام صلاة الجمعة ولم يرد عليها دليل فلا دليل على حرمة صلاة الظهر في زمن الغيبة أو قل إن هذا الشك مسببي والشك في صلاة الجمعة بين التعيين والحرمة سببي والأصل يجري في السببي لتقدمه رتبة على المسببي.وعلى أي حال فقد قال (قدس سره) في بيان هذه الصور(1):

الأولى: ((ما إذا شككنا في أن الجمعة هل هي في عصر الغيبة واجبة بالوجوب التعييني أو أنها واجبة تخييرية؟ بأن نقطع بمشروعيتها ووجوبها ونتردد

ص: 322


1-

بين قسمي الوجوب.

وبما أن أمر صلاة الجمعة في هذه الصورة يدور بين التعيين والتخيير فلا مناص من الرجوع إلى البراءة عن اعتبار الخصوصية والتعيين، وذلك لما قررناه في جريان البراءة العقلية والنقلية عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وقلنا إن مقتضى كلتا البراءتين عدم اعتبار الخصوصية والتعيين فيما يحتمل تعيينه للعلم بالجامع والشك في اعتبار الخصوصية الزائدة كخصوصية التعيينية في المقام ونتيجة ذلك هو الوجوب التخييري لا محالة)).

وفيه:

إن ما ذكره (قدس سره) غير مستوعب لصور الشك في هذه المسألة، فإن الترديد، تارة يكون بين التعيين والتخيير كصفة للوجوب وتارة بين التعييني والتخييري كصفة للواجب، لأن الشك قد يتعلق بأصل الجعل فلا نعلم أن حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة هو الوجوب التعييني أو التخييري وحينئذٍ نجري أصالة البراءة عن التعيين لأنها تتطلب مؤونة زائدة فننفيها بالأصل. وهي الحالة التي أشار إليها (قدس سره) ومختاره فيها صحيح.

لكن المقام ليس منها لأننا نعلم بوجوب صلاة الجمعة ولكننا شككنا في أن وجوبها تعييني أو تخييري ومقتضى الأصل اللفظي فيها التعييني، والوجه في ذلك ما قاله (قدس سره) في علم الأصول: ((لأن مرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في متعلق التكليف من حيث السعة والضيق يعني أن متعلقه هو الجامع أو خصوص ما تعلق به الأمر، كما إذا ورد الأمر مثلاً بإطعام ستين مسكيناً وشككنا في أن وجوبه تعييني أو تخييري، يعني أن الواجب هو خصوص الإطعام أو الجامع بينه وبين صيام شهرين متتابعين، ففي مثل ذلك لا مانع من الأخذ بإطلاقه لإثبات كون الواجب تعيينياً لا تخييرياً، فإن بيانه يحتاج إلى مؤونة زائدة وهي ذكر العدل بالعطف بكلمة (أو) وحيث لم يكن فيكشف عن عدمه في الواقع، ضرورة أن الإطلاق في مقام الإثبات يكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت))(1).

ص: 323


1- محاضرات في أصول الفقه (من الموسوعة الكاملة): 44/6.

وفي ضوء هذا فإن نتيجة دوران الأمر بين التعييني والتخييري لها تقريبان فتارة تقرَّب على دوران الأمر بين الأقل والأكثر فتجري أصالة البراءة عن الزائد كمسألة تقليد الأعلم فإن الأمر يدور بين الاجتزاء بتقليد المجتهد العادل مطلقاً أو اشتراط خصوصية زائدة فيه وهي الأعلمية وتكون نتيجته وجود القدر المتيقن من الأدلة وهو وجوب الرجوع إلى المجتهد العادل والشك في وجوب الخصوصية الزائدة وهي الأعلمية فتنفى بأصالة البراءة.

هذا في التقليد ابتداءً أما مع العلم بالمخالفة فإن الأمر يدور بين فتوى الأعلم المعلومة حجيتها وفتوى غير الأعلم المشكوك في حجيتها لاقتضاء نفس الدليل (وهيالسيرة العقلائية) ذلك، فتعين الأخذ بقول الأعلم والدليل قائم على ذلك بلا حاجة إلى الأصل.

وتارة أخرى: يقرب على المتباينين حيث لا قدر متيقن؛ نعم، يوجد قدر مشترك ولكن ليس هو من قبيل الأقل والأكثر وإن كان في عالم الامتثال كذلك إلا أنه في عالم التشريع من قبيل المتباينين فلا يوجد قدر متيقن وتجري أصالة الاشتغال لا البراءة لوجود العلم الإجمالي باشتغال الذمة فيأتي بما يتيقن معه براءة الذمة ومنه الشك في الكفارة بين المرتبة والمخيرة فإن أمر الامتثال يدور بين عتق رقبة خاصة (لو كانت مرتبة) أو المخير بينه وبين الأفراد الأخرى كالإطعام والصوم فحينئذٍ يجب الامتثال للعتق لأنه مجزٍ على كل حال وعدم الاجتزاء بالآخر للشك بالاجتزاء به ومسألتنا من النحو الثاني فإنه ما يبرئ الذمة عند الزوال يوم الجمعة هو أما صلاة الجمعة خاصة (على القول بوجوبها التعييني) أو الفرد المخير بينها وبين صلاة الظهر (على القول بالوجوب التخييري) فيتعين الإتيان بصلاة الجمعة لليقين بالاجتزاء به أما صلاة الظهر فمشكوك فيها.

لكنه (قدس سره) قال بالبراءة عن التعيين ((للعلم بالجامع والشك في اعتبار الخصوصية الزائدة كخصوصية التعيينية في المقام)) لأن تصويره للمسألة لم يكن تاماً حيث طبقها على النحو الأول وهي من النحو الثاني إذ لا جامع وإن أراد بالجامع هو المخير بين الظهر والجمعة فهو ليس جامعاً وإنما هو عين أحد الفردين أي الوجوب التخييري، فالصحيح انطباق المسألة على النحو

ص: 324

الثاني.

وقد تقدم منه (قدس سره) اختيار ذلك في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في كفارة الصوم وقال (قدس سره) به أيضاً في مسألة من شك في اليوم الذي أفطره كان من شهر رمضان أو من قضائه بعد الزوال حيث رد على قول صاحب العروة بالاكتفاء بالعشرة لأنها المتيقنة مع الستين بأننا ((نعلم إجمالاً بتعلق الطلب أما بالعنوان الجامع- أعني: إحدى الخصال من إطعام الستين وأخويه- أو بإطعام عشرة مساكين، ومن الضروري أن العشرة مباينة مع الجامع المزبور وليس أحدهما متيقناً بالإضافة إلى الآخر ليؤخذ به ويدفع الزائد بالأصل. نعم العشرة متيقنة بالإضافة إلى الستين، ولكن الستين ليس متعلقاً للتكليف جزماً إنما المتعلق هو الجامع المنطبق عليه وعلى غيره، والجامع مباين مع العشرة.

وعليه فكما أن مقتضى الأصل عدم تعلق التكليف بالجامع كذلك مقتضاه عدم تعلقه بالعشرة، فيسقطان بالمعارضة، فلا بد من الاحتياط ويتحقق بأحد أمرين: أما بالجمع بين العشرة وبين العتق أو الصيام، وأما باختيار الستين للقطع بتحقق الامتثال في ضمنه، أما لكونه عدلاً للواجب التخييري، أو لأجل اشتماله على العشرة وزيادة، فالستون متيقن في مقام الامتثال لا في مقام تعلق التكليف))(1)

وأما العشرة فليست بمتيقنة حتى في مقام تعلق التكليف.

الثانية: ((أن نحتمل عدم مشروعية الجمعة في عصر الغيبة لاحتمال اختصاصها بزمان الحضور كما نحتمل مشروعيتها وكونها واجبة تخييرية فقط بأن نقطع بعدم كونها واجبة تعيينية بل هي إما غير مشروعة وإما أنها واجبة تخييريةومعنى ذلك أنا نشك في أنَّ صلاة الظهر -يوم الجمعة- واجبة تعينية - كما إذا لم تكن صلاة الجمعة مشروعة- أو أنها تخييرية - كما إذا كانت الجمعة مشروعة وواجبة تخييرية-.

والمرجع في هذه الصورة أيضاً هي البراءة عن تعيّن الظهر وخصوصيتها ونتيجته الوجوب التخييري كما مر)).

ص: 325


1- المستند في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 21/353.

والتعليق هنا كالتعليق هناك إذ تتعين هنا صلاة الظهر لأنها مجزئة على كل حال بينما الجمعة ليست كذلك.

الثالثة: ((أن نشك في أن الواجب التعييني يوم الجمعة هل هي صلاة الظهر أو الجمعة؟ وهذا الشك قد يقترن باحتمال الوجوب التخييري بالجمعة وقد لا يقترن به للقطع بعدم كون الجمعة واجبة تخييرية، بل يدور أمرها بين الحرمة والتعيين، ومعناه أنا نشك في أن المتعين يوم الجمعة هي صلاة الظهر أو الجمعة.

فعلى التقدير الأول أيضاً لا بد من الرجوع إلى البراءة عن احتمال التعيين والخصوصية في كل من صلاتي الظهر والجمعة، وتصبح النتيجة وجوباً تخييرياً لا محالة، وعلى التقدير الثاني لا مناص من الاحتياط للعلم الإجمالي بوجوب إحدى الصلاتين تعييناً وهو يقتضي الجمع بين الصلاتين)) والتقدير الأول هو عين أصل المسألة قبل تجزئتها وقد ناقشناها وأما مختاره على التقدير الثاني فإنه صحيح إذا كان المقصود بالحرمة الحرمة التشريعية (أي عدم الصحة لانتفاء الشرط مثلاً) لا الذاتية وأما إذا قصدنا بها الحرمة الذاتية كما لو كان في إقامتها ضرر يحرم ارتكابه فلا يمكن الجمع وتتعين الظهر كما تقدم.

انتهينا بفضل الله تبارك وتعالى من هذا البحث يوم الجمعة 3 رجب 1425 المصادف 20/8/2004 أي بعد أسبوع من البدء به وما كان ذلك ليتم لولا الألطاف الإلهية ورعاية صاحب العصر (عليه السلام)، وقد اغتنمنا فرصة قلة المراجعين بسبب ما يعرف بأزمة النجف حيث عاشت المدينة المقدسة وأهلها أياماً عصيبة بسبب المواجهات والقصف العنيف والقذائف المتبادلة مما شلَّ الحياة في المدينة بدرجة كبيرة، والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 326

البحث السابع: شرط الفرسخين في وجوب الحضور لصلاة الجمعة لا يشمل أهل المدينة الواحدة

اشارة

ص: 327

ص: 328

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث السابع: شرط الفرسخين في وجوب الحضور لصلاة الجمعة لا يشمل أهل المدينة الواحدة

البحث السابع: شرط الفرسخين في وجوب الحضور لصلاة الجمعة لا يشمل أهل المدينة الواحدة(1)

أجمع الفقهاء (قدس الله أرواحهم) نقلاً وتحصيلاً((2)

على سقوط وجوب الحضور في صلاة الجمعة عمّن كان بينه وبين محل إقامة صلاة الجمعة أزيد من فرسخين، ولأن المسألة موضع اتفاق فإن الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لم يعمّقوا البحث فيها. وهذا الإجماع مستند إلى عدد من الروايات هي:-

1- صحيحة زرارة قال: (قال أبو جعفر (عليه السلام): الجمعة واجبة على من إن صلى الغداة في أهله أدرك الجمعة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يصلي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجعوا إلى رحالهم قبل الليل، وذلك سُنة إلى يوم القيامة)(3).

2- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (تجب الجمعة على من كان منها على فرسخين).

ص: 329


1- محاضرة ألقيت يوم 24/ ربيع الأول/1430 الموافق 22/3/2009.
2- جواهر الكلام: 11/265.
3- الأحاديث من (1) إلى (5) في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة، باب 4، ح1، 2، 4، 5، 6.

3- معتبرة(1)

الصدوق في العلل وعيون الأخبار بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال: (إنما وجبت الجمعة على من يكون على فرسخين لا أكثر من ذلك لأن ما يُقصَّر فيه الصلاة بريدان ذاهباً، أو بريد ذاهباً وبريد جائياً، والبريد أربعة فراسخ، فوجبت الجمعة على من هو على نصف البريد الذي يجب فيه التقصير، وذلك أنه يجيء فرسخين ويذهب فرسخين فذلك أربعة فراسخ وهو نصف طريق المسافر).

4- صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (تجب الجمعة على كل من كان منها على فرسخين).

5- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجمعة فقال: تجب على من كان منها على رأس فرسخين فإن زاد على ذلك فليس عليه شيء).

6- صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وفيها: (منها صلاة واحدة فرضها الله عز وجل في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة) إلى أن قال (عليه السلام): (ومن كان على رأس فرسخين)(2).

نظرة في الروايات:

تصنف الروايات المتقدمة بحسب معنى هذا الشرط إلى طائفتين:

(الأولى) ما دلّ على الاشتراط مطلقاً كالثانية والرابعة والخامسة.

ص: 330


1- حُكم على سند الصدوق هذا بعدم الاعتبار لعدم وجود توثيق صريح في شيخه عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري وعلي بن محمد بن قتيبة، لكن المحدث النوري (قدس سره) صحح السند إلى علل الفضل بن شاذان وذكر قرائن لا بأس بها لاعتماد هذا الطريق (راجع خاتمة مستدرك الوسائل، ج5/83 في التسلسل 254) ثم ذكر وجوهاً لتوثيق المذكورَين في ج4/صفحة 452، 457 في التسلسل 198، 203.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة، باب 1، ح1.

(الثانية) ما دلّ على الاشتراط في حالة كون الشخص في قرية أو أي مكان خارج البلد فتلاحظ في وجوب الحضور عليه هذه المسافة كالروايتين الأولى والثالثة، حيث يظهر منها أن الشرط مرتبط بمن كانوا خارج البلد كمن يسكنون القرى والأرياف والبوادي كقوله (عليه السلام): (رحالهم) في الرواية الأولى، وما ورد في الرواية الثالثة من تعليل وجه الاشتراط بأنها نصف مسافة القصر للمسافر وليدرك أهله قبل الليل، باعتبار أن مسافة القصر وهي أربعة فراسخ أُخِذَ فيها أنها مسيرة يوم للقوافل، وصلاة الجمعة في منتصف اليوم عند الزوال فيخرج الغداة إليها ويعود قبل الليل فاحتاج إلى تنصيف المسافة ليكون الشرط عدم الزيادة على الفرسخين.

ومقتضى الجمع بين الطائفتين حمل المطلق على المقيد –وهو المعلل- فيكون سقوط وجوب الحضور إلى صلاة الجمعة على من كان على رأس فرسخين مختصاً بمن كان خارج المدينة ولا يشمل من كان على هذه المسافة وهو مستوطن في نفس المدينة التي تقام فيها صلاة الجمعة لسعتها –كبغداد أو طهران مثلاً- فإن أبناء هذه المدينة مشمولون كلهم بالوجوب وإن بعدوا أزيد من هذه المسافة.

إن قلتَ: لا يوجد تنافي بين الخطابين حتى يحمل الأول على الثاني إذ يمكن الأخذ بهما معاً، نظير الخطابين المثبتين (أعتق رقبة) و (أعتق رقبة مؤمنة) فإنه لا تعارض بين الخطابين ويمكن الأخذ بهما معاً، وتحمل الصفة الزائدة على عناية زائدة كالاستحباب.

وبتعبير آخر: إنما يقع التنافي لو كان للجملة المقيدة مفهوم فيُقيّد به إطلاق الآخر، والجملة هنا ليس لها مفهوم.قلتُ: هذا الكلام صحيح كبروياً لو كان الجعل متعدداً، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) وقال: (أكرم العلماء العلويين) فهنا يجب إكرام مطلق العلماء مع عناية زائدة بالعلويين منهم ولا يقيَّد الأمر الأول بهذا القيد الزائد.

ص: 331

أما إذا كان الجعل متحداً؛ كما لو قال: (أكرم طلبة العلم) وقال: (أكرم طلبة العلم المشتغلين) فإننا نعلم أن الأمر واحد وهو إكرام طلبة العلم، لكن ليس مطلق من حمل عنوانهم وارتدى زيّهم وإنما خصوص المشتغلين منهم.

والمقام من الثاني لظهور كون خطاب الشرط واحداً ولكنه تارة أُطلق لبيان أصل الشرط، وتارة ذُكر معللاً لبيان مورد تطبيقه.

إن قلت: كيف يمكن التمييز بين النوعين؟

قلت: يستظهر وحدة الجعل أو تعدده من قرائن في نفس الخطابين أو مما يعرف بمناسبات الحكم والموضوع المؤثرة في الظهور.

وتفصيل البحث في مبحث المطلق والمقيد من علم الأصول.

وعلى أي حال فتقييد إطلاق شرط الفرسخين لوجوب الحضور بمن كانوا خارج المدينة يمكن تقريبه بعدة وجوه:

(الأول) تقييد الروايات المطلقة بالروايات المعللة لأنها أقوى ظهوراً والجعل متحد كما قرّبنا.

(الثاني) إن إطلاق الروايات غير تام أصلاً لوجود القرينة وهي الروايات المعللة، ويكفي احتمال قرينية الموجود لعدم تمامية مقدمات الإطلاق، فتكون الطائفة الأولى بصدد بيان أصل الشرط وعنوانه في الجملة، أما بيان التفاصيل فتتكفل به روايات الطائفة الثانية كعنوان (المسافر) الذي ورد ضمن التسعة المعذورين فإنه لا يصحّ التمسك بإطلاقه لتعذير كل مسافر، فإن من نوى إقامة عشرة أيام وجب عليه الحضور في الجمعة.

(الثالث) إن المدن يومئذٍ مهما اتسعت –كبغداد عاصمة الخلافة العباسية- لا يفصل فرسخان بين طرفيها فضلاً عن المسافة بين محل إقامة صلاة الجمعة ومحل سكن الناس، فالروايات إذن مهما تمسكنا بإطلاقها فإنها ليست بصدد بيان ما لو اتسعت المدينة وكان بين الشخص ومحل إقامة الصلاة فرسخان، فهذه المسألة تكون خارجة عن موضوع الروايات.

وهذا لا يعني أننا أخذنا الحكم على نحو القضية الخارجية، وإنما نقول إن الروايات غير ناظرة أصلاً إلى هذا الموضوع.

ص: 332

إن قلتَ: إنهم قالوا أن (ترك الاستفصال دليل العموم) والنصوص هنا تركت التفصيل فهو دليل الإطلاق.

قلتُ: الإطلاق إطلاقان: ذاتي وهو بلحاظ نفس الألفاظ مع قطع النظر عن ملاحظة القيد عند المتكلم حين إطلاق الكلام وعدمه، ولحاظي وهو الإطلاق الذي يلحظ فيه المتكلم القيد فلا يأخذه ويطلق كلامه، والأول لا يمكن التمسك به لعدم اجتماع مقدمات الحكمة والمقام منه كما قرّبنا، أما الثاني فيُتَمسَّك به إلا أن المقام ليس منه.

مؤيدات:

ومما يؤيد هذه النتيجة عدة أمور:-

1- الحث الأكيد الصادر من الأئمة (عليهم السلام) على إقامة صلاة الجمعة، والسعي لتهيئة الأسباب والمقدمات لإقامتها حتى للمعذورين مما ذكرناه في مسألة (الوجوب التعييني لصلاة الجمعة) يمنع من الأخذ بإطلاق الرخصة لمن كان على رأس فرسخين حتى لمن كان في نفس مدينة إقامتها.

ومنها صحيحة زرارة قال: (حثّنا أبو عبد الله (عليه السلام) على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنما عنيت عندكم)(1).

وموثقة عبد الملك عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال: مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله، قال: قلتُ: كيف أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني صلاة الجمعة)(2).

2- إن صلاة الجمعة لم تكن تقام في عصر صدور النصوص إلا في الأمصار، ((وكان في كل مصر مسجد واحد يسمى عند العرب بالمسجد الجامع وعند العجم بمسجد الجمعة، وأغلبها باق إلى زماننا هذا، ولم يعهد بناء الجامع

ص: 333


1- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5، ح1، 2.
2- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5، ح1، 2.

في القرى، حيث إن إيران كانت من توابع العراق وكان فقيه العراق أبا حنيفة وهو ممن يخص إقامة الجمعة بالأمصار وينكر مشروعيتها في القرى، وقد كان إقامة الجمعة في المسجد المعدّ لها في كل مصر من خصائص شخص خاص عيّنه خليفة الوقت لذلك))(1).

فالحكمة من جعل هذه المسافة لجمع أهل القرى والبوادي في صلاة الجمعة للمدينة، وليس لتفريق أبناء المدينة الواحدة ووضع الوجوب على البعض ورفعه عن البعض الآخر.

3- إعراض بعض القدماء عن ذكر الفرسخين أصلاً وإنما ذكروا بدلاً عنهما المسافة التي يقطعها المسافر في نصف يوم فكأنهم جعلوا المناط هذا المعنى لا المسافة فكأن الشرط مختص بمن هم خارج المدينة فقال: ((ابن أبي عقيل: يجب على كل من إذا غدا من منزله بعدما صلى الغداة أدرك الجمعة.

وقال ابن الجنيد بوجوب السعي إليها على من سمع النداء بها إذا كان يصل إلى منزله إذا راح منها قبل خروج نهار يومه))(2).

ونتيجة ما تقدم من تقريبات الاستدلال والتأييد أن سقوط وجوب السعي إلى صلاة الجمعة بالابتعاد فرسخين مختص بمن كان خارج المدينة.

إن قلتَ: أليس في هذا مخالفة للإجماع؟

قلتُ:-

1- لا مخالفة فيه لأن الإجماع لم يتعرض لهذا التفصيل فهو ليس نافياً له، وبتعبير آخر: إن إطلاق المجمعين ذاتي لا لحاظي.

2- إنه إجماع مدركي كما هو واضح فالحجة مستندة وهي الروايات.إن قلتَ: لو افترضنا سعة المدن بشكل كبير جداً فإن الملاك المذكور في الصحيحة الأولى وهي العودة إلى الرحال قبل الليل لا يتحقق، فلا يجب الحضور.

قلتُ: لا حاجة إلى هذا القلق، لأن المدن حينما تصبح بهذه السعة، فإن وسائط النقل ستكون متقدمة بالشكل الذي يضمن تحقق الملاك المذكور.

ص: 334


1- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر للشيخ المنتظري: 18.
2- مدارك الأحكام: 4/52 وذكرهما العلامة (قدس سره) في المختلف.

العمومات الجارية في مورد الشك:

ولو شككنا في الحكم الخاص بالمسألة لسبب أو آخر من الإشكالات المتقدمة فنتمسك بالعمومات والإطلاقات الجارية في المقام، وهي تقتضي وجوب حضور أبناء المدينة الواحدة في صلاة الجمعة إذا زادت مسافتهم على الفرسخين تمسكاً بعمومات الآية الشريفة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ» (الجمعة:9) والروايات الكثيرة المعتبرة الدالة على وجوب الحضور التي ذكرناها في مسألة الوجوب التعييني لإقامة صلاة الجمعة والحضور فيها.

ووجهه أن الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص يبقى تحت العام، والخاص هنا سقوط الوجوب عمن كان على رأس فرسخين، بعد أن شككنا في إطلاقه وشموله لمن كان على هذه المسافة من سكان نفس المدينة.

ص: 335

فرعان

(الأول) قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): ((اختلف الأصحاب في تحديد البعد المقتضي لعدم وجوب السعي إلى الجمعة، فقيل حده أن يكون أزيد من فرسخين، وهو اختيار الشيخ في المبسوط والمرتضى وابن إدريس ومستنده حسنة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تجب الجمعة على من كان منها على فرسخين فإذا زاد على ذلك فليس عليه شيء).

وقيل فرسخان فيجب على من نقص عنهما دون من بعد بهما، وهو اختيار بن بابويه، وابن حمزة. ويدل عليه قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: (ووضعها عن تسعة) إلى قوله: (ومن كان منها على رأس فرسخين).))(1).

وعقّب (قدس سره) بقوله: ((لا يخفى أن هذا الخلاف قليل الجدوى، لأن الحصول على رأس الفرسخين من غير زيادة ولا نقصان نادر جداً)).

(الثاني) قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((في التذكرة وعن نهاية الأحكام وكشف الالتباس وظاهر إشارة السبق تحديد البعد المزبور من منزله والجامع لا بين البلدين، بل عن الأولين فلو كان بين البلدين أقل من فرسخين وبين منزله والجامع أزيد من فرسخين فالأقرب السقوط لأنه المفهوم من كلام الباقر والصادق (عليهما السلام)، قلت: يمكن أن يكون المدار على مكان البدن ومكان المصلين فعلاً لا البلدين ولا المنزل ولا الجامع ونحوه، وانسياق الوطن من النصوص إنما هو لغلبة كونه فيه، ولعل ذلك هو الظاهر من المتن وغيره ممن عبّر كعبارته، بل هو الظاهر من النصوص، قال في كشف اللثام(2):

وإنما تعتبر المسافة بين الموضع الذي هو فيه وموضع الصلاة، لا البلدين ولا مكانه والجامع كما في التذكرة ونهاية الأحكام، فلو كان بينه وبين بعض الجماعة أقل من فرسخين

ص: 336


1- مدارك الأحكام: 4/51.
2- كشف اللثام: 4/283.

وبينه وبين الآخرين أزيد وجب عليه الحضور، فإنه المفهوم من كونه منها على رأس فرسخين أو أكثر إه-، وهو جيد جداً، بل قد يؤيده ما ستعرف من الإجماع على وجوبها عيناً على البعيد بالقدر المزبور ولو كان حاضراً، وما هو إلا لعدم صدق البعد المزبور، ولو كان المعتبر الوطن كان كغيره من ذوي الأعذار الذين ستسمع الخلاف فيهم لو كانوا حاضرين، بل كان المتجه وجوب الجمعة على من كان موطنه غير بعيد عنها بالبعد المزبور لكن كان هو بعيداً بأزيد من فرسخين وإن كثر ما لم يكن مسافراً، وهو معلوم البطلان، والله أعلم))(1).

أقول: الصحيح ما اختاره كاشف اللثام (قدس سره) واستجوده صاحب الجواهر (قدس سره) من حساب المسافة بين موضع المكلف ومحل إقامة صلاة الجمعة فإنه الظاهرمن النصوص كصحيحة محمد بن مسلم وفيها (على من) أي المكلف و (منها) أي صلاة الجمعة.

وهنا قد يتوهم أننا لو بنينا على احتساب المسافة بين الشخص ومحل إقامة الصلاة كان خلاف النتيجة التي اخترناها، وهو مدفوع، لأن هذا الاختيار بعد تسليم كون الشخص نائياً في بلد آخر، أما مع كونه في نفس البلد فإن قضية المسافة تصبح سالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 337


1- جواهر الكلام: 11/267-268.

ص: 338

البحث الثامن: أحكام الصلاة والصوم في المناطق القطبية

اشارة

ص: 339

ص: 340

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثامن: أحكام الصلاة والصوم في المناطق القطبية

أحكام الصلاة والصوم في المناطق القطبية(1)

لقد انتشر الإسلام في أنحاء المعمورة وأتاحت التقنيات المتطورة للاتصالات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فرصة التعرف على محاسن الإسلام والدخول فيه لكل الناس، كما أن الهجرة لسبب أو لآخر شملت أصقاع الأرض ومنها المنطقة القطبية، ومن المتوقع أن تزداد نسبة السكان في القطب الشمالي بعد ذوبان الجليد وظهور اليابسة والثروات فيها، فنتوقع أن يهاجر المسلمون إليها مع المهاجرين، لا سيما مع استمرار سوء أوضاع الحكومات في بلداننا الإسلامية!.

وتعاني هذه المنطقة من مشكلة في تحديد أوقات الصلاة والصوم المتعارفة لاستمرار النهار أو الليل فيها أياماً أو أشهراً فلا تتميز عندهم الأوقات لذا جرى البحث عن حل لهذه المشكلة.

تنقيح موضوع المسألة:

وقلنا في أكثر من موضع أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس ومحورها ليس شاقولياً على الخط الواصل بين مركزها ومركز الشمس (أو مستوي دوران الأرض حول الشمس أو قل خط الأشعة الواصل من الشمس) بل مائلاً فتارة يكون قطبها الشمالي مواجهاً للشمس وأخرى بعيداً عنها ويتغير ميلان محور دورانها على نفسها عبر السنة ما بين ±23.5ه وقد يبقى مركز القطب في مرأى الشمس طيلة ستة أشهر في الصيف، وقد يبقى في الظل الأشهر الستة

ص: 341


1- بدأ إلقاء البحث يوم 26/ جمادى الآخرة/1440 الموافق 4/3/2019.

الأخرى وغاية الميلان ±23.5 درجة عن الخط العمودي على مستوي الدوران حول الشمس، ويتناقص ويزداد هذا الميلان في كلا الاتجاهين حتى يبلغ غايته المذكورة، وتتأرجح الأرض خلال حركتها بحيث ترسم حركة القطب خطاً متعرجاً يعرف بالعامية (الزگزاگ) في حركة مغزلية تشبه حركة المغزل، وذلك أن المغزل عند الدوران يرتبط أعلاه بخيط الغزل ويتغير موقع أسفله باستمرار الدوران، ووصفتها بعض المصادر بأنها حركة رحوية أي كحركة الرحى(1).

ونتيجة مواجهة القطب الشمالي للشمس فإنها لا تغيب عنه ويكون الوقت كله نهاراً وتستمر الحالة أياماً أو أشهراً من السنة على اختلاف في الشدة والضعف بحسب درجة الميلان التي قلنا أنها تزيد حتى تبلغ الذروة وتنقص حتى تنقلب إلى الاتجاهالمعاكس، وينقص النهار تدريجياً كلما نقص ميلان الأرض ويظهر الليل بالتدريج.

وعندما يكون القطب بعيداً عن الشمس فإن الوقت كله يكون ليلاً وتتزايد شدته وتتناقص على النحو الذي ذكرناه في النهار(2).

فالمسألة ليست بلا موضوع كما أفاد بعض الأعلام في تعليقتهم على العروة الوثقى كقول الشيخ النائيني (قدس سره): ((الظاهر خروج هذا الفرض وأشباهه من الممتنعات العادية عن موضوعات الأحكام))(3)

وقول السيد الخميني (قدس سره): ((هذا مجرد فرض لا واقعية له))(4).

ص: 342


1- ذكر السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في المجلد الأول من موسوعة (ما وراء الفقه) كلاماً مفصلاً عن الحالة نقله عن (المعرفة: 1/117-132).
2- ومن آثار ذلك: أن يتناوب القطبان الشمالي والجنوبي هذه الحالة فتنعكس عندهما الفصول الأربعة وحالة الليل المستمر والنهار المستمر فشتاءً القطب الشمالي المظلم باستمرار يكون نهاراً صيفياً مستمراً في القطب الجنوبي، والربيع خريفاً والخريف ربيعاً.
3- العروة الوثقى مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام: 3/634، ط. المدرسين.
4- العروة الوثقى: 3/635، مصدر سابق.

ونستطيع القول أن المسألة موجودة بنحو من أنحائها منذ صدر الإسلام، فقد روى العامة بسند صحيح عندهم في باب ما جاء في فتنة الدجال (قلنا: يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين يوماً يوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قال: قلنا: يا رسول الله أرأيت اليوم الذي كالسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال (صلى الله عليه وآله): لا، ولكن اقدروا له قدره)(1).

بل يمكن القول أن القرآن الكريم أول من لفت الانتباه إلى موضوع المسألة في قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (القصص: 71-72)، فمن المفروض أن المسلمين الذين التفتوا إلى كيفية الصلاة في أيام الدجال القصيرة والطويلة أن يفكروا في الصلاة في حال كان الليل أو النهار سرمداً إلى يوم القيامة، أو في قوله تعالى في قصة ذي القرنين: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً» (الكهف : 90) بناءً على فهمها بالمناطق التي لا تغيب عنها الشمس لفترة طويلة.

وهنا ينشأ سؤال عن كيفية أداء هؤلاء للصلاة والصوم المحددين بمواقيت معينة يجب إيقاعها في تلك الأوقات المعيّنة مع وجودهم في هذه الأجواء.

هل يجوز الذهاب إلى تلك المناطق:

وقد يكون الأولى السؤال أولاً عن جواز الذهاب إلى تلك المناطق لأن الجواب إذا كان الحرمة فإن السؤال عن كيفية أداء العبادات سوف لا يتنجز موضوعه.

وهنا قد يُقال بحرمة السفر إلى تلك المناطق التي لا يمكن تحصيل أوقات

ص: 343


1- صحيح مسلم: 4/2250، ومثله في ملاحم نعيم بن حماد:155 وفيه: (قالوا: يا رسول الله فكيف نصلي في تلك الأيام القصار، قال: تقدرون كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم تصلون)، مسند أحمد بن حنبل: 4/181.

الصلاة فيها لوجهين:-

1- لأن الذهاب يلزم منه تفويت الواجب المشروط في أوقات معيّنة وإن إيقاع العبادات في هذه الأوقات مطلوب فيحكم العقل بحرمة الذهاب لأنه من المقدمات المفوتة للواجب.

2- ويستفاد الحكم بالمنع أيضاً من روايات وردت في موضوعات مشابهة لما نحن فيه كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (سألت عن رجل أجنب في سفر ولم يجد إلا الثلج أو ماءً جامداً؟ فقال: هو بمنزلة الضرورة يتيمم، ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي توبق(1)

دينه)(2).

ومثلها صحيحة الحلبي التي رواها البرقي في المحاسن عنه (عليه السلام) وفيها (يصلّي بالمسح ثم لا يعود إلى تلك الأرض التي يوبق فيها دينه)(3).

ومن قصار كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (لا يخرج الرجل في سفر يخاف فيه على دينه وصلاته)(4).

وقال الشيخ الصدوق في المقنع: ((روي إن أجنبت في أرض ولم تجد إلا ماءً جامداً ولم تخلص إلى الصعيد فصلِّ بالتمسّح ثم لا تعد إلى الأرض التي توبق فيها دينك))(5).

أقول: قد يناقش في الوجه الأول من جهة عدم صدق تفويت الواجب؛ إما لسقوط الوجوب أصلاً بانتفاء شرطه وهي الأوقات، أو لإمكان الإتيان به بنحوٍ ما كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 344


1- أي تذهبه لأن وبق بمعنى أهلك وتسمى الذنوب بالموبقات لأنها تهلك فاعلها.
2- وسائل الشيعة: 3/355، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، باب9، ح9
3- المحاسن: 2/372، ح 133، باب الضرورات.
4- الخصال للشيخ الصدوق: 472، باب الأربعمائة.
5- المقنع: 13.

ويناقش الوجه الثاني بعدم ظهور الصحيحة الأولى بتفويت الواجب لقوله: (يتيمم) إلا أن يجعل ما في السؤال قرينة على عدم تمكنه من التيمم أيضاً، ولعل الصحيحة الثانية ظاهرة في المسح على الثلج، والصحيحتان موردهما الطهارة التي هي شرط الواجب -أعني الصلاة- فيجب تحصيلها، أما الأوقات في المقام فهي من شروط الوجوب وهي غير واجبة التحصيل بحسب المشهور، فالمناط غير متحد،وسنناقش القول بحرمة السفر إلى هذه المنطقة باعتباره أحد الأقوال في المسألة.

وعلى أية حال فإن القول بحرمة الذهاب إلى هناك لا يعفينا من البحث في كيفية أداء العبادات لاحتمال دخول السكان الأصليين في الإسلام إن وجدوا فهل نوجب عليهم الهجرة مثلاً، أو ذهاب بعض المسلمين إلى هناك اضطراراً أو جهلاً أو عصياناً.

وحينئذٍ ينفتح باب السؤال عن كيفية الصلاة والصوم في تلك المناطق.

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((إذا فرض كون المكلف في المكان الذي نهاره ستة أشهر وليله ستة أشهر أو نهاره ثلاثة وليله ستة، أو نحو ذلك فلا يبعد كون المدار في صومه وصلاته على البلدان المتعارفة المتوسطة مخيراً بين أفراد المتوسط. وأما احتمال سقوط تكليفهما عنه فبعيد، كاحتمال سقوط الصوم وكون الواجب صلاة يوم واحد وليلة واحدة. ويحتمل كون المدار بلده الذي كان متوطناً فيه سابقاً))(1).

أقول: فرض موضوع المسألة أنه ستة أشهر ليل ومثلها نهار في المنطقة القطبية، لا يخلو من مناقشة في ضوء ما ذكرناه من الانتقال التدريجي من الليل المستمر إلى النهار المستمر، وبالعكس، فتأتي عليهم فترات يخترق فيها الليل النهار تدريجياً وبالعكس فيتحقق عندهم ليل ونهار.

ص: 345


1- العروة الوثقى: 22/139.

وذكر (قدس سره) عدة أقوال في المسألة:

الأول: أن يكون المدار في صومه وصلاته على البلدان المتعارفة المتوسطة، مخيراً بين أفراد المتوسط، فيصوم عند طلوع الفجر عندهم، ويفطر عند غروبهم، فيصوم ويصلي بصلاتهم، وهذا ما اختاره (قدس سره).

وقد ردّ السيد الحكيم (قدس سره) بأنه ((لا يظهر لهذا وجه، كيف والصلوات اليومية لها مواقيت معينة مفقودة في الفرض المذكور فكيف تجب في غير مواقيتها))(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): بأنه ((لا مقتضى لهذه التبعية بعد التصريح في جملة من الروايات بقوله (عليه السلام): (إنما عليك مشرقك ومغربك)(2)، فلا عبرة بمشرق بلد آخر ولا بمغربه، كما لا اعتبار بفجره وزواله))(3).وأضاف الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): ((لأن كلاً من الصلاة والصوم من الواجبات المؤقتة في أوقات خاصة بمقتضى أدلتها، والوقت فيها شرط للوجوب في مرحلة الجعل وشرط لاتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، ومع انتفاء الوقت -كما هو المفروض في تلك البلدان- فكما أنه لا مصلحة فيها، وبالتالي فأي صلاة أو صيام في تلك البلدان -وإن كانت بتوقيت البلدان المتعارفة - تكون بلا ملاك وهي غير مشروعة))(4).

أقول: يمكن أن يقال في جواب الإشكال:-

1- إن روايات اشتراط المواقيت مختصة بالبلدان التي تتميز فيها الأوقات أي فيها مشرق ومغرب ليصبح الإلزام بمراعاتها، ومنصرفة عن مثل المقام

ص: 346


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/479.
2- وسائل الشيعة: 4/198، أبواب المواقيت، باب 20، ح2.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 22/142.
4- فيض العروة الوثقى: 2/208 وهي تقريرات لأبحاث الشيخ الفياض (دام ظله).

الذي لا تتحقق فيه الأوقات فلا يمكن مطالبتهم بها لعدم توفر موضوع تلك الأدلة.

2- إن إرجاع العناوين إلى الفرد المتعارف أمر شائع في الأحكام الشرعية كمقدار الشبر لحساب الكرّ، أو الدلو الذي ينزح به ماء البئر الذي وقعت فيه ميتة وكنفقة الزوجة وإطعام المسكين في الكفارة ونحو ذلك، كما أن العمل بالمتوسط مناسب لذوق الشارع المقدس في الأمور التي تخرج عن الحد الطبيعي وتقع في الإفراط والتفريط، قال تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (البقرة:143) وفي الحديث الشريف عن أبي الحسن الأول: (خير الأمور أوسطها)(1).

ومع ذلك تبقى في هذا القول أكثر من مشكلة:

أولاها: ناتجة من هذا التخيير فإن البلدان تختلف فيما بينها بالمواقيت بشكل كبير، وإن الناس سيختارون بلداناً مختلفة لمتابعتها وتكون النتيجة أن لأفراد تلك المنطقة مواقيت مختلفة للصلاة الواحدة وهذا وضع غير مقبول شرعاً وعرفاً ويمكن حل هذه المشكلة بإلزام أهل كل جزء باتباع الذي يوافقه في خط الطول ويقع على خط الاستواء باعتباره وسط الأرض، أو باتباع أقرب البلدان المتعارفة المقاربة له في الأفق مثلاً ونحو ذلك، وهذا قول آخر في المسألة.

ثانيها: إن الرجوع إلى المتعارف إنما يصحّ في تفسير العناوين والمفاهيم المجملة كالأمثلة المتقدمة، أما إذا كان العنوان محدداً ومعيناً وإنما تختلف الأفراد والمصاديق في انطباقه عليها فهنا يلتزم كل فرد بحدود العنوان المنطبقة عليه، كحدود ما يغسل من الوجه في الوضوء وأنه بين قصاص الشعر إلى الذقن طولاً فقد يكون لشخص وجه طويل ولآخر قصير فهنا لا يرجعان إلى المتعارف وإنما يطبق كل منهما العنوان الجاري عليه بغضّ النظر عن الآخر.

فبالنسبة للصوم يجب الإمساك من الفجر إلى المغرب وقد يمتد هذا

ص: 347


1- الكافي: 6/541، مرفوعاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام).

المقدار 22 ساعة وقد يصل إلى 6 ساعات في بعض البلدان فهنا لا يجوز الرجوع إلى المتعارف -كما توهم بعضهم فجوّز الإفطار قبل غروب الشمس في البلدان ذات النهارالطويل بلحاظ البلدان المتعارفة- وإنما يجب الالتزام بالحد المطلوب قصر أو طال.

ونتيجة هذا أن المورد ليس من مصاديق قاعدة رجوع غير المتعارف إلى المتعارف لأن مواقيت الصلاة والصوم محددة في نفسها، لكن هذه البلدان لما لم تتحقق فيها الأوقات فلا بد من إيجاد حل لمشكلتهم.

الثاني: سقوط التكليف عنه أصلاً، لعدم تحقق شرط وجوبه وهي الأوقات، وبتعبير آخر: إن ملاك الوجوب متقوم بحصول الأوقات فمع عدمه لا ملاك ولا وجوب، وإن التكاليف متوجهة إلى سكان المناطق التي تتميز فيها الأوقات فقط.

وهذا الاحتمال موافق لمقتضى القواعد التي أسّسوها في شروط الوجوب ونقلنا قبل قليل كلام الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) في ذلك، ولكنه احتمال بعيد لتضافر النصوص على وجوب الصوم والصلاة مطلقاً وأنها لا تسقط بحال حتى في الفرض المذكور كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً» (النساء:103) أي (مفروضاً) و (ثابتاً) كما ورد في الروايات(1)، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ» (البقرة:183) والأحاديث في الباب الأول من أبواب مقدمة العبادات ومنها ما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (بُني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، الحديث)(2)، قال الشيخ الفياض: ((إن سقوط الصلاة والصيام عنهم نهائياً بعيد على أساس اهتمام الشارع بهما

ص: 348


1- وسائل الشيعة: 4/8، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، باب 1، ح3، 4، 5.
2- وسائل الشيعة: 1/23، أبواب مقدمة العبادات، باب 1، ح1.

بمختلف الطرق والألسنة الكاشف عن أن ملاكهما تام بالنسبة إلى كل بالغ عاقل قادر))(1) أي بغضّ النظر عن الأوقات.

أقول: وهذا خلاف ما تقدم منه ومن المشهور باعتبار توقف الملاك والجعل على الوقت.

ويمكن حل هذه المشكلة بأن يقال أن وجوب أداء الصلاة في أوقاتها مأخوذة على نحو تعدد المطلوب فهنا واجب أول وهو خمس فرائض في اليوم والليلة الاعتياديين والواجب الثاني كونها في الأوقات الشرعية المحدَّدة لها، فإذا لم يتحقق موضوع الوجوب الثاني وهو الوقت فإن أصل فرضها باقٍ على وجوبه الأول لذا وجب القضاء، ومنه يُعلم النظر في ما قالوه من كون الأوقات شرط وجوب.

وبتعبير آخر أن كون الوقت شرط الوجوب خاص بمن تتحقق عنده الأوقات دون غيره كالمنطقة القطبية وهو ما عبّرنا عنه بأن أدلة اشتراط الأوقات منصرفة عنهم.الثالث: سقوط الصوم عنه لأنه محدد بين الفجر والغروب وهما لا يتحققان، أما الصلاة فتجب عليه صلاة يوم واحد وليلة واحدة، أي يصلي في السنة الفرائض الخمسة مرة واحدة لأن مجموع الليل والنهار عندهم يكون سنة واحدة، والواجب في اليوم خمس فرائض سواء كان اليوم متعارفاً أم لا.

ونفى عنه البعد الشيخ ضياء الدين العراقي ورجّحه تلميذه السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك ووصفه بأنه ((أوفق بالأدلة))(2)، واستقربه السيد الخميني (قدس سره) في تعليقته على العروة.

وقال السيد الخوئي (قدس سره) في بيانه: ((سقوط الصوم خاصة

ص: 349


1- تعاليق مبسوطة: 5/207.
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/479.

لانعدام الموضوع، أعني شهر رمضان فإنه إنما يتحقق فيما إذا كانت السنة اثني عشر شهراً لا في مثل هذا المكان الذي كلها فيه يوم واحد. وأما بالنسبة إلى الصلاة فيصلى في مجموع السنة مرة واحدة، فيصلي الفجر ما بين الطلوعين الذي عرفت أنه يقرب من عشرين يوماً، والظهرين في النهار بعد الزوال، والعشاءين في الليل))(1).

أقول: يوجد أكثر من تعليق على كلامه (قدس سره):

قوله: ((لانعدام الموضوع أعني شهر رمضان)) وهو تفسير لا يناسب موضوع المسألة بل هو بعيد لما ذكرناه في نهاية مباحث طرق ثبوت الهلال(2)

من إمكان تحديد أول الشهر القمري عندهم، ولو لم يستطيعوا في أول الشهر فإنهم يستطيعونه خلال الأيام التالية من الشهر لأن القمر يظهر في النهار في نهاية التربيع الأول ونحوه، ويستطيعون تقريب التأريخ، فموضوع الصوم المنتفي هو الفجر والغروب فلا يعرف للصوم أول ولا آخر لاستمرار النهار أو الليل عندهم فلا يجب عليهم الصوم.

قوله: ((ما بين الطلوعين الذي عرفت أنه يقرب من عشرين يوماً)) في إشارة لقوله السابق: ((وبطبيعة الحال يكون ما بين الطلوعين بالنسبة إليه قريباً من عشرين يوماً من أيامنا لأنه ثمن اليوم تقريباً))(3).

أقول: أثبتنا في بحث سابق أن هذه النسبة وأمثالها باطلة لأن ما بين الطلوعين لا تشكل نسبة من الليل ولا من النهار وإنما تتناسب مع الفرق بين الليل والنهار.

وعلى أية حال فقد ردّ (قدس سره) على هذا الاحتمال بنفس جواب الاحتمال السابق وأن ((النصوص المتواترة قد أطبقت على وجوبها على سبيل الإطلاق وعلىكل مكلف))(4).

ص: 350


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/141.
2- فقه الخلاف: 4/205، ط. الثانية.
3- موسوعة السيد الخوئي: 22/140.
4- موسوعة السيد الخوئي: 22/143.

أقول: إن كان المراد بسقوط الصوم سقوط الأداء واشتغال الذمة بقضائه وليس السقوط مطلقاً فهو صحيح لما سنقوله إن شاء الله، أما سقوط الصوم مطلقاً فهو مخالف للروايات الدالة على فرضه على كل مسلم، وأما الصلاة فقد علمت أن الروايات دلت على وجوب الفرائض الخمسة في مجموع اليوم والليلة المتعارفين، وليس في الآيات الكريمة والروايات الشريفة إطلاق لكل يوم وليلة حتى لو امتد سنة كاملة كما في قوله تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ» (هود:114) وفي صحيحة زرارة قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما فرض الله عز وجل من الصلاة؟ فقال: خمس صلوات في الليل والنهار)(1)

ويظهر ذلك من روايات تشبيه الصلاة بالنهر الذي يغتسل فيه خمس مرات في اليوم كقول الإمام الصادق (عليه السلام): (لو كان على باب أحدكم نهر فاغتسل منه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى على جسده من الدرن شيء؟ إنما مثل الصلاة مثل النهر الذي ينقي، كلما صلى صلاة كان كفارة لذنوبه إلا ذنب أخرجه من الإيمان يقيم عليه)(2)، فإن من يغتسل في السنة خمس مرات يعلوه الدرن، والخلاصة أن هذه الروايات جميعاً تأبى الحمل على غير اليوم المتعارف.

فمفاد الأدلة وجوب الفرائض الخمسة في مجموع اليوم والليلة المتعارفين أي كل 24 ساعة من دون مراعاة للأوقات لمن لا تتحقق عنده بناءً على ما ذكرناه من تعدد المطلوب.

الرابع: أن تكون أوقاته تابعة للبلد الذي كان يتوطنه سابقاً إن كان له بلد سابق.

ص: 351


1- وسائل الشيعة: 4/10، أبواب أعداد الفرائض، باب 2، ح1.
2- بحار الأنوار: 82/236، ح66 ومثله في نهج البلاغة: الخطبة 199، وفي الفقيه: 1/136، ح 640.

ويرد عليه:-

أ- لا وجه لملاحظة أوقات البلد السابق إلا الاستصحاب وهو لا يجري لعدم وحدة الموضوع بل عدم وجود الموضوع عندهم.

ب- وجود الدليل على عدم صحة هذا القول لقوله (عليه السلام): (إنما عليك مشرقكومغربك)(1).

ج-- ما حكم أبناء المنطقة الأصليين الذين ليس لهم بلد سابق؟ وإذا كان لهم تكليف فليكن مثله لغيرهم.

د- إن من كان له بلد سابق مرّ على بلدان عديدة لها مشرق ومغرب خلال سفره إلى القطب فما الذي يوجب عليه متابعة أوقات بلده الأصلي، ولماذا لم يكن عليه متابعة آخر بلد فارقه مما تتحقق فيه الأوقات وهو تعبير آخر عن متابعة أقرب البلدان.

ه-- يمكن أن يكون المقيمون هناك قادمين من بلدان مختلفة فتختلف أوقاتهم اختلافاً واسعاً بحسب أوطانهم الأصلية وهذا وضع أنكرناه.

وهذه الاحتمالات التي ذكرها صاحب العروة (قدس سره) ونضيف إليها بنفس التسلسل:

الخامس: حرمة الإقامة في مثل هذه المناطق ووجوب الذهاب إلى بلد تتميز فيه الأوقات ليتمكن من أداء الصلاة والصوم في أوقاتها المحدّدة، واختاره السيد الخوئي (قدس سره) وقد تقدم في بداية البحث ذكر وجهين للاستدلال عليه أحدهما حرمة المقدمات المفوتة وثانيهما استئناسه من بعض الروايات، وقد استدل السيد الخوئي (قدس سره) بالأول قائلاً: ((إن وجوبهما على كلّ أحد في كلّ وقت بحيث لا يسعه التفويت والتضييع بوجه من الوجوه أمرٌ مقطوع به لا تكاد تختلجه شائبة الإشكال.

ص: 352


1- وسائل الشيعة: 4/198، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 20، ح2.

ومن البيّن أنّ المكث والبقاء في أحد القطبين الخاليين عن ليل ونهار متعارف من أحد موجبات التضييع والتفويت، إذ لا تتيسّر معه الصلاة والصيام على النهج المقرّر شرعاً بعد عدم الدليل على التبعيّة لسائر البلدان المتعارفة حسبما عرفت.

ومنه تعرف أنّ مقتضى الصناعة حرمة البقاء في تلك المواطن ووجوب الهجرة إلى المناطق المتعارفة مقدّمةً للإتيان بتلك الواجبات وعدم الإخلال بها))(1)

وتبعه السيد الشهيد الصدر الثاني، قال (قدس سره): ((لا يبعد أن مقتضى القاعدة حرمة الذهاب إلى داخل الدائرة القطبية عند تعذّر الوضوح في أوقات الصلاة))(2).

وقوّى الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) هذا القول واعتبره نتيجة لاجتماع مقدمتين:-

أ- ((إن الصلاة والصيام من الواجبات الموقتة ومن المعلوم أنها لا تعمّ الساكنين فيتلك البلدان لعدم توفر موضوع تلك الأدلة وشروطها في هؤلاء)).

ب- ((إن سقوط الصلاة والصيام عنهم نهائياً بعيد لأن ملاكهما تام بالنسبة إلى كل بالغ عاقل قادر))(3).

ويرد على هذا القول:-

1 - إنه إذا كان من الممكن تحصيل تكليف خاص بهم فلا يجب عليهم مغادرة المكان لأن تكليفهم ينتقل إلى المأمور به الثانوي كانتقال التكليف من الوضوء إلى التيمم عند عدم وجدان الماء أو ضيق الوقت ولم يمنعوا من الانتقال من ظرف الوضوء إلى ظرف التيمم اختياراً، والتكليف الثانوي

ص: 353


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/143.
2- ما وراء الفقه، ج1، ق2، ص 301.
3- تعاليق مبسوطة: 5/207.

هنا هو الإتيان بأصل الفرائض الخمسة من دون مراعاة أوقاتها المعينة شرعاً بناءً على كون الوجوب على نحو تعدد المطلوب فلا يصدق معه تفويت الامتثال وتضييع الواجب. حتى لو تمكنوا من الهجرة إلى بلد تتحقق فيه تلك الأوقات.

وهذا التقريب يناسب بعض مبانيهم فقد قالوا بجواز الكون في محل التقية اختياراً والإتيان بالفعل المناسب لها مع وجود المندوحة، وجواز البدار إلى المأمور به الثانوي كالصلاة بالتيمم في أول الوقت مع احتمال العثور على الماء قبل انتهاء الوقت ونحو ذلك مما يذكر في مبحث الإجزاء من علم الأصول.

2- إن هذه الحرمة لو تمت فإنها تختص بالصلاة دون الصوم لأن الصوم يمكن إسقاط وجوب أدائه بالسفر ونحوه من تفويت شروط الوجوب اختياراً وعليه القضاء في أيام أُخَر ولا يصدق معه تفويت الواجب.

3- على هذا القول كيف يمكن توجه المبلّغين إلى تلك المناطق لدعوتهم إلى الإسلام أم هم غير مكلّفين بالدين؟ وهل أن الدولة العالمية المباركة للإسلام لا تشملهم؟ وكيف يمكن دفعهم في عقر دارهم فيما لو كان فيهم فئة إرهابية مخرّبة مثلاً، أو لو اضطر بعض الفارّين بدينهم من ظلم الطغاة للإقامة هناك؟ فلا بد من التفكير فعلاً بتكليفهم؛ لذا قال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بعد كلامه المتقدم: ((وقد يتبدل عدم جواز الذهاب بالجواز للضرورة الشخصية إن حصلت، أو للمصلحة الدينية الاجتماعية، أو حصول أمر أحد أولياء الأمور الذين تجب طاعتهم)).

4- المعروف عندهم عدم وجوب تحصيل المواقيت المذكورة؛ لأنها شروط للتكليف، فيستطيع الذهاب إلى بلد لا يتحقق فيه الشرط ليسقط الوجوب، كما أن له الخروج من مكان سيحصل فيه خسوف أو كسوف فيسقط عنه وجوب صلاتهما، ولا يجب عليه التواجد في مكان فيه كسوف أو خسوف

ص: 354

لتجب عليه صلاة الآيات، وكالذي يسافر فيسقط عنه الصوم وقد أجازوه جميعاً، ونحو ذلك.

وعليه فالذهاب إلى تلك المنطقة لا يلزم منه تفويت الواجب؛ لعدم وجود وجوب أصلاً، فالقول بحرمة الذهاب والمكث هناك لا وجه له. لذا فإنهم في مشكلة حقيقية؛ لأنهم يعتبرون الأوقات شرط وجوب ومقتضى القاعدة سقوطالوجوب عند انتفائها، وبنفس الوقت هم يرون أن تضييع الأوقات يلزم منه تضييع الواجب وأن على المكلف تحصيل الأوقات بالذهاب إلى بلد تتحقق فيه وهم لا يقولون بوجوب تحصيل المقدمات الوجوبية، ولتوجيه ذلك فلا بد أن يقربوا الأوقات على أنها من المقدمات الوجودية أي من شروط الواجب لذا فيجب تحصيل الأوقات بالانتقال إلى بلدٍ تتحقق فيه، وهذا مما لا يقولون به، نعم يمكن اعتبارها من شروط الواجب لكنها غير لازمة التحصيل.

وعلى هذا تكون الصلاة حينئذٍ من الواجبات المعلقة نظير الحج الذي يتحقق وجوبه بمجرد تحقق الاستطاعة في أي وقت من السنة لكن أداء الواجب معلق على تحقق وقته.

لكن هذا خلاف ما أسسوه من أن مقدمات الواجب يجب تحصيلها، والتفريق بين المقدمات التي تقع تحت قدرة المكلف واختياره والتي لا تقع ليست من خصائص مقدمات الواجب والوجوب بل من لوازم وجوب التحصيل وعدمه ولا ملازمة بينها بحسب ما قربناه.

وعلى ما تقدم فإن مقولة (إذا زالت الشمس فصلِّ) ونحوها تحمل على أنها واردة لبيان تحقق الموضوع فعدم الصلاة عند عدم الزوال ليس لعدم وجوبها وإنما لعدم تحقق موضوعها.

لذا قدمنا وجهاً لحل المشكلة حاصله: أن وجوب اقتران الصوم والصلاة بهذه الأوقات ليس مطلقاً ليشمل المناطق التي لا تتميز فيها أوقات الصلاة وإنما هو مختص بما يتحقق فيها ذلك ومنصرفة عن الأفراد التي لا تتحقق فيها مثل

ص: 355

المقام أو في الفضاء خارج الأرض غير المعروفة يومئذٍ، فوجوب الصلاة على أهل المناطق القطبية غير مشروط بالأوقات المتعارفة، فلا تجب عليهم الهجرة من هذا المكان إلى غيره طلباً للأوقات لأن مراعاتها ليست واجبة عليهم، وأن وجوب الصلاة في أوقاتها مأخوذة على نحو تعدد المطلوب.

وإذا لم نسلّم انصراف أدلة الأوقات عنهم وأن خروجهم على نحو التخصص فيمكن تصوير الحالة على نحو التخصيص ولإسقاط شرط الوقت نظائر في الفقه كجواز تقديم دفع زكاة الفطرة قبل العيد أو إسقاط شرط وقت غسل الجمعة لمن خاف إعواز الماء فيقدمه إلى الخميس، والأمر يجري في غير الوقت من الشروط كإسقاط شرط الطهارة في بعض الفعل للمسلوس والمبطون، وهكذا، وهذا الإسقاط أقرب إلى ذوق الشارع المقدس من الإلزام بمغادرة تلك المنطقة مع ما فيه من تفويت المصالح المتنوعة ولزوم الحرج والمشقة خصوصاً على سكانها الأصليين.

لكن هذا التقريب لا يحل مشكلة الصوم لأنه إمساك بين الحدّين الموقتين فلا يمكن إلغاؤهما، إلا أنه مما يهوّن الخطب أن صوم شهر رمضان وإن كان من دعائم الإسلام إلا أنه ليس مما لا يترك بحال لجواز السفر مثلاً فيسقط عنه الصوم، فله الذهاب إلى بلد لا يتحقق فيه شهر رمضان مثلاً فلا يجري في حقه قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة: 185) وحينئذٍ يجب عليه القضاء، ولا يصدق على المسافر إلى القطب تفويت الصوم.

وهذا التقريب قد يساهم في التعرف على تكليفهم.

ولأن بيان التكاليف في تلك المنطقة مما لا بد منه لمن يذهب إلى هناك عصياناً أو اضطراراً أو عدم قدرة المستوطنين هناك على مغادرتها فقد أعطى أصحاب هذا القول حلولاً مختلفة، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فالصحيح ما عرفت من عدم جواز السكنى في هذه البلاد اختياراً، ومع الاضطرار يسقط الأداء وينتقل الأمر إلى القضاء وإن كان الاحتياط بالجمع بينه وبين الإتيان

ص: 356

بالصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة مما لا ينبغي تركه))(1).

أقول: سقوط الصلاة أداءً لا وجه له لعدم سقوط الصلاة بحال، وكذا لا حاجة إلى الجمع المذكور لأن الإتيان بالصلوات الخمس في مجموع الساعات الأربع وعشرين يكون بنيّة ما في الذمة الأعم من الأداء والقضاء فإن كان تكليفه هذا فقد أدّاه، وإن كان تكليفه الانتقال إلى بلد الأوقات فقد وقع فعله قضاءً للفائت، فلا يبقى مسوّغ للاحتياط؛ لأن القضاء غير مؤقت.

أما الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) فلم يقدّم حلاً في (تعاليق مبسوطة) لكنه قدم في تقريرات بحثه وكذا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في (ما وراء الفقه) وسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

السادس: متابعة أقرب البلدان إليهم التي تتميز فيه الأوقات.

اختاره السيد الكلبايكاني في حاشيته على العروة الوثقى، قال (قدس سره): ((ويحتمل إجراء حكم أقرب الأماكن عليه مما كان له يوم وليلة ولم يكن أحدهما قصيراً بحيث ينصرف عنه الأحكام))(2)، وسيأتي ما يمكن أن يستدل به عليه إن شاء الله تعالى.

ويرد عليه ما تقدم من أنه مخالف لقوله (عليه السلام): (إنما عليك مشرقك ومغربك)، لكننا قلنا إن هذا الحصر مختص بمن تتحقق فيه الأوقات المتعارفة.

السابع: ما ذكره السيد السبزواري (قدس سره) فإنه بعد أن احتمل إجراء حكم الأقرب بالنسبة إليه قال (قدس سره): ((كما يحتمل إيكال الأمر إلى

ص: 357


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/145.
2- العروة الوثقى مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام: 3/635.

نظر الفقيه المأنوس بمذاق الفقاهة وخصوصيات الشرع))(1).

أقول: لعله (قدس سره) أراد إنشاء الفقيه حكماً ملزماً لهم لعدم تحقق الأوقات الشرعية بالنسبة لهم كالذي ذكرناه في مسألة ثبوت الهلال لهم مع استحالة رؤيتهعندهم في بعض أوقات السنة، فيحدِّد الولي الفقيه لهم ما يناسبهم باعتبارها من منطقة الفراغ بحسب تعبير السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فتُملأ بالأوامر الولائية للفقيه آخذاً بنظر الاعتبار قوله (عليه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2)

وسيأتي في القول المختار ما يمكن أن يكون تطبيقاً له.

الثامن: أداء الصلوات الخمس المفروضة في كل 24 ساعة.

اختاره الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) على فرض التواجد في تلك المناطق ولو عصياناً، قال في تقريراته: ((يمكن أن يقال بالنسبة للصلاة -ولو احتياطاً-: بإمكان أن يستفاد من الأدلة المطلقة كالآيات والروايات واهتمام الشارع بالصلاة بكونها مطلوبة مطلقاً بنحو تعدد المطلوب، فكما أن الصلاة مطلوبة في الوقت، فكذلك أصل الصلاة مطلوب للشارع عند تعذر قيد الوقت وسقوطه، وبالتالي يمكن الإتيان بها بنحو خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعةً))(3).

ويلاحظ على إطلاق هذا القول من جهة إمكان الإتيان بالفرائض الخمسة دفعة واحدة وهو خلاف المرتكز من لزوم توزيعها على مدار اليوم «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ» (هود:114) لإدامة ذكر الله تعالى والرجوع إليه فيكون القول

ص: 358


1- مهذب الأحكام: 10/296.
2- تحف العقول: 259.
3- فيض العروة الوثقى: 2/210.

السادس أفضل منه من هذه الناحية.

ويتداعى من هذا القول عدة مطالب: منها أنه يترتب على هذا أن الأوقات لم تعد شرط وجوب، وأن وجوب القضاء لا يحتاج إلى أمر جديد وإنما بنفس الأمر العام ما دام وقت الأداء واجباً ثانياً، وصدق القضاء عليه من جهة إضافة وجوب خمس فرائض في كل يوم ينقضي.

التاسع: ما قوّاه بعض من حضرنا بحثه الشريف وجعله الأحوط لزوماً، قال (دام ظله الشريف): ((يأتي في كل 24 ساعة بخمس صلوات ويلاحظ في أوقاتها أقرب الأماكن إلى من كان ساكناً في هذه البلدان مما لها ليل ونهار كل 24 ساعة بنية القربة المطلقة ولا يلزم الجمع بين الأداء والقضاء، وملاحظة أقرب البلدان إن كان ولا بد من مراعاة الفصل بين الصلوات في الجملة كالفصل في مثال الغسل خمس مرات فالأنسب الفصل بملاحظة أقرب البلدان))(1).

أقول: ليس في هذا القول أزيد مما في القول السادس لأن متابعة أوقات أقرب البلدان تعني ضمناً الإتيان بخمس فرائض كل 24 ساعة.العاشر: إن الحالة في المنطقة القطبية ليست كما وصفوا منقسمة بين ستة أشهر ليل وأخرى نهار (إلا في مركز القطب) بل «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ» (الحج:61) تدريجياً كما ذكرنا في مقدمة البحث؛ لذا فإنها تمر بأيام فيها ليل ونهار خلال عدة أشهر من السنة والأوقات في مثل هذه الحالة متميزة وإن تفاوتت في الوضوح والطول والقصر.

أما في حالة الليل المستمر والنهار المستمر فالذي نختاره هو سقوط الصوم أداءً لعدم تبيّن حدوده وعليه القضاء عندما ما تتحقق الأوقات الشرعية في منطقتهم أو في بلاد أخرى.

ص: 359


1- محاضرة للسيد السيستاني بتأريخ 22/ رجب /1417.

أما الصلاة فإنها لا تسقط بحال وعليه صلوات خمس كل أربع وعشرين ساعة وبناءً على المرتكز من لزوم توزيعها على الأوقات كما تقدم سابقاً فإنه يراعي في أدائها الأوقات التقديرية إن أمكن لا الفعلية المعروفة بعد تعذر تحصيل الأوقات الفعلية.

بيان ذلك: أن الوقت هناك وإن كان نهاراً مستمراً والشمس طالعة إلا أن حركة الشمس من الشرق إلى الغرب موجودة وبدل غروبها فإنها تعود من الغرب إلى الشرق في الدائرة المقابلة فالحركة الأولى تقابل النهار والثانية تقابل الليل مع كون الشمس طالعة في جميع الوقت. ويمثل أول انطلاقها من الشرق إلى الغرب شروق الشمس ويمثل آخر ما تصل إليه من جهة الغرب قبل عودتها إلى الشرق غروب الشمس. وعبورها منتصف دائرة الحركة الأولى هو منتصف النهار وعبورها نصف دائرة الحركة الثانية منتصف الليل، ويكون الفجر الجزء الأخير من الحركة الثانية قبل أن تعود إلى الحركة الأولى من الشرق إلى الغرب، فيصلي في جزء من هذه الفترة بمقدار أدائها.

فهذه هي الأوقات الشرعية التقديرية، فتؤدي صلاة الظهرين عند بلوغ الشمس منتصف الدائرة الأولى ويمتد وقتها إلى نهايتها وعندما تبدأ الشمس بحركة العودة في الدائرة الثانية تحل صلاة العشائين إلى منتصفها ويؤدي صلاة الصبح في نهاية الدائرة الثانية إلى حين البدء بالدائرة الأولى، ويأتي بها جميعاً بنية الأعم من الأداء والقضاء.

والبناء على الموضوع التقديري(1) محل الموضوع الفعلي عند تعذره وارد

ص: 360


1- سانحة: المعروف أن الموضوع يجب أن يتحقق فعلاً ليتحقق الوجوب، لكن يمكن أن لا يكون كذلك بأن يكون:- أ- تقديرياً كالأمثلة المذكورة في هذا البحث. ب- ظنياً كصيام الأسير والمحبوس الذي لا يمكنه التعرف على شهر رمضان فيصوم شهراً يتوخاه كما في الصحيحة. ج-- تنزيلياً ويمكن تقريبه على ما ورد من أن من صام ثلاثة أيام من الشهر فكأنما صام الشهر كله، فيحصل صائم الثلاثة على الآثار المترتبة على صيام الشهر.

في الأحكام الشرعية الثابتة، ويحضرني هنا قوله تعالى: «حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» (البقرة:196) ولا يتسنى للمحصور معرفته بالفعل لاحتمال حصول عارض عن ذبح الهدي في زمانه ومكانه المحددين وإنما يفترض تحققه في اليوم الذي واعد أصحابه(1).

وقد ذكرنا في بحث (تحديد أوقات الفجر في البلاد التي لا يتميز فيها) كيفية تحديد الأوقات التقديرية في فترة عدم التميّز بدلالة الأوقات المعروفة في زمن تحققها.

ولعل كلام السيد الخميني يشعر بذلك، قال (قدس سره): ((لا يبعد أن يكون وقت الظهرين هو انتصاف النهار في ذلك المحل وهو عند غاية ارتفاع الشمس في أرض التسعين كما أن انتصاف الليل عند غاية انخفاضها فيها))(2).

واختار السيد الشهيد الصدر الثاني هذه الكيفية لمن وُجد هناك بنحو من الأنحاء، قال (قدس سره): ((فحركة الشمس خلال كل يوم من الشرق إلى الغرب (وإن لم تدخل تحت الأفق)، تجعلها تعبر دائماً دائرة نصف النهار من الشرق إلى الغرب. فيحصل الزوال بوضوح وتجب صلاتي الظهر والعصر.

ويكون أقصى وصولها إلى جهة الغرب بمنزلة أول الليل، فتجب صلاتا المغرب والعشاء.

ص: 361


1- كما في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفي موثقة زرعة قال: (سألته عن رجل أحصر في الحج، قال: فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه، ومحلّه أن يبلغ الهدي محله، ومحله منى يوم النحر إذا كان في الحج، وإن كان في عمرة نحر بمكة فإنما عليه أن يعدهم لذلك يوماً، فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى وإن اختلفوا في الميعاد لم يضرّه إن شاء الله تعالى) (وسائل الشيعة: 13/182، أبواب الإحصار والصد، باب 2، ح 2).
2- العروة الوثقى مع تعليقات مراجع الدين: 3/635.

وبعدها بقليل تبدأ الشمس بالاتجاه المعاكس من الغرب إلى الشرق، وهو بمنزلة الليل في البلدان الأخرى إذ يكون النصف الشمالي للكرة الأرضية عندئذ في الليل.

ويبقى وقت صلاة المغرب وصلاة العشاء، نافذ المفعول لبعض الوقت خلال هذا (الليل). بل إلى (نصف الليل) وهو الزوال المعاكس، عندما تعبر الشمس دائرة نصف النهار متجهة من الغرب إلى الشرق.

وتجب صلاة الصبح بعد ما تنتهي الشمس من هذه الحركة، أعني من الغرب إلى الشرق وتبدأ بالرجوع من الشرق إلى الغرب. فإن هذا بمنزلة الفجر في البلدان الأخرى من نصف الكرة المماثل وينبغي المبادرة للصلاة عندئذ لعدم انضباط ما يوازي وقت (طلوع الشمس) في البلدان الأخرى، وهو وقت انتهاء وقت الصلاة عادة))(1).واعترف (قدس سره) بأن جعل هذه الأوقات مخالف لعمومات الأوقات الشرعية لكنه قال: ((إن تنزيل حركة الشمس كما شرحناه منزلة الفجر والغروب مما لا بد منه، وهو أقصى ما يستطيعه الناس هناك. وهو أيضاً موازي مع حصول هذه الأوقات في النصف المماثل للكرة الأرضية، على خط الطول نفسه الذي يكون عليه الفرد))(2).

أقول: لعل هذه الأوقات تتطابق بالنتيجة مع القول بالرجوع إلى أقرب البلدان.

تنبيهان:-

1- يمكن تحصيل مؤشِّر آخر على الأوقات الشرعية من جهة تغيّر نور الشمس ضعفاً وشدّة بدوران الأرض المتكرر حول الشمس، فبلوغه أعلى درجة تعني شروق الشمس أو منتصف النهار (باعتبار نقصان الظل بعد ازدياده) وبلوغه

ص: 362


1- ما وراء الفقه: ج1، ق2، ص 296.
2- نفس المصدر: 297.

أضعف درجة يعني غروب الشمس أو منتصف الليل، وهذا يعرفه أهل الاختصاص المطّلعون على الواقع الميداني هناك.

2- إذا لم يحصّل أوقاتاً تقديرية كما لو كان عندهم ليل مستمر فالأولى مراعاة أوقات أقرب البلدان التي تتميز فيها الأوقات؛ لأن هذا الاحتمال هو الأقرب للوجدان عند تعذّر الأوقات الفعلية للصلاة وبناءً على لزوم المحافظة على توزيع أوقات الفرائض خلال الساعات الأربع والعشرين، وهذا القرب كأقربية العمل بالظن عند تعذّر العلم وسيأتي مثاله في مسألة (صيام الأسير والمحبوس إذا لم يتمكنا من معرفة أول شهر رمضان)(1)

إن شاء الله، والله العالم.

ص: 363


1- فقه الخلاف: 11/413.

ص: 364

البحث التاسع: صلاة الرجل والمرأة متحاذيين

اشارة

ص: 365

ص: 366

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث التاسع: صلاة الرجل والمرأة متحاذيين

صلاة الرجل والمرأة متحاذيين(1)

في المسألة قولان مشهوران:

(الأول) الحرمة وبطلان الصلاة ((اختاره الشيخان والحلبي وابن أبي حمزة، بل كما قيل أكثر القدماء، وعن الخلاف والغنية: الإجماع عليه)) وهو مختار صاحب الحدائق (قدس سره).

(الثاني) الجواز مع الكراهة ((ذهب إليه السيد المرتضى وابن إدريس الحلي وفخر المحققين، ومعظم المتأخرين بل ادعي إجماعهم عليه))((2)

ويحتمله كلام الشيخ في الاستبصار حيث حمل بعض الأخبار المانعة على الاستحباب.

واختاره صاحب الرياض والجواهر والعروة والمستمسك والشهيدان الصدران (قدس الله أرواحهم جميعاً)؛ قال الأول (قدس سره): ((ولا بأس بصلاة الرجل وإلى يمينه أو شماله أو أمامه امرأة تصلي))(3)

وقال الثاني (قدس سره): ((الأقوى صحة صلاة كل من الرجل والمرأة، وإن كانا متحاذيين حال الصلاة أو كانت المرأة متقدمة))(4).

وتردد آخرون كالمحقق الحلي في المختصر النافع حيث نقل القولين من غير ترجيح، ونقل عن الفاضل المقداد التردد أيضاً ((ولكن جعل الكراهة أحوط))(5)

وهو ليس بتام فليس هذا مقتضى الاحتياط.

ص: 367


1- (*) بدأ إلقاء البحث يوم 27/ جمادى الأولى/1429 الموافق 2/6/2008.
2- مستند الشيعة للنراقي: 4/411.
3- الفتاوى الواضحة: 371، الفقرة 49.
4- منهج الصالحين: ج1، المسألة (681).
5- رياض المسائل: 3/11.

وتوجد في المسألة أقوال بالتفصيل ليست مشهورة سنذكرها بإذن الله تعالى.

ومنشأ الخلاف الروايات، وهي الدليل في المقام، إذ التعويل على الإجماع لا قيمة له كما هو واضح، والاستدلال على الجواز ب- (الأصل وإطلاق الأمر بالصلاة فلا يتقيد بدليل) كما ذكر صاحب المدارك(1) لا يجدي لعدم جواز التمسك بالأصل مع وجود الدليل - كما هو المفروض- وأن المقيد لإطلاق الأمر بالصلاة موجود بحسبالروايات.

ويمكن تقسيم الروايات إلى طائفتين بحسب تقريب الاستدلال بها على القولين المشهورين، مع ملاحظة أن بعضها يمكن تقريبه على كل من القولين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(الطائفة الأولى) ما استدل به على المنع، ودلالتها على المطلوب متنوعة إلى أصناف:

(الأول) ما دلّ على أصل المنع من المحاذاة وتقدم المرأة ووجوب تقدم الرجل ومنها:

1- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصليان جميعاً؟ قال: لا، ولكن يصلي الرجل فإذا فرغ صلت المرأة)(2).

2- صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلي والمرأة إلى جانبي وهي تصلي؟ قال: لا، إلا أن تقدم هي أو أنت، ولا بأس أن تصلي وهي بحذاك جالسة أو قائمة)(3).

3- خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن

ص: 368


1- مدارك الأحكام: 3/221.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب5، ح2، ح5.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب5، ح2، ح5.

الرجل والمرأة يصليان معاً في المحمل؟ قال: لا، ولكن يصلي الرجل وتصلي المرأة بعده)(1).

4- خبر الصدوق في العلل عن جابر الجعفي في حديث طويل يبين الأحكام المختصة بالنساء وفيه: (وإذا صلت المرأة وحدها مع الرجل قامت خلفه ولم تقم بجنبه)(2).

5- صحيحة إدريس بن عبد الله القمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي وبحياله امرأة قائمة على فراشها جنباً؟ فقال: (إن كانت قاعدة فلا يضرك وإن كانت تصلي فلا)(3).

6- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن المرأة تصلي عند الرجل؟ فقال: لا تصلي المرأة بحيال الرجل إلا أن يكون قدامها ولو بصدره)(4).7- مرسلة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يصلي والمرأة بحذاه أو إلى جنبيه، قال: (إذا كان سجودها مع ركوعه فلا بأس).

8- الموثقة إلى ابن بكير عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يصلي والمرأة تصلي بحذاه أو إلى جانبه، فقال: إذا كان سجودها مع ركوعه فلا بأس).

9- صحيحة الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (المرأة تصلي خلف زوجها الفريضة والتطوع وتأتم به في الصلاة).

بتقريب أن قوله (عليه السلام): (تصلي) خبر لكنه لا يفيد الإخبار عن جواز ذلك إذ لم يقل أحد أو يتوهم المنع من ذلك وإنما هو إخبار في مقام

ص: 369


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب10، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 123، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب4، ح1.
4- الأحاديث من تسلسل (6-) إلى (10-) تجدها في وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 6، ح2، ح5، ح1.

الإنشاء فتفيد الوجوب الوضعي(1) أي الاشتراط لصحة الصلاة لأن الأوامر في الموارد التي تحتمل الصحة والفساد تفيد الحكم الوضعي.

10- رواية درر اللآلي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (أخروهن من حيث أخرهن الله)(2).

بتقريب ذكره المحقق الكركي (قدس سره) وهو أن ((الأمر للوجوب وحيث للمكان، ولا مكان يتعلق به وجوب التأخير إلا في المتنازع إجماعاً، فتعين التأخير فيه))(3).

11- الموثق إلى علي بن الحسين بن رباط عن بعض اصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي وعائشة قائمة معترضة بين يديه وهي لا تصلي)(4).

بتقريب: أن قوله (لا تصلي) يكون لا أثر له لو لم يكن لعدم صلاتها دخل في الجواز إذ على القول الآخر يكون الحكم واحداً في حالة صلاتها وعدمها.

12- صحيحة معاوية بن عمار التي رواها الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب والبرقي في المحاسن عن معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أقوم أصلي والمرأة جالسة بين يدي أو مارة؟ قال: لا بأس بذلك إنما سميت بكة لأنه تبك فيها الرجال والنساء)(5).

بتقريب: أن ذكر السائل وصف جالسة أو مارة لتمييزها عن حال الصلاة

ص: 370


1- خلافاً للبعض ومنهم النراقي في المستند فإنه نفى (دلالة الجملة الخبرية الواقعة في مقام الإنشاء على الأزيد من الرجحان فعلاً أو تركاً) (مستند الشيعة: 4/415).
2- جامع أحاديث الشيعة: أبواب مكان المصلين باب 23، ح29، عن مستدرك الوسائل.
3- جامع المقاصد: 2/120.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب4.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب4، ح7، باب 11، ح7.

والإمام (عليه السلام) أقره على ذلك ولو لم يكن فرق لما كان لهذا الوصف أثر ولأجابه (عليه السلام) بالإطلاق.

(الثاني) ما دلّ على المنع إلا أن تفصل بينهما مسافة أو حاجز أو تتأخر المرأة عن الرجل، ومنها:

1- موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن الرجل يستقيم له أن يصلي وبين يديه امرأة تصلي؟ قال: لا يصلي حتى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع وإن كانت عن يمينه وعن يساره جعل بينه وبينها مثل ذلك، فإن كانت تصلي خلفه فلا بأس وإن كانت تصيب ثوبه، وإن كانت المرأة قاعدة أو نائمة أو قائمة في غير صلاة فلا بأس حيث كانت)(1).

2- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا كان بينها وبينه ما لا يتخطى أو قدر عظم الذراع فصاعداً فلا بأس)(2).

بتقريب: أن البينية المذكورة بلحاظ التقدم والتأخر وليس بلحاظ الجانبين لقرائن سنذكرها عند مناقشة الروايات.

3- صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المرأة تصلي إلى جنب الرجل قريبا ًمنه؟ فقال: (إذا كان بينهما موضع رجل (رحل) فلا بأس).

4- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: المرأة والرجل يصلي كل واحد منهما قبالة صاحبه؟ قال: نعم إذا كان بينهما قدر موضع رحل).

5- صحيحة زرارة قال: (قلت له المرأة تصلي حيال زوجها؟ قال: تصلي بإزاء الرجل إذا كان بينها وبينه قدر ما لا يتخطى أو قدر عظم الذراع فصاعداً).

ص: 371


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب7، ح1.
2- الروايات من (2-9) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 5، الأحاديث 8،11،12،13،7،9،3،4.

6- صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سأله عن الرجل والمرأة يصليان في بيت واحد؟ قال: إذا كان بينهما قدر شبر صلت بحذاه وحدها وهو وحده ولا بأس).

7- صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الرجل إذا أمّ المرأة كانت خلفه عن يمينه سجودها مع ركبتيه).

8- خبر أبي بصير قال: (سألته عن الرجل والمرأة يصليان في بيت واحد، المرأة عن يمين الرجل بحذاه؟ قال: لا إلا أن يكون بينهما شبر أو ذراع، ثم قال: كان طول رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذراعاً وكان يضعه بين يديه إذا صلى يستره ممن يمر بين يديه).

9- خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجلوالمرأة يصليان جميعاً في بيت، المرأة عن يمين الرجل بحذاه؟ قال: لا، حتى يكون بينهما شبر أو ذراع أو نحوه).

ورواه الكليني (قدس سره) وترك (أو نحوه).

(الثالث) ما دلّ منطوقاً أو مفهوماً على وجود البأس في صلاة الرجل والمرأة متحاذيين ومع عدم وجود حاجز أو فاصل، ومنها:

1- صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يصلي والمرأة بحذاه عن يمينه أو عن يساره؟ فقال: لا بأس به إذا كانت لا تصلي)(1).

بتقريب: أن مفهوم الجملة أن فيه البأس إذا كانت تصلي، وليس البأس إلا المنع من صلاتهما متحاذيين.

2- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة تصلي عند الرجل؟ قال: (إذا كان بينهما حاجز فلا بأس)(2).

ص: 372


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب4، ح2.
2- الروايات إلى تسلسل (4) في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 8، ح2، ح4، ح1، بحسب ترتيب التسلسل.

3- خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلي في مسجد قصير الحائط وامرأته تصلي وهو يراها وتراه؟ قال: إن كان بينهما حائط طويل أو قصير فلا بأس).

4- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصلي في مسجد حيطانه كوى كله قبلته وجانباه، وامرأته تصلي حياله يراها ولا تراه؟ قال: لا بأس).

بتقريب: أن السائل قد ارتكز في ذهنه عدم صحة الصلاة إذا لم يكن بينهما حائل وقد أمضى الإمام (عليه السلام) ارتكاز السائل بوجود بأس لو لم يكن بينهما حائل.

5- خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصلي ضحى وأمامه امرأة تصلي بينهما عشرة أذرع؟ قال: لا بأس ليمضِ في صلاته)(1).

بنفس التقريب المتقدم.

(الرابع) ما دلّ على وجوب إعادة المرأة صلاتها إذا صلت بحذاء الرجل:

1- صحيحة(2)

علي بن جعفر عن اخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن إمام كان في الظهر فقامت امرأته بحياله تصلي وهي تحسب أنها العصر هل يفسد ذلك على القوم وما حال المرأة في صلاتها معهم وقد كانت صلت الظهر قال: لا يفسد ذلكعلى القوم وتعيد المرأة)(3).

بتقريب أن الإعادة من أجل محاذاتها للرجل في الصلاة، واحتمل جملة من الفقهاء في الفساد وجهين:

ص: 373


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب7، ح2.
2- رواها الشيخ (قدس سره) في موضعين: أحدهما في مكان المصلي بسند ضعيف وثانيهما في أبواب صلاة الجماعة بسند صحيح لأنه نقلها من كتاب علي بن جعفر وطريقه إليه صحيح وأوردها صاحب الوسائل في موضعين.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب9، ح1.

أ- اختلاف فرضها مع فرض الإمام، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وقد بنى بعضهم ومنهم الشيخ المفيد في المقنعة على بطلان الجماعة في هذه الصورة لاعتبار المساواة في الفريضة وقد ذكر الشيخ الطوسي هذه الرواية في ذيل تلك الفتوى دليلاً عليها))(1).

أقول: لا صحة لما قاله (قدس سره) فإن الشيخ ذكرها في التهذيب في ذيل فتوى أخرى وقال محقق كتاب المستند أننا لم نجد هذا الحكم في المقنعة.

ب- عدم تأخّرها عن الإمام لقيامها حياله، ويعتبر في صحة الجماعة تأخرها عنه.

والوجهان ضعيفان، فإن الأول لا يفسد الصلاة والثاني منافٍ للإطلاق ولما سيأتي من أن من لم يجد مكاناً في صفوف الجماعة صلى حذاء الإمام ولأن نتيجة هذا الاحتمال بطلان جماعتها لا صلاتها، ولأن هذا الاحتمال لو كان مقصوداً للسائل فلماذا يسأل عن صلاة القوم.

(الطائفة الثانية) ما استدل به على الجواز ومنها:

1- صحيحة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (لا بأس أن تصلي المرأة بحذاء الرجل وهو يصلي فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي وعائشة مضطجعة بين يديه وهي حائض وكان إذا أراد أن يسجد غمز رجليها فرفعت رجليها حتى يسجد)(2).

2- مرسلة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يصلي والمرأة تصلي بحذاه، قال: لا بأس)(3).

3- صحيحة الفضيل في علل الشرائع عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنما سميت بكة لأنه تبك فيها الرجال النساء والمرأة تصلي بين يديك وعن

ص: 374


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/119.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب4، ح4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب5، ح6، ح10.

يمينك وعن يسارك ومعك ولا بأس بذلك، وإنما يكره في سائر البلدان)(1).

بتقريب: أن المراد من قوله (عليه السلام): (يكره) المعنى الاصطلاحي للكراهةولأنه ما دام قد ثبت الجواز في مكة فإنه موجب ((لعدم المنع في غيرها أيضاً بالإجماع المركب قطعاً))(2) بناءً على عدم الفصل بين مكة وغيرها جوازاً ومنعاً. وإن ثبت الفصل من حيث الكراهة بصريح الرواية.

4- خبر الحلبي قال: (سألته -يعني أبا عبد الله (عليه السلام)- عن الرجل يصلي في زاوية الحجرة وابنته أو امرأته تصلي بحذائه في الزاوية الأخرى؟ قال: لا ينبغي ذلك إلا أن يكون بينهما ستر، فإن كان بينهما ستر أجزأ)(3).

بتقريب: أن (لا ينبغي) تدل على الكراهة بالمعنى المصطلح.

5- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن الرجل يصلي في زاوية الحجرة وامرأته أو ابنته تصلي بحذاه في الزاوية الأخرى؟ قال: لا ينبغي ذلك فإن كان بينهما شبر أجزأه، يعني إذا كان الرجل متقدماً للمرأة بشبر)(4).

أقول: هذا على رواية الشيخ في التهذيب والاستبصار ورواها الكليني في الكافي بسند غير تام إلى (أجزأه).

6- خبر عيسى بن عبد الله القمي عن امرأة صلت مع الرجال وخلفها صفوف وقدامها صفوف؟ قال: (مضت صلاتها ولم تفسد على أحد ولا تعيد)(5).

ص: 375


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب5، ح6، ح10.
2- مستند الشيعة: 4/412.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب8، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب5، ح1.
5- كشف اللثام: 1/194، ومستند الشيعة: 4/412، ورياض المسائل: 3/11، وجواهر الكلام: 8/306.

نظرة في الروايات

يبدو لأول وهلة أن القول بمنع محاذاة الرجل والمرأة في موقفهما قوي لاستفاضة الروايات المعتبرة الدالة على هذا المعنى وإن الروايات الدالة على الجواز لا تقوى على صرفها عن ظهورها.

أما (الأولى) وهي عمدة ما استدلوا به على الجواز فقد أشكل عليها صاحب الحدائق (قدس سره) وغيره بأن ((التعليل الذي اشتمل عليه الخبر لا يلائمه ولا ينطبق عليه ولهذا استظهر المحدث الكاشاني في الوافي حصول التصحيف في الخبر وإن الصواب في العبارة (إنه لا بأس أن تضطجع المرأة بحذاء الرجل وهو يصلي) وتأولهبعض بتأويلات تخرجه عن الاستدلال لينطبق التعليل فيه على الكلام المتقدم، وحينئذٍ فالخبر من حيث هذه العلة لا يصلح للاستدلال))(1).

وتعجب من السيد صاحب المدارك (قدس سره) كيف اكتفى بذكر صدر الخبر وترك التعليل (ومثل هذا معيب عند المحدثين كما نبه عليه غير واحد، فإن التتمة المذكورة مما له مدخل في الخبر من حيث التعليل).

وممن أجاب عليه صاحب المستند وكرره السيد الحكيم (قدس سره) والسيد الخوئي (قدس سره) قال في المستند: (وعدم انطباق التعليل بالاضطجاع على الحكم بجواز الصلاة لا يخرج حكمه (عليه السلام) عن الحجية، مع أن في عدم انطباقه نظراً، لأن تفرقة الفقهاء بين الصلاة وغيرها لا تدل على التفرقة في الواقع، فلعله لم يكن بينهما فرق فاستدل (عليه السلام) بأنها لو لم تجز لكان لأجل نفس تقدمها، وهو غير صالح للمنع، لاضطجاع عائشة، وأما بعض الأخبار الفارقة فلا يثبت أزيد من التفرقة في الكراهة كما يأتي، ومجردها لا يثبت منافاة علة نفي البأس الذي هو التحريم للكراهة، وعلى هذا فلا وجه

ص: 376


1- الحدائق الناضرة: 7/178.

لتوهم التصحيف في الرواية أو تأويلها بوجوه بعيدة)(1).

أقول: ما أجاب به (قدس سره) من أن الأصل عدم التصحيف صحيح ومن أن عدم انسجام التعليل ظاهراً لا يلغي حجية صدر الرواية صحيح أيضاً، لكن الاحتمال الذي ذكره (قدس سره) وبينه السيد الحيكم (قدس سره) بعدم ((الفصل واقعاً بين حالتي الصلاة وعدمها في المانعية، وإن كان بينهما فصل بالكراهة الذي هو المراد بنصوص التفصيل ولو بقرينة الصحيح المزبور وغيره من نصوص الجواز))(2).

فهذا غير كافٍ للإجابة عن عدم الانسجام لوجود صحيحة ابن أبي يعفور وموثقة عمار اللتين تفرقان بين الحالين فالتفريق واقعي، ولأن التعليل الصحيح يكون بالمساوي له بالحكم أو ما هو أولى منه بالحكم، وحال عدم الصلاة في حكم المحاذاة والتقدم ليس مساوياً ولا أولى من حال الصلاة إذ الثاني محرم على مختارنا ومكروه على مختارهم بينما المحاذاة والتقدم جائزة في حال عدم الصلاة.

وأجاب عنه صاحب الجواهر (قدس سره) بطريقة الأولوية (أي إذا جازت الصلاة مع اضطجاعها بين يديه وهي حائض فبالأولى الجواز حال صلاتها محاذية له)(3)

وفيه: أنه أوضح أنواع القياس الباطل مع مخالفتها الصريحة لصحيحة إدريسبن عبد الله القمي وصحيحة عبد الله بن أبي يعفور (الصنف الأول).

نعم، يمكن أن يرد الإشكال باحتمال أن الجزء الثاني من الرواية هي رواية أخرى دمجها جميل ولعله لهذا الاحتمال اكتفى صاحب المدارك بذكر الجزء الأول، ومنشأ هذا الاحتمال ورود الجزء الثاني منه في رواية مستقلة في

ص: 377


1- مستند الشيعة: 4/412.
2- مستمسك العروة الوثقى: 5/470.
3- جواهر الكلام: 8/306.

الكافي هي موثقة علي بن الحسن بن رباط عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي وعائشة قائمة معترضة بين يديه وهو يصلي)(1)، وعلى أي حال فإن عدم الانسجام بين الصدر والذيل وإن كان موجوداً لكنه غير ضارٍ في الحجية.

نعم يمكن التخلص من معارضة الصحيحة لروايات المنع بأكثر من وجه:

1- إن المحاذاة لا تنافي وجوب تأخر المرأة في موقفها ومسجدها شبراً ونحوه مما سنذكره (صفحة 380) إن شاء الله تعالى الذي هو حصيلة النظر في مجموع الروايات، وقد ورد في صحيحة معاوية بن وهب (السادسة من الصنف الثاني) تعبير الإمام (عليه السلام) بالمحاذاة مع أنها متأخرة عنه شبراً بناءً على ما سنقدمه من قرائن تفيد أن الشبر هو لتقدم الرجل وليس إلى الجانبين أو تقدم المرأة وسنذكر شواهد أخرى عليه (صفحة 382) إن شاء الله تعالى، فالصحيحة لا تعارض هذه النتيجة فلا نحتاج إلى التصرف في ظهور روايات الطائفة الأولى.

2- إن جميل نفسه روى اشتراط تأخرها ليكون سجودها مع ركوعه (السابعة من الصنف الأول) فلابد أن لا تحمل المحاذاة على كونها بخط واحد وإلا فإنه يتعارض نقل جميل ويسقط عن الحجية أو يقلل من الوثوق بما ورد في الصحيحة.

فإن قلتَ: إن رواية اشتراط التأخر مرسلة فلا تعارض الصحيح الذي نفى البأس عن المحاذاة.

قلتُ: إن هذا الإرسال لا يضر في الرواية لأن الظاهر من وحدة متنها مع مرسلة ابن بكير (الثامنة من الصنف الأول) وتفرع الروايتين عن ابن فضال حيث روى الأولى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن ابن فضال عمن أخبر عن جميل وروى الثانية الكليني بسند صحيح آخر عن ابن فضال عن ابن

ص: 378


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، الباب4، ح3.

بكير عمن رواه، والمتن واحد فالظاهر من ذلك أن الرواية واحدة رواها ابن فضال عن ابن بكير عن جميل إلا أن الذين رووا للشيخ الطوسي نسوا ابن بكير والذين رووا للكليني نسوا جميل فتكون الرواية موثقة.

وستأتي مناقشات أخرى للصحيحة (صفحة 385).

وأما (الثانية) فيرد عليها الوجهان المتقدمان مضافاً إلى الضعف في سندها من جهة الإرسال، وحاول السيد الحكيم (قدس سره) رد هذا الإشكال بوجهين:

1- انجبار حجيتها بالعمل(1).2- كون الرواية من روايات بني فضال الذين قال الإمام العسكري (عليه السلام) في كتبهم: (خذوا ما رووا وذروا ما رأوا)، وهو معنى سبقه إلى ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره).

أقول: هذه المعالجة منه (قدس سره) غير مفيدة جملة وتفصيلاً، اما جملة فلأنه حتى لو صحّ سندها فإنها ليست أفضل حالاً من صحيحة جميل المتقدمة وقد ناقشناها.

وأما تفصيلاً فلأن الوجه الأول مردود صغرى وكبرى، أما الثاني فقد رددناه بوجهين في البحث الثاني (صفحة 71) فراجعه.

وهذه الوجوه لدفع معارضة الرواية أولى مما احتمله الشيخ الطوسي (قدس سره) بتعليقه على مرسلة جميلة باحتمال ((أن يكون أراد (عليه السلام) إذا كان الرجل بينه وبين المرأة أكثر من عشرة أذرع حسب ما ذكره عمار الساباطي في روايته المتقدمة أو تكون من ورائه، ويحتمل أن يكون المراد به إذا كان بينه وبينها حائل))(2)

وقال عنه صاحب الحدائق (قدس سره): ((وهو وإن كان بعيداً في حد ذاته إلا أنه في مقام الجمع بينها وبين أخبار المسألة

ص: 379


1- مستمسك العروة الوثقى: 5/470.
2- تهذيب الأحكام، كتاب الصلاة، باب11: ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز، ح120.

الآتية غير بعيد))(1).

وأما (الثالثة) فيرد عليها:

1- إن استعمال لفظ الكراهة في الحرمة هو الأرجح في الروايات الشريفة كما في صحيحة أبي بصير (إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر، لأن تمر المدينة أدونهما، ولم يكن علي (عليه السلام) يكره الحلال)(2) ويكره هنا بمعنى يحرم لأن علياً (عليه السلام) كان يكره المكروه قطعاً وبقرينة المورد.

2- لو تنزلنا فإن لفظ (يكره) غير متعين في الكراهة المصطلحة واستقراء موارده في الروايات يفيد استعماله في الكراهة بالمعنى الأعم الشامل للحرمة وإنما يتعين بالقرائن، ويفسر في المقام بالحرمة بقرينة روايات الطائفة الأولى.

3- تعارضها مع نقل الشيخ الكليني والطوسي والبرقي (الرواية الثانية عشرة من الصنف الأول، صفحة 370) مما يقلل الوثوق بمضمونها.

4- أما دعوى عدم القول بالفصل التي قيلت في التقريب فبحاجة إلى دليل. وأما (الرابعة والخامسة) فيرد في لفظ (لا ينبغي) ما ذكرناه في لفظ (يكره) على أن قوله (عليه السلام) في ذيل الحديث (أجزأه) يكشف عن أن استعمال اللفظ في الحرمة لأن إتيان المكروه لا ينافي الإجزاء.

وأما (السادسة) فهو خبر لا مصدر له وإن نسبه في المستند إلى العلل لكنه غيرموجود في علل الشرائع ولا في غيره وقال كاشف اللثام أن راويه عيسى بن عبد الله القمي وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره) أنه مروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) وذكر صاحب الرياض الخبر من دون هذه النسب، وكلها لا وجود لها في جوامع الحديث.

والنتيجة إلى الآن ظهور روايات الطائفة الأولى في وجوب تقدم الرجل

ص: 380


1- الحدائق الناضرة: 7/178.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب 15، ح1.

على المرأة بصدره هو يعني تقدمه بموقفه بمقدار شبر أو ذراع ونحوهما بحيث يكفي كون موضع سجودها مع ركوعه(1)

وركبتيه بحسب ما صرحت به الروايات، أما إذا صلت أمامه أو إلى جانبه فلابد من الفصل بحائل ولو غير مانع للرؤية أو مسافة عشرة أذرع، وما ذكر من الأدلة على جواز المحاذاة بالمعنى الكامل الذي ذكروه ليس تاماً، إذ تحمل المحاذاة المذكورة في صحيحة جميل على ما ذكرنا وكذا في صحيحة معاوية بن وهب وموثقة ابن بكير فلا تعارض بين الروايات، قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((والمراد بالمحاذاة في الخبر مجرد القرب لا المساواة في الموقف)) ونقل عن الشيخ البهائي (قدس سره) تصريحه بذلك في كتاب الحبل المتين فقال: ((وأما ما يتراءى من منافاته لقوله (عليه السلام): (صلت بحذائه) فيمكن توجيهه بحصول المحاذاة من بعض أعضائه وأعضائها في حالتي الركوع والسجود وهو كافٍ في إطلاق كون صلاتها بحذائه))(2).

وهو ما اعترض عليه السيد الحكيم (قدس سره) حين قال: ((إن نصوص التقدير آبية عن الحمل على ما ذكر، فلتلحظ صحيحة معاوية بن وهب ورواية أبي بصير المتقدمتين، فإن لازم ذلك التصرف في المحاذاة الظاهر في أن يكونا على خط واحد عرفاً، والتباعد بمقدار الشبر ينافيه. مضافاً إلى التصرف في البينية

ص: 381


1- استظهر النراقي من هذه المعية أنها زمانية حالية، قال (قدس سره): (يعني إذا كانت حال سجودها مقارنة لحال ركوعه حتى لا يتمكن له النظر إليها حال السجود التي هي حالة الكشف غالباً. والحمل على إرادة كون موضع سجودها محاذياً لموضع ركوعه حتى يكون مقدماً بهذا القدر خلال الظاهر) (مستند الشيعة: 4/414) وربما أراد بكلامه (قدس سره) ما ورد عن علي (عليه السلام): (كن النساء يصلين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكن يؤمرن أن لا يرفعن رؤوسهن قبل الرجال لضيق الأزر) (وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 23، ح8) لكن ما استظهره (قدس سره) خلاف الظاهر المنسجم مع تعابير أخرى (ركبتيه، قدامها بصدره).
2- الحدائق الناضرة: 7/179.

الظاهرة في البينية في جميع الأحوال، إذ على ما ذكره تكون البينية بين الموقفين لا غير، ومع التباعد بدون العشرة تكون البينية بين خط موقفه وخط موقفها، وكلاهما خلاف الظاهر))(1).

وسبقه صاحب الجواهر (قدس سره) إلى هذا الاستبعاد ووصفه ب- (التكلف المنافي للفظ المحاذاة وللفظ البينية، ضرورة عدم صدقهما بتقدم الرجل المقدارالمزبور)(2).

أقول: أما البينية فستأتي عدة قرائن على بيانها (صفحة 386) وأما عدم منافاة المحاذاة للتأخر شبراً فليس فيه مخالفة لفهم العرف كما هو واضح، ومن الشواهد على ذلك ورود مثل هذا التعبير في المأمومين في صلاة الجماعة مع أن مثل هذا التأخر لا ينافي المحاذاة المشترطة فيها، بل ورد التعبير بالمحاذاة في صلاة المأموم مع الإمام مع أن تأخره عن الإمام شرط كما في صحيحة سعيد الأعرج قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي الصلاة فلا يجد في الصف مقاماً، أيقوم وحده حتى يفرغ من صلاته؟ قال: نعم لا بأس يقوم بحذاء الإمام)(3).

وخبر السكوني عن جعفر عن أبيه: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن قال: فإن لم يمكن الدخول في الصف قام حذاء الإمام أجزأه)(4).

وخبره الآخر عن جعفر عن أبيه عن آبائه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سوّوا بين صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم لا يستحوذ عليكم الشيطان)(5).

ص: 382


1- مستمسك العروة الوثقى: 5/473.
2- جواهر الكلام: 8/311.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب 57، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب58، ح1.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب70، ح4.

وصحيحة الفضيل بن يسار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلي المكتوبة بأم عليّ؟ قال: نعم، تكون عن يمينك يكون سجودها بحذاء قدميك)(1).

تتميم: لكي نتمم الاستدلال على النتيجة المتقدمة لا بد من الإجابة على ما قيل من مناقشة روايات الطائفة الأولى، فقد ناقش صاحب الجواهر (قدس سره) في دلالة روايات الطائفة الأولى على المنع، وهو لم يتعرض لكل الروايات التي ذكرناها، وإنما لما ذكره هو (قدس سره)، فقال عن صحيح محمد بن مسلم وخبر أبي بصير (الأولى والثالثة في الصنف الأول) بأن النهي في الجواب وإن كان ظاهراً في عدم الجواز ((إلا أن الاستدراك بعده بذكر تقديم الرجل الذي هو مستحب قد يشعر بعدم إرادة الحرمة منه، وإلا كان المناسب استدراك الجائز، أي تقديم أحدهما الذي هو ضد الممنوع لا المستحب الذي هو ضد المكروه)) وفيه:-

1- إن الإمام (عليه السلام) أجاب بما أراد في صحيحة عبد الله بن أبي يعفور.2- إننا لو كنا والصحيحتين لكان تقدّم الرجل واجباً وإنما استفيد عدم الوجوب من أدلة أخرى.

3- إن الجواب بالنهي تحقق بقوله (عليه السلام) (لا) أما الباقي فهو ذكر لبعض مصاديق الجواز إذ بعد المنع من المحاذاة فإن الحل إما أن تتقدم هي أو هو.

وقال عن صحيحة إدريس بن عبد الله القمي (الخامسة) بأن (أقصاه بملاحظة أن نفي النفي إثبات ثبوت الضرر في المفهوم، وهو أعم من الكراهة والفساد) وفيه: أن الظاهر من الضرر في مورد الصحة والفساد هو الفساد وإنما

ص: 383


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب19، ح2.

يفسر بالكراهة إذا منع الدليل من حمله على الفساد مضافاً إلى أن نفيه (عليه السلام) يحتمل عوده إلى أصل السؤال أي قول السائل: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي) كل ما هنالك أن الإمام (عليه السلام) تبرع بذكر هذا الفرع قبل الجواب.

وقال عن موثقة عمار (الأولى من الصنف الثاني) بأن ((مرجعه بعد التدبر إلى نفي الاستقامة الذي إن لم يكن مشعراً بالكراهة فلا ريب في تحققه بها ضرورة عدم استقامة المكروه، وأما إثبات البأس في مفهوم ذيله فهو كغيره من النصوص التي هي كذلك قدر مشترك عرفاً بين المحرم والمكروه)) وفيه: أن عدم الاستقامة والبأس ظاهران في البطلان والمنع ولا يحملان على الكراهة إلا بدليل.

وقال (قدس سره) عن صحيح علي بن جعفر (الصنف الرابع) بأنه (يمكن إرادة تلقاء الوجه - أي أمامه - من الحيال فيه كما فسره في مختصر النهاية الأثيرية، فيكون فساد صلاتها حينئذٍ لفقد شرط الجماعة، إذ الظاهر من الخبر أن صلاتها معهم كانت جماعة، فلا دلالة فيه على المطلوب) وفيه: أن لازمه بطلان جماعتها لا بطلان صلاتها، مضافاً إلى أنه لو كان الوجه ما ذكره (قدس سره) إذن فما معنى السؤال عن صحة صلاة القوم، هذا مع أنه بعيد وأبعد منه أن يسأل علي بن جعفر عن مثله ولا يصلح لدفعه ما ذكره (قدس سره) بقوله: ((واستبعاد سؤال علي بن جعفر (عليه السلام) عن صحة صلاتها في هذا الحال لمعلومية مانعية تقدم المأموم من الصحة يدفعه احتمال الاغتفار في خصوص النساء كالاقتداء لهن خلف الحائل ونحوه)).

وقال (قدس سره) عن الخبر النبوي (العاشر من الصنف الأول) أنه ((يدل على وجوب تأخيرهن حيث أخرهن الله، والبحث في أن المقام منه))(1) وهذا صحيح إذ كون المسألة مما أخرهن الله فيه أول الكلام والقضية لا تثبت موضوعها، لكن المحقق الكركي (قدس سره) قرّب الاستدلال بها وذكرناه في

ص: 384


1- جواهر الكلام: 8/308-310.

ذيل الرواية فكان على صاحب الجواهر (قدس سره) مناقشة التقريب.

وعلى أي حال فالروايات أوسع مما ذكره (قدس سره) وقربنا دلالتها على المطلوب بما فيه الكفاية.

أدلة القول بالجواز مع الكراهة:

استدلوا على (الجواز) بالروايات التي ذكرناها في الطائفة الثانية وناقشناهاوكانت عمدتها صحيحة جميل، وقد قربنا فيما سبق عدم منافاتها للقول بالمنع، أما مناقشة الاستدلال بها على القول بجواز المحاذاة فهي من أكثر من جهة:

1- إن الاستدلال بها يتوقف على التمسك بإطلاق المحاذاة فيها الشامل للمحاذاة التامة، إذ أن المحاذاة غير متعينة بها لما قدمناه من صدقها على ما لو تأخرت المرأة شبراً، والإطلاق هنا غير تام لاحتمال أن الإمام (عليه السلام) ليس بصدد البيان من هذه الجهة وإنما بصدد رفع توهم السائل بأن الواجب هو تأخر المرأة بتمام مسقط جسمها عن موقف الرجل الذي أفاده ذيل موثقة عمار ونحوه فالإمام (عليه السلام) رفع هذا التوهم بجواز المحاذاة في الجملة، ويؤيد هذا الاحتمال أن جميل نفسه ممن روى اشتراط تأخرها ليكون سجودها مع ركوعه، فالرواية مجملة من هذه الناحية.

2- ولو تنزلنا وقلنا بالإطلاق فإنه مقيد بروايات الطائفة الأولى الدالة على وجوب تقدم الرجل بصدره أو شبراً أو بمحاذاة ركوعه لسجودها ونحوها من التعابير وليست المحاذاة متعينة بالتامة كما قلنا.

3- وجود قرائن واحتمالات تضعف الاستدلال بالرواية على الجواز وهي:-

أ- تعارض نقلي جميل حسب ما شرحناه (صفحة 377).

ب- احتمال سقوط (لا) في أول الرواية فيكون النص (لا بأس أن لا تصلي المرأة) ومثل هذا السقط وارد كثيراً في الكتب القديمة، بل وفي الطباعة الحديثة أيضاً، والشاهد عليه انسجامه مع التعليل في النصف الثاني من الرواية،

ص: 385

وهو معنى قد ورد في عدة روايات في الطائفة الأولى.

ج-- احتمال أن قوله (عليه السلام): (وهو يصلي) جملة ابتدائية وليست حالية فيكون معنى الصحيحة: لا بأس أن تصلي المرأة بحذاء الرجل في غير حال الصلاة ولا بأس أن يصلي هو أيضاً بحذاء المرأة وهي في غير حال الصلاة. وتكون حينئذٍ بنفس معنى روايات وردت في الطائفة الأولى ومنسجمة الجزأين.

واستدل صاحب المدارك وغيره أيضاً على الجواز بمجموعة من الروايات التي ذكرناها في الطائفة الأولى، كصحيحة زرارة ومعاوية بن وهب (الثانية والسادسة من الصنف الثاني) باعتبار ((اشتراكها في عدم اعتبار الحائل أو التباعد بالعشر، وإذ انتفى ذلك ثبت الجواز مطلقاً، إذ لا قائل بالفصل))(1)

ويمكن تقريبها لهم بأن البينية المذكورة في الروايات التي اكتفى بها الإمام (عليه السلام) لصحة صلاتهما بمراعاتها والمتضمنة للشبر فما فوق هي مطلقة بجميع الاتجاهات ومنها إلى الأمام والجانبين، وما دام قد جازت المحاذاة فيما دون العشر فهي جائزة مطلقاً إذ لا قائل بالفصل عدا ما نسب إلى الجعفي من التفصيل بين ما دون الذراع فيحرم وما فوقه فيجوز.

وفيه:-

1- لا مانع من القول بالفصل إذا دلت عليه الروايات كما استظهره السيد الخوئي (قدس سره) فقال بوجوب الفصل بشبر باعتباره القدر المتيقن من المقادير المتفاوتة لتحديد المانعية وحمل الأزيد منه على الكراهة لمفهوم الشبر في عدم مانعية ما زاد عنه.

2- إن فيه خلطاً بين تحديدين للمسافات (أولهما) فيما إذا تقدمت المرأة أو كانت إلى جانبي الرجل بخطٍ واحدٍ وهذه حددت بعشرة أذرع، (ثانيهما) إذا تقدم الرجل وهذه تكفي فيها الشبر والذراع ونحوها من التعابير.

والبينية الواردة في الروايات وإن كانت مجملة وقابلة للانطباق على جميع

ص: 386


1- مدارك الأحكام: 3/222.

الاتجاهات، إلا أن جملة من القرائن تبينها وتحددها بما ذكرنا، ومنها:

أ- موثقة عمار التي فصلت المسافات بجميع الاتجاهات فذكرت (عشرة أذرع) في حال تقدم المرأة أو محاذاتها إلى الجانبين أما التأخر فلم تشترط فيه التباعد نعم يحمل الزائد مما ذكر فيها عن الشبر ونحوه على الاستحباب بدلالة الروايات الأخرى، فتكون موثقة عمار مبينة لإجمال ما ورد من البينية.

ب- إن هذا الفهم يؤدي إلى حصر المنع في روايات الصنف الثاني وغيره بحال الالتصاق إذ من النادر عدم تحقق الشبر بين المصلين وحمل اللفظ على الفرد النادر القبيح.

3- قرينتان في صحيحة محمد بن مسلم (الخامسة من الطائفة الثانية) وهما:

أ- إنه من غير المحتمل أن يكون الرجل في زاوية والمرأة في الزاوية الأخرى من الحجرة ولا يكون بينهما شبر فلا يتحقق معنى للجواب باشتراطه فيكون الظاهر منها اشتراط تأخرها شبراً عن خط وقوف الرجل.

ب- ذيل الرواية وفيه (يعني إذا كان الرجل متقدماً للمرأة بشبر) وإن احتمل بعضهم أنه ليس من كلام الإمام (عليه السلام) والذيل موجود في رواية الطوسي الصحيحة وغير موجود في رواية الكليني غير تامة السند.

4- وجود روايات عديدة فسرت هذه المسافة بتقدم الرجل حين عبرت بدلاً عن الذراع والشبر بتقدمه بصدره كما في صحيحة زرارة (السادسة من الصنف الأول) أو بجعل سجودها مع ركوعه كما في مرسلة جميل ومرسلة عبد الله بن بكير (السادسة والثامنة من الصنف الأول) أو يجعل سجودها مع ركبتيه كما في صحيحة هشام بن سالم (السابعة من الصنف الثاني) وهي كلها تعبر عن مقدار متقارب عرفاً.

واستدل صاحب المدارك أيضاً بصحيحة عبد الله بن أبي يعفور (الثانية من الصنف الأول) واستظهر صاحب الحدائق (قدس سره) تقريب الاستدلال بها من جهة ((حملها على جواز تقدم المرأة على الرجل حال صلاتهما

ص: 387

معاً))(1).

وفيه: أن مقتضاه حمل التقدم على المكان وهو خلاف ظهورها في التقدم الزماني أي بلحاظ فعلهما للصلاة، بل إن هذا التقريب مما لا تحتمله الرواية لتناقضه مع جواب الإمام (عليه السلام) بالنهي، إلا أن يقال بأن النهي متعلق بالمحاذاة دون تقدم المرأة وهو كما ترى وخلاف ما يريده المستدل.

وأفاد صاحب الجواهر (قدس سره) مرجحاً آخر ((لأدلة الجواز زائداً على الأصل والإطلاقات والشهرة المتأخرة وغير ذلك مما عرفته، وهو أنه بناءً على العمل بها يتجه حمل نصوص المنع على الكراهة التي هي مجاز شائع حتى ادعي مساواته للحقيقة، بخلاف العكس المقتضي لطرح أدلة الجواز التي هي أكثر عدداً وأوضح سنداًبل ودلالة))(2).

وفيه عدة تعليقات أحدها أن الجمع الذي ذكرناه لم يستلزم طرح أدلة الجواز وإنما استظهرنا منها معاني لا تنافي ما اخترناه فهو أولى من الجمع الذي اختاره (قدس سره) وثانيها أن أدلة الجواز ليست كما وصف (قدس سره).

وهذا كله في جواز المحاذاة، أما تقدم المرأة فإن استدلالهم السابق على جواز المحاذاة لا يتضمن جواز تقدم المرأة الذي قالوا به أيضاً. إلا أن يتمم بضميمة عدم القول بالفصل وهو كما ترى.

نعم، قد يستدلون بصحيحة الفضيل (الثالثة من الطائفة الثانية) وقد ناقشناها (صفحة 380)، أو بتفسير التقدم في صحيحة ابن أبي يعفور (الثانية من الصنف الأول) وقد ناقشناها آنفاً، أو بالأصل بعد حمل روايات الطائفة الأولى على الكراهة، وفيه: أنها ظاهرة في المنع، ولو قلنا بحمله على الكراهة في المحاذاة بدليل صحيحة جميل فإن المنع باقٍ على الحرمة في التقدم.

واستدلوا على (الكراهة) بوجهين:

ص: 388


1- الحدائق الناضرة: 7/179.
2- جواهر الكلام: 8/308.

(أولهما): ((نصوص المنع بعد حملها عليها جمعاً بينها وبين نصوص الجواز))(1).

وفيه:

1- إننا قربنا فهم روايات الجواز بالشكل الذي لا ينافي روايات المنع وزال التعارض من أساسه.

2- لو تنزلنا وافترضنا وجود التعارض فالجمع الذي ذكرناه أولى من الجمع بحمل روايات الطائفة الأولى على الكراهة وأفضل من الجمع الذي نقلناه عن الشيخ الطوسي (قدس سره) (صفحة 379) من حمل نصوص الجواز على صورة التباعد عشرة أذرع أو وجود حاجز، ونصوص المنع على عدمها بشهادة النصوص التي دلت على التفصيل بين صورتي التباعد وعدمه. ورد عليه السيد الحكيم (قدس سره) بأن (نصوص التفصيل بين التباعد وعدمه لا تصلح شاهداً للجمع لاختلافها فيه، ففي بعضها شبر، وفي بعضها شبر وذراع، وفي بعضها ما لا يتخطى، أو قدر عظم الذراع فصاعداً، وفي بعضها أكثر من عشرة أذرع) ولا حاجة للرد عليه لأن موضوعه - وهو الجمع المذكور - منتفٍ مضافاً إلى الخلط في فهم هذه المسافات.

(ثانيهما): ((شدة اختلاف النصوص في تقدير البعد والتقدم المقتضيين لرفع المنع) التي ذكرناها آنفاً، (وإن هذا الاختلاف فيها لا يصلح له إلا الكراهة المختلفة باختلاف هذه المراتب شدة وضعفاً كما لا يخفى على الخبير الممارس لما وقع منهم (عليهم السلام) في بيان المندوبات والمكروهات من منزوحات البئر وغيرها)) ((فلا بدحينئذٍ من حمل النهي في بعضها والبأس في مفهوم الآخر على الكراهة))(2).

وهذه القرينة تمسك بها أكثر الأساطين والفقهاء القائلين بالكراهة، ومنهم

ص: 389


1- مستمسك العروة الوثقى: 5/470.
2- جواهر الكلام: 8/306-308.

السيد الحكيم (قدس سره) حيث قال: ((وهذا الاختلاف قرينة الكراهة، بل لابد من الالتزام بها في الزائد على الشبر، لصراحة نصوصه بارتفاع المانعية به، فليحمل هو على الكراهة أيضاً لوحدة السياق))(1).

وفيه:-

1- إن سردهم النصوص وكأنها مسوقة لبيان موضع واحد غير صحيح لما قلناه من أن روايات الشبر والذراع ونحوهما مسوقة لبيان المقدار المجزي لتقدم الرجل على المرأة وهي مقادير متقاربة عرفاً، أما العشرة أذرع وأكثر فهي مسوقة لبيان المقدار المجزي إلى الجانبين وفيما لو كانت المرأة هي المتقدمة.

2- لو فرضنا عدم استطاعة فهم هذه المقادير لتفاوتها الكبير فالنتيجة إيكال فهم هذه الروايات إلى أهلها (صلوات الله عليهم أجمعين) والأخذ بباقي الروايات الصريحة في تقدم الرجل كتعبير تقدم بصدره أو سجودها مع ركوعه أو ركبتيه.

3- إن موثقة عمار تكفلت ببيان هذا الإجمال وتفصيله وقد قربنا كل ذلك فيما تقدم فلا تفاوت فاحشاً في هذه المقادير ولا حاجة لصرفها عن ظهورها وفي مثل المورد يجتزأ بالحد الأدنى وهو الشبر ويحمل ما زاد على الاستحباب.

4- إن المورد نظير ما ورد في تحديد الكر بالمساحة من تقديرات، واختلافها أكثر شدة من المقام حيث تراوحت بين (3×3×3) ومحصلها (27) شبراً مكعباً وبين (3.5×3.5×3.5) ومحصلها 42) شبراً مكعباً، فاجتزأ البعض بالأقل وحمل الزائد على الاستحباب والتنزيه.

وكرر شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) المعنى الذي ذكروه وزاده بياناً فقال: ((إن الروايات الناهية عن صلاة الرجل بمحاذاة صلاة المرأة وبالعكس ظاهرة في نفسها في مانعية المحاذاة، ولكن لا يمكن الحفاظ على هذه الظاهرة العرفية وذلك لأن مانعية المحاذاة في بعض هذه الروايات قد حددت

ص: 390


1- مستمسك العروة الوثقى: 5/470-472.

بالمسافة بينهما بأقل من شبر، وفي الآخر بأقل مما لا يتخطى، وفي الثالث بأقل من ذراع، وفي الرابع بأقل من رجل، وفي الخامس بعظم الذراع فصاعداً، وفي السادس بأقل من عشرة أذرع... ومن الواضح أنه لا يمكن تحديد مانعيتها بهذه المراتب المتفاوتة طولاً وقصراً حيث يلزم من فرض وجوده عدمه، فإذن بطبيعة الحال يكون هذا الاختلاف بنفسه قرينة على أنها في مقام بيان الحكم الترخيصي وهو الكراهة، واختلافها يكشف عن اختلاف مراتبها في الشدة والضعف.

فإذن لا بد من علاج ذلك بأحد أمرين:

الأول: أن ترفع اليد عن ظهور تلك الروايات في شرطية تلك الأبعاد ما عداظهورها في شرطية البعد الأول وهو الحد الأدنى منه(1).

الثاني: أن ترفع اليد عن ظهورها في الجميع وحملها على بيان الحكم الترخيصي وهو الكراهة باعتبار أن لها مراتب مختلفة، واختلاف الروايات في تحديد مراتب البعد بينهما يكشف عن اختلاف مراتب الكراهة.

الظاهر هو الثاني، بل هو المتعين لمجموعة من القرائن:

الأولى: أن لازم الفرض الأول هو إلغاء كافة الروايات المتضمنة لاعتبار سائر مراتب البعد بينهما على كثرتها من جهة معارضتها للروايات المتضمنة لاعتبار المرتبة الأولى، ومقتضى القاعدة إلغاؤها نهائياً، وهو في نفسه بعيد، وحملها على الكراهة بحاجة إلى قرينة تدل على التفكيك بينها وبين الروايات المتضمنة للمرتبة الأولى من البعد، فإن كانت القرينة اختلاف تلك الروايات في مراتب البعد فهي قرينة على حمل الجميع على الكراهة لا خصوص تلك الروايات وإن كانت شيئاً آخر فهي غير متوفرة.

الثانية: أن الفرض الأول لا يمكن تطبيقه بالنسبة إلى بعض الروايات كصحيحة زرارة(2) التي هي ناصة في تخيير المكلف في الفصل بينه وبين المرأة بما

ص: 391


1- أقول: هذا ما اختاره السيد الخوئي (قدس سره) كما قدمنا.
2- يعني بها الرواية الرابعة من الصنف الثاني.

لا يتخطى أو قدر عظم الذراع فصاعداً، وذلك لاستحالة تقييد شرطية الفصل بينهما بأحد البعدين على نحو التخيير، فإذن يكون نص الصحيحة قرينة على أن مدلولها حكم ترخيصي لا إلزامي.

الثالثة: أن صحيحة الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: (إنما سميت بكة لأنه تبك فيها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك ومعك ولا بأس بذلك وإنما يكره في سائر البلدان) تدل بوضوح على أن المراد من الكراهة فيها إنما هي في مقابل الحكم الإلزامي، بداهة أنه لو كان المراد منها الحرمة لم يكن فرق بين مكة وغيرها، إذ لا يحتمل أن يكون الفصل بينهما بقدر شبر أو أكثر شرطاً في سائر البلدان دون مكة.

فإذن لا محالة يكون المراد الفصل من الكراهة الحكم الترخيصي واختلاف مكة مع سائر البلدان إنما هو في ذلك، فإن صلاة المرأة عن يمين الرجل أو يساره أو أمامه وإن لم يكن بينهما بمقدار شبر لم تكن مكروهة فيها، وأما في سائر البلدان فهي مكروهة.

فالنتيجة: إن اختلاف الروايات في مراتب الفصل سعة وضيقاً وطولاً وقصراً بنفسه قرينة على أنها لا تتضمن حكماً إلزامياً بل في مقام بيان الحكم الترخيصي وهو الكراهة))(1).

أقول: اتضح مما تقدم من التقريبات والردود المناقشة في كل كلامه (دام ظله الشريف)ونلخصها بنقاط:-

1- إن المقادير ليست مسوقة لبيان مورد واحد وما ورد لتحديد مقدار تقدم الرجل متقارب عرفاً، ولا يوجد تفاوت فاحش ليلزم من وجوده عدمه كما قال (دام ظله).

2- على ما قربناه لم تبق مشكلة تحتاج إلى علاج، إذ أن التعارض قد حل بعدم المنافاة التي ذكرناها.

ص: 392


1- تعاليق مبسوطة: 3/119-120.

3- القرائن التي ذكرها (دام ظله) لحمل المنع في روايات الطائفة الأولى على الكراهة كلها غير تامة:

أما القرينة الأولى فلوجوه:

أ- أن ما استبعده (دام ظله) هو مقتضى القاعدة - بعد غض النظر عما قلناه في النقطة الأولى - وقد أخذ به السيد الخوئي (قدس سره) وأجروا هذه القاعدة في حساب الكر بالمساحة مع أن التفاوت فاحش أيضاً كما قدمناه.

ب- إن القرينة على حمل ما زاد على الشبر على الكراهة موجودة وهو الجمع بين اشتراط تلك المقادير لرفع المانعية وبين الترخيص فيما زاد عن الشبر الذي هو مفهوم ما دلّ على اشتراط الشبر فيحمل المنع في الزائد عنه على الكراهة.

ج-- إن ما اخترناه من الجمع لا يتضمن إلغاء الروايات المبينة لمقادير البعد لأنها متقاربة وإن اختلفت التعابير ويحمل الأزيد على الاستحباب.

وأما القرينة الثانية:

1- فلأن التخيير ليس في الحد وإنما في كيفية حسابه، فإذا حسب بالرجل كان ما لا يتخطى وإن حسب باليد كان ذراعاً وهي متقاربة عرفاً في النتيجة.

2- ولأنه (دام ظله الشريف) قبل بالتخيير مع تفاوت أكبر بكثير من هذا في مسألة الكر بين تقديري الوزن والحجم فالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) اختار مقدار الكر وزناً (399) كيلو غراماً وبالحجم ( 42) شبراً مكعباً وباعتبار أن متوسط طول الشبر (23) سنتمتراً فإن حجم الكر يساوي (522) لتراً أي (522) كيلو غراماً والتفاوت فاحش كما هو واضح، مع أنهم قالوا أن الكر لو نقص يسيراً عن المقدار المذكور لم تجر عليه أحكام الكرية.

وأما القرينة الثالثة وهي صحيحة الفضيل فلوجوه أيضاً:

1- إننا ناقشنا الاستدلال بها على الكراهة، وإن لفظ (يكره) يستعمل في الأعم من الحرمة والكراهة المصطلحة ويتعين هنا بالحرمة.

2- القرينة التي جعلها (دام ظله) بديهة لتعين المعنى بالثاني غير تامة إذ

ص: 393

احتمال الفرق في الحكم بين مكة وغيرها محتمل بل وارد لشدة الازدحام في الحرم المكي فيوجب الإلزام بهذا الحكم حرجاً على المكلفين فاقتضى التخفيف عنهم، والأحكام تعبدية تؤخذ من الأدلة.

3- لم يفسر لنا الفرق بين قبوله التفريق بين مكة وغيرها بالكراهة وبين عدم قبوله التفريق بالحرمة.وفي ضوء هذا فإنه لم يتم الدليل الكافي على الجواز مقابل ما استدل به على المنع من المحاذاة التامة لا مطلق المحاذاة.

قول بالتفصيل:

نسب الشهيد الأول في الذكرى إلى الجعفي قولاً ب- ((التفصيل بين ما إذا كان البعد بينهما أقل من عظم الذراع فالمنع، وإن كان بقدره أو أكثر فالكراهة))(1).

واختاره السيد الخوئي (قدس سره) وعلله بأن ((مقتضى الجمع العرفي بينها - أي ما دلّ على كفاية الفصل بشبر- وبين الموثقة بالالتزام بالكراهة إذا كان الفصل عشرة أذرع فما دون، والمنع لو كان أقل من الشبر. وهذا القول وإن كان شاذاً ولم يلتزم به إلا الجعفي كما سبق إلا أن نتيجة الجمع بين الأخبار هو ذلك))(2).

وقد ردّ جمعٌ على قول الجعفي ومنهم صاحب الرياض (قدس سره) بأنه لم ينقل القول بالفصل عن أحد إلا الجعفي وهو قول شاذ، قال (قدس سره): ((ظاهر جمع الإجماع على خلافه حيث ادّعوا عدم القول بالفرق بين القولين المشهورين، مؤذنين بدعوى الإجماع على فساد القول الثالث))(3).

ص: 394


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/105.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/109.
3- رياض المسائل: 3/12.

أقول: هذا لا ينفع في الرد لعدم تمامية الكبرى والصغرى، خصوصاً في المقام حيث الإجماع اجتهادي مستنبط من الروايات.

والصحيح أن يرد عليه بما قلناه من عدم التفريق بين موارد الفصل فإن الشبر والذراع هو الفصل بلحاظ تقدم الرجل أما العشرة أذرع فهي الفصل بلحاظ الجانبين وتقدم المرأة، فالجعفي والسيد الخوئي (قدس سره) مشتركان مع القائلين بالجواز من هذه الناحية.

ولعل هذا الدمج هو الذي دعا القائلين بالجواز إلى الاعتراض عليه وقالوا أنه غير عرفي وحملوه على الكراهة، واعتراضهم في محله إذ أن الفرق بين الشبر والعشرة أذرع فاحش جداً لا يمكن قبول التحديد به عرفاً.

وجوه لدعم القول الأول بالمنع:

يمكن تحصيل عدة وجوه لدعم القول الأول بالمنع مضافاً إلى دلالة روايات الطائفة الأولى وهي:(الأول) وجود نص مفسر يجمع بين الروايات ويبين وجه صدورها فيكون حاكماً عليها وهي موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن الرجل يستقيم له أن يصلي وبين يديه امرأة تصلي؟ قال: لا يصلي حتى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع وإن كانت عن يمينه وعن يساره جعل بينه وبينها مثل ذلك، فإن كانت تصلي خلفه فلا باس وإن كانت تصيب ثوبه، وإن كانت المرأة قاعدة أو نائمة أو قائمة في غير صلاة فلا بأس حيث كانت)(1).

نعم، يكتفي بتقديم الرجل بمقدار شبر للروايات المعتبرة ويحمل ما ورد في الموثقة على الأفضلية.

(الثاني) إننا إذا أخذنا بالمقدار المقبول عرفاً من المنهج الذي نقلناه عن السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في تساقط الروايات الدالة على طهارة

ص: 395


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب7، ح1.

الخمر ونجاستها فإن صحيحة جميل الدالة بالصراحة على الجواز تتساقط مع صحيحة علي بن جعفر في الصنف الرابع الدالة بالصراحة أيضاً على عدم الجواز فتبقى الروايات الكثيرة الأخرى الدالة على عدم الجواز بلا معارض.

(الثالث) وجود ما يشبه المرجح المساوي الذي شرحنا فكرته في مسألة سابقة(1)، وهي الروايات الواردة في صلاة الجماعة وهي على نوعين:

1- ما دلّ على رجوعها عن الإمام ومنها:

أ- صحيحة الفضيل بن يسار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلي المكتوبة بأم علي؟ قال: نعم تكون عن يمينك يكون سجودها بحذاء قدميك)(2).

ب- الموثقة إلى أبن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يؤم المرأة؟ قال: نعم تكون خلفه).

ج-- خبر أبي العباس - من جهة محمد بن سنان- قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤم المرأة في بيته؟ فقال: نعم تقوم وراءه).

بتقريب: أن المأموم حينما يكون واحداً فإنه يصلي إلى جنب الإمام فرجوعها هذا المقدار بلحاظ وجوب تأخر المرأة مطلقاً.

2- ما دلّ على رجوع النساء عن الرجال في صفوف المأمومين ومنها:

أ- صحيحة القاسم بن الوليد قال: (سألته عن الرجل يصلي مع الرجل الواحد معهما النساء، قال: يقوم الرجل إلى جنب الرجل ويتخلفن النساء خلفهما).

ب- صحيحة إبراهيم بن ميمون عن الصادق (عليه السلام): (في الرجل يؤم النساء ليس معهن رجل في الفريضة؟ قال: نعم وإن كان معه صبي فليقم إلى

ص: 396


1- كان ذلك بحسب ترتيب دروس البحث لسماحته في فقه الخلاف: 2/180، ط. الأولى، وفي هذه الطبعة الثانية يكون: 6/285.
2- الروايات الخمسة الأولى تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب 19، ح2-6.

جانبه).

ج-- خبر عبد الله بن مسكان – من جهة محمد بن سنان – عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه: (إذا كان معهن غلمان لم يدركوا أيقومون معهن في الصف أم يتقدمونهن؟ فقال: لا، بل يتقدمونهن وإن كانوا عبيداً)(1).

بتقريب: أن الأوامر في الموارد التي تقبل الصحة والفساد تدل على الشرطية والنواهي تدل على المانعية، خصوصاً وأن الإمام (عليه السلام) تبرع بذكر هذا الحكم والسائل إنما سأل عن أصل الائتمام (كما في صحيحة الحلبي) بل قد أكد وشدد عليه كما في خبر عبد الله بن مسكان. وهذا يناسب الحكم الإلزامي.

ويتمم بعدم القول بالفصل بين صلاة المفرد والجماعة فرجوع النساء عن الرجال لوجوب تاخر المرأة مطلقاً.

(الرابع) ما قلناه من أن التصرف بحمل المحاذاة في روايات الجواز على ما لا ينافي تقدم الرجل بشبر أولى من الجمع بحمل روايات الطائفة الأولى الظاهرة في مانعية المساواة وتقدم المرأة على الكراهة لاستفاضة الروايات المعتبرة الدالة على المنع وعدم بلوغ ما يقابلها القوة الكافية لصرفها، وهم - ومنهم السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)- قد أبوا حمل الروايات الظاهرة في نجاسة الخمر على التنزيه واستحباب الغسل لاستفاضتها مع انها ليست أكثر ولا أوضح دلالة مما في المقام وأن ما يقابلها كان بنفس استفاضتها وأظهر منها دلالة وهنا ليست كذلك.

ومنه يعلم ما في النتيجة التي خرج بها صاحب الرياض (قدس سره) وغيره بقوله: ((وبالجملة: فهذه النصوص (أي الدالة على الجواز) - مع صحة أكثرها، واستفاضتها، واعتضادها بالشهرة العظيمة المتأخرة القريبة من

ص: 397


1- هذه الرواية والتي تليها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب 23، ح3، 9.

الإجماع، بل هي إجماع في الحقيقة- واضحة الدلالة على نفي الحرمة، وإثبات الكراهة ولو مختلفة المراتب ضعفاً وقوة، ومع ذلك معتضدة بأصالة البراءة، والإطلاقات، بل استدل بهما أيضاً جلّ الطائفة.

ولا ريب أنها أرجح بالإضافة إلى الأدلة السابقة، ومع قصور أكثر أخبارها سنداً ودلالة، وقبولها الحمل على الكراهة دون هذه الأدلة، إذ لا تقبل أكثرها الحمل على شيء يجمع به بينها وبين تلك، مع مراعاة عدم القائل بالفرق (أي بالفصل) بين الطائفة، الظاهر المصرح به في كلام جماعة كما عرفت، فالعمل بتلك يوجب ترك هذه بالمرة، ولا كذلك بالعكس، لقبولها الحمل على الكراهة دون هذه))(1).

فالرأي المختار ما استنتجناه سابقاً وهو ليس قولاً بالفصل بل هو قول بالمنع كالقول الأول إلا أنه يلتزم المنع برجوع المرأة مقدار شبر وليس من الضروري تأخر مسجدها عن موقفه إذ القائلون بالمنع من المحاذاة التامة اختلفوا فيما يرتفع به المنع من كفاية رجوعها شبراً وهو ما اخترناه واختاره صاحب الحدائق (قدس سره): ((بلقد يظهر من المحكي عن المنتهى أنه من المجمع عليه، حيث أنه بعد أن حكى الإجماع على صحة صلاتيهما مع الحائل والأذرع قال: (وكذا لو صلت متأخرة عنهم ولو بشبر أو قدر مسقط الجسد)) واختار المحقق في الشرائع والشهيد الأول في اللمعة سقوط المنع بما ((لو كانت وراءه بقدر ما يكون موضع سجودها محاذياً لقدمه)).

لذا قلنا في الرسالة العملية: ((الأحوط عدم تقدم المرأة على الرجل في الصلاة أو محاذاتهما مع الاختيار بل يتقدم الرجل في مسجده ولو شبراً على الأقل على مسجد المرأة، والأحوط استحباباً أن يتقدم موقفه على مسجدها ولو يسيراً أو يكون بينهما حائل أو مسافة عشرة اذرع بذراع اليد، نعم، يختص ذلك بصورة وحدة المكان بحيث يصدق التقدم والمحاذاة، فإذا كان أحدهما في موضع

ص: 398


1- رياض المسائل: 3/260.

عال دون الآخر، على وجه لا يصدق التقدم والمحاذاة فلا بأس، والمنع هذا مختص بحال الاختيار وأما في حال الاضطرار فلا منع، وكذا عند الزحام بمكة المكرمة)) (1).

فروع

(الأول) يرتفع المنع بأمور:-

1- تقدم الرجل في مسجده على مسجد المرأة ولو بشبر بحيث يكون سجودها مع ركوعه وركبتيه ويتقدمها بصدره والأفضل تأخرها بتمام جسمها حتى لو أصابت بسجودها ثوبه وقد دلت عليه الروايات المتقدمة.

2- البعد عشرة أذرع مع تحقق المحاذاة التامة أو تقدم المرأة.

واستدل عليه بالإجماع وبالروايات، ونوقش الإجماع المحقق نقلاً وتحصيلاً من جهة احتمال كونه مدركياً، لذا قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وهذا - أي الحكم بالعشرة - إن قام عليه إجماع تعبدي فهو المستند))(2)، أما الروايات فمنحصرة في خبرين (أحدهما) رواية علي بن جعفر (الخامسة من الصنف الثالث) و (ثانيهما) موثقة عمار (الأول من الصنف الثاني) والأولى وردت في قرب الإسناد وسندها ضعيف بعبد الله بن الحسن ولم يعلم ورودها في كتاب علي بن جعفر ليصحح السند، والثانية فيها (أكثر من عشرة أذرع) وتمم صاحب الجواهر (قدس سره) دلالتها بقوله: ((يمكن حمل الأكثر على إرادة العشرة فأكثر على حد قوله تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ»(النساء: 12) ))(3).

وسبقه إلى هذا المعنى صاحب الحدائق (قدس سره) لكنه وصف هذا

ص: 399


1- سبل السلام، العبادات، المسألة (674) الطبعة الخامسة.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/113.
3- جواهر الكلام: 8/322.

الاستظهاربأنه ((غريب غير مأنوس من كلامهم))(1) وقال (قدس سره) مثله في عدم العفو عن مقدار الدرهم من الدم على بدن ولباس المصلي إلحاقاً بالنص الدال على عدم العفو عما زاد عن الدرهم والعفو عما دونه واستشهد بنفس الآية وفهم منها «اثنتين فما فوق»(2).

وفيه: أن الآية بمفردها لا تفيد ذلك وإنما بضميمة القرائن كمقابلة الحكم لحكم البنت الواحدة ومن البعيد عدم تعرض الآية لحكم البنتين، وكذا في الموارد الأخرى كمرسلة يونس عن الصادق (عليه السلام): (سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم، قال: أيما مكارٍ أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من مقام عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام أبداً، وإن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير والإفطار)(3) لظهور أن المراد عشرة فأكثر بمقتضى المقابلة، فإن كان المقام منه فهو، وإلا فيتمم بأن (الأكثر من عشرة) تصدق على العشرة أذرع وأصبع، وهو لا يفترق عن العشرة لتسامح العرف فيه، فثبت بذلك ارتفاع المنع بالعشرة.

3- وجود الحائل وإن كان قصيراً لخبر علي بن جعفر، ولا يشترط أن يكون ساتراً يحجب الرؤية لصحيحة علي بن جعفر وخبره (الثالث والرابع من الصنف الثالث) وإطلاق صحيحة محمد بن مسلم (إذا كان بينهما حاجز فلا بأس) وهي الثانية من نفس الصنف.

و((صرح شيخنا الشهيد الثاني بأنه يعتبر في الحائل أن يكون مانعاً من الرؤية وهو ظاهر كلام سبطه السيد السند في المدارك أيضاً حيث قال: ويعتبر فيه كونه جسماً كالحائط والستر))(4).

أقول:إن كان دليلهم رواية الحلبي (الرابعة من الطائفة الثانية)وفيها:(إلا أن

ص: 400


1- الحدائق الناضرة: 7/193.
2- جواهر الكلام: 6/111.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، ابواب صلاة المسافر، باب12، ح1.
4- الحدائق الناضرة: 7/189.

يكون بينهما ستر) فإنها لا تصلح للتقييد لعدم تماميتها سنداً ودلالة، أما السند فلأن ابن إدريس نقلها في مستطرفات السرائر عن نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر عن المفضل عن الحلبي، والمفضل مشترك بل هو متعين هنا بابن صالح المجمع على تضعيفه لأنه الوارد فيمن روى عنهم ابن أبي نصر، وضعفها السيد الخوئي (قدس سره) أيضاً من جهة ((ضعف طريق ابن إدريس إلى النوادر))(1)

ولا نعلم له وجهاً فقد نقل (قدس سره) عن الشيخ الحر في تذكرة المتبحرين قوله في ابن إدريس: ((وقد أثنى عليه علماؤنا المتأخرون، واعتمدوا على كتابه، وعلى ما رواه في آخره من كتبالمتقدمين وأصولهم))(2) نعم يوجد في الروايات تخليط كما في ما استطرفه من كتاب أبان بن تغلب حيث ذكر في سند أبان من هو متأخر عن حياة الإمام الصادق (عليه السلام) بطبقة أو طبقتين ووفاة أبان كانت في حياة الإمام الصادق (عليه السلام) ونحوها من الموارد التي لا تكون نتيجتها ما قاله سديد الدين محمود الحمصي: ((أن ابن إدريس مخلط، لا يعتمد على تصنيفه)) بل النتيجة ترك ما يوجد دليل على خلافه. واعترف السيد الخوئي (قدس سره) بعد التضعيف المتقدم أنه كان فيما سبق يروي عنه ويأخذ به.

وأما دلالةً فلوجهين:

أ- إن الرواية لا يظهر منها أنها بصدد الحصر حتى تفيد التقييد وإنما هي بصدد بيان بعض مصاديق ما يرتفع به المنع كما هو واضح.

ب- إن الرواية متحدة مضموناً مع صحيحة محمد بن مسلم وفيها (شبر) وليس (ستر) فلا يبعد التصحيف من النساخ، بل إن نسخة السرائر المطبوعة فيها (شبر)(3) أيضاً.

ص: 401


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/113.
2- معجم رجال الحديث: 15/17.
3- السرائر: 3/596.

4- عدم صدق المحاذاة والتقدم عرفاً كما لو اختلف المكانان من حيث العلو والانخفاض، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وقد أغفل من تقدم على الشهيد من الأصحاب التعرض للفوقية والتحتية، قال (قدس سره) عند ذكر موثق عمار: (من هنا وقع الشك في الفوقية والتحتية) قلت: من اختصاص اشتراط البعد بالجهات الثلاث، ومن اختصاص نفي البأس بالخلف، فيتدافع المفهومان، وقال عند قول الباقر (عليه السلام): (لا تصلي المرأة بحيال الرجل إلا أن يكون قدامها ولو بصدره): (أنه يظهر من فحواه المنع من الجهتين)، قلت: لا يخفى عليك ظهور الفتاوى ومعاقد الإجماعات في أن المانع المحاذاة والتقدم، لا أن الشرط كونها خلفه، بل الظاهر أن تعرض النصوص لذلك، ولا إيماء في شيء منها إلى الفوقية والتحتية، والرجوع إلى بعض إطلاقاتها كأنه من الرجوع إلى ما علم عدم إرادته من الإطلاق))(1)، وجوابه (قدس سره) صحيح فإن المحاذاة التامة مانع وليس التقدم شرطاً ومع عدم وحدة المكان عرفاً لا تصدق المحاذاة والروايات منصرفة عن الفوقية والتحتية فلا يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات وجوب التقدم.

(الثاني) لا فرق في الحكم المذكور بين المحارم وغيرها والزوج والزوجة وغيرهما لإطلاق عدد من الروايات، وذكر الزوجة والبنت في بعضها لا يقيدها.(الثالث) هل يشترط في جريان الحكم صحة صلاة الآخر لولا المحاذاة فلو كانت فاسدة في نفسها لم يترتب الحكم؟ اختاره العلامة والشهيدان وصاحب المدارك ونسب إلى الأكثر، قال فخر المحققين: ((والأقرب اشتراط صحة صلاة المرأة لولاه في بطلان الصلاتين))(2)

واختار النراقي (قدس سره) في المستند(3)

والسيد الخوئي (قدس سره) عدم الاشتراط ((لأنها – أي لفظ الصلاة وغيره من

ص: 402


1- جواهر الكلام: 8/323.
2- إيضاح الفوائد: 1/91.
3- مستند الشيعة: 4/419.

ألفاظ العبادات - أسامٍ للجامع بين الصحيح والفاسد))(1) ثم قال: ((فالإنصاف عدم الفرق بين الصلاة الصحيحة والفاسدة في ترتب الأثر لو لم يقم إجماع على الاختصاص بالأولى، على أنه لو كان فهو معلوم المدرك أو محتمله فلا يكون تعبدياً، فالأقوى شمول الحكم لهما، مع فرض صدق الصلاة عليه بألا يكون الفساد من جهة فقد الأركان المقومة لصدق اسم الصلاة كالطهارة أو الركوع والسجود)).

والصحيح هو الاشتراط لأن الألفاظ موضوعة للصحيح لا للأعم منه ومن الفاسد لصحة السلب عن الفاسد وعدم صحة الحمل وإنما يصح إطلاقها على الأعم أحياناً من باب المشاكلة لوحدة الصورة الظاهرية أو لخصوصية في بعض الألفاظ تقتضي صحة إطلاقها على الأعم، ولو سلمت صحة إطلاقها على الاعم فإن ما ورد منها موضوعاً للحكم الشرعي يراد به الصحيح نظير قوله (عليه السلام): (دعي الصلاة أيام أقرائك)(2)، فلا يشمل المنع ما لو صلت مجاراة لأطفالها أو لتدريبهم.

وذكر صاحب الجواهر (قدس سره) تفريعاً فيما ((لو حدث الفساد فيه بعروض مبطل في الأثناء ففي البطلان وعدمه وجهان ينشآن من أنه كالمنكشف فساده بالآخرة ومن تحقق الحكم بالمحاذاة واقعاً قبل عروض المفسد، وهو كافٍ في حصول الفساد، لعدم الدليل على اعتبار الإتمام صحيحة لولا المحاذاة في مانعية المحاذاة، بل ظاهر الأدلة خلافه، وأن المدار على تحقق المحاذاة ولو في بعض صلاة صحيحة لولا المحاذاة، وهو الأقوى))(3).

أقول: ما قواه (قدس سره) هو الصحيح ولكن الأولى الاستدلال له بعدم تأتي قصد القربة من المصلي الأول بعد علمه بالمحاذاة في صلاة صحيحة فتبطل

ص: 403


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/115.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب الحيض، باب 7، ح2.
3- جواهر الكلام: 8/315.

صلاته.

(الرابع) يختص الحكم بالبالغين فلا يشمل ما لو كان الولد صبياً أو البنت صبية لورود لفظ (الرجل) و (المرأة) في النصوص وهما يطلقان على البالغين.

وذهب السيد صاحب العروة (قدس سره) إلى تعميم الحكم لغير البالغين واستدلله السيد الخوئي (قدس سره)- الذي قوّى الأول ووصفه بالمشهور- بأحد أمرين:

1- ((دعوى أن التعبير بالرجل والمرأة كناية عن مطلق الذكر والأنثى من غير خصوصية للبلوغ كما ادعى مثل ذلك في موارد: منها تحريم بنت الموطوء وأمه وأخته فيما لو وطأ رجل غلاماً فأوقبه، حيث حكموا بعدم اختصاص الحكم بها إذا كان الواطىء بالغاً والموطوء صبياً بل تنشر الحرمة حتى فيما إذا كانا بالغين أو صبيين))(1) وهي دعوى غير تامة وقد قلنا بالاختصاص في تلك المسألة كما تقدم(2) وشرحنا وجه اشتباههم ومنه الاعتماد على ما في الصحاح من أن الرجل يطلق على الذكر من الناس فكأنهم تمسكوا بإطلاقه، والحال هو مجمل من هذه الناحية لأنه بصدد بيان تمييزه عن ذكر غير الإنسان فلا يسمى رجلاً.

2- ((دعوى أن الأحكام المتعلقة بغير البالغين تفهم مما ثبت في حق البالغين حيث يظهر من مثل قوله (عليه السلام): (مروا صبيانكم بالصلاة)(3) الاتحاد في تمام الخصوصيات، وأن الطبيعة هي تلك الطبيعة ما لم ينهض دليل على الخلاف، إذن فكل ما يعتبر في صلاة البالغين من الأجزاء والشرائط والموانع التي منها قادحية المحاذاة بين الرجل والمرأة في الموقف معتبر في الصلاة المطلوبة استحباباً من غير البالغين بمقتضى الإطلاق المقامي)).

ص: 404


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/120.
2- فقه الخلاف، المجلد الأول، المسألة التاسعة، ط. الأولى، و 6/179، ط. الثانية.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، باب3، ح5.

وسبقه السيد الحكيم (قدس سره) فجعل ذلك مقتضى الإطلاق المقامي وبينه بقوله: ((إن مقتضى الإطلاق المقامي لدليل تشريع عبادة الصبي مع عدم بيان كيفية عبادته الاعتماد على بيانها للبالغ، فالعبادة المشروعة لغيره هي العبادة المشروعة له إلا أن يقوم دليل على الخلاف، وحيث لا دليل في المقام على الخلاف يتعين البناء على العموم))(1).

وهذا الإطلاق صحيح فيما ورد بعنوان المصلي والصلاة، أما ما ورد بعنوان الرجل والمرأة - كالمقام- فهو خاص بهما من أول الأمر ولا يعمم إلى غيره إلا بدليل وبتعبير آخر إن أحكام البالغين لا تثبت تلقائياً للصبيان إلا أن يقتضيها نفس دليل حكم البالغين كشرطية الطهارة باعتبارها مقومة لماهية الصلاة أو أن الحكم تعلق بعنوان الصلاة والمصلي مطلقاً فيشمل حتى غير البالغين أو يلحقهم دليل خاص والمقام ليس منها إذ الحكم متعلق بعنوان الرجل والمرأة المصليين.

لكن السيد الخوئي (قدس سره) لم يتضايق – حسب تعبيره – من قبولها في الموارد التي يقتضيها وهي بطلان ((صلاة الصبي بمحاذاة صلاة المرأة وكذا الصبيةبمحاذاة صلاة الرجل)) ((وأما بطلان صلاة الرجل بمحاذاة صلاة الصبية أو صلاة المرأة بمحاذاة صلاة الصبي، أو كل من الصبي والصبية بمحاذاة صلاة الآخر، فلا يكاد يقتضيه الاتحاد المزبور بوجه، ضرورة أن مانعية محاذاة الصبي أو الصبية لصلاة البالغ غير ثابتة فإنها عين الدعوى)).

وفيه: أنه خلاف الاختصاص الذي قواه، لأن المنع من أصل المحاذاة وما دام قد اختص بالبالغين فلا يتعدى إلى كل الصور التي ذكرها، أما تنوع الصور فهو أمر تفرع على حكم آخر وهو أن البطلان هل يتعلق بصلاتهما معاً أم بخصوص صلاة المتأخر.

أقول: يحتمل إضافة دليل ثالث على التعميم من تعليله (قدس سره) شمول غير

ص: 405


1- مستمسك العروة الوثقى: 5/480.

البالغين بأنه (بناءً على المختار من صحة عبادات الصبي والصبية) وتنضم إليها مقدمة أخرى اختارها قبل ذلك وهي أن (المدار على الصلاة الصحيحة لولا المحاذاة أو التقدم دون الفاسدة لفقد شرط أو وجود مانع) فتتكون مقدمتان:

أ- الصلاة الصحيحة للمرأة والرجل متحاذيين سبب للبطلان.

ب- صلاة الصبي والصبية صحيحة، فصلاتهما مبطلة.

وفيه: أننا نمنع المقدمة الأولى فصحة الصلاة شرط لتحقق الحكم بالبطلان وليس سبباً له.

والأولى من كل ذلك الاستدلال بإطلاق كلمة (ابنته) في صحيحة محمد بن مسلم (الخامسة من الطائفة الثانية) لتشمل غير البالغة وفيه:

1- إن الإطلاق غير تام لأن الإمام (عليه السلام) ليس في مقام البيان من هذه الناحية وإنما من ناحية التفريق في الحكم بين المحارم وغيرهن كما هو الظاهر من ارتكاز السائل.

2- إنه لا يحل كل المشكلة فإنه يتكفل بحالة كون البنت صغيرة فقط.

(الخامس) هل الحكم يختص بصلاة اللاحق أم يعمهما؟

اختار صاحب العروة (قدس سره) اختصاص الحكم – كراهة أو حرمة – (بمن شرع في الصلاة لاحقاً إذا كانا مختلفين في الشروع، ومع تقارنهما تعمهما) ونسب إلى ((جماعة الجزم به، أو الميل إليه، ومنهم الشهيدان والمحقق الثاني وابن فهد وسيد المدارك وكاشف اللثام))(1)، وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((لكن الأقوى خلافه فيعم الحكم السابق كاللاحق كما عن جمع آخرين بل المشهور على ما ادعاه بعضهم، بل في الحدائق وعن جامع المقاصد نسبته إلى إطلاق كلام الأصحاب))(2)

وحكي عن الشهيد (قدس سره) قوله في الذكرى: ((ولو سبقت إحداهما أمكن بطلان الثانية لا غير، لسبق انعقاد الثانية، ويحتمل

ص: 406


1- مستمسك العروة الوثقى: 5/475، وجواهر الكلام: 8/318.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/116.

بطلانهما معاً، لتحقق الاجتماع في الموقف المنهيعنه))(1)، وذكر السيد الحكيم (قدس سره) عدة وجوه يستدل بها على الاختصاص وهي:

1- ((استبعاد بطلان الصلاة التي انعقدت صحيحة بفعل الغير)).

2- ((إن المتأخرة مختصة بالنهي المقتضي للفساد، ومع عدم انعقادها فكيف تبطل بها صلاة انعقدت؟ ولا كذلك مع الاقتران، لعدم الأولوية هنا بخلافه ثمة. كذا ذكر في جامع المقاصد)).

3- ((إن المتأخرة ليست بصلاة لبطلانها بالمحاذاة، فلا تصلح لإبطال السابقة. فإن قلت: الفساد الناشئ من قبل هذا الحكم لا يعقل أن يكون مانعاً من تحقق موضوعه كما في نهي الحائض عن الصلاة، إذ ليس موضوعه إلا الصلاة الصحيحة من غير جهة مانعية الحيض، ولو أريد الصلاة الصحيحة حتى من جهة المحاذاة امتنع البطلان في صورة الاقتران.

قلنا: إنما يصار إلى التأويل المذكور بالنسبة إلى الصلاة الواقعة في حيز المنع بقرينة عقلية كما في صلاة الحائض، وكذا في صورة الاقتران، لا بالنسبة إلى الصلاة اللاحقة، إذ لا مانع عقلاً من أن يراد من قوله (عليه السلام): (وامرأته تصلي بحذائه) الصحيحة المبرئة لذمتها، فيجوز أن يصرح الشارع بأن يشترط في صحة صلاة الرجل أن لا تصلي امرأته بحذائه صلاة صحيحة مبرئة لذمتها من جميع الجهات كما أشار إلى ذلك في مصباح الفقيه)).

4- ((صحيح علي بن جعفر)) وهو المذكور في الصنف الرابع.

وردها (قدس سره) جميعاً فقال عن الأول: ((إن الاستبعاد المحض لا يصلح لإثبات الحكم الشرعي))، وعن الثاني: ((إن النهي لا يختص بالأخيرة)) وعن الثالث: ((إن دليل المانعية المحاذاة إما أن يكون المراد منه المحاذاة في الصلاة الصحيحة من غير جهة المحاذاة، أو حتى من جهة المحاذاة، فعلى الأول: لا فرق بين صورتي الاقتران والترتيب في البطلان بالنسبة إليهما، وعلى الثاني: لا فرق

ص: 407


1- مستمسك العروة الوثقى: 5/477.

بينهما في عدمه كذلك، وحيث يمتنع الثاني يتعين الأول، واستفادة الأول منه في صورة الاقتران والثاني في صورة الترتيب غير ممكن. ومثل ذلك دعوى اختصاص النصوص بصورة الاقتران، إذ فيها – مع أنها خلاف الإطلاق – أن صورة الاقتران نادرة جداً فكيف يدعي اختصاص النصوص بها؟ فالعمل بالإطلاق متعين)).

وأجاب عن الرابع بقوله (قدس سره): ((وأما صحيح ابن جعفر (عليه السلام) فقد عرفت إجماله وتكثّر محتملاته)).

أقول: جوابه (قدس سره) عن الأول صحيح، والدليل الثالث غير تام في نفسه أيضاً للإشكال الذي ذكره ضمن الاستدلال لكن جوابه (قدس سره) عن الثاني ليس كافياً.

أما صحيح علي بن جعفر فيصلح للاستدلال به على اختصاص الحكم باللاحق لأن المحتملات به وأن كانت عديدة إلا أننا ناقشناها ورجحنا أن سبب إعادة الصلاةمحاذاتها للإمام وتقدمها على الرجال وهو المرتكز في ذهن السائل بدليل سؤاله عن صلاة القوم، أما المحتملات الأخرى فلا علاقة لها بصلاتهم، والإمام (عليه السلام) أوجب إعادة صلاتها فقط دونهم لأنها اللاحقة.

وحاول السيد الخوئي (قدس سره) التخلص من هذا التقريب للاستدلال بالصحيحة فقال ما نصه أن ((الحكم بصحة صلاتهم مطلقاً من حيث البعد وكمية الفصل، ومن البعيد جداً أن تقف المرأة متصلة بالرجل خصوصاً على ما في بعض نسخ الرواية من ذكر (فقامت امرأة) بدل (فقامت امرأته) الشامل للأجنبية، إذن فلا بد من تنزيلها على ما تقتضيه طبيعة الحال من كون الفصل أكثر من الشبر، فتصح صلاة القوم حينئذٍ لفقد المحاذاة القادحة، وهذا وإن استوجب صحة صلاة المرأة أيضاً من هذه الناحية، إلا أنه يمكن أن يكون فسادها لجهة أخرى غير المحاذاة حسب ما ذكرناه آنفاً، بل لا مناص من ذلك

ص: 408

بمقتضى افتراض وقوفها بحيال الإمام))(1).

أقول: هذا كلام مضطرب وقابل للمناقشة من وجوه:

1- إن التمسك بإطلاق صحة صلاة القوم ينتج عكس مطلوبه إذ أنه يشمل حالة عدم وجود شبر بينهما وحينئذٍ فتكون المحاذاة هي سبب البطلان.

2- إن كفاية الشبر من الجانب لرفع الحكم بالبطلان شيء انفرد به هو والجعفي والإجماع قائم على بطلانه وتقدمت مناقشته.

3- لما قرّب (قدس سره) عدم تحقق المحاذاة المبطلة افترض البطلان لاحتمال آخر ذكره (قدس سره) سابقاً وهو ((عدم تأخرها عن الإمام لقيامها بحياله، ويعتبر في صحة الجماعة تأخرها عنه)) لكن هذا الاحتمال مبطل لجماعتها لا لأصل صلاتها، فلماذا أوجب الإمام (عليه السلام) عليها الإعادة؟

4- إن ما ذكره (قدس سره) من اقتضاء طبيعة الحال ابتعادها شبراً استحسان منه، وإلا فهل يقتضي الحال قيامها أصلاً في هذا المكان.

فالصحيح هو اختصاص الحكم باللاحق مع عدم الاقتران وبهما مع اقترانهما لوجوه:

1- صحيحة علي بن جعفر لرجحان التقريب الذي ذكرناه.

2- إن النهي عن المحاذاة في الصلاة ظاهر في عدم جواز الشروع في صلاة مع وجود هذا المانع ففي صحيحة زرارة أو مرسلة جميل (في الصنف الأول) يكون معنى السؤال: هل يجوز للمرأة أن تبدأ بالصلاة والحال هذه، والمورد مثل النهي عن الجمع بين الأختين في النكاح فإنه ظاهر في منع العقد اللاحق أو بطلان صلاة الجمعة إذا لم تحقق مسافة فرسخ عن الأخرى وغيرها.

3- ولو شككنا فإننا نتمسك بإطلاقات ما دلّ على عدم قطع الصلاة بشيء إلا ما قام عليه الدليل والمفروض عدمه، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله

ص: 409


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/119-120.

(عليه السلام) وفيه (لا يقطع صلاة المسلم شيء)(1)

وفي صحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله(عليه السلام) (لا يقطع صلاة المؤمن بشيء)(2) وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يقطع الصلاة شيء لا كلب ولا حمار ولا امرأة)(3)، وموثقة الحسين بن علوان عن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن علي (صلوات الله عليهم أجمعين) وفيها (إن الصلاة لا يقطعها شيء)(4).

(السادس) نسب صاحب الحدائق (قدس سره) إلى الأصحاب تصريحهم: ((بأنهما لو صليا ولم يعلم أحدهما بالآخر إلا بعد الفراغ صحت الصلاتان جميعاً، وأما في الأثناء فإن كلاً منهما يستمر لسبق الانعقاد، وممن صرح بذلك واختاره السيد السند في المدارك، وقال في الذخيرة: ويحتمل قوياً وجوب الإبطال في سعة الوقت إن لم يمكن إزالة المانع بدون المبطل انتهى)) وقوى (قدس سره) هذا الاحتمال لموافقته للقواعد حيث لا توجد نصوص إلا أن له نظائر من نصوص وردت في ((عروض البطلان في أثناء الصلاة كثيرة، ولم يتضمن شيء منها وجوب المضي على ذلك المبطل بل فيها ما يدل على أنه إن أمكن إزالته بما لا يبطل الصلاة وإلا قطع الصلاة كأخبار الرعاف في أثناء الصلاة(5)، ووجود النجاسة في الثوب في الأثناء(6)

ونحو ذلك، وبه يظهر قوة الاحتمال المذكور بل لا يبعد تعينه سيما مع موافقته للاحتياط))(7).

أقول: ما اختاره (قدس سره) هو الصحيح في أصل المسألة وفروعها لأن هذا

ص: 410


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 11، ح8، 9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 11، ح8، 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 11، ح10، 12.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 11، ح10،12.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، باب 2.
6- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 44.
7- الحدائق الناضرة: 7/188.

المانع مشروط بالعلم به كطهارة الثوب والبدن فلا يقدح في صحة الصلاة الجهل بتحققه، والاستمرار بعد العلم به مبطل لها فلابد له من إجراء لإزالته بتقدم الرجل شبراً ونحوه أو قطع الصلاة واستئنافها بدون المانع مع سعة الوقت.

(السابع) لو اجتمع الرجل والمرأة في مكان لا يتمكنان فيه من رفع مانع المحاذاة بالتباعد ونحوه وأرادا الصلاة فإن كان المكان مملوكاً لأحدهما، تعلق الفعل بإذنه، وإلا فيتقدم الرجل استحباباً لصحيح محمد بن مسلم وخبر أبي بصير (الأول الثالث من الصنف الأول) ولا تحمل على الوجوب لصحيحة عبد الله بن أبي يعفور (إلا أن تتقدم هي أو أنت) الظاهرة بل الصريحة في جواز تقدم المرأة.ونقل عن المنتهى ((الإجماع على صحة صلاتهما لو عكست المرأة فصلت أولاً، فما عن الشيخ (رحمه الله) واتباعه من الوجوب تعبداً أو شرطاً لا ريب في ضعفه، ولعله عبر بنحو لفظ الصحيح المزبور، فيمكن حمله حينئذٍ على الندب))(1).

أقول: لا بأس بالقول للتسامح بأدلة السنن وإلا فإنه قد يناقش في استظهاره من صحيحة ابن مسلم لاحتمال أن الإمام (عليه السلام) بصدد بيان مصداق لما يرتفع به المنع فذكر (عليه السلام) ما ينصرف إليه الذهن عرفاً وليس بصدد الترتيب، وهذا ما توضحه صحيحة ابن أبي يعفور.

((ولو كان الوقت ضيقاً سقط الوجوب والندب كما صرح به جماعة، بل ربما نسب إلى الأكثر بل إلى الأصحاب، لكن أشكله الكركي بما حاصله أن التحاذي إن كان مانعاً من الصحة منع مطلقاً، لعدم الدليل على الإبطال بموضع دون موضع، إذ النص والفتوى عامان، وحينئذٍ فعلى الحرمة إن كان المكان لأحدهما اختص به، ولا يجوز إيثار الآخر به، وإن كان لهما أو استويا فيه أمكن

ص: 411


1- جواهر الكلام: 8/327.

القول بالقرعة، فيصلي من خرج أسمه ويقضي الآخر))(1).

وفيه:-

1- إن الصلاة لا تسقط بحال مهما كانت أهمية الشرط المفقود حتى الطهور أو إباحة المكان.

2- إن المحاذاة مانعة في ظرف الاختيار والإمكان كطهارة البدن والثياب فلا يقدح حصولها جهلاً أو اضطراراً.

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره) جواباً بالاستناد إلى صحيحة الفضيل (الثالثة من الطائفة الثانية): ((بناءً على تنزيله على حال الضرورة)) وهو من تنقيح المناط وإلا فإن الحكم جارٍ في مكة حتى مع عدم الحرج أو الضرورة.

ص: 412


1- جواهر الكلام: 8/328.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.