فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية: فقه الإنجاب الصناعي المجلد 12

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف

بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء الثاني عشر

فقه الإنجاب الصناعي

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف -1441 ه_/2020م

ص: 2

هذا الكتاب

هو أحد أجزاء موسوعة (فقه الخلاف) التي تضم محاضرات البحث الخارج في الفقه التي يلقيها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) على أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

ويضم الكتاب مجموعة محاضرات البحث في أحكام المعالجات المعروفة لظاهرة العقم من أجل تحقيق الإنجاب وتشمل عملية التلقيح الصناعي وعملية زرع الأعضاء التناسلية.

وقد استغرق البحث ( 58 ) محاضرة ابتدأت يوم 6/ شوال/ 1440 الموافق 2019/6/10 وتخلّلتها محاضرات قرآنية وأخلاقية في خضم أحداث سياسية وصحّيّة واجتماعية عصيبة لا تخفى على المتابع.

والله ولي التوفيق.

ص: 3

بسمه تعالى

تقسيم البحث

توجد طريقتان لمعالجة العقم وهما: التلقيح الصناعي وزرع الأعضاء التناسلية، لذا فإن البحث يتضمن قسمين:

القسم الأول: التلقيح الصناعي

القسم الثاني: زرع الأعضاء التناسلية

وتوجد طريقة ثالثة وهي زرع خلايا نسيجية في بدن المريض لتنمو وتولّد عضواً جديداً بدل العضو التالف وسنشير إليها عرضاً إن شاء الله تعالى.

يتوزع القسم الأول على ثلاثة أبواب:

الباب الأول: مطالب تمهيدية وأساسية

الباب الثاني: صور عملية التلقيح الصناعي وأحكامها

الباب الثالث: مسائل لاحقة لعملية التلقيح الصناعي

وألحقناهما ببحث في ضمان الطبيب لأن العملية قد يحصل فيها تلف لبعض الأعضاء أو وفاة.

ص: 4

القسم الأول: أحكام التلقيح الصناعي

اشارة

ص: 5

ص: 6

الباب الأول: مطالب تمهيدية للبحث في أحكام عملية التلقيح الصناعي

مقدمة

يُبتلى بعض الأزواج بالعقم وعدم القدرة على الإنجاب لسبب أو لآخر في أحد الزوجين أو كليهما مما يؤدي إلى الوقوع في ضيق نفسي وحرج اجتماعي يصعب على بعضهم تحمّله، ويصبر بعضٌ آخر احتساباً للأجر «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر :10).

وقد منّ الله تبارك وتعالى على عباده بوجود عقول مبدعة تشخّص مشاكل البشرية وتحلّلها وتقوم بتجارب مضنية حتى تضع الحلول لها مما يخفّف من معاناتها وآلامها، وقد أثبتت التجارب نجاح التلقيح الصناعي في معالجة العقم.

ويراد بالتلقيح الصناعي عملية إنتاج نطفة مخصّبة تكون مشروعاً لولادة إنسان جديد من غير الطريق الطبيعي المتعارف وهو الاتصال الجنسي المباشر، وتوجد اليوم عدة طرق للتلقيح الصناعي يجري الأطباء منها ما يناسب حال المريض.

وقد تجري العملية من أجل تحصيل جنس محدد كالذكر أو الأنثى حيث تجري عملية فرز الحيامن المنتجة لجنس محدد في أجهزة خاصة ونحو ذلك.

والبحث محاولة لاستنباط الحكم الشرعي لكل من هذه الطرق.

وقد يكون الهدف من العملية - عند من ليس لهم رادع من دين أو فطرة- تحسين النسل بتخصيب البيضة بحيمن من سلالة راقية حسب ما يتصورون كما كان يفعل بعض العرب في الجاهلية -على بعض النقول التأريخية- حيث عرف عندهم ما يسمى ب_((نكاح الاستبضاع)) وهو أن يقول الرجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسُّها أبداً حتى يتبيّن

ص: 7

حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد وهو أحد طرق النكاح الأربع التي عُرفت في الجاهلية(1).

وكان بعضهم يقدّم جاريته لاستمتاع أصحاب القوة والنفوذ حتى تلد له رجالاً أشداء يمكن أن ينتفع بهم أو يبيعهم بثمن كبير(2).

إن استنباط الأحكام الشرعية لصور التلقيح الصناعي وتمييز الحلال عن الحرام فيها يضبط هذه العملية في قنواتها المشروعة أما إطلاقها من دون مراعاة ضوابط فإنه يؤدي إلى مشاكل اجتماعية كبرى منها:-

1- تضييع الأنساب وازدياد أعداد الذين لا نسب لهم(3).

2- الإنجاب من المحارم.

3- تهديم الأواصر الاجتماعية والإعراض عن الزواج.

4- تشجيع الشذوذ الجنسي.

5- انتشار الأمراض الجنسية كالأيدز والتهاب الكبد الفايروسي عندما لا يكون صاحب الحيمن أو صاحبة البويضة معروفين.

ولا شك في أن المسألة مستحدثة لأن موضوعها لم يكن في زمان المعصومين (عليهم السلام) فلا يوجد نص خاص ينطبق عليها، وإنما يقوم الفقهاء باستنباط حكمها من العمومات والإطلاقات والأصول والقواعد امتثالاً لقول الإمام الصادق

ص: 8


1- السنن الكبرى للبيهقي: 7/110.
2- المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام: 5/538.
3- بحسب إحصائيات هيئة الخصوبة البشرية وعلم الأجنّة في بريطانيا فإن عدد المتعقبين لأنسابهم على الإنترنت وصل عام 2019 إلى 30 مليون بعد أن سمح القانون عام 2005 للأطفال بأن يتوصلوا إلى معلومات تفصيلية عن أنسابهم بمجرد بلوغهم سن الثامنة عشرة عبر مواقع إلكترونية خاصة بتعقب الأنساب بعد أن كان المتبرعون بالحيوانات المنوية يتكتمون على هوياتهم، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 100 مليون في عام 2021.

(عليه السلام): (إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)(1) وقول الإمام الرضا (عليه السلام): (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع).

ولا نتوقع وجود مانع ذاتي من معالجة العقم كأي حالة مرضية حيث وردت الأحاديث في مراجعة الأطباء وأخذ العلاج طلباً للاستشفاء وأنه لا ينافي التوكل على الله تعالى وتفويض الأمور إليه سبحانه، ومن ذلك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): (إن الله تعالى أنزل الداء والدواء وجعل لكل داءٍ دواءً فتداووا ولا تداووا بالحرام)(2).

نعم أثار بعض علماء العامة إشكالات على العملية، فقيل(3)

إنها تخالف قوله تعالى: «نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ» (البقرة:223) فلا بد أن يحصل التلقيح بالاتصال الطبيعي المباشر، وقيل(4)

إنها لا تتفق مع قوله تعالى: «خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ» (الطارق : 6) وقوله تعالى: «فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ» (المرسلات : 21) حيث لا يوجد ماء دافق ولا قرار مكين في عملية التلقيح الصناعي.وقيل إن في إجرائها مخالفة للمشيئة الإلهية؛ لأن الله تعالى يقول: «وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً» (الشورى:50)، ولا يخفى ما في هذا التفكير من سذاجة؛ لأن السعي للعلاج والتداوي موافق للمشيئة الإلهية وقد رخّص الشارع المقدس به بل أوجبه في بعض الموارد وجعل الشفاء عن طريقه، وستأتي (صفحة 286) جملة من الروايات في ذلك.

وعلى أي حال فإننا نمهّد للبحث ببيان عدة مطالب أساسية أو أنها مشتركة بين الطرق لتجنب التكرار.

ص: 9


1- الحديثان تجدهما في وسائل الشيعة: 27/61، أبواب صفات القاضي، باب 6، ح 51، 52.
2- كتاب المجموع للنووي: 5/106، ط. دار الفكر.
3- الشيخ رجب بيوض التميمي في أطفال الأنابيب: 71 عن جريدة الرأي: 1984/10/28.
4- الشيخ محمد شريف أحمد في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني: 1/366.

(المطلب الأول): العناوين الثانوية المبيحة للإقدام على العملية

إن هذه العملية تستلزم أموراً محرمة كالاطلاع على العورة أو لمس جسد الجنس المخالف أو الاستمناء(1)، وقد يمكن تجنب الحرمة في بعضها بمراجعة الطبيب المماثل في الجنس للتخلص من حرمة اللمس والنظر أو بلبس الكفوف مثلاً عند إجراء الطبيبة الفحص المهبلي، أو قيام الزوجة بإنزال مني زوجها ونحو ذلك، إلا أن بعض المقدمات لا يمكن تجنب الحرمة فيها فيحرم إجراء عملية التلقيح الصناعي بسببها.

إلا أننا نفترض هنا وجود عناوين ثانوية مبيحة لارتكاب هذه المحرمات منها:-

1- الضرر: فقد يؤدي عدم الإنجاب إلى بعض الأمراض الخطيرة عند المرأة -كإصابة بعضهن بالسرطان- أو حصول حالة من الاكتئاب والضيق النفسي الشديد أو التسبب في حصول ضرر مالي كبير ونحو ذلك، وهذه كلها أضرار منفية بالحديث

ص: 10


1- ذهب الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى جواز الاستمناء لهذا الغرض، قال (قدس سره): ((لا يبعد القول بجواز الاستمناء الذاتي لأجل الولد، لأن غاية الدليل على حرمة العادة السرية إنما هو ما كان لغير الغرض العقلائي، والإجماع قائم على ذلك، والإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن، فإذا كان الاستمناء لغرض عقلائي كالإنجاب، كان زائداً على القدر المتيقن فيكون جائزاً غير مندرج في موضوع الحرمة، كما هو غير بعيد ويكون الاحتياط بتركه استحبابياً)) (ما وراء الفقه: 6/13). أقول: الدليل على حرمة الاستمناء لا يختص بالإجماع بل وردت فيه عدة روايات يمكن التمسك بإطلاق الحرمة فيها (راجع وسائل الشيعة: أبواب النكاح المحرم: 20/349، 352، باب 26، 28).

النبوي الشريف (لا ضرر ولا ضرار)(1)

أما دون ذلك مما يتحمل عادة أو يكون التعرض له طبيعياً فلا يكفي لارتكاب المحرّم.

إن قلتَ: غاية ما يفيده الحديث سقوط الحرمة عن المتضرر أما الطبيب المعالج فلا يشمله الحديث أو إذا كانت الزوجة متضررة بعدم الإنجاب فما مسوّغ الزوج لممارسة الاستمناء المحرم مثلاً.

ويسري الإشكال إلى ما يعرف بالرحم المستأجرة أي المرأة التي تستضيف في رحمها البيضة المخصّبة من الزوجين حتى يكتمل نموّه وتضعه فإنها غير مضطرة لإجراء هذه العملية مع ما تستلزمه من أمور محرمة، ونحو ذلك.

قلتُ: بل يشمله المسوِّغ لعدّة تقريبات:

أ- إن حديث لا ضرر يعني -بحسب المختار- نفي تسبب الأحكام الشرعية للضرر فهو ينفي حصول الضرر في الشريعة بنفي سببه وهو الحكم، أي أنه ينفيوجود الحكم الضرري من أصله فلا تبقى حرمة -للنظر إلى العورة أو لمس الأجنبية مثلاً- أصلاً حتى يلزم بها بقيه الأطراف، مثلاً إذا حلّت الميتة لفرد بسبب الاضطرار وجب على غيره تمكينه منها ولا تبقى حرمة التعاون على الإثم مثلاً ونحوها عليه؛ لأن الحرمة انتفت من أساسها.

ب- ورود هذه الرخصة في الروايات كموثقة علي بن يقطين قال: (سألت العبد الصالح عليه السلام عن المرأة تموت وولدها في بطنها، قال: يُشق بطنها ويخرج ولدها)(2)، ومثلها مصححة ابن أبي عمير بتقريب أن من يقوم بهذه

ص: 11


1- وسائل الشيعة: 18/32، كتاب التجارة، أبواب الخيار، باب 17، ح3، 4.
2- هذه الرواية والتي بعدها تجدها في الكافي: 3/155، باب المرأة تموت وفي بطنها ولد يتحرك، ح1، 3 وتوجد روايات أخرى في وسائل الشيعة: 2/469 كتاب الطهارة، أبواب الاحتضار، باب 46 ومنها مصححة ابن أبي عمير. فائدة رجالية: روى المصححة في الكافي عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه، وفي التهذيب تصريح بأنه ابن أذينة ويحسُن جمع مثل هذه الموارد لتأكيد مقولة أن ابن أبي عمير لا يرسل إلا عن ثقة، وسيأتي مورد آخر (صفحة 106).

العملية يومئذٍ الرجال وفي بعض الروايات تصريح بذلك ففي رواية ابن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد يتحرك شُقّ بطنها ويخرج الولد، وقال في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوف عليها، قال: لا بأس أن يدخل الرجل يده فيقطّعه ويخرجه)، ورواه ف0ي موضع آخر وزاد (إذا لم ترفق بها النساء).

ورواية أبي حمزة الثمالي الآتية بتقريب التجريد عن خصوصية الإضرار فتشمل الضرر أيضاً.

أو ما ورد في ختان المرأة المستلزم لبعض هذه المحرمات.

ج_- إن رفع الحظر عن المتطبب خاصة دون الطبيب المعالج يجعل القضية عبثية ولا معنى لها ومما يأباه العقلاء.

د- وإن أبيت فإن سقوط الحرمة عن الطبيب يمكن أن تكون بقوله (صلى الله عليه وآله): (لا ضرار) لأن امتناعه عن المعالجة بحجة الحرمة يؤدي إلى الإضرار بالمريض، وكذا امتناع الزوج عن إنزال المني لإجراء التلقيح الصناعي ونحو ذلك؛ باعتبار أن حرمة الإضرار ثابتة حدوثاً وبقاءً لأن المطلوب تحقق النتيجة وهي عدم الإضرار.

ه_- ولو فرضنا عدم سقوط الحرمة عن الطرف الآخر بحديث (لا ضرر) إلا أنه يجب عليه رفع الضرر عن المبتلى به خصوصاً إذا تعيّن به كالزوج أو الطبيب الحاذق المتفرد بإجراء العملية فيقع التزاحم بين المحذورين ويتقدم الوجوب بملاك الأهمية.

ص: 12

وحكي عن المحقق الحائري (قدس سره) الاستدلال على رفع حرمة النظر واللمس عند الاضطرار إلى المعالجة بعموم رفع ما اضطروا إليه وعموم الضرورات تبيح المحظورات(1).

ويمكن التقدم خطوة أكثر من الجواز والقول بالوجوب لأكثر من تقريب:-

أ- إن ترك المعالجة كالتسبيب إلى المرض لعدم الفرق بين الحدوث والبقاء ففي كليهما إضرار بالمريض وهو حرام.

ب- ويمكن أن تكون المعالجة أي استجابة المعالج ونحوه ممن لهم مدخلية في إنجاح العملية مشمولة بالحديث النبوي الشريف (ومن سمع مسلماً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(2)

فتكون تلبية النداء واجبة على نحو الكفاية.

فلا حظر إذن على الأطراف الآخرين في العملية.

ويظهر أن بعض من كتب في المسألة لم يستطع حل هذا الإشكال وخلص إلى نتيجة حصر جواز التكشف أمام غير الملتزمين دينياً لأنهم لا يراعون لله حرمة فقال: ((إن قاعدة نفي الضرر تنفع من يتضرر بعدم الإنجاب من الرجل أو المرأة في الترخيص في ارتكاب بعض المقدمات المحرمة، فإذا كان الطبيب أو الطبيبة أو الأشخاص المساعدون في إجراء العملية غير ملتزمين بالجوانب الشرعية فلا إشكال عليه في ذلك))، فتتكشف نساء المسلمين أمام أمثال هؤلاء دون الملتزمين دينياً، وهو كما ترى.

2- الحرج، قال تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج : 78)،

ص: 13


1- حكاه السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 21، ص 37، عن تقريرات النكاح: 71.
2- وسائل الشيعة: 16/337، أبواب فعل المعروف، باب 18، ح3.

وقال تعالى: «مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ» (المائدة:6) وهو الضيق كما صرّحت به الروايات ويراد به الضيق بسبب نفس حالة العقم أو من الضغط الاجتماعي بدرجة لا تتحمل عادة فإنه رافع للأحكام الإلزامية

ولما كانت هذه العناوين الرافعة للتكاليف أموراً شخصية فهي تختلف في مراتبها من فرد لآخر فقد تجد امرأة أن الحرج في أن تكشف عورتها للأجنبي أشد عليها من حرج البقاء بلا إنجاب، فتتحمل الثاني تجنباً للأول.

3- الاضطرار كأكل الميتة لدفع خطر الموت، قال تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (البقرة: 173)، وورد عنهم (عليهم السلام) (وليسشيء مما حرّم الله إلا وقد أحلّه لمن اضطر إليه)(1).

وهو أحد العناوين التي يسقط بها التكليف في حديث الرفع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (رُفع عن أمتي تسعة أشياء .. وما اضطروا إليه)(2)

ومن النصوص الخاصة رواية أبي حمزة الثمالي(3)

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إما كسر أو جرح في مكان لا يصلح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له النظر إليها؟ قال:

ص: 14


1- وسائل الشيعة: 5/482، أبواب القيام، باب 1، ح 6، 7.
2- وسائل الشيعة: 15/369، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 56، ح1.
3- وسندها معتبر إلا أنه يحتمل استبعاد رواية علي بن الحكم الذي هو تلميذ ابن أبي عمير عن أبي حمزة الثمالي المتوفى بعد الإمام الصادق (عليه السلام) بسنة أو سنتين بلا واسطة فيحتمل وجود إرسال في الرواية وقد كتبنا رسالة مستقلة للرد على مثل هذه الاحتمالات كان موضوعها الإرسال المحتمل بين الحسن بن محبوب ومؤمن الطاق، ولعل الإشكال هنا أخف لقوة المقتضي وضعف المانع إذ صرّحوا برواية ابن الحكم عن أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) ولم يستشكل أحد على روايته عنهم بعكس الحسن فقد أشكلوا على روايته.

إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت)(1).

إلا أن الكلام في صدق عنوان الاضطرار على الحاجة لطلب الولد مطلقاً، والرواية المذكورة لا تصلح للتجريد عن الخصوصية لما نحن فيه للفرق الواضح بينهما، نعم يصدق الاضطرار على بعض الموارد كخشية الزوجة من طلاقها أو من حصول مشاكل مقيتة عند التزوج بثانية إن لم ينجب منها، أو عجز الزوج عن التزوج بثانية مع رغبته الجامحة للذرية.

لكن قد تكشف بعض موارد الرخصة التي قال بها الفقهاء أن الحاجة المبيحة لارتكاب هذه المحرمات أوسع مما ذكر كختان(2)

المرأة المستلزم النظر إلى العورة ولمسها، مع أنه لا حاجة إليه فضلاً عن الاضطرار، بل الحاجة إلى تركه لأنه مضرّ، ولم يثبت استحبابه بدليل معتبر، بل الدليل على خلافه(3).

ويمكن القول أن الضرورة هنا أوسع من الاضطرار المعروف في بعض الأبواب الأخرى، فإن المعالجة بملاكها مبيحة لارتكاب الأفعال المحرمة وإن لم تبلغالحالة حد الاضطرار، وقد قرّب بعض المعاصرين هذا الملاك بأنه ((بناء العقلاء على لزوم تدارك وصف السلامة بالعلاج مع الإمكان بحسب المتعارف)) ((وهذا هو العمدة في الحكم هنا وفي الحكم بضمان التوالف من الأعيان والأوصاف)) وحكى عن السيد الخوئي (قدس سره) بناءه على أن ((عمدة الدليل هو بناء العقلاء وسيرتهم الممضاة بعدم ردع الشارع))(4).

ص: 15


1- وسائل الشيعة: 20/233، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 130، ح1.
2- راجع رواياته في وسائل الشيعة: 21/442 أبواب أحكام الأولاد، باب 58 وكذا في باب 18 من أبواب ما يتكسب به.
3- راجع ما كتبناه عن هذه المسألة في (فقه الخلاف: 2/360 من الطبعة الأولى) عند مناقشة قاعدة التسامح بأدلة السنن في مسألة (نقل الميت إلى العتبات المقدسة).
4- المبسوط في فقه المسائل المعاصرة للشيخ محمد القائيني: 1/312.

4- أمر من تجب طاعته كالإمام المعصوم (عليه السلام) في زمان الحضور أو الولي الفقيه في زمان الغيبة، كما لو تعرّض المسلمون في منطقة ما لقلة العدد والإصابة بالعقم بفعل فاعل(1)

فيأمرهم الولي الفقيه بالمعالجة والتوجه إلى التلقيح الصناعي لتعويض النقص ونحو ذلك.

وهل تكفي في تحقق هذا الأمر الإطلاقات المرغبّة في كثرة النسل كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى أن السقط ليجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(2).

والجواب يتوقف على شكل العلاقة بين الدليلين، فقد يرى ذوق المشهور أن أدلة الحرمة مقيّدة لهذه الإطلاقات: فالإنجاب مستحب ومرغوب فيه ما لم يستلزم محرماً كما في التلقيح الصناعي.

وقد تكون العلاقة هي التزاحم فيقدم الأهم والأقوى ملاكاً، وإن كان الإنجاب مستحباً فيمكن أن يتقدم على الحكم الإلزامي، أما ما قيل من تقدم الإلزامي على غير الإلزامي فإنه ليس مطلقاً وقد يختص بما لو كانا من سنخ واحد كالصلاة المفروضة على المندوبة لحديث (لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض)(3).

ص: 16


1- توجد تقارير تتحدث عن سياسة (التعقيم) -أي إحداث العقم- التي طبقتها جهات معادية للمسلمين في بعض بلدانهم كمصر، أو هوس (تحديد النسل) الذي جرى التثقيف عليه في إيران مثلاً.
2- وسائل الشيعة: 20/14، أبواب مقدمات النكاح، باب 1، ح2 وفي 21/355 أبواب أحكام الأولاد وفيها أحاديث كثيرة.
3- وسائل الشيعة: 3/208، أبواب المواقيت، باب 60، ح7.

بعض الأحكام العامة أُطُر ومحددات للأحكام الأخرى:وهنا توجد أطروحة لعلاقة من نوع آخر بين الأدلة:

حاصلها: أن بعض الأحكام يُنظر إليها على أنها محددات وأُطُر عامة للأحكام الأخرى فلا يجوز أن تخرج عنها، ومثاله في القوانين الوضعية: العلاقة بين مواد الدستور والقوانين، فإن القوانين يجب أن لا تخالف الدستور ولا تخرج عن إطاره، فلو أقرَّ البرلمان قانوناً يقضي بتفضيل بعض الشرائح الاجتماعية على بعض أو التمييز بينهم فإنه قانون باطل لأنه يتنافى مع مادة في الدستور تقول أن المواطنين كافة متساوون في الحقوق والواجبات ونحو ذلك.

ومثاله في الشرعيات قوله تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» (النساء:19) فإنه يحدد أحكام العلاقة الزوجية فلو كان الحكم المعروف بجواز ترك وطء المرأة الشابة بما لا يزيد عن أربعة(1)

أشهر مخالفاً للآية الكريمة فإنه لا يجوز العمل به ويحمل الدليل على وجه مناسب أو حالة خاصة.

ويمكن على نحو الأطروحة أن تكون الآية الكريمة أيضاً محدداً لعنوان العدالة المشروط لجواز التزويج بثانية فيشترط فيه أن لا يكون سبباً للإهانة الاجتماعية للزوجة الأولى والانتقاص منها وهو مخالف للآية الكريمة.

وهذه العلاقة بين الأدلة شكل آخر لما أراده الأئمة (عليهم السلام) من عرض الروايات على كتاب الله تعالى بأن يكون إطاراً ومحدداً لها.

وهذه العلاقة أي الإطار والتحديد قد تؤدي نتيجة العلاقات المعروفة كالتخصيص أو التقييد أو التزاحم إلا أنها ليست هي لأن ملاكها مختلف كما هو واضح.

ومثالها الآخر قوله تعالى:«إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(النحل: 90) فإنها إطار عام لكثير من الأحكام، مثلاً قد يكون حكمان في قضية وكلاهما عدل

ص: 17


1- راجع تفصيله في جواهر الكلام: 29/115.

إلا أن أحدهما أقرب إلى الإحسان فيؤخذ به.

ويحضرني هنا تطبيق لها من قضاء النبيين الكريمين داود وسليمان (عليهما السلام) في القضية التي ذكرها القرآن الكريم «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ» (الأنبياء : 78) ففي مجمع البيان للطبرسي ((قيل: إنه زرعٌ وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته. وقيل: كان كرماً وقد بدت عناقيده، فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله ! قال: وما ذاك ؟ قال. يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم، فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان، ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله، وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام))(1).

وقد عبّرت الآية «لحكمهم» ويمكن أن يكون وجهه أنه حكم واحد صدر منهما (عليهما السلام) مطابق للعدل ولم يقل لحكميهما لكن الثاني كان أرفق بحال الضامن.والمثال الآخر قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الإسراء:70) فإنها إطار يحدّد جملة من الأحكام تقدمت الإشارة إليها في بعض البحوث السابقة.

ومحل الشاهد في المقام أن الروايات التي تحثّ على الإنجاب تشكّل إطاراً محدداً لأدلة حرمة اللمس والنظر ونافية لها بعدة تقريبات:-

أ- إن ملاكها أقوى.

ب- إنها تنقّح موضوع الضرورة المبيحة لارتكاب الحرمة.

ج_- انصراف أدلة الحرمة عن مثل المورد لذا يجيز بعض الفقهاء العلاج عند الطبيب المخالف وإن لم يبلغ حدّ الضرورة بل بملاك العلاج نفسه.

ص: 18


1- مجمع البيان: 7/91.

تنبيه: المسوّغات السابقة التي ذكرناها لارتكاب حرمة المقدمات واللوازم خاصة بالزوجين ومن يكون وجودهم ضرورياً في العملية كالطبيب، لكن عملية التلقيح الصناعي قد تتضمن في بعض صورها وجود طرف ثالث كرجل أجنبي يؤخذ الحيمن منه أو امرأة أجنبية تؤخذ البويضة منها أو يُستأجر رحمها للحمل فهذا الطرف قد يصعب توفر تلك المسوّغات فيه لذا وجب الالتفات إلى هذا.

ص: 19

(المطلب الثاني): أصالة الاحتياط في الفروج في الجملة

اشارة

إن الأصل في الأشياء وإن كان الحلية والإباحة وهو المناسب ليسر الشريعة وسماحتها، قال تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (البقرة: 185) وفي الحديث النبوي الشريف (لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية ولكن بعثني بالحنفية السمحة)(1).

إلا أن هذا الأصل قد ينقلب إلى أصالة عدم الجواز والاحتياط في ما لو اشترط الشارع المقدس أمراً وعلّق الرخصة على وجوده فإنها لا تثبت إلا بإحرازه والعرف يقضي بذلك، ومثاله اشتراط التذكية في حلية تناول اللحم فأصبح الأصل فيه عدم الجواز.

قال السيد صاحب العروة (قدس سره) في وجه انقلاب الأصل لتقريب وجوب اجتناب النظر إلى أطراف الشبهة غير المحصورة من النساء إذا شك في كونها من المماثل أو من المحارم النسبية معللاً ذلك بأن ((الظاهر من آية وجوب الغضّ أن جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم، فمع الشك يعمل بمقتضى العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية)).

وعلق الشيخ النائيني (قدس سره) قائلاً: ((ويدل نفس هذا التعليق على إناطة الرخصة والجواز بإحراز ذلك الأمر وعدم جواز الاقتحام عند الشك فيه ويكون من المداليل الالتزامية العرفية وهذا هو الوجه في تسالمهم على أصالة الحرمة في جميع ما كان من هذا القبيل وعليه يبتني انقلاب الأصل في النفوس والأموال

ص: 20


1- رواه الكليني بسند فيه سهل بن زياد (الكافي: 5/494 باب كراهية الرهبنة)، ورواه ابن ماجة وأحمد والحاكم والطبراني بلفظ (تركتكم، أو جئتكم بها بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).

والفروج في كل من الشبهات الموضوعية والحكمية وكذا أصالة انفعال الماء بملاقاة النجاسة عند الشك في العاصم وغير ذلك مما علق فيه حكم ترخيصي وضعي أو تكليفي على أمر وجودي وليس شيء من ذلك مبنيا على التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية))(1).

أقول: افتراض الانقلاب وعدمه مبني على كيفية تشكيل الأصل أو العام المستفاد من الروايات في المسألة، فقد يصاغ على أنه حرمة النظر إلى النساء إلا إذا كانت محللة كالزوجة والمحارم، وقد يصاغ على أنها حلية النظر إلى النساء إلا ما ثبتت حرمتها، وعلى الثاني لا يحرم النظر إلى مجموعة من النسوة اختلطت فيهن امرأة يحرم النظرإليها ما لم يصل الفعل إلى المخالفة القطعية.

فالماتن والمعلق (قدس الله سريهما) بنيا على أن العام هو ((يجوز النظر إلى المماثل والمحارم)) فالفرد المشكوك لا يجوز النظر إليه لعدم تحقق شرط الحكم بالجواز.

وهذه الصياغة صحيحة إلا أنها لا تستوعب حكم المسألة فإن حرمة النظر إلى غير المماثل والمحارم لا يستفاد منها إلا بالمفهوم والجملة ليس لها مفهوم، فلا بد أن تكون العبارة ((لا يجوز النظر إلا إلى المحارم أو المماثل والمحللة شرعاً)) وحينئذٍ يشمل الفرد المشكوك بأحكام العام والخاص وبقاء الفرد المشكوك دخوله في الخاص تحت العام ونحو ذلك.

والمشهور هنا انقلاب الأصل إلى الاحتياط، قال المحقق الثاني (قدس سره) في جامع المقاصد في تقريب حرمة بنت الزنا على أبيها وإن لم يثبت النسب: ((لأن حلّ الفروج أمر توقيفي فيتوقف فيه على النص، وبدونه ينتفي بأصالة عدم الحل، فلا يكفي في حل الفروج عدم القطع بالمحرم، لأنه مبني على كمال الاحتياط))(2).

ص: 21


1- العروة الوثقى مع تعليقات المراجع العظام: 5/500.
2- جامع المقاصد: 12/192.

فلا بد إذن أولاً من تحرير الأصل أو العام الموجب للانقلاب، وفي المقام يمكن أن يقال أن ما يوجب انقلاب الأصل عن الحلية والبراءة إلى الاحتياط أمران:-

1- التشدد والاحتياط في الفروج.

2- حفظ الأنساب من الاختلاط.

وقد استدل على (الأمر الأول) بالإجماع والروايات، ويمكن مناقشة الإجماع بأنه مدركي مستند إلى الروايات، أو أنه اكتشاف لمذاق الشارع منها.

أما الروايات فقد جمع صاحب الوسائل جملة منها في باب عنونه ((وجوب الاحتياط في النكاح فتوى وعملاً زيادة على غيره))(1)

وقال في نهايته: ((وأحاديث الأمر بالاحتياط كثيرة جداً يأتي بعضها)).

ومن الروايات:-

1- معتبرة أبي بصير قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل تزوج امرأة فقالت: أنا حبلى وأنا أختك من الرضاعة وأنا على غير عدة، قال: فقال: إن كان دخل بها وواقعها فلا يصدّقها، وإن كان لم يدخل بها ولم يواقعها فليختبر وليسأل إذا لم يكن عرفها قبل ذلك)(2).

أقول: وفي رواية الصدوق مثله إلا أنه قال: (فليحتط وليسأل عنها) والظاهر أن الأمور التي ذكرها من باب المثال للإخبار عما يوجب حرمة النكاح وعدم قابلية الموضوعففصّل الإمام (عليه السلام) بين ما قبل الدخول وما بعده فأمر بالسؤال والاحتياط في الأول دون الثاني فهو أخصّ من المدعى وإن نفس التفصيل دليل على عدم لزومه.

2- معتبرة شعيب الحداد قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل من مواليك

ص: 22


1- وسائل الشيعة: 20/258، أبواب مقدمات النكاح، باب 57.
2- وسائل الشيعة: 20/296، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 18، ح1.

يقرئك السلام، وقد أراد أن يتزوج امرأة وقد وافقته وأعجبه بعض شأنها وقد كان لها زوج فطلقها على غير السنة، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: هو الفرج وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد ونحن نحتاط فلا يتزوجها)(1).

أقول: حمل الاحتياط على ما نحن فيه غير متصور في عقيدتنا بالإمام المعصوم لأنه لا تردد عنده في الأحكام، والمطلقة لغير السنة لا مانع من زواجها إذا كانت مورداً لقاعدة الإلزام، وإن لم تكن كذلك فيحرم الزواج منها. فلعل الاحتياط هنا أمر إرشادي لترك الزواج من مثل هذه المرأة أو أنه نهي عمّا كان عليه فقهاء العامة من جواز الطلاق لغير السنة وجاء (عليه السلام) به بتعبير الاحتياط تقية.

3- معتبرة مسعدة بن زياد عن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لا تجامعوا في النكاح على الشبهة. يقول: إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك، فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)(2).

أقول: لعل قوله: ((يقول.. )) إلى آخره من شرح الراوي فالحديث مقتصر على الجزء الأول ولعله مختص بالجماع فلا يشمل كل صور البحث، وسيأتي ما يعارض هذه الرواية في الطائفة المقابلة من الروايات.

4- خبر الفقيه بسنده عن(3) العلاء بن سيابة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة وكّلت رجلاً بأن يزوّجها من رجل فقبل الوكالة فأشهدت له بذلك،

ص: 23


1- وسائل الشيعة: 20/258 أبواب مقدمات النكاح، باب 57، ح1.
2- المصدر السابق، باب 57، ح2.
3- فإن العلاء لم يوثق في كتب الرجال لكن السيد الخوئي وثّقه بناءً على وروده في تفسير القمي ووثقه غيره لرواية ابن أبي عمير عنه في موضع من الفقيه لكننا صححنا هذه الكبرى في المراسيل دون المسانيد.

فذهب الوكيل فزوجها ثم إنها أنكرت ذلك الوكيل، وزعمت أنها عزلته عن الوكالة فأقامت شاهدين أنها عزلته، فقال: ما يقول من قبلكم في ذلك؟ قال قلت: يقولون: ينظر في ذلك فإن كانت عزلته قبل أن يزوج فالوكالة باطلة والتزويج باطل، وإن عزلته وقد زوجهافالتزويج ثابت على ما زوج الوكيل، وعلى ما اتفق معها من الوكالة إذا لم يتعد شيئاً مما أمرت به واشترطت عليه في الوكالة، قال: ثم قال: يعزلون الوكيل عن وكالتها ولم تعلمه بالعزل؟ قلت: نعم يزعمون أنها لو وكّلت رجلاً وأشهدت في الملأ وقالت في الخلا(1):

اشهدوا إني قد عزلته، أبطلت وكالته بلا أن يعلم في العزل، وينقضون جميع ما فعل الوكيل في النكاح خاصة وفي غيره لا يبطلون الوكالة إلا أن يعلم الوكيل بالعزل، ويقولون: المال منه عوض لصاحبه والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد فقال (عليه السلام)، سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده إن النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه وهو فرج، ومنه يكون الولد.. الحديث)(2).

أقول: بتقريب الإنكار الشديد من قبل الإمام (عليه السلام) على ما يفتون به وهذا كاشف عن وجوبه.

ويرد عليه أن الإنكار راجع لاعتمادهم القياس والاستحسان في استنباط الأحكام فلا مجال لاستنباط وجوب الاحتياط وإلا فإن إمضاء العقد وعدمه مخالف للاحتياط.

5- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام) (سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال: لا، أما إذا كان

ص: 24


1- في التهذيب (الملأ).
2- وسائل الشيعة: 11/286، من ط. الإسلامية، أبواب الوكالة، باب 2، ح2. وفي 19/163 من ط. مؤسسة آل البيت غيّر لفظ (الخلا) في المتن بما يوافق التهذيب لكن الأول أنسب بموضع المسألة الذي هو صحّة تصرّف الوكيل إذا لم يكن يعلم بالعزل.

بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأي الجهالتين يعذر؟ بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدّة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها)(1)

بتقريب أن الاحتياط أخذ مسلّماً وإنما الكلام في إمكانه.

وتوجد روايات يُفهم منها هذا المعنى من خلال الأمر بالسؤال عن المرأة والفحص عن حالها إذا أراد التمتع بها، مثل:-

1- معتبرة أبي مريم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سُئل عن المتعة فقال: (إن المتعة اليوم ليست كما كانت قبل اليوم، إنهن كنّ يومئذٍ يؤمَنّ، واليوم لا يؤمنّ فاسألواعنهن)(2).

2- صحيح ابن أبي يعفور قال: (سألته عن المرأة ولا يدري ما حالها، أيتزوجها الرجل متعة؟ قال: يتعرض لها، فإن أجابته إلى الفجور فلا يفعل)(3).

3- صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يتزوج المرأة البكر أو الثيب فيرخي عليه وعليها الستر أو غلق عليه وعليها الباب ثم يطلقها، فتقول: لم يمسّني، ويقول هو: لم أمسّها؟ قال: لا يصدقان، لأنها تدفع عن نفسها العدة ويدفع عن نفسه المهر)(4)

ومثلها رواية أبي بصير وفي نهايتها (يعني إذا كانا متّهمين).

ويستدل على (الأمر الثاني) بعدة روايات منها:-

ص: 25


1- وسائل الشيعة: 20/450، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 17، ح 4. ط. آل البيت.
2- وسائل الشيعة: 21/23، أبواب المتعة، باب 6، ح1.
3- وسائل الشيعة: 21/27، أبواب المتعة، باب 8، ح2.
4- وسائل الشيعة: 21/325، أبواب المهور، باب 56، ح3، 1.

1- صحيح ابن سنان قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري الجارية ولم تحض؟ قال: يعتزلها شهراً إن كانت قد مست (يئست) قلت: أفرأيت إن ابتاعها وهي طاهر وزعم صاحبها أنه لم يطأها منذ طهرت، فقال: إن كان عندك أميناً فمسّها، وقال: إن ذا الأمر شديد فإن كنت لا بد فاعلاً فتحفظ لا تنزل عليها)(1).

2- صحيح ابن بزيع قال: (سألت أبا الحسن عليه السلام عن الجارية تشترى من رجل مسلم يزعم أنه قد استبرأها، أيجزئ ذلك أم لا بد من استبرائها؟ قال يستبرئها بحيضتين، قلت: يحلّ للمشتري ملامستها؟ قال: نعم ولا يقرب فرجها)(2).

3- خبر أبي بصير في حديث أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام): (الرجل يشتري الجارية الصغيرة التي لم تطمث وليست بعذراء يستبرؤها؟ قال: أمرها شديد إذا كان مثلها يعلق فليستبرئها)(3).

فإن تشريع العدة والفحص عن كون المرأة ذات بعل أو لا وأنها استبرأت أو لا، واجتناب الإنزال خاصة دون سائر الاستمتاعات بالأمة، ونحو ذلك كلها دالة على المطلوب، حتى أن الفقهاء جعلوا حرمة إنزال الزاني حكماً آخر غير حرمة الزنا نفسهوأوجبوا على الزاني أن يتجنب الإنزال.

روايات معارضة لأصالة الاحتياط:

وفي مقابل هذه الروايات توجد روايات لا توجب الفحص بل في بعضها توبيخ عليه، منها:-

1- رواية مسعدة بن صدقة المتضمنة لقاعدة الحل فإنها طبقت القاعدة على ما نحن

ص: 26


1- وسائل الشيعة: 21/89، أبواب المتعة، باب 6، ح2.
2- وسائل الشيعة: 21/90، أبواب المتعة، باب 6، ح5.
3- وسائل الشيعة: 21/85، أبواب المتعة، باب 3، ح9.

فيه ولولا ذلك لقلنا بتخصيصها، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حرّ قد باع نفسه أو خُدِع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يتبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة)(1).

2- معتبرة عمر بن حنظلة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني تزوجت امرأة فسألت عنها فقيل فيها، فقال: وأنتَ لمَ سألت أيضاً؟ ليس عليك التفتيش)(2).

3- صحيح ميسّر قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها: لك زوج؟ فتقول: لا، فأتزوجها؟ قال: نعم، هي المصدّقة على نفسها)(3).

أقول: يمكن القول أن رواية أبي مريم المتقدمة مخصصة لها.

4- رواية إسحاق بن عمار عن فضل مولى محمد بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها زوجاً ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجاً، قال: ولم فتشت؟)(4).

ونحوها مرسل مهران ورواية محمد بن عبد الله الأشعري في نفس الباب.

5- موثقة سماعة قال: (سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إن هذه امرأتي وليست لي بيّنة؟ فقال: إن كان ثقة فلا يقربها، وإن

ص: 27


1- الكافي: 5/313، ح 40، وسائل الشيعة: 17/89، ط. آل البيت، 20/60 ط. الإسلامية، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب4، ح4.
2- وسائل الشيعة: 20/301، أبواب أولياء العقد، باب 25، ح1.
3- وسائل الشيعة: المصدر السابق، ح2.
4- وسائل الشيعة: المصدر السابق، ح 3.

كان غير ثقة فلا يقبل منه)(1).

6- موثقة زرارة قال: (اشتريت جارية بالبصرة من امرأة فخبّرتني أنه لم يطأها أحد فوقعت عليها ولم استبرئها، فسألت عن ذلك أبا جعفر عليه السلام فقال: هو ذا أنا قد فعلت ذلك وما أريد أن أعود)(2).

7- رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (سألت الرضا عليه السلام عن امرأة أحلّت لزوجها جاريتها فقال: ذلك له، قلت: وإن خاف أن تكون تمزح؟ قال: وكيف له بما في قلبها؟ فإن علم أنها تمزح فلا)(3).

8- معتبرة صالح بن عبد الله الخثعمي قال: (كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) أسأله عن أم ولد لي ذكرت أنها أرضعت جارية لي فقال: لا تقبل قولها ولا تصدقها)(4).

9- معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة تزعم أنها أرضعت امرأة وغلاماً ثم تنكر بعد ذلك: قال: تصدَّق إذا أنكرت ذلك، قلت: فإنها قالت: قد أرضعتهما، قال: لا تصدق ولا تنعم)(5).

والجمع بين الطائفتين يكون على وجوه:-

1- حمل الاحتياط على الاستحباب، وممن ذهب إليه صاحب الجواهر (قدس سره) وقد صرّح بذلك في مواضع عديدة من كتابه منها قوله (قدس سره): ((وقاعدة الاحتياط في الفروج التي لا يجب مراعاتها))(6).

ص: 28


1- وسائل الشيعة: 20/300، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 23، ح2.
2- وسائل الشيعة: 21/91، أبواب المتعة، باب 7، ح2.
3- وسائل الشيعة: 20/301، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 24، ح2.
4- وسائل الشيعة: 20/401، أبواب ما يحرم بالرضاع، باب 12، ح4.
5- وسائل الشيعة: 20/400، ح1، الباب السابق.
6- جواهر الكلام: 30/178.

أقول: لسان بعض الروايات المتقدمة لا يناسب الاستحباب.

2- أنه أمر إرشادي لمنع حصول آثار يصعب تحمّلها فيما لو ظهر أن الاحتمال في محله، كما لو احتمل أنها أخته بالرضاعة فإنه إذا أقدم عليها وأصبحت له عائلة وأولاد ثم ظهر صحة الاحتمال ولازمه وجوب الانفصال وهو قرار صعب التنفيذ وكان يمكن تجنبه من البداية لو احتاط ولم يقدم على مثلها، أو ظهر أنها ذات بعل فتحرم عليه مؤبداً؛ لذا فرّقت بعض الروايات بين ما قبل الزواج وما بعده فاحتاطت في الأول دون الثاني باعتبار أن الأمر أصبح واقعاً.

3- الإذعان بالتشدد ووجوب الاحتياط لأن بعض نصوصه آبية عن حملها علىالاستحباب ولكن نحمله على موارد محددة كوجود علم إجمالي ولو في شبهة غير محصورة، أو إنها من موارد قاعدة الإلزام أو رجحان الظن بالشبهة الحكمية أو الموضوعية وعدم الوثوق بخبر الحلية.

أما إذا كانت الشبهة بدوية ومجرد احتمال فلا داعي للتثبت والسؤال والفحص، وإن الاحتياط في مثله خروج عن يسر الشريعة وسماحتها ونقض للغرض الإلهي المعبَّر عنه في الحديث الشريف (إن الله يحب أن يؤخذ برُخَصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)(1)،ولعله يدخل في تحريم ما أحلّ الله تعالى فيكون تشريعاً محرّماً، «قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون» (يونس:59).

والوجه الأخير أقوى في مورده والوجهان الآخران قريبان في موردهما.

قال بعض المعاصرين: ((مقتضى تعليل الاحتياط في الفرج والنكاح بكونه منشأ للولد هو لزوم الاحتياط في التلقيح الصناعي، ولا مجال للرجوع إلى البراءة في مثله.

فالمستفاد من هذه الروايات هو لزوم الاحتياط في الشبهات الموضوعية والحكمية في النكاح والاستيلاد، ويعتضد ذلك بما تقرر في محله من عدم جواز

ص: 29


1- وسائل الشيعة: 1/108، أبواب مقدمة العبادات، باب 25، ح1.

الرجوع إلى البراءة العقلية والشرعية في الشبهة الموضوعية والمصداقية في باب الدماء والفروج والأعراض والنفوس مستدلاً باهتمام الشارع بحفظ هذه الموارد، وهو يمنع عن الترخيص في الاقتحام في شبهاتها وكاشف عن إيجاب الاحتياط؛ فلهذا لو رئي شبح من بعيد لم يُعلم أنه مهدور الدم أو محقونه لا يجوز رميه))(1).

ويرد عليه ما قدّمناه من عدم الدليل على وجوب الاحتياط، أما حرمة الرمي في المثال المذكور فليس السبب منحصراً بالاحتياط في الدماء وإنما لأمر آخر كغلبة الأفراد المحقونة، أو لمنافاته لوجوب التحفظ ونحو ذلك، لذا لو كان في معركة وأراد رمي العدو أمامه واحتمل وجود رهائن أو أسرى مسلمين بينهم فإن ذلك لا يمنع من جواز الرمي ولا يجب الاحتياط لهذه الشبهة، فتأمل(2).

ولو وجد امرأة على سرير الزوجية في غرفة نومه وكانت مظلمة فلا يجبعليه التبيّن لاحتمال أنها ليست زوجته(3).

ص: 30


1- السيد محسن الخرازي، مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 16، ص 111.
2- لعل وجهه منافاته لقوله تعالى: «وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً» (الفتح : 25)، ويمكن دفع المنافاة بوجود علم إجمالي في مورد الآية، أما المثال ففيه شبهة بدوية.
3- حكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف والحنابلة الحد عليه إذا بانت أنها ليست امرأته لوجوب التثبت عليه ((ومجرد وجود المرأة على الفراش لا يصلح شبهة مسقطة للحد، ولا يلحقه النسب)) (موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/603).

(المطلب الثالث): ضابطة الانتساب للأب لغة وعرفاً وشرعاً

قال الراغب في المفردات: ((الأب: الوالد، ويسمّى كل من كان سبباً في إيجاد شيء وإصلاحه أو ظهوره أباً، ولذا يسمّى النبي (صلى الله عليه وآله) أبا المؤمنين، وروي أنه قال لعلي: أنا وأنت أبوا هذه الأمة)) وقال الكفوي في الكليات: ((الأب هو إنسان تولَّد من نطفته إنسان آخر))، وبعد أن ذكر ما في المفردات قال: ((وأرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى، باعتبار أنه السبب الأول، حتى قالوا الأب هو الرب الأصغر والله هو الرب الأكبر، ثم ظنّت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة))(1).

أقول: إن صحّ هذا فإنه يبيّن تأثير استعمال الألفاظ في صنع الشبهات والانحراف العقائدي.

وقد بنى العرف على هذا المعنى فإنه يرى الأبوة تتحقق بتكون الجنين الذي سيصير إنساناً من مائه بغض النظر عن وعاء احتضان النطفة ونموها وهل هو رحم طبيعي أم صناعي، فلو خلق من غير ماء كعيسى (عليه السلام) أو من خلايا جذعية -كما يقال- فإنه لا ينسب إلى أب ولا يكون له أب، ولا أقل من الشك المساوق للعدم، ولا ضرورة توجب وجود أبوين لكل إنسان.

ويلاحظ في صدق الأبوة شرط الذكورة، فلو زرعت خلية من امرأة في رحمها أو رحم امرأة أخرى فولدت فإنه لا أب له لانتفاء هذا الشرط مضافاً إلى ما ذكرناه من اشتراط التولد من مائه.

ولم يضع الشارع المقدس معنىً خاصاً به غير اللغوي والعرفي؛ لذا لم يخرج المعنى الشرعي عنهما بحسب ما يستفاد من الروايات:

منها: صحيحة محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله

ص: 31


1- الكليات: 20.

(عليهما السلام) يقولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل قوم فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين، قال: وما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة، قال: وما هي تخبرونا بها؟ قالوا: امرأة جامعها زوجها، فلما قام عنها قامت بحموته (حموة الشيء شدته وسورته) فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت (فألقت ل خ) النطفة فيها فحملت، فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة وأبو الحسن لها، وأقول فإن أصبت فمن الله ومن أمير المؤمنين، وإن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا أخطئ إن شاء الله(1):

يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة، لأن الولد لا يخرج منها حتى تشق فتذهب عذرتها، ثم ترجم المرأة لأنها محصنة،وينتظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة، ثم تجلد الجارية الحد، قال: فانصرف القوم من عند الحسن عليه السلام فلقوا أمير المؤمنين عليه السلام، قال: ما قلتم لأبي محمد؟ وما قال لكم؟ فأخبروه، فقال: لو أنني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني)(2).

أقول: في الرواية تصريح بالضابطة أعني تعريف الأب بصاحب النطفة وكذا في رواية عمرو بن عثمان لهذه القضية تصريح بهذا المعنى فقد ورد فيها (ويلحق الولد بصاحب النطفة)(3).

ومنها: ما ورد في تعليل حرمة الزنا من أن فيه ذهاب الأنساب لأن المرأة لا تعلم من أحبلها والولد لم يعرف من أبوه فإنه كاشف عن هذه الضابطة أيضاً لاختلاط المياه وجهالة صاحب الماء الذي تكوّن منه الجنين بغضّ النظر عن الحكم

ص: 32


1- هذا الكلام ناشئ من أدب الإمام الحسن (عليه السلام) وتواضعه ولا يدل على أنه كان يجتهد في الحكم بالمعنى المتعارف لأن لديه (عليه السلام) علماً لدنياً.
2- وسائل الشيعة: 28/168، أبواب حد السحق والقيادة، باب 3، ح1. ومثلها عدة روايات في نفس الباب.
3- الحديث 3 من نفس الباب.

الآخر وهو حرمانه من الميراث.

ومنها: روايات كثيرة واردة في أحكام(1)

الأولاد والعزل عن الزوجة وأبواب العدد وأنها تحرزاً من اختلاط المياه، وكذلك استبراء الأمَة.

ومن روايات العامة ما ورد في الصحيحين عندهم وغيرهما حتى عدّه السيوطي من الأحاديث المتواترة عن (عائشة قالت(2):

كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة(3)

زمعة منّي، فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي قد عهد إليَّ فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه.. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هو لك يا عبد الله بن زمعة، ثم قال (صلى الله عليه وآله): الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة -زوج النبي (صلى الله عليه وآله)- احتجبي منه يا سودة؛ لمارأى شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله تعالى)(4).

أقول: في الرواية عدة مواضع للنظر ومنها اعتماد النبي (صلى الله عليه وآله) على القيافة (لما رأى شبهه بعتبة) في إلحاق الأنساب وهو مرفوض -كما في مكاتبة الأشعري الآتية- إلا أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قد عمل بعلمه الواقعي على فرض صحة الحادثة أو أنه إجراء خاص بنساء النبي (صلى الله عليه وآله): «يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء» (الأحزاب:32)، وحمله بعضهم على

ص: 33


1- وسائل الشيعة: 21/378، أبواب أحكام الأولاد، باب 15، ح15، 16، 19.
2- لا يبعد احتمال تنكيل عائشة بضرتها سودة التي تزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة خديجة (عليها السلام) وعتبة هو الذي رمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد وشجّ وجهه الشريف وكسر رباعيته، ومات عتبة كافراً بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). (الناشر)
3- الوليدة هي الأمَة المملوكة، أما الحرة فيقال لها: (مهيرة).
4- صحيح البخاري: 3/504، ط. دار الفكر، صحيح مسلم: 4/171، ط. دار الفكر.

الاحتياط وهو غير متصور في حق النبي (صلى الله عليه وآله) لعدم تردّده وشكه (صلى الله عليه وآله).

وتقريب الاستدلال بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) سودة أن تحتجب منه باعتباره ابناً لعتبة وليس لزمعة صاحب الفراش وهو يعني ترتيب آثار التحريم على التولد من مائه ولو بالزنا وإن كان مقتضى القاعدة الظاهرية إلحاقه بصاحب الفراش، وتترتب عليه سائر آثار البنوة.

ص: 34

(المطلب الرابع): ضابطة الأمومة

اشارة

الأم لغةً: أصل الشيء ومبدأه وما يرجع إليه، وقال في المفردات: ((أم: يقال لكل من كان أصلاً لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدأه)).

وفي العرف: أم الشخص هي من تكوّن المولود من النطفة المتكوّنة في رحمها وحملت به وولدته، وهذه هي الحالة الطبيعية المتعارفة، لكن التلقيح الصناعي أنتج حالات متعددة غير متعارفة فيما لو كانت النطفة تنعقد خارج الرحم، أو تنعقد في رحم امرأة وتنقل لحملها ونموّها في رحم امرأة أخرى أو رحم صناعي ونحو ذلك، وهذه الصور تحتاج إلى نظر وتدقيق.

فما هي الضابطة في الانتساب إلى الأم؟ هل هو التكوّن من مائها أي بويضتها التي تتحد مع حيمن الرجل لتكوين النطفة، أو الحمل به وولادته؟.

في المسألة ثلاثة أقوال:

(القول الأول): إن الأم هي صاحبة البويضة وإن أخذت منها النطفة بمجرد حصول التلقيح ونقلت إلى الخارج، فضلاً عما لو كان النقل بعد تكوّن الجنين وتصور أعضائه.

وهذا القول يظهر من المحقق الأصفهاني (قدس سره) حيث اعتبر ((أن مجرد انعقاد النطفة يكون مصححاً لعنوانين متضايفين آخرين كالأبوة والأمومة))(1).

واحتمله السيد الخميني (قدس سره) فقال: ((لو انتقل الحمل في حال كونه علقة أو مضغة أو بعد ولوج الروح من رحم امرأة إلى رحم امرأة أخرى فنشأ فيها وتولد هل هو ولد الأولى أو الثانية؟ لا شبهة في أنه ولد الأولى إذا انتقل بعد تمام الخلقة وولوج الروح، كما أنه لا إشكال في ذلك إذا أخرج وجعل في رحم صناعية وربي فيها، وأما لو أخرج قبل ذلك حال مضغته مثلاً ففيه إشكال، نعم لو ثبت أن

ص: 35


1- حاشية المكاسب للأصفهاني: 3/172.

نطفة الزوجين منشأ للطفل فالظاهر إلحاقه بهما سواء انتقل إلى رحم المرأة أو رحم صناعية))(1).

وذهب إليه صريحاً بعض الأعلام المعاصرين، قال (قدس سره): ((ولو نقلت بويضة المرأة الملقحة بماء الرجل إلى رحم امرأة أخرى فنشأ فيها وتولد كانت صاحبة البويضة أمه النسبية وصاحبة الرحم بحكم أمه الرضاعية))(2).

ووجهه -المشار إليه في ذيل كلام السيد الخميني المتقدم- أن الجنين يتكون بانعقاد نطفته من حيمن الرجل وبويضة المرأة ويأخذ من كل منهما نصف كروموسوماته لتشكل العدد الكامل من أزواجها ويصبح بذلك مشروع إنسان أماانشطارات الخلايا والنمو في الرحم سواء كانت طبيعية أو صناعية فإنها لا تؤثر في صدق الانتساب فهو من قبيل الإرضاع بعد الولادة، وإن الانفصال عن الأم لا ينفي الولدية، والرحم الجديد مجرد وعاء لنموه، ومن الشعر المنسوب لأمير المؤمنين (عليه السلام)(3):

وإنما أمّهات الناس أوعية *** مستودعات وللأحساب آباءُ.

فتكون المرأة التي حملت به كالأرض التي بُذر فيها شخص الحَب واغتذى من مائها وترابها فإن الزرع لصاحب الحب وعليه أجرة الأرض ونحو ذلك.

وورد التصريح به في رواية ثعلبة بن ميمون (عن) وعبد الله بن هلال عن

ص: 36


1- تحرير الوسيلة: 2/564، التلقيح الصناعي، مسألة (10)، ط. دار التعارف.
2- السيد محمود الهاشمي (قدس سره)، منهاج الصالحين: 1/445، المسألة (44).
3- هذا البيت من مجموعة أبيات منسوبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في ديوانه، ومنها: ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ***على الهدى لمن استهدى أدلاءُ وقيمة المرء ما قد كان يحسنه***والجاهلون لأهل العلم أعداءُ فقم بعلم , ولا تطلب به بدلاً***فالناس موتى , وأهل العلم أحياءُ ونُسب إلى المأمون العباسي في مغني المحتاج: 4/538، الميزان: 2/240 ولعله استشهد به من دون أن ينسبه إلى قائله.

أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يتزوج ولد الزنا؟ قال: (لا بأس إنما ذلك مخافة العار، وإنما الولد للصلب، وإنما المرأة وعاء)(1)

وهي ضعيفة السند.

مبدأ تكون الإنسان:

وقد وردت الإشارة إلى أن النطفة التي يشترك ماءا الرجل والمرأة في تكوينها هي مبدأ تكون الإنسان في الآيات الكريمة والروايات كقوله تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى» (القيامة: 37-39) وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى» (النجم: 45-46) والنطفة هي ما يتركب من اختلاط مائي الرجل والمرأة، وهي الأمشاج -أي الأخلاط- التي ورد ذكرها في قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَ_ا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً» (الإنسان: 2).

وقوله تعالى: «وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ» (النور:45) والمقصود به ماء التكاثر وليس الماء الداخل في تركيب الأنسجة بقرينة ذكر الدابة وإلا فإن النبات أيضاً تتكون أنسجته من الماء، فنتمسّك بإطلاق الماء الشامل لمائي الرجل والمرأة لأن عيسى (عليه السلام) تجري الآية في حقه ولم يشترك ماء الرجل في تكوينه.

وقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً» (الفرقان : 54) وإنما يخلق البشر من مائي الرجل والمرأة وهكذا، وتبيّن الآيات (12-14) من سورة المؤمنون مراحل تكون الإنسان من النطفة إلى اكتماله بشراً سويّاً.

وكذا في الروايات أيضاً، حيث تصرّح صحيحة أبي هاشم الجعفري عن

ص: 37


1- وسائل الشيعة: 20/443، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها، باب 14، ح8.

الإمام الجواد(1) (عليه السلام) بكون مائي الرجل والمرأة هما الأصل في تكوّن الإنسان وتحديد صفاته ففي حديث طويل عن الإمام الجواد (عليه السلام) عن الإمام الحسن (عليه السلام) قال: (وأما ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه وأخواله فإن الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن وعروق هادئة وبدنٍ غير مضطرب فاستكنت تلك النطفة في جوف الرحم خرج الولد يشبه أباه وأمه وإن هو أتاها بقلب غير ساكن وعروق غير هادئة وبدن مضطرب اضطربت النطفة فوقعت حال اضطرابها على بعض العروق فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه وإن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله)(2).

وفي موثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها؟ قال: لا، فقلت: إنما هو نطفة، فقال: إن أول ما يخلق نطفة)(3)

بتقريب: إن النطفة ما عرّفناها آنفاً بأنها بويضة الأنثى الملقّحة بحيمن الرجل، وسيأتي مزيد من الكلام (صفحة 120) و (صفحة 154).

فلا يلتفت بعد هذا إلى ما قيل من أن العرب لم تكن تعرف كيفية تكون النطفة والجنين وأنها لا تعرف غير كون ماء الرجل هو أصل التكون وأن دور المرأة تغذيته ليكبر فلا يمكن حمل الأمومة على صاحبة البيضة وإنما هي من حملت به ووضعته وهي من تسمى بالوالدة.

ووجه عدم اعتبار هذا الكلام معروفية اشتراك ماء المرأة وماء الرجل في تكوين النطفة ولو على نحو الإجمال، وتوجد روايات كثيرة عن إنزال المرأة في باب

ص: 38


1- في المصدر (عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام) وهو اشتباه أو من سبق قلم الناسخ لأن الجعفري لا يروي عن الباقر بل عن الجواد (عليهما السلام).
2- عيون أخبار الرضا: 69، باب 6، ح36.
3- وسائل الشيعة: 29/36،كتاب القصاص في النفس، باب 7، ح1.

وجوب غسل الجنابة عليها إذا أنزلت ونحو ذلك فكان المسلمون في زمان النص يعرفون إجمالاً اشتراك المرأة مع الرجل في تكون النطفة التي هي مبدأ خلق الإنسان، وتوجد روايات(1)

عديدة في كتب الفريقين عن تأثير مائي الرجل والمرأة في الجنين وأنسبق أحدهما هو علة شبهه بصاحبه، كصحيحة أبي هاشم الجعفري المتقدمة.

ويُضاف إلى هذا ما سيأتي (صفحة 120، 153) من الوجوه للاستدلال على أن مبدأ الحمل من حين انعقاد البيضة المخصّبة، وليس من حين انغراسها في الرحم وهو يقتضي كون صاحبة البويضة هي الأم التي اشتركت مع الأب في تكون أصل الإنسان.

وقرّب السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) الاستدلال بقاعدة الفراش، قال (قدس سره): ((قد يقال: إن الولد لصاحبة البويضة -الزوجة- تمسّكاً بقوله (صلى الله عليه وآله): الولد للفراش وللعاهر الحجر. والزوجة هنا فراش وزوجها صاحب الحويمن، والمرأة المستأجرة قد تلتحق بقوله: وللعاهر الحجر -باعتبارها ليست فراشاً فلا تدخل في الجزء الأول فتدخل في الجزء الثاني- ولا أقل من الشك بالإلحاق وعدمه)).

أقول: وفيه:-

1- إن هذا المورد ليس مجرى لقاعدة الفراش التي تجري عند الشك في انتساب الولد إلى صاحب الفراش أو الزاني، ومفروض المسألة معلومية صاحبة البويضة

ص: 39


1- منها ما أورده المجلسي في بحار الأنوار: 60/338-339 عن العلل ومسند أحمد بن حنبل: 1/465 وفي خبر عبد الله بن سنان المروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة فالولد يشبه أباه وعمّه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل يشبه الولد أمه وخاله) وروى مثله البخاري (4/161) وورد في بعضها تعبير ((نطفة المرأة)).

وصاحبة الرحم المستأجرة، وإن المشكلة في معنى الأمومة فالشبهة مفهومية والقاعدة تعالج شبهة موضوعية.

2- إن صاحبة الرحم المستأجرة قد تكون متزوجة وصاحبة فراش فتكون مجرى للقاعدة أيضاً وفق هذا التفكير.

3- وإن البويضة قد تؤخذ من امرأة أجنبية وتلقح بماء الزوج وتزرع في رحم الزوجة فإجراء قاعدة الفراش هنا تكون لمصلحة الحامل بالجنين وليس لصاحبة البويضة.

هذا وقد ردّ (قدس سره) على التقريب بقوله: ((إلا أن هذا لا يمكن صحته فقهياً؛ لأن الفراش مشروط بالمضاجعة مع الزوجة، وإلا لم تكن فراشاً، وبتعبير آخر: إن الفراش عرفاً هو المضاجعة وليست مطلق الزوجية، والمضاجعة هنا منتفية بطبيعة الحال))(1).

أقول: يجاب حلاً بأن الفراش أوسع من المضاجعة فيكفي في صدقه تحقق الإخصاب بين مائي الرجل والمرأة بأي نحو كان مع وجود العلقة المبيحة بينهما مضافاً إلى تحقق المضاجعة لأن بويضة الزوجة لقحت بماء الزوج من خلال الجماع بحسب الفرض.

ونقضاً بعدم صدق الفراش على المرأة التي حملت به أيضاً، فكيف يلحق بها الولد؟.ويمكن أن يؤيد هذا القول ما ورد في قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ» (الإنسان:2) والأمشاج هي الأخلاط من مائي الرجل والمرأة، وقوله تعالى: «يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ» (الطارق:7) فإنها تبين أن مبدأ تكون الإنسان وأصله هي النطفة التي تتكون من حيمن الرجل وبويضة المرأة.

(القول الثاني): إن الأم هي من حملت به وولدته لقوله تعالى: «الَّذِينَ

ص: 40


1- ما وراء الفقه: 6/22.

يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» (المجادلة:2) بتقريب أن ذيل الآية حصر الأمومة بالتي تلد، وقيل بتقريب دلالة آيات أخر كقوله تعالى: «وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ» (النجم: 32) وقوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» (الأحقاف:15) وقوله تعالى: «وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ» (النحل:78).

وقد تبنى هذا القول السيد الخوئي (قدس سره) في بعض أجوبته على المسائل حيث سُئل عن رجل زرع نطفة متكونة من مائه وبويضة زوجته في رحم امرأة أجنبية لأن رحم زوجته لا يتحمل حمل الجنين، فأجاب (قدس سره): ((المرأة المذكورة التي زرع المني في رحمها أم للولد شرعاً، فإن الأم هي المرأة التي تلد الولد كما هو مقتضى قوله تعالى: «الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» وصاحب النطفة أب له، وأما زوجته فليست أمّاً له، وعلى هذا فالمرأة المزبورة من حقها أن تأخذ الولد إلى سنتين من جهة حق الحضانة لها، والله العالم))(1).

ووافقه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قال: ((الجنين الإنساني إذا حملته امرأة في رحمها، فهي أمه إذا لم يكن من زنا. سواء كان ناشئاً من بويضتها أو من بويضة امرأة أخرى. ومعه فالبويضة الملقّحة من الزوجين إن وضعت في رحم الزوجة نفسها كان الجنين ولدها، وإلا فهو ولد المرأة الأخرى التي يوضع في رحمها سواء كانت امرأة أخرى للزوج أو من محارمه أو أجنبية عنه، وسواء حملته بأجرة أو مجاناً. ويترتب بينه وبين أبويه كل أحكام البنوة))(2)

وأضاف (قدس سره) في كتاب آخر ((إن المرأة المستأجرة هي الأم للحمل، فالولد ينسب إليها لا إلى صاحبة البويضة تمسّكاً بقوله تعالى: «إِنْ أُمَّهَاتُهُ_مْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَ_راً

ص: 41


1- صراط النجاة: 1/362، المسائل الشرعية للسيد الخوئي (قدس سره): 2/319.
2- منهج الصالحين: 4/292، المسألة 1122.

مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» يعني من يقول خلاف ذلك))(1).

أقول: الاستنكار في الآية لمن اعتبر زوجته أمّاً له بمجرد ظهارها لا لمن قال خلاف قوله (قدس سره).

ونفى (قدس سره) أي علاقة بين المولود وصاحبة البويضة قال: ((ولا ربطلصاحبة البويضة بالمولود))(2).

وجعل (قدس سره) كل آثار الأمومة لمن حملت بالوليد، قال (قدس سره): ((بعد أن ثبتت أمومة (المرأة المستأجرة) فإنه يترتب عليها أحكام الأمومة على الأقوى وإن كانت ليست جميعها بالوضوح الفقهي ذاته، فهي أم الوليد.

فهي تحرم عليه فيجوز النظر إليها ويجوز لها النظر إليه ويحرم عليها النكاح مؤبداً، ويتوارثان على إشكال، ولها فيه حق الحضانة ذكراً كان أو أنثى بمقدار ما هو مذكور في محله من الفقه))(3).

ويرد عليه:-

1- إنه مخالف للمعنى اللغوي والعرفي الذي ذكرناه في توجيه القول الأول وأن الأم هي أصل التكوّن والعرف يرى أن النطفة هي الأصل، ولا يوجد دليل على أن الشارع المقدس له اصطلاح خاص به لما سنذكره في النقطة التالية، أما الحمل بالجنين وتغذيته من رحمها فإنه لا يجعلها أمّاً بالمعنى الذي نبحث عنه كالمرضعة التي يتغذى الولد بلبنها «وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ» (النساء:23) فتصبح أمّاً بمعنى آخر وتترتب عليه بعض آثار الأمومة كحرمة النكاح:

2- إن الحصر الموجود في الآية إضافي بلحاظ الأزواج الذين يظاهرون من نسائهم فالآية تنفي كونهن أمهات بهذا الظهار وأن أمهاتهم هي النسبيات اللاتي حملن بهم

ص: 42


1- ما وراء الفقه: 6/22.
2- ما وراء الفقه: 6/31.
3- ما وراء الفقه: 6/24.

ووضعنهم فالآية ليس لها إطلاق، ولا يستفاد منها تحديد معنى الأم النسبية لأنها ليست في مقام بيان التحديد والتعريف وإنما في مقام الرد على المظاهرين، ويكفي لردهم ذكر بعض الوجوه.

وببيان آخر: إن الآية وإن أثبتت الأمومة لمن تضع الحمل وتلده إلا أنها لم تنفها عن المرأة التي تكون الحمل من مائها لأن الحصر هنا إضافي.

3- إن الولادة لغة تعني التكون من أصل نشأ منه والتناسل منه، أما معنى الولادة المستعمل عرفاً في وضع الحمل فهو منقول من اللغات الأخرى، فحمل الولادة في الآية على هذا المعنى وبناء الاستدلال على أمومة المرأة التي حملت به في غير محلّه، لذا فإن الأب يسمّى والداً وهو لا يمرّ بمثل هذه الحالة قال تعالى: «وَبِالوَالِدَينِ إِحسَاناً» (الإسراء:23) وقال تعالى: «وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» (البلد:3) وقال تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ» (إبراهيم : 41)، وهذا المعنى هو التكاثر والإنجاب والتناسل، قال ابن فارس: ((الواو واللام والدال أصل صحيح، وهو دليل النجل والنسل ثم يقاس عليهغيره، من ذلك الولد))(1)

فإطلاق الوالد على الأب حقيقي لأنه أصل في التكاثر والتناسل، وكذا صدقه على الأم، وفي المفردات ((تولّد الشيء من الشيء حصوله عنه بسبب من الأسباب)) والوالد سمّي والداً لأنه صاحب النطفة وسبب التكوّن فالأم صاحبة النطفة هي والدة أيضاً لنفس السبب فالآية تشملها، ولا تنافي أمومتها.

وبالدقة فإن المعنى المستعمل للولادة الذي بنى عليه السيد الخوئي (قدس سره) استدلاله يُطلق عليه لغة ((وضع الحمل)) قال تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» (الأحقاف:15) وقال تعالى: «وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» (فاطر:11) وقوله تعالى: «فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ» (آل عمران:36) وقال تعالى: «وَأُوْلاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن

ص: 43


1- معجم مقاييس اللغة: 6/143.

يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (الطلاق: 4).

ولو تنزّلنا وقلنا أن الولادة لغةً وعرفاً تطلق على المعنيين فإن نتيجة هذه النقطة أن الآية شاملة للمرأتين ولا تعيّن إحداهما.

نعم قد يقال أن تسمية الأب والداً لا لهذا السبب وإنما مجازاً بعناية ولادة امرأته ولداً له بقرينة قوله تعالى: «لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ» (البقرة:233) لكن الأصل عدم المجاز، وحكي عن الفراهيدي أن إطلاق الوالد على الأب بعلاقة السببية(1)

أي باعتباره السبب في ولادته، وعن ابن سيده أنه على النسب(2)

وهذا منهم لأنهم بنوا على أن الولادة بمعنى وضع الولد فبحثوا عن وجه للمجاز ولكن أصل بنائهم لم يثبت.

واحتمل الشيخ الأنصاري (قدس سره) أن معنى الولادة التي اشتق منها لفظ (الوالد) غير المعنى الذي اشتق منه لفظ الوالدة فيمكن أن يكون فيه وضع الماء في الرحم واشتراكهما لفظي قال (قدس سره): ((ويحتمل أن يراد الولادة من الوالد دون الوالدة))(3)

وقال (قدس سره) في مسألة إلحاق النطفة والعلقة في صدق النفاس والولادة على سقوطها إذا علم كونها مبدأ نشئ آدمي قال (قدس سره): ((والمراد بكونها مبدأ نشئ آدمي: إشرافها على صيرورتها علقة، ولذا قيل: إن العلم بذلك متعسّر بل متعذر، وإلا فالنطفة مطلقاً مستعدة لتحقق الولد منه وبهذا الاعتبار يطلق الوالد على الأب))(4).

4- إن الآية ناظرة إلى العلامة الأبرز في معرفة الأم وهي الحمل والولادة وما كان

ص: 44


1- العين: 8/71.
2- المحكم لابن سيده: 8/237.
3- كتاب المكاسب من الموسوعة الكاملة: 4/111.
4- كتاب الطهارة من الموسوعة الكاملة: 4/123.

يمكن أن يقال يومئذٍ: إن أمهاتهم إلا اللائي أخذت البويضة(1)

منهن ونحو ذلك؛ لعدم معرفة الأمور السابقة على الحمل كتكون النطفة ونحوها، ضمن ما هو الغالب المتعارف في الأمهات بأن تكون صاحبة البويضة التي يلقحها الحيمن بالجماع هي من تحمل بالنطفة وتضع الحمل بعد اكتمال نموّه، فليس فيها نظر إلى خصوصية الحمل والولادة في صدق الأمومة فضلاً عن جعلها الضابطة لها.

وبصياغة أخرى: إن اعتبار المرأة التي تحمل وتضع أمّاً إنما هو باعتبار الحالة الغالبة من كونها صاحبة الماء الذي تولّد منه الجنين وإلا فلا دليل على كفاية مجرد الحمل والوضع في تحقق معنى الأمومة.

وبتعبير آخر: إن الآية تثبت الأمومة لمن تحمل وتضع ولكن هذا لا يعني أن كل من تضع هي أم وإنما هي مجملة من هذه الناحية وليس لها إطلاق ويكفي في صدقها وجود الحالة الغالبة المذكورة.

5- التسليم بأن عنوان الوالدة يصدق على من وضعت الجنين، إلا أن بحثنا ليس عن هذا العنوان وإنما عن عنوان (الأم) ولا ملازمة بينهما فيمكن أن تصدق الأمومة على صاحبة الماء الذي شارك ماء الأب في تكوين الجنين وإن لم تصدق الوالدة عليها، وهذا التفريق يظهر من كلام الشيخ الأصفهاني، قال (قدس سره) في تعليقته على كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره) المتقدم: ((لا يخفى أن الولادة التي هي مبدأ الاشتقاق للوالد والوالدة المتضائفين هي الولادة بمعنى انفصال الجنين عن أمه، المصحح لصدق الوالد على الأب والوالدة على الأم، وأما انفصال النطفة عن الأب فليس مصححاً لاشتقاق المتضائفين المزبورين، وإن كان مجرد انعقاد النطفة مصححاً لمتضائفين آخرين كالأبوة والأمومة، إلا أن الوالد والوالدة باعتبار وضع

ص: 45


1- هذا بغضّ النظر عما ذكرناه من وجود الآيات والروايات الدالة على أن النطفة تتكون من مائي الرجل والمرأة «مِنْ نُطفَةٍ أَمشَاجٍ».

الولد من الرحم))(1).

6- يلزم من نفي النسب بين الولد والمرأة صاحبة النطفة عدم حرمة النكاح بينهما فهل يلتزم (قدس سره) بهذه النتيجة؟ وللعلم فقد صرّح بقبولها بعض الأعلام حيث اختار هذا الرأي وقال: ((ولازم ذلك جواز الزواج بين صاحبة البويضة والولد ولا مجال لإلحاقها بالمرضعة في التحريم حتى وإن تمت أركان القياس فإنه باطل في فقهالإمامية))(2) ثم احتاط بالترك.

7- ماذا يقول مثلاً في أم البويضة التي حملت بجنينها ثم نقل منها بعد ولوج الروح أو قبل ذلك إلى رحم امرأة أخرى(3)؟

فهل ينفي عنها الأمومة وهو مما لا يساعد عليه الوجدان الفقهي.

8- النقض عليه بما لو نقلت البيضة المخصّبة إلى رحم صناعية فنمت فيه حتى تولّد إنسان كامل فهنا لم تتحقق ضابطة الأمومة التي هي الولادة، ولا يعبّر عن تلك الرحم الصناعية بأنها أم، فهل يكون الأطفال المولودون بهذه الطريقة لا أم لهم؟ باعتبار أن الولادة المتعارفة وما يصاحبها من الطلق لم تحصل، وهذه النتيجة مما لا يساعد عليها الوجدان الفقهي في هذا المورد لوجود المرأة التي نقلت منها النطفة ويكون الإشكال أشدّ فيما لو فُصل الجنين بعد نموه وتصوره وولوج الروح فيه مثلاً، اللهم إلا أن يقول (قدس سره) إنني لست في مقام إطلاق الضابطة وإنما

ص: 46


1- حاشية الشيخ الأصفهاني على المكاسب: 3/171-172.
2- المرحوم الشيخ محمد آصف محسني في الفقه ومسائل طبية: 1/91.
3- نقلت مواقع أخبارية بتأريخ 2019/12/4 خبراً عنوانه (تنجبان طفلاً نما في رحميهما معاً) ملخّصه أن إحدى العيادات في لندن أجرت عملية جراحية تسمى (الأمومة المشتركة) لسيدتين اشتركتا في حملٍ بالتلقيح الصناعي عن طريق وضع البويضات لتحضينها في رحم الأولى ثم تنقل بعد ذلك إلى رحم الثانية ليكتمل الحمل في رحمها واعتبرها الأطباء طفرة علمية في الولادة والصحة الإنجابية.

بلحاظ مفروض السؤال، وحينئذٍ عليه أن يعطينا الضابطة كاملة.

أمومة الحامل بالجنين:

هذا ولكن من الصعب إلغاء علقة المرأة التي حملت بالجنين؛ لما ثبت في العلوم الحديثة ودلّت عليه الروايات من تأثير الأم الحامل في تكوين الجنين، وكلما بدأت بالحمل من وقت مبكر -كما لو زرعت البيضة المخصبة في رحمها مباشرة- فإن تأثيرها أكبر وعلقتها أقوى.

مع إمكان تقريب عدة وجوه لحصول محرّمية بين الولد والمرأة التي حملت به تشبه محرمية الأم:

أولاً: فحوى ما دلّ على أن الرضاع محرّم كالنسب وتعريف الرضاع المحرّم بأنه ما أنبت اللحم والدم كصحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ومثلها روايات كثيرة معتبرة في نفس الباب.

وفي صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: ما يحرم من الرضاع؟ قال: ما أنبت اللحم وشدّ العظم، قلت: فيحرم عشر رضعات؟ قال:لا؛ لأنه لا تنبت اللحم ولا تشد العظم عشر رضعات)(1).

وتقريب الاستدلال بأولوية الحمل والتغذي من جسمها المستمر تسعة أشهر على مجرد الإرضاع يوماً وليلة ونحو ذلك، أو بعموم التعليل بإنبات اللحم وشد العظم وهذا متحقق في الحمل.

ويرد عليه:-

1- إن الدليل أخص من المدّعى الذي هو اعتبار الحامل أمّاً نسبية لأن غاية ما يستفاد من هذه الروايات حرمة النكاح بينهما وليس سائر آثار الأمومة لذا لا

ص: 47


1- وسائل الشيعة: 20/374، نفس الأبواب، باب 2، ح2.

توارث بين الأم الرضاعية وولدها.

2- إن إنبات اللحم وشد العظم ليس وحده تمام العلّة حتى يعمم وإنما مقيداً بالإرضاع الواجد للشروط الأخرى لذا لو حصل إرضاع شد العظم وأنبت اللحم لكنه لم يكن بالتقام الثدي أو خارج الحولين ونحو ذلك فإنه لا يحرم، فالاستدلال من القياس وليس من تعميم العلة.

ثانياً: استئناس ذوق الشارع المقدس من بعض الحالات التي ذكرتها الروايات ومنها:-

1- النهي عن نكاح القابلة، ففي معتبرة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث (وإن كانت قبلته وربّته وكفلته فإني أنهى نفسي عنها وولدي)(1)

وفي خبر آخر (وصديقي).

وفي رواية الكافي بسنده عن جابر بن يزيد قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن القابلة، أيحلّ للمولود أن ينكحها؟ فقال: لا، ولا ابنتها، هي بعض أمهاته).

وفي مرسلة الكليني عن معاوية بن عمار (وإن قبلت وربّت حرمت عليه).

وتقريب الاستدلال بالأولوية، ويرد عليه:-

أ- إن الروايات محمولة على الكراهة بقرينة الروايات الأخرى الدالة على الجواز كصحيحة البزنطي قال: (قلت للرضا عليه السلام: يتزوج الرجل المرأة التي قبّلته؟ فقال: سبحان الله، ما حرم الله عليه من ذلك). أو على ضم الإرضاع إلى القبالة كما في الوسائل فتكون حرمتها بعنوان الأم الرضاعية.

ص: 48


1- والروايات الثلاث التالية تجدها في وسائل الشيعة: 20/500، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 39، ح1، 2، 7 .

ب- المناقشة في تحقق الأولوية لأن الموضوع مختلف فلا يخلو الاستدلال من قياس أو استحسان.ج_- ما ورد في معتبرة رفاعة بن موسى(1)

الآتية (صفحة 182) من أن هذا المعنى مما دسّه المغيرة وأصحابه وأنه من أفعال اليهود.

2- ما في معتبرة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن (عليه السلام) في مَن اشترى جارية حاملاً قد استبان حملها فوطأها، قال (عليه السلام): (بئس ما صنع) إلى أن قال (عليه السلام): (وإن كان لم يعزل عنها فلا يبيع ذلك الولد ولا يورثه ولكن يعتقه ويجعل له شيئاً من ماله يعيش به فإنه قد غذّاه بنطفته)(2)

وفي رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (فعليه أن يعتق ولدها ولا يسترق؛ لأنه شارك فيه الماء تمام الولد) وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (لأن نطفتك غذّت سمعه وبصره ولحمه ودمه) بتقريب أن الانعتاق ووجوب الإنفاق عليه يدلان على شائبة بنوّة الجنين في الجملة وأن التغذية منشأها فكذلك في الحامل.

ويرد عليه:-

أ- إن الوارد في الرواية التغذية بالنطفة وليس مطلق التغذية ولا نعلم وجهاً للتجريد عن الخصوصية.

ب- إن هذا الولد هو ابن صاحب النطفة قطعاً فتغذية المشتري لم تجعله ابناً، وهذه الأحكام المذكورة للجنين خاصة بالحالة ولا تدلّ على البنوّة.

ثالثاً: إن الرحم هو الأساس في العلاقة النسبية لذا سمّيت القرابة به فقيل (الأرحام) و (صلة الرحم) ونحو ذلك لأنهم يشتركون برحم ما في الطبقة الأولى كالإخوة والثانية كأولاد العم والخال أو غير ذلك، فالمرأة التي حملت الجنين في

ص: 49


1- تهذيب الأحكام: 7/468، ح1878.
2- وسائل الشيعة: 21/94، أبواب نكاح العبيد، باب 9، ح1، 2، 3.

رحمها هي الأم.

ويرد عليه: أن التركيز على الرحم وكونه الأصل في القرابة بلحاظ الحالة الغالبة وهي كون المرأة الحامل بالجنين في رحمها هي منشأ تكونه من بيضتها وليس فيه نظر إلى كونها رحماً مستأجرة أو مستضيفة.

ويأتي نفس الرد على الاستدلال بما ورد في التوصية بالأمهات معللاً بأنها حملت الولد فإنها ناظرة إلى المتعارف كما تقدم.

رابعاً: الروايات الدالة على حرمة نكاح بعض الإنسان بعضه في ما حكي من قصة زواج آدم وحواء كصحيحة زرارة في الفقيه قال: (سُئل أبو عبد الله عليه السلام عن خلق حواء وقيل له: إن أناساً عندنا يقولون: إن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، أيقول من يقول هذاأن الله تبارك وتعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه؟! ويجعل للمتكلم من أهل التشنيع سبيلاً إلى الكلام أن يقول: إن آدم كان ينكح بعضه بعضاً إذا كانت من ضلعه ما لهؤلاء حكم الله بيننا وبينهم)(1).

بتقريب أن الجنين جزء من الحامل فيحرم النكاح بينهما لحرمة نكاح بعض الإنسان بعضه.

وفيه: إن المرأة صاحبة البويضة أولى بجزئية الجنين فالاستدلال عليها أقرب وإن أبيت فالروايات تجري فيهما معاً وتكون هذه الروايات دليلاً على القول الثالث.

أقول: لو تمت هذه الوجوه والتقريبات فيجب الاقتصار على ما تفيده من الأحكام وهي حرمة النكاح بينهما وجواز النظر مثلاً فتكون كالأم الرضاعية لا مطلق آثار

ص: 50


1- من لا يحضره الفقيه: 3/379. وسائل الشيعة: 20/352، أبواب النكاح المحرم، باب 28، ح1.

الأمومة النسبية كما هو المدعى.

(القول الثالث) اعتبار كلٍ من صاحبة الماء والحامل بالجنين أمّاً.

فذهب بعضهم إلى الجزم بأمومة صاحبة البويضة واحتاط في أمومة الحامل بالجنين كالشيخ الفياض، قال (دام ظله الشريف): ((نسب المولود لصاحب النطفة والبيضة والأحوط ترتيب أحكام الأم على صاحبة الرحم أيضاً))(1).

ومنهم من احتاط فيهما معاً كالسيد السيستاني، قال (دام ظله الشريف): ((ولو نقلت بويضة المرأة الملقّحة بحويمن الرجل إلى رحم امرأة أخرى فنشأ فيها وتولد ففي انتسابه إلى صاحبة البويضة أو إلى صاحبة الرحم إشكال فلا يترك مراعاة الاحتياط فيما يتعلق بذلك من أحكام الأمومة والبنوة، نعم لا يبعد ثبوت المحرمية بينه وبين صاحبة الرحم وإن لم يحكم بانتسابه إليها))(2).

أقول: صريح عبارتيهما أن الأخذ بهذا القول من باب الاحتياط وهو يتعلق بأمومة كل منهما، ومقتضاه اعتبار المرأة الحامل أمّاً مع أن بعض أحكام الأمومة مخالفة للاحتياط كجواز النظر إليها ولمسها وتوريثها وغير ذلك، فلا بد أن يراد بالاحتياط ما يقتضيه بحسب الموارد، فيحرم نكاحها ولا يجوز لمسها والنظر إليها ويجب التصالح بينها وبين الورثة على الميراث وهكذا.

وأرجع بعضهم وجه الاحتياط للعلم الإجمالي بكون إحداهما أمّاً والأمر متردد بينهما فيحتاط فيهما معاً.

ويردّ عليه:-

1- إن مقتضى القاعدة عندهم انحلال العلم الإجمالي عند خروج أحد أطرافه عن الابتلاء كما لو ماتت إحدى الأمّين فلا تترتب آثاره على الأخرى وهو خلاف

ص: 51


1- المسائل الطبية: 36، الطبعة الثانية، الفصل الثاني.
2- منهاج الصالحين: 1/427 مستحدثات المسائل، المسألة (68).

المعمول به.

2- يمكن نفي وجود علم إجمالي بكون إحداهما أمّاً وادعاء عدم وجود أم في هذه الحالة لاحتمال أن الأمومة تتحقق باجتماع كلا الأمرين: التكون من مائها والحمل بالجنين كما هي الحالة المتعارفة أو على الأقل عدم حمل امرأة أخرى به كإتمام الحمل بأنبوبة صناعية ونحو ذلك، وهذان الأمران لم يجتمعا في أي منهما، ولا غرابة في عدم وجود أب أو أم في البين كما لو صحّ ما يقولونه من إمكان تلقيح المرأة بزرع أنسجة مأخوذة من جسمها فلا يمكن القول بأنها أم وأب في آن واحد.

فالأولى تقريب الاستدلال على القول الثالث بالعمل بالاحتياط بما يقتضيه كل مورد بحسبه، أو بأنه من باب الأخذ بأدلة كلا القولين لتماميتها في الجملة وإن لكل منهما وجهاً، ولا مانع لأن القضية ليست مانعة جمع.

وحينئذٍ يجب العمل في حدود مفاد الأدلة وتكون صاحبة البويضة أمّاً نسبية والمرأة التي حملت بالجنين كالأم الرضاعية.

وإذا لم يتم شيء من الأدلة المتقدمة فنرجع إلى الأصول العملية، ولا أصل يجري في مفهوم الأمومة، وإنما نعمل الأصول في كل أثر من آثار الأمومة على حدة.

مع الالتفات إلى أن الأصول الترخيصية لا تجري في مورد يكون طرفاً لعلم إجمالي منجّز لحكم إلزامي.

ونضم إلى ما تقدم أكثر من وجه لخصوص حرمة النكاح بهما معاً:

أولاً: إنهم قرروا أن الأصل في المعاملات الفساد بمعنى أن الأصل في المعاملات عدم الصحة إلا أن يحرز اجتماع الشرائط فيها، وفي المقام لم تحرز أهلية أي من المرأتين للنكاح لاحتمال كونها أمّاً والتردد من جهة الشبهة المفهومية لمعنى الأم.

نعم قد يقال: أن الشبهة المفهومية غير متحققة في مداليل الألفاظ لأن العرف ببابنا ونسأله عن فهمه لها، وإذا شك أو تردد فهذا يعني عدم الوضع بإزاء هذا

ص: 52

المعنى وعدم صدق العنوان؛ لأن التردد يعني عدم وجود تبادر دال على الحقيقة.

ثانياً: الوجه الرابع من الاستدلال على القول الثاني المتقدم آنفاً وحاصله حرمة نكاح بعض الإنسان بعضه وهو معنى متحقق فيهما معاً.

ويمكن التقدم أكثر والحكم بكون الأم الحامل بالجنين أمّاً نسبية كصاحبة البويضة ولو احتياطاً إذا كان التلقيح بين مائي الزوجين خارجياً وزرعت البيضة المخصّبة في رحم الأم الحامل مباشرة.

أو أنها زرعت في رحم الزوجة صاحبة البويضة ثم نقلت منها إلى المرأة الحامل بها قبل انغراس البيضة المخصبة في جدار رحمها.

ويصبح الاحتياط أضعف مرتبة إذا كان بعد الانغراس فضلاً عن الأزمنة الأخرى كما لو ولجته الروح، وهكذا تتدرج مراتب الاحتياط بحسب زمن نقل الجنين إلى المرأة الحامل به.

ص: 53

المطلب الخامس: قاعدة الولد للفراش

اشارة

وهي مستفادة من الحديث النبوي الشريف (الولد للفراش وللعاهر الحجر) المتضمن في روايات كثيرة كصحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الولد؟ قال عليه السلام: للذي عنده؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: الولد للفراش وللعاهر الحجر)(1)

ولا نحتاج سرد المزيد من الروايات لشهرتها بين الفريقين، ولا التحقيق في السند للقطع بصدور الحديث.

ومن روايات العامة ما تقدم (صفحة 33) في قضية عتبة بن أبي وقاص وعبد بن زمعة.

وساعد على انتشار الحديث الحماقة التي ارتكبها معاوية بإلحاقه زياداً بنسبه مما حفّز الكثير من الصحابة لنقل هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعدّ الفعل من مثالب معاوية وموبقاته كما في رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) له حيث قال: (أولستَ المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعمداً وتبعت هواك بغير هدى من الله)(2).

وحاصل مفاد الحديث أن الولد يُنسب إلى صاحب الفراش إذا نازعه فيه غيره فادعاه لنفسه وللعاهر -أي الزاني- الحجر كناية عن الخيبة والخسران وعدم الاستفادة، كما لا يستفاد من الحجر، أو كناية عن الطرد واللعن كما يرمى الكلب بالحجر لطرده.

ص: 54


1- وسائل الشيعة: 21/174، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح4.
2- رجال الكشي، ترجمة عمرو بن الحمق، رقم 13، الحديث 99.

وقيل إن معنى المراد بالحجر الرجم به أي استحقاق العاهر -وهو الزاني- للرجم، والأول أظهر لأن الزاني قد لا يكون محصناً حتى يكون حكمه الرجم.

ولا يخفى ظهور الجملة في الحصر بقرينة تعريف المبتدأ بالألف واللام كقولهم: (الكرم والفصاحة في العرب).

والجملة وإن كانت خبرية إلا أنها تفيد الإنشاء أي وجوب إلحاق الولد بصاحب الفراش، فهي في مقام بيان الحكم الشرعي لتخلف الصدق عن الإخبار واقعاً وخارجاً أحياناً.

والمراد بالفراش الموجب لنسبة الولد إلى صاحبه الكناية عن وجود لقاءجنسي بين الطرفين ممضى شرعاً سواء كان بسبب النكاح بقسميه أو الملك وإنما قلنا: ((وجود)) للتأكيد على عدم كفاية الافتراش الشأني ومجرد وجود حق الافتراش شرعاً، وأن المراد بالفراش الافتراش الفعلي خلافاً لما ((يقوله العامة(1)

من -كفاية- الافتراش شرعاً بمعنى أنه يحل له وطؤها فلو ولدت وإن لم يفترشها فعلاً ألحق به الولد، إذ هو مع ما فيه من فتح باب الفساد للنساء أشبه شيء بالخرافات))(2).

ويلحق بالفراش وطء الشبهة لاحترامه شرعاً قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((فالمتجه حينئذ الحكم به -أي لحوق الولد- لذي الوطء المحترم ما دام ممكناً))(3).

وقد يستدل على الإلحاق بأنه مقتضى المقابلة في الحديث مع العاهر وهو الزاني فيدخل في الجزء الأول من الحديث كل ما ليس بعهر وزنا.

لكن واطئ الشبهة ليس فراشاً وليس له هذا الحق، غاية الأمر أنه لا عقوبة

ص: 55


1- أي بعض العامة وهو أبو حنيفة دون غيره من علماء الجمهور (راجع الفقه الإسلامي وأدلته: 7/639-646).
2- جواهر الكلام: 31/223.
3- جواهر الكلام: 31/249، 34/29.

عليه لجهله ولا تترتب عليه أحكام الزاني.

وينبغي بيان المراد من القاعدة وموارد تطبيقها من خلال أمور:

الأول: إن الإلحاق بصاحب الفراش مشروط بإمكانه شرعاً أو عادة أو عقلاً كأهلية صاحب الفراش للإنجاب فلو كان الرجل خصياً غير قادر على توليد الحيامن لم يلحق الولد به، ويتحقق إمكان الإلحاق باجتماع عدة أمور:-

1- أن تكون ولادته بعد مضي مدة أقل الحمل وهي ستة أشهر عن المباشرة الجنسية فإذا ولد تاماً سوياً قبل ذلك فهو من غيره، واستُدل عليه بضمّ قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً» (الأحقاف:15) وقوله تعالى: «وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ» (لقمان:14) والروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة(1).

2- أن لا تزيد المدة بين المباشرة الجنسية والوضع على أقصى مدة الحمل وهي تسعة أشهر من حين العلوق وزيادة أسبوعين تقريباً من أول الطهر الذي حبلت فيه وهو الأظهر من الروايات، ويؤكده علم الطب، وإذا وجدت حالة نادرة لأكثر من ذلك فيمكن العمل بها لأهمية الموضوع وتداعياته الخطيرة. وقد أفرط

بعض العامة حتى أوصلوها إلى أربع سنين وست ونحو ذلك من الخرافات التي جعلوها مناقب لبعض أئمة مذاهبهم وقد كذّبهم الإمام الباقر (عليه السلام) في مرسلة عبد الرحمن بن سيّابة(2).

3- أن يحصل بين طرفي الفراش ما يمكن أن يكون سبباً للحمل وإن لم يكن على مستوى إلقاء المني في الفرج فلو ألقى خارجه على نحو يمكن أن تدخل الحيامن إلى الفرج كفى كما في رواية أبي البختري في قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال:(جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: كنت أعزل عن جارية لي فجاءت بولد، فقال (صلى الله عليه وآله): إن

ص: 56


1- وسائل الشيعة: 21/380، أبواب أحكام الأولاد، باب 17.
2- وسائل الشيعة: 21/380، أبواب أحكام الأولاد، باب 17، ح 3.

الوكاء قد ينفلت، فألحق به الولد)(1).

وفي قرب الإسناد أيضاً بنفس السند عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) (أن رجلاً أتى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: إن امرأتي هذه حامل وهي جارية حدثة وهي عذراء، وهي حامل في تسعة أشهر ولا أعلم إلا خيراً وأنا شيخ كبير ما افترعتها وإنها لعلى حالها، فقال له علي (عليه السلام): نشدتك الله هل كنت تهريق على فرجها؟ قال: نعم.. إلى أن قال (عليه السلام): وقد ألحقت بك ولدها)(2).

فلا بد من وجود هذا الاحتمال وإن لم يتأكد منه أو كان احتمالاً ضعيفاً، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((مع فرض إمكان سبق المني وعدم الشعور به لا سبيل حينئذٍ للقطع بنفي الاحتمال ولو بعيداً مع تحقق مسمى الدخول، على أنه يمكن التولد من الرجل بالدخول وإن لم ينزل، ولعله لتحرك نطفة المرأة واكتسابها العلوق من نطفة الرجل في محلها أو غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا رب العزة))(3).

أقول: قوله: ((ولعله لتحرك)) إلى آخره غريب وبعيد عن الواقع إذ كيف يمكن حصول التلقيح من دون التقاء(4)

إلا على نحو المعجزة كما حصل للصدّيقة مريم بنت عمران (عليها السلام)، ولعله تأثر بما ((نُسب إلى ابن سينا أنه قال: يمكن أن يتحقق الانعقاد من كثرة معاشرة العاشق مع معشوقه وإن لم يتحقق دخول أصلاً كما في بعض الأمراض المعدية مثلاً، وعن العلامة أن النطفة والرحم جذابتان،

ص: 57


1- وسائل الشيعة: 21/378، أبواب أحكام الأولاد، باب 15، ح1.
2- وسائل الشيعة: 21/378، أبواب أحكام الأولاد، باب 16، ح1.
3- جواهر الكلام: 31/223.
4- قيل إن مثله يحصل في التلقيح العذري لبعض الحيوانات الثدية!!.

وللجذب مراتب كثيرة))(1).

والخلاصة: أن مورد جريان القاعدة فيما إذا ولدت المرأة وشك في تكوّنه منماء صاحب الفراش ليلحق به أو من ماء الزاني فإنه يلحق بصاحب الفراش ما دام ذلك ممكناً، فلا معنى لجريانها عند القطع بالخلاف لانتفاء موضوعها وهو الشك، ولا عند القطع بالوفاق لأنها من تحصيل الحاصل، نعم تجري عند الشك ووجود دعوى مخالفة لما تقتضيه الفراشية بل تجري حتى عند الظن بالخلاف كما لو وجد شبه بين الولد والزاني أو قال القافة ذلك أو تحليل الحامض النووي DNA ونحو ذلك؛ لأن الشارع المقدس ألغى هذا الظن بل إن القاعدة شرعت لهذا كما في قضية ابن أبي وقاص.

وفي ضوء ما تقدم فإن زرق حيامن الزوج في رحم الزوجة من دون جماع أو إجراء التلقيح خارجاً مما يصحح إجراء القاعدة لصدق الفراشية عليه.

الثاني: الأقرب أنَّ هذه القاعدة أصل وليست أمارة خلافاً لبعض المحققين الذين ألّفوا في القواعد الفقهية كالسيد البجنوردي(2)

لأن لسانها ليس الكشف عن الواقع وإنما بيان الوظيفة العملية للشاك تعبداً كالاستصحاب ولا يكفي في اعتبارها أمارة كونها ((غالب المطابقة، وهذا مناط جعلها أمارة))(3) بل المناط ما ذكرناه.

ومن لطيف ما يشهد على أنها أصل: قضية عتبة بن أبي وقاص وابن عبد بن زمعة فقد ثبتت الفراشية لابن زمعة إلا أنه لم يثبت لوازمها كجواز تكشف أم المؤمنين سودة بنت زمعة فأمرها بالحجاب منه وهو أخوها بحسب القاعدة، وإن كان يمكن إرجاع الأمر إلى الاحتياط وهو حسن وأليق بعفاف نساء النبي (صلى

ص: 58


1- مهذب الأحكام للسيد السبزواري: 25/280.
2- القواعد الفقهية: 4/37-40.
3- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/27.

الله عليه وآله وسلم)، لكن التردد الموجب للاحتياط غير متصور في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو أنه من باب عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلمه الواقعي وإن كان يجري القاعدة ظاهراً.

ومن باب فتح الذهن على كل الاحتمالات ننقل ما ذكره بعض العلماء من أن قاعدة الفراش ((حكم حكومي من ناحيته (صلى الله عليه وآله وسلم) حفاظاً على مصالح النظام وصوناً للنسب والميراث؟ فإنه أوفق بظواهر الأحاديث، مثل حديث البحار حيث قال ابن عباس: (فإني لم أنفه بل نفاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ إذ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ..) فإن نسبة النفي إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الله تعالى يكشف عن كونه من أحكامه (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تجب إطاعته فيها بحكم قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا الرَسُولَ» ومثل قولهم (عليهم السلام): (وليصبر؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..) كما في رواية الصيقل، وعلي بن جعفر، وسعيد؛ فإنه لو كان من حكم الله تعالى لكان الصبر لحكم الله، وكذا مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (هو لك) كما في رواية عائشة، فإنه ظاهر في إنشاء الحكم في موارد التنازع. ويؤيد الوجه الأول أمره (صلى الله عليه وآلهوسلم) باحتجاب سودة بعد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (هو لك) كما في حديث عائشة؛ فإنه نوع احتياط حفظاً للواقع ولو في بعض آثاره))(1).

أقول: توجد هنا عدة تعليقات:-

1- إننا ناقشنا حمل تصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الاحتياط فيما سبق وقدّمنا وجهاً لفهمه.

2- إن لازم هذه الأطروحة أخذ القاعدة على نحو الموضوعية وهي ليست كذلك

ص: 59


1- الشيخ محسن حرم بناهي في مجلة فقه أهل البيت، العدد 10، ص 86.

وإنما هي طريق للواقع فلو قطع بأن الولد من الزنا كما لو كان الزوج منقطع عن التواصل مع الزوجة فلا يمكن تطبيق القاعدة وإلحاقه بالزوج لذا تقدم اشتراط فعلية الفراش. نعم تجري القاعدة مع احتمال الفراش ولو كان ضعيفاً وهذا يعطيها شائبة موضوعية كما سنشير إليه (صفحة 65).

الثالث: لو ادعى الولد صاحب الفراش وواطئ الشبهة سواء كانت الشبهة حكمية كما لو تزوج امرأة قد طُلّقت طلاقاً غير صحيح، أو موضوعية كما لو لم يعلم أنها أخته من الرضاعة، وهو وطء محترم شرعاً وليس عهراً، ففي المسألة وجوه:-

1- ما حكي عن ((ظاهر الأصحاب أنه يُقرع بينهما))(1)؛

لأن القاعدة لا تجري باعتبار أن مورد جريانها كون التعارض بين دعوى صاحب الفراش ودعوى الزاني مع إمكان كل منهما فهذا التقابل شرط في جريان القاعدة، والمقام ليس منه لأن الدعويين محترمتان شرعاً، ولا مرجّح لأحدهما على الأخرى وقد دلّت عليه عدّة روايات مثل صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) إلى اليمن فقال له حين قدم: حدثني بأعجب ما ورد عليك، قال: يا رسول الله، أتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطئوها جميعاً في طهر واحد فولدت غلاماً واحتجّوا فيه كلهم يدعيه، فأسهمت بينهم وجعلته للذي خرج سهمه، وضمّنته نصيبهم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق)(2).

أقول: مورد الرواية التنازع بين أصحاب فراش لأنهم وطأوا في الملك وإن خالف

ص: 60


1- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/43.
2- وسائل الشيعة: 21/172، أبواب نكاح العبيد، باب 57، ح4. ط. آل البيت.

المشترون اللاحقون فوطأوا من غير استبراء، نعم يمكن تقريب كونه وطء شبهةباعتبار الوطء في مدة الاستبراء كوطء المعتدة جهلاً لكنه قياس مع الفارق لأن الجارية خلال مدة الاستبراء مما تحلّ له أما المعتدة فلا تحلّ له.

وتوجد روايات كثيرة توجب الرجوع إلى القرعة عند الاشتباه بالولد استدل بها على قول المشهور لكنها كلها خارجة عن فرض المسألة لأنها إما بين أصحاب فراش أو زناة مثل صحيحة معاوية بن عمار وصحيحة سليمان بن خالد وصحيحة محمد بن مسلم والحلبي(1)

وصحيحة أخرى للحلبي(2).

2- أن يقال بجريان القاعدة في المقام ويكون الولد لصاحب الفراش مطلقاً تمسكاً بإطلاق الجزء الأول من الحديث والنظر إليه كقاعدة مستقلة وأن الولد ما دام يمكن أن يكون من الفراش فهو للفراش خاصة سواء كانت الدعوى المقابلة للزاني أو لواطئ الشبهة الذي هو ليس صاحب فراش كما قلنا سابقاً ولا حاجة لتقييد الجزء الأول من الحديث بالجزء الثاني الذي جيء به لرد دعوى الزاني ولا يقيد إطلاق الأول، ومما يستدل به على ذلك رواية علي بن جعفر الآتية (صفحة 63) فالاحتمال دائر فيها بين صاحبي فراش أو فراش وشبهة باعتبار أن وطء المرأة في مدة الاستبراء كوطء المعتدة وإن كانت تحلّ له، ومع ذلك طبق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديث بجزئه الأول إذ لا يوجد عاهر في البين.

وحينئذٍ لا وجه للقول بالقرعة لأنها لكل أمرٍ مشكل، والمفروض أن إجراء القاعدة قد حلّ الإشكال وألحق الولد بصاحب الفراش فلا موضوع للقرعة.

3- ترجيح صاحب الوطء الأخير سواء كان هو صاحب الفراش أو واطئ الشبهة ونقصد بالواطئ الأخير من لم يفصل وطؤه عن الوضع بوطءٍ آخر والذي وصفه الإمام (عليه السلام) بأنه الذي عنده المرأة، وقد دلّت عليه الروايات كصحيحة

ص: 61


1- المصدر السابق، ح1، 2، 3.
2- وسائل الشيعة: 26/280، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 10، ح1.

جميل بن دراج في الفقيه ومرسلة الشيخ في التهذيب عن أحدهما (عليهما السلام) (في المرأة تتزوج في عدتها، قال: يُفرَّق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما جميعاً فإن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر فهو للأخير وإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فهو للأول)(1).

ومحل الشاهد قوله: (فإن جاءت بولد) فإن مجيء الولد بعد ستة أشهر يجعله محتمل الانتساب إليهما لكن الإمام (عليه السلام) نسبه لواطئ الشبهة لأنه الأخير.

وصحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الولد؟ قال: للذي عنده لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الولد للفراش وللعاهر الحجر)(2).

وتقريب الاستدلالبناءً على أن الثاني وطأها بعد أن اشتراها أو عقد عليها من دون استبرائها.

الرابع: لو تعارضت دعويان لصاحبي فراش وكان بالإمكان إلحاق الولد بكليهما كما لو ولدت بعد مرور ستة أشهر من وطء الثاني وقبل انتهاء تسعة أشهر من وطء الأول بأن طلقها الأول واعتدّت بثلاثة قروء استمرت أقل من ثلاثة أشهر وتزوجت آخر ، حكى السيد البجنوردي (قدس سره): ((بناء الأصحاب على الإلحاق بالثاني))(3)

واستدل له بأن المراد بالفراش هو الفراش الفعلي، ولا شك أن الفراش الفعلي هو الثاني دون الأول. وأشكل عليه بأن ((لزوم الفعلية في الفراش أمر مسلَّم، ولكن في زمان الوطء لا في زمان الوضع، والمفروض أنه في زمان الوطء كان كلاهما فعليين)).

ص: 62


1- وسائل الشيعة: 21/383، أبواب أحكام الأولاد، باب 17، ح13.
2- وسائل الشيعة: 21/174، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح4.
3- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/45.

وفيه: أنه بعد فرض فعلية الفراش لكليهما حين الوطء يكون المقدّم صاحب الفراش عند الوضع الذي اتصل وطؤه بالوضع، ويدل عليه عدة روايات كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا كان للرجل منكم الجارية يطؤها فيعتقها فاعتدت ونكحت، فإن وضعت لخمسة أشهر فإنه من مولاها الذي أعتقها، وإن وضعت بعد ما تزوجت لستة أشهر فإنه لزوجها الأخير)(1)،ورواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل وطأ جارية فباعها قبل أن تحيض، فوطأها الذي اشتراها في ذلك الطهر، فولدت له، لمن الولد؟ قال عليه السلام: للذي عنده، فليصبر لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الولد للفراش وللعاهر الحجر)(2)

ومثلها رواية الحسن الصيقل.

ويمكن أن يقال بالقرعة لصحيحة أبي بصير المتقدمة (صفحة 60) فإن الواطئين أصحاب فراش وإن كنّا قرّبنا وجهاً لاعتبار وطئهم شبهة. وعلى أي حال فما ذهب إليه المشهور أقرب ومعه لا يبقى موضوع للقرعة.

الخامس: لو تنازع في الولد واطئا شبهة أو أكثر أقرع بينهما مع إمكان الإلحاق بهما وقد يقال بإلحاقه بالأخير بنحو ما ذكرناه بمقتضى الروايات المتقدمة.

ولو تنازع واطئ شبهة مع زاني فهنا وجهان:-

1- إلحاق الولد بواطئ الشبهة تمسّكاً بإطلاق الحديث الشريف في جزئه الثاني؛ لأنه يقتضىطرد الزاني ولا يُسمع ادعاؤه مطلقاً سواء كان المدعي المقابل صاحب فراش أو واطئ شبهة ولا نسب للزاني مع الوليد، وقد حكي اتفاق الأصحاب عليه(3) خصوصاً مع تعبير الإمام (عليه السلام) في مكاتبة محمد بن الحسن القمي

ص: 63


1- وسائل الشيعة: 21/174، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح1.
2- وسائل الشيعة: 21/173، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح7، 3.
3- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/47.

(الولد لغية) أي أن نسب ابن الزنا ملغى لكننا قلنا أن هذا الإلغاء بلحاظ الميراث لا مطلقاً بحسب ما ورد في نص الرواية.

2- الاقتراع بينهما إذا اقتصرنا على مورد الحديث وهو التقابل بين دعوى الفراش والزنا، ووطء الشبهة ليس منهما.

والأول أظهر.

فائدة: في جميع الموارد التي حكم فيها بالرجوع إلى القرعة يجب اليوم الاستفادة من (البصمة الوراثية) وهي البنية الجينية -نسبة إلى الجينات أي المورثات- التي تدل على هوية كل إنسان بعينه؛ لأن القرعة لكل أمر مشكل، والمفروض أن هذه الوسيلة العلمية تعطي نتائج دقيقة في إسناد العينة - التي يمكن أخذها من خلية بشرية سواء من الدم أو اللعاب أو المني أو البول وغيرها - إلى صاحبها، وبذلك يرتفع موضوع القرعة بزوال الإشكال والحيرة، فقاعدة القرعة هنا محكومة على نحو الورود.

إن البصمة الوراثية وسيلة علمية يطمأن إليها(1)

في إسناد العينة إلى صاحبها وتقوم دليلاً على العلاقة النسبية بين الوالدين وأولادهما إلا أنه لا يجوز العمل بنتيجتها عند وجود حكم شرعي أو قاعدة شرعية حاكمة كقاعدة الولد للفراش لأن هذه القاعدة حاكمة على النتائج العلمية حيث: أسّسها الشارع المقدس لحفظ النظام الاجتماعي العام بغضّ النظر عن الواقع، كما في رواية ابن زمعة حيث ألحقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصاحب الفراش مع شبهه بالزاني وعلمه

ص: 64


1- قال بعض المتخصصين أن نسبة الخطأ أي احتمال تشابه بصمتين وراثيتين بين شخص وآخر هو واحد من 64 مليار وقيل واحد من تريليون مع أن سكان الأرض لا يصلون إلى 8 مليار (موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/62)، لكن أخطاء القائمين على عملية الفحص وقراءة النتائج محتملة.

(صلى الله عليه وآله وسلم) الواقعي بكونه من الزنا لذا أمر أم المؤمنين سودة بنت زمعة بالتحجب منه.

ويشترط في الاستفادة منها ومن سائر الوسائل العلمية إفادة العلم أو الاطمئنان وعدم وجود دليل شرعي حاكم في المورد فلا يثبت بالبصمة الوراثية انتفاء نسب ولد على فراش الزوجية، ولا يثبت الزنا في ما لو كشف تحليل البصمة على أنهذا الماء الموجود في مهبل المرأة من أجنبي أو أن بصمة الولد طابقت بصمة رجل أجنبي لاشتراط الشهود في إثبات العملية وهكذا.

إن قلتَ: تقدم أن قاعدة الفراش مأخوذة على نحو الطريقية فلو قطع بأن الولد ليس من الزوج فإنه لا يجوز إلحاقه به، وعلى هذا فالوسائل العلمية القطعية حاكمة عليها فلماذا لا يصح إثبات النسب بالبصمة الوراثية حتى في حالة وجود الفراش؟.

قلتُ: إن نسبة الخطأ في البصمة الوراثية وغيرها من الوسائل العلمية موجودة ولا يمكن إهمالها ولو من جهة القائمين على عملية الفحص وقراءة النتائج لغايةٍ ما خصوصاً مع تفشي الفساد المالي والإداري، ومع وجود هذا الاحتمال فإن قاعدة الفراش محكّمة.

وبتعبير آخر: إن قاعدة الفراش تجري طالما وجد احتمال لنسبة الولد إلى صاحب الفراش ولو كان ضئيلاً وهو موجود.

وهذه القوة من الحجية حتى في مورد الاحتمال الضعيف يعطيها شائبة موضوعية تممت هذه الكاشفية الضعيفة مراعاة لحفظ النظام الاجتماعي.

والخلاصة أنه يستفاد من البصمة الوراثية كوسيلة إثبات في المواضع التي لا يوجد فيها دليل شرعي حاكم، ومن تلك الموارد(1):-

ص: 65


1- التزم بأكثرها ((مجلس المجمع الفقهي الإسلامي)) في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة 21-1422/10/26 الموافق 5-2002/1/10.

1- التعرف على الجاني لتبرئة غيره عندما تتطابق العينة مع صاحبها، أما ثبوت العقوبة على المتهم صاحب العيّنة فيمكن دفعه بقاعدة (الحدود تدرأ بالشبهات).

2- تمييز حالات الاشتباه بين المواليد كما في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.

ومن النصوص الواردة في تمييز مثل هذا الاشتباه بوسائل الإثبات المعروفة صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان لرجل على عهد علي عليه السلام جاريتان فولدتا جميعاً في ليلة واحدة، فولدت إحداهما ابنا والأخرى بنتاً، فعمدت صاحبة البنت فوضعت بنتها في المهد الذي فيه الابن وأخذت ابنها، فقالت صاحبة البنت: الابن ابني، وقالت صاحبة الابن: الابن ابني فتحاكما إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأمر أن يوزن لبنهما، وقال: أيتهما كانت أثقل لبناً فالابن لها)(1).

بتقريب تجريد ثقل اللبن عن الخصوصية وإنما هو وسيلة للتمييز فيُعمَّم إلى الوسائل الأخرى.

3- حالات التنازع على مجهول النسب في موارد عدم جريان قاعدة الولد للفراش وانتفاء الأدلة أو تساويهما كما لو دار أمر الولد بين زانيين أو واطئ شبهة، أو بينصاحب فراش وواطئ شبهة كما ذهب إليه المشهور باعتبار عدم وجود عاهر حتى يطرد حيث أوكل الفقهاء الحل إلى القرعة.

4- حالات ضياع الأطفال واختلافهم بسبب الحوادث أو الحروب وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.

5- تنقيح موضوع حرمة النكاح بين رجل وامرأة بأن ادعى شخص أن هذه المرأة أخت الرجل فتحرم عليه ونفى الآخر، فإذا ثبت بالبصمة الوراثية أنها أخته -بغضّ

ص: 66


1- وسائل الشيعة: 27/286، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 21، ح6.

النظر عن جريان قاعدة الفراش في المرتبة السابقة- حرم نكاحها، وإنما خصصنا العنوان بحرمة النكاح دون بقية آثار النسب للإجماع على حرمة النكاح بالمحارم وإن كانت من الزنا، أما لو كان الأثر لا يترتب إلا على الابن من الفراش فإن نتيجة البصمة لا تنفع لأنها لا تميّز بين ابن الفراش وابن الزنا، كما لو ادعى أحد استحقاقه من الميراث وثبت بالبصمة أنه ابن فهذا لا يكفي في اشتراكه بالميراث لاحتمال أنه ابن من الزنا.

6- لزيادة الاطمئنان وإزالة الشك بانتساب ولده الذي ولد على فراشه إليه وقد وردت بعض الروايات في إفادة الشبه بين الرجل وولده هذه النتيجة كصحيحة يعقوب بن يزيد قال: (كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام في هذا العصر: رجل وقع على جاريته ثم شك في ولده؟ فكتب عليه السلام: إن كان فيه مشابهة منه فهو ولده)(1)

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) في من كان يطأ جاريته ثم شك في حملها من غيره قال (عليه السلام): (إن كان الولد لك أو فيه مشابهة فلا تبعهما، فإن ذلك لا يحل لك، وإن كان الولد ليس منك ولا فيه مشابهة منك فبعه وبع أمه)(2)، فالمشابهة هنا تعزّز الانتساب بقاعدة الفراش وليست دليلاً مستقلاً، وقوله (عليه السلام): (وإن كان الولد ليس منك) أي لم يولد على فراشك.

وفي ضوء هذا الحمل يُعلم النقاش في استدلال فقهاء العامة ببعض الروايات الواردة في صحاحهم كالمروي عن عائشة قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري مجزّراً -

ص: 67


1- وسائل الشيعة: 21/168، أبواب نكاح العبيد، باب 55، ح5، 4.
2- وسائل الشيعة: 21/168، أبواب نكاح العبيد، باب 55، ح5، 4.

المدلجي الكناني- نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)(1) وكان زيد أبيضاً وأسامة أسود على حجية قول القائف وإن اختلفوا في التفاصيل(2) وهو ليس صحيحاً وإن الحجة هي قاعدة الفراش وإنما يفيد الشبه هنا سكون النفس واطمئنانها.

ومن الغريب مناقشة بعض فقهاء العامة المعاصرين في حجية البصمة الوراثية مع ذهابهم إلى حجية قول القائف لوضوح الفرق في قوة الإثبات بين القيافة -وهي إثبات النسب بالشبهة- التي تفيد الظن والبصمة الوراثية التي تفيد العلم.

إن قلتَ: لعل الفرق وجود النص على حجية القيافة دون البصمة الوراثية.

قلتُ: إن المشكلة ليست إثباتية حتى يكون الفيصل هو النص وإنما هي ثبوتية باعتبار أن حجية القيافة من باب أنها طريق للواقع ووسيلة للإثبات فيلاحظ هذا الملاك في البصمة الوراثية.

ص: 68


1- (3) مسند أحمد: 6/38. صحيح مسلم: 4/172. سنن أبي داود: 1/505، باب في القافة، ح 2267. سنن الترمذي: 3/298، باب ما جاء في القافة، ح 2212. وغيرها.
2- (4) موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/68.

المطلب السادس: هل المولود من الزنا ينتسب إلى والديه؟

اشارة

وهذه قضية مهمة لما تترتب على نفي نسب ابن الزنا من آثار قانونية وأخلاقية واجتماعية خطيرة، ويحوّلهم إلى قنبلة موقوتة في المجتمع خصوصاً مع ازدياد عددهم في المجتمعات البعيدة عن الدين أو بسبب بعض الظروف الطارئة كالاحتلال الأجنبي وتسلّط العصابات الإجرامية. فهنا نسأل: هل تترتب على ابن الزنا أحكام الولدية التي قررها الشارع؟

وبتعبير آخر: هل أن المولود من الزنا يعتبر ابناً شرعاً وتجري عليه أحكام الولدية مطلقاً أو جزئياً أو لا تجري كلها استثناءً من ضابطة الأبوة والأمومة التي قيلت وهي التولد من الماء؟

والذي فتح باب الاستثناء هذا: الروايات التي دلّت على عدم التوارث بين ابن الزنا ووالديه ففهم المشهور منها ومن وجوه أخرى سنذكرها انتفاء نسب ابن الزنا شرعاً، بل حكي الإجماع عليه كما سيأتي في كلمات الأصحاب، لكنهم جميعاً أجمعوا على حرمة نكاح الرجل من بنته بالزنا ونكاح المرأة من بنتها بالزنا عدا شاذ لا يُعبأ به، وكلامه قابل للتوجيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وهذا محل إجماع فقهاء العامة أيضاً، قال ابن قدامة في المغني: ((ويحرم على الرجل نكاح بنته من الزنا وأخته وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا، وهو قول عامة الفقهاء.

وقال مالك والشافعي في المشهور من مذهبه: يجوز ذلك كله؛ لأنها أجنبية منه ولا تنسب إليه شرعاً، ولا يجري التوارث بينهما، ولا تعتق عليه إذا ملكها، ولا تلزمه نفقتها، فلم تحرم عليه كسائر الأجانب.

ولنا قول الله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ» وهذه بنته، فإنها أنثى مخلوقة من مائه. هذه حقيقة لا تختلف بالحل والحرمة -إلى أن قال-: ولأنها

ص: 69

بضعة منه فلم تحل له كبنته من النكاح. وتخلُّف بعض الأحكام لا ينفي كونها بنتاً كما لو تخلّف لرقٍّ أو اختلاف دين))(1).

أقول: كما ترى فإنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لأن افتراض المتولدة من الزنا بنتاً له أول الكلام فلا بد من إقامة الدليل، كأصالة عدم النقل عن المعنى اللغوي والعرفي واعتبار عدم التوارث حكماً خاصاً.

ويمكن تقريب الرد بناءً على مطلب أصولي آخر: وهو عدم جواز إخراج ما زاد عن القدر المتيقن من الخاص من تحت العام إذا كانت فيه شبهة مفهومية على نحو الأقل والأكثر، وعندنا هنا عمومات الحل وقد خرج منها حرمة نكاح البنت التي يدورأمرها بين الأقل -وهو المعنى الشرعي الذي يشترط لصدق الولد كون الوطء صحيحاً- والأكثر -وهو المعنى اللغوي الذي يكتفي بالتولد من الماء- فتخرج البنت المولودة بالوطء الصحيح خاصة. ونتيجة هذا الأصل القول بالجواز، وسيأتي توجيه بعدم منافاة المخالفين في التعليقة الثانية على كلام الشيخ (قدس سره).

والظاهر أن الحكم جارٍ في من يتصل بولد الزنا أيضاً وإن لم يصرحوا به، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((يثبت تحريم النكاح بالنسب من الزنا أيضاً في جميع الأنسباء المذكورين، وإن كان كلام الأكثر مخصوص بتحريم البنت الحاصلة من الزنا والابن الحاصل منه. ولكن الظاهر أن مرادهم التعميم، ولذا زاد بعضهم بعد ذكر البنت قيد: مثلاً))(2).

ونعود الآن إلى بيان منشأ استثناء ولد الزنا من النسب، فقد دلّت الروايات الكثيرة على عدم التوارث بين ابن الزنا ووالديه كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أيما رجل وقع على وليدة قومٍ حراماً، ثم اشتراها، فادعى ولدها، فإنه لا يورث منه شيء، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الولد

ص: 70


1- المغني لابن قدامة: 7/485، النكاح.
2- مستند الشيعة: 16/223.

للفراش وللعاهر الحجر، ولا يورث ولد الزنا إلا رجل يدعي ابن وليدته)(1).

ومكاتبة محمد بن الحسن الأشعري(2)

قال: (كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) معي يسأله عن رجل فجر بامرأة، ثم إنه تزوجها بعد الحمل، فجاءت بولد، وهو أشبه خلق الله به، فكتب بخطّه وخاتمه: الولد لغيّه لا يورث)(3)؛ لأنه يقطع بأنه من الزنا وقد تزوجها بعد الحمل به.

ومن هنا انفتح أكثر من باب لسؤال المشهور والإشكال عليه:-

1- ما وجه عدم جريان أحكام الولدية الأخرى على ابن الزنا، والنصوص حرمته من الميراث فقط؟

2- وإذا لم يكن ولداً شرعياً فلماذا أجمعوا على حرمة النكاح بين الزاني وبنته والزانية وولدها؟ وما وجه التفصيل حينئذٍ بين الحكم بحرمة النكاح الذي أجمعوا عليه وغيره من الأحكام التي نفوها عن ابن الزنا.

هذا مع اعتراف المشهور فضلاً عن المخالفين له بعدم وجود حقيقة شرعية للأبوة والأمومة غير المعنى اللغوي والعرفي الذي حررناه، والولد المتكون من ماء الزاني والزانية هو ولد لغة وعرفاً ولم يتصرف الشارع المقدس في المعنى الموضوع له، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((إن المعتبر هو الأول -أي تحقق النسب بالصدق العرفي واللغوي وثبوت سائر الأحكام النسبية- بل لا حقيقة شرعية للنسبة،وأما انتفاء الأحكام الأخر -غير تحريم النكاح- فإنما هو بدليل آخر من إجماع وغيره)).(4)

ص: 71


1- وسائل الشيعة: 26/274، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 8، ح1، 2.
2- الأشعري مجهول إلا أنه يمكن تصحيح الرواية باعتبار أن بعض الرواة عنه كالحسين بن سعيد وعلي بن مهزيار من أجلاء الأصحاب وهم لا ينقلون عن الأشعري نيل حظوة مكاتبة الإمام (عليه السلام) له بخطه وخاتمه إلا إذا كان عندهم اطمئنان بصدقه.
3- وسائل الشيعة: 26/274، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 8، ح1، 2.
4- مستند الشيعة: 16/222.

ولذا تعددت الأقوال في المسألة:-

1- انتفاء نسب ابن الزنا شرعاً فلا تترتب عليه جميع الأحكام ما عدا ما ذكرناه من حرمة النكاح وهو القول المشهور الذي ادعي عليه الإجماع، بل في كلام صاحب الجواهر الآتي أنه من الأحكام الضرورية المعلومة.

2- الإشكال على تفصيل المشهور والعمل بالاحتياط أو إجراء الأصول في كل مورد من هذه الأحكام بحسبه كما في جامع المقاصد، والعروة الوثقى كما في منع المتولد من زنا الهاشمي من زكاة غير الهاشمي.

3- جريان أحكام البنوّة على ابن الزنا عدا ما خرج بدليل كالتوارث وقد ذهب إلى هذا جمع كالسيد الخوئي والسيد البجنوردي (قدس الله سريهما) ويظهر من آخرين كما سيأتي عند بيان الرأي المختار.

أما عند العامة فقد حكي الإجماع على انتفاء نسبه ((فلا يلحق الزاني نسب الولد عند الجمهور من المذاهب الثمانية وإن ادعاه الزاني لقوله (صلى الله عليه وآله): (الولد للفراش وللعاهر الحجر) أي أن الزاني لا يستحق إلا الحد، ولا يلحق به ولده ولأن إلحاق الولد بالزاني إعانة له على الزنا، ونحن مطالبون بسدّ الذرائع، صيانة للأنساب))(1).

لكن كلامهم في الميراث يناقض هذا فقد قالوا: ((لا توارث بين ابن الزنا وأبيه وقرابة أبيه بالإجماع، وإنما يرث بجهة الأم فقط، لأن نسبه من جهة الأب منقطع، فلا يرث به، ومن جهة الأم ثابت، فنسبه لأمه قطعاً، لأن الشارع لم يعتبر الزنا طريقاً مشروعاً لإثبات النسب))(2).

أقول: لو كان نسب ابن الزنا منتفياً لما كان هناك فرق بين الزاني والزانية، فيظهر أن نفي النسب عن الأب خاصة لعدم العلم بتولده من مائه لاحتمال تولده من ماء زانٍ

ص: 72


1- موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/607.
2- موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 9/421.

آخر، أما الزانية فنقطع أنها أمه لأنها حملت به وولدته، فالزنا لا ينفي النسب إلا إذا اختلطت المياه، وهذه نظرة دقيقة لما قيل من (انتفاء نسب ولد الزنا).

وما يمكن أن يستدل به على المشهور وجوه نعرضها باختصار وندع التفاصيل إلى مناقشة كلمات الأصحاب:-

1- الروايات الدالة على عدم التوارث مع ابن الزنا بتقريب أن هذا الحكم دال على انتفاء النسب بينهما شرعاً.

ويرد عليه: أن ابن الزنا ليس الممنوع الوحيد من الميراث وإنما يمنع القاتل وغيره ولم يقل أحد بأنه سبب لانتفاء النسب، كما أن عدم توارث الزوجين بالمنقطع لا ينفي الزوجية بينهما وهكذا، فعدم التوارث حكم خاص.

نعم يمكن أن يفرق بين المقام وهذه النقوض من جهة حرمان من يتصل بابن الزنا من الميراث أيضاً بينما لا يمنع منه الآخرون ويختص المنع بالمباشر وهو شاهد على انقطاع النسب، لكن هذا لا يخرجه عن كونه حكماً خاصاً لا يمكن أن يستفاد منه انتفاء أحكام الولدية خصوصاً مع ما سنذكره من الوجوه على اتصافه بالعنوان.

2- قاعدة (الولد للفراش وللعاهر الحجر) التي تضمنها الحديث النبوي الشريف المتواتر، فإن جزأها الثاني ينفي لحوق ولد الزنا بالنسب قال في جامع المقاصد: ((الظاهر من قوله (صلى الله عليه وآله): (وللعاهر الحجر) أن ((الزاني لا ولد له))(1)،ويرد عليه ما ذكرناه عند مناقشة القاعدة في بحث مستقل وملخّصه أنها واردة لبيان الوظيفة العملية عند الشك في كون الولد من الفراش أم من الزنا، أما لو تعيّن كونه من الزنا فإن الحديث لا ينفي نسبه، بل في صحيحة الحلبي ومكاتبة الأشعري المتقدمتين (صفحة 70-71) تصريح بعدم إلحاق الولد بالفراش إذا علم بكونه من الزنا مع أنه نفس الرجل، وإن صحيحة محمد بن مسلم في الجارية التي

ص: 73


1- جامع المقاصد: 12/192.

حملت من المساحقة تصرّح بأن الولد لصاحب الماء مع عدم كون الجارية فراشاً له فالفراش ليس شرطاً لإلحاق الولد.

ولو قلنا بأن هذا الجزء من الحديث مستقل بدلالته على انتفاء نسب ابن الزنا ويعضده فهم هذا المعنى من روايات حرمانه من الميراث فإنه يساوق القول بتأسيس حقيقة شرعية وتترتب عليها سائر الأحكام ومنها حلية النكاح بينهما، وقد نفوا وجود هذه الحقيقة الشرعية كما تقدم.

وهذا هو منشأ الإشكال الذي أشرنا إليه قبل قليل وسننقل كلماتهم في ذلك، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((ويشكل بأن المعتبر إن كان هو صدق الولد لغةً لزم ثبوت باقي الأحكام المترتبة على الولد، كإباحة النظر، وعتقه على القريب، وتحريم حليلته، وعدم القود من الوالد بقتله، وغير ذلك. وإن كان المعتبر لحوقه به شرعاً فاللازم انتفاء الجميع. فالتفصيل غير واضح. ولكن يظهر من جماعة من علمائنا -منهم العلامة في التذكرة، وولده في الشرح، وغيرهما- أن التحريم إجماعي، فيثبت بذلك. وتبقى الأحكام الباقية على أصلها، وحيث لا يلحق نسبه ولا يسمى ولداً شرعاً لا يلحقه تلك الأحكام))(1).والخلاصة أن قاعدة الفراش إنما تدل على انتفاء نسب ابن الزنا من الزاني إذا كانت المرأة صاحبة زوج وبينهما فراش يحتمل تكوّن الولد منه.

3- الإجماع الذي حكاه جماعة قال الشيخ في المبسوط: ((ولا يلحق الزاني بلا خلاف))(2)

وقال المحقق الكركي (قدس سره): ((وأما الزنا فلا يثبت به النسب إجماعاً))(3).

وزاد صاحب الجواهر بدعوى ضروريته ومعلوميته من النصوص، قال

ص: 74


1- مسالك الأفهام: 7/202.
2- المبسوط: 5/307.
3- جامع المقاصد: 12/190.

(قدس سره): ((وكيف كان فلا يثبت النسب مع الزنا إجماعاً بقسميه، بل يمكن دعوى ضروريته فضلاً عن دعوى معلوميته من النصوص أو تواترها فيه فلو زنى فانخلق من مائه ولد على الجزم لم ينسب إليه شرعاً على وجه يلحقه الأحكام، وكذا بالنسبة إلى أمه))(1).

ويرد عليه:-

1- إنه يلزم منه قبح تخصيص الأكثر حيث اعترفوا بأن ابن الزنا ولد لغة وعرفاً إلا أنهم نفوا عنه كل أحكام الولدية غير حرمة النكاح.

2- يمكن تصوير الإجماع على خلاف هذا لإجماعهم على حرمة النكاح بين الزاني والزانية وأبنائهما من الزنا وهذا يعني أنهم أولاد فحرم نكاحهم.

3- صغروياً بعدم تحققه حيث ناقش الأصحاب في ما هو أولى من هذا المورد بالإجماع وهو ما ذكره المحقق النراقي (قدس سره) في كلامه المتقدم آنفاً؛ قال الشهيد الثاني في المسالك في ذيل كلامه المتقدم معلقاً على تفصيل المشهور: ((فتخصيص الحكم بتحريم النكاح مما لا وجه له سوى ادعاء بعضهم الإجماع عليه، وهو كما ترى))(2).

4- كبروياً باحتمال كونه مدركياً مستنداً إلى النصوص الدالة على عدم التوارث، وبعدم العلم باتصال هذا الإجماع إلى عصر الإمام (عليه السلام) ليكون كاشفاً عن قول المعصوم.

بل قد يدعى ارتكاز العكس أي انتساب ابن الزنا إلى الزاني لذا احتاج حرمانابن الزنا من الميراث إلى بيان، ولو وجد مثل هذا الإجماع أو الارتكاز المتشرعي على انتفاء نسب ابن الزنا شرعاً لما احتاج حرمانه من الميراث إلى بيان.

ص: 75


1- جواهر الكلام: 29/256.
2- مسالك الأفهام: 7/202.
التمسك بأصالة العموم لإثبات التخصّص دون التخصيص:

نعم يمكن أن نقرّب قول المشهور بناءً على مطلب أصولي، وهو إمكان التمسك بأصالة العموم لنفي التخصيص عند دوران الأمر بين التخصص والتخصيص، ومثاله: لو قال المولى: أكرم العلماء ثم قال: لا تكرم زيداً، وشككنا بأن خروج زيد تخصصاً لأنه ليس من العلماء أو تخصيصاً لأنه من العلماء ولكنه فاسق مثلاً والمولى لا يريد تكريم الفساق.

وتترتب عليه ثمرة حاصلها: أنه بناءً على كون خروجه تخصيصاً فإنه تترتب عليه سائر أحكام موضوع العام وهم العلماء عدا وجوب إكرامه، أما إذا خرج تخصصاً فلا تجري فيه كل أحكام العلماء وليس فقط وجوب إكرامه.

وتطبيق القاعدة في المقام للاستدلال على قول المشهور أننا عندنا عام يوجب توريث الأولاد مثل «يُوصِيكُمُ اللهُ في أولادِكُم للذَكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ» والروايات كثيرة، وورد خاص (ابن الزنا لا يورث) وقد شككنا في أن خروج ابن الزنا من عموم التوريث بالتخصص ومعناه انتفاء نسبه مطلقاً وأن حرمانه من الميراث لأنه ليس ابناً أصلاً فلا تترتب عليه كل أحكام البنوّة كما يذهب إليه المشهور، أو بالتخصيص أي أنه ابن وتترتب عليه كل أحكام البنوّة إلا أنه خرج من خصوص حكم التوريث وما ثبت نفيه بدليل، فهنا نتمسك بأصالة العموم لنفي التخصيص ونقول بأنه لو كان ابن الزنا ابناً شرعياً لورث، فما دام محروماً من الميراث فهو ليس بولد.

ويحسُنُ نقل المثال إلى هذا المطلب في علم الأصول مضافاً إلى مثالهم المتداول في كتب الأصول وهو طهارة ماء الاستنجاء(1)

الذي توجد أدلة على طهارته والبحث فيه فقهي ليساهم كل من العلمين في ترصين وتطوير الآخر.

وقد حكى السيد الحكيم في الحقائق عن الشيخ الأنصاري (قدس سره)

ص: 76


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 46/391.

وبعض من تأخر عنه من المحققين إمكان التمسك بأصالة العموم لنفي التخصيص ((بل قيل أنه جرى ديدنهم عليه في الاستدلالات الفقهية))(1)

ووصفه السيد الخوئي بأنه ((المعروف في الألسنة))(2)،فيمكن في المثال نفي كون زيد من العلماء ونفى خروجه بالتخصيص، ويثبت التخصص وهو أنه ليس فرد الموضوع أصلاً؛ لأنه لو كان زيد من العلماء لوجب إكرامه -بحسب تحليل قضية العام- فما دام لم يجب إكرامه فهو ليس منالعلماء، كما في قولنا: (كل ماء سائل) فإذا وُجد شيء ليس بسائل فلا يمكن أن يكون ماءً لأنه خلف القضية الكلية.

قال الشهيد الصدر (قدس سره) في تقريبه: ((إن مقتضى أصالة العموم أو الإطلاق في القضية الكلية ثبوت عكس نقيضها وهو انتفاء موضوعها عند انتفاء محمولها، فإذا ثبت بدليل انتفاء المحمول في موردٍ ثبت بالملازمة انتفاء الموضوع وهو معنى التخصص.

وإن شئت قلت: إن كل قضية حقيقية وإن كانت حملية إلا أنها في قوة قضية شرطية مفادها أنه كلما صدق الموضوع ثبت المحمول وانتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء لازم عقلي لا محالة، فإذا ثبت بدليل انتفاؤه ثبت انتفاء الموضوع.

وهذا المدلول وإن كان التزامياً بالنسبة لظهور العام أو المطلق إلا أن المفروض حجية مثبتات الظهور لكونه من الأمارات وعدم اختصاص حجيته بالمداليل المطابقية خاصة))(3).

أقول: يلزم على هذا التقريب عدة لوازم لا يقولون بها:-

1- نفي وجود التخصيص واعتبار كل فرد خارج من حكم العام هو من باب التخصص لأن مقتضى الملازمة التي ذكروها أن كل فرد غير محكوم بحكم العام فهو

ص: 77


1- حقائق الأصول للسيد الحكيم (قدس سره): 1/514.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 46/391.
3- بحوث في علم الأصول: 3/353.

خارج من موضوعه مطلقاً وليس في حالة الشك فقط، وهذه النتيجة خلاف ما تبانوا عليه من وجود التخصيص.

2- جواز التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصِّص لأن حكم العام لا يخرج عنه إلا ما خرج من عنوانه فالفحص يكون عن الموضوع وأفراده لا الحكم وتخصيصه.

وقد أشكل المحقق صاحب الكفاية(1)

ومن جاء بعده من المحققين على جواز العمل بهذه القاعدة؛ لأن أصالة العموم من الأصول اللفظية التي يرجع إليها عند الشك في مراد المتكلم كما لو علمنا بدخول فرد في العام وشككنا في شمول حكمه له لخروجه بالخاص مثلاً فهنا نأخذ بأصالة العموم ونحكم على هذا الفرد بحكم العام، والمقام ليس من هذا القبيل لأننا نجزم بخروج زيد من وجوب الإكرام، وابن الزنا من حكم التوريث فلا يصح التمسك بأصالة العموم فلا تكون حجة فضلاً عن مثبتاتها.

لكن هذا الرد لا يكفي إذ يمكن تصوير المسألة على أنها شك في المراد باعتبار أننا نشك أن العام المجعول في عالم الثبوت في مثل «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ» هل هو الابن المتولد من ماء الرجل والمرأة عدا ما كان من الزنا بأن يكون مقيداً بقيد يخرج ابن الزنا عن موضوع العام فيثبت التخصص، أم أنه ليس مقيّداً به وأن المراد هو المعنى اللغوي والعرفي الذي يكتفي بالتولد من مائه، فيمكن هنا التمسك بأصالة العموموالإطلاق لإثبات إطلاق الجعل وعدم أخذ قيد فيه ولازمه العقلي ثبوت التخصيص في ذلك الفرد.

وبالعودة إلى تقريب الاستدلال على صحة التمسك بأصالة العموم فقد قالوا: بأنه قد برهن في محله على أن صدق عكس النقيض من لوازم صدق القضية، فإذا صحَّ قولنا: (كل إنسان حيوان) فلا بد أن يصح (كل ما ليس بحيوان فهو ليس إنساناً)؛ لأن الأصول اللفظية من قبيل الظواهر وهي داخلة في الأمارات،

ص: 78


1- كفاية الأصول: 225، ط. آل البيت (عليهم السلام)، بعنوان ((بقي شيء)).

والأمارات كما هي حجة في مداليلها المطابقية فإنها حجة في مداليلها الالتزامية وتثبت بها لوازمها الشرعية والعقلية والعادية، فيكون العموم دائماً دالاً بالالتزام على أن كل ما لا يكون محكوماً بحكمه ليس من أفراده، فما دام إكرام زيد غير واجب فهو ليس من العلماء، وما دام ابن الزنا غير محكوم بحكم العام وهو توريث الأولاد فهو ليس ولداً.

وقد أجاب صاحب الكفاية (قدس سره) على هذا الإشكال بما بيّنه بعض تلامذته قائلاً: ((إنه وإن اشتهر أن المثبت من الأمارات حجة بمعنى أن الأمارات تكون حجة في المدلول الالتزامي إلا أنه ليس ذلك بنحو الكلية بل يختلف باختلاف مقدار دلالة دليل الحجية فإذا كان مطلقاً كان مقتضياً للحجية على اللازم مطلقاً وإن كان مهملاً اقتصر على المتيقن من دلالته وحيث أن دليل حجية الظهور بناء العقلاء الذي هو من الأدلة اللبية كان اللازم الاقتصار على المتيقن من دلالته ولم يثبت بناء العقلاء على حجية الظهور بالإضافة إلى عكس نقيض القضية فلا يحكم بحجيته فيه بل يرجع إلى أصالة عدم الحجية ونظيره اليد وأصالة الصحة بناء على أنهما من الأمارات فإنهما لا يكونان حجة على لوازم الملكية والصحة))(1).

ويرد عليه: أن شمول حجية الظواهر للوازمها من القدر المتيقن وأن العقلاء يبنون على ذلك، فكما أن السيرة ثبتت على ما لو علمنا بدخول زيد في العام إلا أننا شككنا في خروجه منه بالتخصيص فنتمسك هنا بشمول العام له، فكذلك إذا تحققت الملازمة في ما نحن فيه فإن حجيتها ثابتة، وإلا فإن سؤالاً يُثار عن سبب تفريق العقلاء في الحجة بين الموردين مع أن بناءهم في حجية الأمارات على نكتة واحدة وهي الكشف والطريقية ((وحينئذٍ تكون كاشفية هذا الدليل عن الموجبة الكلية وعن عكس النقيض بنفس القوة بعد فرض التلازم بينهما))(2).

ص: 79


1- حقائق الأصول: 1/514.
2- تقريرات الشهيد الصدر (قدس سره) بقلم الشيخ حسن عبد الساتر: 7/291.

ولم يتعرض أحد لهذا السؤال وجوابه إلا ما حكاه الشهيد الصدر (قدس سره) عن المحقق العراقي(1)

وملخصه: إن التمسك بأصالة العموم لإثبات التخصص يعني أننا نرجع إلى المولى في حل شبهة موضوعية -حيث نثبت بها جزئية هذا الفرد من عنوان العام- وهي ليست من وظائفه وهي عين نكتة عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.لكن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) قال عن هذه النكتة أنها غير صحيحة و ((أن التبعيض في الحجية بالنسبة لبعض المداليل وإن كان معقولاً ثبوتاً، لكن هو خلاف المرتكز العقلائي، فالأمارية نسبتها إلى كل المداليل على حد واحد))(2)

ثم أفاض في تحقيق ذلك وذكر صوراً يصح كلام المحقق العراقي على بعضها.

وأرى أن يقال بأن حل الشبهة الموضوعية وإن لم يكن من وظائف المولى أي لا يجب عليه إلا أنه يجوز له ذلك ولا مانع منه إذا اقتضت الحاجة كما في الموضوعات المستنبطة، ونظير ذلك وظائف الفقيه فإنها لا تشمل الفحص عن الموضوع إلا أنه يقوم بذلك أحياناً لأمرٍ ما ككونه من أهل الخبرة أو وكيلاً عن المكلف لعجزه ونحو ذلك، ويكون الجواز أوضح في ما لو كان هذا البيان يأتي بدلالة التزامية وليس من نفس الخطاب.

الرأي المختار:

والصحيح في الرد على جواز التمسك بأصالة العموم لإثبات التخصص أن يقال: إن القضايا التي بنوا عليها برهانهم في الملازمة بالصدق بين الموجبة الكلية وبين عكس النقيض هي قضايا خارجية واقعية تكوينية كقضية (كل ماء سائل) و

ص: 80


1- مقالات الأصول للعراقي: 1/152-154 (عنه).
2- تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر: 7/293.

(كل إنسان حيوان) وهي تتصف بالكلية، لكنها تختلف في طبيعتها عن قضايا الأحكام الشرعية التي هي قضايا اعتبارية وكلّيّتها بيد المعتبر فتقبل هذه من عدم الملازمة ما لا تقبله تلك.

وبتعبير آخر: إن صياغة القضايا الشرعية على نحو الكلية أمر غير صحيح على إطلاقه لاحتمال خروج أفراد منها بالتخصيص، بل إن أكثر الأحكام كذلك، لذا اشتهر عنهم قولهم: ((ما من عام إلا وقد خص)) وباختصار فإن احتمال التخصيص ما دام موجوداً فإن عكس النقيض لا يمكن الجزم بصحته لاحتمال خروجه بالتخصيص، فلا يصح أن نقول: (ما دام إكرام زيد غير واجب فهو ليس من العلماء) لاحتمال تخصيصه لأمرٍ ما، فنكتة صدق عكس النقيض غير متحققة.

فلا توجد عندنا في المسألة محل البحث كبرى كلية بعنوان ((كل ولد يرث)) حتى يقال أن عكس نقيضها ((كل من لم يرث فهو ليس بولد)) لأن عمومات «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ» مخصصة بعدم المانع من الميراث كالكفر أو القتل أو الحاجب كحجب الولد المباشر لولد الولد.

فيمكن أن يقال هنا أن الولادة من الزنا مانع من الميراث كبقية الموانع فيكون خروج ابن الزنا بالتخصيص.

لذا لو أمكن إثبات أن قضية العام كبرى كلية وهو العام الذي يصفونه بأنه آبٍ عن التخصيص فإنه يمكن التمسك بأصالة العموم لإثبات التخصص؛ لأن هذا الظهور يحقق صغرى الملازمة التي هي ثابتة على أي حال، فالصحيح القول بالتفصيل، ولايمكن القول في هذه المسألة بالجواز وعدمه على الإطلاق.

بيان ذلك: أنه (تارة) يمكن استظهار خروج الفرد على نحو التخصص كما لو استعمل المولى لفظاً صريحاً في العموم قوي الدلالة على شمول لتمام أفراده بحيث يكون آبياً عن التخصيص كما لو قال: بع جميع كتبي، ثم قال: لا تبع الكتاب الفلاني، فيظهر من ذلك أن هذا الكتاب ليس من كتبه وإنما هو وقف أو إعارة مثلاً ووجه الظهور: أنه لو كان من كتبه لكان من غير اللائق استعمال لفظ (جميع)

ص: 81

ويستلزم هذا الاستثناء كذب أحد لوازم صدق القضية؛ لأن لازم بيع جميع الكتب عدم كون ما لا يجب بيعه من كتبي إلا أن يتصل المخصص بالعام، لكن لو قال بع كتبي واستثنى فإن المورد يكون قابلاً للتخصيص ولا تتحقق هذه النكتة التي لم يلتفت إليها السيد الخوئي (قدس سره) حيث تعاطى مع المثال المذكور كغيره(1) ولم يُشر إلى هذا التفصيل.

كما يمكن (تارة أخرى) استظهار خروج الفرد على نحو التخصيص عندما يكون إطلاق الخاص من القوة بحيث أنه حتى لو كان الفرد المشكوك داخلاً في موضوع العام فإنه يخرجه منه، ومقامنا من هذا القبيل فإن أدلة عدم توريث ابن الزنا من القوة والوضوح بحيث تمنعه من ذلك حتى لو كان ابناً شرعاً وليس فقط لغة وعرفاً.

لكن هاتين النتيجتين من الاستدلال تحتاجان إلى التمسّك بالظهور في المرتبة السابقة على التمسك بأصالة العموم.

فالصحيح في رد هذا التقريب المذكور لقول المشهور أن يقال:-

إن السبب هو عدم كلية الكبرى، وليس عدم صدق الملازمة بين صدق القضية وصدق عكس نقيضها.

وبتعبير آخر: إن عدم صحة إثبات خروج الفرد بالتخصص ليس من جهة عدم صحة الملازمة وإنما لأن كلّيّة الكبرى غير تامة.

مضافاً إلى ما قلناه من قوة إطلاق الخاص -وهو عدم توريث ابن الزنا- وإخراجه الفرد المشكوك من حكم العام بالتخصيص مطلقاً وعلى أي حال.

فائدة: تقدمت منّا في بعض الأبحاث السابقة(2) فكرة مفادها أن كل تخصيص يرجع

ص: 82


1- موسوعة السيد الخوئي: 46/393. بحوث في علم الأصول (تقريرات الشهيد الصدر (قدس سره) بقلم السيد محمود الهاشمي: 3/353).
2- فقه الخلاف: 5/322، الطبعة الأولى، مسألة (حكم الصلاة في عرفة لمن أقام بمكة).

في الحقيقة إلى التخصّص؛ لأن استثناء الخاص كزيد من العام كوجوب إكرام كل عالم لا بد أن يكون لنكتة ككونه ليس متقياً وإلا لو كان زيد كبقية العلماء لا يختلف عنهم بشيء فإن إخراجه من حكم العام سيكون عبثياً، وحينئذٍ يكشف هذا الاستثناء عن كون موضوع العام ليس مطلق العلماء وإنما بقيد التقوى، ونتيجة ذلك أن موضوع العام همالعلماء المتقون، وفي ضوء هذه النتيجة يكون خروج زيد من هذا الموضوع تخصصاً.

محاولات الأصحاب للتخلص من إشكال التفصيل في أحكام ابن الزنا:

ونستعرض الآن بعض كلمات الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في وجه التفصيل في أحكام ابن الزنا بين النكاح فيحرم باعتباره ابناً بالمعنى اللغوي وبين الأحكام الأخرى فلا تترتب لانتفاء نسبه شرعاً؛ لمناقشتها والاطلاع على عمق الجدال والإشكال في المسألة.

قال الشيخ في المبسوط: ((إذا زنا بامرأة فأتت بولد من زنا، لحق بأمه نسباً عندهم. وعندنا لا يلحق لحوقاً شرعياً يتوارثان عليه، ولا يلحق بالزاني بلا خلاف، وعند بعضهم يجوز له نكاحها إن كانت بنتاً وإن كان مكروهاً، وعند آخرين لا يجوز. ولو ملكه عتق عليه، وعندنا لا يجوز له أن يتزوجها غير أنه لا يعتق عليه؛ لأنه لا دليل عليه.

ومن كره تزويجها قال بعضهم: لأنه يخرج به من الخلاف، وقال آخرون: لأنه لا يأمن من أن يكون مخلوقاً من مائه. ولو أخبره الصادق أنه مخلوق من مائه فإنها تحرم عليه، وعلى الأول لا تحرم))(1).

أقول: لنا عدة ملاحظات:-

1- قوله: ((وعندنا لا يجوز له أن يتزوجها غير أنه لا يعتق عليه)) هذا التفصيل في

ص: 83


1- المبسوط للشيخ الطوسي: 5/307.

أحكام البنوّة بين حرمة التزاوج وبقية الآثار كالعتق عليه أثار الإشكال فأما أن تثبت البنوة فتجري أحكامها كافة عدا ما خرج بدليل كالتوارث أو تنتفي فلا يبقى شيء من أحكامها، فيحتاج إلى دليل.

2- قوله: ((لأنه لا يأمن)) تكشف عن أن من قال بحلية التزويج نظر إلى عدم العلم بكونها تولدت من مائه لاختلاط المياه عند الزانية ولو عرف حرمت على صاحبه، فهو لا يخالف الإجماع على الحرمة.

وقال ابن البراج في جواهره: ((إذا ولدت المرأة من زنا لا تكون أمّاً للذي ولدته شرعاً ولا يرثها بحال؛ وأما الزاني فليس أباً له شرعياً أيضاً))(1).

وقال ابن حمزة في الوسيلة: ((والمخلوقة من ماء الرجل من غير عقد صحيح أو فاسد لم يعلم العاقد بفساده وتحريمه أو شبهة عقد أو وطء، لم يلتحق نسبها؛ ويجوز له تملّكها دون التزويج بها والتزويج من بنيها وتزويجه إياه بناتها))(2).أقول: يرد على تفصيله نفس الإشكال السابق.

وقال ابن إدريس تعليقاً على صحيحة محمد بن مسلم في الجارية التي حملت من المساحقة: ((إلحاق الولد بالرجل فيه نظر يحتاج إلى دليل قاطع لأنه غير مولود على فراشه، والرسول (صلى الله عليه وآله) قال: (الولد للفراش) وهذه ليست بفراش للرجل لأن الفراش عبارة في الخبر عن العقد وإمكان الوطئ، ولا هو من وطئ شبهة بعقده الشبهة))(3).

أقول: يشترط ابن إدريس لثبوت النسب وجود فراش وهو كناية عن وجود سبب مبيح للوطء ويشمل العقد الصحيح والشبهة وملك اليمين؛ لذا فهو يوسّع سبب

ص: 84


1- جواهر الفقه، عبد العزيز بن البراج الطرابلسي: 198، مسألة (697) ط. جماعة المدرسين.
2- الوسيلة إلى نيل الفضيلة، ابن حمزة الطوسي: 317، طبعة الخيام- قم.
3- السرائر: 3/465، ط. جماعة المدرسين.

الانتفاء إلى غير الزنا كالمساحقة مثلاً، لكنه (قدس سره) وافق الإجماع بحرمة النكاح لسبب آخر حيث علل المنع بكون المتولد من الزنا كافراً، فلا يحل على المسلم(1)،وهو كما ترى(2).

وردّ عليه المحقق الحلي (قدس سره) بقوله في نفس المسألة: ((أما لحوق الولد فلأنه ماء غير زانٍ وقد انخلق منه الولد فيلحق به -إلى أن قال- وأنكر بعض المتأخرين ذلك، فظن أن المساحِقة كالزانية في سقوط دية العذرة وسقوط النسب))(3).

أقول: تعليله (قدس سره) يستبطن انتفاء نسب ابن الزنا.

وقال العلامة في القواعد: ((والنسب يثبت بالنكاح الصحيح والشبهة بدون الزنا، لكن التحريم يتبع اللغة، فلو ولد له من الزنا بنت حرمت عليه، وعلى الولد وطء أمّه وإن كان منفيّاً عنهما شرعاً. وفي تحريم النظر إشكال. وكذا في العتق والشهادة والقود وتحريم الحليلة وغيرها في توابع النسب))(4).

أقول: يظهر من كلامه (قدس سره) وجه للتفصيل في سريان آثار البنوّة بأن تحريم النكاح موضوعه المعنى اللغوي أما بقية الآثار فموضوعها المعنى الشرعي وهو غير متحقق لعدم وجود سبب صحيح، لكن هذا الوجه يتعارض مع ما قالوه من عدم

ص: 85


1- السرائر:2/353، قال: ((ويجتنب وطء من ولد من الزنا، مخافة العار، لا أنه حرام، بل ذلك على جهة الكراهة، بالعقد والملك معاً، فإن كان لا بد فاعلاً فليطأهن بالملك، دون العقد، وليعزل عنهن، هكذا ذكره شيخنا في نهايته. والذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب، أن وطء الكافرة حرام، لقوله تعالى: «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» وقوله: «ولا تنكحوا المشركات» ولا خلاف بين أصحابنا أن ولد الزنا كافر)).
2- لاحظ ردّ صاحب الجواهر (قدس سره) عليه في جواهر الكلام: 6/68.
3- شرائع الإسلام: 4/943، ط. استقلال، دار الإيمان.
4- قواعد الأحكام، للعلامة الحلي: كتاب النكاح: 3/20 الباب الثالث.

وجود حقيقةشرعية للولد غير المعنى العرفي واللغوي.

مضافاً إلى أن نفي نسب ابن الزنا لا يلزم منه اشتراط النكاح الصحيح والشبهة في لحوق النسب لوجود طريق آخر كما لو أخذ ماء الرجل بآلة أو بغيرها وأدخل في فرج المرأة، فعبارة المحقق الحلي الآنفة أدقّ لأنه ألحق بالنسب كل من لم يتولد من الزنا.

وقال في جامع المقاصد ذيل كلام القواعد هذا: ((وأمّا الزنا فلا يثبت به النسب إجماعاً. لكن أجمع أصحابنا على أن التحريم المتعلق بالنسب يثبت مع الزنا إذا تولد به ولد، فإن ذلك يعدّ ولداً لغة وإن كانت تسميته ولداً منتفية شرعاً، فيتبع التحريم اللغة)).

أقول: من هذا النص يظهر الوجه الأول للتفصيل وهو الإجماع على نفي نسب ابن الزنا من جهة والإجماع على حرمة النكاح بينهما من جهة أخرى، والأول غير تام وقد تقدمت مناقشته والثاني لا ينفعهم وحده لإمكان أن يكون منشأه كون ابن الزنا ابناً شرعياً، فالإشكال قائم، لذا قال (قدس سره): ((ولقائل أن يقول: إن المتبع إن كان هو الحقيقة اللغوية وجب الحكم بثبوت باقي الأحكام الثابتة مع صدق اسم الولد، وإنما يكون ذلك مع عدم النقل عن المعنى اللغوي، وإلا لم يثبت التحريم أيضاً))(1).

أقول: كنّا نتوقع أن يتحفنا (قدس سره) بجواب هذا السؤال وينقح لنا موضوع هذه الأحكام الشرعية هل هو المعنى اللغوي أم الشرعي لكنه لم يفعل وإنما توجّه إلى تحرير ما يصح له من أحكام هذه الآثار كلا على حدة، بحسب الأصول الجارية في كل منها.

فأشكل على تحريم النظر متردداً من جهة ((كونه ولداً حقيقة لغة، لأن الولد حيوان يتولد من نطفة آخر، والنقل على خلاف الأصل ولم يقم دليل على

ص: 86


1- جامع المقاصد، للمحقق الكركي: 12/190-192.

ثبوته، وانتفاء بعض الأحكام كالإرث جاز أن يستند إلى فقد بعض الشروط، ولا يتعين استناده إلى انتفاء الاسم شرعاً.

ومن أن حل النظر حكم شرعي، فلا يثبت مع الشك في سببه، ولأن التحريم هو المناسب للاحتياط المطلوب في هذا الباب، والظاهر من قوله (صلى الله عليه وآله): (وللعاهر الحجر) أن الزاني لا ولد له والأصح التحريم)).

أقول: تحريم النظر لا يلتئم مع كونها من محرمات النكاح كما هو مقتضى الملازمة التي سننقلها عن صاحب الجواهر (قدس سره) (صفحة 89) لكن يمكن قبولها لعدم التنافي بين مؤديات الأصول.

واستمر (قدس سره) في بيان الأصول الجارية في كل مسألة على حدة فصحح (قدس سره) عدم الانعتاق للشك في السبب فيتمسك بالأصل المقتضي لبقاء الملك، وهكذا تعامل مع بقية الآثار والأحكام.

ثم قال: ((والأصح عدم اللحاق في شيء من هذه الأحكام أخذاً بمجامع الاحتياط وتمسّكاً بالأصل حتى يثبت الناقل ولا ينافي ذلك تحريم النكاح، لأن حل الفروجأمر توقيفي فيتوقف فيه على النص وبدونه ينتفي بأصالة عدم الحل، فلا يكفي في حل الفروج عدم القطع بالمحرم، لأنه مبني على كمال الاحتياط))(1).

أقول: وبذلك يظهر وجه آخر للتفصيل بين الأحكام وهو اختلاف الأصول الجارية في كل حكم على حدة، وقد يرد عليه بأن الأصول لا معنى لجريانها بعد تنقيح موضوع البنوة لغة وعرفاً وعدم الدليل على النقل -كما اعترف (قدس سره)-، وإن نفي الشارع المقدس لأحد الأحكام وهو التوارث لا يعني نفي النسب مطلقاً، وقوله (عليه السلام) في مكاتبة الأشعري: (الولد لغيّة لا يورث) بلحاظ الميراث خاصة.

واستشكل الشهيد الثاني (قدس سره) أيضاً على هذا التفصيل بما تقدم

ص: 87


1- جامع المقاصد، للمحقق الكركي: 12/190-192.

نقله (صفحة 74) وقال في الرد على الإجماع: ((فتخصيص الحكم بتحريم النكاح مما لا وجه له سوى ادعاء بعضهم الإجماع عليه، وهو كما ترى))(1).

وتبعه المحقق صاحب الحدائق (قدس سره) فأشكل على تفصيل المشهور، وقال: ((وأما الوطئ بالزنا فلا يثبت به النسب إجماعاً، لكن هل يثبت به التحريم الذي هو أحد أحكام النسب؟

المشهور في كلام الأصحاب ذلك، قالوا: لأنه من مائه فهو يسمى ولدا لغة، لأن الولد لغة حيوان يتولد من نطفة آخر من نوعه، والأصل عدم النقل خصوصا على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية، واستشكله جملة من المتأخرين منهم المحقق الثاني في شرح القواعد. وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك بأن المعتبر إن كان هو صدق الولد لغة لزم ثبوت باقي الأحكام المترتبة على الولد كإباحة النظر وعتقه على القريب وتحريم حليلته وعدم القود من الوالد بقتله ونحو ذلك. وإن كان المعتبر لحوقه شرعاً فاللازم انتفاء الجميع، فالتفصيل غير واضح إلا أن الظاهر من كلام العلامة في التذكرة كما نقل عنه وكذا ولده فخر المحققين في شرح القواعد دعوى الإجماع على الحكم المذكور. وحينئذ فالمعتمد في تخصيص التحريم دون غيره من متفرعات النسب إنما هو الإجماع المذكور، ويظهر من المحقق الثاني في شرح القواعد أن عمدة ما تمسك به في ذلك هو الاحتياط))(2).

أقول: استند (قدس سره) في التفصيل إلى الإجماع وكذا المحقق النراقي(3)

(قدس سره) وهو غير تام صغرى وكبرى لما تقدم، وحكاية السيد المرتضى والشيخ الطوسي للإجماع غير تامة الحجية لأنهما يستدلان به في المسائل بناءً على نصٍّ موجود في المقام أو أنه على مقتضى القواعد فيكون إيرادهم الإجماع للاحتجاج

ص: 88


1- مسالك الأفهام: 7/202.
2- الحدائق الناضرة، للمحقق البحراني: 23/311.
3- مستند الشيعة: 16/221.

على الآخر وإلزامه بما يعتقد لاالحجية في نفسه(1)

ولذا فإنهما نقلا الإجماع في مسائل خلافية باعترافهما، فالأولى أن يُسأل المجمعون عن وجه ما ذهبوا إليه ويقدّموا لنا دليلاً على التفصيل.

واشترط صاحب الجواهر (قدس سره) في موضع من كتابه وجود الفراش لإلحاق النسب وعدم كفاية مجرد التولد من مائه فعلّق على قول المحقق في مسألة المساحقة التي وردت فيها صحيحة محمد بن مسلم: ((ولكن قد يناقش - مع قطع النظر عن النص المزبور الجامع لشرائط العمل، ولا يقدح عدم العمل به في الأول للمعارض في العمل به في الأخيرين - بأن ذلك لا يكفي في لحوق الولد شرعاً، ضرورة كون الثابت من النسب فيه الوطء الصحيح ولو شبهة، وليس هذا منه، وليس مطلق التولد من الماء موجباً للنسب شرعاً، ضرورة عدم كون العنوان فيه الخلق من مائه والصدق اللغوي بعد معلومية الفرق بين الإنسان وغيره من الحيوان بمشروعية النكاح فيه دونه، بل المراد منه تحقق النسب، ومن ذلك يظهر الإشكال في لحوق ولد المكرهة بها إذا لم يثبت كون ذلك من الشبهة شرعاً. كما أن من ذلك يظهر لك أن المتجه عدم لحوقه بالصبية -وهي الجارية المساحقة- وإن لم تكن زانية كما في المسالك، بل في القواعد أنه الأقرب بعد الإشكال فيه، وكان وجهه مما عرفت ومن صدق عدم الزناء مع الولادة، ولا دليل على كونه بحكمه في ذلك أيضاً كما هو واضح. نعم لا إشكال في عدم لحوقه بالكبيرة، لعدم الولادة. ومما ذكرنا لك يظهر لك النظر في ما في الرياض من اختيار الإلحاق بالبكر فلاحظ وتأمل))(2).

أقول: صحيحة محمد بن مسلم حجة عليه وقد اعترف (قدس سره) بأن النص

ص: 89


1- ممن تبنى هذه النظرية السيد البروجردي (قدس سره) وحكاها عنه بعض الأفاضل المعاصرين بواسطة الشيخ المنتظري (قدس سره) (المبسوط في فقه المسائل المعاصرة: 1/331).
2- جواهر الكلام: 41/398.

جامع لشرائط العمل، مع اعترافهم بعدم وجود حقيقة شرعية في المقام غير المعنى اللغوي والعرفي.

وشرح في موضع آخر من كتابه وجه حرمة النكاح بينهما وإن انتفى النسب، وأنه بدليل من الخارج لحرمة نكاح بعض الإنسان بعضه وابن الزنا متولد من ماء الزاني فهو بعضه، فقال (قدس سره) في باب المحرمات بالنسب: ((ولكن هل يحرم على الزاني لو كان بنتاً؟ والزانية لو كان ولداً؟ الوجه أنه يحرم، لأنه مخلوق من مائه ومائها فلا ينكح الإنسان بعضه بعضاً، كما ورد في بعض النصوص النافية لخلق حوا من آدم وأيضاً (هو يسمى ولداً لغة) والأصل عدم النقل، ومناط التحريم هنا عندنا عليها، كما اعترف به في كشف اللثام على وجه يحتمل أو يظهر منه الإجماع على ذلك، بل في المسالك أنه يظهر من جماعة من علمائنا منهم العلامة في التذكرة وولده في الشرح وغيرهما أن التحريم إجماعي، بل الظاهر اتفاق المسلمين كافة على تحريمالولد على أمه، وكأنه لازم لتحريم البنت على أبيها وإن حكي عن الشافعية عدم تحريمها عليه نظراً إلى انتفائها شرعاً، لكنه كما ترى، ضرورة عدم الملازمة بين الانتفاء شرعاً والحلية بعد أن كان مناط التحريم اللغة.

بل يظهر من النصوص أن التحريم ذاتي لا مدخلية للنسب الشرعي فيه، قال زرارة في المروى عنه في محكي(1)

العلل: (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن بدو النسل من ذرية آدم عليه السلام فإن عندنا أناساً يزعمون أن الله أمر آدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه وأن أصل هذا الخلق من الإخوة والأخوات، قال أبو عبد الله عليه السلام: سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً عما يقولون، من يقول هذا؟ إن الله عز وجل جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال؟ وقد

ص: 90


1- ممن حكى الرواية عن العلل تفسير البرهان في أول سورة النساء عند قوله تعالى: «مِنْ نَفْسٍ وَاحِدةٍ».

أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطاهر الطيب، والله لقد نبئت أن بعض البهائم تنكرت له أخته، فلما نزا عليها ونزل كشف له عنها وعلم أنها أخته أخرج غرموله(1) ثم قبض عليه بأسنانه ثم قلعه ثم خر ميتاً)(2).

وزاد في حديث آخر (إن كتب الله كلها مما جرى فيه القلم، في كلها تحريم الأخوات على الإخوة فيما حرم وأن جيلاً من هذا الخلق رغبوا عن علم بيوتات الأنبياء، وأخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه، فصاروا إلى ما قد ترون من الضلال - ثم قال -: ما أراد من يقول هذا وشبهه إلا تقوية حجج المجوس، فما لهم قاتلهم الله) وهو صريح فيما ذكرناه، ولذلك حكاه عن البهائم التي لا نسب شرعي بينها، فالقبح الذي لا يخفى على البهائم كيف يخفى على بني آدم إلا على من كان أسوأ منها))(3).

أقول: ما وصفه (قدس سره) بالسبب الذاتي وجه آخر لترتيب أثر حرمة النكاح دون غيره، وهو غير مرتبط بالنسب نفياً وإثباتاً، وقد تهرب (قدس سره) بذكاء من الإشكال على تفصيل المشهور لكن المشكلة من جهات:-

ص: 91


1- في لسان العرب: ((الغرمول: الذكر الضخم الرخو وقيل الذكر مطلقاً)).
2- علل الشرائع: 1/17، الباب 17، والرواية ضعيفة السند لجهالة أكثر من راوٍ، وفيها ما لا يمكن تصوره ففم الدابة لا يصل إلى ما أسمته الرواية (غرمولاً) لأن ظهرها لا ينحني بسهولة، وهو مخالف للواقع فإن ذكور الدواب ينزون على أخواتهم بحسب المنقول. أقول: تقدمت (صفحة 50) صحيحة زرارة التي رواها الشيخ الصدوق في الفقيه بطريق صحيح عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقد تضمنت محل الشاهد: أي نفي خلقة حواء من ضلع آدم وتعليله بأن حواء ستكون جزءاً من آدم ويحرم نكاح الإنسان بعضه بعضاً، فلاحظ (الفقيه: 3/239، ح 1133، وسائل الشيعة: 20/352، أبواب النكاح المحرم، باب 28، ح1).
3- جواهر الكلام: 29/257-259.

1- ضعف هذه الروايات ويمكن معالجته بأن هذا التعليل ورد في صحيحة زرارة المتقدمة (صفحة 50).

2- إنه لا يثبت بمثل هذه التقريبات تحريم.

3- ولو تنزّلنا فإنه مختص بالابن المباشر فبماذا يعلل تحريم أولاد وبنات ابن الزنا وهم لم يولدوا من ماء الزاني وليسوا بعضه.

ثم قال (قدس سره): ((وعلى كل حال فلا ينبغي التأمل في أن مدار تحريم النسبيات السبع على اللغة، ولا يلزم منه إثبات أحكام النسب في غير المقام الذي ينساق من دليله إرادة الشرعي لانتفاء ما عداه فيه، وهو قاض بعدم ترتب الأحكام عليه، لأن المنفي شرعاً كالمنفي عقلاً كما أومأ إليه النفي باللعان، فما في القواعد - من الإشكال في العتق أن ملك الفرع والأصل والشهادة على الأب والقود به وتحريم الحليلة وغيرها من توابع النسب - في غير محله، وفي كشف اللثام (كالإرث وتحريم زوج البنت على أمها والجمع بين الأختين من الزنا أو إحداهما منه وحبس الأب في دين ابنه إن منع منه - ثم قال - والأولى الاحتياط فيما يتعلق بالدماء أو النكاح، وأما العتق فالأصل العدم مع الشك في السبب، بل ظهور خلافه، وأصل الشهادة القبول) قلت: لا ينبغي التأمل في أن المتجه عدم لحوق حكم النسب في غير النكاح، بل ستعرف قوة عدم جريان حكمه فيه أيضاً في المصاهرات فضلاً عن غير النكاح، بل قد يتوقف في جواز النظر بالنسبة إلى من حرم نكاحه مما عرفت.

لكن الإنصاف عدم خلوّ الحِل من قوة بدعوى ظهور التلازم بين الحكمين هنا، خصوصاً بعد ظهور اتحادهما في المناط، ومن ذلك كله يظهر لك أنه لا وجه لما في المسالك من التردد في أمثال هذه المسائل، كما هو واضح))(1).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر:-

ص: 92


1- جواهر الكلام: 29/257-259.

1- لا يبقى عنده دليل على حرمة النكاح على القول بانتفاء النسب بعد أن فندنا الوجوه التي قيلت لحرمة النكاح غير البنوّة.

2- لعله (قدس سره) ينفرد بعدم جريان حكم حرمة النكاح في المصاهرات كحليلة ابن الزنا.

3- التلازم المذكور غير تام لأن جواز النظر إلى الأم والبنت مرتبط بهذه العناوين النسبية وليس بحرمة نكاحهن فحرمة النكاح ببنت الزنا لا يبيح وحده النظر إليها إلا مع صدق البنتية.

ومن الشواهد اللطيفة على ذلك رواية عتبة بن أبي وقاص وعبد بن زمعة المتقدمة (صفحة 32) فقد ألحقه النبي (صلى الله عليه وآله) بزمعة فيكون أخاً لسودة بنت زمعة أم المؤمنين إلا أنه (صلى الله عليه وآله) منعها من كشف الحجاب أمامه فلا ملازمة بين الحكمين.

ومما تقدم تحصّلت من كلمات المشهور عدة وجوه للقول بحرمة النكاح منولد الزنا مع ذهابهم إلى انتفاء نسبه شرعاً وعدم ترتب سائر أحكام الولدية عليه وهي:-

1- الإجماع.

2- إنه مقتضى الأصول الجارية في كل مورد.

3- إن حكم النكاح موضوعه المعنى اللغوي فتثبت الحرمة في ابن الزنا، أما سائر الأحكام فموضوعها المعنى الشرعي وهو منتفٍ في ابن الزنا فلا يثبت شيء منها.

ووجهه -بحسب صاحب الجواهر -أن حرمة النكاح ذاتية لعدم إمكان نكاح الإنسان بعضه بعضاً وإن النكاح بين المتولد من الماء قبيح حتى عند الحيوانات، أما سائر الأحكام فالمنساق من الأدلة ترتيبها على المعنى الشرعي.

وقد ناقشناها جميعاً فالإشكال على التفصيل قائم، نعم لا يبعد ارتكاز المتشرعة على ارتباط النكاح بالمعنى اللغوي والتكوّن من مائه، أما دعوى انصراف

ص: 93

موضوع الأحكام الأخرى للولدية إلى المعنى الشرعي وأنه لا يشمل ابن الزنا فلم يثبت فيه هذا الارتكاز خصوصاً مع اعترافهم بعدم وجود حقيقة شرعية في المقام.

الرجوع إلى العمومات يؤدي إلى عكس قول المشهور:

وإذا لم يتم شيء من الأدلة الخاصة على نفي انتساب ابن الزنا، فإن العمومات قد تؤدي إلى خلاف قول المشهور ففي مسألة زواج الزاني من بنته بالزنا فإنه توجد عمومات الحلية -بغض النظر عن أطروحة انقلاب الأصل- خرجت منها محرمات النسب والمصاهرة كما في قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ» (النساء:23) فإننا نشك بأن البنت المحرمة هي خصوص البنت المولودة من وطء معتبر شرعاً أم عموم المتولّدة من مائه، فهنا يكون عندنا عام ورد عليه خاص على نحو الشبهة المفهومية ويدور أمره بين الأقل والأكثر، وهنا لا يخرج من العام إلا القدر المتيقن من الخاص وهي البنت المولودة بوطء معتبر شرعاً وتبقى البقية -ومنها بنت الزنا- تحت عمومات الحل.

وبتقريب آخر يقال: إن البنت من الزنا مشكوكة الانتساب إلى الزاني ولا يجوز التمسك بالعام وهو «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ» في الشبهة المصداقية فلا تحرم.

أما على القول بعدم انتفاء نسب ابن الزنا فتكون الحرمة على القاعدة ولا يسقط من أحكام البنوّة إلا ما دلّ عليه الدليل كالتوارث.

فائدة: يظهر من السيد الحكيم (قدس سره) أنه خالف هذا الإجماع على حرمة النكاح وسننقل تمام كلامه لغرابته في عدة مواضع، حيث قال: ((إذا أدخلت المرأة مني رجل في فرجها أثمت، ولحق بها الولد ولم يلحق بصاحب المني)).

أقول: إلحاق الولد بصاحب المني باعتباره قد تولّد من مائه هو مقتضى القاعدة

ص: 94

والروايات وصحيحة محمد بن مسلم دالة عليه، وكون ما حصل ليس مصداقاً للزنا حتى ينتفي نسبه شرعاً وعدمه هو ما سنبحث عن حكمه في التفاصيل وكأنه (قدس سره) يشترط وجود الفراش لإلحاق الولد بصاحب المني فنفى نسبته إلى صاحب الماء لعدم وجود الفراش وحينئذٍ يُسأل عن وجه إلحاق الولد بالمرأة وهي ليست صاحبة فراش.

ثم قال (قدس سره): ((وكذا الحكم لو أدخلت مني زوجها في فرجها فحملت منه، ولكن لا إثم عليها في ذلك)).

أقول: وهذا غريب منه (قدس سره) لأن الحمل من مني زوجها ولا نجد لعدم الإلحاق وجهاً إلا أن يشترط حصول الولد من الاتصال الجنسي المباشر وما بحكمه وهو فهم بعيد للحديث النبوي (الولد للفراش)؛ لأن الفراش أوسع من هذا فلو ألقى الزوج ماءه خارج الفرج فسال ودخل فيه أو ساعدت الزوجة على إدخاله بيدها أو بآلة كفى في صدق الفراش، كما ينقض عليه بإلحاق الولد بالمرأة.

ثم قال (قدس سره): ((وإذا كان الولد أنثى جاز لصاحب المني تزويجها في الصورة الأولى دون الثانية؛ لأنها ربيبة إذا كان قد دخل بأمها))(1).

أقول: في هذا خروج عن الإجماع على حرمة النكاح بين الزاني والبنت المتولدة من مائه ولعل الخلل في المعطيات التي بنى عليها.

وكل ما تقدم منه (قدس سره) مخالف للنص الصحيح عن محمد بن مسلم وقد عمل به من دون أن يبين لنا وجه الفرق بين النص وبين ما ذكره، قال: ((وإذا وطئ الرجل زوجته فساحقت بكراً فحملت البكر استحقت الزوجة الرجم والبكر الجلد وكان على الزوجة مهر البكر وألحق الولد بصاحب النطفة كما ألحق بالبكر للنص))، وهو مخالف أيضاً لما تبنّاه في أكثر من موضع كما سيأتي في نهاية الرأي المختار (صفحة 104).

ص: 95


1- منهاج الصالحين: 2/215، كتاب النكاح، فصل في أحكام الأولاد، المسألة (5).

ولم يوافقه على هذه المسألة من جاء بعده وعلّق على رسالته العملية كالسيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر الأول (قدس الله سريهما) حيث ذهبا إلى لحوق الولد بصاحب الماء وحرمة التزويج بينهما، قال الشهيد الصدر (قدس سره): ((الظاهر إلحاق الوليد به سواء كان أجنبياً أو كان هو الزوج، ومنه يُعرف عدم جواز زواجه من البنت المتولدة من مائه على هذا النحو)). وقال معلقاً على الاستدلال بالنص على إلحاق الولد بالمرأة ((النص إنما دلّ على الإلحاق بصاحب النطفة وهذا ثابت على القاعدة ولا يتوقف على نص خاص))(1).

ولعل السيد الحكيم (قدس سره) افترض في الصورة الأولى أن المرأة ذات زوج حين قيامها بهذا الفعل دلّنا على ذلك قرينتان:-

أ- نفس هذا الفعل؛ إذ لو لم تكن ذات زوج لفضحها الحمل.ب- قوله (قدس سره): ((أثمت)) بتقريب(2)

دلالته على أن فرجها مختص بزوج لها فيكون الولد للفراش أي الزوج ولا يعبأ بقول الزاني، وبذلك يكون قوله (قدس سره) موافقاً للإجماع والنص، لكن يرد عليه من جهة عدم إلحاق الولد بالزوج في الصورة الثانية وبأن ظاهر المسألة الفراغ من تكوّن الولد من ماء الأجنبي ولا يوجد شك حتى تجري القاعدة.

أو لعله (قدس سره) يبني على أن الأم هي من تحمل بالجنين وتلده وليست صاحبة البويضة -وهو القول المحكي عن السيد الخوئي (قدس سره)- لذا ألحق الولد بالأم في كلتا الصورتين، ويبقى السؤال عن عدم إلحاق الولد بصاحب الماء خصوصاً إذا كان زوجاً كما في الصورة الثانية.

ص: 96


1- منهاج الصالحين: بتعليقة الشهيد الصدر: 2/362.
2- ويمكن أن يكون الإثم من جهة مخالفة هذا الفعل لوجوب حفظ الفرج.
القول المختار في المسألة:

والذي نراه في هذه المسألة أن ابن الزنا ابن وتترتب عليه سائر أحكام البنوة إلا ما خرج بدليل كعدم التوارث.

والدليل على هذا المختار وجود المقتضي وعدم المانع.

أما (المقتضي) فهو تحقق المعنى اللغوي والعرفي والعرف هو المعتمد في فهم موضوعات الأحكام الشرعية ولم يثبت أن الشارع المقدس أسس حقيقة خاصة به، نعم دلّت الروايات على أن الزنا موجب لانتفاء التوارث بين الزاني وولده فنقتصر عليه وأن الروايات التي نفت نسبه قرنت على كثرتها بين انتفاء نسبه وعدم استحقاق الميراث(1)

ومنها مكاتبة الأشعري المتقدمة (صفحة 71) فإنها ألغت نسبه بلحاظ الميراث لقوله (عليه السلام): (الولد لغيّة لا يورث) ولا أقل من الشك في خروجه بهذا الخاص فيبقى تحت العام، ولا يلزم من حرمانه من الميراث انتفاء النسب بينهما مثل الموانع الأخرى من الميراث كالرق والكفر، فتكون مثل الأم الرضاعية «وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ» (النساء:23) فإنها تنشر الحرمة من دون أن يكون توارث بينهم كذلك في المتولد من ماء الزنا يمنع من الميراث من دون أن يُنفى نسبه. فيبقى صدق النسب موكولاً إلى المعنى العرفي واللغوي إذ لم ينقل عن الشارع المقدس وضع جديد أو تصرّف في المعنى الموضوع له.

ويمكن تقريب عدة شواهد للاستدلال على هذه النتيجة:-

1- إن ورود الروايات الكثيرة لبيان عدم استحقاق ابن الزنا من الميراث كاشف عن وجود ارتكاز متشرعي على أنه ابن نسبي لكنه خرج تخصيصاً من استحقاق الميراث،ولو لم يكن ولداً لما احتاج التخصيص إلى هذا البيان المتكرر لأنه خارج تخصصاً.

2- قيام الإجماع على حرمة النكاح بين الزاني والزانية وأولادهما من الزنا

ص: 97


1- راجع وسائل الشيعة: 26/274، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 8.

وبضميمة عدم الدليل على الفصل -بعد فشل الوجوه التي ذكرناها لتفصيل المشهور- تثبت سائر آثار النسب الأخرى إلا ما خرج بدليل.

3- الحديث النبوي الشريف (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فإنه نفى النسب عن الزاني ولم يتعرض لنفيه عن أمه الزانية لوضوح تكوّنه منها من خلال الحمل والوضع، نعم لا توارث بينهما، أما الرجل فنفيه عنه لعدم إحراز تكوّنه من مائه فلو عُلم نسب إليه.

4- الروايات التي جعلت من علل تحريم الزنا ضياع الأنساب وفسّرته باختلاط المياه كقول الإمام الصادق (عليه السلام) لمّا سُئل عن علة التحريم (لما فيه من الفساد وذهاب المواريث وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها ولا المولود يعلم من أبوه ولا أرحام موصولة ولا قرابة معروفة)(1)

بتقريب أن ضياع الأنساب من جهة اختلاط المياه فلو عرف الزاني صاحب الماء فإن الولد يلحق به، وليس من جهة إلغاء نسب ابن الزنا شرعاً.

5- ما دلّ على أن الناس ينادون بأسماء أمهاتهم يوم القيامة كخبر أبي ولاد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (إن الله تبارك وتعالى يدعو الناس يوم القيامة يا فلان ابن فلانة ستراً من الله عليهم)(2).

بتقريب التعليل المذكور وهو يعني أن عدم ندائهم بأسماء آبائهم الزانين لعدم فضحهم وليس لأنهم لا ينتسبون إليهم.

6- ويمكن أيضاً تقريب الاستدلال بحادثة إلحاق معاوية زياداً بنسبه فإن الاعتراض لم يكن لأنه ابن زنا ولا يجوز إلحاقه بالزاني وإنما لأن أمه كانت صاحبة فراش ومقتضى الحديث النبوي الشريف إلحاق الولد بصاحب الفراش إذا اختلطت المياه ولم يُعلم كونه من الزنا، ولأن عدة أشخاص فعلوا الفاحشة معها في طهر واحد

ص: 98


1- الاحتجاج: 2/239.
2- بحار الأنوار: 7/238، ح1.

وادّعوا زياداً فلا يُعلم صاحب الماء فهذا الذي منعهم من قبول الإلحاق.

ويؤيد هذا نسبة أولاد العاهرات كابن مرجانة وابن سمية إلى أمهاتهم وهن زواني للعلم بولادتهم منهنّ.

روايات تدل على أن المولود من الزنا ابن:

وهي عديدة حيث ورد في بعضها نسبة ابن الزنا إلى والديه، ولو قلنا بأنه مجاز ففي بعضها تصريح بإلحاقه بأبيه الزاني كمعتبرة الحلبي، وذهبت بعضها إلى أبعد من هذا حيث حكمت بميراثه من أمه لوضوح ولادته منها أما أبوه الزاني فقد يُجهل لاختلاط المياه، وهذه جملة من الروايات:(منها) صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن امرأة ذات بعل زنت فحملت فلما ولدت قتلت ولدها سراً؟ فقال: تجلد مائة جلدة لقتلها ولدها، وترجم لأنها محصنة)(1).

(ومنها) رواية ابن إسحاق المديني (المدائني) عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (أيما ولد زنا ولد في الجاهلية فهو لمن ادعاه من أهل الإسلام)(2).

وحمله في الوسائل ((على عدم تحقق كونه ولد زنا، واحتمال صدق المدعي، أو على كونه ولد من أمه، وادعى سيدها بنوّته أو ملكه)) وهو خلاف ظاهر الحديث بل صريحه.

(ومنها) معتبرة(3) حنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل فجر بنصرانية فولدت منه غلاماً فأقرّ به ثم مات فلم يترك ولداً غيره، أيرثه؟

ص: 99


1- وسائل الشيعة: 28/368، أبواب حد الزنا، باب 37، ح1، عن العلل: 2/268.
2- وسائل الشيعة: 17/568، أبواب ميراث ولد الملاعنة وما أشبهه: باب 8، ح5.
3- بناءً على أن الراوي عن حنان هو ابن رئاب -كما في هامش المخطوط- وليس ابن ثابت أو أبي ثابت كما في النسخ المطبوعة.

قال: نعم)(1).

(ومنها) معتبرته الأخرى قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم فجر بامرأة يهودية فأولدها ثم مات ولم يدَع وارثاً، قال: فقال: يسلّم لولده الميراث من اليهودية. قلت: فرجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأولدها غلاماً، ثم مات النصراني وترك مالاً لمن يكون ميراثه؟ قال: يكون ميراثه لابنه من المسلمة)(2).

وعلّق الشيخ على الروايتين بقوله: ((الوجه فيه أنه إذا كان الرجل يقرّ بالولد ويلحقه به، فإنه يلزمه ويرثه، فأما إذا لم يعترف به وعلم أنه ولد زنا فلا ميراث له)).

(ومنها) معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا وقع المسلم واليهودي والنصراني على المرأة في طهر واحد، أقرع بينهم، فكان الولد للذي يصيبه القرعة)(3).

واستدل بعضهم بما أورده العلامة في المنتهى مرسلاً ونقله عنه في البحار قال: (روي أن امرأة كانت تزني وتضع أولادها فتحرقهم بالنار، خوفاً من أهلها، ولم يعلم بها غير أمها، فلما ماتت دفنت، فانكشف التراب عنها ولم تقبلها الأرض، فنقلت من ذلك المكان إلى غيره، فجرى لها ذلك، فجاء أهلها إلى الصادق عليه السلام وحكواله القصة، فقال لأمها ما كانت تصنع هذه في حياتها من المعاصي؟ فأخبرته بباطن أمرها، فقال الصادق عليه السلام: إن الأرض لا تقبل هذه لأنها كانت تعذب خلق الله بعذاب الله، اجعلوا في قبرها من تربة الحسين عليه السلام، ففعل ذلك بها فسترها الله تعالى)(4).

ص: 100


1- وسائل الشيعة: 26/277، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 8، ح7.
2- المصدر السابق: ح8.
3- وسائل الشيعة: 26/280، نفس الأبواب، باب 10، ح1.
4- منتهى المطلب: 1/461، بحار الأنوار: 79/45، كتاب الطهارة، باب 55، ح31.

أقول: لا يتم الاستدلال بالحديث لعدم الملازمة بين حرمة قتل ابن الزنا كإنسان له حق الحياة وكونه ولداً نسبياً، نعم يمكن ضمّ هذه الرواية إلى أخواتها في النقطة السابقة لوصف المتكون من الزنا بالأولاد.

وأما (عدم المانع) فلأنه لا يضر بهذه النتيجة:-

1- ما نقل من الإجماع على انتفاء نسب ابن الزنا لعدم ثبوت صغراه بالشكل الذي يحقق ملاك حجيته. ويناقش كبروياً لاحتمال مدركيته؛ بل يدل على العكس لأن الثابت منه الإجماع على حرمة التزاوج بينهما ولم يثبت على نفي الآثار الأخرى.

2- ولا ما في بعض الروايات من أن في الزنا انقطاع الأنساب كالمروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سأله الزنديق: لم حرّم الله الزنا؟ قال (عليه السلام): (لما فيه من الفساد وذهاب المواريث وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها، ولا المولود يعلم من أبوه، ولا أرحام موصولة، ولا قرابة معروفة)(1).

لأنه ناظر إلى اختلاط المياه لدى الزانية فهو منصرف عما نحن فيه من تعيّن المتولد من مائه، بل يدل على ما اخترناه إذا عرف صاحب الماء، نعم قد يجري في بعض طرق التلقيح الصناعي عند أخذ الحيامن أو البويضات من البنوك الخاصة بها.

3- ولا ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من كتاب أرسله إلى زياد بن سمية وجاء فيه: (وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس، ونزغات الشيطان، لا يثبت بها نسب، ولا يستحق به إرث، والمتعلق بها كالواغل المدفّع، والنوط المذبذب)(2).

ص: 101


1- بحار الأنوار: 103/368، ح 2، باب 19 عن الاحتجاج: 2/239، ومثله عن الإمام الرضا (عليه السلام) في علل الشرائع: 479، الباب 230، ح1، وفي البحار: 79/24، ح19.
2- نهج البلاغة: 3/69، كتاب (44)، النسخة التي بشرح الشيخ محمد عبده.

لأن نفي النسب بسبب كون أمه صاحبة فراش ولاختلاط مياه عدة أشخاص في طهر واحد، وهو غير المفروض في مسألتنا.

4- ولا ما ورد في تفسير القمي بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث المعراج عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (ثم مضيت فإذا أنا بنسوان معلقاتبثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولادَ غيرهم، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قومٍ في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم وأكل من خزائنهم)(1).

لعدة أمور:-

أ- عدم التحقق من كون النسخة الموجودة بين أيدينا هي النسخة الأصلية من تفسير القمي لعدم وصولها بطريق معتبر.

ب- الرواية تصرّح بأن العذاب كان لمشاركته في الميراث ومنع ابن الزنا منه حكم متفق عليه.

ج_- يظهر من الجزء الثاني من الحديث أن العقوبة لأجل إخفاء نسب الولد غير الشرعي والتعامل معه كالولد الشرعي وهو أجنبي عن محل البحث.

وهذا الجزء من الحديث يدل على عكس مقال المشهور لأنه نفى نسب الولد عن الفراش عند العلم بأنه تولد من ماء الزاني.

فابن الزنا ابن وتترتب عليه سائر آثار البنوّة إلا ما خرج بدليل كعدم التوارث بينهما، نعم يمكن استثناء بعض الأحكام الأخرى لا لنفي النسب وإنما لأن ظاهر أدلتها ترتبها على الولد من الفراش كالتحريم بلبن المولود من الزنا لما سيأتي من عدم نشره الحرمة لظهور الأدلة في المولود بوطء صحيح.

ص: 102


1- تفسير القمي: 2/7 بداية سورة الإسراء، وفي سيرة ابن هشام: 2/275 باختلاف يسير.

موافقة جملة من الأعلام على ما اخترناه.

وهذا الذي اخترناه موافق لما ذهب إليه السيد الخوئي والسيد البجنوردي (قدس الله سريهما)، وسبقهما آخرون، قال الفاضل الكاظمي في مسالك الأفهام في قوله تعالى: «حُرِّمَت عَلَيكُم أُمّهاتُكُم وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ» (النساء:23): ((هذا هو التحريم النسبي، ولا خلاف بين الأمة فيه، ويتحقق في العقد الصحيح في نفس الأمر أو عند الفاعل أو كان لشبهة فإنها بحكم الصحيح عندنا، ولو كان من زنى -كالبنت المخلوقة منه- فأصحابنا أجمع على أنه كذلك، وبه قال أبو حنيفة؛ نظراً إلى أن حقيقة البنتيّة موجودة فيها، فإن البنت هي المتكونة من منيّ الرجل، وانتفاء بعض الأحكام الشرعية عنها من الميراث وشبهه لا يوجب نفيها حقيقة، ولظاهر قوله: «إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ»، فجعل الأم الوالدة مطلقاً، فتكون المتولدة بنتاً، بل تكون حقيقة البنتية والأمية والأختية ثابتة فيها وإن انتفت الأحكام الشرعية، وحينئذٍ فيحرم عليه وعلى من يندرج في الآية، وبالجملة حكمها حكم البنت عن عقد صحيح في ذلك.وأنكر الشافعي التحريم، وجوّز وطأها بالنكاح من الرجل الذي خلقت من مائه، وهو قول مالك؛ لأنها منتفية عنه شرعاً، لقوله (صلى الله عليه وآله): (الولد للفراش)، وهو يقتضي حصر النسب في الفراش، والفرض انتفاؤه، فلا يثبت بينهما تحريم. وفيه نظر؛ فإن انتفاء بعض الأحكام الشرعية لا يوجب عدم صدق البنتية عليها لغة، ومدار التحريم على الصدق لغة، وهو ثابت كما عرفت))(1).

ص: 103


1- حكاه الشيخ محمد اليزدي في مجلة فقه أهل البيت، العدد 5-6، ص 115 عن مسالك الأفهام: 3/216-219 وهو كتاب (مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام) للشيخ الفاضل جواد بن سعد الله البغدادي الكاظمي تلميذ الشيخ البهائي وشارح خلاصته وزبدته، راجع (الذريعة: 20/377، رقم 3515).

وهو ظاهر المحقق الأصفهاني (قدس سره) في حاشيته على المكاسب قال: ((وإن كان مجرد انعقاد النطفة مصححاً لمتضايفين آخرين كالأبوة والأمومة)) وقد تقدم تفصيله (صفحة 45).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((الصحيح أن ولد الزنا ولد لهما شرعا ولغة وعرفا فان الولد ليس له اصطلاح حادث في الشرع وإنما هو على معناه اللغوي ولم يرد في شيء من روايتنا نفى ولدية ولد الزنا نعم إنما ثبت انتفاء التوارث بينهما فلا يرثانه كما لا يرثهما وهو لا ينافي ولديته، كيف وقد ثبت انتفاء التوارث بين الولد ووالديه في غير واحد من المقامات من غير استلزامه نفي الولدية بوجه كما فيمن قتل أباه أو كان الولد كافراً أو رقّاً حيث لا توارث حينئذ من غير أن يكون ذلك موجباً لسلب ولديته. أما قوله (عليه السلام) (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فهو إنما ورد في مقام الشك في أن الولد من الزوج أو الزنا وقد دل على أنه يعطى للفراش وللعاهر الحجر ولا دلالة له على نفي ولدية ولد الزنا بوجه وذلك فإن الولد ليس إلا بمعنى تكونه من ماء أحدهما وتربية في بطن الآخر وهو متحقق في ولد الزنا))(1).

وقال مثله في مواضع أخرى وأضاف في بعضها قوله: ((إن جميع الأحكام مما يجوز أو لا يجوز مشترك من المتولد من الحلال أو الحرام عدا ما استثني وعمدته التوارث، ولم ينفِ عنه الولدية في شيء من الأدلة)) ((فالأصحّ جريان تمام الأحكام ما عدا الإرث؛ لمكان النص))(2).

ص: 104


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 3/64، وقال مثله في رسالته في الرضاع: 73 المطبوعة في المجلد 49 من الموسوعة.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 24/200.

وقال السيد البجنوردي (قدس سره): ((إن كون الولد لصاحب الماء أمر تكويني؛ لأنه هو نفس الماء، غاية الأمر نما إلى أن جعله الله ولداً سوياً، فهو في سياقالزرع، كما أن البذر إذا وقع في الأرض ينمو إلى أن يصير سنبلاً بإرادة الله وجعله، كذلك النطفة بعد ما وصل إلى الرحم القابل ينمو إلى أن يجعله الله ولدا وينشأه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين. نعم في خصوص الزنا ألغى الشارع هذا الانتساب التكويني من حيث بعض الآثار لبعض المصالح، ولعل عمدتها حفظ الجامعة عن الفجور))(1).

ومال إليه السيد الحكيم (قدس سره) في غير موضع من مستمسكه خلافاً لما نقلناه عنه (صفحة 95)، قال (قدس سره): ((ولا سيما مع عدم وضوح دليل على نفي ولديته - أي ولد الزاني- مطلقاً، والثابت إنما هو في موارد خاصة كالتوارث وغيره، والمرجع في غيرها إطلاق أدلة حكم الولد))(2).

وقال (قدس سره) مثله في مسألة إعطاء زكاة غير الهاشمي لمن تولّد من الهاشمي بالزنا كما سيأتي، وهذا القول ظاهر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حيث أجاز دفع الخمس المخصص لبني هاشم إلى من ولد منهم بالزنا واستشكل في إعطائه زكاة غير الهاشمي(3).

فروع:

الأول: لو كان الولد الأكبر ابن زنا فإنه لا يستحق الحبوة لأنه لا يرث، وهل يجب عليه قضاء ما فات أباه من الصلاة على القول بأنه ابن وإلا فلا يجب، ذهب السيد صاحب العروة إلى الوجوب، قال (قدس سره): ((لا يعتبر في الولي كونه وارثاً،

ص: 105


1- القواعد الفقهية: 4/34.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/383.
3- منهاج الصالحين للسيد الحكيم بتعليق الشهيد الصدر الأول: 1/456، المسألة 19.

فيجب على الممنوع من الإرث بالقتل أو الرق أو الكفر))(1)،ولم يعترض عليه أحد من المعلقين إلا السيد الخوئي (قدس سره) فأوجب القضاء على غير الممنوع من الميراث. وقال السيد البجنوردي (قدس سره): ((وبناءً على ما اخترناه فلو كان الولد الأكبر من الزنا لا يرث الحبوة، ولكن يجب عليه قضاء صلوات أبيه))(2).

وأوجب السيد الحكيم (قدس سره) القضاء على الممنوعين من الميراث قال (قدس سره): ((يجب القضاء على الولي ولو كان ممنوعاً من الإرث بقتل أو رق أوكفر)).

أقول: هذا إذا كان العنوان المأخوذ في الوجوب هو الولد الأكبر مطلقاً كما هو المتداول في كلمات الفقهاء، لكن النصوص تصرِّح بأنه وليّ الميت الذي يرثه أي الولد الأكبر حال كونه وارثاً، ففي صحيح ابن أبي عمير عن حفص عن الإمام الصادق (عليه السلام) (في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام، قال عليه السلام: يقضي عنه أولى الناس بميراثه، قلت: فإن كان أولى الناس به امرأة؟ فقال: لا، إلا الرجال)(3).

وفي رواية عبد الله ابن سنان قال: (الصلاة التي دخل وقتها قبل أن يموت

ص: 106


1- العروة الوثقى، بتعليق المراجع العظام: 3/281.
2- القواعد الفقهية: 4/48.
3- وسائل الشيعة: 10/330، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 23، ح5 عن الكافي، وفي 8/278، أبواب قضاء الصلوات، باب 12، ح 6، رواها السيد ابن طاووس في كتاب غياث سلطان الورى عن ابن أبي عمير عن رجاله عن الصادق (عليه السلام) وهو نموذج آخر لما اقترحناه (صفحة 12) من بحث عن مطابقة مَن أرسلَ عنهم ابن أبي عمير في موضع وصرّح بهم في موضع آخر وهم ثقات لتأكيد كبرى أنه لا يرسل إلا عن ثقة بالاستقراء.

الميت يقضي عنه أولى الناس به)(1).

فيلاحظ في الوجوب أن يكون وارثاً فإذا كان الولد الأكبر ممنوعاً من الميراث كولد الزنا فيجب القضاء على الولي الذي يليه.

ولعله لهذا استقرب السيد الخوئي (قدس سره) اختصاص الوجوب بغير الممنوع من الميراث(2)،وعلّق السيد الشهيد الصدر (قدس سره) على قول السيد الحكيم المتقدم بما يوافق السيد الخوئي بقوله (قدس سره): ((فيه إشكال، بل منع، والأقرب كون القضاء حينئذٍ على من يليه ممن هو ولي الفعل))(3).

أقول: الوجه ما ذكرناه وليس ملازمة ((من كان له الغنم فعليه الغرم)).

فائدة: على القول بالوجوب فإنه يكون نقضاً على قاعدة كلية يذكرها الفقهاء وهي ((من كان له الغنم فعليه الغرم)) لأن ابن الزنا غرم بالقضاء ولم يغنم بالميراث(4)،وكذا أمثاله من الممنوعين، ولم يدل نصّ على هذه القاعدة وإنما يتداولها الفقهاء من باب مساعدة الاعتبار عليها، وقد تبيّن أنها ليست مطّردة.الثاني: لا يجوز للمولود من زنا الهاشمي أخذ الزكاة من غير الهاشمي لشموله بعمومات المنع، واحتاط صاحب العروة (قدس سره) فقال: ((يشكل إعطاء زكاة غير الهاشمي لمن تولّد من الهاشمي بالزنا، فالأحوط عدم إعطائه، وكذا الخمس، فيقتصر فيه على زكاة الهاشمي))(5).

ص: 107


1- وسائل الشيعة: 8/281، أبواب قضاء الصلوات، باب 12، ح 18.
2- منهاج الصالحين: 1/204، المسألة 742.
3- منهاج الصالحين، مصدر سابق: 1/303.
4- ومن النقوض عليها تحمّل العاقلة دية قتل الخطأ المحض مع أنها لا ترث في مقابلة شيئاً، وإنما ذكرنا هذا لئلا يتمسّك أحدٌ بالقاعدة المذكورة.
5- العروة الوثقى، كتاب الزكاة، فصل في أوصاف المستحقين، المسألة 23.

أقول: منشأ الاحتياط: احتمال صدق الولدية على ابن الزنا.

وقوّى صاحب الجواهر (قدس سره) جواز الأخذ بعد أن احتاط بالعدم ولا وجه للاحتياط بعد ما تقدم من قطعه بانتفاء نسب ابن الزنا، قال (قدس سره): ((فالأحوط عدم دفعها للمتولد منهم ولو من زنا وإن كان قد يقوى خلافه، لعموم الفقراء في مصرف الزكاة، ولم يثبت أنه هاشمي بعد الانسباق للمتولد منهم بغير ذلك، فيبقى مندرجاً تحت العموم كمجهول النسب))(1).

بيان ذلك: أنه عندنا عام بوجوب دفع الزكاة إلى الأصناف المذكورة ومنها الفقراء، خرج منها الهاشمي إذا كان الدافع غير هاشمي، ولم يثبت أن المولود من زنا الهاشمي هاشمي لأن الابن ينصرف إلى المولود من وطء محلل فنشك في خروجه بالخاص فيبقى تحت العام وهو جواز الدفع لذا قوّاه (قدس سره).

وعلق السيد الحكيم (قدس سره) على كلام صاحب الجواهر: ((بأن دعوى الانصراف غير ظاهرة، فعموم المنع من إعطاء الهاشمي محكم. ونفي ولد الزنا على نحو يشمل المقام غير متحصل، إذ عدم التوارث أعم. وقاعدة: (الولد للفراش) قاعدة ظاهرية، لا مجال لها في ظرف العلم بالانتساب))(2).

وعلق مثله السيد الخوئي (قدس سره) واستغرب من التفريق في أحكام ابن الزنا بين حرمة النكاح وجواز النظر من جهة وبين هذه الأحكام من جهة أخرى وقال: إن الصحيح جريانها جميعاً إلا ما خرج بدليل كعدم التوارث(3).

الثالث: لا ينشر لبن ابن الزنا حرمة بالرضاع لاشتراطهم في اللبن المحرم أن يكون عن ((علوق وحمل ناشئ عن وطئ صحيح، فلو درّ اللبن بنفسه من دون وطئ،

ص: 108


1- جواهر الكلام: 15/40.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/312.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 24/201.

أوكان مسبوقاً بالوطئ ولم يكن علوق وحمل، أو كان الحمل مستنداً إلى وطئ غير مشروع فلا نشر للحرمة كما هو المعروف بين الأصحاب بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه))(1).

أقول: يمكن تأييد هذا الشرط ببعض الروايات في كراهة لبن الولادة من الزنا كمعتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لبن اليهودية والنصرانية والمجوسية أحبُّ إليَّ من ولد الزنا))(2)

وموثقة الحلبي قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: امرأة ولدت من الزنا، أتخذها ظئراً؟ قال: لا تسترضعها ولا ابنتها)(3)،بتقريب أن هذه الروايات تسقط حرمة لبن ابن الزنا فلا يصلح لنشر الحرمة بالرضاع.

الرابع: لو وجد في المسألة الإرثية حجب كحجب الابن أحد الزوجين عن نصيبه الأعلى إلى الأدنى أو حجب الإخوة الأم من نصيبها الأعلى وهو الثلث إلى السدس، وكان الحاجب ابن زنا فهل يؤثر في الحجب أم لا؟

والجواب يبتني على تحقيق أمرين:-

أ- هل ابن الزنا ابن شرعاً، فإذا لم يكن ابناً فإنه كالأجنبي ولا دخل له في المسألة الإرثية.

ب- ولو قلنا بأنه ابن شرعاً فلا بد من ملاحظة الأدلة من جهة أن الحاجب هل يشترط فيه أن يكون وارثاً أم لا؟

لا شك في عدم اشتراط فعلية الإرث فإن بعض من يحجبون لا يرثون كحجب الإخوة الأم.

ص: 109


1- رسالة في الرضاع للسيد الخوئي: 70 وهي منشورة في المجلد 49 من موسوعته.
2- وسائل الشيعة: 21/462، أبواب أحكام الأولاد، باب 75، ح2.
3- وسائل الشيعة: 21/462، أبواب أحكام الأولاد، باب 75، ح4.

نعم قد يقال: بأن هؤلاء الإخوة فيهم مقتضى الإرث لو لم يوجد وارث من الطبقة الأولى، أما ابن الزنا فلا يرث مطلقاً.

وحينئذٍ فإن كان عنوان الحاجب كالابن والأخ مطلقاً وغير مقيّد بكونه وارثاً فإن ابن الزنا يحجب لأنه ابن، وإن أخذ العنوان مقيّداً بكونه وارثاً ولو اقتضاءً فإن ابن الزنا لا يرث.

والصحيح أنه لا يحجب؛ لأمور:-

1- إن وجوده ملغي في باب الميراث فهو كالعدم، وقد صرّحت بذلك مكاتبة محمد بنالحسن الأشعري عن الإمام الجواد (عليه السلام) (الولد لغيّة)(1)،أي أن وجوده ملغي في جميع أحكام الميراث وليس فقط عدم ميراثه تمسّكاً بهذا العموم، وإلا لاكتفى الإمام (عليه السلام) بقوله: (لا يورث) لكنه ذكر القاعدة العامة وهي إلغاؤه من أحكام الميراث ثم طبقها على أحدها وهو عدم توريثه.

2- قد ورد في عدة روايات بأن الكافر والرق لا يرث ولا يحجب كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المملوك والمشرك يحجبان إذا لم يرثا؟ قال: لا)(2)

وغيرها، وبالتجريد عن الخصوصية واستظهار الملازمة بين عدم الميراث وعدم الحجب يشمل الحكم ولد الزنا.

أو بتقريب أن السائل لم يلحظ خصوصية العنوانين وإنما أراد الصفة المشتركة بينهما وهي المنع من الإرث وذكرهما من باب المثال؛ لذا لا يتردد الفقيه في تعميم الحكم إلى القاتل الذي لم يذكر فيعم ابن الزنا لاشتراكه معهم في الصفة بل فيه أولى لأن غاية ما يقال في ابن الزنا أنه ابن شرعاً لكنه ممنوع من الميراث فيكون كالقاتل والكافر الثابت نسبهما شرعاً ولا يزيد عنهما.

ص: 110


1- وسائل الشيعة: 26/274، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 8، ح2.
2- وسائل الشيعة: 26/124، أبواب ميراث الأبوين، باب 14، ح1.

3- ولو تنزلنا فإن أدلة حجب الولد ونحوه منصرفة عن ابن الزنا.

الخامس: احتمل بعض الأعلام إمكان القول بصحة التوارث بين ابن الزنا ووالديه عند عدم الفراش وكون المرأة خلية لولا الإجماع(1)

وحمل معتبرتي حنان بن سدير المتقدمتين (صفحة 99-100) على هذا الفرض.

ويرد عليه:-

أ- يمكن حمل الروايتين على الميراث بالإقرار وهو ملزم للمقر بغض النظر عن الواقع، وقد صرّحت الرواية الأولى بالإقرار.

ب- إن حمل روايات منع ولد الزنا من الميراث على كون المرأة ذات فراش لا يبقي لها معنىً لأن الولد في هذه الحالة لصاحب الفراش أما الزاني فلا ولد له، ولذا فلا يبقى موضوع للتوارث.

ج_- الروايات التي أكدت عدم التوارث مع كون المرأة خلية كما في مكاتبة محمد بن الحسن الأشعري المتقدمة حيث تزوج بمن زنى بها.

وبعض الروايات مطلقة كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (فإنه -أي ولد الزنا- مات وله مال، من يرثه؟ قال: الإمام)(2)وغيرها.

تنبيه: وتوجد روايات في نفس الباب تدل على أن ولد الزنا يتوارث من أمه وقرابته منها على نحو ابن الملاعنة وحملها الأصحاب على وجوه ككونها مكرهة.

وعلى أي حال فنكتفي هنا بإثارة الاحتمال تاركين القول الفصل لنتائج التحقيق.

ص: 111


1- الشيخ محمد آصف محسني في الفقه ومسائل طبية: 1/100.
2- وسائل الشيعة: 26/275، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 8، ح3.

المطلب السابع: تقسيم صور المسألة

لعملية التلقيح الصناعي حالات عديدة بحسب سبب العقم الذي يعاني منه أحد الزوجين أو كلاهما وبحسب الطريقة التي تجري بها العملية، وفي كل منها صور محتملة، بلحاظ الرجل مانح الحيمن والمرأة مانحة البويضة، والرحم الذي سيحتضن البيضة الملقحة.

فالمرأة طالبة الإنجاب قد تكون متزوجة وقد لا تكون والرجل كذلك، وأن البويضة قد تؤخذ من الزوجة طالبة الإنجاب أو من زوجة أخرى للرجل أو امرأة غيرهما، وقد تكون هذه متزوجة وقد لا تكون، كما أنها قد تكون من المحارم أو غيرهم وقد تكون معلومة أو لا تكون كما لو أخذت من البنك المخصص لها، وأن التلقيح قد يكون بحيمن الزوج أو رجل آخر -الذي قد يكون معلوماً أو غير معلوم- وقد يكون من المحارم أو من غيرهم، وإن التلقيح قد يكون داخلياً بحقن المني في عنق الرحم، أو خارجياً في وعاء خاص.

والنطفة يمكن أن تحتضنها الزوجة صاحبة البيضة في رحمها أو امرأة أخرى التي هي قد تكون زوجة ثانية للرجل أو أجنبية وقد تكون الحاضنة صناعية أي جهاز مخصص لذلك، أو حيوان كالقرد مثلاً، وهكذا، وبضرب بعض هذه الاحتمالات في بعض تنتج عندنا صور كثيرة.

وسنهمل الصور التي لا معنى لها ولا حاجة إليها إلا البحث العلمي وفيها خروج عن الفطرة الإنسانية والحكمة من خلق الزوجين ليتكاثروا، فقد قيل إن التلقيح قد لا يكون بحيامن الرجل وإنما بأشياء أخرى كخلاياً نسيجية أو من حيوان أو نبات كما قيل وقد لا يحتاج إلى بويضة المرأة حتى سمعنا قبل مدة أن رجلاً أصبح حاملاً ورأينا صورته البشعة إن صحّت.

ويمكن أن يُعالج العقم بزرع أعضاء تناسلية للزوج أو للزوجة وهذه المسألة تُبحث مستقلاً تحت عنوان (زرع الأعضاء).

ص: 112

ويجري البحث في كل صورة عن ثلاثة أمور: حكم الفعل تكليفاً، ونتيجته وضعاً أي معرفة نسب الوليد بمن يُلحق، والآثار الشرعية المترتبة على هذا النسب، وقد أطال الذين كتبوا في هذه المسألة الكلام في الحكم الأول وكرّروه في عدد من الصور التي تناولوها والمفروض أننا تجاوزناه بالعناوين الثانوية كما بيّنا في المطلب الأول، ولو لم يوجد مسوِّغ من العناوين الثانوية فإن عملية التلقيح الصناعي ممنوعة من أول الأمر لاستلزامه جملة من المحرمات ولا نحتاج البحث في تفاصيل الصور.

ص: 113

الباب الثاني: صور عملية التلقيح الصناعي وأحكامها

أحكام التلقيح الصناعي

الذي نختاره في تقسيم البحث جعل صور التلقيح الصناعي تحت عنوانين رئيسيين:

الأول: التلقيح الصناعي بين الزوجين.

الثاني: التلقيح الصناعي بماء غير الزوج وبويضة غير الزوجة.

ولكل منهما صور عديدة نتناول العناوين الرئيسية لها وهي عشرة وتتضمن بعضها تفصيلات تعبّر عن صور أخرى.

ونلفت الانتباه هنا إلى أنه في أي صورة نقول فيها بالجواز لا بد من مراعاة الحيطة والحذر عند إجراء العملية ولا بد أن تكون بأيدي أمينة خشية اختلاط الحيامن والبويضات أو تبديلها ونحو ذلك.

ص: 114

النوع الأول: صور التلقيح بين الزوجين

اشارة

وله صور عديدة منها:

(الصورة الأولى) أن يؤخذ ماء الزوج ويُحقن في مهبل الزوجة ويتم التلقيح والحمل عندها، والعملية جائزة بغضّ النظر عن الملازمات المحرمة التي تجاوزناها عند توفر أحد المبررات التي ذكرناها في المطلب الأول.

والوليد هنا ابن شرعي للزوجين وتترتب عليه جميع آثار الولد الشرعي لوجود المقتضي وعدم المانع حتى لو لم يتحقق مبرر جواز الفعل لأن حرمته تكليفاً لا تضر بالنسبة الشرعية للوالدين كما لو جامع امرأته وهو محرم أو في حال الاعتكاف ونحو ذلك قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو وقع التلقيح من ماء الرجل بزوجته بوجه محرم كما لو لقّح (الطبيب) الأجنبي أو أخرج المني بوجه محرم، كان الولد ولدهما، وإن أثما بارتكاب الحرام))(1)، ولا يأتي فيه الخلاف في ابن الزنا لاختلاف الموضوع كالمولود من المساحقة في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة.

وذهب جماعة -كابن إدريس وصاحب الجواهر والسيد الحكيم (قدس الله أسرارهم) في ما نقلناه عنه (صفحة 95) خلافاً لمواضع أخرى تقدمت- إلى عدم الإلحاق بناءً على أن الانتساب شرعاً مشروط بالوطء المعتبر شرعاً ولو شبهة ولا يكفي مجرد التولد من مائه وقد نقلنا كلماتهم في ما سبق وناقشناهم إذ لا دليل عليه لعدم وجود حقيقة شرعية في معنى الولدية غير المعنى العرفي واللغوي واحتججنا عليهم بصحيحة محمد بن مسلم.

وقد يستدل على عدم الإلحاق بقاعدة الفراش لأن الولد لم يأت من لقاء الفراش.

ص: 115


1- تحرير الوسيلة: 2/559، المسألة (1)، باب البحث عن المسائل المستحدثة.

ويرد عليه:-

1- بأن للفراش معنى أوسع من هذا كما تقدم في شرح القاعدة وهو يصدق على الحالة محل البحث، ولا يحتمل اختصاصه بالاتصال الجنسي المباشر حيث دلّت الروايات(1)

على أن الرجل لو أراق ماءه خارج الفرج فأدخلته المرأة فيه بيدها أو بآلة أو أمكن أن يسيل بنفسه كفى في صدق الفراش.

2- إن القاعدة تجري عند الشك في نسبة الولد إلى صاحب الفراش أو الزاني ولا تجري عند العلم بصاحب الماء.

3- وفي صحيحة محمد بن مسلم في من حملت من المساحقة كفاية للاحتجاج عليهم.

وينبغي الالتفات إلى عدة فروع:-

1- لا يجب على الزوج تلبية طلب زوجته بإعطاء سائله المنوي لما ورد من جواز عزله المني كما في موثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا بأس بالعزل عن المرأة الحرة إن أحب صاحبها وإن كرهت، ليس لها من الأمر شيء)(2)

وفي بعض الروايات ما يدل على اشتراط الجواز برضاها وهو أحوط وأليق بالمودّة الزوجية، إلا إذا كان في عدم ذلك إضرار بها، أو أن امتناعه ينافي المعاشرة بالمعروف التي أمر الله تعالى بها، أو أنها اشترطت عليه في العقد الاستجابة لها بكل ما يمكن لتحقيق الإنجاب طبيعياً أو صناعياً.

2- لو عزل الرجل ماءه في الكيس الواقي لم يجز لزوجته التلقيح به بدون رضاه لأنه مملوك له وله حق الاختصاص به لكن المنقول عن السيد الخوئي (قدس سره) في أجوبة استفتاءاته(3) جواز ذلك باعتبار أن المني من الفضلات فلا يكون مملوكاً

ص: 116


1- تقدم بعضها (صفحة 57).
2- وسائل الشيعة: 20/149، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 75، ح 4.
3- المسائل الشرعية: 2/85.

لأحد.

ويرد عليه:-

أ- إن المني ليس من الفضلات لوجود المنفعة الواضحة فيه.

ب- ولو تنزّلنا فإن الفضلات مملوكة لصاحبها وإن فقدت المالية وأن سقوط المالية لا تخرجه عن الملك أو حق الاختصاص على الأقل إلا إذا أعرض صاحبها وهو لم يحصل لدليل توقّيه من وصوله إلى رحم الزوجة.

ج_- مضافاً إلى حق الزوج في عدم تحمّل أعباء الحضانة والتربية ونحوهما.

3- لا يجب على الزوجة التجاوب مع زوجها بتلقيحها صناعياً لأنه لا يملك عليها هذا الحق وإنما له الاستمتاع الجنسي وما يتبعه من الإنجاب الطبيعي، وكون تحصيل الولد أمراً مرتكزاً لدى الرجل عند الإقدام على الزواج لا يرقى إلى مرتبة الشرط الضمني أو الارتكازي كبنائه على إنجازها الأعمال البيتية، ولو سلّمنا به فإنه لا يتجاوز الحق في الإنجاب بالطريق الطبيعي، إلا أن يصيبه ضرر أو حرج من عدم الإنجاب، أو أن عدم استجابتها ينافي الأمر بحسن التبعل فيكون الأحوط ذلك.

4- لو كان الزوج فاقداً للسائل المنوي الذي تسبح فيه الحيامن فاحتاجت حيامن الزوج إلى سائل لتسبح فيه حتى تصل إلى محل التلقيح في رحم الزوجة جازت إضافته إن كان صناعياً، والأقوى أنه كذلك إن كان طبيعياً مأخوذاً من رجل آخر باعتبار انصراف الأدلة الناهية عن تلقيح المرأة بماء الأجنبي إلى الحيامن لأنها منشأ تكون الجنين دون السائل الذي يحتويها، وسيأتي تفصيل هذه الصورة ضمن النوع الثاني إن شاء الله تعالى.5- لو أريد حقن الزوجة المطلّقة بماء زوجها فإن كان الطلاق رجعياً فهي بحكم الزوجة ويجوز التلقيح الصناعي بينهما وفق ما ذكرناه، وإذا أراد الزوج حقنها بنية إرجاعها سقط الطلاق وتحققت الرجعة.

وإن كان طلاقها بائناً فزوجها أجنبي عنها ويكون التلقيح بماء الأجنبي مما

ص: 117

سنذكره في النوع الثاني، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وإذا زرع المني -وإن لم يكن جائزاً- فصار ولداً ترتب عليه تمام أحكام الولد من النسبية والسببية حتى الإرث لأن المستثنى من الإرث إنما هو ولد الزنا والزرع المزبور ليس بزناً))(1).

6- إذا توفي الزوج وكان قد حُفظ شيء من سائله المنوي في الجهاز الخاص بذلك فلا يجوز للزوجة حقنه فيها بعد العدة لارتفاع الزوجية بعدها، وكذا خلال العدة لأن الأقوى انتفاء العلقة الزوجية بالوفاة وإنما جاز بعض الأحكام المرتبطة بالزوجية كجواز لمسها بالتغسيل فلخصوصية فيها حيث جعلها الشارع المقدس لمصالح اجتماعية لا تخفى ومراعاة لنفسية الزوج وغيرته إلى أن توضع الزوجة في قبرها، والشاهد على ذلك أن الشارع أسقط أحكاماً تتعلق بالزوجة كوجوب الإنفاق وتوفير السكن من مال زوجها وإن كان لها حصة من الميراث(2)،وجواز الزواج بخامسة ونحو ذلك وعلى هذا يكون من التلقيح بمني الأجنبي.

وباختصار فإن جواز التغسيل لا يدل على بقاء الزوجية بحيث لو حفظ بدن الرجل إلى ما بعد العدة ولم يُغسَّل فإن الزوجية تبقى(3)

وهو معنى يبعد استظهاره من النصوص.

ولو قلنا ببقاء الزوجية خلال العدة وتم التلقيح فإنه ولد شرعي إلا أنه لا يرث؛ لأن حق الميراث ثابت لمن كان موجوداً حين الوفاة ولو علقة، نعم هو يرث من أقرباء أبيه إذا كانت وفاتهم بعد علوق نطفته.

ولو شككنا في جواز التلقيح وعدمه بعد الوفاة فلا يصح استصحاب جواز

ص: 118


1- المسائل الشرعية، مصدر سابق: 2/319-320.
2- وسائل الشيعة: 21/522، كتاب النكاح، أبواب النفقات، باب 9، وكتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 32..
3- قال الشهيد الثاني (قدس سره) في (شرح اللمعة: 1/75): ((ولا يقدح انقضاء العدة في جواز التغسيل عندنا، بل لو تزوجت جاز لها تغسيله)).

التلقيح الثابت للزوجين في حياتهما لعدم اتحاد الموضوع قبل الوفاة وبعدها أو لأنه من الاستصحاب التعليقي وهو لا يجري.

وليس صحيحاً الرجوع إلى أصالة البراءة عن حرمة التلقيح لانقلاب الأصل في المسألة كما نبهنا في المطلب الثاني من التمهيد وهو يقتضي عدم جواز تلقيحالمرأة بماء الرجل إلا بمجوز وهو لم يثبت في ماء الزوج المتوفى، وليس للقول بأصالة الاحتياط في الشبهات البدوية التحريمية حتى لو تعلقت بالفروج.

(الصورة الثانية) تلقيح حيمن الزوج وبويضة الزوجة خارج الرحم في أنبوبة أو وعاء ونحو ذلك ثم تزرع البويضة المخصّبة (النطفة) في رحم الزوجة حتى يكتمل نمو الجنين.

وهي عملية جائزة أيضاً بغضّ النظر عما قلناه من معالجة المقدمات والملازمات المحرمة، والولد لأبويه صاحبي النطفة كما لو حصل بالإنجاب الطبيعي، ولا يضر في النسبة ما لو اقترنت العملية بمحرم كاطلاع الأجنبي، ولا أعلم مخالفاً من المعاصرين الذين تناولوا المسألة سواء تصريحاً أو بإطلاق جواز عملية التلقيح الصناعي بين الزوج وزوجته إلا ما شذّ به قلم السيد الحكيم (قدس سره) في المسألة التي نقلناها (صفحة 95) ولم نجد له وجهاً وقد خالفها بنفسه في مواضع أخرى.

(الصورة الثالثة) نفس الصورة السابقة لكن الجنين يبقى في الرحم الصناعي إلى أن يكتمل.

ويجري نفس الحكم بالجواز فيها، ويكون والداه صاحبي الحيمن والبويضة على مبنانا وهو صدق الأم على صاحبة البويضة، أما على القول بأن الأم هي من حملت به فإن هذا الجنين لا أم له ((وحمل الولادة في الآية: «إنْ أُمَّهَاتُهُم إلا

ص: 119

اللائِي وَلَدْنَهُم» على ما يعم حياة الولد في الأنبوبة خلاف الظاهر جداً))(1).

وأشار بعض المعاصرين إلى إشكال حاصله أن ((في إرثه -أي ولد الأنبوبة- منه -أي من الأب- إذا مات -الأب- قبل حياته التامة خارج الأنبوبة إشكالاً، لعدم صدق الحمل عليه، وهو الموضوع أو الشرط للميراث، نعم إذا لم تقسّم التركة لمانع أو لعدم وارث آخر فخرج ولد الأنبوبة حياً لا بعد في إرثه من تركة أبيه والله أعلم بحقيقة أحكامه))(2).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة مواضع للنظر:-

1- إن موضوع أحكام الحمل لم يؤخذ مقيداً بعنوان الحمل حتى ينفيه عن الولد المتكون في الرحم الصناعية، وإنما الموضوع هو الجنين ونحوه وعُبِّر عنه بصفته الغالبة وهي كونه حملاً من دون تقييده به، وحينئذٍ نتجاوز المشكلة المذكورة في النقطة السابقة لأن البيضة المخصبة يصدق عليها الجنين إذا نمت في الرحم الصناعية، وعليه فلا مانع من استحقاقه الميراث من هذه الناحية.

2- شرط ميراث الحمل انفصاله حياً وتعزل له حصته إلى أن يولد حياً فلا وجه لتعليق استحقاقه على اكتمال نموه وخروجه حياً قبل تقسيم التركة فإنه قياس على بعضالعناوين الممنوعة إذا زال عنها المانع كما لو أسلم الكافر أو أعتق العبد قبل قسمتها، وهو قياس ممنوع.

متى يصدق عنوان الحمل:-

3- لا بد من التحقيق أولاً في زمن صدق عنوان الحمل هل هو من حين انعقاد النطفة وهو تخصيب البيضة أم من حين انغراس البويضة المخصبة بجدار الرحم. فعلى الأول يصدق الجنين على البيضة المخصّبة سواء كانت في الرحم الطبيعية أو

ص: 120


1- الفقه ومسائل طبية، مصدر سابق: 1/94.
2- الفقه ومسائل طبية، مصدر سابق: 1/94.

الصناعية، ويستحق من الميراث إذا انعقدت نطفته قبل وفاة أبيه بشرط أن ينفصل حياً من أمه في الطبيعي ويكتمل نموه في الصناعي لدلالة الروايات الكثيرة على هذا الشرط.

أما على الثاني فيصعب تحديد زمن صدق الجنين إذا استمر نمو البيضة المخصبة في الرحم الصناعية لعدم وجود انغراس ونحوه إلا أن نكتفي بمرور المدة وهي لا تقل عن عشرة أيام وقد تصل إلى ثلاثة أسابيع وهو كما ترى.

وتترتب على هذا التحقيق عدة أحكام فقهية كالميراث في ما لو مات مورّثه بعد الانعقاد وقبل الانغراس، وحكم موانع الحمل التي تقتل البيضة المخصّبة، وإجهاض الجنين ونحو ذلك، ويظهر أنه (قدس سره) بنى قوله: ((لعدم صدق الحمل عليه)) على ما نقله عن بعض المصادر قائلاً: ((البويضة المخصّبة هي التقاء الحيوان المنوي بالبويضة، وهذا يحدث في الجزء الوحشي من الأنبوبة ثم بعد ذلك تتجه نحو الرحم وتتكون منها العلقة، وبعد ذلك يحدث الاندغام، الاندغام هذا هو الحمل، ولذلك التعريف العلمي للحمل هو اندغام البويضة المخصبة الحية في أنسجة حية))(1).

أقول: على هذا لا يصدق الحمل على الجنين الذي ينمو في الحاضنة الصناعية لعدم وجود اندغام في أنسجة حية، وهو القول الثاني، وقد توقف (قدس سره) عن قبول هذا الرأي الذي نقله إذ علّق بقوله: ((وقبول هذا بالنسبة إلى الأحكام الشرعية محتاج إلى تأمل))(2).

أقول: حينئذٍ لا يبقى وجه لما ذكره من عدم صدق الحمل.

هذا ولكن الأقرب هو القول الأول وأن الحمل يصدق من حين انعقاد النطفة أما القول الثاني فبعيد لوجوه:-

ص: 121


1- نقلها من كتاب (الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها: 312).
2- الفقه ومسائل طبية، مصدر سابق: 1/95.

أ- لا نعلم إن كان هذا الكلام الذي نقله عن المصدر متفقاً عليه والذي نعلمه أن الأطباء يحسبون عمر الجنين بالأسابيع من حين انعقاد النطفة، فهو عندهم مبدأ الحمل.

ب- إن كثيراً من النساء تشعر بأعراض الحمل من حين انعقاد النطفة كتغير المزاج والتقلصات فتعرف أنها حامل قبل حصول الانغراس فلا يمكن عدم اعتبار هذه الفترة من الحمل.

ج_- ولو تنزّلنا وقبلنا بهذا التعريف الطبي فإنه غير ملزم لأن المرجع في فهم مداليل الألفاظ هو العرف وهو قد يختلف مع أهل الاختصاص فالأطباء يعتبرون الموت الدماغي موتاً ويرتبون على صاحبه أحكام الميت، إلا أن العرف والشرع لا يرون ذلك ويعتبرون تحقق الموت بتوقف القلب والرئتين، ومحل الشاهد أن العرف يرى صدق الحمل من حين انعقاد النطفة، فلا يضره تعريف أهل الطب.

د- دلت الروايات على أن مبدأ الحمل هي النطفة المتكونة من اختلاط مائي الرجل والمرأة كمعتبرة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها؟ فقال: لا، فقلت: فإنما هو نطفة، قال: إن أول ما يخلق نطفة)(1)

وغيرها.

ولذا حرّم السيد الخوئي (قدس سره) إسقاط النطفة فقد سُئل ((هل يجوز الإجهاض بعد انعقاد النطفة؟)) فأجاب (قدس سره): ((لا يجوز))(2).

ه_- الروايات الدالة على أن أقل الحمل ستة أشهر فإنها تعد المدة من حين الاتصال الجنسي وانعقاد النطفة وهي كثيرة كقول أبي عبد الله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي (وإن وضعت بعدما تزوجت لستة أشهر فإنه لزوجها الأخير)(3).

ص: 122


1- من لا يحضره الفقيه: 4/126، ح 445، وسائل الشيعة: 29/25، أبواب القصاص في النفس، باب 7، ح1.
2- المسائل الشرعية: 2/310، السؤال (42).
3- وسائل الشيعة: 21/380، أبواب أحكام الأولاد، الباب 17، ح1.

و- الإجماع على أن الولد لو كان نطفة عند موت مورثه فإنه يرث إذا انفصل حياً ويشمله ما دلّ على مشاركة الحمل في الميراث. قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ظهر لك عدم اعتبار حياته -أي الحمل- عند موت المورث بمعنى حلول الحياة فيه بلا خلاف يظهر، كما عن بعض الأصحاب الاعتراف به، لإطلاق النصوص بإرثه مع ولادته حياً الشامل لما لو كان عند موت مورثه نطفة))(1).

وبه قال من عاصرناهم من الفقهاء كقول السيد الحكيم (قدس سره): ((الحملوإن كان نطفة حال موت المورث يرث إذا سقط حياً))(2)

ووافقه بالتعبير السيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر (قدس الله سريهما) وهذا يعني أن النطفة في أول انعقادها يصدق عليها الحمل.

اللهم إلا أن يريدوا بالنطفة البيضة المخصَّبة بعد انغراسها في الرحم، وليس من أول تشكّلها ولكنه خلاف إطلاق معتبرة إسحاق بن عمار المتقدمة.

وهنا ذكر بعض الأعلام وجهاً للتخلص من هذا الإطلاق حاصله أن قوله (عليه السلام): (فلا تسقها الدواء إذا ارتفع طمثها شهراً) في صحيحة رفاعة بن موسى (وهي الثالثة الآتية صفحة 161) يقيّد بمفهومه إطلاق معتبرة إسحاق ويخصّ النطفة بالمستقرة أي المنغرزة في جدار الرحم(3)،ولذا استظهر في موضع آخر(4)

رجحان ما ذهب إليه السيد الخوئي (قدس سره).

أقول: يرد عليه:-

أ- إن استعمال الإمام (عليه السلام) للفظ الشهر ورد مجاراة لموضوع السؤال

ص: 123


1- جواهر الكلام: 39/72.
2- منهاج الصالحين للسيد الحكيم بتعليق السيد الشهيد الصدر: 2/492، مسألة 6. منهاج الصالحين للسيد الخوئي: 2/378، المسألة 1823.
3- الشيخ آصف محسني (قدس سره) في الفقه ومسائل طبية: 1/59.
4- المصدر السابق: 71.

فقد ذكر السائل مرور شهر فلا يكون للجملة مفهوم لأنها مسوقة لبيان الموضوع الذي ذكره السائل.

ب- إن النتيجة لا توافق ما يريده المستدل لأن الانغراس يحصل بعد أسبوعين بالمعدل أما تحديد الحرمة بالشهر فإنه يعني مرور أسبوعين آخرين على الانغراس من دون حكم بالحرمة.

إن قلتَ: يمكن -كفكرة لرفع التهافت في الكلمات بين الموارد المختلفة-التفصيل في الأحكام بحسب النظر في الأدلة، فالميراث يستحق من حين تكوّن النطفة لأن أصل وجوده كافٍ في الاستحقاق، أما حرمة الإجهاض واستعمال اللولب المؤدي إلى قتل البيضة المخصّبة فتتحقق الحرمة من حين الانغراس والاحتياط حسن.

قلتُ: هذا التفصيل حسن إذا توفّر الدليل عليه.

وستأتي تفاصيل أخرى لهذا البحث في المسألة الأولى الملحقة (صفحة 150).

(الصورة الرابعة) تلقيح بويضة الزوجة بحيمن الزوج خارجياً وزرع النطفة في رحم الزوجة الأخرى على فرض وجود المسوِّغ الشرعي لاشتراك هذه المرأة في العملية فإنها خارج طرفي الاضطرار، ويمكن أن يكون الدافع إلى العملية ضعف رحمالزوجة عن تحمّل الحمل أو أنها تحمل أمراضاً معدية تنتقل إلى الجنين إذا حملت به ونحو ذلك.

ولا إشكال في نسبة الولد إلى أبيه، أما الأم فيأتي فيها الخلاف المتقدم في أنها صاحبة البويضة أو صاحبة الرحم التي حملت به وقد اخترنا أن الأم النسبية هي صاحبة البويضة وأن الحامل به كالأم الرضاعية(1)

مع حسن الاحتياط في إجراء الوليد أحكام الأمومة مع الزوجة الأخرى التي حملت به فيحرم على الوليد

ص: 124


1- وتستطيع هذه المرأة أن ترضعه فتكون أمّاً رضاعية بالفعل.

نكاحها ولكن لا يجوز النظر إليها ولمسها ونحو ذلك، ولا ضير في عدم الملازمة بين الأحكام لأنها مؤديات أصول. مع الالتفات إلى أن الحامل هنا زوجة أب المولود وتحرم عليه من هذه الناحية أيضاً.

ويأتي هنا الإشكال الذي نقلناه عن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ومنعه من إلحاق الولد بصاحبة البويضة لعدم صدق الفراش عليها لأن الفراش يراد به المضاجعة وقد رددناه حلاً بأن المراد أوسع من ذلك، ونقضاً بعدم صدق الفراشية في المرأة التي حملت به أيضاً.

ويجب على زوج المرأة المستضيفة للحمل أن يتجنب مواقعتها(1)

حتى يستبين حملها على الأقل أو مطلقاً كما في معتبرة إسحاق بن عمار(2)

المتقدمة (صفحة 49) لكي لا تضيع أمه النسبية. أما ما قبل الاستبانة فيمكن أن تكون البيضة الملقّحة منها.

وبذلك ندفع هذا المحذور الذي دعا مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في دورته الثامنة في مكة المكرمة عام 1405 إلى العدول عن قراره بجواز هذه العملية الذي اتخذه في دورته السابعة عام 1404.

(الصورة الخامسة) تلقيح بويضة الزوجة بحيمن الزوج خارج الرحم وزرع النطفة في رحم امرأة أجنبية وتسمى هذه الرحم المستضيفة للجنين بالمستأجرة أو المستضيفة لأنها قد تكون متبرعة.

ولا إشكال هنا على الزوجين لأن التلقيح يجري بين مائيهما، ويأتي الخلاف والإشكال على هذه الصورة من جهتين:-

1- الخلاف في تحديد من هي الأم وقد تقدم أن الأم النسبية هي صاحبة البويضة أما مَن حملته فهي كالأم الرضاعية في الأحكام.

ص: 125


1- راجع الروايات الناهية في وسائل الشيعة: 21/92، أبواب نكاح العبيد، باب 8.
2- وسائل الشيعة: 21/94، أبواب نكاح العبيد، باب 9، ح1، 2، 3.

2- القول بحرمة إلقاء نطفة الأجنبي في رحم المرأة، وهذا الإشكال قد يكون مناسباً للنوع الثاني من الصور باعتبار أن الحمل يكون لنطفة غير الزوج، لكننا سنبحثه هنا لأن لحاظ تقسيم البحث إلى طرفي التلقيح وتكوين البيضة المخصبة وهما هنا زوجان وليس إلى حاملة البيضة المخصبة.

حكم استئجار الرحم:

ويجب الالتفات هنا إلى التفريق بين حقن المرأة بماء الأجنبي وزرع البويضة المخصبة -أي النطفة- في رحم الأجنبية فإن الثاني لا يصدق عليه أنه من دخول ماء الأجنبي في رحم المرأة؛ لأن السائل المنوي تجري عليه عدة عمليات تنقية وإزالة مكونات السائل المنوي لاستخلاص الحيمن من بين حوالي مائتي مليون حيمن في القذفة الواحدة على ما قيل، وتلقيح البويضة به ثم تنشطر هذه الخلية إلى اثنتين وهكذا على نحو المتوالية الهندسية فيصبح خلقاً آخر غير ماء الرجل.

وللتخلص من الحزازة النفسية وتحوّل العنوان من إلقاء ما الأجنبي في رحم المرأة إلى عنوان آخر يمكن انتظار مدة مناسبة على البيضة المخصّبة تنشطر فيها وتتكاثر الخلايا فيتغير عنوان الماء، ولا أقل من التردد والاشتباه ولا يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية

فلو دلّ الدليل على حرمة إدخال ماء الأجنبي في فرج المرأة فإنه لا يلزم منه حرمة وضع البيضة المخصبة في رحمها لعدم صدق الأول على الثاني خصوصاً إذا مرّ زمن بعد التلقيح حيث تبدأ الخلية بالانشطار والتكاثر، فمن غير الصحيح تقريب الاستدلال على حرمة الثاني بما دلّ على حرمة الأول (لاحظ مثلاً استدلال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على حرمة استئجار الرحم بأنه يلزم منه دخول ماء الأجنبي في رحم الأجنبية(1)

لأن المُدخَل في رحم الأجنبية هي البيضة المخصّبة وليس ماء الرجل.

ص: 126


1- ما وراء الفقه: 6/20.

وقد استُدِل بعدة وجوه على حرمة هذه العملية يرجع بعضها إلى المقدمات واللوازم المحرمة، ونحن قد تجاوزناها في المطلب الأول بالنسبة للزوجين بوجود العناوين الثانوية، وقلنا في التنبيه (صفحة 19) أن هذه المسوّغات قد يصعب تصوّرها في غير الزوجين كالطبيب المعالج أو المرأة المستضيفة لعدم تحقق العناوين الثانوية بالنسبة لهما، وحينئذٍ يحرم الإقدام على العملية من أول الأمر.

لكننا نستعرض هنا ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه لحرمة زرع البيضة المخصّبة في رحم الأجنبية:

أولاً: الآيات الكريمة الدالة على حفظ الفرج كقوله تعالى: «وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» (النور:31).

بتقريب أن حفظ الفرج يعني الاقتصار على وظائفه المحللة وهي الاستمتاع والإنجاب للزوج وتجنب كل ما سوى ذلك تمسّكاً بإطلاق الحفظ لأن حذف المتعلق يفيدالعموم، ومنه الاستيلاد للأجنبي.

وأجيب الاستدلال بآية النور بما ورد في تفسير علي بن إبراهيم بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كل آية في القرآن في ذكر الفروج فهي عن الزنى إلا هذه -أي آية النور- فإنها من النظر)(1)

ورواه الطبري من العامة بإسناده عن أبي العالية(2)،فتكون الآية أجنبية عن محل البحث.

وهذا الجواب غير تام لأن هذا التخصيص لا يضر بالاستدلال لأولوية المنع من إدخال نطفة الأجنبي ولإمكان الاستدلال بالآيات الأخرى على وجوب حفظ الفرج كقوله تعالى: «وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ» (الأحزاب:35) وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ» (المؤمنون:5) (المعارج:29)؛ لأن هذا التفسير ورد في خصوص هذه الآية.

والصحيح في الرد على هذا الاستدلال أن يقال:

ص: 127


1- تفسير القمي: 2/101.
2- جامع البيان: 18/92.

أ- إن حفظ الفرج هو صونه عما لا يحل مطلقاً من النظر حتى الزنا فهو كناية عن العفّة -كما عن الراغب-.

ولم يثبت أن هذه العملية منافية لحفظ الفرج فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية حتى لو توسعنا في حدود حفظ الفرج إلى صونه عما لا يليق في نظر العرف والعقلاء فإنه لم يثبت أيضاً.

ب- إن الاستدلال أخصّ من المدّعى لأن ظاهرها حفظ الفرج من مباشرة الغير فلو حقنت المرأة البويضة المخصبة من غيرها في فرجها فإن الآيات لا تشملها.

ومما تقدم يتضح الرد على الاستدلال بآيات أخرى كقوله تعالى: «وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» (الأنعام:51) فإن الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال ولم يثبت أن العملية منها.

وقوله تعالى: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ» (المؤمنون:7) فإن سياقها عن الاستمتاع الجنسي وجاءت بعد آية حفظ الفرج المتقدمة.

ثانياً: الروايات، وهي عديدة:-

(منها) ما رواه الشيخ الكليني بسند معتبر عن علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ أقرَّ نطفته في رحم يحرم عليه)(1).

ويُذكر هنا وجهان لمعالجة ضعف السند بجهالة علي بن سالم:أحدهما اتحاده مع علي بن أبي حمزة البطائني باتحاد الراوي والمروي عنه واللقب أي كون كل منهما كوفياً واسم أبي حمزة سالماً ونحن لا نرفض رواية علي بن أبي حمزة إلا إذا وجد مانع كوجود حديث أصح منه.

ثانيهما: رواية ابن أبي عمير عن علي بن سالم بناءً على أنه لا يروي إلا عن ثقة

ص: 128


1- وسائل الشيعة: 20/318 كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرم وما يناسبه، باب 4، ح1.

لكننا لم نوافق على هذه الكبرى إلا في المراسيل دون المسانيد أي فيما لو أرسل ابن أبي عمير عنه.

وتقريب الاستدلال بإطلاق حرمة وضع نطفة الأجنبي في رحم المرأة سواء عن طريق الزنا أو غيره، وسواء قامت نفس المرأة بالفعل أو غيرها، فيدخل في الحرمة ما نحن فيه.

ويرد عليه: أن الحديث ظاهر في الكناية عن مباشرة الرجل لعملية وضع الماء أي الزنا مطلقاً وإن لم ينزل باعتبار الملازمة بين عملية الزنا والإنزال؛ لذا لا يتردد الفقيه العارف بلحن كلامهم (عليهم السلام) في شمول الحديث لمن زنا من دون أن يلقي ماءه في رحمها.

أو أنه ظاهر في خصوص وضع الماء بالزنا أي إتمام عملية الزنا بوضع ماء الرجل في رحم المرأة ولو بقرينة نسبة الفعل إلى الرجل ولو أريد بالوضع مطلقه لما نسب إلى الرجل، وقد فهم الأصحاب -كصاحب الوسائل- هذا المعنى لذا أوجبوا على الزاني عزل المني وجعلوا على نفس إنزال الماء عقوبة ثانية غير عقوبة الزنا وكأن المطلوب من الزاني هو التوقف عن الاستمرار في الفاحشة في أي لحظة يلتفت فيها إلى قبح فعله.

وعلى كلا التقديرين فالرواية موضوعها الزنا وليس لها إطلاق ليشمل كل إلقاء ماء.

ولو تنزّلنا فإن زرع البيضة المخصبة ليس مصداقاً لإقرار ماء الأجنبي في رحم المرأة كما ألفتنا إليه.

أو يقال: إن عنوان (رحم يحرم عليه) أو (لا تحل عليه) أو (امرأة حراماً) لا تصدق على هذه الحالة وإن افتراضه أول الكلام؛ لأن هذا الرحم حرام عليه بلحاظ إدخال الماء، أما بلحاظ زرع البيضة المخصّبة فلم يثبت أنها رحم تحرم عليه.

ويأتي نفس الكلام في رواية مماثلة أوردها في الأشعثيات بالإسناد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ما من ذنب أعظم عند الله تبارك وتعالى بعد الشرك من نطفة حرام وضعها امرؤ في رحم لا تحل له)(1).

ص: 129


1- مستدرك الوسائل: 14/335، ح1.

ومرسلة الفقيه التي رواها في الخصال أيضاً بسند ضعيف عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله): لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند الله تبارك وتعالى من رجل قتل نبياً أو إماماً أو هدم الكعبة التي جعلها الله عز وجل قبلة لعباده أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً)(1).(ومنها) خبر إسحاق بن عمار المروي في الكافي والتهذيب والفقيه والعلل قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الزنا شر أو شرب الخمر؟ وكيف صار في شرب الخمر ثمانون وفى الزنا مائة؟ فقال: يا إسحاق، الحد واحد ولكن زيد هذا لتضييعه النطفة ولوضعه إياها في غير موضعه الذي أمره الله عز وجل به)(2).

بتقريب أن الإمام (عليه السلام) علل استحقاق ضرب العشرين الإضافية بتضييعه النطفة وفسّر التضييع بأنه وضعها في غير موضعها وهو يشمل ما نحن فيه.

ويرد عليه:-

1- ضعف سند الرواية في عدة مواضع.

2- إن مطلق التضييع ليس محرماً بدليل جواز عزل المني ولو برضا الزوجة(3).

3- إن غاية ما تدل عليه الرواية أن لوضع الزاني ماءه في رحم الأجنبية حرمة إضافية غير حرمة نفس الزنا فالحرمة لا زالت في إطار الزنا.

4- لا يعتقد بأن المقام من تضييع النطفة بل من حفظها.

5- في ضوء الإلفات السابق فإن المورد خارج عن هذه الأحاديث.

(ومنها) معتبرة المعلى بن خنيس -الذي لا نجد مانعاً من قبول روايته- قال:

ص: 130


1- وسائل الشيعة: 14/239، ط. الإسلامية، 20/318 ط. آل البيت، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرم وما يناسبه، باب 4، ح2.
2- وسائل الشيعة: 20/352، أبواب النكاح المحرم، باب 28، ح4.
3- وسائل الشيعة: 20/149-151، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 75، 76.

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وطأ امرأته فنقلت ماءه إلى جارية بكر فحبلت، فقال: الولد للرجل، وعلى المرأة الرجم وعلى الجارية الحد)(1).

بتقريب أن إيجاب الحد على المرأة يعني حرمة ما قامت به من نقل ماء الرجل إلى المرأة الأجنبية وهي الجارية.

ويرد عليه:-

أ- إن الحد وجب لأجل المساحقة -كما في صحيحة محمد بن مسلم المماثلة- وليس لمطلق نقل الماء.

ب- ولو تنزلنا فإن الحرمة لإقرار ماء الرجل الأجنبي وكلامنا عن البيضة المخصّبة وبينهما فرق ألفتنا إليه.

ج_- ولو تنزّلنا فالرواية ناظرة إلى المرأة غير المتزوجة بقرينة صحيحة محمد بن مسلم التي أوجبت المهر للافتضاض فتختص الحرمة بها.

وقد قُرّب الاستدلال بروايات أخر أبعد من هذه بكثير.

ثالثاً: ارتكاز المتشرعة على المنع

ويرد عليه أنه لم تثبت صغراه بل قد يجد المتشرعة أن استئجار الرحم فعل حسن وفيه إحسان للزوجين وحل لمشكلتهما، ولو وجد ارتكاز فإنه غير حجة لعدم كونه تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم لأن المسألة مستحدثة، ولعله مدركي لوجه من الوجوه كقول بعض الأعلام: ((فإن رحم الزوجة معدّ للتولد من زوجها وليس لها حق إشغال رحمها بماء الرجل الأجنبي))(2)، وغاية ما يدل عليه اشتراط إذن الزوج فيه وليس المنع من استئجار الرحم، مضافاً إلى عدم شموله لغير المتزوجة فنتيجة هذا الوجه التفصيل.

ص: 131


1- وسائل الشيعة، ط. الإسلامية: 18/428، ط. آل البيت: 28/169، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد السحق والقيادة، باب 3، ح4.
2- مباني منهاج الصالحين: 10/254.

نعم قد يُقال بوجود ارتكاز متشرعي على حرمة تلقيح المرأة بماء رجل أجنبي وهذا -لو سلمناه وسيأتي إن شاء الله تعالى- غير ما نحن فيه كما أوضحنا.

أو يقال: إن ارتكاز المتشرعة ينقّح موضوع حفظ الفرج فتشمله الآيات المتقدمة وهي دعوى عهدتها على مدّعيها.

رابعاً: أصالة الاحتياط في الفروج

ويرد عليه بما أسسنا من الأصل في المسألة في المطلب الثاني وقلنا بعدم تمامية الأدلة التي ذكرت على جريان أصالة الاحتياط في مسألة الفروج، وأن غاية ما يمكن أن يقال: جريان الاحتياط في بعض الموارد والمسألة محل البحث ليست منها.

والنتيجة عدم وجود دليل على حرمة هذه الصورة فنرجع إلى الأصل والعمومات والإطلاقات وهي تقتضي الجواز، خلافاً للسيد الخوئي (قدس سره) الذي احتاط وجوباً بالحرمة حيث سُئل عن حكم عملية ((تلقيح مني الزوج ببويضة زوجته، وإيداع البويضة الملقحة في رحم امرأة أجنبية)) فأجاب (قدس سره): ((حكم نفس العملية، وهي الإيداع بعد التلقيح المزبور في رحم الأجنبية ففيه إشكال))(1).

وللشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قال: ((لا يجوز بيعها -أي البيضة المخصبة- لخصوص زرعها في رحم أخرى، إذ زرعها في رحم أخرى غير رحم الزوجة قد دل الدليل(2)على حرمته، والمعاملة على خصوصه باطلة

ص: 132


1- صراط النجاة مع تعليقات الشيخ جواز التبريزي: 3/270، السؤال 815.
2- أفاد (دام ظله الشريف) شفهياً في بيانه عند سؤاله خلال تحرير هذا البحث أنه صدق عنوان ماء الرجل على البيضة المخصّبة، ولوجود حق الأمومة للحامل بالجنين، والمقدمات المحرَّمة كالنظر إلى العورة، وقد ناقشناها جميعاً خلال الصفحات المتقدمة.

وغير صحيحة))(1) وقال في الصفحة التالية: ((لا يجوز لامرأة حمل البيضة المخصّبة منامرأة أخرى)).

وللسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حيث قال: ((إن هذه العملية محرمة ولا وجه فقهي لجوازها))(2)

ودليله الرئيسي محذور دخول ماء الأجنبي في رحم الأجنبية، وقد ألفتنا النظر إلى عدم تحقق هذا المحذور هنا.

ولما لم يتم دليل على الحرمة فالأصل يقتضي الجواز، بل قد يوجد احتمال القول بوجوب حفظ هذه النطفة في رحم امرأة على نحو الكفاية إذا انعقدت خارجاً لأنها أصبحت مشروع إنسان فيجب حفظ حياته لإجماعهم على حرمة قتل النطفة أي البيضة المخصّبة من حين انعقاد النطفة، حتى لو انعقدت من حرام، لذا لا يجوز إجهاض الجنين المتكون من الزنا، وسيأتي البحث في حرمة إتلاف اللقيحة -أي البيضة المخصّبة- إن شاء الله تعالى.

نعم لو كانت صاحبة الرحم المستأجرة من محارم الزوج وقلنا بأن الأم هي من تحمل بالجنين نشأ وجه للحرمة من جهة احتمال اختلاط الأنساب أي أن أخت الزوج مثلاً ستكون أم الوليد فهي بمثابة زوجة لأبيه والاحتمال يحتاج إلى نظر.

أو كان حملها من دون إذن زوجها إذا قلنا بمنافاة الحمل لحقوق الزوج؛ لأن علاقته بزوجته الحامل ستكون مقيدة؛ للنهي الوارد عن مقاربة الحامل من غيره حتى يستبين حملها أو مطلقاً كصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال في الوليدة يشتريها الرجل وهي حبلى، قال: لا يقربها حتى تضع ولدها)(3)

وصحيحة رفاعة بن موسى عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) (قلت: فإن كان حملٌ فما لي منها إن أردت؟ قال: لك ما دون الفرج إلى أن تبلغ في حملها أربعة أشهر وعشرة أيام)(4)، ووصف الإمام الكاظم (عليه السلام) في

ص: 133


1- المسائل الطبية: 35.
2- ما وراء الفقه: 6/22.
3- و (4) وسائل الشيعة: 21/92 أبواب نكاح العبيد، باب 8، ح1، 3.

معتبرة إسحاق بن عمار المتقدمة (صفحة 49) من وطأ جارية حاملاً قد استبان حملها من غيره بقوله (عليه السلام): (بئس ما صنع)(1).

وكذا إذا كان صاحبة الرحم المستأجرة غير ذات زوج لوجود ارتكاز متشرعي على حرمة إنجاب المرأة من غير زواج إلا أن يقال أن هذا الارتكاز موجود عند عدم معرفة سبب الحمل فإذا عُرف كما إذا أمكن تصور حصول شبهة، فلا يوجد ارتكاز على المنع كالذي حصل مع السيدة مريم ابنة عمران فإن الرفض والاتهام حصل بسبب حملها من غير زوج فلما عُرِف سبب ذلك بالمعجزة زال الإنكار، وهذا ما سنبحثه إن شاء الله تعالى.

والخلاصة أن هذه الصورة جائزة إذا كانت صاحبة الرحم المستأجرة متزوجة وبإذن زوجها، لكن أكثر الأصحاب الذين أجازوا العملية أطلقوا كلماتهم وهو يعني عدم التفصيل المذكور.

وذهب السيد السبزواري (قدس سره) إلى الجواز لغير المتزوجة أيضاً، قال(قدس سره): ((لو آجرت المرأة التي لا زوج لها رحمها لأن يزرع فيها النطفة بالطرق الحديثة ولم يكن محذور شرعي في البين وتمت شرائط الإجارة يمكن القول بصحتها حينئذٍ))(2).

وقال في توجيهه: ((للأصل والعموم والإطلاق بعد عدم دليل على الخلاف من ضرر أو المنافات لحق أو لمس أجنبي أو غير ذلك فحينئذٍ لا يجوز ذلك كما هو واضح))(3).

أقول: قد عرفت أن الجواز مشروط بعدة أمور لوجود مقيدات للعموم والإطلاق مع المنع في غير المتزوجة.

ص: 134


1- وسائل الشيعة: 21/94، أبواب نكاح العبيد، باب 9، ح1، 2، 3.
2- مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام للسيد عبد الأعلى السبزواري: 25/296.
3- المصدر السابق: الهامش رقم (5).

واتضح مما تقدم أن في المسألة عدة أقوال:-

1- الجواز مطلقاً.

2- عدم الجواز مطلقاً.

3- التفصيل بين المتزوجة فيجوز بشرط إذن زوجها وأن لا تكون من محارم الزوج، وبين غير المتزوجة فلا يجوز.

تنبيه: إذا كانت صاحبة الرحم المستأجرة أخت الزوجة فالأحوط للزوج اجتناب جماع زوجته بعد حقنها بالنطفة إلى أن تنقضي عدة الحامل إلحاقاً للمورد بالمرأة الموطوءة شبهة -باعتبار اتحادهما باحترام الوطء شرعاً- إذا بان أنها أخت الزوجة في ضوء الروايات المعتبرة الآتية (صفحة 196).

فرع: قال بعض الأعلام: ((إذا كانت الحامل غافلة أو نائمة أو مكرهة ومقهورة في انتقال النطفة فلا يبعد لها جواز الإسقاط وكذا لزوجها، لأن هذا من حقوقها، والنص الدال على حرمة الإلقاء منصرف عن هذه الصورة، ولأنه ضرر وحرج نفسي وإهانة لهما. هذا كله قبل أن تلج الروح في الجنين، وأما بعده فلا يجوز إسقاطه بحال))(1).

أقول: حرمة إسقاط الجنين مطلقة من حين انعقاد النطفة، وهي ليست منصرفة عمّا نحن فيه لحرمة الإجهاض حتى لو كان الحمل من حرام كالزنا، إلا أن أدلة نفي الضرر والحرج والإهانة حاكمة عليها، لكن هذا أخصّ من المدعى الذي هو الجواز مطلقاً، فالأحوط لها التصالح مع صاحب النطفة في غير الموارد المذكورة.

نعم تستحق هذه المرأة المكرهة على الحمل المهر كاملاً على صاحب الماء إذا كانت باكراً وزالت بكارتها بالولادة، ولا مهر لها مع الرضا بالحمل.

ص: 135


1- الفقه ومسائل طبية، مصدر سابق: 1/92.

النوع الثاني: صور التلقيح الصناعي بماء غير الزوج وبويضة غير الزوجة

وفيها عدة صور نذكرها بنفس التسلسل السابق.

(الصورة السادسة) تلقيح الزوجة بماء الأجنبي بحقنه في رحمها ونمو الجنين في رحم الزوجة.

والمشهور بين الأصحاب الحرمة، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((إذا أدخلت المرأة مني رجل أجنبي في فرجها أثمت))(1)

ووافقه عليها السيد الشهيد الصدر الأول (قدس الله سره) في التعليقة.

وقال السيد الخميني (قدس سره): ((لا يجوز التلقيح بماء غير الزوج، سواء كانت المرأة ذات بعل، أو لا، رضي الزوج والزوجة بذلك أو لا، كانت المرأة من محارم صاحب الماء كأمه أو أخته أو لا))(2).

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا يجوز تلقيح المرأة بماء الرجل الأجنبي، سواء كان التلقيح بواسطة رجل أجنبي أو بواسطة زوجها))(3).

وقال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((دخول ماء الأجنبي في رحم الأجنبية حرام مطلقاً ولو لم يصدق عليه الزنا، ويزيد في الطين بلة أن يكون الماء من رجل محرم للمرأة كأخيها أو أبيها))(4).

وحكى بعض الأعلام تسالم الأصحاب على ذلك قال (قدس سره) تعليقاً على كلام السيد الحكيم المتقدم: ((فإن رحم الزوجة معدٌ للتولد من زوجها وليس لها حق إشغال رحمها بماء الرجل الأجنبي ولا يبعد أن الفقيه يفهم من مذاق

ص: 136


1- منهاج الصالحين بتعليق الشهيد الصدر (قدس سره): 2/215، المسألة 5.
2- تحرير الوسيلة: 2/562، المسألة (2)، ط2، دار التعارف.
3- منهاج الصالحين: 1/427.
4- ما وراء الفقه: 6/14.

الشرع الأقدس حرمة العمل المذكور، ولعل الحكم مورد تسالم الأصحاب))(1).

ويمكن الاستدلال بعدد من الوجوه التي ذُكرت في الصورة الخامسة إذ أن الرد عليها بالتفريق بين وضع ماء الأجنبي في رحم المرأة ووضع النطفة -أي البيضة المخصبة- لا يرد هنا لأن الصورة الحالية هي من وضع الماء وإقرار الرجل نطفته في رحم لا يحل له فالحرمة تكون هنا أوضح.

ونذكر عناوين تلك الوجوه:-

1- الآيات الكريمة الآمرة بحفظ الفرج فإن إدخال ماء الأجنبي في رحم المرأة ينافيه.

2- رواية علي بن سالم لأن هذه الصورة من إقرار نطفة الأجنبي في رحم يحرم عليه.

3- ارتكاز المتشرعة وقد نقلنا آنفاً تسالم الأصحاب على الحرمة.

4- إن المورد مجرى لأصالة الاحتياط في الفروج.

5- مضافاً إلى قوله (صلى الله عليه وآله): (الولد للفراش) فإنها تتضمن معنى دقيقاً وهو أن يكون الولد من الفراش أي من علقة مبيحة للافتراش في المرتبة السابقة أي أن الولد لا يكون للفراش إلا إذا كان قبل ذلك من الفراش، فلا يجوز حمل المرأة من ماء الأجنبي لعدم وجود فراش فتأمل(2).

لكن بعض الأعلام نفى أن تكون هذه الصورة من إلقاء ماء الأجنبي في رحم المرأة، قائلاً: ((فإن ذلك التلقيح لا يكون بإفراغ ماء الرجل في رحم المرأة، بل بتجزئة الماء المأخوذ من الرجل وانتخاب الجزء الحي اللائق السالم من بين الأجزاء الكثيرة(3)

وتطهيره من الجراثيم الملازمة، ثم تلقيحه في الجزء المتولد في

ص: 137


1- مباني منهاج الصالحين: 10/254.
2- لعل وجهه ما ذكرناه عند مناقشة القاعدة من أن جزأي الحديث ليسا مستقلين وإنما أخذا معاً بلحاظ الشك والتردد في نسبة الولد إلى أحدهما.
3- فقد قيل أن عدد الحيامن في القذفة الواحدة يصل إلى 200 مليون !.

الرحم خارج الرحم، وليس ذلك إفراغاً للماء ولا إقراراً للنطفة))(1).

أقول: قد يكون مقصوده التلقيح الخارجي لقوله: ((خارج الرحم)) فلا تشمل ما نحن فيه إلا أن استدلاله جارٍ في التلقيح الداخلي أيضاً.

وهنا نقول: إن هذا المعنى قد يميل إليه الأطباء وأهل الاختصاص إذا كان المحقون هو الحيمن فقط دون المكونات الأخرى التي يصدق معها عنوان السائل المنوي ولو في الجملة، كما أن الكريات البيض المنتزعة من الدم لا يصدق عليها عنوان الدم، وكما أن اللبنة المنتزعة من الجدار لا يصدق عليها عنوان الجدار، وهذا بحث سيال في أبواب عديدة من الفقه كعدم صدق الخمر على الكحول كمركب كيمياوي مع أنه مكونه الرئيسي، وعدم صدق عنوان البول على مادة اليوريا التي هي مكونه الرئيسي وهكذا. لكن الكلام يبقى في أن العرف قد لا يعترف بهذا التفريق ويرى صدق تسمية الماء على الحيامن بعد تنقيتها فيجري عنوان إفراغ الماء وإلقاء النطفة.

نعم قد يقال: إن هذه الروايات الناهية كرواية علي بن سالم منصرفة عن مثل هذه الحالة لأنها ناظرة إلى إلقاء الماء والنطفة بالزنا.

لكن هذا لو سلّمناه فإن الأدلة الأخرى موجودة، وغاية مناقشتها التحول من الفتوى الجزمية بالحرمة إلى القول بالاحتياط الوجوبي لإمكان الاستدلال عليه بارتكاز المتشرعة مؤيَّداً باختصاص فرج ورحم المرأة بزوجها ويُعبَّر فقهياً بتملك البضع وما يتبعه من الرحم، فلا يجوز لغيره وضع مائه فيه، وهذا ليس حقاً للزوج حتى يمكن أن يصحّ بإذنه بل هو حكم فلا تجوز مخالفته.ويؤيده أيضاً حصول الاطمئنان بصدور هذا المنع عن المعصومين (عليهم السلام) من خلال ملاحظة مجموع الروايات التي ناقشناها كلاً على حدة في النوع الأول:

ص: 138


1- الشيخ محمد اليزدي في مجلة فقه أهل البيت، العدد 5-6، ص 116.

فمنها ما ورد في تعليل حرمة الزنا بأنه سبب لاختلاط المياه وضياع الأنساب؛ ففي رواية محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) في ما كتب إليه من جواب مسائله: (وحرّم الله الزنا لما فيه من الفساد من قتل النفس وذهاب الأنساب)(1)

وفي مرسل الاحتجاج في حديث: أن زنديقاً قال لأبي عبد الله (عليه السلام): (لم حرم الله الزنا؟ قال: لما فيه من الفساد وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها، ولا المولود يعلم من أبوه)(2).

وهذه وإن كانت حكمة لا تدور حرمة الزنا مدارها إلا أنها تصلح أن تكون منشأ لحرمة إدخال ماء غير الزوج كما في صحيحة علي بن رئاب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الفاجرة يتزوجها الرجل المسلم؟ قال: نعم ولكن إذا فعل فليحصّن بابه مخافة الولد)(3).

ومنها الروايات الواردة في تعليل المنع من تعدد الأزواج للمرأة كما في رواية الشيخ الصدوق في العلل والعيون بأسانيد عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) وفيها (والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو إذ هم مشتركون في نكاحها وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف)(4).

فمن مجموع هذه الروايات يحصل اطمئنان بصدور المنع من دخول ماء غير ماء الزوج في رحم المرأة، خصوصاً إذا كانت فرصة الاتصال الجنسي بين الزوجين موجودة، وأمام هذا كله يندفع احتمال عدم استناد هذا الارتكاز إلى الشارع المقدس وإنما هو نتيجة العادات الاجتماعية أو التخوّف من كل ما هو غير متعارف

ص: 139


1- وسائل الشيعة: 20/311، أبواب النكاح المحرم، باب 1، ح15.
2- وسائل الشيعة: 20/332، أبواب النكاح المحرم، باب 17، ح12، الاحتجاج: 347.
3- وسائل الشيعة: 20/438، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 12، ح6.
4- وسائل الشيعة: 20/517، أبواب ما يحرم باستيفاء العدد، باب 1، ح2.

لدى الناس ونحو ذلك.

أو أنه خاص بالزنا ولا يشمل مطلق الحمل من ماء الأجنبي فإن الانصراف إلى الزنا باعتباره المصداق المعروف يومئذٍ لهذه الحالة لا يقيد إطلاق النهي عن إلقاء ماء الرجل في رحم امرأة أجنبية بأي طريق كان.

ولو قلنا بجواز العملية بشرط إذن الزوج -لكي لا يتعارض الحمل مع حقهالجنسي لما ورد من النهي عن مقاربتها في الجملة(1)-

فلا بد أن لا يكون في حالة إمكان المقاربة مع الزوجة كما لو كان مسافراً أو مسجوناً؛ لتجنب اختلاط المياه، ولو حصل ولد مع إمكان نسبته لأبيه -أي الزوج- ألحق به لقاعدة الفراش.

ولو حصل القطع بأنه ولد من ماء الأجنبي لم يلحق بزوج المرأة ولا تجري قاعدة الفراش لأنها تجري في ظرف الشك فتكون المرأة أمه لغةً وعرفاً، وصاحب الماء أباه إن كان معروفاً، وإن لم يكن كذلك -ويشترط بعض المتعاملين مع بنوك الحيامن ذلك حتى لا تقع منازعات في الميراث وغيره من الحقوق- فالوليد لا أب له.

(الصورة السابعة) تلقيح البويضة المأخوذة من الزوجة بحيمن رجل أجنبي في أنبوب المختبر وزرع اللقيحة في رحم الزوجة، ولا نجد فيه مانعاً مما ذُكر لعدم جريان أدلة الحرمة في الصورة السابقة هنا باعتبار أن التلقيح خارجي ولا يصدق عليه إلقاء ماء الأجنبي في رحم المرأة، بل قد لا يصدق على الحيامن المستعملة في التلقيح أنها ماء رجل للعمليات العديدة التي تجري عليها كما ذكرنا في الصورة السابقة.

أما زرع اللقيحة في رحم المرأة فهي ليست ماءً أصلاً للفرق العرفي الذي ذكرناه (صفحة 126).

نعم يمكن الاستدلال على الحرمة بارتكاز المتشرعة على عدم جواز الفعل،

ص: 140


1- وسائل الشيعة: 21/87-93، باب 5، وباب 8.

إلا أنه أشبه باستهجان الفعل وهو ليس بحجة كالاستحسان لاحتمال ابتنائه على أمور عرفية ونفسية ونحو ذلك فلا دليل على الحرمة، إلا أن يقال أن المورد مشكوك فتجري فيه أصالة الاحتياط في الفروج والنسب على المشهور وهي تقتضي الاجتناب.

وعلى أي حال فلو وقعت هذه الحالة فإن الزوجة تكون أم الولد لاجتماع تعريفي الأمومة فيها، أما أب الولد فهو الرجل الأجنبي لأنه تولّد من مائه وليس الزوج، ولا ضير في ذلك لأن الأحكام تتبع موضوعاتها وملاكاتها كما يصبح الرجل أباً لمولود ليس منه إذا أرضعته امرأته فيكون أباً بالرضاعة.

ولا بد أن تكون العملية بإذن الزوج لمنافاة حملها -لو حصل- لحقه لوجوب العدة على الزوج وعدم جواز مقاربتها، وقد تبدو العملية عبثية بالنسبة إليه لأن الولد سوف لا يكون له فما فائدته منها.

(الصورة الثامنة) التلقيح بين ماء الزوج وبويضة امرأة أجنبية خارج الرحم ثم تزرع النطفة في رحم الزوجة.

وهنا لا تأتي بعض أدلة الحرمة المتقدمة كآيات وجوب حفظ الفرج لعدم المنافاة، وكرواية علي بن سالم إذ لا يحصل هنا إقرار ماء الرجل في رحم لا تحل له؛ لأن التلقيح يكون خارج الرحم، إلا أن يقال أن الإقرار في الرحم المنهي عنه في الروايات لا خصوصية له، وقد ذكر باعتباره الحالة المتعارفة لالتقاء حيمن ببويضةامرأة لا تحل له فيتكون جنين من ماء رجل وامرأة لا رباط بينهما، فموضوع الحرمة هذا الالتقاء، وهي دعوى غير ظاهرة من الروايات، وعهدتها على مدعيها.

كما أن المنصرف من النهي في قوله (عليه السلام) في رواية إسحاق بن عمار المتقدمة: (لتضييعه النطفة ولوضعه إياها في غير موضعه)(1) أي وضع الرجل

ص: 141


1- وسائل الشيعة: 20/352، أبواب النكاح المحرم، باب 28، ح4.

ماءه في رحم غير حليلته ولا يعم إجراء التلقيح خارج الرحم في الأجهزة المخصَّصة.

نعم قد يقال أن بعض الوجوه الأخرى التي ذكرناها دليلاً على الحرمة جارية ولا أقل من ارتكاز المتشرعة إن تم كبرى وصغرى، وهو غير تام لأن غايته منع المرأة من الحمل من ماء رجل أجنبي والمقام ليس منه إذ أن الأجنبية ساهمت هنا بمنح البويضة فقط أي أنها تسببت في صنع الحمل لدى الزوجة ولم تحمل الأجنبية به.

ومع عدم وجود شيء من هذه المحاذير فلا مانع من هذه العملية.

هذا بالنسبة لحكم المسألة تكليفاً.

أما وضعاً فالولد لصاحب الماء، ويرد في الأم الخلاف المتقدم في كونها صاحبة البويضة (وهي الأجنبية) على مبنانا أو الحامل به (وهي الزوجة) على مبنى السيد الخوئي (قدس سره)، وعلى مختارنا فإن الزوجة لا تكون أمّاً هنا لأنها ليست صاحبة البويضة لكنها تستطيع إرضاع الوليد لتكون أمّاً له بالرضاعة ويحلّ الإشكال وإلا تكون العملية عبثية بالنسبة لها.

وقد تقدم أن احتمال كون الحامل أمّاً نسبية كالأم صاحبة البويضة عند القائل به في مثل هذه الحالة -وهي زرع البيضة المخصّبة مباشرة- يكون أقوى من غيرها كنقل الجنين بعد ذلك عند القائل به، وتستطيع الزوجة التخلّص من الشريكة في الأمومة -وهي صاحبة البويضة- بأخذها من امرأة غير معلومة من بنك البويضات، لكن الولد سيكون بلا أب مضافاً إلى احتمال نكاح المحارم عندما يكبر الوليد وهو لا يعرف أقرباءه من أبيه.

ولا تجري هنا قاعدة الفراش لمعلومية أصل الماء.

(الصورة التاسعة) تلقيح بيضة المرأة غير المتزوجة بماء الرجل خارجاً وزرع اللقيحة في رحم الأجنبية صاحبة البويضة.

ص: 142

ويأتي هنا نفس ما قلناه في الصورة السابقة من عدم وجود دليل على الحرمة ما دام التلقيح خارجياً، إلا أنه يضاف هنا ارتكاز المتشرعة على حرمة حمل المرأة من غير الزوج، فتأمل، ووجهه: احتمال اختصاص المنع بحالة عدم معرفة كيفية حمل المرأة من دون زوج كالاستغراب الذي حصل من الصدّيقة مريم ابنة عمران، أما مع معرفة ذلك كما في المقام فلا ارتكاز على المنع.

لكن يمكن دعوى عموم المنع لدى هذا الارتكاز مؤيداً بفهم ذكرناه في غير موضع للحديث النبوي الشريف (الولد للفراش) بأنه يتضمن معنى (الولد من الفراش)أيضاً أي فراش الزوجية لأن الولد لا يكون للفراش إلا إذا كان من الفراش في المرتبة السابقة، فيشترط في صحة نسبة الولد أن يكون من فراش.

وممن أجاز هذه الصورة السيد محمود الهاشمي (قدس سره) بعد منعه منها إذا كان التلقيح داخلياً قال (قدس سره): ((لا يجوز تلقيح المرأة بماء الأجنبي بوضع نطفته في رحمها على الأحوط وجوباً، وأما التلقيح الصناعي لنطفة الرجل الأجنبي والمرأة خارج الرحم ثم نقل الجنين إلى رحمها فالظاهر جوازه، ولو فعل ذلك وحملت المرأة ثم ولدت فالولد ملحق بصاحب الماء كما أن المرأة التي أخذت البويضة منها أم له ويثبت بينهما جميع أحكام النسب))(1).

أقول: قوله (قدس سره): ((إلى رحمها)) أي المرأة الأجنبية التي أخذت منها البيضة وهي هذه الصورة، ولا يحتمل أن يكون قصده الزوجة التي هي الصورة السابقة وإلا لأشار إلى الخلاف في أي منهما تكون الأم مضافاً إلى عدم ذكر الزوجة في المسألة حتى يرجع إليها الضمير.

تنبيه: ينبغي الالتفات إلى ما نبهنا إليه (صفحة 135) عندما تكون المرأة الملقحة أختاً لزوجة صاحب الماء.

ص: 143


1- منهاج الصالحين للسيد محمود الهاشمي: 1/444.

(الصورة العاشرة) حقن البيضة المأخوذة من المرأة الأجنبية في مهبل الزوجة وتلقيحها بماء الزوج بالاتصال الطبيعي.

وذلك بأن تؤخذ بيضة من المرأة الأجنبية وتزرع في رحم الزوجة ثم يجامعها زوجها ويحصل التلقيح بالاتصال الطبيعي، وهذه الصورة تتجاوز ما قيل من الإشكال المذكور في الصورة السابقة، وتكون هذه عملية جائزة كزرع سائر الأعضاء إذا صدق عرفاً أنها جزء من الجسم الجديد.

لكن صدق صيرورتها جزءاً من الجسم الجديد وهي الزوجة قد يكون محل إشكال في نظر العرف لما هو معروف من أن البيضة تبقى تحتفظ بجزئيتها من المبيض الذي انتزعت منه، وبصفات صاحبة المبيض الذي تكوّنت فيه.

لكن هذا الإشكال لو سلّمناه فإنه لا يضرّ بالجواز لأن حكم هذه الصورة سيصبح كحكم الصورة الثامنة وهو تلقيح بيضة المرأة بماء الأجنبي خارجاً أي خارج رحم صاحبة البويضة وهي الأجنبية وزرعها في رحم الزوجة لأن التلقيح يجري في رحم غيرها وهي الزوجة بدل الأنبوبة الصناعية فهو تلقيح خارجي بالنسبة لصاحبة البيضة، ولا يوجد مانع يذكر منها.

لكن المشكلة ستكون في الحكم الوضعي أي تحديد من هي الأم، فإذا قلنا أن البيضة لا زالت منسوبة إلى صاحبتها وأن الأم هي صاحبة البويضة، فالأم هيالأجنبية.

نعم قد يكون الصدق العرفي للانتقال إلى الجسم الجديد أقرب إذا زرعت البيضة في مبيض الزوجة وأفرزها كما يفرز المبيض الطبيعي بيوضه وحصل الإخصاب بماء الزوج ولا يضرّ به احتفاظها بصفاتها الأصلية.

ومن هذا التفريق بين حالة وضع بيضة الأجنبية في رحم الزوجة وتلقيحها بماء الزوج حيث يكون رحم الزوجة كوعاء التلقيح بين ماء الزوج وماء المرأة

ص: 144

الأجنبية، وحالة زرق بيضة الأجنبية في مبيض الزوجة ليفرزها عند التلقيح حيث صدق الجزئية في الثانية أوضح من الأولى: يُعلم النظر في إطلاق ما قاله بعض المعاصرين، من أنه إذا زرعت بيضة امرأة في رحم امرأة عقيم فإنه ((بعد زرعها وصيرورتها جزءاً لها فالولد المتكوّن منها ولد للمرأة التي كانت عقيماً دون من أُخذت البيضة منها وإن قيل إنّ البيضة واجدة لما يتركّب منها من أوّل الأمر؛ فإنّ الجزئية أمر عرفي، فإذا زُرعت وصدقت الجزئية للثانية كان كلّ ما يتولّد منها متولّداً من المرأة التي تكون البيضة جزءً لها فعلاً، ولذلك قال شيخنا الأُستاذ الأراكي (قدس سره) هنا: إنّ البيضة إن صارت جزءاً لبدن المرأة الثانية كان الولد ملحقاً بها))(1).

أقول: ما ذكرناه من التفريق يبين وجه تردد الشيخ الأراكي (قدس سره).

(الصورة الحادية عشرة) حقن المرأة غير المتزوجة بماء رجل أجنبي.

أي أن التلقيح داخلي، وتأتي هنا الوجوه السابقة للحرمة التي ذكرناها (صفحة 137) في الصورة السادسة، بل هي في غير ذات الزوج أقوى لأن المتشرعة يستقبحون ذلك فيها أكثر من المتزوجة.

ويستأنس لذلك برواية عبيد بن زرارة التي لا يضرها الإضمار لجلالة قدر عبيد فلا ينقل أجوبة إلا عن المعصوم (عليه السلام) ولا ضعف السند(2) لأن لسان الأجوبة لا يليق إلا بالمعصوم (عليه السلام) قال عبيد: (قلت له: هل على المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟ قال: لا وأيكم يرضى أن يرى أو يصبر على

ص: 145


1- السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 16، ص 122، ونقل كلام الشيخ الأراكي عن رسالة استفتاءات بالفارسية: 250، سؤال 7 من المسائل الطبية.
2- إذ فيها إرسال عن عبيد، واشتراك نوح بن شعيب بين الممدوح والمجهول.

ذلك أن يرى ابنته أوأخته، أو أمه، أو زوجته، أو أحداً من قرابته قائمة تغتسل، فيقول: مالك؟ فتقول: احتلمت وليس لها بعل. ثم قال: لا ليس عليهن ذلك وقد وضع الله ذلك عليكم، قال: «وَإِنْ كُنتُم جُنُباً فَاطّهَّرُوا»، ولم يقل ذلك لهن)(1)

حيث أسقط الشارع المقدس وجوب الغسل عنها مراعاة للوضع الاجتماعي للمرأة والنفسي لذويها فكيف يجوِّز الشارع المقدس إنجاب المرأة من غير زوج؟.

نعم قد يقال أن ما ذكره الإمام (عليه السلام) ليس على نحو التعليل حتى يعمم بالأولوية وإنما ذكر لإقناع السائل وإسكاته، لكن هذا لا يضر لأننا لم نستدل بعموم التعليل ونحوه وإنما عرفنا من خلالها ذوق الشارع المقدّس.

ولو كان التلقيح خارجياً أمكن تجنب بعض وجوه الحرمة كإقرار ماء الأجنبي في الرحم إلا أن تلغى الخصوصية ((ويدَّعى أن تمام الموضوع إنما هو انعقاد النطفة بماء الرجل وبيضة امرأة تحرم عليه وإن ذكر الرحم مثلاً إنما هو بلحاظ أنه كان هو الطريق المتعارف))(2)،وهي دعوى عهدتها على مدّعيها كما يقال، وتبقى بعض وجوه الحرمة الأخرى كارتكاز المتشرعة.

مضافاً إلى الفهم الذي ذكرناه للحديث النبوي الشريف (الولد للفراش).

ويمكن إضافة وجهين للحرمة:-

1- ما يحصل من اختلال النظام الاجتماعي لأن من أقوى دوافع الزواج هو تحقيق غريزة الأمومة وتحصيل الأطفال فإذا أمكن تحصيل الإنجاب من غير مؤونة الزواج وقيوده -بحسب ادعاء الكثيرين- فإنهم سيعزفون عن الزواج.

ويرد عليه: إن دوافع الزواج كثيرة ولعل أهمها تحصين النفس وقضاء الحاجة الجنسية من حلال وتحصيل ثواب النكاح ونحو ذلك.

2- إنه يلزم منه ذهاب غشاء بكارتها بالولادة وليس من المعلوم أن للمرأة ذلك

ص: 146


1- وسائل الشيعة: 1/475، ط. آل البيت: أبواب الجنابة، باب 7، ح22.
2- السيد محسن الخرازي: مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 16، ص 125.

اختياراً إذ ليس للإنسان إتلاف أي جزء من بدنه من دون سبب مشروع.

ويرد عليه:-

أ- إن السبب المشروع موجود وهو تحصيل الولد.

ب- إنها تستطيع الولادة بعملية قيصرية لا تزيل غشاء البكارة.

وقد ذهب السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى حرمة حمل كل امرأة غير متزوجة بكراً كانت أو ثيّباً(1).

تنبيه: ينبغي الالتفات إلى ما نبهنا إليه (صفحة 135) عندما تكون هذه المرأة غيرالمتزوجة أخت زوجة الأجنبي صاحب الماء.

فرع: قال أستاذنا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((إن تأسيس مصرف للحيامن والبويضات محرم شرعاً من ناحية أسبابه ونتائجه أما من ناحية أسبابه، فإنه متوقف على إخراج البويضات من النساء أو المياه من الرجال من دون هدف معين بذاته، بل لمجرد احتمال الاستفادة منها، وهذا محرم لحرمة الاستمناء وحرمة اطلاع الآخرين على العورة ولمسها.

وأما الحرمة من حيث نتائجه فإن كل شيء يسبب الحرام فهو حرام، وقد عرفنا حرمة اجتماع حويمن وبويضة لشخصين غير حليلين، ومن دخول حويمن أجنبي في رحم أجنبية، ومن دخول حويمن محرم في رحم محرم الذي هو أشد حرمة.

هذا بغضّ النظر عن الاعتبارات الأخرى كالدين، إذ لا يبعد القول بحرمة دخول حويمن رجل كافر في رحم مسلمة، كما يحرم التقاء حويمن رجل كافر مع

ص: 147


1- ما وراء الفقه: 6/15.

بويضة امرأة مسلمة، في رحمها أو في رحم أخرى إنسانية أو صناعية))(1).

أقول: قد عرفت عدم حرمة أكثر صور التلقيح الصناعي أو كلها فلا مانع على مستوى النتائج، وأما على مستوى الأسباب فيمكن القول أن المسوِّغ موجود وهو المساهمة في إنقاذ حياة زوجية تعاني من العقم ودفع حرج اجتماعي أو ضرر عن مؤمن أو مؤمنة ورفع اضطرارهما أو نحو ذلك، وإذا لم يمكن تحصيل الحيمن أو البويضة في وقت الحاجة فإن إيداعها في البنك يكون سائغاً؛ لأن عدم الإيداع يلزم منه الفوات عند الحاجة كالمقدمات المفوتة.

كما يمكن الاستفادة من عيّنات المني الكثيرة التي يجلبها أصحابها إلى المختبرات لإجراء التحاليل فيمكن الاحتفاظ بها بإذن أصحابها.

ص: 148


1- ما وراء الفقه: 6/46-48.

الباب الثالث: مسألتان لاحقتان لعملية التلقيح

اشارة

1- إتلاف البيضة المخصّبة.

2- وجوب العدة وتجنب الجماع ونحوها من الأحكام

ص: 149

المسألة الأولى: في إتلاف البيضة الملقحة الزائدة

تتضمن عملية التلقيح الصناعي تلقيح أكثر من بيضة ناضجة تؤخذ من مبيض المرأة، لكي يختار الطبيب أصلحها ليزرعها في الرحم.

والسؤال: هل يجوز إتلاف البيضة المخصبة أي اللقيحة فيما لو انتفت الحاجة إليها في الأنبوبة المختبرية أو تعذّر زرعها في رحم المرأة الراغبة في الإنجاب الصناعي باعتبار أن زرع عدة لقائح في رحمها يهلكها، أم لا؟ فيجب تنمية هذه اللقائح صناعياً(1) أو يجب على امرأة على نحو الكفاية زرعها فيها ولو بأجرة ونحو ذلك.

بعد فرض جواز تلقيح الطبيب لأكثر من بيضة مع علمه بتلف بعضها لعدم الدليل على الحرمة أو لأن طبيعة العملية تقتضي ذلك لاختيار الأفضل منها، أما إذا كان الحكم جواز إتلاف اللقائح الزائدة فيكون هذا الحكم تحصيل حاصل.

لا إشكال في جواز إتلاف الرجل ماءه قبل إلقائه في رحم المرأة لما ورد في

ص: 150


1- يمكن الاستفادة من هذه النتائج باستخدام ((الأنسجة الجنينية التي هي قابلة للنمو والانقسام، وهي تفيد في ترميم ما استهلك أو عِيبَ من أجهزة إنسان مريض، وهي أفضل من الناحية الوظيفية من الأعضاء التي تؤخذ من الموتى والأحياء المتبرعين لزراعتها في جسم المريض، وهذه يمكن أن نطلق عليها استنساخ الخلايا)) (الفقه المعاصر للشيخ حسن الجواهري: 2/460)ونقل عن أحد أهل الاختصاص قوله: ((إن البيضات المخصّبة خارج الرحم والتي تسمى (لقيحة) يمكن استنباتها وجعلها تنمو، وقد وافقت لجنة وارنك البريطانية على استنباتها وتنميتها إلى اليوم الرابع عشر الذي يظهر فيه الشريط الأولي الذي يعتبر البداية الأولية للجهاز العصبي لإجراء التجارب على هذه الأجنة الفائضة عن الحاجة بشرط أن يوافق الأبوان على ذلك)).

جواز عزل الرجل كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العزل؟ فقال: ذاك إلى الرجل يصرفه حيث شاء)(1)

وغيرها من الروايات المعتبرة، واشترطت بعضها رضا الزوجة كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (أنه سئل عن العزل؟ فقال: أما الأمة فلا بأس، وأما الحرة فإني أكره ذلك إلا أن يشترط عليها زوجها)(2)،وحكى الشيخ في الخلاف الإجماع على هذا الشرط، لكن جماعة خالفوا وحملوه على الكراهة، وذكر صاحب الجواهر (قدس سره) أن هذا هو المشهور بينهم نقلاً وتحصيلاً(3).وحكي إجماع فقهاء العامة على الاشتراط في الحرة(4) إلا أنه خالف فيه جماعة.

والاشتراط أنسب لوجوب المعاشرة بالمعروف ويجنّب المرأة أضراراً جسمية ونفسية.

هذا بالنسبة للزوج ولا يجوز لغيره التسبب في ذلك، ففي معتبرة ظريف بن ناصح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وأفتى -أمير المؤمنين- عليه السلام في منيّ الرجل يفزع عن عرسه فيعزل عنها الماء ولم يُرِد ذلك نصف خمس المائة عشرة دنانير، وإذا أفرغ فيها عشرين ديناراً)(5).

أما بعد إلقاء ماء الرجل في فرج المرأة فهنا ثلاث حالات:

الأولى: قبل وصول المني إلى الموضع المخصص للقاء البويضة وإخصابها في قناة فالوب.

ص: 151


1- وسائل الشيعة: 20/149، أبواب مقدمات النكاح، باب 75، ح1.
2- وسائل الشيعة: 20/151، أبواب مقدمات النكاح، باب 76، ح1.
3- جواهر الكلام: 29/112.
4- حكاه في نيل الأوطار: 6/222.
5- وسائل الشيعة: 29/312، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح1.

الثانية: بعد إخصاب البويضة ولكن قبل تعلق اللقيحة بجدار الرحم.

الثالثة: بعد حصول التعلق بجدار الرحم والشروع في التغذي والانشطار.

ولا إشكال في حرمة الإسقاط والإتلاف إذا بلغ المرحلة (الثالثة) وهي القدر المتيقن من روايات المنع الآتية.

أما (الأولى) فالظاهر الحرمة إذا كانت بدون رضا الزوج؛ لمعتبرة ظريف بن ناصح المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهي تحكي فتاوى أمير المؤمنين (عليه السلام) وفيها (وإذا أفرغ فيها عشرين ديناراً)، وقال (عليه السلام) فيها: (جعل دية الجنين مائة دينار وجعل مني الرجل إلى أن يكون جنيناً خمسة أجزاء) إلى أن قال: (فجعل للنطفة خمس المائة عشرين ديناراً).

وفي رواية ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (دية الجنين خمسة أجزاء: خُمْسٌ للنطفة عشرون ديناراً، وللعلقة خمسان أربعون ديناراً)(1)

إلى آخر الحديث بضميمة الملازمة العرفية بين وجوب الدية وحرمة الفعل إلا ما خرج بدليل، أو أن الحرمة مفروغ منها لأنه ظلم وفعل قبيح فاكتفى الإمام (عليه السلام) ببيان ما يلازمها من الدية.

أما بالنسبة للزوجة فيمكن أن يستدل على حرمة إسقاطها نطفة الزوج بوجوه:-

1- إطلاقات الروايات المتقدمة الدالة على وجوب الدية في إسقاط نطفة الرجل، إلا أنيدعى أنها منصرفة عن الزوجة للفرق بينها وبين الأجنبي ولو من جهة تسلّطها على فرجها فيثبت لها حق في مني الرجل بعد دخوله فلا يمكن الجزم بوحدة الحكم بينهما.

2- ما قيل من أن المراد بالنطفة في الروايات التالية الناهية عن إسقاطها بعلاج ونحوه هو ماء الرجل فنتمسك بإطلاق النهي عن إسقاطها، خصوصاً معتبرة رفاعة بن

ص: 152


1- وسائل الشيعة: 29/229، أبواب ديات النفس، باب 21، ح1.

موسى حيث شبّه السائل النطفة الملقاة من المرأة بعزل الرجل ماءه عن المرأة وهو جائز فنبّهه الإمام (عليه السلام) إلى هذا التوهم ونهاه عن الأولى دون الثانية فتدل على حرمة إلقاء ماء الرجل، لكن الروايات ظاهرة في خليط مائي الرجل والمرأة فلا تدل على حرمة إسقاط ماء الرجل قبل التقائه ببويضة المرأة، وستأتي مناقشة هذه الروايات إن شاء الله تعالى.

3- ما قيل من أن الزوج يملك البضع وحق الإنجاب ونحو ذلك من المقولات التي لم يثبت دليل عليها إلا أن يشترطها الزوج في عقد النكاح ولا يكفي فيه التباني العرفي.

أما (الثانية) فهي محل البحث وقد تحصل الحالة داخل الرحم لوجود فاصل زمني بين تلقيح البيضة في قناة فالوب وبين نزولها وتعلقها في جدار الرحم(1)­

يصل إلى أزيد من عشرة أيام تسقط البيضة فيها، وتحصل أيضاً في الأنبوبة قبل زرعها في رحم المرأة.

ص: 153


1- هذه المدة تستمر أزيد من عشرة أيام إلى الأسبوع الثالث أو الرابع من حين حدوث الإخصاب ويصاحب التعلق خروج دم يسمى ((نزيف انغراس البويضة)) أما ما قبل ذلك فتقضي البويضة المخصبة الوقت في طريقها من قناة فالوب إلى الرحم ويتهيأ فيها الرحم لاستقبال هذا الكائن العظيم «هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ» (لقمان:11) وتبدأ البيضة المخصبة عملية الانشطار بعد الإخصاب مباشرة على شكل متوالية هندسية وتلاحظ بعض النساء عند حصول الإخصاب أعراضاً مشابهة لمتلازمة ما قبل الحيض مثل تقلّب المزاج والانتفاخ والتقلصات (من موقع ويب طب ومصادر أخرى). وورد ذكر هذه التهيئة لدى الرحم لاستقبال البيضة المخصّبة في صحيحة زرارة (إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة ... حرّك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتح بابك -فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلى الرحم) (الكافي: 6/13، ح4).

وقد حكي(1) الإجماع على الحرمة في الحالة الأولى أي وجود البيضة المخصّبة في رحم المرأة وأن عليه ديّة عشرين ديناراً بحسب الروايات، وهو سر تحريم الفقهاء المعاصرين وضع اللولب كوسيلة لمنع(2)

الحمل عندما يكون عمله منعتعلق البيضة المخصّبة في جدار الرحم، لذا قالوا بالجواز في ما لو كان يمنع من إخصاب البيضة(3).

ويظهر من السيد الخوئي (قدس سره) عدم الحرمة في هذه الحالة فقد سُئل عن حكم وضع اللولب في الرحم مع العلم أنه ((يمنع البويضة الملقّحة من الالتصاق بجدار الرحم فيضطرها إلى السقوط والإجهاض، ما حكم استعماله؟)) فأجاب (قدس سره): ((لا بأس بذلك))(4).

أقول: فكأنه (قدس سره) لا يرى بأساً في إسقاطها قبل الانغراس لعدم صدق الحمل الموجب حرمة الإجهاض عليه وأكد هذا المعنى في استفتاء آخر فقد سُئِل ((قلتم في المنهاج ج2، مسألة 1379 ((لا يجوز إسقاط الحمل وإن كان نطفة)) ما معنى النطفة؟ فأجاب (قدس سره): ((النطفة هي المني، ولكن كونها حملاً يعني صيرورتها مبدأ نشوء إنسان وذلك باستقرارها في جدار الرحم آخذة في الرشد قبل أن تصير علقة)) ))(5).

ص: 154


1- مهذب الأحكام للسيد السبزواري: 25/215.
2- اختلف أهل الاختصاص في بيان ميكانيكية عمل اللولب فقيل أنه يوضع على باب الرحم ليبقيه مفتوحاً فعندما تنزل البيضة الملقحة إلى الرحم تجد الباب مفتوحاً فتنزلق إلى الخارج، وقيل أنها تحتوي على مواد كيمياوية كالتي تحويها حبوب منع الحمل وظيفتها قتل الحيوان المنوي قبل وصوله إلى البويضة.
3- راجع مثلاً المسائل الطبية للشيخ الفياض: 47.
4- المسائل الشرعية: 2/316، السؤال 64، والسؤال 66، نشر مؤسسة الخوئي الإسلامية.
5- المسائل الشرعية: 2/306، السؤال 16.

أقول: قد قوّينا في ما سبق (صفحة 123) أن عنوان الحمل الذي يرث والنطفة التي يحرم إسقاطها يصدق منذ انعقاد النطفة وقد تقدم منه (قدس سره) التصريح بذلك في باب الميراث، نعم عرضنا هناك (صفحة 124) أطروحة التفكيك في الانطباق بين أبواب الفقه فيصدق منذ الانعقاد في باب الميراث ومن حين الانغراس في باب الإجهاض، وسيأتي ما يدل على ذلك من الروايات.

هذا حكم البيضة المخصّبة في الرحم الطبيعية أما إذا كانت في الأنبوبة الصناعية فقد ذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى الجواز حيث سئل عن الأجنة أي البويضات المخصبة في أنبوبة التلقيح ((هل يجب زرعها جميعاَ في رحم الأم علماً بأن ذلك قد يؤدي إلى هلاكها؟ وهل يجوز انتقاء جنين واحد وقتل الباقي؟)) فأجاب (قدس سره): ((في الصورة المفروضة لا بأس بإتلاف تلك الأجنة، فإن قتل الجنين المحرم إنما هو فيما إذا كان في الرحم، وأما في الخارج فلا دليل على حرمة إتلافه))(1).

وتبعه على ذلك الشيخ الفياض، قال (دام ظله الشريف): ((يجوز إتلاف الأجنّة الفائضة، بإذن مَن أخذت منهما، ولم يدل دليل على حرمة إتلافها إلا إذا كانت في رحمالأم))(2).

أقول: رجحنا في ما سبق (صفحة 123) أن عنوان الحمل والجنين والنطفة التي هي مبدأ تكون الإنسان يصدق من حين الإخصاب، فيحرم إتلافها، ولو قلنا بأن العنوان لا يصدق إلا بعد انغراس البيضة في جدار الرحم فإن جواز إتلاف البيضة المخصّبة في الأنبوبة الصناعية يكون على القاعدة. وعلى الأول يأتي خلاف ثانٍ وهو أن حرمة إتلاف البيضة المخصّبة هل تختص بالموجودة في رحم المرأة أم أنها مطلقة فتشمل الموجودة في الأنبوبة الصناعية.

ص: 155


1- المسائل الشرعية: 2/319.
2- المسائل الطبية، مصدر سابق: 35.

فالقول بالجواز يبتني على أحد أمرين:-

1- عدم تحقق العنوان المحرم إلا بعد الانغراس.

2- إن المحرّم إتلافه ما كان في الرحم دون ما كان خارجه.

يمكن دعوى وجود عدة روايات يمكن الاستدلال بها على حرمة إتلاف البيضة المخصبة مطلقاً وهي:

الأولى: موثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها؟ فقال: لا، فقلت: فإنما هو نطفة، قال: إن أول ما يخلق نطفة)(1).

وقيل في تقريب الاستدلال بها: أن المقصود بالنطفة في قول السائل: (فإنما هو نطفة) ليس هو ماء الرجل، بل النطفة المنعقدة، وهي البويضة المخصّبة بحويمن الرجل. والقرينة على ذلك هو أنه سأل عن شرب الدواء للمرأة التي تخاف الحبل، ومن المعروف أن خوف المرأة من حدوث الحمل بحيث يدعوها إلى شرب الدواء إنما يحصل عادة مع معرفتها بحصول الحمل ولو احتمالاً من خلال تأخر عادتها الشهرية عن موعدها المقرر، والحمل عندئذٍ على تقدير تحققه لا يكون مجرد نطفة بمعنى ماء الرجل، بل يكون قد تحقق التخصيب وأصبحت البويضة ملقحة بحويمن الرجل.

وعلى ذلك فمفاد هذه الموثقة هو المنع من إسقاط البويضة المخصّبة، وحيث أن قوله (عليه السلام): (إن أول ما يخلق نطفة) في قوة التعليل للمنع المذكور، فيستفاد منه منع التسبب في تلف البويضة المخصبة أينما تكون، حتى في أنبوبة الاختبار.

والظاهر أنه لا فرق بين ما إذا أمكن زرعها في رحم صالحة، وما إذا لم

ص: 156


1- من لا يحضره الفقيه: 4/126، ح 445، وسائل الشيعة: 29/25، أبواب القصاص في النفس، باب 7، ح1.

يمكن ذلك وعلم أن مصيرها إلى التلف والذبول على كل تقدير، كما هو الحكم في البويضة المخصّبة في الرحم، فإنه لا يجوز التسبب في إسقاطها وإن علم أنها ستسقط لاحقاً؛ لإطلاق النصّ.

وهذا التقريب وجيه في ما يتعلق بالبيضة المخصّبة عندما تكون في رحم المرأة، لكن التجريد عن الخصوصية وتعميمه الحكم إلى البيضة المخصّبة في غير الرحم مما لا يمكن المساعدة عليه، فالإطلاق غير تام للفرق بين كون البيضة المخصّبة في الرحم أو في غيره حيث أنها قابلة للاستمرار بالحياة لو خلّيت وشأنها في الأولى بعكس الثانية، ويمكن أن نجعل ما ورد في معتبرة رفاعة بن موسى الآتية بياناً لذلك من جهة قوله (عليه السلام): (إن النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة) (وإن النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء).

فغاية ما تدل عليه الموثقة حرمة إسقاط البيضة المخصّبة عندما تكون برحم المرأة بدليل قوله (عليه السلام): (إن أول ما يخلق نطفة) وأراد الإمام (عليه السلام) بهذا التعليل إزالة التوهم لدى السائل بأن ماء الرجل يبقى مدة على حاله لا يتغير قبل أن يتشكّل الجنين فتوهم جواز إسقاطه خلال هذه المدة كما يصرّح به السائل في معتبرة رفاعة الآتية حيث أنه كان يعتقد بعد شهر أن ماء الرجل لا زال هو نفسه، وهذا المعنى موجود في رواياتنا وفي روايات العامة كخبر عبد الله بن مسعود المروي في مسند أحمد بن حنبل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً على حالها لا تتغير فإذا مضت الأربعون يوماً صارت علقة ثم مضغة)(1)

فلا تشمل محل البحث وهي البيضة المخصّبة في الأنبوبة المختبرية.

وحاول بعض الباحثين تقريب الاستدلال بالموثقة على حرمة إلقاء ماء الرجل بعد دخوله في الفرج أي الحالة الأولى المتقدمة باعتبار ما نصّت عليه معاجم

ص: 157


1- مسند أحمد بن حنبل: 1/374.

اللغة كمفردات الراغب وغيره من إطلاقها على ماء الرجل، وبهذا المعنى ورد في عدد من الآيات الكريمة كقوله تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى» (القيامة : 37) وفي الأحاديث الشريفة كقوله (عليه السلام): (الرجل يفزع (يفرغ) عن عرسه فيلقي النطفة)(1)

وفي رواية إسحاق التي تكررت في البحث (ولكن زيد هذا -أي الزاني- لتضييعه النطفة)(2)

وقوله (عليه السلام): (ولا بأس به، إلا أن تكون النطفة فيه رطبة)(3).ولا يُشكِّل السؤال عن شرب المرأة الدواء قرينة على إرادة البيضة المخصّبة لوجود ارتكاز بأن ماء الرجل يبقى على حاله في رحم المرأة مدة طويلة ومنه يتشكل الجنين

ويرد عليه: ظهور الرواية في البيضة المخصبة أي أن السؤال عمّا بعد دخول ماء الرجل إلى رحم المرأة وحصول الإخصاب به لوجود المقتضي وعدم المانع، أما المقتضي فلعدة قرائن:-

1- قول السائل: (تخاف الحبل) وهو ظاهر في أن الفعل بعد علمها ولو إجمالاً أو ظناً بحصول الحبل بالعلامات التي تعرفها المرأة بالتقريب الذي ورد في الاستدلال أي إزالة ما يحتمل وجوده من الحمل وليس أخذ العلاج بعد كل عملية جماع خشية حصول الحمل كما استظهره الباحث، فإنه سلوك غير متعارف في عصر النص. فلا يقاس على استعمال النساء اليوم لحبوب منع الحمل تجنباً للإنجاب.

2- قول السائل: (ما في بطنها) ولو كان المقصود بالنطفة ماء الرجل مجرداً لقال: (ما في فرجها).

ص: 158


1- وسائل الشيعة: 29/312 ، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح1.
2- وسائل الشيعة: 20/352، أبواب النكاح المحرم، باب 28، ح4.
3- وسائل الشيعة: 3/446، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات والأواني والجلود، باب 27، ح7.

3- احتياج إخراج النطفة إلى علاج، ولو كان مجرد ماء الرجل لما احتاج إخراجه إلى علاج.

4- جواب الإمام (عليه السلام) بأن أول ما يخلق نطفة في إشارة إلى تكون البيضة المخصبة لأنها هي التي تقع في سياق مبدأ تكوّن الإنسان وليس ماء الرجل لوحده، وقد ورد التعبير بالنطفة عن خليط مائي الرجل والمرأة كقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ» (الإنسان:2) وقوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً» (المؤمنون: 13-14) فإن المستقر في القرار المكين الذي هو الرحم، وإن المتحول إلى العلقة هي البيضة المخصّبة وليس ماء الرجل فقط.

وأما عدم المانع فلأن عنوان النطفة يصدق على مدى أربعين يوماً من الإخصاب وهي مدة تشمل البيضة المخصّبة حتى بعد انغراسها ونموها فلا مانع من صدق النطفة على البيضة المخصّبة في الروايات كرواية سعيد بن المسيب قال: (سألت علي بن الحسين (عليهما السلام) عن رجل ضرب حاملاً برجله فطرحت ما في بطنها ميتاً، فقال: إن كان نطفة فإن عليه عشرين ديناراً؟ قلت: فما حد النطفة؟ قال: هي التي وقعت في الرحم فاستقرت فيه أربعين يوماً)(1).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يخلق النطفة - إلى أن قال- فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلى الرحم فتردد فيه أربعين يوماً، ثم تصير علقة)(2)

إلى آخره، وقريب منها صحيحته الأخرى(3).ومعتبرة ابن فضّال عن الحسن بن الجهم قال: (سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام: إن النطفة تكون في الرحم أربعين

ص: 159


1- وسائل الشيعة: 29/316، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح8.
2- الكافي: 6/13، ح4.
3- الكافي: 6/16، ح7.

يوماً ثم تصير علقة)(1)

الحديث.

ولو عُبِّر عن مبدأ تكوّن الإنسان بنطفة الرجل فلأنه الملحوظ للناس يومئذٍ إذ لم يدركوا مشاركة المرأة بإفراز البويضة لذا لا يعني اختصاص المعنى بماء الرجل، ولو أنه توجد روايات في كتب الفريقين تشير إلى تأثير ماء المرأة في خصائص الجنين(2).

وعلى أي حال فإن حمل النطفة في الموثقة على ماء الرجل وإن كان يؤثر على حكم الحالة الأولى المتقدمة إلا أنه يضر بالاستدلال هنا لأن إلقاء نطفة الرجل إذا كان محرماً فمن باب أولى يحرم إلقاء النطفة بعد إخصاب بيضة المرأة؛ لأن تعليل الإمام (عليه السلام) بكونها أول تكوّن الإنسان أقوى في البيضة المخصّبة.

الثانية: صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة، فقال (عليه السلام): عليه عشرون ديناراً)(3).

وقيل في تقريب الاستدلال بها: أن المراد بالنطفة فيها هي البويضة المخصّبة؛ لأن التعبير بالطرح يناسب كونها حملاً وهذا لا يصدق إلا بعد تلقيح البويضة، وكما قلنا فإنه لا يضرّ كثرة استعمال النطفة في ماء الرجل لصدقها على البيضة المخصّبة أيضاً بقرينة الروايات الكثيرة من طرق الفريقين الدالة على أن الإنسان

ص: 160


1- الكافي: 6/13، ح3.
2- ولمزيد من التفاصيل راجع بحار الأنوار: 60/338-339، ومسند أحمد بن حنبل: 1/465 وفي خبر عبد الله بن سنان المروي في علل الشرائع: 94، باب 85، ح2 عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة فالولد يشبه أباه وعمّه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل يشبه الولد أمه وخاله) وروى مثله البخاري (4/161) وورد في بعضها تعبير ((نطفة المرأة)).
3- وسائل الشيعة: 29/314، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح4.

يخلق في بطن أمه خلقاً بعد خلق: يكون فيه أربعين يوماً نطفة، وأربعين يوماً مضغة(1).

وثبوت الدية في إسقاط النطفة يستلزم عرفاً ومتشرعياً حرمة الإسقاط، فإن الدية حسب ارتكاز المتشرعة إنما هي غرامة مالية تجعل على الجاني نظير بدل المتلفات من الأموال، وهذا يقضي حرمة الفعل المستوجب لها في حال العمد والاختيار وبعنوانه الأولي.وحيث أن المتفاهم العرفي من الرواية أنه لا خصوصية لكون البويضة المخصّبة في رحم المرأة ولكون تلفها بضرب المرأة المؤدي إلى الإسقاط، فهي تدل على حرمة التسبب في تلف البويضات المخصبة وما بحكمها، بالإضافة إلى دلالتها على ثبوت الدية بذلك، بلا فرق بين إمكان زرعها في رحم صالحة وعدمه؛ لإطلاق الرواية.

ويرد عليه بنفس ما قلناه من منع التجريد عن الخصوصية وعدم تمامية الإطلاق للفرق الواضح بين كون اللقيحة في رحم المرأة أو الأنبوبة الصناعية، وإن غاية ما تدل عليه الصحيحة حرمة إتلاف البيضة المخصّبة إذا كانت في رحم المرأة.

الثالثة: معتبرة رفاعة بن موسى قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أشتري الجارية فربما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح في رحم فتسقي دواء لذلك فتطمث من يومها، أفيجوز لي ذلك وأنا لا أدري من حبل هو أو غيره؟ فقال لي: لا تفعل ذلك، فقلت له: إنه إنما ارتفع طمثها منها شهراً ولو كان ذلك من حبل إنما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل، فقال لي: إن النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى ما شاء الله، وإن النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء فلا تسقها دواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت

ص: 161


1- راجع وسائل الشيعة: 29/312-319، كنز العمال: 1/112.

تطمث فيه)(1).

وقيل في تقريب الاستدلال بها: أن مقصود الإمام (عليه السلام) بقوله: (إن النطفة إذا وقعت في الرحم) هو النطفة إذا صارت حملاً، حيث أنها كانت مورد قياس السائل لا مطلق النطفة الداخلة في الرحم، فتدلّ الرواية على حرمة التسبب في تلف البويضة المخصّبة التي هي أول مراتب الحمل، والمتفاهم العرفي منها أنه لا خصوصية لكون البويضة المخصّبة في الرحم، بل إن العبرة بكونها صالحة للتطور إلى العلقة ثم المضغة وهكذا إلى آخر مراحل الحمل، في مقابل ما لا تكون صالحة لذلك، كالنطفة الخارجة في عملية العزل. وعلى ذلك يستفاد من الرواية عدم جواز التسبب في تلف البويضة المخصّبة في أنبوبة الاختبار؛ لأنها أيضاً مهيئة للرشد والتكامل وإن توقف استمرارها في ذلك على نقلها إلى رحم صالحة بعد مدة من الوقت، فليست هي مثل المني الخارج بالعزل لا يخلق منها شيء.

أقول: هذه الرواية أوضح في كون المراد بالنطفة التي يحرم إسقاطها المرحلة الأولى من مراحل تكون الإنسان وهي البيضة المخصّبة في الرحم فلا تشمل البيضة المخصّبة في الأنبوبة الصناعية التي ليس من شأنها الاستمرار في الحياة إلا إذا زرعت في رحم امرأة أو تمكن العلماء من إيجاد رحم صناعية مماثلة واعتني بها عناية خاصة وتوفير الأجهزة اللازمة وإلا فإنها تتلف من تلقاء نفسها ولا تصير إلى علقة ثم مضغة كما افترضته الرواية.

وقد ورد ما يؤيد هذا التعريف في رواية سعيد بن المسيب قال: (سألت علي بن الحسين عليهما السلام عن رجل ضرب امرأة حاملاً برجله فطرحت ما في بطنهاميتاً، فقال: إن كان نطفة فإن عليه عشرين ديناراً، قلت فما حد النطفة؟ قال: هي التي إذا وقعت في الرحم فاستقرت فيه أربعين يوماً))(2).

ص: 162


1- وسائل الشيعة: 2/338، أبواب الحيض، باب 33، ح1.
2- وسائل الشيعة: 29/316، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح8.

نعم قد يقال: إن جواب الإمام (عليه السلام) لا يفيد التعريف الذي يخرج عنه ما لا ينطبق عليه وإنما هو تعريف بالمثال والدليل على ذلك أن العرف لا يفهم خصوصية للرحم كما لا يفهم خصوصية للضرب بالرجل بل يفهم أن الحرمة والدية لإتلاف مبدأ نشوء الإنسان.

ويرد عليه: أن نشوء الإنسان لا يتحقق إلا إذا زرعت في الرحم وإلا فإنها تتلف كما ذكرنا آنفاً.

ونستطيع الاستدلال على ذلك الفرق بإطلاق قوله (عليه السلام): (وإن النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء)، فعنوان (غير الرحم) شامل بإطلاقه للبيضة المخصّبة في الأنبوبة الصناعية.

وخلاصة قراءة هذه الروايات أنها ناظرة إلى البيضة المخصّبة في الرحم وليس إلى ما كانت خارجه فضلاً عن ماء الرجل قبل التقائه بالبويضة، وإن كان يصدق عليه نطفة لغة واستعمالاً فإنه لا دليل على الحرمة، والأصل يقتضي الجواز.

ويمكن التقدم خطوة باتجاه تأييد قول السيد الخوئي (قدس سره) ونقول إن هذه الروايات ظاهرة في البيضة المخصّبة بعد علوقها بجدار الرحم فلا تدل على الحرمة قبل ذلك.

أما معتبرة رفاعة فهي صريحة في مرور شهر بعد انقطاع طمثها، وخلال هذا الشهر تكون البيضة قد تعلقت بجدار الرحم.

وأما صحيحة محمد بن مسلم فمن جهة التعبير بقوله: (فتطرح) ولا تعرف المرأة أنها طرحت إذا كانت في مرحلة البيضة المخصبة، وإنما يميزه الطب المتخصص اليوم بعلامات تحصل في الرحم ونحو ذلك، ولم تكن معرفة ذلك متيسّرة في زمن صدور النص.

وأما موثقة إسحاق بن عمار فمن جهة أن خوف المرأة من الحبل ظاهر في كونه من جهة معرفتها بحصوله ولو إجمالاً أو احتمالاً من خلال العلامات كانقطاع

ص: 163

الحيض ونحوه وهذه العلامات تحصل بعد الانغراس بأيام؛ لأن الوقت الأمثل للتلقيح هو بعد مرور أربعة عشر يوماً من بداية الدورة الشهرية فيحصل قبل موعد الدورة التي تليها بنفس المدة تقريباً وهي كافية لحصول الانغراس.

وعلى أي حال فإن هذا الظهور لا ينافي التعبير عنها بالنطفة لأنها تصدق على مدى الأيام الأربعين الأولى كما تقدم في الروايات فتشمل كل هذه الحالات.

فقول السيد الخوئي (قدس سره) بعدم حرمة إسقاط البيضة المخصّبة قبل الانغراس لا يخلو من وجه لولا مخالفته الإجماع المحكي، لكنه غير تام صغروياً وكبروياً، وعلى أي حال فالأحوط القول بالحرمة.

ص: 164

المسألة الثانية:وجوب العدة وتجنّب الجماع ونحوها من الأحكام

تقدم في صور التلقيح الصناعي أن الزوجة قد تكون وحدها طرفاً في العملية بأن يحقن فيها ماء زوجها، أو بأن تؤخذ البويضة منها وهي التي تحمل بالبيضة المخصّبة بعد تلقيحها خارجاً، وقد تشاركها امرأة أخرى بأن تؤخذ منها البويضة أو تحمل بالجنين، وقد تكون هذه المرأة متزوجة أو غير متزوجة، فماذا يترتب على المرأة التي تكون طرفاً في عملية التلقيح الصناعي من أحكام العدة عند الافتراق بين الزوجين وما يشابه ذلك من أحكام كالاستبراء وتجنب الجماع ونحو ذلك مع استمرار الزوجية، بعد ما عرفنا ما يترتب من أحكام النسب والتوارث، فهنا حالات عديدة.

وعلى المشهور فإن الزوجة إذا حقنت بماء الزوج في عملية التلقيح الصناعي ثم حصل فراق بينهما فإنها لا تعتد لعدم حصول الدخول الذي هو الموجب للعدة عندهم إلا إذا ظهر عندها حمل فتعتد بوضعه، فهل هذا صحيح؟ لذا علينا قبل تحرير أحكام المسألة أن ننقّح ما يوجب العدة.

ما يوجب العدة أمران:

لا شك أن الدخول يوجب العدة، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا» (الأحزاب:49) ومفهومها وجوب العدة بالمس الذي هو كناية عن الجماع.

وقد وردت في ذلك روايات كثيرة كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا طلّق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فليس عليها عدة، تُزوَّج

ص: 165

من ساعتها إن شاءت)(1)

وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل دخل بامرأة قال: (إذا التقى الختانان وجب المهر والعدة)(2).

والدخول يوجب العدة وإن لم يحصل فيه إنزال، وقد دلّت عليه صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (قيل له: فإن كان واقعها في الفرج ولم ينزل؟ فقال: إذا أدخله وجب الغسل والمهر والعدة)(3)،وكذا لو كان مقطوع الخصيتين أو أنهما عاطلتان ((الذي من المعلوم عدم الإنزال منه وعدم الحمل)) لأنموضوع الحكم هو الدخول ((وحكمة كون العدة لبراءة الرحم لا تنافي ترتيب الشارع الحكم على معلومة البراءة كما في غيرها من الحكم))(4).

وقد حكى كاشف اللثام الإجماع على أن الدخول وحده موجب للعدة فلا عدة على من لم يدخل بها زوجها ((وإن استدخلت ماءه من غير جماع، أو ساحقت موطوءة حين قامت من تحته))(5)،ونسبه الشهيد الثاني (قدس سره) إلى ظاهر الأصحاب في عبارته الآتية، وعليه فلا عدة على المرأة التي حقن فيها ماء زوجها بالتلقيح الصناعي.

وفرّع الأصحاب على ذلك عدم وجوب العدة على المرأة إذا كان زوجها مجبوباً، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((وأما المجبوب وهو مقطوع الذكر سليم الأنثيين -أي الخصيتين- فلا يوجد منه الدخول، فلا يجب على زوجته إذا كانت حائلاً -أي غير حامل- عدة على أصحّ القولين، لانتفاء المقتضي لها وهو

ص: 166


1- وسائل الشيعة: 22/176، كتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 1، ح4.
2- وسائل الشيعة: 21/319، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 54، ح3.
3- وسائل الشيعة: 21/319، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 54، ح1.
4- جواهر الكلام: 32/212.
5- كشف اللثام: 8/90.

الوطئ))(1).

والقول الآخر في مقابله للشيخ في المبسوط حيث أوجب العدة، قال (قدس سره): ((المجبوب إن كان قد قطع جميع ذكره فالنسب يلحقه لأن الخصيتين إذا كانتا باقيتين فالإنزال ممكن، ويمكنه أن يساحق وينزل، فإن حملت عنه اعتدت بوضع الحمل وإن لم تكن حاملاً اعتدت بالشهور، ولا يتصور أن يعتد بالأقراء، لأن عدة الأقراء إنما تكون عن طلاق بعد دخول، والدخول متعذر من جهته))(2).

أقول: ذكر صاحب الجواهر (قدس سره) وجوهاً لقول الشيخ (قدس سره) فقال: ((من المعلوم أن الأصل في الاعتداد الحمل والتحرز عن اختلاط المائين، ولذا انتفى عمن لا يحتمل ذلك فيها، ولشمول المس -الموجب للعدة في الآية الكريمة المتقدمة- والدخول لذلك وغيره، خرج غيره من الملامسة بسائر الأعضاء بالإجماع، ومسّ مجبوب الذكر والأنثيين جميعاً بالعلم عادة ببراءة الرحم. ويبقى هذا المسّ داخلاً من غير مخرج له))(3).

أقول: لكنه (قدس سره) حكى عدم وجود موافق للشيخ (قدس سره) في هذا القول وعلّق المحقق الحلي (قدس سره) على قول الشيخ بقوله: ((وفيه تردد لأن العدةتترتب على الوطئ)) وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره) له ردّاً على الاستدلال المتقدم لقول الشيخ (قدس سره): ((والدخول ونحوهما مما لا يصدق على المساحقة، والمس حقيقة في عرف الشرع أو مجاز مشهور في الوطء، وكذا الدخول بها، فلا أقل من تبادره إلى الفهم، على أنه مطلق يقيد بما دلَّ على اعتبار التقاء الختانين والإدخال ونحوهما، وإمكان الحمل بمساحقته لا يكفي في العدة بعد

ص: 167


1- مسالك الأفهام: 9/215.
2- المبسوط: 5/238.
3- جواهر الكلام: 5/215.

أن كان موضوعها في النص والفتوى الدخول ونحوه مما لا يشملها))(1).

لكن المشهور قالوا بوجوب العدة عليها إذا ظهر عندها حمل من الماء بدون دخول قال صاحب الرياض (قدس سره): ((إلحاق دخول المني المحترم مع ظهور الحمل بالوطء، فتعتد بالوضع، ولكن لا عدة قبل الظهور، لعدم الموجب له من دخول أو حبل))(2).

ووافقهم الأعلام المعاصرون، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((وإن كانت حاملاً وإن كان حملها بإراقة مائه في فرجها من دون دخول فعدّتها إلى وضع الحمل))(3)،ووافقه السيد الخوئي والسيدان الشهيدان الصدران والشيخ الفياض، ولم يذكروا وجوب العدة عليها بغير الدخول إن لم تكن حاملاً.

وننقل عبارة الشرائع مع شرح الجواهر: ((نعم لو ظهر بالمساحقة (حمل اعتدت منه بوضعه، لإمكان الإنزال) الذي يتكون منه الولد فيلحق به، لأنه للفراش، ويندرج بذلك تحت قوله تعالى: «وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن» بل في القواعد (لو كان مقطوع الذكر والأنثيين) أي تعتد بالوضع لو ساحقها فحملت، ولكن قال: (على إشكال) ولعله من الفراش، وكون

ص: 168


1- جواهر الكلام: 32/215.
2- رياض المسائل: 12/284.
3- منهاج الصالحين للسيد الحكيم بتعليق السيد الشهيد الصدر الأول: 2/381، المسألة (2). منهاج الصالحين للسيد الخوئي: 2/298، المسألة (1449). منهاج الصالحين للشيخ الفياض: 2/96، المسألة (254).

معدن المني الصلب بنص الآية -هذان وجها الإلحاق والاعتداد وهما قاعدة الفراش وكون معدن المني الصلب فلا يضره قطعهما- ومن قضاء العادة بالعدم(1)

مع انتفاء الأنثيين- وهذا وجه عدم الإلحاق-. وفيه أن المتجه إلحاقه به مع الاحتمال المخالف للعادة، لإطلاق قوله صلى الله عليه وآله: (الولد للفراش) بل قد يتجه القول بالاعتداد من مساحقته -وهو مقطوع الذكر والأنثيين- فضلاًعن الأول -وهو مقطوع الذكر فقط- وإن لم نجد قائلاً به))(2).

أقول: الحكم لا يختص بالمساحقة بل يشمل أي وسيلة حصل بها دخول المني ولو بالحقن الجاري في عملية التلقيح الصناعي، قال الشهيد الثاني (قدس سره) بعد أن ذكر ما هو المعتبر في تحقق الدخول: ((وفي حكمه -أي دخول الذكر- دخول منيه المحترم فرجاً فيلحق به الولد إن فرض وتعتد بوضعه، وظاهر الأصحاب عدم وجوبها بدون الحمل هنا. فلو دخل الخصيّ بما ذكر وجبت العدة وإن بعُد احتمال المعلق -أي علوق المرأة بالحمل- منه، كما بعد في مدخل الحشفة بغير إنزال وإن كان فحلاً، لوجود المقتضي الذي جعله الشارع سبباً لها))(3).

أقول: وهذا التفريق بين حصول الحمل فتجب العدة وعدم حصوله فلا تجب: استغرب منه صاحب الجواهر (قدس سره) قائلاً: ((وفيه أن المتجه مع فرضه -أي فرض الشهيد الثاني (قدس سره) بأن دخول المني بحكم دخول الذكر- كونه -أي دخول الماء- بحكم الاعتداد قبل ظهور الحمل مخافة اختلاط المائين، بل لعل وجوب العدة لها حاملاً يقتضي ذلك أيضاً، ضرورة معلومية اشتراط العدة بطلاقها الدخولي -أي المتعقب للدخول-، فإن لم يكن ذلك -أي دخول الماء- بحكمه لم

ص: 169


1- قال الشيخ (في المبسوط: 5/238): ((وأما الخصيّ الذي قطع جميع ذكره وأنثيياه لا يلحقه النسب ولا يعتد عنه بالأقراء وهو الصحيح عندهم وهو الأقوى لاعتبار العادة)).
2- جواهر الكلام: 32/215-216.
3- مسالك الأفهام: 9/215.

يكن لها عدة حتى معه أيضاً، لظهور النصوص المزبورة في اعتبار الالتقاء والإدخال والمسّ ونحوها مما لا يندرج فيها المساحقة، من غير فرق بين الحامل وغيرها، والآية(1) إنما يراد منها بيان مدة العدة للحامل، لا أن المراد منها بيان وجوب العدة على الحامل وإن لم تكن مدخولاً بها، كما هو واضح بأدنى تأمل.

فمن الغريب إثباتهم للعدة بالحمل من دون دخول مائه المحترم فيها، مع أن نصوص العدة التي سمعتها لا فرق فيها بين الحامل وغيرها، وقد عرفت أن الآية ليست في أسباب العدة، بل هي في بيان أجل العدة، نحو الثلاثة قروء والثلاثة الأشهر المذكورين لغيرها كما لا يخفى))(2).

بيان المختار:

أقول: مقتضى التأمل في الروايات أن الدخول ليس هو السبب الوحيد لوجوب العدةوإنما تجب مع إدخال ماء الرجل أيضاً وإن لم يكن بالدخول لوجهين:-

1- التمسك بإطلاق الروايات الدالة على ذلك كقول أبي عبد الله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان (إنما العدة من الماء)(3)

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (العدة من الماء)(4) وفي معتبرة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يتزوج المرأة فيدخل بها فيغلق عليها باباً ويرخي عليها ستراً ويزعم أنه لم يمسّها، وتصدّقه هي بذلك، عليها عدة؟ قال: لا، قلت: فإنه شيء دون شيء؟ قال: إن أخرج الماء اعتدّت، يعني إذا

ص: 170


1- قوله تعالى: «وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (الطلاق:4).
2- جواهر الكلام: 32/216-217.
3- وسائل الشيعة: 21/319، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 54، ح3.
4- وسائل الشيعة: 22/175، كتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 1، ح1.

كانا مأمونين(1) صُدِّقا)(2).

2- إنهم أوجبوا العدة على المرأة بدخول الماء إن ظهر فيها حمل وهم قد خرجوا بذلك عن اشتراطهم الدخول لوجوبها ولا نجد دليلاً على الفرق بين العلم بظهور الحمل أو احتماله بإدخال الماء فالمناط واحد وهو التحرّز من اختلاط المياه والتحفظ على معرفة الأنساب، وما استدلوا به على وجوب العدة على الحامل غير تام كالآية الكريمة وهي قوله تعالى: «وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (الطلاق: 4) فهي ليست في مقام البيان من هذه الجهة وإنما من جهة تحديد مقدار العدة بعد فرض وجوبها. فأما أن يقولوا بالعدة في الحالين أو بعدمها كذلك، وقد قالوا بوجوبها عند ظهور الحمل فهي تجب مطلقاً عند دخول الماء.

والنتيجة أن إدخال الماء سبب للعدة كدخول الذكر، لكن المشهور لم يعتبروا إدخال الماء سبباً للعدة مستقلاً عن الدخول، وافترضوا تحقق إنزال الماء المذكور في الروايات بالدخول، وأن التعبير فيه كناية عن الدخول، وحملوا قوله (عليه السلام) في الروايتين الأولى والثانية: ((على إرادة بيان الحكمة لا السبب، ولذا أعقبه باعتبار الإدخال في العدة))(3).

أقول: ويرد عليه:-

1- إن صحيحة عبد الله بن سنان صريحة بعدم حصول الدخول لقول السائل: (ولم يمسّها)ومع ذلك فقد أوجب الإمام (عليه السلام) العدة للماء وهي عن الإمام

ص: 171


1- في مقابل ما لو لم يكونا كذلك كما في الرواية التالية وهي صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها (فتقول: لم يمسّني، ويقول هو: لم أمسّها، قال: لا يصدّقان؛ لأنها تدفع عن نفسها العدة ويدفع عن نفسه المهر) (وسائل الشيعة: 21/325، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 56، ح3.
2- وسائل الشيعة: 21/325، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 56، ح2.
3- جواهر الكلام: 32/217.

الصادق (عليه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة فأدخلت عليه ولم يمسها ولم يصل إليها حتى طلقها، هل عليها عدة منه؟ فقال: إنما العدة من الماء، قيل له: فإن كان واقعها في الفرج ولم ينزل؟ فقال: إذا أدخله وجب الغسل والمهر والعدة)(1)

وجزؤها الثاني سؤال مستقل لا يوجب حمل الأول على الدخول، فلا يتم قولهم: ((ولذا أعقبه)).

2- إن ما ذكروه من توجيه الرواية ليس أولى من اعتبار الماء سبباً للعدة خصوصاً مع ظهور الروايتين في الحصر -الذي سنفهم وجهه- وقد أخذ الدخول على نحو الطريقية باعتباره الوسيلة المتعارفة لإدخال الماء وليس على نحو السببية، وما دلّ على وجوب العدة بالدخول ولو من غير إنزال بلحاظ إمكان خروج شيء من المني أثناء الجماع لا يكون بدفق ويسبق الماء الدافق؛ لأن (الوكاء قد ينفلت) كما في بعض النصوص(2)،فما دام الدخول قد تحقق فإمكان الإنزال موجود، فالعبرة بالماء وليس بذات الدخول.

بل يمكن القول أن ما احتملناه أولى لأن الغرض من عدة الطلاق ونحوه تمييز الأنساب والتحرز من اختلاط المياه، ومناطه دخول الماء بأية وسيلة ويشهد لذلك:-

1- أنهم عرّفوا العدة شرعاً بأنها ((اسم لمدة معدودة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها))(3)، وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في علّة تشريعها: ((لما كان الأصل في هذه العدّة (العلة) طلب براءة الرحم لم تجب بالفراق عن مطلق النكاح، بل اعتبر جريان سبب شغل الرحم ليحتاج إلى معرفة براءته)). وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن مشروعية العدة للحفظ من اختلاط الماء، والحكمة وإن لم تطرد

ص: 172


1- وسائل الشيعة: 21/319، أبواب المهور، باب 54، ح1.
2- وسائل الشيعة: 21/378، والوكاء هو الحبل الذي تُشدّ به فوهة القربة.
3- مسالك الأفهام: 9/213. كشف اللثام: 8/91. رياض المسائل: 12/283.

لكن ينتفي الحكم الذي شُرّع لها معها))(1).

2- عدم وجوب العدة على الصغيرة واليائس وإن دخل بهما والسبب ظاهر وهو عدم تأثير الماء فيهما، فلم يكن الدخول رغم تحققه موجباً للعدة.

ونحو ذلك من الأحكام كعدم وجوب العدة في وطء الشبهة إذا كانت هي المشتبهة دون الواطئ؛ لأن ماءه ليس محترماً فلا عدة له عليها مع أن الدخول من طرفها محترم لكنه لم يوجب عدة، فالعبرة بالماء.

3- ما دلّ على عدم وجوب العدة من دخول الخصي لعدم وجود ماء ينعقد منه الحمل رغم تصريحها بحصول الدخول واستحقاق المهر كاملاً الذي يعني حصول الدخول وهي صحيحة ابن أبي نصر قال: (سألت الرضا عليه السلام عن خصيّ تزوج امرأةعلى ألف درهم ثم طلقها بعدما دخل بها؟ قال: لها الألف التي أخذت منه ولا عدة عليها)(2).

إن قلتَ: هذه الرواية لا يمكن العمل بها لمنافاتها الروايات الكثيرة الموجبة للعدة مع الدخول وهي تنفيها وتصرّح بتحقق الدخول.

قلتُ: سنذكر وجهاً لعدم وجوب العدة مع تحقق الدخول في السانحة الآتية إن شاء الله تعالى.

ولعله لهذا الإشكال لم يعمل المشهور بهذه الرواية الصحيحة وتمسّكوا بصحيحة أخرى أوجبت العدة من الخصيّ وهي صحيحة أبي عبيدة الحذاء (قال: سُئل أبو جعفر (عليه السلام) عن خصي تزوج امرأة وهي تعلم أنه خصي؟ قال: جائز، قيل له: إنه مكث معها ما شاء الله ثم طلقها، هل عليها عدة؟ قال: نعم، أليس قد لذّ منها ولذّت منه؟ قيل له: فهل كان عليها فيما يكون منه غسل؟ قال: إن كان إذا كان ذلك منه أمنت فإن عليها غسلاً، قيل: فله أن يرجع بشيء من الصداق

ص: 173


1- جواهر الكلام: 32/218.
2- وسائل الشيعة: 21/303، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 44، ح1.

إذا طلقها؟ قال: لا)(1).

أقول: أوّل الأصحاب صحيحة ابن أبي نصر وطرحوها بدل أن يضعوها في موضعها الصحيح(2)

الذي قرّبنا كقول صاحب الجواهر (قدس سره) فإنه بعد أن نقل أولاً صحيح أبي عبيدة الحذّاء قال: ((ولا يعارضه صحيح ابن أبي نصر بعد قصوره عن المقاومة من وجوه، فلا بأس بطرحه أو حمله على خصي لا يتحقق منه دخول، فيكون المراد من دخوله بها الخلوة، والندب من أخذها الألف، وعلى كل حال فهو أولى من الجمع بينهما بحمل الاعتداد في صحيحة الحذاء على الندب المنافي لما عليه الأصحاب والنصوص السابقة))(3).

أقول: هذا التوجيه مخالف لصريح الرواية في دخول الزوج الخصي بها، وبقرينة استحقاقها المهر كاملاً، ولسؤال الراوي عن وجوب الغسل عليها بما كان يفعله الزوج، ولو تحقق الدخول لما كان وجه للسؤال عن وجوب الغسل، وأي ندب في إلزام الزوج بدفع الألف كاملاً وهي تستحق النصف لو لم يدخل بها.

ثم إنهم اعتبروا صحيحة الحذّاء دالة على قول المشهور لظهورها في حصولالدخول حيث حملوا قوله (عليه السلام): (لذّت منه ولذّ منها) على خصوص الالتذاذ بالإدخال لا مطلقاً بحيث يشمل المساحقة، وهو حمل لا يمكن المساعدة عليه لقرينتين:-

ص: 174


1- وسائل الشيعة: 21/227، أبوب العيوب والتدليس، باب 13، ح4
2- قلتُ في بعض كلماتي أن هذه الطريقة من التعاطي مع روايات أهل البيت (عليهم السلام) قد تكون أحد أسباب نشوء الاتجاه الأخباري الذي توسّع بقبول الروايات من دون التحقيق في صحة الصدور كردّة فعل على الاتجاه الأول.
3- جواهر الكلام: 32/214، وهذا الجمع قاله الفيض الكاشاني في الوافي: 23/108، باب 187، الحديث 23001) وفي المفاتيح: 2/343 ووصفه صاحب الرياض (12/285) بأنه شاذ لا يلتفت إليه.

أ- إن الإمام (عليه السلام) اشترط في وجوب الغسل عليها إمناءها وهذا يعني عدم تحقق الدخول ولو تحقق فإنه موجب للغسل من دون إمناء.

ب- إن صيغة سؤال الراوي توحي بأن ما كان يفعله الزوج ليس دخولاً طبيعياً فسأل عن وجوب الغسل بفعله فربما كان الفعل هو المساحقة ونحوها وأنه أراد بالخصي مجبوب الذكر.

وحينئذٍ تكون صحيحة أبي عبيدة دالة على ما قلناه أيضاً من وجوب العدة بدخول الماء، ويحمل الالتذاذ على نزول الماء وهو أقوى من حمله على مجرد الدخول.

4- لو كان الدخول هو السبب الوحيد للعدة لما كان وجه لإيجابهم العدة عليها إذا بان حملها لعدم الدليل على الوجوب، وإن الآية الكريمة التي استدلّوا بها «وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (الطلاق:4) ((إنما يراد منها بيان مدّة العدة للحامل، لا أن المراد منها بيان وجوب العدة على الحامل وإن لم تكن مدخولاً بها كما هو واضح بأدنى تأمل))(1).

أي أن الآية ليست في مقام البيان من هذه الناحية، ولذا استغرب صاحب الجواهر (قدس سره) من وجوب العدة وقال: ((كان المتجه عدم التزام العدة حتى مع الحمل منه، وكون منيّه محترماً لا ينافي سقوط العدة المشترطة بالدخول، والفرض عدمه، فيكون حملها نحو حملها باستدخال قطعة من منيه أو بمساحقة زوجة كانت تحته، وصعوبة التزام ذلك باعتبار كونها حاملاً منه كصعوبة التزام عدم العدة لمائه المحترم فيها المحتمل تكون ولد منه))(2).

أقول: لقد أجاد في ما أفاد كما هو ديدنه (قدس سره).

ص: 175


1- جواهر الكلام: 32/217.
2- جواهر الكلام: 32/217-218.

5- بناءً على صحّة ما نُسب إلى أحد علماء الأجنة(1)

من أن السائل الذكري للرجل به 62 بروتيناً يختلف من رجل لآخر كاختلاف بصمة الإصبع وهي شفرة خاصة لكل رجل وإن جسد المرأة كالكومبيوتر يختزن شفرة من يعاشرها من الرجال، فإذا تزوجت برجل آخر بعد الطلاق مباشرة أو دخلت أكثر من شفرة كأنما دخل فايروس لهذاالكومبيوتر فيصيبه بالخلل والأمراض الخبيثة، وإن الحيضات الثلاث كفيلة بإزالة بصمة الزوج السابق وتهيئة الرحم لاستقبال بصمة جديدة، لذلك فإن ممارسات الدعارة والزنا يصبن بالأمراض الفتاكة نتيجة لاختلاط السوائل المنوية في الرحم.

أما الأرملة فتحتاج مدة أطول لأن الحزن يثبّت البصمة لديها بشكل أقوى فتحتاج إلى مزيد من الوقت لتزول بصمة ماء الرجل نهائياً.

أقول: إن صحّ هذا ففيه تأكيد لكون العدة من الماء وشرح لبعض وجوه الحكمة من تشريع وجوب العدة على المرأة.

6- ولو تنزّلنا عن كل ما تقدم فإن قول المشهور يوقعنا في محذور، وذلك لأن عدم وجوب العدة على المرأة بإدخال الماء دون دخول الذكر يعني إمكان تزويجها؛ لأن الحمل من ذلك الماء لا يستبين إلا بعد عدة أسابيع على الأقل. فلو بان عندها حمل فإنه يكشف عن وجوب العدة عليها بحسب المشهور وهذا يعني بطلان العقد عليها وإذا دخل بها الثاني فإنها تحرم عليه مؤبداً حتى لو كانا جاهلين، فللتحرز من وقوع هذا المحذور ونحوه يكون الأحوط القول بالعدة لدخول الماء مطلقاً.

وخلاصة البحث: أن الأقوى هو ما ذهب إليه الشيخ الطوسي (قدس سره) من إن الموجب للعدة أمران:-

1- الدخول وإن لم يُنزل.

ص: 176


1- نُشر نقلاً عن مصادره على مواقع التواصل الاجتماعي وفي صحف كثيرة في شهر 8/2012.

2- إدخال الماء وإن لم يكن بالدخول.

وهي النتيجة التي خلص إليها صاحب الجواهر للجمع بين الروايات، قال (قدس سره): ((فليس إلا القول بأن للعدة سببين: أحدهما دخول مائه المحترم فيها بالمساحقة أو بإيلاج دون تمام الحشفة، الثاني إيلاج الحشفة وإن لم ينزل بل وإن كان صغيراً غير قابل لنزول ماء منه، فتأمل جيداً فإن المقام غير منقّح، والله أعلم بالصواب))(1).

أقول: قد نقّحنا المقام بدرجة معتد بها بفضل الله تبارك وتعالى وباب البحث مفتوح لمن أراد التحقيق.

ووافقه صاحب العروة في الملحقات، قال (قدس سره): ((إذا سبق ماؤه من غير وطئ بالمساحقة أو بالإنزال فالظاهر وجوب العدة، سواء حملت أو لا، فالموجب لها أحد الأمرين من الدخول ولو مع عدم الإنزال، ودخول مائه من غير وطئ، إذ في بعض الأخبار أن العدة من الماء))(2).

إن قلتَ: إذن ما معنى الحصر في صحيحتي عبد الله بن سنان ومحمد بن مسلم وهل ينافي هذه النتيجة؟

قلتُ: إنه لا ينافيه لوجهين على الأقل:-

1- لانحصار السبب به بعد نفي السائل سببية الدخول، فهو انحصار بسبب ظروف الرواية وليس حصراً.2- إن الحصر إضافي بلحاظ ما ذهب إليه فقهاء العامة من كفاية مجرد الخلوة وإن لم يحصل دخول لوجوب العدة(3).

ولعل السائل أراد من الإمام التعليق على هذه الفتوى عند العامة فأورد في السؤال ما هم عليه.

ص: 177


1- جواهر الكلام: 32/218.
2- العروة الوثقى بتعليقات المراجع العظام: 6/83، كتاب العدد، المسألة (1).
3- المغني لابن قدامة والشرح الكبير: 8/62.

فيستفاد من الحصر هنا إثبات العدة من الماء وليس نفيها عما سواه وهو دخول الذكر

إن قلتَ: ظاهر ما تقدم من البحث إلغاء سببية الدخول بذاته للعدة وأنه أخذ على نحو الطريقية لنزول الماء.

قلتُ: نعم قلنا ذلك لإثبات سببية دخول الماء لوجوب العدة للرد على إلغاء المشهور له وليس لنفي سببية دخول الذكر للعدة الذي دلّت عليه النصوص الشريفة من القرآن والسنة، بغضّ النظر عن الحكمة الأصلية من جعله وهو منع اختلاط المياه ولمعرفة الأنساب ونحو ذلك، ولعل صاحب الجواهر (قدس سره) أراد هذا المعنى بقوله: ((وحكمة كون العدة لبراءة الرحم لا تنافي ترتيب الشارع الحكم على معلومة البراءة كما في غيرها من الحكم))(1).

أقول: أشار (قدس سره) في كلمته الأخيرة إلى فكرة حاصلها: أن استقراء بعض موارد الفقه يكشف عن أن الشارع المقدس قد يعتبر موضوعاً لحكم معين لا يكون منضبطاً لدى جميع الناس فيضع حداً يحسم هذا الاختلاف يسير عليه الناس بغضّ النظر عن الموضوع الأصلي، فهنا سبب العدة هو منع اختلاط المياه لحفظ الأنساب لكن خروج الماء أمر لا يعرف حتى لصاحبه (لأن الوكاء قد ينفلت) فجعل الدخول الذي هو أمر محسوس معروف موضوعاً لوجوب العدة وإن لم يحصل عنده علم بنزول الماء.

وللشهيد الثاني (قدس سره) كلام مفيد لبيان هذه الفكرة، قال فيه: ((لا يعتبر تحقق الشغل - أي شغل الرحم- ولا توهمه، فإن الإنزال مما يخفى ويختلف في حق الأشخاص بل في الشخص الواحد باعتبار ما يعرض له من الأحوال فيعسر تتبعه ويقبح، فأعرض الشارع عنه واكتفى بسبب الشغل وهو الوطء، وناطه بتغيب قدر الحشفة. وهذا صنعة في تعليق الأحكام بالمعاني الخفية.

ص: 178


1- جواهر الكلام: 32/212.

ألا ترى أن الاعتقاد الصحيح الذي هو المطلوب وبه تحصل النجاة لما كان أمرا خفياً - لكونه في الضمير - علقت الأحكام بالكلمة الظاهرة، حتى لو توفرت القرائن الدالة على أن الباطن مخالف للظاهر - كما إذا أكره على الإسلام بالسيف - لا يبالى بها ويدار الحكم على الكلمة.وأن مناط التكليف - وهو العقل والتمييز - لما كان خفياً يحصل بالتدريج ويختلف بالأشخاص والأحوال أعرض عن تتبعه، ومعرفة كماله وعقله بالسن أو الاحتلام.

وكما اكتفى في الترخص بالسفر المخصوص وأعرض عن المشقة التي هي الحكمة فيه))(1).

أقول: وبهذا ندافع عن المشهور حين اعتبر الدخول سبباً للعدة بغضّ النظر عن الحكمة الأصلية التي مناطها الماء، وقد اختلفنا معه في عدم إلغاء سببية دخول الماءلأن الأدلة المتقدمة أثبتته.

إن قلتَ: مقتضى هذه الفكرة إلغاء سببية دخول الماء للعدة والاكتفاء بالدال عليه وهو الدخول كإلغاء سببية المشقّة في قصر الصلاة والاكتفاء بالمسافة.

قلتُ: الأمر مختلف فإن الحكمة الأصلية تبقى فاعلة هنا عندما تتحقق مضافاً إلى المجعول دالاً عليها، فالحكم يثبت عند تحقق الحكمة ولكنه لا ينتفي عند انتفائها، فعندما نقول: الزنا حرام لأن فيه اختلاط الأنساب فإن هذا لا يعني أنه عند إمكان تمييز الأنساب لا يكون الزنا حراماً لأنه حرام بغضّ النظر عن تحقق المناط المذكور خصوصاً مع وجود أسباب أخرى للحرمة ذكرتها الأحاديث الشريفة، وهذا هو الفرق بين الحكمة والعلة التي يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً.

ومن هنا يُعلم النظر في قول صاحب الجواهر (قدس سره): ((أن مشروعية العدة للحفظ من اختلاط الماء، والحكمة وإن لم تطّرد لكن ينتفي الحكم الذي شرع

ص: 179


1- مسالك الأفهام: 215/214/9.

لها معها))(1).

سانحة: انقدحت في الذهن فكرة حاصلها عدم الملازمة بين ما يوجب المهر والغسل وما يوجب العدة، فالدخول مطلقاً يوجب المهر والغسل حتى من مقطوع الخصيتين أو معيبهما حيث لا يتصور منه خروج مني، أما الموجب للعدة فهما أمران: إدخال الماء بأي نحو كان، ودخول الذكر مطلقاً وإن لم ينزل لكن مع وجود احتمال لنزول المني وإن لم ينزل بالدفق، ولا عدة مع عدم احتماله كما لو لم تكن عنده خصيتان أو كانتا عاطلتين، وتبعاً لذلك فإن المرأة إذا كانت منزوعة الرحم فلا عدة عليها وتلحق باليائس والصغيرة، أو إذا كان الداخل صغيراً غير بالغ ونحو ذلك، خلافاً لما قالوه من عدم الفرق في الدخول بين الصغير والكبير تمسّكاً بالإطلاق وهو مقبول في وجوب الغسل والمهر دون العدة.

فبين موجب العدة وموجب المهر والغسل عموم من وجه، إذ يفترق الأول من جهة وجوبها إذا أدخل الماء من غير دخول للذكر ويفترق الثانيان فيما إذا حصل دخول من غير ماء أو رحم فاعلين.

ومما يدل على ذلك صحيحة ابن أبي نصر المتقدمة (صفحة 173) فقد أوجبتالمهر كاملاً للدخول ولم توجب العدة. وكذا صحيحة أبي عبيدة التي تلتها فقد أوجبت العدة بناءً على ما قرّبناه من دخول الماء بغير دخول الذكر، ولم توجب الغسل إلا إذا أمنت وهو سبب آخر غير الدخول.

أما الروايات التي جمعت المهر والعدة والغسل بموجب واحد كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (صفحة 171) وغيرها، فهي بلحاظ الحالة الغالبة المتعارفة من اجتماع الدخول مع نزول الماء ولو قطرة محتملة.

ص: 180


1- جواهر الكلام: 32/217-218.

ونستطيع الآن أن نبيّن أحكام صور التلقيح الصناعي من هذه الناحية:-

1- إذا حُقنت الزوجة بماء زوجها وكانت مدخولاً بها ثم طُلِّقت، وجبت العدة عليها وإن لم ينزل في دخوله لتحقق الموجب لها قبل الحقن وهو الدخول.

2- إذا حُقنت الزوجة بماء زوجها ولم تكن مدخولاً بها ثم افترقا، فلا عدة عليها على المشهور إلا إذا حملت من ذلك الماء فتعتد بوضعه، وعلى ما اخترناه فإن العدة تجب عليها بإدخال الماء في رحمها، وإن لم يحصل عندها حمل.

3- إذا جرى التلقيح خارجياً وزرعت البيضة المخصّبة في رحم الزوجة غير المدخول بها، ثم افترق الزوجان، وجبت العدة عليها بناءً على ما اخترناه لأن دخول الماء موجب للعدة، وإننا وإن قلنا (في ما سبق صفحة 126) بعدم صدق ماء الرجل على البيضة المخصّبة إلا أن ملاك الوجوب موجود، بل إن العدة إنما وجبت من دخول الماء للتحفظ على هذه البيضة المخصّبة التي يتكون منها الإنسان، فوجوب العدة من زرع البيضة المخصّبة أولى.

وتجب العدة على المشهور أيضاً لأن البيضة المخصّبة أول مراحل الحمل وبها يبدأ وقد قالوا بوجوب العدة على المرأة إذا كان عندها حمل.

4- لو حقنت امرأة متزوجة بماء رجل أجنبي أو زرعت بيضة مخصّبة في رحمها، وقلنا بجواز العملية بإذن الزوج، فإنه يجب على الزوج اجتناب جماعها حتى يستبين حملها تحرزاً لاختلاط المياه، ويستفاد الحكم من روايات عديدة وردت في حالات أخرى متحدة مع محل البحث في المناط وهي كيفية معاشرة الحليلة (أعم من الزوجة) إذا كانت حاملاً من غيره:

أولها: الجارية التي تشترى وهي حبلى فقد دلّت النصوص على حرمة جماعها خلال مدة أربعة أشهر وعشرة أيام وهي مدة استبانة الحمل وحكى في الغنية الإجماع على ذلك لكنه أجازه بشرط العزل(1)

بلا فرق بين كون الحمل من

ص: 181


1- جواهر الكلام: 24/211.

الزنا وغيره.

وتقريب الاستدلال يكون بالتجريد عن خصوصية كونها أمة، والعبرة فيكونها (حليلة) الشامل لها وللزوجة إذا كانت حاملاً من الغير، ومن تلك الروايات صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) في الوليدة يشتريها الرجل وهي حبلى، قال (عليه السلام): (لا يقربها حتى تضع ولدها)(1).

وموثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل اشترى جارية حاملاً قد استبان حملها فوطأها؟ قال: بئس ما صنع)(2)،وفي روايته الأخرى قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجارية يشتريها الرجل وهي حبلى، أيقع عليها؟ قال: لا)(3).

ومنها معتبرة مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يحرم من الإماء عشر) إلى أن قال: (ولا أمتك وهي حامل من غيرك حتى تضع).

أقول: تدل هذه الروايات على وجوب اجتناب جماعها حتى تضع حملها، إلا أن الزائد على مدة استبانة الحمل المحددة بأربعة أشهر وعشرة أيام يحمل على الكراهة لدلالة معتبرة رفاعة بن موسى على الجواز قال: (سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قلت: أشتري الجارية فتمكث عندي الأشهر لا تطمث وليس ذلك من كبر قلت: وأريتها النساء فيقلن ليس بها حبل، أفلي أن أنكحها في فرجها؟ قال فقال: إن الطمث قد تحبسه الريح من غير حمل فلا بأس أن تمسها في الفرج، قلت: فإن كان حملاً فما لي منها إن أردت؟ فقال: لك ما دون الفرج إلى أن تبلغ في حملها أربعة، فإذا جاز حملها أربعة أشهر وعشرة أيام فلا بأس بنكاحها في الفرج، قلت: إن المغيرة وأصحابه يقولون لا ينبغي للرجل أن ينكح امرأته وهي

ص: 182


1- وسائل الشيعة: 21/91، أبواب نكاح العبيد، باب 8، ح1.
2- وسائل الشيعة: 21/94، أبواب نكاح العبيد، باب 9، ح1.
3- والرواية التالية في وسائل الشيعة: 21/93، أبواب نكاح العبيد، باب 8، ح 4، 6.

حامل وقد استبان حملها حتى تضع فتغذو ولده، قال: هذا من أفعال اليهود)(1).

أقول: يظهر من الذيل أن استمرار الاجتناب إلى حين الوضع من دسّ المغيرة وأصحابه لعنهم الله تعالى.

نعم يظهر من معتبرة إبراهيم بن عبد الحميد عدم جواز الاستمتاعات مطلقاً قال: (سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يشتري الجارية وهي حبلى، أيطؤها؟ قال: لا، قلت فدون الفرج؟ قال: لا يقربها)(2)

هذا في التهذيب والاستبصار، ورواهافي قرب الإسناد(3)

وجعل جواب الإمام (عليه السلام): (لا يقربها) على سؤال (أيطؤها).

أقول: يحمل النهي عن الاستمتاع بما دون الفرج على الكراهة لدلالة النصوص ومنها معتبرة رفاعة المتقدمة على الجواز في غير الفرج، ولأن رواية قرب الإسناد ليس فيها هذا التفصيل كما ذكرنا آنفاً، ولاحتمال أن قول الإمام (عليه السلام) ثانياً: (لا يقربها) هو تأكيد لجوابه الأول وإعراض عن سؤاله الثاني لوضوح دلالة المقاربة على الجماع وليس قول الإمام (عليه السلام) جواباً عن سؤاله الثاني، ولعله لحثّ السائل على اجتناب جميع الاستمتاعات تحرزاً من الوقوع في المحذور.

وفي ذيل معتبرة عبد الله بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) إشارة إلى ما ينبغي فعله عند حصول هذه الحالة وهو أن يخبر المشتري بأن الجارية حامل، قال (عليه السلام): (إن الرجل يأتي جاريته فتعلق منه ثم ترى الدم وهي حبلى فيرى أن ذلك طمث فيبيعها ، فما أحبّ للرجل المسلم أن يأتي الجارية وفد حبلت من

ص: 183


1- تهذيب الأحكام: 7/468، ح 1878. وتجد صدر الحديث في وسائل الشيعة: 21/86، ح1، وبقيته في 21/92، ح3.
2- وسائل الشيعة: 21/88، أبواب نكاح العبيد، باب 5، ح5.
3- نفس المصدر: 21/94، باب 8، ح8.

غيره حتى يأتيه فيخبره)(1).

هذا ولكن يمكن المناقشة في الاستدلال بهذا المورد للفرق بينه وبين محل البحث؛ لأن الأمة لم تكن حليلة عندما حملت ثم انتقلت وهي حامل فيمكن أن تستجد معها بعض الأحكام كحرمة جماعها، أما في مسألتنا فإن المرأة التي حملت بالتلقيح الصناعي زوجة قبل العملية وكان يجوز جماعها ثم حصل الحمل فعند الشك يمكن استصحاب الجواز فالفرق موجود.

أو يقال أنه إذا كان (الحرام لا يحرم الحلال)(2)

فمن باب أولى: أن الحلال لا يحرّم الحلال، فافهم(3).

لكن هذه المناقشة مردودة لأن العرف يفهم من هذه الروايات أن سبب المنع من مقاربتها هو الحمل من الغير، فالفرق المذكور لا يؤثر.

ثانيها: الزوجة التي تحمل من وطء الشبهة وهو ماء محترم

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((لا إشكال ولا خلاف في ثبوت العدةفي الوطئ بالشبهة، إذا كانت من الطرفين أو من طرف الواطئ، ويدل عليه إطلاق ما دلّ من الأخبار على وجوبها بالإدخال والماء))(4).

ثم قال في موضع آخر: ((لا إشكال في عدم جواز وطئها للزوج في أيام عدتها للوطئ بالشبهة، وهل يجوز له سائر الاستمتاعات أو لا؟ وجهان، بل قولان: من أنها لم تخرج عن الزوجية ويحصل الغرض من العدة وهو عدم اختلاط

ص: 184


1- وسائل الشيعة: 21/87، أبواب نكاح العبيد، باب 5، ح1.
2- وسائل الشيعة: 20/426، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 6، ح11، 12.
3- لعل وجهه عدم صحة الأولوية بل قد تكون بالعكس فإن الحرام لا اعتبار له شرعاً فلا يؤثر على الحلال الموجود، أما الحلال فإنه محترم شرعاً فيمكن أن يعطّل بعض الحلال الذي كان قائماً.
4- العروة الوثقى: 6/90، كتاب العدد، المسألة (11).

الأنساب بترك الوطئ، وأما الاستمتاعات الأخر فلا دخل لها في ذلك، ومن أن مقتضى العدة الاجتناب عنها مطلقاً، وهو الأحوط وإن كان الأول أقوى))(1).

ووافقه المعاصرون في التردد والإشكال، فقال السيدان الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما) وتلامذتهما: ((الموطوءة شبهة لا يجوز لزوجها أن يطأها ما دامت في العدة، وهل يجوز له سائر الاستمتاعات؟ إشكال))(2).

أقول: أما وجوب العدة على الموطوءة شبهة فيدل عليه إطلاق ما دلّ من الأخبار على وجوبها بالدخول، وخصوص بعض الروايات الواردة في المقام، ومنها:

صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: سألته عن رجلين شهدا على رجل غائب عند امرأته أنه طلقها فاعتدت المرأة وتزوجت ثم إن الزوج الغائب قدم فزعم أنه لم يطلقها فأكذب نفسَه أَحدُ الشاهدين، فقال: لا سبيل للأخير عليها ويؤخذ الصداق من الذي شهد فيرد على الأخير، والأول أملك بها وتعتد من الأخير ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدتها)(3).

وصحيحة أبي بصير وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (في شاهدين شهدا على امرأة بأن زوجها طلقها أو مات عنها فتزوجت ثم جاء زوجها، قال: يُضربان الحد ويضمنان الصداق للزوج بما غرّاه ثم تعتد وترجع إلى زوجها الأول)(4).

أقول: القدر المتيقن من المقاربة المنهي عنها هو الجماع، أما سائر الاستمتاعات، فقد قوّى السيد صاحب العروة (قدس سره) عدم حرمتها على الزوج لوجهين:-

ص: 185


1- العروة الوثقى: 6/163، المسألة (4).
2- منهاج الصالحين للسيد الحكيم بتعليق السيد الشهيد الصدر الأول: 2/385، المسألة (12)، منهاج الصالحين للسيد الخوئي: 2/302، المسألة (1472).
3- وسائل الشيعة: 22/252، أبواب العدد: باب 37، ح2.
4- وسائل الشيعة: 22/253، الباب السابق، ح5.

أ- أنها زوجة وسائر الاستمتاعات معها جائزة إلا ما خرج بدليل وهو الجماع أما غيره فمشكوك ويبقى تحت العام، وهو الجواز؛ لأن العدة المطلوبة في ذات الزوج غيرها في غيره؛ لأنها في غيره تعني عدم الإقدام على الزواج وهو معنى التربص في قوله تعالى: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ» (البقرة:228) وهذا المعنى لا يجري في الزوج لأنه زوج فعلاً، فلا بد أن يراد من التربص اجتناب الاستمتاع، والقدر المتيقن منه الجماع، وقد ورد لفظ التربص نفسه للدلالة على اجتناب الجماع خاصة في قوله تعالى: «لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» (البقرة: 226).

ب- إن الغرض من العدة هو طلب براءة الرحم لمنع اختلاط الأنساب وهذا الغرض يتحقق من اجتناب الجماع خاصة ولا دخل للاستمتاعات الأخرى فيه فتجوز.

إلا أنه (قدس سره) احتاط بالامتناع عن غير الجماع من الاستمتاعات للتعبير عن حكم الزوجة بأنها (تعتد) وإطلاق اللفظ يقتضي الامتناع عن سائر الاستمتاعات.

ويناقش (أ) بأن التعبير بالعدة لو تم له إطلاق لسائر مقتضياتها فإنه دليل يخرج سائر الاستمتاعات من حلية الممارسة مع الزوجة، ولا وجه للاقتصار على القدر المتيقن، وقد رددنا هذه المناقشة بأن لفظ (تعتد) مفسَّر في نفس صحيحة محمد بن مسلم بعدم مقاربتها، والمقاربة تعني الجماع.

ونوقش الوجه (ب) بأن الغرض المذكور حكمة وليس علة فلا مانع من ثبوت الحكم مع عدمها، ويرد عليه: أننا لا نتحدث عن العدة بمعناها المعروف عند حصول موجبها من طلاق أو موت وإنما عن العدة بلحاظ الزوج وقد عبّر عنها الإمام (عليه السلام) في صحيحة زرارة الواردة في الموطوءة شبهة بقوله (عليه

ص: 186

السلام): (إنما يستبرئ رحمها بثلاثة قروء وتحلّ للناس كلهم)(1)

واستبراء الرحم لا يقتضي أزيد من تجنب الجماع فالعلة مصرّح بها هنا.

وأشكل بعضهم على الوجه بأنه يلزم منه القول بجواز العقد لغير الواطئ على المرأة الموطوءة شبهة إذا كانت خليّة إذا اجتنب الجماع، وهو (قدس سره) لم يلتزم بذلك، وإن نسبه (قدس سره) في موضع من العروة(2)

إلى الشهيد الثاني لعدم المنافاة مع اجتنابه الجماع خاصة خلال العدة.

أقول: لا يرد هذا الإشكال على الوجه الثاني للفرق بين الزوج وغيره، فلا يلزم من الوجه (ب) النقض المذكور، إذ الزوجية في الأول متحققة فيمكن أن يكتفى بمنعه من الجماع تحقيقاً للغرض المذكور، أما العقد على الخلية الموطوءة شبهة فإنه باطل مطلقاً لأنها في عدة، فالنقص المذكور لا علاقة له بالخلاف في كون الغرض المذكور علة أو حكمة.ولبيان الرأي المختار نقول: إن التأمل في الروايات يقتضي الاقتصار في المنع على الجماع لأن صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (صفحة 185) فسَّرت العدة بعدم مقاربتها لقوله (عليه السلام): (وتعتد من الأخير ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدتها)، وهو لفظ يكنى به عن الجماع كما في قوله تعالى: «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ» (البقرة:222) وفي الروايات الشريفة كما في صحيحة صفوان (الرجل يكون عنده المرأة الشابة فيمسك عنها الأشهر والسنة لا يقربها)(3) وصحيحة بريد بن معاوية (إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته)(4) وصحيحة معاوية بن عمار

ص: 187


1- وسائل الشيعة: 22/254، أبواب العدد، باب 38، ح1.
2- العروة الوثقى بتعليق المراجع العظام: 6/163.
3- وسائل الشيعة: 20/140، كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 71، ح1.
4- وسائل الشيعة: 22، 342، كتاب الإيلاء والكفارات، أبواب الإيلاء، باب 2، ح1.

(المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي فيها ولا يقربها بعلها)(1)

وصحيحة محمد بن قيس (الوليدة يشتريها الرجل وهي حبلى، قال: لا يقربها حتى تضع ولدها)(2).

وكذا في معاجم اللغة كقول الخليل: ((قَرُب فلان أهله أي غشيها))(3).

وكذا في كلام الفقهاء كقول السيد الخوئي (قدس سره) في تفسير قول الإمام الصادق (عليه السلام) في صحيحة الحلبي: (ولكن لا تقربوا النساء والطيب)(4)

قال (قدس سره): ((الظاهر من قرب النساء هو الجماع كما في قوله تعالى: «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ»))(5).

نعم قد يظهر من بعض الروايات أن للمقاربة معنى أوسع من الجماع كرواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة (صفحة 182) إلا أنها لا تضرّ بما ذكرناه لأن هذا المعنى استفيد من قرينية السؤال مضافاً إلى عدم وجود هذا السؤال المتخلل في رواية قرب الإسناد أو لما احتملناه (صفحة 183) من أن جواب الإمام (عليه السلام) تأكيد لجوابه الأول وليس جواباً على السؤال المتخلل.

هذا ولكن توجد بعض الروايات التي يظهر منها وجوب على اعتزال الزوجةمدة العدة ثم العودة إليها بعدها بقرينة استعمال (ثم) وهو ظاهر في حرمة سائر الاستمتاعات كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رجلين نكحا امرأتين، فأتى هذا امرأة هذا وهذا امرأة هذا؟ قال: تعتد هذه من هذا وهذه من هذا ثم ترجع كل واحدة إلى زوجها)(6) وورد مثله في رواية

ص: 188


1- وسائل الشيعة: 2/283، كتاب الطهارة، أبواب الحيض، باب 5، ح2.
2- وسائل الشيعة: 21/91، أبواب نكاح العبيد، باب 8، ح1.
3- كتاب العين: 5/153، مادة (قرب)، ط. دار الهجرة 1410 هج_.
4- وسائل الشيعة: 14/233، كتاب الحج، أبواب الحلق، باب 13، ح6.
5- المعتمد في شرح مناسك الحج من الموسوعة الكاملة: 29/360.
6- وسائل الشيعة: 20/513، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 49، ح1، 2.

جميل بن صالح التالية لها وفيها تفصيل أكثر.

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجلين نكحا امرأتين فأُتي هذا بامرأة ذا، وهذا بامرأة ذا؟ قال: تعتد هذه من هذا، وهذه من هذا، ثم ترجع كل واحدة إلى زوجها)(1).

أقول: هذه الروايات لا تنافي ما تقدم لعدم إمكان حملها على معنى الانفصال بين الزوجين فالصحيح أن لفظ الرجوع ظاهر في العودة إلى الفعل الأبرز في الحياة الزوجية وهو الجماع وأن العدة بمعنى تجنب جماعها، مضافاً إلى وجود ما دلّ على استرجاع الزوج امرأته فوراً كصحيحة محمد بن قيس قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل حسب أهله أنه قد مات أو قتل، فنكحت امرأته، وتزوجت سريته، وولدت كل واحد منهما من زوجها، فجاء زوجها الأول ومولى السرية، قال: فقال: يأخذ امرأته فهو أحق بها، ويأخذ سريته وولدها)(2).

أقول: لم يذكر حكم الاعتداد في المسألة إلا أنه مفروغ منه لأن كلاً منهما مدخول بها بدلالة الحمل، ومقتضى الجمع تفسير الروايات باسترجاع الرجل زوجته وحمل العدة على تجنب جماعها، فالأقوى جواز سائر الاستمتاعات للزوج عدا الجماع، وممن اختار هذا القول صاحب الجواهر، قال (قدس سره): ((وليس للزوج وطؤها -أي المعتدة من وطء الشبهة- قطعاً، لكونها في عدة، بل في القواعد والمسالك المنع من الاستمتاع بها إلى أن تنقضي عدتها، لكن لا دليل عليه يصلح لمعارضته ما دل على الاستمتاع بالزوجة))(3).

ويعزَّز هذا الاستدلال بما تقدم في المورد الأول من وجوب اجتناب المالك الجديد الجماع فقط، وإن المناط في الزوجة الموطوءة شبهة والجارية المشتراة وهي

ص: 189


1- وسائل الشيعة: 21/223، أبواب العيوب والتدليس، باب 9، ح2.
2- وسائل الشيعة: 22/253، كتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 37، ح3.
3- جواهر الكلام: 32/267.

حامل من هذه الناحية، بل إن جواز الاستمتاع بغير الجماع في الزوجة أولى لحلّيتها السابقة على الحادثة.

ولو شككنا فإن عمومات حِل الاستمتاعات بين الزوجين كقوله تعالى:«نِسَاؤُكُم حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم أَنَّى شِئْتُم» (البقرة: 223) وقوله تعالى: «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ» (النساء:24) وقوله تعالى: «إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» (المؤمنون:6) (المعارج:30) وأصل الاستصحاب تقتضي الجواز في ما زاد على القدر المتيقن وهو الجماع.

إضافة: يلحق بالجماع في الحرمة سائر أشكال وصول ماء الرجل إلى فرج زوجته لأنه مشمول بوجوب العدة الذي ذكرته الروايات بناءً على ما حررناه من كون دخول الماء موجباً للعدة كدخول الذكر.

تنبيه: تعجّب أحد تلامذة السيد الخوئي من تناقض وقع في كلامه (قدس سره) فإنه وافق صاحب العروة هنا في الإشكال على جواز سائر الاستمتاعات تمسّكاً بإطلاق النهي عن المقاربة ((ومع ذلك جوّز النظر إليها إذا لم يكن مقروناً مع اللذة بدعوى أنه لا دليل على حرمة النظر بل يدل على جوازه دليل جواز النظر إلى الزوجة وهذا جمع بين المتناقضين إذ المستفاد من الرواية إن كان المنع عن القرب -أي المقاربة- بتمام معنى الكلمة كما في عبارة التقرير فلا يجوز النظر على الإطلاق.

وبعبارة أخرى: الحديث يخصص تلك الأدلة بتمامها، وإن كان المستفاد منه خصوص القرب الكذائي -أي الجماع خاصة- فبقية الأمور جايزة بلا تقييد وتخصيص، نعم في المقام حديث آخر رواه أبو بصير وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في شاهدين شهدا على امرأة بأن زوجها طلقها أو مات عنها فتزوجت ثم جاء زوجها قال: يضربان الحد ويضمنان الصداق للزوج بما غرّاه ثم

ص: 190

تعتد وترجع إلى زوجها الأول.

والإنصاف أن المستفاد من هذا الحديث أنها تجتنب عن الزوج أيام العدة وبعبارة أخرى يستفاد منه أنه بالحادث المفروض صارت حيلولة بين الزوجين لا تزول إلا بالعدة إلا أن يقال المذكور في الرواية لفظ (واو) وهي لا تدل على الترتيب فالمرجع حديث ابن مسلم فلاحظ))(1).

أقول: بغضّ النظر عن بُعد ما استظهره من وجوب الحيلولة بين الزوجين خلال العدة، فإننا راجعنا كلمات السيد الخوئي (قدس سره) فلم نجد تناقضاً فيها من هذه الناحية فقد نقلنا (صفحة 184) استشكال السيد الخوئي (قدس سره) في ممارسة الزوج لسائر الاستمتاعات وعدم اختصاص المنع بالوطء وفاقاً لصاحب العروة، وطبّق ذلك في مسألة جواز نظر الزوج إلى زوجته المعتدة من وطء الشبهة فاستشكل على إطلاقالجواز في كلام صاحب العروة (قدس سره) وإن الصحيح هو التفصيل بين كون النظر مجرداً عن التلذذ والشهوة فيجوز بلا خلاف لعدم دخوله في عنوان الاستمتاع الذي هو موضوع الحكم بالحرمة، فلا يوجد دليل على حرمته، ((بل يشملها عمومات وإطلاقات أدلة جواز نظر الرجل إلى زوجته)) وبين كون النظر بتلذذ فينطبق عليه عنوان الاستمتاعات ويكون مشمولاً بالحرمة، فقال (قدس سره): ((وأمّا إذا كان المراد به جواز النظر متلذّذاً -على ما صرح به (قدس سره) في مبحث العدد من ملحقات العروة- بدعوى أنّه ليس فيه اختلاط للمياه، فهو مشكل جداً، فإن ظاهر الأمر -الوارد في الروايات الدالة على لزوم العدّة في وطء الشبهة- بمفارقتها وأن لا يقربها حتى تنقضي عدتها، هو تحريم جميع الاستمتاعات عليه.

فقد ورد في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): (وتعتدّ

ص: 191


1- مباني منهاج الصالحين، السيد محمد تقي الطباطبائي القمي: 10/445-446. ط. 2، منشورات قلم الشرق، 2008.

من الأخير، ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدّتها). فإنّ ظاهر النهي عن مقاربتها هو لزوم الاجتناب وبقاؤه بعيداً عنها وتركها بتمام معنى الكلمة، وهو يعني أنّه ليس له الاستمتاع بها بأي نحو كان. وحمل النهي عن المقاربة على النهي عن الجماع خاصة لا وجه له، إذ كيف يصدق أنّه لم يقاربها وهو ينام معها على فراش واحد!.

ومما يؤيد ذلك ما في معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (تعتدّ وترجع إلى زوجها الأوّل). فإنّ العطف وإن كان بالواو إلاّ أنّ الظاهر منها أنّ الرجوع إلى الأوّل إنّما يكون بعد العدّة، فتدل على عدم جواز الاستمتاع منها قبل انقضائها.

وأما ما ذكره (قدس سره) من أنّه ليس فيه اختلاط المياه، فهو عجيب منه، فإنّه حكمة لا أكثر، وإلاّ فالعدة لا تنحصر بموارد احتمال اختلاط المياه))(1).

أقول: بغض النظر عما تقدم من المناقشات(2)

في تقريبه دلالة روايات عدة الموطوءة شبهة على منع سائر الاستمتاعات خصوصاً قوله: ((وحمل النهي عن المقاربة على النهي عن الجماع خاصة لا وجه له)) الذي ينافي ما تقدم منه (صفحة 187).

ص: 192


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/59-60.
2- ومن المناقشات في كلامه (قدس سره): قوله: ((بدعوى أنه ليس فيه اختلاط للمياه)) فقد كان للجواز وجه آخر وهو (أ) المتقدم. قوله: ((فإن ظاهر النهي عن مقاربتها هو لزوم الاجتناب وبقاؤه بعيداً)) وقد علمنا بُعده، ولو سلّمناه فإنه يلزم اجتناب سائر ما يجوز للزوج من زوجته كاللمس والنظر وإن لم يكن شهوياً ولا يقتصر على الاستمتاعات. قوله: ((إن الظاهر منها أن الرجوع إلى الأول إنما يكون بعد العدة)) وقد ناقشناه وذكرنا رواية معارضة. قوله: ((فإنه -أي منع اختلاط المياه- حكمة لا أكثر)) وقد تقدمت مناقشته.

أقول: بغض النظر عن ذلك كله، فإنه يظهر عدم وجود اختلاف في كلماته (قدس سره) بين المبنى والتطبيق، فقد أجاز النظر إلى الزوجة مع توقفه في سائر الاستمتاعات -كما بيّن تلميذه (قدس سره) - لأنه أجاز النظر المجرد عن التلذذ وهو لا يدخل في الاستمتاعات الممنوعة، ومنع من النظر الشهوي لدخوله في الاستمتاعات، أي أن السيد الخوئي (قدس سره) لم يقل بحرمة كل التصرفات المحللة مع الزوجة وإنما خصوص ما يصدق عليه عنوان الاستمتاع، فلا اختلاف في كلماته (قدس سره) من هذه الناحية.

نعم يوجد تناقض بين مبانيه أي الفتاوى التي اختارها (قدس سره) فبعد أن استشكل في كلامه المتقدم على سائر الاستمتاعات للزوج استظهر جوازها عدا الجماع في موضع آخر من شرح العروة عند قول المصنف: ((إن الممنوع في عدة وطئ الشبهة وطئ الزوج لها لا سائر الاستمتاعات بها كما هو الأظهر))(1).

ولم يعلّق عليها أحد من المحشّين وهو دليل رضاهم بقول الماتن، ووافقه السيد الخوئي (قدس سره) أيضاً مستدلاً بقوله: ((والوجه فيه أنّ الاعتداد بالنسبة إلى غير الزوج إنّما هو عبارة عن التربص والترقب وزجر النفس عن التزويج، ويترتب على ذلك عدم جواز استمتاع الرجل بها بأي نحو من أنحاء الاستمتاعات، بإعتبار كونها أجنبية بالقياس إليه.

وأما بالنسبة إلى الزوج فليس الاعتداد بمعنى عدم التزويج منها فإنها زوجته حقيقة -بحسب الفرض- فلا معنى للنهي عن التزوج بها، وإنّما هو بمعنى الامتناع عن وطئها ومقاربتها كما هو واضح. ومن هنا فإنّ الزوج إنّما هو ممنوع بمقتضى أدلة لزوم الاعتداد من الوطء شبهة من وطئها، أما سائر الاستمتاعات فلم يدلّ أي دليل على منعه منها، فيجوز له الاستمتاع بها بجميع أشكاله ما عدا الوطء.

وبالجملة فإنّ العدّة بالقياس إلى الزوج تختلف عنها بالقياس إلى غيره، فإنها

ص: 193


1- العروة الوثقى بتعليق المراجع العظام: 5/530.

بالنسبة إليه إنّما هي بمعنى لزوم ترك وطئها في تلك الفترة خاصة، في حين إنّ معناها بالنسبة إلى غيره هو التربص بنفسها في أيام معدودة والامتناع فيها عن التزوج، الذي يكون من آثاره عدم جواز الاستمتاع بها في تلك الفترة.

وهذا هو المتفاهم عرفاً من كلمة العدّة، ويمكن التمسك لإثبات ذلك بصحيحة زرارة المتقدمة حيث ورد فيها: (إنّما يستبرئ رحمها بثلاثة قروء وتحلّ للناس كلّهم)(1).

فإنّ من الواضح أنّ استبراء الرحم من ماء الواطئ شبهة إنّما يتحقق بترك وطئها خاصة، وأما سائر الاستمتاعات فلا تأثير لها في استبراء الرحم وعدمه. ومن هنا فإذا فرضنا أنّ الزوج لم يطلقها، كان الواجب عليه الامتناع عن وطئها خاصة في تلك الفترة، وأما سائر الاستمتاعات فلا دليل على منعه منها.

والحاصل: أنّ الذي يمنع منه الزوج عند اعتداد زوجته من الوطء شبهة إنّما هو وطؤها خاصة، وأما سائر الاستمتاعات الجنسية من النظر واللمس وغيرهمافلا))(2).

أقول: من هذا يظهر أن الاختلاف في كلمات السيد الخوئي (قدس سره) هو من جهة اختياره عدم جواز الاستمتاعات تارة وجوازها تارة أخرى: وليس من جهة ما ذكره بعض تلامذته (قدس سره).

ولا يحسُنُ تجاوز هذا النص قبل الإشارة إلى أن في كلامه (قدس سره) عدة مواضع للنظر، إذ أن قوله عن الاعتداد: ((بمعنى الامتناع عن وطئها ومقاربتها ليس أمراً واضحاً كما قال بدليل مخالفة كثيرين، كما لم يتبيّن لنا مساعدة الفهم العرفي على حمل الاعتداد على خصوص ترك الجماع بل يمكن دعوى العكس وأن العرف يفهم حمل الاعتداد على ترك سائر الاستمتاعات ولو لما في ذلك من الاحتراز عن الوقوع في الجماع.

ص: 194


1- وسائل الشيعة: 22/254، أبواب العدد، باب 38، ح1.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/206.

ويناسب هذا ما قالوه من أنه إذا تعذّر حمل اللفظ على الحقيقة فإنه يحمل على أقرب المجازات فيحمل لفظ العدة على اجتناب سائر الاستمتاعات، وهو بعد ذلك مقتضى التمسّك بإطلاق لفظ (تعتد) أيضاً، ونحو ذلك مما يمكن أن يقال.

وأما استدلاله بما ورد في صحيحة زرارة فيمكن مناقشته:-

أ- بأن استبراء الرحم تعبير آخر عن العدة فلا يؤخذ بمدلوله المطابقي وقد ورد مثل هذا التعبير في معتبرة زرارة الآتية (صفحة 197) وفي بعض الروايات الأخرى(1)،كما ورد التعبير بالعكس أي عن استبراء الرحم بالعدة ففي رواية إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: الرجل يفجر بالمرأة، ثم يبدو له في تزويجها هل يحلّ له ذلك؟ قال: نعم، إذا هو اجتنبها حتى تنقضي عدتها باستبراء رحمها من ماء الفجور، فله أن يتزوجها، وإنما يجوز له تزويجها بعد أن يقف على توبتها)(2)،فماء الفجور لا يقتضي العدة وإنما الاستبراء بحيضة.

ب- وإن هذا الفهم يجعل استبراء الرحم علة لا حكمة خلافاً لما التزم به ونحن رجّحنا هذا الفهم في خصوص العدة من الزوج والاستبراء.

ج_- إن الاستبراء بالمعنى الذي ذكره (قدس سره) تكفي فيه حيضة واحدة فوجوب ثلاثة قروء دليل على أن المراد بهذا الاستبراء العدة.

د- إمكان أن يقال أن هذه الإضافة بيان من أحد الرواة لأن الرواية أوردها الكليني (قدس سره) بطريق آخر عن زرارة وليس فيها ذكر لاستبراء الرحم وأن أبا جعفر (عليه السلام) قال: (عليها عدة واحدة)(3)

وقد وردت في سياق نفيوجوب عدتين من واطئ الشبهة والزوج.

ص: 195


1- وسائل الشيعة: 22/225، أبواب العدد، باب 25، ح5.
2- وسائل الشيعة: 22/265، أبواب العدد، باب 44.
3- وسائل الشيعة: 22/254، أبواب العدد، باب 38، ح2.

ه_- ويدفع حمل الاستبراء على ما قاله (قدس سره) أن المشهور الذي حكي(1)

الإجماع عليه ذهب إلى وجوب عدتين عليها، واحدة لوطء الشبهة وأخرى لطلاق الزوج ولم يعملوا بما في صحيحة زرارة.

إذن فلا يراد بالاستبراء طلب براءة الرحم وإنما هو كناية عن العدة.

وإنما نقول هذا للتشييد العلمي كما يقال وإلا فإننا قد استدللنا في ما سبق على أن معنى العدة هنا اجتناب الزوج للجماع خاصة.

ثالثها: -أي ثالث الموارد التي يستدل بها على وجوب اجتناب جماع الزوجة الملقّحة صناعياً من غير الزوج- بالأولوية مما ورد في صحيحة بريد العجلي قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل تزوج امرأة فزفّتها إليه أختها وكانت أكبر منها، فأدخلت منزل زوجها ليلاً فعمدت إلى ثياب امرأته فنزعتها منها ولبستها، ثم قعدت في حجلة أختها ونحّت امرأته وأطفأت المصباح واستحيت الجارية أن تتكلم فدخل الزوج الحجلة فواقعها وهو يظن أنها امرأته التي تزوجها، فلما أن أصبح الرجل قامت إليه امرأته فقالت: أنا امرأتك فلانة التي تزوجت، وإن أختي مكرت بي فأخذت ثيابي فلبستها وقعدت في الحجلة ونحّتني، فنظر الرجل في ذلك فوجد كما ذكر؟ فقال: أرى أن لا مهر للتي دلّست نفسها، وأرى أن عليها الحد لما فعلت حد الزاني غير محصن ولا يقرب الزوج امرأته التي تزوج حتى تنقضي عدة التي دلّست نفسها، فإذا أنقضت عدتها ضم إليه امرأته)(2).

تقريب الأولوية: أن الزوجة إذا حرمت مقاربتها -التي قلنا أنها كناية عن الجماع- خلال عدة المدلّسة -وإنما وجبت العدة لأن ماء الرجل محترم لأنه جامع شبهة- لمجرد وجود ماء محترم في رحم أختها فتتحقق شائبة الجمع بين الأختين بالماء

ص: 196


1- جواهر الكلام: 32/265.
2- وسائل الشيعة: 21/222، أبواب العيوب والتدليس، باب 9، ح1.

وليس بالعقد، فمن باب أولى تحرم مقاربة الزوجة إذا كان في رحمها ماء محترم لغير الزوج.

إن قلتَ: إن تعبير الإمام (عليه السلام) (فإذا انقضت عدتها ضم إليه امرأته) قد يُشعر بأن الواجب اجتناب جميع الاستمتاعات مع المرأة وليس خصوص الجماع؛ لأن الضم يتعقب الانفصال بين الزوجين.

قلتُ: هذا المعنى لا يمكن المساعدة على استظهاره إذ لا أحد يقول بوجوب الانفصال عن الزوجة خلال العدة حتى يؤخذ لفظ الضم على ظاهره، فيراد من الضمّ كالرجوع ونحوه ما ذُكر سابقاً من العودة إلى العلامة الأبرز للعلاقة الزوجية وهو الجماع.ويشهد لذلك ورود لفظ اجتناب المقاربة بدل الضم في رواية مثلها وقد قرّبنا سابقاً كنايته عن الجماع، وهي صحيحة زرارة قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل تزوج بالعراق امرأة ثم خرج إلى الشام فتزوج امرأة أخرى فإذا هي أخت امرأته التي بالعراق، قال: يفرق بينه وبين المرأة التي تزوجها بالشام ولا يقرب المرأة حتى تنقضي عدة الشامية، قلت: فإن تزوج امرأة ثم تزوج أمها وهو لا يعلم أنها أمها، قال: قد وضع الله عنه جهالته بذلك، ثم قال: إن علم أنها أمها فلا يقربها ولا يقرب الابنة حتى تنقضي عدة الأم منه فإذا انقضت عدة الأم حل له نكاح الابنة، قلت: فإن جاءت الأم بولد، قال: هو ولده ويكون ابنه وأخا امرأته)(1).

وأوضح في ذلك رواية أخرى استعمل فيها لفظ استبراء الرحم الذي يكفي فيه اجتناب الجماع، وهي معتبرة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) إلى أن قال: (وإن كان تحته امرأة فتزوج أمها أو ابنتها أو أختها فدخل بها ثم علم فارق الأخيرة

ص: 197


1- وسائل الشيعة: 20/478، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 26، ح1.

والأولى امرأته ولم يقرب امرأته حتى يستبرئ رحم التي فارق)(1).

والنتيجة: أن الزوجة إذا أجريت لها عملية التلقيح الصناعي وقلنا بجوازها فيجب على الزوج اجتناب جماعها دون سائر الاستمتاعات خلال العدة.

فرع: لو كانت المرأة الأجنبية التي تجري معها عملية التلقيح الصناعي هي أخت الزوجة وجب على الزوج اجتناب جماع زوجته لصحيحة بريد العجلي وصحيحة زرارة ومعتبرته المتقدمة قبل صفحتين. وحملها السيد الحكيم (قدس سره) على الكراهة معللاً بإعراض المعظم(2)

ولعموم (الحرام لا يحرم الحلال).

أقول: إعراض المشهور لا يوهن الحجية إلا أن يكون إعراضاً تعبدياً، والعموم المذكور مخصّص بهذه النصوص والصحيحة فلا موجب لصرفها عن ظهورها في الحرمة وهو المحكي عن ظاهر النهاية للشيخ وعن ابني حمزة والبراج وإن كان الحكم على خلاف القواعد، وإن كان يمكن تقنينها عليها باعتبار الجمع بين الأختين ليشمل حرمة الحمل في وضع الماء عند الأختين كما ذكرنا (صفحة 196).

تنبيه: يجب على الزوج اجتناب جماع زوجته أو إدخال مائه في رحمها في الطهر الذي ينوي فيه إجراء عملية التلقيح الصناعي بماء الأجنبي، لحفظ الأنساب وما يترتب عليها من آثار الميراث والقرابة والنكاح وغير ذلك، فعليه أن يستبرئ زوجته بحيضة قبل إجراء العملية فيجريها في طهر لم يواقعها فيه، وإلا فإن احتمال الانتساب إليه ما دام موجوداً بوجود الفراش، فإن قاعدة (الولد للفراش) تجري عليه فينسبالولد المتكون من عملية التلقيح الصناعي إليه ويقع محذور اختلاط الأنساب إلا مع القطع بأن الولد متكون من ماء الأجنبي.

5- إذا كانت المرأة التي أجريت لها عملية التلقيح الصناعي داخلياً بحقن ماء

ص: 198


1- وسائل الشيعة: 20/429، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 8، ح6.
2- مستمسك العروة الوثقى: 14/244.

الرجل، أو خارجياً بتلقيح بويضة منها وحيمن من رجل في جهاز ثم زرع البيضة المخصّبة في رحمها، خليّة أي لا زوج لها وكانت العملية جائزة، فهل يجوز عقد النكاح معها، أم لا باعتبارها في عدة حتى تضع حملها؟

ويعرف حكم المسألة من حكم المرأة الخلية إذا وطئت شبهة.

وقد قال المشهور لا إشكال في جواز العقد عليها للواطئ لأنها في عدّته فلا مانع، أما غيره فمن الوضوح بمكان حرمة عقده عليها لأنها في عدة ويحرم العقد من المعتدة، ولكن قد يقال بالجواز بناءً على ما تقدم في الصورة السابقة من أن الزوجة الموطوءة شبهة يجوز لزوجها سائر الاستمتاعات معها غير الجماع لتحقق الغرض وهو حفظ الأنساب ومنع اختلاط المياه، وبنفس المناط يمكن تعميم الحكم إلى غير المتزوجة إذا وطئت شبهة فيقال أنه يجوز نكاحها مع تجنب الجماع خاصة، وقد شجّع على إلقاء هذا الاحتمال ما نسب إلى الشهيد الثاني قدس سره في المسالك من القول بالجواز.

وقد رفض المشهور ذلك، قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((إذا كانت الموطوءة خلية يجوز لواطئها أن يتزوجها قبل انقضاء عدتها بلا إشكال، وأما غيره فهل يجوز له ذلك أو لا؟ يظهر من المحكي عن المسالك جوازه وإن كان لا يجوز مقاربتها إلا بعد الخروج من العدة، وذلك لعدم المنافاة بين كونها ذات بعل مع كونها في العدة، والأقوى عدمه، لأصالة عدم تأثير العقد، وإطلاق ما دلَّ من الأخبار على عدم جواز النكاح في العدة))(1).

واستشكل الفقهاء المعاصرون على الجواز، فقالوا في ذيل المسألة التي نقلناها عنهم (صفحة 184): ((وكذا الإشكال في جواز تزويجها -وهي الموطوءة شبهة- لو كانت خلية)).

أقول: أستبعد صدور هذا القول من الشهيد الثاني (قدس سره) لأنه ملتزم بوجوب العدة على الموطوءة شبهة وهو يقتضي حرمة العقد عليها قال (قدس سره): ((وأما

ص: 199


1- العروة الوثقى بتعليق المراجع العظام: 6/163، المسألة (5).

الموطوءة بالشبهة فعليها العدة منه، سواء حملت أم لا، وسواء لحق الولد به أم لا. ثم إن فرض طلاق الزوج لها اجتمع عليها عدتان، ولا تتداخلان عندنا لأنهما حقان مقصودان لآدميين كالدينين (كالديتين . خ) فتداخلهما على خلاف الأصل))(1).

ومما يزيد استبعاد صدور هذا القول من الشهيد الثاني (قدس سره) قوله في المزني بها: ((وكذا القول فيما لو زنت وهي خالية من بعل وإن حملت فيجوز لها التزويج قبل الوضع)) لعدم وجوب العدة عليها بوضع الحمل من ماء الزنا لأنه ماء وحمل غير محترم شرعاً، ولمعلومية نسبة الحمل إلى الزاني، ((ولو لم تحمل فظاهرالفتوى أن الحكم كذلك، وقرَّب في التحرير أن عليها مع عدم الحمل العدة، ولا بأس به حذراً من اختلاط المياه وتشويش الأنساب))(2).

أقول: إذا أوجب العدة من ماء الزنا وما يتبعه من حرمة العقد، فالحكم في الموطوءة شبهة أولى، مع ملاحظة أنه (قدس سره) يريد بالعدة استبراء الرحم لعدم وجوب العدة من ماء الزنا ولما تقدم (صفحة 194) في رواية إسحاق بن جرير.

ولعل النص الذي أوجب نسبة القول بالجواز إلى الشهيد الثاني (قدس سره) قوله في المرأة التي طلّقها زوجها ثم وطئت شبهة ولم تحمل من وطء الشبهة بأن عليها عدة الطلاق أولاً لتقدمها وقوتها ثم عدة لوطء الشبهة، ثم قال: ((وهل له تجديد نكاحها إن كان الطلاق بائناً؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما يجوز له رجعتها، لأنها في عدته. ثم متى نكحها تسقط عدته وتفتتح عدة الثاني.

والثاني: لا، لأنه نكاح لا يتعقبه الحل)) أي حل الاستمتاعات لأنها ستكون في عدة واطئ الشبهة فتحرم عليه سائر الاستمتاعات، ((ويخالف الرجعة، فإنها إمساك بحكم الدوام فلا يشترط أن يستعقب الحل)) أي أن الرجوع في الطلاق

ص: 200


1- مسالك الأفهام: 9/263.
2- مسالك الأفهام: 9/263.

الرجعي لا يضرّ به عدم ترتب حل الاستمتاعات لأنه في طول تحقق الزوجية فعروضها عليه لا يضر، أما في الطلاق البائن فإنه يرجع بعقد جديد فإذا لم يترتب على هذا العقد أثر وهو حل الاستمتاع فإنه باطل، ((كما أنه إذا ابتدأ نكاح المحرمة والمعتدة لا يجوز، وإذا عرض الإحرام والعدة في الدوام لم يرتفع النكاح.

ويضعّف بأنه لا يلزم من عدم تعقب الحل لعارض العدة بطلان العقد، كما يتفق ذلك في العقد على الحائض والصغيرة التي لا يباح وطؤها))(1).

أقول: من الواضح أن نظر الشهيد الثاني (قدس سره) متوجه إلى الزوج وليس إلى غيره فلا يصح نسبة القول بالجواز إليه، واستغرب صاحب الجواهر (قدس سره) من كلام الشهيد (قدس سره) وردّ عليه فقال: ((ومن الغريب ما في المسالك من ميله إلى الجواز -أي جواز عقد الرجل على زوجته المطلقة بائناً في عدتها المتقدمة على عدة وطء الشبهة- مع قوله بحرمة الاستمتاع معللاً له بكونه كالعقد على الحائض والصغيرة اللتين لا يباح وطؤهما، إذ لا يخفى عليك وضوح الفرق بينهما بحلية غير الوطء من أنواع الاستمتاع فيهما دونها -أي الموطوءة شبهة-، وهو كاف في صحة عقد النكاح، إذ المنافي له عدم ترتب حل أثر من آثاره عليه، نحو النكاح في حال الإحرام، ولذلك كان الأقرب عند الفاضل عدم الجواز، لأن كل نكاح لم يتعقبه حل الاستمتاع كان باطلاً، نعم يتجه عليه منع عدم حل غير الوطء من الاستمتاع))(2).

ويرد عليه:-أ- إن للزواج آثاراً أخرى غير الاستمتاع كنشر الحرمة مع أمها أو ابنتها فيصحّ العقد حتى لو لم يتعقبه الاستمتاع.

ص: 201


1- مسالك الأفهام: 9/264.
2- جواهر الكلام: 32/267.

ب- يكفي في تصحيح العقد تحقق الأثر ولو لاحقاً أي بعد انتهاء عدة وطء الشبهة.

فلا يوجد مانع من عقد الرجل على زوجته المطلقة بائناً ويمتنع عن الوطء خاصة أو عن سائر الاستمتاعات خلال عدة وطء الشبهة بحسب اختلاف الآراء.

وهذا الكلام كله أجنبي عن موضوع عقد الأجنبي على المعتدة لوطئ الشبهة، لأن الموطوءة شبهة في عدة ولا يجوز لغير الواطئ العقد عليها، فالحرمة لأجل العدة، كما أن حرمة العقد ابتداءً على المحرمة لأجل النص وليس لهذه القواعد. فقول صاحب الجواهر (قدس سره): ((نعم يتجه عليه)) مشكل لعدم جواز العقد على المعتدة.

فالصحيح ما استدل به صاحب العروة هنا من حرمة العقد على المعتدة، وليس ما تقدم منه في موضع آخر حيث وافق استدلال صاحب الجواهر بمثل هذه القواعد، قال (قدس سره): ((لا يبعد الجواز بناءً على أن الممنوع في عدة وطء الشبهة وطء الزوج لها لا سائر الاستمتاعات بها كما هو الأظهر))(1).

أقول: لا حاجة لبناء جواز العقد وعدمه في هذه المسألة على كون المحرّم على الزوج الجماع خاصة أم سائر الاستمتاعات في حكم هذه المسألة كما أوضحنا:-

والمهم أننا نريد القول هنا أن الحكم بجواز العقد على المرأة المطلقة بائناً الموطوءة شبهة مختص بالزوج ولا يعمَّم إلى غيره وإن كان يشترك مع الغير في الطلاق البائن من جهة أنه لا يرجع إليها إلا بعقد ومهر جديدين وهو الذي عناه الإمام بقوله: (وهو خاطب يتزوجها متى شاءت وشاء بمهر جديد)(2) وقوله (عليه السلام): (وهو خاطب من الخطّاب)(3) إلا أنه يختلف من جهة أن الزوجة في عدته

ص: 202


1- العروة الوثقى بتعليق المراجع العظام: 5/530، المسألة (12).
2- وسائل الشيعة: 22/175، أبواب العدد، باب 1، ح2.
3- وسائل الشيعة: 22/180، أبواب العدد، باب 2، ح7.

وأن فيه شائبة الزوجية السابقة فلا يعد كالأجنبي، فنسبة القول بجواز العقد على الخلية الموطوءة شبهة إلى الشهيد الثاني في كلام صاحب العروة (قدس سره) غير دقيق، والذي يهوّن الخطب أن السيد صاحب العروة حكاه عن غيره ولم يرجع إلى كتاب المسالك فلعله نظر في كلام صاحب الجواهر من دون تدقيق في حيثيات المسألة أو أنه حكاه عن مصدر آخر والله العالم.

وعلى أي حال فإنَّ تسرية الحكم بجواز سائر الاستمتاعات عدا الجماع للزوج مع زوجته الموطوءة شبهة إلى عقد الأجنبي بهذا الشرط على الخليّة غير صحيحللفرق بينهما، فإن الزوج كان يملك هذا الحق ولا يخرج منه إلا ما قام الدليل على حرمته فهذا الحكم مختص به، أما الخلية المعتدة فإن العقد عليها باطل.

وبتعبير آخر: إن معنى العدة المطلوبة من الزوجة الموطوءة شبهة غير معنى العدة المطلوبة من الخلية الموطوءة شبهة.

فتردد الفقهاء المعاصرين في حكم المسألة الناشئ من بناء المسألة على بعض النزاعات لا وجه له، والصحيح هو الجزم بحرمة العقد على المرأة الموطوءة شبهة خلال العدة لغير الواطئ.

ومنه يظهر: حرمة العقد على المرأة الخلية إذا لُقّحت صناعياً وقلنا بجواز العملية إلا بعد انقضاء عدتها بوضع الحمل.

6- تلقيح الزوجة بحقن ماء الأجنبي في رحمها أو التلقيح خارجياً بين بويضة منها وحيمن من الأجنبي وزرع البيضة المخصّبة في رحمها مع البناء على حرمة هذه العملية، وبهذا تختلف عن الحالة الرابعة.

ويعرف حكمها من مسألة الزوجة إذا زنت مع الالتفات إلى الفرق بينهما من جهة أن ابن الزنا لا يرث، أما ابن عملية التلقيح المحرمة فإنه لا دليل على حرمانه من الميراث، والبحث يكون في أثرين:

أولهما: حرمة الزوجة على زوجها بزناها ووجوب تسريحها، وقد ذهب

ص: 203

المشهور إلى عدم حرمتها على زوجها، قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((لا تحرم الزوجة على زوجها بزناها وإن كانت مصرّة على ذلك ولا يجب عليه أن يطلّقها))(1).

واستدل السيد الخوئي (قدس سره) على ذلك بوجوه:-

أ- صحيحة عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (لا بأس أن يمسك الرجل امرأته إن رآها تزني إذا كانت تزني وإن لم يقم عليها الحد فليس عليه من إثمها شيء)(2).

أقول: يمكن أن نضيف إليها غيرها كصحيحة عبد الله بن سنان قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل رأى امرأته تزني أيصلح له أن يمسكها؟ فقال: نعم إن شاء)(3)،وصحيحة زرارة في الزوجة التي لا تردّ يد لامس الآتية (صفحة 208).

ب- إطلاقات الحل التي لا يضرها وقوع الزنا لما ورد صحيحاً من أن (الحرام لا يحرمالحلال)(4).

أقول: هذه الأدلة على أصل جواز الإمساك بالزوجة صحيحة إلا أن الجواز بالسعة التي ذكرها صاحب العروة (قدس سره) لا يخلو من إشكال خصوصاً إذا أصرّت حتى اشتهرت بالفاحشة، ولذا احتاطوا بترك تزويج المشهورة بالزنا إلا بعد ظهور توبتها واحتاط صاحب العروة في المسألة السابقة على هذه بترك تزويج الزانية مطلقاً إلا بعد توبتها، فإذا ضممنا إليها عدم الفرق في الملاك المستفاد من النصوص(5) بين

ص: 204


1- العروة الوثقى بتعليق المراجع العظام: 5/533، المسألة (18).
2- وسائل الشيعة: 20/436، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 12، ح1.
3- وسائل الشيعة: 28/147، أبواب حد الزنا، باب 43، ح2.
4- وسائل الشيعة: 20/426، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 6، ح11، 12.
5- كمعتبرة إسحاق بن جرير المتقدمة عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يبدو له في تزويجها وفيها (وإنما يجوز له أن يتزوّجها بعد أن يقف على توبتها) (الوسائل: 20/434، ح4) وفي صحيحة أبي بصير (إذا تابت حلّ نكاحها) (المصدر السابق: ح7) وفي صحيحة زرارة قال: (سأله عمار وأنا حاضر عن الرجل يتزوج الفاجرة متعة؟ قال: لا بأس، وإن كان التزويج الآخر فليحصّن بابه) (وسائل الشيعة: 20/437، ح4)، وفي صحيحة علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في نفس الموضوع قال: (ولكن إذا فعل فليحصِّن بابه مخافة الولد) (ح6).

الابتداء والاستدامة كانت النتيجة ما ذكرناه من الإشكال وهو يوجب الاحتياط، وقد ذكرت الروايات(1) طريقة لمعرفة توبتها ورشدها بدعوتها إلى الفجور فإن أبت فقد ظهرت توبتها.

وقد قال السيد الكلبايكاني (قدس سره) في تعليقته على العروة: ((فالأحوط اعتزالها بمجرد الاشتهار وتجديد عقدها بعد التوبة مع عدم إرادة الطلاق وإلا فالطلاق)).

مضافاً إلى وجود روايتين تدلان على وجوب التفريق بين الزوجين في مورد خاص وهو ما لو زنت قبل الدخول وهما:

معتبرة الفضل بن يونس قال: (سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام في رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها فزنت، قال: يفرق بينهما، وتحد الحد ولا صداق لها)(2).

ومعتبرة السكوني عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (قال علي عليه السلام في المرأة إذا زنت قبل أن يدخل بها زوجها، قال: يفرق بينهما ولا صداق لها؛ لأن الحدث كان من قبلها)(3).

ودافع السيد الخوئي (قدس سره) عن قول المشهور وعدم تأثّره بهاتين

ص: 205


1- وسائل الشيعة: 20/433، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 11.
2- وسائل الشيعة: 21/ 218، كتاب النكاح، أبواب العيوب والتدليس، باب 6، ح2.
3- وسائل الشيعة: 21/218، الموضع السابق، ح 3.

المعتبرتين بعد أن قرّب دلالتهما بقوله: ((فإن كلمة (يفرق بينهما) ظاهرة -على ما تقدم غير مرة- في بطلان العقد السابق وفساده، أو وجوب الطلاق على ما احتمله بعض(1).

وعلى كلٍّ فهاتان المعتبرتان تدلاّن على عدم بقاء العلقة الزوجية بين الزوجين، فتكونان معارضتين لمعتبرة عباد بن صهيب في موردهما.

لكن هاتين المعتبرتين لا مجال للعمل بهما، وذلك لا لإعراض المشهور عنهما إذ لم يعمل بمضمونهما أحد بل ولم ينقل القول به من أحد، لأنّك قد عرفت منّا غير مرة أنّ إعراض المشهور لا يوجب الوهن في الحجية، بل ذلك لمعارضتهما بروايتين معتبرتين أُخريين هما:

أوّلاً : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال : سألته عن المرأة تلد من الزنا ولا يعلم بذلك أحد إلاّ وليها، أيصلح له أن يزوجها ويسكت على ذلك إذا كان قد رأى منها توبة أو معروفاً؟ فقال : (إن لم يذكر ذلك لزوجها ثم علم بعد ذلك، فشاء أن يأخذ صداقها من وليّها بما دلّس عليه كان ذلك على وليها، وكان الصداق الذي أخذت لها، لا سبيل عليها فيه بما استحل من فرجها. وإن شاء زوجها أن يمسكها فلا بأس)(2).

ومورد هذه الصحيحة وإن كان هو الزنا السابق على العقد إلاّ أنّه لا يؤثر شيئاً، فإنّ الزنا إذا كان موجباً لرفع العقد بعد وقوعه وتحققه، فكونه دافعاً له ومانعاً من تحققه يثبت بالأولوية(3)،وعلى هذا تكون العبرة بزناها قبل أن يدخل الزوج بها وهو مشترك بين الموردين، فتكون معارضة لهما لا محالة.

ص: 206


1- أي على نحو شرط النتيجة أو شرط الفعل.
2- وسائل الشيعة: 21/217، أبواب العيوب والتدليس، باب 6، 1.
3- توضيحها: أن الزنا اللاحق للعقد إذا كان مبطلاً له بمقتضى معتبرتي الفضل والسكوني فالأولى أن يكون مانعاً من وقوعه صحيحاً إذا وقع قبل العقد بينما صرّحت صحيحة الحلبي بجوازه.

ثانياً : رواية الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن القاسم، عن أبان، عن عبد الرّحمن بن أبي عبد الله، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوج امرأة فعلم بعد ما تزوجها أنها كانت قد زنت، قال: (إن شاء زوجها أخذ الصداق ممن زوّجها، ولها الصداق بما استحل من فرجها. وإن شاء تركها)(1).وهذه الرواية من حيث الدلالة كسابقتها إلاّ أنها من حيث السند ضعيفة، فإنّ قاسماً الذي يروي عن أبان -ابن عثمان- مشترك بين الثقة وغيره، فلا يمكن الاعتماد عليها من هذه الجهة، غير أنّ الشيخ الكليني (قدس سره) قد روى هذا المتن بعينه بسند صحيح عن معاوية بن وهب، فمن هنا لا بأس بالاستدلال بها على المدعى.

إذن فيقع التعارض بين هاتين الطائفتين، ونتيجة لذلك تتساقطان، فيكون المرجع هو عمومات الحلّ لا محالة، ومقتضى ذلك صحة العقد ونفوذه من دون أن يكون للزوج أي خيار، على ما ذهب إليه المشهور))(2).

أقول: نتفق معه (قدس سره) في أن إعراض المشهو لا يوجب الوهن في الحجية إلا إذا كان إعراضاً تعبدياً أما الأولوية المذكورة فيُسأل العرف عنها، والاشتراك الذي ذكره (قدس سره) صوري لا يترتب عليه أثر لوضوح الفرق بين الحالتين، لذا نرى عدم وجود معارضة بين الطائفتين من الروايات ولا أولوية لأن موضوعهما مختلف فموضوع الأولى الزنا بعد العقد، والثانية الزنا قبل العقد وقد اعترف (قدس سره) بذلك، وتبعاً لذلك فإن المشكلة في الأولى هي زنا الزوجة وهي في عصمة الزوجية وفي الثانية التدليس ولكل من المشكلتين أحكامها فزنا الزوجة لا يحرّمها لعموم (الحرام لا يحرّم الحلال) أما التدليس فيوجب خيار الفسخ وغير ذلك.

ويمكن أن نذكر عدة وجوه لمعالجة التعارض بين صحيحة عباد ومعتبرتي

ص: 207


1- وسائل الشيعة: الموضع السابق، ح4.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/227-228.

الفضل والسكوني وهي:

أ- حملهما على الاستحباب أو الإرشاد لإنهاء هذا العقد لأن هذه المرأة غير مؤتمنة، والإحصان مطلوب ابتداءً واستدامة كما ذكرنا.

ب- تقييد صحيحة عباد بالمعتبرتين فيكون الحكم جواز الإمساك بالزوجة إذا كانت الزوجة مدخولاً بها أما غير المدخول بها فيسرّحها ولا تستحق عليه المهر.

ج_- حمل (يفرق بينهما) على التفريق في الفراش أي اجتناب جماعها لوجود فرق دقيق بين موضوع المعتبرتين وبين موضوع صحيحة عباد التي حملناها على المدخول بها وهو الذي دفع الراوي إلى السؤال عن هذه الحالة بالذات؛ وذلك لأن المرأة إذا كانت صاحبة فراش ومقاربة مع الزوج فإن زناها لا أثر له ولا اعتبار لماء الزاني ولا حاجة إلى استبرائها واجتناب جماعها، وهو موضوع صحيحة عباد.

أما إذا لم تكن مدخولاً بها فيجب على الزوج اجتنابها والامتناع عن الدخول بها حذراً من اختلاط المياه وهو موضوع معتبرتي الفضل والسكوني وتكون دليلاً على المطلب التالي إن شاء الله تعالى.

وقد لا يكون هذا التوجيه لمعنى التفريق منسجماً مع الفقرة اللاحقة في النص وهو قوله (عليه السلام): (ولا صداق لها) فإنه قرينة على إرادة الطلاق لكن هذه القرينية غير واضحة والأحكام المذكورة في الرواية مستقلة عن بعضها خصوصاً فيمعتبرة الفضل حيث فصّلت بين الفقرتين باستحقاقها الحد.

ونتيجة البحث في هذا الأثر الأول أن الزوجة لا تحرم على زوجها إذا زنت لكنه ينصح بطلاقها لأنها غير مؤتمنة، خصوصاً إذا أصرّت على الفاحشة أو اشتهرت بها، وإذا لم يستطع لأمر أخلاقي أو نفسي أو اجتماعي فله إمساكها، وليكن الإمساك مقترناً بردعها وإصلاحها وهجرانها في الفراش وحبسها في البيت لقوله تعالى: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ» (النساء:15)، امتثالاً

ص: 208

لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا الأمر الإرشادي ظاهر من صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إن امرأتي لا تدفع يد لامس، قال: فطلقها، فقال: يا رسول الله، إني أحبّها، قال: فأمسكها)(1).

أقول: وقد عنون صاحب الوسائل الباب باستحباب طلاق الزوجة الزانية.

أما إذا كان زناها قبل الدخول فالأمر كذلك مع إضافة الاحتياط بتجديد عقدها بعد التوبة لمعتبرتي الفضل والسكوني.

ولتطبيق النتيجة على مسألتنا فإن المرأة التي تجري لها عملية التلقيح الصناعي المحرّمة بماء الأجنبي لا تحرم على زوجها، لعدم صدق الفاحشة على العملية فضلاً عن الإصرار عليها أو الاشتهار بها، لكن على الزوج اعتزال زوجته إذا أجرت العملية قبل الدخول.

ثانيهما: وجوب استبراء الزوجة.

صرّح السيد الخوئي (قدس سره) بعدم وجود مخالف من الأصحاب في عدم وجوبه وقال (قدس سره): ((والوجه فيه ما ثبت من أنّ ماء الزاني لا حرمة له (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ولأجله لم يتوقّف أحد من الأصحاب في عدم لزوم الاستبراء على الزوج فيما إذا زنت زوجته، على ما ورد التصريح به في معتبرة عباد بن صهيب أيضاً.

ومن هنا يتضح أنّه لا تجب العدّة في مورد الزنا، وأنّ العدّة كالمهر في هذا المورد خارج عن تلك الروايات التي دلّت على لزومهما عند التقاء الختانين))(2).

ص: 209


1- وسائل الشيعة: 28/147، أبواب حد الزنا، باب 43، ح1.
2- موسوعة السيد الخوئي: 32/224.

أقول: أي أن الحالة لا تكون مشمولة بإطلاقات (العدة من الماء)(1)

و (إذا التقىالختانان وجب المهر والعدة)(2)

فلا يوجد دليل على وجوب العدة.

وأنت خبير بأن صحيحة عباد ونظائرها لا ظهور فيها فضلاً عن التصريح بعدم وجوب الاستبراء وأنها ليست بصدد البيان من هذه الجهة وإنما من جهة الأثر الأول المتقدم وهو عدم حرمة الزوجة على زوجها بزناها.

إلا أن يقرَّب الاستدلال بالإطلاق المقامي لها وللروايات المتقدمة (صفحة 203) الدالة على جواز إمساك الزوجة إذا زنت باعتبار سكوت الإمام عن بيان وجوب اجتناب جماعها والسكوت عن مثله قبيح فهو غير مراد.

هذا، ولكن يمكن الاستدلال على الوجوب برواية يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل تزوج المرأة متعة أياماً معلومة، فتجيئه في بعض أيامها فتقول: إني قد بغيت قبل مجيئي إليك بساعة أو يوم، هل له أن يطأها وقد أقرّت له ببغيها؟ قال عليه السلام: لا ينبغي له أن يطأها)(3).

أقول: اعتبرها السيد الخوئي (قدس سره) معارضة لصحيحة عباد بن صهيب في جواز الإمساك بالزوجة وهذا غير صحيح بل هي متوافقة معها في أصل إبقاء الزوجة وإنما أضافت وجوب الاستبراء وهو لا يصدق إلا في طول إبقائها؛ لذا جعلناها دالة على هذا الأثر.

وقد ناقش السيد الخوئي (قدس سره) في حجية الرواية سنداً ودلالةً لأن ((هذه الرواية مرسلة، فلا تصلح لمعارضة ما تقدم من الصحاح(4). على أنّه لو تمّ سندها فلا بدّ من حملها على الكراهة، نظراً لصراحة صحيحة عباد في الجواز، في

ص: 210


1- وسائل الشيعة: 22/175، أبواب العدد، باب 1، ح1.
2- وسائل الشيعة: 21/319، أبواب المهور، باب 54.
3- وسائل الشيعة: 21/74، أبواب المتعة، باب 38، ح1.
4- تقدم منه (قدس سره) صحيحة عباد بن صهيب فقط وأضفنا لها صحيحتي عبد الله بن سنان وزرارة.

حين إنّ كلمة (لا ينبغي) الواردة في هذه الرواية لا تعدو كونها ظاهرة في الحرمة. ومن الواضح أنّ مقتضى الصناعة عند تعارض النص والظاهر، هو رفع اليد عن الثاني وحمله على بعض المحامل الذي هو الكراهة في مقام النهي))(1).

أقول: المعارضة منتفية من أصلها لما قلناه من أنهما متوافقتان، مضافاً إلى أن صحيحة عباد ليست بصدد البيان من جهة وجوب الاستبراء وعدمه وإنما من جهة جواز الإمساك بالزوجة إذا زنت وهي لا تعارض هذه الرواية فلا تبقى قرينة على صرف قوله (عليه السلام): (لا ينبغي) إلى الكراهة وهو ظاهر في الحرمة كما أفاد (قدس سره) ويشهد له استقراء موارد كثيرة من استعمال كلمة (لا ينبغي) في الروايات، وهو المناسب لوظائف العبودية كما في الدعاء المروي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيئتك دون قولكمؤتمرة)(2).

أما الإرسال فقد نقل (قدس سره) السند المذكور في الوسائل وجاء فيه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه اشتباه وخلط بالأسماء، إذ أنها في مصدرها وهو الكافي ((محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن عيسى عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام)).

وهذا التصحيح لا يحل الإشكال لأنها لا زالت مرسلة إلا أن يقال بأن هذا الإرسال لا يضرها لوصفه المرسل عنه ببعض رجاله التي تشعر بعلاقته الخاصة بمن يروي عنه، وأنه من الثقات بحسب الاستقراء لمثل هذا التعبير، وبذلك يندفع الإشكال في متن وسند مرسلة يونس الدالة على وجوب الاستبراء.

ويمكن تأييد ذلك بالروايات الكثيرة التي تجيز الزواج بالفاجرة مع تحصين

ص: 211


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/226.
2- الصحيفة السجادية، دعاء (يا من تُحَلُّ به عُقَدُ المكارِه). (رقم 7).

بابها مخافة الولد(1)،فإن من لوازمه اجتناب جماع الزوجة إذا زنت؛ لأن الإحصان مطلوب ابتداءً واستدامة.

وحينئذٍ لا يبقى موضوع لاستصحاب جواز الوطء الذي كان ثابتاً قبل الزنا. ولا يجري عموم (الحرام لا يحرم الحلال) لوجود الدليل الخاص وهو وجوب اجتناب الزوجة ونحو ذلك.

ولمعالجة التعارض بين ما دلّ على الوجوب وعدمه يمكن حمل مرسلة يونس على ما لو كان الزنا قبل الدخول وهي لا تأباه، ويستدل بها حينئذٍ على وجوب اجتناب جماع الزوجة إذا زنت قبل الدخول خاصة، لوجود الثمرة فيه، ولتأييد هذه الحالة بما وجّهنا به قوله (عليه السلام): (يُفرَّق بينهما) في معتبرتي الفضل والسكوني المتقدمتين (صفحة 205) مضافاً إلى المؤيِّد الذي قرّبناه آنفاً.

ويُعمم الحكم بوحدة المناط -وهو استبراء الرحم- إلى حالة زنا الزوجة في طهر لم يحصل فيه لقاء مع الزوج.

هذا إذا كان الزنا قبل الدخول، أما بعده فنتمسك بعمومات الحل والأصول، وبالإطلاق المقامي لو تمَّ، وبانتفاء أثر الاستبراء لنفي وجوب اجتناب جماع الزوجة التي لها معاشرة واتصال مع الزوج عند زناها.

فالصحيح هو التفصيل وليس إطلاق عدم وجوب الاستبراء على الزوجة إذا زنت الذي حكى السيد الخوئي (قدس سره) عدم توقف أحدٍ من الأصحاب فيه.

ومنه نعلم أن الزوجة التي تجري لها عملية التلقيح الصناعي بماء الأجنبي على القول بحرمتها ويجب على الزوج اجتناب جماعها إذا أجريت العملية قبل الدخول بها أو في طهر لم يواقعها فيه، وقد اشترطنا ذلك في التنبيه المتقدم (صفحة 198).

ص: 212


1- تقدم جملة منها في الهامش 3 صفحة 204.

ولا يضر بهذه النتيجة ما أورده السيد الخوئي (قدس سره) من إلغاء كل آثار الزنا مستنداً إلى قوله (صلى الله عليه وآله): (وللعاهر الحجر) لأنه مسوق لبيان نسبة الولد ولا دلالة فيه على نفي كل الأحكام بدليل إجماعهم على حرمة النكاح بين الزاني وبنته من الزنا، وتقدم في الأبحاث التمهيدية أن موضوعها ما لو حصل تردد وشك في نسبة الولد بين الزوج والزاني أما إذا علم بتكون الولد من ماء الزاني فإنه ينسب إليه ولا يشمله الحديث، فالحديث لا ينفي كل الآثار والأحكام ومنها حديث (العدة من الماء) وصحيحة الحلبي وأمثالها التي ورد فيها (إذا التقى الختانان وجب المهر والعدة)(1)

بالمعنى الذي يناسب الحالة، فعدة الطلاق ووطء الشبهة غير عدة الزنا التي تسمّى استبراءً وإن ورد التعبير بأحدهما عن الآخر في الروايات كما أسلفنا.

ولو تنزّلنا وقبلنا بأن هذه الأحاديث منصرفة عن الحالة المحرمة، فإن عدم شمول (العدة من الماء) للزاني يسقط وجوب العدة المعروفة في الطلاق ولا يسقط الاستبراء.

مضافاً إلى نكتة دقيقة وهي أن الاستبراء إنما يُشرَّع هنا لحماية ماء الزوج وحفظه من الاختلاط بماء الفجور وليس لماء الزاني الذي لا يستحق عدة ولا استبراءً فحديث (العدة من الماء) يجري بلحاظ الزوج وليس الزاني أي كما أن العدة من الماء فإنها للماء أيضاً(2).

7- لو كانت المرأة التي أجريت لها عملية التلقيح الصناعي خليّة وقلنا بحرمة العملية فيكون من إلقاء ماء الرجل الأجنبي في رحمها حراماً.

ونبدأ أولاً البحث في مسألة ما لو زنا رجل بامرأة أجنبية خليّة فهل يجوز

ص: 213


1- وسائل الشيعة: 21/319، أبواب المهور، باب 54.
2- تقدم بيان هذه الفكرة (صفحة 137).

للزاني أو غيره العقد عليها من دون استبراء؟

قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((لا بأس بتزويج المرأة الزانية غير ذات البعل للزاني وغيره. والأحوط الأولى أن يكون بعد استبراء رحمها بحيضة من مائه أو ماء غيره إن لم تكن حاملاً. وأما الحامل فلا حاجة فيها إلى الاستبراء بل يجوز تزويجها ووطؤها بلا فصل.

نعم الأحوط ترك تزويج المشهورة بالزنا إلا بعد ظهور توبتها، بل الأحوط ذلك بالنسبة إلى الزاني بها، وأحوط من ذلك ترك تزويج الزانية مطلقاً إلا بعد توبتها.ويظهر ذلك بدعائها للفجور، فإن أبت ظهر توبتها))(1).

أقول: سوف لا نتعرض للبحث في جواز التزويج بالزانية مطلقاً أو إذا اشتهرت بالزنا قبل توبتها لأنه لا ينطبق على مسألتنا وهي من أجرت عملية التلقيح الصناعي المحرّمة لوضوح عدم صدق الفاحشة على هذه العملية وعدم شمولها بالروايات المانعة.

وإنما البحث في خصوص وجوب الاستبراء وعدمه. فإذا تكون من الزنا حمل فلا حاجة إلى استبرائها إذا أريد تزويجها من الزاني نفسه أو غيره لوضوح انتساب الولد إلى الزاني قطعاً، فلا تردد ولا اشتباه يوجب الاستبراء حذراً من اختلاط الأنساب ونحوه، ولا حرمة للماء حتى يوجب عدة مع الالتفات إلى ما ذكرناه في الأبحاث السابقة من النهي عن مجامعة الحامل من الغير وأن لا يسقى بمائه ولد غيره والروايات في ذلك كثيرة في كتب الفريقين منها صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر (عليه السلام): (في الوليدة يشتريها الرجل وهي حبلى قال عليه السلام: لا يقربها حتى تضع ولدها)(2).

وفي كتب العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في سبايا أوطاس (لا أحلُّ لكم الحوائل حتى يحضن، ولا الحوامل حتى

ص: 214


1- العروة الوثقى، مصدر سابق: 5/532، مسألة (17).
2- تهذيب الأحكام: 8/176، الوسائل: 21/92 أبواب نكاح العبيد، باب 8، ح1 ،3.

يضعن)(1).

ويؤيده الإطلاق المقامي -لو تحقق- في رواية محمد بن الحسن القمي قال: (كتب بعض أصحابنا على يدي إلى أبي جعفر عليه السلام: ما تقول في رجل فجر بامرأة فحبلت ثم إنه تزوجها بعد الحمل فجاءت بولد وهو أشبه خلق الله به؟ فكتب عليه السلام: بخطه وخاتمه: الولد لغية لا يورث)(2)،إذ لم ينبهه الإمام (عليه السلام) إلى وجوب استبرائها قبل الزواج.

أما إذا لم تكن حاملاً فالأقوال فيه ثلاثة:-

1- عدم الوجوب مطلقاً ونسبه الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك إلى ظاهر الأصحاب واحتاط فيه صاحب العروة استحباباً.

2- الوجوب مطلقاً وهو المحكي عن العلامة (قدس سره) في التحرير ونفى الشهيد الثاني (قدس سره) البأس عنه.

3- التفصيل بين الزاني وغيره فتجب على الأول إن كان هو الخاطب ولا تجب على الثاني وهو للسيد الخوئي، قال (قدس سره) في تعليقته على العروة الوثقى: ((لا يتركالاحتياط في تزويج نفس الزاني))(3).

ولم نجد قائلاً بعكس هذا التفصيل.

والأقوى هو الوجوب مطلقاً وقد نُسِب القول بالوجوب مطلقاً إلى جماعة من الأصحاب، قال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: ((لو زنت وهي خالية من بعل، وإن حملت فيجوز لها التزويج قبل الوضع، ولو لم تحمل فظاهر الفتوى أن الحكم كذلك، وقرَّب في التحرير أن عليها مع عدم الحمل العدة، ولا بأس به

ص: 215


1- تمهيد قواعد الإيمان: 10/148.
2- وسائل الشيعة: 21/498، أبواب أحكام الأولاد، باب 101، ح1.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/224.

حذراً من اختلاط المياه وتشويش الأنساب))(1).

أقول: تقدم أن مراده من العدة الاستبراء لجزمه بعدم وجوب العدة من ماء الزنا.

ولعل وجه وجوب الاستبراء مضافاً إلى المناط الذي ذكره في المسالك: التمسك بعمومات وإطلاقات (العدة من الماء)(2) و (إذا التقى الختانان وجب المهر والعدة)(3)

فإنها تقتضي ثبوتها في حالة الزنا أيضاً لكن بالمعنى الذي يناسبه وهو الاستبراء، بعد معلومية عدم وجوبها بالمعنى المتعارف من الزنا.

ونحن في غنى عن هذه العمومات لوجود خصوص معتبرة إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: الرجل يفجر بالمرأة ثم يبدو له في تزويجها هل يحل له ذلك؟ قال: نعم إذا هو اجتنبها حتى تنقضي عدتها باستبراء رحمها من ماء الفجور فله أن يتزوجها وإنما يجوز له أن يتزوجها بعد أن يقف على توبتها)(4)

فإنها دلّت على وجوب الاستبراء من ماء الزاني إذا أراد الزواج منها فيكون الوجوب في غيره ثابتاً كذلك أو أولى؛ لوضوح النسب في الأول دون الثاني وإن اشتركا في الحرمان من الميراث، فيتم الاستدلال على الوجوب مطلقاً.

أقول: إنما وصفناها بالمعتبرة رغم ضعف سندها في الوسائل عن كتاب الكافي بالإرسال إلا أن الشيخ رواها في التهذيب بسنده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن إسحاق بن جرير وهو سند صحيح ظاهراً ويلاحظ أن صاحب الوسائل ذكر في ذيل الرواية في هذا الموضع عن التهذيب أنه (إسحاق بن حريز) وهو من خطأ النسّاخ لأنالموجود في المصادر الأصلية وفي موضع آخر(5) من الوسائل نفسها أنه

ص: 216


1- مسالك الأفهام: 9/263.
2- وسائل الشيعة: 22/175، أبواب العدد، باب 1، ح1.
3- وسائل الشيعة: 21/319، أبواب المهور، باب 54.
4- وسائل الشيعة: 20/434، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 11، ح4.
5- وسائل الشيعة: 22/265، أبواب العدد، باب 44، ح1.

(إسحاق بن جرير).

نعم يمكن الإشكال على سند الرواية عند الشيخ بأن فيه شبهة إرسال بلحاظ طبقتي ابن عيسى وإسحاق في الحديث، لما قيل من أنّ ابن عيسى لم يروِ عنه مباشرة، ولم يلتفت السيد الخوئي (قدس سره) إلى هذا الإشكال في تقرير بحثه الفقهي(1)

حيث صحح الرواية بطريق الشيخ (قدس سره) إلا أنه أورده في المعجم في ترجمة إسحاق بن جرير بعد أن ذكر سند هذه الرواية قال: ((ولكن الظاهر أن هنا سقطاً فإن أحمد بن محمد بن عيسى روى عن إسحاق في جملة من الروايات مع الواسطة، وكذلك في طريق الشيخ إليه، ولا يبعد أن تكون الواسطة هو عثمان بن عيسى، وذلك لأن الكليني روى هذه الرواية في الكافي، ج5، كتاب النكاح، باب الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها 32، الحديث 4، وفيه: بعض أصحابنا عن عثمان بن عيسى عن إسحاق بن جرير))(2).

أقول: وهو السند الذي ذكره صاحب الوسائل في الموضعين، وبمطابقة سندي الكتابين(3)

يُعرف اسم المرسل عنه، وتحلّ إشكالية كلا الإرسالين في الكافي والتهذيب لأن سندي الكليني والشيخ فيهما يلتقيان عند محمد بن يحيى ومنه يتفرع الطريقان.

وقد أورد بعض الباحثين هذا الإشكال، واحتمل أن الواسطة هو الحسن بن محبوب باعتبار أن ابن عيسى روى بواسطته في الفهرست وقد علمت أن الأظهر ما ذكرناه لتصريح الكليني باسم الواسطة بمقتضى المقابلة.

ص: 217


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/220.
2- معجم رجال الحديث: 3/201، رقم الترجمة 1132.
3- رواها الشيخ الكليني عن محمد بن يحيى عن بعض أصحابنا عن عثمان بن عيسى عن إسحاق بن جرير، ورواها الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن إسحاق بن جرير، وقلنا أن فيه احتمال سقوط الواسطة بين أحمد وإسحاق.

وبذلك يتم الاستدلال على وجوب الاستبراء من ماء الزنا قبل الزواج من الزانية مطلقاً.

لكن السيد الخوئي (قدس سره) قال في الرد على الاستدلال بالعمومات والإطلاقات على الوجوب: ((إلا أنّ الظاهر أنّ الأمر ليس كذلك. والوجه فيه ما ثبت من أنّ ماء الزاني لا حرمة له (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ولأجله لم يتوقّف أحد من الأصحاب في عدم لزوم الاستبراء على الزوج فيما إذا زنت زوجته، على ما وردالتصريح به في معتبرة عباد بن صهيب أيضاً.

ومن هنا يتضح أنّه لا تجب العدّة في مورد الزنا، وأنّ العدّة كالمهر في هذا المورد خارج عن تلك الروايات))(1).

أقول: أجبنا عن هذه الوجوه في الصورة السابقة وقلنا ما ملخّصه أن صحيحة عباد أجنبية، وإن قوله (صلى الله عليه وآله): (للعاهر الحجر) لا ينفي كل آثار الزنا وإن عدم وجوب العدة للماء غير المحترم لا ينفي وجوب الاستبراء، والنتيجة أنها لا تعارض ما تقدم مما دلّ على وجوبه.

ثم قال (قدس سره): ((هذا كلّه بالنسبة إلى غير الزاني. أما بالنسبة إليه فقد ورد في موثقة إسحاق بن جرير وجوب الاستبراء عليه، حيث قال (عليه السلام): (نعم، إذا هو اجتنبها حتى تنقضي عدّتها باستبراء رحمها من ماء الفجور فله أن يتزوجها). ولما كانت هذه الموثقة غير مبتلاة بالمعارض، فلا محالة يتعيّن العمل بها والقول بلزوم الاستبراء عليه)).

أقول: علمت مما سبق أن وجوب الاستبراء في غير الزاني يثبت بالأولوية ويؤيد ما اخترناه من عموم الوجوب لغير الزاني:-

أ- إطلاق ما رواه ابن شعبة في تحف العقول عن أبي جعفر محمد بن علي الجواد (عليه السلام) (أنه سئل عن رجل نكح امرأة على زنا أيحل له أن يتزوجها؟ فقال

ص: 218


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/224.

يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره إذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه ثم يتزوج بها إن أراد فإنما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً ثم اشتراها فأكل منها حلالاً)(1).

أقول: الأولوية في هذه الرواية ظاهرة إذ جعل ملاك وجوب الاستبراء في الزنا مع غيره أقوى.

ب- إطلاق ما رواه الشيخ المفيد في رسالة المتعة عن الحسن عن الصادق (عليه السلام) (في المرأة الفاجرة هل يحلّ تزوجها؟ قال: نعم إذا اجتنبها حتى تنقضي عدتها باستبراء رحمها من ماء الفجور فله أن يتزوجها بعد أن يقف على توبتها)(2)،إذ لم يذكر النص أن زناها كان معه أو مع غيره وأوجب العدة مطلقاً، ولا قرينة في قوله (عليه السلام): (إذا اجتنبها) تعيّنها في كون الزنا معه.

ويلاحظ هنا أن صاحب المستدرك أوردها في موضعين أحدهما عن الحسنكما أوردناه، وثانيهما عن الحسن بن جرير(3)،ولا وجود لعنوان الحسن بن جرير في كتب الرجال فإما أن يكون إضافة (جرير) من سهو النسّاخ لأنسه الذهني برواية إسحاق بن جرير والروايتان متغايرتان، أو أن هذه الرواية هي نفسها المرويّة عن إسحاق بن جرير وأن لفظ (إسحاق) صحف إلى (الحسن) إذ لا وجود للحسن بن جرير في الأسانيد.

وسواء كانت الرواية واحدة أو متغايرة فإنه يمكن أن يقلل من الوثوق بمتن رواية الكافي والتهذيب واختصاصها بنفس الزاني.

ج_- ما في الدعائم عن علي وعن أبي جعفر (عليهما السلام) (أنهما قالا في الجارية إذا فجرت تُستبرأ) وفيه عن علي (عليه السلام) (أن عمر سأله عن امرأة وقع عليها

ص: 219


1- وسائل الشيعة: 22/265، أبواب العدد، باب 44، ح2.
2- مستدرك الوسائل: 15/372، ح3.
3- مستدرك الوسائل: 14/392، ح7.

أعلاج اغتصبوها على نفسها، فقال: لا حدَّ على مستكرهة ولكن ضعها على يدي عدل من المسلمين حتى تستبرأ بحيضة ثم أعدها على زوجها ففعل ذلك عمر)(1).

وعلى أي حال فإننا في غنى عن الاستدلال على وجوب الاستبراء من ماء الزنا مطلقاً لكثرة الروايات الواردة في ذلك ضمن الأبواب المختلفة لكنها متفقة على هذا المعنى كوجوب استبراء الأمة عند البيع وغير ذلك، وقد تقدم بعضه.

ولما رأى السيد الخوئي (قدس سره) أن التفصيل الذي انتهى إليه يبدو غريباً على الذوق والوجدان الفقهيين، قال (قدس سره): ((ولعلّ الفرق بين الزاني نفسه وغيره حيث يجب على الأوّل الاستبراء بخلاف الثاني، يكمن في أنّ الزاني إذا كان غير من يريد التزوج بها فلا اشتباه في أمر الولد حيث إنه وإن كان يحتمل خلقه من ماء كل منهما إلاّ أنّه لما لم يكن للعاهر غير الحجر فلا أثر للعدّة، فإنّه يلحق الولد بالزوج بلا كلام. وهذا بخلاف ما لو كان من يريد التزوج منها هو الزوج نفسه، حيث إنّ الولد ولده على كل تقدير، غاية الأمر إنّه لا يعلم كونه من الحلال أو الحرام، فيكون للاعتداد أثر واضح إذ بها يميز الحلال عن الحرام))(2).

أقول: هذا التوجيه للفرق بين الزاني وغيره ليس وجيهاً لأن مريد الزواج عليه أن يحفظ ماءه من الاختلاط بماء الزنا، وقاعدة الفراش تجري عندما تلد الزوجة على فراش زوجها ولداً يشك أنه من غيره فلا يبرر له الإقدام على وضع مائه مع ماء الزنا، فكيف يقول (قدس سره) فلا أثر للعدة؟.

وينقض على ما اختاره من الوجوب لو كان الخاطب نفس الزاني بأن قاعدة الفراش إذا جرت بين الزاني والزوج فإنها تجري أيضاً على حالي الزاني إذا كان هو الزوج فإنها كما تجري بلحاظ الأشخاص كذلك تجري بلحاظ الأحوال للشخص نفسهبين الوطء حراماً وحلالاً.

ص: 220


1- جامع أحاديث الشيعة: 27/290، أبواب العدد، باب 26، عن الدعائم: 1/130.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 32/224-225.

أما قوله (قدس سره): ((حيث أن الولد ولده على كل تقدير)) فهو صحيح على مبناه ومبنانا في أن ابن الزنا ابنٌ شرعاً إلا أن الفرق بينهما كبير بلحاظ الآثار كالميراث فإن ولد الزنا لا يرث.

وقد يستدل على عدم وجوب الاستبراء إذا كان مريد الزواج هو الزاني نفسه بإطلاق الروايات الكثيرة الدالة على جواز الزواج بالزانية كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر أو أبي عبد الله (عليهما السلام) قال: (لو أن رجلاً فجر بامرأة ثم تابا فتزوجها لم يكن عليه شيء من ذلك)(1).

لكنك خبير بأن هذه الروايات لا إطلاق لها لأنها ليست بصدد البيان من هذه الجهة.

ومما تقدم يظهر أن المرأة الخليّة إذا أجريت لها عملية التلقيح الصناعي وأرادت التزويج، فإن كان الخاطب صاحب الماء فلا حاجة إلى الاستبراء لعدم الفرق بين الحالين وإن كانت عملية التلقيح محرمة إلا أنها ليست زنا فلا يحرم المتولد منها من الميراث.

وإن كان الخاطب غير صاحب الماء فلا يحلّ لها التزويج حتى تجري تحليل فحص الحمل فإن ظهر أنها حامل فيجوز لها التزويج فوراً، وإن لم تكن حاملاً فعليها استبراء رحمها قبل الزواج.

وهذا التفصيل عكس ما اختاره السيد الخوئي (قدس سره).

8- إذا كانت المرأة في عدة من طلاق بائن أو وفاة ونحوهما وكانت عدتها بالشهور أو القروء ثم أجريت لها عملية التلقيح الصناعي بماء زوجها داخلياً أو خارجياً، وحملت منه لم تنتقل وظيفتها إلى الاعتداد بوضع الحمل في الطلاق وبأبعد الأجلين في الوفاة إن كانت العملية محرّمة لأنهم اشترطوا في مدخلية الحمل في تعيين

ص: 221


1- وسائل الشيعة: 20/434، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 11، ح5.

العدة بالوضع أن يكون متكوناً من ماء محترم شرعاً.

وإن قلنا بجواز العملية ففي انتقال الوظيفة بعد التسليم بتداخل العدتين تردد، فوجه الانتقال التمسك بإطلاقات «وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (الطلاق:4) وروايات أبعد الأجلين لصدق عنوان المطلقة الحامل عليها وإن حملت بعد تحقق موجب العدة وهو الطلاق أو الوفاة.

ووجه عدم الانتقال أنها حين وقع الطلاق أو الوفاة كانت عدتها بالشهور أو القروء ولا دليل على انقلابها عمّا وقعت عليه، ولو حصل الشك فنستصحب وجوبها السابق بالشهور والقروء.

ص: 222

خلاصة أحكام التلقيح الصناعي

قد ظهر من مناقشة الصور الرئيسية للتلقيح الصناعي والصور الفرعية التي ذكرناها ضمناً أن حكم أكثرها الجواز، وما حُرِّم منها فهو على سبيل الاحتياط الوجوبي أو أقل منه ويمكن الرجوع فيه إلى الفقيه الأعلم من الموجودين، فلعله يقول بالجواز، وهذا وجه لفهم الحديث الشريف (اختلاف أمتي رحمة)(1)

وإن كان المعنى المروي اختلاف الأمة إلى النبي والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء الصادقين.

ولتلخيص نتائج البحث نقول: يُنظر إلى مسالة التلقيح الصناعي أي تحصيل النطفة المخصّبة من بويضة المرأة وحيمن الرجل بغير الاتصال الجنسي المتعارف من جهتين:

الأولى: ما تستلزمه هذه العملية من أفعال كالاطلاع على العورة والاستمناء ولمس الجسد من المخالف في الجنس ونحو ذلك، وهذه كلها محرمة في الحالة الطبيعية وإنما تباح إذا سببت حالة العقم عذراً شرعياً لارتكاب هذه الأفعال كوقوع الزوجين أو أحدهما بسببه في ضرر أو مرض أو حرج نفسي أو اجتماعي لا يُتحمّل عادة، وبدون العذر المبيح شرعاً لا يجوز للزوجين الإقدام على هذه العملية وعليهما الصبر والرضا بما قُدِّر لهما وسيجزيهما الله تعالى أجور الصابرين «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر:10)، وإذا تطلّبت العملية طرفاً ثالثاً غير الزوجين __ كرجل أجنبي تؤخذ الحيامن منه أو امرأة أجنبية تؤخذ البويضة منها أو يستأجر رحمها __ فلا بد من توفّر المسوِّغ فيها لارتكاب المحرّم، وهو لا يتوفر عادة.

الثانية: حكم نفس عملية التلقيح وما يترتب من آثار على المتولِّد منها:

وتوجد هنا عدة صور بحسب طريقة التلقيح داخلياً أو خارجياً وبحسب

ص: 223


1- معاني الأخبار: 157، علل الشرائع: 1/85.

العلاقة بين طرفي العملية هل هما زوجان أم لا وبحسب الرحم الذي سيحتضن البيضة الملقحة هل هو لنفس الزوجة أم غيرها وسنشير إلى هذه الصور وحكم كل منها، وهي عمومها على نوعين:

النوع الأول: إجراء العملية بين الزوجين وهنا عدة صور:-

1- أن يؤخذ ماء الزوج ويحقن في مهبل الزوجة ويتم التلقيح والحمل عندها والعملية جائزة والولد ولدهما ويتوارثون.

2- تلقيح حيمن الزوج وبويضة الزوجة خارج الرحم في أنبوبة او وعاء ثم تزرع البويضة المخصَّبة (النطفة) في رحم الزوجة حتى يكتمل نمو الجنين، وهي عملية جائزة والولد ولدهما.

3- نفس الصورة السابقة لكن الجنين يبقى في الرحم الصناعي القابلة لنمو الجنين إلى أن يكتمل ويجري نفس الحكم السابق فيها.

4- تلقيح بويضة الزوجة بحيمن الزوج خارجياً وزرع النطفة في رحم الزوجة الأخرى بإذنها والعملية جائزة مع وجود المسوّغ الشرعي عند إجراء العملية وينسب الولد إلى أبيه أما الأم فهي عندنا الزوجة صاحبة البويضة أما التي حملت به وولدته فهي كالأم الرضاعية حكماً، وعند السيد الخوئي والشهيد الصدر الثاني (قدس الله سريهما) تكون الأم هي المرأة الأخرى التي حملت به وولدته.

5- تلقيح بويضة الزوجة بحيمن الزوج خارج الرحم وزرع النطفة المخصَّبة في رحم امرأة أجنبية مستأجرة كانت أم متبرعة وهي عملية جائزة والولد شرعي يلحق بالزوج أما الأم ففيها قولان كالصورة السابقة، مع ملاحظة ما ذكرناه من وجود المسوِّغ الشرعي عند المرأة الأجنبية، وأن لا تكون غير متزوجة وإذا كانت متزوجة فلا بد أن يكون حملها بإذن زوجها لأن العملية تلزمه باجتناب جماعها.

النوع الثاني: التلقيح بماء غير الزوج وبويضة غير الزوجة وفيه عدة صور نذكرها بنفس التسلسل السابق:

ص: 224

6- تلقيح الزوجة بماء الرجل الأجنبي بحقنة في رحمها ونمو الجنين في رحم الزوجة والأحوط وجوباً الامتناع عنها لاحتمال عدم جواز دخول ماء الأجنبي في رحم المرأة مطلقا وان لم يكن بالدخول، ولو وقعت هذه الحالة فعلى الزوج تجنب جماع زوجته في الطهر الذي ينوي فيه إجراء العملية وكذا بعد إجرائها إلى أن يستبين الحمل حتى لا تختلط المياه، ويكون الولد ابناً للأجنبي صاحب الماء وليس للزوج، وأمه المرأة التي لُقّحت وحملت به ويرثهما لأنه ليس ابن زنا حتى يحرم من الميراث.

وإذا قيل بجواز العملية فلابد أن يكون بإذن الزوج لأن فيها حرماناً من حقه في الاستمتاع الجنسي.

7- تلقيح البويضة المأخوذة من الزوجة بحيمن رجل أجنبي في أنبوب المختبر وزرع اللقيحة في رحم الزوجة، ولا دليل على الحرمة لكن ارتكاز المتشرعة على الاحتياط وهو يقتضي الاجتناب، ويشترط في إجرائها إذن الزوج لمنافاة حملها لو حصل مع حقه في الفراش لوجوب العدة على الزوجة وعدم جواز مقاربتها.

والزوجة هي أم الولد أما أبوه فهو صاحب الماء وليس الزوج.

8- التلقيح بين ماء الزوج وبويضة امرأة أجنبية خارج الرحم ثم تزرع النطفة في رحم الزوجة والاحتياط هنا باجتنابها لا يصل إلى الوجوبي لكننا نحتاط لزوماً بعدم القيام بمثل هذه العملية ولو أجريت فالولد للزوج صاحب الماء، أما الأم فهي عندنا المرأة الأجنبية صاحبة البويضة فلا فائدة للزوجة من هذه العملية وتكون عبثية بالنسبة لها إلا أن ترضعه بعد ولادته فتكون أماً له بالرضاعة، أما عند السيد الخوئي والشهيد الصدر الثاني (قدس الله سريهما) فهي الزوجة التي زُرعت في رحمها البيضة المخصبة وحملت الجنين وولدته.

9- تلقيح بيضة المرأة غير المتزوجة بماء الرجل خارجاً وزرع اللقيحة في رحم نفس المرأة صاحبة البويضة والاجتناب هنا مبني على الاحتياط لجريان سيرة المتشرعة على عدم حمل المرأة من غير زواج.

ص: 225

10- حقن البيضة المأخوذة من المرأة الأجنبية في رحم الزوجة وتلقيحها بماءالزوج بالاتصال الجنسي الطبيعي بين الزوجين والعملية جائزة إذا عُدَّت البيضة جزءً من جسم الزوجة بعد زرعها فيه وان بقيت محتفظة بالصفات الوراثية للمرأة صاحبة المبيض التي أفرزته، وان لم يساعد العرف واعتبرها جزءً من المرأة المانحة كانت الحالة من تلقيح ماء الرجل وبويضة الأجنبية خارجاً أي خارج رحم المرأة صاحبة البويضة حيث جرت في رحم الزوجة، جرى فيها حكم الصورة السابقة من تلقيح ماء الرجل وبويضة الأجنبية خارجاً.

11- حقن المرأة غير المتزوجة داخلياً بماء الرجل الأجنبي وهي عملية محرمة.

ص: 226

القسم الثاني: زرع الأعضاء التناسلية

اشارة

ص: 227

ص: 228

القسم الثاني:

زرع الأعضاء التناسلية

وهي الطريقة الأخرى(1)

لمعالجة العقم غير التلقيح الصناعي وذلك بتبديل العضو التناسلي التالف أو القاصر عن أداء وظيفته في الإنجاب كالخصيتين أو القنوات المنوية أو الذكر عند الرجل وكالرحم أو المبيض أو قناة فالوب عند المرأة، ويكون البحث أولاً عن زرع الأعضاء بشكل عام.

والمسألة لا وجود لها بعنوانها في كتب الأصحاب لأنها مستحدثة في العصر الحديث، لكن بعض مواردها مذكورة كزرع الشعر والسن.

وقد تعرّض الأصحاب لمسائل يمكن استكشاف رأيهم منها في مسألة قطع الأعضاء وزراعتها.

ويمكن نسبة القول بعدم جواز زرع الأعضاء مطلقاً إلى ظاهر جملة من الأصحاب كابن إدريس والعلامة في التحرير والقواعد والشهيد الثاني في المسالك وصاحب الرياض (قدس الله أرواحهم) بحسب عموم التعليل الذي ذكروه في عدم جواز إعادة الجاني أذنه التي قُطعت قصاصاً إلى موضعها والتحامها لأنها قطعة نجسة لا يجوز الصلاة بها، وهذا التعليل عام لكل الأعضاء التي تحلّها الحياة وستأتي مناقشته إن شاء الله تعالى ضمن موانع العملية.

ص: 229


1- وتوجد طريقة ثالثة تتقدم رتبة على عملية زرع الأعضاء لأن العناوين المبيحة لهذه العملية تتحقق مع انحصار العلاج بها ومع وجود تلك الطريقة (وهي زراعة خلايا نسيجية في بدن المريض تنشئ أعضاءً جديدة بدل التالفة وقد تقدمت الإشارة إليها في هامش صفحة 150 لا تتحقق العناوين المبيحة.

كما يمكن نسبته إلى المحقق الحلي (قدس سره) لأنه منع من اقتطاع الإنسان شيئاً من لحمه ليسدّ رمقه إذا أشرف على الهلاك إذ فيه ((دفع الضرر بالضرر، وإحداث سراية))(1)،فهو يمنع من العملية في المرتبة السابقة وهي قطع العضو، ولكن هذا المانع بالعنوان الثانوي، وستأتي مناقشته إن شاء الله تعالى.

ونسب صاحب الجواهر (قدس سره) القول بحرمة قطع العضو من الآخر لإنقاذ حياته، أو قطع عضو منه لإنقاذ حياة الآخر إلى اتفاق الأصحاب قال (قدس سره): ((لا يجوز له -وهو المشرف على الهلاك المضطر لأكل الميتة- أن يقطع من غيره ممن هو معصوم الدم اتفاقاًَ كما في المسالك)).وقال (قدس سره): ((وكذا لا يجوز للإنسان أن يقطع جزءاً منه للمضطر وإن قطع بالسلامة إلا أن يكون المضطر نبياً، فإنه يجوز وإن قطع بالسراية))(2)،وسيأتي(3)

بيانه إن شاء الله تعالى.

وكمحاولة بدوية لتأسيس الحكم في المسألة نستطيع القول أن عملية زرع الأعضاء بشكل عام جائزة في الجملة أي من حيث المبدأ وبالعنوان الأولي لوجود المقتضي وعدم وجود المانع.

أما المقتضي فأمور:-

1- الأصل وعمومات الحل.

2- الروايات وأوضحها رواية الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر عن الرجل يسقط سنّه، فيأخذ سنّ إنسان ميت فيضعه مكانه، قال: لا بأس)(4).

ص: 230


1- شرائع الإسلام: ج4، كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة التاسعة من اللواحق.
2- جواهر الكلام: 36/442-443.
3- راجع (صفحة 259).
4- تهذيب الأحكام: 9/78، ح 332، وسائل الشيعة: 24/183، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 33، ح12.

أقول: سند الرواية صحيح إلا من جهة عدم النص على توثيق الحسين، ويمكن تقريب قبول روايته بوجهين:-

أ- أن الكشي روى بسند صحيح في ترجمة زرارة أن الإمام الصادق (عليه السلام) دعا له ولأخيه الحسن بقوله: (ولقد أدّى إليّ ابناك الحسن والحسين، رسالتك أحاطهما الله وكلأهما وحفظهما بصلاح أبيهما كما حفظ الغلامين)(1)

وهذا غير كافٍ في التوثيق بحسب القواعد المعمول بها عند الأعلام، إلا أنني أرى في دعاء الإمام لهما دلالة عرفية على الصلاح الملازم للوثاقة، وإن كان الداعي له صلاح أبيهما.

ب- أن الراوي عنه هنا صفوان بن يحيى وهو وأضرابه ممن عرف عنهم أنهم لا يروون إلا عن ثقة. لكن هذا التوثيق مردود على مبنانا في التفصيل بهذه الكبرى بين المسانيد والمراسيل وأنها مختصة بالمراسيل.

وتقريب الاستدلال بالرواية صحيح وواضح، اللهم إلا أن يقال إنها مختصة بما لا تحله الحياة من أعضاء البدن فلا تعمم إلى غيرها. وهي مناقشة لا تضر بالمطلب الآن لأن الحديث عن الزرع في الجملة، على أن اعتبار السن مما لا تحلّه الحياة فيه كلام لوجود الأعصاب فيه وتألمه عند الإصابة فهو ليس كالشعر والظفر.

ولدينا روايات دلّت على جواز زرع سن الحيوان، كمعتبرة الحلبي قال: (سألته عن الثنية تنفصم وتسقط، أيصلح أن يجعل مكانها سنّ شاة؟ فقال: إن شاء فليضعمكانها سنّاً بعد أن تكون ذكية)(2)

ورواية مكارم الأخلاق عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل ينفصم سنّه أيصلح أن يشدَّها بالذهب؟ وإن سقطت، أيصلح أن يجعل مكانها سنّ شاة؟ قال: نعم إن شاء وليشدّها بعد أن تكون ذكية)(3).

ص: 231


1- رجال الكشي: 350.
2- وسائل الشيعة: 4/417، أبواب لباس المصلي، باب 131، ح3، 5.
3- وسائل الشيعة: 4/417، أبواب لباس المصلي، باب 131، ح3، 5.

ومن تلك الروايات ما دلَّ على زرع الشعر ووصله بغيره وسيأتي بعضها (صفحة 239).

ويمكن أن نضيف لها ما دلَّ على إرجاع زراعة عضو الإنسان لديه عند قطعه فإنه زرع في الجملة كما في المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (أن أسوداً دخل على علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إني سرقت فطهرني، فقال: لعلك سرقت من غير حرز، ونحى رأسه عنه، فقال: يا أمير المؤمنين سرقت من حرز فطهرني، فقال عليه السلام: لعلك سرقت غير نصاب، و نحى رأسه عنه، فقال: يا أمير المؤمنين سرقت نصاباً، فلما أقر ثلاث مرات قطعه أمير المؤمنين عليه السلام فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ويعسوب الدين وسيد الوصيين، وجعل يمدحه، فسمع ذلك منه الحسن والحسين عليهما السلام وقد استقبلاه، فدخلا على أمير المؤمنين عليه السلام وقالا: رأينا أسوداً يمدحك في الطريق، فبعث أمير المؤمنين عليه السلام من أعاده إلى عنده، فقال عليه السلام: قطعتك وأنت تمدحني؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنك طهرتني وإن حبك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطعتني إرباً إرباً لما ذهب حبك من قلبي، فدعا له أمير المؤمنين عليه السلام ووضع المقطوع إلى موضعه فصح و صلح كما كان)(1).

وإنما جعلناه وجهاً للاستدلال على جواز الزرع لأن بعض الفقهاء استدل في مسألة إعادة شحمة الأذن إلى موضعها والتحامها إذا قطعت بحدّ أو قصاص بما ظاهره العموم لكل عملية زرع إذ قالوا أنها ميّتة ولا يجوز الصلاة فيها وسيأتي مزيد من التفصيل إن شاء الله تعالى.

ص: 232


1- بحار الأنوار: 41/202، ح15، عن الخرائج والجرائح: 2/561، ح19، الفضائل لابن شاذان القمي: ص 172 باختلاف يسير، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحر العاملي: 5/70، ح 454.

3- بناء العقلاء وسيرتهم على جواز الفعل إذا كان فيه ملاك راجح ومصلحة مقصودة لدى العقلاء.

وعدم وجود ما يمنع من جواز العملية إلا ما يُتصوَّر من عدة جهات:-

1- إن العضو المقطوع ميتة ولا يجوز الانتفاع بها. أما كونه ميتة فسيأتي الاستدلال عليه ومناقشته (صفحة 302) وإذا كان علم الطب لا يساعد على اعتبار العضوالمقطوع ميتة بل يحافظ الأطباء على حياته أي قابليته على الحياة ليمكن زرعه وإلا فلا.

وأما عدم جواز الانتفاع بالميتة فهو المشهور بين الأصحاب، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا يجوز الانتفاع بشيء من الميتة مما تحله الحياة فضلاً عن التكسب))(1)

وقد دلّت عليه عدة روايات:

منها صحيحة(2)

الكاهلي قال: (سأل رجل أبا عبد الله -وكنت عنده يوماً- عن قطع أليات الغنم، إلى أن قال (عليه السلام): إن في كتاب علي أن ما قُطع منها ميت لا ينتفع به)(3).

وموثقة سماعة قال: (سألته عن جلود السباع أيُنتفع بها؟ قال: إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا)(4).

ورواية علي بن المغيرة(5)

قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جُعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال: لا)(6).

ص: 233


1- جواهر الكلام: 22/17.
2- بطريق الصدوق وكذا عند الكليني بناءً على قبول رواية سهل بن زياد.
3- وسائل الشيعة: 24/71، أبواب الذبائح، باب 30، ح1.
4- وسائل الشيعة: 24/185، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 34، ح4.
5- هكذا في التهذيب والكافي ولكن في الوسائل (ابن أبي المغيرة).
6- وسائل الشيعة: 3/502، أبواب النجاسات، باب 61، ح2.

وفي مقابلها توجد روايات تدل على جواز الانتفاع بأجزاء الميتة كرواية زرارة(1)

قال: (قد سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جلد الخنزير يُجعل دلواً يُستقى به الماء، قال: لا بأس)(2)

أي يستقى به للزرع أو الماشية.

ورواية محمد بن عيسى ابن عبيد عن أبي القاسم الصيقل وولده قال: (كتبوا إلى الرجل (عليه السلام) جعلنا الله فداك إنا قوم نعمل السيوف وليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها ونحن مضطرون إليها وإنما علاجنا من جلود الميتة من البغال والحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيديناوثيابنا ونحن نصلي في ثيابنا ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها؟ فكتب عليه السلام: اجعل ثوباً للصلاة)(3).

وتقريب الاستدلال أن الإمام (عليه السلام) أعرض عن التعليق على انتفاعهم بالميتة مع حاجتهم للجواب وأجاب عن الثاني، فيكشف عن جواز الانتفاع وإلا كان إغراءً بالحرام.

لكن الرواية ضعيفة ظاهراً كما عند السيد الخوئي(4)

(قدس سره) لجهالة أبي القاسم الصيقل لكن يمكن تصحيحها كما عن السيد الخميني(5)

(قدس سره) باعتبار أن الراوي للمكاتبة وجوابها هو محمد بن عيسى وهو القائل: (كتبوا) ولو كان الراوي هو الصيقل لقال: (كتبنا) سيما مع قوله في ذيل الرواية: (وكتب إليه) ولو كان الراوي الصيقل لقال: (وكتبت إليه).

ص: 234


1- رواها عن زرارة أبو زياد النهدي وهو مجهول إلا أن الراوي عنه ابن أبي عمير فيكون توثيقاً له عند البعض.
2- وسائل الشيعة: 1/175، أبواب الماء المطلق، باب 14، ح16.
3- وسائل الشيعة: 17/173، أبواب ما يكتسب به، باب 38، ح4.
4- مصباح الفقاهة من الموسوعة الكاملة: 35/100.
5- المكاسب المحرمة: 1/84 من الموسوعة الكاملة.

أقول: إن محمد بن عيسى لم يدرك الرجل الذي ينصرف إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) فكيف عرف خطّه إذا كان قرأه بنفسه فلا بد أن الصيقل هو الذي روى المكاتبة إلى محمد بن عيسى وقال له: (كتبنا) فرواها محمد (كتبوا) فتبطل القرينة التي ذكرها (قدس سره).

ويمكن معالجة هذا الإشكال بأن يراد من الرجل الإمام الرضا (عليه السلام) بشهادة رواية القاسم الصيقل -المصرَّح في رواية أخرى(1)

بأنه ابن أبي القاسم- فقد صرّح بأن الكتابة كانت إلى الرضا وابنه الجواد (عليهما السلام) إذ ورد فيها (كتبت إلى الرضا عليه السلام) و (فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: كنت كتبت إلى أبيك عليه السلام)(2).

هذا ويمكن القول بأن هذا التصحيح لا أساس له لأنه مبني على ما في الوسائل أما الكافي ففيه (كتبت إليه) فتكون الرواية عن أبي القاسم الصيقل.بل نستطيع القول أن التصحيح غير تام حتى على قراءة (كتبوا إليه) لأن غاية ما تدل عليه أن أبا القاسم الصيقل روى مكاتبة ولده ومن يعملون معهم لذا وردت في رواية القاسم الابن بلسان (كتبت) لأنه هو المكاتب وأبوه الراوي.

ورواية البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها)(3).

ومنها رواية أبي بصير -وفيها عدة مجاهيل- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: - في حديث- (أن علي بن الحسين (عليه السلام) كان يبعث إلى العراق فيؤتى

ص: 235


1- تهذيب الأحكام: 4/234، الاستبصار: 2/101 في من نذر صوم كل يوم جمعة فصادف عيداً.
2- وسائل الشيعة: 3/462، أبواب النجاسات، باب 34، ح4.
3- وسائل الشيعة: 17/98، أبواب ما يكتسب به، باب 6، ح6.

مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك، فقال: إن أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة، ويزعمون أن دباغه ذكاته)(1)،فنزّعه في الصلاة دليل على جواز الانتفاع بالميتة إلا إذا اشترط فيه الطهارة.

ومثلها رواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن الماشية تكون للرجل، فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال: لا، ولو لبسها فلا يصلي فيها)(2).

وغيرها من الروايات التي لسنا بصدد البحث في حكمها، ووجه الجمع: حمل الروايات المانعة على صورة الانتفاع بها في ما يُشترط فيه التذكية وإلا فالجمع العرفي يقتضي حمل المنع على الكراهة.

2- إن القطعة المبانة نجسة ولا يجوز زرع النجس لحرمة الصلاة فيه. وهذا المعنى أورده الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في باب ديات الأعضاء عند بحثهم جواز تركيب الأذن المقطوعة بجناية ونحوها في موضعها حتى تلتحم وتعود إلى وضعها الطبيعي.

فمنع جملة من أعيان الأصحاب إعادتها لهذا السبب، ولو فعل ذلك أزيلت عندهم، نقل صاحب الجواهر (قدس سره) عن التنقيح قوله: ((لا خلاف في جواز إزالتها، لكن اختلف في العلة، فقيل: ليتساويا في الشين، وقيل: لكونه ميتة، ويتفرععلى الخلاف أنه لو لم يزلها الجاني ورضي بذلك كان للإمام إزالتها على القول الثاني، لكونه حامل نجاسة، فلا تصح الصلاة مع ذلك))(3).

ص: 236


1- وسائل الشيعة: 3/502، أبواب النجاسات باب 61، ح3.
2- وسائل الشيعة: 24/186، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 34، ح6.
3- جواهر الكلام: 42/366 عن التنقيح: 4/454.

أقول: التعليل الأول هو الوارد في الرواية وهي موثقة إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (أن رجلاً قطع من بعض أذن رجل شيئاً، فرُفع ذلك إلى علي (عليه السلام) فأقاده فأخذ الآخر ما قطع من أذنه فرده على أذنه بدمه فالتحمت وبرئت، فعاد الآخر إلى علي (عليه السلام) فاستقاده فأمر بها فقطعت ثانية وأمر بها فدفنت، وقال (عليه السلام): إنما يكون القصاص من أجل الشين)(1).

أما الثاني فقد قالوه بحسب القواعد لعدم صحة الصلاة وعلى البدن أو الثوب نجاسة، قال في الرياض ((والثاني خيرة الحلي في السرائر والفاضل في التحرير والقواعد وشيخنا في المسالك وهو غير بعيد))(2)،قال صاحب الجواهر: ((ولا يخفى عليك عدم المنافاة بين التعليلين بعد قضاء الأدلة بهما، وهي الخبر المزبور المعتضد بما عرفت المنجبر بالعمل كما في الرياض، وما دل على نجاسة القطعة المبانة من حي وعدم جواز الصلاة بمثلها، وإن كان ولي المطالبة على الأول المجني عليه، وعلى الثاني غيره كباقي أفراد النهي عن المنكر))(3).

أقول: التعليل بالثاني عام يشمل كل ترقيع الأعضاء التي تحلّها الحياة فيمكن القول أن الفقهاء يحرّمون العملية.

وهذا غريب منهم لطهارة العضو بالانتقال وصيرورته جزءاً من بدن المسلم، وقد أورد صاحب الجواهر هذا الاحتمال ((بناءً على عدم جريان حكم الميتة عليها بعد التحامها ونفوذ الروح فيها، بل قد يمنع بطلان الصلاة بها لكونها كالمحمول))(4).

ص: 237


1- وسائل الشيعة: 29/185، أبواب قصاص الطرف، باب 23، ح1.
2- رياض المسائل: 16/329.
3- جواهر الكلام، الموضع السابق.
4- جواهر الكلام: الموضع السابق.

أما الرواية فهي ناظرة إلى أمر آخر وهو التماثل في القصاص فلو كان عدم إرجاع الجزء المقطوع إلى المجني عليه بسببه لا بسبب الجاني، كما لو عرض الجاني إعادته لوجود الجرّاح الحاذق وتحمل تكاليفه فلم يقبل المجني عليه فلا يلزم الجاني بإزالة موضع القصاص.لذا وجدنا في باب الحدود قيام أمير المؤمنين (عليه السلام) بنفسه بإعادة اليد المقطوعة إلى موضعها في الرواية المتقدمة (صفحة 232) وفيها نقض على ما قاله هؤلاء الأساطين (قدس الله أرواحهم).

3- إن في قطع الأعضاء تبتيكاً وتغييراً لخلق الله تعالى فتجري فيها الآية الكريمة «وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً» (النساء: 119) والبتك هو القطع ويستعمل في قطع أعضاء البدن والشعر فهذا التغيير في الخلقة من أمر الشيطان وهو منهي عنه.

وقد استدل بعض الأعلام بالآية على حرمة حلق اللحية(1)

وهو بعيد؛ لأن حلق اللحية من المسائل الابتلائية العامة التي تلازم كل رجل فمن البعيد الاكتفاء بمثل هذا النص العام للدلالة على المنع.

أقول: ليس في الآية ما يمنع من زرع الأعضاء ويجاب التقريب المذكور نقضاً وحلاً:

أما نقضاً فبأمور:-

ص: 238


1- أورده السيد الخوئي (قدس سره) في (مصباح الفقاهة: 1/400، وهو ج 35 من الموسوعة الكاملة) وحكي ذلك عن الفيض الكاشاني في محكي الوافي والسيد حسن الصدر في ذكرى ذوي النهى، والسيد جعفر بحر العلوم في تحفة الطالب والمحقق ميرداماد في محكي شارع النجاة (السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 19، ص 83).

أ- موارد عديدة أجازها الشارع بل جعلها من السنن والمستحبات كالختان وإزالة الشعر ودلّت الروايات على جواز وصل الشعر بشعر غير الإنسان بل الإنسان أيضاً بعد حمل النهي الوارد عن ذلك على التدليس عند خطبة المرأة باعتبار أن شعر غير الإنسان معروف فلا يقع به التدليس كما في مصححة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول النبي (صلى الله عليه وآله) للماشطة: (ولا تصِلي شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، وأما شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة)(1)

فتأمل(2).

ب- إن «خلق الله» أعم من الإنسان فتشمل الحيوان والنبات فهل يقال: إن قطع الأشجار مثلاً أو تغيير جنس الفاكهة محرم مطلقاً؟.

ج_- ارتكاز المتشرعة وسيرتهم على قبول هذا الأمر كتركيب رجل صناعية أو يد صناعية بدل المقطوعة أو المشلولة، ولا يعدّونه تغييراً محرماً.

وأما حلاً فلأن المنهي عنه هو البتك على نحو التشريع بغير ما أنزل الله تعالى وهو ما كانت العرب تفعله في الجاهلية.وقد صرّحت به الآية الكريمة «مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَ_كِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ» (المائدة: 103)، قال الصدوق: ((وقد روي أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوه وكانت حراماً على النساء والرجال لحمها ولبنها، وإذا ماتت حلت للنساء))(3). فاستنكر الله تعالى هذه التشريعات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ص: 239


1- وسائل الشيعة: 17/131، أبواب ما يكتسب به، باب 19، ح2.
2- لعل وجهه عدم الفرق في التدليس بين أن يكون بشعر امرأة أو شعر ماعز وهو ناعم ولماع، فلا بد من حمل المصححة على معنى آخر، وتمام البحث في المكاسب المحرمة.
3- قاله الصدوق في ذيل صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في معاني الأخبار: 148، ح1.

ولا مانع من القطع إذا كان لغرض عقلائي أو شرعي فإنه ليس من التغيير المحرم كإشعار البدن لتكون هدياً، فقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم للآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ» (المائدة: 2) قال: ((ومن الشعائر إذا ساق الرجل بَدَنَة في الحج ثم أشعرها -أي قطع سنامها- أو جلّلها أو قلّدها ليعلم الناس أنه هدي، فلا يتعرض لها أحد، وإنما سميت الشعائر لتشعر الناس بها فيعرفونها))(1).

فالصحيح أن تغيير خلق الله المنهي عنه لا يراد به مطلق التغيير، وإنما يُراد بتغيير خلق الله الخروج عما أودعه الله تعالى في الإنسان من الفطرة السليمة، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (الروم: 30)، أو الخروج عمّا يريده الله تعالى من خلقه بأوامره ونواهيه والخروج عن الصراط المؤدي إلى الفوز والسعادة، ففي حديث جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (دين الله)، وروى الطبرسي في مجمع البيان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أمر الله)(2).

وعلى أي حال فالآية أجنبية عن محل البحث.

والنتيجة: عدم وجود مانع من عملية زرع الأعضاء في الجملة وبالعنوان الأولي.

نعم أشكل على العملية بالعنوان الثانوي من عدة جهات:-

أ- نفس العملية لاستلزامها أموراً محرمة كلمس الأجنبي والنظر إلى العورة وغير ذلك وهذه الحرمة قد تجاوزناها بالعناوين الثانوية المبيحة في المطلب الأول الذي تقدم أول البحث، وإنما يتحقق العنوان الثانوي بعد انحصار العلاج بهذه الطريقة، وإلا فإن أهل الاختصاص يقولون بإمكان زراعة خلايا نسيجية في بدن المريض تنشئ أعضاءً جديدة بدل التالفة وقد تقدمت الإشارة إلى المحاولة

ص: 240


1- تفسير القمي: 1/160، البرهان: 3/168.
2- مجمع البيان: 3/173.

في هامش (صفحة 150).

ب- مانح العضو من جهة لزوم الضرر عليه إن كان حياً وعدم ملكيته لأعضائه أو أن سلطنته على أعضائه لا تبيح له قطع عضو منها، ولزوم دفن القطعة المبانةمنه أو إعادتها إلى بدنه ونحو ذلك، وإن كان المانح ميتاً فللزوم المثلة المحرمة ووجوب دفنه وغير ذلك مما يأتي.

ج_- المستفيد من العضو من حيث نجاسة القطعة المبانة وكونها ميتة فلا يصح الانتفاع بها ونحو ذلك وفي خصوص المبيضين والخصيتين فيشكل من حيث بقاء تبعية المني والبيوض لمن أخذت منه على ما قيل.

هذا على نحو الإجمال بل العناوين فقط فينبغي البحث في التفاصيل.

ويحسن قبل الدخول في البحث تحقيق مطلبين:-

1- ملكية الإنسان لأعضائه.

2- جواز قطع العضو من الحي أو الميت.

ص: 241

المطلب الأول: ملكية الإنسان لأعضائه

لا شك لدى العقلاء أن للإنسان سلطة على نفسه وأعضائه، بل هو عين نفسه ولا يمكن التفكيك بين أجزائه، لذا فهو يتصرف فيها بما يشاء لا يوقفه عن ذلك إلا نهي الشارع كقتل النفس والإضرار بها أو إذا منعته القوانين العقلائية والوضعية.

وقد بنى الشارع المقدس على هذه السلطنة كما في قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» (الأحزاب: 6) التي تسلِّم بولاية الإنسان على نفسه وتريد أن تثبت أولوية النبي (صلى الله عليه وآله) من أي شخص بالولاية على نفسه وأن ولاية المعصوم أشد وأأكد، وأشهدَ النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه على ذلك وأخذ إقرارهم بها حيث استنشدهم في خطبة الغدير المتواترة (ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(1)

فقالوا: (بلى)، وكقوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ» (البقرة: 207) ولا يصح بيع نفسه -بأي معنى أريد من البيع هنا- إلا إذا كان أمرها موكولاً إليه.

ومن الأحاديث موثقة سماعة قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ألم تسمع لقول الله عز وجل: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، يعزه الله بالإيمان والإسلام)(2).

ولذا استحق دون غيره الدية والقصاص إزاء أي جناية تجري عليه أو العفو عن الجاني.

ص: 242


1- وسائل الشيعة: 29/356، أبواب ديات الأعضاء، باب 48.
2- وسائل الشيعة: 16/157، أبواب الأمر والنهي، باب 12، ح2. الكافي: 5/63.

ولذا أيضاً لم يجز التصرف في أعضائه إلا بإذنه مهما كان التصرف بسيطاً حتى على مستوى غمز اليد كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) -من حديث- قال: (إن عندنا الجامعة، قلت: وما الجامعة؟ قال: صحيفة فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش، وضرب بيده إلي فقال: أتأذن يا أبا محمد؟ قلت: جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت، فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا)(1).واستدل بعض أعلام العصر بمفهوم الموافقة والأولوية من قاعدة ((الناس مسلطون على أموالهم))(2)

بتقريب ((إن مقتضى سلطنة الناس على أموالهم سلطنتهم على أنفسهم بطريق أولى، بل يكون ذلك من شؤون هذا))(3).

أقول: الأولوية بعيدة عرفاً ومتشرعياً؛ للقطع بأن مساحة التصرف بالمال أوسع من النفس فقد يقال بسلطنة الإنسان على ماله ولا يلزم منه القول بسلطنته على نفسه،

ص: 243


1- وسائل الشيعة: 29/356، أبواب ديات الأعضاء/ باب 48
2- بحار الأنوار: 2/272 عن عوالي اللئالي: 1/457، ح 198 عن النبي مرسلاً، و 2/138، ح383، و 3/208، ح 49، وأرسله الشيخ في الخلاف (3/176) وورد في مصادر العامة مثل (السنن الكبرى: 6/100، سنن الدارقطني: 3/26، حديث 91) إلا أنها لم ترد كرواية في جوامع الأحاديث وإن ألمح صاحب الوسائل إلى تواترها (وسائل الشيعة: 19/68، ط. أهل البيت) وعلى أي حال فإن مضمونها صحيح دلّت عليه روايات معتبرة كثيرة كرواية الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) (الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال: هو ماله يصنع به ما يشاء إلى أن يأتيه الموت) وقوله: (إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حياً إن شاء وهبه، وإن شاء تصدق به، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت) (الكافي: 7/7-10، باب: إن صاحب المال أحق بماله).
3- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 4/263.

ولعله (قدس سره) لاحظ فيها جانب النفي لا الإثبات أي أنه إذا لم يجز التصرف بالمال إلا برضا مالكه، فمن باب أولى لا يجوز التصرف في نفسه إلا بإذنه لأن حرمة النفس أشد من حرمة المال في الجملة، وهو معنى صحيح، لكن لا يصلح الاستدلال به في المقام.

نعم يمكن تصوّر أن السلطة على النفس أوسع من السلطة على المال لأن في المال نحو حق للمجتمع لذا حرم اكتنازه وجعلت ضريبة -وهي الزكاة- على تجميده وعدم استثماره في تحريك عجلة الاقتصاد، فافهم(1).

ولمعرفة جواز تصرفه بأعضائه من التبرع بها أو الوصية بها بعد وفاته ينبغي أن نحقق في شكل سلطنته على أعضائه.

ولا شك أن سلطنة الإنسان على أعضائه ليست على نحو الملكية الحقيقية التكوينية لأنها خالصة لله تعالى الخالق العظيم «وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا» (المائدة: 17) فله حق الإيجاد والإعدام والتصرف المستقل، وقد استخلف الإنسان على ما في يده «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ» (النمل: 62) حتى ملكية أمواله فإنهافي طول هذا الاستخلاف، قال تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (الحديد: 7).

ومقتضى هذا الاستخلاف والسلطنة والولاية على النفس جواز التصرف بالبدن إلا ما ورد النهي عنه وممن اختار هذا المعنى السيد الخميني، قال (قدس سره): ((وربما تعتبر السلطنة في بعض الموارد، ولا يعتبر الحق ولا الملك، كسلطنة

ص: 244


1- لعل وجهه أن النفس كذلك فللآخرين حق عليه في قضاء حوائجهم وإغاثة ملهوفهم والدفاع عن مظلومهم إلى حد القتال والقتل، قال تعالى: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ_ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً» (النساء:75).

الناس على نفوسهم، فإنها عقلائية، فكما أن الإنسان مسلط على أمواله، مسلط على نفسه، فله التصرف فيها بأي نحو شاء، لولا المنع القانوني لدى العقلاء، والشرعي لدى المتشرعة))(1).

وهذا المعنى أوسع مما قاله بعض الأعلام من أن قاعدة السلطنة: ((لا تدل بنفسها على جواز كل تصرف، بل تدل على جوازه في كل مورد ثبت جوازه ومشروعيته من الخارج))(2)

للقطع بجواز ما لا يحصى من التصرفات من دون ورود دليل شرعي على جوازها بخصوصها سوى هذه السلطنة، فأجاز الفقهاء بيع الدم مثلاً لغرض عقلائي وهو جزء من البدن.

فهذه هي حدود ملكية الإنسان للتصرف في أعضائه بغضّ النظر عن العناوين والمصطلحات التي جرت على ألسن العلماء ثم صارت محلاً للنزاع فسمّيت (الملكية الذاتية) و(الملكية الاعتبارية) و(العلاقة التمليكية) وغير ذلك.

ونفى بعض الأعلام أن يكون الإنسان مالكاً لماله فضلاً عن بدنه، وإنما هي أمانة عنده، وحكي عنه أنه وصف من يقول غير ذلك بالنظرة القارونية، ولعله يشير إلى القول المحكي عن قارون «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي» (القصص: 78)، ولكن مراجعة كلماته تكشف عن نفيه الملكية المستقلة عن الله تعالى لا مطلق الملك، وإنما وصف بالقارونية من اعتقد باستقلال ملكه عن الله تعالى، قال: ((المسألة الأخرى في مجال معرفة الحقوق الإنسانية هي موضوع ملكية الإنسان. ولا شك أنّ الإنسان صاحب عقل وإرادة وقدرة على اتخاذ القرار، وقادر على القيام بالعمل، لكن هل يملك تقرير مصيره أيضاً بحيث يمكنه أن يرسمه وفقاً لما يريد؟ وهل يملك أمواله ملكاً تامّاً بحيث يمكنه إنفاقها

حيث يرغب ويحب؟ وهل يملك حياته ملكية مستقلّة، وهو مختار أن ينهي

حياته متى شاء وبأيّة طريقة شاء؟ وهل للإنسان ولاية

ص: 245


1- كتاب البيع من الموسوعة الكاملة: 1/33.
2- السيد محسن خرازي: مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 19، ص 86.

وملكية مطلقة على نفسه وماله وعرضه وأبنائه بحيث له الحق في التصرّف فيها بالبيع والهبة أو الإجارة والرهن؟.... عقيدتنا الدينية قائمة على أنّ وجود الإنسان وهويته ومصيره أمانة إلهية، وهو أمين لله، فلا يمكنه أن يتدخّل ويتصرّف في مصيره بأيّ نحو أراد، فشخصية الإنسان وهويته هي من الحقوق الإلهية... والحاصل: أنّه وفقاً لمبنى الأمانة فإنّ حقوق وتكاليف الإنسان تُنَظَّم بنحو توجهه في مسار كونه أميناً على ماله، وهويته ومصيره ...)).

((وأمّا الذي تكون نظريته الاعتقادية قائمة على أساس الملكية، وليس الأمانة؛ فإنّه يحمل فكراً قارونياً وفرعونياً... والقرآن الكريم يعرض المجابهة بين منطقي الملكية والأمانة بنحو رائع، ويخبرنا عن قوم شعيب (عليه السلام) قائلاً: «قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ»، فمنطق النبي شعيب (عليه السلام) هو أنّكم أمناء على الأمانة الإلهية، ومنطق قومه هو أنّه بما أنّنا كسبنا هذا الأموال فيحق لنا أن نتصرّف فيها كيف نشاء ... وفي مسألة الحياة فالأمر أيضاً كذلك؛ أي إذا رأى الشخص نفسه مالكاً لحياته ولنفسه فربّما يرى أنّ له الحق في الانتحار، أو حينما يتصور أنّه مالك لجسمه فسوف يرى أنّ حقه البديهي هو جواز بيعه أو رهنه أو إجارته للآخرين، أو أن يسلّم جسمه للرذيلة ...))(1).

أقول: يظهر من كلامه (دام ظله) أنه يقصد بالأمانة الإلهية معنى الاستخلاف الذي ذكرناه المتضمن للملكية غير المستقلة عن الله تعالى، وليس المعنى الشرعي مقابل الملكية، ولو كان مراده من الأمانة هذا المعنى لما جاز للأمين التصرف فيها بأي نحو كان لأن واجبه حفظها كما هي وهو ما لا يقول به (دام ظله).

والخلاصة أن العقلاء يرون أن ملكية الإنسان لجسده ملكية حقيقية لأن

ص: 246


1- حكاه في مجلة أهل البيت (عليهم السلام)، العددان: 71-72، ص 145-146 عن الشيخ جوادي آملي في كتاب (الحق والتكليف في الإسلام) بالفارسية: 95-98.

البدن جزء من حقيقته فإنه حينما يقول: أنا يريد بها مجموع بدنه وروحه ولا يمكن التفكيك بينه وبين أجزائه، وهذه الملكية وجدت معه باستخلاف الله تعالى له عليه وليست اعتبارية نشأت من الجعل والاعتبار من أحد ببيع أو شراء أو هبة أو إباحة أو غيرها، لكن مع الالتفات إلى أمور:-

1- إن هذه الملكية ليست مستقلة عن ملك الله تعالى الخالق البارئ؛ لذا عليه أن يتقيد بحدود الاستخلاف التي يضعها له الشارع المقدس كعدم إلقاء النفس في التهلكة وعدم الإضرار بها والإذلال لها، مما ذكره الأعلام وسنشير إليها في المطلب الآتي إن شاء الله تعالى.

ولا بد أيضاً أن نضيف قيداً آخر لهذه الملكية، إذ ليس للإنسان سلطة على بدنه بحيث يستعمله في المعصية كسقيه خمراً أو إطعامه الميتة أو خروج المرأة سافرة فضلاً عن تسليم جسدها للرذيلة.

2- وبما أن الدليل على هذه السلطنة هو بناء العقلاء فلا بد أن نضيف إلى القيود قيداً آخر وهو أن لا يكون هناك مانع عقلائي بحيث يُعَدُّ الفعل سفهياً أو عبثياً أو غيرعقلائي كقطع جزء من جلده أو لحمه أو إحداث جرح في رأسه أو في أي جزء آخر ونزف الدم منه أو التقلب في الأوحال الآسنة أو ضرب الظهر بسكاكين حادة أو ممارسة بعض الرياضات العنيفة كالملاكمة، فإنها كلها مما تتوفر فيها القيود المذكورة عند الفقهاء ويكون مقتضى كلماتهم جوازها وهو كما ترى، إذ لا يتردد العقلاء في استهجانها وتشديد النكير على فاعليها، فسلطة الإنسان على نفسه لا تتسع لمثل هذه التصرفات، وما ذكروه من القيود غير كافٍ للمنع من أفعال كثيرة يقضي وجدان الفقهاء وارتكازهم بالمنع منها.

3- إنها ليست كملكية الإنسان للأموال وإنما هي ملكية الزمام والسلطنة على التصرف فيها فلا يقال إن القول بالملكية يلزم وجوب الخمس عليه وتحقق الاستطاعة للحج وخروجه عن حد الحاجة والفقر لأنه يملك يداً بكذا وعيناً بكذا

ص: 247

وكلية بكذا.

أو يقرَّب الجواب بأن ملكية هذه الأعضاء شأنية كملكيته للجاه الاجتماعي الذي يستطيع أن يجني به أموالاً كثيرة، بينما يتوقف تنجيز الأحكام المذكورة على فعلية التملك.

ويصدق عنوان الملكية على السلطنة بهذا النحو نظير ملكية الرجل لزمام الزوجية وعصمة المرأة فإنها بيده وقد عبّرت الروايات عنها بالملك كموثقة معمر بن يحيى آل سام عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (لا يطلّق الرجل إلا ما ملك، ولا يعتق إلا ما ملك، ولا يتصدق إلا بما ملك)(1)،وهي متحدة المعنى مع الحديث النبوي الذي جمع الأمور كلها في لفظ واحد وهي رواية عامية عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لا يجوز طلاق ولا بيع ولا عتق ولا وفاء نذر في ما لا يملك)(2).

ص: 248


1- وسائل الشيعة: 22/34، أبواب مقدمات الطلاق، باب 12، ح10، 11.
2- مسند أحمد: 2/190.

المطلب الثاني: حكم قطع أعضاء الإنسان

اشارة

انتهينا في المطلب الأول إلى أن الإنسان له سلطنة على أجزاء بدنه ونتيجته جواز تصرفه فيها بأنحاء التصرفات ومنها منحها إلى آخر وأن القطع مشروط بإذنه وإلا كان تصرفاً في سلطان الغير من دون إذنه وهو أولى من أخذ الأموال بالحرمة، وكان هتكاً لحرمته وهو فعل محرم.

لكن هذا الجواز مقيد بعدم ورود النهي عنه في الشريعة لأن الإنسان مستخلف على بدنه وليس حرّاً يعمل فيه ما يشاء.

ولمعرفة هذه القيود نقسِّم الكلام إلى جهتين:

(الجهة الأولى) إذا كان المقطوع منه حيّاً

اشارة

وكان مسلماً أو غيره من محترم النفس والمال، وهنا عدة قيود:

القيد الأول: أن لا يؤدي إلى قتل النفس

فإن حرمة قتل النفس من المسلَّمات لأن إيجاد الحياة وإعدامها من مختصات الخالق تبارك وتعالى تكويناً وتشريعاً، ومن الآيات الكريمة الدالة على الحرمة قوله تعالى: «وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء : 29) وقال تعالى في تعظيم قتل النفس «أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة:32) وهي شاملة بإطلاقها لقتل نفسه.

والنهي لا يقتصر على قتل النفس مباشرة أي الانتحار بل تعم الأفعال المسببة لقتل النفس كإلقاء نفسه وسط الأعداء ليقتلوه قال تعالى: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة: 195) وأوضح مصاديق التهلكة السبب المؤدي إلى قتل النفس كأن يذهب إلى موضع وباء قاتل بلا إجراءات وقائية، فهو تعبير أبلغ عن حرمة قتل النفس بالنهي عن أسبابها ومقدماتها كما في معتبرة محمد بن مسكين

ص: 249

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (قيل له: إن فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات، فقال: قتلوه، ألا سألوا؟! ألا يمموه؟! إن شفاء العيّ السؤال)(1)

فإنهم قتلوه بجهلهم باعتبار أنهم لم يكونوا يعلمون أن الغسل سيؤدي إلى الموت لكنهم أقدموا على مظنة الخطر.

وقد دلّت الروايات على حرمة قتل النفس ومنها صحيحة أبي ولاد الحناط عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها)(2)

وفي رواية ناجية عن الإمام الباقر (عليه السلام) (إن المؤمن يبتلى بكل بليةويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه)(3)،وفي رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) قال: (وحقّ السلطان أن تعلم أنك جُعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعله الله عز وجل له عليك من السلطان، وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه فتلقي بيدك إلى التهلكة، وتكون شريكاً له فيما يأتي إليك من سوء)(4).

والروايات التي دلّت على حرمة قتل النفس ووجوب حفظها مما لا يُحصى كثرة وهي شاملة بإطلاقها لمن قتل نفسه، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)(5)

وفي الحديث (المؤمن أعظم حرمة من الكعبة)(6).

القيد الثاني: حرمة الإضرار بالبدن

والكبرى ثابتة والصغرى متحققة لأن فقدان العضو ضرر.

ص: 250


1- وسائل الشيعة: 3/346، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، باب 5، ح1.
2- وسائل الشيعة: 19/378، كتاب الوصايا، باب 52، ح1.
3- وسائل الشيعة: 29/24، أبواب القصاص في النفس، باب 5، ح3.
4- وسائل الشيعة: 15/174، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 3، ح1.
5- كنز العمال: ح 39880.
6- الخصال: 1/16.

بيان الكبرى: أن الحديث المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله) (لا ضرر ولا ضرار)(1)

جملة خبرية فهو ينفي وجود حكم ضرري في الإسلام ولو بلسان نفي الموضوع، وأنه لا يشرع للمكلفين حكماً فيه ضرر عليهم، ولو أدّى حكم عند تطبيقه إلى ضرر فإنه غير داخل في إطار الشريعة وليس منها ولا بد أن خللاً ما في التطبيق قد حصل كما في قضية سمرة بن جندب.

ويمكن أن يكون جملة إنشائية فيفيد النهي عن كل ما يوجب الضرر بالنفس والإضرار بالآخرين؛ لأن النهي عن المعلول أبلغ في الدلالة عن النهي عن العلة، ولأن ((الضرر معلول لعلل وأسباب مختلفة، فنفي المعلول نفي لجميع أنحاء علله سواء كانت العلة هي الأحكام الشرعية، فإن العمل بها ربما يكون موجباً للضرر، أو إطلاق السلطنة على المال والنفس، فإنه ربما يؤدي إلى الضرر، أو لزوم بعض المعاملات، أو عدم جعل حق الشفعة وغير ذلك. فإطلاق نفي المعلول يدل على نفي العلل))(2).

ولو قيل بأن ((مفاد الفقرة الأولى أنه لا يتوجه إلى المكلف في محيط الشرع ضرر فهي ناظرة إلى ورود الضرر عليه من الخارج ومنصرفة عن ورود الضرر علىالإنسان من ناحية نفسه، فلازمها أنه لا يصل إلى الإنسان ضرر في محيط القانون، فلم يحمّل عليه ما يضرّ به، ولم يجوّز للغير إيراد الضرر عليه وأما إضرار الإنسان بنفسه فهو خارج ومنصرف عنه.

كما أن ظاهر المصدر في الفقرة الثانية أيضاً هو الإضرار بالغير وإيراد الضرر عليه فلا يعم إيراد الشخص للضرر على نفسه))(3).

ص: 251


1- الكافي: 5/293، باب (الرجل يتكارى البيت والسفينة)، ح2. وسائل الشيعة: 18/32، أبواب الخيار، باب 17، ح3.
2- السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 19، ص 62.
3- كلمات سديدة في مسائل جديدة، الشيخ محمد المؤمن القمي: 158. ط. جماعة المدرسين، 1415 هج_.

قلنا: لا وجه لدعوى الانصراف مع ظهور الحديث في الإطلاق، ولو تنزّلنا فإن ما قيل لا يضرُّ بالاستدلال لأن الحديث حينئذٍ يدل بالأولوية على حرمة إيقاع الضرر على النفس لأن الحديث مبني على استثارة هذه الحقيقة المركوزة في الفطرة، فكما أن الإنسان لا يرضى بإيقاع الضرر على نفسه منه بل يتحرى لها كل خير ومنفعة وسعادة ورفاهية ودعة، وإن الشريعة أقرَّت ذلك وبنت عليه وتوقفت عن تشريع أي حكم ضرري، كذلك على الإنسان أن لا يتسبب بإيقاع الضرر على الآخرين، ولا يجوز للآخرين أن يلحقوا الضرر به أيضاً.

ومن الروايات الدالة على حرمة الإضرار بالبدن الروايات الدالة على أن ملاك الأحكام الشرعية هي المصالح والمفاسد فلا بد أن تدور أفعال الإنسان في مدارها، وهي من الروايات التأسيسية لفقه المصالح، كرواية محمد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: لمَ حرم الله الخمر والميتة ولحم الخنزير والدم؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما وراء ذلك من رغبة في ما أحل لهم، ولا زهد فيما حرمه عليهم، ولكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله لهم وأباحه لهم وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه، ثم أحله للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به)(1).

ومثلها رواية تحف العقول عن الصادق (عليه السلام) في حديث عمّا يحل أكله مما أخرجت الأرض قال: (كل شيء من الحب مما يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلال أكله، وكل شيء يكون فيه المضرة على الإنسان في بدنه فحرام أكله إلا في حال الضرورة. والصنف الثاني ما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثمار كلها مما يكون فيه غذاء الإنسان ومنفعة له وقوة به فحلال أكله وما كان فيه المضرة على الإنسان في أكله فحرام أكله. والصنف الثالث جميع صنوف البقول والنبات وكل شيء تنبت من البقول كلها مما فيه منافع الإنسان وغذاء له فحلال

ص: 252


1- وسائل الشيعة:25/9، كتاب الأطعمة والأشربة،أبواب الأطعمة المباحة، باب1،ح1.

أكله وما كان من صنوف البقول مما فيه المضرة على الإنسان في أكله نظير بقول السموم القاتلة ونظير الدفلى وغير ذلك من صنوف السم القاتل فحرام أكله.. الحديث)(1).بتقريب أن الرواية دلّت على أن علّة تحريم ما نهاهم عنه هو ضرره على الإنسان وهي كبرى كلية تدلّ على حرمة الإضرار بالنفس وضعف سند الرواية مجبور بإطباق جوامع الحديث على روايتها.

ومثلها رواية العلل عن محمد بن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام) وفيها (إنه لم يحلّ إلا لما فيه من المصلحة للأبدان، وحرَّم ما حرّم لما فيه من الفساد)(2).

ومنها ما دلّ على سقوط الواجبات الشرعية مثل الصوم والغسل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أضرّت بالإنسان كحديث الإمام الصادق (عليه السلام) في الفقيه قال: (كل ما أضرّ به الصوم فالإفطار له واجب)(3)

وصحيحة البزنطي عن الرضا (عليه السلام) (في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح، أو يكون يخاف على نفسه من البرد؟ فقال: لا يغتسل ويتمم)(4).

وغيره من الأحاديث في نفس الباب.

والخلاصة أن كبرى حرمة الضرر ثابتة شرعاً في الجملة وعند العقلاء وحكي عليها الإجماع وهو حكم موافق للفطرة السليمة وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل إذا كان ذا أهمية وقد زوَّد الله تعالى الإنسان بما يستشعر به الخطر

ص: 253


1- وسائل الشيعة: 25/84 أبواب الأطعمة المباحة، باب 42، ح1. تحف العقول: 337، ط. جماعة المدرسين، 1404 هج_.
2- علل الشرائع: 592.
3- جامع أحاديث الشيعة: 9/284 عن الفقيه.
4- وسائل الشيعة:3/347، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، باب 5، ح7.

ويدفعه للابتعاد عنه كالمثال الذي ذكرناه في كتاب الرياضيات للفقيه(1).

وإنما قلنا (في الجملة) للقطع بأن ليس كل ضرر حراماً ولو كان بسيطاً يتسامح به العقلاء، كالتملّي من الطعام فتقيَّد الحرمة بالضرر المعتد به، ويمكن أن يستدل على هذا التقييد بأكثر من وجه:-

أ- ظهور الروايات المتقدمة لاستعمالها ألفاظاً تعبّر عن هذا المستوى من الضرر كقوله (عليه السلام) في رواية العلل (فيه الفساد).

ب- بناء العقلاء على ذلك مما يشكل دليلاً لبّياً ارتكازياً على التقييد.

وأما الصغرى: فلأن كل عضو في جسم الإنسان يؤدي وظيفة معينة فقطعه يلزم منه الإخلال بتلك الوظيفة ونقص في البدن، وما الضرر إلا هذا النقص في النفس كالمال، ومن أمثلته التبرع باليدين أو الرجلين أو العينين أو اللسان، وأمثال ذلك مما يفهم عدم جوازه من مذاق الشارع، أو التعرض للإصابة بأمراض خطرة مضرة بحياتهوأهله -كالشلل مثلاً- أو أوبئة سارية مضرّة لغيره من المسلمين وهو لا يقدر على ضبطها وعدم نشرها.

ويرد عليه:-

1- ليس كل قطع يسبب نقصاً في الوظيفة كالتبرع بكلية واحدة فإن الكلية الأخرى تتكيف لإنجاز الوظيفة وحدها فلا يحرم، لكن إذا خاف الضرر لاحتمال فشل هذه الكلية أو عدم قدرتها على أداء الوظيفة بشكل جيد ولو مستقبلاً حرم التبرع بها لأن وجوب دفع الضرر عن النفس ثابت ابتداءً واستدامةً أي في الحال والمستقبل.

2- ليس كل نقص في النفس أو المال يعدّه العقلاء ضرراً فلو كان لغرض عقلائي فإنه ليس كذلك كالتبرع بالمال في وجوه البر والإحسان أو التضحية بالنفس من أجل غاية نبيلة، ومنها منح أحد أعضائه لقضاء حاجة مهمة وبإذنه واختياره.

ص: 254


1- الرياضيات للفقيه: 88، ط 5.

3- ولو عُدّ ضرراً فقد لا يكون الضرر حراماً أو قبيحاً إذا تحقق بارتكابه غرض أهم منه مادي أو معنوي كصرف المال في سفرة سياحية للنزهة، وكذهاب التجار في أسفار مخيفة خصوصاً في الأزمنة السابقة من أجل تحقيق أرباح مالية؛ لذا لم يحرّم أغلب الفقهاء التدخين مع إقرارهم بمضارّه لأن المدخن يجد فيه راحة نفسية أو تهدئة للبال ونحو ذلك مما ذكروه.

فإطلاق الصغرى غير تام في المقام وإنما تصحّ في الجملة عندما يكون الضرر معتداً به عند العقلاء فلا مانع من قطع العضو مع ما فيه من الضرر وإدخال النقص على بدنه إذا كان لغرض عقلائي راجح ولم يكن الضرر مما يتسامح به العقلاء لولا هذا الغرض، أي أنه ضرر لكن يجوز ارتكابه فلا يقال ((إن الدواعي العقلائية لا تخرج التنقيض عن كونه ضرراً))(1)

لأن النظر إلى الحكم وليس إلى الموضوع.

القيد الثالث: عدم إذلال النفس

فلو تسبَّب التبرع بالعضو في إذلال المؤمن وتحقيره حَرُم كقطع الأنف مثلاً أو قطع اليد مما يوهم بأنه سارق أو قطع الأذن عندما كان يشير إلى ارتكاب جريمة ما ونحو ذلك ، حيث ورد في الروايات الكثيرة أن الله تعالى حين استخلف الإنسان على ما خوّله به فإنه لم يأذن له بأن يذلّ نفسه:

(منها) موثقة سماعة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن الله عز وجل فوّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، أما تسمع لقول الله عز وجل: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً؛ يعزّه الله بالإيمان والإسلام)(2).

ص: 255


1- السيد محسن الخرازي، مصدر سابق: ص 81.
2- الكافي: 5/63، ح2، وسائل الشيعة: 16/157، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 12، ح2.

(ومنها) موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله فوض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه)(1).

فإذا أحدث قطع العضو شيناً يوجب ذلّه للمؤمن فإنه منهي عنه.

تتميم: هذه هي القيود التي ذكرها الأعلام لعملية قطع عضو من البدن، وقد تحصَّل من البحث في هذه الجهة جواز القطع بعد مراعاة القيود المذكورة، لكن إطلاق هذه النتيجة وسعتها فيه محذور التشجيع على بيع الأعضاء البشرية والمتاجرة بها مما يستهجنه العقلاء، كما أنها لا تمنع من التصرفات غير العقلائية التي أشرنا إليها (صفحة 247) لذا لا بد من إضافة قيد آخر وهو:

القيد الرابع: وجود مسوِّغ شرعي وغرض عقلائي كإنقاذ نفس محترمة أو التخلص من حرج شديد أو أمر الولي الفقيه ونحو ذلك.

ويستدل على هذا التقييد بأمور:-

1- ارتكاز المتشرعة على عدم سعة النتيجة التي ذكروها لأن وجدانهم يقضي بالمنع من كثير من التصرفات التي لا تقع ضمن هذه القيود الثلاثة وقد ذكرنا أمثلة عليها هنا وفي (صفحة 247).

2- بناء العقلاء الذي هو الدليل على السلطنة مطابق لهذا الارتكاز كما تقدم.

3- انصراف أدلة السلطنة عن هذه السعة.

لذا يجب أن نفهم ما جوّزه السيد الخوئي (قدس سره) في كلامه الآتي: من قطع الجلد والفخذ على أساس هذا القيد أي لغرض شرعي أو عقلائي وليس مطلقاً، إذ أنه بدون هذا القيد يكون العمل مستنكراً لدى العقلاء.

لذا ذكر الأصحاب جواز قطع شيء من لحم الفخذ ونحوه من الأجزاء اللحمة في باب الاضطرار المؤدي إلى الهلاك المبيح لأكل الميتة وستأتي بعض

ص: 256


1- المصدر السابق: ح3.

كلماتهم في الفرع الآتي.

نكتة: نقارن فيها بين ما ذكرناه هنا من قيود جواز قطع الأعضاء مع ما ذكرناه (صفحة 243) من حدود سلطنة الإنسان على نفسه حيث ذكرنا هناك عدم وجود مانع عقلائي أما هنا فاشترطنا وجود غرض عقلائي والأول أوسع من الثاني للتسالم على جواز موارد عديدة كالتملّي من الطعام أزيد من الحاجة لإقامة أوده حيث ورد في الحديث الشريف (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)(1)

وغيره من الأفعال الكثيرة التي لا يمانع العقلاء من ممارسة الإنسان سلطنته على نفسه في مواردها مع عدم وجودغرض عقلائي فيها بينما لا يسمحون بقطع العضو ونحوه من التصرفات بالبدن إلا عند وجود غرض عقلائي راجح.

تنبيه: قسّم السيد الخوئي (قدس سره) الأعضاء التي يجوز قطعها والتي لا يجوز بلحاظ كون العضو رئيسياً أم لا، قال (قدس سره): ((هل يجوز قطع عضو من أعضاء إنسان حي للترقيع إذا رضي به؟ فيه تفصيل: فإن كان من الأعضاء الرئيسية للبدن كالعين واليد والرجل وما شاكلها لم يجز، وأما إذا كان من قبيل قطعة جلد أو لحم فلا بأس به، وهل يجوز له أخذ مال لقاء ذلك؟ الظاهر: الجواز))(2).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة مواضع للنظر:-

أ- ظهر مما تقدم عناوين القيود الموجبة للحرمة وليس منها ما ذكره (قدس سره)، فالعبرة بتلك العناوين، فالعين من الأجزاء الرئيسية ولا يجوز التبرع بها ولكن إذا كان الشخص فاقد البصر لسبب ما ولا أمل في شفائه لكن بعض أجزاء عينه كالقرنية أو الشبكية يمكن لغيره الاستفادة منها لمعالجة بصره فقد يقال بجوز التبرع

ص: 257


1- بحار الأنوار: 63/329 عن عدة الداعي، لأحمد بن فهد الحلي: 74.
2- المسائل المنتخبة: 418، مسألة (40). منهاج الصالحين: 1/428، مسألة (40).

بها لعدم منافاة القيود المذكورة فالعبرة بها، اللهم إلا أن يكون عنوان (العضو الرئيسي) انتزاعياً جامعاً للأعضاء التي ينافي قطعها أحد تلك القيود ولا بأس بذلك.

ب- التعليق الآنف على إطلاق الجواز في قطع شيء من الجلد أو اللحم.

ج_- الظاهر أن ذكره قطعة الجلد واللحم في الشق الثاني ليس من باب المثال وإنما هو تنظير لمستوى الأجزاء التي يجوز قطعها وأكّد هذا في جواب استفتاء وُجِّه إليه: ((ما المقصود من الأعضاء الرئيسية للبدن التي لا يجوز قطعها)) فأجاب (قدس سره): ((هي في قبال قطعة لحم أو جلد من الأجزاء اليسيرة))(1)

فيكون الجواز عنده أضيق لكن مقتضى المقابلة مع الأعضاء الرئيسية أوسع من ذلك، وقد صرّح به في موضع آخر، فقد سُئل: ((هل يجوز للإنسان أن يتبرع إلى أخيه المؤمن بإحدى عينيه أو إحدى كليتيه أو بعض أعضاء جسمه التي يمكن الاستغناء عنها؟)) فأجاب (قدس سره): ((أما التبرع بإحدى الكليتين أو بعض أعضاء الجسم مما لا يكون من الأعضاء الرئيسية كاليد أو الرجل فلا بأس به، وأما التبرع بإحدى العينين فهو غير جائز))(2).

فرع: قد يجب قطع العضو من البدن عندما يكون تركه سبباً لسريان الضرر إلى أجزاء البدن الأخرى فضلاً عما لو كان يؤدي إلى الهلاك فكان حفظ حياته متوقفاً على قطعه.

أو لتوقف إنقاذ حياته على قطع شيء من جسده ليأكله عند الاضطرار لحفظ الحياة، قال صاحب الجواهر (قدس سره) في شرح عبارة الشرائع: (( (ولو لم يجد المضطر ما يمسك رمقه سوى نفسه) بأن يقطع قطعة من فخذه ونحوه من

ص: 258


1- المسائل الشرعية: 2/318، السؤال (73).
2- المسائل الشرعية: 2/305، السؤال (15).

المواضع اللحمة فإن كان الخوف فيه كالخوف على نفسه في ترك الأكل أو أشد حرم القطع قطعاً، وإن علم السلامة حل قطعاً، بل وجب. وإن كان أرجى للسلامة (قيل: ) جاز له أن (يأكل من المواضع اللحمة كالفخذ) لأنه إتلاف بعض لاستبقاء الكل، فأشبه قطع اليد مثلاً بسبب الآكلة. (وليس شيئاً) عند المصنف (إذ فيه دفع الضرر بالضرر، ولا كذلك جواز قطع الآكلة، لأن الجواز هناك إنما هو لقطع السراية الحاصلة، وهنا إحداث سراية). لكن قد يناقش بأن حدوث السراية على هذا التقدير غير معلوم، والفرض كون المضطر خائف الهلاك بسراية الجوع على نفسه كسراية الآكلة)).

أقول: لا وجه للمنع حتى لو احتملنا السراية لأنه يدفع بذلك ضرر الهلاك عن نفسه. وقوله (قدس سره): ((وهنا إحداث سراية)) ظاهر في المنع من مطلق قطع الأعضاء فهو (قدس سره) يسدّ باب عملية زرع الأعضاء من أولها لكن كلامه (قدس سره) يدل على أن التحريم لأجل العنوان الثانوي وهو سراية الجرح وليس لأصل القطع، فلو كانت العملية الجراحية تجرى بإتقان كما في الأزمنة المعاصرة فلا مانع من القطع.

ثم بيّن صاحب الجواهر (قدس سره) حكم قطع شيء من جسد الآخر لينقذ به حياته أو قطع شيء من جسده لإنقاذ حياة الآخر فقال (قدس سره): ((نعم لا يجوز له أن يقطع من غيره ممن هو معصوم الدم اتفاقاً، كما في المسالك، إذ ليس فيه إتلاف البعض لإبقاء الكل، بل الظاهر ذلك وإن قطع بسلامة المقطوع منه. وكذا لا يجوز للإنسان أن يقطع جزءاً منه للمضطر وإن قطع بالسلامة إلا أن يكون المضطر نبياً، فإنه يجوز وإن قطع بالسراية، والله العالم))(1).

أقول: فهو (قدس سره) يمنع قطع الأعضاء لإنقاذ الآخرين مطلقاً وينسبه إلى اتفاق الأصحاب. ويلاحظ على كلامه (قدس سره) أن الجواز لا يختص بما ذكره (قدس

ص: 259


1- جواهر الكلام: 36/442-443.

سره) من كون النفس المراد إنقاذها للنبي بل مطلق النفس المحترمة؛ لأن مما لا شك فيه أن من أعظم ما اهتم به الشارع المقدس حفظ حياة الناس ووجودهم قال تعالى: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة: 32) ولأجل ذلك أوجب تعلّم مهنة الطب وجوباً كفائياً لمعالجة مرضاهم حتى أوجب القتال للدفع عنهم قال تعالى: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَ_ذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً» (النساء: 75) وفي خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سمع رجلا ًينادي: يا للمسلمين فلم يجبهفليس بمسلم)(1)،وبالأولوية من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ردّ عن قومٍ من المسلمين عادية ماءٍ أو نار، وجبت له الجنة)(2).

فيكون المقام حينئذٍ من موارد التزاحم بين حرمة القطع ووجوب حفظ النفس، والثاني أهم، فيقدم.

ومن الواضح فقهياً جواز ارتكاب المحرّمات لحفظ النفس كالحلف كاذباً والتصرف بالمغصوب وجواز تقطيع الولد الميت في بطن الأم وإخراجه لحفظ حياتها، وجواز شق بطن الأم الميتة لإنقاذ الجنين الحي في بطنها؛ بضميمة عدم الفرق في حرمة القطع بين الحي والميت.

وهذا العمل يقرّه بناء العقلاء فقد جوزوا اقتحام المخاطر كالحريق ولجج الماء لإنقاذ الغريق والمحترق والمهدّد بالقتل ويعدّونه فعلاً نبيلاً يستحق المدح والثناء.

ص: 260


1- وسائل الشيعة: 16/337، أبواب فعل المعروف، باب 18، ح3.
2- وسائل الشيعة: 15/142، أبواب جهاد العدو، باب 60، ح1.

(الجهة الثانية) إذا كان المقطوع منه ميتاً

اشارة

يمكن الاستدلال على حرمة قطع شيء من أعضاء الميت بعدد كبير من الروايات يمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: الروايات الدالة على حرمة التمثيل بالميت حتى لو كان كافراً محارباً وقد تكرّر هذا النهي في وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقادة الجيوش والسرايا التي كان يرسلها كما في صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) وخبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام)(1)

وفيهما قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تغلّوا ولا تمثّلوا).

ومما ورد في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه اللعين قال (عليه السلام): (انظروا إن أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور)(2).

أقول: يرد على الاستدلال بها بما في معاجم اللغة من أن التمثيل هو القطع بهدف التنكيل والمبالغة في العقوبة فالدليل أخص من المدّعى الذي هو حرمة القطع مطلقاً.الطائفة الثانية: الأحاديث الشريفة الدالة على حرمة الميت كحرمة الحي بمعنى أن كرامة الميت واحترامه مصونان محفوظان كما لو كان حياً، ومنها:-

1- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل قطع رأس الميت؟ قال: عليه الدية لأن حرمته ميتاً كحرمته وهو حي)(3).

بتقريب أن وجوب الدية لا يلازم عرفاً حرمة الفعل، أو أن الإمام (عليه

ص: 261


1- وسائل الشيعة: 15/58-59، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 15، ح2، 3.
2- نهج البلاغة: 3/77، قسم الكتب والرسائل، العدد 47.
3- وسائل الشيعة: 29/327، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح4.

السلام) لم يشر إلى حرمة الفعل لوضوحه فانتقل إلى بيان وجوب الدية.

2- صحيحة مسمع كردين قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل كسر عظم ميت؟ فقال: حرمته ميتاً أعظم من حرمته وهو حي)(1).

3- صحيحة جميل وصفوان عن رجالهم قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: أبى الله أن يظن بالمؤمن إلا خيراً، وكسرك عظامه حياً وميتاً سواء)(2).

4- رواية محمد بن مسلم في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث وفاة الحسن (عليه السلام) ودفنه، قال: (إن الله حرم من المؤمنين أمواتاً ما حرم منهم أحياء)(3).

5- رواية العلا بن سيابة وفيه: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حرمة المسلم ميتاً كحرمته وهو حي سواء)(4).

6- معتبرة الحسين بن خالد -بطريق البرقي- قال: (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل قطع رأس ميت؟ فقال: إن الله حرّم منه ميتاً كل ما حرَّم منه حيّاً)(5).

وحاصل هذه الروايات حرمة كل تصرف في بدن الميت كما يحرم ببدن الحي إلا بإذنه حتى على مستوى غمز اليد كما تقدم في رواية أبي بصير حيث استأذنه الإمام في ذلك.

فلا يجوز قطع عضو من الميت كما لا يجوز من الحي، وفي بعض الروايات يشمل النهي حتى الشعر والظفر ففي معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الميت يكون عليه الشعر فيحلق عنه أو يُقلَّم،

ص: 262


1- المصدر السابق، باب 25، ح 5.
2- المصدر السابق: باب 25، ح4.
3- المصدر السابق: باب 25، ح3.
4- وسائل الشيعة: 3/219، كتاب الطهارة، أبواب الدفن، باب 51، ح1.
5- وسائل الشيعة: 29/325، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح2.

قال: لا يمسّ منهشيء، اغسلْه وادفنه)(1)

ومصححة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يُمَسُّ من الميت شعرٌ ولا ظفر وإن سقط منه شيء فاجعله في كفنه)، فيجب دفن جميع أجزائه معه.

ومقتضى إطلاق هذه الروايات حرمة قطع أعضاء الميت مطلقاً سواء كانت للعدوان والتشفي والعبث أو لأغراض عقلائية كتعليم طلبة الطب أو لزرعها في إنسان آخر.

لكن هذا الإطلاق منقوض بما دلّ على الرخصة في بعض الحالات كموت الولد في بطن أمه فيقطَّع ويخرج، أو عند موت الأم وبقاء الجنين حياً فتُشَقُّ بطن الأم ويخرج، ففي مصححة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه(2)

عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في المرأة تموت ويتحرك الولد في بطنها، أيُشق بطنها ويخرج الولد؟ قال: فقال: نعم ويخاط بطنها)(3)

وفي موثقة علي بن يقطين عن العبد الصالح (يُشَق بطنها ويخرج ولدها) ومثلها روايات عديدة، وفي صحيحة أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوف عليها، قال: لا بأس أن يدخل الرجل يده فيقطعه ويخرجه)(4).

ومنقوض برواية الحسين بن زرارة المتقدمة (صفحة 230) في جواز فعل من أخذ سنّ الميت ووضعه في أسنانه.

ص: 263


1- وسائل الشيعة: 2/500، أبواب غسل الميت، باب 11، ح3.
2- هذا في الكافي وقد عُرِّف في نفس الرواية في التهذيب أنه ابن أذينة مما يقوي استقراء أن ابن عمير لا يرسل إلا عن ثقة خصوصاً عند استعمال مثل هذا التعبير.
3- وسائل الشيعة: 2/470، أبواب الاحتضار، باب 46، ح1، 2.
4- وسائل الشيعة: 2/470، أبواب الاحتضار، باب 46، ح3.

ويمكن النظر(1)

إلى هذه الموارد من ناحية إثباتية بأنها تخصيص في حكم الحرمة ونقول إنها خرجت بالدليل الخاص ويبقى عموم الحرمة على حاله في غيرها، لكننا نعتقد أن هذه النظرة قاصرة لأمور:-

1- إن المقيس عليه وهو الحي لم تكن حرمة القطع منه مطلقة وإنما في الجملة بلحاظ القيود المذكورة هناك فلا يكون المقيس أوسع من المقيس عليه.

2- يلزم منه تخصيص الأكثر لكثرة الموارد المستثناة من الحرمة الداخلة في العناوين الآتية.

3- للإحساس الوجداني بأن هذه الموارد خرجت من الحرمة لا لخصوصية فيها وإنما بني خروجها على نكتة ثبوتية علينا اكتشافها من الأدلة لأن هذا الإحساس ليس دليلاً بمفرده وإنما هو منبّه ومحرِّك للبحث باتجاه اكتشاف حقيقة ما.

وحاصل هذه النكتة الثبوتية: أن إطلاق الحكم بعدم جواز القطع غير تام في نفسه؛ لوضوح أن مناطه هو احترام الميت وأن حرمته كحرمة الحي فيحرم من القطع ما انطبق عليه عنوان هتك الحرمة، فالموارد السابقة لم تخرج تخصيصاً وإنما تخصصاً لعدم دخولها في العنوان المحرّم.

ص: 264


1- هنا نؤسس لمطلب أصولي: وهو أن خروج بعض الموارد من تحت عام أو مطلق قد لا يعبِّر عن مجرد تخصيص أو تقييد فيهما وإنما يكون كاشفاً عن أن العموم والإطلاق غير تام في نفسه والخارج عنهما لا يقتصر على المذكورات أي أن نكتة الخروج ثبوتية يمكن أن تعمِّم الخارج لا إثباتية بالدليل الخاص مقتصرة على المذكورات فيُنظر في الأدلة لاكتشاف النكتة الثبوتية. ويتفرع على هذا المطلب أن ما أسسناه في علم الأصول من دخول الفرد المشكوك تحت العام إذا لم يتيقن دخوله تحت الخاص صحيح إلا أن يكشف الخاص عن ضيق دائرة العام.

وهذا المعنى ظاهر من معتبرة الفضل بن يونس الكاتب عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في حديث (إن حرمة بدن المؤمن ميتاً كحرمته حياً، فوارِ بدنه وعورته وجهّزه وكفّنه وحنّطه واحتسب ذلك من الزكاة)(1)

فإن الإمام (عليه السلام) فرّع وجوب هذه الأفعال على حرمة الميت.

فإذا لم يصدق على المورد هتك لحرمة الميت كما في الروايات المتقدمة جاز القطع كما جاز للحي الذي نُزِّل منزلته في الحرمة، فلا بد من تقييد الحرمة.

هذا ولكن يمكن أن يستظهر أن حرمة القطع من الميت مطلقة ولا تدور مدار الهتك وجوداً وعدماً لمساواة حرمته مع حرمة الحي في الروايات المتقدمة وهي مطلقة وأن ما ورد آنفاً في معتبرة الفضل بن يونس، وفي حديث العلل للفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال: (فإن قال: فلمَ أمر بدفنه؟ قيل: لئلا يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغيّر رائحته)(2)

فهو من قبيل الحكمة لا العلة؛ لذا وجب دفن ظفره وشعره وليس في بقائها هتك لحرمته، وإن دفنه واجب وإن لم يستلزم بقاؤه بلا دفن هتكاً لحرمته كما لو حفظ في مكان مناسب فالهتك ليس علة ينتفي الحكم بانتفائها.

ويرد عليه أن حرمة الحي منوطة أيضاً بصدق هذا العنوان فلا يزيد المقيس على المقيس عليه، فإذا لم يتحقق فيه هذا العنوان لأذنه مثلاً جاز كمن يصفع إنساناً آخر فإنه عمل محرم لكنه لو كان جزءاً من عملٍ مسرحي أو فيلم بالاتفاق مع الممثل وبإذنه ومقابل أجر فإنه سيكون جائزاً، ويخرج من كونه إذلالاً للمؤمن.

ص: 265


1- وسائل الشيعة: 3/55، أبواب التكفين، باب 33، ح1.
2- وسائل الشيعة: 3/141، أبواب الدفن، باب 1، ح1.

أو وضع الرجل على رأس الشخص وهو ملقى على الأرض فإنه تحقير محرَّم لكنه جائز بإذنه لغرض عقلائي كالمروي(1) عن فعل علي بن يقطين (رضوان

ص: 266


1- عن محمد بن علي الصوفي قال: (استأذن إبراهيم الجمال رضي الله عنه على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه، فحج علي بن يقطين في تلك السنة فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفر فحجبه، فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين: يا سيدي ما ذنبي؟ فقال: حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمال وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك إبراهيم الجمال، فقلت: سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة؟ فقال: إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرّجاً، قال: فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمال بالكوفة فقرع الباب وقال: أنا علي بن يقطين. فقال إبراهيم الجمال من داخل الدار: وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي؟! فقال علي بن يقطين: يا هذا إن أمري عظيم وآلى عليه أن يأذن له، فلما دخل قال: يا إبراهيم إن المولى عليه السلام أبى أن يقبلني أو تغفر لي، فقال: يغفر الله لك فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمال أن يطأ خده فامتنع إبراهيم من ذلك فآلى عليه ثانياً ففعل، فلم يزل إبراهيم يطأ خده وعلي بن يقطين يقول: اللهم اشهد، ثم انصرف وركب النجيب وأناخه من ليلته بباب المولى موسى بن جعفر عليه السلام بالمدينة فأذن له ودخل عليه فقبله) (البحار: 48/85 عن كتاب عيون المعجزات). ورويت حادثة قريبة منها عن أبي ذر (رضوان الله عليه) في البحار عن كتاب الحسين بن سعيد الزهد أو المؤمن عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قال: (إن أبا ذر عيّر رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وآله بأمه فقال له: يا ابن السوداء، وكانت أمه سوداء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: تعيره بأمه يا أبا ذر؟ قال: فلم يزل أبو ذر يمرّغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله صلى الله عليه وآله عنه) (بحار الأنوار: 22/411).

الله تعالى عليه) عندما صدر منه ما أزعج الإمام الكاظم (عليه السلام)، فرضي (سلام الله عليه) عنه ولم يعترض على فعله فيكون إقراراً من المعصوم وغير داخل في الإذلال المحرّم.

وعلى أي حال فقد قيل باستثناء عدة موارد من حكم الحرمة فيجوز فيها القطع حتى مع صدق عنوان الهتك في بعضها لملاك أهم:

أولها: توقف إنقاذ حق للغير سواء كان مادياً أو معنوياً، كما لو مات بجناية وتوقف التحقيق في القضية وتبرئة غير الجاني وإدانة القاتل على تشريح الجثة لتحصيل حقوق ذوي المجني عليه منه، فإن ملاكه أقوى عند التزاحم إلا أن يتنازلوا رعاية لحرمة الميت، وقد لا يستطيع ولي الميت الامتناع إذا أمرت السلطات الحاكمة بذلك.أما إذا كان التشريح لأجل معرفة ما يستحق ذوو المجني عليه أو ما يجب على الجاني دفعه بالدقة كما لو كانت المرأة القتيلة حاملاً ولم يعرف أنه ذكر أو أنثى فلا يجوز التشريح لورود صحيحة عن كتاب ظريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (وإن قتلت امرأة وهي حبلى متم فلم يسقط ولدها ولم يعلم أذكر هو أو أنثى ولم يعلم أبعدها مات أم قبلها فديته نصفين نصف دية الذكر ونصف دية الأنثى ودية المرأة كاملة بعد ذلك)(1)

التي تلزم الطرفين بالتصالح على نصف دية ذكر ونصف دية أنثى، ويمكن أن يكون هذا الدليل الخاص كاشفاً عن نكتة ثبوتية أوسع من مورده تمنع من التشريح كالذي قلناه (صفحة 264).

هذا وقد تناول الفقهاء مسألة ضمن هذا المجال في من بلع ماله أو مال غيره فمات، فإن تلف فلا موضوع لتشريحه وإن بقي في جوفه، قال الشيخ (قدس سره) في الخلاف: ((إذا بلع الحي جوهراً ومات، فإن كان ملكاً لغيره قال الشافعي: يشق جوفه ويخرج، وإن كان ملكاً له: فيه قولان: أحدهما: يُشق جوفه لأنه ملك للورثة،

ص: 267


1- وسائل الشيعة: 29/312، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح1.

والثاني: إنه لا يشق لأنه بمنزلة ما أكل من ماله. وليس لنا في هذه المسألة نص، والأولى أن نقول لا يشق جوفه على كل حال، لما روي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً. وإذا كان حياً لا يُشق جوفه بلا خلاف، فينبغي أن يكون ذلك حكمه بعد موته))(1).

أقول: إن كان المال ماله حين بلعه فهو تصرف في ماله مسلط عليه ولا حق للورثة فيه لأنه بحكم التالف عليهم وإن كانت عينه باقية، أما إذا كان المال لغيره فيقع التزاحم ويقدَّم الأهم وعلى القاطع الدية.

ونشير هنا إلى ما رواه صاحب المناقب في قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أمر بنبش قبر ميت وإخراج ضلع من أضلاعه لإثبات حق الميراث لشخص ادعى أنه ولده(2).

ثانيها: ما لو تطلبت دراسة المرض الذي مات به تشريح جثة الميت لمعرفة أسبابه وطرق علاجه لحماية الناس الآخرين من الابتلاء به.

ثالثها: ما لو توقف إنقاذ حياة مسلم على ترقيع بدنه بجزء من الميت؛ للتزاحم بين وجوب حفظ حياة المسلم وحرمة قطع عضو من الميت فيقدم الأول لأهميته، إذ أن حفظ النفس أقوى ملاكاً من كل واجب وحرام.

ويمكن استفادة تقريب لذلك من كلمات بعض الأعلام(3)،إذ أن التقية تسوِّغ ترك كل واجب وارتكاب كل حرام لما ورد في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه

ص: 268


1- الخلاف: 1/730، مسألة (559).
2- بحار الأنوار: 40/255، ح5 عن مناقب آل أبي طالب: 2/359، فصل: قضاياه عليه السلام في عهد عمر.
3- كلمات سديدة: 175.

الله)(1).

وورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية)(2)،فحرمة الدم أقوى من التقية التي يباح فيها كل محذور.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا يجوز قطع عضو من أعضاء الميت المسلم كعينه أو نحو ذلك لإلحاقه ببدن الحي، فلو قطع فعليه الدية. نعم لو توقف حفظ حياة مسلم على ذلك جاز، ولكن على القاطع الدية، ولو قطع وارتكب هذا المحرم فهل يجوز الإلحاق بعده؟ الظاهر جوازه، وتترتب عليه بعد الإلحاق أحكام بدن الحي نظراً إلى أنه أصبح جزءاً له))(3).

أقول: أشكل بعض الفقهاء على الاستثناء المذكور باعتبار أن هذا الجواز لم يثبت في حق الأحياء ومقتضى الاشتراك في الروايات عدم ثبوته في الأموات أيضاً، وربما يشفع له ما تقدم (صفحة 259) من كلام المحقق (قدس سره) في حرمة قطع شيء من الحي لإنقاذ نفس وتقييد صاحب الجواهر (قدس سره) الجواز بكون المنقذ نبياً.

وقد رددنا عليه بما دلَّ من الشرع المقدس ومن تباني العقلاء على الجواز ما لم يكن القطع منافياً لأحد القيود المذكورة ككونه سبباً للهلاك.

مع الالتفات إلى أنّ هذا الاشتراك بين الحي والميت بلحاظ حفظ الاحترام والكرامة وعدم جواز الهتك لا مطلقاً، فإن قيود جواز القطع من الحي تختلف عن الميت، مثلاً يحرم قطع العضو إذا كان سبباً لهلاكه وهذا غير موجود في الميت لانتفاء الموضوع.

رابعها: ما إذا كان القطع بأمر الولي الفقيه، قال بعض الفقهاء: ((أن ولي أمر المسلمين بما أنه وليّهم فله أن يعزم في كل ما فيه صلاح للأمة، ويكون عزمه

ص: 269


1- وسائل الشيعة: 16/214، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح2.
2- وسائل الشيعة:16/234، أبواب الأمر والنهي، باب 31، ح1، 2.
3- منهاج الصالحين: 1/426، مسألة (39).

وتصميمه قائماً مقام عزم المولَّى عليهم ورضاهم، وليس للناس حينئذٍ إلا التسليم في قبال عزمه، وإن كان اللازم عليه ولا محالة يراعي في عزمه مصلحة الأمة الإسلامية.وعليه فإذا رأى الأصلح بالأمة الإسلامية أن يعالج مريض من مرضاهم بترقيع بعض أعضائه مما لا يتوقف عليه أصل حياته، كما إذا كان من رؤساء الجند وأمرائهم فابتلي بنقص في بعض أعضائه، كأن فقدت إحدى عينيه وكان علاجها بالترقيع أولى للأمة بملاحظة مقابلته لأمراء جنود الكفر، فإذا رأى المصلحة في ترقيع عينه جاز له الأمر بأخذها من بعض آخر من الأمة.

ولا محالة يأمر بأن يكون هذا المأخوذ من الموارد المعدّة الجائزة في نفسها، ولا يتعدّى إلى ما لا يجوز، إلا إذا توقّفت عملية الترقيع على أخذ عضو خصوص من لا يرضى بأخذه، فإذا أذن وليّ الأمر فيه قام إذنه مقام إذن صاحب العضو، وجاز بل وجب أخذه والترقيع به))(1).

أقول: حررنا في مباحثنا عن ولاية الفقيه أنه يتحرك في الحدود التي أجازها الشارع المقدس لأن ولايته تنفيذية وليست تشريعية أي أن ولايته لا تجيز له إنشاء حكم بالعنوان الثانوي مستقلاً عن عنوان شرعي مبيح كرفع الضرر أو حفظ النظام أو تقديم الأهم على المهم عند التزاحم وغير ذلك، وليس منها جلب مصلحة ما إلا إذا صدق عليه أحد تلك العناوين.

خامسها: ما لو اقتضت حرمة الميت أو مصلحته ذلك كما لو مات تحت الأنقاض بسبب قصف أو زلزال ولم يمكن إخراجه إلا بقطع بعض أعضائه فإنه يجوز القطع لإخراجه وإجراء الأحكام الشرعية عليه حفظاً لكرامته وصوناً لحرمته.

وكالذي قاله الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) فأبعد فيه: ((إنه لو توقف نقله -أي الميت- على تقطيعه إرباً إرباً جاز، ولا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان

ص: 270


1- كلمات سديدة: 176.

النفع له ودفع الضرر عنه كما يصنع مثله في الحي))(1).

سادسها: ما لو أوصى الشخص بالتبرع بأعضائه بعد وفاته، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وهل يجوز ذلك -أي القطع- مع الإيصاء من الميت، فيه وجهان:

الظاهر جوازه ولا دية على القاطع أيضاً))(2).

وفي جواب سؤال ورد فيه ((بعض الأفراد هنا يوصون بإعطاء عين أو عضو آخر من الجسم بعد وفاتهم لمستشفى أو شخص محتاج، فهل يجوز اقتلاع العضو من الميت ولو بوصيته؟ وهل يجوز للموصي الوصية بذلك؟ وإذا وقعت على أي حال منالأحوال هل يجب إنفاذها وهل تصح هذه الوصية شرعاً؟)) قال (قدس سره): ((الوصية المذكورة صحيحة، ويجب إنفاذها))(3).

ويمكن المناقشة في جواز الوصية بالأعضاء باعتبار أن الجسد يعود إلى خالقه بعد الموت وينتهي استخلاف الإنسان عليه الذي بمقتضاه تصرّف فيه فلا ولاية له عليه بعد موته ويشير الإمام السجاد (عليه السلام) إلى ذلك لما سُئل: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ فأجاب: (أصبحت مطلوباً بثمانٍ، الله يطالبني بالفرائض) إلى أن قال: (والقبر بالجسد)(4)

فيصبح الجسد مجرى للأحكام التي أمر الله بها من وجوب التغسيل والصلاة ثم الدفن، ودلّت الروايات المتقدمة (صفحة 262) على وجوب إلحاق كل أجزاء الميت به حتى الشعر والظفر.

واستُدلّ على الجواز بوجهين:-

ص: 271


1- جواهر الكلام: 4/348 عن كشف الغطاء وتعرضت للمسألة في فقه الخلاف: 2/3339، ط. الأولى.
2- منهاج الصالحين: 1/426، مسألة (39).
3- المسائل الشرعية: 2/133، السؤال (12) مؤسسة الخوئي الإسلامية.
4- أمالي ابن الشيخ: 410.

1- ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) وتبعه بعض تلامذته(1)

وغيره من عدم شمول أدلة الحرمة له، باعتبار أن الحرمة الواردة في الروايات المتقدمة لوحظ فيها الهتك وعدم حفظ الكرامة الإنسانية أما إذا لم يستلزم القطع شيئاً من ذلك فيجوز كما لو أوصى الشخص بالتبرع بأعضائه بعد موته أو باعها في حياته على أن تؤخذ منه بعد موته، قال (قدس سره): ((الوجه في حرمة قطع عضو من أعضاء الميت هو هتكه وعدم احترامه، ولا هتك مع إيصائه بنفسه بذلك))(2).

ويرد عليه:-

أ- ما استظهرناه من احتمال حرمة القطع من الميت مطلقاً وأن الهتك حكمة للحرمة وليس علة فلا يدور الحكم مداره.

ب- قضاء العرف بتحقق عنوان الهتك وإن كان القطع بإذنه لأن احترامه وحفظ كرامته باقيان وليس له الإذن في هتك حرمته، كما أن الحي لو أذن باغتيابه وإهانته وإذلاله لم يجز لغيره فعل ذلك معه، لكنه لو هتك حرمته بنفسه كالفاسق المتجاهر جازت غيبته لسقوط حرمته.

2- عمومات الوصية فإنها تدل على جواز الوصية بكل ما يقع تحت تصرفه وسلطنته فكما تجوز الوصية بالأموال كذلك تجوز بالأعضاء؛ لأن حرمتهما واحدة وقد قرنت الأحاديث الشريفة بينهما كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منى حين قضىمناسكها في حجة الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم)(3).

ص: 272


1- الشيخ آصف محسني (رحمه الله)، الفقه ومسائل طبية: 1/156.
2- المسائل الشرعية: 2/318، السؤال (74).
3- وسائل الشيعة: 29/10، أبواب القصاص في النفس، باب 1، ح3.

قال بعض الفقهاء المعاصرين (قدس سره): ((فثبوت هذه الحرمة للميت على حد ما كانت ثابتة له زمن حياته يوجب فيما نحن فيه تعلّق حق له بأعضائه حذو ما كان له قبل موته، ولا محالة ليس لأحد أن يبادر إلى نقل شيء من أعضائه للترقيع به أو غيره.

نعم إذا أوصى مثلاً بأن يعطى عضو منه مستشفى الترقيع ليستفاد منه في ترقيع المحتاجين فالمتَّبَع هو وصيته، فإن المستفاد عرفاً من أدلة الوصية أنها إدامة لاختيارات الإنسان الثابتة له في حياته لما بعد وفاته))(1)

وقال: ((فإذا كان من حقه أن يعطي عضواً له إنساناً آخر لينتفع بترقيعه فهكذا له أن يوصي بذلك، ويجب العمل بوصيته كما أوصى)).

أقول: الذي نسلّمه من ظهور أدلة الاشتراك في الحرمة بين الحي والميت هو عدم جواز تصرّف الغير في أعضاء الميت كالحي أي العقد السلبي للقضية، أما جواز تصرف الحي بأعضائه الثابت له حال الحياة -وهو العقد الإيجابي للقضية- فلا نسلِّم دلالة الروايات على الاشتراك فيه مع الميت أي انتقاله له في ما بعد الوفاة بالوصية لوجود الموانع التي تقدّم بيانها، كما أن أمواله التي كانت له سلطة التصرف بها جميعاً في حياته لم يأذن الشارع المقدس بالتصرف بها في ما يزيد عن الثلث.

مضافاً إلى ما ذكرناه من انتهاء حالة الاستخلاف بالموت وعودة الجسد إلى خالقه، ولم يثبت أن له حق الوصية بكل ما كانت له سلطنة عليه في حياته كالمال.

وفي ضوء هذا تُعلم المناقشة في الملازمة التي أوردها الفقيه المذكور بقوله (قدس سره): ((ولا محالة فحدود وصية الإنسان إنما هي حقوقه الشرعية الثابتة له في حياته ليعمل على ما أراد بعد وفاته، فإذا كان من حقّه أن يعطي عضواً له إنساناً آخر لينتفع بترقيعه فهكذا له أن يوصي بذلك، ويجب العمل بوصيته كما أوصى)) فإنها غير ثابتة في الأموال كما ذكرنا آنفاً فضلاً عن النفوس.

ص: 273


1- كلمات سديدة، مصدر سابق: 171.

نعم يمكن النقض على ما ذكرناه من انتهاء حالة الاستخلاف بجواز إعادة العضو المقطوع من البدن إلى موضعه، وهذا الجواز ثابت بلا خلاف ولا إشكال فتأمل(1)،وهذا كاشف عن استمرار سلطنة الإنسان على أعضائه بعد القطع فيما إذا وجد غرض عقلائي للاستفادة منه وتكون أدلة إجراء الأحكام الشرعية منصرفة عنمثل المورد حيث إنها تجري عندما لا يمكن تصور أي غرض عقلائي من أجزاء بدن الميت.

كما أن النقض بتحديد سلطة الميت على الوصية بماله بمقدار الثلث قياس مع الفارق لأن المال يراد له أن يتوزّع على الورثة بميزان عادل ليديموا الحياة، أما أعضاء الميت فلا يتصور فيها ذلك.

ولو شككنا فإن مقتضى الاستصحاب جواز القطع من الميت كما كان ثابتاً له في حال الحياة.

إن قلتَ: لا يصح إجراء الاستصحاب هنا لعدم وحدة القضية المشكوكة فبدن الحي غير بدن الميت عرفاً.

قلتُ: نعم هذا الفرق موجود لكنه لا يؤثر على جريان الاستصحاب لوضوح عدم الفرق بين الحياة والموت في جواز القطع للروايات الكثيرة الدالة على اشتراكهما في الحرمة، بلا فرق بين العقد الإيجابي والسلبي لأن الأول متضمن في الثاني لاستثنائه من النفي (لا يجوز إلا بإذنه) وهو يعني: يجوز بإذنه، بل إن الجواز في الميت أولى لعدم وجود الموانع والقيود كحرمة إزهاق النفس وإلحاق الأذى ونحو ذلك.

ص: 274


1- وجهه: أن صاحب العضو حي بحسب الفرض فالمورد من سلطنة الحي على أعضائه وليس من سلطنة الميت على أعضائه فلا يصح النقض به إلا أن نقول بأن كل عضو ينتهي الاستخلاف عليه بقطعه وموته.

فالقول بجواز الوصية بالأعضاء ليس بعيداً، لكن التبرع يجب أن يكون مقيداً بأمور:-

1- تحقق ملاك أهم يغلب حرمة القطع كإنقاذ حياة إنسان فلا يكفي قطع العضو لتجميل الآخر به مثلاً.

2- أن لا يصدق هتك حرمة الميت عرفاً كما لو أوصى بأعضاء عديدة كأنفه ومذاكيره وغيره مما يؤدي إلى تمزيق جسده وتشويهه.

3- الوجود الفعلي لمسوّغات القطع التي ذكرناها لأن الإنسان لا يملك سلطنة على نفسه أكثر من ذلك، فلا تجوز الوصية بمنح الأعضاء إلى مستشفى الترقيع أو وضع العضو في البنوك؛ لأن الجواز مشروط بالوجود الفعلي للمسوِّغ، خلافاً لإطلاق كلام السيد الخوئي (قدس سره) المتقدم (صفحة 271) بجواز التبرع إلى المستشفى، وما قاله بعض الفقهاء من جواز التبرع به لمستشفى الترقيع.

وهذا الشرط تجده في كلماتهم عن مسألة تشريح الميت، كقول السيد الخميني (قدس سره): ((لو توقف حفظ حياة المسلم على التشريح ولم يمكن تشريح غير المسلم فالظاهر جوازه، وأما لمجرد التعلم فلا يجوز ما لم تتوقف حياة مسلم عليه))(1)

فاشترط فعلية المسوّغ علماً بأن تعلم الطب فيه شأنية إنقاذ المسلم والاحتياج إليه في وقت ما، وقال مثله الشيخ المنتظري(2)

(قدس سره).تنبيه: قد يفرغ هذا الشرط الوصية من أثرها ومفعولها ما دام الجواز يدور مدار الضرورة والأهمية.

ص: 275


1- تحرير الوسيلة: 2/565، المسألة (3)، ط. دار المعارف.
2- الأحكام الشرعية: 572، المسألة (3074).
فروع

1- لو جاز قطع الأعضاء من الميت بالوصية أو غيرها فإنه تتحقق عدة أحكام:-

أ- إن الجواز يشمل حتى الأعضاء التي تتوقف عليها حياته كالقلب أو تلافيف الدماغ ونحو ذلك لانتفاء المانع وهو الإلقاء في التهلكة أو الضرر.

ب- لا دية على منفّذ الوصية لأنه مأذون كقطع العضو من الحي بإذنه ولأن الدية وصفت في الروايات بأنها غرامة ولا غرامة مع الإذن، ففي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في السن إذا ضربت قال (عليه السلام): (وإن لم تقع واسودّت أُغرِم ثلثي ديتها)(1)

وفي صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل قطع فرج (ثدي) امرأته قال: إذن أغرمه لها نصف الدية)(2).

ج_- تجب الدية على القاطع إذا كان القطع لغير الوصية من المسوِّغات كإنقاذ حياة المسلم؛ لإطلاقات وجوبها بالقطع ولا إذن من صاحب العضو بإسقاط حقه، وهذه المسوِّغات لا تلغي الحكم الوضعي وإنما تبيح مخالفة الحكم التكليفي فقط أي أن حرمة القطع من الميت باقية وترخِّص في ارتكابها.

أو يقال: إن سقوط الحكم التكليفي للتزاحم لا يلزم منه سقوط الحكم الوضعي وهو ضمان الدية كما أن الاضطرار إلى أكل شيء من الغير لا يسقط ضمانه.

نعم قد يُقال أن روايات شق بطن المرأة الميتة وإخراج طفلها الحي أو تقطيع الطفل الميت في بطن أمه وإخراجه سكتت عن ضمان الدية مع الحاجة إلى البيان في حين أن الروايات أوجبت الدية في حالات القطع الأخرى

ص: 276


1- وسائل الشيعة: 29/340، أبواب ديات الأعضاء، باب 40، ح1.
2- وسائل الشيعة: 29/340، أبواب ديات الأعضاء، باب 36، ح2.

كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (صفحة 261)، فالقطع من الميت لحفظ حياة الحي مما لا يوجب الدية.

وفيه: أنه قياس مع الفارق وتجريد عن الخصوصية في غير محلّه لأن الميت في هذه الروايات سبب لهلاك الحي لو لم يقطّع وما نحن فيه ليس كذلك، ولو تنزّلنا باعتبار اشتراك الموردين في تقطيع الميت لإنقاذ الحي فإن الدليل مختص بالمورد دون موارد القطع الأخرى.

د- ويكون وجوب الدية من باب أولى فيما لو قطع أحد عضواً من الميت من دون مسوّغ شرعي وإن كان لغرض عقلائي كتعليم مهنة الطب وليس للتشفّي أو العبث ونحوهما للإطلاق الوارد في الروايات كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة مع التجريد عن خصوصية الرأس، وتصرف الدية في وجوه البر والإحسان لمصلحة الميت بحسب صحيحة(1)

الحسين بن خالد عن الإمام موسى بن جعفر.

2- قيل إن حرمة قطع الأعضاء تختص بمحقون الدم المحترم شرعاً، فلو كان الميت كافراً غير محترم شرعاً أمكن اقتطاع عضو منه وإلحاقه ببدن الحي وليس عليه دفع شيء من ثمنه وتترتب عليه أحكام البدن الجديد بالانتقال، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((يجوز قطع عضو من بدن ميت كافر أو مشكوك

الإسلام للترقيع ببدن المسلم))(2)،وفي جواب استفتاء عن التشريح،قال (قدس سره): ((وأما الكافر أو المشكوك إسلامه فلا

بأس بتشريحه مطلقاً))(3)،وقال السيد الخميني (قدس سره):

ص: 277


1- وسائل الشيعة: 29/325، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح2. وهي صحيحة السند بحسب البرقي في المحاسن دون الكتب الأربعة فإن سندها فيها ضعيف.
2- منهاج الصالحين: 1/427، مسألة (42).
3- المسائل الشرعية: 2/309، السؤال (33).

((لا يجوز تشريح الميت المسلم، فلو فعل ذلك ففي قطع رأسه وجوارحه دية، وأما غير المسلم فيجوز ذمّياً كان أو غيره ولا دية عليه ولا إثم فيه))(1).

أقول: أما الكافر الحربي فالحكم فيه واضح لعدم حرمته شرعاً، وأما الذمي فلانتهاء الذمة بموته.

ورُدَّ على هذا الإطلاق بأن لأهل الذمة حرمة فلا يجوز الاعتداء عليهم وقطع أعضائهم فضلاً عن قتلهم؛ للروايات الكثيرة الدالة على ذلك ووجوب دفع الدية على من فعل ذلك من المسلمين كموثقة سماعة قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مسلم قتل ذمياً؟ فقال: هذا شيء شديد لا يحتمله الناس فليعط أهله دية المسلم حتى ينكل عن قتل أهل السواد، وعن قتل الذمي، ثم قال: لو أن مسلماً غضب على ذمي فأراد أن يقتله ويأخذ أرضه ويؤدي إلى أهله ثمانمائة درهم -وهي دية الذمي- إذن يكثرالقتل في الذميين(2)،ومن قتل ذمياً ظلماً فإنه ليحرم على المسلم أن يقتل ذمياً حراماً ما آمن بالجزية وأداها ولم يجحدها)(3)

ومنها صحيحة بريد العجلي، قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مسلم فقأ عين نصراني فقال: إن دية عين النصراني أربعمائة درهم)(4).

بل يصل الحكم إلى استحقاق المسلم القتل إذا لم يرتدع عن قتل الذميين واعتاد عليه ففي موثقة إسماعيل بن الفضل قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن دماء المجوس واليهود والنصارى، هل عليهم وعلى من قتلهم شيء إذا غشوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم؟ قال: لا، إلا أن يكون متعوداً لقتلهم، قال: وسألته عن المسلم

ص: 278


1- تحرير الوسيلة: 2/561.
2- تصلح الرواية لجعلها مثالاً للحاجة إلى تأسيس (الفقه الاجتماعي) واستحداث البحث في (فقه المصالح والمفاسد).
3- وسائل الشيعة: 29/221، أبواب ديات النفس، باب 14، ح1.
4- وسائل الشيعة: 29/218، أبواب ديات النفس، باب 13، ح4.

هل يُقتل بأهل الذمة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: لا إلا أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر)(1).

فإذا انضم إلى هذه الصغرى إطلاق كبرى الملازمة بين حرمة الميت والحي في الروايات المتقدمة كمعتبرة الحسين بن خالد وفيها (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل قطع رأس ميت؟ فقال: إن الله حرّم منه ميتاً كل ما حرّم منه حياً)(2) كانت النتيجة حرمة القطع من الذمي الميت أيضاً.

أقول: روايات الملازمة ظاهرة في المسلم بقرينة مقدار الدية المذكور في بعضها، وتعميم الملازمة إلى غيره محل إشكال لعدم الدليل عليها، بل الدليل على خلافها لأن هذه الحرمة هي للذمة وليس لأهل الذمة فلا يكون مشمولاً بإطلاق الملازمة بين حرمة الحي والميت، لاحظ قوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ» (التوبة: 6) بعد التغليظ الذي ذكره تعالى في الآية السابقة «فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» (التوبة: 5)، مما يعني أن الواجب هو مراعاة العهود والمواثيق التي تعقد مع غير المسلمين.

وفي ضوء ما تقدم فإن حرمة قطع الأعضاء من الذمي محددة بإطار الذمة الإسلامية فقد تكون له ما دام حياً ثم ينتهي عقد الذمة وقد تكون له حتى بعد وفاته كما لو تضمن عقد الذمة مراعاة طقوسهم الدينية في الموتى من احترام وتوديع ودفن ونحو ذلك.

فجواز أخذ العضو من الذمي لا بد أن يلحظ فيه مقتضى العقد مع دولة الإسلام فقد يتضمن غير ذلك فيجب الالتزام بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ

ص: 279


1- وسائل الشيعة: 29/107، أبواب قصاص النفس، باب 47، ح1.
2- وسائل الشيعة: 29/325، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح 2.

أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» (المائدة: 1)، أما في غير

الذمي فإطلاق الجواز في محله إلا أن يكون له عقد معهم فيعمل بمقتضاه.

ويلاحظ في كل ذلك أن لا يصدق عنوان المثلة على نتيجة التقطيع سواء قصدها القاطع أو لم يقصدها لحرمة المثلة مطلقاً كما تقدم.

3- تترتب على العضو المزروع أحكام البدن الجديد المنقول إليه إذا أصبح جزءاً منه وسرت فيه الحياة فإن كان مسلماً طهر بالانتقال إليه، قال السيد الخوئي (قدس سره) في ذيل المسألة الآنفة: ((وتترتب عليه بعده أحكام بدنه، لأنه صار جزءاً له، كما أنه لا بأس في الترقيع بعضو من أعضاء بدن حيوان نجس العين كالكلب ونحوه، وتترتب عليه أحكام بدنه وتجوز الصلاة فيه باعتبار طهارته بصيرورته جزءاً من بدن الحي)).

قال بعض المعاصرين (قدس سره): ((إذا كان العضو المطلوب قطعه من الداخل -كالكلية والقلب والرئة والكبد مثلاً- جاز قطعه قبل غسل الميت وبعده، وإذا كان من الظاهر -كاليد مثلاً- فلا بد من أخذه ونزعه بعد الغسل جمعاً بين الحكمين، إلا إذا كان تأخير قطعه إلى ما بعد الغسل مفسداً لزرعه في الحي))(1).

أقول: إن كان هذا الإجراء لأجل المنقول إليه فإنه لا يفرق فيه كون العضو داخلياً أو خارجياً؛ لأن العضو الداخلي سيكون بعد القطع قطعة مبانة محكومة بالميتة فتجب أحكامها فلا فرق بين الداخلي والخارجي من هذه الناحية.

نعم بعد زرع العضو الداخلي كالكلية والكبد يكون من المحمول النجس ولا إشكال فيه من ناحية الصلاة.

أما إذا كان بلحاظ المنقول منه فقد قلنا بأن أحكام ما بعد الموت إنما تجب في ما لو لم يوجد مسوِّغ لزرع العضو المقطوع في بدنه أو بدن آخر كما في رواية(2)

ص: 280


1- الفقه ومسائل طبية: 1/157.
2- تقدمت (صفحة 232).

إعادة أمير المؤمنين (عليه السلام) يد المقطوع بالسرقة إلى صاحبها حيث لم يجر عليها الأحكام الشرعية، نعم يحسُن الاحتياط بإجراء ما تقتضيه القطعة المبانة من أحكام ثم زرعها جمعاً بين الحكمين كما أفاد (قدس سره)، وتشهد له معتبرة الحلبي ورواية عبد الله بن سنان المتقدمتان (صفحة 231)، وليس في رواية الحسين بن زرارة المتقدمة (صفحة 230) إطلاق من هذه الجهة ليدل على جواز أخذ العضو قبل الغسل.

4- الأقوى اشتراط إذن ولي الميت بالقطع منضمّاً إلى المسوّغات المتقدمة في جواز القطع لتعلق حق الولي بشؤون الميت في الجملة ولاحتمال لحوق شين اجتماعي بهم بسبب القطع ونحو ذلك، ولو منع الولي من القطع لمانع ذكره فيلحظ تقديم الأهم علىالمهم من المسوِّغ والمانع، إلا في الوصية فليس للولي المنع من إنفاذها.

أما إذن ولي الميت مستقلاً عن المسوّغات المذكورة فإنه غير مبيح للقطع، ولم يكن حال الحياة حتى يستصحب. أما ما دلّ من الروايات على جواز شق بطن المرأة الميتة لإخراج الجنين الحي فهي ناظرة إلى أمر آخر كما هو واضح.

وتسميته ولياً في النصوص الشرعية كقوله تعالى: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ» (الإسراء: 33) فإنه بلحاظ القصاص واستحقاق الدية ونحو ذلك، وكذا قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (يغسِّل الميت أولى الناس به، أو من يأمره الولي بذلك)(1) ومصححة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يصلّي على الجنازة أولى الناس بها، أو يأمر من يجب)(2)فإنها بلحاظ إجراء الأحكام المتعلقة به بعد وفاته ولا تدل على الولاية المطلقة للوارث على الميت.

ص: 281


1- وسائل الشيعة: 2/535، أبواب غسل الميت، باب 26، ح2.
2- وسائل الشيعة: 3/114، أبواب صلاة الجنازة، باب 23، ح1.

5- الميت سريرياً وهو المصاب بموت الدماغ بحكم الحي ما دام القلب والرئتان تعملان ولو بمساعدة الأجهزة بحسب ما يفهمه العرف من معنى الموت، وهو المرجع في فهم مداليل الألفاظ التي تكون موضوعات لأحكام شرعية وإن كان رأي الطب غير ذلك، وتجري عليه أحكام الحي لا الميت، أما إذا كان القلب متوقفاً ويتحرك الدم بواسطة مضخة والرئتان متوقفة ويتنفس بواسطة جهاز تنفس اصطناعي مثلاً فهو في عداد الموتى.

6- لو شك في كون المورد مما تصح الوصية به وعدمه فلا يجوز التمسّك بعمومات الوصية لتجويزه لأنه من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

ص: 282

الترقيع أو زرع الأعضاء

تحصّل من الأبحاث المتقدمة أن للإنسان سلطنة على بدنه فله أن يأذن بقطع عضو منه لكن هذه السلطنة مقيدة بحدود شرعية وعقلائية ذكرناها. وهي تحدد العضو الذي يمكن التبرع به وملابسات عملية القطع، كما له أن يوصي بالقطع بعد وفاته مع مسوِّغات أخرى للقطع من الميت.

ومهّدنا بذلك الطريق للقول بجواز ترقيع جسم الإنسان بعضو من غيره سواء كان ذلك الغير حيّاً أو ميتاً وزرعه فيه لوجود المقتضي من خلال عدة أدلّة، وعدم المانع لعدم تمامية ما ذكروه من الموانع وقد تقدمت في بداية البحث.

ولو قطع من الحي في موارد وجوب القطع كدفع الضرر ومنع سراية المرض أو إجراء الحد أو القصاص فإن حق الاختصاص بالعضو المقطوع منه ثابت له وإن لم يمكن إعادته إلى صاحبه للمنع منه شرعاً كالمقطوع بحد أو قصاص وقد تقدمت معتبرة إسحاق بن عمار وفيها أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعاد قطع أذن الجاني بعد شكوى المجني عليه، وقوله (عليه السلام) فيها: (فأمر بها فقطعت ثانية وأمر بها فدفنت)(1)

لا تدل على انحصار أمرها بالدفن وإنما أمر بذلك لعدم وجود خيار آخر بعد عدم إمكان ردها إلى موضعه، فإذا أمكن زرعها عند آخر جاز.

أو لعيب فيه بحيث لا يكون له فائدة منه أو يكون إرجاعه مضرّاً له كما لو وجب قلع عينه لعيب أو ضرر لكن القرنية أو الشبكية سليمة، وكما لو أصيب رحم المرأة ومبيضها بما يوجب قطعهما ولكن القناة التي تربط بينهما المسماة بقناة فالوب كانت سليمة فتنقل إلى امرأة تحتاجها.

وقد يلزم الولي الفقيه صاحب العضو في هذه الحالات بمنحه لمن يحتاج إليه لعدم إمكان إعادته إلى صاحبه.

ص: 283


1- وسائل الشيعة: 29/185، أبواب قصاص الطرف، باب 23، ح1.

ويجب الالتفات إلى عدم الملازمة بين جواز القطع من الميت، وجواز الزرع، فليس أخذ العضو المقطوع وزرعه في بدن آخر جائزاً في كل الموارد السابقة لجواز التشريح والقطع، فلو قطع جسد الميت لأجل التحقيق في دعوى معينة أو لاستنقاذ حق لأحد أو لمعرفة أسباب الوفاة، أو لمصلحة الميت وحفظ حرمته بحسب ما قدمناه، أو لأجل إنقاذ الجنين الحي في بطن أمه الميتة أو لأن إبقاءه مقطعاً على هذا الحال تصدق عليه المثلة وهي محرمة مطلقاً، ونحو ذلك مما ذكرنا فإنه يجب إرجاع كل جزء إلى موضعه بعد تحقق الغرض وخياطة موضع الشق ونحو ذلك لوجوب إجراء الأحكام الشرعية عليه من التغسيل والتكفين والصلاة والدفن وكل ما تقتضيه حرمة الميت.

فلا بد من مراجعة موارد جواز القطع لتمييز ما يجوز نقله منها، ومعتبرة الحسين بن زرارة التي تقدمت أول البحث غير كافية لإطلاق الجواز لأنها واردة في السن وهو مما لا تحله الحياة فتعميمه إلى كل الأعضاء محل تأمل إلا أن يتمم الاستدلالبعدم الفرق في وجوب الدفن بين ما تحله الحياة وما لا تحله للإجماع وللروايات المتقدمة في وجوب دفن الشعر والظفر المأخوذ من الميت معه.

والموارد التي يمكن القول بجواز نقل العضو المقطوع إلى الغير هي:-

1- إنقاذ حياة مسلم أو أي ملاك أهم من حرمة القطع من الميت يمكن تصوره.

2- أمر الولي الفقيه.

3- ما لو أوصى الميت.

ولو زُرع عضو مقطوع في بدن حي في غير الموارد المذكورة وأصبح جزءاً منه وحلّت الحياة فيه فلا يجب قطعه لإجراء الأحكام عليه بل لا يجوز بعد أن صار جزءاً من بدن الثاني، ولصاحب العضو أن يطلب مالاً إزاء تنازله عن حق الاختصاص به؛ لأنه يكون كالمغصوب التالف.

ص: 284

فرعان

الأول: لا إشكال في جواز زرع الأعضاء المأخوذة من الكافر الحربي بغضّ النظر عن القوانين النافذة عندهم في هذه القضية أو الطريقة التي أخذت بها منهم بلا فرق بين كون المأخوذ منه حياً أو ميتاً.

أما المعاهد والذمّي فيجوز الأخذ بإذنه كالمسلم لوجوب الالتزام بعقد الذمة، لكنه إذا مات جاز أخذ العضو منه إذا كان عقد الذمة الموجب لحرمته ينتهي بموته وحينئذٍ لا بأس بزرعه، وقد تقدم تفصيله (صفحة 278).

أما العكس أي أخذ العضو من المسلم بإذنه بناءً على الجواز وزرعه عند الكافر فقد أشكل(1)

عليه بأنه ينافي الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصدوق في الفقيه مرسلاً: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)(2)

وقد استدل به الفقهاء على عدم جواز تعلية بناء الكفار على بناء المسلمين، قال الشيخ في المبسوط: ((ليس له -أي الذمي- أن يعلو على بناء المسلمين؛ لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) ))(3).

وحكى صاحب الجواهر عن المسالك أنه موضع وفاق بين المسلمين، وعن المنتهى والتذكرة الإجماع عليه، ثم قال (قدس سره): ((وهو الحجة بعد إمكان استفادته من قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ»))(4).

أقول: قد لا يساعد فهم العرف على هذا التطبيق لذا لم يمانع الفقهاء من قيام المسلمة بإرضاع ولد الكافر الذمي. وعلى أي حال فإن هذا الدليل لا يزيد عما ذكرناه في القيد الثالث من عدم لزوم إذلال المسلم فلا يدل على الحرمة مطلقاً،

ص: 285


1- حكاه السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت، العدد 21، ص 31.
2- وسائل الشيعة: 26/14، أبواب موانع الإرث من الكفر والقتل والرق، باب 1، ح 11.
3- المبسوط: 2/46.
4- جواهر الكلام: 21/284.

وكذا يحرم لو كان في منح العضو إعانة للكافر، ولو استدلوا على عدم جواز القطع بعدم وجود المسوِّغ لنقل العضو إلى الكافر لعدم حرمته الموجبة لترقيع بدنه لكان أتمّ.

تنبيه: لا يلحق بالكافر الحربي مَن أهدر دمه من المسلمين وحكم عليه بالإعدام؛ لقصاص أو حد فضلاً عمّن مات من أهل الكبائر؛ لعدم الملازمة بين إهدار الدم وسقوط الحرمة بدليل جريان أحكام موتى المسلمين عليهم كوجوب الصلاة والدفن ففي صحيحة هشام بن الحكم (قال: قلت له: شارب الخمر والزاني والسارق يصلى عليهمإذا ماتوا؟ فقال: نعم)(1)

وخبر السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: صلوا على المرجوم من أمتي، وعلى القَتّال)(2).

الثاني: يجوز للطبيب الحاذق الماهر المأمون إجراء عملية زرع(3)

الأعضاء وإن احتمل فيها الضرر على المريض -كزراعة الكبد- ما دام الغرض من إجرائها راجحاً عند العقلاء.

وقد رخّص الشارع المقدس في التداوي والمعالجة بل أوجبها في بعض الموارد وجعل الشفاء عن طريقها، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة كصحيحة زياد بن أبي الحلال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال موسى عليه السلام: يا ربِّ من أين الداء؟ قال: مني، قال: فالشفاء؟ قال: مني، قال: فما يصنع عبادك

ص: 286


1- وسائل الشيعة: 3/133، أبواب صلاة الجنازة، باب 37، ح1
2- نفس المصدر، ح3.
3- والكلام يجري في عملية قطع الأعضاء أيضاً.

بالمعالج؟ قال: يطبّب بأنفسهم، فيومئذٍ سمّي المعالج: الطبيب)(1)

ومثلها رواية جابر قال: (قيل يا رسول الله، أنتداوى؟ قال: نعم، فتادووا فإن الله لم ينزل داءً إلا وقد أنزل له دواءً)(2).

بل إن بعض الأحاديث الشريفة تجعل تارك المعالجة والمقصّر فيها شريكاً مع الجاني كما في خبر أبان بن تغلب الذي رواه الشيخ الكليني في الروضة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان المسيح عليه السلام يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة، وذلك أن الجارح أراد فساد المجروح والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطرارا، فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا، وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوى إن رأى موضعاً لدوائه وإلا أمسك)(3).وفي مكارم الأخلاق مرسلاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن نبياً من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحى الله إليه: لا أشفيك حتى تتداوى فإن الشفاء مني)(4).

وفي بعض الروايات ما يدل على حسن ترك استعمال الدواء إذا كان المرض ممكن التحمل وليس فيه ضرر معتد به ولا يخاف من تطوره وسريانه؛ لأن الأدوية لها تأثيرات جانبية على وظائف بقية الأعضاء خصوصاً الأدوية اليوم المتخذة من مواد كيمياوية تؤثر في عمل إنزيمات الجسم وهورموناته المحسوبة بدقة عظيمة من لدن الخالق تبارك وتعالى، ففي رواية عثمان الأحول عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (ليس من دواء إلا ويهيّج داءً وليس شيء أنفع في البدن من

ص: 287


1- وسائل الشيعة: 25/221، أبواب الأطعمة المباحة، باب 134، ح1.
2- وسائل الشيعة: 25/221، أبواب الأطعمة المباحة، باب 134، ح10.
3- وسائل الشيعة: 16/128، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 2، ح5.
4- وسائل الشيعة: 2/409، أبواب الاحتضار، باب 4، ح 7.

إمساك اليد إلا عما يحتاج إليه)(1)

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (امشِ بدائك ما مشى بك).

وفي بعض الروايات ما يدل على جواز الإقدام على العملية حتى مع احتمال الوفاة إذا كان هناك ملاك أهم يقتضي المعالجة كرواية إسماعيل بن الحسن المتطبب قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني رجل من العرب، ولي بالطب بصر، وطبّي طبٌّ عربي ولست أأخذ عليه صفداً -أي عطاءً-، قال: لا بأس، قلت له: إنّا نبطّ الجرح -أي نشقّه- ونكوي بالنار، قال: لا بأس، قلت: نسقي هذه السموم الاسمحيقون والغاريقون، قال: لا بأس، قلت: إنه ربما مات، قال: وإن مات)(2).

وخبر حمدان بن إسحاق قال: (كان لي ابن، وكان تصيبه الحصاة فقيل لي: ليس له علاج إلا أن تبطَّه، فبططته فمات، فقالت الشيعة: شركت في دم ابنك، قال: فكتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر فوقَّع: يا أحمد ليس عليك في ما فعلت شيء، إنما التمست الدواء، وكان أجله في ما فعلت)(3).

وصحيحة يونس بن يعقوب في روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) (الرجل يشرب الدواء، ويقطع العرق، وربما انتفع به وربما قتله، قال: يشرب ويقطع)(4)،ومثلها عدة روايات في هذا الباب.

ولما كان دليل المسألة بناء العقلاء فهم الذين يحددون تحقق الرجحان من عدمه، فقد يتوقفون عن إجرائها عندما يشعرون بأن الخطر المحتمل أقوى من النتيجة المرجوة منها، وقد يقدمون عليها رغم المخاطر لأهميتها.

ص: 288


1- والذي بعده تجدهما في وسائل الشيعة: 2/408، أبواب الاحتضار، باب 4، ح1، 8.
2- وسائل الشيعة: 25/222، أبواب الأطعمة المباحة، باب 134، ح2.
3- وسائل الشيعة:21/496، أبواب أحكام الأولاد، باب 97، ح1.
4- وسائل الشيعة: 25/222، أبواب الأطعمة المباحة، باب 134، ح3.

وهل يضمن الطبيب إذا حصل تلف جزئي أو كلي في أحد الأعضاء أو مات المريض خلال المعالجة أو العملية الجراحية؟

وهذا ما سنفرد له في نهاية الكتاب بحثاً مستقلاً لأهميته إن شاء الله تعالى.

ص: 289

زرع الأعضاء التناسلية

تحصّل مما تقدم جواز أخذ عضو من جسم الإنسان ضمن الحدود المذكورة وعدم المانع من زرعه في جسم إنسان آخر، وهو شامل للأعضاء التناسلية كالرحم وقناة فالوب عند الأنثى والذكر والقنوات المنوية عند الرجل.

وقد استثنى بعض الفقهاء من الجواز خصوص نقل المبيض والخصية لبقاء انتساب هذين العضوين إلى المنقول منه فيكون هو طرف عملية التلقيح الصناعي لا المنقول إليه، وإن الحيامن والبويضات المتكونة منهما هي لصاحب الخصية وصاحبة البويضة الأوليين، ولو تنزّلنا وقلنا بانتسابهما عرفاً إلى المنقول إليه فإن الصفات الوراثية التي يحملها الحيمن والبويضة هما للأول لا الثاني فالولد ينتسب للأول.

فالإشكال هنا له ثلاث مراتب فلو أجبنا من الأول يبقى الثاني وهكذا، وهي:-

1- انتساب نفس العضو -أي الخصية والمبيض- إلى صاحبه الأول.

2- انتساب ما يتولد من العضو أي الحيامن والبويضات إلى الأول وإن قلنا بنسبة العضو إلى المنقول إليه.

3- حمل الجنين للصفات الوراثية عند الأول فينسب إليه حتى لو قلنا بانتقال النسبة في الأمرين السابقين.

فلا تكفي الإجابة عن بعضها دون بعض وسنذكرها معاً منعاً لتكرار الكلام.

وتفصيل الكلام يكون في جهتين:

(الأولى) المبيض فقد عُرِف طبياً أن مبيض المرأة يحتوي على البويضات قبل بلوغ المرأة وأن البويضات الابتدائية موجودة فيه منذ الولادة بل قبلها(1) فإذا بلغت

ص: 290


1- أفاد علماء الأجنة بأن المبيض يبدأ تكوينه في الجنين الأنثى خلال الأسبوع الثامن إلى الثاني عشر من عمره، ويصل عدد البيوض في المبيضين عند الولادة إلى مليون بيضة أو مليونين وتتناقص لتصل إلى حوالي 400 ألف عند البلوغ ثم يبلغ عدد البيوض الناضجة القابلة للإخصاب 400 بيضة، ويعود سبب هذا النقصان إلى تأثير هورمونات التناسل ومنح الخصائص الأنثوية خلال مراحل النضج المتعددة التي تمر بها البيضة من حين خليتها الأولى حتى مرحلة نضجها واستعدادها للتلقيح. (موسوعة ويكيبيديا ومواقع طبية إلكترونية أخرى)

الأنثى تبدأ بويضاتها بالنمو والنضوج بعد أن كانت في سبات وتنزل بيضة واحدة كاملة النضج وجاهزة للتلقيح شهرياً منه فإن لُقِّحت بالحيمن تكوَّنَ منها جنين بإذن الله تعالى، وإن لم تجد خرجت مع أغشية بطانة الرحم إلى الخارج في ما يُعرف بالدورة الشهرية.

فحينما ينقل مبيض امرأة إلى امرأة أخرى فإنه ينقل بما فيه من البيوض وهي تبقى بيوض المرأة الأولى وتحمل صفاتها الوراثية وإذا لقّحها الزوج فإن التلقيح يجري مع بيوض المرأة المانحة وليس الزوجة المستقبلة، وتلحظ هذه الأمور في نسب الجنين.ومن الواضح أن الإشكال لا يرد على من يقول بأن الأم هي من تحمل بالجنين وتضعه وليست صاحبة البويضة كالسيد الخوئي (قدس سره) إذ لا يفرّق عنده نسبة البويضة إلى المرأة المانحة أو المستقبلة.

وإنما تحصل المشكلة على ما اخترناه من أن الأم هي صاحبة البويضة فإذا قلنا بأن البويضات تبقى منتسبة إلى المرأة المانحة للمبيض فتكون هي الأم لذا لا بد من التحقق من جزئية المبيض من المرأة المستقبلة، وقد تقدّم أن أهل الاختصاص يرون أنها بويضات المرأة المانحة.

وجوابه:-

1- إن المرجع في فهم مداليل الألفاظ هو العرف فحينما نقول بأن الولد لصاحبة البويضة فإننا نرجع إلى العرف ليحدّد من هي صاحبة البيضة: المانحة أم المستقبلة، ونستطيع القول أن العرف يعُدّ المبيض -بعد أن يزرع في المرأة

ص: 291

الأخرى وتمتد إليه شرايينها وأوردتها ويكتسب حياته منها- جزءاً منها عرفاً كبقية أجزاء البدن وتسري إليه عروقه وتغذيه بما يحتاج فكل ما ينتج منه -وهي البويضات- تنسب إلى المرأة المستقبلة ويصبح بمثابة المبيض الأصلي لها؛ لذا لو وقعت جناية على هذا المبيض فإن الدية تعطى لهذه المرأة وليس للمانحة، ولو قال أهل الطب خلاف ذلك فإنه لا يغيّر شيئاً كالذي قلناه في الموت السريري أو الدماغي فإن أهل الطب وإن اعتبروه موتاً إلا أن العرف لا يرى ذلك إلا إذا توقف القلب والرئتان وعندئذٍ تجري الأحكام الشرعية كالميراث ولزوم العدة وتنفيذ الوصية ونحو ذلك.

إن قلتَ: إن حكم العرف هذا ناشئ من الغفلة عن هذه الحقيقة العلمية فلو ألفت نظره إليها كما بُيِّن في الإشكال فإنه يحكم بأن البيوض للمرأة المانحة وإن حكم بأن المبيض للمرأة المستقبلة وأن هذه الغفلة من العرف موجودة وقد تدخل الشارع المقدس لتصحيحها في موارد كثيرة كقولهم: «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا» (البقرة:275) وكالذي أشار إليه الإمام الرضا (عليه السلام) في تعريف الفقاع: (خمرة استصغرها الناس)(1).

وأما الشاهد المذكور وهو استحقاق المستقبلة للدية لو وقعت جناية على المبيض بعد نقله فإنه لا ينفع المستدل لأن هذا الاستحقاق إما من جهة تنازل المرأة المانحة عن حقها فيه مجاناً أو بعوض وإما لأن الضرر وقع على المستقبلة والدية غرامة على إيقاع الضرر كما نطقت به الروايات ونحو ذلك.

قلتُ: نسلِّم الكبرى أي غفلة العرف أحياناً لكننا نعتقد أن المورد ليس صغرى لها فإن العرف يحكم بعائدية المبيض والبيوض للمرأة المستقبلة لأن الحياة إنما دبّت فيه في جسم هذه المرأة وامتدت إليه شرايينها وأوردتها ومنها يتغذى ولو ترك المبيض والبيوض من دون زراعتها فإنها تموت.

ص: 292


1- وسائل الشيعة: 25/365، أبواب الأطعمة والأشربة، باب 28، ح1.

هذا مع ملاحظة ما يأتي من الأجوبة إن شاء الله تعالى.

2- ولو تنزلنا فإن أصل البويضات أو ما يعرف بالبويضات الابتدائية وإن كانت موجودة في مبيض المرأة منذ ولادتها، إلا أنها تتعرض لعمليات عديدة من الانقسام والنضج قبل أن تكون مؤهلة للتلقيح ونزولها لاستقبال الحيمن بحيث تتحول إلى شيء آخر غير البويضة الأولى وإن كانت حاملة لنفس الشفرة الوراثية، وهذه العمليات كلها تجري داخل بدن المرأة المستقبلة فيصحّ نسبة البويضات إليها لاكتمال نموها وتحولها إلى بيضة جاهزة للتخصيب عندها.

وهذا التأثّر بعمليات المرأة المستقبلة موجود حتى في البيوض بعد نضجها بل إن الروايات تدل على وجوده في فترة الحمل أيضاً وهو لا يختص بالتغيرات السيكولوجية فقط وإنما يعمّ الفسيولوجية بحيث تؤثر في صباحة الوجه(1)

على ما في بعض الروايات أي أنها كالتغير في الجينات الوراثية.

3- ولو تنزّلنا عما تقدّم على مستوى تنقيح الموضوع فنستطيع القول أن إجراء التلقيح بين مني الرجل وبويضة امرأة أجنبية لو قلنا بحرمته فإن العرف لا يرى ما نحن فيه مورداً لذلك فلا تشملها أدلة الحرمة إن وجدت.

وفي ضوء ما تقدم فإن حمل البويضات للصفات الوراثية للمرأة المانحة لا يغيّر في الانتساب لما ذكرناه من أن المعيار هو فهم العرف، فلو تمكن أهل الاختصاص من اكتشاف علاج يغيّر الجينات الوراثية، أو إجراء عمليات تؤدي إلى هذه النتيجة كالذي قيل في زرع الخلايا الجذعية، أو تمكنوا من انتزاع الجينات الوراثية من حيمن الزوج أو بويضة الزوجة وزرع جينات وراثية من غيرهما بدلاً عنهما وحصل ولد لهما فإن العرف يرى أن الولد ابنهما وليس لمن أخذت منه الجينات المزروعة بغضّ النظر عن قول أهل الاختصاص في ذلك.

ص: 293


1- وسائل الشيعة: 21/402، أبواب أحكام الأولاد، باب 32 (استحباب أكل الحامل السفرجل، وكذا الأب حين الحمل)، ح1، 2.

ونقل بعض الفقهاء (قدس سره) أن من جملة قرارات ((مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السادس تحت الرقم 8 بهذه العبارة: "بما أن الخصية والمبيض يستمرّان في حمل وإفراز الصفات الوراثية (الشفرة الوراثية) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلقٍّ جديد فإن زرعهما محرم شرعاً"))، ثم ردّ عليه بقوله: ((فإنه مضافاً إلى عدم الدليل على حرمة حمل الصفات الوراثية التي للغير كما عرفت، يقال عليه: إنه لو كان استعمال بعض الأدوية أو الأغذية موجباً لحدوث مثل هذه الصفات وانقلاب الإنسان المستعمل لها عمّا كانت عليها من الصفات فهل يكون استعماله لها محرّماً شرعاً؟!))(1).

وينبغي الالتفات إلى أمرين:-

1- لا يرد هنا محذور اختلاط الأنساب الذي ذكره بعضهم لأنه إنما يتحقق بإلقاء ماء الرجل الأجنبي في رحم الأجنبية من دون استبراء لاختلاط المياه كما تشهد له أخبار العدة المتقدمة، والمفروض هنا إلقاء الزوج ماءه في رحم زوجته. ولمعلومية صاحبة البويضة حتى لو قلنا بأن المبيض يبقى تابعاً لصاحبته الأولى غاية الأمر أن التلقيح سيكون بين الزوج وبويضة امرأة أجنبية في رحم الزوجة وهي الصورة العاشرة المتقدمة في القسم الأول.

2- إن المرأة الأولى وإن منحت المبيض ولم يعد منسوباً إليها إلا أن كون البيوض خلقت عندها وتحمل الشفرة الوراثية لها فلا يصح تجريدها عن كل علقة بالمتولد من تلك البيوض فيترتب عليها أثر واحد على الأقل وهو حرمة التناكح بينهما كالأم الرضاعية لبعض الوجوه التي ذكرناها في الرحم المستأجرة (صفحة 126) وهو أوفق بالاحتياط.

(الثانية) الخصية باعتبار أن الخلايا الجرثومية الابتدائية التي تتكون منها

ص: 294


1- كلمات سديدة، مصدر سابق: 170.

الحيامن موجودة فيها(1)

وعند نقلها إلى رجل آخر فإنها تنتقل بما تتضمنه من هذه الأصول الأولية فالحيامن المنتجة منها هي حيامن الرجل المانح، وبويضات الزوجة إنما تتلقح بحيامن الرجل الأجنبي فيأتي في العملية ما تقدم من وجوه الحرمة.

وجوابه نفس ما قلناه في عملية نقل المبيض فإن العرف يرى أن الحيامن هي للرجل الثاني وهو المعيار في الحكم على الأشياء.

ولو تنزّلنا، فإن عمليات تحوّل عديدة تجري على تلك الخلايا قبل تحولها إلى حيامن صالحة للتلقيح فهي شيء جديد تكوّن في جسم الرجل المستقبل غير ما كانت موجودة عند السابق؛ لذا يصح أن تنسب إلى الرجل الثاني.

ولو أردنا أن نمضي مع هذا الإشكال فإن على الرجل المستقبل أن يستأذن المانح في كل مرة يريد قذف المني فيها لأن المني له وإذا ألقى المني من دون إذنه فعليه الدية عشرة دنانير بمقتضى الرواية(2)

الصحيحة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في مَن أفزع آخر فألقى منيه خارجاً، وهذه النتائج كما ترى.

تنبيه: أشكل بعض الفقهاء في زرع الذكر أيضاً لأنه سيبقى ذكر المنقول منه فيحرُم النظر إليه والجماع به، وقد اتضح جوابه مما تقدم بل إن صيرورته جزءاً من المنقول إليه هنا أوضح.

ص: 295


1- قال علماء الأجنة: إن الخصيتين تتكونان لدى الجنين في الأسبوع السادس من الحمل وتقومان بإفراز هورمونات الرجولة اللازمة لتكوين باقي أعضاء الجهاز التناسلي للذكر.
2- وسائل الشيعة: 29/312، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح1.
هل يجوز أخذ المال إزاء العضو الممنوح

يمكن تصور عدة أنحاء لأخذ المال:

الأول: أخذ المال مقابل موافقة صاحب العضو المقطوع على إجراء العملية والقيام ببعض مقدماتها كالذهاب إلى المستشفى وهذا جائز بلا خلاف، ومن الفقهاء من حدَّد جواز أخذ المال بهذا النحو كالسيد الخوئي (قدس سره) في كلامه الآتي (صفحة 297).

الثاني: أخذ المال بإزاء إسقاط حقه في العضو واختصاصه به وإنهاء سلطنته على التصرف فيه بعد قطعه، وقد اتفقوا على جوازه أيضاً.

وقد تقدّم الإشكال على مثله لاحتمال أن هذا الحق وهذه السلطنة تسقط تلقائياً عند القطع لانتهاء أمد التخويل وانتفاء موضوعه لأن الله تعالى استخلفه على بدنه وخوّله التصرف فيه ما دام حياً وما دام العضو في بدنه فإذا قطع فإنه يعود إلى مالكه الحقيقي.

ويمكن دفع الإشكال بتقريبين:-

أ- إن الاستخلاف قابل للتمديد إلى ما بعد الموت إذا أراد الشخص ذلك كما في الوصية فلو أوصى خرج ما أوصى به مما يقتضيه انتهاء الاستخلاف من توزيع المال على الورثة، وكتدبير العبد الذي يقول له مولاه أنت حرّ دبر وفاتي فينال حريته بوفاة مالكه فهو تصرف في ما بعد الموت وانتهاء الاستخلاف.

ب- ولو انتهى الاستخلاف فإن جريان أحكام ما بعده كدفن أعضاء الميت منصرف عن حالة إمكان انتفاع أحد آخر به، أما مع إمكان الانتفاع فلا تجري تلك الأحكام ويجوز نقل العضو إلى الغير للانتفاع به فالدليل على وجوب

ص: 296

إجراء أحكام الميت ليس مطلقاً وهو منصرف عن مثل المورد، ونقل هذا الحق إلى الغير مختص به لزوال المانع عنه.

الثالث: أخذ المال بإزاء بيع العضو وأخذه عوضاً عنه، ودخول المورد في عمومات «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا» (البقرة: 275) و «إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ» (النساء:29) وقد منعه جمع كالسيد الخوئي (قدس سره) فقد سئل عن شراء بعض أعضاء الإنسان كالقرنية من البنوك في الدول الأجنبية إن كان محتاجاً إليها، فأجاب (قدس سره): ((نعم يجوز إن كانت تنفع المشتري أن يقتني بغير عنوان البيع فيدفع ثمناً لأخذها ولا يقصد الشراء به))(1).وقد اختلفوا في جوازه حيث أشكلوا من عدة جهات:

أولاها: أن الإنسان الحر ليس مالاً لذا لا يجوز بيعه وهبته ولا تصح معاوضته بأي نحو كان، فأعضاؤه كذلك، ويشترط في المبيع أن يكون مالاً.

وفيه: إن عدم كون الإنسان مالاً بلحاظ حريته وكرامته لا ينفي كون أجزائه المقطوعة مالاً لعدم الملازمة بينهما شرعاً وعرفاً بعد اقتطاعها منه وانتفاء جزئيتها والحرية والكرامة راجعتان إلى مجموعه المتكون من روحه وبدنه ولم يثبت أن بيع جزئه المقطوع منافٍ لكرامته، والعقلاء يرون أن عضو الإنسان المقطوع مالٌ أو أنه يقوَّم بالمالية لما فيه من انتفاع وسد حاجة، وما رواه العياشي عن محمد بن مسلم، عن أحدهما قال: في كفارة اليمين: (وصوم ثلاثة أيام إن شئت أن تصوم، إنما الصوم من جسدك ليس من مالك ولا غيره)(2)

ناظر إلى معنى آخر أي أن الصوم فعل بدني وليس مالياً.

ولا نحتاج أن نستدل على ماليته بفرض الدية في الجناية عليه؛ لأن الدية

ص: 297


1- المسائل الشرعية: 5/315، السؤال (63).
2- تفسير العياشي: 1/337.

غرامة مالية -كما صرّحت به الروايات التي ذكرناها في (صفحة 277)- لفوات منفعة العضو وليست قيمة العضو ولذا كان الحكم الأولي في الجناية هو القصاص.

ولو تنزّلنا فإنه لا يشترط في المبيع أن يكون مالاً والشرط أن يصحّ بذل المال بإزائه بأن ينتج من عملية البيع حصول المشتري على ما ينتفع به منفعة محللة مقصودة عند العقلاء وتخرج المعاملة عن كونها سفهية وهي متحققة في المقام، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا يعتبر في البيع أن يكون العوضان مالاً أي مما يرغب فيه العقلاء، بل لو اشترى شيئاً لغرض شخصه وإن لم يرغب فيه العقلاء كان بيعاً صحيحاً، كما إذا اشتاق إلى خط جدّه وكان ذلك عند أحد معدوداً من الزبالات واشتراه منه بثمن كذا))(1).

ثانيتها: ما دلّ على أنه لا بيع إلا في ملك والإنسان لا يملك أعضاءه فبيعها باطل.

أما الكبرى فقد قيل أنه حديث نبوي مشهور لكن بعض المتتبعين أفاد بأنه مضمون عدة روايات في مصادر العامة ترجع إلى رواية واحدة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومنها ما رواه البيهقي في سننه بالإسناد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ليس على الرجل طلاق في ما لا يملك، ولا بيع في ما لا يملك، ولا عتق في ما لا يملك)(2).أقول: فالرواية غير تامة سنداً، ومن الوضوح بمكان -خصوصاً مع ملاحظة قوله (عليه السلام): (ليس على الرجل) النافية للعهدة والالتزام- : أن الرواية أجنبية عن المراد في المقام إذ أنها ظاهرة في عدم نفوذ هذه المعاملات وإلزامها قبل أن يكون أمرها بيد المتعاقد ليستطيع نقلها إلى الطرف الآخر وإلا فإنه سيكون أجنبياً عن العقد كالفضولي، وقلنا: ((أمرها)) أي أمر هذه المعاملات المذكورة كالطلاق والبيع

ص: 298


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 36/18.
2- سنن البيهقي: 7/318، كتاب الخلع والطلاق.

لأن القضية أوسع من ملكية العين المبحوث عنها بقرينة دخول الطلاق في المعاملات المذكورة والرجل لا يملك زوجته كما تملك الأموال.

والروايات التي نهت عن بيع الشيء قبل ملكه أرادت هذا المعنى أي النهي عن بيع الشيء قبل أن يكون أمر المبيع بيده وتحت سلطته واختياره ليتمكن من تسليط المشتري عليه كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتغ لي متاعاً لعلي أشتريه منك بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله، قال عليه السلام: ليس به بأس إنما يشتريه منه بعد ما يملكه)(1)

وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل أمر رجلاً يشتري له متاعاً فيشتريه منه، قال عليه السلام: لا بأس بذلك إنما البيع بعد ما يشتريه)(2).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العينة فقلت: يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع واربح فيه كذا وكذا فأراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به. ثم أنطلق فأشتري المتاع من أجله لولا مكانه لم أرده، ثم آتيه به فأبيعه، فقال: ما أرى بهذا بأساً لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إياه كان من مالك، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعدما تأتيه، وإن شاء ردّه فلست أرى به بأساً)(3).

ورواية جعفر بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فلعله لغيره فمن أين جاز لك

ص: 299


1- وسائل الشيعة: 18/51، أبواب أحكام العقود، باب 8، ح8.
2- المصدر السابق، ح6.
3- المصدر السابق، ح9.

أن تشتريه ويصير ملكا لك؟ ثم تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق)(1).فليس في هذه الروايات دلالة على أزيد مما ذكرناه من كون أمر البيع والمعاملات الأخرى بيده، وقد تقدم (صفحة 248) بيان لهذا الأمر.

فالمصحح للبيع القدرة على التمليك وتسليط المشتري على العين، ولا حاجة لاشتراط أزيد من ذلك أي ملكية العين كملكيته لأمواله، وهذا واضح من تعريفهم البيع بأنه مبادلة مال بمال، وبه عرّف جملة من الأعلام كقول الشيخ النائيني (قدس سره): ((هو تبديل عين بعوض))(2)

وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((والملاك في صدق البيع عنوان المعاوضة))(3)

وعبارة المحقق الإيرواني أوضح في ما نريد، قال (قدس سره): ((تبديل متعلق سلطان بمتعلق سلطان))(4).

فلا دليل إذن على صحة الكبرى وهي اشتراط كون المبيع مملوكاً، بل الدليل على خلافها للنقض ببيع الأوقاف العامة في موارد الرخصة والأعيان الزكوية والمدفوعة خمساً وكلها لا مالك لها، وكذا بيع الفضولي فإنهم لم يبطلوه لعدم الملكية وإنما لعدم إذن المالك فإذا أجازه صحّ وإجازته لا تملّك البائع الفضولي وإنما تجعل له سلطنة على تمليك المشتري.

واضاف السيد الخميني (قدس سره) ((بيع الكلي في الذمة مع عدم مالكية الشخص له، إذ لا يعتبر العقلاء مالكية الإنسان لما في ذمته، ولا يعدُّ مالاً له، لكن لما

ص: 300


1- وسائل الشيعة: 27/292، كتاب القضاء: أبواب آداب القاضي، باب 25، ح2.
2- حاشية المكاسب: 1/38. (ضمن محصل المطالب)
3- مصباح الفقاهة: 1/67.
4- حاشية المكاسب، مصدر سابق: 1/37.

كان للذمم اعتبار على حسب اختلافها فيه، يكون لصاحبها سلطنة على تمليك كلي فيها حسب مقدار الاعتبار العقلائي، فيكون ذلك تمليك مال، لا تمليك مالٍ مملوك))(1).

وقال بعض الأعلام (قدس سره): ((ليس قوام البيع الذي هو تمليك مال بعوض إلا بأن يكون اختيار المبيع بيد البايع. كما يظهر ذلك لمن تدبّر أمر الزكاة فإن الظاهر أن الزكاة زكاة لا غير، فهي مال وليست ملكاً لأحد، والموارد الثمانية المذكورة في الكتاب العزيز إنما هي مصارف معيّنة لها شرعاً، لا أنّها أو بعضاً منها مالكة لها، ومع ذلك فلا ينبغي الشك في أنه إذا باع وليّ الأمر الزكاة التي أخذها -بما أنه ولي أمر المسلمين- فالبيع بيع حقيقة، بل وصحيح عرفاً وشرعاً))(2).

أقول: هذا تنظير لطيف في المقام، لكن بعض العلماء حاول توجيه المورد بما لا ينافياشتراط الملكية الاعتبارية في المبيع فقال: ((إنّ القول باشتراط الملكية الاعتبارية في المبيع لا يلزم منه القول ببطلان بيع ولي الأمر لما أخذه زكاةً وخمساً، بعد إمكان القول بتملّك عنوان الفقراء للزكاة وعنوان السادة للخمس، وهكذا فإنّ الجهات العامّة التي عبّر عنها بالمصرف في الزكاة أو الخمس تصلح للمالكيّة، ومع إمكان المالكية بالنسبة إلى الجهات العامّة لا ملازمة بين اشتراط الملكية الاعتبارية والقول ببطلان بيع ولي الأمر؛ إذ للولي ولاية على الجهات العامّة، فله بيعها بعد تحقّق شرط صحّته من المملوكية والملكية الاعتبارية))(3).

أقول: هذه المحاولة غير تامة لأن هذه العناوين لا تملك الزكاة وإنما هي مصرف لها ولو قلنا بملكيتها فإنها ليست على نحو الملكية الاعتبارية التي اشترطها في المبيع وإن سلطنة الإنسان على أعضائه أقوى من هذه الملكية المفترضة.

ص: 301


1- كتاب البيع: 1/19، من الموسوعة الكاملة.
2- كلمات سديدة: 178.
3- السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 21، ص 47.

وأما الصغرى فقد تقدم في المطلب الأول أن الإنسان يملك أمر أعضائه والتصرف فيها بحيث يستطيع تمكين المشتري من العين وتسليطه على التصرف فيها.

والنتيجة عدم صحة الإشكال على بيع الأعضاء من هذه الناحية.

ثالثها: إن العضو المقطوع ميتة لا يجوز بيعها

ويستدل على الصغرى بوجوه مرّ تفصيلها في بحث سابق(1)

نذكر منها:-

1- رواية أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسّه إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسّه الغسل، فإن لم يكن به عظم فلا غسل عليه)(2)،ففي الرواية تصريح بأن القطعة المبانة ميتة.

وفيه: إن الرواية ضعيفة السند بالإرسال، والشهرة لا تجبرها، نعم قلنا في بعض المطالب السابقة أن نسبة المرسل عنه إلى أصحابنا لا تخلو من توثيق للراوي عرفاً ولا يلقي هذا الوصف جزافاً مثل أيوب بن نوح الذي قال عنه النجاشي: ((كان وكيلاً لأبي الحسن وأبي محمد عليهما السلام، عظيم المنزلة عندهما مأموناً، وكان شديد الورع، كثير العبادة، ثقة في رواياته))(3) وكانت عدة ظروف يومئذٍ تقتضي إخفاء بعض الأسماء.

نعم يمكن أن يقال أن الفقرة الأولى من الرواية لو كانت مستقلة لأمكن التمسك بإطلاقها لكل أحكام الميتة لكن سوقها كمقدمة للحكم اللاحق يجعلنا نحتمل أن إضافةوصف الميتة إلى القطعة المبانة هي بلحاظ وجوب الغسل بمسّها لا مطلقاً كما يشهد تفريع الحكم على هذا التنزيل، مضافاً إلى التفصيل الوارد فيها

ص: 302


1- فقه الخلاف: 6/219، (مسألة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة)، الطبعة الأولى.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 2، ح1.
3- رجال النجاشي: 102، رقم الترجمة (254).

بين ذات العظم وغيرها ولو كانت القطعة المبانة ميتة مطلقاً لما صحّ التفصيل، وعلى أي حال فلا تصلح الرواية للاستدلال في المقام.

2- الروايات الواردة في كون القطعة المبانة من الحيوان ميتة فيستدل بها أو يُستأنس بها على ((تنزيل القطعة المبانة منزلة الميتة المقتضي لجريان أحكامها عليها))(1)

كخبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (في إليات الضأن تقطع وهي أحياء: إنها ميتة)(2)،وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلاً فذروه فإنه ميت) وموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئاً فهو ميت ((ميتة)) )(3).

أقول: يأتي هنا الاحتمال الذي أوردناه في الوجه السابق، وأن وصف هذه الروايات التي وصفت قطعة الحيوان بالميتة ليس مطلقاً، وإنما بلحاظ ترتب الأثر الذي أريد من الخطاب –كالنجاسة وحرمة الأكل-، أي أنها بيّنت الحكم المناسب للمورد بلسان ذكر الموضوع وهو عنوان الميتة بقرينة قوله (عليه السلام): (فذروه) أي ذروا أكله ولبسه مثلاً لا مطلقاً إذ لا قائل بوجوب رمي الميتة.

وبناءً على ذلك: لا يجوز التمسك بإطلاقها لإثبات التعميم لكل الآثار.

ولو تنزلنا وقبلنا بإطلاق عنوان الميتة على القطعة المنفصلة من الحيوان، فإنه لا يصح الاستدلال به على كون القطعة المبانة من الإنسان ميتة؛ لأنه ثبت بالاستقراء أن هذا العنوان يراد به ميتة غير الإنسان، أما ميتة الإنسان فيسمى (ميت). بحيث تحول هذا إلى ارتكاز وظهور في مقام التخاطب، كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (في رجل مسَّ ميتة أعليه غسل؟ قال: لا، إنما ذلك

ص: 303


1- جواهر الكلام: 5/341.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 62، ح1.
3- وسائل الشيعة: 23/376، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 24، ح1.

من الإنسان)(1)،فكان لفظ (الميتة) في كلام السائل متعين أو ظاهر في ميتة غير الإنسان.

نعم ورد التعبير بلفظ الميتة في رواية أيوب بن نوح على القطعة المبانة من الإنسان فتحمل على الظاهر أعلاه ولا يجب الغسل بمسّها لولا بقية الرواية التي أوجبت الغسل، وهذا عود إلى الاستدلال برواية ابن نوح وليست دليلاً مستقلاً كما هو مفروض هذا الوجه.هذا ولكن يمكن دعوى صدق عنوان الميت عليها ولو بالتعبد الشرعي بكاشفية جريان أحكامه عليها ولذا استدل صاحب الجواهر (قدس سره) ((بفحوى وجوب جريان أحكام الميت عليها بناءً عليه من التغسيل والتكفين ونحوهما))(2).

إذن فالصغرى غير بعيدة.

أما الكبرى -أي حرمة بيع الميتة- فلوجوه نذكرها باختصار:-

1- الإجماع، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((حرمة بيعها وشرائها والتكسب بها إجماعي))(3) ويرد عليه أنه مدركي مستند إلى أحد الوجوه التالية.

2- إنها لا مالية لها لحرمة الانتفاع بالميتة فبذل المال بإزائها فعل سفهي وأكل للمال بالباطل.

ويرد عليه ما تقدم (صفحة 234) من جواز الانتفاع بالميتة، وتقدم (صفحة 298) عدم اشتراط المالية في العوضين، والمطلوب أن تكون المعاملة عقلائية غير سفهية وذلك بوجود غرض عقلائي في المعاملة وهو الذي يقوِّم المالية عند المتعاقد وإن لم يكن كذلك لدى النوع.

ص: 304


1- المصدر نفس الموضع.
2- جواهر الكلام: 5/340.
3- مستند الشيعة: 14/78.

3- الروايات، كموثقة أبي نصر البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في الأليات المقطوعة من الغنم وهي أحياء (نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها)(1).

ورواية السكوني (السحت ثمن الميتة)(2)

ومثلها مرسلة الصدوق والجعفريات في نفس الباب، وما ورد في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام).

أقول: الاستدلال بها لا يخلو من نقاش في السند أو الدلالة، أما الأولى فلأن حرمة البيع من جهة حرمة الأكل لا مطلقاً فلو أعلم المشتري بعدم التذكية وأنها تستعمل في ما لا يشترط فيه التذكية كاتخاذ جلود الميتة غمداً للسيف فلا بأس كما في رواية أبي القاسم الصيقل وولده المتقدمة (صفحة 234)(3).

وأما الثانية فلضعف السند تارة بالنوفلي في طريق الكافي، وبموسى بن عمر عند الصدوق المشترك بين الثقة وهو ابن بزيغ مولى المنصور والمجهول وهو ابن يزيد بن ذبيان الصيقل والظاهر كونه الثاني وهو لم يوثق، مضافاً إلى عدم تمامية الإطلاق فيها لتشمل ميتة الإنسان لأنها واردة في بيان معنى السحت وذكر مصاديق لهحيث أوردها علي بن إبراهيم في تفسيره لقوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» (المائدة: 63)، فيكفي فيها الصدق في الجملة.

وفي مقابلها توجد روايات مجوّزة كرواية أبي القاسم الصيقل أعلاه، وقد تقدم بعضها (صفحة 235) كرواية أبي بصير التي تحكي فعل الإمام السجاد (عليه السلام) فإنه كان يرسل إلى العراق من يشتري له الفرو المتخذ من جلود الميتة.

ص: 305


1- وسائل الشيعة: 17/98، أبواب ما يكتسب به، باب6، ح6، و 17/93، باب 5، ح5.
2- وسائل الشيعة: 17/93، أبواب ما يكتسب به، باب5، ح5.
3- وسائل الشيعة: 17/173، أبواب ما يكتسب به، باب 38، ح4.

مضافاً إلى الروايات الدالة على جواز الانتفاع بالميتة المتقدمة (صفحة 234) كرواية زرارة قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء؟ قال: لا بأس)(1) أي يسقي الزرع والحيوانات بعد ضم الملازمة بين جواز الانتفاع والبيع.

ووجه هذه الملازمة أن الشيء إذا كانت له منفعة محللة مقصودة من العقلاء فإن بذل المال إزاءها سيكون عقلائياً وليس سفهياً حتى يدخل في عموم «وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ» (البقرة: 188) فتصح المعاملة عليه، وقد أرسل الفقهاء هذه الملازمة في كلماتهم كالمسلّمات قال في الخلاف: ((إن النبي (صلى الله عليه وآله) أذن في الاستصباح بالزيت النجس وهذا يدل على جواز بيعه))(2)

وقال العلامة (قدس سره) في المنتهى: ((يجوز إجارة الكلب، وهو قول الشافعية، وقال بعضهم: لا يجوز، لنا أنها منفعة مباحة فجازت المعاوضة عنها))(3)

وقال في التذكرة: ((إن سوّغنا بيع كلب الصيد، صحّ بيع كلب الماشية والزرع والحائط؛ لأن المقتضي -وهو النفع- حاصل))(4)

وقال (قدس سره): ((يجوز بيع كل ما فيه منفعة، والمنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها))(5) وغير ذلك كثير.

ولو تنزّلنا فيقع التعارض بين الروايات فإما أن تطرح المانعة لموافقتها للعامة كما ذهب إليه السيد الخوئي (قدس سره) أو تحمل ((على صورة البيع ليعامل معها

ص: 306


1- وسائل الشيعة: 1/175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب 14، ح16.
2- الخلاف: 3/187.
3- منتهى المطلب: 15/357.
4- تذكرة الفقهاء: 15/27.
5- تذكرة الفقهاء: 10/33.

معاملة المذكّى إذا بيعت بغير إعلام))(1) أو تحمل المانعة على الكراهة كما يظهر من روايةعلي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال: لا، لو لبسها فلا يصلّي فيها)(2)

فإن فرض لبس المحرم بعيد مضافاً إلى إشعار لفظ لا يصلح بذلك، أو على عدم إعلام المشتري فيقع في محذور استعمالها في ما يشترط فيه الطهارة.

وإذا استقر التعارض فتتساقط ونرجع إلى الأصول المبيحة.

ويلاحظ هنا أن السيد الخوئي (قدس سره) انتهى إلى نتيجة جواز بيع الميتة في تقريرات بحثه(3)

لكنه حرّم المعاملة عليها في رسالته العملية ولا يصعب إيجاد وجه للجمع في ضوء ما ذكرناه في البحث.

رابعها: إن الأعضاء المبانة نجسة وقد ثبت بالاستقراء حرمة بيع النجاسات كالخمر والكلب والخنزير والعذرة، قال بعض الأعلام: ((إن الأعضاء المبانة محكومة بالنجاسة الذاتية، وقد دلّ الدليل على عدم جواز بيع النجاسات الذاتية وإن كانت لها منافع شائعة، كقوله عليه السلام: (ثمن العذرة من السحت)(4).

فالعذرة وإن كانت لها منفعة شائعة كالتسميد لكن لا يجوز بيعها وشراؤها، وحيث لا خصوصية للعذرة فكل نجاسة ذاتية تكون كذلك))(5).

وفيه - بعد التسليم بكون القطعة المبانة نجسة- : أنه يجاب نقضاً وحلاً:

ص: 307


1- مصباح الفقاهة من الموسوعة الكاملة: 35/107.
2- وسائل الشيعة: : 24/186، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، باب 34، ح6.
3- مصباح الفقاهة من موسوعة السيد الخوئي: 35/107، منهاج الصالحين: 2/3.
4- وسائل الشيعة: 17/175، أبواب ما يكتسب به، باب 40، ح1.
5- السيد محسن الخرازي، مصدر سابق، 41.

أما نقضاً فلإطباقهم -بحسب تعبير الشيخ الأنصاري(1)-

على جواز بيع بعض الأعيان النجسة كالعبد الكافر وكلب الصيد.

وأما حلاً فلأن حرمة بيع النجس محمولة على صورة استعماله في ما يُشترط فيه الطهارة من دون إعلام المشتري، ويظهر هذا المناط من صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفراء أشتريه من الرجل الذي لعلي لا أثق به، فيبيعني على أنها ذكية، أبيعها على ذلك؟ فقال: إن كنت لا تثق به فلا تبعها على أنها ذكية، إلا أن تقول: قد قيل لي أنها ذكية)(2).أو من جهة عدم الانتفاع بها منفعة محللة مقصودة لدى العقلاء، فلو وجدت مثلها فلا إشكال في الجواز مع إعلام المشتري، فلا مانع من بيع الدم لنقله إلى جسم المحتاج إليه، أو الزيت النجس للاستصباح به مطلقاً أو تحت السماء أو لتزييت المكائن، وقد ورد في ذلك روايات عديدة معتبرة كموثقة أبي بصير (عن الفأرة تقع في الزيت فتموت فيه؟ قال: إن كان جامداً فاطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته)(3).

وما ورد من النهي كالمروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إذا حرّم الله شيئاً حرم ثمنه)(4)

ناظر إلى ما حرم أكله وشربه ونحو ذلك من كون المنفعة المقصودة منه بالشراء محرمة لاشتراط الطهارة في استعماله فيها.

أما النهي عن بيع العذرة فلعدم تصور منفعة لها يومئذ، أما التسميد بها فهي حالة لم تكن معروفة يومئذٍ في مجتمع المدينة بحسب الظاهر لأن زراعتهم كانت النخيل ولم يعرف تسميدها بالعذرة فلا يصلح النقض بها، مضافاً إلى وجود

ص: 308


1- المكاسب: 1/35، ضمن الموسوعة الكاملة.
2- وسائل الشيعة: 17/172، أبواب ما يكتسب به، باب 38، ح2.
3- وسائل الشيعة: 17/98، أبواب ما يُكتسب به، باب 6، ح3.
4- بحار الأنوار: 55/103، ح29.

روايات تجيز بيع العذرة كرواية محمد بن المصادف (لا بأس ببيع العذرة)(1).

وجمع الشيخ الأنصاري (قدس سره) وفاقاً للشيخ (قدس سره) في الاستبصار بحمل المحرم على عذرة الإنسان والمحلل على عذرة البهائم وجعل رواية سماعة شاهداً على ذلك قال: (سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام -وأنا حاضر -عن بيع العذرة، فقال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها وثمنها، وقال: لا بأس ببيع العذرة)(2)

بتقريب ((أن الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدل على أن تعارض الأولين ليس من حيث الدلالة فلا يرجع فيه إلى المرجحات السندية أو الخارجية))(3).

أقول: لا دليل على وحدة الرواية وما بناه عليها من الجمع، فقد دأب الرواة على جمع الحديثين المتحدين في الموضوع والراوي والمروي عنه في رواية واحدة ويفصل بينهما بوضع ((وقال)) ويضمر المسؤول في بقية النصوص وبه أجيبَ الإشكال على مضمرات سماعة.فالأظهر ما قرّبناه وإن استبعده الشيخ الأنصاري قال: ((وأبعد منه ما عن المجلسي من احتمال حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع به والجواز على غيرها))(4).

خامسها: وهو يتعلق ببيع المني والبويضة فقيل بالحرمة من جهة نجاستها وقد تقدمت المناقشة فيها مضافاً إلى عدم وجود دليل على نجاسة البويضة.

ومن جهة أنها فضلات لا مالية لها فيكون الثمن أكلاً للمال بالباطل ونحو ذلك وهو

ص: 309


1- وسائل الشيعة: 17/175، أبواب ما يكتسب به، باب 40، ح3.
2- وسائل الشيعة: 17/175، أبواب ما يُكتسب به، باب 40، ح2.
3- المكاسب: 1/24 من الموسوعة الكاملة.
4- المكاسب: 1/24 وفي هامش التحقيق: حكاه العلامة المجلسي في ملاذ الأخيار: 10/379، ح202 عن والده العلامة المجلسي الأول (قدس سره).

مردود لعدم المانع من بيع الفضلات إذا وجدت لها منفعة محللة مقصودة لدى العقلاء كالعذرة للتسميد والدم للتزريق ونحو ذلك، والمالية غير مشترطة في المبيع كما تقدم، والمهم أن لا تكون المعاملة سفهية.

ولو فرضنا أن بيع المني والبويضة غير جائز فإن أخذ المال بإزاء رفع اليد عن حق اختصاص صاحبها بها لا مانع منه كما تقدم في النحو الثاني من هذا الفصل.

والنتيجة عدم تمامية أي دليل على حرمة بيع الإنسان بعض أعضائه حال حياته.

نعم يبقى الإشكال من الجهة التي ذكرناها في الفرع (ب صفحة 296) وهي عودة الجزء إلى مالكه الحقيقي بعد القطع وانتهاء الاستخلاف ولا يصح بيع ما ليس له.

لكننا ذكرنا هناك وجهاً لحل الإشكال وأن هذه الأحكام إنما تجب في العضو المقطوع لو لم يكن هناك غرض لاستعماله والاستفادة منه وإلا فإن عمليات جراحية تتطلب انتزاع العضو مؤقتاً كالقلب المفتوح فهل نقول بوجوب إجراء الأحكام عليه.

وعلى أي حال فالأحوط ما ذكرناه من أن أخذ العوض يكون مقابل موافقته على إجراء العملية والقيام ببعض مقدماتها كالذهاب إلى المستشفى.

فلو قطع العضو منه بدون فعل منه كما لو ذهب بحادث أو حرب أو تفجير والعياذ بالله فإنه ليس له أخذ مال على النحو الأول؛ لأن القطع قد حصل فيكون من تحصيل الحاصل. لكننا ذكرنا أيضاً في النحو الثاني إمكان أخذ المال التنازل عن حق الاختصاص به.

وقد أجاز بعض الفقهاء بيع الأعضاء، قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو قلنا بجواز القطع والترقيع بإذن صاحب العضو زمان حياته فالظاهر جواز بيعه

ص: 310

لينتفع به بعد موته))(1)،لكنه (قدس سره) قال بعد أن قوّى جواز بيع الدم لنقله إلى من يحتاجه: ((والأحوط أخذ المبلغ للتمكين على أخذ دمه مطلقاً لا مقابل الدم، ولا يُترك الاحتياط ما أمكن)).أقول: لا نعلم وجهاً للتفريق بين الموردين فكلاهما نجسان ويزيد الأول بأنه ميتة، اللهم إلا أن يبني (قدس سره) على عدم كون القطعة المبانة من الحي ميتة أو أنها تطهر بالتغسيل ونحو ذلك.

فرع: مما تقدم يظهر أن للإنسان أن يوصي بمنح أعضائه بعد وفاته وله أن يأخذ مالاً إزاء ذلك؛ لعدم المانع من كل ذلك بمقتضى الأبحاث المتقدمة.

فائدة: لو وقعت جناية على الحي فقطع عضو منه واستحق الدية فلا مانع من أخذه مالاً إزاء منح هذا العضو للغير والجمع بينهما جائز لأن الدية ليست عوضاً عن الجزء المقطوع وإنما هي غرامة وقد تقدم الدليل على ذلك فلا يقاس على المتلفات التي يستحق فيها الضامن ما بقي من التالف بعد أن ضمن قيمته لصاحبه.

ولنفس التعليل يمكن أن تنضمّ دية قطع العضو إلى دية النفس ولا تنافيها كما لو قتل شخصاً ثم قطع رأسه أو أحد أعضائه، قال السيد المرتضى (قدس سره): ((ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من قطع رأس ميت فعليه مائة دينار لبيت المال. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد. وإذا قيل: كيف يلزمه دية وغرامة، وهو ما أتلف عضوا لحي؟ قلنا: لا يمتنع أن يلزمه ذلك على سبيل العقوبة لأنه قد مثّل بالميت بقطع رأسه فاستحق العقوبة بلا خلاف، فغير ممتنع أن تكون هذه الغرامة من حيث كانت مؤلمة له، وتألمه يجري مجرى العقوبة ومن جملتها))(2).

ص: 311


1- تحرير الوسيلة: 2/565، مسألة (7).
2- الانتصار: 272، ط. المطبعة الحيدرية في النجف - 1391.
ملحق: في ضمان الطبيب وذوي المهن

قد يحصل عند ممارسة الطبيب عمله تلف جزئي أو كلي لبعض الأعضاء وربما يموت المريض، فهل يضمن الطبيب هذا التلف؟.

لا خلاف ولا إشكال في ضمان الطبيب إذا تصدّى لمعالجة مريض أو إجراء عملية جراحية له فتلف عنده عضو أو مات إذا كان غير متخصص في هذا المجال وغير ماهر وحاذق فيه أو تعدّى عن حدود عمله المأذون فيها أو قصّر في عمله كما لو لم يجرِ الفحوصات والتحليلات الكافية أو لم يستعن بالأجهزة والآلات الضرورية للتشخيص كالأشعة والسونار والتخطيط ونحو ذلك أو قصّر في تهيئة ظروف العملية كعدم تعقيم القاعة والأدوات وعدم توفير الأجهزة المطلوبة لإجراء العملية أو عند الطوارئ لمثل هذه العمليات كالإنعاش الرئوي والقلبي.كما لا خلاف في عدم ضمان الطبيب إذا لم يكن التلف بسببه كما لو أصيب المريض بسكتة قلبية خلال عملية جراحية لا علاقة لها بها، أو أن المريض أخفى علةً فيه تضرّ بالعملية فهنا السبب وهو المريض أقوى من المباشر وهو الطبيب المعالج.

والكلام في ما لو حصل تلف جزئي أو كلي في أحد أجزاء البدن أو أدّت المعالجة إلى الموت وكان الطبيب حاذقاً وماهراً ولم يقصّر في عمله فالمشهور عند الإمامية الضمان، قال المحقق الحلي (قدس سره): ((الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً، أو عالج طفلاً أو مجنوناً لا بإذن الولي، أو بالغاً لم يأذن)) وهذه موارد للضمان بلا خلاف لكن يمكن الاستثناء من وجوب الإذن عند معالجة الحالات الحرجة الطارئة كالمصابين في الحوادث المرورية أو العمليات الإرهابية التي لا تحتمل انتظار أخذ الإذن وستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.

ص: 312

ثم تعرّض (قدس سره) لمطلبين:

الأول: ما نحن بصدده وهو ضمان الطبيب فقال (قدس سره): ((ولو كان الطبيب عارفاً، وأذن له المريض في العلاج، فآل إلى التلف، قيل: لا يضمن لأن الضمان يسقط بالإذن، لأنه فعل سائغ شرعاً، وقيل: يضمن لمباشرته الإتلاف، وهو أشبه. فإن قلنا لا يضمن، فلا بحث. وإن قلنا يضمن، فهو يضمن في ماله)).

الثاني: تخلّص الطبيب من الضمان بالإبراء قبل العلاج، قال (قدس سره): ((وهل يبرأ بالإبراء قبل العلاج؟ قيل: نعم، لرواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام. قال: (قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: من تطبب أو تبيطر، فليأخذ البراءة من وليه، وإلا فهو ضامن)(1)،ولأن العلاج مما تمس الحاجة إليه. فلو لم يشرَّع الإبراء، تعذر العلاج، وقيل: لا يبرأ لأنه إسقاط الحق قبل ثبوته))(2).

المطلب الأول: ضمان الطبيب وهو القول المشهور عند الإمامية واعتبروه قتلاً شبيهاً بالعمد باعتبار أن الطبيب قصد الفعل ولم يقصد القتل فديته على الجاني نفسه وهو الطبيب(3)

خلافاً لمشهور فقهاء العامة، فقد ذهبوا إلى عدم ضمان الطبيب قال ابن قدامة: ((ولا ضمان على حجّام ولا ختان ولا متطبب إذا عرف منهم حذق الصنعة ولم تجن أيديهم، وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أُمروا به لم يضمنوا بشرطين:

أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ولهم بها بصارة ومعرفة.

الثاني: أن لا تجني أيديهم فيتجاوزا ما ينبغي أن يقطع))(4)

وفي جوامع

ص: 313


1- وسائل الشيعة: 29/260، أبواب موجبات الضمان، باب 24، ح1.
2- شرائع الإسلام: مج 2/491، القسم الرابع، كتاب الديات، موجبات الضمان.
3- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد للشهيد الأول (قدس سره): 4/446، رياض المسائل: 16/374.
4- المغني: 6/120، كتاب الإجارة.

الحديث عند العامة ما يدل على ذلك فقد روى أبو داوود والنسائي والحاكم عن رسولالله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (من تطبَّب ولم يعلم منه طبّ فهو ضامن)(1)

ويوجد غيره أيضاً.

واستدل على قول المشهور بالضمان بأنه أشبه بأصول المذهب وقواعده في ضمان المتلفات حتى لو وقع خطأ محضاً ((لحصول التلف المستند إلى فعل الطبيب))(2)،وعموم المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يبطل دم امرئ مسلم)(3)

وحكي عن المحقق (قدس سره) في نكت النهاية قوله: ((الأصحاب متفقون على أن الطبيب يضمن ما يتلفه بعلاجه))(4).

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((وفي الغنية الإجماع على ذلك أيضاً، وهو الحجة بعد قاعدة الضمان على المتلف، والإذن في العلاج ليس إذناً في الإتلاف -أي أن إذن المريض للطبيب تعلق بالعلاج لا بالإتلاف حتى يسقط حقه في الضمان-، والجواز الشرعي -لممارسة مهنة الطب- لا ينافي الضمان كما في الضرب للتأديب، نعم لما لم يكن ذلك عمدا له لم يقتص منه مضافا إلى خبر السكوني -الذي تقدم ضمن كلام المحقق الحلي (قدس سره)-، بل قيل: وإلى -أي مضافاً إلى- ما حكي من تضمينه عليه السلام الختان القاطع لحشفة الغلام(5)، بل عن ابن إدريس نفى الخلاف عن صحة مضمونه، وإن كان فيه أنه قضية في واقعة محتملة

ص: 314


1- سنن أبي داود: 6/143، سنن الدارقطني: 5/385، السنن الكبرى للنسائي: 6/378، سنن ابن ماجة: 2/148.
2- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد للشهيد الأول (قدس سره): 4/446.
3- وسائل الشيعة: 27/350، كتاب الشهادات، باب 24، ح1، و 29/106، أبواب القصاص في النفس، باب 46، ح2.
4- نكت النهاية: 3/421.
5- روى السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (أن علياً عليه السلام ضمّن ختّاناً قطع حشفة غلام) (وسائل الشيعة: 29/261، موجبات الضمان، باب 24، ح2).

لتفريط الختان بقطع الحشفة الذي لم يؤمر به، وعدمه، ولكن ما ذكرناه كافٍ في إثبات المطلوب))(1).

أقول: رواية السكوني المتقدمة ضمن كلام المحقق (قدس سره) صريحة بأن الطبيب ضامن في ما لو لم يأخذ إبراءً قبل المعالجة، ووردت رواية بمضمونها في كتب العامة عن الضحاك بن مزاحم قال: (خطب علي عليه السلام فقال: يا معاشر الأطباء البياطرة والمتطببين من عالج منكم إنساناً أو دابة فليأخذ لنفسه البراءة فإنه إن عالج شيئاً ولم يأخذ لنفسه البراءة فهو ضامن)(2).وقد تعرّض الفقهاء لضمان الطبيب في موضع آخر مع أهل المهن الأخرى كالختان والحجام وغيرهما في كتاب الإجارة فقالوا بضمان الطبيب كما يضمن هؤلاء(3)،وسنشير إليه في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

قال الشيخ في الخلاف: ((الختّان والبيطار والحجام يضمنون بأفعالهم، ولم أجد أحداً من الفقهاء ضمنهم، بل حكى المزني: أن أحداً لم يضمنهم، دليلنا إجماع الفرقة))(4)

وتردد جماعة في قبول قول المشهور وقال آخرون بعدم ضمان الطبيب؛ سنذكر جملة منهم مع بعض كلماتهم ((للأصل ولسقوطه بإذنه، ولأنه فعل سائغ شرعاً فلا يستعقب ضماناً))(5)،قال ابن إدريس (قدس سره) في السرائر ((من تطبب، أو تبيطر فليأخذ البراءة من ولي من يطببه، أو صاحب الدابة، وإلا فهو ضامن إذا هلك بفعله شيء من ذلك. هذا إذا كان الذي جنى عليه الطبيب غير

ص: 315


1- جواهر الكلام: 43/46.
2- كنز العمال: 15/85، المصنف لعبد الرزاق: 9/471.
3- انظر مثلاً جواهر الكلام: 27/324.
4- الخلاف: 3/503، كتاب الإجارة، المسألة (26).
5- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد للشهيد (قدس سره): 4/447.

بالغ، أو مجنوناً، فأما إذا كان عاقلاً مكلفاً، فأمر الطبيب بفعل شيء، ففعله على ما أمره به، فلا يضمن الطبيب، سواء أخذ البراءة من الولي، أو لم يأخذ، والدليل على ما قلناه، إن الأصل براءة الذمة، والولي لا يكون إلا لغير المكلف. فأما إذا جنى على شيء لم يؤمر بقطعه، ولا بفعله، فهو ضامن، سواء أخذ البراءة من الولي أو لم يأخذها))(1).

وأجاب الشهيد الأول (قدس سره) على الاستدلال بقوله: ((ويمكن الجواب بأن أصالة البراءة لا تتم مع دليل الشغل. والإذن في العلاج لا في الإتلاف، ولا منافاة بين الجواز وبين الضمان كالضارب للتأديب))(2).

وعلى أي حال فإنه يمكن الاستدلال على عدم الضمان بوجوه، وهي:-

1- إن الدية إنما تجب مع صدق عنوان الجناية، والتلف الذي يحصل في عمل الطبيب من دون قصور أو تقصير منه وبإذن المريض لا يصدق عليه هذا العنوان فلا دية فيه قال المحقق الحلي (قدس سره) في نكت النهاية: ((والمجني عليه إذا أذن في الجنايةسقط ضمانها فكيف بإذنه في المباح المأذون في فعله))(3)

أي أن الفعل لم يعد موجباً للضمان ويخرج تخصصاً عن عمومات ما يوجب الضمان، كما أن تقديم الطعام إلى الضيوف لا يعتبر إتلافاً حتى يوجب ضماناً، ولا يجري في الطبيب أيضاً ما ذكروه في ضمان ذوي المهن وأهل الصنائع ما يتلف بأيديهم لأن الضمان متوقف على صدق عنوان الإتلاف لا التلف أي الإفساد بحسب ما نطقت به الروايات المعتبرة ولا يصدق عنوان الإفساد على فعل الطبيب.

وهذه الالتفاتة تحلّ العقدة التي توقَّف عندها المشهور حيث لم يستطع تصور عدم وجوب الدية لإزهاق نفس محترمة مع أنها تجب حتى في الخطأ المحض،

ص: 316


1- السرائر: 3/373.
2- غاية المراد: 4/447.
3- نكت النهاية: 3/421.

وهم اعتبروا الموت الذي يحصل أثناء عمل الطبيب شبيهاً بالعمد، والآن عرفنا الفرق لأن القتل حتى لو وقع خطأً محضاً فإنه يصدق عليه عنوان الجناية فتجب الدية ولا يصدق هذا العنوان على ما يحصل بفعل الطبيب المأذون في عمله، وبهذا التفريق نخرج من عموم ضمان المتلفات و(لا يبطل دم امرئ مسلم)، وسنذكر ذلك لاحقاً إن شاء الله تعالى.

والخلاصة أن هذه الأدلة على ضمان المتلفات ووجوب الدية منصرفة عن المورد، قال صاحب الجواهر (قدس سره) في كلامه الآتي (صفحة 330) عن ذوي المهن: ((ولكن قد يناقش بعدم صدق الجنابة على ذلك ونحوه مما بين مستأجر عليه ومأذون فيه، بل لعل ذلك هو التحقيق في المسألة))(1)،وشمل الطبيب بكلامه.

ولنا على ذلك شواهد من الروايات كصحيحة عبيد بن زرارة قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل وقع على رجل فقتله، فقال: ليس عليه شيء)(2)

بتقريب أن القتل وإن وقع بفعله إلا أنه لا يمكن اعتباره فاعلاً لأن السقوط لم يكن باختياره كما لو انهار السقف أو دفعته ريح عاصف غير محتسبة من دون اختياره فلا يكون ضامناً؛ لإقوائية السبب فيكون القتل قضاءً وقدراً ولا دية للقتيل.

2- رواية إسماعيل المتطبب المتقدمة بتقريب سكوت الإمام عن وجوب الدية مع شديد الحاجة إلى البيان وهو يكشف عن عدم وجوبها على الطبيب، وكذا الروايات الأخرى المتقدمة (صفحة 288) بل إن رواية ابن إسحاق صريحة في عدم وجوب شيء عليه.

3- إن الطبيب محسن في عمله خصوصاً إذا كان عمله بلا أجر مع التسليم باكتمال شروط التصدي للعمل وقد قال تعالى: «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ» (التوبة: 91) فنتمسّك بإطلاق الآية لنفي كل عهدة على ذمة المحسن ومنها الدية ولا يختص

ص: 317


1- جواهر الكلام: 27/323.
2- وسائل الشيعة: 29/56، أبواب القصاص في النفس، باب 20، ح1.

بانتفاء الإثم والعقوبة والقصاص ونحو ذلك، وهو ما يشعر به ذيل رواية ابن إسحاق المتقدمة (صفحة288) وشواهد أخرى كمعتبرة الحسين بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قلت: فإن أراد رجل أن يحفر له -أي الميت- ليغسله في الحفرة (فسدر الرجل مما يحفر فدير به فمالت) مسحاته في يده فأصاب بطنه فشقه، فما عليه؟ فقال: إذا كان هكذا فهو خطأ وكفارته عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو صدقة على ستين مسكيناً مد لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وآله)(1)،بتقريب سقوط دية قطع أعضاء الميت عن الفاعل المحسن، فتأمل(2).

ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (أن رجلاً شرد له بعيران فأخذهما رجل فقرنهما في حبل فاختنق أحدهما ومات، فرفع ذلك إلى علي عليه السلام فلم يضمّنه، وقال: إنما أراد الإصلاح)(3).

4- سيرة المتشرعة فإننا لم نعهد منهم مطالبة الطبيب بالدية عند حصول وفاة أو تلف في الأعضاء، بسبب المعالجة أو إجراء العملية إذا لم يكن ناتجاً عن قصور أو تقصير.

ويمكن أن يكون هذا التصرف منهم لا بما هم متشرعة وإنما بما هم عقلاء وقد تبانوا على ذلك، ولا بأس بهذا ويبقى دليلاً على عدم الضمان لأن بناء العقلاء

ص: 318


1- وسائل الشيعة: 29/326، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح2.
2- وجهه: أن الإحسان يصدق مع عدم أخذ الأجرة وهو معنى يمكن تحصيله من مجموعة من الروايات كرواية يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا (عليه السلام) في رجل استنجد به قوم لدفع عدو عنهم فأنجدهم بسلاحه وفي طريقة تسبّب بقتل إنسان خطأ قال (عليه السلام): (ديته على القوم الذين استنجدوا الرجل فأنجدهم وأنقذ أموالهم ونساءهم وذراريهم، أما إنه لو كان آجر نفسه بأجرة لكانت الدية عليه وعلى عاقلته دونهم) (وسائل الشيعة: 29/264، أبواب موجبات الضمان، باب 28، ح1).
3- وسائل الشيعة: 29/274، أبواب موجبات الضمان، باب 35، ح1.

حجة إذا لم يردع عنه الشارع المقدس، بل يصلح لتقييد المطلقات وتخصيص عمومات ضمان المتلفات وعدم بطلان الدم، كما أن عموم عدم حجية الظن مخصّص ببناء العقلاء على حجية خبر الواحد الثقة، ولا يصلح هذا العموم للردع عن السيرة العقلائية كما هو واضح.

5- إن أذن المريض بالعملية وعرض نفسه على الطبيب أذن بلوازمها وتعهد بكل تبعاتها وآثارها التي تحصل من دون تعدي وتفريط؛ لأن المريض يقدم على العلاج بعد أن يُعلمه الطبيب بنسبة نجاحها وما قد ينجم عنها من أضرار وأعراض جانبية حتى ورد عن أبي الحسن (عليه السلام) قوله: (ليس من دواء إلا ويهيج داءً)(1)،فهذهالموافقة لازمة للإذن، وكان الأطباء في زمان صدور النص يعرفون جملة مما تسببه المعالجة أو العملية الجراحية كما في الروايات المتقدمة وغيرها(2).

ومنه يُعلم النظر في قول الشهيد (قدس سره) في شرح الإرشاد وصاحب الجواهر (قدس سره) المتقدم وغيرهما ((والإذن في العلاج ليس إذناً في الإتلاف)).

بل إن الشيخ الأصفهاني (قدس سره) فسَّر أخذ البراءة المسقط للضمان في رواية السكوني بأخذ الإذن وحينئذٍ تكون الرواية صريحة في عدم الضمان مع الإذن، قال (قدس سره): ((وأما الطبيب الحاذق المباشر، فتارة نقول إنه مكلف بحفظ النفس المحترمة بعلاج المرض، فمثل هذا يستحيل أن يستلزم الضمان، فإن

ص: 319


1- وسائل الشيعة: 2/408، أبواب الاحتضار.
2- قالوا في خبر محاولة اغتيال معاوية: ((فأما صاحب معاوية فإنه قصده فلما وقعت عينه عليه ضربه فوقعت ضربته على أليته فجاء الطبيب فنظر إلى الضربة فقال: إن السيف مسموم فاختر أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربة (فتبرأ) وإما أن أسقيك دواءً فتبرأ وينقطع نسلك، فقال: أما النار فلا أطيقها وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما يقرّ عيني وحسبي بهما، فسقاه الدواء وعالج جرحه حتى التأم ولم يولد له بعد ذلك)) (بحار الأنوار: 42/233 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6/113).

التلف لا يكون إلا بخطأ منه، فالموضوع وهو علاج واقعاً وإلا لانسد باب الطبابة وعلاج المرضى مع مسيس الحاجة إليه، ومثله لا ضمان معه، وعليه ينزل أخذ البراءة من المريض أي الإذن في العلاج على نحو لا ضمان معه، وإلا فإشكال البراءة عن الضمان قبل حدوث موجبه موجه، والإذن في إتلاف نفسه أو طرفه غير سائغ شرعا، فلا محيص عما ذكرناه. هذا مختصر القول فيما تقتضيه القاعدة))(1).

وما قيل من أن المريض أعطى الإذن بشرط السلامة لا معنى له لأنها أمرٌ لا يحرزه إلا الله تعالى، وإنما أذن بشرط أن يبذل ما بوسعه ويستعمل كل حذقه ومهارته لتحصيل السلامة والمفروض أنه قد حقق ذلك ((نعم لا يبعد كون السلامة من قبيل الداعي الذي لا يقدح تخلفه في حصول الإذن))(2).

6- إذن الشارع المقدس بالمعالجة حتى مع احتمال الوفاة بحسب الروايات المتقدمة (صفحة 288)، بل إنه يوجب المعالجة إذا كان فيها إنقاذ للنفس أو إذا كان في تركها ضرر بالغ على النفس، وهو أولى من الناس بأنفسهم، فإيجاب الدية حتى مع المهارة والكفاءة وعدم التقصير والتفريط ينافي كل هذا الحث على المعالجة وفيه نقض للغرض، وتحريض على عدم المعالجة، وقد ورد النهي عن تركها في الروايات كما في رواية أبان بن تغلب(3) حيث ساوى بين تارك المعالجة والجاني.

7- ما ذكروه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عدم الضمان إذا حصل تلف بسبب امتثال الفريضة، وقد بحثنا المطلب مفصلاً في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(4)

ونقلنا قول الأصحاب بعدم الضمان على الآمر والناهي إذا

ص: 320


1- بحوث في الفقه، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، الإجارة : 284، ط. الثانية، جماعة المدرسين، 1409 هج_.
2- مستمسك العروة الوثقى: 12/79.
3- عن الإمام الصادق (عليه السلام) المتقدمة (صفحة 287).
4- فقه الخلاف: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القسم الثاني، ص8.

أتلفا ما يجب إتلافه أداءً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطها وحدودها. نعم لو تعدّى بفعله كما لو استعمل يده في مرتبة اللسان أو تصرّف بدون مراجعة الحاكم الشرعي في موارد لزومه ضمن للتعدي.

فهذا المورد دليل على عدم الضمان في المقام لأنهما من باب واحد فقد عملا بإذن الشارع المقدس بل بأمره وما تعدّيا الحدود، استدلالهم على الضمان بالضرب للتأديب إن كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)،كقول الشهيد في شرح الإرشاد المتقدم (صفحة 316) وقول صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل لو جوّزنا المباشرة للحاذق بلا إذن لقاعدة الإحسان أو أوجبناها عليه مقدمة لحفظ النفس المحترمة كما في خبر أبان بن تغلب عن الصادق (عليه السلام) لا ينافي ذلك الضمان الذي هو من باب الأسباب كما في تأديب الزوجة والصبي ونحوهما فتأمل))(2)،والأولى أن يكون دليلاً على عدم الضمان.

8- إن الطبيب أمين ولم يتصرف في بدن المريض إلا بعد إذنه وإذن الشارع المقدس، والأمين لا يضمن إلا مع التعدي والتفريط مثل سائر موارد الأمانة، الشرعية أو المالكية، كأهل الصنائع وذوي المهن الأخرى الذين يدهم يد أمانة، قال المحقق السبزواري (قدس سره) في أهل الصنائع: ((والصانع أو غيره إذا تلف شيء في يده فالأشهر أنه لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، وليس يده يد ضمان وغصب بحيث يضمن مطلقاً، بل يد أمانة مالكية للأصل، ولأنه أمين متصرف بإذن المالك))(3).

ص: 321


1- يمكن تصحيح استدلالهم بأن يقال إن التأديب حق للأب وللزوج وليس حكماً واجباً مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضمان يأتي على القول بالأول لا الثاني.
2- جواهر الكلام: 43/45.
3- كفاية الفقه: 1/664.

9- إن تحميل الطبيب دية التلف مع كونه حاذقاً وبصيراً ولم يقصّر في عمله ظلم له والظلم قبيح لا يأذن به المولى، إلا أن يشترط الضمان على الطبيب بنصٍّ شرعي أو قانوني بنحو ما سنشرح معنى رواية السكوني.

10- أظن أن موضوع الضمان غير واضح في ذهن القائلين به لأن فرض المسألة بأن الطبيب حاذق بصير ولم يقصّر في عمله ولم يتعدَّ حدوده، وهذا يجعل سبب التلف ليس راجعاً إليه وإنما إلى نفس العملية فإن فيها نسبة من النجاح والفشل فهذا التلف اقتضاه تحقق الفشل المحتمل كعملية القلب المفتوح التي يمكن أن يتوقف فيها القلب أو عمليةالفقرات والظهر التي يمكن أن تضر بالحبل الشوكي، وباختصار فإن التلف وإن باشره الطبيب إلا أن السبب وهو اقتضاء العملية لنسبة من الفشل كان أقوى وإليه ينسب التلف.

وبتعبير دقيق : إن نسبة التلف إلى الفعل لا يكفي للقول بالضمان إلا أن ينسب إلى الفاعل، لذا فحينما يكون السبب أقوى من المباشر يضمن المسبِّب مع أن التلف حصل بفعل المباشر، وفي المقام فإن التلف حصل من الفعل وهي المعالجة من دون أن ينسب إلى الفاعل وهو الطبيب لأن طبيعة العملية تقتضي نسبة من التلف لا يكون الطبيب مسؤولاً عنها، قال الشيخ النائيني (قدس سره) في تعليقته على العروة عند مسألة ضمان الحمّال إذا عثر من دون تقصير منه فانكسر ما يحمل: ((الأظهر عدم الضمان وكونه من التلف دون الإتلاف))(1)،وعلّق بمثل ذلك جملة من المحشّين العظام.

فالقول بالضمان لا وجه له؛ لأن الطب علم حسّي تجريبي ويعمل الطبيب بما أفادته التجارب ودقة النظر وقد تكون التجربة ناجحة مع شخص ولا تكون كذلك، أو يكون هذا العلاج المجرب ناجحاً مع شخص ومضرّاً لآخر مع أنهما

ص: 322


1- العروة الوثقى بتعليق المراجع العظام: 5/68، المسألة (7)، كتاب الإجارة.

يعانيان من نفس المرض لأن تركيب جسم الإنسان معقد وتوازنات عمل الأعضاء دقيقة للغاية ولا يمكن أن يضبطها جميعها أحد من الأطباء.

11- النقض عليهم بما لو جيء بمريض بحالة حرجة ويحتاج إلى تداخل جراحي أو إجراء علاجي خطير فوري لتعرضه إلى حادث سيارة أو قصف أو زلزال فبادر الأطباء إلى معالجته وحصل تلف، فإن قالوا بعدم الضمان فهو نقض عليهم لأن الاضطرار لا يسقط الضمان وإن قالوا به فهو كما ترى.

12- القانون الجاري بين ذوي المهن الطبية يتضمن عدم ضمان الطبيب إذا كان من أهل الكفاءة والمهارة ولم يقصّر في عمله، وغفلة المريض عنه لا تعطيه حق المطالبة.

مناقشة أدلة المشهور:

ومما تقدم يُعلم النظر في ما استدل به المشهور فإن الوجوه التي ذكرناها تصلح لتقييد القواعد والأصول المقتضية لضمان المتلفات التي هي قاعدة مقتنصة من الأحكام الواردة في الروايات وليست رواية حتى يتمسك بإطلاقها.

بل إدخال المورد في ضمان المتلفات مما لا يمكن المساعدة عليه شكلاً ولا مضموناً، (أما) شكلاً فإن تلف الأعضاء يدخل في باب الجنايات والغرامة عليه يسمى دية وليس ضماناً ونحو ذلك، و(أما) مضموناً فلأن المتلفات إنما تضمن حتى لو حصل التلف خطأً محضاً باعتبار أن الفعل لم يكن بإذن من وقع عليه التلف، أما الفعل هنا فهو بإذنه.فالإتلاف الموجب للضمان لا يصدق على فعل الطبيب أي أنه خارج تخصصاً عن هذه القاعدة؛ لأن ما حصل من التلف لا الإتلاف.

وذكر السيد الخوئي (قدس سره) في بعض كلماته ما يعبّر عن هذا المعنى، قال (قدس سره): ((وأما إذا لم يصدق الاستناد بوجه- أي استناد الفعل إلى الفاعل اختياراً أو بغير اختيار كالنائم- بل كان الشخص المزبور كآلة محضة والفعل مستند إلى سبب آخر، كما لو كان على سطح بيت فوقعت زلزلة أو هبّت ريح

ص: 323

عاصف فسقط من الشاهق على إناء زيد فكسره، بل على نفسه فقتله، حيث لا يعدّ هذا فعله وعمله عرفاً حتى غير الاختياري منه، ولا يرونه قاتلاً حتى خطأً، ففي مثله لا إتلاف ولا ضمان، وإنما يُعدُّ ذلك من التلف بآفة سماوية أو أرضية، ويؤكده ما ورد في جملة من الصحاح(1)

فيما إذا سقط شخص على آخر فمات: إن الساقط لا يضمن شيئاً والظاهر أن المسألة مما لا خلاف فيها، فلا دية بمقتضى هذه النصوص))(2).

وهذه القاعدة منقوضة بسائر أيدي الأمانة التي لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط، كالمستعير فإنه لا يضمن العين إذا تلفت بيده وتصرَّف فيها بحدود ما تقتضيه الإعارة، إلا مع التعدي والتفريط أو الشرط؛ ففي صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة، فقضى أن لا يغرمها المعار، ولا يُغرَّم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة)(3)،وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلا أن يكون اشترط عليه) وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن العارية يستعيرها الإنسان فتهلك أو تُسرَق؟ فقال: إن كان أميناً فلا غرم عليه).

وأقرَّ المحقق الأردبيلي (قدس سره) بأنه لم تثبت على نحو الموجبة الكلية قاعدة أن كل تالف مضمون، قال (قدس سره): ((وما ثبت شرعاً أن كل إتلاف موجب للضمان))(4).

ص: 324


1- كصحيحة عبيد بن زرارة المتقدمة (صفحة 317).
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 30/248.
3- والروايتان بعدها في وسائل الشيعة: 19/93، كتاب العارية، باب 1، ح1، 7، 9.
4- مجمع الفائدة والبرهان: 14/229.

ولو قيل بأن الإذن تعلق بالمعالجة لا بالتلف قلنا أن المعالجة كانت تقتضي احتمال التلف فالإذن بها إذنٌ بما تحتمله من نتائج وأن الإذن في الفعل يكفي لسقوط الضمان عن يد الأمانة الشرعية والمالكية.

وكذا يخرج المورد تخصّصاً من عموم (لا يبطل دم امرئ مسلم):-

أ- لعدم صدق عنوان الجناية الموجب للدية على فعل الطبيب.

ب- وإن سياق الرواية التي تضمنت هذا العموم شاهد على ذلك لأنها وردت في سياقالتهمة بالقتل ووجود لوث.

ج_- وإن نفس لفظ (دم) ظاهر في الدم الذي أُطلَّ بجناية. فيكون نظير دم من وجب قتله بحدٍّ أو قصاص مطلول بأمر الشارع، وهو خارج تخصصاً.

د- كذلك يمكن القول بأن الوجوه السابقة تُخصَّص عموم (لا يبطل دم امرئ مسلم) ولا ضير فيه، فإن دمه لا يضمن إذا مات قضاءً وقدراً كما لو حدث زلزال أثناء إجراء العملية أو سقط شيء معلق في السقف على يد الجرّاح أثناء العملية فزلّت وأحدثت تلفاً فلا ضمان على أحد.

أما رواية السكوني فهي ضعيفة السند لعدم توثيق النوفلي وإن ذكر وجه لقبول روايته(1)،وهي مما انفرد السكوني بروايتها فلا يعمل بها الأصحاب قال

ص: 325


1- حاصله أن الأصحاب قبلوا رواية السكوني كما صرّح به الشيخ (قدس سره) في العدة وأن أغلب رواياته عن النوفلي فهذا يعني قبول روايات النوفلي وإلا لم تصدق هذه المقولة. وفيه: إن عبارة الشيخ ظاهرة في أن معنى قبول رواية السكوني وعموم أبناء العامة أي أن انحراف عقيدته لكونه من أبناء العامة لا تضر بعد ورود التصريح بوثاقته كغيره من العامة، أما قبول روايته فهي غالباً لموافقتها لروايات الإمامية أو قواعد المذهب فتكون حجة لرواية الإمامي والقواعد، أما أخبار السكوني التي رواها عنه النوفلي ولا يوجد ما يوافقها ولا ما يخالفها في كتب الإمامية -كمحل البحث- فهي قليلة جداً فقد روى كثيرون عن السكوني كالربيع بن سليمان الذي أكثر عنه بحسب النجاشي (الترجمة 465) وأمية بن عمرو الشعيري الذي قال فيه النجاشي إن أكثر كتابه عن السكوني (الترجمة 263) وعبد الله بن المغيرة وغيرهم، وذكر الإسناد غالباً عن النوفلي لا يعني قلة ما رواه غيره عن السكوني لأن الأصحاب يكتفون عادة بذكر طريق واحد كما هو المعروف للمتابعين، وكمثال على ذلك الرواية في حرمة ثمن الميتة (وسائل الشيعة: 17/93، أبواب ما يكتسب به، باب 5، ح5) فقد رواها الكليني بسنده عن النوفلي ورواها الشيخ الصدوق في الخصال بسنده عن موسى بن عمر عن عبد الله بن المغيرة عن السكوني.

المحقق في نكت النهاية: ((الأصحاب متفقون على أن الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه، فالعمل على هذا الأصل لا على هذه الرواية؛ لأن الأكثرين يطرحون ما ينفرد به السكوني))(1).

وفيها ما لا يوافق القواعد عند بعض الأجلاء من إسقاط ما لم يجب لذا اعترض عليه ابن إدريس وغيره ممن سنذكرهم إن شاء الله تعالى.

وإن أخذ البراءة من ولي المريض دونه هو يشعر بأن موردها خاص لذا حملها ابن إدريس في كلامه المتقدم على معالجة الصغير أو المجنون بغير إذن وليه فيكون ضامناً ولو كان المريض عاقلاً لوجب أخذ الإذن منه لا من وليه.

وما قيل من توجيه ذكر الولي ((لأنه هو المطالب على تقدير التلف، فلمّا شرّع الإبراء قبل الاستقرار لمكان الضرورة، صرف إلى من يتولى المطالبة بتقدير وقوع مايتبرأ منه))(2):

بعيد وأبعد منه ما قيل من أن ذكره بلحاظ أحد الفردين وهو الحيوان لذكر البيطرة في الحديث فإنه مما لا ينبغي أن يقال وأن صاحب الحيوان لا يعبر عنه بالولي وإنما بالمالك ونحوه.

وانقدح في ذهني حملها على معنيين:

ص: 326


1- نكت النهاية: 3/421.
2- غاية المراد: 4/449.

أحدهما: أنه على نحو الحكم التدبيري والقانون الاجتماعي بأن الطبيب يلزم بالدية ما لم يأخذ البراءة لحث الأطباء على المزيد من اليقظة والحذر والمهارة لذا نسب الحكم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) باعتباره مارس قيادة الدولة، مع ملاحظة أن كثيراً من الأطباء البارزين كانوا غير مسلمين مثل أثير السكوني الذي كشف على جرح أمير المؤمنين (عليه السلام) ((وكان مطبباً صاحب الكرسي يعالج الجراحات))(1)

وهو من سبي عين التمر، فيكون الحكم تدبيرياً صادراً من الولي الفقيه والحاكم الأعلى لتنظيم أمور الرعية.

ثانيهما: تحمل على الأثر الإثباتي وهو الانتفاع منها في الخصومة أي رد دعوى ذوي المجني عليه لو طالبوا بالضمان لا الثبوتي أي اشتغال ذمة الطبيب بالدية واقعاً للوجوه التي ذكرناها فلا تدل على وجوب الضمان إذا لم يأخذ البراءة، فيكون حكماً إرشادياً لتخليصهم من الضمان عندما لا يكون التلف بتعدٍ أو تفريط، والشاهد على هذا المعنى من نفس الرواية تفريع الضمان على عدم أخذ البراءة (وإلا فهو ضامن) ولو كان الحكم في المسألة هو الضمان لكان مطلقاً ولم يتوقف على أخذ البراءة، وكذا تضمنت روايات ضمان ذوي المهن والصنائع هذا المعنى(2).

مضافاً إلى معارضتها برواية إسماعيل المتطبب، والوجوه الأخرى.

والاستدلال برواية السكوني الأخرى في ضمان الختّان قابل للمناقشة لاحتمال أنها في واقعة خاصّة تصدّى فيها غير المؤهل أو أنه تعدّى حدود العمل لأن عملية القص في الختان ليست قرب الحشفة فلا بد أن التلف حصل بتقصير منه فيضمن ولا تدل على محل البحث.

ص: 327


1- بحار الأنوار: 42/234، عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6/114-119.
2- راجع وسائل الشيعة: 19/145، كتاب الإجارة، باب 29.

أما الإجماع فيحتمل أنه مدركي مستند إلى رواية السكوني أو قاعدة ضمان المتلفات أو عموم لا يبطل دم امرئ مسلم ونحو ذلك.بل يمكن نفي وجوده لعدم وحدة الموضوع في كلماتهم فمنهم من بنى الضمان على عدم حصول الإذن قال الشهيد في شرح الإرشاد: ((واعلم أن كثيراً من الأصحاب لم يقيِّد بالإذن وإن كان ظاهرهم الإذن))(1)،بل صرح المحقق الأردبيلي (قدس سره) بأن حكم الأصحاب بالضمان ناظر إلى عدم الإذن قال (قدس سره): ((بل قد يحمل كلام الأصحاب أيضاً على عدم الإذن))(2).

ومنهم من افترض التقصير في عمل المعالج، قال السيد الخوئي (قدس سره) في حال موت المختون: ((وهذا القتل بالآخرة يستند إلى الختّان))(3)؛ لذا استدل بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في أصحاب الصنائع قال (عليه السلام): (كل عامل أعطيته أجراً على أن يصلح فأفسد فهو ضامن)(4)

وهي ظاهرة في إفساده ولا خلاف في الضمان وبه صرّح العروة في كلامه الآتي (صفحة 331) واقتصر عليه وكأنّه يتوقّف في محل البحث أو يقول بعدم الضمان.

أما إدخال الطبيب في مسألة ضمان أصحاب الصنائع كالخياط والنجار والحمال ففيه جهة افتراق لأن تعاملهم مع ما بأيديهم وهي جمادات لا تملك لنفسها شيئاً فلا يتصور سبب التلف إلا من الصانع وهو ليس كتعامل الطبيب مع المريض صاحب الجسم المعقد فيوجد ألف سبب وسبب للتلف مما نعلم أو لا نعلم لا يكون الطبيب مسؤولاً عن تلك الأسباب.

ص: 328


1- غاية المراد: 448.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 14/229.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 30/244، مسألة (4)، كتاب الإجارة.
4- وسائل الشيعة: 19/147، كتاب الإجارة، باب 29، ح19.

على أن القائلين بعدم الضمان في أهل الصنائع ليسوا قلة كما نقلنا عن بعضهم وتوقف جماعة(1)

منهم صاحب العروة (قدس سره)، وإن الروايات التي أوجبت الضمان ظاهرة بل صريحة في كون الصانع مسؤولاً عن التلف لقول الإمام (عليه السلام) فيها: (فأفسد) كصحيحة الحلبي المتقدمة ومثلها صحيحة أبي الصباح ورواية أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الثوب أدفعه إلى القصّار فيخرقه؟ قال: أغرمه فإنك إنما دفعته إليه ليصلحه ولم تدفع إليه ليفسده)(2).

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لظهوره -أي صحيح الحلبي- فيمن لم يعمل ما كان مأذوناً فيه فكان أجيراً على أن يصلح فأفسد، لا أنه أتى ما أُمر به وترتّب عليهالفساد خارجاً))(3).

لذا نفت عدة روايات الضمان إذا لم يكن متّهماً بالتقصير كصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين)(4)

وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ قال: ليس يضمنان) قال الشيخ: يعني إذا كانا مأمونين، فأما إذا اتهما ضمنا حسب ما قدمنا، وقد ينصرف المورد إلى دعوى أن التلف بسبب خارجي كالسرقة أو الحرق أو الفقدان ونحو ذلك إلا أن الأصحاب لم يفرقوا في أسباب التلف.

ص: 329


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 30/243، مسألة (4).
2- وسائل الشيعة: 19/143، كتاب الإجارة، باب 29، ح8.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 30/244، مسألة (5)، كتاب الإجارة.
4- والرواية التي بعدها في وسائل الشيعة: 19/145، كتاب الإجارة، باب 29، ح11، 14.

وفي رواية بكر بن حبيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يضمن القصّار إلا ما جنت يداه، وإن اتهمته أحلفته)(1)

دلالة على عدم الضمان مع عدم صدق عنوان الجناية، واعترف صاحب الجواهر بأن مقتضى التحقيق ذلك، قال (قدس سره) بعد أن نقل قول الأصحاب بضمان أهل الصنائع لاستناد التلف إلى فعلهم: ((ولكن قد يناقش بعدم صدق الجناية على ذلك، ونحوه مما بين مستأجر عليه ومأذون فيه، بل لعل ذلك هو التحقيق في المسألة، وبين ضمان الصناع لما يجنيه أيديهم وإن كان من غير تقصير منهم، بل وكذا الطبيب والبيطار إذا حصل التلف بالطبابة والبيطرة، ولعل ذلك مقتضى القاعدة فضلاً عن النصوص التي سمعت جملة منها. وفي خبر بكر بن حبيب عن أبي عبد الله عليه السلام (لا يضمن القصار إلا ما جنت يداه، وإن اتهمته أحلفته) وحينئذ لا ضمان مع عدم الفساد من حيث الصنعة والعمل، وإن اتفق نقصان قيمة الثوب مثلاً بحصول العمل منه، وكذا المأمور بالختن والحجامة ونحوهما، ولم يكن منه فساد وخيانة من حيث العمل المأمور به، وإن اتفق التلف به))(2)

ثم رجع (قدس سره) إلى القول بضمان الطبيب لنفس الوجوه التي ذكرها في باب الديات وقد تقدمت.

ويمكن أن يقال: إن الحكم بالضمان هو حكم تدبيري وقانون اجتماعي اتخذ لضمان أموال الناس وتشديد الحرص عليها من أهل الصنائع ويدل عليه صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان علي عليه السلام يضمّن القصّاروالصائغ يحتاط به على أموال الناس)(3)،وهو وجه نسبة الحكم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) مارس قيادة الدولة وتنظيم أمور الرعية.

ص: 330


1- وسائل الشيعة: نفس الموضع السابق، ح17.
2- جواهر الكلام: 27/323.
3- وسائل الشيعة: 19/145، ح4، 12.
المترددون والمخالفون للمشهور:

ولعله لأجل هذه الوجوه أو بعضها تردد المحقق (قدس سره) حسب ما يُشعر به قوله: ((فإن قلنا لا يضمن، وإن قلنا يضمن)) والعلامة (قدس سره) في الإرشاد قال (قدس سره): ((وإن أذن له البالغ فآل إلى التلف ضمن على رأي)) وتمسّك ابن إدريس بالأصل الذي هو وظيفة الشاك لنفي الضمان، وجزم العلامة في التحرير بعدمه، قال (قدس سره) في الختّان والحجّام: ((ولو لم يتجاوز محل القطع مع حذقهم في الصنعة فاتفق التلف فإنهم لا يضمنون))(1).

واحتمل المحقق الأردبيلي عدم الضمان بل يظهر منه الميل إليه، قال (قدس سره): ((إن عدم الضمان مع الإذن محتمل لأنه ما قصد الإتلاف وما قصّر مع أنه استأذن وحاصله أنه يفعل ما يقتضيه علمه ولم يكن عليه به شيء. وإن ذلك قد يجب عليه، إذ قد يكون ذلك من الواجب الكفائي بل قد يصير عينياً. وما ثبت شرعاً أن كل إتلاف موجب للضمان -أي لم يثبت على نحو الموجبة الكلية-، ورواية الختان قد تحمل على ما حملها ابن إدريس من التفريط بعد تسليم الصحة، بل قد يحمل كلام الأصحاب أيضاً على عدم الإذن)) وقال (قدس سره): ((وإنك قد عرفت ما في أمثال هذه الإجماعات))(2).

واستقربه المحقق السبزواري (قدس سره) في كلامه الآتي (صفحة 333) وذهب الشيخ الأصفهاني إلى استحالة القول بضمان الطبيب في كلامه المتقدم (صفحة 319).

ويظهر من السيد صاحب العروة (قدس سره) أنه يستشكل في الضمان فإنه بعد أن ذكر الحجّام والكحّال والبيطار والختّان قال: ((وكل من آجر نفسه لعمل في مال المستأجر إذا أفسده يكون ضامناً إذا تجاوز عن الحد المأذون فيه، وإن كان بغير قصده لعموم من أتلف وللصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يعطى

ص: 331


1- تحرير الأحكام، للعلامة الحلي: 3/116، ط. الأولى، اعتماد، 1420 هج_.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 14/229.

الثوب ليصبغه فيفسده، فقال(عليه السلام): (كل عامل أعطيته أجراً على أن يصلح فأفسد فهو ضامن)(1)

بل ظاهر المشهور ضمانه وإن لم يتجاوز عن الحد المأذون فيه، ولكنه مشكل فلو مات الولد بسبب الختان مع كون الختان حاذقاً من غير أن يتعدى عن محل القطع بأن كان أصل الختان مضراً به في ضمانه إشكال))(2).

أقول: سنذكر في ما ننقله عن الرسالة العملية أن عدم الضمان في هذه الحالة إذا كان الختّان مستأجراً لإجراء عملية الختان ولم يكن من وظيفته الكشف عن صحة الطفل ومعرفة قابليته لإجراء الختان، أما إذا كان من وظيفته ذلك كالطبيب الجراح فإنه ضامن لو ختن الطفل من دون ملاحظة هذه الجهة ثم تضرر الطفل.

ومن الواضح أن الإشكال يعم القول بضمان الطبيب.

وقال السيد صاحب العروة (قدس سره) في المسألة التالية: ((الطبيب المباشر للعلاج إذا أفسد ضامن وإن كان حاذقاً)) وهو ظاهر في خصوص حصول الفساد بسببه، وإلا يُسأل (قدس سره) عن الفرق بين الطبيب وغيره من أهل الصنائع الذين أشكل على ضمانهم.

واستظهر السيد الحكيم (قدس سره) في رسالته العملية عدم الضمان ووافقه الشهيد الصدر الأول في تعليقته(3) واشترطا في ضمان الطبيب صدق الإفساد.

وعلق السيد الخميني (قدس سره) في حاشيته على العروة الوثقى على الإشكال بقوله والأقوى عدم الضمان، وكذا السيد الخوئي (قدس سره) إلا أنه قال: ((ومع ذلك الظاهر هو الضمان في مسألة الختان)) وكذا قال في مسألة لاحقة

ص: 332


1- وسائل الشيعة: 19/147، كتاب الإجارة، باب 29، ح1، 19.
2- العروة الوثقى بحواشي المراجع العظام: 5/66، المسألة (4).
3- منهاج الصالحين: 2/134، المسألة (35).

بضمان الطبيب.

إيقاظ: الخلاف لا موضوع له:

ويمكن أن يكون الخلاف بلا موضوع لأن التلف إما أن يحصل بقصور أو تقصير من الطبيب فعليه الضمان بلا إشكال، أو من المريض كما لو أخفى مرضاً عنده لا يجوز معه تخديره كلياً فلما خدروه مات، وحينئذٍ لا ضمان على الطبيب، وهكذا.

وقد يكون التلف مما تقتضيه نفس العملية لأن الطبيب حينما يقول إن نسبة النجاح 60 بالمائة فهذا يعني أن فيها نسبة فشل بمقدار 40 بالمائة وهذا مما لا يضمنه الطبيب لأنه ليس هو سبب الإتلاف وإنما تقتضيه طبيعة العملية كتوقف القلب في عملية القلب المفتوح مثلاً، وهو ما تشمله رواية السكوني عن أمير المؤمنين(عليه السلام) (أنه كان لا يضمن من الغرق والحرق والشيء الغالب)(1).

ونستطيع أن نقول إن هذا هو السبب في قول بعض الأصحاب بعدم الضمان أو ترددهم فيه وأنه ظاهر من كلماتهم كالمحقق السبزواري (قدس سره) في الكفاية فإنه بعد نقل قول العلامة في التحرير: ((لو لم يتجاوز -يعني الختّان- محل القطع مع حذقهم في الصنعة واتفق التلف فإنهم لا يضمّنون))(2)

قال (قدس سره): ((وهو غير بعيد ويجري مثله في الطبيب، بل قيل إنه يجري في الصانع بأن فُرِض أنه ما فرّط ولا تعدى في القصر والصبغ أصلاً، إلا أن الثوب كان بحيث لو لم يصبغ ولم يقصّر لم يمزّق، وكان متهيئاً لقبول ذلك وهو غير بعيد))(3).

ص: 333


1- وسائل الشيعة: 19/143، كتاب الإجارة، باب 29، ح6.
2- تحرير الأحكام: 3/116، مصدر سابق.
3- كفاية الفقه: 1/664.

ولعله أيضاً السبب في توقف السيد صاحب العروة (قدس سره) في الضمان عندما قال (صفحة 331): ((بأن كان أصل الختان مضرّاً به، أي أن نفس العملية موجبة للضرر والتلف، فدقّق.

وأرجع إلى التعبير الدقيق الذي تقدم في النقطة التاسعة ليزداد الأمر وضوحاً.

ونفس السبب يرد في أهل الصنائع أيضاً كما لو أن التيار الكهربائي المشغّل لماكنة الخياط أو الحداد جاء إلى الجهاز بفرط عالٍ غير محتسب فأسرعت الماكنة بقوة وتلف القماش فلا ضمان على الخياط لأن السبب أقوى من المباشر. قال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((أما لو تلف في يد الصانع لا بسببه، من غير تفريط ولا تعدّ لم يضمن على الأصح)) وقوّاه في المسالك، ونفى عنه الخلاف في الجواهر(1)

وهو مطلق شامل لما لو حصل التلف بسبب نفس العمل أو العملية ولم يكن الصانع والمباشر إلا أداة.

المطلب الثاني: ذهب المشهور إلى إمكان تخلص الطبيب من الضمان بأخذ البراءة من المريض قبل العملية إذا كان بالغاً عاقلاً وإن كان صغيراً أو مجنوناً أخذها من وليه وحكى صاحب الجواهر (قدس سره) عن ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع عليه لرواية السكوني المتقدمة والتعليل الذي ورد في كلام المحقق (قدس سره) المتقدم (صفحة 313)، وحاصله أن حاجة المجتمع إلى الطبيب تقتضي إيجاد وسيلة لبراءته من الضمان لو حصل تلف من دون تعدٍّ أو تفريط، وإلا سوف لا تجد من يتطبَّب.

وقال (قدس سره) في نكت النهاية: ((ولا أستبعد الإبراء من المريض فإنه فعل مأذون فيه، والمجني عليه إذا أذن في الجناية سقط ضمانها، فكيف بإذنه في المباح

ص: 334


1- جواهر الكلام: 27/325.

المأذونفي فعله))(1).

أقول: لكن قول المشهور قابل للمناقشة لقصور المقتضي ووجود المانع.

أما المقتضي وهي رواية السكوني فإنها غير تامة السند وتحتمل عدة معانٍ غير ما ذكره المشهور كتحصيل البراءة بعد وقوع التلف كما عن الجواهر أو أنها في مورد خاص وهو معالجة الصغير والمجنون بقرينة ذكر الولي فلا إطلاق لها يستدل به المشهور، أو أن أخذ البراءة بمعنى أخذ الإذن كما نقلنا عن الأصفهاني وهو حاصل، أو أنه أمر تدبيري أو إرشادي كما احتملنا ونحو ذلك.

وأما المانع فمن جهتين:-

1- إنه إسقاط ما لم يجب وهو على خلاف القواعد.

2- لأن الإنسان لا يملك مثل هذه السلطنة على نفسه مطلقاً أو في خصوص الوفاة وتلف الأعضاء الرئيسية كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فكيف يجوز له منح البراءة مما لا حق له فيه، قال الشيخ الأصفهاني (قدس سره) في ما نقلناه عنه (صفحة 314): ((والإذن في إتلاف نفسه أو طرفه غير سائغ شرعاً)).

لذا جزم الشهيد الثاني (قدس سره) في حاشيته على إرشاد العلامة (قدس سره) بعدم البراءة(2).

وحكي عن ابن إدريس عدم سقوط الضمان لأنه إسقاط الحق قبل ثبوته ولنفس التعليل تأمل الشيخ ضياء العراقي في السقوط بالبراءة(3)، وقال الشيخ الأصفهاني (قدس سره) في ما نقلناه (صفحة 319): ((فإشكال البراءة عن الضمان قبل حدوث موجبه موجه))، وسلَّم السيد الخوئي (قدس سره) بالإشكال على طبق القواعد إلا أنه احتج برواية السكوني التي بنى على اعتبارها، قال (قدس

ص: 335


1- نكت النهاية: 3/421.
2- الحاشية المطبوعة في هامش غاية المراد: 4/446.
3- العروة الوثقى بحواشي المراجع العظام: 5/68، المسألة (6).

سره): ((ولا موقع للاستشكال بأنه من قبيل إسقاط ما لم يجب حيث أن الضمان إنما يكون بعد الإفساد فقبله لا موضوع للبراءة.

إذ فيه: إن هذا إنما يتم لو كان الحكم مستنداً إلى القاعدة والموازين العامة، وأما مع الاستناد إلى الرواية الخاصة الناطقة بذلك فلا وجه له))(1).

لذا تردد المحقق (قدس سره) واكتفى بنقل القولين، وتردد العلامة (قدس سره) أيضاً حيث قال في الإرشاد: ((وهل يبرأ بالإبراء قبله؟ فيه قولان)) ولم يرجّح أحدهما وكذا الشهيد الأول (قدس سره) في شرحه.وبنى الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على هذا الإشكال إلا أنه قدَّم معالجة له فقال: ((إذا أعطى المريض أو وليه أو صاحب الدابة البراءة من نتائج المداواة وحصل التلف، فهل يضمن الطبيب أم لا؟ ذكرنا في بعض المسائل السابقة أنه لا أثر لهذه البراءة، إلا أن تعود استدامتها عرفاً إلى إفراغ ذمة الطبيب من الضمان بعد انشغالها به))(2).

أقول: حينئذٍ يجب أخذ البراءة من المريض ووليه لأن الدية تكون للورثة على تقدير حصول الوفاة فاستدامة البراءة إلى ما بعد اشتغال الذمة يجعل حق منحها بيد الورثة.

وناقش صاحب الجواهر (قدس سره) في ما استدل به على عدم ضمان الطبيب بأخذ البراءة قبل العملية من جهتين:-

1- ((احتمال الخبر المزبور البراءة بعد الجناية مجاناً أو على مال احتمالاً ظاهراً، وربما يرشد إليه لفظ (وليه) على أنه ضعيف)).

ص: 336


1- موسوعة السيد الخوئي: 30/247، المسألة (6)، كتاب الإجارة.
2- منهج الصالحين: 5/214، المسألة (899).

أقول: في هذا تأكيد للضمان على الطبيب وإنما أراد معالجة إشكال إسقاط الحق قبل ثبوته. بأن تؤخذ البراءة بعد ثبوت الحق أو أن المريض قاصر، لكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر.

2- ((الحاجة بمجردها لا تصلح دليلاً لشرع الحكم المخالف للأدلة ومن هنا قال في المسالك وهو الوجه))(1).

وفيه: يمكن تقريب الحاجة على أن خلافها نقض للغرض ومخالفة للأمر بالتداوي وخروجاً عن بناء العقلاء وسيرتهم ونحو ذلك مما قلنا فيصلح أن يكون دليلاً.

وأجاب صاحب الجواهر (قدس سره) عن هذه المناقشات بقوله: ((ولكنه كما ترى ضرورة عدم منافاة الاحتمال المزبور في الخبر الظاهر الذي هو الحجة في الأحكام الشرعية، كعدم منافاة ضعفه، بعد انجباره بما عرفت، وتأييده بمسيس الحاجة. وذلك كله كاف للخروج به عن قاعدة عدم إسقاط الحق قبل ثبوته، على أنه ينبغي الجزم به إذا أخذ بعنوان الشرطية في عقد إجارة الطبيب مثلاً إذ هو حينئذ يكون كاشتراط سقوط خيار الحيوان والمجلس ونحوهما مما يندرج تحت قولهم عليهم السلام: (المؤمنون عند شروطهم) بل ربما ظهر من الأردبيلي الاكتفاء بالشرط مطلقاً، وإن كان فيه أنه إن لم يكن في ضمن عقد وعداً أو كالوعد لا يجب الوفاء به. كل ذلك مضافاً إلى إمكان القطع به في مثل الأموال التي منها ما هو محل البيطرة ضرورة أنه إذن في الإتلاف على وجه يجري مجرى أفعال العقلاء نحو غيره من الإتلافات. ومنه يعلم الوجه في غير المال مما له الإذن فيه إذا كان جارياً مجرى أفعال العقلاء كما في العلاج. وليس هذا من الإبراء قبل ثبوت الحق، بل من الإذن في الشيء المقتضية لعدم ثبوته، نحو الإذن في أكل المال مثلاً،والظاهر اعتبار إذن المريض في ذلك مع فرض كونه كامل العقل، ولا يكفي إذن الولي، إذ لا ولي له في

ص: 337


1- جواهر الكلام: 43/47.

هذا الحال، وإنما هو أولى بنفسه، وكون الولي هو المطالب بعد ذلك لا يرفع سلطنته الآن على نفسه، وما في الخبر المزبور محمول على إرادة الولي في ذلك الشامل للمريض ورب المال. وقول الشهيد في غاية المراد وغيره باعتبار إذن الولي أو المريض، محمول على التفصيل الذي ذكرناه، لا أن المراد، الاكتفاء بإذن الولي مع كمال عقل المريض. وقال المصنف في النكت في الخبر: ((وإنما عدل إلى الولي لأنه هو المطالب على تقدير التلف، فلما شرع الإبراء قبل الاستقراء لمكان الضرورة صرف إلى من يتولى المطالبة بتقدير وقوع ما يبرء منه، ولا أستبعد الإبراء من المريض فإنه يكون فعلاً مأذوناً فيه والمجني عليه إذا أذن في الجناية سقط ضمانها، فكيف بإذنه في المباح المأذون في فعله فتأمل جيداً))(1).

أقول: يمكن تلخيص الجواب على إشكال عدم صحة إسقاط الحق قبل وجوبه بوجوه:-

1- تصريح رواية السكوني بذلك بعد انجبار ضعف سندها وتأييدها بالحاجة الماسّة، وردّ ما قيل من الاحتمالات المخالفة لظهورها فتكون مخصِّصة لقاعدة عدم صحة إسقاط الحق قبل ثبوته وحاكمة عليها، وهو ما بنى عليه السيد الخوئي (قدس سره) كما تقدم.

2- إن وجود مقتضيه وهو عقد الإجارة مع الطبيب الذي يتضمن التعرض للعلاج الموجب للتلف كافٍ لصحة البراءة فإذا جعلت البراءة شرطاً في عقد إجارة الطبيب كفت لعموم (المؤمنون عند شروطهم)، كما أن إسقاط بعض الخيارات في عقد البيع صحيح قبل أن يتحقق موضوعها فعلاً كخيار التأخير، أو إسقاط بعض حقوق الزوجية في العقد كذلك، أو إسقاط حق القسم في النهار.

3- لا شك في أن الإذن بإتلاف المال يبرئ ذمة المتلف والحيوان المعالج مال، وهكذا إتلاف العضو إذا كان ضمن الحدود العقلائية لأن الإذن في الجناية يسقط ديتها.

ص: 338


1- جواهر الكلام: 43/47-48.

4- إن سقوط الضمان ليس من باب الإسقاط وإنما لأن المعالجة والعملية الجراحية تخرج من كونها موجبة للضمان بأخذ البراءة وبينهما فرق فدقق، كما أن الإذن في أكل المال فإنه ليس مسقطاً لضمانه وإنما يجعل الإتلاف غير مضمون، وورد هذا المعنى في كلمات آخرين كالمحقق الأردبيلي، قال (قدس سره): ((ولا استبعاد في لزوم الوفاء به بمعنى عدم ثبوت حق حينئذٍ))(1).

وقال السيد الحكيم (قدس سره): ((لا يتم -أي الإشكال- لو كانت البراءة شرطاً في عقد الإجارة؛ لأنه ليس من الإسقاط قبل الثبوت، بل هو من شرط السقوط كما في شرط سقوط الخيار))(2)

فيكون من قبيل شرط النتيجة ولا بأس به.أقول: هذا كله على فرض كون المتصدي للمعالجة طبيباً ماهراً مؤهلاً لممارسة هذا العمل وإلا فإن البراءة لا أثر لها ولا يحق للمريض أن يسلِّم نفسه إلى مثله.

هل تقيَّد البراءة في حدود سلطنة الإنسان على نفسه:

قد يرد هنا إشكال بأننا حددنا سلطنة الإنسان على نفسه بأنها مقيدة بعدم إزهاق النفس وعدم إحداث ضرر بالغ في البدن، وهذا يتنافى مع إطلاق الحكم بسقوط الدية في ما لو أخذ الطبيب البراءة حتى لو حصل الموت أو إتلاف عضو رئيسي فيه؛ لأن المريض ليس له هذه السلطنة حتى يُبرئ الطبيب منها.

ورواية السكوني لا تصلح للاستدلال على الإطلاق لضعف سندها أو لعدم تمامية الإطلاق فيها بلحاظ ما ذكرناه سابقاً.

والنتيجة الاقتصار في سقوط الدية عن الطبيب بالبراءة على غير الموت وتلف الأعضاء الرئيسية، وتضمنت كلمات السيد الخوئي (قدس سره) ما يقرب

ص: 339


1- مجمع الفائدة والبرهان: 14/231.
2- مستمسك العروة الوثقى: 12/81.

من هذا المعنى فقال في ضمان الختّان حتى لو أبرأه ولي الصغير: ((إذ ليس له حق البراءة بعد أن لم تثبت له هذه الولاية))(1).

ووجدت قولاً بهذا التفصيل للشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قال فيه: ((لا تسقط الدية عن الطبيب بالإذن والإبراء من المريض إذا كان موته مستنداً إلى العملية وإن لم يكن الطبيب مقصراً فيها إذ ليس بإمكان أي أحد أن يأذن بالعملية مطلقاً وإن كانت مؤدية إلى موته، ضرورة أن هذه السلطنة غير ثابتة للإنسان على نفسه وعليه فلا قيمة لإبراء المريض ذمة الطبيب عن الدية، بل هي ثابتة إذا كانت العملية مؤدية إلى موته وإن أخذ الإبراء من المريض نفسه.

وأما بالنسبة إلى تلف الأعضاء، فالأمر كذلك إذا كانت الأعضاء من الأعضاء الرئيسية وأما إذا كانت من الأعضاء غير الرئيسية، فلا دية على الطبيب مع الإذن وإبراء المريض إذا لم يكن الطبيب مقصراً فيه))(2).

أقول: إن السلطنة على مستوى إزهاق النفس أو تلف أحد الأعضاء الرئيسية وإن لم تثبت للإنسان كما تقدم، إلا أن إبراء ذمة الطبيب على هذا المستوى حق مكتسب للمريض مضافٌ إلى سلطنته نشأ من عدة مصادر:-

1- الروايات الآمرة بالتداوي والمعالجة حتى لو أدّت إلى الوفاة كصحيحة يونس بن يعقوب وروايتي إسماعيل المتطبب وحمدان بن إسحاق وغيرها وقد تقدمت (صفحة 288) فهي تمنح الإذن الشرعي بالفعل والشارع المقدس أولى من الناس بأنفسهم.

2- بناء العقلاء على الإقدام على المعالجة حتى مع احتمال التلف والوفاة إذا كان ملاكها أهم كعملية القلب المفتوح أو زرع الكبد.

ص: 340


1- موسوعة السيد الخوئي: 30/244، كتاب الإجارة، المسألة (5).
2- المسائل الطبية: 96.

3- رواية السكوني بناءً على اعتبارها بانجبار ضعفها بعمل المشهور أو لقبول رواية النوفلي عن السكوني للوجه الذي تقدم أو لما أفاده الشيخ في العدة من عمل الطائفة بمنفردات السكوني إذا لم يوجد ما يخالفه من أحاديث الإمامية كما في المقام.

4- التعليل الذي ذكره المحقق (قدس سره) في الشرائع في كلامه المتقدم حيث قال: ((لأن العلاج مما تمسّ الحاجة إليه، فلو لم يشرع الإبراء تعذّر العلاج)) وقال الشهيد في حاشية الإرشاد: ((لمسيس الحاجة إليه، فإنه لا غنى عن العلاج وإذا عرف البيطار أو الطبيب أنه لا مخلص له من الضمان توقَّف في العلاج مع الضرورة إليه، فوجب أن يُشرَّع الإبراء لضرورة الحاجة))(1)

بأن يتوقف الأطباء عن المعالجة خشية وقوع التلف أو الوفاة وهو احتمال وارد في كثير من العمليات فينتقض الغرض الذي ذكرناه في النقطة الأولى.

مضافاً إلى مناقشتين أخريين تجعلان الإشكال سالبة بانتفاء الموضوع وهما:-

5- إن المنافي للسلطنة هو الإذن في القتل أو إتلاف الأعضاء الرئيسية وهو ما نمنعه لذا لا يجوز التسبب في وفاة حتى الميت سريرياً، لكن المورد ليس من هذا القبيل، فإن الإذن تعلق بالمعالجة وإجراء العملية الجراحية مع براءة من التلف لو حصل اتفاقاً وأين هذا من ذاك!.

6- الوجوه المتقدمة التي استدللنا بها على عدم ضمان الطبيب أصلاً سواء أخذ البراءة أم لم يأخذها وفاقاً لابن إدريس (قدس سره) وخلافاً للمشهور.

ومن مجموع البحث عُرف الدليل على ما قلناه في الرسالة(2)العملية:

ص: 341


1- غاية المراد: 4/449.
2- منتخب سبل السلام، المعاملات: 46.

مسألة (159): الختّان لا يضمن الضرر الذي يقع على الطفل حتى لو مات إذا كان من أهل الخبرة في المهنة ولم يقصّر في عمله كعدم تحضير اللوازم الكافية أو عدم تشخيص قابلية الطفل للختان - إن كان الأمر موكولاً إليه كالطبيب الجراح دون ما إذا كُلِّف بعملية الختان فقط كالختّان المتعارف-، ولم يتعدَّ كتجاوز الحد المتعارف للقطع، ولم يفرّط بعلمه المسبق بالضرر.

مسألة (160): لو عالج الطبيب المريض مباشرة أو أجرى له عملية جراحية وكان ماهراً في مهنته وبذل وسعه في التشخيص الصحيح والعمل الدقيق لكن اتفق تضرر المريض أو موته فلا ضمان على الطبيب، والأحوط له أن يتبرأ من الضمان قبل العملية والمعالجة.ولو ادعى المريض أو ذوو المتوفى بأن التلف أو الموت قد حصل بسبب تقصير الطبيب فيشكّل القاضي الشرعي لجنة من المختصّين للتحقيق في السبب والنظر في الدعوى.

انتهينا من إلقاء محاضرات هذا البحث يوم 28/ذ.ق./ 1441 هج_ المصادف 2020/7/20 بفضل الله تعالى وكرمه وحسن رعايته والحمد لله الذي هدانا لهذا

وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ص: 342

فهرست المسائل الفقهية المبحوثة تبعاً

مبدأ صدق الحمل وتكون الإنسان .... 37، 120، 154

مثال على تأثّر الفقيه بمعاني المفردات في اللغات غير العربية .... 43

التفريق بين الوالدة والأم ... 45

حكم الاعتماد على البصمة الوراثية .... 64

استئجار الرحم .... 126

زراعة الأنسجة .... 150

عدم الملازمة بين ما يوجب المهر والغسل وما يوجب العدة .... 179

حكم الزوجة إذا وطئت شبهة .... 184

حكم المرأة الخلية إذا وطئت شبهة .... 198

حكم الزوجة إذا زنت ... 203

حكم العقد على الخلية إذا زنت من الزاني أو غيره .... 213

مثال لفقه المصالح والمفاسد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ... 274

أمثلة للأحكام التدبيرية الولائية ... 321، 325

القواعد الفقهية التي تم التعرض لها

قاعدة لا ضرر ولا ضرار في ضوء الفقه الاجتماعي .... 11

الضرورة التي تبيح المحظور أوسع من الاضطرار ... 15

أصالة الاحتياط في الفروج .... 20

قاعدة الولد للفراش وما يتفرع عنها ... 54

الاستفادة من البصمة الوراثية في موارد الرجوع إلى القرعة .... 64

قاعدة: من كان له الغنم فعليه الغرم ... 107

قاعدة: الحرام لا يحرم الحلال ... 184

الناس مسلطون على أموالهم .... 239

بيان كيفية تطبيق قاعدة: لا ضرر ولا ضرار ... 247

ص: 343

المطلوب مراعاة أحكام الذمة وليس أهل الذمة .... 275

اشتراط كون المبيع مالاً ... 293

قاعدة لا بيع إلا في ملك .... 293

المطالب الأصولية التي عرضت استطراداً

تقديم الأهم ملاكاً عند التزاحم لا يقتضي تقديم

الإلزامي على غير الإلزامي .... 16

بعض الأحكام العامة أطُر ومحددات لغيرها كالدستور للقوانين ... 17

انقلاب الأصل ... 20

التمسّك بأصالة العموم لإثبات التخصص دون التخصيص .... 76

خروج بعض الأفراد قد يكون كاشفاً عن عدم تمامية العموم ... 260

صلاحية السيرة العقلائية لتقييد المطلقات ... 313

مطالب رجالية

استقراء يثبت أن من أرسل عنهم ابن أبي عمير ثقات .... 12، 106، 259

مناقشة احتمال الإرسال بين علي بن الحكم وأبي حمزة الثمالي .... 14

جمع الروايات المتحدة في الموضوع والمروي عنه في حديث واحد ... 304

تقييم روايات النوفلي ... 320

ص: 344

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.