فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية: المكاسب والصيد والذباحة المجلد 10

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف

بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء العاشر

المكاسب والصيد والذباحة

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف - 1441 ه-/2020م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

البحث الأول: حرمة تصوير ذوات الأرواح

اشارة

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الأول:

حرمة تصوير ذوات الأرواح(1)

المسألة كثيرة الابتلاء ولها أفراد كثيرة في زماننا وبعضها مستحدثة كصنع الإنسان الآلي وأفلام الكارتون (الرسوم المتحركة) وثلاثية الأبعاد (Three Dimensions)، وأصبح من المعروف أن تقيم الشعوب نُصباً وتماثيل لاستذكار وتخليد شخصيات قدّمت خدمات جليلة أو قامت بمواقف نبيلة، ويعتبرونه ظاهرة حضارية. كما يشغل النحت حيّزاً مهماً من الأعمال الفنية لذا فهم يدرّسونه في أكاديميات الفنون الجميلة. ويجري ذلك في الدول الإسلامية من دون التفات إلى ما ورد في الشريعة المقدسة من حرمة التصوير في الجملة. فما هو الموقف الشرعي من هذه الأعمال وفق ما ورد في الشريعة من الحكم المذكور؟

وموضوع المسألة يمكن أن يكون على أشكال، إذ التصوير يمكن أن يكون مجسماً أو غير مجسم، والمصوَّر يمكن أن يكون ذا روح كالحيوان أو غير ذي روح كالشجر فالأشكال أربعة.

وفي ضوء ذلك فقد قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فالمتحصل من كلمات الأصحاب أن الأقوال في حرمة التصوير أربعة))(2)، وهذا بحسب أصل العناوين، وإلا فإن الأقوال أكثر من ذلك للخلاف في التفاصيل كحرمة التصوير إذا كان باليد دون ما كان بالآلة، ومنه يُعلم ما في كلام سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((ولا يهم من الناحية الفقهية التقسيمات الأخرى ك-... أن تكون الصورة يدوية أو بالآلة))(3).

ص: 7


1- انتهى إلقاء هذا البحث يوم 4/ذ. ق./1429 الموافق 2008/11/3.
2- مصباح الفقاهة (من المجموعة الكاملة): 35/345.
3- ما وراء الفقه: 3/136.

والأقوال الأربعة هي:-

(الأول) اختصاص الحرمة بالتصوير المجسم لذي الروح.

(الثاني) حرمة تصوير ذي الروح مطلقاً مجسماً وغير مجسم.

(الثالث) حرمة التصوير المجسّم مطلقاً سواء كان لذي روح أو غيره.

(الرابع) حرمة التصوير مطلقاً سواء كان مجسماً أو غير مجسم لذي روح أوغيره.

وقال الشيخ المامقاني (قدس سره): ((وهناك قول ثالث -أي غير الثالث والرابع اللذين ردّ عليهما في المكاسب- لم يتعرض له وهو القول بالكراهة مع الجواز،وقد حكي عن جماعة، بل في المستند: قيل أنه الأشهر))(1)

وهو غريب إذ أن صاحب المستند كان يتحدث عن الصورة الثانية أي حرمة التصوير غير المجسم لذي الروح فقال (قدس سره): ((فالثانية محرمة عند الحلي والقاضي وشيخنا الشهيد الثاني وبعض آخر، وجوّزها جماعة، بل قيل أنه الأشهر))(2).

وذكر الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) هذا القول الخامس ونسبه إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) في تفسيره التبيان والشيخ الطبرسي في مجمع البيان، وحاصله ((إنكار أصل الحرمة حتى في المجسمة من ذوات الأرواح:

ففي التبيان في تفسير الآية الحادية والخمسين من سورة البقرة قال: (ومعنى قوله: «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ» أي اتخذتموه إلهاً لأن بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين لأن فعل ذلك ليس بمحظور وإنما هو مكروه. وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لعن المصوّرين معناه: من شبّه الله بخلقه أو اعتقد فيه أنه صورة، فلذلك قدّر الحذف في الآية كأنه قال: اتخذتموه إلها).

ونحو ذلك في المجمع أيضاً، وكأنه تبعه في ذلك.

ص: 8


1- حاشية الشيخ محمد حسن المامقاني (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 69.
2- مستند الشيعة: 14/108.

والعبرة بما ذكره الشيخ في التبيان لتأخره عن نهايته، قال في أول المبسوط: ((وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية)(1)

يظهر من ذلك أن النهاية مما صنّفه الشيخ في أوائل عمره الشريف.

وفي السرائر في مسألة ولاية الأب والجد على البنت في النكاح قال: ((وأيضاً فشيخنا أبو جعفر الطوسي قد رجع وسلّم المذهب بالكلية في كتابه كتاب التبيان ورجع عما ذكره في نهايته وسائر كتبه لأن كتاب التبيان صنّفه بعد كتبه جميعها واستحكام علمه وسبره للأشياء ووقوفه عليها وتحقيقه لها)(2).

وعلى هذا فلعل كلامه في النهاية صدر عنه على أساس كلمات الأصحاب والاحتياط في المسألة، وبعد التحقيق ثبت له الجواز مع الكراهة))(3).

أقول: ما ورد في كلامهما (قدس الله سريهما) من الأدلة على الكراهة لا يثبت ذلك فلعل فعل النبي عيسى (عليه السلام) كان إذناً خاصاً به استثناءً من الحرمة بقرينة قوله تعالى: «وَإذ تَخلُقُ مِنَ الطِينِ كَهيئةِِ الطَيرِ بإذني» (المائدة:110) كأمر الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) استثناءً من حرمة السجود لغير الله تبارك وتعالى، وأماكون أصحاب موسى (عليه السلام) ظالمين باتخاذهم العجل إلهاً فهو لا ينافي كونهم ظالمين أيضاً بصنعهم العجل وإنما أشير إلى الأول لأهميته لأنهم عادوا به إلى الكفر فيندكّ أمامه الظلم الثاني.

وعلى أي حال فإنه قد يظهر غير ذلك -أي القول بالجواز مع الكراهة- من مجمع البيان بعد التدقيق في النص فإنه (قدس سره) قال في تفسير قوله تعالى: «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ» (البقرة:51): ((أي اتخذتموه إلهاً لأن بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين لأن فعل ذلك ليس بمحظور وإنما هو مكروه، وأما الخبر الذي روي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن المصورين فالمراد به من شبّه الله بخلقه أو اعتقد

ص: 9


1- المبسوط: 1/2.
2- السرائر: 2/563.
3- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/557.

فيه أنه صورة))(1)

وقال (قدس سره) في تفسير قوله تعالى: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ» (سبأ: 13): ((قال الحسن: ولم تكن يومئذٍ التصاوير محرمة وهي محظورة في شريعة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه قال لعن الله المصورين ويجوز أن يكره ذلك في زمن دون زمن وقد بيّن سبحانه أن المسيح كان يصوّر بأمر الله من الطين كهيئة الطير))(2)

فإذا اعتبرنا نقله (قدس سره) لكلام الحسن من دون تعليق إمضاءً له فإن نتيجة الجمع بين النصين تكون:-

1- إن الكراهة حكم التصوير في زمان ما قبل الإسلام أما الحكم في الإسلام فهو الحظر والدليل على جوازه في شرائع ما قبل الإسلام فعل النبي المعصوم عيسى (عليه السلام) له.

2- يحتمل أن يكون مختارهما (قدس الله سريهما) بحسب الظاهر عدم إطلاق حرمة تصوير ذوات الأرواح وتقييدها بحالة محاكاة الله تبارك وتعالى في خلقه ومضادته سبحانه وليس مختارهما الجواز، وهو ملائم لما ذكره الأساطين -كما في جامع المقاصد والكفاية- من نفي الخلاف، ودعوى الإجماع الآتية.

فلا يصحّ نسبة القول بالجواز مع الكراهة إليهما (قدس الله روحيهما) على اعتبار تبعية النص كما قال (دام ظله الشريف).

القول الأول: حرمة التصوير المجسم لذي الروح

اشارة

واستُدل على الحرمة بالإجماع فإنه منعقد عليها نقلاً وتحصيلاً ولذا لم يستدل الشيخ الأنصاري (قدس سره) على حرمة هذا القسم واكتفى بالقول ((تصوير ذوات الأرواح حرام -إذا كانت الصورة مجسّمة- بلا خلاف فتوىً ونصّاً))(3)، وأُشكل على الإجماع ب-((أنه مدركي، لأنه مستند إلى هذه الروايات

ص: 10


1- مجمع البيان: 1/233.
2- مجمع البيان: مج4، ج8، ص600.
3- المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/183.

وليس أوسع منها، فتعود قيمتهإلى قيمتها))(1)

وسيتّضح بإذن الله تعالى أن الإجماع أوسع من دلالة الروايات ومع ذلك فلا يمكن اعتباره تعبدياً لأنه ناشئ من التوسع في فهم الروايات.

واستدل بالروايات فقد دلّت على الحرمة روايات عديدة وبمضامين متنوعة منها:-

1- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر، فقال: لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان)(2).

بتقريب أن مفهوم الاستثناء يقتضي وجود البأس في تصوير ذوات الأرواح وليس البأس إلا الحرمة.

2- صحيحة أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ» فقال: )والله ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنها الشجر وشبهه).

بتقريب أن تنزيه الإمام (عليه السلام) لسليمان (عليه السلام) عن الأمر بعمل تماثيل الرجال والنساء يقتضي حرمتها خصوصاً مع المبالغة والتأكيد بالقسم على ذلك، وبضميمة عدم القول بالفصل وبقرينة الروايات الأخرى تعمم إلى كل ذوات الأرواح.

3- موثقة أبي بصير في المحاسن(3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل قال: يا محمد

ص: 11


1- ما وراء الفقه: 3/138.
2- الروايات من (1- 13) عدا التسلسل (4، 9، 10، 11) موجودة في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 3، أما الروايات الأربعة الأخرى فهي في كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 94.
3- وردت الرواية في الكافي بسند غير معتبر لوجود القاسم بن محمد الجوهري وعلي بن أبي حمزة، لذا وصفها جمع بغير المعتبرة (هامش مصباح الفقاهة: 35/346) لكن سندها في المحاسن موثق.

إن ربك يقرئك السلام وينهى عن تزويق البيوت، قال أبو بصير: فقلت: وما تزويق البيوت؟ فقال: تصاوير التماثيل) وهو متحد مع خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك ينهى عن التماثيل).

بتقريب أن نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهر في الحرمة، وأن المراد بالتصاوير المعنى المصدري أي تصويرها وعملها لأنه المناسب للتزويق الذي هو معنى مصدري ولأن المراد لو كان معنى اسم المصدر لاستغنى عن ذكر كلمة تصاوير.

4- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا بأس بتماثيل الشجر).

بتقريب أن الجملة وإن لم يكن لها مفهوم يقتضي وجود البأس بتماثيل غيرها إلا أنها بضميمة ارتكاز الحرمة في الجملة لدى السائل وإخراج الإمام (عليه السلام) تماثيل الشجر التي تعمم إلى غير ذوات الأرواح يُبقي الحكم بحرمة تصويرذوات الأرواح ممضى من قبل الإمام (عليه السلام).

5- خبر الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من جدد قبراً أو مثّل مثالاً فقد خرج من الإسلام).

6- مصححة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من مثَّل تمثالاً كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح).

7- خبر الحسين بن المنذر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ثلاثة معذّبون يوم القيامة) وفيه (ورجل صوّر تماثيل يكلَّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ).

8- خبر سعد بن طريف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الذين يؤذون الله ورسوله هم المصوّرون يكلَّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح).

9- خبر الحسين بن زيد عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: (نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله

ص: 12

وسلم) عن التصاوير وقال: من صوّر صورة كلَّفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ) الحديث.

10- الصحيحة إلى عبد الله بن مسكان عن محمد بن مروان(1)

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: ثلاثة يعذّبون يوم القيامة: من صوَّر صورة من الحيوان يعذَّب حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها) الحديث.

11- خبر الخصال عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من صوَّر صورة عُذب وكُلِّف أن ينفخ فيها وليس بفاعل).

12- خبر ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هدم القبور وكسر الصور).

13- خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبراً إلا سوّيته، ولا كلباً إلا قتلته).

بتقريب أن كسرها ومحوها وإزالتها ليس إلا لحرمة إيجادها أصلاً.

14- خبر القطب الراوندي في لبّ اللباب: (روي أنه يخرج عنق من النار فيقول: أين من كذب على الله؟ وأين من ضادَّ الله؟ وأين من استخف بالله؟ فيقولون: ومن هذه الأصناف الثلاثة؟ فيقول: من سحر فقد كذب على الله، ومن صوَّر التصاوير فقد ضادّ الله، ومن ترائى في عمله فقد استخف بالله)(2).

15- خبر الصدوق في الخصال عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن

ص: 13


1- لم يرد توثيق في محمد بن مروان إلا أن بعضهم بنى على توثيقه لرواية الأجلاء عنه كالحلبي وابن مسكان وأبي أيوب وأبان ونقلوا إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن عبد الله بن مسكان وهو غير معتمد عندنا.
2- مستدرك الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب3، ح5.

عيسى بن عبيد عن القاسم بن يحيى(1)

عن جده الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)، قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إياكم وعمل الصور، فإنكم تسألون عنها يوم القيامة)(2).

16- خبر عبد الله بن طلحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (مِنْ أكل السحت سبعة - إلى أن قال - والذين يصورون التماثيل) الخبر.

بتقريب الملازمة بين حرمة الأجر والعمل.

17- ما رواه الشهيد الثاني في منية المريد، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة، رجل قتل نبياً، أو قتله نبي، ورجل يضلّ الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل).

18- خبر عوالي اللئالي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن أهل الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال: أحيوا ما خلقتم).

ص: 14


1- حاول البعض تصحيح السند بوجوه:- 1- ورود القاسم بن يحيى وجده الحسن بن راشد في إسناد كامل الزيارات وتفسير القمي ورواية الأجلة كأحمد بن محمد بن عيسى عن القاسم. 2- إن الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) نقل في الفقيه روايتهما لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وقال عنها: (إنها أصحّ الزيارات عندي من طريق الرواية) (الفقيه، ج2، كتاب الزيارات). وفي كل من الوجهين نظر؛ فالأول غير معتمد كبروياً والثاني لا يدل على توثيقهما وإنما على قبول هذه الرواية لهما، على أن الصدوق جعلها أصح من غيرها ولم يقل أنها صحيحة في نفسها فالصحة إضافية، ثم إن هذا اجتهاد منه لا نعلم مستنده، مضافاً إلى أن الحسن بن راشد كان وزيراً لعدد من خلفاء بني العباس (المهدي، الهادي، الرشيد) فيكون الأصل فيه أنه من الظلمة إلا أن يخرجه دليل.
2- الروايات من (15-18) مستدرك الوسائل، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 75.

19- خبر المثنى(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن علياً (عليه السلام) كره1- الصور في البيوت)(2)

بضميمة ما ورد في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ولم يكن عليّ يكره الحلال)(3).

20- خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تبنوا على القبور ولا تصوروا سقوف البيوت فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كره ذلك).

21- خبر تحف العقول وفيه: (وصنعة صنوف التصاوير وما لم يكن مُثُل الروحاني... فحلال فعله وتعليمه والعمل به)(4).

تقييم الاستدلال بالروايات

نوقش الاستدلال بالروايات من جهة ضعف سند أكثرها كما هو واضح، وأما من حيث الدلالة فأوردوا على (الرواية الأولى) وهي صحيحة محمد بن مسلم عدة أمور:

(منها) أنها أجنبية عن المقام، لأن السؤال فيها عن التماثيل الظاهر في كونها معمولة، فيسأل عن شيء بعد عملها وصنعها وليس عن نفس الصنع فهي

ص: 15


1- المثنى هو ابن الحضرمي بقرينة رواية ابن أبي عمير عنه وهو لم تثبت وثاقته لكن السيد الخوئي (قدس سره) بنى عليها لوروده في تفسير القمي، ولا نبني على وثاقة كل من روى عنهم ابن أبي عمير إذا صرّح بأسمائهم ولم يرسل عنهم، وقد وردت الرواية في الكافي والمحاسن بعدّة طرق عن المثنى، ورواها البرقي في المحاسن بسند معتبر عن يحيى بن أبي العلاء المختلف فيه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وبطريق معتبر عن حاتم بن إسماعيل المجهول عن جعفر (عليه السلام) (وهي موجودة في نفس الباب، ح13، 14).
2- الروايتان (19، 20) في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب3، ح3، 9).
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب15، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 2، ح1.

((ظاهرة في حرمة اقتناء الصور المحرمة، فإن التماثيل جمع تمثال بالفتح، ويجمع على تمثالات وعليه فالسؤال عن التماثيل إنما هو سؤال عن الصور الموجودة في الخارج، فلا بد وأن يحمل على الأمور المناسبة لها من البيع والشراء والاقتناء والتزيين ونحوها، لا على نفس عمل الصور، كما أن السؤال عن بقية الأشياء الخارجية - من المأكولات والمشروبات والمركوبات والمنكوحات ونحوها- سؤال عن الأفعال المناسبة لها والطارئة عليها بعد كونها موجودة في الخارج))(1).

وأيده بعضهم ب-((المروي عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) أنه سأل أباه عن التماثيل، فقال: (لا يصحّ أن يُلعب بها)، فإن إطلاق السؤال -كما يظهر من الجواب- حمل على التماثيل الموجودة فأجاب عن عدم صلاحية اللعب بها، وعليه فالسؤال عن حكم الأفعال المناسبة للتماثيل الموجودة، من اللعب والاقتناء والبيع والشراء، فالرواية أجنبية عن المقام من تجسيم ذوات الأرواح وإيجادها))(2).

وسننقل (صفحة 46) عن السيد الخميني (قدس سره) مثل هذا الإشكال على تقريب الاستدلال بالرواية.ويُردّ بوجوه:-

أ- إن متعلق البأس مطلق شامل لكل التصرفات وأوضحها صنعها كما ينصرف قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» (النساء:23) إلى النكاح، فلو لم ينصرف إليه الجواب فإنه مشمول بالإطلاق قطعاً.

ب- جعل خبر علي بن جعفر قرينة على ما قيل: غير صحيح لأن السؤال كان صريحاً عن اللعب بها، فقد ورد في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن التماثيل هل يصلح

ص: 16


1- مصباح الفقاهة (من المجموعة الكاملة): 35/371.
2- نقل هذا الإيراد السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد السابع، صفحة 75، وقد ذكره السيد الخميني (قدس سره) كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

أن يُلعب بها؟ قال: لا)(1)، نعم ورد النص الذي ذكره في رواية المحاسن - وهي معتبرة- عن ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (أنه سأل أباه عن التماثيل فقال: لا يصلح أن يُلعب بها)(2).

والظاهر أن الرواية واحدة وإن اكتفاء السائل بهذا الجواب دليل على أن السؤال كان عن اللعب فهي خاصة ولا تكون قرينة على غيرها. وورد في المحاسن أيضاً بسند ضعيف: (التماثيل لا يصلح أن يلعب بها)(3)

ولا تصلح للقرينية على ما قالوه حينئذٍ.

ج-- إنه ورد في بعض الأخبار (كالتاسع) النهي عن التصاوير وفسّره الإمام (عليه السلام) بصنعها.

د- إنهم ذهبوا إلى جواز اقتناء التماثيل واللعب بها فكيف جاز لهم حمل البأس عليه؟ اللهم إلا أن يقولوا بأنها حملت على الكراهة جمعاً مع ما دلّ على جواز الاقتناء.

(ومنها) ((أن غاية ما يُستفاد منها ثبوت البأس وهو أعم من التحريم في إيجاد صور ذوات الأرواح لا يفيد الحرمة))(4).

وهذا الإشكال قد رددنا عليه مراراً بأن البأس ظاهر في الحرمة واستحقاق العقوبة، وإذا استعمل في الكراهة فلوجود قرائن.

(ومنها) إن الدليل أخصّ من المدّعى إذ غاية ما يثبت به وجود البأس في تصوير ذوات الأرواح في الجملة أي على نحو الموجبة الجزئية لا مطلقاً على نحو الموجبة الكلية، لأن مفهوم الاستثناء مجمل، إذ يصدق المفهوم بوجود بأس في بعض الأفراد كالتصوير لمضاهاة الله سبحانه في خلقه والإمام (عليه السلام) نفى البأس عن تماثيل الشجر ونحوها وأخرج الحيوان لكن تركه مجملاً لأن السؤال لم

ص: 17


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 94، ح10.
2- جامع أحاديث الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 25، ح16. وفي الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب3، ح15.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 3، ح16.
4- مصباح الفقاهة: 35/371 ونقلها عن حاشية الإيرواني على المكاسب.

يكن عن الحيوان وإنما أجاب الإمام (عليه السلام) عنه تفضّلاً فلا يُعلم أنه في مقام البيان حتى يتم الإطلاق إذ يحتمل أن يكون (عليه السلام) في مقام إلفات النظر إلى وجود فرد مغاير في الحكم لم يُسأل عنه، كما لو قال المولى: (لا بأس بالصلاة في ثوب كذا ما لم تكن عليه نجاسة) فإنه لا يعني وجود البأس في النجاسة مطلقاً إذ أن بعض أفراد الدم معفوّ عنها. ونتيجةالاستثناء وجود البأس في تصوير الحيوان في الجملة.

نعم يمكن القول بنتيجة العموم من جهة منجزية العلم الإجمالي، فما دام البأس موجوداً في الجملة في تصوير ذوات الأرواح فإن قاعدة الاشتغال تجري ويجب الامتناع عن تصوير ذوات الأرواح مطلقاً.

ويجاب هذا بانحلال العلم الإجمالي للعلم بحرمة تصوير ذوات الأرواح إذا كانت بقصد مضاهاة الله تبارك وتعالى في خلقه أو لعبادتها وتعظيمها وتجري البراءة عن الصور الأخرى.

وقد استشكل بهذا الإجمال المحقق الإيرواني (قدس سره) لكن على تعميم الاستدلال لغير المجسمة فقال (قدس سره): ((مقتضى الصحيحة عدم البأس بالتمثال ما لم يكن تمثال حيوان، وهذه قضية مهملة بالنسبة إلى تمثال الحيوان لا تقتضي عموم البأس لتمام أفراد تمثال الحيوان))(1).

ولرفع الاستغراب نذكر موردين من كلمات الفقهاء (قدست أرواحهم) في غير موضع كلامنا إلا أنها تتحد مع ما نحن فيه كبروياً:

(أولهما) للسيد اليزدي (قدس سره) صاحب العروة قال (قدس سره) تعليقاً على خبر تحف العقول (وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني): ((بل لإمكان دعوى أن مقتضى مقام التحديد وجود أصل المفهوم، وأما وجوب كونه عاماً فلا، فإنه يكفي ثبوت البأس في الروحاني في الجملة فلا يستفاد منه أزيد من ذلك، ألا ترى أنه لو قال (لا بأس بقتل الحيوان ما لم يكن إنساناً) لا يستفاد منه أن قتل كل إنسان حتى المرتد فيه بأس)) لكنه (قدس سره)

ص: 18


1- حاشية الشيخ الإيرواني (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، نقلنا النص عن مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 7، صفحة 86.

تراجع وقال: ((ولكن الإنصاف أنه لو كان في مقام تحديد التصاوير من حيث الجواز والمنع مطلقاً كما هو الظاهر فلا بد من كون المفهوم عاماً بمعنى أنه يستفاد منه عموم المفهوم))(1).

أقول: نحن لا نتراجع عما استظهرناه في المقام وإن لم يجرِ في موارد أخرى.

(ثانيهما) للسيد الخميني (قدس سره) حيث قال عن نفس الخبر بأنه ((في مقام بيان الصنوف المحلّلة لا المحرمة، فلا إطلاق في عقد المستثنى يشمل المجسمات وغيرها)).

ويظهر من بعض كلمات الشيخ المنتظري (دام ظله) أن هذه كبرى جارية في أغلب موارد الاستثناء، قال: ((لأن الكلام المشتمل على الاستثناء مسوق غالباً لبيان الحكم في المستثنى منه، والمستثنى يذكر بنحو الإجمال للإشارة إلى أصل وجود الاستثناء فلا يجري فيه مقدمات الحكمة ولا يحكم بالإطلاق فيه. وعلى هذا فيكفي في صحة الاستثناء في المقام كون بعض مصاديق الروحاني كالمجسم منه مطلقاً أو خصوص ما يقع منه معرضاً للعبادة والتقديس محرماً))(2).

(ومنها) ما أشكل به سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) بقوله: ((لأن (ما) هناليست شرطية وإنما هي موصولة أو ظرفية، وعلى كلا التقديرين، يكون المفهوم من قبيل مفهوم الوصف. لأنه ليس مفهوم الشرط ولا مفهوم الغاية، ولا غيرهما طبعاً، ومفهوم الوصف ليس بحجة)) وأجاب (قدس سره) ب-((أن الإنصاف أنه من الواضح أن الإمام (عليه السلام) بصدد المنع من تصوير الحيوان، مضافاً إلى بيان جواز غيره، فيكون ظهورها هذا حجة))(3).

أقول: أصل الإشكال غير وارد لأن (ما) إما ظرفية أو استثنائية وعلى التقديرين فهي غائية لها مفهوم.

(ومنها) إن ذكر الشمس والقمر -التي لا يعرف فيها التصوير المجسم وإنما

ص: 19


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 19.
2- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/572.
3- ما وراء الفقه: 3/139.

النقش- قرينة على أن المراد بالتماثيل غير المجسمة فلا يصحّ الاستدلال بالصحيحة على القول الأول.

وفيه:-

1- إن نتيجة هذا الإشكال حرمة نقش ذوات الأرواح أي التصوير غير المجسم وبضميمة عدم القول بالفصل نحصل على القول بحرمة التصوير المجسم أيضاً.

2- إن أقواماً عبدوا الكواكب ولم يكونوا يعبدون نقوشاً بل مجسمات ليقربوهم إلى الله زلفى بزعمهم فلا تصلح القرينية المذكورة في الإشكال.

ونوقشت (الرواية الثانية) وهي صحيحة أبي العباس البقباق من جهة ((أن إنكار أبي عبد اله (عليه السلام) لا يدل على كونها محرمة على سليمان النبي (عليه السلام) بل لعلها كانت مكروهة عليه كراهة شديدة لا يليق ارتكابها بمثل النبي))(1).

وهو إشكال وجيه على التقريب الذي ذكروه ولا يرد عليه ما قيل من ((أن وقوع المكروهات لبيان جواز الأشياء غير عزيز، ولا يوجب السؤال، ولا يحتاج في دفع احتماله إلى القسم))(2)، وبيانه: أن هذا الفعل لو كان مكروهاً فإن صدور المكروه من المعصومين لمصلحة ما كبيان جواز الفعل وارد ولا يستحق هذا الإنكار، لأن الكبرى وإن كانت صحيحة إلا أن المورد ليس من صغرياتها.

نعم يمكن تقريب الاستدلال بالصحيحة من جهة إمضاء الإمام (عليه السلام) لارتكاز الحكم بالحرمة عند السائل مما أوجب السؤال واندفع الإمام (عليه السلام) بقوة ليوضّحه وإمضاء الارتكاز في ذوات الأرواح دون غيرها. فلا يرد عليه الإشكال المذكور.

إلا أن يقال أن هذا الارتكاز يحتمل فيه أنه كراهة هذه التماثيل وعدم لياقتها لمقام النبوة فعاد الإشكال جذعاً.

ويمكن أن يجاب بأن الكراهة لو تصورناها فهي في اقتناء النبي سليمان

ص: 20


1- المكاسب المحرمة للسيد الخميني (قدس سره): 1/175.
2- مجلة فقه أهل البيت، مصدر سابق، صفحة 75.

(عليه السلام) للتماثيل وتزيين بيته بها، والآية تتحدث عن صنعها بأمره (عليه السلام) ولا إشارة باتخاذه لها زينة ونحوه.ونوقشت (الرواية الثالثة) وهي موثقة أبي بصير بأنها تدل على أخصّ من المدعى ((فإن تخصيص النهي عن التزويق -المفسَّر في كلام الإمام (عليه السلام) بتصاوير التماثيل بتزويق البيوت- مع أنه غير مسبوق بالسؤال، لعله لأجل وقوع الصلاة فيها، فتشبه بيوت عبادة الأصنام فتكون كناية عن الصلاة فيها))(1).

ونوقشت من جهة السند فإنه ضعيف في الكافي كما تقدم (صفحة 11) وتماميته في المحاسن غير موثوق بها لأن هذا الكتاب ليس مما تناوله مشايخ الإجازة ورواة الحديث يداً عن يد وقرأوه جيلاً فجيل كالكتب الأربعة ويُحتمل أن شيئاً من الزيادة والنقصان قد لحقه.

وعلى أي حال فنتيجة ما تقدم ثبوت حرمة التصوير المجسم لذوات الأرواح في الجملة لاستفاضة الروايات بشكل يغلق باب المناقشة في الدلالة والسند فيحصل الاطمئنان بصدور هذا المعنى منهم (صلوات الله عليهم أجمعين)، وللإجماع المطبق على الحكم المتصل بالارتكاز التام لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لذا صدرت منهم أسئلة عن التفريعات بعد فراغهم من أصل الحكم فسألوا عن وجودها في البيت وكونها قدّام المصلي أو الصلاة بملابس نقشت عليها وعن نقشها في الأستار والبسط وجواز نقشها في الخاتم وغيرها من الأسئلة(2).

مناقشة في إطلاق الحكم

قُيّدت الحرمة في كلمات بعض الفقهاء بوجوه:-

ص: 21


1- شرح الشيخ فتاح الشهيدي على المكاسب: 1/183.
2- راجع البابين: 45، 46 من أبواب لباس المصلي، والبابين 32، 33 من أبواب مكان المصلي، والبابين 3، 4 من أبواب أحكام المساكن في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة.

(أولها) ما استظهره الشيخ الأنصاري من اشتراط قصد الحكاية والتشبّه بالخالق سبحانه فلو لم يقصدها لم يكن عمله حراماً وإن كان ما يصنعه تمثالاً شبيهاً بذي روح، قال (قدس سره): ((هذا كله مع قصد الحكاية والتمثيل، فلو دعت الحاجة إلى عمل شيء يكون شبيهاً بشيء من خلق الله - ولو كان حيواناً- من غير قصد الحكاية، فلا بأس قطعاً))(1).

وهو منه (قدس سره) مبني على الحكمة التي استنبطها للحكم بقوله: ((إن الظاهر أن الحكمة في التحريم هي حرمة التشبه بالخالق في إبداع الحيوانات وأعضائها على الأشكال المطبوعة، التي يعجز البشر عن نقشها على ما هي عليه فضلاً عن اختراعها، ولذا منع بعض الأساطين(2) عن تمكين غير المكلف من ذلك.

ومن المعلوم أن المادة لا دخل لها في هذه الاختراعات العجيبة، فالتشبه إنمايحصل بالنقش والتشكيل لا غير))(3).

ويمكن الإشكال عليه من جهة أنه استنباط من باب تنقيح المناط أي أن المناط في الحرمة هو قصد الحكاية فلو لم يقصد لم يكن فعله حراماً حتى لو علم وقصد بأن ما يصوره هو حيوان ذو روح، وهذا المناط لا دليل عليه يمكن جعله مستنداً للأحكام مضافاً إلى أن هذا الاشتراط منه (قدس سره) منافٍ لإطلاق الأدلة التي جعلت موضوع الحرمة كون المصوَّر حيواناً، لذا تصدى جملة من شارحي المكاسب والمحشّين عليها إلى توجيه عبارته (قدس سره).

فحمل بعضهم الحاجة المذكورة في كلامه (قدس سره) على حال الاضطرار التي تبيح المحذورات، وفيه أن العبارة تأباه فإن المصنف (قدس سره) ذكر الحاجة من باب المثال وليس من باب التعليل للجواز، مضافاً إلى أنَّ الحاجة أوسع من الاضطرار وإن المصنف بصدد بيان قيد للحرمة.

وحملها بعضهم على ما استغربه كثيرون ((من أن مراد المصنف (قدس

ص: 22


1- المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/189.
2- وهو الشيخ كاشف الغطاء في شرحه على القواعد.
3- المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/185.

سره) من هذا الكلام أن يكون الداعي إلى إيجاد الصورة هو الاكتساب وتحصيل المال بأن يجيء الناس فينظرون إليه فيأخذ منهم على النظر إليها شيئاً ولا يكون الداعي هو التشبيه والتصور، ثم أورد عليه بأن جواز ذلك ليس قطعياً إن لم ندّع الحكم بعدم الجواز إذ لا يخفى أنه أجنبي عن كلامه (قدس سره) مع أن الحكم بالحرمة في الصورة المفروضة معلوم فلا ينبغي حمل كلامه عليه))(1).

وقيل في توجيه عبارته (قدس سره) بما ذكره السيد صاحب العروة (قدس سره) من ((كون الصورة حينئذٍ مشتركة بين الحيوان وغيره فيكون تميّزه بالقصد))(2)

وأوضح منه ما ذكره تلميذ الأنصاري الشيخ محمد حسن المامقاني (قدس سره) من أنّ ((مقصوده هو أنه إذا لم يكن الداعي إلى عمل ما هو بصورة شيء من الحيوانات هو التمثيل والتشبيه كما لو احتاج إلى عمل أداة على صورة أحد الحيوانات كالأداة المصنوعة في زماننا على هيأة الهرة لإقامة الأساطين والأعمدة الثقيلة التي تنوء بالعصبة أولي القوة فإنه حينئذٍ يكون المقصود من صنع تلك الأداة تحصيلها ليرتب عليها الأثر المقصود وحيث لم يكن يترتب المقصود عليها إلا بأن تكون على تلك الهيأة الخاصة حيث تتلاءم أجزاؤها التي لكل منها ولهيأته مدخل في حصول الأثر المقصود من تلك الأداة فحينئذٍ يكون مسيس الحاجة إلى مثل تلك الأداة داعياً إلى صنعها لتحصيل المقصود لا بقصد التمثيل والتصوير لا يندرج في الأخبار الناهية عن التمثيل والتصوير والسر فيه أن صنع مثل ما ذكر إنما هو صنع ما هو بصورة الحيوان لا تصوير الحيوان، فالحاصل أن المثال والصورة وما وافقهما أي المادة والمعنى لا تتحقق إلا بإيجاده بقصد التشبيه والحكاية فما لم يكن بذلك العنوان خارج عن حكمالأخبار))(3).

أقول: التقريب الذي يظهر من صدر كلامه (قدس سره) غير كافٍ للخروج من

ص: 23


1- حكاه السيد اليزدي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب، صفحة 19.
2- نفس المصدر.
3- حاشية المرحوم المامقاني (قدس سره) على المكاسب المسماة (غاية الآمال)، طبعة حجرية.

إطلاق الحرمة لذا تممه (قدس سره) ببلوغ الحاجة حد الاضطرار -حيث عبّر بمسيس الحاجة وحصر ترتب الغرض المقصود بهذه الصور- وهو في نفسه صحيح إلا أنه غير مقصود للشيخ الأعظم (قدس سره)، وإن مثال الهرة لا ينطبق لأن البنّاء قصد تصوير الهرة في قواعد الأعمدة وليس أن الأساس احتاج إلى هذه الهيأة.

نعم يمكن تحصيل وجه من كلامه (قدس سره) قاله السيد الخوئي (قدس سره) في شرح كلام الشيخ الأعظم (قدس سره) وتأييده: ((لا شبهة في اعتبار قصد حكاية ذي الصورة في حرمة التصوير، لأن المذكور في الروايات النهي عن التصوير والتمثيل، ولا يصدق ذلك إذا حصل التشابه بالمصادفة والاتفاق من غير قصد للحكاية، وعليه فإذا احتاج أحد إلى عمل شيء من المكائن أو آلاتها أو غيرهما من الأشياء اللازمة على صورة حيوان فلا يكون ذلك حراماً لعدم صدق التصوير عليه بوجه.

والمثال الواضح لذلك الطائرات المصنوعة في زماننا فإنها شبيهة بالطيور ومع ذلك لم يفعل صانعها فعلاً محرماً، ولا يتوهم أحد حتى الصبيان أن صانع الطائرة يصور صورة الطير، بل إنما غرضه صنع شيء آخر للمصلحة العامة، وكونه على هيأة الطير إنما هو اتفاقي))(1).

وفيه: إنه خروج عن مفروض المسألة، لأن ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) أن العامل يعلم أنه يصور شيئاً على هيأة الحيوان لحاجة ما وليس أنه شابهه اتفاقاً، على أن ما ذكره السيد (قدس سره) ليس تصويراً لذي الروح وإنما هو يبدو شبيهه بالنظر الساذج فأدلة التصوير منصرفة عنه، ولو كان هذا المقدار من الشبه يدخله في موضوع الحرمة الذي هو التصوير لخرجنا بنتائج غريبة كحرمة صنع الحبال مثلاً لأنها تشبه الأفعى وحرمة صنع الخيوط لأنها تشبه الديدان الشريطية وغيرها.

وعلى أي حال فيمكن قبول عبارة الشيخ (قدس سره) كما هي وأن

ص: 24


1- مصباح الفقاهة من (المجموعة الكاملة): 35/360.

مختاره تقييد حرمة تصوير ذوات الأرواح بقصد التشبه بالخالق وحكاية صنعه، فلا يحرم تصوير ذوات الأرواح إلا بهذا القصد، فلو صنع تماثيل مجسمة لذوات الأرواح للتعليم والدراسة أو للعب الأطفال ونحوه لم يكن حراماً.

أو توجيه عبارته (قدس سره) بما ينسجم مع اشتراط قصد الحكاية الذي ذكره (قدس سره) فيراد به حالتان:-

1- موارد التطابق بين صورة ذي الروح وغيره من المصنوعات فيتميّز بالقصد، وهو فرض نادر.

2- إذا كان المصوَّر على هيأة شبيهة بصورة ذي الروح وليس تصويراً لذي الروح، وأن المصوِّر صنعها لغرضٍ ما ولم يقصد تصوير ذي الروح، كمن يصنع الخيوط وهي تشبه الديدان، أو يصنع الحبال وهي تشبه الأفاعي وهكذا.والظاهر أن الشيخ (قدس سره) يريد الثاني، كما يظهر من بعض كلماته (قدس سره) فإنه بعد أن استظهر اختصاص الحكم بذوات الأرواح، قال (قدس سره): ((فإن صور غيرها كثيراً ما تحصل بفعل الإنسان للدواعي الأُخر غير قصد التصوير، ولا يحصل به تشبّه بحضرة المبدع -تعالى عن التشبيه- بل كل ما يصنعه الإنسان من التصرف في الأجسام فيقع على شكل واحد من مخلوقات الله تعالى))(1).

إلحاق: ردّ الشيخ الأنصاري بهذا الاشتراط على كاشف اللثام، فقال (قدس سره): ((ومنه يظهر النظر في ما تقدم عن كاشف اللثام)) يشير بذلك إلى ما نقله عنه في مسألة كراهة الصلاة في الثوب المشتمل على التماثيل ((أنه لو عمّت الكراهة لتماثيل ذي الروح وغيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام لشبه الأعلام بالأخشاب والقصبات ونحوها، والثياب المحشوة، لشبه طرائقها المخيطة بها، بل الثياب قاطبة لشبه خيوطها بالأخشاب ونحوها)) وتبعه السيد الخوئي(2)(قدس سره).

ص: 25


1- المكاسب من (المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري): 14/186.
2- مصباح الفقاهة من (المجموعة الكاملة): 35/359.

أقول: هذا الرد يكون تاماً بناءً على ما قرّبناه من معنى اشتراط قصد الحكاية باعتبار أن هذه الأمور شبيهة بتلك الموجودات الطبيعية وليست أنها تصوير وتمثيل لها، أما إذا عدّها العرف تصويراً لذي الروح فإن حكمها الحرمة، وإن الاشتراط منفي بإطلاق الأدلة، كما يمكن الرد بانصراف أدلة الحرمة عن مثل المورد.

(ثانيها) -وهو يتعلق بتعميم الحرمة إلى غير الحيوان نذكره استطراداً -وهو ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) من تقييد الصورة بكونها معجبة للناظر، قال (قدس سره): ((ثم إنه لو عممنا الحكم لغير الحيوان مطلقاً أو مع التجسيم، فالظاهر أن المراد به ما كان مخلوقاً لله سبحانه على هيأة خاصة معجبة للناظر، على وجه تميل النفس إلى مشاهدة صورتها المجردة عن المادة أو معها، فمثل تمثال السيف والرمح والقصور والأبنية والسفن مما هو مصنوع للعباد -وإن كانت في هيأة حسنة معجبة للناظر- وكذا مثل تمثال القصبات والأخشاب والجبال والشطوط مما خلق الله لا على هيأة معجبة للناظر بحيث تميل النفس إلى مشاهدتها- ولو بالصور الحاكية لها- لعدم شمول الأدلة لذلك كله))(1).

أقول: هذا القيد مما لا دليل عليه وهو منفي بإطلاق الأدلة وإذا أراد (قدس سره) مخرجاً لتحليل عمل هذه الأمور فإنه يكفي ما ذكره (قدس سره) من انصراف الأدلة عنها ولا حاجة لافتراض قيود لإخراجها.

وردّ السيد الخوئي (قدس سره) بما ذكره المحقق الإيرواني في حاشيته على المكاسب: ((من أن الإعجاب الحاصل عند مشاهدة الصورة إنما هو من نفس الصورة لكشفها عن كمال مهارة النقاش ولو كانت صورة نمل أو دود، ولذا لا يحصل ذلكالإعجاب من مشاهدة الصورة))(2).

وفيه: إنه غير تام لأن الإعجاب الذي اشترطه الشيخ (قدس سره) في المخلوق الطبيعي وليس في الصورة فالرد أجنبي.

ص: 26


1- المكاسب من (المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري): 14/188.
2- مصباح الفقاهة: 35/359.

(ثالثها) ما استفاده السيد الخميني (قدس سره) من طائفة من الروايات بضميمة مناسبات الحكم والموضوع فقيّد الحرمة بما صُوّر ليكون أصناماً تعبد من دون الله تبارك وتعالى لارتكاز هذه العبودية في نفوسهم وعدم اقتلاعها بمجرد الإسلام فقال (قدس سره): ((ظاهر طائفة من الأخبار بمناسبة الحكم والموضوع أن المراد بالتماثيل والصور فيها هي تماثيل الأصنام التي كانت مورد العبادة، كقوله: (من جدد قبراً أو مثّل مثالاًَ فقد خرج عن الإسلام)(1)

وقوله: (من صوّر التماثيل فقد ضاد الله)(2)

وفيه احتمال آخر ينسلك به في الطائفة الثانية((3)، وقوله: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتل نبياً أو قتله نبي ورجل يضل الناس بغير علم ومصور يصور التماثيل)(4) وقوله: (إن من أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون) وأمثالها فإن تلك التوعيدات والتشديدات لا تناسب مطلق عمل المجسمة أو تنقيش الصور، ضرورة أن عملها لا يكون أعظم من قتل النفس المحترمة أو الزنا أو اللواطة أو شرب الخمر وغيرها من الكبائر، والظاهر أن المراد منها تصوير التماثيل التي هم لها عاكفون مع احتمال آخر في الأخيرة، وهو أن المراد بالمصورين القائلون بالصورة والتخطيط في الله تعالى كما هو مذهب معروف في ذلك العصر.

والمظنون الموافق للاعتبار وطباع الناس، أن جمعاً من الأعراب -بعد هدم أساس كفرهم وكسر أصنامهم بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمره- كانت علقتهم بتلك الصور والتماثيل باقية في سر قلوبهم، فصنعوا أمثالها حفظاً لآثار أسلافهم وحباً لبقائها كما نرى حتى اليوم علاقة جمعٍ بحفظ آثار المجوسية وعبدة النيران في هذه البلاد حفظاً لآثار أجدادهم، فنهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه بتلك التشديدات والتوعيدات التي لا تناسب إلا للكفار ومن يتلو تلوهم قمعاً لأساس الكفر ومادة الزندقة ودفعاً عن حوزة التوحيد، وعليه تكون تلك الروايات ظاهرة أو منصرفة إلى ما ذكر، وعليه تحمل

ص: 27


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب3، ح10.
2- و (3) مستدرك الوسائل: كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به، باب 75، ح5.
3- (4) وهي مجموعة الروايات التي دلّت على تكليف المصور بالنفخ فيما صور.
4- (4) وهي مجموعة الروايات التي دلّت على تكليف المصور بالنفخ فيما صور.

رواية ابن القداح(1)

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هدم القبور وكسر الصور) ورواية السكوني(2)

عنه قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبراً إلا سوّيته ولا كلباً إلا قتلته)، فإن بعثرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين لذلك: دليل على اهتمامه به، والظاهر أن الصور كانت صور الهياكل والأصنام ومن بقايا آثار الكفر والجاهلية، ولا يبعد أن يكون الكلِب في الرواية الثانية بكسر اللام وهو الكلب الذي عرضه داء الكلب وهو داء شبه الجنون يعرضه فإذا عقر إنساناً عرضه ذلك الداء وما في بعض الروايات(3) من نكتة نجاسة الكلب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتله فهو سر التشريع على فرض ثبوت الرواية، وإلا فلم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل مطلق الكلاب حتى كلاب الصيد والماشية، بل جعل لها ديّة كما أن ما في رواية السكوني(4)

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الكلب الأسود البهيم لا تأكل صيده لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتله) من سر التشريع فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل الكلاب الغير المؤذية: بعيد جداً لا يمكن تصديقه، وأما أن تكون الكلاب أو بعضها مورد تعظيم الناس وعبوديتهم بعيد، ولم ينقل إلينا وإن لا يبعد شيء من جهال الناس كما اتخذوا البقر والشيطان معبوداً، ولعل أمره بهدم القبور لأجل تعظيم الناس إياها بنحو العبادة للأصنام وكانوا يسجدون عليها، كما يشعر به بعض الروايات الناهية عن اتخاذ قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبلة ومسجداً، فإن الله عز وجلّ لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)(5)ويشهد له بعد بعث

ص: 28


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 3، ح 7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب3، ح 8.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 12، ح 1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذبائح، أبواب الصيد، باب 45، ح 1.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 26، ح 26.

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) لهدم القبور وكسر الصور لكراهة بقائهما وسيأتي جواز اقتناء الصور المجسمات. وأما على ما ذكرناه يكون الحكم على وجه الإلزام كما يساعده الاعتبار وتؤيد ما ذكرناه صحيحة عبد الله بن المغيرة(1)

قال: (سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال قائل لأبي جعفر (عليه السلام): يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل؟ فقال: الأعاجم تعظمه وإنّا لنمتهنه (أي نحتقره) )، وما عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (دخل قوم على أبي جعفر (عليه السلام) وهو على بساط فيه تماثيل فسألوه فقال: أردت أن أهينه)(2)، وفي رواية (قال جبرئيل: إنا لا ندخل بيتاً فيه تمثال لا يوطأ)(3) فإن الظاهر أن التحقير والإهانة بالصور في مقابل تعظيم الأعاجم، لأنهم كانوا يعبدون أصناماً وتماثيل فكانوا يعتقدون أنها مثال أرباب الأنواع التي يعتقدون أنها وسائل إلى الله تعالى، وبالجملة لا تستفاد من تلك الروايات حرمة مطلق المجسمات فضلاً عن غيرها، بل هي مربوطة ظاهراً بعمل الأصنام وحفظ آثار الجاهلية وحفظ عظمتها الموهومة، ولا يبعد القول بحرمتها مطلقاً وحرمة اقتنائها لذلك ووجوب محوها))(4).(4).

وفيه:-1- إن هذا المناط لو كان تاماً فلازمه حرمة إبقاء هذه التصاوير واقتنائها لوحدة المناط مع أن الدليل الصحيح عندهم قام على الجواز.

2- لو سلّمنا هذا الاستظهار في جملة من الروايات فإن عدداً آخر من الروايات فيها إطلاق من هذه الناحية -كصحيحة محمد بن مسلم- فلا يصح التقييد المذكور.

3- ما ذكره البعض(5)(5)من أنه ((لا وجه لاستبعاد العذاب الشديد لمثل التصوير والتماثيل، فإن جعل العذاب الشديد لبعض المعاصي غير عزيز، كما روي

ص: 29


1- وسائل الشيعة: أبواب أحكام المساكن، باب 4، ح 1، 8، 5.
2- وسائل الشيعة: أبواب أحكام المساكن، باب 4، ح 1، 8، 5.
3- وسائل الشيعة: أبواب أحكام المساكن، باب 4، ح 1، 8، 5.
4- (4) المكاسب المحرمة للسيد الخميني (قدس سره): 1/169-171.
5- (5) السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد (7) صفحة 79 وما بعدها.

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أكل الربا ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ما أكل)(1)، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من يغضب غضبة عممه الله عز وجل بعمامة من نار)(2).

والمراد من عنوان الخروج عن الإسلام هو الخروج الحكمي(3) لا الخروج الحقيقي، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(4)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من يَغضَب أو يُغضب له فقد خلع ربق الإسلام (الإيمان) من عنقه)(5)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ومن خان أمانته في الدنيا ولم يردها على أربابها مات على غير دين الإسلام)(6).

فالخروج عن الإسلام بالتصوير حكمي لا حقيقي، وإلا فمن المعلوم أن صنع الصنم لا يوجب الكفر والخروج عن الإسلام حقيقةً، فضلاً عن المجسمات، فدعوى عدم المناسبة لتلك التشديدات لعمل المجسمات كما ترى)).

4- وما ذكره أيضاً من ((أن دعوى ظهور الأخبار المطلقة المذكورة في الأصنام أو انصرافها إليها لا شاهد لها، واستبعاد تلك التشديدات -مع ما فيه- لا يوجب ذلك، لا سيما مع احتمال أن تكون المعصية معصية كبيرة تليق بهذه التشديدات كما تشير إليه روايات النفخ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق النهي عن التماثيل والتصاوير، نعم لو كثر استعمالها في الأصنام لصحّ دعوى الانصراف، ولكنه ليس كذلك.

وكون جمع من عبدة الأصنام في صدد حفظ آثار أسلافهم، لا يوجب

ص: 30


1- كشف المحجة: 83.
2- التوحيد: 48.
3- ربما يريد الخروج المعنوي أو الخروج عن المعنى الحقيقي الكامل للإسلام.
4- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب18، ح2.
5- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، صفحة 270، في عقاب من يغضب.
6- ثواب الأعمال، صفحة 285.

حملالإطلاق في الأخبار المذكورة عليه.

كما أن ورود روايات تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث علياً (عليه السلام) لكسر الصور ومحوها لا ينافي إطلاق هذه الروايات، سواء قلنا أن الصور المعمول بكسرها هي الأصنام أو مطلق المجسمات.

5- ما نقله عن ((المواهب في تحرير أحكام المكاسب (صفحة 341) )) من ((أن التعبير في الروايات بأن المصور يكلّف يوم القيامة بالنفخ بالصورة وليس بنافخ يستفاد منه أن حكمة التشريع هي التشبه بالخالق تعالى، لا ترويج الكفر والشرك الذي هو العلة للتحريم في الطائفة الأخيرة (أي الأخبار الدالة على كسر الصور).

ولو كانت الروايات (المطلقة) ناظرة إلى المعنى المستفاد من الطائفة الأخيرة لكان المناسب أن يعبر فيها بأن المصور يكلف يوم القيامة بالاستشفاع من الصور، ولا ينفعونه، حيث كان المشركون يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله)).

وأضاف ((ويحتمل أن يكون المقصود من قوله (عليه السلام): (من صوّر التماثيل فقد ضادّ الله) هو ذلك.

وكيف كان، فحكمة الحكم لا تنحصر في المنع عن عبادة الأصنام ومع عدم انحصار الحكمة في المنع عن عبادة الأصنام لا وجه لحمل المطلقات على خصوص عمل الأصنام)).

أقول: لكن الإنصاف أنه (قدس سره) استظهر هذا المعنى من طائفة من الروايات وهي روايات النفخ وليس أنه حصيلة النظر في كل الروايات، فإن مختاره (قدس سره) في رسالته العملية الحرمة مطلقاً قال (قدس سره): ((يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والحيوان إذا كانت الصورة مجسمة كالمصنوعة من الأحجار والفلزّات والأخشاب ونحوها))(1)

وقاله أيضاً في مقدمة

ص: 31


1- تحرير الوسيلة، ج1، كتاب المكاسب والمتاجر، صفحة 450، المسألة (20).

بحثه في المسألة حيث أنه بعد أن عدّد الأقوال فيها قال (قدس سره): ((والأقوى هو الأخير -أي كون المحرم عمل ذوات الأرواح المجسمة- وهو المتيقن من معقد الإجماع المحكي، وتدل عليه مضافاً إليه الأخبار الآتية))(1)

لذا فإن نسبة(2)

القول بجواز التصوير المجسم لذي الروح في غير الحالة المذكورة إليه (قدس سره) وهمٌ أوجبه هذا الاستظهار من هذه الطائفة خاصة دون غيرها.

ومع ذلك فإن طيّات كلامه (قدس سره) -والمرء مخبوء تحت طيّ لسانه- تفيد الميل إلى الحرمة في المورد خاصة كقوله (قدس سره) في مسألة إلحاق الجن والملك بذي الروح التي ستأتي في الفرع الثامن، فإنه قوّى عدم الحرمة ثم قال: ((هل تلحق صورة الجن والشيطان والملك بالصورة الحيوانية أو لا؟ قد يقال: إن مقتضى إطلاق الأدلة ذلك. ولكن يمكن أن يقال: إن العمدة في الأدلة أخبار النفخ، وأما غيرها فقد تقدم أن جملة منها مربوطة بعمل هياكل العبادة وجملة أخرى منها لا إطلاق لها، ولو وجدفيها ما له إطلاق فضعيف سنداً))(3).

(رابعها) اختصاص الحكم بزمان صدر الإسلام لنكتة خطرت في البال قبل أكثر من عشرين عاماً كمثال على أطروحة قدمتها إلى السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أسميتها في حينها ب-((فهم ما وراء النص)) كعامل مؤثر في استنباط الحكم من النصوص واستظهاره والذي بدأ يثار بعد ذلك بسنين في حوزة قم المقدسة تحت عنوان (تأثير عاملي الزمان والمكان) وعند البعض باسم (فلسفة الفقه) وقلت فيه بما يناسب ثقافتي الفقهية والفكرية يومئذٍ: ((حرّم الفقهاء تصوير ذوات الأرواح مطلقاً بناءً على عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ظاهر النصوص ولكن بمساعدة فهم الظروف والملابسات المحيطة بالحكم كالفترة التأريخية للحكم وكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائد ثورة تغييرية لمجتمع ذي تقاليد جاهلية معينة ونحو ذلك نقول بالاستفادة من ذلك

ص: 32


1- المكاسب المحرمة: 1/168.
2- حكى هذه النسبة السيد محسن الخرازي في المصدر المتقدم، صفحة 81.
3- المكاسب المحرمة: 1/171.

نفهم أن الهدف منه هو قطع دابر الوثنية وعبادة الأصنام، أما اليوم وبعد أن أصبحت الأصنام المعبودة من دون الله تعالى من غير الحجارة والخشب والمواد الأخرى فيظهر أن حكم التحريم يجب أن يعاد النظر فيه حيث أصبح الهدف من تجسيم ذوات الأرواح أمور أخرى غير محرمة كالزينة وتخليد العظماء ولعب الأطفال))(1).

وقد علّق عليه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بقوله: ((هذا مرفوض فقهياً لأن النص الناهي عن التماثيل يحتوي على ما يسمى (بالإطلاق الزماني) يعني شموله لكل زمان حتى زماننا هذا ولو كان معللاً بما في كلامكم لأمكن التجاوز عن الحكم مع زوال العلة، وهو أمر صحيح أصولياً، إلا أنه غير معلل لفظياً وإنما العلة المذكورة أمر ذهني مفروض على النص من الخارج)).

أقول: يكن أن نؤيد استنباط هذه العلة بخبر عمرو بن جميع قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في المساجد المصوّرة، فقال: أكره ذلك ولكن لا يضرّكم ذلك اليوم، ولو قد قام العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك)(2)

لكن ضعف الخبر يجعل ما ردّ به (قدس سره) صحيحاً مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من النقض عليه ببعض النصوص التي صدرت عن أئمة متأخرين كالإمام الصادق (عليه السلام) ولم يكن ذلك الاحتمال موجوداً لظهور أمر التوحيد وإنما ضعفنا هذا الرد الثاني باعتبار أن عودة عوام الناس إلى عبادة هياكل القديسين والأنبياء والأولياء العظام من دون الله تعالى واتخاذها وسائط للفيض الإلهي أمر يسير ويجد استجابة لدعوته.

ولكن الفكرة -أعني تأثير الزمان والمكان وجملة من العوامل وراء النص أي التي لا تظهر من ألفاظه- صحيحة ودلّت عليها عدة روايات ففي نهج البلاغة أنه سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (غيّرواالشيب ولا تشبّهوا باليهود) فقال (عليه السلام): (إنما قال

ص: 33


1- الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه، طبعة قم: 171.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 15، ح1 عن الكافي والتهذيب.

(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك والدين قُل، وأما الآن وقد اتسع نطاقُه، وضربَ بجرانه، فامرؤٌ وما اختار)(1).

وروى الصدوق (رضوان الله عليه) في كتاب إكمال الدين بسنده عن محمد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد عليّ من الشيخ محمد بن عثمان في جواب مسائلي إلى صاحب الزمان (عليه السلام): (وأما ما سألت عنه من أمر المصلي والنار والصورة والسراج بين يديه هل تجوز صلاته؟ فإن الناس اختلفوا في ذلك قبلك، فإنه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام والنيران أن يصلي والنار والصورة والسراج بين يديه، ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأصنام والنيران)(2).

وفي الفقيه عن عمر بن أذينة عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن المريض كيف يسجد؟ فقال: (على خُمرةٍ أو على مروحة أو على سواك يرفع إليه، وهو أفضل من الإيماء، إنما كره من كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تُعبد من دون الله، وإنّا لم نعبد غير الله قط، فاسجدوا على المروحة وعلى السواك وعلى عود)(3)

ومن مصاديقها الأحكام التي صدرت بالولاية، واكتشاف هذه العوامل المؤثرة لا يكون بالظن والاستحسان والقياس وتنقيح المناط ونحوها من الطرق غير المعتبرة، بل لا بد من قرائن معتبرة على هذا الحمل والتفصيل موكول إلى محله من علم الأصول.

ص: 34


1- نهج البلاغة، ج4، صفحة 5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 30، ح5.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب ما يسجد عليه، باب 15، ح1.

القول الثاني: إطلاق الحرمة لتصوير ذي الروح ولو لم يكن مجسماً

اشارة

اختاره صاحب الحدائق (قدس سره) فقال: ((ظاهر هذه الأخبار -بعد حمل مطلقها على مقيدها-: هو تخصيص التحريم بتصوير صورة ذي الروح، أعم من أن تكون مجسمة أو منقوشة على جدار وشبهه))(1).

وذهب إليه أيضاً النراقي في المستند(2)

والشيخ الأنصاري (قدس سره) وحكاه عن ابن إدريس في السرائر والشهيد الثاني في المسالك وعن الكفاية ومجمع البرهان، وغيرهم واحتاط به المحقق الكركي(3)

واختاره السيد صاحب العروة (قدس سره) قال: ((والحق حرمة تصوير ذي الروح مطلقاً مجسماً أو غيره وجواز غيره مطلقاً لأنه مقتضى الجمع بين الأخبار))(4)

ومن المعاصرين السيد الخوئي (قدس سره) والسيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره)(5)، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والحيوان سواء أكانت مجسّمة أم لم تكن))(6).

واستدل الشيخ الأنصاري (قدس سره) على الحكم ب-((الروايات المستفيضة به:-

مثل قوله (عليه السلام): (نهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم)(7)

وقوله (عليه السلام): (نهى عن تزويق البيوت، قلت: وما تزويق البيوت؟ قال: تصاوير التماثيل)(8).

ص: 35


1- الحدائق الناضرة: 18/100.
2- مستند الشيعة: 14/108.
3- جامع المقاصد: 4/23.
4- تعليقة السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 17.
5- مهذب الأحكام: 16/86.
6- منهاج الصالحين: ج2، صفحة 6، المسألة (16) من الطبعة (29).
7- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 94، ح6.
8- موثقة أبي بصير (الثالثة) في مجموعة الروايات.

والمتقدم عن تحف العقول (وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مُثُلالروحاني)(1).

وقوله (عليه السلام) في عدة أخبار: (من صوّر صورة كلّفه الله يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ)(2).

وقد يستظهر اختصاصها بالمجسّمة، من حيث أن نفخ الروح لا يكون إلا في الجسم، وإرادة تجسيم النقش مقدمة للنفخ ثم النفخ فيه خلاف الظاهر.

وفيه: إن النفخ يمكن تصوُّره في النقش بملاحظة محلّه، بل بدونها - كما في أمر الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش على البساط بأخذ الساحر في مجلس الخليفة(3)-

أو بملاحظة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ.

والحاصل: أن مثل هذا لا يعدّ قرينة - عرفاً – على تخصيص الصورة بالمجسَّم.

وأظهر من الكل، صحيحة ابن مسلم: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ قال: لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان)(4)

فإن ذكر الشمس والقمر قرينة على إرادة مجرد النقش.

ص: 36


1- الرواية الحادية والعشرون.
2- هذا النص هو خبر الحسين بن المنذر (الرواية السابعة) ومثله مصححة ابن أبي عمير (السادسة) وما بعدها وهي كثيرة.
3- بإشارة إلى صحيحة علي بن يقطين قال: (استدعى الرشيد رجلاً يبطل أمر أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يخجله ويقطعه في المجلس، فانتدب له رجل مُعزَّم فلما أُحضرت المائدة عمل ناموساً على الخبز، فكان كلما رام أبو الحسن تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه واستفزّ من هارون الفرح والضحكُ لذلك، فلم يلبث أبو الحسن (عليه السلام) أن رفع رأسه إلى أسد مصوَّر على بعض الستور فقال له: يا أسد خذ عدو الله، قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع فافترست ذلك المعزّم، فخرّ هارون وندماؤه على وجوههم مغشيّاً عليهم فطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه) إلى آخر الحديث الموجود في عيون أخبار الرضا (ع)، الباب 8، ح1، صفحة 74.
4- الرواية الأولى.

ومثل قوله (عليه السلام): (من جدد قبراً أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام)(1)

فإن (المثال) و (التصوير) مترادفان -على ما حكاه كاشف اللثام عن أهل اللغة-.

مع أن الشائع من التصوير والمطلوب منه، هي الصور المنقوشة على أشكال الرجال والنساء والطيور والسباع، دون الأجسام المصنوعة على تلك الأشكال))(2).

وخلاصة دليله (قدس سره) إطلاق الروايات الدالة على حرمة التصوير والتمثيل من حيث كونه مجسماً أو غير مجسم بل إن الشائع منهما والمطلوب هو غيرالمجسّم.

ثم أيده (قدس سره) بحكمة التشريع التي نقلناها عنه (قدس سره).

أدلة الجواز:

في مقابل ذلك ذُكرت عدة وجوه لاختصاص الحكم بالمجسم دون غير المجسّم، ذكر صاحب الجواهر الثلاثة الأولى(3)

منها:-

(الأول) إن الأخبار التي ذكرت إلزام المصوِّر بنفخ الروح في الصورة ظاهرة في كون الصورة مجسَّمة وبهيأة تامة للحيوان لا ينقصها إلا نفخ الروح، وأضاف السيد الخميني (قدس سره): ((لأن الظاهر منها أن الأمر بالنفخ ليس لمطلق التعجيز بلا تناسب، بل كأنه لم يبق من صورة الحيوان شيء سوى النفخ، فإذا نفخ فيه صار حيواناً، وهو ظاهر في المجسمة ذات الروح))(4).

وهذا الوجه ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كلامه السابق وردّ عليه بأمرين:-

أ- إن النفخ يمكن تصوُّره في النقش بملاحظة محلِّه، بل بدونها، كما في أمر

ص: 37


1- الرواية الخامسة.
2- المكاسب (من المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 14/184-185.
3- جواهر الكلام: 22/42.
4- المكاسب المحرمة: 1/171.

الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش. وردّ عليه السيد الخوئي (قدس سره) بأنه(1)

خلاف ظواهر الأخبار، فإن الظاهر منها أن التكليف إنما هو بإحياء نفس الصور دون محلها. وأما أمر الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش على البساط فإنه على نحو الإعجاز.

ب- إن النفخ إنما هو بملاحظة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ، والحاصل أن مثل هذا لا يعد قرينة عرفاً على تخصيص الصورة بالمجسمة. ووصف السيد الخوئي (قدس سره) هذا الجواب بأنه متين.

ج-- وأجيب أيضاً بأن ((المذكور إنما هو للتعجيز فلا يلزم أن يكون ممكناً، فلا يتفاوت بين المجسّمة وغيرها بل التعجيز في الثاني أظهر))(2).

أقول: يظهر للمتأمل أن الأجوبة أجنبية عن الدليل، لأن المستدل لم يقل باستحالة النفخ في الأعراض باعتبار أن النفخ كسائر الأفعال يحتاج إلى ما يقبل تعلقه به ووروده عليه، وما يكون كذلك ليس إلا الجسم حتى يجاب بهذا، بل قال إن الظاهر منها لدى العرف هو أن ما صنعه إذا نفخ فيه الروح صار حيواناً طبيعياً أي ((إن ما صوّره المصور لا ينقص من الحيوان الذي قد صوّره إلا في جهة الحياة والروح، ومن الواضح أن ما يكون كذلك ليس إلا الجسم، ضرورة نقصان غيره عنه بأزيد من الروحوهو المادة)) (3)

-كما يظهر من كلام صاحب الجواهر (قدس سره)- ((ولا أقل من كونه موجباً للشك في إرادة الإطلاق منها))(4)

أي من أدلة نفخ الروح فلا يجوز التمسك بها لإثبات الحرمة في غير المجسم.

فالجواب الصحيح عن هذا الوجه أكثر من أمر:-

ص: 38


1- مصباح الفقاهة: 35/352.
2- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 17.
3- شرح الشيخ الشهيدي على المكاسب: 1/185.
4- حاشية الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس سره) على المكاسب، نقلناها عن مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد 7، صفحة 83.

1- عدم انحصار أدلة التعميم بروايات النفخ فالمستدل في مندوحة من الرد.

2- ما قاله الشيخ الشهيدي من ((منع ظهوره فيه على نحو يوجب صرف ظهور الصور في العموم إلى غيره، وإنما هو مجرد احتمال لا يُعبأ بمثله في العمل بالظواهر)).

(الثاني) إن ((في بعض النصوص التي تقدمت في كتاب الصلاة من أنه لا بأس إذا غيّرت رؤوسها(1)

وفي آخر تُقطع(2)

وفي ثالث تُكسر(3) نوع إشعار بالتجسيم)).

وفيه:-

أ- إن التعبير بقطع الرأس وتغييره مناسب لغير المجسمة كما للمجسمة، عدا الرواية الأخيرة التي ورد فيها تكسير الرؤوس وهي ضعيفة السند ويمكن شمولها لغير المجسم بلحاظ محل الرأس المنقوش، على أنها لا مفهوم لها حتى تقيد ظهور غيرها في الأعم.

ب- إننا لو تنزّلنا وقلنا بهذا الإشعار فغاية ما يدل عليه أن (التماثيل) و (الصور) الواردة في تلك الروايات ظاهرة في المجسّم وهو ما لا ننكره وهي لا تدل بحال على تعينها بهذا المعنى.

أما رد السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((إن الكلام في المقام في عمل

ص: 39


1- إشارة إلى صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيِّرت رؤوسها منها وترك ما سوى ذلك) (وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 4، ح3).
2- و (3) إشارة إلى صحيحة علي بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سألته عن الدار والحجرة فيها التماثيل أيُصلّى فيها؟ فقال: لا تصلِّ فيها وفيها شيء يستقبلك إلا أن لا تجد بُداً فتقطع رؤوسها وإلا فلا تصلّ فيها) وخبر علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير وتماثيل يُصلّى فيه؟ فقال: تُكسَر رؤوس التماثيل وتُلطّخ رؤوس التصاوير ويُصلى فيه ولا بأس) الحديث (وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 32، ح5، 10).

الصور، وهو لا يرتبط بالصلاة في بيت فيه تماثيل، بل الصلاة فيه كالصلاة في الموارد المكروهة))((1) فغير مجدٍ.

ج-- مقابلة ما قاله (قدس سره) بروايات أُخر وردت فيها بما ظاهره غير المجسمكنفي البأس عنها إذا كانت تحت المصلي ونحوها.

(الثالث) إنه الظاهر مما ورد في خبر المناهي(2)

من مقابلة النقش للصورة فتكون الصورة متعيّنة بالمجسّم.

وتقريب كلامه (قدس سره) من خلال مقدمتين:-

1- إن الروايات دلّت على حرمة التصوير.

2- بمقتضى مقابلة الصدر والذيل في خبر المناهي فإن الصورة مقابل النقش الذي هو غير المجسم فتتعين الصورة بالمجسم.

وفيه:-

أ- إن الخبر ضعيف من أكثر من جهة كما هو واضح لمن يراجع.

ب- لا دليل على أن المناهي صدرت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديث واحد لتتحقق المقابلة وإنما حكاها الإمام الصادق (عليه السلام) عن جده (صلى الله عليه وآله وسلم) جامعاً لنواهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث واحد ولا نعلم ما هي الألفاظ التي صدرت من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في النهي عن كل واحد منها.

ج-- الظاهر كون الصدر والذيل خبرين مستقلين حكاهما الإمام (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تتم المقابلة.

د- إذا جاز الاستناد إلى الخبر فهو على المدّعى أدلّ لصراحته في النهي عن النقش ولو بنهي مستقل غير النهي عن التصوير.

ص: 40


1- (1) مصباح الفقاهة: 35/355.
2- وهو خبر الحسين بن زيد (التاسع من المجموعة) وتكملته (ونهى أن يحرق شيء من الحيوان، ونهى عن التختم بصفر أو حديد، ونهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم) (وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 94، ح6).

وبعد هذه الوجوه قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ومن ذلك كله يقوى حينئذٍ القول بالجواز في غير المجسمة الموافق للأصل وإطلاق الآيات والروايات، في الاكتساب والمشي في طلب الرزق بأي نحو كان))(1).

أقول: يرد عليه (قدس سره) عدة أمور:-

1- لا وجه للرجوع إلى الأصول والعمومات الفوقانية بعد قيام الدليل على الحرمة كما تقدم من الشيخ الأنصاري (قدس سره).

2- إن غاية ما يثبت هذا الأصل -لو طبّقه (قدس سره) على حلّيّة الاكتساب- جواز التكسب به ولا يثبت حلّيّة العمل إلا بناءً على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

3- إن ثبوت الملازمة أصلاً محل إشكال إذ أنها ثابتة عند الفقهاء في جانب الحرمة أي قضية (إذا حرم الفعل حرم ثمنه) ولا يلزم منها صدق قضية (إذا حلّ الثمن حلّ الفعل) إلا بقرينة، كما لو قلنا (إذا كان النهار موجوداً فالمكان مضاءٌ) فلا يلزم منه (إذا كان المكان مضاءً فالنهار موجود) إذ قد يضاء المكان بالمصابيح الكهربائية. ونقصد بالقرينة معرفة أن العلاقة بين الشرط والجزاء هي العلّيّة والمعلولية كما لو قال: (إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود) فيصدق العكس أما أذا كانا معاً معلولين لثالث كما في مثال إضاءة المكان فلا يلزم صدق القضية. والإنصاف أن هذا الإشكال غير وارد لأن المورد من الصنف الأول فالملازمة ثابتة بالعكس ولو لم تثبت لكان نقضاً على أصل القضية. نعم شكك النراقي (قدس سره) في المستند في أصل الملازمة فقد قال (قدس سره) في بعض كلماته: ((وأما أجر عمل المحرم من الصور فالظاهر من كلماتهم الحرمة، فإن ثبت بالإجماع فيه بخصوصية أو في أجر كل محرم فهو المتبع، وإلا ففي تحريم أخذه نظر، وإن كان إعطاؤه محرماً لكونه إعانة على الإثم))(2) وستأتي مناقشته في التنبيه الثاني عشر بإذن الله

ص: 41


1- جواهر الكلام: 22/42.
2- مستند الشيعة: 14/111.

تعالى.

ومنه يُعلم النقاش في ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) من تأييده إخراج تصوير غير ذوات الأرواح من إطلاقات الحرمة ((سواء كانت الصورة مجسمة أم غير مجسمة، وهو الموافق للأصل والإطلاقات والعمومات من الآيات والروايات الواردة في طلب الرزق وجواز الاكتساب بأي كيفية كان إلا ما خرج بالدليل))(1).

(الرابع) ما ذكره المحقق الإيرواني (قدس سره) بقوله: ((أما ما اشتمل من الأخبار على لفظ المثال والتمثال فالظاهر منها هي المجسّمة، فإن ظاهر لفظ المثال هو هذا، إذ المثال الحقيقي ما كان مثالاً للشيء من كل الجهات والجوانب لا ما كان مثالاً له من جانب واحد، وهذا لا يكون إلا في المجسّمة فإن فيها يفرض مثال الجهات الست، فكانت الصورة أعم من المثال))(2).

وأوضحه السيد الخميني (قدس سره) بقوله: ((أن الأخبار على كثرتها تدور مدار عنوانين هما التصوير والتمثيل باختلاف التعابير إلا رواية النواهي المذكور فيها النقش، ولا يبعد أن يكون الظاهر من تمثال الشيء وصورته بقول مطلق: هو المشابه له في الهيأة مطلقاً أي من جميع الجوانب لا من جانب واحد، وتمثال الوجه أو مقاديم البدن تمثاله بوجه لا مطلقاً، كما أن تمثال خلفه كذلك وإطلاق التمثال على تمثال الوجه أو المقاديم بنحو من المسامحة كإطلاقه على تمثال الخلف، وإن صار في الأولين شايعاً حتى على خصوص الوجه مع عدم كونه حقيقياً بلا إشكال. وأما الصورة فهي بمعنى الشكل الذي هو الهيأة وهيأة الشيء كتمثاله: ما يكون شبهه في جميع الجوانب، وإطلاقه على النقوش والعكوس بنحو المسامحة ولذا يطلق على تمثال الوجه فقط، والإطلاق الشايع على النقش والرسم في الروايات على فرض تسليمه وعدم دعوى أن الوسائد وغيرها مما وردت فيها الروايات لعلها كانت الصور والتماثيل فيها بنحو

ص: 42


1- مصباح الفقاهة: 35/348 (من المجموعة الكاملة).
2- نقلها الشيخ المنتظري في (دراسات في المكاسب المحرمة): 2/552 عن حاشية المحقق الإيرواني (قدس سره) على المكاسب.

التجسيم كهيئة غزال مثلاً نائم أو قائم بحيث كان صدق عليه الغزال المجسم: كان لأجل القرائن، ولهذا لو سئل عن العرف أن هذه الصورة أو المثال صورته من جميع الوجوه لأجاب بالنفي، ولا أقل من كون الصدق الحقيقي محلاً للشك سيما مع الشواهد المذكورة في الجواهر وغيره وشواهد أُخر تأتي الإشارة إلى بعضها))(1).

وفيه:-

1- إنها دعوى غير عرفية فإن العرف يفهم من لفظ التصوير الإطلاق الشامل للمجسم وغيره.

2- لقد ورد التعبير بلفظ الصورة على النقش في صحيحة علي بن يقطين المتقدمة (هامش صفحة 36) كما ورد التعبير بلفظ التماثيل على النقش في روايات معتبرة كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه كره أن يصلي وعليه ثوب فيه تماثيل)(2).

3- بعد الذي ذكرناه في الرد الثاني لا يبقى معنى لحمله (قدس سره) ما ورد من لفظ التصاوير على الوسائد ونحوها على النحو المجسَّم.

4- إن فهمه (قدس سره) للتجسيم من الصورة والتمثال ناشئ من إلزامه بكون ((المثال صورته من جميع الجهات)) فيجيب بالنفي وهو من لزوم ما لا يلزم، إذ الصورة والمثال مطلقة بحيث إذا رآها الإنسان قال هذه صورة كذا.

5- إن الشيخ الأنصاري (قدس سره) ردَّ على هذا الوجه بما حكاه كاشف اللثام عن أهل اللغة من ترادف المصطلحين.

وفرّق بعضهم بين التمثال الظاهر في المجسم والصورة الظاهرة في غيره، قال (قدس سره): ((ويمكن الاستدلال على هذا الفرق بما في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن مسجد يكون فيه تماثيل

ص: 43


1- المكاسب المحرمة: 1/168-169.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 45، ح2، وقد ضمّت الباب أحاديث كثيرة دالة على هذا المعنى.

وتصاوير يصلى فيه؟ فقال: تكسر رؤوس التماثيل، ويلطّخ رؤوس التصاوير) حيث عبر في الأول بالكسر والظاهر في تجسم المتعلق، وفي الثاني بالتلطيخ الظاهر -ولو بمعونة قرينة المقابلة- في عدم تجسمه، ومثله رواياته الثلاث الأخر عن أخيه))(1).

أقول: إن الجواب عليها أصبح واضحاً مما تقدم من الروايات، ولأن الاستعمال هنا ربما كان من باب الترادف والتكسير لا يختص بالمجسم وإن العطف ورد في كلام السائل والإمام (عليه السلام) أمضاه لأنه ليس خطأً وإنما استعمال للعام في بعض أفراده.

ولكن المستدل (قدس سره) عاد واعترف ببعض ما ذكرناه فقال: ((ثم لا يخفى عليك أنه بعد ملاحظة استعمال كل واحد منهما في ما يعم الآخر وفي الأخبار: يُعلم أن الصورة والتمثال كالفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا)).

(الخامس) وجود مانع من الأخذ بالإطلاق ذكره السيد الخميني بقوله (قدس سره): ((إن الأدلة على فرض إطلاقها وعمومها وشمول مثل قوله: من مثّل مثالاً فكذا، ومنصوّر صورة فكذا، تماثيل جميع الموجودات، وإن ذكر النفخ فيها لمجرد التعجيز لا للتناسب، يوجب ذلك وهناً على المطلقات والعمومات لأن عدم ذكر المتعلق فيها يدلّ على العموم، وهذه العناوين أي التصوير والصورة والتمثال تصحّ إضافتها إلى كل موجود جسماني بل وروحاني وكذا إلى أجزاء وأعضاء كل موجود، بل أعضائه فيصدق تمثال الرأس وصورة الرِجل واليد والشجر وساقه وورقه وهكذا، فحينئذٍ يكون إخراج جميع الموجودات كلاً وبعضهاً عن العمومات والإطلاقات وإبقاء الصور التامة للحيوان فقط تحتها من التخصيص الكثير المستهجن، فيكشف ذلك عن قرائن حافّة بها حين الصدور خرجت بها عن الاستهجان والمتيقن هو حرمة المجسمات المدعى عليها الإجماع، ودعوى الانصراف إلى خصوص الصور التامة أو خصوص صور الحيوانات

ص: 44


1- شرح الشيخ الشهيدي (قدس سره) على المكاسب: 1/183.

كما ترى)).

وفيه: إن دعوى الإطلاق ليس من جميع الجهات حتى تشمل المدى الواسع الذي ذكره (قدس سره) فإن ألفاظها ظاهرة في الصورة الكاملة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى- ولا تصدق على الأبعاض أما غير ذي الروح فخرج بالدليل الخاص فلا يوجد استهجان.

(السادس) ((ما يستفاد من الأخبار الواردة من جواز إبقاء الصور التي على الوسادة أو نحوها وعدم وجوب إبقائها ولو كانت محرمة وجب إعدامها)) كصحيحة الحلبي (صفحة 91).

وفيه ((ما لا يخفى لما سيأتي من عدم الملازمة بين حرمة الفعل وحرمة الإبقاء))(1).

فالنتيجة أن هذه الوجوه كلها لا تصلح لتقييد الإطلاق الوارد في الروايات التي ذكرها الشيخ الأنصاري (قدس سره) وغيره ولم يخرجها شيء عن هذا الإطلاق كما أخرج غير ذي الروح من الشجر ونحوه بصحيحة زرارة، ((فمن الغريب رفع اليد عن الإطلاقات بسبب هذه الوجوه أو بعضها كما في الجواهر، فإنه بعد أن ذكر جملة منها قال: ومن ذلك كله يقوى القول بالجواز في غير المجسمة))(2).

فلا بد من مناقشة هذه الروايات وقد اختصرها السيد الخوئي (قدس سره) بسطر واحد قال فيه: ((ولكنها مع كثرتها ضعيفة السند وغير منجبرة بشيء فلا تكون صالحة للاستناد إليها في الحكم الشرعي))(3).

وهو جواب غير كافٍ لأكثر من وجه:-

أ- وجود روايات معتبرة غير ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره)

ص: 45


1- الوجه وجوابه ذكرهما السيد اليزدي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب، صفحة 17.
2- قاله السيد اليزدي (قدس سره) صاحب العروة في حاشيته على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 17.
3- مصباح الفقاهة: 35/350.

كموثقة أبي بصير ومصححة ابن أبي عمير (الثالثة والسادسة) بل صحيحة العباس بعد التجريد عن الخصوصية وصحيحة محمد بن مسلم بالتقريب الذي ذكرناه.أ- لو تنزلنا فإن استفاضة الروايات يجبر ضعفها ويحصل الاطمئنان بصدور مضمونها.

ج-- إنه (قدس سره) ذهب لاحقاً -في رسالته العملية منهاج الصالحين- إلى حرمة تصوير ذي الروح مطلقاً كما نقلنا فتواه فإذا لم يكن الدليل صالحاً فما هو دليله؟ ولعله (قدس سره) عدل عن المناقشة في السند لحصول الاطمئنان بصدور المعنى في الجملة، فتمسّك بإطلاقه.

ولذا فقد تصدى السيد الخميني (قدس سره) ومن قبله الميرزا محمد تقي الشيرازي(1)(قدس سره) وغيرهما(2)

لنفي دلالة جميع الروايات على غير المجسم للوصول إلى نتيجة مفادها قصور الأدلة عن إثبات حرمة غير المجسم لذي الروح فإنه (قدس سره) بعد أن قسّمها إلى أكثر من طائفة فناقش الأولى بالنص الذي نقلناه عنه في القيد الثالث المقترح منه (قدس سره) لإطلاق الحكم (الذي تقدم صفحة 16) ثم قال (قدس سره): ((وأما الطائفة الأخرى فالظاهر منها حرمة عمل المجسمات وهي ما دلّت على تكليف المصور بالنفخ كمرسلة ابن أبي عمير وروايات أخرى)) ثم ردّ عليه بما نقلناه عنه من استظهار المجسم منها في الوجه الأول. ثم قال (قدس سره): ((ويؤيده أن المظنون بل الظاهر من بعض الروايات من سرّ التحريم إنما هو اختصاص المصورية بالله تعالى وهو الذي يصوّر ما في الأرحام وهو الخالق البارئ المصور فإذا صوّر إنسانٌ صورة ذي روح يقال له: انفخ فيها كما نفخ الله في ما صوّر إرغاماً لأنفه وتعجيزاً وهو أيضاً يناسب المجسمة كما تُشعر به أو تدل عليه الرواية المرسلة المحكية عن لباب

ص: 46


1- في حاشيته على المكاسب على ما نقل عن طبعته الحجرية: السيد محسن الخرّازي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام) العدد 7، صفحة 83 وما بعدها.
2- راجع كتاب (دراسات في المكاسب المحرمة) للشيخ المنتظري: 2/565.

اللباب(1)، وفيه: ومن صوّر التماثيل فقد ضادّ الله بناءً على كون المضادة في مصوريته، فلا يكون في غيرها مضادة له، لأنه تعالى لم ينفخ روحاً في غير المجسمات))(2).

وأما صحيحة محمد بن مسلم التي وصفها الشيخ الأنصاري (قدس سره) بأنها أظهر الكل فأجاب (قدس سره) عنها بأنها ((لا ظهور فيها رأساً لعدم معلومية وجه السؤال أولاً، لاحتمال أن يكون السؤال عن اللعب بها كما في رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) أنه سأل أباه عن التماثيل فقال: (لا يصلح أن يلعب بها) سيما مع ما ترى، من حمل السؤال المطلق على الاستفتاء عن اللعب بها، أو عن اقتنائها أو عن تزويق البيوت بها، أو عن جعلها في البيت أو مقابل المصلى كما في جملة من الروايات ودعوى الانصراف إلى تصويرها ممنوعة. بل يمكن أن يقال أن السؤال عن التماثيل إنما هو بعد الفراغ عن وجودها، فيكون ظاهراً أو منصرفاً إلىساير التصرفات فيها وعدم ظهورها في الحرمة ثانياً، وما يقال: أن البأس هو الشدة والعذاب المناسبان للحرمة كما ترى، فإن استعمال (لا بأس) في نفي المرجوحية والكراهة شايع، وعدم الإطلاق في ذيلها ثالثاً، لأن تماثيل الشجر لو اختصت بالمجسمات فإثبات البأس في الحيوان كذلك، ولو شملت بالإطلاق النقوش والرسوم فلا يكون في عقد المستثنى إطلاق، لكون الكلام مسوقاً لبيان صدور عقد المستثنى منه، لا الذيل. ودعوى اختصاص السؤال بالنقوش بمناسبة عدم تعارف تجسيم الشجر وتأليهه (غير وجيهة) لإمكان أن يقال: أن المتعارف في تلك الأزمنة هو عمل الحجارة وتصوير الأشياء بالحجر والجص بنحو التجسيم، وأما النقش والرسم فتعارفها غير معلوم، ولا أقل من عدم إحراز تعارف ترسيم المذكورات دون تجسمها بنحو يوجب الانصراف فإنكار الإطلاق ضعيف جداً)).

ورد على (خبر أبي بصير) ب-((عدم معلومية متعلق النهي كما تقدم)).

(وأما رواية تحف العقول) فإنها ((مضافاً إلى ضعفها: في مقام بيان

ص: 47


1- وهي الرابعة عشرة.
2- المكاسب المحرمة: 1/172.

الصنوف المحللة لا المحرمة فلا إطلاق في عقد المستثنى يشمل المجسمات وغيرها، وسيأتي بيان معنى المثل واحتمال أن يكون المراد بها الأصنام)).

ثم قال (قدس سره): ((أظهر ما في الباب هو رواية الحسين بن زيد عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه في حديث المناهي وفيها (ونهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم)، وفيه مضافاً إلى ضعف السند وعدم ذكر ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك النواهي بل نقلت نواهيه بنحو الإجمال، وهي مشتملة على المكروهات وغيرها فلا تدل على التحريم لا لأن السياق مانع عن استفادته، حتى يقال مضافاً إلى منع مانعيته أن نواهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت متفرقة وإنما جمعها أبو عبد الله (عليه السلام) في رواية واحدة، بل لأن أبا عبد الله (عليه السلام) لم ينقل ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس قوله: نهى عن كذا وكذا إلا إخبار على سبيل الإجمال، ومن الواضح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل في تلك الموارد: إني أنهاكم عن كذا وأنهاكم عن كذا إلى آخرها، بل كان له (صلى الله عليه وآله وسلم) نواهي مختلفة بألفاظ مختلفة بعضها على سبيل التحريم وبعضها على سبيل التنزيه حكاها أبو عبد الله (عليه السلام) من غير ذكر ألفاظه، فلا دلالة فيها على التحريم إلا في بعض فقراتها: إن المنهي عنه هو النقش على الخاتم وهو أمر آخر غير التصوير الذي نحن بصدده لإمكان أن يكون النقش عليه محرماً أو مكروهاً، لا لحرمة التصوير بل لمبغوضية انتقاشه نظير النهي عن زخرفة المساجد مثلاً أو إنشاد الشعر فيها)).

فيتلخّص الرد على الرواية بعدة وجوه:-

أ- ضعف السند.

ب- إجمال النهي لأن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينقلها الإمام وإنما حكى ما نهى عنه إجمالاً.

ج-- خصوصية تقييد النهي عن النقش بالخاتم إذ يمكن ((أن يقال: إن التقييد بالخاتم إنما هو للبسه أو لوقوع الصلاة فيه غالباً، لا لكون النقش عليه كذلك، فيكون الغرض حينئذٍ هو النهي عن اللبس أو الصلاة في الخاتم

ص: 48

الكذائي بطور الكناية، لاعن النقش من حيث هو))(1).

د- ((دعوى أن النهي قد استعمل في مطلق المنع الشامل للحرمة والكراهة، وإنما يستفاد خصوصية إحداهما هنا -بل في جميع الموارد- من أمر خارج، ولذا جعل المصنف (قدس سره) قوله (عليه السلام) في المسألة الثانية (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يزجر الرجل أن يتشبه بالنساء وينهى المرأة أن تتشبه بالرجال) من أدلة كراهة التشبه، والحال أن الموجود فيه أيضاً مادة النهي))(2).

وفيه: ما ثبت في علم الأصول من أن النهي ظاهر في التحريم إلا إذا وجدت قرينة على حمله على الكراهة.

ورد على الاستدلال بموثقة أبي بصير (الثالثة) وخبر جراح المدائني (العشرين) ب-((إن النهي عن تزويق البيوت وتصوير السقوف لا يدل على حرمة التصوير كما أن النهي عن البناء على القبور لا يدل على حرمة البناء وكراهته)).

ثم قال (قدس سره): ((وربما يستدل على الإطلاق بموثقة أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ»(سبأ: 13) فقال: (والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها الشجر وشبهه)، (وفيه) إنها نقل قضية خارجية لم يتضح أن التماثيل التي يعملون له هي المجسمات أو غيرها، ولا معنى لإطلاق قضية شخصية، مضافاً إلى أن التماثيل المذكورة على ما يظهر من مجمع البيان هي المجسمات المعمولة من نحاس وشبه ورخام ونحوها، مع أن إنكار أبي عبد الله (عليه السلام) لا يدل على كونها محرمة على سليمان النبي (عليه السلام) بل لعلها كانت مكروهة عليه كراهة شديدة لا يليق ارتكابها بمثل النبي، فالتمسك بها لإثبات المطلوب ضعيف جداً.

وأما رواية عبد الله بن طلحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:

ص: 49


1- شرح ميرزا فتاح الشهيدي على المكاسب: 1/182.
2- شرح ميرزا فتاح الشهيدي على المكاسب: 1/182.

(من أكل السحت سبعة -إلى أن قال- : والذين يصورون التماثيل)، فمضافاً إلى ضعفها، لا إطلاق فيها لأنها في مقام العدّ ولا إطلاق فيها في المعدود كما مرّ نظيره، مع أن كون السحت راجعاً إلى بيعها أو عملها غير متضح، كما أن سحتية أجر العمل لا تلازم حرمته لإمكان أن يكون عدم التقابل بالمال لجهة أخرى (تأمل) وليست الرواية عندي حتى أرى تتمتها وكيف كان لا يصلح مثلها لإثبات حكم.

كما لا تصلح لذلك رواية الخصال عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إياكم وعمل الصور فإنكم تسألون عنها يوم القيامة) لضعف سندها بل لا يبعد ظهور قوله: (عمل الصور) في عمل المجسمة وانصرافه عن ترسيمها ونقشها.

فتحصّل من جميع ذلك عدم قيام دليل صالح لإثبات حرمة غير المجسمات من ذوات الأرواح)).

أقول: نتيجة مناقشاته (قدس سره) عدم تمامية الدليل على أصل الحكم وهو تصوير ذوات الأرواح لأن الدليل هو عين هذه الروايات وبالتقريبات المذكورة -لاحظ مثلاًمناقشته (قدس سره) لصحيحة محمد بن مسلم-، فإذا تم الدليل على حرمة تصوير ذوات الأرواح فإن التصوير حرام مطلقاً سواء كان مجسماً أو غير مجسم لإطلاق لفظ (الصورة) و (التمثال) كما تقدم في مناقشة الوجه الرابع، وظهور البعض -كروايات النفخ- في المجسم لو سلّمناه فإنه لا مفهوم له حتى ينفي الظهور عن غيره.

وأما تأييده بالحكمة التي قالها فقد ناقشنا فيها من جهة كونها من تنقيح المناط غير المعتبر إذ لا دليل عليها وإنّ ((كون الحكمة ما ذكره (قدس سره) غير ظاهر ويحتمل أن يكون شبهها بالصنم الذي يُعبد من دون الله وهذا أظهر مما ذكره، وعليه فلا يكون مؤيداً لما ذكره من التعميم بل هو أوفق بالاختصاص بالمجسمة لأن الغالب كون الصنم مجسماً بل هو كذلك على ما هو المتعارف))(1).

مضافاً إلى أن هذه الحكمة منقوضة طرداً وعكساً ((فإن تصوير بعض

ص: 50


1- وما بعده السيد اليزدي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب، صفحة 18.

الأشجار المعجبة لا يقصُر عن تصوير جملة من الحيوانات في التشبيه المذكور، بل كثير منها أقوى من كثير منها في ذلك بل جملة من الحيوانات ليست على شكل مطبوع كالديدان وجملة من الحشرات وغيرها بل اللازم على الحكمة المذكورة عدم تسرية حكم الحرمة إليها لأن الأخبار منصرفة عنها بملاحظة الحكمة المذكورة فتدبّر)).

نعم، يمكن تقريب عدة وجوه للقول بالجواز في غير المجسم، منها:-

1- إن الدليل على حرمة التصوير تمّ لدينا على نحو الإجمال فلا يكون له إطلاق ويؤخذ بالقدر المتيقن وهو المجسّم ويبقى الزائد – وهو غير المجسم- مشكوكاً في دخوله تحت عنوان التصوير ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

2- يمكن استشفاف الحكم بالجواز من جملة من الروايات كموثّقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: (وعن الرجل يلبس الخاتم فيه نقش مثال الطير أو غير ذلك، قال: لا تجوز الصلاة فيه)( (1)

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (وسألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير يصلى فيه؟ قال: لا بأس)(2).

بتقريب: أن نقش الخاتم إنما يكون يومئذٍ بأمر صاحبه فلو كان نقش ذي الروح حراماً لنهى الإمام (عليه السلام) عن أصل النقش فسكوت الإمام (عليه السلام) دليل على إمضاء عمل هذا النقش.

3- أو يقال أنه لم يتم دليل أصلاً من الروايات على حرمة التصوير لوجود إشكالات في السند أو المتن وإنما قلنا به في خصوص التصوير المجسم لذي الروح لقيام الإجماع عليه ووجود الارتكاز لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ولا إجماع على غير المجسم فلا دليل على حرمته.

ص: 51


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 45، ح15، 23.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 45، ح15، 23.

القول الثالث: حرمة المجسَّم مطلقاً لذي الروح وغيره

ونسبه العلامة (قدس سره) إلى الشيخين وسلاّر(1)

وهذا القول ظاهر ((من عبّر بالتماثيل المجسمة، بناءً على شمول (التمثال) لغير الحيوان -كما هو كذلك- فخصّ الحكم بالمجسم، لأن المتيقن من المقيِّدات للإطلاقات والظاهر منها -بحكم غلبة الاستعمال والوجود- : النقوش لا غير))(2).

واختصاص الحرمة بالتماثيل المجسمة عبارة ذكرها الكثيرون كالعلامة والمحقق (قدس الله سريهما) فلا وجه لحصر القائل به بالمذكورين وإنصافاً لهؤلاء الأساطين فإنه من المطمأن به أنهم لم يريدوا التماثيل المجسّمة مطلقاً حتى لغير ذي الروح، ولذا لم يجد صاحب الجواهر (قدس سره) غضاضة في أن يضيف لعبارة المحقق في الشرائع: ((الرابع: ما هو محرم في نفسه كعمل الصور المجسّمة)) قال (قدس سره): ((لذوات الأرواح، ولعل ترك التقييد بذلك لظهور لفظ الصور في ذلك))(3)

فكأنه أصبح مصطلحاً مشهوراً عندهم يراد به ذو الروح وأنه خاصة محل الكلام عندهم.

وعلى أي حال فقد ردَّ عليهم الشيخ الأنصاري (قدس سره) ب-((إن هذا الظهور لو اعتُبر لسقّط الإطلاقات عن نهوضها لإثبات حرمة المجسم، فتعين حملها على الكراهة، دون التخصيص بالمجسمة.

وبالجملة، (التمثال) في الإطلاقات المانعة -مثل قوله (عليه السلام): (من مثّل مثالاً)- إن كان ظاهراً في شمول الحكم للمجسم، كان كذلك في

ص: 52


1- مختلف الشيعة: 5/45، قال المفيد في مكاسب المقنعة: ((وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسّمة والشطرنج والنرد وما أشبه ذلك حرام، وبيعه وابتياعه حرام)) وفي المكاسب المحرمة من النهاية: ((وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسّمة والصور والشطرنج... فالتجارة فيها والتصرف والتكسب بها حرام محظور)) (دراسات في المكاسب المحرمة: 2/553).
2- المكاسب: 14/188.
3- جواهر الكلام: 22/41.

الأدلة المرخّصة لما عدا الحيوان، كرواية تحف العقول وصحيحة ابن مسلم وما في تفسير الآية.

فدعوى ظهور الإطلاقات المانعة في العموم واختصاص المقيّدات بالنقوش تحكّم)).

ومحصّل كلامه (قدس سره): ((إن غلبة الاستعمال والوجود لو صارت سبباً لانصراف المقيدات إلى خصوص النقوش صارت سبباً لانصراف المطلقات المانعة أيضاً إليها، ولازم ذلك حمل أخبار المنع على الكراهة لما ورد من الرخصة في غير ذوات الأرواح، وعلى هذا فلا يبقى دليل على حرمة المجسّمة لا في الحيوان ولا في غيره)).

أقول: يضاف إلى ما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره):-

1- منع الصغرى إذ لم يثبت أن النقوش هي الغالبة في الوجود في تلك الأعصار، فإن التماثيل المجسّمة معروف بكثرة في جميع الأمم كما نطق به القرآن الكريم ودلّت عليه الروايات الشريفة.

2- إن الانصراف -لو سلّمناه- فإنه لا يصلح للتقييد.

والصحيح في إخراج غير ذي الروح أن يقال: إن ما دلّ على الترخيص في تصوير غير ذي الروح (الرواية الأولى والثانية والرابعة) مطلق شامل للمجسم وغيره وإطلاق الخاص مقدم على عموم العام كما هو واضح فتُقيّد به إطلاقات حرمة التصوير، ومع وجود الأدلة المرخّصة -كصحيحة محمد بن مسلم- فلا حاجة للوجوه التي استدل بها جمعٌ (قدس الله أرواحهم) ومنها:-

1- تمسّك الشيخ (قدس سره) بالأصل، قال (قدس سره): ((هذا، ولكن العمدة في اختصاص الحكم بذوات الأرواح أصالة الإباحة))(1).

2- ما استدل به السيد الخوئي (قدس سره) من ((أن مقتضى السيرة القطعية المستمرة من زمان المعصوم (عليه السلام) جواز التصوير لغير ذوات الأرواح، ولم نرَ ولم نسمع من أنكر جواز تصوير الأشجار والفواكه

ص: 53


1- المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/186.

والجبال والشطوط والحدائق، بل السيرة المذكورة ثابتة في تعلم بعض الأشياء، خصوصاً في بعض العلوم الرياضية حيث يعملون الصور لتسهيل التفهيم))(1)

واستدل بها أيضاً الشيخ المنتظري(2)

(دام ظله الشريف).

وفيه:-

أ- ننفي وجود مثل هذه السيرة على التصوير إذ هو عمل مختص بالقلة القليلة من الناس، نعم السيرة قائمة على اقتنائها وهم (قدس الله أرواحهم) أنكروا الملازمة بين جواز اقتناء الصور وجواز عملها.

ب- أنه لم يثبت أن هذه السيرة مقترنة بالالتفات إلى الحكم الشرعي لتكون كاشفة عن الجواز فلعل منشأها الغفلة أو التهاون بالدين، فإننا نرى أيضاً انتشار صناعة المجسمات ذوات الأرواح، وأكثر منه رسم ذوات الأرواح حيث لا يخلو بيت منها دون سؤال عن حكمه مع ذهاب عدد من الأساطين لحرمته من الأزمنة المتأخرة كالشيخ الأنصاري (قدس سره) والسيد صاحب العروة (قدس سره) والسيد الخوئي (قدس سره) وكان ذلك سائداً حتى في عصر المعصومين (عليهم السلام)، وربما ساعد على هذه الغفلة ما اشتهر عندهم من جواز اقتناء الصور والتماثيل ووجودها في بيوت المتشرعة بضميمة ارتكاز عرفي للملازمة بين حكم الإيجاد والوجود.

3- ((ما ورد في جملة من الروايات المتقدمة أن (من صوّر صورة كلّفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ)، ومن الواضح أن الأمر بالنفخ ولو كانتعجيزاً إنما يمكن إذا كان المورد قابلاً لذلك، ولا شبهة أن نفس الأشجار والأحجار والبحار والشطوط ونحوها غير قابلة للنفخ فضلاً عن صورها فإن عدم القدرة على النفخ فيها ليس من جهة عجز الفاعل فقط، بل لعدم قابلية المورد))(3).

ص: 54


1- مصباح الفقاهة: 35/348.
2- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/560.
3- مصباح الفقاهة: 35/349.

أقول: هذه قرينة لطيفة ويمكن أن يقال: أن الأدلة على حرمة التصوير لا تختص بروايات النفخ كقول علي (عليه السلام): (إياكم وعمل الصور فإنكم تُسألون عنها يوم القيامة) وكالنبوي: (إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون).

ص: 55

القول الرابع: حرمة التصوير مطلقاً

ودليلهم على ما حكاه الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((بعض الإطلاقات -اللازم تقييدها بما تقدم- مثل قوله (عليه السلام): (نهى عن تزويق البيوت) وقوله (عليه السلام): (من مثّل مثالاً..) )) ونسبه إلى جماعة(1)

عيّنهم صاحب الجواهر بالقاضي ابن البراج والتقي الحلبي(2).

أقول: إن هذه الإطلاقات مقيدة بما دلّ على الترخيص فيما عدا المجسم لذي الروح كما تقدم، ويمكن أن نرد عليه أيضاً بصحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (في حديث) أنه (أراه خاتم أبي الحسن (عليه السلام) وفيه وردة وهلال في أعلاه)(3)

بتقريب ما قلناه من أن نقش الخاتم يكون بأمر صاحب الختم، فربما لا يريد من صدرت منه هذه الكلمات الحرمة مطلقاً في جميع الأنواع.

قال السيد الخوئي (قدس سره) بعد تقييده المطلقات بما دلّ على جواز تصوير غير ذي الروح مطلقاً: ((وهو الموافق للأصل والإطلاقات والعمومات من الآيات والروايات الواردة في طلب الرزق وجواز الاكتساب بأي كيفية كان إلا ما خرج بالدليل)).

وفيه ما تقدم (صفحة 41) من المناقشات في مثل هذا الكلام الذي نقلناه عن صاحب الجواهر (قدس سره).

وأضاف (قدس سره): ((ويضاف إلى ما ذكرناه أن المطلقات المذكورة بأجمعها ضعيفة السند وغير منجبرة بشيء))(4).

وفيه: إن فيما عدّوها من المطلقات رواية معتبرة وهي موثقة أبي بصير

ص: 56


1- المكاسب: 14/187 من الموسوعة الكاملة، وذكر المحققون في هامشه أنه ((يستفاد التعميم من إطلاق كلام الحلبي في الكافي: 281 وابن البراج في المهذب: 1/344)).
2- جواهر الكلام: 22/43.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 46، ح1.
4- مصباح الفقاهة: 35/348.

ولعلهم لم يروا سندها في المحاسن واكتفوا برواية الكليني وسندها ضعيف بالقاسم بن محمد وعلي بن أبي حمزة وقد ناقشنا سابقاً من جهة دلالتها على الإطلاق، أما الروايات الأخرى فهي وإن كانت ضعيفة السند في نفسها إلا أنه قد يقال أن استفاضتها وتنوّع طرقها ومصادرها يقرّب الاطمئنان بصدور معانيها.

وردّ (قدس سره) عليهم أيضاً بالسيرة القطعية التي أشرنا إليها في القول الثالث ورددنا عليها.

والخلاصة أن في المقيدات كفاية.

ص: 57

فروع

اشارة

(الأول) قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ثم إن المدار في صورة الحيوان على صدق الاسم، وتصوير البعض مع عدم صدقه عليه، وكون المقصود من أول الأمر البعض خاصة، لا مانع منه))(1)

وتبعه الشيخ الأنصاري (قدس سره) ببيانٍ أوضحه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((فإن الأدلة المتقدمة التي دلّت على حرمة التصوير إنما تقتضي حرمة الصورة العرفية التامة الأعضاء والجوارح بحيث يصدق عليها أنها مثال بالحمل الشايع.

وعليه فإذا صوّر أحدٌ نصف حيوان من رأسه إلى وسطه أو بعض أجزائه فإن قدّر الباقي موجوداً فهو حرام، كما إذا صوّر إنساناً جالساً لا يتبين نصف بدنه، أو كان بعض أجزائه ظاهراً وبعضه مقدراً، بأن صوّر إنساناً وراء جدار أو فرس، أو يسبح في الماء ورأسه ظاهر، وإن قصد النصف فقط فلا يكون حراماً، فإن الحيوان لا يصدق على بعض أجزائه كرجله ويده ورأسه، نعم إذا صدق الحيوان على هذا النصف كان تصويره حراماً))(2).

(الثاني) قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) تتمة لما قاله في الفرع الأول: ((ولو صور بعض أجزاء الحيوان ففي حرمته نظر، بل منع))، ثم قال (قدس سره): ((ولو بدا له في إتمامه حرم الإتمام، لصدق التصوير بإكمال الصورة، لأنه إيجاد لها. ولو اشتغل بتصوير حيوان فعل حراماً، حتى لو بدا له في إتمامه. وهل يكون ما فعل حراما من حيث التصوير، أو لا يحرم إلا من حيث التجري؟ وجهان: من أنه لم يقع إلا بعض مقدمات الحرام بقصد تحققه، ومن أن معنى حرمة الفعل عرفاً ليس إلا حرمة الاشتغال به عمداً، فلا تراعى الحرمة بإتمام العمل. والفرق بين فعل الواجب - المتوقف استحقاق الثواب على إتمامه -

ص: 58


1- جواهر الكلام: 22/43.
2- مصباح الفقاهة: 35/362.

وبين الحرام، هو قضاء العرف، فتأمل ))(1).

أقول: صدر كلامه (قدس سره) صحيح، أما قوله (قدس سره): ((ولو اشتغل...)) ففيه: أن الحرمة تتعلق بمجموع الفعل المحرم، وهو التصوير وتحققها بالاشتغال بالتصوير مراعى بإتمامه، وأجزاء الفعل هي مقدمات (داخلية) للفعل في المصطلح الأصولي فإن تم الفعل كانت أجزاءً منه، وإن لم يتم بقيت على حكم المقدمية فقط ولا تكون حراماً إلا من باب التجري ولا نقول بحرمته. كالركوع من الصلاة مثلاً فإنه مقدمة داخلية ويكون جزءاً من الصلاة التامة فيشترط فيه حينئذٍ ما يشترط فيها، أما إذا قطع الصلاة أو فسدت فلا يشترط فيه ذلك، والواجب والحرام من هذه الناحية سواء.ولعل وجه تأمله (قدس سره) هو ما نقلناه من أن عدم إتمام العمل كاشف عن عدم ثبوت الحرمة المتعلقة به فما بدأ به من العمل لا يكون محرماً، ومنه يظهر عدم الفرق بين الواجب والمحرم في ترتب الثواب والعقاب على كمال العمل فلو بدأ بأجزاء من العمل ولم يكمله لم يُعطَ ثواب ذلك العمل، وإن كان الله تبارك وتعالى قد يثيبه بفضله وكرمه على نية العمل والشروع فيه.

وقد نقض السيد صاحب العروة (قدس سره) على قول المصنف (قدس سره): ((حرم الإتمام، لصدق التصوير بإكمال الصورة)) بقوله: ((لازم ذلك الحكم بالحرمة أيضاً فيما إذا كان القدر الموجود بفعل غيره لأنه يصدق عليه أنه أوجد الصورة لأن ما كان موجوداً لم يكن صورة بل بعضها سواء كان ذلك الموجود بفعل مكلف آخر أو غيره كالصبي والمجنون بل ولو لم يكن قصد الفاعل إيجاد الصورة أيضاً، لأن المناط هو صدق الإيجاد بالنسبة إلى هذا التتميم، ولا يخفى أن الالتزام به مشكل))(2).

أقول: لا إشكال في الالتزام بالنقض المذكور لصدق التصوير عليه عرفاً كما قدّمنا.

ثم قرّب (قدس سره) الاستدلال عليه بقوله: ((والمسألة مبنية على أن

ص: 59


1- المكاسب: 14/189.
2- تعليقة السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 19.

المحرم هو فعل التصوير (الذي هو فعل مركّب تدريجي الحصول) أو إيجاد الصورة (الذي هو أمر بسيط متحد مع وجودها) وبعبارة أخرى المحرم عنوان فعل مركب أو عنوان بسيط يكون الفعل الخارجي المركب محققاً ومحصلاً له وعلى الأول يكون حرمة الفعل نفسياً وعلى الثاني مقدمياً بالأول لا يكون الإتمام حراماً لعدم كونه تصويراً إذ إيجاد البعض لا يكون إيجاداً للصورة التي مركبة بالفرض سواء كان البعض الأول من فعله أو من فعل غيره وسواء كان إيجاده له على الوجه المحرم كما لو كان بانياً على التصوير وبعد الإتيان بالبعض بدا له في الإتمام ثم بعد ذلك أتمه أو على وجه محلل وإن قلنا بالثاني يكون الإتمام حراماً في الجميع هذا والظاهر من الأخبار هو المعنى الأول كما لا يخفى وهو الظاهر من المصنف فيما ذكره في الفرع الآتي)).

أقول: بل الظاهر هو المعنى الثاني لما قدمناه من أن الحاكم هو العرف وهو يحكم بأن موضوع الحرمة أمر بسيط هو إيجاد الصورة وصنعها إما بالفعل المركب التدريجي فهو مقدمة لحصولها وإذا اشتغل بالفعل وابتدأ به قاصداً إتمامه ارتكب حراماً لكن الحرمة تكون مراعاةً بإتمام الفعل فلو بدا له في الإتمام لم يرتكب حراماً لكنه متجرٍ بفعل كما تقدم.

وفي ضوء هذا فالمبنى الذي اتخذه لإشكاله المتقدم غير تام، وسيأتي عدوله بقوله الآتي ((نعم..)). ومراده مما ذكره المصنف (قدس سره) قوله المتقدم في أول هذا الفرع: ((ومن أن معنى حرمة الفعل...)) في بيان وجهي التردد.

ثم قال (قدس سره): ((ولا يمكن(1)

أن يراد من الأخبار الأمران معاً أعني حرمة نفس الفعل ذاتاً وحرمة العنوان البسيط أعني إيجاد الصورة ليكون الفعل الأولي المركب حراماً مقدمياً لأنه مستلزم للاستعمال في أكثر من معنى مع أنه يستلزم كونالفعل الخارجي محرماً من جهتين نعم يمكن أن يدعى أن الظاهر من الأخبار وإن كان حرمة نفس الفعل لكن يستفاد من فحواها حرمة

ص: 60


1- من هنا إلى آخر الكلام تعريض بكلام المحقق الإيرواني (قدس سره) الآتي في الفرع الثالث بإذن الله تعالى.

الايجاد أيضاً إذا لم يكن تمام المركب حراماً ومقتضاه حرمة الإتمام أيضاً في الصورة المذكورة فتدبر)).

(الثالث) في ضوء ما ذُكر في الفرع الأول فإن تصوير جزء من الحيوان كاليد والرجل جائز، وعلى هذا فإذا صوّر أجزاء متفرقة من حيوان كلاً على حدة فلا إشكال في عمله لعدم صدق تصوير الحيوان أو تمثاله -الذي هو متعلق الحكم بالحرمة- عليه، ولكنه إذا ركّب هذه الأجزاء ارتكب محرماً لصدق التصوير عليه، وكذا إذا كان الغرض تصوير بعض الأجزاء فقط ثم بدا له الإتمام حرم الإتمام فقط.

ولا يمكن التمسك بإطلاق قوله (عليه السلام): (من صوّر صورة) أو (مثّل مثالاً) وقوله (عليه السلام): (ما لم يكن شيئاً من الحيوان) لتعميمه على الأجزاء. لعدم جريان الحكم إلا على الهيأة الكاملة لتصوير الحيوان، وانبساط الحرمة على الأجزاء مراعىً باكتمال تلك الهيأة، فلو شرع بتصوير الجزء بنية إكمال الكل ثم بدا له فلم يتم العمل لم يفعل حراماً، نعم هو قد تجرّى بذلك.

ونقل عن المحقق الإيرواني في حاشيته على المكاسب: ((أن من المحتمل قريباً حرمة كل جزء جزء أو حرمة ما يعمّ الجزء والكل، فنقش كل جزء حرام مستقل إذا لم ينضمّ إليه نقش بقية الأجزاء، وإلا كان الكل مصداقاً واحداً للحرام - إلى أن قال-: ويحتمل أن يكون كلٌ فاعلاً -للحرام- كما إذا اجتمع جمع على قتل واحد فإن الهيأة تحصل بفعل الجميع، فلولا نقش السابق للأجزاء السابقة لم تتحصل الهيأة بفعل اللاحق))(1).

وفيه: أنه خلاف ما يرى العرف كما قدمنا فإن صانع الجزء المستقل عن لحاظ المجموع لم يرتكب حراماً، وقياسه على اجتماع جماعة على القتل غير صحيح لصدق نسبة القتل إلى كل واحد من المشتركين فعلاً في القتل عرفاً، وإذا لم يصدق عليهم القتل ولكنهم كانوا مع القاتل فقد ارتكبوا حرمة الإعانة على

ص: 61


1- مصباح الفقاهة: 35/362.

القتل، وقد لا يكون فاعل بعض المقدمات شريكاً حتى بهذا المعنى كصانع الآلة أو بائعها لأنها من الآلات المشتركة.

وفي المقام يمكن تقريب الحرمة بنحو آخر وهو ما لو حصل تصوير المجسم ذي الروح من المشتركين دفعةً واشتركوا في صناعة أجزائه ولعل كلام الإيرواني يحمل على هذا المعنى فلا يصح إطلاق السيد الخوئي (قدس سره) رفضه لكلام الإيرواني (قدس سره) إذ يمكن قبوله على نحو -فيما لو كانت صناعة المشتركين للأجزاء في عمل واحد عرفاً- ولا يمكن قبوله فيما إذا صنعوا أجزاءً متفرقة لا بقصد الهيأة الكاملة.

وبه نوقع التصالح بين صاحب الجواهر (قدس سره) وأستاذه كاشف الغطاء (قدس سره) حيث قال: ((ولو حصل الصنع من اثنين دفعة كانا مصورين، ومع التدريج ففي شرح الأستاذ أن المدار على الأخير، قلت: لعل الأقوى التعلق بالأولأيضاً، إذا فرض كون المقصود لهما ذلك من أول الأمر، لصدق الاستناد إليهما، ومنه يظهر ما في إطلاق قوله أيضاً بعد ذلك، ومع التفريق يتعلق بالحكم الجامع))(1).

(الرابع) قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((بناءً على الاختصاص بالمجسم فالظاهر أن المراد منه ما كان مستقلاً بنفسه فلو كان في سقف أو جدار بحيث يكون النقش مرتفعاً قليلاً فهو وإن كان مجسماً حقيقة إلا أنه لا يخرج عن كونه نقشاً فلا يكون حراماً إلا إذا كان بحيث يمكن فصله عن الجدار على وجه يكون مستقلاً، وبالجملة المدار على العرف))(2).

أقول: ليس الحاكم هو العرف وإنما يجب أن نتحرك ضمن دائرة الدليل، ولا وجود فيه لكلمة المجسم، وإنما هو عنوان استظهره الفقهاء، وقد شملت أدلة

ص: 62


1- جواهر الكلام: 22/43 وربما كان معنى كلماته الأخيرة أنه مع تفريق تصوير الأجزاء كلاً على حدة لا يتعلق الحكم بأي منهم وإنما يختصّ بالحرمة جامع تلك الأجزاء لصدق المصوّر عليه.
2- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 18.

الحرمة بإطلاقها المجسم وغير المجسم، فمن قال باختصاصها بالمجسم عليه أن يلحظ أدلة التقييد التي أخرجت غير المجسم، ولو شك في دخول فرد تحت الخاص الخارج من إطلاقات الحرمة فإنه يبقى تحت العام.

نعم لو كان دليل اختصاص الحرمة بالمجسم: انصراف إطلاقات الحرمة عن غيره، فإن هذا الانصراف هو المعيار، أو كان الدليل هو الإجماع وهو دليل لبّي فيقتصر منه على القدر المتيقن وهي المجسمات المستقلة كما عبر (قدس سره)، وفي جميع الأحوال فإن المدار هو الدليل الدال على الحرمة وليس العرف لأن موضوع الحرمة ليس هو عنوان المجسم كما قلناه.

وقد ذهب إلى الحرمة في المورد سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) حيث حرّم كل تجسيم قال (قدس سره): ((بل يشكل -أي التجسيم- حتى لو كان بنحو الخشونة بالملمس الذي ينافي كون محل الصورة مسطحاً سواء كان محلها هو الورق أو القماش أو الخشب أو الجص))(1)، ونقل عن أستاذه الشهيد الصدر الأول أنه ((ذهب إلى حرمة تصوير ذي الروح بالتطريز))(2).

ولا نعلم الوجه في هذا الإلحاق في ضوء ما قدمناه بناءً على مختارهما من حرمة المجسم خاصةً، بل هو منافٍ لما ذكره سيدنا الأستاذ (قدس سره) نفسه بقوله: ((إلا أن الصحيح هو جواز ذلك -أي التصوير بالتطريز- بسقوط الاستدلال بالروايات، فلا يبقى إلا الإجماع على الحرمة في المجسمات وهو دليل لبّي يقتصر منه على القدر المتيقن، وهو غير هذا المورد فيبقىالمورد تحت الأصل المجوّز))(3).

ولا شك أن الموارد المذكورة هي خارج القدر المتيقن أيضاً.

(الخامس) وقال السيد اليزدي (قدس سره) أيضاً: ((لا فرق في الحيوان بناءً على الاختصاص به بين كون نوعه موجوداً في الخارج أصلاً كما لو صوّر

ص: 63


1- منهج الصالحين، ج2، صفحة 26، مسألة (18).
2- ما وراء الفقه: 3/144.
3- ما وراء الفقه: 3/144.

حيواناً له رؤوس عديدة وأجنحة كثيرة على شكل غريب كان حراماً أيضاً لإطلاق الأدلة)).

أقول: ما ذكره (قدس سره) صحيح لأن موضوع الحرمة هو نوع الحيوان وما يشير العرف إليه على أنه حيوان بغضّ النظر عن وجود مصداق له في الخارج أم لا، كالثور المجنح الذي وجد في آثار العراقيين القدماء، قال صاحب المستند (قدس سره): ((فلو صور صورة حيوان لم يعلم وجود نوعه، ولكن كان بحيث لو فرض وجود مطابقة لكان من الحيوان بحسب العادة، كان محرماً))(1).

(السادس) قوله (قدس سره): ((إذا صوّر شجراً أو غيره مما لا يكون محرماً على شكل حيوان بأن كان من قصده تصوير الشجر الكذائي فالظاهر حرمته لأنه يصدق عليه أنه صور الحيوان، نعم إذا كان شجر خارجي على ذلك الشكل بحيث يكون مشتركاً بينهما لا يكون حراماً إلا إذا قصد صورة الحيوان)).

أقول: هذا صحيح إذا صدق الملاك الذي ذكرناه في الفرع السابق عرفاً، والفرض الذي ذكره يعمل في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني حين تصور الشجرة ولها رؤوس وعيون ويتم تحريكها.

(السابع) قوله (قدس سره): ((الصورة المشتركة بين الحيوان وغيره يكون المدار فيه على القصد على ما هو المقرر في سائر المقدمات كون تمييز المشتركات بالقصد)).

أقول: هذا صحيح.

ثم قال (قدس سره): ((ولكن قد يقال بعدم حرمتها لأنها كما تدخل في دليل المنع تدخل في دليل الجواز أيضاً فالأصل الإباحة، وفيه: إن هذا إنما يصح لو لم يكن القصد معتبراً في الحكم نفياً وإثباتاً، إذ حينئذٍ تدخل تحت الدليلين ويكونان متعارضين، مع أنه يمكن على هذا التقدير كونه من باب

ص: 64


1- مستند الشيعة: 14/109.

التزاحم والترجيح لجهة الحرمة فتأمل، وأما مع اعتبار القصد كما هو الواقع فيصدق تصوير الحيوان مع قصده، وتصوير غيره مع قصد الغير، هذا ولكن يشكل الحال فيما إذا صدر القدر الجامع بمعنى أن لا يقصد إلا إيجاد هذه الصورة التي يعلم أنها مشتركة من غير قصد الخصوصية ولا يبعد الحكم بعدم الحرمة حينئذٍ فتدبّر)).

أقول: ما ذكره (قدس سره) من الرجوع إلى القصد صحيح فلا تصل النوبة لافتراض التزاحم، أما الفرض الأخير وهو صدور الجامع فإنه غير ممكن عملياً، لأن تصورالجامع لا يكون إلا في ضمن أحد أفراده.

(الثامن) أثار جملة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) سؤالاً هنا حاصله: هل الحكم بالحرمة شامل لتصوير الملك والجن؟

نسب السيد الخوئي (قدس سره) إلى صاحب الجواهر (قدس سره) القول بعدم إلحاقهما بالحيوان وأنه (قدس سره) حكاه عن بعض الأساطين في شرحه على القواعد(1)، يقصد به أستاذه كاشف الغطاء.

أقول: لا يظهر ذلك من كلام صاحب الجواهر (قدس سره) فإنه بعد أن قال: ((ولو اشتركت الصورة بين الحيوان أو غيره اتبع القصد، إن لم يكن لأحدهما ظهور فيها)) قال (قدس سره): ((والظاهر إلحاق تصوير الملك والجني بذلك))(2)

ثم انتقل (قدس سره) إلى فرع آخر، فهو (قدس سره) يرجع الحكم إلى هذه الضابطة.

وعلى أي حال فالحكم في المسألة هو الحرمة لأن الملك والجني يصوّر على شكل ذي روح ويشير العرف إليه بذلك فيكون مشمولاً لما ذكرناه في الفرع الخامس.

(التاسع) قال السيد الخميني (قدس سره): ((إن الظاهر من الأدلة هو حرمة

ص: 65


1- مصباح الفقاهة: 35/355.
2- جواهر الكلام: 22/43.

تصوير الصور وتمثيل المثال، وهما لا يشملان إلا للمصنوع بيد الفاعل مباشرة بمعنى صدور عمل التصوير منه وبيده، كما كانت صنعة الصور كذلك في عصر صدور الروايات فلا يشملان لإيجاد الصور كيفما كان، فلو فرضت مكينة صنعت لإيجاد المجسمات وباشر أحد لاتصال القوة البرقية بها فخرجت لأجلها الصور المجسمة منها: لم يفعل حراماً ولم تدل تلك الأدلة على حرمته، لعدم صدق تصوير الصور وتمثيل المثال عليه، فلو نُسبا إليه كان بضرب من التأويل والتجوز، فإن ظاهر من صوّر صوراً أو مثل مثالاً -سيما في تلك الأعصار- صدورهما من قوته الفاعلة، فيكون هو المباشر لتصويرها، فكما أن قوله: من كتب كتاباً لا يشمل من أوجد الكتابة بالمطابع المتعارفة أو أخذ العكس منه، فمباشر عمل المطبعة وآخذ العكوس ليس كاتباً ولا كتب شيئاً كذلك صاحب المكينة العاملة للصور، وكذا العكاس ليسا مصورين وممثلين للصور والمثل إلا بضرب من التأويل والتجوز ولا يصار إليه إلا بدليل وقرينة من غير فرق بين العكوس المنطبعة في الزجاجة والمنعكسة منها إلى الصحايف وإن كان عدم الصدق في الأول أوضح)).

أقول: في كلامه (قدس سره) عدة موارد للنظر منها:-

1- إن من يشغّل جهازاً تدخل فيه المواد الأولية فينسخ تماثيل مجسمة يصدق عليه عرفاً أنه (صوّر) و (مثّل) فيجري عليه الحكم بالحرمة، كمن يشغّل جهازاً لذبح الحيوان فإنه يعتبر ذابحاً ويحكم بصحّة ذبحه إذا توفّرت الشروط الأخرى أو صدق الخياط على من يخيط بالماكنة ونحوها. ولا ينقض عليه بما ذكره (قدس سره) من عدم صدق عنوان (الكاتب) على من شغّل الآلة الكاتبة لتغيّر الموضوع فإنه يصبح طابعاً حينئذٍ والحاكم بالفرق هو العرف.

2- إن كون المتعارف في عصر صدور النص هو التصوير باليد لا يقيّد الحكم به لأن الأحكام الشرعية مأخوذة على نحو القضايا الحقيقية لا الخارجية.

3- إن ما اشترطه (قدس سره) من القدرة والعلم متحققان في المورد كما هو واضح.

4- لو افترضنا أن ملاك الحرمة هو التشبه بالخالق -كما هو ظاهر روايات النفخ- فإنه موجود في الصنع بالآلة فتتحقق الحرمة.

ص: 66

ثم قال (قدس سره): ((نعم لو كان وجود شيء مبغوضاً في الخارج كان إيجاده بأي نحو كذلك، لاتحاد الإيجاد والوجود ذاتاً وإنما اختلافهما بالاعتبار، لكن لم يُحرز في المقام ذلك، بل سيأتي أن الأقوى جواز اقتناء الصور وعدم وجوب كسرها)).

أقول: بغض النظر عن هذه الملازمة التي سنناقشها في ملحق البحث إن شاء الله تعالى فإن الحكم بالتعميم ليس مبنياً عليها وإنما على صدق (المصوِّر) و (الممثِّل) عرفاً على الصانع بالآلة.

واستظهر السيد صاحب العروة (قدس سره): ((أنه لا فرق في التصوير بين المباشرة والتسبّب كما لو أكره غيره أو بعثه عليه من غير إكراه فيما لو كان المباشر ضعيفاً بحيث يسند الفعل إليه وذلك لأن قوله من صور صورة ونحوه أعم من الأمرين وإن كانت الأفعال ظاهرة في المباشرة فإنه يمكن فهم الأعمية بسبب القرائن كما في قوله (عليه السلام): من أتلف وقوله: من قتل نفساً فكذا.. وهكذا، والحاصل أن ظاهر الفعل وإن كان خصوص صورة المباشرة إلا أنه يمكن استفادة التعميم من القرينة وهي في مثل المقام ملاحظة مناط الحكم والظاهر أن هذه الاستفادة مختصة بالأفعال المتعدية دون اللازمة والسر أن معنى قوله من قتل نفساً مثلاً: من أوجد القتل فيمكن أن يراد منه الأعم من الأمرين وإن كان ظاهراً من حيث هو في خصوص المباشرة بخلاف مثل قوله: من جلس أو ذهب أو نحو ذلك فإن المراد منه من قام به الجلوس أو الذهاب فلا يقبل أن يكون أعم إذ جلوس الغير قائم بذلك الغير بخلاف القتل الصادر منه فإنه يمكن نسبته إلى السبب فتدبر))(1).

أقول: ما ذهب إليه من عدم الفرق بين المباشرة والتسبيب صحيح إلا أن سرّ الفرق الذي اكتشفه ليس تاماً، فإن الحاكم هو العرف كما قدّمنا وليس كون الفعل لازماً أو متعدياً. فالفعل (كتب) متعدٍ ومع ذلك فإنه لا يصدق بالتسبّب كما ذكرنا.

ثم قال (قدس سره): ((إن ما ذكرنا من التعميم ليس منبّياً على كون

ص: 67


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 20.

المحرم هو إيجاد الصورة أعني العنوان البسيط الثانوي المنتزع من الفعل الأولي المركب بل يتم على ما قلناه من أن المحرم هو نفس ذلك الفعل الخارجي المركب كما لا يخفى))(1).

أقول: هذا صحيح لأن المرجع هو العرف كما ذكرنا.

(العاشر) قال السيد الخميني (قدس سره): ((لو اشترك اثنان أو أكثر في عمل صورة، فالظاهر قصور الأدلة عن إثبات الحرمة لفعل كل من الفاعلين أو أكثر بعد عدم صدق عنوان: صور الصورة ومثل المثال على واحد منهما بلا ريب، ضرورة أن التمثال والصورة عبارة عن مجموع الصورة الخارجية، والأجزاء لا تكون تمثالاً لحيوان ولا صورة له، والفاعل للجزء لا يكون مصوراً للحيوان، من غير فرق بين اشتغالهما بتصويره من الأول إلى الآخر أو تصوير أحدهما نصفه والآخر نصفه الآخر، أو عمل واحد منهما الأجزاء وتركيب الآخر بينها، لعدم الصدق في شيء منها، فإن الظاهر من قوله: من صور صورة كون صدور الصورة أي هذا الموجود الخارجي الذي يقال له التمثال من فاعل، والفرض عدم صدورها منه وهو نظير قوله: من قال شعراً أو من كتب سطراً أو من مشى من بلده إلى مكة، واحتمال أن يكون المراد بهما أنه من أوجد هيأة الصورة أو هيأة المثال وهو صادق على من أتمهما، أما بإتيان النصف الباقي، أو بتركيب الأجزاء: بعيد عن ظاهر اللفظ ومخالف للمتفاهم من الأخبار.

فإن قلتَ(2):إن المراد من قوله من صور صورة أو مثل مثالاً ليس الأشخاص الخارجية بل المراد أشخاص الفاعلين، وفى المفروض أن الصورة صادرة من فاعل مختار قاصد وهو مجموع الاثنين، فهما فاعل واحد ومصور واحد، وذلك كما في قوله: من قتل نفساً ومن ردّ عبدي فله كذا فإنه صادق على الواحد والاثنين، ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بتوهم أن المراد من لفظة (من) كل شخص وكل شخصين وهكذا، وذلك لأن المراد كل شخص فاعل فكأنه قال: كل فاعل، والفاعل يصدق على الاثنين

ص: 68


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 20.
2- ورد هذا الإشكال في شرح السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، صفحة 20.

والواحد بمعنى أن الاثنين فاعل واحد فلا يكون مستعملاً في الوحدات والاثنينات.

قلتُ: إن الجمع بين العام الاستغراقي والمجموعي في كلام واحد وحكم واحد: لا يمكن، فإن الاستغراق الملازم للانحلال يتقوم بعدم لحاظ الوحدة بين الأشخاص، والعام المجموعي متقوم بلحاظها، ففي قوله: أكرم العلماء إن لم يلحظ في تعلق الحكم وحدة الموضوع ولم يعتبر المجموع واحداً: ينحل إلى أحكام عديدة حسب تعدد الأفراد، وإن لوحظت الوحدة والاجتماع يكون حكم واحد لموضوع واحد، ولا يعقل الجمع بين المجموعي والاستغراقي أي لحاظ الوحدة وعدم لحاظها هذا في المتعلق، وكذا الحال في المكلف ففي قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» إما أن لا يلاحظ كون المؤمنين نفساً واحدة، فيكون كل مؤمن مكلفاً بالوفاء، وإما أن يلاحظ ذلك، فلا يمكن الانحلال إلى أحكام كثيرة حسب تعدد المؤمنين، لأن المكلف حينئذٍ يكون عنواناً واحداً هو مجموع المؤمنين ففي ما نحن بصدده بعد ما كان كل فاعل مستقلاً في فعله وفاعلاً لجزء من الصورة، ولا يمكن أن يكون الاثنان أو أكثر واحداً إلا مع اعتبار الوحدة. إما أن تعتبر الوحدة في من يكون لفظة (من) كناية عنه أو لا، فعلى الأول لا يعقل جعل الحكم استقلالاً، وعلى الثاني لا يعقل جعله للمجموع، والجمع بينهما جمع بين اللحاظين المتنافيين، ومجرد توهم جعل الحكم على الأشخاص الفاعلين أو على عنوان الفاعل: لا يصحح ذلك فلو قال: الفاعل للصورة كذا يأتي فيه ما ذكرناه من الإشكال، والمثالان المذكوران نقضاً إلى قوله من قتل نفساً، وقوله من رد عبدي نظير ما نحن فيه في عدم الإمكان)).

أقول: تعرف المناقشة فيه مما تقدم في الفرع الأول وغيره وحاصلها أن الحاكم هو العرف وهو يرى التفريق بين صورتين:-

الأولى: ما لو صنع كل واحد جزءاً لا بقصد الجزئية وإتمام الهيأة وحينئذٍ فإنه لميرتكب محرماً لعدم صدق التصوير عليه وإنما يصدق على الجامع للأجزاء لتصير هيأة كاملة.

الثانية: ما لو اشترك اثنان أو أكثر في صناعة مجسم لذي روح بهيأة كاملة فإن

ص: 69

قوله (عليه السلام): (من صور) و (من مثل) ينطبق عليهم وينبسط عليهم الحكم بالحرمة كانبساط (من قتل) على الواحد أو المتعدد إذا اشتركوا لأنها تفيد الجنس الشامل للواحد والأكثر على حد سواء.

أما الجمع بين العموم الاستغراقي والمجموعي فممكن إذا كان موضوع الحكم عنواناً جامعاً لهما وهو عنوان المصوِّر كعنوان القاتل الذي يجمعهما أو عنوان المالك في موارده والعرف يساعد على ذلك.

ومنه يُعلم المناقشة في بقية كلامه (قدس سره) رُفع في الجنان مقامه.

(الحادي عشر) قال السيد الخوئي (قدس سره): ((لا يحرم أخذ العكس المتعارف في زماننا -أي التصوير الفوتوغرافي- لعدم كونه إيجاداً للصور المحرمة، وإنما هو أخذ للظل وإبقاء له بواسطة الدواء، فإن الإنسان إذا وقف في مقابل الماكينة العاكسة كان حائلاً بينها وبين النور، فيقع ظله على الماكينة، ويثبت فيها لأجل الدواء، فيكون صورة لذي ظل، وأين هذا من التصوير المحرم؟

وهذا من قبيل وضع شيء من الأدوية على الجدران أو الأجسام الصقيلة لتثبت فيها الظلال والصور المرتسمة، فهل يتوهم أحد حرمته من جهة حرمة التصوير، وإلا لزمه القول بحرمة النظر إلى المرآة، إذ لا يفرق في حرمة التصوير بين بقاء الصورة مدة قليلة أو مدة مديدة))(1).

أقول: ما ذكره (قدس سره) من كيفية أخذ الصورة لا يخرجه عن صدق التصوير، والذي يخرجه هو نظر العرف، فإنه الحاكم في المسألة كما يحكم أن الوقوف أمام المرآة وظهور الصورة فيها لا يعدُّ تصويراً.

ولو نوقش في إخراج المورد موضوعاً فإنه خارج حكماً من جهة انصراف أدلة حرمة التصوير عنه. ومنه يُعلم الإشكال في ما اختاره السيد صاحب العروة (قدس سره) بقوله من عدم الفرق ((بين أنحاء الصورة من النقش بالتخطيط أو بالحك وبغير ذلك فيشمل العكس المتداول في زماننا فإنه أيضاً تصوير كما لا يخفى فتدبر))(2).

ص: 70


1- مصباح الفقاهة: 35/362.
2- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 19.

(الثاني عشر) قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((لا إشكال في حرمة أخذ الأجرة على عمل الصور المحرم سواء كان بعقد الأجارة أو الجعالة أو غيرها لما مرّ من قوله (عليه السلام): (إن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه) وغيره))(1) ثم نقل إشكال الشيخ النراقي في المستند الذي ذكرناه (صفحة 41) ثم قال: ((ولا يخفى ما فيه مع أن الإجماع على كلّي القاعدة أيضاً متحقق كما لا يخفى على الناظر في كلماتهم في جزئياتها)).

وفيه:-

1- إن متن الحديث ليس كما ذكره (قدس سره) فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرّم على قومٍ أكل شيء، حرّم عليهم ثمنه)(2)

فلعل ما ذكره (قدس سره) هو معقد إجماع الأصحاب.

2- سند الخبر ضعيف فقد رواه صاحب عوالي اللئالي مرسلاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

3- ليست مسألتنا من تطبيقات الحديث لأن ظاهره أثمان المبيعات أما مسألتنا فتدخل في باب الأجارة أو الجعالة مقابل الأعمال، ولا يسمى ما يُبذل بإزاء العمل ثمناً وإنما أجراً أو أجرة وجعلاً ونحوه.

وعلى أي حال فما أفاد (قدس سره) من الحرمة صحيح لأنه أكلٌ للمال بالباطل وللإجماع ولخبر تحف العقول وفيه (وذلك إنما حرّم الله الصناعة التي هي حرام كلها التي يجيئ منها الفساد محضاً) إلى أن قال (عليه السلام): (فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجرة عليه)(3) ويؤيده النبوي المتقدم بعد تجريده عن خصوصية البيع لمناسبة الحكم والموضوع.

وقال السيد الخميني (قدس سره): ((إن أخذ الأجرة على التصوير المحرم غير جائز لأن الأجارة لذلك حرام و فاسدة لما ذكرناه فيما سلف، من أن الفعل المحرم الذي يجب على الناس منع الفاعل عنه بأدلة النهي عن المنكر: لا

ص: 71


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 22.
2- مستدرك الوسائل: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 6، ح8.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب2، ح1.

يكون محترماً ومالاً ولهذا لا يضمن المانع عنه أجرة المثل للعمل بلا شبهة، فلو منع مانع عبد غيره من عمل الصورة المجسمة لا يكون ضامناً، فلا يكون ذلك العمل مالاً لدى الشارع فلا يجوز أخذ الأجر عليه ويكون الأخذ أكلا للمال بالباطل))(1).

(الثالث عشر) قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((الظاهر عدم وجوب منع غير المكلف إذا باشر ذلك بنفسه بل جواز تمكينه أيضاً إذا لم يكن بحيث يسند الفعل إلى الممكن وذلك لعدم الدليل على وجوب المنع أو حرمة التمكين كما في سائر المحرماتالتي لم يُعلم من أدلتها أو من الخارج اهتمام الشارع بها بحيث لا يريد وجودها في الخارج أصلاً فإنه قد لا يجب منع غير المكلف منها نعم فيما كان ما لم يرد الشارع وجوده كقتل النفس وهتك عرض المؤمن ونحو ذلك يجب المنع ولو صدر من البهائم ومعلوم أن المقام ليس من هذا القبيل إذ الحكمة التي ذكرها المصنف (قدس سره) قد عرفت عدم تماميتها مع أن مقتضاها على فرض التمامية حرمة الإبقاء ولا يلتزم به كما سيأتي))(2).

(الرابع عشر) وقال (قدس سره): ((لا يجب منع المكلف الجاهل والغافل ونحوهما ممن هو معذور، نعم يجب تنبيه الجاهل بالحكم من باب وجوب الإرشاد وللجهال في الأحكام الشرعية، وهل يجوز تمكينهما أيضاً بمعنى تهيئة المقدمات وبعثهما عليه مع فرض عدم إسناد الفعل إليه عرفاً كما قلنا في غير المكلف أو لا؟ الظاهر عدم الجواز والفرق بينهما وبين غير المكلف مثل الصبي إن فعل غير المكلف غير مبغوض واقعاً أيضاً لأنه غير مكلف أصلاً بخلاف فعل الجاهل والغافل فإنه محرم في الواقع، غاية الأمر كونهما معذورين فتمكينهما تمكين على إيجاد المحرم وهذا غير جائز على ما أسلفنا الكلام فيه فتدبر))(3).

ص: 72


1- المكاسب المحرمة: 1/197.
2- حاشية المكاسب للسيد اليزدي (قدس سره)، طبعة حجرية، صفحة 20.
3- حاشية المكاسب للسيد اليزدي (قدس سره)، طبعة حجرية، صفحة 20.

ملحق: حكم اقتناء التماثيل المجسَّمة

تنبيه: قبل أن ندخل في المسألة لا بد أن نعلم أن البحث لا يشمل التماثيل التي تُتخذ للعبادة سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة كالأصنام والصلبان والأشجار وغيرها من الأرباب المزعومة، ولا يجوز اقتناؤها ولا إبقاؤها، لعموم رواية تحف العقول (إنما حرّم الله الصناعة التي هي حرام كلها مما يجيء منها الفساد محضاً، نظير المزامير والبرابط وكل ملهوٍّ به، والصلبان والأصنام... -إلى أن قال (عليه السلام) - فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به، وأخذ الأجرة عليه، وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات).

ولما عُلم من ذوق الشارع المقدس من تشدده في قطع دابر الكفر والشرك، وهذه الحالة تبحث في مسألة أخرى وهي ((هياكل العبادة المبتدعة)) -بحسب تعبير الشيخ الأنصاري (قدس سره)- وقال (قدس سره) هناك: ((بل قد يقال بوجوب إتلافها فوراً، ولا يبعد أن يثبت، لوجوب حسم مادة الفساد))(1).

نعم استثنوا ما ((لو فرض هيأة خاصة مشتركة بين هياكل العبادة وآلة أخرى لعمل محلل -بحيث لا تُعدُّ منفعة نادرة- فالأقوى جواز البيع بقصد تلك المنفعة المحللةكما اعترف به في المسالك))(2).

وما لو ((كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة لتكسر وكان المشتري ممن يوثق بديانته، فإنه يجوز بيعها على الأقوى))(3) كما حكاه الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن التذكرة وصاحب الكفاية وصاحب الحدائق وصاحب الرياض نافياً عنه الريب، وأضاف المحقق الثاني (قدس سره): ((ومثله باقي الأمور المحرمة كأواني النقدين والصنم))(4).(4).

واغتنم السيد الخميني (قدس سره) هذه الفرصة لإظهار معارضته لسياسة حكومة الشاه فقال (قدس سره): ((وذلك لما نعلم من مذاق الشارع

ص: 73


1- المكاسب: 14/115، 112، 114.
2- المكاسب: 14/115، 112، 114.
3- المكاسب: 14/115، 112، 114.
4- (4) جامع المقاصد: 4/116.

الأقدس أنه لا يرضى ببقاء آثار الكفر والشرك للتعظيم أو لحب بقاء آثارهما والفخر بها كما ترى من بعض أولاد الفرس من الحرص على إبقاء الآثار القديمة المربوطة بالمجوس وعبدة النيران.

وقد مر أن جملة من الأخبار راجعة إلى هذه الناحية فالفروع الآتية إنما هي في غير تلك الصور الخبيثة، ولا ينافى ذلك لما قدمناه سابقاً من تجويز بيع الصنم الذي انقرض عصر عابديه وإنما يشتريه بعض الناس لحفظ الآثار العتيقة، لأن المنظور في ذلك المقام جواز المعاوضة عليه إن كان المقصود مجرد ذلك لا حفظ شعار الأجداد كما في المقام))(1).

ونعود إلى عنوان مسألتنا فنقول: إن المشهور عند المتأخرين وإن كان هو القول بالجواز وعليه الإجماع في الأجيال المتأخرة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لكن ذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) أن ((ظاهر كلام بعض القدماء حرمة بيع التماثيل وابتياعها.

ففي المقنعة -بعد أن ذكر في ما يحرم الاكتساب به الخمر وصناعتها وبيعها- قال: وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسمة والشطرنج والنرد وما أشبه ذلك- حرام وبيعه وابتياعه حرام. انتهى.

وفي النهاية: وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسمة والصور والشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار- حتى لعب الصبيان بالجوز- والتجارة فيها والتصرف فيها والتكسب بها محظور، انتهى. ونحوها ظاهر السرائر))(2) لكن ((المحكي عن شرح الإرشاد للمحقق الأردبيلي -أن المستفاد من الأخبار

ص: 74


1- المكاسب المحرمة: 1/176-177.
2- وفي الكافي لأبي الصلاح الحلبي في عداد ما يحرم فعله ((وعمل الصلبان والأصنام والتماثيل)) وقال أيضاً: ((كل شيء ثبت تحريمه... فثمنه وأجر عمله وحمله وإبقاؤه وحفظه والمعونة عليه بقول أو فعل أو رأي، والتعوّض عنه محرم)) ونقلناها بواسطة (دراسات في المكاسب المحرمة: 2/555).

الصحيحةوأقوال الأصحاب(1):

عدم حرمة إبقاء الصور، انتهى وقرّره الحاكي على هذه الاستفادة.

وممن اعترف بعدم الدليل على الحرمة، المحقق الثاني- في جامع المقاصد- مفرّعاً على ذلك جواز بيع الصور المعمولة، وعدم لحوقها بآلات اللهو والقمار وأواني النقدين))(2).

أقول: صريح عبارة المقنعة حرمة اقتناء المجسمة خاصة وظاهر عبارة النهاية الإطلاق لغير المجسمة أي المنقوشة بقرينة مقابلتها للصور وهو معنى بعيد لوجود الروايات المعتبرة الدالة على اقتناء الأئمة لها فيمكن أن تكون الألفاظ مترادفة بمؤدى واحد.

أما ما حكاه الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن المحقق الأردبيلي فإنه يشعر باختياره (قدس سره) القول بجواز الاقتناء وتبعه على هذه النسبة السيد الخوئي (قدس سره) فحكى القول بالجواز عن الأردبيلي(3)، لكن هذا كان مجرد نقل من الأردبيلي (قدس سره) وإلا فإنه من القائلين بالحرمة ولذا نسب صاحب الجواهر (قدس سره) إلى الأردبيلي القول بعدم جواز الإبقاء(4)

وإنما جوّز إبقاء ما يجوز صنعه وهو غير المجسَّم، قال (قدس سره) في متاجر مجمع البرهان في شرح الإرشاد بعد أن نقل الروايات التي استدلوا بها على الجواز: ((بعد

ص: 75


1- قال السيد الخميني (قدس سره) في كتابه (المكاسب المحرمة: 1/187): ((الحاكي صاحب مفتاح الكرامة عن مبحث لباس المصلي من شرح الإرشاد لكن فيه: ويفهم من الأخبار الصحيحة عدم تحريم إبقاء الصورة وكذا الصورة في الخاتم، وليس فيه ذكر من أقوال العلماء، ولعله حكى عن نسخة أخرى غير المطبوعة، وما ذكره في ذلك المبحث لعله غير منافٍ لما ذكره في المقام -أي في كتاب المتاجر/المتاجر المحرمة- حيث قال ما حاصله: تدل روايات كثيرة على جواز إبقاء الصور مطلقاً، وهو يُشعر بجوازه)).
2- المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/190.
3- مصباح الفقاهة: 35/364.
4- جواهر الكلام: 22:

ثبوت التحريم فيما ثبت يشكل جواز الإبقاء، لأن الظاهر أن الغرض من التحريم عدم خلق شيء يشبه بخلق الله وبقائه لا مجرد التصوير فيحمل ما يدل على جواز الإبقاء من الروايات الصحيحة وغيرها على ما يجوز منها من أدلة جواز التصوير في الجملة على البسط والستر والحيطان والثياب وهى التي تدل الأخبار على جواز إبقائها فيها لا ذوات الروح التي لها ظل على حدة التي هي حرام بالإجماع، والاجتناب مطلقاً من الإحداث والإبقاء من جميع أنواعه أحوط كما يشعر به: (أن الملك لا يدخل بيتاً فيه صورة) فلا يترك))(1).ومن هذا النص يظهر أن عبارة الأردبيلي (قدس سره) في باب لباس المصلي ومكانه التي استفادوا منها ذهابه إلى جواز الإبقاء مختصّة بغير المجسم، قال (قدس سره) في باب لباس المصلي: ((ويُفهم من الأخبار الصحيحة عدم تحريم إبقاء الصورة وكذا الصورة في الخاتم)) وفي مكان المصلي بعد ذكر صحيحة محمد بن مسلم قال: ((وفيها دلالة على جواز إبقاء صورة التماثيل ولو كانت صورة حيوان))(2)

وهو معنى مناسب للباس ومكان المصلي.

أدلة القائلين بالمنع:

ويمكن إرجاع استدلال القائلين بالمنع الذي ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) إلى ثلاثة أدلة:-

(الأول) الملازمة بين حرمة الإيجاد -وهو التصوير بالمعنى المصدري- وحرمة الوجود- بالمعنى اسم المصدري- لأن ((الظاهر من تحريم عمل الشيء مبغوضية وجود المعمول ابتداءً واستدامةً))(3) وقرّبه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((إن الوجود والإيجاد في الحقيقة شيء واحد، وإنما يختلفان بالاعتبار، فإن

ص: 76


1- نقلناها بواسطة شرح السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21، ونقل السيد الخميني (قدس سره) موضع الحاجة في المكاسب المحرمة : 1/188، عن شرح الإرشاد، كتاب المتاجر- القسم الرابع من المتاجر المحرمة فيما هو حرام في نفسه.
2- نقلنا النصّين بواسطة (دراسات في المكاسب المحرمة): 2/634.
3- المكاسب: 14/191.

الصادر من الفاعل بالنسبة إليه إيجاد، وبالنسبة إلى القابل وجود فإذا حرم الإيجاد حرم الوجود))(1).

ورد الشيخ الأنصاري (قدس سره) بمنع الملازمة، قال (قدس سره): ((إن الممنوع هو إيجاد الصورة، وليس وجودها مبغوضاً حتى يجب رفعه. نعم، قد تفهم الملازمة من سياق الدليل أو من خارج، كما أن حرمة إيجاد النجاسة في المسجد يستلزم مبغوضية وجودها فيه، المستلزم لوجوب رفعها)) وأضاف السيد الخوئي (قدس سره): ((بل ربما يجب إبقاء النتيجة وإن كان الفعل حراماً، كما إذا كتب القرآن على ورق مغصوب أو بحبر مغصوب، أو كتبه العبد بدون إذن مولاه، أو بنى مسجداً بدون إذنه، أو تولّد أحدٌ من الزنا، فإن في ذلك كله يجب حفظ النتيجة وإن كانت المقدمة محرمة.

وعلى الجملة: ما هو متحد مع الإيجاد ليس مورداً للبحث، وما هو مورد للبحث لا دليل على اتحاده مع الإيجاد)) يقصد (قدس سره) بالأول ((الوجود الأول الذي هو عين الإيجاد أو لازمه)) وبالثاني ((الوجود في الآن الثاني الذي هو عبارة عن البقاء، ومن البديهي أنه لا ملازمة بين الحدوث والبقاء لا حكماً ولا موضوعاً)).

أقول: يناقَش ما تقدم بأمور:-

إن الملازمة المدعاة هي في فهم العرف والسيرة التي جرى عليها العقلاء في مثل المورد وهو الحاكم في استظهار مراد المتكلم المطابقي والإلتزامي حيث1- يفهمون من مبغوضية إيجادها مبغوضية وجودها والأمر جارٍ بالعكس أي يجدون ملازمة بين محبوبية وجودها ومحبوبية إيجادها كالملازمة بين محبوبية بناء المساجد ومحبوبية وجودها، بل قد يرون أن المبغوض أولاً وبالذات هو الوجود والبقاء وما النهي عن الإيجاد والصنع إلا من باب المقدمية لمنع حصول ذلك المبغوض، وليس المدعى الملازمة العقلية حتى ينقض عليه بالموارد المذكورة.

ص: 77


1- مصباح الفقاهة: 35/364.

2- إن ما نقضوا به هو شيء آخر غير نفس المنهي عنه بالدقة فإن الزنا غير بقاء الإنسان المتولد منه حتى ينقض المحقق الإيرواني (قدس سره) وغيره به.

3- ولو سلّمنا بصحة بعض الأمثلة التي ذكروها فلقرينة مرتبطة بها.

فالنافون -كالشيخ الأنصاري (قدس سره) ومن تبعه- إن أرادوا نفي الملازمة العقلية فهو لا يضر في الاستدلال لأنها ليست هي المقصودة، وإن أرادوا الملازمة العرفية فالوجدان لا يساعد على نفي الملازمة.

ومنه يظهر ما في كلام السيد الخوئي (قدس سره) حين قال: ((على أنّا إذا سلّمنا الملازمة بين مبغوضية الإيجاد وبين مبغوضية الوجود فإنما يتم بالنسبة إلى الفاعل فقط، فيجب عليه إتلافه دون غيره، مع أن المدّعى وجوب إتلافه على كل أحد. فالدليل أخصّ منه))(1)

فإننا إذا قلنا بالملازمة وجبت على الجميع وجوباً كفائياً إزالته من باب النهي عن المنكر لأن بقاء التمثال منكر في ضوء الملازمة.

وذكر السيد اليزدي (قدس سره) هنا إيراداً وأجاب عنه، قال (قدس سره): ((فان قلتَ: إن النهي عن الإيجاد كاشف عن أن المبغوض هو الوجود فيجب رفعه كما في النهي عن بيع المصحف من الكافر حيث أن الشارع لما لم يرد كونه مالكاً له نهى عن البيع منه وكذا في المقام. قلتُ: هذا أول الدعوى ألا ترى أن بيع العين المنذورة مبغوض ومع ذلك لو باع يحصل الملكية للمشتري فلا يلزم أن يكون الوجه في النهي مبغوضية الأثر بل قد يكون المبغوض نفس الفعل فإن المبغوض في مسألة النذر تفويت المتعلق وهو آنيُّ الحصول وفي المقام المبغوض هو التصوير بمعنى الاشتغال به لا نفس الصورة ولذا لم نقل بوجوب منع الصبي، نعم لو تم كون الحكمة هو التشبه بالخالق أمكن دعوى مبغوضية نفس الصورة فإنها ما دامت موجودة يكون التشبه متحققاً في الخارج كما أن حكمة النهي عن تنجيس المسجد مبغوضية تلوثه فتكون دليلاً على وجوب إزالة

ص: 78


1- مصباح الفقاهة: 35/365. وقد أخذ (قدس سره) هذه المناقشة والتي سبقتها من شرح السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21.

النجاسة الموجودة أيضاً ولو كانت من فعل غير المكلف))(1).

وفيه:-

1- إننا لا ننكر وجود موارد لا تجري فيها الملازمة لقرائن ومن دونها فإن العرف يرى الملازمة.

إن المورد الذي نقض (قدس سره) به غير تام فإن بيع العين المنذورة غير جائز1- للقاعدة في عدم جواز بيع متعلق النذر واليمين، ولخبر(2)

الحسن بن علي الوشا عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قلت له: إن لي جارية ليس لها مني مكان ولا ناحية وهي تحتمل الثمن إلا أني كنت حلفت منها بيمين فقلت: لله عليَّ أن لا أبيعها أبداً ولي إلى ثمنها حاجة مع تخفيف المؤونة، فقال: فِ لله بقولك له)(3)

والبيع فاسد، ومن أجازه فلدليل كسقوط النذر بالاضطرار -كما عليه صاحب الشرائع (قدس سره)- أو للتمسك ب-((إطلاق أدلة البيع وكون النهي لأمر خارج، وقد اختاره الصيمري في شرحه))(4)

فلا يصح النقض بالمورد على الملازمة.

2- إن استثناءه (قدس سره) لمورد التشبه بالخالق غير ظاهر لأن العرف يرى في هذه الحالة -لو تمّت هذه الحكمة- أن المبغوض هو الإيجاد فلو حصل فإن الإبقاء غير مبغوض كما سيأتي بإذن الله تعالى.

فالملازمة ثابتة وجداناً وسيأتي في الوجه الثاني الآتي أن خبر تحف العقول يؤسس لهذه الملازمة وحينئذٍ تكون عرفية وشرعية، ويلاحظ هنا أن المحقق الأردبيلي (قدس سره) استفاد منها في الاتجاه المعاكس بمعنى أنه استفاد من الروايات الدالة على جواز الإبقاء جواز التصوير في الجملة كما يظهر من النص المتقدم بقوله (قدس سره): ((فيحمل ما يدل..)).

قال السيد الخميني (قدس سره) بعد نقل كلام الأردبيلي: ((يرجع

ص: 79


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21.
2- لوجود أبي عبد الله الرازي الضعيف في السند مع أنه من رجال كامل الزيارات.
3- وسائل الشيعة: كتاب النذر والعهد، باب 17، ح11.
4- جواهر الكلام: 35/413.

كلامه إلى دعويين: إحداهما: إن ما دلت على تحريم الصور تدل على تحريم الإبقاء، والثانية: إن ما دلت على جواز الإبقاء يشعر بجواز التصوير، فتحمل الأخبار المجوّزة للإبقاء على ما يجوز تصويره كتصوير غير ذي الظل من ذوات الأرواح على البسُط ونحوها، والأخبار المانعة عن التصوير على غيرها مما يحرم إبقاؤها أيضاً))(1).

وقد أقرّ السيد الخميني (قدس سره) بالملازمة وعللها بأن ((المتفاهم العرفي من الأوامر والنواهي المتعلقة بها، أن تلك الماهية القارة الذات محبوبة أو مبغوضة له وإنما أمر بإيجادها لمحبوبيتها بوجودها المستقر المستمر ونهى عنها لمبغوضيتها كذلك ولا تنتقل الأذهان إلى الإيجاد والوجود بنحو الاستقلال كما لا تتوجه إلى احتمال أن يكون في نفس الأمر والنهي مصلحة، وذلك لأن تلك العناوين التوسلية والتوصلية لا ينظر إليها استقلالاً إلا مع قيام قرينة أو مع لا بدية، فلو أمر المولى بإيجاد شيء له البقاء كبناء الأبنية وغرس الأشجار وكتابة الكتب ونحوها: لا ينقدح في الأذهان منه أن نفس الإيجاد المصدري مطلوبة، لا الماهية المستقرة الوجود، وكذا لو نهى عن ماهية كذائية كعمل الأصنام والصور وآلات اللهو والقمار، كما يظهر للمراجع إلىالأمثال والنظائر))(2).

إذن إذا أرادوا الرد فليردوا بوجه آخر غير نفي الملازمة عرفاً ووجداناً، كالمناقشة في فهم العرف لهذه الملازمة من جهة احتمال كون منشأها غفلة العرف وخلطه بين مسألة هياكل العبادة (التي يحرم فيها الصنع والإبقاء) ومسألة التصوير وأن حرمة التصوير ناشئة من احتمال اتخاذ المصوّرات للعبادة، فلو التفت إلى تغايرهما وأن حرمة التصوير مطلقة من هذه الناحية، وأن الحرمة مرتبطة بنفس التصوير سواء كان من جهة التشبه بالخالق أو غيرها فلعله لا يقول حينئذٍ بالملازمة.

أو يمكن استظهار ملاك الحكم بالحرمة ثبوتاً من الروايات ومنه يعرف حكم الاقتناء (فإن كان) ملاك الحرمة: التشبه بالخالق وتحدّيه بمحاكاته في جميل

ص: 80


1- المكاسب المحرمة: 1/188.
2- المكاسب المحرمة: 1/188-189.

صنعه كما يظهر من روايات النفخ، فيكون الحرام صدور نفس الفعل، ولا يدل على أكثر من ذلك أعني وجوب إتلاف المصنوع. وتكون الملازمة بين الإيجاد والوجود في الآن الأول فقط. (وإن كان) ملاك الحرمة: حرمة التعظيم والتقديس كمقدمة لاجتثاث أصول الوثنية من النفوس الساذجة، فيلزم منه حرمة البقاء أيضاً ويجب إتلافها.

ومما تقدم يظهر أن السيد الخميني (قدس سره) نظر إلى الحالة الأولى فقط حين أخرج المورد من هذه الملازمة بالقرينة؛ قال (قدس سره): ((وذلك لأن عمدة المستند في المسألة كما تقدم هي المستفيضة المشتملة على الأمر بالنفخ، والظاهر منها بمناسبة الحكم والموضوع أن الأمر به لأجل تعجيزه عن تتميم ما خلق وكأنه يقال له: إذا كنت مصوراً فكن نافخاً كما كان الله كذلك، فيفهم منها أن الممنوع والمبغوض هو التشبه به تعالى في مصوريته فهذا المعنى المصدري هو المنظور إليه)).

(الثاني) القاعدة المستفادة ((من الحصر في قوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول (وذلك إنما حرّم الله الصناعة التي هي حرام كلها التي يجيئ منها الفساد محضاً، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكل ملهوّ به، والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام، وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجر عليه، وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلها)(1)، فإن ظاهره أن كل ما يحرم صنعته -ومنها التصاوير- يجيء منها الفساد محضاً، فيحرم جميع التقلب فيه بمقتضى ما ذكر في الرواية بعد هذه الفقرة))(2).

بيان القاعدة: إن الرواية دلت على أن الله تبارك وتعالى لا يحرم صناعة إلا إذا كان يجيء منها الفساد محضاً أما ما فيه جهة صلاح ويمكن استعمالها للحلال والحرام -كصناعة السكين- فهي حلال ويكون الإثم على مستعملها في الحرام.

ص: 81


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب2، ح1.
2- المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/192.

وما لا يجيء منه إلا الفساد محضاً (ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوهالصلاح، فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجرة عليه وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات) ومن وجوه التقلب والحركات: الاقتناء والبيع والشراء. والمفروض أن الرواية نفسها دلّت على حرمة تصوير ذوات الأرواح حيث ورد فيها (وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني) فالنتيجة حرمة كل أنواع التصرفات فيها ومنها ما ذكرناه.

وقد ردّ الشيخ (قدس سره) هذا الوجه بأن ((الحصر -بقرينة الفقرة السابقة من الرواية، الواردة في تقسيم الصناعات إلى ما يترتب عليه الحلال والحرام، وما لا يترتب عليه إلا الحرام -إضافي بالنسبة إلى هذين القسمين، يعني لم يحرّم من القسمين إلا ما ينحصر فائدته في الحرام ولا يترتب عليه إلا الفساد))(1).

بيان ذلك: أن التقسيم المذكور هو بلحاظ المصنوع كما هو واضح من سياق الرواية ومن قوله (عليه السلام): (يجيء منه الفساد محضاً) وليس مطلقاً، إذ يمكن فرض قسم ثالث وهو ما كانت الحرمة متعلقة بنفس العمل أي الصناعة فيكون العمل بما هو مبغوضاً فتكون الرواية غير متعرضة لحكم التصرفات في هذا القسم الثالث.

أقول: هذا الرد غير تام لأن الحصر حقيقي، والرواية بصدد إعطاء الضابطة الكلية لتمييز الصنائع من حيث الحكم ومقتضاه الاستنتاج من حرمة الصناعة كونها لا يجيء منها إلا الفساد محضاً -كما قرّبنا الاستدلال بالوجه- فلا يوجد قسم ثالث فإنه يكون خلاف معنى التعليل. ولذا فإنه (قدس سره) عاد واستدرك على نفسه بقوله: ((نعم، يمكن أن يقال بأن الحصر وارد في مساق التعليل وإعطاء الضابطة للفرق بين الصنائع، لا لبيان حرمة خصوص القسم المذكور)).

وعلق السيد اليزدي (قدس سره) على رد الشيخ الأنصاري (قدس

ص: 82


1- المكاسب: 14/194.

سره) بوجه آخر فقال: ((لا يخفى أن الحصر الإضافي أيضاً يكفي في المقام إذ يستفاد منه أن عمل الصور الذي هو حرام ليس داخلاً تحت ما فيه وجه الصلاح ووجه الفساد لأن ما كان كذلك ليس بمحرم بمقتضى الحصر، ومن المعلوم أنه ليس داخلاً فيما فيه الصلاح محضاً فلا يبقى إلا أن يكون داخلاً فيما فيه الفساد محضاً))(1).

وعلى النقيض من هذا فقد نفى السيد الخميني (قدس سره) دلالة الرواية على المطلوب حتى لو كان الحصر حقيقياً، قال (قدس سره): ((فلا تدلّ الرواية على أن كل محرم يجيء منه الفساد محضاً، بل تدل على أن المحرم بجميع شؤونه هو ما يجيء منه الفساد محضاً. فالكاشف إنّاً من الفساد والمحض هو المحرم بجميع الشؤون لا المحرم في بعضها، وعليه فلا تدل على مطلوبهم ولو كان الحصر حقيقياً)).

أقول: ما أفاده (قدس سره) مخالف لظاهر الرواية بل صريحها في أن علة الحرمة هي كونه لا يجيء منه إلا الفساد محضاً، فلو افترضنا محرماً ليس كذلك فهذا نقض للعلة، فالفساد المحض لا يجيء من خصوص المحرم بجميع شؤونه بل من كل محرم، ولعله (قدس سره) استفاد (جميع شؤونه) من قوله (عليه السلام): (التي هي حرام كلها)وهي استفادة غير صحيحة لأن (كلها) هنا مقابل القسم الآخر الذي فيه شيء من وجوه الصلاح ولا يتمحّض في الفساد.

وأُجيب الوجه بأجوبة أخرى:

(منها) ((منع شمول التقلب لمثل الاقتناء والبيع ونحوهما، أذ الحرام إنما هو صنعة التصاوير فجميع التقلب فيها حرام لا التقلب فيما حصل منها))(2).

أقول: هذا وجه لطيف ويكون تاماً لو ساعد الوجدان على استظهاره.

(ومنها) ضعف سندها لأن روايات تحف العقول مراسيل ولا جابر لضعفها ودعوى انجبارها بعمل المشهور غير تامة لعدم تمامية الصغرى إذ لم يثبت استناد المشهور إليها في فتاواهم، وعدم تمامية الكبرى كما ذكرنا مراراً.

ص: 83


1- شرح السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21.
2- شرح السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21.

وأضاف السيد الخوئي (قدس سره) وجهين آخرين:-

1- 1- ((إنه لا ملازمة بين حرمة عمل شيء وبين حرمة بيعه واقتنائه والتصرف فيه والتكسب به، ومن هنا نقول بحرمة الزنا ولا نقول بحرمة تربية أولاد الزنا بل يجب حفظهم لكونهم محقوني الدماء))((1).

أقول: قد رددنا عليه ضمن مناقشة الوجه الأول من الاستدلال.

2- ((لا نسلّم أن عمل التصاوير مما يجيء منه الفساد محضاً، فإنه كثيراً ما تترتب عليه المنافع المحللة من التعليم والتعلم وحفظ صور بعض الأعاظم ونحو ذلك من المنافع المباحة)).

أقول: هذا خروج عن المسألة لأن الكلام في التصوير المحرم.

ونتيجة ما قلناه أنه لم يسلم من الردود إلا المناقشة في السند وهي غير كافية لتأييد الوجه بالوجوه الأخرى ما لم يعارض ذلك أدلة أخرى أقوى منها على الجواز.

(الثالث) ظهور الروايات في ذلك، وقد ذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) جملة منها وأجاب (قدس سره) عليها:-

(منها) صحيحة محمد بن مسلم (الأولى) ((من قوله (عليه السلام): (لا بأس ما لم يكن حيواناً): بناءً على أن الظاهر من سؤال الراوي عن التماثيل سؤاله عن حكم الفعل المتعارف المتعلق بها العام البلوى، وهو ((الاقتناء)) وأما نفس الإيجاد فهو عمل مختص بالنقّاش، ألا ترى أنه لو سُئل عن الخمر، فأجاب بالحرمة أو عن العصير فأجاب بالإباحة، انصرف الذهن إلى شربها دون صنعتهما، بل ما نحن فيه أولى بالانصراف، لأن صنعة العصير والخمر يقع من كل أحد، بخلاف صنعة التماثيل))(2).

وأجاب الشيخ (قدس سره) بعدم ظهورها ((في السؤال عن الاقتناء، لأن عمل الصور مما هو مركوز في الأذهان، حتى أن السؤال عن حكم اقتنائها بعد معرفة حرمة عملها، إذ لا يحتمل حرمة اقتناء ما لا يحرم عمله))(3).

ص: 84


1- (2) مصباح الفقاهة: 35/366.
2- و (3) المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/191.
3- و (3) المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/191.

أقول: يمكن للمستدل أن يتمسك بإطلاق الحرمة الشامل للاقتناء إن لم يتم ظهورها فيه، ومن هنا سلّم السيد اليزدي (قدس سره) بأعمّية الرواية للعمل والاقتناء وغيرهما ((فتكون دليلاً على المدعى)) وكذا سلّم السيد الخوئي (قدس سره) بظهورها فيالتحريم إلا أنه (قدس سره) حملها على الكراهة لمعارضتها بما دلّ على جواز الاقتناء.

وأورد السيد صاحب العروة (قدس سره) إشكالاً على تقريب الاستدلال بالرواية وأجابه، قال (قدس سره): ((إلا أن يقال أنها مجملة من حيث أن الراوي إذا سأل عن العمل يصح أن يقول سألته عن تماثيل الشجر إلخ كما لو أنه سأل عن اقتنائها ونحوه يصح أيضاً أن يقول سألته عن تماثيل الشجر إلخ، وكذا لو كان الأعم ونحن لا نعلم أن سؤاله كان عن أي شيء.

وفيه: إنه لو كان سائلاً عن أحد الأمرين فقط كان عليه أن يقول سألته عن عمل كذا أو عن اقتناء كذا لا أن يقول سألته، إلا أن يكون هناك قرينة على الانصراف إلى الخصوصية المسؤول عنها والأصل عدمها، كيف وإلا لزم سقوط ظواهر الأخبار بمثل هذا الاحتمال))(1).

وأجاب المحقق الإيرواني (قدس سره) في حاشيته بأنه ((بعد تسليم أن السؤال فيها عن حكم الاقتناء وكون اقتنائها من منافعها، فإن غاية ما يستفاد منها ثبوت البأس، وهو أعم من التحريم)).

أقول: تقدم مراراً أن البأس ظاهر في الحرمة ما لم تتوفر قرينة لحمله على الكراهة.

نعم يمكن المناقشة من جهة إجمال كلام الإمام (عليه السلام) وعدم وجود إطلاق له كما ذكرنا سابقاً.

(ومنها) الحديث النبوي الشريف (الثالثة عشرة): (لا تدع صورة إلا محوتَها ولا كلباً إلا قتلته) ((بناءً على إرادة الكلب الهراش المؤذي، الذي يحرم اقتناؤه)).

وأجاب الشيخ (قدس سره) بأن ((سياقه ظاهر في الكراهة، كما يدل

ص: 85


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21.

عليه عموم الأمر بقتل الكلاب، وقوله (عليه السلام) في بعض الروايات (ولا قبراً إلا سوّيته) )).

أقول: إن النهي ظاهر في الحرمة، ولا تصلح وحدة السياق قرينة على حمله على الكراهة لأن كراهة تسوية القبور عرفت من قرائن خارجية، على أن حمل تسوية القبور في الرواية على الكراهة مما لا دليل عليه.

وأجاب السيد الخوئي (قدس سره) بضعف السند وقد ناقشناه، وبما ذكره المحقق الإيرواني ((من أنه وارد في موضوع شخصي، فلعل تصاوير المدينة كانت أصناماً، وكلابها مؤذيات وقبورها مسنّمات)) وهو قابل للمناقشة من جهة أنّ افتراض كون الأحكام واردة في موضوع شخصي لا يعدو كونه احتمالاً وللمستدل أن يتمسك بالإطلاق.

(ومنها) خبر علي بن جعفر في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن التماثيل هل يصلح أن يلعب بها؟ قال: لا)(1).

وأجاب الشيخ (قدس سره) بأن الرواية ((لا تدل إلا على كراهة اللعببالصورة، ولا نمنعها، بل ولا الحرمة إذا كان اللعب على وجه اللهو))(2).

أقول: قوله (عليه السلام): (لا) ظاهر في التحريم وتُقرَّب دلالة الرواية على حرمة الاقتناء حينئذٍ من جهتين:-

1- بضميمة عدم القول بالفصل إذ لم يقل أحد بجواز الاقتناء وحرمة اللعب.

2- إن الظاهر من النهي عن اللعب بالتماثيل إنما هو من جهة حرمة إبقائها واقتنائها إذ لا توجد خصوصية في اللعب بالتماثيل توجب حرمته، أما حمل اللعب على اللهو فلا دليل عليه.

ورد السيد الخوئي (قدس سره) على الاستدلال بالرواية بوجوه(3):

(أولها) ضعف السند. وفيه: أن البرقي رواها في المحاسن بسند معتبر تقدمت

ص: 86


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 94، ح10.
2- المكاسب: 195.
3- مصباح الفقاهة: 35/367.

الإشارة إليه (صفحة 17).

(ثانيها) ((إن عدم الصلاحية أعم من الحرمة، فلا يدل عليها)) وفيه ما تقدم.

(ثالثها) ((لو سلّمنا دلالته على حرمة اللعب بها فلا ملازمة بين حرمته وحرمة اقتنائها، فإن حرمة اللعب أعم من حرمة الاقتناء)) وفيه إننا نسلّم أن حرمة اللعب أعم من حرمة الاقتناء إلا إن الاستدلال يتم بضميمة عدم القول بالفصل، مضافاً إلى أن الظاهر أن حرمة اللعب بالتماثيل لا لخصوصية فيها وإنما لحرمة إبقائها ووجودها الذي يستلزمه اللعب، وينبغي الالتفات هنا إلى أن مصطلح (الاقتناء) ابتدعه الفقهاء (قدس الله أرواحهم) وإلا فإن موضوع المسألة هو جواز إبقاء التماثيل وعدم وجوب إتلافها.

(رابعها) ((إنه غريب عما نحن فيه، إذ من المحتمل القريب أن يراد من التماثيل في هذه الطائفة من الرواية: الشطرنج)) باعتبار أن بعض قطع الشطرنج تصوير لذي الروح، وأيّده (قدس سره) ب-((أننا لا نتصور معنى لحرمة اللعب بالتصاوير المتعارفة كما هو واضح، وعليه فما دلّ على حرمة اللعب بها إنما هو من أدلة حرمة اللعب بالشطرنج، ولا أقل من الاحتمال، فلا يبقى له ظهور في إرادة الصور المتعارفة)) وفيه: إن هذا الاحتمال مهما كان الالتفات إليه دقيقاً فإنه غريب عن المورد ولا يضرّ بالظهور وإطلاقه إذ أن اللعب بالتماثيل معروف ولا ينصرف إلى الشطرنج كما في صحيحة علي بن جعفر (صفحة 17).

(ومنها) صحيحة أبي العباس البقباق (الثانية) عن أبي عبد الله (عليه السلام) ((فإن الإنكار إنما يرجع إلى مشيئة سليمان للمعمول -كما هو ظاهر الآية- دون أصل العمل، فدلّ على كون مشيئته وجود التمثال من المنكرات التي لا تليق بمنصب النبوة))(1) أي أنها دلّت على أن الإمام (عليه السلام) أنكر تعلّق مشيئة سليمان (عليه السلام) بتماثيل الرجال والنساء، فتكون دالة على مبغوضية وجود التماثيل وحرمة اقتنائها.وأجاب (قدس سره) بأن ((ظاهره رجوع الإنكار إلى مشيئة سليمان

ص: 87


1- المكاسب: 193 ، والجواب مذكور في صفحة 195.

(عليه السلام) لعملهم، بمعنى إذنه فيه، أو إلى تقريره لهم في العمل)).

أقول: ما ذكره (قدس سره) قريب ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال، وذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى أن الرواية لا تدل على مبغوضية العمل فضلاً عن مبغوضية المعمول، والوجه فيه هو أن عمل تصاوير الرجال والنساء واقتناءها من الأمور اللاهية غير اللائقة بمنصب الأعاظم والمراجع من العلماء والروحانيين، فضلاً عن مقام النبوة، فإن النبي لا بد أن يكون راغباً عن الدنيا وزخرفها، وأما عمل الصور وجمعها فمن لعب الصبيان وشغل المجانين والسفهاء، فلا يليق بمنصب النبوة، بخلاف تصاوير الشجر وشبهه فإنها غير منافية لذلك)).

أقول: هذه المناقشة منه (قدس سره) في أصل الاستدلال بالصحيحة على حرمة التصوير فلا بد من عرضها وإجابتها هناك.

(ومنها) رواية المثنى عن أبي عبد الله (عليه السلام) (التاسعة عشرة).

وأجاب الشيخ (قدس سره) بأن الحلال في صحيحة أبي بصير ((محمول على المباح المتساوي طرفاه، لأنه (عليه السلام) كان يكره المكروه قطعاً))(1)

فما يقابل الحلال الذي لا يكرهه علي (عليه السلام) ليس الحرام فقط وإنما المكروه بالاصطلاح.

(ومنها) مفهوم صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غُيِّرت رؤوسها وتُركَ ما سوى ذلك)(2)

بتقريب أن مفهومها يدل على ثبوت البأس إذا لم يُغيَّر الرأس وبقي التمثال على حاله، ورواية الحلبي -المحكية عن مكارم الأخلاق- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أُهديت إليّ طنفسة من الشام فيها تماثيل طائر، فأمرت به فغيِّر رأسه فجُعل كهيئة الشجر)(3).

وأجاب (قدس سره) عن الصحيحة بأن ((البأس فيها محمول على الكراهة لأجل الصلاة أو مطلقاً، مع دلالته على جواز الاقتناء، وعدم وجوب

ص: 88


1- المكاسب: 195.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب4، ح3، 7.

المحو)) ((وأما رواية الحلبي، فلا دلالة لها على الوجوب أصلاً)) لأن فعله (عليه السلام) أعم من أن يكون واجباً أو مستحباً أو مباحاً.

أقول: جوابه (قدس سره) عن الصحيحة مخالف لإطلاق الرواية، واستفادتُه منها جواز الإبقاء وعدم وجوب المحو غريب فإن تركها بعد الأمر بتغيير رؤوسها لخروجها بذلك عن كونها تصويراً لذي روح بعد قطع الرأس فلا يصدق عليها أنها تصوير لذي الروح كما قرّبناه في الفرع الأول.

والنتيجة إلى هنا تمامية عدة وجوه على حرمة الاقتناء مؤيَّدة بالملازمة العرفية والوجدانية وخبر تحف العقول وغيره.

ويمكن أن يُتمم هذا الاستدلال بأن في شراء التماثيل المحرّمة ترويجاً لهذا المنكر وإعانة على الإثم؛ قال النراقي (قدس سره): ((وهل يجوز ابتياع ما يحرم عمله أو ما فيه ذلك؟ الأقوى: نعم، للأصل، إلا إذا كان إعانة على عمله فيحرم))((1).فلا يصح إذن الاستدلال بالأصول والعمومات الفوقانية بعد وجود ما يستدل به على حرمة الاقتناء، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((فالأصل والعمومات والإطلاقات تقتضي جوازه)) -أي بيعها واقتناءها واستعمالها-.

أدلة القائلين بالجواز

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((أما بيعها واقتناؤها، واستعمالها والانتفاع بها والنظر إليها ونحو ذلك، فالأصل والعمومات والإطلاقات تقتضي جوازه، وما يشعر به بعض النصوص من حرمة الإبقاء كأخبار عدم نزول الملائكة ونحوها: محمول على الكراهة أو غير ذلك خصوصاً مع أنا لم نجد من أفتى بذلك عدا ما يحكى عن الأردبيلي من حرمة الإبقاء، ويمكن دعوى الإجماع على خلافه)) (2).

وفيه:-

ص: 89


1- (1) مستند الشيعة: 14/111.
2- جواهر الكلام: 22/44.

1- لا يصح الاستدلال بالأصل والعمومات الفوقانية بعد أن أقام المانعون عدة أدلة خاصة بالمسألة.

2- لقد ذهب جملة من القدماء غير الأردبيلي إلى حرمة الإبقاء وقد نقلنا أقوالهم فدعوى الإجماع غير صحيحة.

أما السيد الخوئي (قدس سره) فإنه بعد أن سلّم بتمامية واحدة على الأقل من الروايات التي استدل بها على حرمة الإبقاء وهي صحيحة محمد بن مسلم كما تقدم، قال (قدس سره): ((فالإنصاف أنها ظاهرة في التحريم، إلا أنها معارضة بما دلّ على جواز اقتناء الصور، فلا بد من حملها على الكراهة))(1)

وقال في مناقشة صحيحة زرارة المتقدمة: ((ومع الإغضاء عما ذكرناه وتسليم أن البأس ظاهر في المنع فالرواية معارضة بما دلّ على جواز الإقتناء كما سيأتي))(2)، إلا أنه لم يبيّن (قدس سره) ما هي هذه الأدلة على الجواز؟ واكتفى (قدس سره) بقوله: ((الظاهر من بعضها -أي الروايات التي استدل بها على حرمة الاقتناء- أن النهي عن اقتناء الصور في البيوت إنما هو من جهة كراهة الصلاة إليها، وعليه فلا يكره الاقتناء في غير بيوت الصلاة)) وكأنه (قدس سره) تمسّك بالأصل بعد عدم تمامية ما استدل به على الحرمة. لكنه (قدس سره) قال بصدد الاستدلال على جواز بيع الصور: ((بل الظاهر من بعض الأحاديث الدالة على جواز إبقاء الصور هو جواز بيعها، فإن المذكور فيها جواز اقتناء الثياب والبسط والوسائد التي فيها الصور، ومن الواضح جداً أنها تُبتاع من السوق غالباً))(3).ثم قال (قدس سره): ((وقد ذكر المصنف هنا جملة من الروايات ولكنها ضعيفة السند)).

أقول: توجد هنا عدة ملاحظات:-

1- إنه لا يظهر من كلامه (قدس سره) الأخير ماذا يريد من (هنا) هل

ص: 90


1- مصباح الفقاهة: 35/371.
2- مصباح الفقاهة: 35/369.
3- مصباح الفقاهة: 35/374.

الروايات الدالة على الجواز أم المنع، فقد ذكر المصنف (قدس سره) طائفتين من الروايات، وعلى كلا التقديرين فإن الطائفتين ضمّتا روايات صحيحة، أما روايات المنع فقد تقدمت، وأما روايات الجواز فقد ذكر فيها الشيخ الأنصاري (قدس سره) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ربما قمت أصلي وبين يديّ الوسادة فيها تماثيل طير فجعلت عليها ثوباً)(1).

2- كان عليه (قدس سره) أن يبيّن أدلة الجواز وعدم الاكتفاء بالأصول والعمومات لوجود الدليل على الحرمة كما اعترف (قدس سره)، أما ما أشار إليه مما دلّ على جواز اقتناء الثياب والبسط والوسائد التي فيها الصور فإنها خاصة بغير المجسّم كما هو واضح ويبقى جواز اقتناء المجسّم بلا دليل خصوصاً وإنه (قدس سره) عدل في رسالته العملية إلى حرمة صنع خصوص المجسّم وحينئذٍ تكون الإشارة المذكورة غير كافية، وحينئذٍ لا يجوز إهمال الاستدلال على جواز اقتناء المجسّم بالروايات.

لذا فإن الشيخ الأنصاري (قدس سره) استدل بجملة من الروايات على جواز الاقتناء وزاد عليها السيد الخميني (قدس سره) فقال: ((وأما الأخبار فعلى طائفتين (إحداهما) ما تتعرض للوسائد والستور والأثواب المصورات وهي كثيرة أو تشتمل على نفي البأس إذا كانت التماثيل عن اليمين أو الشمال أو تحت الرجل حال الصلاة كصحيحة محمد بن مسلم قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلي والتماثيل قدّامي وأنا أنظر إليها؟ قال: لا، اطرح عليها ثوباً ولا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق رأسك، وإن كانت في القبلة فألقِ عليها ثوباً وصلّ)(2)))(3).

أقول:-

1- عنوان هذه الطائفة أجنبي عن المسألة لأن البحث في الصنف المحرم وهي

ص: 91


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 32، ح 2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 32، ح1
3- المكاسب المحرمة: 1/190.

المجسمات.

2- إن الصحيحة يمكن أن تشمل بإطلاقها المجسمات فلا يصحّ إدراجها في هذه الطائفة التي من أفرادها مثلاً صحيحة الحلبي المتقدمة. وقد اعترف (قدس سره) بذلك في ذيل كلامه فقال: ((وإن كان الإطلاق أظهر في مثل الصحيحة)).

ثم قال (قدس سره): ((والطائفة الثانية ما يمكن دعوى الإطلاق فيها أو دعوى ظهورها في المجسمات)).(فمنها) صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أحدهما (عليهما السلام) عن التماثيل في البيت فقال: لا بأس إذا كانت عن يمينك وعن شمالك ومن خلفك أو تحت رجليك، وإن كانت في القبلة فألق عليها ثوباً)(1).

((والظاهر أن السؤال عن وجودها في البيت، فأجاب بعدم البأس إلا إذا كانت في القبلة فيلقى عليها الثوب، وإلقاؤه لأجل الصلاة، ومقتضى عمومها عدم الفرق بين المجسمات وغيرها، وليس قوله: أو تحت رجليك قرينة على الاختصاص بغيرها، ضرورة أن الطبيعة إذا كانت ذات أفراد مختلفة يمكن إلقاء بعضها تحت الرجل: يصح أن يقال فيها ما ذكر، ألا ترى عدم الشبهة في شمول العموم للصور المنقوشة على الجدران مع عدم إمكان إلقائها تحت الرجل فلا إشكال في عمومها)).

أقول: الظاهر أن السؤال عن الصلاة في البيت الذي فيه تماثيل فلا تعرّض فيه لحكم اقتنائها كجواز الصلاة في بيت فيه خمر فلا يدل على جواز اقتنائه، وتوجد قرينتان على هذا الظهور:-

أ- لو كان السؤال عن أصل وجود التماثيل في البيت لما احتاج الجواب إلى تفصيل الجهات ولأجاب (عليه السلام) بالجملة.

ب- إن الرواية متحدة مع الصحيحة السابقة، فالجواب متحد بالنص سوى أن الأولى تضمنت تفصيل السؤال بينما أجمله الراوي في الثانية معتمداً على

ص: 92


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 45، ح1.

سياق الجواب، فالثانية جزء من الأولى بالنص وراويهما عن محمد بن مسلم واحد وهو العلاء إلا أن الأولى المفصّلة رواها الشيخ (قدس سره) بسنده عن ابن محبوب عن العلاء وروى الكليني الثانية بسند آخر ينتهي إلى العلاء أيضاً ورواها البرقي في المحاسن عن ابن محبوب عن العلاء وعن عدة من أصحابنا عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا بأس بالتماثيل أن تكون عن يمينك وعن شمالك وخلفك وتحت رجلك، وإن كانت في القبلة فألقِ عليها ثوباً إذا صلّيت)(1).

فيحصل الاطمئنان بوحدتهما.

وأورد (قدس سره) على نفسه إشكالين وأجاب عنهما:

(أولهما) ((كون الدليل في مقام بيان حكم آخر وهو الصلاة في البيت فلا يدل على جواز إبقائهما)) وأجاب (قدس سره) ب-((إن السؤال كما تقدم إنما هو عن التماثيل في البيت، والظاهر منه أن السؤال عن وجودها فيه، وقوله: إذا كانت بحذاء القبلة ألق عليها الثوب: لا يدل على أن السؤال عن الصلاة والظاهر أنه (عليه السلام) أجاب عن مسؤوله مع شيء زائد فقال: لا بأس أي لا بأس بوجودها في البيت، وإذا كانت بحذاء القبلة ألق عليها الثوب لمكان الصلاة، فالإنصاف أن المناقشة فيها في غير محلها)).

(ثانيهما) ((إن تلك الرواية عين روايته المتقدمة آنفاً فكما أنها في مقام بيان حكم آخر فكذلك هي)) وأجاب (قدس سره) بأن ((فيه ما لا يخفى بعد كون ألفاظهما مختلفةوالمسؤول عنه في إحداهما أبو جعفر (عليه السلام) وفي الأخرى أحدهما (عليهما السلام)، وبالجملة لا حجة على وحدتهما بعد استفادة حكم زائد من إحداهما)).

أقول: الإشكالان واردان على تقريبه (قدس سره) ولا يدفعهما جوابه، أما الأول فلما ذكرناه من التقريب للظهور ولأن النص غير قابل للتفكيك حتى نتصور صدور الذيل لبيان حكم زائد. وأما الثاني فإنه غريب إذ أن الألفاظ

ص: 93


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب32، ح11.

متطابقة كما ذكرنا وأن أبا جعفر (عليه السلام) هو أحدهما (عليهما السلام).

وأجاب الشيخ المنتظري (دام ظله) عن الإشكال الأول بتقريب الاستدلال على نحو آخر وهو الاستدلال بتقرير الإمام (عليه السلام) لفعل السائل ((ففي مثل هذا النحو من السؤال لو كان أصل الاقتناء محرماً ووجب محوها كان على الإمام (عليه السلام) الإشارة إلى ذلك وعدم تقرير السائل على ما هو ظاهر سؤاله عن جواز أصل الاقتناء))(1).

وفيه: عدم تمامية التقرير لأن السؤال مجمل من ناحية التجسيم وعدمه ولم يصرّح السائل أنها كانت صوراً مجسّمة حتى نتوقع تبرّع الإمام (عليه السلام) ببيان وجوب الإتلاف.

(ومنها) ((رواية علي بن جعفر (عليه السلام) أو صحيحته عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (وسألته عن الدار والحجرة فيها التماثيل أيُصلى فيها؟ قال: لا تصلِّ فيها وشيء منها استقبلك إلا أن لا تجد بداً فتقطع رؤوسها): الظاهرة في الاختصاص بها وهي صريحة في أن إبقائها جائز في نفسه، فإن أمكنه الصلاة في محل آخر أبقاها على حالها وإن لم يجد بداً فتقطع رؤوسها للصلاة)).

أقول:-

1- وردت الرواية في قرب الإسناد وسنده غير تام إلى علي بن جعفر إلا أن البرقي رواها في المحاسن بسند معتبر عنه(2)

فلا داعي للترديد.

2- إن السؤال فيها عن حكم الصلاة في بيت فيه تماثيل وقد تقدم الإشكال على الاستدلال بمثله، ولا دليل على أنها في بيت لعلي بن جعفر حتى نتصور الإقرار والإمضاء بشكل ما.

3- إن قوله (عليه السلام): (فتقطع رؤوسها) ليس فيه دلالة على الاختصاص بالمجسمات إذ يمكن أن يشمل المنقوشات ويكون القطع بلحاظ محل نقش الرأس.

(ومنها) ((روايته الأخرى أو صحيحته قال: (وسألته عن البيت قد صُوِّر فيه طير

ص: 94


1- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/ 657.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 32، ح 5.

أو سمكة أو شبهه، يلعب به أهل البيت، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: لا حتى يقطع رأسه أو يفسده، وإن كان قد صلى فليس عليه إعادة)(1)

ولا يبعد ظهورها في المجسمات لأن الظاهر منها أن أهل البيت كانوا يلعبون بنفس الصورة لا بشيء فيه ذلك، وهويناسب المجسمات، بل الظاهر من قوله فيه صورة طير أو سمكة: أن الصورة بنفسها فيه، لا أن فيه شيئاً على الصورة (تأمل) كما يشعر قوله: ويقطع رأسه بذلك أيضاً، و لو نوقش فيما ذكر فلا شبهة في إطلاقها فتشمل المجسمات، كما لا شبهة في تقريره للعب أهل البيت بها، وتجويزه ذلك فجواز الإبقاء واللعب بها مفروغ عنهما)).

أقول: الرواية وردت في لباس المصلي عن قرب الإسناد فسندها غير تام، إلا أنها وردت عن المحاسن للبرقي بسند تام في أبواب مكان المصلي (باب32، ح12)من الوسائل، ويرد على الاستدلال بها جملة أمور:-

1- إنها ظاهرة في المنقوشات لقوله (عليه السلام): (البيت قد صوِّر فيه) إذ لا معنى لمانعية مجرد وجود تمثال مجسم لذي روح في بيت عن الصلاة فيه فلا بد أن السؤال عن الصلاة في بيت نقشت جدرانه، أما التعبير باللعب فيمكن تفسيره بما يناسب المنقوشات كاللهو والتنزه بالتفرج عليها وجميل صنعها، والقرائن المذكورة كقطع الرأس ونحوها لا تنافي ذلك كما تقدم في أول البحث.

2- ولو تنزّلنا وقلنا بشمولها للمجسمات فإنها على حرمة الاقتناء أدلّ لأمر الإمام (عليه السلام) بإتلافها وتغييرها ولو كان وجودها سائغاً لاكتفى الإمام (عليه السلام) بالأمر بتنحيتها عن جهة القبلة أو اختيار المكان الذي لا تكون فيه التماثيل إلى جهة القبلة.

3- ولو تنزّلنا فإن السؤال عن حكم الصلاة في هذا البيت ولا دليل على جواز الاقتناء.

وهكذا روايات علي بن جعفر الأخرى كموثقته عن أخيه موسى (عليه

ص: 95


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة أبواب لباس المصلي، باب 45، ح18.

السلام): (وسألته عن البيوت يكون فيها التماثيل أيُصلى فيها؟ قال: لا)(1)

ورواية قرب الإسناد عنه قال: (وسألته (عليه السلام) عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر ولم يعلم بها وهو يصلي في ذلك البيت ثم علم، ما عليه؟ فقال: ليس عليه فيما لا يعلم شيء، فإذا علم فلينزع الستر وليكسر رؤوس التماثيل)(2)

وروايته الأخرى عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير وتماثيل يُصلى فيه؟ فقال: تكسَّر رؤوس التماثيل وتلطَّخ رؤوس التصاوير ويصلى فيه ولا بأس)(3).

(ومنها) خبر المثنى (الرواية التاسعة عشرة) بتقريب ظهور ((أن الكراهة هي بالمعنى المعروف)) وقد ناقشناها.

ومما تقدم يظهر ما في قوله (قدس سره) في نهاية عرضه للروايات ((وكيف كان يظهر من تلك الروايات جواز إبقائها وإن كانت مكروهة في خصوص البيوت، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين المجسمة وغيرها)).

ثم قال (قدس سره): ((ومما ذكرناه يظهر الكلام في صحيحة زرارة عن أبيجعفر(4)

(عليه السلام) قال: (لا بأس بأن تكون التماثيل في البيوت إذا غُيِّرت رؤوسها منها وترك ما سوى ذلك)، فإن الظاهر أن التقييد بالبيوت لما ذكرناه آنفاً، فدالة على البأس فيها بلا تغيير مختص بالبيوت فتشعر أو تدل على جواز الإبقاء والاقتناء)).

أقول: -

1- التقييد والاختصاص اللذين ذكرهما (قدس سره) مبنيان على كون الجملة لها مفهوم وهي ليست كذلك.

2- إننا قد قرّبنا دلالتها على الحرمة فيما سبق وأن مفهوم الجملة الشرطية وجود البأس في التماثيل في البيوت والبأس ظاهر في الحرمة فنتمسك

ص: 96


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب32، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 45، ح20.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 32، ح10.
4- تقدمت في نهاية الروايات التي استدل بها على الحرمة.

بإطلاقها لثبوت حرمة اقتنائها في البيوت فكيف استشعر (قدس سره) منها الدلالة على الجواز؟

وكانت نتيجة استدلالهم (قدس الله أرواحهم) بالروايات القول بالجواز على كراهة؛ قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ويؤيد الكراهة الجمع بين اقتناء الصور والتماثيل في البيت واقتناء الكلب والإناء المجتمع فيه البول في الأخبار الكثيرة: مثل ما روي عنهم (عليهم السلام) -مستفيضاً- عن جبرئيل (عليه السلام): (إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة إنسان، ولا بيتاً يُبال فيه، ولا بيتاً فيه كلب))(1)

وفي بعض الأخبار إضافة الجنب إليها(2)))(2).

((وجه التأييد: أن وجود الجنب والكلب والإناء الذي يبال فيه في البيوت ليس من الأمور المحرمة في الشريعة المقدسة، بل هو مكروه، واتحاد السياق يقتضي كون اقتناء الصور فيها أيضاً مكروهاً))(4).(3)

أقول: لقد كرّرنا أن وحدة السياق لا تُعدّ قرينة على اتحاد العناوين المندرجة ضمنه في الحكم.

وبعد هذه المناقشات يكون من المبالغ فيه قول السيد اليزدي (قدس سره): ((الإنصاف أن ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في ذلك الباب -الباب 32 من مكان المصلي- وفي باب لباس المصلي في كراهة الصلاة في ثوب فيه تماثيل أو درهم كذلك توجب القطع بعدم حرمة الإبقاء بالنسبة إلى غير المجسمة والقريب من القطع بالنسبة إليها فلا ينبغي الشك في الجواز))(5).(4).

(تذييل) قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((وممن اعترف بعدم الدليل على الحرمة -أي حرمة الإبقاء-، المحقق الثاني -في جامع المقاصد- مفرعاً على ذلك

ص: 97


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، الباب 33، ح3، 6.
2- المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/197.
3- (4) مصباح الفقاهة (من المجموعة الكاملة): 35/375.
4- (5) حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21.

جواز بيعالصور المعمولة))(6). (1)

وعلق السيد اليزدي (قدس سره) على هذا التفريع بقوله: ((لا يخفى أنه لا ملازمة بين جواز الإبقاء وجواز البيع كما لا ملازمة بين عدم جوازه وعدم جوازه، فيمكن أن يقال بجواز الإبقاء وعدم جواز البيع، كما قد يقال بالنسبة إلى آلات اللهو والقمار بل في أواني النقدين الحق عدم وجوب إتلافها مع عدم جواز بيعها، ويمكن أن يقال بحرمة الإبقاء وصحة البيع بملاحظة مالية المادة)) ((ومن هنا كان الأولى للمصنف أن يتكلم في مقامين ولا يخلط أحدهما بالآخر))(2).

أقول: إشكاله (قدس سره) غير وارد إذ يحتمل أن المحقق الثاني (قدس سره) لا يريد من هذا التفريع الملازمة مطلقاً وإنما في خصوص المقام وأنه لم يذكر الملازمة أصلاً فربما أراد بالتفريع إيصال المقدمة إلى النتيجة، فإنه إذا لم يثبت دليل على حرمة الاقتناء الذي أوضح مصاديقه الشراء، أمكن التمسك بعمومات الحل لإثبات حلية البيع أو يقال: ((أنه إذا كان اقتناء الصور والتماثيل جائزاً والانتفاع بها في مثل التعليم والتزيّن ونحو ذلك حلالاً ولو بدليل الأصل صارت لذلك مالاً مرغوباً فيها فصحّت المعاملة عليها على ما هو مقتضى عمومات العقود والتجارة))(3).

أما النقوض فهي غير تامة لأن آلات اللهو والقمار يجب إتلافها، وأما أواني الذهب والفضة فإن عدم وجوب إتلافها لوجود قيمة لها في ذاتها بغضّ النظر عن هيأتها، وقد استثنينا فيما سبق من حرمة البيع ما لو كان لمكسورها قيمة، وسيأتي منه (قدس سره) رجوعه عن إشكاله.

إن قلتَ: إن هذا الدفاع غير كافٍ إذ قد يكون الاقتناء جائزاً لكن من غير صورة الشراء كالهبة ونحوها ويكون البيع محرماً.

قلتُ: هذا مجرد فرض لا واقع له فإنه إذا جاز اقتناء للصور ولها مالية

ص: 98


1- (6) المكاسب (من المجموعة الكاملة): 14/190.
2- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 21.
3- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/661.

جاز بيعها وشراؤها.

(فرع) قال السيد اليزدي (قدس سره) في رجوعٍ عن إشكاله الآنف: ((بناءً على جواز الاقتناء لا اشكال في جواز بيع الصور المجسمة وإن كان لا مالية لموادها إلا بلحاظها، وكذا في جواز بيع محال النقوش كالثياب والستور وإن كان بعض الثمن لأجلها.

ودعوى أن مقتضى خبر تحف العقول المنع من جميع التقلبات فيها حيث أنه استفيد منه أن الصنعة المحرمة منحصرة فيما كان فيه الفساد محضاً والمفروض حرمة صنعتها غاية الأمر أنه خرج بالأخبار المذكورة الاقتناء وساير الانتفاعات غير البيع ونحوه فيبقى هو داخلاً تحت المنع:

مدفوعة بأن ذلك إنما يصح إذا كان الخبر بصدد بيان تحريم الانتفاعات فإنه حينئذٍ يقال خرج ما خرج وبقى الباقي وليس كذلك بل إنما استفيد ذلك من الحصروفرض حرمة الصنعة فإذا دلت الأخبار المذكورة على جواز الاقتناء فتخرج هذه الصنعة عن كونها مما فيه الفساد محضاً وبعد هذا لا يبقى دليل على جواز البيع ونحوه فتدبر.

وأما بناءً على حرمة الاقتناء فلا يجوز بيع المجسمة التي لا مالية لمادتها لان الصورة ملغاة بحكم الشارع، وكذا لا يجوز بيع المحال إذا كان المقصود هو الصور أو كان بعض الثمن لأجلها وأما بيع المواد والمحال لا بلحاظها فالظاهر جوازه لكن لا يجوز الدفع إلى المشتري إلا بعد إفسادها أو مع الوثوق بإفساد المشتري لها))(1).

ص: 99


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب، طبعة حجرية، صفحة 22.

نتيجة البحث

بعد التدقيق في الأدلة التي استوفينا البحث في عرضها ومناقشاتها نستنتج أن بعضها يفيد حرمة التصوير في الجملة -كصحيحة محمد بن مسلم (الأولى)- وبعضها الآخر ورد في حالات خاصة كموثقة أبي بصير (الثالثة)، أما روايات النفخ فيستفاد منها بمساعدة مناسبة الحكم والموضوع حرمة التصوير إذا أريد به التشبّه بالخالق ومحاكاته في صنعه.

أما الروايات التي تمسكوا بإطلاقها كخبر السكوني (الثالث عشر) وخبر الخصال (الخامس عشر) وخبر عبد الله بن طلحة (السادس عشر) وخبر تحف العقول (الحادي والعشرين) فإن الإطلاق غير تام ولا يمكن الأخذ به لوجهين:-

1- مناسبات الحكم والموضوع إذ لا يُتصور أن التشديد المذكور فيها موضوعه كل تصوير، بحيث أن بعض الأحاديث شدّدت بالعقوبة على المصورين حتى حكمت عليهم بالكفر مما لم يرد مثله حتى في أعظم الكبائر ((وإن الجزاء ليس أمراً جزافياً، بل هو نتيجة للعمل ومن قبيل الثمرة له والثمر يناسب الشجر، وليس هذا القبيل من الأحكام الشرعية من قبيل الأحكام التعبدية المحضة التي لا يعلم سرها وملاكاتها وعواقبها إلا الله تعالى، فلا محالة تكون تابعة لملاكات متناسبة لها عند العقل والفطرة.

وإن شئت قلت: إن الأوامر والنواهي الواردة في أبواب المعاملات والسياسات والجزائيات من قبيل الأحكام الإرشادية إلى ما يدركه العقل والفطرة أيضاً بعد التنبه لها))(1).

2- يمكن أن ندّعي أن عنوان (الصور) و(التماثيل) فيها مستعمل لمعنى خاص كان معهوداً بينهم سنشير إليه، وليست هي للجنس حتى يتم الإطلاق فيها، فأصبحت مصطلحاً في هذين المعنيين وإن كانت في نفسها مطلقة

ص: 100


1- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/546.

بحسب وضعها اللغوي. وهذه المعهودية تصلح للتقييد كما قيّد صاحب الجواهر (قدس سره) كلام صاحب الشرائع (قدس سره) (صفحة 52) فالروايات إذن ليست مطلقة وإنما هي مجملة، وينحلّ إجمالها، وتبيّنه روايات النفخ وروايات النهي عن صنع الصور للتعظيم والتقديس، أما ما عداها فهو ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه.

وعلى هذا فإن صحيحة أبي العباس (الثانية) تؤخذ على ظاهرها حيث نفى الإمام (عليه السلام) كون التماثيل للرجال والنساء لأنها هي التي جرت العادة لاتخاذها للتقديس والتعظيم وليس عموم ذوات الأرواح فلا داعي للقول بعدم الفصل في تقريب الاستدلال بها.

وفي ضوء ما تقدم، فإن التصوير المحرم له موردان لا يفرق فيهما بين كون التصوير مجسماً أو غير مجسم، وإن كان في المجسم أوضح، وهما:

(الأول) التشبّه بالخالق ومضاهاته في صنع مخلوقاته وهو المعنى المناسب لأحاديثالمطالبة بنفخ الروح فيها وخبر الراوندي (الرابع عشر).

(الثاني) ما صنع لتعظيمها وتقديسها مما يؤول تدريجياً إلى عبادتها من دون الله تبارك وتعالى، وهو ما حصل في الأمم الوثنية؛ روى بريد بن معاوية قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن إبليس اللعين هو أول من صوّر صورة على مثال آدم (عليه السلام) ليفتن به الناس ويضلّهم عن عبادة الله تعالى)(1)

الحديث.

وهذا ما نستظهره من عدة روايات منها موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الوسادة والبساط يكون فيه التماثيل، فقال: لا بأس به يكون في البيت، قلت: التماثيل؟ فقال: كل شيء يوطأ فلا بأس به)(2)

أي يُحقّر، فإذا عُظِّم التمثال كان البأس في اقتنائه. وصحيحة عبد الله بن المغيرة قال: (سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال قائل لأبي جعفر (عليه السلام):

ص: 101


1- بحار الأنوار: 3/250، كتاب التوحيد، باب 7، ح8.
2- والروايات الثلاث بعدها تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 4، ح2، 1، 5، 6.

يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل؟ فقال: الأعاجم تعظّمه وإنا لنمتهنه).

وخبر الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال جبرئيل: إنا لا ندخل بيتاً فيه تمثال لا يوطأ). فإذا حرم اقتناؤها للتعظيم حرم صنعها لنفس الغرض من باب أولى، وللملازمة في ذهن العرف التي قربناها سابقاً.

وفي ضوء الملازمة أيضاَ وما أيدناها به نستكشف من بعض الروايات جواز الصنع إذا كان للّعب أو للتنزه والتفرج أو للتعليم أو لإراءة عظمة الله تبارك وتعالى في خلقه، ومن تلك الروايات صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال له رجل: رحمك الله ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم؟ فقال: هذا للنساء أو بيوت النساء).

ويؤيد الحكم بالجواز في غير هذين الموردين خبر أبي بصير الوارد في فضل مسجد السهلة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (وفيه صخرة فيها صورة كل نبي)(1) الحديث، بتقريب أن التصوير على الصخرة يكون بالنحت المجسّم.

وهذا القول بالحرمة المقيدة هو ما استظهرناه من كلام الشيخ الطوسي (قدس سره) في التبيان والشيخ الطبرسي (قدس سره) في مجمع البيان، ومقتضى اشتراط الشيخ الأنصاري (قدس سره) قصد الحكاية هو الحرمة في المعنى الأول خاصة، إذا أراد بالحكاية حكاية الخالق لا المخلوق.

ويظهر من طيّات كلام السيد الخميني (قدس سره) الذي نقلناه (صفحة 29) الميل إلى الحرمة في خصوص المعنى الأول وإن أفتى في رسالته العملية بحرمة تصوير المجسم لذي الروح مطلقاً، ولعله لم يذكر المعنى الثاني لأنه أخرجه من البحثفي بداية المسألة وألحقه بتصوير هياكل العبادة التي قلنا أنها تبحث في مسألة مستقلة، قال (قدس سره): ((لا شبهة في حرمة تصوير الأصنام للعبادة أو لإبقاء آثار السلف الفاجر، من غير فرق بين المجسّمة وغيرها وما كان بصورة الحيوان أو غيره بنحو المباشرة أو بنحو التسبيب أو بالشركة، ولا يجوز إبقاؤها

ص: 102


1- مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 39، ح9

واقتناؤها أيضاً، وذلك لما يعلم من مذاق الشارع المقدس أنه لا يرضى ببقاء آثار الكفر والشرك للتعظيم أو للفخر بها، وقد حملنا الأخبار المشتملة على التهديدات والتشديدات -بمناسبة الحكم والموضوع- على هذا القسم من التصوير فالفروع الآتية إنما هي في غير تلك الصورة الخبيثة، ولا ينافيه بعض الروايات الواردة في الوسائد المنقوشة بالنقوش التي كانت الأعاجم تعظّمها بعدما لم يكن الحفظ للتعظيم بل للتحقير والإهانة كما في بعض الأخبار أو لمجرد التوسد والافتراش، فإن الأحكام تختلف بالجهات والحيثيات))(1).

واستقربه الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف)، قال معلقاً على روايات النفخ ولعن المصورين: ((ولم يظهر لي سرّ استحقاق المصوّر بما هو مصوّر للعذاب وأمره بالنفخ أو الإحياء تعجيزاً وتعنتاً، وأي مفسدة في التصوير إذا لم يقع بقصد المعارضة والمضادّة لله تعالى في المصورية أو الخالقية بحيث يتصور المصوّر نفسه شريكاً له في هذه الصنعة.

ومجرد التصوير إذا كان لغرض علمي أو عقلائي لا يعدّ شركاً له تعالى وإلا لَعُدّ عيسى (عليه السلام) حينما كان يخلق من الطين كهيأة الطير وينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله شريكاً له تعالى، والشرك قبيح ذاتاً حتى من الأنبياء لا يصح الإذن فيه من الله تعالى))(2)، وقال: ((قد استبعدنا كون مجرد التصوير ولا سيما النقش مناسباً للتهديدات والتشديدات الواردة في أكثر أخبار المنع، ولذا احتملنا اختصاصها بما إذا وقع التصوير في مقام المعارضة والمضادة لله تعالى، أو كانت الصور في تلك الأعصار معرضاً للتقديس والعبادة حيث إنه بقي في نفوسهم بعض ما ورثوه من الأسلاف من الاحترام للتماثيل والصور وطلب الحاجات منها ومن قبور أكابرهم، فكان هذا الجو بمنزلة القرينة المتصلة مانعة من انعقاد الإطلاق لهذه الروايات.

فإن قلنا بذلك فهو -كما لا يبعد- وإلا فالأحوط الاجتناب ولا سيما مع

ص: 103


1- المكاسب المحرمة: 1/176.
2- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/578.

التجسيم وإن لم يظهر لنا حكمة هذا الحكم))(1).

أما الدليل الآخر الذي استدل به وهو (الإجماع) فلا ضير في الخروج عنه بهذا المقدار لعدة أمور:-

1- إنه إجماع مدركي مستند إلى فهم الفقهاء (قدس الله أرواحهم) للروايات المستفيضة من طرق الفريقين، وقد علمنا أن المدرك لا يفيد أزيد من الحرمة في الجملة.

2- إن الإجماع دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المتيقن وهو ما اخترناه، وإن قلت: إن هذا الإجماع له معقد هو حرمة التصوير المجسم لذي الروح مطلقاً فيؤخذ بإطلاقه. قلتُ: لا نسلّم هذا المعقد لوجود المخالف، ولو سلّمناه فإنه مدركي كما قلنا فالدليل هو المدرك، مضافاً إلى تدخل عوامل نفسية -كمراعاة الاحتياط- وعقائدية واجتماعية في غضّ نظر المستدل عن الأخذ بأزيد مما تفيده الأدلة، وهذا يضعف من الاطمئنان بتعبدية الجزء الزائد من الإجماع عما تفيده الروايات.

3- إن الموردين المذكورين هما عين ما أجمعوا عليه للمعهودية التي أشرنا إليها أو لأنهما الفرد الغالب لصنع التصاوير في ذلك العصر فهم لم يلحظوا الإطلاق في كلامهم.

وتطبيقاً على هذه النتيجة فإنه يجوز صنع مجسمات ذوات الأرواح للعب الأطفال أو للتعليم أو الأغراض العلمية كالإنسان الآلي أو لإبراز قضية معينة كتمثال الأم في الحلة أو نصب الحرية في ساحة التحرير، ويحرم صنعها للتعظيم والتقديس كإقامة النصب للرموز الدينية حسماً لمادة الوثنية وقطعاً لدابر الشرك، التي يمكن أن تستثار في النفوس في أي لحظة وإن كان صاحبها يسمى مسلماً، قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» (يوسف:106) ((ونحن نرى أن العادات والعقائد الموروثة مما تبقى كثيراً ببعض مراتبها في طباع الإنسان وإن فرض إرشاده واهتداؤه إلى العقائد الحقة ووروده عملاً في مجتمعات

ص: 104


1- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/595.

المسلمين. فلعل بعض مراتب العلاقة بالأصنام والاعتقاد بقداستها بقيت في نفوس بعض المتوسطين والساذجين من أفراد المسلمين حتى في أعصار الأئمة (عليهم السلام) فضلاً عن عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوائل البعثة، فكانوا يصوّرونها ويحفظونها في خفايا بيوتهم. والأخبار الشديدة المضامين الواردة في التصوير والتمثيل صدرت ناظرة إلى أمثال هؤلاء بداعي تطهير نفوسهم عن بقايا العقائد الفاسدة التي أشربت بها قلوبهم))(1).

أما اقتناء الصور فلا يحرم إلا في المورد الثاني كما قرّبناه في حديثنا عن الملازمة بين الصنع والاقتناء.

ص: 105


1- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/544.

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثاني: أخذ الأجرة على الواجبات

بحثنا هذه المسألة مفصلاً في القسم الثاني من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1) في فصل جواز أخذ الأجرة على القيام بهذه الوظيفة، ومقتضى التبويب الفقهي نقل البحث إلى هذا الكتاب إلا أننا آثرنا إبقاءه هناك لأن تطبيقاتها الفقهية كانت من وظيفة الأمر والنهي فانتزاعها من ذلك الكتاب يفقدها الانسجام مع بحوثه ومسائله.

فمن أراد البحث والتحقيق في المسألة فليراجعها في ذلك الموضع.

ص: 106


1- وهو المجلد التاسع من موسوعة فقه الخلاف.

البحث الثالث: فروع فقهية تتعلق بتغير القوة الشرائية للعملة

اشارة

ص: 107

ص: 108

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثالث:

فروع فقهية تتعلق بتغير القوة الشرائية للعملة(1)

تتعرض العملة النقدية إلى انخفاض في قيمتها الشرائية بما يُعرف بظاهرة ((التضخم)) فترتفع أسعار السلع والخدمات وقد ترتفع قيمة العملة لسبب أو لآخر، وهي ظاهرة مقلقة للحكومات والاقتصاديين وعامة الناس لما لها من آثار وتداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولأنها حالة معقدة يصعب السيطرة على إدارتها وتوجيهها وتجنّب أضرارها.

وقد فتحت هذه الظاهرة الباب لأسئلة فقهية عديدة وفي أبواب مختلفة:

فإذا كان المهر مائة دينار قبل أربعين عاماً(2)

وهو مبلغ يمكن به شراء سيارة أو قطعة أرض يومئذٍ فإذا أراد دفعه اليوم فإنه لا قيمة للمبلغ وقد سقط عن المالية اليوم فهل تبرأ الذمة بدفع نفس المبلغ المسمى؟.

أو كان له قرض على أحد أو أن ذمته مشغولة بثمن مبيع مؤجل، أو أنه ضمن مبلغاً لأحد بسبب سرقة أو غصب ونحوها وأراد إرجاعه فهل يجزي دفع نفس المبلغ؟

وفي باب الخمس لو كانت له سلعة قيمتها ألف دينار ثم ارتفعت قيمة السلعة بسبب انخفاض العملة فهل يعد هذا ربحاً يخمس عند رأس السنة؟ مع أن هذا المبلغ المرتفع لا يفي بنفس البضاعة.

ص: 109


1- انتهى إلقاء البحث يوم 6/ ربيع الأول/1431 الموافق 2010/2/18.
2- كان الدينار العراقي عام (1979 م) يعادل ثلاثة دولارات وربع الدولار تقريباً، ووصل سعر الصرف عام (1996) قبل تطبيق قانون النفط مقابل الغذاء والدواء ثلاثة آلاف دينار للدولار الواحد، أي أن قيمة العملة انخفضت عشرة آلاف مرة تقريباً، وكان سعر مثقال الذهب المصوغ (4.6 غرام) 2.5 دينار عام (1971) و 7.5 دينار عام 1979 وتجاوز اليوم 150 ألف دينار.

وفي باب المضاربة هل يجبر الانخفاض في قيمة العملة قبل احتساب صافي الأرباح أم لا؟ أي هل من حق صاحب المال أن يسترجع ماله بنفس القوة الشرائية في بداية العمل قبل أن يحسب الربح الحاصل أم ليس له إلا المبلغ المسمى؟

هذا في حالة انخفاض قيمة العملة، وقد يحصل ارتفاع فيها الذي قد يكون سريعاً وحاداً وبنسبة كبيرة(1).

هذا ولكن الملحوظ بالبحث هنا انخفاض العملة ومنه يعلم حكم ارتفاعها.وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة نعرض عدة مقدمات لبيان بعض الأمور:

(المقدمة الأولى) في قيمة العملة(2):

ذكرنا سابقاً(3)

نبذة مختصرة عن كيفية نشوء الحاجة إلى العملات لإجراء المبادلات التجارية ولتقييم الأمتعة وأجور الخدمات، وقد اختير الذهب والفضة لسك العملات في الأزمنة القديمة لنفاستهما وشدة الطلب عليهما من جميع الناس مما يحصل الإجماع على مقبولية التداول بهما، ولعدم طروّ التغير والفساد عليهما لو أريد ادخارهما. فصنع الدينار من الذهب –وهو الأثمن- والدرهم من الفضة.

ص: 110


1- كالذي حصل عند الإعلان عن تطبيق قانون النفط مقابل الغذاء والدواء لمعالجة الحصار المفروض على العراق مطلع شهر رمضان / شباط -1996 حيث ارتفعت قيمة الدينار مقابل الدولار إلى ستة أضعافها (كان الدولار قبل القرار وصل إلى 3000 دينار وأصبح بعد القرار يساوي 480 ديناراً) مما سبب إرباكاً في السوق وخصومات بين المتعاملين.
2- استطردنا في المقدمتين الأولى والثانية إلى ما هو أوسع من الحاجة في البحث لحاجة المتصدين –وأخصّ منهم الحوزة العلمية- إلى الإلمام بقضايا الأمة وما يتعلق بسائر شؤونها، انطلاقاً من الحديث الشريف (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) (تحف العقول: 356).
3- فقه الخلاف: 5/ 366، ط. الثانية في مسألة (زكاة العملة المتداولة)، الوجه الثامن للوجوب.

ويظهر من بعض الروايات اتخاذ عملة في فترات ما من النحاس سميت بالفلس ففي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (قلت: فإن جعل مكان الذهب فلوساً، قال: ما أدري ما الفلوس)(1) الحديث.

وموثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت له: تجيئني الدراهم بينها الفضل فنشتريه بالفلوس؟ فقال: لا، ولكن انظر فضل ما بينهما فزن نحاساً، وزن الفضل فاجعله مع الدراهم الجياد وخذ وزناً بوزن)(2).

ولكن الفلس لم يكن ينظر إليه كعملة متمحضة بالثمنية –كما هو شأن العملات- لضآلة قيمته وإنما كان يُنظر إليه كوزن من النحاس يضاف إلى الفضة والذهب فهو من العروض غالباً وليس من الأثمان، ولضآلة قيمته قيل لمن فقد ماله أنه مفلّس و ((أفلس الرجل: إذا لم يبق له مال. ومعناه صارت دراهمه فلوساً، وقيل: صار إلى حال يقال له معه فَلْس))(3).

ثم لما اتسعت التجارات والفعاليات الاقتصادية الأخرى نشأت الحاجة إلى نقد بديل عن المعادن ليسهل حمله وتداوله فاخترعت (الأوراق النقدية)، وكانت قيمة العملة معبرة عن مقدار من الذهب مودع في البنوك المركزية بحيث أن من يملك ديناراً مثلاً فهو يملك ما يعادله من الذهب عند الحكومة، ولا تصدَّر العملة إلا بإيداع مقدار من الذهب بمقدارها لذا بقيت العملة محافظة على قيمتها من الذهب والنسبة بينهما متساوية.

ثم رأت البنوك المركزية في بعض الدول أنه ليس من الضروري إيداع هذا الذهب لأن احتمال مطالبة جميع الناس بتبديل العملة الورقية إلى ذهب في آن واحد نادر ففكّوا ارتباط العملة بالذهب ليتمكنوا من تداول عملة تزيد على الذهب المودع مع التعهد بتقديم ذهب مساوٍ لقيمة العملة من دون إيداع ذهب بمقدار ما يصدر من العملة، لكن هذا لا يعني أن إصدار العملة كان اعتباطياً،

ص: 111


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 6، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 18، ح1.
3- النهاية لابن الأثير، مادة (فلس).

وإنما كان وفق ضوابط وقوانين لمنع تردي قيمتها، وأصبحت هذه القيمة تتأثر بعدة عوامل كالاستقرار السياسي والثقة بالنظام القائم وبالوضع الاقتصادي ومقدار الناتج المحلي والثروات الكامنة وأمور أخرى.

وأنقل هنا نصّاً يبيّن تأريخ تلك الانتقالة ((لقد كان الدولار ذاته قبل عام (1973م) مرتبطاً بالذهب، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية متعهدة بتسليم أونصة(1) من الذهب لكل خمسة وثلاثين دولاراً، ولهذا كان للدولار آنذاك ثقله بين العملات النقدية، وكانت ثقة الدول في الدولار في أوجها، أما اليوم فمؤشرات انخفاض الدولار تلعب دورها، لا سيما وأنه لم يعد سراً أن مئات الملايين من الدولارات تطبع دون رصيد! وهذا يبشر بمخاوف كثيرة، بدت تطفو آثارها على السطح.

جاء في الموسوعة العلمية للذهب والمجوهرات (صفحة173) ما نصه: (بعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أفاق العالم على الدمار والخراب الذي سببته الحرب للدول الأوروبية، والغنى والانتعاش الذي حققه الاقتصاد الأمريكي بعيداً عن ساحة الحرب، ومزوداً لها بالعتاد والسلاح، وفي 1944/7/1م أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة للدعوة إلى مؤتمر عالمي لتقرير نظام نقدي ينظم العلاقات الاقتصادية النقدية بين دول العالم الرأسمالية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واجتمعت أربع وأربعون دولة في مؤتمر عالمي بمدينة (بريتون وودز) في الولايات المتحدة الأمريكية للبحث في تنظيم العلاقات الاقتصادية والنقدية بين هذه الدول، فخلال فترة الحربين العالميتين وأزمة الكساد العالمي تبنت الدول الرأسمالية أنظمة نقدية مختلفة، وتعددت علاقات العملات الوطنية بالذهب، واعتمد النظام النقدي الحديث على علاقة جديدة للنقد الورقي مع الذهب والدولار الأمريكي، وتمخض عن اجتماع (بريتون وودز) تأسيس صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، كمنظمتين عالميتين لتطبيق السياسات النقدية التي تم الاتفاق عليها، وقد نص

ص: 112


1- الأونصة من الذهب الخالص تساوي (31.1) غرام.

النظام الأساسي لصندوق النقد الدولي بأن تعرض كل دولة عضو عملتها الوطنية مقابل الذهب أو الدولار الأمريكي بالوزن والعيار السائدين بتاريخ 1944/7/1م، ويقوم هذا النظام على دعائم منها: تثبيت سعر الدولار بالذهب، وقابلية تحويله إليه بواقع 35 دولاراً للأونصة...، وأصبح الذهب والدولار الأمريكي يستخدمان في إطار النظام النقدي الجديد لتعريف الوحدات النقدية في النظام الرأسمالي، وبذلك تعرف الوحدات النقدية إما بشكل مباشر بالنسبة للذهب، أو بشكل غير مباشر بالنسبة للدولار الأمريكي، الذي بقي العملة الوحيدة القابلة للتحويل إلى ذهب، واحتل الدولار الأمريكي-كعملة وطنية- مركزاً مماثلاً للذهب في النظام النقدي العالمي...، وقد ساعد على هيمنة الدولار الأمريكي على النظام النقدي العالمي ما توفر للولايات المتحدة من مخزون ذهبي كبير، نتيجة بيعالسلاح والعتاد للدول الأوروبية المتحاربة، كما مكنت المنظمتان العالميتان اللتان تأسستا لرعاية هذا النظام، من تدعيم وضع الدولار الأمريكي باعتباره عملة عالمية ترتبط بالذهب مباشرة...، وحققت الولايات المتحدة في اتفاقية (بريتون وودز) مكاسب اقتصادية هائلة؛ حيث استحوذت على كميات كبيرة من ذهب العالم، وتربعت على عرش النظام النقدي العالمي...، ونتيجة لاعتماد النظام النقدي العالمي المفرط على الدولار الأمريكي، تجمع الذهب- الذي لا وطن له- في الولايات المتحدة، وأدى تزايد الطلب من الدولار بدل الطلب من الذهب إلى تدعيم العالم أجمع للاقتصاد الأمريكي، بحيث أتاح هذا النظام للولايات المتحدة أن تعيش على حساب مورديها، وتستفيد من كرمهم وتعلقهم بعملتها الوطنية، فالذهب والدولار الأمريكي يستخدمان كتغطية لإصدار العملات الوطنية، وتتمكن الولايات المتحدة لقاء أوراق نقدية مطبوعة ليست بذات قيمة أو تكلفة أن تشتري من العالم قيماً حقيقية، دون الحاجة للتصرف في مخزونها الذهبي، أو استخدامه لتسديد قيم مشترياتها من العالم الخارجي. وتوافق خروج كميات كبيرة من الدولارات من الاقتصاد الأمريكي إلى العالم الخارجي، مع تزايد العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي، وأدى تزايد الإنفاق العسكري للولايات المتحدة، ومطالبة الدول الأجنبية بتحويل

ص: 113

دولاراتها إلى ذهب، إلى تسرب كميات كبيرة من الذهب إلى خارج الولايات المتحدة، وتناقص الاحتياطي الأمريكي من الذهب بكميات هائلة، مما نجم عنه انخفاض في قيمة الدولار، ووهن في علاقته مع الذهب...، وأصبحت علاقة نظرية، فالأوراق النقدية الأمريكية لم تعد مغطاة بالذهب، والدولار لم يعد قابلاً للتحويل إلى ذهب...، ثم أعلن الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) في 1971/1/15م من جانب واحد إلغاء قابلية الدولار للتحويل بالذهب...، وبإلغاء اتفاقية (بريتون وودز) فقد الدولار الميزة الخاصة التي اتصف بها...، ونتج عن إيقاف تحويل الدولار بالذهب انخفاض حاد في سعره مقابل الذهب، حيث ارتفع سعر أونصة الذهب إلى 38 دولاراً عام 1971م، و 42.22 دولاراً عام 1973م...) أه- لقد قصدت من هذا السرد التاريخي بيان ما للذهب من رصيد هام في تغطية العملة النقدية، وأثر استبعاد هذه التغطية على القوة الشرائية للعملة، كما وقع للدولار إبان تلك المرحلة الماضية، ثم استعاد الدولار الأمريكي عافيته بهيمنة الدولة عالمياً في مجال الاقتصاد، والتصنيع، والسياسة...إلخ، فكانت هذه القوة عاملاً مساعداً لهيمنة عملتها (الدولار)، بالإضافة إلى ما لديها من مخزون احتياطي كبير من النفط وغيره، إلا أنه تسلل إليها في السنوات الأخيرة شيء من الضعف الاقتصادي، مما أدى إلى ظهور انتكاسات للدولار، مؤذنة بشيء ما سيحصل خلال الشهور أو السنوات القادمة.

إن الذهب معدن نفيس يكتسب قوته من نفسه، أما سائر العملات الأخرى فتكتسب قوتها من قوة الدولة، وما لها من حضور اقتصادي..إلخ، ولاشك أن ما يكتسب قوته بنفسه أعظم متانة وأكثر أمناً من عملة ورقية تكتسب قوتها بالواسطة، ولهذه الأهمية رأى (جرينسبان) مدير البنك المركزي الأمريكي الأسبق أنه لا يمكن حماية الأوراق النقدية إلا بربطها بالذهب، حيث قال: (إن في غياب نظام الربط بالذهب لا توجد طريقة لحماية المدخرات من

ص: 114

المصادرة عن طريق التضخم. إنه لايوجد هناك مستودع أمين للثروة)(1)))(2).

أقول: أثناء كتابتي لهذا البحث في ديسمبر /2009 بلغ سعر أونصة الذهب رقماً قياسياً وهو 1216 دولاراً للأونصة وقد اتخذت بعض الدول إجراءات لمنع وقوع الخسائر في قيمة عملتها لمجرد ارتباطها بالدولار بتحريرها من هذا الارتباط وهو ما يعرف ب- ((تعويم العملة)) ومن تلك الإجراءات ربطها بسلة عملات كالدولار واليورو والباون الإسترليني، أو إبقاء الارتباط بالدولار مع رفع نسبة الصرف.

(المقدمة الثانية) تحليل ظاهرة التضخم(3):

الاكتفاء بعنوان ((التضخم)) من دون ذكر نوعه يعدّ كلاماً غير دقيق عند ذوي الاختصاص، لأن التضخم على أنواع منها:-

1- تضخم الأسعار: أي الارتفاع المفرط في الأسعار.

2- تضخم الدخل: أي ارتفاع الدخول النقدية مثل تضخم الأجور وتضخم الأرباح.

3- تضخم التكاليف: أي ارتفاع التكاليف.

4- التضخم النقدي: أي الإفراط في خلق الأرصدة النقدية.

5- تضخم الائتمان المصرفي: أي التضخم في الائتمان.

ولكن البعض يرى أن لفظ التضخم إذا أطلق فإنه ينصرف إلى حالة الارتفاع في أسعار السلع والخدمات مما يعني ضعف القوة الشرائية للعملة،

ص: 115


1- من ( Gold and Economic Freedom by Alan Greenspan).
2- مقالة للدكتور يوسف بن أحمد القاسم، أستاذ الفقه المساعد بالمعهد العالي للقضاء بعنوان ((لحماية الريال –السعودي- من التضخم))، من موقع المتداول العربي. ( www.arabictrader.com ).
3- لخصناه من عدة مصادر على الإنترنت وأكثر ما أخذناه من الموسوعة الحرة ويكيبيديا، وقد استطردنا فيها إلى معلومات لا تدخل في صلب البحث إلا أنها ذات أهمية لمن يهتم بأمور المجتمع وعلى رأسهم الحوزة العلمية الشريفة.

فكلما ارتفعت الأسعار ضعفت القيمة النقدية بحيث تستهلك عملة نقدية أزيد مما كانت عليه من قبل، وهذا أمر خطير يهدد البنية الاقتصادية والاجتماعية لأنه يؤدي إلى رفع مستوى الفقر، وقد قيل إن التضخم المقبول والمعقول قد لا يتجاوز نصفاً في المائة أو واحداً في المائة في العام إذا كان الوضع الاقتصادي سليماً صحيحاً.

وليس من الضروري أن تتحرك هذه الظواهر المختلفة في اتجاه واحد في وقت واحد، بمعنى أنه من الممكن أن يحدث ارتفاع في الأسعار دون أن يصحبه ارتفاع في الدخل النقدي، كما أن من الممكن أن يحدث ارتفاع في التكاليف دون أن يصحبه ارتفاع في الأرباح، ومن المحتمل أن يحدث إفراط في خلق النقود دون أن يصحبه ارتفاع في الأسعار أو الدخول النقدية.

وبعبارة أخرى فإن الظواهر المختلفة التي يمكن أن يطلق على كل منها (التضخم) هي ظواهر مستقلة عن بعضها إلى حد ما وهذا الاستقلال هو الذي يثير الإرباك في تحديد مفهوم التضخم.وفي ضوء ما سبق يمكن تشخيص عدة خصائص لظاهرة التضخم منها:-

1- أنها نتاج لعوامل اقتصادية متعددة، قد تكون متعارضة فيما بينها، فالتضخم ظاهرة معقدة ومركبة ومتعددة الأبعاد في آن واحد.

2- ناتجة عن اختلال العلاقات السعرية بين أسعار السلع والخدمات من ناحية، وبين أسعار عناصر الإنتاج (مستوى الأرباح والأجور وتكاليف المنتج) من جهة أخرى.

3- انخفاض قيمة العملة مقابل أسعار السلع والخدمات، والذي يعبر عنه ب-(انخفاض القوة الشرائية).

أسباب نشوء التضخم:

ينشأ التضخم بفعل عوامل اقتصادية مختلفة ومن أبرز هذه الأسباب:-

1- تضخم ناشئ عن التكاليف: ينشأ هذا النوع من التضخم بسبب ارتفاع التكاليف التشغيلية في الشركات الصناعية أو غير الصناعية، كمساهمة

ص: 116

إدارات الشركات في رفع رواتب وأجور منتسبيها من العاملين ولا سيما الذين يعملون في المواقع الإنتاجية والذي يأتي بسبب مطالبة العاملين برفع الأجور.

2- تضخم ناشئ عن الطلب: ينشأ هذا النوع من التضخم عن زيادة حجم الطلب النقدي والذي يصاحبه عرض ثابت من السلع والخدمات، إذ أن ارتفاع الطلب الكلي لا تقابله زيادة في الإنتاج. مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

3- تضخم حاصل من تغييرات كلية في تركيب الطلب الكلي في الاقتصاد أو تغيرات في الطلب النقدي حتى لو كان هذا الطلب مفرطاً أو لم يكن هناك تركز اقتصادي إذ أن الأسعار تكون قابلة للارتفاع وغير قابلة للانخفاض رغم انخفاض الطلب .

4- تضخم ناشئ عن ممارسة الحصار الاقتصادي تجاه دول أخرى، تمارس من قبل قوى خارجية، كما حصل للعراق وكوبا من قِبل أمريكا ونتيجة لذلك يَنعدم الاستيراد والتصدير في حالة الحصار الكلي مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وبالتالي انخفاض قيمة العملة الوطنية وارتفاع الأسعار بمعدلات غير معقولة.

5- زيادة الفوائد النقدية: ورجح بعض الباحثين مؤخراً أن الزيادة في قيمة الفوائد النقدية عن قيمتها الإنتاجية أو الحقيقية من أحد أكبر أسباب التضخم كما بين ذلك (جوهان فيليب بتمان) في كتابه (كارثة الفوائد). وهذا ليس غريباً فالاقتصادي (كينز) عبر عن ذلك بقوله في كتابه ثروة الأمم: ((يزداد الازدهار الاقتصادي في الدولة كلما اقتربت قيمة الفائدة من الصفر)).

أقول: يمكن شرح كلام هذا الاقتصادي وتقريبه من جهة أن الفائدة التي تدفعها المصارف على الودائع تشجع أصحاب رؤوس الأموال على إيداعها لتحصيل الربح المريح مع ضمان رؤوس الأموال وبذلك يقل توظيف الأموال في مجال

ص: 117

الإنتاج والتجارة والاستثمارات الأخرى ويقلّ المعروض من السلع والخدمات ويزداد الطلب عليها وتبذل أموال إضافية لتحصيلها فيتحقق التضخم.ومن مشاكل الفائدة أن عزوف أصحاب الأموال عن الاستثمار يؤدي إلى كثرة البطالة لقلة فرص العمل مما يعني انتشار الفقر وضعف المدخولات فيؤدي إلى ضمور في الحركة الاقتصادية.

ومن هنا يظهر جانب من متانة تشريعات الإسلام التي منعت من الفوائد الربوية بمعنى جعلها صفراً.

العلاقة بين التضخم وسعر الصرف:

تعد أسعار الصرف الموازية لأسعار الصرف الرسمية واحداً من المؤشرات الاقتصادية والمالية المعبرة عن متانة الاقتصاد لأية دولة سواء كانت من الدول المتقدمة أم الدول النامية، وتتأثر أسعار الصرف بعوامل سياسية واقتصادية متعددة، ومن أشد هذه العوامل الاقتصادية، التضخم، ومعدلات أسعار الفائدة السائدة في السوق، اللذان يعكسان أثرهما في سعر الصرف للعملة الوطنية في السوق الموازية لسعر الصرف الرسمي الوطني.

ويحدث انخفاض في قيمة العملة عندما تعاني من انخفاض سعر الصرف بالنسبة لعملة أو مجموعة عملات مرجعية. يمكن حدوث انخفاض قيمة العملة بدون تدخل من جانب السلطات المالية (بسبب التطور –الطبيعي- لأسعار الصرف) أو أن تكون سياسة مالية تقررها الحكومة في ظل نظام سعر الصرف الثابت.

على العكس ، يسمى ارتفاع قيمة العملة بإعادة تقدير العملة.

وعندما يقع انخفاض في عملةٍ ما في نظام سعر الصرف الثابت –قد لا تستطيع السلطات المالية المحددة لسعر الصرف الدفاع عنه على المدى المتوسط أو الطويل- تتعهد هذه السلطات في إطار نظام صرف ما بضمان تحويل العملة مقابل العملة المرجعية، و للقيام بذلك تمتلك احتياطي نقد أجنبي، لكن في حالة وجود طلب كبير على العملة الأجنبية (في حالة تحويل العملة المحلية مقابل عملة

ص: 118

أجنبية) لا يكفي الاحتياطي ويجب على البنك المركزي إيقاف عملية تحويل العملة والتخفيض من قيمتها.

تقوم السلطات المالية عادة بتخفيض قيمة العملة كخطوة وقائية احتساباً لاستعمال احتياطييها من النقد الأجنبي بالكامل.

التخفيض يتمثل في هذه الحالة في التعديل نقصاناً في سعر صرف عملة بالنسبة لعملة مرجعية أخرى (أو مجموعة عملات، في حال كان سعر الصرف محدداً بالنسبة للمعدل المرجح لمجموعة عملات أجنبية).

انخفاض قيمة العملة يمكن أن يكون وسيلة ضمن السياسة المالية من أجل تعزيز النمو الاقتصادي، بتنمية الصادرات و إعادة تعديل الميزان التجاري.

مع ذلك، هذه السياسة ليست مجدية سوى على المدى القصير والمتوسط، لذلك يجب إعادة تعديلها من جديد ما لم يوجد حل للخلل الاقتصادي الأساسي وما لم تعد الثقة في هذه العملة.

عقب انخفاض قيمة العملة، يتبع الميزان التجاري عادة تدهوراً في الأول ومن ثمة يتطور إيجابياً.

وللحفاظ على نفس سعر الصرف في حالة الزيادة في الطلب، فإن البنك المركزي يمكن أن يبيع المزيد من العملة المحلية ويشتري العملات الأجنبية، الأمرالذي سيزيد من مجموع الاحتياطي من العملات الأجنبية. في هذه الحالة تتقهقر قيمة العملة المحلية حيث (إذا لم يكن هناك تعقيم) يزداد عرض العملية المحلية (يطبع المال)، وهذا قد يثير التضخم المحلي (تنخفض قيمة العملة المحلية نسبياً إلى قيمة السلع والخدمات).

ولأن كمية احتياطي النقد الأجنبي المتاح للدفاع عن ضعف العملة (نتيجة ضعف الطلب على العملة) محدودة، فقد تنتهي بأزمة في التحويل إلى النقد الأجنبي أو انخفاض قيمة العملة (Devaluation).

بالنسبة للعملة ذات الطلب العالي والمرتفع جداً، يمكن لاحتياطي النقد الأجنبي من الناحية النظرية أن يعوض باستمرار، مع أنه في نهاية المطاف ستؤدي زيادة المعروض من النقد المحلي إلى التضخم والحد من الطلب على

ص: 119

العملة المحلية (كما أن قيمتها النسبية للسلع والخدمات تتقهقر). وفي الواقع العملي تقوم بعض المصارف المركزية، عن طريق عمليات السوق المفتوحة الهادفة إلى منع عملاتها من الارتفاع، ويمكن في الوقت نفسه بناء احتياطي كبير).

العلاقة بين التضخم وارتفاع الأسعار:

وتفسير التضخم بوجود فائض الطلب يستند إلى المبادئ البسيطة التي تتضمنها قوانين العرض والطلب، فهذه القوانين تقرر أنه – بالنسبة لكل سلعة على حدة - يتحدد السعر عندما يتعادل الطلب مع العرض ... وإذا حدث إفراط في الطلب - فإنه تنشأ فجوة بين الطلب والعرض، وتؤدي هذه الفجوة إلى رفع السعر، وتضيق الفجوة مع كل ارتفاع في السعر حتى تزول تماماً وعندئذٍ يستقر السعر ومعنى ذلك أنه إذا حدث إفراط في الطلب على أية سلعة فإن التفاعل بين العرض والطلب كفيل بعلاج هذا الإفراط عن طريق ارتفاع الأسعار.

وهذه القاعدة البسيطة التي تفسر ديناميكية تكوين السعر في سوق سلعة معينة يمكن تعميمها على مجموعة أسواق السلع والخدمات التي يتعامل بها المجتمع فكما أن إفراط الطلب على سلعة واحدة يؤدي إلى رفع سعرها، فإن إفراط الطلب على جميع السلع والخدمات – أو الجزء الأكبر منها - يؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار وهذه هي حالة التضخم.

معالجة التضخم:

يذكر الخبراء عدة معالجات لهذه الظاهرة، يتعلق بعضها بالسياسة الاقتصادية، والبعض الآخر بالسياسة النقدية، قد لا يكون ذكرها مناسباً لبحثنا، ولكننا نذكر عدداً منها بما يناسب الثقافة العامة، ومن تلك الإجراءات:-

1- زيادة نسبة الفائدة:

ص: 120

بغض النظر عن الحكم الشرعي –وهو حرمة أخذ الفوائد الربوية- وعما قرّبناه من تسبب زيادة الفوائد في التضخم فإنه:

تعمل الدول ذات الاقتصاد الحر والقوي على متابعة مؤشرات الأسعار لمعرفة التضخم ومقداره ومنشئه، ومن هنا يبدأ العلاج.وتتخذ الدول الرأسمالية معدل الفائدة وسيلة للحد من التضخم، فتتعامل بمعدل الفائدة بالزيادة أو النقصان لكي تعالج التضخم، فعندما يكون هناك علامات تضخم بدأت في الظهور، فإن البنك المركزي يعمل على زيادة نسبة الفائدة، والحكمة من ذلك هو الرغبة في سحب الأموال من السوق وتوجيهها إلى عملية توفير أو استثمار، فعندما تكون أسعار الفائدة عالية فإن الإغراء في الاستثمار سيرتفع لكبر الفائدة العائدة على المستثمر.

عموماً لا بد من الأخذ في عين الاعتبار ردود أفعال السياسة النقدية للبنوك المركزية العالمية.

2- تشجيع الأسهم والسندات لتقليص حجم الكتلة النقدية:

على النطاق المحلي فيجب العمل بشكل مستمر على تقليص حجم الكتلة النقدية قيد التداول عن طريق عملية امتصاص منظمة وهذه لها خطوات كثيرة متعددة والتي منها الترغيب بالتعامل والتداول بالأسهم والسندات في أسواق الأوراق المالية لتساعد على امتصاص جزء من الكتلة النقدية باتجاه تنشيط أسواق الأوراق المالية والمساعدة في تجزئة التضخم النقدي.

3- تنويع قنوات الاستثمار:

بالنسبة لعامة الأفراد فمن المهم دراسة العوائد المستثمرة بشكل جدي،

وتنويعها في المجالات الاستثمارية المختلفة والمدروسة دراسة عميقة، لأن أي سيولة معلقة لا تعتبر مكسباً بل خسارة يومية تسجل على صاحبها.

وقد يكون له العذر بعض الشيء نتيجة لضيق قنوات الاستثمار في بلد ما أو لعوامل أخرى معتبرة.

ص: 121

وختاماً فإننا في حاجة ماسة إلى رفع درجة الوعي في ثقافاتنا الشرائية كما هي الاستثمارية للحفاظ على مدخراتنا واستثمارها بالشكل الأمثل من أجل أن نعمل على الحد من هذا الهاجس المقلق.

(المقدمة الثالثة) وجود ظاهرة التضخم في النقدين القديمين:

حاول بعض الأعلام المعاصرين إرجاع مشكلة انخفاض القوة الشرائية للعملة إلى اعتماد الأوراق النقدية بدل النقدين: الذهب والفضة، قال (دام ظله الشريف): ((لا يخفى أن هذه المشكلة إنما حدثت من ناحية التضخم المالي والتضخم إنما نشأ بعد رواج النقود الورقية، وإن كان نوعاً ما موجوداً في عصر النقدين.

ومن الواضح أن نشوء التضخم المالي في عصرنا كان سببه ولا يزال رواج هذه النقود الورقية بين الناس، وازدياد تعاملهم بها، وكثرة تدفقها في الأسواق، الأمر الذي أدى شيئاً فشيئاً إلى انعدام التعادل النسبي القائم بين القيمة الثابتة لهذه الأوراق من جهة وبين ارتفاع قيمة السلع والبضائع من جهة أخرى، بينما نلاحظ بوضوحوجود هذا التعادل قائماً بين قيمة النقدين وبين السوق، فإن حصل ارتفاع أو انخفاض فإنه يحصل لكليهما بنسبة متساوية تقريباً))(1).

أقول: ظاهرة التضخم متصورة ثبوتاً بل واقعة في زمان المعصومين (عليهم السلام) في الدينار والدرهم وذلك لأن السبب الرئيسي لحصول حالة التضخم وانخفاض العملة هو اختلال قانون العرض والطلب كما قرّبنا سابقاً، وإليه ترجع جملة من العوامل الأخرى كارتفاع الفائدة، وقد قربناها، أو حصول حالات طارئة كالحروب والكوارث الطبيعية وهي أيضاً ترجع إلى نفس السبب

ص: 122


1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله الشريف) في بحث عن النقود الورقية، نُشر في مجلة فقه أهل البيت (ع)، العدد 5/6: صفحة 73. وقد دافع عن هذه الفكرة أيضاً سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في (ما وراء الفقه: 4/165 طبعة بيروت).

-أي اختلال القانون- لأن الجهد الوطني يتوجه إلى تلبية احتياجات تلك الطوارئ كالسلاح والمعدات والذخيرة للحروب ويقل الإنتاج المعروض مقابل زيادة الطلب.

وهذا السبب –أي اختلال القانون المذكور- موجود حتى في زمان النقدين، بل يمكن تصورها حتى بلحاظ المنشأ الآخر للتضخم وهو تصرف السلطة المصدرة للعملة، إذ لم تكن يومئذٍ ضوابط لما يُسكّ منها أو يتلف فلا تكون السيولة النقدية منضبطة.

فالمشكلة متصورة ثبوتاً في ذلك الزمان بل هي موجودة يومئذٍ والروايات شاهدة على ذلك.

(منها) موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يكون له عند الرجل الدنانير أو خليط له يأخذ مكانها ورقاً في حوائجه وهي يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار، وقد يطلبها الصيرفي وليس الورق حاضراً فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة ونصف، ثم يجيء يحاسبه وقد ارتفع سعر الدنانير، فصار باثني عشر كل دينار هل يصلح ذلك له؟ وإنما هي له بالسعر الأول يوم قبض منه الدراهم فلا يضره كيف كان السعر؟ قال: يحسبها بالسعر الأول فلا بأس به)(1).

(ومنها) صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان محمد بن المنكدر يقول لأبي: يا أبا جعفر رحمك الله والله إنا لنعلم إنك لو أخذت ديناراً والصرف بثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك

عشرين ما وجدته، وما هذا إلا فرار، فكان أبي يقول: صدقت، ولكنه فرار من باطل إلى حق)(2).

(ومنها) الروايات التي نهت عن البيع بدينار غير درهم لتغيّر سعر الصرف كرواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): (في رجل يشتري

ص: 123


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 9، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 6، ح2.

السلعة بدينارغير درهم إلى أجل، قال: فاسد فلعل الدينار يصير بدرهم)(1).

(ومنها) الروايات التي اشترطت مراعاة سعر الصرف يوم تحويل الدينار إلى درهم وبالعكس كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يكون له الدين دراهم معلومة إلى أجل فجاء الأجل، وليس عند الذي حل عليه دراهم، فقال له: خذ مني دنانير بصرف اليوم، قال (عليه السلام): لا بأس به)(2).

أقول: تدل هذه الروايات على حصول التغير في قيمة العملة صعوداً ونزولاً وبنسبة كبيرة تصل إلى 60-70% في الموثقة الأولى (من 7 أو 7.5 دراهم لكل دينار إلى 12 درهم لكل دينار) وإلى 80% في صحيحة ابن الحجاج (سعر الصرف الرسمي 10 دراهم لكل دينار).

(المقدمة الرابعة) في معنى المال وأنواعه:

يطلق المال ((على كل ما يقتنى ويُملك من الأعيان))(3) وتتقوم مالية المال بتوفر شيء فيه يطلبه العقلاء ويحقق غرضاً لهم؛ ولذا لم يجوّزوا بيع ما ليس فيه منفعة مقصودة للعقلاء معللين بأنه ليس مالاً.

وهذا الشيء المطلوب قد يكون ذاتياً، كما لو كان يسدّ حاجة لدى الإنسان بحسب طبيعة البشر كالمأكل والملبس والمسكن، أو يطلبه للتجمل والزينة كالذهب والأحجار الكريمة(4)، أو للترويح والمتعة ونحوها.

ص: 124


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 23، ح 2.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 3، ح 2.
3- مجمع البحرين، مادة (مول) ووسع الشيخ الأنصاري (قدس سره) التعريف ليشمل المنافع ((بناءً على صدق المال على المنفعة، ولذا يُجعل ثمناً في البيع وصداقاً في النكاح)) (الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري: 16/201) ولسنا الآن بصدد مناقشة هذه التوسعة.
4- عدّ المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره) هذه من الماليات المجعولة وقال: ((ما كان فيه الجعل عاماً يشترك فيه جميع البشر باختلاف عصورهم وبيئاتهم بدافع من الشعور بالحاجة الجماعية لمثله، وهذا يتصور في الأحجار الكريمة النادرة كالذهب)) (بحوث فقهية: 46 وهي تقريراته بقلم المرحوم السيد عز الدين بحر العلوم (قدس سره) ). أقول: التجمل والزينة من الأغراض الفطرية للإنسان فالحاجة إلى هذه ذاتية وليست مجعولة.

وقد يكون الشيء المطلوب مجعولاً كالعملة الورقية فإنها لا قيمة لها في ذاتها كورقة وإنما تكسب قيمتها من اعتبار الجهة المصدرة لها وتعهدها بأن تكون لها قيمة مالية، ومتى شاءت تلك الجهة إلغاء اعتبارها سقطت عن المالية. ومن هذه الناحية فإن الأموال الذاتية يمكن أن تفقد قيمتها إذا لم يعد مرغوباً لدى العقلاء، فمعدن الملح بعد أن كان ذا قيمة في الأعصار القديمة حتى اتخذ وسيطاً في المعاملات كالأثمان،أصبح اليوم لا قيمة له وتوجد كميات كبيرة منه مطروحة على الأرض من دون أن تثير رغبة الناس في اقتنائه وحيازته.

وهذا المجعول قد يكون الغرض منه عاماً كالعملة الورقية وقد يكون لترتيب آثار خاصة كالطوابع المالية لإجراء المعاملات الرسمية فتكون عوضاً عن دفع الرسوم، وكالطوابع البريدية التي تتيح خدمة نقل الرسائل والطرود وإيصالها إلى أهلها.

وعلى جميع التقادير أي سواء كانت المالية ذاتية أو مجعولة فإنها جميعاً أموال تقتضي رغبة العقلاء فيها وتشترك فيما بينها من هذه الناحية بل يرى العقلاء أنّ العملة مالٌ أفضل من السلع والأجناس لسهولة نقلها وحفظها ولإمكان جعلها وسيلة للتبادل ومعياراً للتقييم في كل المعاملات.

والحاصل: أن وجود جهة في الأشياء يطلبها العقلاء سواء كانت ذاتية او جعلية هي علة مالية الأشياء، والمالية علة كونه مالاً فمتى فقد ماليته فإنه يخرج عن كونه مملوكاً كعود الثقاب.

وفي ضوء هذا فالمالية حيثية تقييدية للمال، ويمكن تصور زوالها في الأموال الحقيقية والاعتبارية معاً حينما لا تبقى فيها جهة يطلبها العقلاء، كالملح بعد ان كان شيئاً ثميناً وكان وسيطاً في المعاملات بدل العملة أصبح اليوم مرمياً

ص: 125

على الأراضي الواسعة لا يلتفت إليه، وكالأوراق النقدية إذا أسقطتها الجهة المصدرة.

(المقدمة الخامسة) أشكال الضمان: إن اشتغال الذمة بضمان عين سواء كان بسبب التزامات العقود أو التلف أو الإتلاف يكون على ثلاث مستويات مترتبة:-

(الأول) ضمان نفس العين بردها إذا كانت موجودة.

(الثاني) ضمان مثل العين إذا كانت مثلية وتلفت العين المضمونة لبناء العقلاء على ذلك في ضماناتهم.

(الثالث) ضمان القيمة إذا كانت العين قيمية لا مثل لها أو كانت مثلية وقد تعذر المثل.

وهذا هو المشهور الذي نُفي الإشكال عنه ومخالفة ابن الجنيد الآتية (صفحة 132) مؤوَّلة، نعم اختلفوا في بعض التفاصيل كزمن اشتغال الذمة بالمثل إذا تلفت العين، فقد خالف فيه السيد صاحب العروة (قدس سره) المشهور وقال: ((اعلم أن المشهور قائلون بأنَّ مال الغير إذا تلف مضموناً عليه يشتغل ذمته من حين التلف بالمثل في المثليات، وبالقيمة في القيميات، وكذا في باب القرض بمجرد تمامية العقد تشتغل ذمته بالمثل أو القيمة.

والتحقيق: أن نفس العين باقية في الذمة والعهدة، ويجب الخروج عن عهدتها، لكن لما لم يمكن رد نفسها وجب دفع عوضها وبدلها، فهي بنفسها باقية في العهدة إلى حين الأداء، وإعطاء البدل إنما هو من باب الوفاء، كما فيما إذا كان له عليه منٌّ من الحنطة ولم يمكنه أداؤه فإن ذمته مشغولة بالحنطة حتى حين التعذر، ودفع البدل من باب الوفاء بغير الجنس، ولا ينتقل إلى البدل من حين التعذر، والبدل الواجب أداؤه هوالمثل في المثليات، والقيمة في القيميات، بمعنى أنه لو أراد أحدهما غير ذلك لم يجبر عليه))(1).

ص: 126


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سره) على المكاسب: 1/469.

أقول: إذا تلفت العين حقيقة فلا معنى لبقائها في الذمة إلا على وجه غير عرفي(1) فلا تبنى عليه المعاملات ويكون قول المشهور هو الصحيح. لكن إذا كان التلف حكمياً كتعذر الحصول عليها أو فقدانها فيمكن أن يكون كلام السيد صحيحاً. فالمثال الذي ذكره (قدس سره) ليس مقصوداً للمشهور.

تنبيه: لم يفرق السيد (قدس سره) بين العهدة والذمة مع وجود هذا التفريق في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) كقولهم في العين المغصوبة إنها في عهدة الغاصب فإذا تلفت اشتغلت ذمته بالبدل.

وللفرق بينهما أكثر من وجه ككون العهدة للأعيان الخارجية والذمة للكلية (وهذا للشيخ النائيني (قدس سره) ) أو أن العهدة للشؤون التكليفية كالالتزامات، أما الذمة فهي للوضعيات فلزوم الإنفاق على الزوجة من شؤون العهدة واشتغال الذمة بالنفقة من شؤون الذمة (وهذا للشهيد الصدر الأول (قدس سره) )(2).

وعلى أي حال فحينما يكون المضمون هي القيمة ينفتح السؤال: هل المضمون قيمة يوم الضمان أم يوم التلف أم يوم الأداء أم أعلى القيم ونحوها، والمختار ضمان قيمة يوم الأداء لأن فيه تحصل المعاوضة على المثل بالقيمة، أما في يوم التلف فتنتقل إلى المثل حتى لو لم يكن المثل موجوداً فإن الذمة تبقى مشغولة به، وبتعذر المثل يوم الأداء تحصل المبادلة والمعاوضة عن المثل بالقيمة ليتحقق الوفاء.

وهذا الذي اخترناه نسبه الشيخ الأنصاري (قدس سره) إلى المشهور واختاره، قال (قدس سره): ((المشهور أن العبرة في قيمة المثل المتعذر بقيمته يوم الدفع؛ لأن المثل ثابت في الذمة إلى ذلك الزمان، ولا دليل على سقوطه بتعذره، كما لا يسقط الدين بتعذر أدائه)) وقال: ((أن نقول باستقرار المثل في الذمة إلى أوان الفراغ منه بدفع القيمة، وهو الذي اخترناه –تبعاً للأكثر- من اعتبار القيمة

ص: 127


1- مهذب الأحكام للسيد السبزواري (قدس سره): 16/292.
2- مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الثاني، صفحة 18.

عند الإقباض))(1).

(المقدمة السادسة) في معنى المثلي وكون العملة الورقية من المثليات(2):لقد تنوعت كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في تعريف المثلي والقيمي وكثرت المناقشات فيها واختلفوا في بعض مصاديقهما كالذهب المصوغ، ولكنهم مع ذلك أجمعوا على كون بعض المصاديق من المثليات كالحبوب والأدهان. ونحن لسنا بحاجة إلى الدخول فيها لا لما قيل من أنه ((لم يكن إلى عصر الأئمة (عليهم السلام) في الفقه الإسلامي وجود لاصطلاحي: المثلي والقيمي على ما يبدو بالتتبع الكامل، فكلمة المثلي والقيمي غير موجودة في شيء من الروايات في باب الضمانات وغيرها))(3).

لأنه قد يقال بأن هذا اللفظ وارد في الروايات بمعنى يمكن تقريبه إلى ما نحن فيه كقول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحة محمد بن قيس قال (عليه السلام): (من أقرض رجلاً وَرِقاً فلا يشترط إلا مثلها، فإن جوزي أجود منها فليقبل..)(4) الحديث. وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله قال (عليه السلام): (الفضة بالفضة مثلاً بمثل، والذهب بالذهب مثلاً بمثل ليس فيه زيادة ولا

ص: 128


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 16/227-229.
2- هذه المقدمة من المقدمات الداخلة في الدليل وليست من مقدمات البحث، ولذا فسنجعلها صغرى في الوجه الأول من الاستدلال على عدم الضمان، وإنما ذكرناها هنا لإخراج ما فيها من استطراد في معنى المثلي من أصل الدليل، ولاتفاق القائلين بالضمان وعدمه عليها كما سنبين بإذن الله تعالى.
3- (دراسة في أحكام البنك على ضوء الشريعة الإسلامية) وهي مجموعة محاضرات ألقاها السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عام 1389 ونشرت –لأول مرة- مجلة (الاجتهاد والتجديد) تقريرها بقلم السيد كاظم الحائري (دام ظله الشريف) (القسم الأول من البحث في العدد الثالث من المجلة، صفحة 24).
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، باب 19، ح11.

نقصان، الزائد والمستزيد في النار)(1). ونصوص أخرى لسنا بصدد ذكرها.

نعم قد يرد على هذا بأن ورود اللفظ ليس من باب الحقيقة الشرعية المستلزم للوضع وإنما هو استعمال لموضوع وعنوان معروف لدى العرف والعقلاء ويرجع إليهم في تحديدها.

وفي ضوء هذا فما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره) بنفي الحقيقة الشرعية أدق من نفي وروده في النصوص الذي ذكره السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بقوله: ((إنه ليس للفظ المثلي حقيقة شرعية ولا متشرعية. وليس في النصوص حكم يتعلق بهذا العنوان حتى يُبحث عنه، نعم وقع هذا العنوان في معقد إجماعهم على أن المثلي يضمن بالمثل وغيره بالقيمة، ومن المعلوم أنه لا يجوز الاتكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض المجمعين مع مخالفة الباقين.وحينئذٍ فينبغي أن يقال: كل ما كان مثلياً باتفاق المجمعين فلا إشكال في ضمانه بالمثل))(2).

وعلى أي حال فعدم حاجتنا إلى التعريف في المقام لأن تقنين القواعد ووضع الحدود إنما ينفع في التمييز عند الشك أما ما نقطع بكونه مصداقاً للعنوان فلا نحتاج فيه إلى تلك القواعد، كالعلامات التي ذكرت لمعرفة كون الخارج منياً من الدفق والفتور والشهوة، أما مع العلم بكونه منياً فتجري عليه أحكامه وإن لم يحرز تلك العلامات كما لو خرج منه في حالة النوم.

ونحن ندعي هنا أن العرف لا يتردد في اعتبار العملة الورقية ذات الفئة الواحدة والإصدار الواحد من المثليات، ويُعدّ نفي ذلك لأجل الاختلاف في القيمة السوقية مكابرة.

ص: 129


1- الروايتان في وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 1، ح1، 2.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 16/214، وكرر ذكره آخرون كالسيد السبزواري (قدس سره) في مهذب الأحكام: 16/286، من طبعة النجف.

إن قلتَ: في هذا مصادرة على المطلوب واستباق للنتائج لأن القائل بالضمان لا يرى المثلية بين الورقتين المتحدتين بالفئة والإصدار إذا اختلفت القوة الشرائية بينهما ولو سلّم بهذه المقدمة لسلّم بالنتيجة وهي عدم الضمان بلا حاجة إلى دليل.

قلتُ: ليس في ما قلناه أيّة مصادرة، لأن القائل بالضمان يلتزم أيضاً بمثلية الأوراق النقدية وإنما قال بالضمان لوجوه غير نفي المثلية كما سيأتي بإذن الله تعالى، نعم أشكلوا على ضمان الأوراق النقدية بالمثل وسنعرضه (صفحة 213) بإذن الله تعالى.

فالصحيح في الإشكال أن يقال إن هذه مقدمة للدليل وليس للبحث وقد ذكرنا ذلك آنفاً.

ص: 130

البحث في المسألة

لما كانت أكثر الفروع التي أثرناها في أول البحث تتعلق بالقول بضمان انخفاض قيمة العملة وعدمه كالوفاء بالدين وتسليم الثمن المؤجل ودفع مهر الزوجة وضمان المسروق والمغصوب وغيرها فالأولى البدء بتحرير هذه المسألة أي:

ضمان انخفاض قيمة العملة:

يمكن تحصيل أربعة أقوال في المسألة، هي القول بالضمان مطلقاً وبعدمه كذلك والتفصيل وخيار الفسخ إذا كان التفاوت فاحشاً:

(القول الأول) عدم الضمان

اشارة

ويمكن نسبته إلى المشهور وإن كان موضوع المسألة أي العملة الورقية مستحدثاً إلا أن هذا القول موافق لمبانيهم، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((إن ما أجمع على كونه مثلياً يضمن بالمثل، مع مراعاة الصفات التي تختلف بها الرغبات وإن فرض نقصان قيمته في زمان الدفع أو مكانه عن قيمة التالف؛ بناءً على تحقق الإجماع على إهمال هذا التفاوت))(1).

وهو يظهر من كلماتهم (قدس الله أرواحهم) في عدة مواضع من الفقه منها:-

1- قال المحقق الحلي (قدس سره) في كتاب الغصب من الشرائع –والشرح لصاحب الجواهر (قدس سره)-: (( (ولو كان) المغصوب باقياً (بحاله ردّه) ولا يضمن تفاوت القيمة السوقية) بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل في المسالك نسبته إلى أكثر أهل العلم، لأن الفائت رغبات الناس، لا شيء من المغصوب.

خلافاً لشذّاذ من العامة. وخصوصاً إذا فات القيمة ثم عادت إلى ما

ص: 131


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 16/220.

كانت وقت الغصب، نعم لو كان التفاوت بسبب نقصان في العين ضمن ذلك، كما ستعرف الكلام فيه وفي غيره، والله العالم.

وكيف كان (فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثلياً) بلا خلاف معتد به أجده فيه، كما اعترف به بعضهم، بل هو من قطعيات الفقه، كما يومئ إليه أخذه مسلماً في سائر أبوابه، وفي جامع المقاصد الإجماع عليه، بل في غاية المراد أطبق الأصحاب على ضمان المثلي بمثله إلا ما يظهر من ابن الجنيد، فإنه قال: (إن تلف المضمون ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه) ولعله يريد القيمي، والمراد من ضمانه بمثله عدم تسلط المالك على إلزامه بالقيمة لو أرادها، كما أنه لا تسلط للغاصب على إلزام المالك بقبول القيمة لو بذلها))(1).

2- نفي الخلاف المحكي عن وجوب شراء المثل عند تلف المثلي ولو بأكثر من قيمته، قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ذكر في القواعد: أنه لو لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمن المثل، ففي وجوب الشراء تردد، انتهى.

ص: 132


1- جواهر الكلام: 37/85.

أقول: كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة السوقية للمثل بأن صارت قيمته أضعاف قيمة التالف يوم تلفه، فالظاهر أنه لا إشكال في وجوب الشراء ولا خلاف، كما صرح به في الخلاف، حيث قال: إذا غصب ما له مثل - كالحبوب والأدهان - فعليه مثل ما تلف في يده، يشتريه بأي ثمن كان، بلا خلاف، انتهى.

وفي المبسوط: يشتريه بأي ثمن كان إجماعاً، انتهى.

ووجهه: عموم النص والفتوى بوجوب المثل في المثلي، ويؤيده فحوى حكمهم بأن تنزل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة، بل ربما احتمل بعضهم ذلك مع سقوط المثل في زمان الدفع عن المالية، كالماء على الشاطئ والثلج في الشتاء.

وأما إن كان لأجل تعذر المثل وعدم وجدانه إلا عند من يعطيه بأزيد مما يرغب فيه الناس مع وصف الإعواز، بحيث يعد بذل ما يريد مالكه بإزائه ضررا عرفا - والظاهر أن هذا هو المراد بعبارة القواعد، لأن الثمن في الصورة الأولى ليس بأزيد من ثمن المثل، بل هو ثمن المثل، وإنما زاد على ثمن التالف يوم التلف - وحينئذ فيمكن التردد في الصورة الثانية كما قيل: من أن الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم، كالرقبة في الكفارة والهدي، وأنه يمكن معاندة البائع وطلب أضعاف القيمة، وهو ضرر.

ولكن الأقوى مع ذلك: وجوب الشراء، وفاقاً للتحرير كما عن الإيضاح والدروس وجامع المقاصد، بل إطلاق السرائر، ونفي الخلاف المتقدم عن الخلاف، لعين ما ذكر في الصورة الأولى))(1).

أقول: يلاحظ في النص عدم الخلاف في وجوب شراء المثل مطلقاً ولو كانت زيادة القيمة كبيرة وهذا يعني أن نقصان وزيادة القيمة الشرائية غير ملحوظة في ضمان المثل، ولو لوحظت لما ألزم الضامن بشراء المثل لأنه ليس مثلاً حينئذٍ.

ص: 133


1- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 16/222-224.

3- وذهبوا إلى عدم الضمان فيما هو أولى بالضمان من مسألتنا، قال صاحب الجواهر (قدس سره) معلقاً على قول المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع بأن من منع غيره من بيع متاعه فنقصت قيمته السوقية أو تلفت العين لم يضمن، قال (قدس سره): ((كما في النافع ومحكي التحرير والتبصرة وشرح الإرشاد للفخر وإن لم يذكر في بعضها تمام الأمثلة، بل في المسالك وغيرها نسبته إلى المشهور، للأصل بعد عدم تحقق الغصب بعدم إثبات اليد)).

ونقل إشكال العلامة (قدس سره) في التذكرة في عدم الضمان، ثم قال: ((ومنه يعلم أنه لا يلزم من عدم كونه غاصباً عدم كونه ضامناً، لإمكان سبب آخر غير الغصب.

ولعله لذا قال في المسالك وتبعه عليه غيره: (أنه ينبغي أن يختص ما ذكروه بما لا يكون المانع سبباً في تلف العين بذلك) )).ثم نقل استحسان صاحب الرياض (قدس سره) ذلك مستنداً لعموم (لا ضرر ولا ضرار)(1)

وقوله: ((ومن هنا يتوجه الحكم بضمان نقص القيمة السوقية للمتاع إذا حصل بمنع المالك عن بيعه ولو مع بقاء العين وصفاتها، وذكر القائل المتقدم أنه لم يضمن قطعاً، لأن الفائت ليس بمال بل اكتسابه، وهو كما ترى، لاتحاد وجه الحكم بالضمان هنا وفيما مضى، وهو صدق الإضرار المنفي شرعاً، وليس فيه ما يقتضي تخصيص الضرر المنفي بما يكون متعلقه مالاً، ولعله لذا اختار الشهيد في بعض فتاواه الضمان هنا، وإن قوّى في الدروس عدم الضمان مطلقاً وفاقاً للمشهور، كما في المسالك والكفاية) ))(2).

ص: 134


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الخيار، باب 17، ح3.
2- رياض المسائل: 14/8.

فعقب عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((لا ينبغي التأمل في عدم ضمان نقصان القيمة السوقية، لعدم تفويت مال عليه بمباشرة أو تسبيب، ومن هنا لم تضمن منافع الحر إجماعاً، مع أن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) تأتي فيه))(1).

أقول: يظهر من كلامه (قدس سره) ذهاب المشهور إلى عدم ضمان نقصان القيمة السوقية حتى مع التسبب، ومخالفة صاحب الرياض (قدس سره) في خصوص حالة التسبب في نقصان القيمة بالمنع من البيع لصدق الضرر المنفي شرعاً، لا مطلقاً كما في مسألتنا.

الاستدلال على القول الأول:

يمكن الاستدلال على عدم الضمان بعدة وجوه، بعضها مستند إلى الروايات، وبعضها على مستوى القواعد، ونشير إليها مع بعض التفاصيل ونترك البعض الآخر إلى المناقشات الآتية بإذن الله تعالى:

(المستوى الأول) الاستدلال بالقواعد وتتضمن وجوهاً قد يكون بعضها متعلقاً ببعض موارد المسألة كالقرض أو البيع المؤجل لكنه يُعمّم إلى الموارد الأخرى بعدم القول بالفصل عند القائل بالضمان بعدة تقريبات كوحدة الملاك، أو عموم الأدلة التي ذكروها للقول بالضمان، ومن هذه الوجوه:

(الأول) إن الأوراق النقدية من المثليات، والمثليات تضمن بأمثالها من نفس الأوراق من دون نظر إلى أي خصوصيات أخرى كالمالية ونحوها. فالدليل مكون من صغرى وكبرى، أما الكبرى وهي أن المثليات تضمن بأمثالها فقد حكي الاتفاق عليها؛ قالالشيخ الأنصاري (قدس سره): ((إذا تلف المبيع، فإن كان مثلياً وجب مثله بلا خلاف إلا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي))(2)

وقد تقدم (صفحة 132) توجيه عبارته.

ص: 135


1- جواهر الكلام: 37/14-15.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 16/209.

وأما الصغرى وهي أن العملات الورقية من المثليات، بمعنى أن الأوراق ذات الفئة الواحدة والإصدار الواحد تعتبر أمثالاً بلا فرق بينها، وتفاوت ماليات بعضها عن بعض بحسب تفاوت حالة التضخم لا يخرجها عن المثلية، فهذا مما يتفق عليه العقلاء أيضاً.

ولذا فإن الحكومات التي هي من تصدر هذه الأوراق وتؤسس للتعامل بها، تفي بالتزاماتها فيما بينها بنفس مقادير ما اشتغلت به ذممها.

وكذلك تفي بالتزاماتها أمام المواطنين كالأرصدة المودعة في بنوكها فإنها تلتزم بنفس المقادير سواء زادت القوة الشرائية لها أو نقصت.

وهذه الحقيقة مما لا يتردد فيها العرف، ويعدُّ المناقشة فيه شبهة مقابل البديهة، فهل الدولار في الشهر السابق عندما كان سعر أونصة الذهب (1216) دولاراً ليس مثلاً للدولار اليوم حيث سعر أونصة الذهب (1096) دولاراً؟ وهل علينا أن نسجّل إزاء كل ورقة نقدية توسطت في معاملة ما قوتها الشرائية لنلحظها عند الأداء فنعوّض النقص؟.

ومما ينبّه الذهن إلى مثليته أن الذمة إذا اشتغلت بمقدار منه فيكون هو المضمون، ولو كان قيمياً لاشتغلت الذمة بالقيمة من أي عملة أخرى.

وهذا بحسب القواعد واضح، والروايات تدل عليه كصحيحة محمد بن قيس الواردة في القرض عن أبي جعفر قال (عليه السلام): (من أقرض رجلاً ورِقاً فلا يشترط إلا مثلها، فإن جوزي أجود منها فليقبل، ولا يأخذ أحدٌ منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورِقه)(1).

إن قلتَ: إن العملة الورقية ((ليس ضمانها مثلياً بل قيمياً؛ لأنها ليست سلعة ولا منفعة استهلاكية لها، وإنما هي مجرد وسيلة للمبادلة، وحساب المالية المحضة للأجناس والسلع، والضمان بالمثل إنما يكون في السلع والأموال الحقيقية. نعم، النقود الحقيقية كالذهب والفضة لا مانع من أن يكون ضمانها بالمثل لأنها سلع حقيقية. والحاصل: موضوع ضمان المثل السلع الحقيقية، لا

ص: 136


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، باب 19، ح11.

النقود التي هي مجرد وسيلة للمبادلة))(1).

قلتُ:-

1- إن موضوع ضمان المثل هو المال المثلي، والأوراق النقدية مال كما قدمنا وسيأتي، وهي من المثليات كما قلنا، فلا وجه لحصر حكم العقلاء بضمان المثلي بالمثل بخصوص السلع والأموال الحقيقية –حسب تعبيره-، لأن حكمهم فيما يصح وما لا يصح واحد.

2- إن أريد من ((الأموال الحقيقية)) مقابل الوهمية فإن ظاهر كلام المستشكل نفي كون الأوراق النقدية مالاً وإخراجها من ((الأموال الحقيقية)) وإنما هي مجرد وسيلة للمبادلة كما قال وحينئذٍ يرد عليه:-

أ- إن كونها وسيلة للمبادلة وتقييم السلع لا ينافي كونها مالاً، فالدينار الذهبي والدرهم الفضي وسيلة للمبادلة وهي أموال.

ب- إن الإشكال سيق لنفي ضمان الأوراق النقدية بالمثل، لكنه انتهى إلى نفي المالية والمفروض أن تكون نتيجته نفي الضمان أصلاً. فلا رابط بين الدعويين.

وعلى أي حال فمما لا شك فيه أن الأوراق النقدية مالٌ، وتلفها تلف للمال نفسه. وليست الأوراق النقدية كالصكوك والكمبيالات والسندات التي هي حوالة على المال، وتلفها لا يكون تلفاً للمال نفسه. ولا يفرق من هذه الناحية بين كونه مالاً اعتبارياً عن الأموال الحقيقية، بل العقلاء يفضلونه على تلك الأموال لسهولة نقله وحفظه وشمولية التعامل به وكونه وسيلة للمبادلة، وحساب المالية لا يخرجه عن كونه مالاً، كما أن العملات الحقيقية –على تعبيره- تتخذ لذلك، ولا ينافي كونها مالاً، بل في قواميس اللغة أن لفظ المال موضوع للعملة بالأصل ثم توسّع استعماله لكل ما يُتموَّل من الأشياء.

ص: 137


1- السيد محمود الهاشمي في (قراءات فقهية معاصرة: 2/173) تحت عنوان: (المحاولة الثالثة).

وإن أريد من ((الأموال الحقيقية)) أي الذاتية مقابل الاعتبارية فهو لا يؤثر فيما نحن فيه –أي الضمان- لأنهما معاً مالٌ كما قدمنا، ولما كان موضوع الضمان في الروايات وكلمات الفقهاء هو المال، والمال المثلي يضمن بمثله، والأوراق النقدية مال ومن المثليات، فتضمن بمثلها، ولا وجه لحصر ضمان المثليات بالمثل في خصوص السلع الحقيقية.

إن قلتَ: إننا نصر على كون الأوراق النقدية من القيميات فتُضمن بقيمتها ونذكر هنا تقريباً آخر لذلك فنقول: ((إن النقد عبارة عن القيمة والمالية المحضة لسائر السلع والأموال؛ ومن هنا يكون ضمان الأموال والسلع القيمية به لكونه القيمة، فكيف يمكن أن لا يكون ضمانها قيمياً؟! فالحاصل: إذا كان ضمان القيمي قيمياً فضمان القيمة المحضة التي هي النقد قيمي لا محالة))(1).

قلتُ:-

1- إن هذا موضوع آخر فمما لا شك فيه أن النقد يُعدُ مقياساً لتقييم الأشياء لكن هذا لا يخرجه عن كونه مثلياً.

2- النقض عليه بالنقدين الذهب والفضة فإنهما مما تُقيّم بهما الأشياء فهل يخرجهما ذلك عن كونهما مثليين؟.

3- إن العملة الورقية مالٌ أي شيء له المالية والقيمة فيتحقق فيه موضوع الضمان وليس أنه مالية وقيمة محضة كما قال المستشكل.

(الثاني) إن انخفاض القوة الشرائية للعملة إنما قيل بضمانه باعتباره خسارة ونقصاً قد حصل على المضمون له، وهنا يقال أن هذه الخسارة تقديرية، وموضوعات الأحكام يشترط فيها الفعلية فلا يكون مضموناً.

بيان ذلك: إن الضمان مبني على تفويت منفعة لمالك العملة فيما لو حرّكه وربح في حركته، وهو غير محرز، إذ يمكن أن لا يحركها وتبقى مدخرة عنده، وإذا حركها فمن غير المعلوم أنه يربح إذ قد يخسر وتضيع عليه أمواله،

ص: 138


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/174، تحت عنوان: (المحاولة الرابعة).

فالشيء الذي يقال بضمانه أمر تقديري فلا يتعلق به ضمان. ونظير هذا المورد ما هو المعروف بينهم من عدم ضمان منافع الحر مع أن فيها تفويتاً لها.

إن قلتَ: ورد في بعض النصوص ما يشير إلى أن حبس المنفعة ملحوظ كموثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عليه المال فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغيَّر سعر الدنانير أيّ السعرين أحسُبُ له الذي كان يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي (يوم أحاسبه) الذي أحاسبه؟ فقال: سعر يوم أعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه)(1).

قلتُ: ليست الرواية بصدد الضمان وإنما هي بصدد إثارة أمور في وجدان السائل لإيضاح منشأ الحكم ورفع الإبهام عنه.

(الثالث) إن من أقرض أو باع بالآجل أو المرأة التي رضيت بمهر ما قد أقدموا باختيارهم على الرضا بالمبلغ المعين دون لحاظ المالية والقوة الشرائية، وهم يعلمون بالانخفاض الذي قد يحصل للعملة أو يحتملونه على الأقل –إذ لا يشترط في تحقق الإقدام وجود العلم بما أقدموا عليه-، ولا ضمان لهم مع الإقدام على عدم الضمان.

والإقدام قاعدة تبانى عليها العقلاء(2)

ومن آثار سلطنة الإنسان على ماله المعبر عنه بالخبر النبوي الشريف (الناس مسلطون على أموالهم)(3)

مضافاً إلى استقراء مواردها في الفقه وهي كثيرة كسقوط خيار الغبن إذا أقدم المغبون عليه لمصلحة دينية أو نفسية أو إنسانية لنفع البائع ونحوها.

ففي المقام لو شاء أصحاب الحق هؤلاء لضمنوا حقهم من هذه الناحية بجعل العوض من الذهب ونحوه،أو فرضوا زيادة في استحقاقهم مراعاة للآجل

ص: 139


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 9، ح2.
2- في هذا رد على تشكيك الشيخ الأنصاري (قدس سره) بثبوت القاعدة حيث قال (قدس سره): ((دليل الإقدام مطلب يحتاج إلى دليل لم نحصّله)) (الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 16/189).
3- بحار الأنوار: 2/272، باب 13، ح7.

–كما يفعل التجار في البيع بالآجل- ولاحتمال الانخفاض ونحوه من الإجراءات، فلما لم يفعلوا ذلك فقد رضوا بما آلت إليه الأمور.وهذا الوجه لا يشمل الحالات التي لا إقدام فيها كالغصب، إلا أننا عالجنا هذا الإشكال في بداية الاستدلال وسيأتي إن شاء الله تعالى.

(الرابع) ما اتفق عليه الفقهاء (قدس الله أرواحهم) من كون (المال) هو موضوع الضمان، أما المالية فهي وإن كانت قوام المال وعلة كونه مالاً إلا أنها لا تكون ملحوظة في المعاملات وإنما يلاحظ نفس المال، ولذا فإنه لا يكون للمالية دخل في الضمان، لذا فقد حكموا بضمان المثلي بالمثل حتى لو تغيّرت قيمته ونحوه من الآثار. قال بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف): ((إن موضوع الضمان أي ما يضمنه الضامن بحسب ظاهر أدلة الضمان الشرعية والعقلائية إنما هو المال لا المالية والقيمة؛ لأنها وصف وحيثية تعليلية(1)

لصيرورة الشيء مالاً فيضمنه من أتلفه أو أخذه في قبال مال آخر، وعلى هذا يقال: لو أُريد ضمان نقصان قيمة المثل بعنوان ضمان القيمة والمالية الناقصة ابتداءً فهذا خلف كون المضمون هو المال لا المالية استقلالاً. وإن أُريد ضمان ذلك من باب دخله في ضمان المال فمن الواضح أن النظر العرفي في باب الأموال المثلية يقضي بالمثلية فإنّ منّاً من الحنطة الكذائية هي نفس ما أخذه من المالك لو ردّ عينها أو مثلها لو تلف، ونقصان المالية السوقية ومدى تنافس السوق ورغبته في المال لا

ص: 140


1- أقول: قربنا في المقدمة الرابعة (صفحة 124) أن المالية دخيلة على نحو الحيثية التقييدية في المال أي أن المالية مشترطة حدوثاً وبقاءً لصدق كونه مالاً، وقد قال (دام ظله الشريف) بذلك في غير مورد من هذا الكتاب كما سيأتي فيما ننقله عنه بإذن الله تعالى، وفي بعض كتبه الأخرى كقوله: ((إن المالية قوام المال عرفاً بنحو الحيثية التقييدية دائماً حتى في غير مال التجارة، فزيادتها زيادة في الأموال لكونها بنفسها مالاً عرفاً، وليست مجرد عرض أو حيثية تعليلية لصدق المال على المتصف بها وهو الشيء الخارجي)) (كتاب الخمس للسيد الهاشمي: 2/189). نعم قد يرفع التهافت بالتفصيل الذي سيأتي بين الأموال الاعتبارية فتكون الحيثية تعليلية، والأموال الحقيقية فتكون تقييدية، لكن هذا المبنى غير صحيح.

يجعله مالاً آخر غير ذلك المال المأخوذ أو التالف عرفاً فلا موجب لضمان نقصان القيمة))(1).

(الخامس) إن نقصان القوة الشرائية أو ما يعرف بالتضخم له عدة أسباب ذكرناها في المقدمة الثانية، ومرجعها إلى سببين:-

1- اختلال قانون العرض والطلب.

2- قرار الجهة المصدرة للعملة.

وسنتكلم عن الثاني في مورده أما الغالب في سبب النقصان فهو الظاهرة المذكورة التي تعود إلى أمور خارجة عن العين وأوصافها الدخيلة في قوامها كاختلاف رغبات الناس أو مستوياتهم المعيشية، وهذه أمور لا تدخل تحت عهدة الضمان، كما لو أغرق تاجرٌ السوق ببضاعة معينة فأدّى إلى نزول أسعار أمثالها فإن هذا التاجر لا يضمن لغيره النقصان الذي حصل في مالية بضائعهم، لأنه وإن تصرف في المالية إلا أنه لم يتصرف في المال الذي هو موضوع الضمان.فالقيمة السوقية ((أمر اعتباري لا ربط له بالعين المضمونة بل هي صفة للسوق ورغبة نوعية عند الناس ترتبط بمقدار حاجتهم إلى السلعة وكمية وجودها وندرتها في السوق –عوامل العرض والطلب- وهذا أجنبي عن السلعة وليس من أوصافها ليكون مضموناً. ولهذا لا يضمن من يتسبب إلى تقليل قيمة السلعة في السوق بكثرة عرضها أو بالدعاية ضدها أو أي سبب آخر، ونتيجة ذلك: أن نقصان قيمة المال المضمون لا يكون مضموناً حيث يكفي دفع مثله سواءً زادت قيمتها السوقية أم نقصت))(2).

(السادس) إن الانخفاض أمر إضافي نسبي يعرف من نسبة قيمة إلى قيمة، وهم يريدون به نقصان القيمة السوقية للعملة الورقية يوم الأداء عن قيمتها يوم الضمان بالعقد أو التلف أو الإتلاف، وفي هذا الوجه نقول إن هذه النسبة باطلة من أساسها لوجود قيمة واحدة للمضمون في ذمة الضامن وليس قيمتين حتى تجري هذه النسبة بينهما، فتصبح المسألة سالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 141


1- السيد محمود الهاشمي في (قراءات فقهية معاصرة: 2/171-172).
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/170.

بيان ذلك أن سبب الضمان إما المعاوضات والالتزامات العقدية أو الغرامات بالتلف والإتلاف فالكلام في جهتين:

(الجهة الأولى) العقود كالقرض أو البيع فالمقرض أو البائع بالآجل أو الزوجة التي رضيت بتأجيل مهرها لا يستحقون المثل في ذمة الضامن إلا حين الأجل، ولا يملكون قيمته يوم الضمان –أي يوم العقد والالتزام-، وقيمة المثل الفعلية هي هذه القيمة التي يستحقها يوم الأداء في الأجل، فلا وجود للنقص ولا تصح النسبة، وفي كلام الشيخ الأنصاري الذي نقلناه (صفحة 133)

في الفقرة الثانية ما يشير إلى ذلك بقوله: ((لأن الثمن في الصورة الأولى –أي صورة تغير القيمة السوقية- ليس بأزيد من ثمن المثل، بل هو ثمن المثل)).

قال بعض الأعلام المعاصرين (دامت بركاته): ((إن المشتري عندما يشتري شيئاً على أن يكون ثمنه مؤجلاً إلى ستة أشهر، ففي الحقيقة أن البائع يملك في ذمة المشتري هذه الكمية من النقود حين حلول الأجل، ومعنى ذلك أنه لا يملكها حين العقد ملكية مطلقة حتى يستوجب أن يقول: إن قيمة هذه النقود حين العقد كانت أكبر من القيمة الشرائية حين الأجل فيطالب بالزيادة على حسب القيمة الشرائية حين العقد، إذ أنه يملكها ملكية مقيدة بالأجل (بعد ستة أشهر مثلاً) فهو كأنه يملك قيمة النقود حين الأجل، لا حين العقد))(1).

(الجهة الثانية) التلف أو الإتلاف فإن ذمة الضامن تشتغل من حينها بالمثل للمضمون له الذي يملك حينئذٍ المثل في ذمة الضامن، وله أن يتصرف في ملكه هذا بالإبراء والمقاصّة والبيع والتحويل وجعله عوضاً ونحوها، وحينئذٍ يكون انخفاض القيمة الشرائية للعملة المضمونة أمراً حاصلاً في ملكه فلا يكون مضموناً على المتلف.

قال بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف): ((إن الضمان عند تحققه يعد عرفاً وعقلائياً نحواً من التعويض والمبادلة القهرية بين المال التالف وبين ما يمتلكهالمضمون له بالضمان على ذمة الضامن من المثل أو القيمة، ولهذا تتحقق الملكية الفعلية له في ذلك المال الذمي الاعتباري وتترتب عليه آثارها

ص: 142


1- بحوث في الفقه المعاصر للشيخ حسن الجواهري: 1/396.

ويجوز له التصرف القانوني فيه بالبيع والحوالة وغيرهما، وهذا التعويض والمعاوضة القهرية تتحقق مرة واحدة عند تحقق موجب الضمان وهو زمان الأخذ أو التلف ولا موجب آخر له، فيكون نقصان قيمة المثل بعد تحقق الضمان واشتغال الذمة من باب نقصان قيمة مال مالكه كما إذا كان قد دفعه إليه فنقصت قيمته عنده بعد الدفع، فلا موجب لضمان نقصان القيمة زائداً على المثل))(1).

أقول: كلامه (دام ظله) غير شامل لكل أسباب الضمان فهو لا يعالج الجهة الأولى في ضوء التقسيم.

وقد أشكل (دام ظله) على هذه الجهة الثانية بأن هذا الوجه ((مبني على أن لا يعتبر العرف القيمة السوقية من صفات المثل فتتوقف صحته على تمامية الجواب الأول –وهو الكلام الذي نقلناه عنه (صفحة 140)-، مضافا إلى أن كون الضمان من باب المبادلة القهرية قبل الدفع والوفاء محل منع وإن قبلنا ذلك بعد دفع البدل)).

أقول: لا يرد الإشكالان على الوجه، أما الأول فلأننا قدمنا في الوجهين الرابع والخامس أن المالية والقيمة غير ملحوظة في الضمان، وأن انخفاض القيمة غير داخلة فيه، وأما الثاني: فإن مورده انتقال الضمان من المثل إلى القيمة، وأما الانتقال من العين إلى المثل فيحصل من حيث التلف على ما اخترناه وفاقاً للمشهور وقد ذكرناه في المقدمة الخامسة، وربما كان مختاره مبنى السيد اليزدي (قدس سره) الذي ذكرناه هناك.

(المستوى الثاني) الاستدلال بالروايات:

وما ذُكر أو يمكن أن يُذكر هنا عدة مجموعات من الروايات:

(الأولى) الروايات التي ذكرناها في المقدمة الثالثة وتقريب الاستدلال بها: أن هذه الظاهرة كانت موجودة في عصر الأئمة (عليهم السلام)، ولم يرد في

ص: 143


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/172.

النصوص أي شيء عن ضمان هذا الانخفاض فلو كان الانخفاض مضموناً لأشارت إليه رواية واحدة على الأقل، والذي وجدناه هو العكس فإن كل الروايات الواردة في مسائل القرض والدين والمهر والبيع بالآجل والضمانات والنذور والأوقاف وغيرها تأمر بأداء نفس ما اشتغلت به الذمة من دون مراعاة تغيّر قيمة العملة الذي قد يكون فاحشاً، والفقهاء (قدس الله أرواحهم) مسلّمون بذلك لذا فلا نحتاج إلى ذكر الروايات، إلا واحدة تيمناً.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أقرضت الدراهم ثم جاءك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط)(1).إن قلتَ: ليس في الصحيحة إشارة إلى حصول تغيّر في قيمة العملة، فهي أجنبية عن المسألة، لأنها بصدد بيان أصل الحق.

قلتُ: يصح التمسك بإطلاق النهي عن اشتراط الزيادة سواء حصل تغير أم لا، ولو تنزلنا فيمكن تتميم الاستدلال بالإطلاق المقامي الذي ينعقد من كثرة الروايات الواردة في هذه الأبواب الكثيرة في الفقه من دون مراعاة لتغير سعر العملة مع وجود هذه الحالة، فيكون ذلك كاشفاً عن عدم لحاظها في الضمان.

(الثانية) مجموعة الروايات التي وردت في عدم ضمان التغير في قيمة المتاع أو أجور العمل –انخفاضاً وارتفاعاً- بتقريب وحدة ملاك الحكم بالضمان وعدمه بينها وبين العملات ولجريان الوجوه التي استدلوا بها على الضمان في النقود في السلع والأجور أيضاً –كقاعدة لا ضرر واعتبار الانخفاض خسارة في الجميع ونحوها- كما سيأتي بإذن الله تعالى، ومن تلك الروايات:-

1- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل ابتاع من رجل طعاماً بدراهم فأخذ نصفه وترك نصفه، ثم جاءه بعد ذلك وقد ارتفع الطعام أو نقص، قال (عليه السلام): إن كان يوم ابتاعه ساعَره أن له كذا

ص: 144


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، باب 20، ح1.

وكذا، فإنما له سعره، وإن كان إنما أخذ بعضاً وترك بعضاً ولم يسم سعراً فإنما له سعر يومه الذي يأخذه فيه ما كان)(1).

وشرح الرواية بأن الرجل الذي ابتاع الطعام إذا كان قاطعَ البائع على سعر معين فعليهما الالتزام بهذا السعر لأنه سعر المعاوضة وإن تغيّر لاحقاً قبل تسليم المتاع وهو يعني أن هذا التغير في السعر غير مضمون.

أما إذا لم يعيّن سعراً في العقد فعليهما المقاطعة بسعر يوم المعاوضة وهو يوم التسليم.

2- صحيحة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل اشترى طعاماً كل كر بشيء معلوم، فارتفع الطعام أو نقص، وقد اكتال بعضه فأبى صاحب الطعام أن يسلم له ما بقي، وقال: إنما لك ما قبضت، فقال (عليه السلام): إن كان يوم اشتراه ساعره على أنه له فله ما بقي، وإن كان إنما اشتراه ولم يشترط ذلك فإن له بقدر ما نقد).

3- صحيحة محمد بن الحسن الصفار قال: (كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام): رجل استأجر أجيراً يعمل له بناء أو غيره وجعل يعطيه طعاماً وقطنا وغير ذلك ثم تغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة، أيحتسب له بسعر يوم أعطاه أو بسعر يوم حاسبه؟ فوقع (عليه السلام): يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه إن شاء الله، وأجاب (عليه السلام) في المال يحل على الرجل فيعطي به طعاماً عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر، فوقّع (عليه السلام): له سعر يوم أعطاه الطعام).

4- صحيحته الأخرى قال: (كتبت إليه في رجل كان له على رجل مال فلما حل عليه المال أعطاه بها طعاماً أو قطناً أو زعفراناً، ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الطعام والزعفران والقطن أو نقص، بأي السعرين يحسبه؟ قال: لصاحب الدين سعر يومه الذي أعطاه

ص: 145


1- جميع الروايات تجدها في وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 26، ح2، 3، 4، 5، 6.

وحل ماله عليه أو السعر الذي بعد شهرين أو ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقّع (عليه السلام) ليس له إلا على حسب سعر وقت ما دفع إليه الطعام إن شاء الله، قال: وكتبت إليه: الرجل استأجر أجيراً ليعمل له بناء أو غيره من الأعمال، وجعل يعطيه طعاماً أو قطناً وغيرهما، ثم تغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة، أيحسب له بسعره يوم أعطاه أو بسعره يوم حاسبه؟ فوقّع (عليه السلام): يحسب له سعر يوم شارطه فيه إن شاء الله).

5- خبر أبي العطارد قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أشتري طعاماً فيتغير سعره قبل أن أقبضه، قال: إني لأحب أن تفي له كما أنه إن كان فيه فضل أخذته).

(الثالثة) الروايات التي اشترطت استقصاء سعر يوم المصارفة عند تحويل ما في الذمة من عملة إلى عملة أخرى كموثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون للرجل عندي من الدراهم الوضح فيلقاني فيقول كيف سعر الوضح اليوم؟ فأقول له: كذا وكذا فيقول: أليس لي عندك كذا وكذا ألف درهم وضحاً؟ فأقول: بلى، فيقول لي: حوِّلها دنانير بهذا السعر وأثبتها لي عندك، فما ترى في هذا؟ فقال لي: إذا كنت قد استقصيت له السعر يومئذٍ فلا بأس بذلك)(1)

الحديث.

وتقريب الاستدلال: إن انخفاض العملة لو كان مضموناً فإنه لا يبقى معنى لهذا الشرط، لأن سعر الزمانين واحد بعد جبر الانخفاض.

(الرابعة) عدة من الروايات بتقريبات مختلفة، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يكون له الدين دراهم معلومة إلى أجل فجاء الأجل، وليس عند الذي حل عليه دراهم، فقال له: خذ مني دنانير بصرف اليوم، قال

ص: 146


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 4، ح1.

(عليه السلام): لا بأس به)(1).

بتقريب التمسك بالإطلاق فإن الإمام (عليه السلام) لم يطلب ملاحظة تغير قيمة الدراهم خلال الأجل وبقي مقدارها بحالها إلى حلول الأجل وتصريفها بالدنانير.وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن رجل أتبع على آخر بدنانير، ثم أتبعها على آخر بدنانير، هل يأخذ منه دراهم بالقيمة؟ فقال (عليه السلام): لا بأس بذلك، إنما الأول والآخر سواء)(2).

فالإمام (عليه السلام) يصرّح بأن مقدار الدنانير الأولى أضيف بنفسه إلى مقدار الدنانير الثانية وصرّف المجموع بسعر يوم الصرف بالدراهم.

وبنفس التقريب رواية زياد بن أبي غياث في نفس الباب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل كان عليه دين دراهم معلومة فجاء الأجل، وليس عنده دراهم وليس عنده غير دنانير فيقول لغريمه: خذ مني دنانير بصرف اليوم، قال (عليه السلام): لا بأس)(3).

وصحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نبعث بالدراهم لها صرف إلى الأهواز، فيشتري لنا بها المتاع، ثم نلبث، فإذا باعه وُضع عليه صرف، فإذا بعناه كان علينا أن نذكر له صرف الدراهم في المرابحة ويُجزينا عن ذلك؟ فقال: لا، بل إذا كانت المرابحة فأخبره بذلك، وإن كانت مساومة فلا بأس)(4).

وشرح الرواية أن الراوي يسأل الإمام (عليه السلام) أنه إذا اشترى متاعاً بدراهم لها صرف معين ثم أراد بيعها تغيّر سعر الصرف، فهل على البائع أن يذكر في بيع المرابحة (الذي يشترط فيه ذكر سعر الشراء) تفصيل السعر بأنه اشترى بكذا درهم وأن مقدار التغير بالصرف كذا فأجابه الإمام (عليه السلام) بلزوم ذلك.

ص: 147


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 3، ح2، 4، 5.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 3، ح2، 4، 5.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 3، ح2، 4، 5.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 24، ح1.

وتقريب الاستدلال: أن الانخفاض لو كان مضموناً فإنه سيدخل في أصل السعر ولا حاجة عندئذٍ لذكر التفصيل، فاشتراطه يعني أنه غير مضمون فلا يكون دخيلاً في سعر الشراء.

(الخامسة) الروايات التي نظرت إلى تضرر المقرض بتأخر ماله من دون انتفاع ومع ذلك فإنها منعت من اشتراط تعويض هذا الضرر كموثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): الرجل يكون له على الرجل المال قرضاً فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منه منفعة فينيله الرجل الشيء بعد الشيء كراهية أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة، أيحل ذلك له؟ قال: لا بأس إذا لم يكن بشرط)(1).

وتقريب الاستدلال بها: أن القول بضمان الانخفاض مبني على كونه خسارة حاقت بالمضمون له وقد وصفناها بأنها خسارة تقديرية. والعرف يعتبر بقاء المال مدة طويلة من دون انتفاع خسارة أيضاً حيث نقلنا كلمة الاقتصاديين (صفحة 118): ((لأن أي سيولة معلقة لا تعتبر مكسباً بل خسارة يومية تسجّل على صاحبها)) والأمر في ميزان الأعمال واضح ولذا ورد في النبوي الشريف: (من استوى يوماه فهو مغبون) والوجدان شاهد على ذلك.فالموثقة المذكورة تمنع من اشتراط أي تعويض لهذه الخسارة التقديرية الشاملة بالإطلاق ووحدة الملاك لكلا النوعين من الخسارة، ونفي الاشتراط يعني نفي الاستحقاق.

(السادسة) الروايات الواردة في المقاصّة ممن جحد حقاً لآخر أو غصب ماله، كصحيحة أبي العباس البقباق عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن شهاباً ماراهُ في رجل ذهبَ له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم قال أبو العباس: فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب

ص: 148


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة أبواب الدين والقرض، باب 19، ح13.

على أبي عبد الله (عليه السلام) فذكر له ذلك، فقال (عليه السلام): أما أنا فأحب أن تأخذ وتحلف)(1).

ومعتبرة أبي بكر الحضرمي قال: (قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال: فقال (عليه السلام): نعم، ولكن لهذا كلام، قلت: وما هو؟ قال (عليه السلام): تقول: اللهم إني لا آخذه (لم آخذه) ظلماً ولا خيانة، وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزدد عليه شيئاً).

وقد قرّب بعض الأعلام المعاصرين (دامت بركاته) الاستدلال بها بالأولوية ((إذ أن الصورة الأولى وهي الصورة الغصبيّة والاعتدائيّة المحرّمة لم يُجِز الشارع إلاّ أخذ مقدار المال المغصوب أو المجحود لا أكثر ، فكيف بصورة القرض الذي حدث برضا المقرِض ولم يكن هناك اعتداء من المقترض، وكذا الأمر في البيع الذي يكون فيه الثمن مؤجلاً، إذن بالأولويّة يكون الحكم هو ردّ مثل المال المقترض أو قيمته وقت القرض))(2).

أقول: لم تتعرض الروايات لحصول تغيّر في قيمة العملة فهي ليست في مقام البيان من هذه الجهة حتى يستدل بها، وإنما هي بصدد بيان أن لصاحب الحق أن يأخذ مقدار حقه مقاصّة فلا يتحقق للرواية إطلاق حتى يتمسك به لتشمل حالة انخفاض القيمة.

نعم يمكن تتميم الاستدلال بها بالإطلاق المقامي الذي قرّبناه في المجموعة الأولى، بل تكون هذه المجموعة من الروايات التي تشكل ذلك الإطلاق المقامي وليست أنها مجموعة مستقلة في الاستدلال.

(السابعة) مجموعة الروايات التي وردت في حكم من كان له على غيره دراهم

ص: 149


1- الرواية وما بعدها في وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 83، ح2، 4.
2- بحوث في الفقه المعاصر للشيخ حسن الجواهري: 1/397.

فسقطت عن المعاملة والرواج بين الناس وهي(1):-

1- معتبرة يونس قال: (كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنه كان لي على رجل دراهم وأن السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى من الدراهم الأولى، ولها اليوم وضيعة، فأي شيء لي عليه، الأولى التي أسقطها السلطان، أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: لك الدراهم الأولى).

2- معتبرة صفوان(2)

قال: (سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت، ولا يباع بها شيء، ألصاحب الدراهم: الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الأولى).

ويقرّب الاستدلال بها من جهة أن الإمام (عليه السلام) لم يحكم بضمان النقصان الحاصل للدراهم بسبب سقوطها عن التداول الذي عبّرت عنه معتبرة يونس بالوضيعة.

بل قد يقال إنها أولى بالدلالة على عدم الضمان في مسألتنا، لأن الإمام (عليه السلام) أجاب بعدم ضمان التغيّر في قيمة العملة حتى مع سقوطها عن الرواج والمعاملة بين الناس.

لكن الإنصاف أن الأولوية ممنوعة لأن قيمة العملات القديمة (الدينار والدرهم) ذاتية بلحاظ ما فيها من الذهب والفضة وتكتسب قيمة إضافية بسكّها عملة رائجة، فسقوطها عن الرواج لا يعني سقوط قيمتها –كالعملة الورقية الاعتبارية- فتبقى قيمة المعدن فيها وإن نقصت باعتبار أن سكها كعملة يعطيها قيمة أكبر لحصول هذه الجهة الزائدة التي يطلبها العقلاء ولذا

ص: 150


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 20، ح 2، 4.
2- في الطبعة الأصلية من الوسائل عن العباس بن صفوان ولا وجود لهذا الاسم في معاجم الرجال والصحيح عن العباس عن صفوان وهو الموجود في التهذيب (ج7، كتاب التجارات، باب 8: بيع الواحد بالاثنين ..، ح 114).

ورد في معتبرة يونس عن الدراهم الجديدة بأنها (أعلى من تلك الدراهم ولها اليوم وضيعة).

لكن الاستدلال بهذه المجموعة يواجه أكثر من مشكلة منها:-

1- وجود معتبرة أخرى ليونس في نفس الباب معارضة لهاتين الروايتين أعطى الإمام (عليه السلام) فيها الحق لصاحب الدراهم بأن يطالب بدراهم مما يُنفق بين الناس، وسنتعرض لهذه الرواية مع معالجة التعارض حين الاستدلال بها على الضمان بإذن الله تعالى، وحينئذٍ فإن أمكن الجمع العرفي فهو وستتوقف صحة الاستدلال على شكله، وإن لم يمكن تعارضت الروايات وتساقطت ولا يصح الاستدلال بها.

2- إن الروايتين إنما يصح الاستدلال بها بناءً على التمسك بإطلاق الحكم باستحقاق صاحب الدراهم دراهمه الأولى من دون جبر للوضيعة التي حصلت فيها، وهذا الإطلاق قد يناقش فيه –ولو على نحو الاحتمال- بأن الإمام (عليه السلام) ليس بصدد البيان من جهة تدارك الوضيعة وعدمها وإنما بصدد بيان أصل الحكم وهو صلاحية الدراهم الأولى لاستيفاء الحق رغم سقوطها عن المعاملة والسكّة. وهذه الوضيعة1- أشير إليها في نفس معتبرة يونس كجابر لعدم رواج العملة بين المسلمين وفي روايات أُخر كما في حسنة جعفر بن عيسى قال: (كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام): ما تقول جُعلتُ فداك في الدراهم التي أعلمُ أنها لا تجوز بين المسلمين إلا بوضيعة)(1)

الحديث. بل قد يستظهر من الرواية أن للدائن دراهمه الأولى مع الوضيعة، لكن الإمام (عليه السلام) لم يذكرها اكتفاءً بما ذكره السائل من التخيير بين الدراهم الأولى مع الوضيعة أو الدراهم التي أجازها السلطان، وفي مثلها يكتفي

ص: 151


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 10، ح8.

العرف بما يشير إلى أحد فردي التخيير ولا يشترط ذكره كله. فكأنه (عليه السلام) قال: لك الدراهم الأولى مع ما ذكرتَه من الوضيعة.

وفي ضوء هذا فعَدُّ هذه المجموعة من ((الروايات الخاصة في المقام))(1) لا يخلو من مبالغة.

3- وقد يُشكل هنا من جهة أن موضوع الروايتين هو الانخفاض الحاصل بسبب سقوط العملة، ومسألتنا في الانخفاض الحاصل بسبب ظاهرة التضخم وقانون العرض والطلب فتكون المجموعة أجنبية عن محل البحث.

لكن هذا الإشكال مردود لأن موضوع مسألتنا هو الانخفاض بكل أسبابه ومناشئه ولم نستثنِ ما كان بسبب اختلاف تعهّد الجهة المصدرة.

(الثامنة) قال العلم المعاصر المذكور (دام ظله الشريف): ((ثم إنه يمكن أن يستدل أيضاً على عدم ضمان المدين لنقصان قيمة النقد بما دلّ من الروايات على أن الميزان بسعر يوم الوفاء لمن كان له على غيره دنانير أو دراهم ثم يتغيّر السعر قبل المحاسبة))(2)

منها:-

1- صحيحة عبد الملك بن عتبة الهاشمي قال: (سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ مكانها ورِقاً في حوائجه، وهو يوم قبضت سبعة ونصف بدينار، وقد يطلب صاحب المال بعض الورق، وليست بحاضرة فيبتاعها له (من) الصيرفي بهذا السعر ونحوه، ثم يتغير السعر قبل أن يحتسبا حتى صارت الورق اثني عشر بدينار، هل يصلح ذلك له؟ وإنما هي بالسعر الأول حين قبض كانت سبعة ونصف

ص: 152


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/1191.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/194.

بدينار؟ قال: إذا دفع إليه الورق بقدر الدنانير فلا يضره كيف كان الصُروف فلا بأس)(1)، ومثلها موثقة إبراهيم بن عبد الحميد في نفس الباب.

2- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عليه المال فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدنانير أيُ السعرين أحسبُ له الذي كان يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي (يوم أحاسبه) الذي أحاسبه؟ فقال: سعر يوم أعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه).

3- موثقته الأخرى قال: (قلت: لأبي إبراهيم (عليه السلام): الرجل يكون له على الرجل الدنانير فيأخذ منه دراهم، ثم يتغير السعر، قال: فهي له على السعر الذي أخذها يومئذٍ، وإن أخذ دنانير، وليس له دراهم عنده فدنانيره عليه يأخذها برؤوسها متى شاء).

4- خبر يوسف بن أيوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في الرجل يكون له على رجل دراهم فيعطيه دنانير، ولا يصارفه الدنانير بزيادة أو نقصان، قال له: سعر يوم أعطاه).

أقول: يظهر لأول وهلة أن هذه المجموعة من الروايات لا تصلح للاستدلال بها في المقام لأنها تفترض أن المبادلة في الذمة قد حصلت بين الدراهم والدنانير في وقتٍ ما بعد اشتغال الذمة وقبل المحاسبة وبسعر الصرف في ذلك الوقت وسُلِّم العوض فبرأت ذمة المدين، غاية ما في الأمر أنهما لم يتحاسبا ليعرفا إن كانا استوفيا كل الدين أم لا فتغيّر السعر بعد المبادلة والمعاوضة، ومن الطبيعي أن لا يكون هذا التغير مضموناً لأنه حصل في ملك الدائن بعد الانتهاء من المعاملة فلا أثر له فيها.

نعم لو تضمنت الرواية ما يدل على أن صاحب الحق –أي المضمون له- قد أخذ الدراهم لا على نحو الوفاء بالمبادلة والمعاوضة على ما في الذمة، كما لو

ص: 153


1- الروايات تجدها في وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 9، ح1، 2، 3، 5.

اقترضها من الضامن، حتى تغيّرت قيمة العملة كانت دليلاً مفيداً في المقام لكن هذا لا يظهر من الروايات. بل إنها تصرّح بأن الدراهم أخذت على نحو المعاوضة، كما في صحيحة عبد الملك (فيأخذ مكانها ورقاً) ونحوها في الروايات الأخرى.

لكن يمكن الاستدلال بذيل موثقة إسحاق (رقم 3) لقوله (عليه السلام): (وإن أخذ دنانير وليس له دراهم عنده فدنانيره عليه يأخذها برؤوسها متى شاء) أي كما هي من دون إضافة ما يضمن انخفاض القيمة مطلقاً.

وقد قرَّب العلم المعاصر المذكور (دام ظله الشريف) الاستدلال بها من حيث ((أنها جعلت الميزان والضابطة فيمن أراد وفاء ما عليه من الدينار أو الدرهم بالآخر بصرف يوم الدفع والوفاء لا يوم المحاسبة ولا يوم اشتغال ذمة المدين بالدين إذا فرض تغيّر أسعار الصرف بالزيادة والنقيصة، وهذا لازمه أن نقصان قيمة النقدالمشتغل به الذمة لا يكون مضموناً ولا يجب على المدين أن يدفع أكثر من قيمته يوم الوفاء بالنقد الآخر مهما كانت قيمته قبل ذلك)).

أقول: مضافاً إلى عدم كفاية البيان بهذا المقدار فإنه يرد عليه:-

1- تصرّح الروايات بأن التغير في القيمة قد حصل بعد الوفاء وليس قبله كما قال (دام ظله)، ولم تتعرض الروايات لتغيّر حصل بين يوم الضمان أي اشتغال الذمة ويوم الوفاء بالدين، بل يمكن استفادة عدم التغير من صحيحة عبد الملك إذا فسّرنا (يوم قبضت) بيوم اشتغال الذمة لا يوم الوفاء باعتبار أنه عبر عن يوم الوفاء بعد ذلك بقوله: (وقد يطلب) ويبتاعها من الصيرفي بنفس السعر.

2- إن موضوع صحيحة عبد الملك زيادة قيمة العملة وليس انخفاضها إذ أن حقه كان بالدينار وقد زاد سعر الصرف من (7.5) درهم إلى (12) درهم لكل دينار، وهو ما تصرح به موثقة إبراهيم بن عبد الحميد وفيها (ثم يجيء يحاسبه وقد ارتفع سعر الدنانير) فهذا خروج عن فرض المسألة الذي هو فرض انخفاض العملة، وإن قال بعدم الفرق كان نقضاً على القول بالضمان كما سيأتي بإذن الله تعالى.

ص: 154

3- إن توجيه نظره الشريف إلى قيمة الدين بدلاً من الدين نفسه يجعل الروايات دليلاً على القول بالضمان بتقريب أنه أقرضه دنانير سعر صرفها (7.5) دينار ثم بلغ صرفها (12) دينار فألزمه الإمام (عليه السلام) بسعر يوم الوفاء وهو يعني ضمان الزيادة في قيمة العملة.

وقد تمم (دام ظله الشريف) استدلاله بهذه الروايات من خلال إشكال أورده على نفسه وأجابه فقال: ((إن الروايات وإن كانت ناظرة إلى صرف الدينار بالدرهم وبالعكس إلا أنه بعد أن كان حكم صرف احدهما بالآخر وبأي سعر يتفق عليه الطرفان واضحاً في نفسه وليس مورد السؤال في هذه الروايات، فلا محالة يكون جهة السؤال فيها عن وفاء ما عليه من الدرهم أو الدينار بالآخر من غير مصارفة ومحاسبة على أساس أن يكون ذلك بسعره الواقعي، وحيث أن سعره الواقعي يتغير ويختلف بحسب عمود الزمان بالزيادة والنقصان فيسأل السائل عن المعيار الذي يمكن أن يكون عليه سعر المصارفة في المحاسبة، والإمام (عليه السلام) قد أجاب بأن له سعر يوم الوفاء وأنه لا يضره كيف كان الصروف. وهذا معناه إعطاء ضابطة كلية هي: أنه إذا أراد أن يستوفي دينه بالمصارفة فليس له إلا سعر يوم الدفع والوفاء; لأن الوفاء يتحقق فيه، وكون مورد السؤال في بعض الروايات في فرض تغير سعر الصرف بعد زمان الوفاء لا يجعل الضابطة الكلية المذكورة مخصوصة به دون فرض تغير السعر قبل زمان الصرف، فإن هذا خلاف النكتة الكلية المستفادة من هذه الروايات، وهي تحقق الوفاء بالدفع والعطاء ووصول المال إلى الدائن فيكون الميزان بسعر الصرف حينه، وهذا لا فرق فيه بين تغير سعر الصروف بعد الوفاء أو قبله. بل وهذا خلاف إطلاق صحيحة الحلبي المتقدمة (في الرجل يكون له الدين دراهم معلومة إلى أجل وليس عند الذي حل عليه دراهم، فقال له: خذ مني دنانير بصرف اليوم، قال (عليه السلام): لا بأس به) وأمثالها من الروايات))(1).

ص: 155


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/195-196.

أقول: إن هذه الضابطة صحيحة وخلاصتها أن المدين إذا أراد أن يوفي ما في ذمته بعملة أخرى فعليه أن يصارف بسعر يوم الوفاء مهما اختلفت أسعار الصرف، وهي تطبيق لضابطة أوسع حاصلها جواز المعاوضة عما في الذمة بعملة أخرى بسعر صرف يوم المعاوضة سواء وفى أو لم يفِ، وسواء تحاسبا أو لم يتحاسبا.

ولكي يتم الاستدلال يتمسك بإطلاقها لشمول حالة التغير بين يوم الضمان ويوم الوفاء التي لم تذكرها الرواية، وهذه القضية لا تثبت المطلوب وهو عدم ضمان الانخفاض أي ثبات مقدار الحق نفسه إلى حين المصارفة، إذ للخصم أن يقول: إننا نسلّم هذه الضابطة لكننا نقول يجب ضمان انخفاض القيمة بين يوم الضمان ويوم الوفاء ثم مساعرة الصرف يوم الوفاء، وبعبارة أخرى: إن (الدنانير) في قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الملك: (إذا دفع إليه الورق بقدر الدنانير) لا يُعلم هل هي بمقدار المبلغ المسمى أم المبلغ بعد ضمان التغيّر غير صريحة بالمطلوب.

ومنه يعلم ما في قوله بعد ذلك: ((فالحاصل: لا ينبغي الإشكال في دلالة هذه الروايات على فتوى المشهور من أن النقد الذي تشتغل به ذمة المدين لو أراد الوفاء به بما يعادله من النقد الآخر فليس للدائن إلا سعر يوم الوفاء، وهذا لازمه أن النقد المذكور لو ارتفعت قيمته فلا بد للمدين أن يدفعه بالقيمة المرتفعة عند الوفاء، ولكن لو نقصت قيمته فلا يجب عليه إلا سعر يوم الوفاء فلا يكون نقصان القيمة مضموناً حتى في النقد))(1).

والنتيجة: أن الروايات مسوقة لبيان أنه إذا تمت المعاوضة على العملة التي في الذمة بعملة أخرى وكانت أسعار الصرف متفاوتة فالملاحظ هو زمن المعاوضة الأعم سواء تحقق الوفاء فيه أم لا، ولا يلاحظ سعر الصرف في يوم الضمان ولا يوم المحاسبة.

نعم يمكن تتميم الاستدلال بنفس هذا التقريب على عدم ضمان

ص: 156


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/196.

الانخفاض بأن يقال: إنه على القول بالضمان لا يبقى معنى لجعل هذه الضابطة لأن السعر سيكون واحداً وهو سعر يوم اشتغال الذمة باعتبار ضمان التغير ومعالجته فهو نفسه سعر يوم الوفاء ويوم المحاسبة فإذا اقترض عشرة دنانير بسعر اثني عشر درهماً للدينار ثم أصبح سعر الدينار عشرة دراهم، فإذا قلنا بالضمان فعليه أن يدفع اثني عشر ديناراً لمعالجة الانخفاض وبذلك تكون قيمة القرض يوم الوفاء مساوية لقيمته يوم اشتغال الذمة ولا يبقى معنى لجعل الضابطة المذكورة.

هذا وقد استشكل (دام ظله الشريف) من جهة أخرى فقال: ((إن الروايات المذكورة كلها واردة في النقد الحقيقي أي الدرهم والدينار، وقد ذكرنا فيما سبق بأنهما كالسلع والأموال الحقيقية الأخرى لها مالية ذاتية قائمة بخصوصيتهما الجنسية بل والنقدية الخاصة بحيث تكون هذه الخصوصية ملحوظة عرفاً ومأخوذةتحت الضمان، فلا يمكن أن يستفاد منها حكم النقد الاعتباري المتمحض ماليته في الجنبة النقدية الاعتبارية))(1).

أقول: هذه الخصوصية –أعني المالية الذاتية والاعتبارية- غير مؤثرة فيما نحن فيه لأن موضوع الضمان هو المال وليس المالية، وكلٌ من النقدين مالٌ ويلاحظ على هذا الأساس وليس على أساس المالية، وكلٌ منهما يعاني من ظاهرة التضخم وانخفاض القوة الشرائية للعملة. فيمكن تعميم الحكم ولا يوجد مانع من هذه الناحية.

وبتعبير آخر: إن للنقدين الحقيقيين (الدينار والدرهم) جنبتين تصنعان قيمته، الأولى: مادته أي الذهب والفضة، والثانية: اعتبار السلطة لهما بسكهما عملة ونفوذهما في المعاملات، وإنما تفترق النقود الحقيقية عن النقود الاعتبارية اليوم في الجنبة الأولى لا الثانية، ومورد الروايات المتقدمة هي الجنبة الثانية التي تشترك فيها النقود القديمة والمعاصرة لأن التغير في القيمة حصل من جهة إسقاط السلطة لاعتبارها.

ص: 157


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/196.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((بل لا يمكن أن يستفاد منها عدم ضمان نقصان قيمة الدرهم والدينار أي النقد الحقيقي إذا لوحظ في مقام دفعه جنبة النقدية وقوته الشرائية محضاً بأن أقرضه مثلاً ألف درهم على أن يوفيه قيمته اليوم بالقياس إلى الدينار أو السلع الأخرى عند الوفاء بدرهم يوم الوفاء كما في قرض القيمي، فإن هذا لا يمكن استفادة عدم صحته من الروايات المذكورة; لأن هذا النحو من التعامل القيمي لم يكن متعارفاً مع الدرهم والدينار ليتشكل إطلاق في الروايات المذكورة لنفي جوازه))(1).

أقول: اشتراطه الوفاء بالقوة الشرائية بقوله: ((أقرضه ألف درهم على أن يوفيه قيمته اليوم بالقياس إلى الدينار أو السلع الأخرى)) إلخ: خروج عن فرض المسألة الذي هو في مقتضى القاعدة لا ما تقتضيه الشروط، مع أن صحة مثل هذا الشرط محل إشكال للزوم الربا، إلا أن يعوّض عما في الذمة من الدراهم بالدنانير عن تراضٍ، أو تؤخذ الدراهم في العقد على نحو الآلية إلى الدنانير وليس على نحو الاستقلالية، وتكون الدنانير هي الثمن وإنما أعطيت الدراهم تعبيراً عنها. وهذا تعامل غير متعارف في كلا النقدين، ولو وقع فإنه خارج أيضاً عن مفروض المسألة وهو انخفاض قيمة العملة التي اشتغلت بها الذمة.

تنبيه: توجد مشكلة تواجه الاستدلال بجملة من الروايات في المجموعات المتقدمة ولا تختص بالأخيرة حاصلها أنها أخصّ من المدعى من جهة عدم شمولها لموارد اليد العدوانية فإنها تعرضت لتغيّر القيمة الحاصل بسبب قرار السلطة أو اختلال قانون العرض والطلب ولا إطلاق لها لتشمل حالة مماطلة المدين أو الغصب أو السرقة.

ص: 158


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/196-197.

(القول الثاني) الضمان مطلقاً

اشارة

ونريد بالإطلاق في العنوان مقابل بعض التفصيلات الآتية، وليس ضمان كل انخفاض في القوة الشرائية للعملة حتى لو كان يسيراً فإنه مما يتسامح به العرف وإنما يقول القائل بضمان الانخفاض إذا كان فاحشاً –على حسب تعبيرهم- يعتد به العرف.

قال أحد الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف): ((لا يمكن الاجتزاء بالمقدار المدفوع من الأوراق النقدية عند تغيّر ماليتها تغيراً معتداً به عند العرف، ولا أقل في ذلك من مراعاة جانب الاحتياط بالمصالحة بين الدائن والمدين))(1).

وقبل الدخول في بحث أدلة القائلين بالضمان نورد عدداً من الإشكالات والنقوض عليه، منها:-

1- إن الالتزام بضمان الانخفاض في قيمة العملة يلزم منه أن يأخذ المضمون له أقل من مقدارها عند ارتفاع قيمة العملة الذي قد يحصل أحياناً لوحدة الملاك وهو الضرر أو الجمع بين الحقين أو قاعدة العدل والإنصاف، أو من كان له الغنم فعليه الغرم وقد اعترف بعضهم بهذا اللازم بما نقلناه عنه (صفحة 157) ونحوها، فلو أقرضَ مبلغاً إلى أجل فارتفعت قيمة العملة فإنه يستوفي مقداراً يقلّ عن الأصل بمقدار الارتفاع، وكذا مهر الزوجة ونحوها، وهذا لا يقول به المستدل أكيداً.

2- إنّ تغير القيمة كما يحصل للعملات كذلك يحصل للسلع والأجور على الأعمال فهل يضمن انخفاض قيمة الأعيان في بيع السلم أو الإتلاف ونحوها لوحدة الملاك فيهما؟ مثلاً لو أسلمه مائة دينار في كتاب يسلمه بعد أجل وحين حلول الأجل نقص سعر الكتاب فهل يقول فقيه بضمان انخفاض قيمة الكتاب وتسليم الفرق مع الكتاب؟ وإذا ارتفع سعر

ص: 159


1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: مصدر سابق، صفحة 75.

الكتاب فهل يلزم مشتريه بالآجل أن يدفع مبلغاً إضافياً؟ هذا مما لا يقول به أحد وتنفيه المجموعة الثانية من الروايات التي تقدمت (صفحة 144).

3- لزوم الربا في القرض إذا اشترط ضمّ زيادة للمثل المضمون لتعويض انخفاض القيمة الشرائية وهو منهي عنه، وقد ذكرنا في المجموعة الأولى (صفحة 143) والمجموعة الرابعة (صفحة 146) بعضاً من روايات النهي، وسيأتي بإذن الله تعالى معالجة البعض لإشكال الربا وجوابه.

4- إن سيرة العقلاء التي هي الأصل في المعاملات لم تجرِ على ضمان هذا الانخفاض لو حصل، ولا الحكومات التي تعمل على تنظيم شؤونهم تلتزم بذلك في تعاملاتها مع مواطنيها والحكومات الأخرى، وقد نقل أن بريطانيا لما خرجت مثقلة بالديون بعد الحرب العالمية الثانية قلّلت قيمة عملتها إلى النصف فتخلصت من نصف ديونها، لذا عمدت الدول لاحقاً إلى تثبيت ديونها بعملة مستقرة أو بالنفط.

5- النقض عليهم بما لو كانت عين الأوراق المضمونة باقية بنفسها كما لو غصب أو سرق مالاً أو اقترضه وأراد أن يرده بنفسه فإنه لا يقول فقيه بإعادته مع مقدار انخفاض القوة الشرائية، فلا يتغير الأمر لو تصرّف بتلك الورقة ووفى بمثلها في الفئة والإصدار.

6- على القول بالضمان يلزم أن تثبّت القوة الشرائية لكل ورقة نقدية يجري التعامل بها لنقارنها مع قيمة يوم الأداء حتى نضمن النقص؛ لأن الأسعار تتغير باستمرار فهذا التسجيل يحدد انخفاض كل عملة. فالمائة دينار التي أقرضها في اليوم الأول يضمّ لها كذا مقدار، والمائة دينار التي سُرقت منه في اليوم الآخر يضمّ لها كذا انخفاض وهكذا. وهو كما ترى.

7- لزوم الفوضى في حياة الناس وعدم ثبات الحقوق إذ أن استحقاقات الناس في ذمم بعضهم تتغير صعوداً ونزولاً بتغير القيمة الشرائية للعملات التي لا استقرار لها، فلا يعرف أحد ما يملك.

8- ما هو المقياس الذي يرجع إليه في تحديد مقدار الانخفاض فإن قيمة العملات متغيرة بالنسبة لبعضها وبالنسبة للذهب وهذا واضح لمن يتابع

ص: 160

الأسواق المالية في العالم، فهل المرجع عملة معينة كالدولار –كما في بعض الدول- أم سلة من العملات كالدولار والباون واليورو- كما في دول أخرى- أم الذهب الذي علمنا انفكاك العملات عنه، وأسعارُها بلحاظه غير ثابتة؟

قال بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف): ((نعم تبقى مشكلة كيفية محاسبة القوة الشرائية للنقد من تلك الناحية، ولعل أفضل طريقة أن يقاس بالنسبة للعملات الأخرى الثابتة ماليتها أو الأجناس الثابتة في ماليتها نوعاً وعادة كالذهب والفضة أو بالقياس إلى متوسط سعر السعر في السوق في كل فترة من الزمن))(1).

أقول: هذا المقياس مضافاً إلى عدم استقراره، وعدم الاتفاق عليه كما أوضحنا، فإنه غير عرفي ولا يكاد يفهمه الخبراء في الاقتصاد فضلاً عن غيرهم، مع أن المعاملات والحقوق والالتزامات أمور عرفية فلا يمكن بناؤها على مثل هذا المقياس، ونحن نرى العرف يقيّم عملته غالباً بلحاظ حاجاته الأساسية كالطعام واللباس والنقل والسكن التي لا يكون تأثرها بالتضخم مباشرة بل يكون تدريجياً.

فلو أجرينا مقارنة للسنوات العشر الأخيرة لظاهرة التضخم في العراق فإن الدولار قد انخفض كثيراً بلحاظ الذهب الذي انخفض كثيراً بلحاظ العقار، لكن الدينار ارتفع بلحاظ الدولار، أما أسعار المنتجات الزراعية التي تشكل الغذاء اليومي للإنسان فتكاد تكون مستقرة.

9- إن العرف يعتبر عملته النقدية أساساً لتقييم العملات الأخرى والسلع وسائر الممتلكات لذا يقول إن قيمة الدولار قد صعدت أو نزلت وكذا الذهب أو غيرهما ولا يقول عن الدينار أنه صعد أو نزل إلا بلحاظ كونه لازماً متناسباً عكسياً مع ذلك التغيير، وهذا الفهم العرفي مستند إلى كون الغرض من اتخاذ الإنسان للعملات سواء القديمة أو المعاصرة هو لتقييم

ص: 161


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/179.

الأشياء وليكون وسيطاً في المعاملات، وفي ضوء هذا فإن مسألة انخفاض قيمة العملة تكون بلا موضوع.

وعلى أي حال فإنه يتحصل من كلام أحد الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) عدة وجوه للاستدلال على الضمان:

(الأول) الخبر النبوي الشريف (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)(1)

بتقريب ((إنا نأخذ الأحكام من الشرع والموضوعات من العرف –خلا الموضوعات التي لها حقائق شرعية- فإذا قال الشارع الأقدس: أدوا ديونكم، أو قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) يكون المعيار في تحقق الأداء وعدمه هو العرف؛ لأن وجوب الأداء حكم شرعي بينما نفس الأداء موضوع للحكم يؤخذ ممن ألقي إليه الحكم، ومن الواضح عدم تحقق الأداء بالأوراق الفعلية في نظر العرف، فلم يكن المؤدي ممتثلاً أمر الشارع بوجوب أداء الدين))(2).

وفيه بعد الإغماض عن المناقشة في السند لأن الخبر مرسل ورواه العامة بحيث عُدّ لا سند له وقال بعض الأساطين (قدس الله أرواحهم) –كالشيخ الأنصاري (قدس سره)- بانجباره(3):-

1- إنه ناظر إلى حالة بقاء العين فيؤديها بنفسها خصوصاً على نقل الشيخ أبي الفتوح في تفسيره وفيه (حتى تؤديه) كما نقل صاحب المستدرك. ولا ظهور له في موارد مسألتنا.

2- إن معنى الأداء قد حدد بما تسالموا عليه من رد مثل التالف إن كان مثلياً والأوراق النقدية من المثليات وقرّبنا بعض الروايات الدالة على ذلك، فلا حاجة إلى الرجوع إلى العرف لتفسيره.

3- إن دعوى وضوح عدم تحقق الأداء بالأوراق الفعلية في نظر العرف أول الكلام ومحل النزاع، ولو تنزلنا فإنه مدركي مبني على توهم الضرر بأداء

ص: 162


1- مستدرك الوسائل، ج14، كتاب الوديعة، باب 1، ح12 عن عوالي اللئالي.
2- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، مصدر سابق، صفحة 74-75.
3- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 16/189.

نفس المقدار من الأوراق ونحوه، ويزول هذا الحكم عند المناقشة في مدركه.

(الثاني) ((إن الدفع بالأوراق الفعلية مخالف لأصل العدل، فإنه ليس من العدل دفع الأوراق الفعلية عوضاً عنها قبل أربعين سنة، نعم لو كان التفاوت بينها يسيراً يحكمبكفايته في براءة الذمة، لجريان سيرة العقلاء على عدم الاعتناء باليسير بخلاف المال الخطير))(1).

وفيه:-

1- إنه مصادرة على المطلوب، لأن كون ضمان انخفاض القيمة السوقية للعملة من العدل وعدم القيام به من الظلم هو أول الكلام، وقد يكون ضمان الانخفاض ظلماً على الضامن إذا كان الحكم هو عدم الضمان كما اختار المشهور.

2- إن الظلم لو سلمناه فإنه تقديري فلا يكون مضموناً لاشتراط الفعلية في موضوعات الأحكام، وتقريب ذلك أن الظلم يتحقق على تقدير تحريك صاحب المال لماله لو كان عنده، والربح في عمله، وهو غير أكيد إذ لعله حرّك المال وخسره فيكون رد المثل له إحساناً إليه وحماية لماله من الخسارة، أو لعله ادخره فلا يتغير عليه الحال.

3- إن هذا الوجه لو تم فإنه جارٍ في السلع والأجور على الأعمال ولا قائل بضمان التغير في قيمتها كما قدمنا بل قد نفته الروايات.

(الثالث) ((الاستدلال بقاعدة (لا ضرر) )) بتقريب أن الانخفاض في القوة الشرائية هو نقص في المالية التي هي قوام النقد فيتحقق بذلك الضرر على المستحق.

وفيه:-

ص: 163


1- أشار السيد الهاشمي إلى هذا الوجه في المحاولة الثامنة (قراءات فقهية معاصرة: 2/186).

1- إن مما استدللنا به على عدم الضمان قاعدة الإقدام وهي حاكمة هنا على قاعدة لا ضرر، لأنه مسلط على ماله وقد أقدم بنفسه على الضرر –لو سلمناه- فلا ضمان له، كما لو أقدم على بيع غبني لمصلحة ما دينية –كمساعدة البائع والإحسان إليه- أو دنيوية –كما لو دفع بجزء منفرد من درة كتاب أكثر مما يستحق لإتمام دورة الكتاب عنده- فإنه لا خيار له بسبب الغبن.

إن قلتَ: إن المضمون له لا يعلم بحصول الانخفاض فلا يتحقق الإقدام، ولو علم لتحرز منه.

قلت: الإقدام غير مشروط بالعلم فيكفي في سقوط الضمان إقدامه على ظن الضرر أو احتماله على الأقل وهو موجود، بل إن العلم إجمالاً بحصول الانخفاض موجوداً أيضاً.

2- إن الضرر تقديري فلا يكون مضموناً وتقريبه كالذي ذكرناه في جواب الوجه الثاني.

3- النقض عليه بتحقق هذا المعنى في السلع والخدمات ولا قائل بالضمان فيها وجريان القاعدة في كل هذه الموارد واحد.

4- النقض أيضاً بموارد يتحقق فيها الضرر بالمعنى الذي ذكروه ولم يحكم الشارع المقدس بالضمان كتفويت منافع الحر بينما ضمن منافع العبد لأنه مالٌ.

5- إن مفاد قاعدة لا ضرر هو نفي الأحكام الضررية، والنهي عن التصرفات الضررية، ولا تثبت الضمان الذي يثبت بأدلته في مواردها وغيرها. كما في القوانين الوضعية فإنها تَعتبر فعلاً ما –كعدم التوقف عند إشارات المرور الحمراء- مخالفة، أما العقوبة فتؤخذ من قانون العقوبات للمخالفات المرورية.

فقاعدة لا ضرر تثبت أن هذا الفعل الضرري غير مشروع وأنه منهي عنه، أما تعلق الضمان فيعرف من أدلته.

ص: 164

وقرّب بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) الاستدلال على ضمان نقص مالية النقود الاعتبارية بملاك الضرر بقوله: ((إن العرف في باب الأجناس والسلع الحقيقية لا يرى صدق الضرر إذا ما أرجع له نفس الجنس الذي أخذه منه فمن يرجع منا من الحنطة لمن أخذه منه لا يصدق في حقه أنه أضرّه وانقص ماله إذا تغيرت قيمته زمان الأداء عن زمان الأخذ; لأن ماليته متقومة بمنفعته الاستعمالية الحقيقية الثابتة فيه بالتمام كما كانت في المأخوذ منه، إلا إذا فكرنا بعقلية وذهنية تجارية خاصة ليست ميزاناً في صدق عنوان الضرر في الأدلة.

وأما في باب النقد فحيث أن قوامه وحقيقته بقيمته التبادلية السوقية حيث لا منفعة أخرى فيه فيصدق الإضرار عرفاً بمجرد نقص ماليته في زمان الأداء عن زمان الأخذ))(1).

أقول: لا وجه لهذا التفصيل نقضاً وحلاً، أما نقضاً فلأن العرف يرى الانخفاض في قيمة الأعيان خسارة وضرراً أيضاً، فإذا اشترى عقاراً بمليون دينار ثم نزل سعره إلى نصف مليون فإنه يراها خسارة وضرراً لكنه غير مضمون، وسيأتي في تطبيقات البحث على مسألة وجوب الخمس في زيادة القيمة اعترافه بذلك. فالأمر سيان في الأعيان والعملات.

وأما حلاً فلأن المعروف لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) أن موضوع الضمان هو (المال) وليس (المالية) وقد التزم (دام ظله) بذلك فيما نقلناه عنه (صفحة 140).

ثم قال (دام ظله الشريف): ((نعم، قد يقال: بأن هذا الوجه لا يجري في موارد العقود التي أقدم فيها الشخص بنفسه على جعل مقدار معين من ذلك النقد الاعتباري إلى أجل معين في ذمة الضامن بدلاً عن ماله، فإنه إذا نزلت قيمته مع فرض عدم التخلف من قِبل الضامن في الأداء لم يكن ضامناً; لأنه ضرر قد أقدم عليه المالك بنفسه، فيثبت ضمان نقصان المالية في غير هذه الحالة

ص: 165


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/187.

كما في حالة التلف والإتلاف – ضمان الغرامة - أو الغصب أو التأخير عن الأداء، فيضمن النقصان الحاصل في زمان التأخير لا أكثر; لكونه إضراراً منه على المالك))(1).

أقول:-

1- هذا التفصيل صحيح بلحاظ قاعدة الإقدام إلا أننا قد أجبنا على هذا الوجه بعدة ردود غير القاعدة.

2- ينبغي له (دام ظله الشريف) أن يستذكر هذا التفصيل عندما يختار قوله.(الرابع) ((وإن أبيت عن جميع ذلك فنقول: لا أقل من الشك في تحقق الأداء في المثال المذكور، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية الموجبة للاحتياط بدفع ما يعادل مالية النقود قبل أربعين سنة)).

وفيه:-

1- إنه لا مسوغ للاستدلال بالأصول بعد تمامية أدلة عديدة على الاجتزاء بأداء المثل وعدم ضمان انخفاض القيمة.

2- لو تنزلنا وافترضنا حصول الشك فإن الأصل الجاري في المقام هي البراءة من وجوب دفع الزائد عن المقدار الذي اشتغلت به الذمة؛ لأنه المقدار المتيقن من اشتغال الذمة. وبتقريب آخر: إن المورد صغرى لمسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين فيجب أداء القدر المتيقن ويُنفى الزائد بأصالة البراءة. وتكون هذه القاعدة واردة على موضوع قاعدة الاشتغال التي استدل بها.

وجوه أخرى لبعض الأعلام المعاصرين:

أورد بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) وجوهاً أخرى للاستدلال على القول بالضمان، وجعلها على مستويين في فصلين:

(الأول) فيما تقتضيه القاعدة الأولية.

ص: 166


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/187-188، تحت عنوان: (المحاولة التاسعة).

(الثاني) فيما يستفاد من بعض الروايات الخاصة.

وفي الفصل الأول عرض وجوهاً سماها ((محاولات لتخريج ضمان نقصان القيمة السوقية للنقود الحاصل من التضخم، وقد يكون بعضها أوسع من باب النقود))(1)

بلغت اثنتي عشرة محاولة، ويلاحظ على منهجه (دام ظله) في البحث:-

1- إن بعض المحاولات التي ذكرها لا تنتج القول بالضمان كما عنونها وإنما القول بالتفصيل أو بحق الفسخ كما سنبين بإذن الله فكان عليه الفرز، اللهم إلا أن يجمعها بعنوان الضمان في الجملة مقابل القول الأول وهو عدم الضمان مطلقاً.

2- لم يكن دقيقاً إطلاق العنوان، فكان ينبغي له التفصيل في الوجوه بمقتضى عدة عناصر مؤثرة منها:

أ- أسباب الضمان –أي اشتغال الذمة- فهل هو ناشئ من الالتزامات العقدية كالبيع بالآجل والقرض أو من الغرامات بسبب التلف كالمقبوض بالعقد الفاسد أو بالإتلاف باليد العدوانية.

ب- مناشئ التغير بالقيمة فهل أن الانخفاض بسبب قرار من الجهة المصدرة أم بسبب قانون العرض والطلب او بسبب أحداث مفاجئة كالحرب والحصار.

ج-- التفصيل بين حالي وجود المضمون وتلفه، فهل يضمن الانخفاض حتى مع وجود العين فتُسلَّم مع جبر النقصان أم أن الضمان خاص بحال التلف؟

د- هل ضمان الانخفاض مختص بالعملة أم يشمل سائر السلع وأجور العمل، لأنهما متناسبان عكساً فإذا انخفضت قيمة العملة زادت أسعار السلعوأجور الخدمات فإذا كان الحكم بضمان الانخفاض عاماً حتى للسلع فهذا يعني أن العملة إذا قويت قيمتها يؤخذ منه

ص: 167


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/171.

للزيادة في القيمة، وقد قال (دام ظله) أن بعض هذه المحاولات أوسع من باب النقود.

ه-- التفريق بين التأخير المشروع كالثمن المؤجل والقرض إلى أجله والمهر إلى مدته، والتأخير غير المشروع كمماطلة المدين مع القدرة أو الغصب أو السرقة.

و- التفصيل بين لحاظ مقدار العملة على نحو الاستقلالية أي بعنوانه، أو على نحو الآلية أي باعتباره معبراً عن مالية أو مصرف ما كما لو أوصى بإخراج مبلغ سنوي من غلة بستان ما لتزويج خمسة من السادة العلويين أو لكذا زيارة للمعصومين (سلام الله عليهم) أو ختمة قرآن ونحوها، فإن العرف يفهم أن مراده إخراج ما يكفي لتحقيق هذه المصارف خارجاً وليس إخراج نفس المبلغ المعين.

وعلى أي حال فنحن سنجعل فقرات كلامه (دام ظله الشريف) في مواضعها، فبعضها يصلح قولاً مستقلاً، وبعضها يليق به أن يكون إشكالاً على ضمان الأوراق النقدية بالمثل ولزوم ضمانها بالقيمة فيكون من الاستدلال باللازم، وبعضها تصلح وجوهاً لعدم الضمان، فالمحاولتان الثالثة والرابعة ذكرناهما كوجهين لعدم ضمان الأوراق المالية بالمثل، وسنذكر المحاولة السابعة دليلاً على القول بالتفصيل، والحادية عشرة دليلاً على القول بثبوت حق الفسخ، وتقدمت المحاولتان الثامنة والتاسعة، وسنذكر ما أضاف من وجوه أخرى لما تقدم أعلاه محافظين على نفس الترتيب في بحثنا بإذن الله تعالى.

(الخامس) ((إن العقلاء إنما لا يلحظون القيمة السوقية من أوصاف المثل إذا كان الاختلاف ومقدار نقصان القيمة قليلاً أو نادراً، وأما مع كونه فاحشاً خطيراً أو كونه كثير الاتفاق فالعرف يلاحظه من صفات المثل عندئذٍ ويراه مضموناً، ويكون حاله حال ما إذا سقط المثل عن القيمة والمالية رأساً من حيث ضمان قيمته عندئذٍ للمضمون له.

ص: 168

وإن شئت قلت: إن ضمان المثل عند العقلاء في المال المثلي إنما يكون لأجل المضمون له ومزيد حفظ حقه في الخصوصية الجنسية والمثلية لماله زائداً على ماليته، فلا ينبغي أن يكون ذلك على حساب مالية ماله بحيث يخسر مقداراً من ماله بالنتيجة، فإذا كان التفاوت فاحشاً أو كان كثيراً ما يقع ذلك فالعقلاء والعرف لا يكتفون في مثل ذلك بدفع المثل الأقل قيمة مما أخذه منه))(1).

وقد أجاب (دام ظله الشريف) بوجهين:-

1- ما نقلناه عنه (دام ظله) (صفحة 140) في الوجه الرابع من الاستدلال بالقواعد على عدم الضمان وحاصله أن المضمون هو المال وهو مثلي فيضمن بمثله لا المالية فتصبح هذه المحاولة سالبة بانتفاء الموضوع.1- ما نقلناه عنه (صفحة 142) في الجهة الثانية من الوجه السادس وحاصله أنه انخفاض وقع في ملك المضمون له فلا شيء على الضامن.

أقول: يلاحظ على الوجهين:-

أ- إنهما لا يختصان بالجواب على هذا الدليل للقول بالضمان فيصلحان أن يكونا دليلين مستقلين على القول بعدم الضمان وهذا ما فعلناه فذكرناهما هناك.

ب- قصورهما عن استيعاب الجواب عن الإشكال، إذ قد يقال عن الأول: إن حكم ضمان المثلي بالمثل دليله سيرة العقلاء وهو دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو ما لو كان التفاوت في القيمة يسيراً متعارف الحصول، أما إذا كان فاحشاً فإنه خارج عن القدر المتيقن ويرجع العقلاء فيه إلى القيمة وسنزيده بياناً في الوجه المختار بإذن الله تعالى.

وأما الثاني فإنه قاصر عن استيعاب كل مناشئ الانخفاض لاختصاصه بالغرامات دون الالتزامات العقدية التي ذكرناها في الجهة الأولى هناك.

ص: 169


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/171، تحت عنوان: (المحاولة الأولى).

ويمكن أن نضيف إلى ما ذكره (دام ظله الشريف) أكثر من إيراد على هذا الوجه ملتزمين بنفس التسلسل

3- إن هذا البيان لو تمّ فإنه لا يختص بباب النقود الاعتبارية فيشمل النقود الحقيقية ولم يرد نصّ بضمان انخفاض قيمتها مع كونه فاحشاً أحياناً، بل يمكن دعوى جريان هذا البيان في السلع والأجور أي الخدمات إذا حصل فيها نقصان كبير لأن العقلاء يلاحظون المالية في جميع معاملاتهم خصوصاً التجارية، وعلى هذا فيلزم ضمان انخفاضها بناءً على هذا الوجه ولا يوجد قائل به، والمجموعة الثانية من الروايات المتقدمة تنفيه.

4- إن هذا التقريب من الاستدلال باللازم غير الثابت فلا يمكن الاعتماد عليه.

بيانه: إن مؤدى هذا الدليل هو عدم ضمان الأوراق النقدية بالمثل وإنما بالقيمة، ولازمه ضمان الانخفاض في القيمة، وحينئذٍٍ قد يقال إننا إذا سلمنا ضمان العملة بالقيمة، فلا نسلم اللازم لأنه محل خلاف في أن أي القيم تكون مضمونة هل قيمة يوم اشتغال الذمة أو التلف أو الأداء أم أعلى القيم، إذا كانت اليد عدوانية ونحوها من الأقوال.

هذا بغضّ النظر عن ورود جملة من الوجوه التي ذكرناها ضمن الاستدلال على القول بعدم الضمان، كعدم وجود مقياس واضح ومتفق عليه لتحديد قيمة العملة.

(السادس) ((دعوى أن العرف يتعامل مع الأموال المتخذة للتجارة والمبادلة معاملة القيمي أي يلحظون فيها ماليتها وقيمتها السوقية لا خصوصياتها الجنسية، ومن هنا قيل بتعلق الخمس بها قبل بيعها؛ لصدق الربح فيها بنفس ارتفاع قيمتها السوقية فيكون الضمان لقيمتها أيضاً ولو من جهة صيرورة قيمتها السوقية من صفات المثل، والنقود تكون كمال التجارة من حيث كونها متخذة للمبادلة محضاً))(1).

ص: 170


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/172 تحت عنوان: (المحاولة الثانية).

وأجاب (دام ظله) بقوله: ((إن تعلق غرض تجاري أو تبادلي بالمال لا يخرجه عند العرف والعقلاء عن كونه مثلياً أي له المثل بحيث إذا تلف أو ضمنه الغير اشتغلتذمته بما هو مماثل له بحسب النظر النوعي للمال الذي هو الميزان في ضمانه، وإن شئت قلت: إن الخصوصية المذكورة من قبيل الدواعي، ولهذا تختلف من شخص إلى آخر ولا يكون منضبطاً بخلاف الضمان الذي يكون بإزاء نفس المال من حيث هو هو مع قطع النظر عن غرض من بيده المال، فالحاصل: كون من بيده المال ينظر إلى حيثية ماليته فقط لا أثر له على ضمان المال من حيث هو مال))(1).

أقول: يضاف إلى ذلك جملة من الإيرادات:-

1- إننا نسلّم ملاحظة العقلاء مالية المال في معاملاتهم قبل أن يتفقوا على مبلغ معين، إلا أن تلك المعاملات لا تُبتنى على المالية وإنما تجري على المال بما هو أي بمقداره المسمى فتكون المالية من قبيل الداعي ولا دخل لها في ما وقع عليه العقد، والضمان يتعلق بما وقعت عليه المعاملة فلا يلزم من هذا اللحاظ التعامل مع النقد معاملة القيمي.

2- إن العقلاء والجهات المدبرة لشؤونهم قد يلاحظون المالية ويبنون عليها بعض تعاملاتهم كحساب الضرائب الحكومية أو الخمس فهذه الدعوى تصح في مثل هذه الموارد، وليس الضمان منها، وفي ضوء هذا فإن موضوع هذه الدعوى مختلف عن موضوع مسألتنا، فموضوع الدعوى حساب مالية الإنسان وما يمتلكه لذا فإنه يلاحظ فيها قيمته السوقية، ولذا أيضاً يجب الخمس إذا كانت قيمتها مرتفعة لصدق الربح عليها، أما موضوع الضمان فهو المال وليس المالية، فإذا كان المال مثلياً كما في العملات فالضمان يكون بمثله بغض النظر عن المالية.

3- إن قياس الأموال التجارية على النقد غير صحيح لما قلناه في الإشكال التاسع على القول بالضمان من أن العرف يرى العملة ثابتة غير متغيرة

ص: 171


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/172-173، تحت عنوان: (المحاولة الثانية).

وأنها الأساس لتقييم الأشياء الأخرى فهو لا يقول أن قيمة الدينار نزلت وإنما يقول إن قيمة العقارات أو الذهب أو الدولار قد صعدت ونحوها.

4- يأتي على هذا الوجه بعض ما ذكرناه في جواب الوجه السابق ومنها أنه من الاستدلال باللازم.

(السابع) ((إن النقد الحقيقي كالدرهم والدينار مال مثلي فيكون ضمانه مثلياً أيضاً، وأما النقد الاعتباري فهو ليس إلا مجرد سند عما اعتبرته الجهة المصدّرة له وتعهدت به من القيمة المعادلة والرصيد المحفوظ بإزائه عند تلك الجهة والذي يكون من الذهب عادة، فيكون المضمون معادله من الذهب،فلا بد وأن يدفع الضامن نفس ذلك المقدار من الذهب أو ما يعادله من ذلك النقد، فيكون التضخم ونقصان قيمة النقد مضموناً بهذا الاعتبار))(1).

وفيه:-

1- إن هذا إنما يتم في بداية اختراع العملة الورقية حينما كانت تساوي مقداراً من الذهب يودع في البنوك المركزية، وقد تغيّر هذا النظام النقدي اليوم وانفكّت العملة الورقية عن الذهب.

2- إنه في تلك الفترة كان سعر العملة ثابتاً بالنسبة إلى الذهب فلا يتصور موضوع مسألتنا وهو انخفاض قيمة العملة بالنسبة للذهب، نعم يمكن تصور التغير بلحاظ السلع الأخرى.

3- إن الذهب نفسه قد تنخفض قيمته بلحاظ الأشياء الأخرى كالعقارات فخلال السنوات العشر الماضية أصبح العقار الذي اشتري بقيمة (500) غرام من الذهب يباع بقيمة (5000) غرام منه، وحينئذٍ فما هو المعيار في الضمان؟

4- يلزم على هذا أداء أقل من المبلغ المعيَّن إذا صعدت قيمة العملة بصعود غطائها من الذهب، وهو كما ترى.

ص: 172


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/175، تحت عنوان: (المحاولة الخامسة).

(الثامن) ((إن النقد وإن كان مالاً مستقلاً بل ومثلياً أيضاً أي ضمانه بالمثل إلا أن حقيقة النقدية حيث إنها تتمثل في القوة الشرائية والقيمة التبادلية فيكون الداخل في عهدة الضامن تلك القوة الشرائية؛ لأن النقد ليس إلا عبارة عن القوة الشرائية المتجسدة في الخارج فيكون المضمون مماثل تلك القيمة والقوة الشرائية لا محالة))(1).

وقد أجاب العلم المعاصر المذكور بوجهين:

1- ((إن لازمه أن لا يجب على الضامن دفع الزيادة إذا ارتفعت قيمة النقد وقوته الشرائية، لأن الضامن قد ضمن القوة الشرائية المحضة المتجسدة في الورقة لا غير)).

أقول: بغض النظر عما سيأتي من المعالجة لهذا الإشكال فإنه صحيح لأن المستدل لا يلتزم به قطعاً.

2- ((إن القوة الشرائية بهذا المعنى أمر معنوي انتزاعي لا يفهمه العرف ولا يعتبره هو المال الخارجي، وإنما المال الخارجي نفس الورقة النقدية والضامن يضمن مثلها لا محالة؛ لأن قيمتها وماليتها أو قل قوتها الشرائية حيثية تعليلية أجنبية عن صفات المثل كغيرها من المثليات))(2).

أقول: هذا صحيح وإن أشكلنا فيما سبق (هامش صفحة 140) على اعتباره المالية حيثية تعليلية.

3- ما كررناه من أن موضوع الضمان هو المال وهو الذي وقع عليه العقد وليس المالية.

4- إن القيمة الشرائية والتضخم ظاهرة معقدة يعجز عن تشخيصها الخبراء فكيف يمكن بناء معاملات الناس عليها؟ مضافاً إلى لزوم الفوضى في حياة الناس واختلال النظام لما ذكرناه من عدم وجود معيار معروف لتحديد القوة الشرائية.

ص: 173


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/177، تحت عنوان: (المحاولة السادسة).
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/178.

5- إن سيرة العقلاء المتعاملين جرت على عدم لحاظ هذا المعنى عند التعاقد وإنما يلحظون نفس المال والعقود تبع القصود، فكيف يكون مضموناً؟

فائدة: وردت صياغة أخرى لهذا الوجه في كلمات علم معاصر آخر تخلّص فيها من الإشكال الأول أعلاه الذي تكرر في أكثر من مناقشة، ((وخلاصته أنَّ النقد بأقسامه (الذهب والفضة والأوراق النقدية) هي أموال (حقيقة أو اعتباراً) وهذه الأموال مثلية، وتكون قوتها الشرائية من صفات المثل، فلا بدّ من الاحتفاظ بها لدى الأداء، ولذا يجب إرجاع مبلغ أكبر لدى ضعف القوة الشرائية في وقت الأداء بواسطة التورم –أي التضخم)) ((حيث يكيِّف هذا الوجه الزيادة عند شدة التورم فقط، وذلك: لأنّ المستلم للنقد مسؤول عن كميته وعن قوته الشرائية التي فيه معاً ، فإذا انخفضت القوة الشرائية كان عليه إرجاع مقدار أكبر، حفاظاً على القوة الشرائية التي هو مسؤول عنها، وإذا ارتفعت القوة الشرائية كان عليه إرجاع نفس الكمية حفاظاً على الكمية))(1).

أقول: هذه صياغة غير تامة أيضاً:-

1- لأن القوة الشرائية ليست من أوصاف المثل عرفاً ولا تلحظ في المعاملة، نعم إذا سقطت بالكلية فإن العرف يضمن بالقيمة لكن هذا خارج عن فرض المسألة.

2- إن كمية النقد وقيمته متناسبان عكساً كما هو واضح، فالإلزام بهما معاً من الترديد المبطل للعقد؛ لأن مرجع هذا الوجه إلى كون العوض إما كمية النقد أو قوته الشرائية.

3- إن تغير القوة الشرائية أمر غير راجع إلى العين حتى يضمن، وبتعبير آخر: إن القوة الشرائية ليست من الصفات الذاتية حتى تكون دخيلة في مثلية المثل وإنما هي نتيجة عوامل خارجة عنها كرغبة العقلاء وتنافسهم، أو ظروف الدولة المصدرة للعملة ونحوها، فمثلاً المولدات الكهربائية لها

ص: 174


1- بحوث في الفقه المعاصر: 2/211-212.

سعر معين مرتفع اليوم باعتبار أزمة الكهرباء فإذا توفّرت الطاقة الكهربائية انخفضت قيمة المولدة لكنه أمر خارج عن الصفات الذاتية للسلعة كما ذكرنا في مقدمات البحث.

(التاسع) ((دعوى صدق الإتلاف للمال في مورد نقصان قيمة النقد حين الأداء عن زمان الأخذ فيما إذا كان أخذه بدون رضا المالك وإذنه كما في موارد الغصب أو الإتلاف بل والتلف بدون إذنه بل وفي موارد التأخير عن الأداء للدين مع استحقاقه فتنزل قيمته، فإنه في كل ذلك يمكن أن يقال بصدق إتلاف مال الغير في خصوص النقود؛ لكون القيمة والمالية فيها حيثية تقييدية لا تعليلية بخلاف سائر السلع))(1).وفيه:-

1- إن هذه الدعوى غير عرفية ولا يعمل العقلاء بمقتضاها، فلو أن شخصاً استعار شيئاً مع الضمان ككتاب مثلاً ثم نزلت قيمته قبل ردّه فإنه لا يضمن الانخفاض في قيمته عند ردّه.

2- لو تمت فإنه عيب يوجب الفسخ فلا يلزم الضامن بدفع ضمان انخفاض القيمة.

3- على تقدير اعتباره تلفاً فإنه تلف تقديري كما قرّبنا سابقاً وهو غير مضمون.

4- إن المالية معتبرة على نحو الحيثية التقييدية في السلع كما في الأوراق النقدية، فمتى ما فقدت السلعة ماليتها لفقدانها الجهة التي يطلبها العقلاء كالحيوان إذا مات، لذا فإن هذه الدعوى لو تمت فإنها تجري في السلع الأخرى فإخراجها لا وجه له.

5- لو تنزلنا عن كل ذلك فإن الدعوى أخص من المدعى لاختصاصها باليد العدوانية.

ص: 175


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/188، تحت عنوان: (المحاولة العاشرة).

الاستدلال على الضمان بمعتبرة يونس الأخرى وحل التعارض:-

ثم قال (دام ظله الشريف): ((الفصل الثاني: فيما يستفاد من النصوص الخاصة)) وذكر فيه معتبرة يونس قال: (كتبت إلى الرضا (عليه السلام) أن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب إلي: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس)(1).

وقال: ((فقد يستدل بالرواية الأولى على ضمان الأوصاف الانتزاعية غير الحقيقية للمال حيث دلت على ضمان خصوصية نقدية الدرهم ورواجه للإنفاق والتعامل به وأن الدرهم الذي أعطاه إذا سقط عن الرواج والإنفاق كان له على المدين الدرهم الرائج; لأنه أعطاه الرائج فتكون خصوصية الرواج والنقدية تحت الضمان مع أنها خصوصية إضافية انتزاعية ليست حقيقية، كما أن هذا يستلزم عادة نقصان قيمته عن الدرهم الرائج، فتدل الرواية على ضمان القيمة الزائدة التي كانت للدرهم المعطى حين رواجه))(2).

أقول: حاصل التقريب أن الإمام (عليه السلام) حكم بأن لصاحب الحق الدراهم الجديدة وهي تزيد عن قيمة الدراهم الأولى التي اشتغلت بها الذمة بمقدار الوضيعة المذكورة في المعتبرة الأخرى فيكون الإمام (عليه السلام) قد حكم بضمان هذا الانخفاض.

وقد ذكر (دام ظله) وجهين للرد على هذا الاستدلال:-

1- ((إن هذه الرواية معارضة برواية يونس الأخرى الدالة على أنه ليس له إلا الدراهم الأولى)) المتقدمة (صفحة 151) وقد جمع بين الروايات بالوجه الذي ذكره الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي (رضوان الله

ص: 176


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 20، ح1.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/192.

عليهما) –وسيأتي بإذن الله تعالى – ولم يذكر كيف سيؤثر هذا الجمع على الاستدلال بهذه المجموعة سواء على الضمان أو عدمه.

2- ((إن غاية ما تدل عليه هذه الرواية ليونس: أن خصوصية النقدية والرواج تدخل في الضمان، وهذا لا يستلزم ضمان نقصان قيمة الدرهم الرائج; لأن النقدية وإن كانت من الأوصاف الانتزاعية إلا أنها من الحيثيات المهمة التي تجعل الفضة المسكوكة نقداً يتعامل به كثمن في المبادلات والمعاملات بحيث يكون النقد عنواناً مبايناً مع ما لا يكون نقداً من الأموال فتكون هذه الخصوصية من صفات المثل لا محالة عرفاً، وهذا بخلاف نقصان قيمة المال فإنه لا يجعله عرفاً مالاً آخر، ففرق بين زوال نقدية الفضة المسكوكة وبين نقصان قيمته من هذه الناحية; ولعل نكتته ما ذكرناه سابقاً من أن القيمة حيثية(1) تعليلية في المال لا تقييدية. فالرواية الأولى إذن أجنبية عن بحث ضمان نقصان القيمة حتى لو لم يكن لها معارض إلا بضرب من القياس وتنقيح المناط)).

أقول: هذا الجواب صحيح، ويمكن صياغته بتعبير آخر حاصله: أن الانخفاض المذكور في الرواية ناشئ من سقوط العملة السابقة وسك عملة جديدة، ولقيمة العملة جنبتان: إحداهما ذاتية منشأها المعدن المكون لهما، والثانية اعتبارية من جهة سكها عملة، ولكليهما دخل في تحديد المثل الذي يصحّ الوفاء به بحسب حكم العقلاء الذي هو الدليل على ضمان المثلي بالمثل، فسقوط العملة يخرجها عن كونها مثلاً، ومن حق الدائن أن يطلب العملة الرائجة بين الناس، لأن العرف يرى رواج العملة والاعتراف بها رسمياً من أوصاف المثل التي تُضمن فلا يرى غير

ص: 177


1- سيأتي فيما ننقله عنه (صفحة 191-192) التفصيل بين النقد ذي القيمة الذاتية –كالقديمين- فالحيثية تعليلية والنقد ذي القيمة الاعتبارية فالحيثية تقييدية، لكن هذا التفصيل لا وجه له في ضوء ما قربناه (صفحة 140)، أو يريد بالحيثيتين معنى غير المعنى المصطلح.

الرائج مثلاً للرائج، أو قل لا يرى الدرهم في زمن رواجه مثل الدرهم في غير زمن رواجه الذي هو كالسبيكة، فهذا ليس ضماناً للمثل.

فالرواية أجنبية عن موضوع مسألتنا الذي هو نقصان القيمة السوقية مع صدق المثلية.

أما التعارض بين معتبرة يونس هذه –التي هي الأولى في الباب- ومعتبرته الأخرى وصحيحة صفوان المتقدمتين (صفحة 150) فقد ذكرت لعلاجه وجوه عديدة:-

(الأول) ((حمل الأولى على فرض السقوط عن الرواج والنقدية نهائياً، والثانية على مجرد نقصان القيمة والوضيعة مع بقائه نقداً رائجاً حيث لم يصرح فيها إلا بالوضيعة))(1).

وفيه:-

1- إن الروايات الثلاث صريحة بإسقاط السلطان للعملة السابقة وإن اختلفت التعابير وقد عبّرت صحيحة صفوان بالإسقاط كمعتبرة يونس في المقام وعبرت معتبرة يونس السابقة بأنها لا تنفق بين الناس.

2- إن ذكر الوضيعة في إحدى معتبرتي يونس دون الأخرى لا يوجب فرقاً بينهما لأن من المعلوم يومئذٍ أن سقوط العملة رسمياً لا يلغي ماليتها لأنها ذاتية وإنما تنقص وتتمم بالوضيعة وإن لم تذكر، وقد شرحنا هذا (صفحة 151).

(الثاني) ما اختاره الشيخ الصدوق وتبعه الشيخ الطوسي (رضوان الله عليهما)، قال: ((كان شيخنا محمد بن الحسن رضي الله عنه يروي حديثاً في أن له الدراهم التي تجوز بين الناس. قال: والحديثان متفقان غير مختلفين، فمتى كان له عليه دراهم بنقد معروف فليس له إلا ذلك النقد، ومتى كان له عليه دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فإنما له الدراهم التي تجوز بين الناس ونحوه ذكر الشيخ))(2).

ص: 178


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/192.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 10، ح8.

أقول: وبيانه إن الدراهم كان يتعامل معها في المبادلات التجارية تارة كعملة نقدية تُعدُّ عدداً وأخرى كوزن معلوم من الفضة، وقد ورد ذكر النحوين في الروايات كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يُسلِفُ الرجل الدراهم وينقدُها إياه بأرضٍ أخرى والدراهمُ عدداً، قال لا بأس)(1)

وصحيحة إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: ندفع إلى الرجل الدراهم فأشترطُ عليه أن يدفعها بأرض أخرى سوداً بوزنها وأشترط ذلك عليه، قال: لا بأس).

وفي ضوء ذلك فإذا اشتغلت الذمة بدراهم معدودة باعتبارها نقداً معيناً أدّاها بنفس النقد وإن نقصت قيمتها باعتبار أن غير الرائج تقل قيمته عن الرائج وهذا النقصان عبرت عنه معتبرة يونس الثانية بالوضيعة ولا تسقط قيمته بالكلية لأن قيمته ذاتية باعتبارها من الفضة.

وإذا اشتغلت ذمته بوزن الدراهم من الفضة فعليه أداء نفس الوزن ولو من عملة أخرى.

وقد اختاره بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) بعد اعترافه بعدم وجود شاهد عليه، قال: ((وهذا التفصيل الذي ذكره العلمان معقول جداً إلا أنه لا بد من قيام شاهد جمع عليه من الروايات. ولعل ما يمكن أن يكون شاهداً عليه: أن سياق التعبير في رواية يونس الأولى يناسب المعنى الأول أي دفع الدراهم بما هي فضة مسكوكة بسكة التعامل لا بخصوصيته حيث عبر فيها السائل بقوله: (فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق بين الناس) الظاهر في أنه يرى الفرق بين ما أعطاه وبين ما ينفق كالفرق بين الأعيان والمصاديق وبين كل ما ينفق بين الناس، فكأنه إنما كان قد أعطاه ما أعطاه سابقاً بعنوان كونه مما ينفق بين الناس في ذلك اليوم لا لخصوصية في سِكته، وهذا بخلاف التعبير الوارد في الروايتين الأخيرتين فإن ظاهر التعبير فيهماملاحظة كل من الدرهمين بسكته

ص: 179


1- وما بعده تجدهما في التهذيب، ج7، كتاب التجارات، باب 8: بيع الواحد بالاثنين...، ح114.

بالخصوص، ولو فرض أنهما مطلقتان تشملان الصورتين فتخصصان بالرواية الأولى بما إذا كانت خصوصية السكة ملحوظة ومطلوبة للدائن حين التعامل))(1).

أقول:-

1- شاهده لا يصلح للتفريق لأن الروايات جميعاً تحمل هذا المعنى الذي ورد في معتبرة يونس الأولى فقد ورد في معتبرة يونس الأخرى وصفوان: (الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس).

2- إنه لم يذكر وجهاً لحمل التعبير في معتبرة يونس الأخرى وصفوان على ((ملاحظة كل من الدرهمين بسكته بالخصوص))، ولا وجه لتقييد إطلاقهما بمعتبرة يونس الأخرى كما قال لأنهما مثبتان فلا تعارض حتى يحمل المطلق على المقيد، فالإطلاق ينفي التفريق الذي قاله.

3- إن حمل إرادة المتعاملين على هذه الدراهم بالخصوص حتى لو سقطت سكتها أمر غير عرفي، ولا يقصده المتعاملون خصوصاً إذا علموا أن هذا التعيين سيكلفهم النقص الحاصل بسبب سقوط العملة، فهم إذا عينوا نوعاً من الدراهم ففي طول كونها عملة رائجة.

4- يلزم على هذا الوجه تحمّل صاحب الحق نقصاً ووضيعة ليس مسؤولاً عنها، وإنما حصل بسبب إسقاط العملة، وهو ضرر لم يقدم عليه في ضوء ما تقدم.

(الثالث) عدم وجود تعارض بين الروايات، إذ الحكم في المسألة تخيير صاحب الحق بين أخذ الدراهم الأولى التي أسقطها السلطان مع الوضيعة، أو الدراهم

ص: 180


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/193-194.

الجديدة التي تنفق بين الناس، وقد ذكرت كلٌ من معتبرتي يونس أحد فردي التخيير وهي حالة متعارفة أن يجيب بأحد فردي التخيير بحسب ما يراه مناسباً كما في الروايات الواردة في الصلاة بالحرم المكي باعتباره من مواطن التخيير بين القصر والتمام فتارة يجيب الإمام (عليه السلام) بالتمام فقط مراعاة للكمال وأخرى يجيب بالقصر لدفع توهم عدم وجوب القصر في السفر ونحوها من المسوغات.

ولنا على هذا الجمع عدة شواهد:-

1- إنه مقتضى التعامل بالنقدين فإنهما لا يسقطان عن المالية بإسقاط سكتهما لقيمتهما الذاتية فيمكن تداولهما كمعدن مع جبر النقيصة وقد شرحنا ذلك.

2- تعبير الإمام (عليه السلام) بقوله (لك) في كل من المعتبرتين وهي ظاهرة في التخيير بناءً على فهم الحكم التكليفي من الجواب.

3- الظن بوحدة الروايتين، لوحدة الراوي فقد رواهما الشيخ الطوسي (قدس سره) بإسناده عن محمد بن عيسى عن يونس، ووحدة المروي عنه وهو الإمام الرضا (عليه السلام) ووحدة القضية المسؤول عنها ووحدة كيفية السؤال وهي المكاتبة، مما يرجح وحدتهما وأن الرواة تصرفوا بنقل بعض الرواية دون بعض بحسب المناسبة.وفي ضوء هذه المعالجة للروايات فإنه يمكن الاستدلال بها على ضمان النقص في قيمة النقدين بسبب سقوط السكة إلا أنه لا يمكن الاستدلال بها في المقام –أي النقود الورقية- لما ذكرناه من أنها أجنبية.

ص: 181

(القول الثالث) التفصيل

وقد ذكرنا (صفحة 167) عدة لحاظات يمكن التفصيل في الحكم على أساسها، وقد مال بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) إلى التفصيل بين كون الانخفاض حاصلاً بسبب يرجع إلى الجهة المصدرة للعملة فيضمن، وبين كونه ناشئاً من عوامل أخرى كاختلال قانون العرض والطلب فلا يضمن.

فإنه قال: ((وهذا –أي القول بعدم الضمان- وإن كان صحيحاً في الجملة إلا أن الإشكال في إطلاقه))(1) ولم يذكر وجه الإشكال، وإنما عرض ((عدة محاولات لتخريج ضمان نقصان القيمة السوقية للنقود الحاصل من التضخم)) كما لم يبين صريحاً التفصيل الذي يختاره بعد أن طعن في إطلاق القول بعدم الضمان لكنه صرح بالتفصيل أعلاه في بعض كتبه حيث قال مشيراً إلى بحثه هذا ((وقد ذكرنا في بعض أبحاثنا أن المثلية في النقود الاعتبارية عرفاً وعقلائياً تكون بملاحظة القوة الشرائية لذلك النقد لا بمجرد القيمة الاسمية، فلا بد من حفظ ذلك في مقام الوفاء إذا كان انخفاضها ناجماً عن الأسباب المربوطة باعتبارية النقد لا بقوانين العرض والطلب في السوق))(2).

وسنستخرج من كلامه عدة تفصيلات لاحقاً وأول تفصيل له هو ما جعلناه عنواناً للقول الثالث وقد ذكره في المحاولة السابعة، وكان الأولى به (دام ظله الشريف) أن يفرده بعنوان كما فعلنا، وليس صحيحاً أن يجعله ضمن محاولات تخريج القول بالضمان.

وعلى أي حال فقد قال (دام ظله الشريف): ((إن النقود إذا كانت حقيقية كالدرهم والدينار فقد يقال بعدم ضمان نقصان قيمتها; لأن ماليتها بجنسها الحقيقي والذي هو مال مثلي كسائر الأموال المثلية، وأما النقد الاعتباري فحيث أنه لا منفعة ذاتية استهلاكية له أصلاً وإنما منفعته

ص: 182


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/170.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/193.

بجعله للتبادل فتكون هذه الخصوصية أعني قيمته التبادلية وقوته الشرائية ملحوظة عرفاً وعقلائياً كوصف حقيقي، فتكون مضمونة كضمان سائر صفات المثل، بل هذه الحيثية قد تعد قوام النقد وحقيقته بالمقدار المرتبط باعتبار النقد نفسه لا بارتفاع أو انخفاض قيمة السلع الأخرى في السوق بتأثير عوامل العرض والطلب عليها. فإذا تغيرت قيمة النقد من هذه الناحية كما اذا قل اعتبار الدولة المصدرة له وضعفت قوتها الاقتصادية أو نشرت الدولة كميات أكثر منه بلا رصيد حقيقي بإزائه كان هذا التغيير كالتغير في الأوصاف العرضية للمثل كالثلج في الصيف والماء في المفازة مضمونا عرفاً; لأهميته وخطورته وملحوظيته عرفاً في خصوص النقود الاعتبارية فلا يكون أداء معادله الاسمي وفاءً وأداءً للمثل، وإنما مماثله المعادل لنفس القيمة والمالية المعتبرة له سابقاً من نفس الجنس، فيكون هناك ضمان للخصوصية الجنسية وضمان للقيمةوالقوة الشرائية فيه باعتبارهما معاً من أوصاف المثل; ومن هنا أيضاً لا يصح دفع عملة أخرى من جنس آخر، كما أن ارتفاع المالية والقيمة لذلك الجنس من النقد يكون للمضمون له; لأنه ارتفاع لمالية جنس النقد وخصوصيته المضمونة، فلا يجوز للضامن دفع الأقل منهما إذا ارتفعت ماليته، وفي نفس الوقت يكون نقصان القيمة والقوة الشرائية مضمونا أيضاً.

وبهذا يكون ضمان النقد مثلياً أي يضمن جنسه كما يضمن سائر المثليات ولا يضمن عنوان القوة الشرائية الذي قلنا في المحاولة السابقة بأنه أمر معنوي انتزاعي، إلا أن مثليته تتقوم بخصوصيته الجنسية وبقيمته وقوته الشرائية معاً ولكن بالمقدار المرتبط به لا بقيمة السلع الأخرى من سائر النواحي أي من ناحية مقدار العرض والطلب عليها في نفسها من غير ناحية ارتباطها بقيمة النقد، فإذا كان هبوط قيمة النقد من جهة غلاء الأجناس الأخرى أو أكثرها لندرتها أو غير ذلك من أسباب ارتفاع قيمة السلع – ومؤشره أن أسعارها ترتفع بلحاظ جميع العملات وأنواع النقود الأخرى أيضاً لا خصوص النقد الرائج في البلد - فهذا لا يكون مضموناً لصاحب النقد; لأن هذه المالية الزائدة لم تكن مربوطة بالمالية التي كان يمثلها النقد المضمون، وان كان هبوط

ص: 183

قيمة النقد من ناحية تغير سعر النقد نفسه لضعف الجهة المصدرة له اقتصادياً كان مضموناً))(1).

ووصف هذه المحاولة بأنها ((قريبة من النفس))، لكنه أورد عليها أربعة إيرادات وأجابها.

أقول: لقد حاول بتقريبه هذا معالجة جملة من الإشكالات على الوجوه المتقدمة وقد ضمّنها في كلامه، وتتلخص معالجته بأمرين:-

1- جعل القوة الشرائية من أوصاف المثل مع الخصوصية الجنسية وبذلك تجنب إشكال النقض بأن الضمان لو كان بالقيمة لجاز الوفاء بأي عملة أخرى وهو قوله: ((ومن هنا أيضاً لا يصح دفع عملة أخرى من جنس آخر)) وإشكال لزوم دفع أقل من المبلغ المسمى إذا قويت العملة بقوله: ((كما أن ارتفاع المالية ..)) ونحوها.

2- التفصيل بين ما إذا كان الانخفاض ناشئاً من تصرّف الجهة المصدرة للعملة أي المانحة لاعتبارها، أو كان ناشئاً من اختلال قانون العرض والطلب ونحوه، وكأنه أراد بهذا التفصيل معالجة مثل إشكال أن تغير القوة الشرائية أمر خارج عن العين فلا يكون مضموناً.

ويرد على هذه المحاولة جواب إجمالي وتفصيلي:

أما الإجمالي فحاصله أن هذين الأمرين وجهان مستقلان فليس من الصحيح جمعهما بوجه واحد، لذا لم يخلُ التقريب من تشويش، فلو صح كلامه فإنه يصلح لدفع بعض الإشكالات على القول بالضمان وليس للاستدلال إذ أن بينهما فرقاً.

نعم يمكن توجيه الربط بين الأمرين بجعلهما من مقدمات الدليل، فيقال في إحداهما: أن القوة الشرائية من الصفات الذاتية للمثل فتكون مضمونة في المثلياتكالخصوصية الجنسية أي المعادل الاسمي، ويقال في الأخرى: أن

ص: 184


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/178-179.

الانخفاض المضمون في القوة الشرائية هو ما كان ناشئاً من جهة الاعتبار لا قانون العرض والطلب وحينئذٍ تكفي مناقشة إحدى المقدمتين لرد الاستدلال.

وأما التفصيلي فإنهما معاً غير تامين:

أما (الأول) فللمناقشات التي ذكرناها (صفحة 174) عندما نقلنا هذه الأطروحة عن علم معاصر آخر.

وأما (الثاني) فلعدة ملاحظات منها:-

1- إن ظاهرة التضخم معقدة وتتداخل أسبابها ولا يمكن تشخيصها فضلاً عن الفرز بينها –والأزمة المالية العالمية اليوم شاهدٌ على ذلك- وهل يعلم أحد كم تطبع الحكومة من العملة؟ وهل لهذه العملة رصيد أم لا؟ وما مقدار تأثير ذلك على التضخم بمعزل عن العوامل الأخرى، وفي ضوء ذلك: كيف يمكن البناء على هذا التفصيل؟

2- إننا قدمنا أن الحقوق والالتزامات والمعاملات أمور عرفية، والعرف لا يلتفت إلى هذه المعايير الدقية ولا ينظر إليها وإنما يبني معاملته على المبلغ المسمى بما هو هو.

3- لم يتضح من كلامه (دام ظله) وجه التفصيل، وغاية ما ذكر قوله: ((بل هذه الحيثية –أي قوته الشرائية- قد تعَدُّ قوام النقد وحقيقته بالمقدار المرتبط باعتبار النقد نفسه لا بارتفاع أو انخفاض قيمة السلع الأخرى في السوق بتأثير عوامل العرض والطلب عليها)) وهي دعوى وليست دليلاً.

أقول: إن هذه الحيثية –التي هي تعبير آخر عن المالية كما تكرر كثيراً- قوام النقد مطلقاً بل كل الأموال متقومة بالمالية غاية الأمر أن هذه المالية قد تكون ذاتية وقد تكون مجعولة وهذا لا يفرق من ناحية الضمان، لأن المالية والقوة الشرائية ليست دخيلة في المعاملات وإنما تلاحظ على نحو الداعي، فلا وجه لهذا التفصيل

ص: 185

4- إن الانخفاض إذا كان بسبب اعتبار الجهة المصدرة للنقد فما مسؤولية الضامن إزاء ذلك؟ ولماذا يضمن؟ وللضمان منشآن: المباشرة أو التسبيب، ولم يصدر منه واحد منهما.

نعم قد يقال بمسؤوليته عندما يكون التأخير عدوانياً كالغصب أو السرقة أو مماطلة المدين القادر على الوفاء وهذا تفصيل لم يقل به (دام ظله الشريف).

5- إن العملة قد تفقد قيمتها من دون جهة الدولة المصدرة لها، كما لو تعرضت الدولة لحصار خانق أو حرب مدمرة أو انهيار النظام السياسي ونحوها، فهل يجب الضمان عندئذٍ أم لا؟

نعم يمكن تصحيح القول بالضمان في حالة إصدار الدولة عملة جديدة تقل قيمتها عن السابقة كالذي حدث في التسعينيات حينما ألغت الحكومة التعامل بالدينار المعروف ب-(السويسري) وطرحت الدينار المعروف ب-(الطبع) فهنا تصحّ المطالبة بالدينار السويسري أو ما يعادله من الدينار الجديد إذا كان الحق متعلقاً بالأول، لكن هذا المورد لا يُعدُّ تفصيلاً في القول بالضمان، بل هو مورد خارج تخصصاً لأن العرفلا يرى دينار الطبع مثلاً للدينار السويسري، ولذا فإن الحكم الجديد بعد عام 2003 لما طبع عملة جديدة عادل دينار السويسري بحوالي (150) ديناراً من الطبع.

وبقيت بعض التعليقات على جملة من كلماته.

قوله: ((وأما النقد الاعتباري فحيث أنه .. إلخ)) مردود لأن المالية قد تكون ذاتية وقد تكون مجعولة كما ذكرنا في مقدمات البحث فلا يفرق بينهما من هذه الناحية.

قوله: ((وإنما منفعته بجعله للتبادل)) مصادرة وقفز على الواقع لأن النقدية مالٌ وليس مجرد وسيلة للتبادل فهي ليست كالصكوك أو السندات ونحوها، وتلفها لأوراق تلف للمال، أما كونها وسيطاً في المبادلات التجارية فإنه لا يخرجها عن كونها مالاً.

ص: 186

قوله: ((وقوته الشرائية ملحوظة عرفاً وعقلائياً)) دعوى غير عرفية ولا يلحظها العقلاء في معاملاتهم كما ذكرنا في أكثر من مورد.

قوله: ((كالثلج في الصيف والماء في المفازة)) هذا يدل على عكس مطلوبه لأن الأصحاب قالوا بكفاية رد المثل وإن تنزلت قيمته حين الدفع وذكروا هذين المثالين ونقلنا قول الشيخ الأنصاري (قدس سره) (صفحة 133): ((بل ربما احتمل بعضهم ذلك مع سقوط المثل في زمان الدفع عن المالية، كالماء على الشاطئ والثلج في الشتاء)) ومن حكم بالضمان فمن جهة سقوط مالية الثلج في الشتاء والماء في المدينة قرب النهر وحينئذٍ تصبح أجنبية عن مسألتنا التي هي في انخفاض القيمة، وإذا أريد بتلك المسألة نقصان قيمة الثلج في الشتاء لوجود حاجة له في الجملة وكذا الماء في المدينة فإن القول بالضمان يصبح موضع خلاف وهو خارج عن كلام الأصحاب.

ثم أورد (دام ظله الشريف) عدة إيرادات وإشكالات على هذا التفصيل وأجاب عنها وهي:-

((الأول: إن هذه الخصوصية كما هي ملحوظة في الأوراق النقدية كذلك ملحوظة في الدرهم والدينار من النقود الحقيقية; لأن حيثية نقديتها كنقدية الأوراق من حيث ملاحظة العرف لقوتها الشرائية، ومجرد كون ذلك على أساس المنفعة الحقيقية في جنسها لا مجرد الاعتبار لا يوجب فرقاً من هذه الناحية، ولازم ذلك جواز أخذ الزيادة في الدرهم والدينار لدى نزول قوتها الشرائية، ولا أظن التزام أحد بذلك.

ويمكن الإجابة عليه بالفرق بينهما من ناحية أن اعتبار العرف للقوة الشرائية في النقد من صفات المثل التي تدخل في الضمان إنما يكون في النقد الاعتباري لا الحقيقي; لأن نكتته عرفاً ليست مربوطة بحيثية النقدية وكون الشيء وسيلة للتبادل ليقال باشتراكه بين النقدين بل مربوطة بحيثية اعتبارية ماليته حيث إن النقد الاعتباري إنما يضرب ليكون تعبيراً عن المالية والقوة الشرائية المحضة التي يعتبرها القانون، وإن شئت قلت: إن وجود المنفعة الذاتية

ص: 187

والجنس الحقيقي في النقد الحقيقي وكونه هو الملاك الأساس في ماليته ونقديته يجعل العرف يتعامل معه كما يتعامل مع الأجناس الحقيقية من حيث الضمان))(1).أقول: الإشكال صحيح لأن لحاظ العرف للقوة الشرائية في كلا النقدين –الحقيقي والاعتباري- واحد وهو عدم كونها دخيلة في صفات المثل وعدم بناء المعاملات عليها، وإذا لاحظها العرف فإنه على نحو الداعي فلا يدخل في الضمان.

أما جوابه (دام ظله) فهو غير تام لأمور:-

1- إن جوابه مجرد دعوى، فإن التفصيل الذي ذكره بين النقد الحقيقي والاعتباري لا وجه له من هذه الناحية بحسب ما قربناه وكررناه وإن العرف لم يكن يلاحظ ذهبيتها وفضيتها وإنما ديناريتها ودرهميتها.

2- إن العرف إنما لم يكن يلحظ القوة الشرائية للنقد القديم ليس لأنه نقد حقيقي ويلحظه في النقد الاعتباري بل لأنه لا يلحظ هذه القوة في معاملاته مطلقاً حتى في النقد الورقي الحديث كما هو واضح ولا تعرف الناس هذه الأمور.

3- إن الضمان يتعلق بالنقد بما هو مال لا بماليته، فالنقد الحقيقي والاعتباري متحدان في موضوع الضمان.

4- إن جملة من الملاكات التي ذكروها للضمان كرفع الضرر ولزوم مراعاة العدل ونحوها مشتركة بين النقدين.

5- ذكرنا في الوجه الأول من الاستدلال بالروايات أن ظاهرة التضخم وانخفاض قيمة العملة كان يعاني منها النقد في عصر المعصومين (سلام الله عليهم) –كما ذكرنا في المقدمة الثالثة- ولم يرد نص على الضمان بل وردت النصوص في عكس ذلك، ولو كان الانخفاض مضموناً لجرى في

ص: 188


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/179-1180.

ذلك النقد ولا ينفع في دفعه ما ذكره (دام ظله) من كون النقد حقيقياً، وإن القوة الشرائية غير ملحوظة فيه؛ لأنها غير ملحوظة في جميع النقود.

قال (دام ظله الشريف): ((الثاني: أن القيمة السوقية والقوة الشرائية للنقد وإن كانت حيثية تقييدية عرفاً أي قوام النقد وحقيقته بذلك حيث لا منفعة ذاتية له، إلا أن مجرد هذا لا يكفي لضمان التضخم ونقصان قيمته السوقية من قِبل الضامن له; لأن هذه الصفة أعني القيمة السوقية للنقد من الصفات الإضافية النسبية التي لها طرف آخر وهو السوق ومدى رغبة الناس في النقد وتنافسهم عليه، والصفات النسبية إن كان تغيرها وزوالها بتغير صفة أو منشأً لها قائم بنفس المال كما إذا قلت رغبة الناس فيه لزوال طعمه أو لونه أو تأثيره فمثل هذا يكون مضموناً ومن صفات المثل; لأن تلك الحيثية والمنشأ القائم بالمال يكون متعلقاً لحق المالك أيضاً، وأما إذا كان تغيرها لتغير طرف الإضافة الذي هو أجنبي عن المال وخارج عنه فلا معنى; لأن يكون مضموناً لأن ذلك الطرف لم يكن مملوكاً لمالك المال أو متعلقاً لحقه كما إذا تصرف المتصرف في الجو فأصبح بارداً فلم يرغب الناس في شراء الثلج مثلاً أو عالج الناس بلا دواء بحيث لم يرغب أحد في شراء دواء معين فإنه لا يكون ضامناً لمالية مالهم، وكذلك الحال في القيمة السوقية للنقد فان نقصانها يعني أن السوق والناس قلّت رغبتهم فيه ولو لضعف الجهة المصدرة له إلا أن المفروض أن تلك الجهة لا تزال متعهدة ومعتبرة للنقد كالسابق وإنما قلت رغبة الناس في اعتبارها كما تقل في السلع الحقيقية، فهذا تغير في جهة أجنبية عن حق المالك للمال فلا وجه لأن يكون من صفات المثل ويكونمضموناً، والشاهد عليه: أنه لو سبب بالدعاية أو بأي سبب آخر إلى أن تقل رغبة الناس في تلك العملة فقلت قيمتها، بل حتى لو سبب ضعف الجهة المصدرة لها لم يكن ضامناً لنقصان قيمة النقود التي بأيدي الناس جزماً مع أن هذه الصفة والخصوصية لو كانت من صفات المثل ومضمونة بضمان المثل لزم أن يكون التسبب إلى زوالها عن العين المملوكة لمالكها موجباً

ص: 189

لضمان قيمتها أيضاً، كما إذا تسبب إلى فساد أموال الناس أو تغير صفة من صفاتها الحقيقية المرغوب فيها.

فالحاصل: هناك تلازم بين الحكم بضمان وصف من أوصاف العين المضمونة من باب كونه من صفات المثل في فرض ضمان العين وبين الحكم بضمانه مع بقاء العين إذا تصرف تصرفاً مؤدياً إلى زوال الوصف فلا بد من الحكم بضمان نقصان القيمة في الفرض المذكور – وهو مما لا يلتزم به - أو الحكم بعدم ضمانه في فرض التلف أيضاً؛ لأن نكتة الضمان فيهما واحدة، وهي كون تلك الصفة في المال متعلقاً لحق المالك فإذا كان له هذا الحق فالضمان في الفرضين وإلا فلا ضمان فيهما أيضاً))(1).

وأجاب (دام ظله الشريف): ((بالفرق عرفاً في الأوصاف النسبية الإضافية بين التصرف في طرف الإضافة والتصرف في العين فإن الأول لا يكون موجباً للضمان; لأنه ليس من التصرف في حق الغير وملكه، بخلاف الثاني فإنه تصرف فيه حتى بلحاظ وصفه النسبي وما يوجبه من المالية فيه، فمثلاً إذا كان مال في سوق معين أكثر مالية وقيمة منه في مكان آخر فتارة يتصرف المتصرف في المال بأن يأخذه إلى مكان آخر ويخرجه عن ذلك السوق فيكسد فإنه يحكم بضمانه، وأخرى يتصرف في السوق بأن يرغب من فيه بالانتقال إلى مكان آخر فيكسد المال بعد ذلك فإنه لا يكون ضامناً; لأنه لم يتصرف في مال الغير وحقه. ومقامنا من هذا القبيل فإنه إذا أتلف النقد الذي له مالية وقيمة سوقية معينة أو أخذه من مالكه على وجه الضمان فإنه يعد إتلافاً أو أخذاً لقوته الشرائية من مالكه فيضمنه بماله من القيمة والمالية، بخلاف ما إذا أثّر على السوق فغيّر من رغبة الناس وتنافسهم على النقد أو أثر على الجهة المصدرة له فحاربها اقتصاديا مثلا فأثر ذلك في قوة النقد عالميا فان هذا لا يعد تصرفا في مال مالكي ذلك النقد))(2).

ص: 190


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/180-181.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/181-182.

أقول: الإشكال صحيح فإن النقصان لم يحصل بسبب تصرف في العين أو قل في المال الذي هو موضوع الضمان وإنما لأسباب خارجة عنها، وما ذكره من الجواب ليس تاماً لعدة أمور:-

1- إن تنظير مسألتنا بالمثال الذي ذكره قياس مع الفارق، نعم لو حصل نقصان القيمة بسبب التصرف في العين كما في المثال الذي ذكره كان الضمان وارداً.1- النقض عليه بما لو أعاد إليه نفس النقد الذي أخذه منه بنحو أو بآخر بعد أن نقصت قيمته، فهل يلتزم بالضمان؟ أي يدفع مقدار الانخفاض زيادة على نفس النقد المأخوذ.

2- يلزم منه أيضاً ضمان النقص في قيمة الأعيان إذا غصبها منه ثم أعادها بعد أن نقصت قيمتها، كما لو أخذ منه مناً من الحنطة وأعاده إليه بعد أن نقصت قيمته.

وأجاب (دام ظله) عن الرد الثاني بإمكان الالتزام بالضمان، قال (دام ظله): ((كما إذا غصب جنساً فأرجعه فاسداً أو ناقصاً في بعض أوصافه الدخيلة في المالية، ولا يبعد صحة الالتزام بذلك فقهياً)).

وفيه: إنه خروج عن مفروض المسألة حينما افترض إرجاعه فاسداً، أما النقص في الأوصاف الدخيلة في المالية فهو ليس مضموناً ولا يلحظها العرف في معاملاته لأن المضمون هو المال وليس المالية وإنما تضمن الأوصاف الدخيلة في مثلية المال، فلو أخذ شيئاً في ظرف الاحتياج إليه وأعاده في ظرف آخر كان مؤدياً مع أن المالية في الثانية أنقص من الأولى.

وأجاب عن الرد الثالث بقوله: ((إن الحكم بعدم ضمان ذلك ليس من الجهة المذكورة في الإشكال، بل لجهة أخرى وهي كون القيمة حيثية تعليلية لمالية الأجناس الحقيقية لا تقييدية بمعنى أن منّاً من تلك الحنطة يعد عرفاً نفس ذلك المال التالف لا أقل منه إلا إذا فكرنا بعقلية تجارية حسابية لا تكون ميزاناً للأحكام العرفية والعقلائية، فلو أريد ضمان نقصان قيمة السلعة زائداً على منّ من تلك الحنطة من باب دخل ذلك في المثلية فليست القيمة السوقية دخيلة

ص: 191

في ذلك في الأجناس الحقيقية كما أشرنا، وإن أريد ضمانه بعنوان ضمان القيمة السوقية مستقلاًّ وابتداء فالضمان لا يتعلّق إلاّ بالمال لا بالمالية وإنّما المالية حيثيّة تعليليّة في المال المضمون فإن هذا هو المستظهر من أدلة ضمان الأموال الشرعية والعقلائية، وهذا بخلاف النقد الاعتباري المحض فان قيمته وقوته الشرائية تمام حقيقته وقوامه فتكون حيثية تقييدية فيه أي أن مالية النقد الاعتباري تكون بقيمته التبادلية والشرائية لا بجنسه الحقيقي; إذ لا قيمة له، ولا باعتباره; لأن الاعتبار بما هو اعتبار ليس مالاً وإنما المالية بما وراء ذلك الاعتبار من القوة الاقتصادية في الجهة المصدرة والتي تجعل الورقة النقدية فيها قوة شرائية تبادلية حقيقة، وهذا يعني أن مالية هذه الأوراق إنما تكون بنفس قوتها التبادلية والشرائية لا بشي ء آخر فلا محالة يكون مثل النقد المأخوذ أو التالف أوّلاً ما يعادله من نفس النقد في قوته الشرائية التبادلية، وبهذا يدعى الفرق بين النقود الاعتبارية والأموال الحقيقية))(1).

أقول: هذه الدعوى تكررت، ولو تمت للزم الضمان أقل من المبلغ المسمى عندما تقوى العملة، وحينئذٍ لا يبقى وجه لما ذكره في أصل المحاولة أن المضمون هو المعادل الاسمي (أي خصوصية الجنسية) وقوته الشرائية معاً.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((الثالث: إن ضمان نقصان قيمة النقد - التضخم – يستلزم تجويز الربا والفائدة بمقدار سعر التضخم، فإذا أقرضه مثلاً عشرة آلاف تومان لسنة فأصبحت قيمتها الشرائية عند حلول الأجل نصف ما كانت عليه فيالسابق استحق الدائن على المدين عشرة آلاف أخرى إضافية، وهذا مصداق للربا المحرم، بل قد يكون سعر التضخم أكثر من سعر الفائدة الربوية اليوم، فكيف يمكن الالتزام بذلك؟!

ويمكن الإجابة على هذا الإشكال أيضاً:

أولاً: بأنه لا بأس بالالتزام بذلك; لأنه ليس رباً، إذ ليس كل زيادة عينية أو اسمية رباً في باب القرض وإنما الربا هو الزيادة على رأس المال أي زيادة

ص: 192


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/182-183.

مال على أصل المال المسلف، وهذا لا يصدق في المقام فلا يشمله إطلاق الآية أو روايات حرمة الربا; إذ الزيادة إن كانت من جهة المالية والقيمة التبادلية فالمفروض مساواتها مع الأصل نتيجة التضخم وهبوط قيمة النقد، وإن كانت من جهة الزيادة الاسمية وأن عشرين تومان أزيد من عشرة فالاسم أو الاعتبار بما هو اسم أو اعتبار ليس مالاً كما أشرنا وإنما ماليته بلحاظ قوته التبادلية والشرائية وهي معادلة للأصل، وبهذا ظهر الفرق بين النقد الاعتباري والأجناس الأخرى فإن منّين من الحنطة مال أزيد من منٍّ واحد ولو نقصت قيمته السوقية، فيصدق فيه الزيادة في المال على رأس المال فيكون رباً محرماً.

فالحاصل: المستفاد من ذيل آية الربا ومما ورد في تفسير الربا وأن كل شرط جرّ نفعاً فهو ربا أن الميزان والمقصود من الربا -الذي يعني لغة الزيادة ليس مطلق الزيادة حتى إذا لم تكن لها مالية ونفع كما لو زاد شيئاً لا مالية له كالميتة مثلاً، بل الزيادة في المالية وبلحاظ رأس المال وهذا يصدق في مورد الجنس الحقيقي بمجرد زيادة كميته عرفاً ولو نقصت قيمته كما يصدق كلما كان الجنس مساوياً ولكن اشترط شرط زائد له مالية ونفع وأما إذا لم تكن الزيادة إلا عنواناً واسماً من دون جنس حقيقي زائد كما في النقد الاعتباري فلا تصدق الزيادة في رأس المال ولا النفع، فلا تشمله أدلة الربا ولا دليل كل شرط جر نفعاً فهو رباً; لأنه لا يصدق عليه أنه شرط يجر نفعاً له، إذ لا نفع فيه له مع فرض التساوي في القيمة التبادلية، وإنما هو حفظ لنفس رأس ماله، كيف! وإلا قد ينسد باب القرض الحسن على الناس مع التضخم المستمر اليوم في باب النقود الاعتبارية في عالمنا الثالث; لأنه يؤدي إلى خسران أصحاب الأموال المقترضة لأصل رؤوس أموالهم عما أسلفوها!

وثانياً: لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم جواز أخذ النقصان حتى بالشرط فغايته عدم ضمان سعر التضخم في عقد القرض لا في سائر عقود الضمان فضلاً عن ضمان الغرامة بالتلف والإتلاف))(1).

ص: 193


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/183-184.

أقول: كلا الجوابين لا يتمان، وأستبعد أن يلتزم (دام ظله الشريف) عملياً بما يقول ولكنه يورد هذه النكات للتشييد العلمي.

أما الجواب الأول فإنه مردود بإطلاقات حرمة اشتراط الزيادة في القرض كصحيحة الحلبي (صفحة 144) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أقرضت الدراهم ثم جاءك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط) وصحيحة محمد بن قيس(صفحة 136) عن أبي جعفر (عليه السلام): (من أقرض رجلاً ورقاً فلا يشترط إلا مثلها) والظاهر من المثلية هو في مقدار النقد المسمى.

وهذا الإطلاق له عموم أزماني شامل للزمان الذي يقع فيه انخفاض في قيمة العملة –وقد ذكرنا الروايات الدالة على وقوعه آنذاك- ولم يرد فيها شيء عن ضمان الانخفاض أو تخصيص حرمة الربا به.

وتفريقه بين النقد الحقيقي والاعتباري من هذه الناحية غير مُجدٍ لما كررناه، إذ أن العرف يرى أن مائتي دينار اليوم أزيد من مائة دينار الأمس وإن ساوتها بلحاظ الذهب ونحوه، لأن قياسه ليس هذا مضافاً إلى كثير من النقوض والإشكالات التي ذكرناها.

نعم لو ثبت بدليل معتبر صحة ضمان الانخفاض فإنه يكون مخصصاً لأدلة حرمة الربا.

أما إشكاله بانسداد باب القرض الحسن فمردود لأن من يريد أن يقرض الله قرضاً حسناً يكون غرضه نيل الثواب عند الله تبارك وتعالى ولا يفكر بالعقلية الرأسمالية، وإلا فإنه حتى لو حافظنا على مالية ماله فإن التاجر يرى نفسه قد خسر لأنه لم يجنِ منه ربحاً، وكان يمكنه الحصول على الفائدة المصرفية على الأقل لو أودعه في البنك.

ويرد على الجواب الثاني: بأنهم لم يقولوا بالتفصيل بين القرض وغيره وعمموا الحكم بالضمان من هذه الناحية بوحدة الملاك على مبناهم في جميع الموارد وهو حفظ المالية ونحوها، فإذا كان مقتضي الضمان موجوداً فلا رباً،

ص: 194

وإن لم يكن موجوداً –كما هو الصحيح- ففي جميع تطبيقات المسألة فهذا التنزّل لا وجه له.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((نعم في العقود لو جعل المقدار والمعادل الاسمي للنقد ثمناً وعوضاً أي لوحظ النقد الاعتباري بما هو نقد اعتباري لا بما هو طريق إلى قدرته الشرائية وقيمته التبادلية لم يستحق المضمون له أكثر من معادله الاسمي، فكيفية ملاحظة النقد تختلف من مقام إلى مقام، فقد يلحظ بما هو هو ويجعل عوضاً في العقد فلا ضمان لنقصان قيمته، وقد يلحظ بما هو طريق إلى القيمة التبادلية والسوقية ويجعل ثمناً فيكون مضموناً بقيمته الشرائية لا محالة))(1).

أقول: هذا التفصيل أجنبي عن الإيراد وجوابه الذي هو بصدده، بل هو تفصيل آخر غير التفصيل الذي جعله عنواناً لهذه المحاولة، والملحوظ في المعاملات هي الكيفية الأولى أي اعتبار المعادل الاسمي للنقد هو العوض، أما الكيفية الثانية فغير متعارفة، إلا أن يشترطها المتعاقدان لحفظ ماليتهم وحينئذٍ تكون أجنبية عن المسألة لأن كلامنا في مقتضى العقد لا مقتضى الشرط.

ويمكن أن تكون وسيلة لحفظ مالية المضمون له، وقد أشرنا إليها في الوجه الرابع من الاستدلال بالقواعد (صفحة 140)، لكن اللحاظ لا يكون إلى القيمة التبادليةوالسوقية لأنها أمر مبهم ولا يعرفه حتى الخبراء ويكون العقد باطلاً حينئذٍ لجهالة العوض، ولكن يمكنه أن يجعل العوض ما يعادله ذهباً ونحوه.

أما على نحو الاشتراط حين العقد فتجعل المرأة مهرها ما يعادل كذا غرام من الذهب مثلاً، أو بعد العقد على نحو المعاوضة على ما في الذمة، وهذا جائز ما دام بسعر يوم المبادلة وبرضا الطرف الآخر، وفي ذلك روايات كثيرة كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(عليه السلام)(في الرجل يكون له الدين دراهم معلومة إلى أجل فجاء الأجل، وليس عند الذي حلّ عليه دراهم، خذ

ص: 195


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/184.

مني دنانير بصرف اليوم، قال: لا بأس به)(1).

ثم قال (دام ظله الشريف): ((الرابع: إن مقدار التضخم وهبوط قيمة النقد لو كان مضموناً فهذا يؤدي إلى الارتباك والتردد في مقدار الديون والأثمان في عقود الضمان، بل وكذا في الضمانات القهرية; لأن التضخم في النقود الاعتبارية اليوم أمر واقع لا محالة وهو تدريجي مستمر، فلا بد للديان من محاسبة مالهم على المدينين في كل يوم ويطالبونهم بمقدار أكثر حسب تغير سعر العملة التي تعاملوا بها، وهذا مما لا يمكن الالتزام به فقهياً، ولا تلتزم به القوانين المدنية اليوم أيضاً. خصوصا إذا لاحظنا أن أسباب التضخم وأنواعه ودرجاته مختلفة ومتعددة فهل يحكم بالضمان فيها جميعاً أو في بعض دون بعض؟

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بالتفصيل بين ضمان الغرامة بالتلف والإتلاف، وبين الضمان العقدي أي ضمان المسمى، ففي الأول يلتزم بضمان نفس القوة الشرائية والقيمة التبادلية التي كانت للنقد في زمان تلفه، ولا محذور فيه ويكون نظير ضمان القيميات على القول بكون الميزان فيه بقيمة يوم الأداء فتحسب القيمة والقوة الشرائية المعادلة يوم الأداء، وفي الثاني لا مانع من الالتزام بأن النظر العرفي في الإثمان ملاحظة النقد بما هو هو أي بماله من القيمة الاسمية، فإذا اشترى شيئاً بألف تومان نسيئة يكون ظاهر الحال أن الثمن هو ألف تومان لا ما يعادله في القوة الشرائية من التوامين إلا إذا اشترط ذلك صريحاً أو ضمنا بنحو لا يلزم منه الجهالة في مقدار الثمن كما إذا اشترط ضمان نقصان قيمتها، ولا يبعد وجود شرط ضمني نوعي في موارد التغير والنقصان الفاحش.

وأما بالنسبة إلى أسباب التضخم وأنواعه فقد أشرنا في المحاولة السابعة إلى أنه تارة يكون التضخم ونقصان قيمة النقد لارتفاع قيمة السلع الأخرى بسبب قلة عرضها وإنتاجها فمثل هذا لا يبعد كونه كالقيمة السوقية للسلع الحقيقية ليس من صفات المثل فلا يكون مضموناً إلا بالشرط في ضمن عقد لازم. وأخرى يكون سببه ضعف اعتبار الجهة المصدرة للنقد وضعف إمكاناتها

ص: 196


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 3، ح2.

الاقتصادية أو إصدارها للنقود بكميات زائدة من دون وجود قدرة حقيقية وراءها فهذا يعتبر من صفات المثل للنقد فيكون مضموناً على القاعدة))(1).أقول: هذا الإشكال تام كالإيرادات المتقدمة ويظهر أنه (دام ظله الشريف) يسلم به لذا فإنه يحاول التخلص منه –كسابقاته- بطرح تفصيل في الجواب غير التفصيل الأصلي، حتى كثرت تفصيلاته وتعددت، وهو هنا يفصّل بلحاظ سبب الضمان، فإن كان ضمان الغرامة فيضمن انخفاض المالية، وإن كان ضمان الالتزامات العقدية فلا يضمن.

ولم يبين لنا وجه هذا التفصيل بل إن الدليل على خلافه لما ذكرناه في الجهة الثانية من الوجه السادس (صفحة 142) من أن الانخفاض في القيمة شيء حصل في ملك المضمون له، لأنه ملك المثل في ذمة الضامن من حين الضمان، وتنظيره التلف والإتلاف كما في القيميات قياس مع الفارق لأن الأوراق النقدية من المثليات، مع الخلاف في القيمة التي تضمن هل هي قيمة يوم الأداء أم التلف وغيرها.

نعم كان يمكنه الاستدلال بقاعدة الإقدام على عدم الضمان في الالتزامات العقدية دون الغرامات لعدم تحققها فيها. ولكنه غير كافٍ أيضاً لأن الإقدام يسقط الضمان، أما عدمه فلا يثبت الضمان إلا بدليل آخر.

أما قوله: ((إلا إذا اشترط ذلك صريحاً)) فهذا خروج عن مفروض المسألة الذي هو في مقتضى العقد لا مقتضى الشرط.

وأما قوله: ((ولا يبعد وجود شرط ضمني)) فمما لا يساعد عليه العرف، إلا إذا قربناه بأنه خارج عن حكم العقلاء بضمان المثلي بمثله، وحكم العقلاء هو الدليل على هذا الضمان.

ثم قال (دام ظله الشريف) في نهاية الحديث في هذه المحاولة: ((وهكذا يتلخص من مجموع ما تقدم ان ضمان نقصان قيمة النقود الاعتبارية يتوقف على الجزم بان العرف قد ينظر إلى النقد الاعتباري بما هو مال تتقوم ماليته بماله من

ص: 197


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/185-186.

القوة الشرائية والقيمة التبادلية لا بماله من القيمة الاسمية أو الاعتبار القانوني فيكون مماثله ما يعادله من نفس النقد الاعتباري في قيمته التبادلية، فإذا تم ذلك ثبت الضمان على القاعدة وإلا كان مقتضى الأصل عدم ضمان الأكثر من معادله الاسمي))(1).

أقول: وهكذا انتهى به (دام ظله) المطاف إلى تفصيل غير الذي بدأ به المحاولة وهو تفصيل افتراضي، لأن العرف لا ينظر إلى النقد على النحو الأول إلا إذا اشترطه المتعاقدان، وإلا فإن العرف يرى مماثله في معادله الاسمي، لذا جعل النتيجة مبنائية متوقفة على الجزم بلحاظ المالية عند التعامل بالمال، ولا يوجد أحد يلاحظ ذلك، بل يلحظ النقد بما هو مال ويرتب الحقوق والالتزامات على أساسه.

وتحصّل مما تقدم أنه (دام ظله الشريف) فصّل القول بالضمان بلحاظات متعددة، وما ذلك إلا لمواجهة القول بالضمان لإشكالات جمّة يصعب عليه التخلص منها، ومن المعلوم أن كثرة التفصيلات المستلزمة لكثرة القيود تجعل موضوع الضمان نادراً، وهو (دام ظله الشريف) أشكل على القول بعدم الضمان كما تقدم من دون أن يبين بوضوح مختاره من هذه التفصيلات وهل أنه ذكرها كقول يتبناه في مقابل إطلاق عدم الضمان أم محاولات للتخلص من الإشكالات، ولم يبين كيفية التعاطي معها عند تقاطعها لأن العلاقة بينها هي العموم من وجه، وهل يكون العطف بينها بالحرف (و) أم (أو)؟

ص: 198


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/186.

القول الرابع: ثبوت حق الفسخ عند انخفاض قيمة النقد

اشارة

وقد ذكره العلم المعاصر المذكور (دام ظله الشريف) ضمن المحاولات التي طرحها لتخريج القول بالضمان وهي تستحق أن تكون قولاً مستقلاً.

قال (دام ظله الشريف): ((المحاولة الحادية عشرة: أن يدعى ثبوت حق الفسخ أو التعويض في موارد هبوط قيمة النقد هبوطاً فاحشاً في العقود والالتزامات التي لم يستلم فيها الطرف الثمن لكونه نسيئة أو لأي سبب آخر: إما بملاك وجود شرط ضمني ارتكازي بحق الفسخ في مثل هذه الحالات الاستثنائية فيكون كالشروط الارتكازية الأخرى كعدم الغبن والعيب فيرجع إلى خيار الشرط، أو بقاعدة لا ضرر بناءً على إمكان نفي اللزوم الضرري الحاصل من العقد عن الطرف المتضرر بنكتة غير راجعة إلى تقصيره، ومنه المقام فإن الضرر المذكور ليس راجعاً إليه، ولو كان يعلم به لما كان يقدم على البيع مؤجلاً بذلك المقدار من النقد جزماً وإنما كان ذلك نتيجة عدم علمه بما سيؤول إليه النقد، فهو إنما أقدم بانياً على بقاء المالية لذلك النقد وعدم انخفاضها الفاحش، وهذا ليس بأقل من الغبن الذي أثبتوا فيه الخيار بقاعدة لا ضرر)).

وعلّق (دام ظله) بأن ((هذه المحاولة لو تمت صغراها فهي تجدي في موارد العقود والالتزامات لا الديون والضمانات، كما هو واضح))(1).

أقول: يرد على هذه المحاولة:-

1- إن الأصل في العقود اللزوم، وعليه تبانى المتعاملان، ولا يثبت الخيار إلا بدليل ولا دليل في المقام، والوجوه التي ذكرها لثبوت حق الفسخ غير تامة، فالعرف لا يساعد على مثل هذا الشرط الارتكازي ولا تجري قاعدة الضرر لما قدمناه (صفحة 163).

ومنها أن في منح حق الفسخ للمضمون له ضرراً على الضامن وهو منفي، فلا بد من دليل خارجي عليه.

ص: 199


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/188-189.

ولا يقاس المورد على الغبن ونحوه لأن الأخير تسبب بنفس العقد، بينما الضرر في المقام وقع بعد العقد.

2- إن قاعدة الإقدام حاكمة في المقام لوجود العلم ولو إجمالاً أو الظن أو الاحتمال بتعرض العملة لمثل هذا الانخفاض وهذا كافٍ في سقوط حق الفسخ، فكان عليه أن يتخذ الإجراءات الكفيلة بحماية ماله.

3- إن هذه الدعوى تقتضي ثبوت حق الفسخ للطرف الآخر إذا ازدادت قيمة العملة، ولا أظنه يقول به.

4- ما ذكرناه (صفحة 122) أن هذه الظاهرة موجودة في عصر المعصومين (عليهم السلام) وكان التفاوت فاحشاً ولم يرد نص على ثبوت هذا الحق لمن وقع عليه الانخفاض.

مضافاً إلى كثير من الوجوه المتقدمة في أوائل البحث.

ص: 200

نتيجة البحث والقول المختار

في ضوء ما تقدم يكون مقتضى القاعدة القول بعدم ضمان انخفاض القوة الشرائية للأوراق النقدية لأنها من المثليات فتضمن بأمثالها، لكن هذا الحكم لما كان دليله سيرة العقلاء، وهو دليل لبي فيقتصر فيه على القدر المتيقن، أما ما عدا هذا القدر فيضمن بالقيمة يوم الضمان، لأن غرض العقلاء من مبادلاتهم ومعاملاتهم هو حفظ مالية أموالهم، وإنما حكموا بضمان المثلي بالمثل لأنه يضمن لهم ذلك، فالأصل في ضمان الأموال هي القيمة والمفروض أن نعود إليه عند الشك، لكن العقلاء خرجوا منه بكبرى كلية هي ضمان المثلي بالمثل وبنوا عليه معاملاتهم وتراضوا به وأقدموا عليه فوسّعوا دائرة عدم الضمان، ويدخل تحت هذه الكبرى كل ما تعارف شمول حكم العقلاء له، دون ما شُكَّ فيه، ومن الموارد الخارجة عن القدر المتيقن تخصصاً أو تخصيصاً:-

1- إذا كان ذلك الانخفاض بسبب اعتماد الجهة المصدرة للعملة لإصدار مغاير منها فيكون من حق المضمون له المطالبة بما يعادل قيمة العملة الأصلية، كالذي حصل في العراق عندما أصدرت الحكومة ما يعرف ب-(دينار الطبع) واختفى ما يعرف ب-(الدينار السويسري).

لكن هذا في الحقيقة لا يعد استثناءً من القول بعدم الضمان؛ لأن العملة الجديدة ليست مثلاً للعملة السابقة وإن حملت نفس اسمها وفئتها فلا تعدّ مثلاً لها.

2- إذا تعرض البلد لحوادث مفاجئة كحرب ماحقة أو حصار خانق أو بعض المواقف السياسية والقرارات الدولية فحصل انهيار سريع في العملة، فإنه وإن لم يغير الحكم –وهو عدم الضمان- لكن الأحوط للمتعاملين التصالح على تسوية الحقوق بينهما باعتباره ضرراً لم يقدم عليه صاحب الحق، وإذا لم يتصالحا فيكون من وظائف مرجع الأمة التدخل في ذلك ولو ببذل مال مما تحت يده أسوة بالأئمة المعصومين (عليهم السلام).

ص: 201

3- إذا أدى الهبوط إلى سقوط الأوراق المالية عن القيمة –ولو بحكم العرف- كما حصل في بعض الدول فصار الناس يجعلونها ورقاً للزينة يغلفون بها الجدران ونحوها، وحينئذٍ لصاحب الحق المطالبة بالقيمة، وهذا الفرض خارج عن مسألتنا لأن كلامنا في انخفاض قيمة العملة وليس في سقوط المالية من أساسها.

يمكن تصور ضمان المالية والقوة الشرائية إذا كانت هي الملحوظة أولاً وبالذات وإنما لوحظ مقدار العملة على نحو الآلية لتحقيقها وليس على نحو الاستقلالية، كما لو أوصى بأن يصرف مقدار مائة دينار من حاصل غلة الأرض الفلانية لإقامة مأتم حسيني أو إطعام الزوار أو تزويج العلويين، وأصبح ذلك الرقم لا قيمة له اليوم فإن العرف يرى أن الموصى به ليس الرقم بعنوانه وإنما ما تقام به تلك الأمور فإذا انخفضت قيمة المبلغ فيخرج من الحاصل ما يفي1- بإقامة الأمور الموصى بها، أي أن المبلغ هنا مأخوذ على نحو الآلية لا الاستقلالية.

ص: 202

المسألة في فقه العامة

ورد في القرار رقم (4) من مقررات(1) مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة في الكويت في 1409 ه-/ 1988م أنه ((بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله قرر ما يلي:

العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار))(2).

وقالوا: ((بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية:

يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المنجرة من إيداعاته. ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية))(3).

وقرروا في الدورة الثامنة أن ((الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى، وعلى معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها))(4).

ص: 203


1- وهي بحسب المصدر: ((ثمرة بحوث واجتهاد جماعي ومناقشات طويلة لمدة أسبوع في كل دورة)) (الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، ط 3: 7/2076).
2- المصدر السابق: 7/5159.
3- المصدر السابق: 7/5097 من مقررات الدورة الثانية المنعقدة بجدة عام (1406 ه-/1985).
4- و (2) و (3) من مقررات الدورة الثامنة سنة 1414 ه- /1993 م (المصدر السابق: 7/5226-5227).

لكنهم قالوا: ((يجوز أن يتفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة المؤجلة بعملة تدفع مرة واحدة أو على أقساط محددة من عملات متعددة أو بكمية من الذهب وأن يتم السداد حسب الاتفاق))))(1)..

وفي نفس القرار دعا ((مجلس المجمع الأمانة العامة لتكليف ذوي الكفاءة من الباحثين الشرعيين والاقتصاديين من الملتزمين بالفكر الإسلامي بإعداد الدراسات المعمقة للموضوعات الأخرى المتعلقة بقضايا العملة، لتناقش في دورات المجمع القادمة إن شاء الله، ومن هذه الموضوعات ما يلي:

أ- إمكان استعمال عملة اعتبارية مثل الدينار الإسلامي وبخاصة في معاملات البنك الإسلامي للتنمية ليتم على أساسها تقديم القروض واستيفاؤها، وكذلك تثبيت الديون الآجلة ليتم سدادها بحسب سعر التعادل القائم بين تلك العملة الاعتبارية بحسب قيمتها، وبين العملة الأجنبية المختارة للوفاء كالدولار الأمريكي.

ب - السبل الشرعية البديلة عن الربط للديون الآجلة بمستوى المتوسط القياسي للأسعار.

ج- - مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.

د - حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقوداً كاسدة))))(2)..

وورد في مقررات الدورة التاسعة التي عقدت في (أبو ظبي) في 1415 ه-/1995 م ((إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (قضايا العملة)، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دلت على أن هناك اتجاهات عديدة بشأن معالجة حالات التضخم الجامح الذي يؤدي إلى الانهيار الكبير للقوة الشرائية لبعض العملات منها:

أ- أن تكون هذه الحالات الاستثنائية مشمولة أيضاً بتطبيق قرار المجمع الصادر في الدورة الخامسة، ونصه (العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار).

ص: 204


1- من مقررات الدورة الثامنة سنة 1414 ه- /1993 م (المصدر السابق: 7/5226-5227).
2- من مقررات الدورة الثامنة سنة 1414 ه- /1993 م (المصدر السابق: 7/5226-5227).

ب- أن يطبق في تلك الأحوال الاستثنائية مبدأ الربط بمؤشر تكاليف المعيشة (مراعاة القوة الشرائية للنقود).

ج-- أن يطبق مبدأ ربط النقود الورقية بالذهب (مراعاة قيمة هذه النقود بالذهب عند نشوء الالتزام).

د- أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب، بعد تقرير أضرار الطرفين (الدائن والمدين).

ه-- التفرقة بين انخفاض قيمة العملة عن طريق العرض والطلب في السوق، وبين تخفيض الدولة عملتها، بإصدار قرار صريح في ذلك، بما قد يؤدي إلى تغير اعتبار قيمة العملات الورقية التي أخذت قوتها بالاعتبار والاصطلاح.

و- التفرقة بين انخفاض القوة الشرائية للنقود الذي يكون ناتجاً عن سياسات تتبناها الحكومات، وبين الانخفاض الذي يكون بعوامل خارجية.

ز- الأخذ في هذه الأحوال الاستثنائية بمبدأ (وضع الجوائح) الذي هو من قبيل مراعاة الظروف الطارئة.

وفي ضوء هذه الاتجاهات المتباينة المحتاجة للبحث والتمحيص، قرر ما يلي:

أولاً- أن تعقد الأمانة العامة للمجمع –بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية الإسلامية- ندوة متخصصة يشارك فيها عدد من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والفقه، وتضم بعض أعضاء وخبراء المجمع، وذلك للنظر في الطريق الأقوم والأصلح الذي يقع الاتفاق عليه للوفاء بما في الذمة من الديون والالتزامات في الأحوال الاستثنائية المشار إليها أعلاه.

ثانياً- أن يشتمل جدول الندوة على:أ- دراسة ماهية التضخم وأنواعه وجميع التصورات الفنية المتعلقة به.

ب- دراسة آثار التضخم الاقتصادية والاجتماعية وكيفية معالجتها اقتصادياً.

ج-- طرح الحلول الفقهية لمعالجة التضخم من مثل ما سبقت الإشارة إليه في ديباجة القرار.

ص: 205

ثالثاً- ترفع نتائج الندوة –مع أوراقها ومناقشاتها- إلى مجلس المجمع في الدورة القادمة))(1).

أقول: لم يسجّل المصدر مقررات الدورة التالية.

ص: 206


1- المصدر السابق: 7/5251-5253.

تطبيقات فقهية

(الفرع الأول) عدم ضمان التغير في قيمة العملة المضمونة بالالتزامات أو الغرامات:

في ضوء النتائج المتقدمة ظهر أن العقلاء يبنون في معاملاتهم على ضمان المبالغ النقدية بأمثالها في القيمة الاسمية وعدم ضمان التغير في قيمة العملة وإن كان فاحشاً من دون فرق بين الالتزامات العقدية كالمهر المؤجل أو ثمن المبيع أو القرض وإنهم يقدمون على ذلك، أو ضمان الغرامات حتى العدوانية كالمغصوب أو المسروق ونحوها، وتوجد حالات استثنائية ذكرنا أحكامها.

ويستطيع المضمون له أي صاحب العوض أو الثمن في الالتزامات العقدية أن يحفظ قيمة عملته إذا خشي انخفاض القيمة بأن لا يجعل العوض هو المبلغ المسمى بما هو هو وإنما بما هو تعبير عما يضمن القوة الشرائية له من الذهب أو أي عملة مستقرة أخرى، ويمكن إجراء هذا التحويل لما في الذمة بعد العقد خلال مدة الأجل ولكن برضا الضامن.

أما المضمون له باليد العدوانية فله طريقة كي يستعيد ما خسره بانخفاض العملة بأن يطلب تعويض انخفاض قيمة العملة بإزاء إسقاط مظلمته أي حقه التكليفي في ذمة المعتدي لكونه ظالماً له ويكون آثماً إن لم يسقط المظلوم حقه، فإن ظلم العباد بعضهم لبعض ذنب لا يترك بحسب ما ورد في الأحاديث الشريفة حتى يعفو عنه المظلوم وله أن يطلب مالاً من الظالم إزاء ذلك حتى يحلله من حقه، وهذا متوقف على رضا الضامن لأنه ليس حقاً مالياً وإنما عُوِّض بالمال.

أما المبلغ الموصى به أو الموقوف فيمكن القول بمراعاة انخفاض قيمة المبلغ إذا دلت القرائن على أن المطلوب أولاً وبالذات هو تحقيق الأمور المراد صرف المبلغ فيها، أما ذكر المبلغ فإنه على نحو الآلية الاستقلالية وقد ذكرنا أمثلة له في البحث.

ص: 207

فائدة: عندما يكون النقصان ملحوظاً عرفاً فيستحب للمدين مراعاة ذلك فيعوض النقص لما فيه من تشجيع لعمل المعروف، ومما يستدل به على الاستحباب صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يستقرض من الرجل قرضاً ويعطيه الرهن إما خادماً وإما آنية وإما ثياباً فيحتاج إلى شيء من منفعته فيستأذن فيه فيأذن له قال: إذا طابت نفسه فلا بأس، قلت: إن من عندنا يروون أن كل قرض يجر منفعة فهو فاسد، فقال: أوَليسَ خير القرض ما جر منفعة؟)(1).

وإن تعرضت القيمة للزيادة وقويت العملة فيستحب لصاحب الحق أن يخفف عن الضامن لنفس الملاك ولو بأن يفسخ عقد البيع ويسترد الأعيان لاستحباب إقالة المؤمن، وفي جميع الأحوال يكره استقصاء الحق كما هو إذا أضرَّ بالضامن، وفي معتبرة حماد بن عثمان قال: (دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) فشكى إليهرجلاً من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو، قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما لفلان يشكوك؟ فقال: يشكوني أني استقضيت منه حقي، قال: فجلس أبو عبد الله مغضباً ثم قال: كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ، أرأيتك ما حكى الله عز وجل «وَيَخافُونَ سُوءَ الحِسَابِ» أترى أنهم خافوا الله أن يجوز عليهم؟ لا والله ما خافوا إلا الاستقضاء فسماه الله عز وجل سوء الحساب، فمن استقضى فقد أساء)(2).

وإذا حصل انهيار أو صعود مفاجئان في قيمة العملة وكان الفرق كبيراً لا يتسامح به العرف (كالذي حصل عام 1996 في العراق) وحدثت بذلك منازعات بين المؤمنين، فيكون من وظيفة نائب الإمام التأسي بهم (عليهم السلام) في التدخل لتحقيق المصالحة ولو ببذل مال، ففي خبر محمد بن سنان عن أبي حنيفة سائق الحاج قال: (مر بنا المفضل وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثم قال: تعالوا إلى المنزل، فأتيناه فأصلح بيننا بأربع مائة درهم

ص: 208


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب القرض والدين، باب 19، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب القرض والدين، باب 16، ح1.

فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه، قال: أما إنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله (عليه السلام) أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما، وأفتدي بها من ماله، فهذا من مال أبي عبد الله (عليه السلام))(1).

(الفرع الثاني) هل زيادة قيمة البضائع التجارية بسبب التضخم تعد فائدة موجبة للخمس؟

قال بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف): ((إن للتضخم ونقصان قيمة النقد أثراً مهماً في باب الخمس حيث يمكن أن يقال على أساسه بعدم تعلق الخمس في مال التجارة إذا ارتفعت قيمتها وكان ذلك على أساس التضخم فحسب; لأنه بحسب الحقيقة من نقصان قيمة النقد وهبوطه لا ارتفاع قيمة السلعة التجارية. ومن هنا تكون قيمتها بالقياس إلى سائر السلع باقية على حالها; لأنها جميعا ارتفعت أسعارها، وهذا يؤدي إلى أن لا يصدق عنوان الفائدة الربح أو الغنيمة الذي هو موضوع تعلق الخمس، فالتاجر وإن كانت قيمة ماله التجاري آخر السنة تشكل رقماً وعدداً أكبر بالنقد الرائج كالتومان مثلاً إلا أن ذلك لو كان من جهة هبوط قيمة النقد بذلك المقدار في جميع السلع الحقيقية فلا ربح للتاجر أصلاً; إذ الربح والفائدة ليس قوامه بالرقم العددي والقيمة الاسمية للنقود، بل بواقع ماليتها وقوتها الشرائية، والمفروض أنه لا ارتفاع فيها، كيف وإلا قد يلزم أن يدفع التاجر بالتدريج تمام رأس ماله خمساً كلما ازداد التضخم واستمر في كل سنة، وهذا لعله واضح، بل هو أوضح من مسالة ضمان قيمة التضخم))(2).

وقد ذكر هذا التفصيل في كتاب الخمس فقال: ((إن ارتفاع القيمة والمالية إذا كان في جميع السلع والبضائع وبنسبة واحدة ولو تقريباً لا في خصوص بعضهابالنسبة للبعض الآخر فلا تكون هناك فائدة، فإن هذا بحسب الحقيقة

ص: 209


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلح، في أحكام الصلح، باب 1، ح4.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/197.

ليس ارتفاعاً لقيمة تلك الأعيان، بل انخفاض لقيمة النقد وماليته –كما يقع ذلك في النقود الاعتبارية المتداولة اليوم- فالمعيار في صدق الإفادة بالقيمة الحقيقية الثابتة بين السلع والحاجات على أساس قانون العرض والطلب وآليته في السوق، لا القيمة الاسمية بالقياس إلى النقود الاعتبارية التي تهبط قيمتها وقوتها الشرائية بمرور الزمن نتيجة إضافة حجم طبعها ونشرها من قبل المؤسسات المالية في الدولة، فالقيمة الاسمية أمر وضعي مجعول من قبل الدول والحكومات لأجل محاسبة القيمة الحقيقية في السلع والخدمات وتسهيل المبادلة فيما بينها، فهي لا تعبر عن مالية مستقلة في ذاتها بل تقع واسطة للتبادل في الأموال الحقيقية التي هي السلع والخدمات، وهذا لا يمنع عن كونها بنفسها أيضاً في طول اعتبارها وصلاحيتها للوسطية في عمليات التبادل مالاً وقانوناً، بحيث تكون قابلة للبيع والشراء والمعاوضة عليها كما في أسواق البورصة والنقد، ولكنها لا تعبر بنفسها عن القيمة السوقية الحقيقية وإن كانت المحاسبة والمبادلة بها، وهذا يعني أنه لا بد من ملاحظة أنّ ارتفاع القيمة في الأموال هل هو ناشئ من انخفاض قيمة النقد الاعتباري فلا إفادة ولا ارتفاع بحسب الحقيقة، أو أنه ناشئ من ارتفاع قيمة ذلك المال المعين بالقياس إلى سائر الأموال الحقيقية فيكون هناك زيادة أو إفادة؟))(1).

أقول:-

1- إن العرف يرى زيادة المبالغ الاسمية للنقد ربحاً بغضّ النظر عن قيمته المالية وقوّته الشرائية فضلاً عن الالتفات إلى التفصيل المذكور، وقد اعترف بذلك في موارد من كتابه في الخمس كقوله: ((وينبغي الاعتراف بثبوت الخمس في مثل ارتفاع قيمة الأراضي أو المحلات أو السرقفلية المتعارفة اليوم والتي يكون الارتفاع فيها ملحوظاً وخطيراً من الناحية المالية والاقتصادية عرفاً، وهل يمكن قبول عدم صدق الإفادة في حق من كان يملك أرضاً أطراف البلد لم تكن تقدر قبل خمسين سنة إلا بقيمة زهيدة، وهي اليوم تقدر بمئات

ص: 210


1- كتاب الخمس: 2/191-192.

الآلاف وأن صاحبها لم يستفد شيئاً إلا إذا باعها بالفعل؟ فلا يجب عليه خمس ارتفاعها ما لم يبعها؟ كيف وقد يعد صاحب مثل هذه الأرض من كبار الأغنياء والمثرين عند العرف والعقلاء))(1).

فتراه يعد الزيادة ربحاً بلا إشكال من دون جبر انخفاض قيمة العملة، إذ قد تكون الدنانير البسيطة قبل خمسين عاماً تعادل مئات الآلاف اليوم من حيث قوتها الشرائية.

2- ما ذكرناه من أن الغرض من جعل العملات النقدية هو لتكون أساساً لتقييم الأشياء فالصعود والنزول في القيمة شيء ينسب إلى الأشياء وليس إلى العملة، وعلى هذا1- فيعتبر الصعود فيها ربحاً، عكس ما فسّره من اعتبار الأشياء ثابتة وأن العملة هي التي خسرت.

3- إنه بنى على مختاره من التفصيل في المحاولة السابعة المتقدمة وقد ناقشناه.

4- على مختاره: يجب الخمس في العملة النقدية إذا صعدت قيمتها مع بقاء نفس المقدار الاسمي –كمائة دينار- لأنه سيكون قابلاً لشراء مقدار أكبر من السلع، وهذا مما لا يلتزم به.

5- إنه من الترجيح بلا مرجح جعل حالة ازدياد المبلغ الاسمي مع ثبات قوته الشرائية مصداقاً لعدم الربح بينما إذا بقي المبلغ الاسمي ثابتاً لكن قوته الشرائية ازدادت عُدَّ ربحاً، مع أن العملة هي مقياس تقييم الأشياء الأخرى وليس العكس.

6- ذكرنا في المقدمة الثانية من البحث أن أسباب التضخم عديدة ومعقدة وتخفى على الخبراء فضلاً عن غيرهم. وإن حركتها فيما بينها غير منسجمة فقد يؤثر بعضها صعوداً والآخر نزولاً فكيف يجعل هذا التفصيل موضوعاً لحكم شرعي.

ص: 211


1- كتاب الخمس: 2/189-190.

7- إن افتراض صعود أسعار السلع والأجور بنسبة واحدة بقوله: ((إذا كان في جميع السلع والبضائع وبنسبة واحدة)) غير واقعي وقد ذكرنا شواهد على ذلك، وحينئذٍ ما هو المعيار لحساب الربح والفائدة؟ ولا ينفعه في التهرب من هذا الإشكال بقوله: ((ولو تقريباً)) في بداية النص الثاني.

فالصحيح وجوب الخمس في زيادة القيمة السوقية للأموال التجارية مطلقاً من دون التفصيل بين مناشئ هذه الزيادة ما دام قد جعل العملة أساس تقدير ماليته لحساب الخمس كما هو المعمول به، نعم لا بد أن تكون هذه الزيادة مستقرة فلا عبرة بالتذبذب الذي لا استقرار له.

ويمكن للمكلف التخلص من الخمس بجعل أساس حسابه الأعيان وليس الأموال إذا كان عمله بتلك الأعيان، كأن يخمّس التاجر ألف متر من القماش ويعطي مائتي متر أو قيمتها فتكون المئات الثمانية المتبقية مخمّسة للعام المقبل.

ومما تقدم يتضح الفرق في مسألة تغير قيمة العملة بين بابي الخمس والضمان، فإن موضوع الخمس هو الربح والفائدة وهي متحققة بزيادة القيمة السوقية لزيادة المالية المحسوبة بالمقدار الاسمي للنقد؛ لأن العرف يراه مالاً جديداً متحققاً، كالضرائب الحكومية في القوانين الوضعية فإنها تتعلق بالمالية بهذا المعنى، وتأخذها وفق تقديرات القيم الحالية للسلع والعقارات ونحوها.

أما الضمان فموضوعه المال بما هو هو فلا يتحقق موجبه إذا لم يتغير وإن تغيّرت قوته الشرائية فلا حاجة لما حاوله (دام ظله) من التوأمة بين المسألتين.

أما قوله: ((كيف وإلا قد يلزم أن يدفع التاجر بالتدريج تمام ماله)) فهو:-

1- فرض غير صحيح لأن المدفوع هو الخمس على كل التقادير ويبقى أربعة أخماسه فلا يفنى وإن قلّت قوته الشرائية.

2- لا مانع من الالتزام به إذا كان ذلك مقتضى الحكم الشرعي، وقد روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ((قال لرجل: ما فعلت بإبلك؟ وكانت له إبل

ص: 212

كثيرة، فقال: ذعذعتها النوائب وفرّقتها الحقوق، فقال (عليه السلام): ذلك خير سبلها)(1).

(الفرع الثالث) تغير قيمة العملة إذا كانت مالاً للمضاربة:

قال بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف): ((ومما يرتبط بهذا البحث أيضاً ويكون من تطبيقاته رأس مال المضاربة إذا كان نقداً –بناءً على صحة المضاربة به - فإن نقصان قيمته نتيجة التضخم وإن لم يكن مضموناً على العامل لأنه أمين إلا أن البحث في ضمان الربح له وعدمه حيث أن الربح وقاية لرأس المال، فإذا كان الملحوظ المالية والقوة الشرائية للنقد المدفوع كرأس مال كان اللازم استثناء معادلها من الحاصل أولاً، ثم اعتبار الباقي ربحاً يوزع بين العامل والمالك بالنسبة. فما جاء في مقال بعض الباحثين من أن مسألة المضاربة لا ربط لها ببحث التضخم في غير محله.

نعم، يمكن أن يقال بأن المضاربة باعتبارها عقداً من العقود فعندما يكون النقد فيه بعدد معين محلاً للالتزام فظاهر الحال ملاحظة ذلك العدد المعين بخصوصية رأس المال فيكون الميزان بمقداره الاسمي لا بقيمته وقوته الشرائية كما هو في سائر العقود والالتزامات.

إلا أن هذا الأمر لا يصح في مثل المضاربة التي هي من العقود الإذنية لا العهدية; إذ المال باقٍ فيه على ملك مالكه ولا ينتقل إلى العامل إلا مقدار حصته مما يصدق عليه الربح، وقد ذكرنا أنه لا يصدق الربح بازدياد عدد النقد مع التضخم، فالصحيح أن مقدار التضخم يكون مضموناً من ربح التجارة للمالك في المضاربة ويكون ما عداه بينهما كما ذكرنا في موضوع الخمس; لأن الربح لا يصدق إلا فيما زاد على رأس مال المالك بماليته وقوته الشرائية لا بمقداره

ص: 213


1- النهاية لابن الأثير: 2/160، مادة (ذعذع)، وفي آخر نهج البلاغة أن الرجل هو غالب بن صعصعة أبو الفرزدق وأنه أجاب مم (عليه السلام): (ذعذعتها الحقوق يا أمير المؤمنين، فقال (عليه السلام): ذلك أحمد سُبلها).

الاسمي. نعم، لو حصل التضخم قبل شروع الاتجار والشراء برأس المال أمكن أن يقال بأن رأس المال هو المدفوع في المضاربة المالية الناقصة، فتدبر جيداً))(1).

أقول: يُتحصَّل من كلامه (دام ظله) أنه بنى القول بجبران النقص الحاصل في القوة الشرائية للنقد المضارب به قبل احتساب الزائد ربحاً واقتسامه، أن يلاحظ في رأس المال المضارب به المالية والقوة الشرائية للنقد، ثم استنتج عدم صدق الربح بازدياد عدد النقد مع التضخم لأن الربح لا يصدق إلا فيما زاد على رأس مال المالك بماليته وقوته الشرائية لا بمقداره الاسمي.وكلا الأمرين لا يتمان.

أما ملاحظة القوة الشرائية في رأس المال فغير عرفي وغير معمول به لا بين الناس ولا بين البنوك والزبائن ولا يوجد من يلاحظه، وقد اعترف (دام ظله) بذلك في سائر العقود والالتزامات، ولو أراد صاحب رأس المال مراعاته لاحتسب ماله بالذهب أو بعملة مستقرة، لكن هذا يكون بمقتضى الشرط وليس بمقتضى العقد كما هو مطلوب.

وأما الثاني فلما شرحناه في الفرع السابق من احتساب العرف لزيادة كمية النقد ومقداره الاسمي من خلال زيادة قيمة الأموال التجارية ربحاً من دون مراعاة التغير في القوة الشرائية للعملة وعليه تجري معاملاتهم، كما أن الجهات الحكومية تلاحظه عند احتساب الضرائب ونحوها.

بتعبير آخر: إن انخفاض قيمة العملة ليست خسارة مضمونة بمقتضى عقد المضاربة حتى تجبر من رأس المال.

وينقض عليه (دام ظله) بأمثلة من هذا القبيل اعترف بكونها ربحاً، ولذا أوجب فيها الخمس، ومنها ما تقدم (صفحة 212).

مضافاً إلى أن لازم كلامه (دام ظله) أن العملة لو قويت فإن المبلغ المسمى لرأس المال يجب أن يُقلَّل بنسبة ارتفاع القيمة. وإذا أجاب بالأطروحة التي عرضها في المحاولة السابعة فقد أجبناها.

ص: 214


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/197-198.

أما تعليله ذلك بأن المضاربة من العقود الإذنية لا العهدية .. إلى آخر ما قال، فإنه غير كافٍ فإن غايته أنه عقدٌ غير ملزم يجوز لكل منهما فسخه فلا يكون مشمولاً بقوله تعالى: «أَوفُوا بِالعُقُودِ». وهذا لا يلغي قصد العامل –كما هو ظاهر كلامه- لتعلق حقه بما يزيد عن رأس المال فلا بد من مراعاة حقيهما والبناء على قصديهما.

ويمكن الاستدلال على عدم دخول ضمان انخفاض قيمة العملة في أصل رأس المال المستثمر بصحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نبعث بالدراهم لها صرف إلى الأهواز، فيُشترى لنا بها المتاع، ثم نلبث فإذا باعه وضع عليه صرف، فإذا بعناه كان علينا أن نذكر له صرف الدراهم في المرابحة ويجزينا عن ذلك؟ فقال: لا بل إذا كانت المرابحة فأخبره بذلك، وإن كانت مساومة فلا بأس)(1).

بتقريب تقدم (صفحة 148) حاصله: أن الانخفاض لو كان مضموناً فإنه سيدخل في أصل السعر، ولا حاجة عندئذٍ لذكر تفصيل الثمن، فاشتراطه يعني أنه غير مضمون فلا يكون دخيلاً في سعر الشراء.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 215


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 24، ح1.

ص: 216

البحث الرابع: حلية السمك إذا مات في الماء محبوساً

اشارة

ص: 217

ص: 218

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الرابع:

حلية السمك إذا مات في الماء محبوساً(1)

التعريف بالمسألة: لقد نقل صيادو السمك أن أحد أنواعه المسمى ب-(الصُبُور) -الذي يمثل أكلة مفضلة في جنوب العراق- يموت أكثره في الشبكة داخل الماء قبل إخراجها لأنه لا يمكث طويلاً حياً داخل الشبكة محاصراً، وقد قرأت في بعض المصادر العلمية أن السمكة إذا حوصرت في الشبكة وحاولت إنقاذ نفسها فإن جسمها يفرز مواداً تتراكم داخله بالمحاولات المتكررة حتى تصل إلى نسبة قاتلة، وورد فيه أن سمك الصبور يكثر فيه إفراز هذه المادة فتعجل بقتله. فأفتى سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) بحرمة أكل كل ما في الشبكة وقد أثارت هذه الفتوى حركة لدى قطاعات واسعة من الناس المهتمين بهذا النوع من السمك أكلاً وتجارةً وخصوصاً انه انفرد بها عن معاصريه من مراجع التقليد كما سيأتي بإذن الله تعالى وكان من نتائجها الايجابية انشداد الناس إلى المرجعية الدينية وتداول فتاواها على الألسنة وترقبها لكل جديد وهي ظاهرة ساهمت في دعم وانتشار الحركة الإسلامية في العراق.

والجديد في الفتوى تطبيقها على سمك الصبور وإلا فإنها بحسب الأصل موجودة في الرسالة العملية للسيد الشهيد (قدس سره) وتستفاد من مفهوم صدر كلامه (قدس سره) في رسالته العملية وإن كانت الجملة لا مفهوم لها لكنه التزم به عملياً فقال: ((إذا وضع شبك في الماء فدخل فيها السمك ثم أخرجها من الماء فوجد البعض الأقل فيها ميتاً فالظاهر حليته وليس كذلك لو وجده كله ميتاً وكذلك الحال في الحضيرة))(2)

وبما أن هذا النوع من السمك يموت أكثره كما نقل أهل الاختصاص فلا يحل أكله وقد خالف بذلك معاصريه فقد قال

ص: 219


1- انتهى إلقاء البحث يوم 4/ ذ. ح./1427 الموافق 2006/11/25.
2- منهج الصالحين : ج3 طبعة دار الأضواء، مسألة 2103.

السيد السيستاني (دام ظله): ((إذا وضع شبكة في الماء فدخل فيها السمك ثم أخرجها من الماء ووجد ما فيها ميتاً كله أو بعضه فالظاهر حليته))(1)

وقال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله): ((إذا وضع شبكة في الماء فدخل فيها السمك ثم أخرجها من الماء ووجد ما فيها ميتاً كله أو بعضه فالظاهر حليته على أساس انه مات بعد الصيد))(2).

وما يمكن أن يكون منشأ لاختلاف الفقهاء في المسألة عدة أمور:

الأول: موت السمك في الماء حتى إذا كان داخل الشبكة لقول الإمام الصادق (عليه السلام) الآتي: (لأنه مات في الذي فيه حياته) مع الاتفاق على موت الطافي.الثاني: إن السمك إذا مات في الماء داخل الشبكة لو قيل بحلّيّته لكن نسبة الميت إلى الحي حين الإخراج إذا كانت أكثر من النصف فإن الجميع يحرم وهو مختار سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) أو يحل الجميع وان كان كله ميتاً وهو مختار السيد السيستاني وشيخنا الأستاذ الفياض.

الثالث: ما مات في الآلة المعدة للصيد داخل الماء فيحلّ وبين ما مات بغيرها فيحرم.

الرابع: التفصيل بين الميت المتميز فيحرم هذا فقط وغير المتميز فيحلّ جميعاً أو يحرم جميعاً للعلم الإجمالي أو تغليباً لجانب الحرمة كما قالوا.

الخامس: ما مات داخل الشبكة بسبب الجزر أو نضوب الماء فيحلّ وبين ما مات داخلها في الماء فيحرم.

وباختصار فإن من حرّم السمك إذا مات في الماء اما لأنه يحرّمه مطلقاً سواء كان طافياً أو في الماء وإما انه يحرّمه إذا كان متميزاً فيعزل أو غير متميز فيحرم الجميع أو كانت نسبته أكثر من الحي أو انه مات بآلة غير معدة للصيد.

ص: 220


1- منهاج الصالحين، المعاملات، القسم الثاني، مسألة 827.
2- منهاج الصالحين، ج3 : مسألة 427.

أهمية المسألة

وتكتسب المسألة أهمية كبيرة في العصر الحديث لأن الطرق المتبعة لاصطياد السمك بالسفن الكبيرة وغيرها يحقق موضوع هذه المسألة لموت كثير منه وهو في الماء فعلى القول الآتي بحرمة الجميع تغليباً لجانب الحرام يقع الناس في مشكلة كبيرة من ناحية السمك الذي يصل معلباً إلى المسلمين.

ص: 221

تعريف تذكية السمك

وقبل الدخول في الاستدلال على المختار في المسألة لا بد من تقديم الكلام حول تذكية السمك إذ أن السمك لا يختلف عن غيره من الحيوانات في أنه يحتاج إلى التذكية للنصوص الكثيرة الدالة على اشتراطه مضافاً إلى النصوص التي حرّمت الطافي وستأتي جملة من الطائفتين خلال البحث فلا يصح التمسك بإطلاق قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُم صَيْدُ البَحرِ» (المائدة:96) وقوله تعالى: «لِتَأكُلوا منهُ لحماً طَريَّاً» (النحل:14) وما ورد في بعض الروايات مما سيأتي بإذن الله تعالى من أن السمك ذكي فإنها كلها بصدد بيان أصل حليته وقبوله للتذكية فهي نظير ما ورد في أن الماء طهورٌ بحسب أصله وفي الجملة وكقوله تعالى: «أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ» (المائدة:1) ونحوها ومن هنا كانت القاعدة عند الفقهاء أصالة عدم التذكية عند الشك في تحققها. فلا بد أولاً أن نعرّف تذكية السمك فنقول:

لقد عرَّف المحقق الحلي ونسبه في المسالك إلى المشهور تذكية السمك بأنه (إخراج السمك من الماء حياً)(1)

وهو ناظر بذلك إلى الحالة العامة الغالبة من التذكية أي انه من التعريف بالمثال وإلا فإن التعريف إذا أُريد به الحدّ التام ففيه عدّة إشكالات:-

1- إنه لم يرد في الروايات المعتبرة تعريف الذكاة بأنها الإخراج وإنما ورد في روايات قابلة للمناقشة ففي مرسلة الطبرسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث (إن زنديقاً قال له: السمك ميتة؟ قال: إن السمك ذكاته إخراجه من الماء ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه)(2) وهي مرسلة أولاً ولأن

ص: 222


1- المحقق الحلي في الشرائع : المسألة السابعة من لواحق الذباحة.
2- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب31، ح 8. واكتفى صاحب الجواهر بذكر هذه المرسلة وقال معلقاً على تعريف المحقق الحلي للتذكية بالإخراج ((وان لم أجد في شيء مما وصل إليّ من نصوص الباب اللفظ المزبور عدا المرسل في الاحتجاج)) (جواهر الكلام: 36/163).

الظاهر منها أنها واردة لرفع توهم من ذهن السائل بأن السمك ميتة غير قابل للتذكية فكان يكفي الإمام أن ينقض عليه بمورد صالح للتذكية، وليس (عليه السلام) بصدد بيان حدود التذكية الشرعية. خصوصاً وإن السائل من الزنادقة الذين كثروا في ذلك الزمان برعاية الدولة فراحوا يشككون في عقائد الناس ويثيرون الشبهات في أوساطهم ويشغلونهم بهموم وقضايا مصطنعة فهذا الزنديق يوهم أن السمك غير قابل للتذكية لأنه لا يتحقق فيه فري الأوداج الأربعة فيشير الإمام (عليه السلام) إلى إحدى طرق تذكية السمك من غير حصرٍ فيها وهي الحالة العامة الغالبة.

وتوجد رواية أخرى أرسلها الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) (قال:وذكاته أن يخرج من الماء حياً، الحديث)(1)

ومشكلتها من جهة السند وأنها لا تأبى بعض الوجوه التي ذكرناها ولمعالجة الإشكال في السند قيل: إن بعضهم أورد كبرى عن الصدوق أنه إذا نسب الرواية إلى الإمام (عليه السلام) بقوله (قال) فإنه تسليم منه بصحتها وإن قال (روي) فإنه يلقي عهدتها على راويها والرواية هنا وردت باللسان الأول، وهذه الكبرى ليست بعيدة إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليها لأنها تبقى مبنية على اجتهاد وحدس الصدوق (رضي الله عنه).

وفي رواية ثالثة عن مسعدة بن صدقة (وهو لم يرد توثيقه) عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن علياً (عليه السلام) قال: إن الجراد والسمك إذا أخرج من الماء فهو ذكي، الحديث)(2)

وسيأتي الكلام في توثيق مسعدة إلا أن الحديث لا يفيد الانحصار فلا ينفع المستدل.

2- النقض عليه بموارد لا يصدق معها الإخراج فقد قالوا بحلية السمك إذا نضب عنه الماء وأخذه الشخص حياً أو وثبت السمكة إلى السفينة وأخذت كذلك.

ص: 223


1- وسائل الشيعة، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 14 ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 37، ح3.

3- إن الإخراج وحتى الأخذ وحده غير كاف بحصر المحلل -أي أن التعريف غير مانع- ما لم يزاد شرط آخر وهو عدم العود إلى الماء وموته فيه فإن السمك إذا أخذت حية وأعيدت إلى الماء وماتت فيه لم يحل أكلها وان جعلها في شيء أو ربطها بخيط وأعادها على ما يأتي وجهه إن شاء الله تعالى، ففي صحيحة أبي أيوب (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اصطاد سمكة فربطها بخيط وأرسلها في الماء فماتت أتأكل؟ فقال: لا)(1)

وصحيحة عبد الرحمن بن سيابة قال (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السمك يصاد ثم يجعل في شيء ثم يعاد في الماء فيموت فيه فقال: لا تأكل لأنه مات في الذي فيه حياته)(2).

4- إن التعريف غير جامع والنقض عليه بموارد يصدق معها الإخراج لكن ليس حياً لان من الموارد المحللة ما نحن بصدده وهي حلية السمك الذي يصاد بشبكة أو حظيرة إذا مات بعضه الأقل ولم يتميز فيحل الجميع وهو مختار صاحب الشرائع نفسه الذي نقلنا عنه التعريف.

والوارد في النصوص أن تذكية السمك تتحقق بصدق (الأخذ) عليها ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سُئل عن صيد المجوس للحيتان حين يضربون عليها بالشباك ويسمون بالشرك فقال: لا بأس بصيدهم إنما صيد الحيتان أخذه)(3)

وفي موثقة أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عن صيدالمجوس للسمك حين يضربون بالشبك ولا يسمّون أو يهودي قال: لا بأس إنما صيد الحيتان أخذها)(4)

وفي الخبر الذي رواه الصدوق (رحمه الله) عن أبي الصباح الكناني أنه (سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحيتان يصيدها المجوس فقال: لا بأس بها إنما صيد الحيتان أخذها)(5)

وصحيحة علي

ص: 224


1- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 32، ح1.
2- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 32، ح2.
3- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 32، ح9.
4- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 32، ح5.
5- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 32، ح11.

بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن سمكة وثبت من نهر فوقعت على الجد من النهر فماتت هل يصلح أكلها؟ قال: إن أخذتها قبل أن تموت ثم ماتت فكلها وإن ماتت قبل أن تأخذها فلا تأكلها)(1)

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) (أنه سئل عن صيد الحيتان وإن لم يسمّ عليه قال: لا بأس به إن كان حيّاً أن تأخذه، الحديث)(2)

وخبر زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن صيد الحيتان وإن لم يسم عليه فقال: لا بأس به إن كان حياً أن تأخذه)(3).

ولذا قال صاحب الجواهر: ((فكان التعبير به- أي الأخذ- أولى وإن كان متناولاً للإخراج من الماء حياً، إلا أنه أعم منه، ضرورة تناوله لمطلق إثبات اليد عليه وهو حيّ))(4).

وفي ضوء هذا نفهم أن مثل صحيح محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) قال: (لا يؤكل ما نبذه الماء من الحيتان من الماء وما نضب عنه فذلك المتروك)(5)

تحمل على حالة عدم إدراكه وأخذه حياً.

والأخذ يصدق على مطلق إثبات اليد والجعل تحت السيطرة وإن كان بالشبكة والحظيرة داخل الماء- كما سيأتي إن شاء الله تعالى- فهو من هذه الناحية كحيازة المباحات وبذلك تختلف تذكية السمك عن تذكية الحيوان بفري الأوداج وبهذا اللحاظ نفهم معنى حلية ميتته كالخبر الذي رواه البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الحوت ذكيّ حيّه وميّته)(6)

وصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليهالسلام) من حديث قال: (إن علياً (عليه السلام)

ص: 225


1- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 34 ح1.
2- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب31، ح2.
3- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب31، ح3.
4- جواهر الكلام: 36/164.
5- وسائل الشيعة، ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 34، ح6.
6- وسائل الشيعة، ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، الباب 31، ح5.

كان يقول: الحيتان والجراد ذكي)(1)

ومثله خبر أبي مريم(2)

وما أرسله المحقق الحلي في المعتبر قال: (قال (عليه السلام) وقد سُئل عن الوضوء بماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه، والحل ميتته)(3)

فاعتباره ميتة بلحاظ التذكية المعروفة في الحيوانات.

والأخذ معنى مرادف للصيد هنا على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولكن صاحب الجواهر قال إن التعبير عن الذكاة (بالصيد) مقيداً بعدم الموت أولى منهما -أي الأخذ والإخراج- لأمرين يمكن استخلاصهما من كلامه(4)

(قدس سره):-

1- وروده في الخبر المرسل عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عما أصاب المجوسي في الجراد والسمك أيحلُّ أكله قال صيده ذكاته لا بأس به)(5).

2- لكي يشمل الصيد بالحظيرة والشبكة ونحوهما وإن لم يحضرهما صاحبهما مع عدم موت ما يصار بهما في الماء (على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى) وهو ليس إخراجاً ولا أخذاً عرفاً ولكنه صيد بما عملته اليد كما أومأ إليه التعليل في الصحيحتين الواردتين في هذه المسألة. ويعني بهما صحيحتي الحلبي ومحمد بن مسلم الآتيتين بإذن الله تعالى.

ويرد على الأول:-

1- أنه مرسل.

2- أنه في مقام الإجمال أي بيان أصل المطلب وهو أن للسمك ذكاة بصيدها ولا يحتاج إلى الشروط العامة المذكورة في التذكية كإسلام الفاعل من دون أن نتعرض لحدود تذكية السمك.

ص: 226


1- وسائل الشيعة، ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، الباب، 32، ح4.
2- وسائل الشيعة، ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، الباب32، ح6.
3- وسائل الشيعة ، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب 2، ح4.
4- جواهر الكلام: 36/165.
5- وسائل الشيعة: ج16، أبواب الذبائح، باب 32، ح8.

3- إن صحيحة الحلبي وخبر أبي الصباح الكناني وموثقة سماعة فسرت الصيد بالأخذ فعاد تعريف الذكاة بالأخذ فعن أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صيد المجوس للسمك حين يضربون بالشبك ولا يسمون أو يهودي قال: لا بأس إنما صيد الحيتان أخذها)(1).

و (إنما تفيد الحصر) وقد تقدم ذكرها جميعاً. ونتيجتها أن ذكاة السمك صيده وصيده أخذه فذكاة السمك أخذه.

ويرد على الثاني:-

1- إن معنى (الأخذ) عرفاً ولغةً صادقٌ على الحبس بالحظيرة والشبكة فليس صحيحاً ما قاله من انتفائه فيهما، فقد عُرِّف الأخذ لغةً بأنه ((التناول، وقال بعضهم: حوز الشيء، وقال آخرون: هو في الأصل بمعنى القهر والغلبة))(2)

وكلها معانٍ صادقة على الحبس في الشبكة داخل الماء ولو من دون إخراج.

2- إن الصيد معنى مرادف هنا للأخذ فقد قال الراغب في المفردات: ((الصيد هو تناول ما يُظفر به مما كان ممتنعاً)) وإذا كانا مترادفين فلا ينفعه العدول من الأخذ إلى الصيد ولا يقبلان التفكيك وقد تقدمت آنفاً موثقة سماعة التي فسّرت الصيد بالأخذ.

3- يبدو أن اعتراضه (قدس سره) ناشئ من ارتكاز عنده أن معنى الأخذ يتضمن الإخراج وإن كان قد رفض الالتزام به فيما سبق لذا شعر بالإشكال أمام صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الحظيرة من القصب تجعل للماء من الحيتان فيدخل فيها الحيتان فيموت بعضها فيها فقال: لا بأس به إن تلك الحظيرة إنما جعلت ليصاد بها)(3)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في (رجل نصب شبكة في الماء ثم رجع إلى بيته

ص: 227


1- وسائل الشيعة: ج16، أبواب الذبائح، الباب 32، ح5.
2- تاج العروس : 9/363.
3- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، ب35، ح3.

وتركها منصوبة فأتاها بعد ذلك وقد وقع فيها سمك فيموتن. فقال: ما عملت يده فلا بأس بأكل ما وقع فيها(1) وحملهما على خلاف الظاهر. فقال (قدس سره) فيهما أنهما ((غير صريحين في الموت في الماء إذ من المحتمل كون الحظيرة والشبكة في مكان يكون الماء فيه مداً وجزراً فيكون موت السمك حينئذ فيها بعد الجزر)) وهو كما ترى تضييق لسعتها بالمورد النادر على ما نقل أهل المهنة والاطلاع مضافاً إلى أن الرواية ذكرت موت بعضها ولو كان الأمر كما احتمل (قدس سره) لمات الجميع وستأتي مناقشته بإذن الله تعالى.

وإلى هنا تبين أن تثبيت حدود التعريف أمر ضروري وليس هو مجرد خلاف لفظي لمدخليته في فهم المسائل التفصيلية وعلى أي حال فإن (الأخذ) يتضمن معنى إثبات اليد على السمكة وحيازتها وهي حية فلا يكفي خروجها من الماء حية وموتها خارجه قبل صدق هذا المعنى.

والنتيجة أن تذكية السمك هي (أخذه وإثبات اليد عليه وهو حي) وهو معنى قابل للانتفاء قبل الموت كما لو أفلتت أو أعيدت إلى الماء وفاقاً لمفاد النصوص الصحيحة المتقدمة وتفسير أهل اللغة.

وفي مقابل ذلك نقل صاحب الجواهر ((عن الشيخ في النهاية القول بالحل بمجرد خروجه من الماء حياً ولو من دون فعل فاعل حتى الموت ولكي يثبت ذلك اكتفى بإدراكه خارجاً من الماء يضطرب وإن لم يأخذه واستدل عليه بخبر سلمة أبيحفص(2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إن علياً (عليه السلام) كان يقول في صيد السمكة إذا أدركتها وهي تضطرب وتضرب بيدها وتحرك ذنبها وتطرف بعينها فهي ذكاتها)(3)

بل عن المحقق الحلي في نكت النهاية الحل بخروجه من الماء حياً وموته خارجه وإن لم يدركه ولم ينظر إليه ولعله لخبر عبد الله بن

ص: 228


1- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، ب35، ح2.
2- يوجد تحريف في بعض الجوامع حيث كتبت سلمة بن أبي حفص كما ورد في المسالك مثلاً (11/503).
3- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، ب34، ح2.

بحر عن رجل عن زرارة (قلت: السمكة تثب من الماء فتقع على الشط فتضطرب حتى تموت، فقال: كلها)(1)

ورواه في الفقيه بإسناده عن أبان(2)

عن زرارة باختلاف في ألفاظه دون معناه(3)، والحسن(4)

كالصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن علياً (عليه السلام) قال: إن الجراد والسمك إذا خرج من الماء فهو ذكي)(5)

واستدلوا على أصل المطلب الذي قاله الشيخ في النهاية ايضاً بالروايات الصحيحة التي دلت على حلية صيد غير المسلم للسمك إذا نظر إليه المسلم حين أخذه له كصحيح الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

ص: 229


1- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 34، ح4.
2- المشترك بين أبان بن تغلب وأبان بن عثمان الأحمر وطريق الصدوق إلى الأول فيه ضعف لجهالة أبي علي صاحب الكلل وطريقه إلى الثاني صحيح وقد رويا معاً عن زرارة.
3- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 34، ح5.
4- وصفه للحديث بأنه صحيح يلزم منه توثيق مسعدة بن صدقة وهو ما لم يثبت في كتب الرجال التي قالت عنه انه بتري وقيل عامي ولم يرد فيه توثيق وما قيل في توثيقه حدس واجتهاد مبني على كبريات هي حجة عند القائل بها كالسيد بحر العلوم في الفوائد الرجالية من انه ((ثقة لأن جميع ما يرويه في غاية المتانة والموافقة لما يرويه الثقات ولذا عملت الطائفة برواياته كما عملت برواية أمثاله من العامة بل لو تتبعت وجدت أخباره أسد وامتن من أخبار مثل جميل بن دراج وحريز بن عبد الله)) (3/338) والتزم به السيد البروجردي (طرائف المقال 1/602) و(منها) لوروده في تفسير القمي (غلام رضا عرفانيان/ مشايخ الثقات: 145) اما السيد الخوئي فقد رجح وجود اثنين بهذا الاسم أحدهما من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وهو ثقة وهو الذي يروي عنه هارون بن مسلم- كما في المقام- ولم يذكر دليلاً على توثيقه سوى أنه من رجال كامل الزيارات وهي كبرى غير تامة. وما قاله السيد بحر العلوم قريب رغم انه (عامي) بقرينة نسبة الإمام (عليه السلام) أحاديثه معه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أسلوب يتبعه عليه السلام مع رواة أحاديثه من العامة والظاهر اتحاده. وعلى أي حال فالإعراض عن روايات مسعدة بن صدقة من هذه الناحية مجازفة.
5- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب37، ح3.

صيد الحيتان وإن لم يسمّفقال: لا بأس وعن صيد المجوس للسمك فقال: ما كنت لآكله حتى انظر إليه))(1).

لكن رواية سلمة أبي حفص بعد الغض عن مناقشة سندها:-

1- لا تأبى حمل (الإدراك) وهي حية على الأخذ وهي كذلك.

2- دلت الروايات الصحيحة العديدة على أن ذكاة السمك أخذه وصيده وهو حي بل أفادت الحصر بهما كصحيحة أبي الصباح الكناني(2)

انه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحيتان يصيدها المجوس فقال: لا بأس بها إنما صيد الحيتان أخذها)(3)

وتقدم غيرها كصحيحة الحلبي وموثقة سماعة وهما –أي الأخذ والصيد- معنيان يتضمنان فعل الفاعل.

وأما روايتا عبد الله بن بحر ومسعدة بن صدقة فأنهما واردتان لبيان أصل إمكان تذكية السمك وقبوله لها وكأنهما جاءتا لرفع توهم أن الحلية لا تتحقق الا إذا أخرجها الصياد بنفسه من الماء فأوضح لهم الإمام (عليه السلام) أن المهم هو الأخذ ولو بعد خروجها بنفسها. فهما مجملتان بينَتهما تفصيلاً الروايات التي اشترطت الأخذ. وإلا فكيف يفترض القائل تحقق حالة الخروج من الماء حياً إذا لم ينظر إليها.

3- وعلى أية حال فإن الإجمال في الروايات المتقدمة قد بينّته صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن سمكة وثبت من نهر فوقعت على الجد من النهر فماتت فهل يصلح أكلها؟ قال: إن أخذتها قبل أن تموت ثم ماتت فكلها وان ماتت قبل أن تأخذها فلا تأكلها)(4).

ص: 230


1- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 32، ح1.
2- لم يذكر الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) طريقاً له إلى أبي الصباح الكناني في المشيخة لكن كتاب الكناني رواه صفوان وطريق الصدوق إلى صفوان صحيح وبنفس الطريقة نصحح روايات الشيخ الطوسي بسنده عن أبي الصباح لأن له طريقين ضعيفين بابن المفضل لكن طريقه إلى صفوان صحيح.
3- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب32، ح11.
4- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب34، ح1.

وفي ضوء هذا الفهم فلا معارضة حتى يقول صاحب الجواهر أن ((خبر زرارة مع إرساله وإضماره قاصر عن معارضة ما تقدم من وجوه))(1)

فهو -بعد التسليم بضعف سنده مجمل من ناحية التفاصيل وليس معارضاً.

أما الروايات الصحيحة التي دلت على حلية صيد غير المسلم للسمك إذا نظر إليه المسلم حين أخذه له فهي تؤكد أن ذكاة السمك أخذه ولكنها تشترط النظر إليه حين الأخذ لعدم الوثوق بخبره أنه أخذها وهي حية كما صرحت بذلك صحيحة عيسى بن عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صيد المجوس، فقال: لا بأس إذاأعطوكه أحياء والسمك ايضاً وإلا فلا تجوز شهادتهم إلا أن تشهده)(2).

ومن هنا اتفق السيد الصدر (قدس سره)(3)

والسيد السيستاني(4)

والشيخ الفياض(5)

(دام ظلهما الشريف) على أنه إذا وثبت السمكة إلى سفينة لم تحل ما لم تؤخذ باليد لعدم تحقق التذكية والأصل عدمها ولا يملكها السفان إلا إذا قصد صاحب السفينة الاصطياد بها وعمل بعض الأعمال المستوجبة لذلك كحركة معينة أو إصدار صوت مثلاً ونحوها فإن ذلك بمنزلة إخراجها من الماء حية فتصير ذكية وتدخل في ملكه.

فتحصَّل إلى هنا أن ذكاة السمك أخذه بمعنى تناوله والاستيلاء عليه أو إثبات اليد عليه متضمناً لشرط عدم العود إلى الماء والموت فيه أو الإفلات وهو كذلك.

الموت في الماء مربوطاً من دون استيثاق

فلو أرسله في الماء مرة أخرى بطلت تذكيته حتى لو ربطه بشيء كحبل أو

ص: 231


1- جواهر الكلام 36/167.
2- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 32، ح3.
3- منهج الصالحين : ج3، مسألة 2096.
4- منهاج الصالحين، المعاملات، القسم الثاني : مسألة 826.
5- منهاج الصالحين : ج3، مسألة 423.

شيء يجعله عرضة للإفلات ولا يكفي في صدق الأخذ عليه عرفاً وقد دلت عليه صحيحة أبي أيوب (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اصطاد سمكة فربطها بخيط وأرسلها في الماء فماتت أتؤكل؟ فقال: لا)(1)

وصحيحة عبد الرحمن بن سيابة(2)

قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السمك يُصاد ثم يجعل في شيء ثم يعاد في الماء فيموت فيه. فقال: لا تأكل لأنه مات في الذي فيه حياته)(3)

ويؤيد أنالسبب ما استنتجناه من عدم صدق الأخذ عليه عرفاً رغم أنه ظاهراً تحت التناول لربطه بخيط. صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن السمك يصاد ولم يوثق فيرد إلى الماء حتى يجيء من يشتريه فيموت بعضه أيحل أكله؟ قال: لا لأنه مات في الذي فيه حياته)(4).

ومحل الشاهد افتراض السائل عدم الاستيثاق من الإمساك بالسمك فيكون النهي لأجل عدم الاستيثاق أو إنه ليس مما عُمِلَ ليصاد به كما سيأتي بإذن الله وهذا يقيد إطلاق (شيء) في الروايات رغم أنه بلا شك قد ربطه بشيء ولم يطلق سراحه تماماً منتظراً من يأتيه للشراء فيعطيه طازجاً وهذا الفهم للرواية هو الذي

ص: 232


1- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب33، ح1.
2- لم يرد فيه توثيق وإنما وثّقه السيد الخوئي (قدس سره) من جهة وقوعه في إسناد كامل الزيارات (معجم رجال الحديث: 9/345) وهو غير كافٍ، نعم روى الشيخ الصدوق في الامالي بسند صحيح أن الإمام الصادق (عليه السلام) دفع إليه مالاً ليقسّمه في عيالات من أصيب مع عمه زيد الشهيد (تجد الرواية في معجم رجال الحديث: 7/348) وهي تدل على ائتمان الإمام (عليه السلام) له على مثل هذا الأمر الخطير إضافة إلى أن الكليني روى في الكافي رواية تدل على ورعه وتديّنه الا انها مروية عن عبد الرحمن نفسه والراوي عنه هو الحسن بن أسباط وهو لم يوثق، فعلى القواعد المعمول بها عندهم يكون ما تقدم غير تام وهو ما علّق به سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) على البحث الذي قدّمته له عن المسألة وستأتي الإشارة إليه بإذن الله تعالى.
3- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب33، ح2. والحديث مروي بطريقين إلى عبد الرحمن أحدهما صحيح.
4- وسائل الشيعة : ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب33، ح6.

يؤيد ما قلناه.

ولكن يمكن أن يكون النهي عن هذا البعض بالذات لأنه مات في الماء مع تميزه ومعرفته بواسطة ربطه بالخيط فإن الروايات الصحيحة دلت على عدم حليته حتى وان كان محرزاً في شبكة أو حظيرة أو نحوها أي مع الاستيثاق على خلاف يأتي ذكره بإذن الله تعالى وهو محور المسألة.

ص: 233

تحرير المسألة وموضع الخلاف فيها

أجمع الفقهاء على حرمة ما مات من السمك في الماء حراً طليقاً من تلقاء نفسه وهو المسمى ب-(الطافي) وقد دلت عليه روايات كثيرة معتبرة كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال (وسألته عما يؤخذ من السمك طافياً على الماء أو يلقيه البحر ميتاً فقال: لا تأكله)(1)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال (لا تأكل ما نبذه الماء من الحيتان وما نضب عنه الماء)(2)

وغيرها. واختلفوا فيما لو مات في الماء وكان محبوساً في حظيرة أو شبكة ونحوها على قولين رئيسيين:

الأول: حرمة ما مات في الماء حتى لو كان محبوساً واستدلوا بعموم التعليل حيث نهى الإمام (عليه السلام) عن أكله معللاً (لأنه مات في الذي فيه حياته) وقد ورد في عدة روايات مطبقة على بعض الموارد كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال (سألته عن السمك يُصاد ولم يوثق فيُردُ إلى الماء حتى يجيء من يشتريه فيموت بعضه أيحلُّ أكله؟ قال: لا لأنه مات في الذي فيه حياته)(3)

وصحيحة عبد الرحمن بن سيّابة قال (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السمك يُصاد ثم يُجعل في شيء ثم يُعاد في الماء فيموت فيه. فقال: لا تأكل لأنه مات في الذي فيه حياته)(4)

وخبر عبد المؤمن قال (أمرت رجلاً أن يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلٍ صاد سمكاً وهن أحياء ثم أخرجهن بعدما مات بعضهن. فقال: ما مات فلا تأكله فإنه مات فيما كان فيه حياته)(5)

لذا فإنهم فهموا الروايات غير المعللة على القاعدة كصحيحة أبي أيوب الخزاز انه

ص: 234


1- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، باب33، ح3.
2- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، باب 34، ح3 ومثله الحديث السادس.
3- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، باب 33، ح6.
4- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، باب 33، ح2.
5- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، باب 35، ح1.

(سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اصطاد سمكة فربطها بخيط وأرسلها في الماء فماتت أتؤكل فقال: لا)(1).

الثاني: عدم كفاية الموت في الماء للقول بالحرمة إذا كان محبوساً لكنهم اختلفوا بعد ذلك على أقوال تأتي بإذن الله تعالى والمهم الآن أنهم لم يلتزموا بعموم التعليل لنقضه بعدة روايات معتبرة دلّت على الحلية رغم موته في الماء كصحيحةمحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (في رجل نصب شبكة في الماء ثم رجع إلى بيته وتركها منصوبة فأتاها بعد ذلك وقد وقع فيها سمك فيموتن. فقال: ما عملت يده فلا بأس بأكل ما وقع فيها)(2)

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (سألته عن الحظيرة من القصب تُجعل في الماء للحيتان فيدخل فيها الحيتان فيموت بعضها فيها فقال: لا بأس به إن تلك الحظيرة إنما جعلت ليُصاد بها)(3)

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (سألته عن الحظيرة من القصب تُجعل للحيتان في الماء فيدخلها الحيتان فيموت بعضها فيها، قال: لا بأس)(4)

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال (سألته عن الصيد نحبسه فيموت في مصيدته ايحلّ أكله؟ قال: إذا كان محبوساً فكله فلا بأس)(5)

ورواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (سمعت أبي عليه السلام يقول إذا ضرب صاحب الشبكة بالشبكة فما أصاب فيها من حيّ أو ميت فهو حلال ما خلا ما ليس له قشر ولا يأكل الطافي من السمك)(6).

ص: 235


1- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، باب 33، ح1.
2- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، باب 35، ح2.
3- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، ح3.
4- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، ح5.
5- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، ح6.
6- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، الباب 35، ح4.

تقييم القول الأول ومناقشة تفريعاته

إن من يتمسك بعموم التعليل في الطائفة الأولى لا بد أن يرد على الاستدلال بالطائفة الثانية ولهم هنا عدة محاولات:

الأولى: ما قام به صاحب الجواهر حيث ردّ على العماني الذي قال: ((يحل ما مات في الآلة المعمولة للصيد))(1)

مستدلاً بصحيحتي محمد بن مسلم والحلبي بوجهين:-

1- ((قصورهما عن المقاومة لتلك الأدلة المعتضدة بالشهرة بل لعلها إجماع)).

2- ((إنهما غير صريحين في الموت في الماء، إذ من المحتمل كون الحظيرة والشبكة في مكان يكون الماء فيه مداً وجزراً فيكون موت السمك حينئذ فيها بعد الجزر، وصيرورته في الآلة المقتضية لملك الصائد باعتبار كونها مما عمله يده، بل لعل التعليل مشعر بما ذكرناها). وذكره في المسالك ونسب إليهم الجواب عن الخبرين (بعدم دلالتهما على موته في الماء صريحاً، فلعله مات خارج الماء)).

ولا يتم كلا الوجهين، أما الأول ففيه:-

أ- إن الشهرة المحققة فيما لو أعيد إلى الماء أو كان ناشباً بالآلة فمات في الماء كما أفادت الروايات المتقدمة اما إذا كان محبوساً في شبكة أو حظيرة أو نحوهما فلا شهرة فضلاً عن الإجماع، قال المحقق في الشرائع: ((ولو نصبت شبكة فمات بعض ما حصل فيها، واشتبه الحي بالميت، قيل: حلَّ الجميع حتى يُعلم الميت بعينه، وقيل: يحرم الجميع تغليباً للحرمة، والأول حسن)) ونسبه في المسالك إلى الشيخ في النهاية والقاضي وذهب الحسن بن أبي عقيل إلى حل الميت وإن تميّز وقال عنه الشهيد الثاني في المسالك: ((إنه مقتضى هذين الخبرين))(2)

واستظهره السيد السبزواري من المحقق الأردبيلي والسبزواري ومال إليه في المستند أيضاً

ص: 236


1- جواهر الكلام، 36/169.
2- المسالك، 11/507.

وأنكر أن تكون الشهرة عظيمة(1).

نعم، نسب القول بحرمة الجميع إلى ابن إدريس والعلامة وأكثر المتأخرين.

ب- إنها شهرة مدركية معلومة المستند وهي الروايات المتقدمة وليست تعبدية حتى يمكن أن تكون دليلاً.

ج-- إن الطائفة الثانية ليست أقل شهرة من الأولى عند الأصحاب إلا أنه لم يشتهر العمل بها فالشهرة فتوائية لا روائية والثانية هي المرجحة في باب التعارض.

فالقصور عن المقاومة المدعى في الجواهر لا نفهم له وجهاً بل سيأتي تقريب تقديم أدلة الطائفة الثانية على الأولى بإذن الله تعالى.أما الثاني، ففيه:-

أ- إنه تكلّف واضح وخلاف الظاهر وبعيد عما نقله أهل المهنة واعترف السيد الطباطبائي صاحب الرياض بذلك فقال (قدس سره): ((هذا الحمل وإن بعد غايته إلا أنه لا مندوحة عنه جمعاً بين الأدلة))(2).

وسنعرض بفضل الله تبارك وتعالى وجوهاً للجمع.

ب- إنه لو صح ما قاله للزم تعليل الحلية بالإخراج من الماء بعد جزره وانحساره وليس بأنه محبوس فهذا التعليل يناسب كون الشبكة في الماء.

ج-- لو كان ما افترضه صحيحاً لكان اللازم موت جميع السمك عند جزر الماء ونضوبه لا بعضه كما في بعض الروايات.

ففشلت بذلك محاولة صاحب الجواهر للتخلص من إشكال الطائفة الثانية.

المحاولة الثانية ما نقله صاحب المسالك عن أصحاب القول الأول حمل الخبرين ((على الشك في موته في الماء وان الأصل بقاء الحياة إلى أن فارقته والأصل الإباحة)) ونقله صاحب الجواهر واستحسنه(3)، ويرد عليه:-

1- إنه مبني على القول بأصالة تأخر الحادث وهو ليس تاماً فكما أن الأصل بقاء الحياة إلى حين الإخراج كذلك فإن الأصل البقاء في الماء إلى حين الموت.

2- إن الأصل الذي ذكره لو قلنا به فإنه لا يُثبت مطلوبه وهو الموت خارج الماء الا على القول بالأصل المثبت وهو غير تام.

3- إن أصالة الحل لا تجري في المقام وإنما الجاري أصالة عدم التذكية.

والمحاولة الثالثة لتقوية القول الأول الاستدلال لهم بخبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (والأرض للجراد مصيدة وللسمك قد تكون أيضاً)(4)

بتقرب أن ذكاة السمك بإخراجه إلى الأرض فلو مات في الماء فهو غير مذكى. ولا بد من حمل روايات الطائفة الثانية على الحمل خارج الماء.

لكن هذا مردود بأن الجملة لا مفهوم لها فهي لا تنفي أن يكون صيد السمك بغير الأرض خصوصاً مع التقليل ب-(قد). إضافة إلى ما قدمناه من أن الجواب بصدد بيان قبوله للتذكية وليس بصدد بيان كيفيتها.

وبعد أن قال أصحاب القول الأول بحرمة ما مات في الماء حتى لو كان محبوساً فرّعوا عليه انه لو عُلم الميت بعينه حرم خاصة وحل الباقي اما إذا علم إجمالاً حرم الجميع، قال في المسالك: ((وذهب ابن إدريس والعلامة وأكثر المتأخرين إلى تحريم الجميع لأن ما مات في الماء حرام كما تقدم والمجموع محصور وقد اشتبه الحلال بالحرام فيكون الجميع حراماً)). ويرد عليه:-

ص: 237


1- مهذب الأحكام للسيد عبد الأعلى السبزواري، 23/53.
2- رياض المسالك، 13/353.
3- جواهر الكلام، 36/174.
4- وسائل الشيعة، أبواب الذبائح، باب 37، ح3.

1- إن تحريم ما مات محبوساً أول الكلام وستأتي مناقشته ضمن القول الثاني.

2- إن الاستدلال بالقواعد مع وجود نصوص الحلية في الطائفة الثانية مما لا معنى له.واستحسن صاحب الجواهر (قدس سره) القول بحرمة الجميع خلافاً لصاحب الشرائع واستدل بعدة وجوه:-

1- قاعدة المقدمة التي نقلها عن صاحب المسالك المؤيدة بخبر عبد المؤمن الأنصاري المتقدمة، وفيه ما تقدم من عدم صحة الاستدلال بالقواعد مع وجود

ص: 238

النصوص، واما خبر عبد المؤمن فلا يمكن الاستدلال به لأنه نقل جواب الإمام (عليه السلام) عن رجل لا نعرف وثاقته وفقاهته.

2- ((المعتبرة المستفيضة الدالة على انه ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال، التي هي أرجح من تلك المعتبرة (ويقصد بها المستفيضة المتضمنة للصحيح وغيره الدالة على انه إذا اجتمع الحلال والحرام فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه(1)

وغير ذلك مما يخرج به عن قاعدة المقدمة من اعتضاد بالشهرة) بل لو سلم تكافؤهما اتجه الرجوع إلى باب المقدمة، بل لعل التأمل الجيد فيه يقضي بكون النصوص الأولى –أي القائلة بالحلية كصحيحة الحلبي ومحمد بن مسلم في الحظيرة ونحوهما- في غير المحصور، كما يشهد له بعض الأمثلة فيها، بخلاف النصوص الثانية الظاهرة في المحصور بقرينة الإجماع ولا أقل من أن تكون مقيدة لتلك النصوص السابقة إن لم نقل أن العلم الإجمالي في المحصور من المعرفة بعينها))(2).

وكلامه (قدس سره) غير تام من أكثر من وجه نؤجل بعضها إلى حين تقييم القول الثاني، ومنها:-

1- إنه يفترض حرمة ما مات في الماء حتى لو كان محبوساً وهو أول الكلام على ما سيأتي بإذن الله تعالى.

2- إن المقام ليس من تطبيقات المعتبرة التي رجحت الحلال فإن موردها الشك البدوي أو العلم الإجمالي في شبهة غير محصورة كما لو علم إجمالاً بوجود لحم غير مذكى في سوق المسلمين كتعبير الإمام (عليه السلام) بحسب بعض الروايات عن الإمام الباقر (عليه السلام): (والله إني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمك والجبن والله ما أظن كلهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان)(3)

أما المعتبرة التي استدل بها فمورد تطبيقها الشبهات المحصورة

ص: 239


1- الوسائل، باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة. والباب 4 من أبواب ما يكتسب به والباب 64 من الأطعمة المحرمة.
2- جواهر الكلام، 36/172.
3- وسائل الشيعة أبواب الأطعمة المباحة، باب 61، ح5.

المقرونة بالعلم الإجمالي كالمقام بناءً على صحة ما افترضه في الوجه الماضي فلا تكافؤ لأنهما ليستا على مورد واحد.

3- إن حمله (قدس سره) نصوص الحلية على غير المحصور غريب ومحاولة يائسة للتخلص من ضغط هذه الصحاح لأن ما في الشبكة والحظيرة هو من المحصور وواقع كله في دائرة الابتلاء من بيع أو أكل أو نحوهما مما لا يصح على الحرام ولذا اعترف هو بعدئذٍ بعدم الفائدة في هذا الكلام بقوله: ((إن لم نقل أن العلم الإجمالي في المحصور من المعرفة بعينه)) في إشارة إلى قوله (عليه السلام): (حتى تعرف الحرامبعينه) وهو كذلك.

4- لا وجود لمثل هذه المعتبرة المستفيضة التي ادعاها (قدس سره)، قال بعض الأعلام(1) ((الرواية الواردة بهذا اللفظ ليست الا ما رواه ابن أبي جمهور في غوالي اللآلي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ذكره في المستدرك الباب/4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، وقد ذكر المحدث البحراني (قدس سره) في تعليقة (منه رحمه الله) على كتاب الحدائق الناضرة ج1 ص150 بعد التأييد –لاستدلاله- بهذا الخبر ما هذا لفظه (إنما جعلنا هذا الخبر مع صراحته في المدعى مع المؤيدات لعدم الوقوف على سنده من كتب أصولنا وإنما وقفت عليه في عوالي اللآلئ) نعم يمكن أن يستفاد هذا المعنى من مضامين بعض الروايات)) إلى أن قال: ((والظاهر أنه (قدس سره) استأنس في ذلك بعبارة الرياض وأخذ منه حيث قال في المقام ما هذا لفظه:- (نعم ربما يعضد ما ذكروه المعتبرة المتضمنة للصحيح وغيره الدالة على أنه إذا اجتمع الحلال والحرام فهو حلال أبداً حتى نعرف الحرام بعينه)، ولكنها معارضة بمثلها الدال على انه ما اجتمع الحلال والحرام إلا وقد غلب الحلال الحرام، وهذا أرجح للاعتضاد بالشهرة، وعلى تقدير التساوي والتساقط ينبغي الرجوع إلى مقتضى القاعدة في الشبهة المحصورة وهو الحرمة من باب المقدمة)).

ص: 240


1- العلامة الفاضل محمود القوجاني الذي تولى تحقيق وإخراج هذا الجزء من جواهر الكلام، 36/172.

تقييم القول الثاني وتفصيلاته

يستند هذا القول في صحته إلى أمرين:

1- النصوص المعتبرة الوفيرة وقد تقدمت.

2- تحقق التذكية شرعاً على ما انتهينا إليه من معناها وهو الأخذ الذي ورد مطلقاً في الروايات سواء كان داخل الماء أو خارجه ولا يشترط بعد ذلك إخراجه حياً. وقد أكّد الإمام (عليه السلام) هذا المعنى بتعليل الحلية بكونه محبوساً وان الحظيرة مما جعلت ليصاد بها وحينئذٍ يكون هذا الفريق مسؤولاً عن الإجابة عن التقييد المدعى بعموم التعليل الوارد في روايات الطائفة الأولى لقوله (عليه السلام) (لأنه مات في الذي فيه حياته). أي تقييد روايات الحلية بعدم الموت في الماء.

ويمكن ذكر عدة وجوه للعلاقة بين الطائفتين:-

1- إن التعليل الوارد في روايات الحلية (إذا كان محبوساً فكله فلا بأس) (ان تلك الحظيرة إنما جعلت ليصاد بها) هو أخص من التعليل الوارد في روايات الحرمة فيخصصه وتكون النتيجة أن السمك إذا مات في الماء فإنه يحرم إلا إذا كان محبوساً فيما عمل ليصاد به.

2- إن مورد الحظيرة والشبكة خارج تخصصاً عن عموم التعليل لأن الإمام (عليه السلام) لم يقل (لأنه مات في الماء) حتى يشمله وإنما قال (عليه السلام): (لأنه مات في الذي فيه حياته) وهذا لا يتحقق في كل ماء بل خصوص الماء الذي يكون فيهالسمك حراً طليقاً اما إذا كان محبوساً فهذا الماء ليس مما فيه حياته بل إنه يموت فيه كالأرض وقد نقلنا تحليله العلمي في أول هذا البحث من أن السمك حينما يشعر بحبسه يحاول جاهداً أن يتحرر ويفرز جسمه في أثناء ذلك مواد سامة تزداد تركيزاً فيه بتكرار المحاولات حتى تقتله.

3- إن عموم التعليل في الطائفة الأولى ليس ناظراً إلى حالة الأخذ والاستيلاء والحيازة وقد صرّحت صحيحة علي بن جعفر بعدم الاستيثاق بينما

ص: 241

روايات الطائفة الثانية صريحة بالحبس والصيد والأخذ فالموردان متباينان.

4- إن التعليل لا عموم له لأن الهاء في قوله (عليه السلام) (لأنه مات في الذي فيه حياته) هي ضمير شأن للإشارة إلى ما أشار إليه السائل لا كل ما مات في الماء فالتعليل خاص بهذا المورد ونظائره ولا تشمل كل ما يموت في الماء من السمك.

وأعتقد جازماً أن بعض هذه الوجوه فضلاً عن كلها تحقق الاطمئنان بحلية السمك إذا مات في الماء محبوساً في حظيرة أو شبكة أو ما يفعله الباعة اليوم من وضعه حياً في طست أو حاوية من الماء ليبقى طازجاً أو نحوهما من آلات الصيد الحديثة التي تستعملها سفن الصيد وأن من قال بالحرمة ذهب إليها تحت ضغط عدم القدرة على الجمع كما تقدم قول صاحب الرياض.

وقد يقال في الجمع بين الطائفتين لرفع التعارض بالحكم بحرمة ما مات في الماء وأمكن تمييزه بشهادة كونه مربوطاً ومعيناً في الطائفة الأولى وحلية ما لم يمكن تمييزه بمقتضى الطائفة الثانية وفيه:-

1- أنه لا تعارض بين الطائفتين حتى تجمع بينهما وان العلاقة هي اما التباين أو التخصيص.

2- أن التعليلين الواردين في المقام يأبيان مثل هذا الجمع فهذا الجمع ليس عرفياً.

3- أن الموت في الماء إذا كان سبباً للحرمة عند تميزه فيكون سبباً لحرمة الجميع عند عدم التميز لأن الشبهة محصورة وفي ضوء ما تقدم لا تصلح صحيحتا أبي أيوب الخزاز وعبد الرحمن بن سيابة المتقدمتان للمعارضة لأنهما واردتان في حالة عدم الاستيثاق وتحقق الغلبة والحيازة كما صرحت صحيحة علي بن جعفر ولعدم صدق معنى الأخذ وإثبات اليد على الربط بالخيط.

والمانع الآخر عن الحلية الذي يمكن تصوره هي رواية عبد المؤمن(1) بتقريب أن الإمام (عليه السلام) منع من أكل السمك الميت في الماء رغم صدق عنوان الصيد عليه بحسب كلام السائل ويرد عليه أن هذه الرواية مما لا يمكن

ص: 242


1- وسائل الشيعة: أبواب الذبائح، الباب 35، ح1

الاستدلال بها لأنه روى كلام الإمام (عليه السلام) عن رجل لا نعرف وثاقته وفقاهته وقد تحصّل مما تقدم أن السمك إذا مات محبوساً في الماء حل أكله.

وقد حاولت أن أفهم كيف دفع القائلون بحلية الكل هذا التعارض البدوي ولا يوجد بين يديّ مصدر معتدّ به لهم، لذا توجهت بواسطة احد الإخوة باستفتاء خطي إلى شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) حاصله انه ((توجد مسألتان في باب تذكية السمك

الأولى: لو صاد سمكة وأخرجها من الماء ثم ربطها بخيط أو حبل وأرسلها إلىالماء فماتت فيه لم يحل أكلها.

الثانية: إذا وضع شبكة في الماء فدخلها السمك ومات فيه حل أكله.

والسؤال هو: أنه إذا كان سبب الحرمة في الأولى أنها ماتت في الذي فيه حياتها فإنه موجود في الثانية، وإن كان سبب الحلية في الثانية أنها ماتت تحت اليد فهذا موجود في الأولى)).

فأجاب دام ظله ((إن الفرق بين المسألتين من جهة النص الخاص الدال على أن السمك إذا مات في الشبكة أو الحظيرة حلال)).

وتأريخه 15 شعبان 1425 أي بعد كتابتي لأصل البحث بشهرين.

وجوابه (دام ظله) غير مقبول ولا يمكن الاكتفاء به إذ لا بد من تقنين الأحكام كالذي قدمناه بفضل الله تبارك وتعالى. أما إحالة كل حالة على النص فهذا يعني توقف عملية الاجتهاد للحاجة إلى تفسير كل واقعة على حدة والجزئيات لا تنتهي.

وقال السيد السبزواري (قدس سره): ((والمعارضة بين قسمي الأخبار متحققة وحمل القسم الأول على الكراهة حمل شائع في الفقه))(1).

وهو جواب غير تام إذ المعارضة غير متحققة كما قدمناه فلا حاجة إلى مثل هذه التصرفات في ظاهر النصوص وظهور الطائفة الأولى يأبى الحمل على الكراهة.

واستدل صاحب الجواهر (قدس سره) للقائلين بحلية الكل بعد الروايات

ص: 243


1- مهذب الأحكام 23/53.

((بالمعتبرة المستفيضة المتضمنة للصحيح وغيره الدالة على أنه إذا اجتمع الحلال والحرام فهو حلال حتى يعرف الحلال بعينه فتدعه، وغير ذلك مما يخرج به عن قاعدة المقدمة))(1).

وهو غير تام لأن العلاقة بين القاعدتين التباين ومورد المعتبرة المستفيضة: الشك البدوي والشبهات غير المحصورة والمقام ليس منه.

ولا أعلم إن كانت لهم وجوه أخرى وأين هي مما ذكرناه من الوجوه فلله الحمد أولاً وآخراً.

وفي ضوء هذه النتيجة نستطيع تقييم بعض التفصيلات التي ذكرت في المقام ومنها:

الأول: إن الميت في الشبكة إذا كان متميزاً حرم بعينه وإذا لم يتميز حل الجميع وهو مختار صاحب الشرائع وهذا لا يتم:-

1- لما تقدم من أن موته محبوساً لا يحرمه.

2- إذا حكم بحرمة الميت فلا معنى لحلية الجميع لأن الشبهة محصورة والعلم الإجمالي ينجّز حرمة الجميع وإذا كان مستنده روايات الطائفة الثانية فهي إنما حللته لأنه مات محبوساً. وربما كان وجهه انه مقتضى الجمع بين الطائفتين الذي ذكرناه سابقاً لكننا رددناه بعدة وجوه.

الثاني: للعماني فإنه قال: ((يحل ما مات في الآلة المعمولة للصيد)) وهو وإنكان قد استفاد ذلك من النصوص الصحيحة في الطائفة الثانية إلا أن العبرة ليست في نوع الآلة وإنها معمولة للصيد أم لا وإنما في صدق الأخذ واثبات اليد وجعله في متناوله ولا شك أن العماني أراد هذا المعنى وإنما ذكرناه للتأكيد على المعنى الصحيح.

ص: 244


1- جواهر الكلام: 36/172.

مختار سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره)

الثالث: هو لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) حيث قال: بأن الميت في الشبكة إذا كان أقل من النصف حل الجميع وإذا كان أكثر منذ ذلك حرم الجميع.

وقد استفدناه من مفهوم كلامه في الرسالة العملية حيث قال (قدس سره): ((إذا وضع شبك في الماء فدخل فيها السمك ثم أخرجها من الماء فوجد البعض الأقل فيها ميتاً فالظاهر حليته وليس كذلك لو وجده كله ميتاً وكذلك الحال في الحظيرة))(1).

والجملة وإن لم يكن لها مفهوم إلا أنه (قدس سره) التزم عملياً بنتيجته وقال لي شفهياً عندما سألته عن الوجه وأجاب بذلك أيضاً ضمن تعليقات له (قدس سره) على تحقيق حول فتواه (قدس سره) كتب بتاريخ 3 محرم 1418، وورد في تعليقته ((راجع الباب 35 من الذبائح الحديث: 3 وفيها (بعض) وهو لا يصدق على الأكثر عرفاً ولا أقل من الشك المشمول لقاعدة الحرمة، والحديث:4 أيضاً لا يشمل الجميع حتماً لأنه خلاف نصها كما لا يشمل الأكثر للشك في كونه في مقام البيان من هذه الناحية، وكذلك الحديث/5 معتبر وفيها عنوان البعض كما سبق، وأما الحديث/6 فيمكن تقييده بما سبق يعني أن لا يموت أكثره)) وقال (قدس سره) في هامش آخر: ((ولو وجد لفظ البعض لكان قرينة محتملة تمنع التمسك بالعموم ولو احتمالاً)) ولذا قال (قدس سره) تعليقاً على قولي: ((ولا شك أن هذا العنوان – أي الصيد والأخذ- يصدق على السمك الذي تم الاستيلاء عليه حياً سواء أخرج من الماء كذلك أم لا)) مستدلاً بصحيح الحلبي وقلت: ((فكأن الإمام (عليه السلام) يشير إلى تحقق معنى الصيد بهذه الحيازة والأخذ)) فقال (قدس سره): ((إذا كان الحال كذلك جاز الجميع لأن دخوله في الحظيرة كأنه دخول تحت اليد فقد دخل تحت اليد حال

ص: 245


1- منهج الصالحين ج3، من طبعة دار الأضواء، مسألة 2103.

حياته ولو آناً ما فإذا مات كان يستصحب التذكية، وينقض بما إذا خرج من الحظيرة حياً كله أو بعضه أو أزال الصائد الحظيرة عن عمد. فهل نقول بتذكية السمك أو استصحاب التذكية، وإنما الكلام في وجود الإطلاق كما سيتضح)) ويعني به ما تقدم من القرينة المانعة منه.

فعمدة ما استدل به (قدس سره) على تفصيله ورود كلمة (بعض) في صحيحة الحلبي وعبد الله بن سنان ورواية مسعدة بن صدقة التي وصفها بالمعتبرة والكلمة عنده ((لا تصدق إلا على الأقل عرفاً)) كما ورد في تعليقته المذكورة وهي القرينة التي تمنع من التمسك بعموم حلية ما مات من السمك محبوساً فتشمل حالة موت الكل. وإن لم تفد هذه القرينة فلا أقل من أنها توجب الشك في حلية ما زاد عن النصف وحينئذٍ تجري قاعدة الحرمة ويحتمل في مراده (قدس سره) من قاعدة الحرمة وجهان:-

1- الحرمة المستفادة من عموم التعليل في ذيل روايات الطائفة الأولى (لأنه مات في الذي فيه حياته).

2- الحرمة المنجزة بالعلم الإجمالي بوجود محرم ضمن المجموع والشبهة محصورة.لأنه (قدس سره) يرى أن حلية السمك الذي مات في الماء محبوساً وكان أقل من النصف حكمٌ خارجٌ بالتخصيص حسب ما ورد في أحد هوامشه على التحقيق المذكور.

وفي كلامه عدة موارد للنظر:-

1- إن (البعض) يصدق على ما دون الكل لأنه في مقابله سواء كان أكثر من النصف أو أقل، قال الراغب في المفردات: ((بعض الشيء جزء منه ويقال ذلك بمراعاة كلٍ ولذلك يقابل به كلٌ فيقال بعضه وكله)) وشمولها للكل يكون بضميمة عدم القول بالفصل.

2- إن هذه الكلمة وردت في كلام السائل لا في كلام الإمام (عليه السلام) ولا يُعلم أنها لوحظت في جواب الإمام (عليه السلام) وأُخذت بنظر الاعتبار وبني الجواب عليها بنحو يكون لها مفهوم بحيث أن الميت لو كان أكثر

ص: 246

من البعض المفسر بالجزء الأقل فلا يحل وحينئذٍ فالقول بحلية الكل متضمن لحلية البعض كما أن صدق قولنا: (بعض الماء سائل) لا ينفي صدق الوصف على الكل.

3- إن إطلاق تعليل الحلية بكونه محبوساً أو أنه مات فيما عمل ليصاد به يأبى التقييد والتخصيص الذي ذكره (قدس سره) لأن الحبس الذي يحقق عنوان الأخذ والصيد الذي هو تذكية السمك صادق على الجميع وقد مرّ إقراره قدس سره به لولا ما رآه من مانعية القرينة.

4- إن تفصيله (قدس سره) مخالف للإجماع المركب لأنه قول بالفصل بين حلية الجميع وحرمة الجميع كما تقدم في كلام صاحب الشرائع على تقدير بطلان مخالفة الإجماع المركب وبتعبير آخر: إنه (قدس سره) ما دام قد حكم بحلية البعض فبضميمة عدم القول بالفصل يفترض به أن يحكم بحلية الكل.

5- إن كلامه (قدس سره) كأنه لا محصّلَ له لأن الميت اما متميز بدليل معرفة نسبته وأنه أقل من النصف أو أكثر أو غير متميز فإن كان متميزاً حرم خصوص المتميز على القول بحرمة السمك إذا مات في الماء ولو كان محبوساً وحل الباقي وإن لم يتميز حرم الجميع لأن الشبهة محصورة والعلم الإجمالي منجز.

6- إننا لا نعلم سبباً للحرمة إلا التمسك بعموم التعليل في روايات الطائفة الأولى وقد تقدم انه لا يشمل حالة الحظيرة والشبكة ونحوهما مما يصدق معها الحبس والأخذ والصيد.

7- إنه قدس سره التزم بأن الموت في الماء مع تحقق عنوان الأخذ لا ينافي التذكية فقال (قدس سره): ((فإن أرجعت إلى الماء وهي تحت اليد، كما لو وضعها في إناء فيه ماء أو أدخلها في النهر مرة أخرى بشكل غير قابل للإفلات، ثم ماتت في الماء بقيت على حكم التذكية))(1)

فهذا مناقض لما اختاره هنا (قدس سره) رغم أن المورد هنا أولى بالحلية وأغرب منه أنه قال بالحلية في روايات الطائفة الأولى فقال (قدس سره): ((إذا أخرج السمك من الماء حياً ثم ربطه

ص: 247


1- منهج الصالحين ج3 من طبعة دار الأضواء مسألة 2098.

بحبل مثلاً وأرجعه إلى الماء فماتفيه فالظاهر الحلية))(1)

وهو مخالف للشهرة المحققة التي تقدمت ونصوص الروايات ولكنه (قدس سره) فهم من الروايات أن الخيط والحبل هي أمثلة وإلا فإن القاعدة تقتضي الحلية مع صدق الأخذ وإثبات اليد وإذا كان الأمر كذلك فلماذا حكم بالحرمة في المسألة محل البحث.

8- إن صحيحتي محمد بن مسلم وعلي بن جعفر ظاهرتان في موت الكل ولا يوجد تنافي مع ورود كلمة (البعض) في الروايات الأخرى لعدم وجود مفهوم لها وحينئذٍ فلا موجب لصرف الكل عن ظاهره كما فعل (قدس سره) في أحد هوامشه التي نقلناها قبل قليل بقوله (قدس سره): ((وأما الحديث/6 فيمكن تقييده بما سبق يعني أن لا يموت أكثره)) وعلى أي حال فكلامه (قدس سره) غير منسجم مع بعضه فبينما هو يختار في تعريف التذكية ((الاستيلاء عليه بحيازته أو وضع اليد عليه حياً خارج الماء))(2) أي أنه (قدس سره) من أصحاب القول الأول إذا كان ملتزماً بحدود التعريف ويرى أن القول بحلية ما في الشبكة إذا كان الميت هو البعض الأقل هو بالتخصيص بموجب روايات الطائفة الثانية الا أنه عاد والتزم بروايات الطائفة الثانية في المسألتين المذكورتين في الرد السابع. والظاهر أنه لا يأبى وجداناً القول بحلية السمك إذا مات محبوساً داخل الماء لكنه لا يرى عنوان الصيد والأخذ متحققاً إلا خارج الماء لذا قال في أحد هوامشه على البحث المذكور: ((لا يصدق عنوان الأخذ داخل الماء إلا نادراً)).

فالمختار هو حل السمك المحبوس في الشبكة والحظيرة ونحوهما من الآلات الحديثة وإن مات داخل الماء وعلم الميت منه وتميز ولو كان كل المحبوس كذلك وهو موافق لمختار السيد الخوئي (قدس سره) والسيد السيستاني والشيخ الفياض (دام ظلهما الشريف) وخلافاً لما اختاره السيد السبزواري والسيد الشهيد الصدر الثاني والسيد الخميني في تحرير الوسيلة (قدس الله أرواحهم).

وتوجد في الرسائل العملية لفقهائنا العظام (قدس الله أرواح الماضين وحفظ الباقين) مسائل تطبيقية لهذا البحث لا حاجة للدخول فيها بعد وضوح

ص: 248


1- المسألة 2105 في نفس المصدر.
2- نفس المصدر: 3/363.

النتيجة وقد ذكر عدد منها في مطاويه ومنها:-

1- يحرم السمك إذا مات في الماء من دون اخذ وهو المسمى بالطافي.

2- إذا وثب السمك إلى شاطئ النهر أو إلى السفينة أو انحسر عنه الماء ومات قبل أن يؤخذ لم يحل حتى وإن كان قد نظر إليه وهو حي يضطرب.

3- تحصل ذكاة السمك بأخذه وإثبات اليد عليه وهو حي سواء كان داخل الماء أو خارجه ولا حاجة إلى موته لذا قالوا إنه يمكن أكله وهو حي.

4- إذا مات السمك في الماء محبوساً في شبكة أو حظيرة مما عمل ليصاد به ويصدق معه عنوان الأخذ حل ولو كان كل ما في الشبكة ميتاً وليس كذلك فيما لو كان مربوطاً بخيط أو أي شيء آخر مما لا يصدق معه الأخذ وإثبات اليد.

5- لا يشترط في تذكية السمك الإسلام ولا التسمية والمهم التأكد من تحقق معنى التذكية المتقدم.بدأت بهذا البحث وانتهيت منه بفضل الله تبارك وتعالى

خلال الأسبوع الأول مما يعرف بأزمة النجف الثانية

التي بدأت يوم الخميس 2004/8/5 الموافق 18 ج2 1425

وأعيد النظر فيه قبل إلقائه في بحث الخارج في ذي القعدة 1427

والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 249

ص: 250

البحث الخامس: التذكية الشرعية بمكائن الذبح الحديثة

اشارة

ص: 251

ص: 252

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الخامس:

التذكية الشرعية بمكائن الذبح الحديثة(1)

ازداد استهلاك الناس من اللحوم بسبب تقدم مستوى الرفاه الاقتصادي، ولم يعُد الذبح اليدوي كافياً لسد الحاجة، فتوجّه المنتجون نحو استعمال المكائن الحديثة مما ولّد عدة تساؤلات بل إشكالات، وازداد الوضع تعقيداً حينما بدأ المسلمون باستيراد اللحوم المذبوحة في الدول الأخرى، مضافاً إلى أن الكثير من المسلمين يسافرون إلى البلاد الأجنبية للتجارة أو الدراسة أو العلاقات الدبلوماسية حتى وُصف العالم بأنه كالقرية الواحدة، ولم يعُد الإفتاء بالاحتياط عملياً، فأثيرت المسألة في العقود الأخيرة لتقنين عمل هذه المكائن والقائمين عليها وفق الشريعة الإسلامية.

ومن نافلة الكلام القول بأن المسألة مختصة بما يُذبح من الحيوانات كالبهائم والطيور دون ما يُصاد.

وقبل البحث في المشاكل التي يواجهها الذبح بالمكائن الحديثة وكيفية معالجتها في ضوء الشريعة، لا بد من معرفة الشروط التي تصحح التذكية وتجعلها شرعية. فالكلام في جهتين:

(الجهة الأولى) شروط التذكية الشرعية.

(الجهة الثانية) تقنين الذبح بالمكائن الحديثة وفق الشريعة ومعالجة المشاكل.

ص: 253


1- انتهى إلقاء البحث يوم 26/محرم/1432 الموافق 2011/1/2.

الجهة الأولى: شروط التذكية الشرعية

اشارة

وبعض هذه الشروط يعود إلى الذابح كإسلامه والتسمية، وبعضها إلى الذبيحة كالاستقبال بها، وبعضها إلى كيفية الذبح بفري الأوداج الأربعة ونحوها، وبعضها إلى آلة الذبح كاشتراط كونها من الحديد، ونحن سنذكرها بترتيب واحد من دون تقسيمها بلحاظ هذه العناوين.

وسنؤجل البحث في المرجع عند الشك في هذه الشروط إلى نهاية البحث فيها؛ للحاجة هناك إلى قراءة عامة للروايات الواردة في الشروط بإذن الله تعالى.

الشرط الأول: التسمية

قال تعالى: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ، وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» (الأنعام: 119-120).

وقال تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» (الأنعام: 121).

وقال تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ» (الحج: 36).

وقال تعالى: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (المائدة: 4).

وقد وردت فيه روايات معتبرة متظافرة تعرضت له مباشرةً أو استطراداً في أبواب عديدة، ونذكر من تلك الروايات:

ص: 254

صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (ولا تأكل من ذبيحةٍ ما لم يذكر اسم الله عليها)(1).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من لم يُسمِّ إذا ذبح فلا تأكله)(2).

وخبر الورد بن زيد أنه قال لأبي جعفر (عليه السلام) في حديث: (مسلمٌ ذبح ولم يسمِّ، فقال (عليه السلام): لا تأكل، إن الله يقول: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ»)(3).

وصحيحة سليمان بن خالد في باب ذبيحة المرأة والغلام قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة الغلام والمرأة هل تؤكل؟ فقال: إذا كانت المرأة مسلمةفذكرت اسم الله على ذبيحتها حلّت ذبيحتها، وكذلك الغلام إذا قوي على الذبيحة فذكر اسم الله؛ وذلك إذا خيف فوت الذبيحة ولم يوجد من يذبح غيرهما)(4).(4).

وهنا فروع:

(الأول) مقتضى إطلاق الآيات الكريمة والروايات الشريفة كفاية ذكر اسم الله تعالى بأية صيغة نحو (بسم الله) أو (الله أكبر) أو (الحمد لله) أو (سبحان الله) وغيرها، ونصّت على ذلك صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته عن رجل ذبح فسبّح أو كبّر أو هلّل أو حمد الله، قال: هذا كله من أسماء الله لا بأس به)(5).(5)

بل مقتضى الإطلاق، وما يفهمه العرف من الأمر بذكر الاسم –كما في غير المقام- هو الاحتياج إلى أي صيغة والاكتفاء بلفظ الجلالة مجرداً وإن لم يقترن بصيغة حمد أو ثناء أو تسبيح ونحوها، لكن صاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((قد يناقش بأن العرف يقتضي كون المراد ذكر الله بصفة كمال أو ثناء،

ص: 255


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح1، 6، 5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح1، 6، 5.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح1، 6، 5.
4- (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 23، ح7.
5- (5) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 16، ح1.

كإحدى التسبيحات الأربع، لا أقل من الشك، والأصل عدم التذكية، خصوصاً بعد الصحيح المزبور الذي لا يخلو من إشعار بذلك))(1).

وفيه: إن مفاد صحيحة محمد بن مسلم الاجتزاء بذلك لا التقييد بإضافة شيء من هذه الصفات إلى الاسم، ومقتضى فهم العرف ما ذكرناه، والاستدلال بالأصل لا محل له بعد ثبوت الإطلاق المذكور، وعلى أي حال فالاحتياط حسن بضم صفة كمال.

(الثاني) لو لم يسمِّ نسياناً لم يحرم أكل الذبيحة، دلّت عليه عدة روايات معتبرة، ومنها صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يذبح ولا يسمّي، قال: إن كان ناسياً فلا بأس إذا كان مسلماً وكان يحسن أن يذبح ولا ينخع(2)

ولا يقطع الرقبة بعد ما يذبح)(3).

وصحيحته الأخرى (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل ذبح ولم يسمِّ، فقال: إن كان ناسياً فليُسمِّ حين يذكر ويقول: بسم الله على أوله وآخره)(4).وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث (أنه سأله عن الرجل يذبح فينسى أن يسمّي أتؤكل ذبيحته؟ فقال: نعم، إذا كان لا يُتّهم وكان يُحسن الذبح قبل ذلك، ولا ينخع ولا يكسر الرقبة حتى تبرد الذبيحة)(5).

وصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يذبح على غير قبلة قال: لا بأس، إذا لم يتعمد، وإن ذبح ولم يسمّ فلا بأس أن يسمّي إذا ذكر بسم الله على أوله وآخره ثم يأكل)(6).

ص: 256


1- جواهر الكلام: 36/113.
2- أي لا يقطع نخاعها وهو الحبل الشوكي الممتد داخل العمود الفقري، فنهى الحديث الشريف عن قطع نخاع الذبيحة قبل أن تموت وتسكن حركتها.
3- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح2، 4.
4- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح2، 4.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح3.
6- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح5.

(الثالث) مقتضى الروايات المتقدمة (صفحة 255) إطلاق حرمة الأكل مما لم يسمّ عليه إلا ما خرج بدليل كالناسي، فلا يلحق به تارك التسمية جهلاً؛ لعدم وجود دليل عليه، لكن ((صريح المحقق الأردبيلي (قدس سره) الإلحاق ولم يذكر عليه دليلاً، نعم استدل له بعضٌ آخر بكون الجهل كالنسيان في المعنى المسوّغ للأكل، ولذا تساويا في ترك الاستقبال))(1).

وردّ صاحب المستند (قدس سره) بأنه ((عين المصادرة)) وبتعبير آخر: أنه قياس باطل إذ لا دليل على تطابق أحكام الشرطين خصوصاً مع كون التسمية مما ورد فيها الآيات الشريفة المتقدمة، وما أفادت بعض الروايات المتقدمة من حصر التذكية بالاسم لبيان أهمية هذا الشرط، وبوجود موارد يسقط فيها وجوب الاستقبال دون التسمية، أما تساوي الجاهل والناسي في عدم حرمة الذبيحة إذا ترك الاستقبال فللدليل الخاص ولا يوجد مثله في التسمية.

وألفتُ النظر هنا إلى أن البعض –كالنراقي (قدس سره) في المستند- عبّر عن هذا الحكم بقوله: ((ثم التسمية أيضاً كالاستقبال في اختصاص وجوبها والحرمة بدونها بصورة التذكر وتعمد الترك)).

وفيه: ما أثبتناه في علم الأصول من استحالة أخذ العلم بالحكم قيداً في موضوعه أي أخذ العلم بوجوب التسمية قيداً في وجوب التسمية فتعبيره (قدس سره): ((اختصاص وجوبها ..)) مشكل، والوجوب مطلق، والصحيح هو ما عنوناه من عدم الحرمة بترك التسمية نسياناً.

كما أن كلامه (قدس سره) إذا فهمناه على نحو اللف والنشر المرتب بحيث يكون قوله: ((والحرمة بدونها)) مختصاً بتعمد الترك، فهذا قد يوهم بشمول الجاهل بعدم الحرمة لصدق عدم تعمد الترك كالذي ذكروه في الاستقبال، وهذا التعميم مشكل كما قدمنا.

لكن يمكن قبول هذا التعبير منه (قدس سره) تسامحاً باعتبار ما يؤول إليه الحكم عملياً.

ص: 257


1- مستند الشيعة: 15/414.

نعم يمكن أن نذكر أكثر من وجه لإلحاق الجاهل بالناسي:-1- إن الذبيحة إنما تحرم إذا ترك التسمية عمداً بحسب الظاهر من الآيات والروايات الشريفة باعتبار أن الآية نهت عن أكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وهي ظاهرة في العمد، والآيات التي فيها «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا» ونحوها لا مفهوم لها، والجاهل لا يصدق عليه العمد –في المقام على الأقل وإن لم يكن كذلك بالدقة وفي موارد أخرى- فلا تحرم ذبيحته.

2- ما ورد من إباحة ما في سوق المسلمين من اللحوم والجلود، مع أن بعض مذاهبهم –كالشافعية(1)-

لا يقولون بوجوب التسمية، فيكون تركهم لها من الجهل القصوري، ولا يكون الجهل موجباً لحرمة الذبيحة.

ويرد على الأول صدق العمد على الجاهل كما هو المتعارف في موارد الفقه فيكون مشمولاً بالإطلاقات إلا ما خرج بدليل، ويمكن التخلص من هذا الإشكال –أي صدق العمد على الجاهل- بأن يقال: إن المحرِّم لها هو تعمد عدم التسمية، والجاهل لم يتعمد ذلك، وإنما تعمد الذبح بدون التسمية، وهو غير محرِّم، وبينهما فرق.

إلا أن الكلام في استظهار ذلك التفريق مع تحقق الإطلاق، إلا أن يجعل قوله تعالى: «وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ» قرينة عليه فتكون علة التحريم الإهلال لغير الله بالذبيحة، وليس عدم الإهلال بها لله تبارك وتعالى، أو بقرينة ما كان يفعله المشركون في الجاهلية من الإهلال لغير الله تعالى، وقد جاء الإسلام مصححاً لتلك الانحرافات، وسنزيد الأمر بياناً في نهاية البحث في الجهة الأولى بإذن الله تعالى.

ويرد على الثاني أن الإباحة لعلها لعدم منجزية العلم الإجمالي لقلة موارد الابتلاء خصوصاً مع إفتائهم باستحباب التسمية وأنها من السنة وكراهة تركها، وإلا فإن حلية اللحوم الموجودة في سوق المسلمين ليست مطلقة، دلّ على ذلك مفهوم معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال

ص: 258


1- الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 4/2769.

أمير المؤمنين (عليه السلام): ذبيحة من دان بكلمة الإسلام وصام وصلى لكم حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليه)(1).

(الرابع) تعتبر في التسمية المقارنة لعملية الذبح، بحيث يصدق عرفاً أنه قد سمّى على الذبيحة عند تذكيتها، فلا يجزي ذكرها قبل ذلك، كوقت ربط الذبيحة أو إضجاعها على الأرض أو تعليقها ونحوها، وهذه المقارنة هي مقتضى فهم العرف للشرط، وفي صحيح محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من لم يسمِّ إذا ذبح فلا تأكله)(2).

(الخامس) قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((ولو قال: بسم اللهِ ومحمدٍ بالجر، لم يجز، لأنه شرك. وكذا لو قال: ومحمدٍ رسول الله. ولو رفع فيهما لم يضرّ، لصدق التسميةبالأول تامة، وعطف الشهادة للرسول زيادةُ خيرٍ غيرُ منافية، بخلاف ما لو قصد التشريك.

ولو قال: بسم الله واسم محمد، قاصداً: أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد، فلا بأس. وإن أطلق أو قصد التشريك لم يحل))(3).

وعلق صاحب الجواهر (قدس سره) على المقطع الأول: ((ولعله لأنه شرك في الأول على وجه يندرج في الإهلال به لغير الله، بل لا يصدق الذبح على اسم الله الظاهر في إرادة الاختصاص منه، خصوصاً مع ملاحظة نصوص (إنما هو الاسم، ولا يؤمن عليه غير المسلم) بخلاف صورة الرفع التي يصدق معها التسمية تامة))(4).

أقول: هذا نموذج لما يعتقده أتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) من التوحيد الخالص.

ص: 259


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 28، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح6.
3- مسالك الأفهام: 11/479.
4- جواهر الكلام: 36/115.

واختار بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) عدم المانعية من التشريك فقال: ((لأنه تصدق التسمية بذكر اسمه، واسمُ غيره لا يضر بصدق ذلك فلو كان عنه مانع لا بدّ وأن يقام عليه الدليل وإلا فمقتضى الأصل والإطلاق عدم المانعية فالأظهر عدم الاعتبار))(1).

وفيه: إن التشريك بنفسه مانعٌ، لأن المطلوب الإهلال لله تبارك وتعالى وحده لا مطلق ذكر الاسم.

(السادس) يمكن القول بعدم تعيّن التسمية بلفظ الجلالة، لأن المطلوب ذكر الذات المقدسة لا الاسم بدليل إضافة لفظ الاسم إلى لفظ الجلالة في الآيات الشريفة، ولأن الاسم يُنبّئ عن المسمى كما هو واضح فيكون مطلوباً من جهة إنبائه عن المسمى، وعلى هذا فلو قال: (باسم الرحمن) أجزأ وكذا غيره من أسمائها المختصة به تبارك وتعالى أو المنصرفة إليه على نحو تتعين به سبحانه عند الإطلاق وتصدق معه التسمية، إلا أن صاحب الجواهر (قدس سره) اعتبر البناء على احتمال مثل هذا الاجتزاء –كما عن المسالك- غير مجدٍ ((بعد أن لم يكن ظهور معتبر شرعاً، بل قد يدعى الظهور بعكسه ولا أقل من الشك، وقد عرفت أن الأصل عدم التذكية، خصوصاً بعد احتمال كون الإضافة فيه بيانية المقتضية لعدم الاجتزاء بغير الاسم المزبور))(2).

أقول: ما ذكرناه استظهار ساعد عليه الدليل كما تقدم وليس مجرد احتمال، مضافاً إلى التمسك بإطلاق روايات عديدة دلت على أن الذبيحة بالاسم كصحيحة الحسين الأحمسيعن أبي عبد الله قال: (هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم)(3)، والله تبارك وتعالى يقول: «قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى» (الإسراء: 110). فيمكن التذكية بكل اسم، مع

ص: 260


1- السيد محمد صادق الروحاني (دام ظله الشريف): في فقه الصادق: 36/141.
2- جوار الكلام: 36/113-114.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح2، وروايات أخر موجودة في هذا الباب والذي يسبقه.

ما تقدم (صفحة 255) من قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: (هذا كله من أسماء الله لا بأس به).

وستأتي روايات تدل على أبعد من ذلك كخبر عبد الملك بن عمرو قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في ذبائح النصارى؟ قال: لا بأس بها، قلت: فإنهم يذكرون عليها المسيح، فقال: إنما أرادوا بالمسيح الله)(1)، وخبره الآخر قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة اليهودي؟ فقال: حلال، قلت: وإن سمى المسيح، قال: وإن سمى المسيح فإنه إنما يريد الله).

نعم إذا كان القائل بعدم الاجتزاء لا يرى غير لفظ الجلالة اسماً للذات المقدسة لأنه المشير إليها حصراً، وأن إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة هي بيانية أي أن الاسم هو لفظ الجلالة كما تقدم عن صاحب الجواهر (قدس سره)، وأن الأسماء الحسنى الأخرى معبّرة عن الصفات الإلهية. وقد كثرت الروايات المعتبرة في أن التذكية بالاسم كصحيحة قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله (عليه السلام) (ولا تأكلها فإنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم)(2) وخبر الحسين بن المنذر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (الذبيحة بالاسم ولا يؤمن عليها إلا أهل التوحيد)(3) فيكون الصحيح عدم الاجتزاء بغير لفظ الجلالة لانحصار الاسم به، وعلله بذلك المحقق النراقي (قدس سره) أيضاً، قال (قدس سره): ((لجواز أن تكون الإضافة في اسم الله بيانية، بل يمكن الخدش في كون غير لفظ الله اسماً حقيقياً له))(4)،(4)ويكون

الأحوط حينئذٍ الإتيان بما يتضمن لفظ الجلالة.

(السابع) بناءً على القول بالإجزاء في الفرع السابق فإنه يمكن أن تجوز التسمية بغير العربية مما دل على الذات المقدسة خاصة أو ينصرف إليها عند الإطلاق إن وجدت مثل هذه الألفاظ في اللغات الأخرى، ولا يكفي أن يكون معناه قابلاً

ص: 261


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح35، 36.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح1، 2.
3- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح1، 2.
4- (4) مستند الشيعة: 15/416.

للانطباق على الذات المقدسة كما تترجم بعض ألفاظ اللغات الأخرى بمعنى (إله).

ورد صاحب الجواهر (قدس سره) بما نقلناه عنه في الفرع السابق على من احتمل الإجزاء وقد أجبناه، نعم يمكن أن يناقش بما ذكرناه في الفرع السابق فيكونالأحوط الاقتصار على لفظ الجلالة وباللغة العربية، ويتعلمها من لا يحسن العربية، لأن الشك في التذكية يعني جريان أصالة عدم التذكية.

(الثامن) قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((الأخرس إن كان له إشارة مفهمة حلّت ذبيحته، وإلا فهو كغير القاصد))(1).

أقول: لم يذكر دليلاً على ذلك، بل قد يقال إن الدليل على عدمه؛ لأن الظاهر من الروايات الدالة على وجوب التسمية وذكر الله: اشتراط التلفظ بالاسم، وأضاف المحقق النراقي (قدس سره) بأن التلفظ ((هو حقيقة التسمية المأمور بها))(2)، بل إن صريح بعضها التلفظ كقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: (ويقول: بسم الله على أوله وآخره)(3).

نعم ورد في جملة من موارد الفقه كفاية الإشارة للأخرس، إلا أن ذلك لا يقاس عليه لأنه إما بدليل خاص أو لأن المطلوب إبراز الرضا الباطني وبيان الإذن، فلا يقاس عليه المورد، ولا يمكن الخروج منها بكبرى كلية.

وأصرّ صاحب الجواهر على عدم الفرق ((بين المقام وغيره مما اعتبر فيه اللفظ الذي اكتفي فيه بإشارة الأخرس على حسب ما أوضحناه في العبادات والمعاملات))(4).

وقد تقدم ما فيه، وأنه إن كان دليله الاستقراء وتعميم ما في بعض الموارد ونحوها فإنها وجوه غير تامة.

ص: 262


1- مسالك الأفهام: 11/467.
2- مستند الشيعة: 15/417.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15/ح4.
4- جواهر الكلام: 36/116.

نعم توجد رواية مرسلة في الدعائم عن جعفر (عليه السلام) (أنه رخّص في ذبيحة الأخرس إذا عقل التسمية وأشار بها)(1).

ويمكن أن نذكر أكثر من وجه لما قاله الشهيد الثاني (قدس سره):-

التمسك بإطلاق قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا» الشامل للذكر القلبي المصحوب بما يبرزه، قال المحقق النراقي (قدس سره) في توجيه هذا القول: ((إن عُمِّم ذكر اسم الله بحيث يشمل التذكر القلبي لكان ما ذكره حسناً، ولكن لازمه الاكتفاء به في الناطق أيضاً ولم يقل به أحد))(2).

وقد أُشكل على هذا الوجه باللازم1- المذكور، لكن يمكن ردّه بضمّ المبرّز الذي ذكرناه، وهو من كل فرد بما يناسبه فالناطق يتلفظ بالتسمية، والأخرس يعبّر عنها بالإشارة المفهمة.

2- ما ورد في القرآن الكريم من نسبة القول إلى بعض الحيوانات وهي لا تتلفظ بكلماتنا المعروفة، كقوله تعالى: «قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ» (النمل: 18) وعن الهدهد «فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» (النمل: 22)، وهذا يعني صدق القول على غير اللغة من التعابير والإشارات المفهمة من كل مخلوق بحسبه، فما قاله المحقق النراقي (قدس سره) من أن حقيقة التسمية هو التلفظ خاص بمورده.

3- ما قلناه في حكم الجاهل من أن المحرِّم للذبيحة هو تعمد ترك التسمية، والأخرس لا يصدق عليه ذلك.

4- أن يقال إن شرط التسمية منجّز في حق القادر على التلفظ بها، ويسقط مع التعذر، إما لاشتراط القدرة في التكليف، أو باستظهارها من الأدلة ولو بقرينة سقوط شرط التوجيه إلى القبلة عند التعذّر.

ص: 263


1- دعائم الإسلام: 2/178، وأخرجناها نحن من جامع أحاديث الشيعة: 28/87.
2- مستند الشيعة: 15/417.

وهذا الوجه وإن كان ينتج حلّيّة الذبيحة له –أي للأخرس- لأنه المعذور، إلا أنها تحل لغيره أيضاً لعدم القول بالفصل أو للملازمة بين حليتها للشخص وحلّيتها للآخرين؛ فإنه عنوان غير قابل للتفكيك بحسب اللحاظ.

فتحل ذبيحة الأخرس إذا لم يسمّ، وحينئذٍ يلحق به لنفس الملاك من تركها مكرهاً أو لتقية.

وهذه المطالب إنما نذكرها للتشييد العلمي، وإلا فإن الاحتياط لا يترك ومقتضاه معلوم، خصوصاً مع الاختيار ووجود ذابح ناطق.

أما مع الاضطرار كعدم وجود ذابح إلا الأخرس وخشي فوت الحيوان فيمكن التشبث بهذه الوجوه.

(التاسع) يجب أن يكون صدور التسمية بقصد التذكية ليصدق على الذبيحة أنها مما ذكر اسم الله عليه، فلو ذكرت التسمية لغير هذا القصد كما لو قالها استحساناً لشيء واتفقت مقارنتها للذبح لم يجتزأ بها، نعم لو انضم إلى قصد التذكية قصدٌ آخر فلا بأس لتحقق المطلوب كما لو قال (الله أكبر) للتسمية على الذبيحة ولحكاية المؤذن، أو قال (الحمد لله) للتذكية وبعد العطاس.

(العاشر) ظاهر الروايات اشتراط صدور التسمية من الذابح نفسه، فلا تكفي تسمية غيره ولو كانت مقارنة للذبح، ولا يكفي فيه أيضاً وضع المسمي يده على يد الذابح لعدم تحقق الاتحاد بين عنواني المسمي والذابح.

الشرط الثاني: الاستقبال

اشارة

أي توجيه الذبيحة إلى القبلة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض كالنصوص))(1).

ص: 264


1- جواهر الكلام: 36/110.

ومن تلك الروايات صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الذبيحة، فقال: استقبل بذبيحتك القبلة، ولا تنخعها حتى تموت، ولا تأكل من ذبيحة لم تذبح من مذبحها)(1)

وصحيحته الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام): (إذا أردت أن تذبح فاستقبل بذبيحتك القبلة)(2)، واستُدل بعدد من الروايات الآتية الدالة على نفي البأس إذا لم يتعمد عدم الاستقبال كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة ذُبحت لغير القبلة، فقال: كُلْ، ولا بأس بذلك ما لم يتعمده)(3)، ومفهومها البأس إذا لم يستقبل عمداً، والبأس هو حرمة الذبيحة، وتوجد روايات تأمر بالاستقبال في الأضحية والذبح بمنى(4)

إلا أنها أخصّ من المدعى.

وأشكل المحقق النراقي (قدس سره) على استدلال المشهور بالروايات المتقدمة على الوجوب الشرطي واعتباره الاستقبال شرطاً للحلية وانتهى إلى نتيجة مفادها أن الدليل منحصر بالإجماع قال (قدس سره): ((وإلا فإثباته من الأخبار مشكل، لأن المتبادر من الأمر الوجوب الشرعي وهو غير مستلزم للحرمة مع ترك المأمور به))(5).

يشير (قدس سره) إلى الأمر بالاستقبال في صحيحة محمد بن مسلم، ((وكذلك نفي البأس في قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي (لا بأس إذا لم يتعمد) يناسب التكليف النفسي بأن يجب الاستقبال حين الذبح في نفسه من دون أن يلزم من عدمه حرمة الذبيحة وصيرورتها ميتة.

وما ورد في صحيح محمد بن مسلم من قوله (عليه السلام): (كُلْ، ولا بأس بذلك ما لم يتعمده) مجمل من هذه الناحية، لأن اسم الإشارة إذا كان

ص: 265


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 6، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح4.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 36، ح1، باب 37، ح1.
5- مستند الشيعة: 15/410.

راجعاً إلى الذبح لغير القبلة لا إلى الذبيحة كان ظاهراً في نفي البأس تكليفاً مع التعمد، ومفهومه ثبوته كذلك مع التعمد))(1).وفيه: إننا لا نمنع من حمل الأمر على النفسي التكليفي لو خلّي وذاته خصوصاً إذا كان الإمام (عليه السلام) هو من يبتدئ بتوجيه الأمر، لكننا نقول أن خصوصيات المورد تجعله ظاهراً في الوجوب الشرطي.

وإن الأمر في مثل المقام يناسبه الإرشادية إلى الحكم الوضعي أي الشرطية بحسب فهم العرف وليس الوجوب التكليفي، خصوصاً أن هذه الأوامر جاءت في سياق الجواب على سؤال عن الذبيحة –وسيأتي جملة منها في الفرع الأول-، ومثل هذا السؤال ظاهر في حلية الذبيحة وجواز الأكل منها. هذا مع تضمن الروايات لفقرات صريحة في الدلالة على الحكم الوضعي كجواز الأكل في صحيحتي محمد مسلم.

ومن هنا يُعلم النظر فيما أشكل به بعض الأعلام المعاصرين على أصل هذا الجواب بقوله: ((إلا أن هذا النقاش إنما يتجه إذا فرض عدم تناسب الموضوع المنهي عنه مع التكليف أو الآداب التكليفية، وهو ممنوع في المقام؛ إذ لا إشكال أن للذبح آداباً تكليفية كالنهي عن إيذاء الحيوان والأمر بكون الشفرة حادة والأمر بسقيه قبل الذبح، فليكن منها الاستقبال للقبلة))(2).

وجه النظر: أننا نتكلم عن ظهور الأمر بمساعدة القرائن المذكورة، وجعل (دام ظله الشريف) من القرائن أيضاً ((التعبير بقوله (عليه السلام): (إذا لم يتعمد) أو (ما لم يتعمد) فإنه أيضاً يناسب النظر إلى حكم الذبيحة لا فعل الذبح؛ إذ لو كان النظر إلى فعل الذبح لغير القبلة وحرمته تكليفاً كان ما فيه بأس قد وقع، غاية الأمر قد يكون معذوراً مع عدم العمد، فلا يناسب التعبير عنه ب-(لا بأس إذا لم يتعمد) كما يظهر بملاحظة أدلة المحرمات النفسية التكليفية. وإن شئت قلت: إن هذا القيد يناسب النظر إلى ما يترتب على

ص: 266


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 38.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 38.

الفعل من الآثار والنتائج الوضعية الأخرى لا حكم نفس الفعل الذي فرض وقوعه كذلك))(1).

وأضاف (دام ظله الشريف) وجهاً آخر للرد على إشكال الترديد بين الوجوب التكليفي والشرطي بقوله: ((لو سلّمنا إجمال الروايات الواردة في الاستقبال مع ذلك كانت النتيجة حرمة أكل الذبيحة التي لم يستقبل بها القبلة؛ وذلك لتشكّل علم إجمالي إما بحرمة أكلها لكونها غير مذكاة –بناءً على استفادة الشرطية- أو حرمة عمل الذبح إلى غير القبلة –بناءً على النفسية- وهذا علم إجمالي منجّز يوجب الاحتياط باجتناب طرفيه، بل تكفي أصالة عدم التذكية حينئذٍ لإثبات الحرمة؛ بناءً على ما هو الصحيح من جريانها لإثبات الحرمة والمانعية وإن قلنا بعدم جريانها لإثبات النجاسة))(2).

أقول: هذا العلم الإجمالي لا ينفع في موضوع الأكل من الذبيحة الذي هو محل الكلام لأكثر من وجه:-

1- إن هذا العلم لو سلمنا تنجيزه فإنه يجري في حق الذابح فقط لأنه يعلم إجمالاً بوجوب الاستقبال إما تكليفاً أو وضعاً.

2- إن الوجوب الشرطي ليس حكماً إلزامياً حتى يصلح أن يكون طرفاً في علم إجمالي منجّز، لوضوح إمكان الذبح لغير القبلة من دون حريجة في الدين على أن لا يطعمها للمكلفين فقد توجد أغراض أخرى لهذه الذبيحة.

3- إن هذا العلم الإجمالي غير منجّز لأن طرفيه ليسا في رتبة واحدة، فإن الوجوب التكليفي مرتبته قبل الذبح ولا أكل حينئذٍ فالوجوب الشرطي خارج عن محل الابتلاء، والوجوب الشرطي مرتبته بعد الذبح حيث لا معنى له إلا حلية الأكل عند تحقق الشروط والحرمة عند عدمها، ومحل هذا الحكم بعد موت الذبيحة وحينئذٍ يكون الوجوب التكليفي قد خرج عن الابتلاء.

ص: 267


1- و (2) قراءات فقهية معاصرة: 2/ 39.
2- و (2) قراءات فقهية معاصرة: 2/ 39.

4- تقدم منه أنه يبني على كون المرجع أصالة الحلية عند الشك في ثبوت الشرط، والمفروض عدم ثبوت شرط الاستقبال فكيف يكتفي بأصالة عدم التذكية لإثبات الحرمة، بغضّ النظر عن العلم الإجمال المذكور. نعم يمكن تقريب تنجّز هذا العلم في حق الذابح بأن يقال: إن الذابح يجب عليه الاستقبال بالذبيحة إما لأنه واجب نفسي تكليفي عليه، وإما لوجوب إطعام المسلمين لحماً مذكّى، ونتيجة هذا العلم وجوب الاستقبال عليه، وليس حرمة الذبيحة فيما لو خالف بناءً على ما هو المفروض من عدم ثبوت شرط الاستقبال بدليل معتبر.

ثم أردف (دام ظله الشريف) قائلاً: ((ولا يُتوهم محكوميتها للعمومات المتقدمة، إذ المفروض إجمالها بإجمال المخصص لها، وهو الروايات المذكورة; لأن تلك العمومات كما تنفي الوجوب الشرطي للاستقبال حين الذبح كذلك تنفي – ولو بإطلاق مقامي فيها - الوجوب النفسي التكليفي له، وإلا لكان ينبغي ذكره; لأنه تكليف تعبدي يغفل عنه العرف، فيكون المقام من موارد إجمال المخصص ودورانه بين المتباينين، الذي يسري إجماله إلى العام إذا كان متصلاً به، ويوجب تعارض إطلاقيه إذا كان منفصلاً. وعلى كلا التقديرين لا يصح الرجوع إلى العام لنفي شرطية الاستقبال في حلية الذبيحة، كما هو مقرر في سائر موارد المخصص للمجمل الدائر بين المتباينين))(1).

أقول:-

1- إن اعترافه (دام ظله) بإجمال تلك العمومات ينقض ما شيّده من مقتضى القواعد بها بعد أن سقطت حجيتها عن الاعتبار بالإجمال.

2- إن العلاقة بين روايات المقام وتلك العمومات ليست التخصيص لأن الخاص ليس ناظراً إليها فلا يسري إليها الإجمال وإلا لما صحّ جعلها أساساً لمقتضى القواعد مع وجود المخصص، وإنما هي –لو تمت-

ص: 268


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 40.

عمومات فوقانية لا يسري إليها الإجمال وإنما تكون مرجعاً لما هو أخص منها إذا حصل الشك في بعض أدلته لسبب أو لآخر.

وأشكل (دام ظله الشريف) على المشهور بما ملخّصه أن أدلتهم منحصرة بالإجماع والروايات الخاصة بالمقام، أما الإجماع فإنه غير متحقق صغروياً وإنماالموجود عدم وجود خلاف فيه، واستشهد بكلمات من السيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ المفيد (قدس الله أرواحهم) تفيد عدم تحقق الإجماع، ولو تحقق فإنه ليس ((تعبدياً خصوصاً إذا لاحظنا أن عبائر الفقهاء في كتبهم هي نفس تعبيرات الروايات))(1).

ثم ذكر الروايات الخاصة في المقام –وهي التي ذكرناها- وناقشها وانتهى إلى نتيجة أن مفادها الوجوب التكليفي النفسي أو أن الاستقبال من آداب الذبح وسننه، ولطول النقاش معه مما يخرج البحث عن سياقه لو وضعناه هنا ولأجل إتمام صورة البحث والأدلة سنؤجله إلى نهاية الكلام في هذا الشرط بإذن الله تعالى.

وهنا فروع:

(الأول) لو نسي توجيه ذبيحته إلى القبلة لم تحرم؛ إجماعاً للنصوص المعتبرة الدالة على ذلك كصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سُئل عن الذبيحة تُذبح لغير القبلة، فقال: لا بأس إذا لم يتعمد)(2)

وصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة ذُبحت لغير القبلة، فقال: كُلْ، ولا بأس بذلك ما لم يتعمده)(3) وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يذبح على غير قبلة قال: لا بأس إذا لم يتعمد، وإن ذبح ولم يسمِّ فلا بأس إذا ذكر بسم الله على أوله وآخره ثم يأكل)(4).

ص: 269


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 35.
2- و (3) و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح3، 4، 5.
3- و (3) و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح3، 4، 5.
4- و (3) و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح3، 4، 5.

(الثاني) لو لم يوجّه الذبيحة إلى القبلة جهلاً بالحكم أو الموضوع لم تحرم بلا خلاف و ((نسبه بعضهم إلى الأصحاب مشعراً بدعوى الإجماع عليه))(1)، ويستدل عليه بعدة وجوه:-

1- إطلاق صحيحة محمد بن مسلم (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل ذبح ذبيحة فجهل أن يوجهها إلى القبلة، قال: كلْ منها، فقلت له: فإنه لم يوجهها، فقال: لا تأكل منها، ولا تأكل من ذبيحة ما لم يُذكر اسم الله عليها، وقال: إذا أردت أن تذبح فاستقبل بذبيحتك القبلة)(2).

2- لعدم صدق تعمد الذبح لغير القبلة الموجب للحرمة في المعتبرات التي ذكرناها في الفرع الأول.

3- لما دلّ على جواز تناول اللحوم من سوق المسلمين مع أن المشهور عندهم عدم اشتراط الاستقبال عند الذبح.1- يمكن أن يستدل على المطلب بتعميم ملاك سقوط شرط الاستقبال إذا تردّت الذبيحة في حفرة أو تعذّر توجيهها، فيكون الملاك مطلق التعذر وهو متحقق في الجاهل.

أما النهي الوارد في جواب الشق الثاني من السؤال (فإنه لم يوجهها) وهو قوله (عليه السلام): (لا تأكل منها)، فقد حمله المشهور على عدم التوجيه عن علم وعمد –كما سيأتي في كلام صاحب الجواهر (قدس سره)- بقرينة اختلاف الجواب عن الشق الأول من السؤال عن حالة الجهل. وهو يفترض أيضاً عدم وحدة الموضوع في السؤالين بتقريب أن المسألة على نحو القضية الحقيقية، وأن المراد بالذبيحة جنسها.

ولكن هذا كله قد يكون محل تشكيك، إذ يمكن أن يقال إن مورد السؤال واحد في الشقين إما لأن مورد المسؤول عنه واقعة خارجية أو لأن ضمير

ص: 270


1- جواهر الكلام: 36/111.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح2.

(ها) متحد في السؤالين ويعود إلى ذبيحة واحدة، وهو ليس ببعيد، فحينئذٍ يكون معنى السؤال الثاني هو التأكيد على الأول وطلب إعادة الجواب لاستغرابه أو لجلب انتباه ذهن المسؤول أكثر إلى وجه السؤال –وهو الذبح لغير القبلة- أو التعجب من الجواب- إن أمكن تصور كل هذه المعاني في حق المسؤول (عليه السلام) والسائل-، وعلى هذا فيكون الجواب هو التماشي مع نفسية السائل وحثّه على ما هو الأفضل والأنزه له من اجتناب مثل هذه الذبيحة وإن كانت حلالاً، إلا أنها على أي حال مصداق لما لم يذكر اسم الله عليه.

وإنما ذكرت مثل هذا التحليل لفتح الذهن على معنى مقابل للمشهور الذي جرّ النقاش إليه لأنه استدل بما تقدّم وإلا فإنهم في غنى عن حمل (لم يوجهها) على العالم العامد للاستدلال به على الحرمة لوجود الروايات المعتبرة المتقدمة الدالة على ذلك.

وبناءً على تلك الأدلة يحمل قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مسلم الآنفة (فإنه لم يوجهها) على العالم العامد بتوجيه الذبيحة لغير القبلة لتخصيصها بالأدلة المذكورة وليس باستظهار المعنى منها في نفسها.

وأثير هنا إشكال- وسيأتي بإذن الله تعالى- بأن الجاهل بالحكم خصوصاً إذا كان عن تقصير يعتبر عامداً للفعل فتكون ذبيحته محرمة لشموله بالمعتبرات المتقدمة.

وهذا الإشكال لا معنى له لتصريح صحيحة محمد بن مسلم أعلاه بحلية ذبيحة الجاهل، وهي ظاهرة في الجهل بالحكم لا الموضوع لقوله: (فجهل أن يوجهها إلى القبلة) وليس (فجهل القبلة) ومع ذلك يمكن جواب الإشكال وفق القواعد من خلال الالتفات في المقام إلى عنوانين هما (تعمّد الذبح لغير القبلة) و (تعمد عدم الذبح إلى القبلة) والمحرِّم للذبيحة هو الأول في ضوء ما قدمناه لقوله (عليه السلام): (ما لم يتعمد ذلك) أي التوجيه لغير القبلة، والجاهل بتوجيه الذبيحة إلى القبلة موضوعاً أو حكماً، لا يصدق عليه الأول لوضوح عدم تعمده ذلك، أما الثاني فهو –وإن صدق على الجاهل بالحكم خصوصاً إذا كان عن

ص: 271

تقصير وفق ما يتعاطى به الفقهاء (قدس الله أرواحهم)- إلا أنه ليس موجباً للحرمة هنا.

وفي ضوء هذا يُعلم وجه النظر في كلام صاحب الجواهر، قال (قدس سره): ((يسفاد منها –أي صحيحة محمد بن مسلم أو حسنته عنده (قدس سره)- معذورية الجاهل بالحكم هنا أيضاً وإن صدق عليه التعمد، بل لعله المنساق من الحسن المزبور، بناءً على أن المراد منه الجهل بالتوجيه إلى القبلة وإن علمها، وحينئذ يكون المراد من قوله: (فإنه لم يوجهها) العالم العامد ولو بمعونة فتوى الأصحاب التي لولاها لأمكنإرادة بيان حِلّ ذبيحة الجاهل بالحكم إذا وجّه والحرمة إذا لم يوجّه فيكون دالاً على العدم، إلا أن فتوى الأصحاب به على وجه لا أجد خلافاً بين من تعرّض له ترجّح الأول))(1).

أقول: يظهر أن إشكال صدق العمد على الجاهل الموجب لحرمة الذبيحة محكم عنده لولا معونة فتوى الأصحاب، وفيه:-

1- إننا لا نحتاج إلى معونة فتوى الأصحاب لما ذكرناه من أن غاية ما يصدق على الجاهل تعمد عدم الذبح إلى القبلة وهو ليس محرِّماً، ولا يصدق عليه العنوان المحرِّم وهو تعمد الذبح لغير القبلة فلا نحتاج إلى المعونة المذكورة.

2- إن فتوى الأصحاب ليست حجة إذا كانت على خلاف ظهور الرواية.

3- قوله: ((لأمكن إرادة ..)) مخالف لظاهر الصحيحة كما هو واضح.

4- المناقشة التي تقدمت آنفاً في حمل (لم يوجهها) على العالم العامد.

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بل لعل منه أيضاً من لا يعتقد وجوب الاستقبال، كما جزم به في المسالك، فتحل ذبيحته حينئذ لغيره ممن يعتقد الوجوب، لكونه من الجاهل حينئذ، وعلى الجاهل (وللجاهل خ)، اللهم إلا أن يشك في اندراج مثله في الجهل في النصوص المزبورة))(2).

ص: 272


1- جواهر الكلام: 36/111.
2- جواهر الكلام: 36/111.

أقول: حلية الذبائح المأخوذة من سوق المسلمين عامة ثابتة بأدلتها كصحيحة الفضلاء (أنهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق، ولا يدرى ما صنع القصّابون، فقال: كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه)(1)

وكثير غيرها في أبواب النجاسات والأطعمة المحرمة والصيد والذباحة.

فلا تحتاج الحلية إلى هذه التقريبات، بل يمكن الاستدلال بتلك الروايات على حلية ذبيحة الجاهل بالاستقبال أي عكس ما استدل (قدس سره) به لأن المشهور عندهم عدم وجوب الاستقبال بل هي من السنن(2)

كما قرّبنا آنفاً، فحلية ذبائحهم تعني حلية ذبيحة الجاهل.

نعم يمكن لصاحب الجواهر (قدس سره) أن يقول: إن عدم قولهم بوجوب الاستقبال لا يلزم منه عدم استقبالهم بالذبائح لأنه عندهم من السنن، وتركه مكروه، وإذا وُجد منهم من لا يستقبل فإنه يشكّل شبهة غير محصورة لا تنجّز الحرمة، وحينئذٍ تكون الحلية لكون الشبهة غير محصورة، وليس لحلية ذبيحة الجاهل فلا يتم الاستدلال بها بهذا الاتجاه بل باتجاه صاحب الجواهر (قدس سره).وعلى أي حال فإن الكلام عنهم يبقى مجرد دعوى ولا علم لنا بواقعهم الخارجي خصوصاً زمن صدور النص لنميّز إن كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة.

كما يأتي الإشكال الذي ذكرناه في شرط التسمية على صاحب المستند (قدس سره) الذي قيّد وجوب الاستقبال بالعلم بالوجوب وهو مستحيل.

ص: 273


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 29، ح1.
2- الفقه الإسلامي وأدلته: 4/2771.

(الثالث) ظاهر الروايات الدالة على وجوب الاستقبال –كالتي تقدمت في الفرع الأول- أن المقصود بالشرط توجيه الذبيحة إلى القبلة، أما الذابح فقد ذكر وجهان(1)

لوجوب استقباله:-

1- إن قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: (فاستقبل بذبيحتك القبلة) دال على استقبالهما معاً كقولنا: (ذهب بزيد) فإنه يتبادر منه أنهما ذهبا معاً.

2- خبر الدعائم عن أبي جعفر (عليه السلام) (إذا أردت أن تذبح ذبيحة فلا تعذب البهيمة أحدّ الشفرة واستقبل القبلة)(2).

واعتبر صاحب الجواهر (قدس سره) هذا القول توهّماً وردَّ على الأول بأن ((جيد النظر يقتضي خلاف ذلك، خصوصاً مع ملاحظة غيره من النصوص المذكور فيها الاستقبال للذبيحة خاصة وخصوصاً مع ملاحظة إتيان التعدية بالباء لغير المعنى المزبور، نحو (ذهب الله بنورهم) ))(3)، ورد صاحب المستند (قدس سره) أيضاً على الوجه الأول ((بمنع التبادر، بل الظاهر أنها مثل التعدية بالهمزة، فإن المتبادر من (ذهب به) أنه أذهبه))(4).

وعلى الثاني بأنه ((مع إرساله لا صراحة فيه بل ولا ظهور، لاحتمال إرادة الاستقبال بالبهيمة، بل لعله الظاهر، خصوصاً مع ملاحظة غيره من النصوص وعدم القائل باعتبار استقباله خاصة))(5).

أقول: الظاهر أنه يريد من النصوص ما ذكرناه في الفرعين الأول والثاني فإنها صريحة في كون المقصود بالتوجيه هي الذبيحة، وبناءً على هذا فقد ذهب البعض إلى حمل استقبال الذابح في خبر الدعائم على الندب له، ولعموم ما دل على استحباب استقبال القبلة في الأفعال كلها عدا ما استثني، وبالاستئناس بخبر

ص: 274


1- ذكرهما صاحب الجواهر (قدس سره): 36/112 وغيره.
2- مستدرك الوسائل: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 12، ح1.
3- جواهر الكلام: 36/112.
4- مستند الشيعة: 15/412 وسبقه الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: 11/477.
5- جواهر الكلام: 36/112.

الدعائم في كيفيةالنحر (يقام قائماً حيال القبلة، وتعقل يده الواحدة، ويقوم الذي ينحره حيال القبلة)(1)

الحديث.

أقول: هذا على وفق ما مشوا عليه (قدس الله أرواحهم) وإلا فإن في النفس منه شيئاً؛ لأن المقتضي للوجوب موجود وهو ظهور (استقبل بذبيحتك) في الوجوب عليهما، والمانع مفقود وهي الروايات الصريحة في الذبيحة لعدم التنافي وإمكان الجمع بالوجوب عليهما، وببيان آخر: إن ظاهر (استقبل) الوجوب النفسي التكليفي على الذابح، والباء يمكن أن تكون للمصاحبة كقوله تعالى : «اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذا» فتدل –بضميمة الروايات الأخر- على وجوب استقبالهما معاً، أو أنها للتعدية فنحتمل الوجهين: الاستقبال لهما أو لخصوص الذبيحة، والأول أظهر إلا أن يدل دليل على الثاني كقوله تعالى: «ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِم» لعدم إمكان الأول في حقه تعالى.

ويظهر إلى الآن عدم وجود مانع من القول بوجوب استقبال الذابح أيضاً، ويمكن أن يقرّب هذا الوجوب بحصول علم إجمالي بوجوب استقبال الذابح أو الذبيحة، وهذا ينجّز وجوب الإتيان بهما معاً، وبدونه يحصل الشك في التذكية فتجري أصالة عدم التذكية.

ويرد على هذا التقريب:-

1- إن هذا العلم غير منجّز لانحلاله بتيقن وجوب الاستقبال بالذبيحة على جميع التقادير والشك في وجوبه على الذابح فتجري فيه أصالة البراءة، أي أن الأمر ليس دائراً بين الوجوب على الذابح أو الذبيحة، وإنما بين الوجوب عليهما أو وجوب الاستقبال بالذبيحة فقط.

2- إن الوجوبين ليسا من سنخ واحد فالوجوب على الذابح تكليفي نفسي، والذي على الذبيحة شرطي وضعي، فلا يتشكّل منهما علم إجمالي منجّز.

3- إن الوجوب على الذابح تكليفي نفسي فلا تجري عند الشك فيه أصالة

ص: 275


1- مستدرك الوسائل: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 2، ح5.

عدم التذكية، وغاية ما يترتب على تركه عمداً فضلاً عن الشك فيه الإثم وليس حرمة الذبيحة.

نعم يمكن ذكر عدة وجوه لاختصاص الوجوب بالذبيحة، منها:-

1- ما لو أمكن استظهار وجوب الاستقبال بالذبيحة خاصة من الروايات الأُخر –كالتي ذكرناها في الفرع الأول- فيكون هذا الظهور معيِّناً لهذا الاحتمال دون احتمال استقبالهما.

2- ما يمكن إضافته من القيد اللبّي المتمثل بجريان السيرة على عدم وجوب استقبال الذابح وعدم مراعاته لذلك، فتكون المسألة ابتلائية ومع ذلك لم يرد نصّ ينهى عن ذلك أو يصحّحه.

3- دعوى تعذّر استقبال الذابح مع الذبيحة في آن واحد، فيكون مسقطاً للتكليف أو أنه يكون ارتكازاً مقيداً للنصوص.

(الرابع) إنما يجب الاستقبال مع الإمكان، ويسقط مع عدمه كما إذا استصعبت على ذابحها أو تردّت في بئر، ففي صحيحة الحلبي قال (قال أبو عبد الله (عليه السلام) فيثور تعاصى فابتدره قوم بأسيافهم وسموا فاتوا علياً (عليه السلام) فقال: هذه ذكاة وَحِيَّه(1)

ولحمه حلال)(2)

ول-((ضرورة عدم صدق تعمد غير القبلة ولعل منه معاجلة المذبوح على وجه يخشى من موته لو اشتغل بتوجيهه إلى القبلة، والله العالم))(3).

(الخامس) ظاهر النصوص المتقدمة أن الواجب استقبال الذبيحة بكل البدن لأن الذبيحة تعني الحيوان كله، وعدم الاكتفاء بالمذبح خاصةً، لكن الشهيد الثاني

ص: 276


1- وَحِيَّة: أي سريعة، ومنه قولهم: الوحا الوحا: أي العجل العجل، وفي دعاء (يا من تُحل به عقد المكاره) قوله (عليه السلام): (واجعل لي من عندك مخرجاً وحيّاً) أي سريعاً عاجلاً.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 10، ح1.
3- جواهر الكلام: 36/112-113.

(قدس سره) قال: ((وربما قيل بأن الواجب هنا الاستقبال بالمذبح خاصة وليس ببعيد))(1).

أقول: لعل وجهه صدق الاستقبال عرفاً إذا تحقق بهذا المقدار، أو إن إطلاق الذبيحة على الحيوان فيه إشارة أن الملحوظ في الشرط محل الذبح، أي أن الذبيحة لم تؤخذ في العنوان بذاتها وإنما بلحاظ حيثية الذبح فيها خصوصاً مع ملاحظة تعذّر توجيه كل مقاديم الذبيحة إلى القبلة، ويؤيد هذا القول بفهم الباء على أنها للتبعيض، وليس البعض المراد من الذبيحة إلا مذبحها.

ولا يتعين الاستقبال بطرح الحيوان على الأرض –سواء على جانبه الأيمن أو الأيسر- بحيث تكون مقاديمه إلى القبلة، بل يتحقق الاستقبال في حال وقوف الحيوان أو تعليقه، ولكل حالة شكلها من الاستقبال، كما أن الإنسان يستقبل القبلة في أوضاع متعددة كالنوم أو الاحتضار أو الصلاة أو الدفن ونحوها.

ولو ادعي انصراف النصوص إلى الحالة الغالبة من طرح الحيوان وإضجاعه بحيث تكون مقاديمه إلى القبلة، أجيب عليه كبروياً بمنع صلاحية الانصراف للتقييد، ومنع الغلبة لكثرة ما ينحر –أي الإبل- وهي تنحر قائمة.

مناقشة البعض للمشهور

أورد بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) ما سمّاه (مناقشة المشهور)(2) في استدلالهم على شرطية الاستقبال فقال: ((وأما ما صنعه المشهور في فهم الروايات – حيث فسروا العمد فيها بما يقابل السهو وما يقابل الجهل ولو بالحكم ولو عن تقصير- فهذا خلاف الظاهر ومغاير مع ما مشوا عليه في سائر الأبواب;إذ العمد معناه القصد، والعمد إلى فعل لا يتوقف على العلم بحكمه، فلو قصد الأكل – مثلاً - كان متعمداً سواء علم بحرمته أم لا، ومن قصد الذبح

ص: 277


1- مسالك الأفهام : 11/477.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 40-45.

لغير القبلة كان متعمداً سواء علم بشرطية الاستقبال أم لا. نعم، الجاهل بالموضوع، أي بعنوان الفعل لا يكون متعمداً; لأن القصد والعمد إلى فعل فرع الالتفات والعلم أو الاحتمال له على الأقل، كما أن المأخوذ لو كان عنوان تعمد مخالفة السنة أو المعصية لم يصدق مع الجهل بالحكم; لأن عنوان المخالفة والمعصية يكون مجهولاً عندئذٍ، فيكون من الجهل بالموضوع، إلا أن العمد أضيف في هذه الروايات إلى نفس الذبح لغير القبلة. نعم، ورد في مرسلة الدعائم عنوان مخالفة السنة على ما سنشير إليه. وهذا يعني أن مقتضى الصناعة تقييد الطائفة الأولى –التي فيها فاستقبل بذبيحتك القبلة- بالثانية التي ورد فيها أن البأس ثابت في صورة العمد ويراد به صورة القصد إلى الفعل وهو الذبح لغير القبلة، سواء علم بحكمه أم لا.

إلا أن هذا على خلاف ما هو المسلم من حلية ذبائح المسلمين من سائر المذاهب مع صدق العمد إلى الفعل في حقهم، بل وعلى خلاف صحيحة محمد بن مسلم الأخيرة فإنها صريحة بصدرها في جواز الأكل مع الجهل بالحكم، لأن السؤال فيها عن حكم الجاهل بالحكم لا بالموضوع، حيث ذكر: (فجهل أن يوجهها إلى القبلة)، ولم يقل: (وجهل القبلة) )).

أقول:-

1- تقدم تقنين كلام المشهور هنا وفق ما مشوا عليه في سائر الموارد بتقريب أنهم بنوا هنا على صدق العمد على الجاهل، لكننا فرّقنا آنفاً بين عمدين أحدهما يصدق على الجاهل لكنه غير محرِّم للذبيحة، والآخر محرِّم للذبيحة لكنه لا يصدق على الجاهل، وبتعبير آخر: إن المحرِّم للذبيحة هو الذبح لغير القبلة عن علمٍ –بالحكم وهو الحرمة والموضوع- وعمد بحسب الظاهر من الروايات ولو بجعل بعضها قرينة على بعض، بل مضافاً إليهما الاختيار أيضاً، فمن يذبح لغير القبلة عن علم وعمدٍ مضطراً كما لو استصعبت الذبيحة فإنها تحلّ.

والخلاصة: إن العمد وحده حتى لو صدق فإنه ليس محرِّماً.

ص: 278

2- لو سلّمنا خروج المشهور عما مشوا عليه فإنه للدليل الخاص وهي صحيحة محمد بن مسلم الظاهرة في أن المقصود هو الجاهل بالحكم.

3- لو قلنا بحرمة الذبح لغير القبلة جهلاً فإنه لا يخالف ما هو المسلم من حلّّية ذبائح المسلمين، لما قرّبناه من أن هذا المسلَّم لا يعني إلغاء الشروط المعتبرة كالتسمية والاستقبال؛ لأن المشهور وإن لم يكن عندهم وجوب الاستقبال إلا أنهم يحثّون عليه ويكرهون تركه، والمعاند منهم شبهة غير محصورة.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((وما صنعه المشهور في تفسيرها من حمل صدرها على صورة عدم العمد وذيلها على صورة العمد واضح البطلان; إذ مضافاً إلى ما تقدم من أن الجهل بالحكم لا يرفع العمد، صريح الرواية أن الفقرتين فيهما تساؤل عن فرضية واحدة لا فرضيتين. وعليه، فلو حملنا ذيلها على النهي عن الأكل لا الإخبار كان المتعين حمله على الكراهة والتنزه، لأن الأمر بالأكل في صدرها صريح فيالحلية، بينما النهي ظاهر في الحرمة، فيحمل على التنزه لا محالة، فيكون مفاد الصحيحة الكراهة وعدم الحرمة، وعندئذٍ لا بد إما من تقييد روايات الطائفة الأولى والثانية بصورة العلم بالحكم، أو حمل الأمر فيها على الاستحباب)) ((ونحن لو لم نقل بتعيّن الثاني للجمع)) ((فلا أقل من تساوي الاحتمالين من حيث المؤونة العرفية بحيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر فيكون مجملاً)).

أقول:-

1- إن عدم حرمة ذبيحة الجاهل بالاستقبال مما صرّحت به الصحيحة فلا معنى لمحاولة إلحاق الجهل بالعمد ونحوه، نعم علينا أن نفهم معنى الجهل والعمد في المقام كما فرّقنا.

2- إن قوله: ((صريح الرواية أن الفقرتين منهما تسأل عن فرضية واحدة لا فرضيتين)) دعوى لم يذكر دليلاً عليها، والمشهور يذهب إلى عكس ذلك؛ فإن صريح السؤال الأول الجهل بالتوجيه إلى القبلة، أما السؤال

ص: 279

الثاني فإنه وإن كان مجملاً في نفسه إلا أن اختلاف الجواب قد يكون قرينة على اختلاف السؤال، وحملت على التعمد بقرينة الصحاح المتقدمة الدالة على الحرمة عند التعمد، وقد قرّبنا هذا التوجيه للمشهور (صفحة 273)، نعم قد ذكرنا هناك مناقشة للمشهور تقتضي إمكان وحدة موضوع السؤالين، وبإمكانه (دام ظله الشريف) أن يتمسك بها.

3- إن النتيجة التي توصل إليها وهي حمل النهي عن أكل ذبيحة الجاهل – باعتبار وحدة السؤال- على التنزيه لا تنفعه ولا تنافي ما عليه المشهور كما قرّبنا في موضعها.

4- إن عدم صحة حمل (فإنه لم يوجهها) على العالم العامد لا تضرّ باستدلال المشهور، لوجود المعتبرات المتقدمة على حرمة ذبيحته فهم في غنى عن هذا الحمل.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((هذا ويمكن أن يقال: ليس المقصود إضافة العمد إلى ذات الذبح لغير القبلة، بل المقصود من يتعمد مجانبة القبلة في الذبح بأن يتقصد أن لا يذبح إليها، بل يذبح إلى غيرها، وهذا لا يكون إلا ممن في قلبه مرض كالكفار والمنافقين، أي من ليس بمسلم لبّاً وواقعاً، كالكفار الذين يتعمدون الإهلال بذبائحهم لغير الله من الأصنام ونحوها، وإلا فهو لا يصدر عن المسلم الواقعي.

فخروج ذبائح المسلمين - من أبناء المذاهب الأخرى – عن عنوان العمد في الروايات ليس بملاك أن جهلهم بشرطية الاستقبال يجعلهم غير عامدين للذبح إلى غير القبلة، ليقال بأن الجهل بالحكم لا يرفع عنوان العمد إلى الموضوع، بل لعدم قصدهم مجانبة القبلة، أي عدم عمدهم لحيثية القيد، فإن هذا لا يكون عادة إلا في من لا يعتقد بأصل القبلة، لا المسلم فإنه إذا ذبح لغير القبلة فلغرض له في ذات المقيد لا حيثية القيد، فلا يصدق عليه العمد بالمعنى المذكور.

وهذا يعني أن هذه الروايات ليست بحسب الحقيقة دالة على شرطية الاستقبال، بل على أن لا يكون الذابح متعمداً مجانبة القبلة في ذبحه، والذي قد

ص: 280

يكشفعن عدم صحة اعتقاده وعدم إسلامه. وبهذا لا يكون مفاد هذه الروايات شرطاً زائداً على اشتراط إسلام الذابح وحسن اعتقاده)).

أقول:-

1- هذا الوجه قريب مما وجهنا به كلام المشهور من التفريق بين صورتي العمد، لكن ما ذكرناه أوضح عرفاً وأدق ومختصر.

2- إن كون الذابح مسلماً لا يلزم منه توجيه الذبيحة إلى القبلة ما لم يُلزَم بالحكم الشرعي فكيف يجعل الاستقبال من آثار كون الذابح مسلماً؟

3- إن الأدلة على وجوب الاستقبال غير الأدلة على إسلام الذابح فهما شرطان متغايران بحسبها.

4- إن اشتراط كون الذابح مسلماً محل كلام سيأتي بإذن الله تعالى وليس مفروغاً منه.

5- لو كان ما قاله صحيحاً لجعل التسمية أيضاً كالاستقبال من آثار صحة اعتقاد الذابح وعدم إسلامه، بل الأمر فيها أوضح، مع أن التسمية شرط مستقل.

6- أما ما افترضه أن المسلمين لا يتعمدون مجانبة القبلة فهو من حسن الظن بهم، وإلا فإن ممن تسموا بالمسلمين من انتهكوا المقدسات وارتكبوا المحرمات بما لا مزيد عليه، وما يشترط في إسلام الذابح أداؤه الشهادتين، مضافاً إلى أن مجرد كون الذابح مسلماً لا يلزمه بالاستقبال حتى يلزم بذلك.

ثم ذكر جملة من المؤيدات والقرائن لتأكيد هذه النتيجة، قال (دام ظله الشريف): ((وقد يؤيده ما نجده في ذيل صحيح محمد بن مسلم الأخير، حيث عطف على النهي عن أكل ذلك بقوله (عليه السلام): (ولا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم الله عليها) فإن بيان هذه الكبرى الكلية عقيب ذلك مع أنه لم يرد سؤال عنه لعله لبيان نكتة ذلك النهي، وأن من يتعمد أن لا يوجه الذبيحة إلى القبلة بالمعنى المتقدم حيث يشك في اعتقاده وإسلامه يشك في تسميته وإهلاله بالذبيحة لله أيضاً)).

ص: 281

أقول: هذا التقريب يدل على أن الأصل في الشروط هي التسمية وليس إسلام الذابح كما قرّب (دام ظله)، مضافاً إلى أنه يمكن أن تكون النكتة أهمية شرط التسمية، ويشهد له الروايات المتقدمة والتي ورد في بعضها حصر التذكية بالاسم.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((ومما يمكن أن يستدل أو يستأنس به على الأقل لما ذكرناه عدم ورود هذا الشرط في شي ء من عمومات الكتاب والسنة، حتى المتعرضة لتفاصيل الذبح وآدابه، كقوله (عليه السلام): (ولا ينخع ولا يكسر الرقبة حتى تبرد الذبيحة) فلو كان الاستقبال شرطاً أيضاً فلماذا لم يذكر؟! وهذه وإن كانت عمومات قابلة للتقييد في نفسها، إلا أن خلوّ مجموعها عن ذكر هذا الشرط – خصوصاً ما يتعرض فيها لذكر الشروط والآداب المستحبة أو غير الموجبة لحرمة الذبيحة - قد يشكل دلالة قوية على نفي الشرطية بحيث تجعلها كالمعارض مع الروايات الدالة على الشرطية.

وإن شئت قلت: إن التقييد في مثل المقام قد يكون أكثر مؤونة من حمل الروايات الآمرة بالاستقبال على الاستحباب،وأنه سنة وأدب إسلامي في مقام الذبح والإهلال بالذبيحة لله عز وجل كما صرحت بذلك رواية الدعائم (عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا فيمن ذبح لغير القبلة: إن كان أخطأ أو نسي أو جهلفلا شي ء عليه وتؤكل ذبيحته، وإن تعمد ذلك فقد أساء ولا يجب (ولا نحب) أن تؤكل ذبيحته تلك إذا تعمد خلاف السنة) وظاهرها عدم الوجوب كما لا يخفى، كما أنها أضافت التعمد إلى مخالفة السنة، وهو الحكم الشرعي، لا مجرد الفعل الخارجي)).

أقول:-

1- لم ترد رواية واحدة تجمع الشروط جميعاً عدا الاستقبال حتى يمكن أن يرد ما ذكره، بل جاءت الشروط مبثوثة في روايات متعددة كما اتضح من البحث.

ص: 282

2- لو سرنا بهذا التفكير لألغينا كل الشروط عدا التسمية لأنها الشرط الوحيد الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وورد في الروايات المعتبرة ما يدل على حصر التذكية بالاسم كما تقدم.

3- إن الإطلاق المتصور في إطلاق آيات التسمية ونحوها بدوي، وإلا فإن الأدلة المعتبرة الأخرى بيّنت الشروط الأخرى فليست العلاقة هي التقييد حتى يتحدث عن مؤونته، وإلا لتمسكنا بإطلاقات ما دل على شرطية كل واحد منها على حدة واعتبرنا البيانات الأخرى مقيدات، إذ جاءت الشروط في روايات مختلفة.

4- أما خبر الدعائم، فإنه مع ضعف سنده لا يأبى الحمل على حرمة الذبيحة بمعونة الأدلة على الشرطية.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((هذا كله مضافاً إلى استبعاد مثل هذه الشرطية اللزومية في نفسها بأن يكون الاستقبال شرطاً في التذكية ولكن ترتفع شرطيته بالجهل ولو بالحكم ولو عن تقصير، بحيث تكون شرطيته خاصة بالشيعي العالم بالحكم، فإن هذا يناسب الأحكام التكليفية لا الوضعية كالطهارة والتذكية ونحو ذلك.

وهذه المناسبة قد تشكل قرينة لبّية أيضاً لصرف مفاد الروايات إلى التكليف النفسي في مقام الذبح أو إلى ما ذكرناه من الكاشفية عن حسن إسلام الذابح وإهلاله بالذبيحة لله حقيقة وجداً)).

أقول:-

1- لا بُعد في ذلك فالتسمية شرط، ومع ذلك فإن الذابح إذا نسيها، أو جهل بها –على قول تقدم- فإن ذبيحته لا تحرم.

2- إنا لا نقول باختصاص الوجوب بالعالم له للزوم الاستحالة التي ذكرناها في أكثر من موضع، فالوجوب الشرطي مطلق، إلا أن ذبيحة الجاهل بالاستقبال لا تحرم.

3- الإشكالات السابقة على الملازمة بين الاستقبال وإسلام الذابح.

ص: 283

ثم ذكر (دام ظله الشريف) ما يشير إلى عدم وجود إجماع في المسألة فقال: ((إن عبارة الشيخ قدس سره في الخلاف في مسألة الاستقبال قد تدل على عدم إجماع في المسألة، وإلا كان يصر ح به ويستدل به، فقد ذكر في المسألة من كتاب الأضحية (لا يجوز أكل ذبيحة تذبح لغير القبلة مع العمد والإمكان، وقال جميع الفقهاء: إن ذلك مستحب، وروي عن ابن عمر أنه قال: أكره ذبيحة تذبح لغير القبلة. دليلنا: أن ما اعتبرناه مجمع على جواز التذكية به، وليس على ما قالوه دليل، وأيضاً روى جابر قال: ضحى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكبشين أقرنين فلما وجههما قرأ وجهت وجهي، الآيتين).ومما قد يدل على ذلك أيضاً أنه لم يذكره في كتاب الصيد والذباحة وشرائطهما، بل ذكره في كتاب الضحايا ومستحباتها. كما أن عبائر السيد المرتضى (قدس سره) في الانتصار قد توحي بعدم وجود إجماع واضح في المسألة، حيث أنه استدل على ذلك بالأصل العملي، فراجع كلماته.

وأما كلام المفيد (قدس سره) في المقنعة فقد ذكر فيه الاستقبال في سياق غيره من الشروط المستحبة أو الواجبة نفسياً أي غير الموجبة لحرمة الذبيحة، كعدم قطع رأس الذبيحة وعدم سلخها حتى تبرد، فراجع وتأمل)).

أقول: لا حاجة للدخول في مناقشة كلمات الفقهاء وتحصيل الإجماع بعد الروايات الصحيحة المتقدمة، ولو تم لدينا إجماع لقلنا إنه إجماع مدركي مستند إلى الروايات.

نعم يمكن توجيه هذه المناقشة إلى المحقق النراقي (قدس سره) الذي شكك في دلالة الروايات وحصر الدليل على شرطية الاستقبال بالإجماع.

الشرط الثالث: إسلام الذابح

اشارة

وردت روايات تدل على حلية ذبائح المسلمين كعمومات سوق المسلمين المتقدمة، وصحيحة سليمان بن خالد قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة الغلام والمرأة هل تؤكل؟ فقال: إذا كانت المرأة مسلمة فذكرت اسم الله على ذبيحتها حلت ذبيحتها وكذلك الغلام إذا قوي على الذبيحة فذكر اسم

ص: 284

الله وذلك إذا خيف فوت الذبيحة ولم يوجد من يذبح غيرهما)(1)

وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث (أنه سئل عن ذبيحة المرأة فقال: إذا كانت مسلمة فذكرت اسم الله عليها (فكل خ) )(2)

وخصوصاً إذا كان متديناً، دلت عليه معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ذبيحة من دان بكلمة الإسلام وصام وصلى لكم حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليها)(3).

والقدر المتيقن من الذبائح المحللة ما يتولاها الملتزم بولاية أهل البيت (عليهم السلام) كما في صحيحة(4)

زكريا بن آدم قال: (قال أبو الحسن (عليه السلام): إنيأنهاك عن ذبيحة كل من كان على خلاف الذي أنت عليه وأصحابك إلا في وقت الضرورة إليه)(5).

ولمعرفة حال ذبائح غير القدر المتيقن نقسّمهم إلى أصناف:-

1- أهل الديانات غير السماوية أو اللادينيون كالملاحدة والمشركين والوثنيين وعبدة النيران.

2- المتسمون بالإسلام إلا أنهم مخالفون لأصوله كالمجسمة والغلاة والنواصب والقدرية.

ص: 285


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 23، ح7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 23، ح6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 28، ح1.
4- في السند أحمد بن حمزة القمي وهو ابن اليسع بقرينة اللقب والطبقة فإنه من رجال الإمام الهادي (عليه السلام) ويروي عن زكريا بن آدم، وقد وُصف بأنه ثقة ثقة، فليس أحمد بن حمزة في الرواية ابن بزيع الذي لم يوثق، وقال عنه الكشي: أنه ومحمد بن إسماعيل بن بزيع كانا في عداد الوزراء، ولذا جعل السيد الخوئي (قدس سره) عنوان أحمد بن حمزة القمي مطابقاً لأحمد بن حمزة بن اليسع (معجم رجال الحديث).
5- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح9.

3- أهل الكتاب غير المسلمين وهم اليهود والنصارى وألحق البعض بهم المجوس.

4- المسلمون من غير أهل الولاية لأهل البيت (سلام الله عليهم).

فالكلام في ذبائح هذه الأصناف.

(الصنفان الأول والثاني):

حكي الإجماع على حرمة ذبائح غير أهل الكتب السماوية، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((اتفق الأصحاب بل المسلمون على تحريم ذبيحة غير أهل الكتاب من أصناف الكفار، سواءٌ في ذلك الوثني وعابد النار والمرتد وكافر المسلمين كالغلاة وغيرهم))(1).

وخالف الشيخ الصدوق (قدس سره) فجعل المعيار في الحلية التسمية، وإن خالف في الدين، قال (قدس سره) في الفقيه: (قال الصادق (عليه السلام) لا تأكل ذبيحة اليهودي والنصراني والمجوسي وجميع من خالف الدين، إلا إذا سمعته يذكر اسم الله عليها، وفي كتاب علي (عليه السلام): لا يذبح المجوسي ولا النصراني ولا نصارى العرب الأضاحي، وقال: تأكل ذبيحته إذا ذكر اسم الله عز وجل)(2).

وقال في المقنع: ((ولا تأكل ذبيحة من ليس على دينك في الإسلام، ولا تأكل ذبيحة اليهودي والنصراني والمجوسي، إلا إذا سمعتهم يذكرون اسم الله عليها، فإذا ذكروا اسم الله فلا بأس بأكلها، فإن الله يقول: «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ

ص: 286


1- مسالك الأفهام: 11/451.
2- من لا يحضره الفقيه، ج3، كتاب المعيشة، باب الصيد والذبائح، ما تذكى به الذبيحة، ح 4182.

يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ»ويقول: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ» ))(1)

بتقريب عودة الاستثناء على الجميع أو عموم الاستدلال بالآية.

وربما تراءى ما يقرب من ذلك من الشيخ المفيد (قدس سره)، قال (قدس سره): ((وأصناف الكفار من المشركين واليهود والنصارى والصابئين ولا يرون التسمية على الذبائح فرضاً ولا سنة، فذبائحهم محرمة بمفهوم التنزيل حسب ما أثبتناه))(2).

أقول: وهذا الاستثناء لا يشمل بالتأكيد المنكرين لوجود الله تبارك وتعالى كالملحدين حيث لا معنى للتسمية حينئذٍ، ويمكن توجيه كلامهما بما لا يخالف الإجماع، بأن التسمية حتى لو صدرت من غير أهل التوحيد فإنها لا أثر لها لأنهم لا يعتقدون بمعناها، فقد قال الشيخ المفيد (قدس سره) في ذيل كلامه المتقدم: ((وذبائح المرتدين وإن اعتقدوا التسمية عليها محرمة بالإجماع)) وقال (قدس سره) ما ملخّصه ((أن المراد بالتسمية هو تسمية المتدين بفرضها على ما تقرر في شريعة الإسلام، مع المعرفة بالمسمى المقصود بذكره عند الذبيحة استباحتها، دون من عداه ممن أنكر فرضها وتلفّظ بها لغرض له دون التدين، وكذا المرتد عن أصل من الشريعة مع إقراره بالتسمية واستعمالها وإقراره بسائر ما سوى الأصل، وكذا دون ذبيحة المشبّه وإن سمى ودان بفرضها عند الذبيحة متديناً، فالمراد بالتسمية عند الزكاة ما وصفناه عند التدين بشرطها على فرض ملة الإسلام والمعرفة بمن سماه))(3).

أما الاستدلال بالروايات فقد ورد في هذين الصنفين كثير منها، ومما ورد في عبدة النيران خبر الحسين بن المنذر قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نتكارى هؤلاء الأكراد في قطاع الغنم وإنما هم عبدة النيران(4)

وأشباه ذلك

ص: 287


1- المقنع: 140 وفي مستدرك الوسائل: 16/150 ح11.
2- المقنعة: 597.
3- رسالة (تحريم ذبائح أهل الكتاب) ضمن سلسة مؤلفات الشيخ المفيد: 9/21.
4- من هذه الرواية نستفيد وجهاً آخر لفهم روايات النهي عن التزويج بالأكراد غير ما ذكرناه في موضعه في المجلد الأول من هذه الطبعة في مسألة نقل الميت إلى العتبات المقدسة (صفحة 156)، وحاصل الوجه: أن النهي كان على نحو الواقعة الخارجية باعتبارهم عبدة نيران يومئذٍ، وليس المقصود بها جنس الأكراد وقوميتهم.

فتسقط العارضة فيذبحونها ويبيعونها فقال: ما أحب أن تجعله في مالك إنما الذبيحة اسم ولا يؤمن على الاسم إلا مسلم)(1).

وفي المجوس موثقة الحسين بن علوان (عن جعفر عن أبيه أن علياً (عليه السلام) كان يقول كلوا من طعام المجوس كله ما خلا ذبايحهم فإنها لا تحل وإن ذُكراسم الله عليها)(2).

وفي المشركين ومن بحكمهم معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تأكلوا ذبيحة نصارى العرب فإنهم ليسوا أهل كتاب)(3)

وخبر أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تأكل من ذبيحة المجوسي، قال: وقال: لا تأكل ذبيحة نصارى تغلب فإنهم مشركو العرب)(4)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن نصارى العرب أتؤكل ذبائحهم؟ فقال: كان علي (عليه السلام) ينهى عن ذبائحهم وعن صيدهم ومناكحتهم)(5)

ومثلها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

ويضاف إليها الروايات الآتية في ذبائح أهل الكتاب حيث حملها المشهور على الحرمة وهم أهل ديانة سماوية فتكون حرمة ذبائح غير أهل الكتب السماوية أولى(6).

ص: 288


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح7.
2- المصدر، باب 27، ح12.
3- المصدر، باب 27، ح23.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح22.
5- المصدر، باب 27، ح6، 19.
6- ممن استدل بهذه الأولوية المحقق النراقي (قدس سره) في مستند الشيعة: 15/378.

ووردت روايات في الفرق المنحرفة من المتسمين بالإسلام كصحيحة أبي بصير قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ذبيحة الناصب لا تحل)(1).

وصحيحته الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (لا تحل ذبائح الحرورية)(2).

وصحيحته الأخرى قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشترى اللحم من السوق وعنده من يذبح ويبيع من إخوانه فيتعمد الشراء من النصاب فقال أي شيء تسألني أن أقول؟ ما يأكل إلا مثل الميتة والدم ولحم الخنزير. قلت: سبحان الله مثل الدم والميتة ولحم الخنزير؟ فقال: نعم وأعظم عند الله من ذلك ثم قال: إن هذا في قلبه على المؤمنين مرض)(3).ورواية إبراهيم بن أبي محمود عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال: (من زعم أن الله يجبر العباد على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ولا تقبلوا شهادته ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئاً)(4).

ورواية يونس بن ظبيان عن الصادق (عليه السلام) في حديث عن الصادق (عليه السلام) قال: (يا يونس من زعم أن لله وجهاً كالوجوه فقد أشرك ومن زعم أن له جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله فلا تقبلوا شهادته ولا تأكلوا ذبيحته)(5).

أقول: لم نقرّب الاستدلال بالروايات وما يرد عليه من الإشكالات، لأن المهم عندنا الآن أصل المطلب فلا نطيل في التفاصيل، وإلا فإن بعضها قاصر عن الدلالة على المطلوب كصحيحة أبي بصير في شراء اللحم من النُصّاب مع وجود ذبائح أصحابه، فإنها تدل على خبث سريرة الفاعل وقبح فعله وأن فعله كمن

ص: 289


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 28، ح2.
2- المصدر، باب 28، ح3.
3- المصدر، باب 28، ح4.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 28، ح9.
5- المصدر، باب 28، 10.

يأكل الميتة بالإثم، أي أن الحرمة تكليفية، أما روايتا إبراهيم ويونس فقد يكون ظاهرهما الأمر بمقاطعة هؤلاء وهكذا.

أقول: في مقابل هذه الروايات توجد أخرى يظهر منها حلية ذبائح هؤلاء إذا سمّوا عليها كصحيحة حمران قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في ذبيحة الناصب واليهودى والنصراني: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، فقلت: المجوسي، فقال: نعم إذا سمعته يذكر اسم الله، أما سمعت قول الله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)(1).

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كل ذبيحة المشرك إذا ذكر اسم الله عليها وأنت تسمع ولا تأكل ذبيحة نصارى العرب)(2).

وخبر الورد بن زيد قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): حدثني حديثاً وأمْلهِ عليّ حتى أكتبه فقال: أين حفظكم يا أهل الكوفة؟ قال: قلت: حتى لا يرده علي أحد، ما تقول في مجوسي قال: بسم الله ثم ذبح؟ فقال: كُل، قلت: مسلم ذبح ولم يسم؟ فقال: لا تأكله إن الله يقول: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)(3).

وصحيحة حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: لا تأكل ذبيحة الناصب إلا أن تسمعه يسمي)(4).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن ذبيحة المرجئ والحروري فقال: كلْ وقِرَّ واستقر حتى يكون ما يكون)(5).

ص: 290


1- المصدر، باب 27، ح31.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح32.
3- المصدر، باب 27، ح37.
4- المصدر، باب 28، ح7.
5- المصدر، باب 28، ح8.

وخبر بشر بن أبي غيلان الشيباني قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبائح اليهود والنصارى والنصاب قال: فلوى شدقه وقال: كلها إلى يومٍ ما)(1).

أقول: الوجه الذي يتبادر لمعالجة هذا التعارض هو تقييد الطائفة الأولى بالثانية فتحمل الحرمة على صورة عدم التسمية والحلية على صورة التسمية كما هو صريح جملة من روايات الطائفة الثانية، وربما يستشهد له بالروايات المعتبرة الكثيرة التي عللت التذكية بذكر الاسم فيُتمسك بإطلاقها؛ لقوله (عليه السلام) في صحيحة قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله: (فإنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم)(2).

وخبر الحسين بن المنذر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (يا حسين الذبيحة بالاسم، ولا يؤمن عليها إلا أهل التوحيد))(3) وصحيحة الحسين الأحمسي عنه (عليه السلام) قال: (هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم) .(4)

وإنما اشترط في الذابح الإسلام أو كونه من أهل التوحيد فللاطمئنان بتحقق التسمية، أما غيرهم فلا بد من العلم بصدورها منهم وهو صريح بعض الروايات كصحيحة حمران (إلا أن تسمعه يسمي).

إلا أن بعض إطلاقات الطائفة الأولى لا يقبل ذلك لتصريحها بالإطلاق من حيث هذا اللحاظ فتكون آبية عن التقييد به كموثقة الحسين بن علوان في المجوس، وإن كان يمكن المناقشة في متنها، لاحتمال كون الذيل شرحاً من الراوي معبراً عن فهمه. وعلى أي حال فإن إطلاق الحرمة موافق للإجماع الذي –نقلناه – على حرمة ذبائح غير أهل ديانات التوحيد، فتحمل روايات الحلية على التقية –كما قالوا-، أو انتفاء الحكم لانتفاء موضوعه، فقد اشترط في الحلية التسمية

ص: 291


1- المصدر، باب 28، ح6.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح1، 2.
3- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح1، 2.
4- المصدر، باب 27، ح24.

التوحيدية، وهي منتفية عند المشركين والملحدين وعبدة النيران والأوثان ونحوهم.

ولا بأس حينئذٍ من الالتزام بالحلية إذا تعلموا التسمية لله تبارك وتعالى وتكون حينئذٍ لهدايتهم إلى التوحيد.

(الصنف الثالث) أهل الكتاب من اليهود والنصارى:

قال المحقق النراقي (قدس سره): ((وأما الكتابي فقد اختلفوا فيه على أقوال ثلاثة: الأول: حرمة ذبائحهم مطلقاً، وهو مذهب المعظم – كما صرح به غير واحد من علماء الطائفة- بل في المسالك: كاد أن يعد من المذهب. وعن الخلاف والانتصار أنهماجعلاه من منفردات الإمامية، مدعين عليه الإجماع. والثاني: حلّيتها كذلك، حكي عن القديمين الإسكافي والعماني، إلا أن الثاني خص باليهودي والنصراني وقطع بتحريم ذبيحة المجوسي. والثالث: التفصيل بالحلية مع سماع تسميتهم، والحرمة مع عدمه، حكي عن الصدوق))(1).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((فالمشهور شهرة عظيمة أنه لا يتولاه –أي الذبح- الكافر مطلقاً وإن كان كتابياً وجاء بالتسمية، بل استقر الإجماع في جملة من الأعصار المتأخرة عن زمن الصدوقين على ذلك، بل والمتقدمة كما حكاه المرتضى والشيخ بعد اعترافهما بأنه من متفردات الإمامية، بل كاد يكون من ضروريات المذهب في زماننا، مضافا إلى النصوص المستفيضة التي إن لم تكن متواترة بالمعنى المصطلح فمضمونها مقطوع به ولو بمعونة ما عرفت.

فمن الغريب وسوسة بعض الناس فيه، وكأنَّ الذي جرّأه على ذلك تعبير المصنف وغيره عن ذلك بقوله: (وفي الكتابي روايتان: أشهرهما المنع، فلا

ص: 292


1- مستند الشيعة: 15/379.

تؤكل ذبيحة (ذباحة خ ل) اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي) - بناءً على أنه كتابي- المشعر بكون المسألة ظنية وأن النصوص فيها مختلفة))(1).

واستغرب (قدس سره) من ((إطناب ثاني الشهيدين في المسالك وبعض أتباعه في تأييد القول بالجواز واختياره، وذكر الجمع بالكراهة ونحوه، وذكره فيها ما لو وقع من غيره لعدّ من الخرافات. (و) أغرب من هذا أن الفاضل في الرياض مع اعتداله وشدة إطنابه في الإنكار على ثاني الشهيدين في ميله إلى القول بالجواز مال بعض الميل إلى العمل إلى ما سمعته (في رواية ثالثة) مقابلة لروايتي الجواز مطلقاً وعدمه، وهي (تؤكل ذباحة الذمي إذا سمعت تسميته، وهي) مع أنها (مطرحة) لم يُحكَ القول بها إلا عن الصدوق))(2).

الاستدلال على الحرمة:

وقد قُرِّب الاستدلال على الحرمة ببعض الآيات الشريفة كقوله تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» (الأنعام: 121) وقوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» (الأنعام: 119) قال الشيخ الطبرسي (قدس سره): ((وفي هذه الآية دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة، وعلى أن ذبائح الكفار لا يجوز أكلها، لأنهم لا يسمون الله تعالى عليها، ومنسمى منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقة))(3)

وقال (قدس سره) في تفسير الآية (121) «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ»: ((وفي هذا دلالة على تحريم أكل ذبائح الكفار كلهم، أهل الكتاب وغيرهم، من سمى منهم، ومن لم يسم، لأنهم لا يعرفون الله تعالى على ما ذكرناه من قبل، فلا يصح منهم القصد إلى ذكر اسمه)).

ص: 293


1- جواهر الكلام: 36/80.
2- جواهر الكلام: 36/86.
3- مجمع البيان، المجلد الثاني /552 تفسير الآية 119 من سورة الأنعام.

أقول: محل البحث مانعية كون الذابح كتابياً من حلية الذبيحة، وليس من جهة عدم التسمية، فهذا التقريب إقرار بأن سبب الحرمة أمر آخر غير كونه كتابياً.

وقد لخّص(1)

الشهيد الثاني (قدس سره) أدلة القائلين بالتحريم بوجوه:

((الأول: قوله تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» (الأنعام: 121) والكافر لا يعرف الله تعالى فلا يذكره على ذبيحته، ولا يرى التسمية على الذبيحة فرضاً ولا سنة.

الثاني: الروايات.
اشارة

الثالث: إن الإخلاد إلى الكفار في الذبح ركونٌ إلى الظالم فيندرج تحت النهي في قوله تعالى: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» (هود: 113) ولأنه نوع استئمان والكافر ليس محلاً للأمانة، ولأن لها شرائط فلا يستند في حصولها إلى قوله))(2).

ثم قال (قدس سره): ((وفي جميعه نظر: أما الآية فلأن النهي فيها توجه إلى أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، سواء كان المذكي مسلماً أو كافراً، ومقتضاه مع قوله: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عَلَيهِ» أن ما سُمي عليه يباح أكله، سواء كان ذابحه مسلماً أم كافراً، فالمنع من حيث عدم التسمية لا من حيث الكفر. ومن أين لكم أن الكافر لا يسمي على الذبيحة؟ فإن المراد من التسمية هنا ذكر اسم من أسماء الله تعالى كما علم وسيحقق. ثم لو كان العلم بتسميته شرطاً لزم مثله في المسلم ولا يقولون به.

وأما قوله: (إن الكافر لا يعرف الله ولا يذكره على ذبيحته)، فمن العجيب، فإن الكافر الكتابي مقرّ بالله تعالى، وما ينسب إليه من التثليث وأن عزيراً ابن الله والمسيح ابن الله ونحو ذلك لا يخرجه عن أصل الإقرار بالله تعالى. وهذه الإلحاقات وإن أوجبت الكفر لا تقتضي عدم ذكر الله، فإنه يذكر

ص: 294


1- الوجوه مذكورة أصلاً في مختلف الشيعة للعلامة الحلي (قدس سره): 8/317، المسألة (28).
2- مسالك الأفهام: 11/452-454.

الله في الجملة ويقول: الحمد لله، وذلك كاف في الذكر على الذبيحة كما هو مقتضى الآية. وفي فرق المسلمين من ينسب إلى الله تعالى أموراً مُنكرة ولا يخرجه ذلك عن أن يذكر الله كذلك.

على أن في دلالة الآية على النهي عن أكل ما لا يذكر اسم الله عليه مطلقاً بحثاً، فإن قوله: «وَإنَّهُ لَفِسْقٌ» كما يحتمل كونه معطوفاً والتقدير: وإن الأكل - الذي هو المصدر المدلول عليه بالفعل - لفسق، يحتمل كونه حالاً والواو للحال، والتقدير: لاتأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حالة كونه فسقاً، وقد فسره بقوله في الآية الأخرى: «أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ»، وبقرينة ما قبله، فلا يكون النهي عن أكله مطلقاً بل في هذه الحالة. وربما يترجّح الحال على العطف من حيث إن الجملة المعطوف عليها إنشائية، وقوله: «وَإنَّهُ لَفِسْقٌ» خبرية، وعطف الخبرية على الإنشائية ممنوع عند علماء البيان ومحققي العربية. وحينئذ فلا دلالة للآية على اعتبار التسمية على الذبيحة مطلقاً، وإنما يستدل عليه من السنة، مع أنه سيأتي في الأخبار الصحيحة: إذا سمعت تسميته فكل، وفي بعضها لم يشترط ذلك، وهذا كله يدل على أن المانع من جهة التسمية لا من جهة الكفر.

وأما الروايات فالقول فيها إجمالاً: إن الصحيح منها لا دلالة فيه على التحريم، وغير الصحيح لا عبرة به لو سلمت دلالته))(1)

((وأما الاستدلال بأن الإخلاد إلى الكفار ركون إلى الظالم وقد نهينا عنه، ففيه: أن مثله وارد على الظالم من المسلمين. وكذلك القول في استئمانه، فإن الفاسق من المسلمين ليس محل الأمانة. وهذا يدل على أن النهي عن الركون إليهم لا من هذه الحيثية كما لا يخفى))(2).

أقول: يمكن مناقشة عدد من كلماته (قدس سره)، ولكن لا حاجة للإطالة لأن هذه الوجوه مما أضيفت إلى استدلال القائلين بالحرمة وليست مما يستندون إليه،

ص: 295


1- مسالك الأفهام: 11/454-456.
2- مسالك الأفهام: 11/458.

وأشيرُ إلى تعليقة واحدة على قوله : ((وهذه الإلحاقات وإن أوجبت الكفر لا تقتضي عدم ذكر الله)) فإنه يرد عليه ما ذكره من التشريك في الفرع الخامس من شرط التسمية وأنه مانع، وبعض هذه الإلحاقات شرك مانع من صدق التسمية.

وعلى أي حال فقد استدل على القول المشهور ب-((الإجماعات المنقولة، والشهرة العظيمة، والروايات المستفيضة، وهي ما بين حقيقة في النهي والمنع عنها، وظاهرة فيه بقرينة فهم الأصحاب وسائر الأخبار))(1).

أقول: لا حجية لهذا الإجماع المدعى فضلاً عن الشهرة؛ لعدم تحققه أصلاً بعد مخالفة القدماء له كما تقدم، ولأنه مدركي، وحادث بعد عصر المعصومين (عليهم السلام)، وإلا فإن الخلاف كان واضحاً ومحتدماً بين أصحاب الأئمة (سلام الله عليهم) في المسألة لذلك كثر السؤال عنها وتجاوزت رواياتها الخمسين ومما يدل على وجود هذا الخلاف صحيحة شعيب العقرقوفي (في الطائفة الأولى) وخبر الحسين بن عبد الله (في الطائفة الخامسة)، مضافاً إلى أن كبار الرواة الذين نقلوا روايات الحرمة نقلوا روايات الحلية كمحمد بن مسلم والحلبي وأبي بصير، وهذا يعني أنها مرادة للإمام (عليه السلام) وليست متروكة، فهذه القرائن تثبت وجود الخلاف، فضلاً عن نفي الإجماع.فهذه عدة أمور تنفي حجية هذا الدليل، فالمهم هو النظر في الروايات.

تصنيف روايات المسألة:

ونصنف الأخبار بحسب مضامينها وإفادتها المطلوب إلى طوائف:

(الأولى) ما دل على النهي عن ذبائحهم مطلقاً:

كصحيحة الحسين الأحمسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال له رجل: أصلحك الله إن لنا جاراً قصاباً فيجيء بيهودي فيذبح له حتى يشتري منه اليهود فقال: لا تأكل من ذبيحته ولا تشتر منه)(2).

ص: 296


1- مستند الشيعة: 15/379.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح1.

وصحيحة شعيب العقرقوفي قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ومعنا أبو بصير وأناس من أهل الجبل يسألونه عن ذبايح أهل الكتاب فقال لهم أبو عبد الله (عليه السلام) قد سمعتم ما قال الله عز وجل في كتابه، فقالوا له: نحب أن تخبرنا، فقال لهم: لا تأكلوها، فلما خرجنا قال أبو بصير: كلها في عنقي ما فيها، فقد سمعته وسمعت أباه جميعاً يأمران بأكلها، فرجعنا إليه فقال لي أبو بصير: سله فقلت له: جعلت فداك ما تقول في ذبائح أهل الكتاب؟ فقال: أليس قد شهدتنا بالغداة وسمعت؟ قلت: بلى فقال: لا تأكلها)(1).

وموثقة سماعة عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: (سألته عن ذبيحة اليهودي والنصراني، فقال: لا تقربوها)(2).

وتتحد معها موثقة أبي المغرّا عن العبد الصالح (عليه السلام): (أنه سأله عن ذبيحة اليهودي والنصراني فقال: لا تقربوها)(3).

وخبر زيد الشحام قال: (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة الذمي، فقال: لا تأكله إن سمى وإن لم يسم)(4).

وخبر إسماعيل بن جابر قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تأكل ذبايحهم ولا تأكل في آنيتهم. يعنى أهل الكتاب)(5).

(الثانية) ما دل على الحرمة معللاً بعدم التسمية:

كصحيحة حنان بن سدير قال: (دخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وأبي فقلنا له: جعلنا فداك إن لنا خلطاء من النصارى وإنا نأتيهم فيذبحون لنا الدجاج والفراخ والجداء أفناكلها؟ قال: لا تأكلوها ولا تقربوها فإنهم يقولون

ص: 297


1- المصدر، باب 27، ح25.
2- المصدر، باب 27، ح9.
3- المصدر، باب 27، ح30.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح5.
5- المصدر، باب 27، ح10.

على ذبايحهم ما لا أحب لكم أكلها قال: فلما قدمت الكوفة دعانا بعضهم فأبينا أن نذهب، فقال: ما بالكم كنتم تأتوننا ثم تركتموه اليوم، قال: فقلنا: إن عالمنا عليه السلام نهانا وزعم أنكم تقولون على ذبائحكم شيئاً لا يحبّ لنا أكلها، قال: من هذا العالم؟ هذا والله أعلم الناس وأعلم من خلق الله صدق والله، إنا لنقول: بسم المسيح)(1).

ومصححة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة أهل الكتاب قال: فقال: والله ما يأكلون ذبايحكم كيف تستحلون أن تأكلوا ذبايحهم؟ إنما هو الاسم ولا يؤتمن عليه إلا مسلم)(2).

وصحيحة قتيبة الأعشى قال: (سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده فقال له: الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فيذبح أنأكل ذبيحته؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تدخل ثمنها مالك ولا تأكلها فإنما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم. فقال له الرجل: قال الله تعالى: «اليَومَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَيِّبَاتِ وَطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُم»، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبي (عليه السلام) يقول: إنما هو الحبوب وأشباهها)(3).

(الثالثة) ما دلّ على الحلية مطلقاً:

كصحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة أهل الكتاب ونسائهم، فقال: لا بأس به)(4).

وخبر بشير بن أبي غيلان المتقدم (صفحة 291).

وخبر إسماعيل بن عيسى قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن ذبائح اليهود والنصارى وطعامهم، فقال: نعم)(5).

ص: 298


1- المصدر، باب 27، ح3.
2- المصدر، باب 27، ح4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح1.
4- المصدر، باب 27، ح34.
5- المصدر، باب 27، ح41.
(الرابعة) ما دل على الحلية بشرط تحقق التسمية:

كصحيحة حمران قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، فقلت:المجوسي، فقال: نعم إذا سمعته يذكر اسم الله، أما سمعت قول الله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)(1).

ومصححة معاوية بن وهب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبايح أهل الكتاب فقال: لا بأس إذا ذكروا اسم الله ولكن أعني منهم من يكون على أمر موسى وعيسى (عليهما السلام) )(2).

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنهما قالا: (في ذبائح أهل الكتاب، فإذا شهدتموهم وقد سموا اسم الله فكلوا ذبائحهم، وإن لم تشهدوهم فلا تأكلوا، وإن أتاك رجل مسلم فأخبرك أنهم سموا فكل)(3).

وصحيحة جميل ومحمد بن حمران (أنهما سألا أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبائح اليهود والنصارى والمجوس، فقال: كل، فقال بعضهم: إنهم لا يسمّون فقال: فإن حضرتموهم فلم يسمّوا فلا تأكلوا، وقال: إذا غاب فكل)(4).

وخبر العياشي في تفسيره عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في قول الله: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» قال: أما المجوس فلا فليسوا من أهل الكتاب، وأما اليهود والنصارى فلا بأس إذا سمّوا)(5).

ص: 299


1- المصدر، باب 27، ح31.
2- المصدر، باب 27، ح11.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح38، 39.
4- المصدر، باب 27، ح33.
5- المصدر، باب 27، ح17

وخبر عبد الملك بن عمرو قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في ذبائح النصارى؟ فقال: لا بأس بها، قلت: فإنهم يذكرون عليها المسيح، فقال: إنما أرادوا بالمسيح الله)(1).

وخبر الدعائم قال: (روينا عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) أنه سُئل عن ذبيحة اليهودي والنصراني والمجوسي وذبائح أهل الخلاف فتلا قوله عز وجل: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» قال: إذا سمعتموهم يذكرون اسم الله عليه فكلوه، وما لم يذكر اسم الله عليه فلا تأكلوه منهم، ومن كان متهماً منهم بترك التسمية يرىاستحلال ذلك لم يجز ذلك وأكل ذبيحته إلا أن يُشاهد في حين ذبحها فيذبحها على السنة ويذكر اسم الله عليها، فإن ذبحها بحيث لم يشاهد لم يؤكل)(2).

مضافاً إلى الروايات التي دلت على حلية ذبائح الصنفين الأول والثاني إذا سمّوا مما تقدم، فتدل على الحلية هنا بالأولوية.

(الخامسة) ما كان مجملاً وخالياً من التصريح بالجواب:

اشارة

كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن ذبيحة اليهود والنصارى هل تحل؟ قال: كل ما ذكر اسم الله عليه)(3)..

وخبره الآخر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن ذبائح نصارى العرب، قال: ليس هم بأهل الكتاب، ولا تحل ذبائحهم)(4).

وصحيحة محمد قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تأكلوا ذبيحة نصارى العرب فإنهم ليسوا أهل كتاب)(5).

ص: 300


1- المصدر، باب 27، ح35.
2- دعائم الإسلام: 2/177.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح 14.
4- المصدر ، باب 27، ح15.
5- المصدر، باب 27، ح23.

وخبر قتيبة الأعشى قل: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبائح اليهود والنصارى، فقال: الذبيحة اسمٌ، ولا يؤمن على الاسم إلا مسلم)(1).

وخبر الحسين بن المنذر قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قوم نختلف إلى الجبل والطريق بعيد بيننا وبين الجبل فراسخ فنشتري القطيع والاثنين والثلاثة ويكون في القطيع ألف وخمسمائة شاة وألف وستمائة وألف وسبعمائة شاة فتقع الشاة والاثنتان والثلاثة فنسأل الرعاة الذين يجيئون بها عن أديانهم قال: فيقولون نصارى قال: فقلت: أي شيء قولك في ذبائح اليهود والنصارى؟ فقال: يا حسين الذبيحة بالاسم ولا يؤمن عليها إلا أهل التوحيد)(2).

وصحيحة حنان بن سدير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الحسين بن المنذر روى لنا عنك أنك قلت: إن الذبيحة اسم ولا يؤمن عليها إلا أهلها، فقال: إنهم أحدثوا فيها شيئاً لا أشتهيه، قال حنان: فسألت نصرانياً فقلت له: أي شيء تقولون إذاذبحتم؟ قال: نقول: بسم المسيح)(3).

وخبر الحسين بن عبد الله قال: (اصطحب المعلى بن خنيس وابن أبي يعفور في سفر فأكل أحدهما ذبيحة اليهود والنصارى وأبى الآخر عن أكلها فاجتمعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبراه، فقال: أيكما الذي أباه؟ فقال: أنا: أحسنت)(4).

ورويت بطريق صحيح عن ابن أبي عمير (أن ابن أبي يعفور ومعلى بن خنيس كانا بالنيل على عهد أبي عبد الله (عليه السلام) فاختلفا في ذبائح اليهود فأكل المعلى ولم يأكل ابن أبي يعفور، فلما صارا إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أخبراه فرضي بفعل بن أبي يعفور وخطّأ المعلى في أكله إياه)(5).

ص: 301


1- المصدر، باب 27، ح8.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح2.
3- المصدر، باب 26، ح3.
4- المصدر، باب 26، ح5.
5- المصدر، باب 27، ح16.
(السادسة) ما دل على اختصاص الحرمة بالنسك:
اشارة

كصحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبائح نصارى العرب هل تؤكل؟ فقال: كان علي (عليه السلام) ينهاهم عن أكل ذبائحهم وصيدهم وقال: لا يذبح لك يهودي ولا نصراني أضحيتك)(1).

وصحيحة أبي بصير المرادي قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يذبح أضحيتك يهودي، ولا نصراني ولا مجوسي، وإن كانت امرأة فلتذبح لنفسها)(2).

وموثقة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) عن علي (عليه السلام) أنه كان يأمر مناديه بالكوفة أيام الأضحى ألا لا تذبح نسائككم يعني نُسُككم اليهود والنصارى، ولا يذبحها إلا المسلمون)(3).

وموثقة إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (أن علياً (عليه السلام) كان يقول: لا يذبح نسككم إلا أهل ملتكم، ولا تصَدَّقوا بشيء من نسككم إلا على المسلمين، وتصدّقوا بما سواه غير الزكاة على أهل الذمة))(4).

علاج التعارض بين الروايات

ما قيل أو يمكن أن يقال في علاج التعارض بين الروايات في المقام أمور:

(الأول) ما ذهب إليه المشهور من ترجيح روايات الحرمة والأخذ بها لاعتضادها بالشهرة العظيمة ونحوها، وطرح روايات الحلية لوجه أو لآخر مما سيأتي بإذن اللهتعالى، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((فيجب رفع اليد عن تلك الأخبار –أي أخبار الحلية- بالمرة وطرح ذلك القول بلا شبهة))(5).

وفيه:-

ص: 302


1- المصدر، باب 27، ح19.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح20.
3- المصدر، باب 27، ح12.
4- المصدر، باب 27، ح29.
5- مستند الشيعة: 15/386.

1- إن مرتبة الترجيح تكون بعد فشل وجوه الجمع العرفي واستقرار التعارض والمدعى إمكان الجمع.

2- إن الشهرة المرجحة هي الروائية، وهي لا تختص بروايات الحرمة بل إن روايات الحلية لا تقل عنها في الشهرة ونقاوة السند ووضوح الدلالة. أما الشهرة الفتوائية فهي ليست من المرجحات، مضافاً إلى أنها لم تكن عند القدماء، وإنما حصلت لاحقاً بسبب تراكم الفتوى بالحرمة، ومثلها لا تكون حجة لأنها تعبّر عن فهم أصحابنا، ويمكن أن يكون منشأها الاحتياط، وعدم الحاجة للخروج عن القدر المتيقن، أو التقية من الرأي العام في الحوزة والمجتمع ونحوها من الدواعي.

3- لو افترضنا عدم إمكان الجمع واستقرار التعارض فإن الترجيح يكون لروايات الحلية لموافقتها للكتاب الكريم، فإن الآيات مطلقة لم تشترط إسلام الذابح بل أهملته وجعلته مبنياً للمجهول في إشارة إلى عدم مدخليته والمهم تحقق التسمية، بقرينة الآيات في ذبح الأضاحي حيث وجّهت الخطاب إلى المسلمين في ذبح الهدي كما سنشير إلى هذه النكتة القرآنية (صفحة 314) بإذن الله تعالى.

نعم إذا حصل الاطمئنان بأن روايات الحلية لم تصدر لبيان الحكم الواقعي لوجه أو لآخر، وأنها كانت من (جراب النورة) فتسقط عن الاعتبار وتبقى روايات الحرمة بلا معارض، لكن أنى لهم بذلك، وقد رواها كبار أصحاب الأئمة (عليهم السلام) المطلعون على فقههم ومثلهم لا يروونها إذا كانت كذلك، بل وجدنا إصراراً من مثل أبي بصير –في صحيحة شعيب العقرقوفي- على الحلية وأنه سمع ذلك من الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مع أنه سمع جواب الإمام (عليه السلام) في المجلس بالنهي إلا أن أبا بصير فهم للنهي وجوهاً غير حرمة الذبيحة كالتنزه أو عدم تحقق التسمية لمعروفية أهل الجبل بقلة المبالاة بأمور الدين، ونحو ذلك.

بل إن جملة من الروايات التي استدلوا بها على الحرمة تدل على الحلية، كإخبار أبي بصير في صحيحة شعيب العقرقوفي، وصحيحة زكريا بن آدم

ص: 303

وأمثالها التي أجازت عند الضرورة، ولو كانت ذبائحهم محرمة لأصبحت ميتة على كل حال.

ومن الوجوه التي عرضوها لترجيح روايات الحرمة ما قاله الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب ((فأول ما في هذه الأخبار: أنها لا تقابل تلك لأنها أكثر، ولا يجوز العدول عن الأكثر إلى الأقل لما قد بين في غير موضع، ولأن ممن روى هذه الأخبار قد روى أحاديث الحظر التي قدمناها، وهم: الحلبي وأبو بصير ومحمد بن مسلم، ثم لو سلمت من هذا كله لاحتملت وجهين: أحدهما: أن الإباحة فيها إنما تضمنت في حال الضرورة دون حال الاختيار وعند الضرورة تحل الميتة، فكيف ذبيحة من خالف الإسلام، والذي يدل عليه ما رواه زكريا بن آدم. والوجه الثاني: أن تكون هذهالأخبار وردت للتقية لأن من خالفنا يجيز أكل ذبيحة من خالف الإسلام من أهل الذمة والذي يدل عليه ما رواه بشر بن أبي غيلان الشيباني))(1).

أقول: تضمن كلامه (قدس سره) عدة وجوه:-

1- طرح الروايات الدالة على الحلّية لكونها أقل عدداً ونحوه قال السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((ويرد عليها قصور سند أكثرها وضعف جميعها عن المقاومة لما قدمناه من وجوه شتى، أعظمها اعتضادها بالشهرة العظيمة التي كادت تكون بالإجماع ملحقة، دون هذه لندرة القائل بها))(2)، وهو مردود كبروياً بعدم اعتماد هذا المرجح، وصغروياً لوضوح كثرتها وأقوائية سندها. أما الاعتضاد بالشهرة العظيمة فلا حجية فيه بل لو ادعي الإجماع فإنه كذلك لما تقدم من النقاشات.

ص: 304


1- تهذيب الأحكام: 9/69-70، كتاب الصيد والذبائح، باب الذبائح والأطعمة وما يحل وما يحرم، الحديث 34.
2- رياض المسائل: 13/309.

2- الحمل على التقية، وقد اعتمد هذا الوجه كثيرون، وعلّق به صاحب الوسائل (قدس سره) على جملة من روايات الحلية كصحيحة شعيب العقرقوفي فقال (قدس سره): ((رواية أبي بصير محمولة على التقية)) وقال عن خبر بشير بن أبي غيلان: ((هذا ظاهر في التقية))، وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ومن المعلوم أن هذه النصوص بين الإمامية كالنصوص الدالة على طهارة سؤرهم، ونحوها مما هو معلوم خروجها مخرج التقية كما أومأ إليه خبر بشير بن أبي غيلان، بل لا يخفى على من رزقه الله فهم اللحن في القول: أن هذا الاختلاف منهم في الجواب ليس إلا لها))(1)، ((وربما يجعل مصير الإسكافي إليها –أي الحلية- على ذلك قرينة))(2).

أقول: يرد على هذا الوجه:-

أ- إن المشهور عندهم(3)

وإن كان حلية ذبيحة الكتابي إلا أنهم لم يشترطوا العلم بتحقق التسمية بل يكتفون بعدم العلم بوقوع الإهلال لغير الله تعالى فاشتراط التسمية الوارد في الروايات ليس أمراً معروفاً عندهم، فضلاً عن بلوغه درجة التقية منه.أ- إن مضامين أغلبها تأبى الحمل على التقية لوضوحها وتنوعها وتفصيلها، وإن أمكن تصورها في البعض.

ج-- إننا رفضنا أشد الرفض في بعض أبحاثنا السابقة مثل هذا الحمل وعدم إمكان صدوره من الإمام المعصوم (عليه السلام) في مثل المقام إذ كيف يسوّغ لشيعته أكل اللحوم غير المذكاة لتقية موهومة؟.

د- إن الروايات التي جعلوها ظاهرة في التقية وجعلوها قرينة على حمل غيرها عليها حصرها النص المتقدم عن التهذيب برواية بشر بن أبي

ص: 305


1- جواهر الكلام: 36/80.
2- رياض المسائل: 13/307.
3- الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي: 4/2760، ط3.

غيلان، وهي رواية غير تامة السند، وغير ظاهرة في التقية إذ لعل ما قام به الإمام (عليه السلام) من حركة كان تعبيراً عن امتعاضه لوصول حال المسلمين من الهوان والضعة مع قوة سلطتهم الظاهرية أن يتولى الذباحة في أسواقهم اليهود والنصارى مع ما هم عليه من الحنق على المسلمين والكيد لهم. ويحمل قوله (عليه السلام): (إلى يومٍ ما) على معنى منسجم معه كزوال هذه الحالة ونحوها.

فهل يصلح مثل هذا الخبر لليّ جميع الروايات المعتبرة الدالة على الحلية وحملها على التقية؟

3- الحمل على حال الضرورة، وفيه: أن الضرورة التي وردت في الروايات ليست بمعنى الاضطرار المسّوغ لأكل الميتة وإلا لما احتاج إلى تقييد ((الحل بتسميته عليها، ولا بسماعه مسمياً ولا بشهادة مسلم على تسميته، فيكون ذلك كله في الأخبار لغواً))(1)، وإنما بمعنى عدم وجود الذابح المسلم، فضلاً عن الخوف من فوات الحيوان وتلفه لو لم يذبح إلى حين وجود المسلم بقرينة قوله (عليه السلام): (وقت الضرورة إليه) أي الذابح ولم يقل: (إليها) أي الذبيحة، فهو أدل على الحلّيّة، وإلا فإنه لا يفرق على المعنى الذي ذكره بين موت الحيوان أو ذبحه على غير الطريقة الشرعية مضافاً إلى أن إطلاقات بعض روايات الحل تأبى التقييد بحال الضرورة وسيأتي مزيد من الإيضاح (صفحة 312).

والخلاصة: أن روايات الحلية لا يمكن طرحها، ولو كانت من (جراب النورة) –كما في بعض الروايات- وليست مسوقة لبيان الحكم الواقعي لما رواها كبار الأصحاب المطلعون على فقه الأئمة (عليهم السلام)، فما قاله الشيخ (قدس سره) من أن الذين رووا أخبار الحلية رووا أخبار الحظر دليل عليه وليس له بعكس الجملة فيقال: إن الذين رووا أخبار الحرمة رووا أخبار الحلية فلو لم تكن مسوقة لبيان الحكم الواقعي لما رووها.

ص: 306


1- مسالك الأفهام: 11/464.

في مقابل هذا الذي ذهب إليه المشهور يمكن عرض أكثر من وجه للجمع بين الروايات نذكرها بنفس الترتيب:

(الثاني) ما يظهر من النظر في مضامين الروايات بحسب التصنيف الذي قدمناه وحاصله: تقييد الطائفة الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة فينتج التفصيل الذي ذكرهالشيخ الصدوق (قدس سره)، فتحرم ذبائح أهل الكتاب مع عدم الوثوق بصدور التسمية وتحل مع العلم بتحقق التسمية بسماعها أو إخبار الثقة.

وهذا الجمع مضافاً إلى كونه مقتضى الجمع بين الروايات، فقد صرحت به جملة من الروايات المعتبرة في الطائفة الرابعة، وأوضحها صحيحة حريز، فتكون هذه الصحيحة ونظائرها رافعة للتعارض بين الروايات ومبيّنة لما أُجمل فيها من الحرمة والحلية.

ومنه يظهر الفرق بين ذبيحة المسلم والكتابي إذ لا يشترط في الأول العلم بتحقق التسمية بل يكفي عدم العلم بعدم تحققها، أما الثاني فيشترط فيه حصول العلم بأي منشأ معتبر.

وأشكل الشهيد الثاني (قدس سره) على هذا التفريق بقوله: ((وفيه سؤال ما الفرق، فقد صرّح في صحيحة جميل بالحِل ما لم يعلم عدم تسميتهم كالمسلم))(1).

وفيه: إن الفرق صرّحت به جملة من الروايات المعتبرة المتقدمة في الطائفة الرابعة، أما قوله (عليه السلام) في صحيحة جميل –في الطائفة الرابعة-: (فإن حضرتموهم فلم يسمّوا فلا تأكلوا) وقال: (إذا غاب فكل) فيمكن حمله على حالة خارجية واقعة كان الغالب فيهم التسمية ولو لمجاراة المسلمين المحيطين بهم، أو أن صدور الحكم كان قبل أن يحدثوا في التسمية شيئاً الذي صرّحت به صحيحة حنان بن سدير في الطائفة الثانية، أو أن تحمل هذه فقط على التقية لما ذكرناه من المشهور عندهم.

ص: 307


1- مسالك الأفهام: 11/465.

(الثالث) الجمع العرفي بين روايات المنع والترخيص بحمل الأولى على الكراهة كما هو ديدنهم في نظائر المورد وإن السنة أكثرها قابلة لذلك لأنها وردت بصيغة النهي (لا تأكل، لا تأكلوها، لا تقربوها) فحملها على التنزيه قريب خصوصاً وأنهم مجتمع مسلم تتوفر فيه ذبائح المسلمين مضافاً إلى موافقته للاحتياط الحسن على كل حال.

قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((ولو حمل النهي في جميع تلك الأخبار المانعة على الكراهة أمكن كما في هذا، إما لكونه طريقاً للجمع، وإما لما يظهر على تلك الأخبار من القرائن الدالة عليه، بل تصريح بعضها به، كرواية الحسين بن عبد الله قال: (اصطحب المعلى بن خنيس وابن أبي يعفور في سفر فأكل أحدهما ذبيحة اليهودي والنصراني وأبى أكلها الآخر، فاجتمعا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبراه فقال: أيكما الذي أبى؟ فقال: أنا، قال: أحسنت). فهذا ظاهر في الكراهة، وإلا لبيّن (عليه السلام) لمن أكل أنه محرم ونهاه عن العود. مع أن أخبار الحل أصحّ سنداً وأوضح دلالةً))(1).

أقول: سند رواية الحسين بن عبد الله غير تام وقد رويت الواقعة بسند معتبر وورد فيها تخطئة الآكل وهو المعلى وهي صحيحة ابن أبي عمير التي ذكرناها في ذيل خبرالحسين، وقد يرد عليها أنها لم تنقل كلام الإمام (عليه السلام) وإنما تفسير ابن أبي عمير أو من روى عنه فلا يمكن الاحتجاج بها.

والمختار هو مجموع الوجهين الثاني والثالث، فتحل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا سمّى بالله تبارك وتعالى، والحلية مشروطة بحصول الوثوق والاطمئنان بتحقق التسمية، ويراد بالتسمية الإهلال لله تبارك وتعالى بالذبيحة من دون تشريك، وهذا ما بيّنته معتبرة معاوية بن وهب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبائح أهل الكتاب، فقال: لا بأس، إذا ذكروا اسم الله، ولكن أعني منهم من يكون على أمر موسى وعيسى (عليهما السلام) )(2)

ص: 308


1- مسالك الأفهام: 11/464.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح11.

وشمول أهل الكتاب بعموم ذيل مصححة الحسين بن المنذر عن أبي عبد الله (عليه السلام): (يا حسين: الذبيحة بالاسم، ولا يؤمن عليه إلا أهل التوحيد)، وعلى هذا الوجه تحمل إطلاقات الحلية.

فالمراد بكونهم على أمر موسى وعيسى (عليهما السلام) اعتقادهم بالتوحيد من دون شوبه بعقائد الشرك، ومنه يعلم وجه النظر في ما قاله المحقق النراقي (قدس سره) عن رواية معاوية بن وهب من ((إنها صريحة على اختصاص ذلك بأهل الكتاب الذين كانوا من قبل بعثة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو بعدها قبل قيام الحجة عليهم لأن تهودهم وتنصرهم اليوم مانع من كونهم على أمرهما لأنهم مأمورون من قبلهما باتباع نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن تكون لهم شبهة مانعة عن الاهتداء بالحق.

وصرّح بذلك الشيخ المفيد (قدس سره) في رسالة الذبائح، قال بعد نقل الرواية: ثم إنه شرط فيه أيضاً اتباع موسى وعيسى وذلك لا يكون إلا بمن آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، واتبع موسى وعيسى في القبول منه (صلى الله عليه وآله وسلم) والاعتقاد بنبوته. انتهى))(1).

أقول: فهم أمر موسى وعيسى (عليهما السلام) على هذا النحو بعيد والأقرب ما ذكرناه، وعلى تفسيرهم لا يبقى معنى لروايات الحلية في زمن الإمامين الصادقين وأولادهم الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين) لتأخرهم أكثر من مائة عام عن البعثة الشريفة، بل فيه تغرير بأتباعهم إذ أطلقوا عنوان أهل الكتاب في الروايات فيفهمون منه أهل الكتاب الموجودين، والتعويل على رواية واحدة في بيان حالهم منافٍ لما عليه أهل المحاورة، مضافاً إلى ضعف سند الرواية على مبانيهم، وإنما اعتبرناها لمبنى سابق.

ولعل الشيخ المفيد (قدس سره) مال إلى هذا التفسير بوحي مناظراته الكلامية مع الديانات الأخرى وتبعه الآخرون.

ص: 309


1- مستند الشيعة: 15/386.
توجيه روايات النهي في ضوء الجمع المذكور:

أما روايات النهي فيمكن حملها على وجوه:(منها) عدم تحقق التسمية منهم، أو تحققها على نحو أحدثوه غير خالٍ من الشرك كما ورد في صحيحة حنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إنهم أحدثوا فيها شيئاً لا أشتهيه، قال حنان: فسألت نصرانياً فقلت له: أي شيء تقولون إذا ذبحتم؟ قال: نقول: بسم المسيح)(1)

وإلا فإنهم بحسب الأصل يهلّون بذبائحهم لله تبارك وتعالى، فقد نقل أن لليهود أوراداً خاصة يقولونها عند الذبح موجودة في كتابهم المقدس، وتؤيده رواية بصائر الدرجات بسنده عن عامر بن علي الجامعي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك إنا نأكل ذبائح أهل الكتاب ولا ندري يسمون عليها أم لا، فقال: إذا سمعتهم قد سموا فكلوا، أتدري ما يقولون على ذبائحهم؟ فقلت: لا، فقرأ كأنه يشبه يهودي قد هذّها ثم قال: بهذا أُمروا، فقلتُ جعلت فداك إن رأيت أن نكتبها، فقال: اكتب)(2)

فلو سمّوا عند الذباحة بما أمروا به في شريعتهم لم يكن إشكال في ذبائحهم كما بيّن الإمام (عليه السلام) في مصححة معاوية بن وهب –الطائفة الرابعة- أن المراد باليهودي والمسيحي من كان على دين موسى وعيسى (عليهما السلام).

ص: 310


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 26، ح3.
2- صدر الحديث في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح45، وتمامه في جامع أحاديث الشيعة: كتاب الصيد والذبائح والأطعمة، أبواب الذبائح، باب 18، ح40، ج28، صفحة 129. وفي المصدر قال الشيخ المجلسي (قدس سره) في البحار بعد أن نقل الكلمات: ((هكذا وجدته في نسخ البصائر وفيه تصحيفات كثيرة من الرواة لعدم معرفتهم بتلك اللغة، والذي سمعت من بعض المستبصرين العارف بلغتهم وكان من علمائهم أن الدعاء الذي يتلوه اليهود عند الذبح هكذا)) ثم أورده وترجمته: ((تباركت أنت الله إلهنا ملك العالمين الذي قدسنا بأوامره وأمرنا على الذبح)).

(ومنها) أنها غير ظاهرة في الإطلاق كصحيحة الحسين الأحمسي المتقدمة في الطائفة الأولى فإن المراد منها مقاطعة هذا القصاب وترك الذبائح التي ذبحها اليهودي لليهود والشراء مما يذبحه المسلم للمسلمين وهو ما يفعله القصاب.

(ومنها) الحمل على شكل من أشكال المقاطعة لهم وعزلهم كردٍ على كيدهم للإسلام أو تعاليهم على المسلمين واستهزائهم بهم أو مقابلتهم بالمثل كما جرت عليه الأعراف الدبلوماسية، وتشهد لذلك صحيحة الحسين الأحمسي (الطائفة الأولى) ومصححة ابن أبي عمير (الطائفة الثانية) حيث دلّتا على عدم أكلهم من ذبائح المسلمين، فالأمر بالاجتناب لمقابلتهم بالمثل.

مع التقريب الذي ذكرناه لخبر بشر بن أبي غيلان وظهوره في امتعاض الإمام (عليه السلام) من هذه الحالة.

(ومنها) الاحتياط في الدين خصوصاً في الأطعمة التي لها آثار وضعية مهمة، قال تعالى: «فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ» (عبس: 24)، ومما يشهد لهذا الوجه رواية محمد بن يحيى الخثعمي (وفيها القاسم بن محمد) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : (قال: أتاني رجلان أظنهما من أهل الجبل فسألني أحدهما عن الذبيحة فقلت: والله لاترد (لا أبرّد - خ) لكما على ظهري لا تأكل، قال محمد: فسألته أنا عن ذبيحة اليهودي والنصراني فقال: لا تأكل منه)(1).

أقول: احتياط الخثعمي ظاهر بعدم التصريح بالحلية من أجل تمشية أمور السائل وإثقال ظهره هو بالفتوى وهو يعلم بأن السائلين من أهل الجبل المعروفين يومئذٍ بقلة مبالاتهم في أمر الدين فإخفاؤه الحلية كان احتياطاً في الدين.

(ومنها) الحمل على التنزيه لوجود ذبائح المسلمين في السوق فلا مبرر لتناول ذبائح اليهودي والنصراني إلا لمرض في النفس والعياذ بالله، وقد يكون هذا التنزيه إلزامياً باعتبار توفر ذبائح المسلمين وصعوبة تحقق معنى التوحيد منهم، لذا قال العلامة (قدس سره): ((والأصل أن لا تؤكل ذبائحهم كيف

ص: 311


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح26.

كانت ما وجدت ذبائح المسلمين، ولا يستعان بهم إلا فيما لم يجد مسلماً يستعان به عليه، فإذا لم توجد ذبائح المسلمين، فحينئذٍ جائز أن تؤكل ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا اسم الله عز وجل عليها))(1).

لذا حلّت ذبائحهم عند الاضطرار أي عند عدم وجود ذابح مسلم كما يظهر من صحيحة زكريا بن آدم المتقدمة (صفحة 285) لقوله (عليه السلام) (الضرورة إليه) أي الذابح، ولم يقل (إليها) أي الذبيحة أو اللحم حتى تحمل على الاضطرار المسوّغ لأكل الميتة كما تقدم عن الشيخ (قدس سره).

وورد هذا المعنى للاضطرار بوضوح أيضاً في الموارد الأخرى من أحكام الذباحة، كصحيحة محمد بن مسلم في الذبح بغير الحديد قال: (قال أبو جعفر (عليه السلام) في الذبيحة بغير حديدة، قال: إذا اضطررت إليها فإن لم تجد حديدة فاذبحها بحجر)(2)

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله في الذبح من غير المذبح وفيها (فأما إذا اضطر إليها واستصعبت عليه ما يريد أن يذبح فلا بأس بذلك)(3)

وخبر المرزبان عن الرضا (عليه السلام) قال: (لا بأس بذبيحة الخصي والصبي والمرأة إذا اضطروا إليه)(4).

والنتيجة: أن كون الذابح كتابياً لا يمنع من حلية ذبيحته، وإنما طرأ المنع لاحقاً لأمرٍ أو لآخر –كما في صحيحة حنان بن سدير-، وكان الأصحاب المقربون إلى الأئمة (عليهم السلام) يعلمون أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب هي الحلية إذا سمّوا وإنما تحرم لعارض، وهو مراد من روى الحلية مطلقاً.إشكال ودفع:

إن قلتَ: إن رواية زيد الشحام (في الطائفة الأولى) صريحة في إطلاق الحرمة حتى لو سمّوا فتكون مانعة عن هذه النتيجة.

ص: 312


1- مختلف الشيعة: 8/316، المسألة 28.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 2، ح4.
3- المصدر، باب 4، ح3.
4- المصدر، باب 23، ح10.

قلتُ: لا تصلح الرواية للمنع، من جهة أن سندها غير تام لوجود المفضل بن صالح المتسالم على ضعفه، ولإمكان حملها على أحد الوجوه المتقدمة.

إن قلتَ: -بالعكس من ذلك- إن صحيحة جميل ومحمد بن حمران (في الطائفة الرابعة) تكتفي بعدم شهودهم عند الذبح أي عدم العلم بعدم تسميتهم وهذا ينافي الشرط المذكور في النتيجة.

قلتُ: يمكن حملها على قضية خارجية كان فيها أولئك يسمّون ليشتري منهم المسلمون، أو تحمل على التقية لأن المعروف عندهم يومئذٍ كفاية ذلك.

إن قلتَ: إن وجوب الاجتناب عن ذبائح غير المسلمين موافق للاحتياط وهو حسن.

قلتُ:-

1- لا شك في حسن الاحتياط إلا أننا نتحدث عن مقتضى الأدلة الاجتهادية ومؤدى النظر فيها، أما الاحتياط فهو حسن عند العمل إلا أنه يغلق باب الاجتهاد عند النظر.

2- إن الحكم بحرمة ذبائح أهل الكتاب قد تترتب عليه آثار مخالفة للاحتياط، كما لو استأجر شخص شخصاً آخر لذبح بهيمة فدفعها إلى كتابي، فعلى القول بالحرمة لا يستحق الأجرة ويغرم قيمة الحيوان لأنه أصبح ميتة وفوّت منافعه وهذه الغرامة مخالفة للاحتياط.

إن قلتَ: توجد بعض الروايات الظاهرة في اشتراط إسلام الذابح كالتي تقدمت (صفحة 284) في ذبيحة المرأة والغلام.

قلتُ: هذا الاستظهار مبني على تحقق المفهوم للجملة وهو غير ظاهر فيه، إذ الجواب بصدد ما يتحقق به الموضوع فذكرت أوضح الأفراد، وليس فيها دلالة على الانحصار حتى يكون لها مفهوم.

نكتة: يشترط في الهدي والأضاحي أي النسائك عموماً أن يتولى المسلمون ذباحتها لورود الروايات المعتبرة في ذلك (الطائفة السادسة) وللتعليل بأنها نسك فلا تكون مشمولة بحكم جواز تولي الكتابي الذباحة عموماً، نعم الروايات

ص: 313

المذكورة غير ظاهرة في الاشتراط الوضعي الذي تكون نتيجته حرمة الذبيحة، لعدم وجود قرائن على ذلك كالمنع من الأكل ونحوه، فيحمل الوجوب على التكليفي، وتفصيل الكلام في محله من كتاب الحج.

ويمكن استفادة هذا التفريق بين الأضاحي وعامة الذبائح من القرآن الكريم، فإنه وجه خطاب التسمية والذبح إلى المسلمين، قال تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ» (الحج: 36) وقال تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ» (الحج: 34)، بينما ترك الذابح مجهولاً مطلقاً في عامة الذبائح واكتفى بشرط التسمية، قال تعالى: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ » «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ » (الأنعام: 118، 119، 121) .ويظهر أن هذا التفريق كان حاضراً في ذهن أرباب الحديث والعلماء (قدس الله أرواحهم) فالكليني (قدس سره) ذكر روايات إسلام ذابح الأضحية –كصحيحة الحلبي- في كتاب الحج أبواب الهدي، وذكر روايات حلية ذبيحة الكتابي في كتاب الذبائح تحت عنوان (ذبائح أهل الكتاب).

وروى الشيخ الصدوق (قدس سره) في الفقيه قال: (وفي كتاب علي (عليه السلام): لا يذبح المجوسي ولا نصارى العرب الأضاحي، وقال: تأكل ذبيحته إذا ذكر الله عز وجل)(1)، ولو لم يكن بينهما فرق لدمجهما.

لكن الشيخ الطوسي (قدس سره) جمع رواياتهما في باب واحد وتبعه من تأخر عنه كصاحب الوسائل (قدس سره) فضاع هذا التفريق.

ص: 314


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح44.
الترجيح بموافقة الكتاب

لو افترضنا استقرار التعارض فإن الترجيح يكون للحكم بالحلية لموافقته للكتاب الكريم لإطلاق الذابح في الآيات الكريمة، وهو إطلاق لحاظي كما قربنا فيمكن التمسك به.

وللتشييد العلمي الذي بنينا عليه جملة من مطالب هذا البحث، ولتوجيه كلام الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك الذي سيأتي بإذن الله تعالى، نقول: يمكن أن نقرب الاستدلال على الحلية من القرآن الكريم بقوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ» (المائدة: 5) قال الشيخ الطبرسي (قدس سره): ((اختلف في الطعام المذكور في الآية، فقيل: المراد به ذبائح أهل الكتاب، عن أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء، وبه قال جماعة من أصحابنا، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: أراد به ذباحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل ومن دخل ملتهم ودان بدينهم، عن ابن عباس و .. ومنهم من قال: عني به من أنزلت التوراة والإنجيل عليهم أو كان من أبنائهم، فأما من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ودان بدينهم فلا تحل ذبائحهم، وقيل المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم وغيرها من الأطعمة، وقيل إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فأما ذبائحهم فلا تحل))(1).

أقول: وتقريب الاستدلال على إرادة الذبائح خاصةً أو عموم الطعام الشامل لها: قوله تعالى: «اليومَ» التي فيها إشعار إلى حالة جديدة كقوله تعالى: «اليَومَ يَئِسَ الذِينَ كَفَرُوا»وقوله تعالى: «اليَومَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم» في نفس السياق من سورة المائدة، وليست هذه الحالة الجديدة إلا نسخ حكم سابق، وليس هو إلا حرمة ذبائحهم، إذ أن الحبوب وأشباهها لم تكن محرمة، وربما كان منشأ هذه الحالة الجديدة ظهور الإسلام وبسط سلطنته على أهل الديانات الأخرى في السنتين الأخيرتين من حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) –حيث أن سورة

ص: 315


1- مجمع البيان، المجلد الثاني: 251.

المائدة التي تضمنتها هي من أواخر السور نزولاً-، وحينئذٍ انتفى حكم المقاطعة والمقابلة بالمثل ونحوها.

إن قلتَ: إن الروايات دلت على أن المقصود بالآية الحبوب.

قلت: الروايات الواردة في هذا المعنى(1)

إما من تطبيق العام على بعض مصاديقه فلا يكون لها مفهوم ينفي ما عداها كموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألت عن طعام أهل الذمة ما يحلّ منه؟ قال: الحبوب) بقرينة تعميم الخصم للحلية إلى غير الحبوب إلا اللحوم، وإما أن فيها ما يمكن دخول اللحوم فيه كقوله (عليه السلام) في صحيحة هشام بن سالم: (العدس والحمص وغير ذلك) فالحل يعم اللحوم، وإما أن إخراج اللحم لعارض كالذي ورد في الأخبار الدالة على حرمة ذبائحهم بسبب عدم التسمية ونحوها، كرواية علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق (عليه السلام) قال: (عنى بطعامهم هاهنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون فإنهم لا يذكرون اسم الله عليها)(2)

وحتى صحيحة قتيبة الأعشى (في الطائفة الثانية) تدخل في معنى رواية علي بن إبراهيم بقرينة تعليل الإمام (عليه السلام) المنع عن ذبائحهم بعدم ائتمانهم على التسمية.

وعلى أي حال يظهر أن هذه النتيجة –وهي حلية ذبائح الكتابي إذا سمى بالمعنى الصحيح- ثابتة عند جملة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لولا الاحتياط وحسن الأدب مع المشهور، قال الشهيد الثاني (قدس سره) بعد أن استدل على الحلية: ((وعلى كل حال، فلا خروج عما عليه معظم الأصحاب، بل كاد أن يعدَّ هو المذهب، مضافاً إلى ما ينبغي رعايته من الاحتياط))(3)، وقال السيد صاحب الرياض (قدس سره): ((ولو لم تكن أدلة الحرمة بالشهرة المزبورة معتضدة لكان المصير إلى هذه الرواية –وهي صحيحة حريز المفصّلة في

ص: 316


1- ذكرها الحر العاملي (قدس سره) في الباب 51 من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح46.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح46.
3- مسالك الأفهام: 11//465.

الطائفة الرابعة- في غاية القوة؛ لوضوح الجمع بها بين الروايتين الأوليين الدالّتين على التحريم والحلية، بحمل الأولى على عدم سماع التسمية، والثانية على السماع. وتجعل هذه قرينة على أن المراد بالتعليل المتقدم إليه الإشارة في أخبار الحرمة بأنها اسم ولا يؤمن عليه إلا مسلم: المعنىالمستفاد منه في بادئ النظر، وهو كون عدم الأمن من حيث خوف الترك لا خوف عدم القصد إلى ما دلّ))(1).

وقال الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في تعليقته على منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره) عند قوله: ((فلا تحل ذبيحة الكافر)) قال (قدس سره): ((إذا سمى الكافر فحرمة الذبيحة مبنية على الاحتياط))(2).

أما السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فقد كان واضحاً في إعلان النتيجة، قال (قدس سره): ((يشترط أن يكون الذابح مسلماً، على المشهور، فلا تحل ذبيحة الكافر، وإن كان كتابياً، إلا أن الظاهر حلية ذبحه إذا ذكر الله كما يذكره المسلم، نعم لو شك في ذلك حرم ولم يعتد بإخبار الكافر بصحته))(3).

تنبيه: أرجع الشهيد الثاني (قدس سره) القول بالتفصيل إلى القول بالحل الذي قوّى دليله قال (قدس سره): ((وهذا –أي القول بالتفصيل- راجع إلى حل ذبيحتهم، لأن الكلام في حلها من حيث إن الذابح كتابي لا من حيث إنه سمى أو لم يسمّ، فإن المسلم لو لم يسمّ لم تؤكل ذبيحته كما عرفت))(4).

أقول: ظهر الفرق بين ذبيحة المسلم والكتابي من هذه الناحية مما ذكرناه آنفاً، وقد ذكره (قدس سره) وأشكل عليه وأجبناه.

ص: 317


1- رياض المسائل: 13/309.
2- منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره): 2/356، فصل الذباحة، مسألة 1.
3- منهج الصالحين: 3/365، المسألة 2115.
4- مسالك الأفهام: 11/465.

تتميم: مضافاً إلى الروايات المتقدمة التي استدل بها على الحلية فقد احتج الشهيد الثاني (قدس سره) بوجوه للقائلين بالحل غير الروايات فقال: ((الأول: قوله تعالى: «وَطَعَامُ الذينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ» (المائدة: 5). وجه الدلالة: أن الطعام إما أن يراد به ما يطعم مطلقاً فيتناول محل النزاع، لأن اللحم من جملة ما يطعم، وإما أن يراد به الذبائح –كما قاله بعض المفسرين(1)-

فيكون نصّاً. وأما حمله على الحبوب ففيه أن تحليلها غير مختص بأهل الكتاب، إذ جميع أصناف الكفار يحل أكل حبوبهم، فيكون تخصيص أهل الكتاب خالياً من الفائدة، وإنما محل الشبهة منه موضع النزاع))(2).وضعّف (قدس سره) تخصيص الآية بالحبوب ((لمخالفته اللغة والعرف، ودعوى أن ذلك هو المتعارف ممنوعة))(3).

أقول: رد صاحب الرياض (قدس سره) هذا الوجه بشدّة قائلاً: ((وأما قول بعض الأصحاب في الجواب عنه بأن حمله على الحبوب –كما ورد في الأخبار- بعيد مع أن حلّها غير مختص بهم، بل شامل لجميع أصناف الكفار، فغريب وأي غريب بعد الاعتراف بالورود في الأخبار التي منها الصحيح الصريح، وإن هو إلا اجتهاد صرف في مقابلته غير مسموع لا يمكن المصير إليه، بل ولا الإصغاء إليه))(4).

أقول: يريد (قدس سره) بالأخبار صحيحة قتيبة الأعشى المتقدمة في الطائفة الثانية ونظائرها(5)، والتقريب الذي ذكره الشهيد الثاني (قدس سره) لا يخلو من إشكال لكن الاستدلال بالآية على الحلية له تقريب تقدم دفاعاً عن مراد الشهيد (قدس سره).

ص: 318


1- وقد نقلنا الأقوال في ذلك (صفحة 315) عن مجمع البيان.
2- مسالك الأفهام: 11/459.
3- مسالك الأفهام: 11/462.
4- رياض المسائل: 13/308.
5- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 51.

ولعل مثل هذه الكلمات –التي لا يقصد بها الجدال والمراء ومناقشة أصل المطلب وإنما الرد على دعوى الخصم كقول العلامة (قدس سره) في المختلف بأن المتعارف من الطعام هي الحبوب(1)-

هي التي أوجبت استغراب عدد من الفقهاء ممن تأخر عنه (قدس سره) ومضايقة صاحب الجواهر (قدس سره) وانتقاده المتقدم للشهيد الثاني (قدس سره) قال (قدس سره): ((فلا وجه للتأمل فيها –أي حرمة ذبائح أهل الكتاب- مطلقاً، بل نسأل الله تعالى شأنه أن لا يجعل ما وقع لنا من الكلام فيها من اللغو الذي لا نؤجر عليه))(2).

ثم احتج الشهيد الثاني (قدس سره) ب-((الخبر المستفيض أو المتواتر بأكل النبي (صلى الله عليه وآله) من الذراع المسموم الذي أهدته اليهودية إليه (صلى الله عليه وآله)، وأكل منه هو وبعض أصحابه، فمات رفيقه وبقي يعاوده ألمه في كل أوان إلى أن مات منه (صلى الله عليه وآله) ))(3)

وأضاف بعضهم الاستدلال بها على عدم اشتراط شهادة التسمية منهم فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكل من الشاة ولم يشهد ذبحها وتسميتهم عند الذبح.

أقول: بغضّ النظر عن المناقشة في سند الرواية، فإن الاستدلال بها على الحلية غير تام؛ لأن تقديم اللحوم في الطعام لا يلزم منه كونهم هم من ذبحوها، خصوصاً وإنالحادثة وقعت في الأيام الأخيرة من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تفتت المجتمع اليهودي وتشتت في البلدان، وذاب من بقي في المجتمع المسلم.

أما الاستدلال على عدم اشتراط شهادة تسميتهم فغير سليم أيضاً لما أفادته الروايات من كونهم كانوا يسمون الله تبارك وتعالى ثم أحدثوا شيئاً بعد ذلك.

ص: 319


1- مختلف الشيعة: 8/318.
2- جواهر الكلام: 36/88.
3- مسالك الأفهام: 11/459.

واستدل الشهيد الثاني (قدس سره) أيضاً ب-((رواية البزنطي عن يونس بن بهمن قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أهدى إليّ قرابة لي نصراني دجاجاً وفراخاً قد شواها وعملت لي فالوذجة فآكله؟ قال: لا بأس به)(1).

أقول: بغضّ النظر عن المناقشة في السند، فإنه يأتي فيها ما ذكرناه آنفاً من أن تقديم اللحوم في الطعام لا يعني أنهم تولّوا ذباحة الحيوان.

وناقش (قدس سره) الروايات التي استدل بها على الحرمة بأمور استغرب(2)

الفقهاء (قدس الله أسرارهم) صدورها منه (قدس سره) كقوله في ما جاء في صحيحة قتيبة (في الطائفة الثانية): (لا تدخل ثمنها مالك): ((لا دلالة فيها على التحريم، بل تدل على الحل، لأن قوله: (لا تدخل ثمنها مالك) يدل على جواز بيعها وإلا لما صدق الثمن في مقابلها، ولو كانت ميتة لما جاز بيعها ولا قبض ثمنها. وعدم إدخال ثمنها في ماله يكفي فيه كونها مكروهة، والنهي عن أكلها يكون حاله كذلك حذراً من التناقض))(3).

أقول: إن استعمال لفظ الثمن لا يدل على صحة المعاملة كما ورد في (ثمن العذرة حرام) و (ثمن المغنية سحت) لأن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز، ولصدق إطلاق العنوان بعناية الصورة الظاهرية للمعاوضة، والتعبير بأمثاله معروف، فالاستدلال باستعمال لفظ الثمن على صحة البيع في غير محله.

وكقوله (قدس سره) عن صحيحة الحلبي ومحمد بن مسلم المتقدمة (صفحة 290) في النهي عن ذبائح نصارى العرب: ((لا دلالة فيها على تحريم ذبائح أهل الكتاب مطلقاً، بل ربما دلّت على الحل، فإن نهيه عن ذبائح نصارى العرب لا مطلق النصارى، ولو كان التحريم عاماً لما كان للتخصيص فائدة))(4).

ص: 320


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27 ، ح40.
2- كقول صاحب الجواهر (قدس سره) المتقدم وراجع أيضاً رياض المسائل: 13/304.
3- مسالك الأفهام: 11/ 456.
4- مسالك الأفهام: 11/456.

أقول: هذا مبني على كون الجملة لها مفهوم، وهي أبعد الجمل عنه لأنها من مفهوم اللقب، وليست أزيد من تطبيق العام على أحد أفراده.

وكقوله (قدس سره) عن صحيحته الأخرى في عدم ذبح اليهودي والنصراني الأضحية: ((فإن النهي ورد عن ذبح الأضحية، ومفهومه أن غيرها ليس كذلك،والمفهوم وإن لم يكن حجة إلا أن التخصيص بالأضحية لا نكتة فيه لو كانت ذبائحهم محرمة مطلقاً))(1).

أقول: يرد عليه مثل ما تقدم مع كون النكتة أن الأضحية نُسُك فيتأكد فيها النهي المذكور.

(الصنف الرابع) طوائف المسلمين عامة غير الملتزمين بولاية أهل البيت (عليهم السلام):

المشهور عدم اشتراط الإيمان بالمعنى الأخص، والاكتفاء بإسلام الذابح، إلا أن يكون ناصبياً مظهراً للعداوة لأهل البيت (عليهم السلام) أو منكراً لضرورة من الضروريات الثابتة في الدين، وهؤلاء داخلون في الصنف الثاني مما تقدم.

والروايات الدالة على حلية ذبائح المسلمين عموماً كثيرة تقدمت جملة منها كمعتبرة محمد بن قيس وروايات جواز الأخذ من سوق المسلمين، والمعتبرات في أن الذبيحة بالاسم ولا يؤمن عليه إلا المسلم، وما دلّ على حلية ذبيحة المرأة إذا كانت مسلمة وغيرها.

وحكي الخلاف عن القاضي ابن البراج وابن حمزة(2)

واستدل لهم بروايات وتقريبات ترتبط بباب العقائد ولا يمكن بناء الحكم الشرعي عليها فضلاً عن معارضتها للأدلة المتقدمة.

ص: 321


1- مسالك الأفهام: 11/457.
2- نقل كلماتهم وبعض الاستدلال في جواهر الكلام: 36/93.

واستدلوا بصحيحة زكريا بن آدم المتقدمة (صفحة 285) واعتبروها مقيدة لتلك المطلقات الدالة على كفاية إسلام الذابح، ورد المشهور بأن ((ظاهر النهي وإن أفاد الحرمة إلا أنه محمول عند الأكثر، بل عامة من تأخّر على الكراهة))(1).

أقول: حمل الأكثر على الكراهة غير كافٍ في حجية الجمع المذكور بعد بنائهم فعلاً على التقييد في مثل المورد؛ لأن مقتضى القاعدة في الجمع بين عموم مثل معتبرة محمد بن قيس وحلية ذبائح المسلمين ونحوها، وبين النهي عن ذبائح غير الإخوان، هو تقييد الأول بالثاني.

وعليه فلا بد من دفع تقييد تلك الروايات بالصحيحة، والجمع بينهما بحملها على الكراهة بوجوه أخرى، منها:-

1- ما قربناه سابقاً من دلالة صحيحة زكريا على حلية ذبائح غير الإخوان بقرينة الذيل، ولو كانت ذبائح الآخرين محرمة لما جازت حتى عند عدم وجود الذابح المسلم.

2- وردت الصحيحة في عدد من الموسوعات الفقهية الاستدلالية المهمة بلفظ (على خلاف الدين الذي)(2)

وهي وإن لم تكن موجودة في نسختي التهذيب والاستبصار المطبوعة إلا أنها توهن الاستدلال بالصحيحة على هذا الحكم؛ لأنها ستكون ظاهرة في دين الإسلام عموماً وتكون كمعتبرة محمد بن قيس.

3- ((إشعار السياق بها –أي الكراهة- من حيث تخصيص الراوي بالخطاب بالنهي))(3).

ص: 322


1- رياض المسائل: 13/310.
2- أثبتها بهذا اللفظ العلامة (قدس سره) في (مختلف الشيعة: 8/319) والسيد صاحب الرياض (قدس سره) (13/310) والمحقق النراقي (قدس سره) في (مستند الشيعة: 15/378).
3- رياض المسائل: 13/310.

4- إن جملة من النصوص الدالة على حلية ذبائح المسلمين آبية عن التقييد كمعتبرة محمد بن قيس، مضافاً إلى لزوم تخصيص الأكثر، ونقض الغرض في الروايات المعللة لصحة التذكية بالاسم، مضافاً إلى التوبيخ في قوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ ألاّ تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللهِ عَلَيهِ» (الأنعام: 119).

4- ما قيل من استبعاد هذا التقييد لأنه يؤدي إلى انعزال الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) عن بقية المسلمين وهو لا يناسب التوجيهات العامة للأئمة (سلام الله عليهم)، فإن البينونة والانفصال بين المجتمع المسلم وغيره مطلوب لكنه داخل المجتمع المسلم مرجوح.

واستشكل بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) على الصحيحة من جهة سندها، قال (دام ظله): ((لم يثبت عندنا أن أحمد بن حمزة القمي الراوي عن زكريا بن آدم كونه ابن اليسع الثقة))(1).

أقول: صححنا السند فيما مضى (صفحة 285) بما يدفع هذا الإشكال. فحمل صحيحة زكريا على التنزيه وكراهة تذكية غير أهل الولاية هو الأولى، ومثل زكريا المأمون على الدنيا والدين يليق به هذا التنزيه، ولعله توجيه من قبل الإمام (عليه السلام) لتشجيع الشراء من إخوانهم في المعرفة بحق أهل البيت (عليهم السلام) لدعمهم اقتصادياً.

ص: 323


1- فقه الصادق: 36/101.

الشرط الرابع: كون آلة الذبح من الحديد

قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: ((ولا يجوز الذباحة إلا بالحديد فإن لم توجد حديدة وخيف فوت الذبيحة أو اضطر إلى ذباحتها جاز له أن يذبح بما يفري الأوداج من ليطة أو قصبة أو زجاجة أو حجارة حادة الأطراف))(1).

وقال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((وأما الآلة فلا تصح التذكية إلا بالحديد، ولو لم يوجد وخيف فوت الذبيحة، جاز بما يفري أعضاء الذبح، ولو كان لَيْطة –بفتح اللام وهي القشر الظاهر من القصبة –أو خشبة أو مروة حادة- وهي الحجر الحاد الذي يقدح النار- أو زجاجة. وهل تقع الذكاة بالظفر أو السن مع الضرورة؟ قيل: نعم لأن المقصود يحصل، وقيل: لا، لمكان النهي ولو كان منفصلاً)).

أقول: استدل على عدم جواز التذكية إلا بالحديد بوجوه:

(منها) الإجماع.

وقد حكاه صاحب الجواهر (قدس سره) فقال: (( (وأما الآلة فلا تصح التذكية) ذبحاً أو نحراً (إلا بالحديد) مع القدرة عليه وإن كان من المعادن المنطبعة كالنحاس والصفر والرصاص والذهب وغيرها بلا خلاف فيه بيننا كما في الرياض، بل في المسالك –عندنا- مشعراً بدعوى الإجماع عليه كما عن غيره، بل في كشف اللثام اتفاقاً كما يظهر))(2).

أقول: الإجماع –لو سلمناه- فإنه مدركي مستند إلى الروايات.

(ومنها) ما استدل به صاحب الجواهر (قدس سره) من أن الذبح بالحديد هو ((المتعارف في التذكية على وجه يُشَك في تناول الإطلاق لغيره مع القدرة عليه فيبقى على أصالة العدم))(3).

ص: 324


1- النهاية: 538.
2- جواهر الكلام: 36/99-100.
3- جواهر الكلام: 36/100.

وفيه: إن هذه الغلبة المتعارفة لا تصلح للتقييد ولا وجه للرجوع إلى الأصل مع وجود الروايات الدالة على المطلوب، فالدليل منحصر بالروايات.

وقد دلت عليه عدة روايات معتبرة كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذبيحة بالليطة وبالمروة فقال: لا ذكاة إلا بحديدة)(1).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن ذبيحة العود والحجر والقصبة، فقال: قال علي (عليه السلام) لا يصلح إلا بالحديدة).ومعتبرة أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (لا يؤكل ما لم يذبح بحديدة).

وموثقة سماعة بن مهران قال: (سألته عن الذكاة، فقال: لا تذكِ إلا بحديدة نهى عن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ).

أقول: يعارض هذه الروايات ظاهراً ما دلّ على جواز الذبح بغير الحديدة كموثقة الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليه السلام) أنه كان يقول: (لا بأس بذبيحة المروة والعود وأشباههما ما خلا السن والعظم)(2).

ويعالج هذا التعارض البدوي بحمل هذا الجواز على حال الاضطرار وعدم وجدان الحديد بدلالة ما صرّحت به روايات أخر كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهن الإنسان إذا لم يجد سكيناً، فقال: إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك)(3).

ص: 325


1- الأحاديث الأربعة تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 1، ح1، 2، 3، 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 2، ح5.
3- الروايات الأربع تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 2، ح1، 2، 3، 4.

وصحيحة عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس أن تأكل ما ذبح بحجر إذا لم تجد حديدة).

وصحيحة زيد الشحام قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح بقصبة؟ فقال: اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به).

وصحيحة محمد بن مسلم قال: (قال أبو جعفر (عليه السلام) في الذبيحة بغير حديدة قال: إذا اضطررت إليها، فإن لم تجد حديدة فاذبحها بحجر).

ولبيان تفاصيل البحث نشير هنا إلى أمور:

(الأول) في المراد من الحديد: الظاهر من الروايات أن المراد بالحديد ليس الفلز(1)

المعروف بأي نحو كان وإنما المعدن الصلب الذي حُدَّت حافته حتى دقّت بهدف إعداده للذبح والقطع أي المعنى الاشتقاقي على نحو صيغة المبالغة نحو (عظيم، رحيم) أو الصفة المشبهة نحو (كريم) حيث يقال(2)

في اللغة: ((حَدَدْتُ السكين: أي رققت حدّه، وأحددته جعلت له حدّاً، ثم يقال لكل ما دقّ في نفسه من حيث الخلقة، أو من حيثالمعنى كالبصر والبصيرة حديد، قال تعالى: «فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيدٌ» )) (ق: 22). وتوجد على ذلك عدة قرائن:-

1- إن هذا هو المعروف في النصوص التأريخية والشرعية في باب الذباحة وما يناسبها كالحلق مثلاً، فيطلق لفظ الحديدة على موسى الحلاقة، كما في قضية خبيب بن عدي أحد الشهداء القراء في واقعة الرجيع على عهد

ص: 326


1- قد يظهر من موردٍ ما بالقرينة أن المراد به اسم الذات كموثقة الحسن بن الجهم قال: (أراني أبو الحسن (عليه السلام) ميلاً من حديد ومكحلة من عظام، فقال: هذا كان لأبي الحسن (عليه السلام) فاكتحل به فاكتحلت به) (وسائل الشيعة، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمام، باب 58، ح1) أو ما ورد في مناهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن التختم بالحديد.
2- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة (حد).

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال حين حضره القتل: (ابعثي إليّ بحديدة أتطهر بها للقتل)(1)

فناولته الموسى.

2- عموم التعليل في ذيل صحيحتي عبد الرحمن بن الحجاج وزيد الشحام في الصفحة السابقة، وورد في بعضها (ما أنهرَ الدم) كما في رواية رافع بن خديج(2)

الآتية إن شاء الله تعالى.

3- إن ((الوارد في لسان الروايات عنوان الحديدة، والحديدة هي القطعة من الفلز الصعب الذي غالباً يكون من جنس الحديد، والذي يحدّد ويعدّ للقطع والذبح))(3).

4- التعبير في بعض الروايات بالسكين كالصحيحتين المذكورتين وفي بعضها بالشفرة كصحيحة محمد بن مسلم في ذبيحة الصبي قال (عليه السلام): (وأطاق الشفرة)(4).

وهذا يعني أن الحديد لم يؤخذ بذاته وإنما بوصفه حاداً قاطعاً، قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): ((فالقول بالاختصاص بالحديد غير صحيح، بل المراد مطلق المعدن الصلب، وورد الحديد بالرواية لأجل كونه مثالاً غالباً، بل هو غالب جداً بلا إشكال على مدى الأجيال، لوضوح ندرة استعمال الذهب أو الفضة أو النحاس في السكاكين ونحوها))(5).

5- إنه مقتضى المقابلة في الروايات بين ((الحديدة وبين العود والحجر والقصبة والليطة، مع أنه لو كان النظر إلى خصوصية الجنس كان اللازم أن يجعل المقابلة بين الحديد وبين النحاس والصفر والذهب ونحوها من الأجناس الأخرى، في حين أنه لم يرد ذلك في شيء من الروايات ولا

ص: 327


1- سيرة ابن هشام: 3/95.
2- نقلها الشيخ (قدس سره) عن كتب العامة في الخلاف: 6/23، المسألة (22).
3- قراءات فقهية معاصرة: 2/51.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذباحة، باب 22، ح1.
5- ما وراء الفقه: 7/284.

أسئلة الرواة))(1).

وبتقريب آخر أنه مقتضى ((المقابلة –في الأسئلة والأجوبة معاً- بين الحديدة، وبين العصا والحجر مما ليس بحسب طبعه محدداً ولا معدّاً للقطع والفري، وإن كان يمكن القطع بها أيضاً مع العناية والمشقة))(2).

فائدة: جعل بعض الأعلام المعاصرين من القرائن على هذا المعنى ((مراجعة روايات الجمهور المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفتاواهم، فإنه لم يرد فيها التعبير بالحديد، بل الذبح بالمدية والسكين في قبال الذبح بالعصا والقصب والليطة مما يكون ظهوره فيما ذكرناه أوضح، كما أن عنوان الحديد الوارد في كلمات فقهائهم أرادوا به ما يكون محدداً يقطع ويخرق لا الفلز المخصوص، حيث ذكروا أنه يشترط في آلة الذبح شرطان: أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها، وأن لا تكون سناً أو ظفراً.

ولا شك أن رواياتنا الصادرة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وكذلك كلمات فقهائنا القدامى لا بد وأن نفهمها في ضوء الجو الفقهي السائد عند الجمهور والوارد في رواياتهم لا مفصولة عن ذلك، وهذه نكتة مهمة لا بد من مراعاتها في فهم الأخبار وكلمات الفقهاء))(3).

أقول: مراعاة هذه النكتة مفيد قطعاً، إلا أنها في المقام قد تكون أظهر في عكس ما أراد، فإن فقهاء العامة اتفقوا على ((أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر، أو عود، أو قضيب، أو زجاج تحل التذكية به)) وقال ((الحنفية: يجوز الذبح بكل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم ولو بنار أسالت الدم، أو بليطة أو مروة))(4).

ص: 328


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/51.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/56.
3- قراءات فقهية معاصرة: 2/53.
4- الفقه الإسلامي وأدلته: مج 4، صفحة 2787.

وحينئذٍ تكون مقتضى المقابلة مع كلماتهم ودور الأئمة (عليهم السلام) في تصحيح الانحراف في الأحكام هو حصر الآلة بالحديد.

وفي ضوء ما تقدم فإن اشتراط كون الآلة من الحديد من أجل سرعة قطعه الأوداج أي لوحظ فيه المعنى الاشتقاقي وهو القطع والذبح وليس اسم الذات، فلو كان الحديد صدِءاً أو ليس ذا حافة حادة قاطعة كما لو كان اسطوانياً كان كغير الحديد، وفي ضوء هذا فبين هذا العنوان وما فهمه المشهور من كون المراد فلز الحديد عموم من وجه، فبعض الحديد –الفلز- غير حديد –بالمعنى اللغوي أي قاطع- فلا يجوز التذكية به حال الاختيار كالحديدة الاسطوانية، وبعض ما هو حديد –بالمعنى اللغوي- هو ليس منالحديد –الفلز- كالسكين المصنوع مما يعرف بالاستيل وقد يجتمعان وهو الغالب في السيف والسكين والشفرة ونحوها.

إن قلتَ: إن عدداً من الروايات المعتبرة حصرت التذكية بالحديد فالتوسع غير صحيح.

قلتُ:-

1- قد شرحنا المراد من كون الآلة من الحديد، وهذا المعنى هو الذي وسّع المصاديق.

2- إن عنوان الحديد عرفاً يطلق على ما هو أوسع من الحديد الفلز بالمعنى الكيميائي، فلا يشكك العرف في صدق الحديد على الاستيل.

3- إن الحصر في هذه الروايات إضافي أي أن حصر التذكية بالحديد مقابل الليطة والمروة والعظم ونحوها، وليس الحصر مطلقاً أي حتى مقابل الفلزات المماثلة للحديد في قابلية القطع.

وأستطيع القول أن هذا المعنى –أي التذكية بما هو حاد وقاطع وأوضح مصاديقه الحديد- موجود في أذهان الفقهاء (قدس الله أرواحهم) وإن لم يصرح به أكثرهم وإنما ذكروا فلز الحديد لأنه المادة التي تصنع منه الآلات القاطعة الحادة عادةً، وقد صرّح بعضٌ آخر منهم، قال الشيخ (قدس سره) في المبسوط: ((كل محدد يتأتى الذبح به يُنظر فيه، فإن كان من حديد أو صفر أو

ص: 329

خشب أو ليطة –وهو القصب- أو مروة وهي الحجارة الحادة حلّت الذكاة بكل هذا، إلا ما كان من سنّ أو ظفر، فإنه لا يحل الذكاة بواحد منها))(1)

إلى آخر كلامه (قدس سره). وقال القاضي ابن البراج (قدس سره) في مهذبه: ((والذباحة لا يجوز إلا بالحديد، فمن خاف من موت الذبيحة ولم يقدر على الحديد جاز أن يذبح بشيء له حدة مثل الزجاجة والحجر الحاد أو القصب، والحديد أفضل وأولى من جميع ذلك))(2).

وفي الجامع للشرائع: ((ويحل الذكاة بكل محدد من حديد أو صفر أو خشب أو مرو أو زجاج مع تعذّر الحديد، ويكره بالسن والظفر))(3).

ولو لم تتم القرائن المتقدمة على تعيين المراد، فالأحوط الجمع بين المعنيين، بأن تكون آلة الذبح من فلز الحديد وأن تكون حادة قاطعة لإمكان ذلك الجمع.

ومنه يُعلم وجه النظر في ما أورده بعض الأعلام المعاصرين من الإشكال وجوابه. قال (دام ظله الشريف): ((لا يقال: لا مانع من أخذ كلتا الخصوصيتين شرطاً في آلة الذبح، أي كونها من جنس الحديد وأن تكون محددة معدّة للقطع والذبح كالسكين ونحوه، فيراد بالحديدة ما يكون سكيناً من جنس الحديد.

فإنه يقال: بين المعنيين تباين في المفهوم، فلا يصحّ أخذهما معاً في مادة الحديد؛ إذ الحديد بمعنى الفلز المعروف غير الحديد بمعنى الحاد القاطع، كما أن بينهماعموم من وجه في الصدق، فالحديدة إما أن يراد بها القطعة الحادة المعدة للقطع والذبح كالسكين والمدية وإن كان من غير جنس الحديد، وإما أن يراد بها القطعة من الفلز المخصوص وإن لم تكن حادة وقاطعة للّحم.

أما الجمع بينهما فهو أشبه باستعمال المادة المشتق منها الكلمة في كلا المعنيين))(4).

ص: 330


1- المبسوط: 6/263.
2- الينابيع الفقهية: 21/98، (المهذب: كتاب الصيد والذباحة).
3- الجامع للشرائع: 387، ونقل عنه في الينابيع الفقهية: 21/258.
4- قراءات فقهية معاصرة: 2/52.

وجه النظر: إمكان الجمع بين المعنيين أو قل الشرطين أي التقييد بهما في آلة الذباحة ومع إمكانه فإنه يجب بتقريبين:

أولهما: الاحتياط، باعتبار إجمال لفظ الواجب بين معنييه فيؤخذ بما يحققهما معاً ما دام ممكناً.

ثانيهما: من خلال النظر إلى الروايات على نحو تعدد الدال والمدلول، ففي بعضها الحديد(1)

فيحمل على الفلز، وفي بعضها السكين والشفرة فيحمل على القاطع.

وليس المقام من وحدة الدال وتعدد المدلول حتى يقع المانع الذي ذكره، أي ليس عندنا دليل واحد يراد حمله على أكثر من معنى حتى نتصور المانع المذكور، لكن هذا كله كلام تنزّلي.

فائدة: يمكن الاستئناس للحكم بكون آلة الذبح قاطعة وقاتلة وإن لم تكن من الفلز المعروف بالحديد بما ورد في باب الصيد حيث صرّحت بهذا المعنى عدة روايات منها صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا رميت بالمعراض فخرق فكل، وإن لم يخرق واعترض فلا تأكل)(2).

(الثاني) الظاهر أن حالة جواز الذبح بغير الحديد يكفي فيها عدم وجدان الحديد، وهو أوسع من قضية الاضطرار المسوغ لأكل الميتة، بل ومن خوف فوت الذبيحة وموتها بلا تذكية الذي عُلم من الشارع المقدس عدم رضاه بتلف المال المحترم، لأن الروايات خلت من هذا التقييد، حتى صحيحة محمد بن مسلم، فليس في لسانها ما يشير إلى تقييد تلك الروايات.

فلا بد من فهم عبارة الشيخ والمحقق صاحب الشرائع (قدس سره) وغيره أنه ((لو لم يوجد –أي الحديد- وخيف فوت الذبيحة جاز بما يفري

ص: 331


1- وردت رواية أبي بكر الحضرمي في الاستبصار بلفظ (ما لم يذبح بالحديد) ورواية الشحام في الاستبصار والتهذيب بتعبير (إذا لم تصب الحديد).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 22، ح1.

أعضاء الذبح ولو كان ليطة .. إلخ)) على أن ال-(واو) هنا بمعنى (أو) أي أن كلا من عدم الوجدان وخوف فوت الذبيحة سبب كافٍ لجواز الذبح بغير الحديد.وهذا ما قواه صاحب الجواهر قال (قدس سره): ((يمكن القول بجواز ذلك مع وجود الحديدة إذا أعجلته الذبيحة عن الإتيان بها وإخراجها من غمدها))(1).

(الثالث) يمكن التقدم خطوة أوسع مما سبق فيقال بكفاية استعمال كل ما يتحقق به الذبح أي فري الأوداج وإنهار الدم لتحقق التذكية بالمعنى الذي يأتي بإذن الله تعالى، والدليل على ذلك القاعدة في ذيل صحيحة زيد الشحام وعبد الرحمن بن الحجاج، فكأن الإمام (عليه السلام) عدل عن تعداد ما تصح التذكية به وأعطى القاعدة العامة.

وتوجد رواية عامية في هذا المعنى في سنن البيهقي عن عدي بن حاتم قال: (قلت: يا رسول الله إنا نصيد الصيد فلا نجد سكيناً خلا الطرار وشقة العصا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): افرِ الدم بما شئت واذكر اسم الله)(2).

ويتفرع على ذلك أنه لو أنتجت التكنولوجيا المتقدمة طرقاً للتذكية تقطع الأوداج الأربعة وتنهر الدم من غير سكين أو شفرة قاطعة فإنه تصح كما لو تحقق ذلك بتوجيه أشعة من نوع خاص، والمسألة تبقى مجرد فرض.

(الرابع) استثني مما يذبح به السن والعظم ونفى الشيخ الطوسي عنه الخلاف، قال (قدس سره): ((لا تحل التذكية بالسن ولا بالظفر، سواء كان متصلاً أو منفصلاً بلا خلاف، وإن خالف وذبح به لم يحلّ أكله، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إن كان الظفر والسن متصلين كما قلناه، وإن كانا منفصلين حل أكله. دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وطريقة الاحتياط.

ص: 332


1- جواهر الكلام: 36/102.
2- جواهر الكلام: 36/102.

وروى رافع بن خديج قال: (قلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا نلقى العدو(1)

غداءً وليس معنا مدىً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما انهار (ما أنهر خ) الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم الإنسان، وأما الظفر فمدى الحبشة)(2)، واستدل الشيخ (قدس سره) بإطلاق الرواية على النهي عنهما سواء كان متصلاً أو منفصلاً.

واستدلوا أيضاً بموثقة الحسين بن علوان المتقدمة (صفحة 325).

أقول: أدلتهم غير تامة كما هو واضح، وقد صرّحت صحيحة زيد الشحام بجواز الذبح بالعظم، والسن منه، وإذا قيل بتقييدها بموثقة ابن علوان فإنه يرد عليه:-

1- خلو الموثقة عن ذكر الظفر والتفصيل خلاف إجماعهم الذي نقلناه، أما الرواية العامية فالتعليل في ذيلها غريب.1- عدم صلاحية الموثقة لتقييد الصحيحة لورودها في غير الكتب الأربعة مما يقلل الوثوق بها لعدم تلقّيها بطرق مضبوطة.

فلا يوجد دليل على استثناء السن والظفر مما يذكى به عند عدم وجود الحديد.

وقد قال بالجواز عدد من المتقدمين على المحقق (قدس سره) كما يظهر من عبارة الشرائع المتقدمة ونسبه صاحب الجواهر (قدس سره) إلى المتأخرين وعلّله بأن المقصود وهو قطع الأوداج يحصل بذلك، خصوصاً إذا خيف موت الذبيحة مما عُلم عدم رضا الشارع المقدس به.

(الخامس) ظاهر قولهم ((لا تصح التذكية إلا بالحديد مع القدرة عليه)) عدم حلية الذبيحة حينئذٍ، أي أنهم جعلوا هذا الشرط وضعياً بحيث تحرم الذبيحة لو

ص: 333


1- الظاهر أن معنى (العدو) الصيد الذي يعدو وليس (العدو) بمعنى المعادي، بقرينة تفاصيل الرواية، ولا معنى للقاء المعادي المقاتل وليس لهم سلاح.
2- الخلاف: 6/22، المسألة (22).

لم يتحقق، وبه صرّح جملة منهم، قال السيد الحكيم (قدس سره): ((لا يجوز الذبح بغير الحديد في حال الاختيار وإن كان من المعادن المنطبعة كالنحاس والصفر والرصاص والذهب والفضة فإن ذبح بغيره مع القدرة عليه لا يحل المذبوح أما مع عدم القدرة على الحديد فيجوز الذبح بكل ما يفري الأوداج وإن كان ليطة أو خشبة أو حجراً حاداً أو زجاجة، وفي اعتبار خوف فوت الذبيحة في الضرورة إشكال، وإن كان أحوط كالإشكال في جوازه حينئذٍ بالسن والظفر. نعم لا يبعد جواز الذبح اختياراً بالمنجل ونحوه مما يقطع الأوداج ولو بصعوبة وإن كان الأحوط الاقتصار على حال الضرورة))(1).

ولم يعلق السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) على موضع الحاجة.

وما يمكن الاستدلال به عدة روايات كمعتبرة أبي بكر الحضرمي ومفهوم صحيحة عبد الله بن سنان وموثقة الحسين بن علوان.

وكلها قابلة للنقاش:

(أما) رواية الحضرمي فلا نناقش في سندها لأننا نبني على اعتبار رواياته، لكنها غير ظاهرة في المطلوب أي حرمة المذبوح بغير الحديد، إذ لعل المراد منها النهي عن غير المذبوح كالمقتولة برميها بحجر أو الطير بقطع عنقه ونحوها، أي أن النهي متعلق ب-(ما لم يذبح) وليس بالحديدة فالجار والمجرور زائد هنا وذكر باعتبار المنصرف إلى الذهن.

فالرواية نظير رواية يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) في البقر إذا نُحِر قال (عليه السلام): (لا تأكل إلا ما ذبح)(2) ولم يذكر الحديد لأن النحر به أيضاً.

ص: 334


1- منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره) مع تعليقات السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): 2/357، ج2، فصل في الذباحة، المسألة (5).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 5، ح2.

(وأما) صحيحة عبد الله بن سنان فلا مفهوم لها ولو فُرض فربما كان البأس من جهة عدم تحقق التذكية كالذي قلناه في معتبرة الحضرمي.(وأما) الموثقة فهي خاصة بالسن والعظم أولاً، وإن البأس –لو سلمناه- فلعل منشأه عدم تحقق التذكية الشرعية أي فري الأوداج وإنهار الدم غالباً بالسن والظفر، إذ قد تموت الذبيحة بهذه الطريقة خنقاً ونحوه قبل قطع الوريدين، فهذه الطريقة ليست ذبحاً أو تذكية عرفاً، بل هي تقطيع وتمزيق لأوصال الحيوان وهو حي خصوصاً إذا كان متصلاً. ولعله لهذا قيل بالتفصيل بين المتصل والمنفصل، باعتبار أن الثاني يكون كبقية الآلات الحادة.

فالأدلة على حرمة الذبيحة فيما لو ذبح بغير الحديد اختياراً غير تامة، والظاهر من هذا الشرط أنه تكليفي يراد منه تحقيق أحكام التذكية وآدابها التي تقتضي إراحة الذبيحة وعدم تعذيبها والإحسان في ذبحها. أو المراد منها تحقيق معنى التذكية والذبح بقطع الأوداج وإنهار الدم دون الطرق الأخرى للقتل.

الشرط الخامس: كيفية الذبح

اشارة

يشترط في حلية الذبيحة أن تُذكّى من الموضع المخصَّص؛ لعدم صدق الذبح والتذكية عرفاً على غيره، وللنصوص: ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ولا تأكل ذبيحة لم تذبح من مذبحها)(1).

هذا في حال الاختيار أما في حال الاضطرار كما لو استصعب الحيوان فيمكن قتله بأي نحو تيسّر، ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل ضرب بسيفه جزوراً أو شاة في غير مذبحها وقد سمى حين ضرب، قال: لا يصلح أكل ذبيحة لا تذبح من مذبحها، يعني(2) إذا تعمد ذلك ولم تكن

ص: 335


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 4، ح1.
2- ورد هذا المقطع في رواية الكافي.

حاله حال اضطرار، فأما إذا اضطر إليه واستصعب عليه ما يريد أن يذبح فلا بأس بذلك)(1).

ومعتبرة قرب الإسناد عن علي (عليه السلام): (أيّما أنسية تردّت في بئر فلم يقدر على منحرها فلينحرها من حيث يقدر عليه ويسمّي الله عليها وتؤكل)(2).

وللإبل النحر، وللبقر والغنم ونحوهما الذبح، وفي صحيحة معاوية بن عمار قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): النحر في اللبة والذبح في الحلق (الحلقوم) )(3)، وصحيحة صفوان قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن ذبح البقر من المنحر،فقال: للبقر الذبح، وما نُحر فليس بذكيّ)(4)، وفي مرسلة الفقيه قال: (قال الصادق (عليه السلام): كل منحور مذبوح حرام، وكل مذبوح منحور حرام)(5).

وقد تعددت الأقوال في كيفية الذبح التي تتحقق بها التذكية فاشترط المشهور قطع الأوداج الأربعة وهي (المريء والقصبة الهوائية في وسط الرقبة والشريان والوريد في طرفيها) في حال الاختيار بحيث ((لا يجزي قطع بعضها أو بعض أحدها مع الإمكان لا مع عدمه، في مثل المتردية في مكان لا يتمكن من ذبحها مثلاً تمام التمكن هذا في قول المشهور بل في نهاية المرام ومحكي المهذب الإجماع عليه، بل والغنية إلا أنه لم يذكر المريء))(6).

فدليلهم الشهرة وصحيحة ابن الحجاج المتقدمة (صفحة 325).

ويرد عليهم أن الشهرة ليست بحجة مع أنها مدركية منشأها الرواية أو سيرة القصابين التي لا مفهوم لها فينفي صحة قطع البعض.

ص: 336


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 4، ح3.
2- المصدر، باب 10، ح8، ومثلها روايات أخر في نفس الباب.
3- المصدر، باب 3، ح1.
4- المصدر ، باب 5، ح1.
5- المصدر، باب 5، ح3.
6- جواهر الكلام: 36/105.

والصحيحة لا تدل على مرادهم إذ أنها لم تحدد المراد من الأوداج ولا عددها. بل إننا سنقول أنها أجنبية عن المقام لأنها بصدد بيان ما يصح الفري به، مضافاً إلى أن صدق الأوداج على الحلقوم والمريء محل إشكال كما صرّح به بعضهم(1)

وإنما يصدق حقيقة على الودجين –الشريان والوريد- ويكون الجمع حينئذٍ في (الأوداج) منطقياً وليس حقيقياً، وأجيب بأن الأوداج إذا أطلقت فيراد بها الأربعة، وردّ بأن ذلك في كلمات الفقهاء المبني على السيرة الخارجية ولا يدل على تعيّنه به فيمكن تفسيره بالاثنين والثلاثة، وليس التجوز بحمل (الأوداج) على الحلقوم والمريء أولى –كما رجّح صاحب الجواهر (قدس سره) وقال: ((إن الغالب استعمالها فيما يشمل الحلقوم))(2)-

من حمل الجمع على المعنى المنطقي.

ولو سلّمنا فالثلاثة (بشمول الحلقوم أو المريء) كافٍ حينئذٍ فلماذا اشتراط الأربعة؟ وقُرِّب شمول الأربعة بأكثر من وجه، منها: عدم القول بالفصل بين الحلقوم والمريء.

وهو مردود بوجود القائلين بالفصل.ومنها: أنه يحصل علم إجمالي بأن المراد بها إما هذا أو ذاك ومقتضاه رعاية وجوب قطعهما(3)، لكنه مردود بأن المورد ليس صغرى له إذ المطلوب أحدهما المخيَّر وليس المردَّد.

فلا وجود للعلم الإجمالي، ولو سلّمناه فإنه ينحل إلى: علم تفصيلي بالقطع بدخول الحلقوم لصحيحة الشحام وفهم العرف لمعنى الذبح والتذكية، وشك بدوي في دخول المريء فيُنفى بالأصل.

اللهم إلا أن يدّعى أن المراد منها ذلك بوجه أو بآخر كالاتصال بينها والملازمة أو رد بعض التعبيرات إلى بعض كما قيل.

ص: 337


1- رياض المسائل: 13/321، مستند الشيعة: 15/403.
2- جواهر الكلام: 36/107.
3- فقه الصادق: 36/122.

ونوقش المشهور أيضاً في الاستدلال بالصحيحة من جهة بنائه على أن معنى الفري هو القطع –بحسب ما حكوا عن بعض المصادر اللغوية كالقاموس والصحاح ويساعد عليه التبادر- مع أن بعض المصادر اللغوية الأصلية تفيد بأن معناه الشق(1).

ويوجد قول ثانٍ بكفاية قطع الحلقوم –أي القصبة الهوائية- مع خروج الدم ((وحكي عن الإسكافي وعن الخلاف أيضاً ومال إليه المحقق والشهيد الثاني، وهو ظاهر جمع من المتأخرين، وعن الأردبيلي وصاحب الكفاية والمفاتيح وشرحه))(2).

ويظهر من المحقق (قدس سره) ميله إليه لأنه نسب القول الأول إلى المشهور مشعراً بعدم وجود دليل عليه غير الشهرة، بينما استدل للقول الثاني بالرواية.

وفُهِم هذا القول من كلام جملة من المعاصرين كالسيدين الحكيم والخوئي (قدس الله سريهما) قالا: ((وفي الاجتزاء بفريها من دون قطع إشكال، وكذا الإشكال في الاجتزاء بقطع الحلقوم وحده وإن كان الأظهر عدمه))(3).

وعلّق السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): ((بل هو الأحوط والأظهرية ممنوعة)).

أقول: فهم السيد الشهيد (قدس سره) عودة الضمير في ((عدمه)) إلى الإشكال فعلّق بما قال، والظاهر عودته إلى الاجتزاء فيكون مختارهما (قدس الله سريهما)

ص: 338


1- نسبه الشهيد الثاني (قدس سره) إلى الهروي –صاحب غريب الحديث- ولكن قال الراغب في المفردات: ((الفري: قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء للإفساد))، وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: ((قطع الشيء، ومن ذلك: فريتُ الشيء أفريه فرياً، وذلك قطعكه لإصلاحه)).
2- مستند الشيعة: 15/399.
3- منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره) بتعليق السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): 2/358، منهاج الصالحين للسيد الخوئي (قدس سره): 2/336 المسألة (164).

عدم الاجتزاء بقطع الحلقوم وحده بقرينة أصل المسألة حيث قالا: ((الواجب قطع الأعضاء الأربعة)) إلخ، ولم ينسباه إلى المشهور أو القيل وإنما جزما به.نعم صرّح بهذا القول الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بعد أن اعترف بأن ((مقتضى القاعدة الأولية وجوب القطع التام لكل الأوداج الأربعة، إلا أن بعض الأخبار المعتبرة جاءت بخلاف ذلك فيمكن التعبد بها))(1)، قال (قدس سره): ((فلو انقطع الحلقوم وجرى الدم كفى كما في الخبر الصحيح))(2)

أي صحيحة الشحام.

كما صرّح به في كتابه (ما وراء الفقه) وأضاف إليه جملة من الروايات كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن مسلم ذبح وسمى فسبقته السكين بحدتها فبان الرأس؟ فقال: إن خرج الدم فكل)(3)

وموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس به إذا سال الدم)(4).

ثم قال (قدس سره): ((إلى غير ذلك من الأخبار وهي شاملة بإطلاقها بلا شك لصورة عدم انقطاع الأوداج الأربعة جميعاً))(5).(4).

أقول: الروايات المذكورة ما عدا صحيحة الشحام مما لا يمكن الاستدلال بها هنا لأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

فدليل القول الثاني ما تقدم في صحيحة زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: (إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به)(6)(5)((وصدق الذبح العرفي بقطع الحلقوم خاصة))(7)(6)((ولعله لذا مع صدق اسم الذبح به

ص: 339


1- ما وراء الفقه: 7/286.
2- منهج الصالحين: ج3: 370، المسألة (2142).
3- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 9، ح 1، 4.
4- (5) ما وراء الفقه: 7/286.
5- (6) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 2، ح3.
6- (7) مستند الشيعة: 15/401.

اقتصر عليه الإسكافي، بل في الدروس أنه يظهر من الخلاف ومال إليه الفاضل بعض الميل، وربما مال إليه في المسالك))((1).

أقول: نوقش الاستدلال بالصحيحة بأن البأس أعم من الحرمة وأن المفهوم ليس بحجة، وفيهما ما لا يخفى.

نعم سنذكر إمكان المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة من جهة عدم كونها بصدد البيان من جهة ما يقطع بل من جهة ما يصح القطع به، وذكر الحلقوم ليس لتحقق التذكية بقطعه وإنما لغلظه وصلابته فكأن الإمام (عليه السلام) قال: إن الآلة إذا كانت قادرة على قطع الحلقوم –وهو أصلب الأوداج- فتصح التذكية بها، ولا يكفي في الآلة قدرتها على قطع الودجين ونحوهما لأنها رقيقة تُقطع بكل شيء.وهذا معنى لطيف خفي على الجميع، وستأتي تتمة الكلام فيه (صفحة 347) بإذن الله تعالى.

وحكى الشهيد الثاني (قدس سره) عن العلامة (قدس سره) ميله إلى قول ثالث بكفاية قطع الحلقوم والودجين ونقل قوله (قدس سره) بعد ذكر صحيحتي ابن الحجاج والشحام ((هذا أصح ما وصل إلينا في هذا الباب، ولا دلالة فيه على قطع ما زاد على الحلقوم والأوداج)) وقرّب مراده في المسالك بأنه ((أراد بذلك أن قطع المريء لا دليل عليه، إذ لو أراد بالأوداج ما يشمله لم يفتقر إلى إثبات أمر آخر، لأن ذلك غاية ما قيل.

وفيه ميل إلى قول آخر، وهو اعتبار قطع الحلقوم والودجين))(2).

أقول: انتهى الاستدلال على هذه الأقوال إلى صحيحتي الشحام وابن الحجاج كما هو ظاهر كلامهم، وما قيل أو يمكن أن يقال في حل التعارض بين منطوق صحيحة زيد الشحام ومفهوم صحيحة ابن الحجاج، عدة وجوه:

ص: 340


1- (1) جواهر الكلام: 36/105.
2- مسالك الأفهام: 11/475.

(الأول) العمل بهما معاً أي تقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر بمعنى (أو) لا بمعنى الواو، فيكون كل منهما محققاً للتذكية، ونتيجته التخيير بين قطع الحلقوم أو فري الأوداج الأخرى بمعنى شقّها بدعوى أنه مقتضى الجمع بين الروايتين، وحكي عن العماني(1).

أقول: هذا مبني على أن المراد بالأوداج في صحيحة ابن الحجاج غير الحلقوم حتى تكون القضيتان شرطيتين منفصلتين ليصح الجمع بينهما ب-(أو)، ولئلا تكون النتيجة منافية –في أحد فرديها- للمقدمة وهي مفهوم الصحيحة، أما على ما فهمه المشهور من كون المراد بالأوداج: الأربعة؛ فإن النسبة بينهما العموم المطلق. وسيأتي مقتضى الجمع بإذن الله تعالى.

وقال المحقق النراقي (قدس سره) عن هذا التخيير أنه ((مقتضى التعارض ولكن الظاهر أنه مخالف للإجماع ولمفهوم الصحيحة))(2).

أقول: يرد على الأول بعدم الحجية أي أن التعارض في المقام لا يقتضي مثل هذا الجمع وأنه غير ظاهر من الدليلين المتعارضين، وعلى الثاني بما قرّبناه من البناء على عدم شمول الأوداج للحلقوم.

نعم يرد على العماني استبعاد عدم شمول الأوداج للحلقوم وشموله للمريء حتى يصح مثل هذا الجمع، اللهم إلا أن يقال بأن المراد بالأوداج الودجين باعتباره جمعاً لغوياً وحينئذٍ يُسأل عن وجه دخول المريء فيها.

(الثاني) تقديم صحيحة زيد الشحام؛ لأن دلالتها بالمنطوق ودلالة صحيحة ابن الحجاج بالمفهوم والأول أرجح(3).

وفيه: إن اشتراط فري الأوداج مستفاد من منطوق صحيحة ابن الحجاج، أما مفهومها فيلزم منه معارضة صحيحة الشحام فلا موضوع لهذا

ص: 341


1- جواهر الكلام: 36/107، 108.
2- مستند الشيعة: 15/403.
3- نسبه السيد صاحب الرياض (قدس سره) إلى المحقق السبزواري في الكفاية (رياض المسائل: 13/318).

الترجيح، مضافاً إلى منع هذا الرجحان في ذاته وإنما يكون الترجيح للأقوى ظهوراً، فيعود الوجه إلى تقييد مفهوم الأولى –أي صحيحة ابن الحجاج- بالثانية وهو مستهجن للزوم تخصيص الأكثر. إذ أن مفهوم صحيحة ابن الحجاج وجود البأس إذا لم تُفرَ الأوداج الأربعة كلها بينما تفيد صحيحة الشحام كفاية قطع واحد منها.

وذكر صاحب الرياض وجهاً آخر للرد، قال (قدس سره): ((على تقدير تسليمه –أي الترجيح- فإنه معارض برجحان إرادة الأوداج من الحلقوم في تلك الصحيحة، من حيث غلبة استعماله فيها، وشيوع التذكية بفريها دون الحلقوم الحقيقي خاصة، مع أن قطعه يستلزم قطعها غالباً؛ لغاية اتصالها بعضاً ببعض، وعليه نبّه الفاضل المقداد. وحيث تعارض الرجحان والمرجوحية فيهما فلا بد من الترجيح، وهو في جانب الرواية الثانية –أي صحيحة ابن الحجاج- للأصل والاعتضاد بالشهرة العظيمة والإجماعات المحكية، مع ندرة القائل بالرواية المعارضة إذ ليس إلا الإسكافي كما حكاه جماعة))(1).

أقول: استظهار هذا المعنى –أي إرادة الأوداج من الحلقوم- من النص يحتاج إلى تقريب لأنه خلاف ظاهر اللفظ بل صريحه، مع المناقشة الآتية في الملازمة المذكورة، نعم يمكن تقريب الوجه على نحو مستقل كما سيأتي بإذن الله تعالى.

(الثالث) نفي المعارضة أصلاً بعدة تقريبات:

إما لانتفاء المفهوم في صحيحة ابن الحجاج؛ لأن المولى ليس في مقام البيان من هذه الجهة كما سيأتي تقريبه.

أو لأن النسبة بينهما هي العموم المطلق بعد إرادة الأربعة من لفظ الأوداج في الصحيحة فيؤخذ بالأقل ويحمل الزائد على الاستحباب.

أو لمنع كون البأس ظاهراً في الحرمة بل الأعم منها ومن الكراهة بمساعدة التقريب الآنف.

ص: 342


1- رياض المسائل: 13/318.

أو لأن الفري فيها لا يعني القطع بل الشق، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((لا شبهة في أنه مع فري الأوداج الأربعة تحل الذبيحة، ولكن ذلك لا ينافي الاكتفاء بما دونها، فإذا ثبت في الرواية الصحيحة الاكتفاء بقطع الحلقوم لم يكن منافياً له إلا من حيث المفهوم، وليس بحجة.

وأيضاً فإن فري الأوداج لا يقتضي قطعها رأساً الذي هو المعتبر على القول المشهور، لأن الفري التشقيق وإن لم ينقطع، قال الهروي في حديث ابن عباس: (كل ما أفرى الأوداج) أي: شقّقها وأخرج (ما فيها من) الدم.فقد ظهر أن اعتبار قطع (الأعضاء) الأربعة لا دليل عليه إلا الشهرة، فلو عمل بالروايتين(1)

واعتبر الحسن لاكتفي بقطع الحلقوم وحده أو فري الأوداج بحيث يخرج منها الدم وإن لم يستوعبها، إلا أنه لا قائل بهذا الثاني من الأصحاب. نعم، هو مذهب بعض العامة))(2).

أقول: ردّ عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بما ((تقرر في الأصول من حجية المفهوم المزبور، وصلاحية معارضته للمنطوق، خصوصاً في المقام باعتبار اعتضاده بالشهرة العظيمة والإجماعين المحكيين، بل يمكن دعوى تحصيله، خصوصاً بملاحظة السيرة القطعية وأصالة عدم التذكية التي هي من قبيل الحكم الشرعي المحتاج إلى التوقيف، بل هي منه، فلا يكفي فيها مطلق اسم الذبح بعد تسليم صدقه في الفرض))(3).

أقول: هذه الردود قابلة للدفع.

(أما) المفهوم فلم يناقش (قدس سره) فيه كبروياً، وإنما نفى المفهوم في خصوص الصحيحة وهو وجيه لأن الإمام (عليه السلام) ليس في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما من جهة ما تصح التذكية به عند الضرورة وهو ما يفري الأوداج أي إذا كان من شأنه أن يفري الأوداج فلا بأس به، فالنظر فيها إلى بيان

ص: 343


1- صحيحتا زيد الشحام وعبد الرحمن بن الحجاج المتقدمتان (صفحة 326) وتجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 2، ح1، 2.
2- مسالك الأفهام: 11/474.
3- جواهر الكلام: 36/106.

قابلية الفري وليس إلى الأوداج التي يجب قطعها فتكون مجملة من جهة ما نحن فيه، فلا يكون للجملة مفهوم وهو معنى ظاهر من العبارة وليس ((خلاف المعنى الحقيقي وهو معنى مجازي))(1)، ولا حجية للشهرة الفتوائية ولا تصلح للترجيح، أما الشهرة المرجحة وهي الروائية فمتحققة فيهما.

(وأما) السيرة القطعية فهي قائمة على صحة هذه الكيفية –أي فري الأوداج- وهو قدر متيقن إلا أن الكلام في نفي الكيفية الأخرى أي قطع الحلقوم فحسب وليس للسيرة هذا اللسان.

وأما كون كيفية التذكية توقيفية فمما لا إشكال فيه وهي هنا متحققة عند القائل بكفاية قطع الحلقوم وشق الودجين لوجود صحيحة زيد الشحام وهي الدليل على مشروعية هذه الكيفية وليس صدق التذكية عرفاً حتى يناقش فيه.

(الرابع) استقرار التعارض والرجوع إلى الأصل وقد عرّفه المحقق النراقي في أكثر من مورد بأنه ((أصالة حلية ما ذُكر اسم الله عليه، ولكن ثبت معه اشتراط شيء آخر لتتحقق التذكية الشرعية، ولما نقول باشتراط قطع الحلقوم فحيث لا نعلم الزائد عليهننفيه بالأصل))(2)، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((إثبات المشهور من الحسنة مشكل فيتعين الرجوع إلى الأصل، فيقوى الاكتفاء بالحلقوم في الذبح، ولو تعدّى عنه إلى الودجين فلا دليل تاماً على إدخال المريء أصلاً))(3)

لكنه (قدس سره) أردف بعدم ترك الاحتياط بقطع الأربعة.

ص: 344


1- مستند الشيعة: 15/403.
2- مستند الشيعة: 15/401.
3- مستند الشيعة: 15/403.

أقول: هذا لا يحلّ المشكلة وإنما حوّل الخلاف إلى مبنائي، إذ تمسك المشهور بأصالة الحرمة وأصالة عدم التذكية عند الشك فيها فيما لو قطع الحلقوم خاصة والمفروض سقوط صحيحة الشحام الدالة على الاكتفاء بقطعه فالمتيقن هو قطع الأربعة.

(الخامس) ما حكاه صاحب الجواهر (قدس سره) عن الفاضل المقداد ورجّحه قال (قدس سره): ((يمكن أن يكون الاقتصار في الصحيحة على ذكر الحلقوم باعتبار ما ذكره المقداد من أن الأوداج الأربعة متصلة بعضها مع بعض فإذا قطع الحلقوم أو الودجان فلا بد أن ينقطع الباقي معه، ولعله كذلك في الذبح المتعارف المسؤول عنه في النصوص، لا ما إذا قصد الاقتصار على أحدها، وكأنه لذلك ترك ذكر المريء فيهما المفسر في كلام غير واحد بما تحت الحلقوم، وحينئذ فالانتهاء بالذبح المتعارف إلى منتهى الحلقوم يستلزم قطع الجميع، لأنها مع اتصالها به على وجه الإحاطة ونحوها لا يزيد عرضها على عرضه، وحينئذ فيمكن إرادة ما يشمل الحلقوم من الأوداج في الحسن الذي هو كالصحيح، بل لعل المحافظة على حقيقة الجمعية التي أقلها ثلاثة يقتضي ذلك، ولا أقل من التعارض، ولا ريب في أن الترجيح لذلك لما عرفت من الشهرة والإجماع وغيرهما))(1).

أقول: اتصال الأوداج الأربعة معلوم العدم، نعم الحلقوم –أي القصبة الهوائية- والمريء في وسط العنق، أما الشريان والوريد ففي الجانبين.

الوجه المختار:

والذي نختاره أن صحيحة ابن الحجاج مجملة من ناحية الأوداج التي يجب قطعها لأنها ليست بصدد البيان من هذه الجهة، وإنما من جهة الآلة التي تصح التذكية بها، فالمستفاد منها هو لزوم تحقق الفري، فلا ينعقد للفظ الأوداج عموم، مضافاً إلى عدم تعيّن الفري في القطع فيكفي فيه الشق لإنهار الدم؛ لأن الزائد يُنفى بالأصل إلا أن يقرَّب بوجه أو بآخر مما سيأتي في التنبيه الأول.

أما صحيحة الشحام فإنها وإن ذكرت قطع الحلقوم خاصة إلا أنه لا يمكن الاقتصار عليه بقرينة إضافة إنهار الدم التي لا تتحقق إلا بقطع بعض

ص: 345


1- جواهر الكلام: 36/106-107.

الأوداج الأخرى، وبقرينة الملازمة العادية بين قطع الحلقوم وغيره، والنصوص جاءت لتعالج حالةواقعية خارجية يسأل عنها الرواة تتضمن هذه الملازمة في الفعل، وهذا معنى غير الاتصال بين الأوداج المذكور في الوجه الخامس. فلا يستفاد من صحيحة الشحام الاكتفاء بقطع الحلقوم خاصة، بل إن ظهور الحلقوم في ما هو أوسع منه واضح من صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (صفحة 336) وفيها (والذبح في الحلقوم)، الظاهرة في إرادة منطقة الحلقوم بقرينة المقابلة، وليس العضو المعروف خاصة فالذبح لا يتعين به وإن كان هو القدر المتيقن من الإجماع. والعملية في الخارج شاهد على ذلك.

ولو تعمّد الذابح قطع الحلقوم خاصة لم تتحقق التذكية بل ربما لا يتحقق موت الحيوان إلا بنحو بطيء غير موافق للتذكية الشرعية ولا يكون مشمولاً بقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الآتية (إذا كنت قد أجدت الذبح)(1)

وقد يدخل حينئذٍ في عنوان (المنخنقة) لوحدة الملاك وهو القتل بقطع الهواء عنه، ولذا ورد المنع من قطع الحلقوم خاصة في رواية(2)

حمران بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ولا تقلب السكين لتدخلها تحت الحلقوم وتقطعه إلى فوق)(3).

ويمكن أن نتقدم خطوة أعمق ونشكّك في صحة الاستدلال بصحيحة الشحام على ما نحن فيه لما ذكرناه (صفحة 341) من كونها أجنبية، وبذلك تسقط كلتا الصحيحتين عن الاستدلال، فيكون ما ذكره المشهور من ابتناء الخلاف في المسألة على مفاد الصحيحتين ليس تاماً.

ص: 346


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 13، ح1.
2- سند الرواية صحيح بحسب الموجود في بعض النسخ الذي فيه أبو هاشم الجعفري عن حمران، لكن الظاهر حصول سقط في سندها بين أبي هاشم الجعفري وحمران وهو أبوه المجهول حاله، كما في بعض النسخ لأن أبا هاشم لا يمكن أن يروي عن حمران بلا واسطة.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 3، ح2.

وعلينا أن نرجع في شرح معنى التذكية والذبح إلى العرف الذي يكتفي بقطع الحلقوم وشق الودجين لإنهار الدم، ولا يكفي خروج الدم مطلقاً كما هو ظاهر اللفظ في صحيحة الشحام لأن الخروج يتحقق حتى بشق الجلد مع أنه لا أحد يكتفي به، فالمراد بخروج الدم أي خروج الدم الموجود في البدن فيكون مفاد صحيحة الشحام مطابقاً للمعنى العرفي بعد تفسير خروج الدم بجريانه وإنهاره.

بل قد يقال باكتفاء العرف بجريان الدم وإخراجه من البدن فقط لتحقق التذكية وهو المناسب لمعنى التذكية لغةً إذ ((حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية))(1)

والحرارة إنما تجري مع الدم، وكفاية إخراج الدم يظهر من عدة روايات معتبرة كصحيحة محمد بن مسلم وخبر سماعة الآتيين (صفحة 356)، وإذا تعمقنا أكثر فنقولأن من خصائص التذكية وآثارها الطهارة والصلاح وإنما يتحققان بإخراج الدم الذي هو سبب الفساد في البدن وقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة أن الطريقة الإسلامية للذباحة هي الصحيحة لأنها تخرج أغلب الدم من بدن الحيوان مما يحافظ على اللحم من الفساد والإضرار بالإنسان ومما يشهد لهذا تعبير الروايات والفقهاء عن الدم بالنفس فيقال عن الحيوان أنه ذو نفس سائلة فتخرج نفسه بخروج دمه.

لكن الإنصاف أن العرف يرى قطع الحلقوم داخلاً في عملية التذكية ليعجّل الموت، أما الاكتفاء بقطع الودجين فإنه يؤدي إلى النزف الذي قد يطول، وبذلك يقوى الأخذ بصحيحة الشحام من جهة مطابقتها للمعنى العرفي للتذكية، مع إمكان القول أن الذيل تضمن قاعدة عامة للتذكية لا يخصّصها المورد، ولا يضرّ بها ما ذُكر من الخصوصية لقطع الحلقوم لقوة ظهورها فيما ذكرناه.

والرجوع إلى العرف في فهم هذا المعنى أليق من التعويل على النصوص لما هو المعروف من سيرة الشارع المقدس أنه لا يتدخل ولا يؤسس لبيان معنى

ص: 347


1- المفردات للراغب، مادة (ذكا).

الأفعال الحياتية التي اعتاد عليها الناس وتركها لفهمهم وإنما وضع أحكامها وآدابها، فلم يشرح لنا معنى الأكل أو التخلي أو الجماع ومنها ذبح الحيوان.

وعلى أي حال فالنتيجة بناءً على هذا الوجه تتلخص في أنه لا يجب قطع جميع الأوداج الأربعة بل يكفي قطع الودجين المؤدي إلى إنهار الدم، والحلقوم أخذاً بصحيحة الشحام.

فيكون الأقوى ما اختاره العلامة (قدس سره) وقوّاه صاحب الرياض (قدس سره) لولا الإجماع المحكي قال (قدس سره): ((ولعله لولا الإجماع المحكي لا يخلو عن قوة؛ لعدم ذكر المريء في الروايتين، والأوداج في الثانية غير ظاهرة الشمول له؛ إذ المراد بها إما المعنى الحقيقي، والجمع جمع مجازي منطقي، فهي لا تشمل الحلقوم فضلاً عن المريء، أو المعنى المجازي مراعاةً لحقيقة الجمع، وهي تحصل بضمّ الحلقوم إلى الودجين ولا يحتاج في صدقها إلى ضمّ المريء))(1).

ولكن الأحوط أكيداً تحقيق الكيفية المتيقنة.

إلفات: ذكر الأصحاب (قدس الله أرواحهم) مضمون رواية حمران المتقدمة كحكم مستقل وحمله البعض لأجل ذلك على الكراهة مع أنها لو وضعت في سياقها الصحيح لعُرف المراد منها كما ذكرنا.

قال العلامة (قدس سره) في المختلف: ((قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: ولا يجوز أن يقلب السكين فيذبح إلى فوق، بل ينبغي أن يبتدئ من فوق إلى أن يقطع الحلقوم. وتبعه ابن البراج.

وقال ابن إدريس: هذه رواية أوردها إيراداً، فإن صحت حملت على الكراهية دون الحظر، لأنه لا دليل على حظر ذلك من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع منعقد، والأصل الإباحة.

والشيخ عوّل في ذلك على رواية حمران بن أعين، عن الصادق (عليه السلام) قال: (ولا تقلب السكين لتدخلها تحت الحلقوم وتقطعه إلى فوق).

ص: 348


1- رياض المسائل: 13/321.

وقول ابن إدريس قوي؛ لأن في الطريق أبا هاشم الجعفري، ولا أعرف حاله))(1).

ويحسن هنا التنبيه إلى عدة أمور:

(الأول) تقدم فيما نقلناه عن الشهيد الثاني (قدس سره) الاكتفاء بشق الأوداج دون قطعها مفسراً بذلك لفظ (الفري) واستشهد بكلام الهروي، بينما أوجب المشهور القطع، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((المصرَّح به في كلامهم وجوب قطع ما يجب قطعه من الحلقوم أو الأوداج الأربعة كلاً، أي قطع تمام كل واحد منها، فلو ترك جلدة يسيرة من واحد منها ولم يقطعها حتى خرجت روحه أو زالت حياته المستقرة عند من يعتبرها حرمت الذبيحة، وظاهر المحقق الأردبيلي عدم اعتبار ذلك، وكفاية قطع البعض الموجب لخروج الروح، وعدم اشتراط إتمامه بعده))(2).

أقول: قد يقال بأنه لا حاجة إلى الاستدلال بكلمات اللغويين؛ لأن التعبير ورد في عدة روايات –كصحيحة الشحام- بالقطع كما تقدم وفي بعضها كصحيحة ابن الحجاج بالفري ولا يُتصوَّر أن يراد من الفري في بعضها –كالحلقوم- القطع، وفي بعضها الشق للقطع بوحدة المراد فيها جميعاً.

ولكن يمكن رده بورود اللفظين في روايتين مختلفتين، وإمكان القول بالفرق بينهما إذ المطلوب في الحلقوم القطع، وفي الودجين الشق لإنهار الدم فالتعبيران غير متحدين بالمعنى.

نعم يمكن أن يقال: أن الروايات لم تجئ لتؤسس حالة جديدة من الذباحة وإنما لتصحح حالة قائمة، والسيرة الجارية في الذباحة كانت على قطع الأوداج وليس شقها.

ولذا جعل صاحب الجواهر (قدس سره) الإجماع على هذا المعنى حتى ممن اكتفى بقطع الحلقوم خاصة –كالعماني- ((أقوى قرينة على إرادة القطع من

ص: 349


1- مختلف الشيعة: 8/323.
2- مستند الشيعة: 15/405.

الفري فيها، مضافاً إلى الإجماعات المحكية))(1)

وأضاف: ((وأيضاً لا إشكال ولا خلاف في إرادة القطع منه بالنظر إلى الحلقوم بل هو مجمع عليه، فينبغي أن يكون بالنظر إلى الباقي كذلك، وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين حقيقيين أو مجازيين الذي هو غير مرضي عند المحققين)).

أقول: لا بأس بجعل الإجماع مؤيداً لا حجة لرجوعه إلى ما ذكرناه، وأما استعمال اللفظ في أكثر من معنى فليس المورد منه، لأنه من تعدد اللفظ وتعدد المعنى، فقد ورد القطع للحلقوم في رواية والفري للأوداج في غيرها، فلا بد أن يقرب الإشكال بوحدة المراد كما قدمنا، مع الملازمة الخارجية بين قطع الحلقوم وقطع غيره فما داموا قد اشترطوا قطع الحلقوم فقطع بقية الأوداج تحصيل حاصل.وهذا كله بناءً على ما قالوه في المسألة، أما على ما قرّبناه من كفاية قطع الحلقوم وإخراج الدم من البدن فإن شق الودجين كافٍ فعلاً، وهو معنى الذبح لغةً إذ معناه الشق(2).

(الثاني) قال المحقق النراقي (قدس سره): ((تجب متابعة الذبح حتى يستوفي الأعضاء الأربعة قبل خروج الحياة مطلقاً، أو الحياة المستقرة على القول باعتبارها، فلو قطع بعض الأعضاء وأرسله، فانتهى إلى الموت أو إلى حركة المذبوح، ثم استأنف قطع الباقي، حرم.

وقيل بالحلية مع بقاء مطلق الحياة ولو قلنا باعتبار الاستقرار، لاستناد الإباحة إلى القطعين، ولأنه لو أثّر في التحريم لم تحل ذبيحة أصلاً ولو مع التوالي، لانتفاء الحياة المستقرة بعد قطع البعض لا محالة. وهو حسن))(3).

أقول:-

ص: 350


1- جواهر الكلام: 36/107.
2- المفردات للراغب، مادة (ذبح).
3- مستند الشيعة: 15/405.

1- ما ذكره (قدس سره) في أول كلامه هو أحد معنيين للتتابع ((والمعنى الآخر كون العمل عملاً واحداً عرفاً من دون تخلل شيء آخر في البين مطلقاً))(1).

ولا حاجة إلى التعريف لأننا لسنا بصدد شرح لفظ شرعي حتى نلجأ إلى العرف وإنما هو تعبير عن الحكم الشرعي المذكور.

2- هذا الحكم متفرع عن مقالة المشهور بوجوب قطع الأوداج الأربعة جميعاً، أما من اكتفى بوجوب قطع الحلقوم ونحوه فيكون فرض المسألة نادراً.

3- ما استحسنه (قدس سره) في محله لأن اشتراط استقرار الحياة لو قيل به فإنه بلحاظ سبب خارجي وليس بلحاظ عملية الذبح نفسها فما دامت الحياة موجودة بأي شكل فالموت ينتسب إلى مجموع عمليات القطع.

ولو قلنا باشتراط استقرار الحياة قال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((فلو قطع بعض الأعضاء، وأرسله فانتهى إلى حركة المذبوح، ثم استأنف قطع الباقي حرم، لأنه لم تبق فيه حياة مستقرة.

ويمكن أن يقال: يحلّ؛ لأن إزهاق روحه بالذبح لا غير وهو أولى)).

وعلى أي حال فالشرط هو تتابع عملية الذبح عرفاً بحيث ينسب موت الحيوان إلى تمام ما تتحقق به التذكية.

(الثالث) في الذبح من القفا، قال المحقق النراقي (قدس سره): ((لا يشترط أن يكون الذبح من القدام، للأصل، والإطلاق، فلو ذبح ما يذبح من القفاء، فإذا أسرع إلى قطع ما يعتبر قطعه من الأوداج قبل خروج الروح حلت الذبيحة، وكذا قبل أن تنتفي حياتها المستقرة على اعتبارها، للأصل الخالي عما يصلح للمعارضة.

وأما المروي في الدعائم: عن الذبيحة تذبح إن ذبحت من القفاء، قال: (إن لم يتعمد ذلك فلا بأس، وإن تعمده وهو يعرف سنة النبي صلى الله عليه وآله لم تؤكل ذبيحته ويحسن أدبه).

ص: 351


1- مهذب الأحكام: 23/77.

فقاصر عن إثبات الحرمة سنداً ودلالةً. ولو شك في أنه هل كان قبل انتفاء الحياة أو تزلزلها يحكم بعدمهما، للأصل، والاستصحاب))(1).

أقول: سيأتي في نهاية الشرط الثامن حكم الفعل في نفسه وهو نخع الذبيحة، أما من ناحية حكم الذبيحة فإن الذبح من القفا يواجه المحذور الذي ذكره (قدس سره) وهو احتمال موت الذبيحة بقطع الحبل الشوكي قبل فري الأوداج، فلا تصح نسبة موتها إلى الذبح خصوصاً على القول باشتراط استقرار حياة الذبيحة، كما أنه لا ينسجم مع النهي عن نخع الذبيحة، وأنه يستلزم أمراً آخر منهياً عنه وهو إبانة الرأس قبل الموت الذي قيل بحرمته، وقال البعض بحرمة الذبيحة به، فكل من حرّم الذبيحة بإبانة الرأس لا بد أن يقول بحرمتها بالذبح من القفا لأنه يستلزمها، وستأتي مناقشة في الشرط الثامن بإذن الله تعالى، وعلى أي حال فإذا تحقق قطع الأوداج وهي حية بنحو ينسب فيه الموت إلى قطع الأوداج لا النخاع حلّت.

فحرمة الذبيحة إذا ذبحت من القفا، مقيدة بما إذا أدى ذلك إلى موتها، قبل قطع ما يجب قطعه حال حياة الحيوان التي تكشف عنه العلامات وهو ما صرّح به كثيرون قال الشهيد في الدروس: ((وما ذبح من القفا اعتبر في حله استقرار الحياة، فلو علم موته قطعاً في الحال حرم عند جماعة)) وقال الصيمري في غاية المرام: ((وما ذُبح من قفاه اعتبر في حله استقرار الحياة، فلو علم موته قطعاً في الحال حرم عند أكثر المتأخرين، وإن علم بقاؤه فهو حلال))(2).

واشترط البعض كون ((الذبح من القدّام، فلو ذبح من القفا وأسرع إلى أن قطع ما يعتبر قطعه من الأوداج قبل خروج الروح حرمت))(3).

واستدل بصحيحة معاوية بن عمار (النحر في اللبة والذبح في الحلق) وقوله في صحيحة زيد الشحام: (إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به)

ص: 352


1- مستند الشيعة: 15/406.
2- حكاه في جواهر الكلام: 36/144.
3- مهذب الأحكام للسيد السبزواري (قدس سره): 23/74.

بتقريب ظهوره في وقوع الذبح أولاً على الحلقوم وتقتضيه السيرة المستمرة، واستدل على الحرمة بصحيحة محمد بن مسلم: (لا تأكل ذبيحة لم تذبح من مذبحها).

أقول: استدلاله كله قابل للنظر لأن الروايات لا تدل على أزيد من اشتراط قطع الحلقوم والأوداج وكون ذلك محل الذبح، أما كون القطع من القدام فلا تدل عليه والظهور الذي قرّبه غير ظاهر.

وقد ذكر بعد صفحات مسألة أخرى قال: ((لو قطع رقبة الذبيحة من القفا وبقيت أعضاء الذباحة، فإن بقيت لها الحياة المستكشفة بالحركة ولو كانت يسيرةذُبحت وحلّت، وإلا لم تحل وصارت ميتة))(1)

ويظهر أنها خلاف تلك المسألة ولكن يمكن توجيهها بالحمل على الذبح من القدّام بعد أن أدرك حياة الحيوان.

(الرابع) قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بقي شيء كثر السؤال عنه في زماننا هذا، وهو دعوى تعلق الأعضاء الأربعة بالخرزة التي تكون في عنق الحيوان المسماة بالجوزة على وجه إذا لم يبقها الذابح في الرأس لم يقطعها –أي الأوداج- أجمع أو لم يعلم بذلك وإن قطع نصف الجوزة، ولكن لم أجد لذلك أثراً في كلام الأصحاب ولا في النصوص، والمدار على صدق قطعها تماماً أجمع، وربما كان الممارسون لذلك العارفون أولى من غيرهم في معرفة ذلك، وهم الذين أشير إليهم في بعض النصوص بمن يحسن الذبح ويجيده والله العالم))(2).

أقول: ورد في خبر الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: (اذبح في المذبح يعني دون الغلصمة، ولا تنخع الذبيحة ولا تكسر الرقبة حتى تموت)(3).

ص: 353


1- مهذب الأحكام: 23/78.
2- جواهر الكلام: 36/109.
3- جامع أحاديث الشيعة، أبواب الذبائح، باب 6، ح 6.

وورد في لسان العرب في معنى الغلصمة أنه ((راس الحلقوم وهو الموضع الناتئ في الحلق)) فهذا نص في المسألة، إلا إنه غير معتبر.

أما عدم وجود أثر في كلام الأصحاب والنصوص فليس مضرّاً للاكتفاء بما اشترطوه من قطع الأوداج الذي لا يحرز –عند القائل بالحرمة - إلا بالذبح تحت الجوزة، فلا تحتاج إلى ذكر. لذا جزم البعض بالحرمة إذا لم تكن الجوزة مع الرأس، قال السيد السبزواري (قدس سره): ((لو أخطأ الذابح وذبح من فوق العقدة ولم يقطع الأعضاء الأربعة فإن لم تبق لها الحياة حرمت))(1).

وعلى أي حال فالمعيار هو فري الأوداج فإذا تمّ ما قيل من أن إبقائها في البدن يعني عدم إحراز قطع ما يجب قطعه من الأوداج كان الواجب جعلها في الرأس وتحرم الذبيحة بغير ذلك.

الشرط السادس: الحركة الدالة على الحياة بعد الذبح

اشارة

من الواضح أن التذكية لا تقع إلا على حيوان حي، فالميت لا يذكى، ولا بد من إحراز حياته، وقد دلّت الروايات الشريفة على اعتبار حصول علامة في الحيوان تدل على حياته حين الذبح، وهذا مختص بما شك في حياته، قال العلامة (قدس سره) في القواعد والشرح لكاشف اللثام: (( (إذا علم بقاء الحياة بعد الذبح) وأنها إنما زالت به(فهو حلال، وإن علم الموت قبله فهو حرام). وإنما اعتبر الحركة (و) خروج الدم (إن اشتبه الحال، كالمشرف على الموت) فحينئذٍ (اعتبر بخروج الدم المعتدل، أو حركة تدل على استقرار الحياة، فإن حصل أحدهما حلّ، وإلا كان حراماً) ))(2).

أقول: العلامتان المذكورتان وردتا في الروايات:

(أحدهما) حدوث حركة في بدن الذبيحة تدل على حياته:

ص: 354


1- مهذب الأحكام: 23/78.
2- كشف اللثام: 9/231.

كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كلْ كلّ شيء من الحيوان غير الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع وهو قول الله عز وجل: «إلا مَا ذَكّيتُم» فإن أدركت شيئاً منها وعينٌ تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يُمصَع فقد أدركت ذكاته فكله)(1).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الذبيحة فقال: إذا تَحرّكَ الذنب أو الطرف أو الأذن فهو ذكي)(2).

وصحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويُهراق منها دم كثير عبيط، فقال: لا تأكل إن علياً (عليه السلام) كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكلْ)(2).

وخبر أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا شككت في حياة شاة فرأيتها تطرف عينها أو تحرك أُذنيها أو تمصع بذنبها فاذبحها، فإنها لك حلال)(4).(3).

وخبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في كتاب علي (عليه السلام): إذا طرفت العين أو ركضت الرجل أو تحرك الذنب فكلْ منه فقد أدركت ذكاته).

وخبر العياشي في تفسيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: «وَالمُنخَنِقَةُ» قال: التي تختنق في رباطها، والموقوذة التي لا تجد ألم الذبح ولا تضطرب ولا يخرج لها دم، والمتردية التي تردى من فوق بيت أو نحوه، والنطيحة التي تنطحها صاحبتها),

(ثانيهما) خروج الدم وكونه معتدلاً، واستدل على هذه العلامة بعدة روايات:

(منها) صحيحة زيد الشحام المتقدمة وفي ذيلها (إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس).

ص: 355


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 11، ح1، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 12، ح1.
3- (4) والحديثان التاليان تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 11، ح5، 6، 2.

أقول: نوقش في الاستدلال من جهة أنها بصدد تعريف ما تصح التذكية به وهو ما يقطع الحلقوم ويخرج الدم وليست بصدد بيان هذا الشرط.وفيه: إن ذلك لا ينافي الاستدلال لأن ذكر خروج الدم ظاهر في شرطيته، ويناقش من جهة إطلاق الدم فيحتاج إلى تقييده بالمعتدل.

(ومنها) صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن مسلم ذبح وسمّى فسبقته حديدته فأبان الرأس، فقال: إن خرج الدم فكل)(1).

وخبر سماعة (لا بأس به إذا سال الدم)(2).

أقول: نوقش الخبران من جهة أنهما مسوقان لبيان عدم ضرر الإبانة لا بصدد تعريف حياة الحيوان عند الذبح وفيه ما قلناه آنفاً.

وتشترك هذه الروايات في إشكال وهو الخلط بين أمرين: صحة التذكية وشرطها خروج الدم، والعلامة على حياة الذبيحة، ولا ملازمة بينهما إذ يمكن خروج الدم من الحيوان الذي مات توّاً إذا قطعت أوداجه، كما يمكن أن يكون الحيوان حياً ولا يخرج منه الدم فيما إذا اختنق مثلاً.

(ومنها) الخبر المتقدم عن العياشي في تفسيره.

(ومنها) خبر الحسين بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيه (فإن كان الرجل الذي ذبح البقرة حين ذبح خرج الدم معتدلاً فكلوا وأطعموا، وإن كان خرج خروجاً متثاقلاً فلا تقربوه)(3)(2)والمتثاقل بمعنى خروجه بطيئاً متقاطراً قطرة قطرة.

أقول: سند الرواية غير تام، واحتمل في المستند ((الحمل على ما إذا حصلت الحركة –أي تحققت فعلاً- بعد التذكية، سيما مع كونه من الأفراد الغالبة للذبيحة المشتبه حالها الخارج دمها معتدلاً، وليس كذلك الذبيحة المشتبهة بعدها حركة ما جزئية، فإنه غير معلوم خروج الدماء معتدلة))(4).(3).

ص: 356


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 9، ح2، 4.
2- (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 12، ح2.
3- (4) مستند الشيعة: 15/421.

والنتيجة أن الدليل على العلامة الأولى تام، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة للعلامة الثانية للمناقشات المذكورة، إلا أن يحصل اطمئنان بصدور هذا المعنى إجمالاً من مجموع الروايات أو يؤكده أهل الخبرة والاختصاص.

وقال صاحب الجواهر (قدس سره) متمماً الاستدلال: ((لا وجه لعدم اعتبار الدم المعتدل، خصوصاً بناءً على الاكتفاء بمقارنة الإزهاق للذبح من غير اعتبار لتأخر الحياة، فإنه يمكن حينئذٍ تعرّفه بالدم خاصة الذي لا يخرج عادة من الميت قبل الذبح))(1).

أقول: سيأتي أن اعتبار هذه العلامات يكون بعد الذبح، كما أن الحركة تحصل حتى لو حصلت المقارنة المذكورة فيحصل التعرّف بها، كما أن فرضه مبني على العلم بالحياة لتُعلم المقارنة وهو خلاف مفروض المسألة وهو اشتباه الحياة.وعلى أي حال تبقى العلامة الثانية تواجه إشكالاً من جهة عدم تمامية الدليل عليها، بل وجود الدليل على عدم الاكتفاء بها من دون

الأولى بوجهين:-

1- قوة ظهور مفهوم روايات العلامة الأولى في نفي العلامة الثانية وأن الاعتبار بالحركة فقط، خصوصاً في مثل صحيحة أبي بصير التي أصرَّ الإمام (عليه السلام) على ذكر علامة الحركة مع أن السائل ذكر خروج الدم الكثير.

2- صحيحة أبي بصير التي تضمنت صريحاً النهي عن الأكل رغم خروج الدم الكثير فمعارضتها صريحة لهذه العلامة.

وقد ذُكر أكثر من وجه لدفع المعارضة:

(منها) ما في الوسائل من حملها على إرادة الدم المتثاقل دون المعتدل لخبر الحسين بن مسلم، وفيه:-

1- إن الخبر ليس معتبراً.

ص: 357


1- جواهر الكلام: 36/131.

2- هذا الحمل بعيد إذ أن وصف الدم بالكثير والعبيط ينافي حمله على المتثاقل.

(ومنها) ما في الجواهر (قدس سره) من دفع معارضة صحيح أبي بصير من جهة ((أن الصحيح المزبور معرض عنه، ضرورة ظهوره في أن المعتبر الحركة لا الدم ولا هما معاً، وقد عرفت أن من عدا الصدوق والفاضل في المختلف على اعتبار الدم في الجملة، وبذلك يرجح خبر البقرة عليه، بل ربما كان فيه إشعار بمخالفة العامة، وأن ذلك علامة خفية غير الحركة التي هي علامة مشهورة))(1).

أقول:-

1- لم يعرض الأصحاب عن صحيحة أبي بصير وإنما عملوا بالروايات الدالة على كون خروج الدم المعتدل علامة، فإذا كان هذا إعراضاً فهو إعراض مدركي لا يضر بالعمل بالصحيحة.

2- إن هذه العلامة –أي خروج الدم- ليست من مختصات الإمامية ولا هي علامة خفية فقد ذكرها فقهاء العامة في تذكية الحيوان المشرف على الهلاك –لإصابته في مقاتله بعدوان حيوان مفترس وغيره- والمريض.

فقالوا في الذبيحة المشرفة على الهلاك والمقطوع بموتها: ((وتعمل فيها الذكاة عند الشافعية والحنابلة متى كان فيها حياة مستقرة. وتؤثر فيها الذكاة عند الحنفية إن علمت حياتها، أو لم تدر حياتها فتحركت أو خرج الدم))(2)

وقال الحنفية في المريضة: ((وإذا لم تعلم الحياة فتحركت، أو خرج الدم، حلت، وإن لم تتحرك أو لم يخرج الدم لم تحل))، ((وذكر المالكية علامات خمس على الحياة هي: سيلان الدم لا خروج القليل منه، والركض باليد أو الرجل، وطرف العين، وتحريك الذنب، وخروج النفس. فإن تحركت ولم يسل دمها أُكلت، وإن سال دمها ولم تتحرك لم تؤكل، لأنالحركة أقوى في الدلالة على الحياة

ص: 358


1- جواهر الكلام: 36/130.
2- الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي: 4/2782.

من سيلان الدم، وأما الاختلاج الخفيف فليس دليلاً على الحياة، لأن اللحم يختلج بعد السلخ))(1).

ويمكن أن نذكر وجهاً لدفع معارضة صحيحة أبي بصير، بأن مفادها عدم اعتبار خروج الدم علامة مستقلة على الحياة وإنما يشترط انضمامه إلى الحركة، فالنهي عن أكل الذبيحة لأجل عدم تحقق مجموع العلامتين.

ولكن يدفعه استدلال الإمام (عليه السلام) بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يقتصر على حركة البدن.

ونتيجة ما تقدم أن المعتبر هو حصول الحركة الدالة على حياة الحيوان، أما خروج الدم المعتدل فيمكن أن يكون علامة إذا أيّد أهل الاختصاص ذلك، وحكى صاحب الجواهر (قدس سره) عن الصدوق والعلامة (قدس الله روحيهما) في المختلف اعتبار هذه العلامة خاصة دون خروج الدم المعتدل.

وفي المسألة أقوال أخرى وهي:-

1- اشتراط تحققهما معاً، وحكاه المحقق (قدس سره) في الشرائع عن بعض الأصحاب، وعرّفهم في الرياض والجواهر ((بأنهم المفيد والإسكافي والقاضي والديلمي والحلبي وسلار وابن زهرة، بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه))(2)

وقال صاحب الرياض (قدس سره): ((وهو –أي الإجماع- الحجة الجامعة بين النصوص المختلفة مضافاً إلى أصالة الحرمة ولزوم الاقتصار فيما خالفها على المتيقن المجمع عليه بين الطائفة وليس إلا ما اجتمع فيه الأمران بعد التذكية))(3)

و((كون ذلك مقتضى تعارض أخبار الطرفين والعمل بقواعد التعارض، حيث أن منطوق كل منهما يعارض مفهوم الآخر بالعموم من وجه، والمرجح في البين مفقود، فيرجع

ص: 359


1- الفقه الإسلامي وأدلته: 4/2784.
2- رياض المسائل: 13/328، جواهر الكلام: 36/125.
3- رياض المسائل: 13/328-329.

في موضع التعارض –وهما ما تحرك ولم يخرج الدم، أو خرج الدم ولم يتحرك - إلى أصالة الحرمة))(1).

أقول: هذا القول موافق للاحتياط بحسب ما نحن فيه لا مطلقاً كما نبّهنا في موضع سابق، لكن المهم أن حجته غير تامة، إذ يرد عليها:-

أ- لم يرد في النصوص ما يدل على اعتبارهما معاً، ولو أغمضنا النظر عن المناقشات في دليل العلامة الثانية فقد ورد كل منهما مستقلاً عن الآخر، ومقتضى القاعدة في مثله –كما سيأتي- الجمع بينهما ب-(أو) وليس (و)، أي يقيَّد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، فالتعارض الذياحتجوا به بدويٌّ لأنه من تعارض المطلق والمقيّد ويعالج بما ذكرناه ولا تصل النوبة إلى الأصل.

ب- إن الإجماع المدعى قابل للمناقشة صغروياً –كما هو واضح من تعدد الأقوال- وكبروياً لأنه مدركي، أما الأصل ونحوه فلا وجه للأخذ به بعد تمامية الدليل على اعتبار الحركة.

وأشكل صاحب الجواهر (قدس سره) على هذا القول بأن العلامة لو كانت مجموعهما ((كان من تأخير البيان عن وقت الحاجة، بل ربما كان في النصوص ما يشير إلى عدمه بالخصوص، كمرسل العياشي المتقدم (صفحة 355) في تفسير الموقوذة التي اعتبر فيها عدم الحركة وعدم خروج الدم، إذ لو كان مجموعهما العلامة لم يكن عدمهما معا العلامة، بل كفى عدم واحد منهما))(2).

أقول: لا يتم ما ذكره (قدس سره)، أما تأخير البيان عن وقت الحاجة فإنه ينقض عليه بما ورد في الروايات الشريفة من عدم ورود القيود والشروط المتعلقة بحكمٍ ما –كالتذكية في المقام- في نصٍّ واحد، فهل هذا كله قبيح؟.

ص: 360


1- مستند الشيعة: 15/420.
2- جواهر الكلام: 36/130.

أما ما استظهره من خبر العياشي فإنه ممكن الحمل على ما لو كانت كل منهما علامة فإنه (عليه السلام) قال: (لا تضطرب ولا يخرج لها دم) وذكرهما معاً لعدم الخصوصية في أحدهما.

ويمكن الاستدلال على هذا القول بصحيحة أبي بصير المتقدمة بتقريب أن النهي عن الأكل يحتمل فيه منشآن: عدم اعتبار خروج الدم علامة، أو أن المعتبر حصولهما معاً، ولما كانوا يقولون بهذه العلامة فالمتعين الثاني وقد دفعناه في الصفحة قبل السابقة.

1- كفاية أحدهما وحكي عن الشيخ في النهاية وأكثر المتأخرين وقوّاه صاحب الجواهر (قدس سره)، وقال عنه المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((وهو أشبه)) بالأصول والقواعد المتبعة باعتبار أنه إذا وردت قضيتان شرطيتان منفصلتان بينهما عموم من وجه فإنه يقيد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى التقييد المعبّر عنه ب-(أو) وليس ب-(و) وبتعبير أوضح: إن القواعد المتبعة في مثل المقام أي حينما ترد علامتان منفصلتان لموضوع معين في النصوص –وهو هنا ما يدل على كون الحيوان حياً- يجمع بينهما ب-(أو) لا ب-(و) كما في علامتي حد الترخّص.

وقد قُيِّد الدم بكونه معتدلاً لا متثاقلاً، قال المحقق (قدس سره): ((لا يجزي خروج الدم متثاقلاً إذا انفرد عن الحركة الدالة على الحياة)).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره) في وجهه: ((لعدم ما يدل على كونه علامة، بل الصحيح المزبور دال على عدمه، كالمفهوم في خبر البقرة))(1).أقول: كأنه (قدس سره) بقوله: ((بل الصحيح.. )) يتبنى ما نقلناه عن صاحب الوسائل (قدس سره) في دفع معارضة صحيحة أبي بصير.

وعلى أي حال فقد تقدمت جملة من المناقشات على علامية خروج الدم مطلقاً، فالاكتفاء بها مشكل، نعم لا بأس بضمها إلى الأولى أي حركة

ص: 361


1- جواهر الكلام: 36/131.

البدن، أو يشهد بها العارفون بالذباحة المجيدون لها بحسب وصف الإمام (عليه السلام).

1- ((اعتبار خروج الدم المعتدل خاصة، ونسب إلى الشهيد في الدروس وهو وهم قطعاً))(1).

أقول: نسبة هذا القول إلى الشهيد (قدس سره) غير دقيقة فقد قال: ((ولو اشتبه اعتبر بالحركة وخروج الدم، وظاهر الأخبار والقدماء أن خروج الدم والحركة أو أحدهما كافٍ ولو لم يكن فيه حياة مستقرة)) فهو (قدس سره) (قدس سره) يذهب إلى الاكتفاء بأحدهما.

ص: 362


1- جواهر الكلام: 36/125.
فروع:
(الأول) هل الحركة المشروطة تكون بعد الذبح أم قبله؟

ظاهر صحيحة أبي بصير بل صريحها أنها بعد الذبح لتفريع عدم الحركة في السؤال عن الذبح المفيد للترتيب ((مع وقوع الجواب عنه بالنهي عن الأكل مطلقاً ولو حصلت له حركة سابقة على التذكية من حيث فقد تلك الحركة المتأخرة، لظاهر استشهاده (عليه السلام) للنهي بقول علي (عليه السلام): (إذا ركضت الرجل) إلى آخره))(1)

((ويمكن استفادته من صحيحة الحلبي حيث قال: (إذا تحرك ... فهو ذكي)(2)

ولو أراد الحركة القبلية لكان يقول: يقبل الذكاة))(3)

وكذا خبر رفاعة عنه (عليه السلام) (في الشاة إذا طرفت عينها أو حرّكت ذنبها فهي ذكية)(4).

وحكى صاحب الرياض (قدس سره) الإجماع عليه عن الغنية. ولأجل ذلك فقد حملوا النصوص الأخرى عليه وإن اعترفوا ببعده ولو في خبر أبان على الأقل، قال صاحب الرياض (قدس سره) ونقله صاحب الجواهر (قدس سره): ((لكنها مشتركة في قصور السند، محتملة للتأويل بما يرجع إلى الأول بنوع من التوجيه وإن بعد في الثالث دون الأولين(5)،(4)لتضمنهما

نقل الحكم عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو مختص بالحركة بعد الذبح كما نصت عليه الصحيحة السابقة مع تضمنها النقل المزبور عنه (عليه السلام) الكاشف عن كونه المراد منه حيث يذكر))(5).

ص: 363


1- رياض المسائل: 13/330.
2- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 11، ح4، 3.
3- مستند الشيعة: 15/425.
4- (5) وهما خبرا عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدم وخبر عبد الله بن سليمان الذي هو مثله وفي ذيله (أو تحرّك الذنب فأدركته فذكّه).
5- رياض المسائل: 13/331. و جواهر الكلام: 36/128.

وبتعبير أوضح: إن ما أشكلوا به في خبري عبد الرحمن بن أبي عبد الله وخبر عبد الله بن سليمان ورد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد تضمنته صحيحة أبي بصير وكان صريحاً في الحركة بعد الذبح، والكلام المنقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام) واحد فيكون ما في الصحيحة شارحاً للمراد في الخبرين.

وقال كاشف اللثام (قدس سره) عن خبر أبان أنه ((لا يدل على الاجتزاء بما كان من الحركة قبل الذبح، وهو ظاهر))(1)

وقربه صاحب الجواهر (قدس سره) بأنه ((ليس فيه إلا الإذن بذبحها في تلك الحال، وهي لا تنافي اعتبار الحركة بعد الذبح في حل أكلها)).(الثاني) لا بد من استناد الموت إلى التذكية، فلو اشترك سببان أو أكثر في الموت ولم يُعلم استناده إلى التذكية بأن تحصل علامة على الحياة حين الذبح: لم تحل الذبيحة، فضلاً عمّا لو عُلمَ استناده إلى غير الذبح وهو واضح وبالعكس فلو ذكّي الحيوان بشكل صحيح ثم تعرّض لسبب مميت فمات لم يحرم، وتدل عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: وإن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك إذا كنت قد أجدت الذبح فكل)(2).

أقول: قوله (عليه السلام): (فأجدت الذبح) أي أن التذكية وقعت صحيحة وتحقق السبب التام لموت الحيوان، ولا أثر حينئذٍ لما يحصل له لاحقاً من أسباب موجبة للموت في نفسها. أما إذا اشتبه السبب فلا يحلّ ففي رواية حمران بن أعين المتقدمة عن أبي عبد الله (فإن تردى في جبّ أو وهدة من الأرض فلا تأكله ولا تطعمه، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح)(3).

ص: 364


1- كشف اللثام: 9/231.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 13، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 13، ح2.

فالمهم هنا إحراز حياة الحيوان حين الذبح بالعلامات المتقدمة ونحوها، ويكفي فيها مطلق الحياة، أو أن يكون الحيوان مستقر الحياة عند من اشترطها، على خلاف يأتي إن شاء الله تعالى.

قال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((لو أخذ الذابح في الذبح، فانتزع آخر حشوته معاً، كان ميتة، وكذا كل فعل لا تستقر معه الحياة)).

وعلّق الشهيد الثاني (قدس سره): ((وذلك لأن استناد الموت إلى الذبح ليس أولى من استناده إلى السبب الآخر الذي لا يستقر معه الحياة، لأن الفرض حصولهما معاً، وأحد السببين محلل والآخر محرّم، فيستصحب التحريم. هذا إذا اعتبرنا استقرار الحياة، وإلا كفى في حلّه الحركة بعد الذبح أو ما يقوم مقامها، وإن تعدّد سبب الإزهاق))(1).

(الثالث) لا يجري استصحاب حياة الحيوان عند الشك فيها ولا يجوز بناء التذكية على هذا الاستصحاب، لصريح خبر أبان بأنه حين الاشتباه لا بد من تحقق علامة على الحياة ولا يكفي البناء على الاستصحاب.

ولو قلنا بجريانه فإنه لا ينفع لتصحيح التذكية إلا بناءً على الأصل المثبت ولا نقول به، فلا بد من إحراز الموضوع بالوجدان. وظاهر الشهيد الثاني (قدس سره) جريان الاستصحاب إلا أنه معارض بأصل آخر، قال (قدس سره): ((وإن اشتبه الحال، بأن كان هناك مانع من العلم بالحركة كظلمة ونحوها، ففي الحكم بحلّه استصحاباً لبقاءالحياة، أو بحرمته استصحاباً للتحريم، فإنه كان ثابتاً حال الحياة، وجهان منشؤهما تعارض الأصلين، ورجح المصنف –رحمه الله- جانب التحريم لأنه الغالب حين يتعارضان، وهو أجود، لدلالة النصوص الصحيحة على أن إدراك الذكاة تحصل بحركة المذبوح بعده، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط))(2).

ص: 365


1- مسالك الأفهام: 11/513.
2- مسالك الأفهام: 11/514.

(مسألة مستحدثة) لو توصل العلم إلى علامات تكشف عن حياة الحيوان قبل ذبحه أمكن التمسك بها لجواز التذكية كفحص الطبيب البيطري لنبضات القلب، والاكتفاء بها عن العلامتين المذكورتين؛ لأن الشبهة موضوعية، والشارع المقدس تدخل لإرشاد المكلف إلى طريقة التحقق من الموضوع ورفع عجزه وحيرته، وليست المسألة حكماً شرعياً ليجب التعبد به.

مضافاً إلى أن الروايات دلّت على أن محل الرجوع إلى العلامات هو الحيوان المشتبه بحياته وقد صرّح به خبر أبان المتقدم وروايات أُخر في غير مورد، كصحيحة محمد بن قيس فيما أخذت بالحبالة (وكلوا ما أدركتم حياته وذكرتم اسم الله عليه)(1)، فكل ما يُعلم منه إدراك الحياة يكون كافياً للحل.

ص: 366


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 24، ح1.

الشرط السابع: استقرار حياة الذبيحة

هذا الشرط متفرع عن سابقه، فإن الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بعد أن انتهوا من اشتراط كون الحيوان حياً عند الذبح ذكر معظمهم أن هذه الحياة لا بد أن تكون مستقرة، ولفهم موضوع هذا الشرط نقول: إن الحياة تكون على أنحاء:-

1- الحياة المستمرة ونقصد بها الحياة الاعتيادية للحيوانات، وهذه لا إشكال في جواز التذكية حالها.

2- الحياة المستقرة وهي للحيوانات التي تعرضت لأمر ما كافتراس حيوان أو دهس سيارة أو سقوط من شاهق أو صعقة كهربائية لكن حياتها قابلة للاستمرار، وهذه أيضاً لا إشكال في جواز التذكية حالها.

3- الحياة غير المستقرة كحياة المذبوح والمشرف على الهلاك، وهنا اختلفوا في قابلية الحيوان في هذه الحال للتذكية أم لا.

ولم يرد هذا العنوان –أي استقرار حياة الذبيحة- في النصوص الشريفة، ولهذا لم يذكر القدماء في كتبهم التي دونوا فيها الفقه على طبق النصوص: هذا العنوان ولم يتعرضوا له ((كالإسكافي والصدوق والشيخ في النهاية وبني حمزة والبراج وزهرة وأبي الصلاح، وجملة من المتأخرين كالمحقق في النافع والعلامة في التبصرة والشهيد في الدروس وثاني الشهيدين في المسالك))(1)، والذي ذكروه هو ما ورد في النصوص من الاكتفاء في حل الذبيحة بالحركة وحدها أو مع خروج الدم المعتدل.

لكن ((اعتبار استقرار حياة المذبوح قبل ذبحه في حله شيء ذكره الشيخ وتبعه عليه جماعة))(2)

كالمحقق (قدس سره) في الشرائع، والعلامة (قدس سره)

ص: 367


1- جواهر الكلام: 36/142.
2- مسالك الأفهام:11/495.

في عدد من كتبه ((والسيوري في كنز العرفان والمقدس الأردبيلي، بل عن الصيمري نسبته إلى أكثر المتأخرين، بل في الروضة نسبته إليهم))(1).

فالظاهر أن المسألة من الفروع المستنبطة التي تسربت إلى كتبنا مجاراة لفقه العامة كما سنرى إن شاء الله تعالى في ما نقله في الخلاف عنهم؛ ولذا قال الشهيد (قدس سره) فيما نقله في الخلاف عنهم في الدروس بعد أن نقل قول نجيب الدين يحيىبن سعيد: إن اعتبار استقرار الحياة ليس من المذهب، ولم يُنقل للمشترطين له حجة قابلة للتعويل عليها، قال (قدس سره): ((ونعم ما قال))(2).

أقول: سيأتي أن السيد المرتضى (قدس سره) يقول بهذا الشرط بحسب ما سننقل من كلامه (قدس سره) وإن لم يصرّح بلفظ استقرار الحياة.

وذكر المحقق (قدس سره) في الشرائع مورداًً لهذا الشرط مع تعريفه، قال (قدس سره) في اللواحق والشرح لصاحب الجواهر (قدس سره): (( (إذا قطعت رقبة الذبيحة) من القفا مثلاً (وبقيت أعضاء الذباحة فإن كانت حياتها مستقرة ذبحت وحلت بالذبح وإلا كانت ميتة، ومعنى المستقرة) كما في التحرير والقواعد والإرشاد (التي يمكن أن يعيش مثلها اليوم والأيام، وكذا لو عقرها السبع) مثلاً (ولو كانت الحياة غير مستقرة – وهي التي يقضى بموتها عاجلاً - لم تحل بالذباحة، لأن حركتها كحركة المذبوح) ))(3).

أقول: اختلف تعريفهم للحياة المستقرة، فقد فسرها المحقق والعلامة (قدس الله روحيهما) بما نقلناه آنفاً وعرّفها الشيخ (قدس سره) بأن لها حركة قوية، قال (قدس سره): ((إذا قطعت رقبة الذبيحة من قفاها، فلحقت قبل قطع الحلقوم والمريء، وفيها حياة مستقرة، وعلامتها أن تتحرك حركة قوية، حل أكلها إذا ذبحت، فإن لم تكن فيها حركة قوية لم يحل أكلها؛ لأنها ميتة وبه قال الشافعي.

ص: 368


1- جواهر الكلام: 36/141.
2- مسالك الأفهام: 11/496.
3- جواهر الكلام: 36/141.

وقال مالك وأحمد: لا تحل أكلها على حال))(1).

وجمع ابن إدريس بينهما، قال (قدس سره): ((وعلامتها أن تتحرك حركة قوية، ومثلها يعيش اليوم واليومين)) ((نعم ربما فسره بعض الناس بالذي لم يأخذ في النزع، مدعياً أنه هو الذي يمكن أن يعيش المدة المزبورة بخلاف من أخذ فيه، وإليه يرجع ما ذكره بعض آخر من أن غير المستقر هو الذي حركته حركة المذبوح، كمأخوذ الحشوة ونحوه مما يكون قاتلاً كالذبح، والمستقر بخلافه))(2).

وعلى أي حال فقد استدل للاشتراط بوجوه(3)

منها:-

1- إن ما لا تستقر حياته قد صار بمنزلة الميت فلا تصح تذكيته، قال الطبرسي في مجمع البيان: ((والتذكية فري الأوداج والحلقوم لما فيه حياة، ولا يكون بحكم الميت))(4).1- إن إسناد موته إلى الذبح ليس بأولى من إسناده إلى السبب الموجب لعدم استقرارها، بل السابق أولى، فصار كأن هلاكه بذلك السبب فيكون ميتة؛ لعدم ترتب أثر على التذكية لأن الحيوان ميت لا محالة بالسبب الأول، ولا تصح نسبة الموت إلى التذكية عرفاً الذي هو شرط الحلية.

2- اختصاص الإطلاقات كتاباً وسنة بحِلّ المذكى –بحكم التبادر والغلبة- بما له حياة مستقرة أي أن إطلاقات حلية الحيوان بالتذكية منصرفة إلى الحيوان ذي الحياة المستمرة والمستقرة ومنصرفة عن ذي الحياة غير المستقرة.

3- اعتضاد الاشتراط بأصالة الحرمة فيما لو شككنا بتحقق التذكية مع فقدان شرط الحياة المستقرة فتجري أصالة عدم التذكية وحرمة الذبيحة.

وُردَّ (الأول) ((بمنع صيرورته بمنزلة الميتة في عدم قبول التذكية، وليس هو غير المصادرة والاجتهاد في مقابلة ظواهر الكتاب والسنة))(5).

ص: 369


1- الخلاف: 6/54، المسألة (14).
2- جواهر الكلام: 142، 143.
3- راجع مستند الشيعة: 15/426، والمسالك والجواهر وغيرها من المصادر.
4- مجمع البيان: مج 2/ 242، وتفسير آية (3) من سورة المائدة.
5- هذا وما بعده في مستند الشيعة: 15/426-428 وأجاب عنه صاحب الجواهر (قدس سره) أيضاً في جواهر الكلام: 36/150.

ورُدّ (الثاني) ((من جهة أن مقتضى النصوص سببية ذبح الحي لحليته وإن مات بعده بسبب آخر.

سلّمنا، غايته اشتراط عدم العلم باستناده إلى غير الذبح، وهو في المقام حاصل، مع أنه قد يعلم استناده إلى خصوص الذبح، كما إذا كانت الحياة الغير المستقرة مما يعلم معها بقاؤه وتعيّشه، أو يظن ذلك ساعة أو ساعتين، فيذبح بحيث يعلم أنه عجل في إزهاق روحه)).

ورُدّ (الثالث) ((بمنع تبادر ما تستقر حياته وغلبته بحيث تنصرف الإطلاقات إليها، مع أن من نصوص الحلية بالذبح ما هو ظاهر أو صريح في غير مستقر الحياة أو الغالب فيه ذلك)).

ورُدّ (الرابع) ((بمنع أصالة الحرمة، بل الأصل مع الحلية)).

أقول: قبل مناقشة الاستدلال والردود عليه نقول: إن الشرط وإن لم يرد في الروايات بعنوانه ولا بمعناه الذي ذكروه (كتعريف مستقر الحياة بالبقاء يوماً أو أياماً، وهذا كافٍ في نفيه، إلا أننا يمكن أن نصوغ معنى التعريف بشكل يمكن الاستدلال عليه من الروايات.

وهذا المعنى هو ((عدم حصول سبب تام للموت لهذا الحيوان قبل الذبح)) وحينئذٍ يمكن أن نذكر أكثر من وجه للاستدلال على اشتراطه:-

1- إنه مقتضى القواعد. بيان ذلك: إن حصول هذا السبب يعني نسبة الموت إليه لا إلى التذكية، وأن حياته بمنزلة المنتهية فالتذكية لا موضوع لها، وأمثلته عديدة، كالحيوان الذي دهسته سيارة على نحو قاتل أو أطلق عليه النار كذلك أو تردى من شاهق أو قطّعه حيوان مفترس أو احترق بنار أو صدمته صعقة كهربائية أو انتزع قلبه أو دماغه مع بقاء حياته بالشكل الذي يوصف بأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة.

وهذا المعنى هو مقتضى القواعد المعمول بها من نسبة الفعل إلى

ص: 370

السبب الأقوى.

2- دعوى إمكان اقتناصه من عدة روايات:

(منها) رواية حمران بن أعين (التي فيها والد أبي هاشم الجعفري) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الذبح، فقال: إذا ذبحت فأرسل) إلى أن قال (عليه السلام): (فإن تردى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكله ولا تطعمه فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح)(1).

بتقريب: إن مجرد الشك في السبب التام للموت يوجب حرمة الذبيحة، فالحكم في حالة العلم بكون السبب التام غير الذبح يكون أولى، ولا تحل الذبيحة إلا عند العلم بكون الموت بسبب التذكية كما ورد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (وإن ذبحت ذبيحة فأجدتَ الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك إذا كنت قد أجدت الذبح فكل)(2).

(ومنها) صحيحة الحلبي في الصيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سُئل عن رجل رمى صيداً وهو على جبل أو حائط فيخرق فيه السهم فيموت، فقال: كلْ منه، وإن وقع في الماء من رميتك فمات فلا تأكل منه)(3).

ورواية حجاج بن خالد بن الحجاج عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (لا تأكل الصيد إذا وقع في الماء فمات)(4).

بتقريب: إن الصيد وإن وقع بشروطه، إلا أن السبب الأقوى لما كان غيره فقد حرم الحيوان.

3- التمسك بإطلاقات عنوان الموقوذة ونحوها في الآية الشريفة: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ» (المائدة: 3)، بتقريب أن العنوان شامل لما أشرف على الهلاك من هذه العناوين، وهو ظاهر خبر

ص: 371


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 3، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 13، ح1.
3- وسائل الشيعة: أبواب الصيد، باب 26، ح1.
4- وسائل الشيعة: أبواب الصيد، باب 26، ح2.

العياشي في تفسيره المتقدم (صفحة 355): (والموقوذة التي لا تجد ألم الذبح ولا تضطرب) إلى آخر الحديث؛ فإنها ظاهرة في الحيوان الحي الذي شارف على الهلاك.

وقد استدل السيد المرتضى (قدس سره) بمضمون هذا التقريب على حرمة الذبيحة المشرفة على الهلاك، ومنه يُعلم أنه سبق الشيخ الطوسي (قدس سره) في اشتراط استقرار الحياة فقد حكى صاحب الجواهر (قدس سره) عنه: ((في المسائل الناصرية بعد أن حكى فيها عن الناصر تحريم ما ذبح وهو يكيد بنفسه قال: (هذا صحيح، والحجة فيه أن الذي يكيد بنفسه من الحيوان يدخل في عموم ما حرم الله من الموقوذة، لأن الموقوذة هي التي قد اشتد جهدها وتعاظم ألمها، ولا فرق فيه بين أنيكون ذلك من ضرب لها أو من آلام يفعلها الله تعالى بها يفضي إلى موتها، وإذا دخلت في عموم هذه اللفظة كانت محرمة بحكم الظاهر))(1).

ومن التقريبات والوجوه أعلاه يمكن النظر فيما رد به المحقق النراقي (قدس سره) على الدليلين الأول والثاني؛ إذ ظهر من التقريبات أن ما كان بحكم الميت لا تصح تذكيته وإن مقتضى القواعد نسبة الموت إلى السبب الذي سلبها استقرار الحياة، أما قوله (قدس سره): ((وإن مات بعده بسبب آخر)) ففيه خروج عن الفرض الذي يقتضي تقدم السبب الآخر على الذبح وليس تأخره، أما قوله (قدس سره): ((سلمنا، غايته ..)) فهو غير تام لأن الشرط عند القائل به هو العلم باستناد الموت إلى الذبح.

وظهر مما قلناه إلى الآن إمكان قبول شرط استقرار حياة الحيوان قبل ذبحه بالمعنى الذي ذكرناه.

أما القول بعدم الاشتراط فقد قرّب المحقق النراقي (قدس سره) الاستدلال عليه بجملة من النصوص، قال عنها صاحب الجواهر (قدس سره):

ص: 372


1- جواهر الكلام: 36/141.

((بل يمكن دعوى تواتر النصوص أو القطع بذلك منها))(1).

قال المحقق النراقي (قدس سره): ((إن نصوص الحلية بالذبح ما هو ظاهر أو صريح في غير مستقر الحياة أو الغالب فيه ذلك:

منها: صحيحة زرارة المتقدمة آنفاً(2).

ومنها: الأخبار المكتفية بطرف العين أو ركض الرجل أو حركة الأذن أو الذنب، فإن الاعتبار بهذه الحركات الجزئية إنما يكون غالبا فيما لا حياة مستقرة له، سيما بضميمة قوله: (فقد أدركت ذكاته)(3).

مع أن رواية أبان (المتقدمة صفحة 355) وردت فيما شك في حياته، ولا ريب أن الشك لا يكون مع الحياة المستقرة، وإن كان فهو نادر شاذ جداً.

ورواية الحسن بن مسلم(4)

واردة في المضروبة بالفأس بحيث سقطت وشك في قبولها الذبح، ولا شك أن الحياة في مثلها غير مستقرة دائماً أو غالباً.

ص: 373


1- جواهر الكلام: 36/147.
2- عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (وإن ذَبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك إذا كنت قد أجدت الذبح فكلْ) (وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 13، ح1).
3- كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كلْ كلّ شيء من الحيوان غير الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع وهو قول الله عز وجل: «إلا مَا ذَكّيتُم» فإن أدركت شيئاً منها وعينٌ تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يُمصَع فقد أدركت ذكاته فكله) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 11، ح1.
4- الحسين بن مسلم قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ جاءه محمد بن عبد السلام فقال له: جُعلتُ فداك يقول لك جدي (جدتي) إن رجلاً ضرب بقرة بفأس فسقطت ثم ذبحها فلم يرسل معه بالجواب ودعا سعيدة مولاة أم فروة فقال لها: إن محمداً جاءني برسالة منك فكرهت أن أرسل إليك بالجواب معه، فإن كان الرجل الذي ذبح البقرة حين ذبح خرج الدم معتدلاً فكلوا وأطعموا، وإن كان خرج خروجاً متثاقلاً فلا تقربوه) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 12، ح2.

ومنها: بعض الأخبار الواردة فيما أخذته الحبالة وأنها إذا قطعت منه شيئاً لا يؤكل، وما يدرك من سائر جسده حياً يذكى ويؤكل(1)، فإنه لو لم يكن الغالب في المأخوذ بالحبالة المنقطع بعض أجزائه الحياة الغير المستقرة فلا شك في عدم غلبة المستقرة ولا تبادرها.

ومنها: الأخبار الواردة في وجوب ذبح ما يدرك حياته من الصيود، فإن الغالب فيها لو لم يكن عدم الاستقرار ليس الاستقرار قطعاً، بل في بعضها إشعار بعدمه، كرواية أبي بصير المتضمنة لقوله: (فإن عجل عليك فمات قبل أن تذكيه فكل)(2)، فإن التعجيل مشعر بعدم كونه مستقر الحياة.

ومنها: رواية أبي بصير الواردة في البعير الممتنع المضروب بالسيف أو الرمح بعد التسمية، وقوله: (فكل إلا أن تدركه ولم يمت بعد فذكّه)(3)، فإن الظاهر فيه رفع استقرار الحياة بالضرب بالسيف أو الرمح.

ومنها: الأخبار الواردة فيما قطع بالسيف أو المعراض قطعتين، المجوزة لأكل الأكبر أو ما يلي الرأس أو المتحرك من القطعتين، أي بعد التذكية الذبحية(4)، وظاهر أن الغالب في مثل ذلك عدم استقرار الحياة.

ص: 374


1- تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، الباب 24 ومنها صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما أخذت الحِبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلاً فذروه، فإنه ميت وكلوا ما أدركتم حياً وذكرتم اسم الله عليه).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 4، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 10، ح5.
4- انظر وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 35، ومنه الحديث الأول عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل يضرب الصيد فيجدله بنصفين قال (عليه السلام): يأكلهما جميعاً وإن ضربه فأبان منه عضواً لم يأكل منه ما أبان منه وأكل سائره).

ومنها: الأخبار الواردة في النطيحة والمتردية وما أكل السبع والموقوذة، المصرحة بأنها لا تؤكل إلا مع التذكية، مع أن الغالب فيها عدم استقرار الحياة.

بل منها ما هو ظاهر فيه، وهو صحيحة زرارة: (كل من كل شي من الحيوان، غير الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع، وهو قول الله عز وجل: «إلا ماذكيتم» فإن أدركت شيئاً منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد أدركت ذكاته فكله)(1).

وقوله: (والنطيحة) معطوف على الحيوان أو كل شي، فإن الحكم بإدراك ذكاة المذكورات بهذه الحركات الجزئية دال على عدم الحياة المستقرة، بل ما ورد في تفسير هذه الألفاظ صريح في عدم اعتبار استقرار الحياة.

ومنه تظهر دلالة الاستثناء بقوله عز شأنه: «إلا مَا ذَكَّيتُمْ» على ذلك أيضاً، سيما بضميمة ما في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن قوله: «إلا مَا ذَكّيتُمْ» يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات، سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والدم.

ومنه تظهر دلالة الكتاب والسنة المتواترة معنى على عدم اشتراط استقرار الحياة، فالمسألة بحمد الله واضحة غاية الوضوح))(2).

أقول: لقد أتعب نفسه الشريفة في جمع هذه الأخبار بالرغم من أن بعضها أجنبي كوجوب ذبح ما يدرك حياته من الصيود –وسيأتي تقريب الفرق بإذن الله تعالى-، وصحيحة زرارة الأولى، وبعضها غير ظاهر كخبر أبان لأن اشتباه الحياة غير استقرارها وأما استدلاله بالاستثناء في قوله تعالى: «إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ» فهو مصادرة على المطلوب وأول الكلام؛ لأن محل الخلاف هو قبول المشرف على الهلاك للتذكية وعدمه، فهذا استدلال بالعام في الشبهة المصداقية، وغير ذلك من المناقشات، إلا أن بعضها كافٍ لعدم الأخذ بالإمكان الذي قرّبناه كإطلاقات إدراك التذكية إذا طرفت لها عين أو ركضت لها قائمة وكروايات

ص: 375


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 19، ح1.
2- مستند الشيعة: 15/428-430.

النطيحة والمنخنقة والمتردية مثل صحيحة زرارة التي ذكرها (قدس سره) في آخر كلامه فإنها ظاهرة في الاكتفاء بإدراك أصل الحياة، كما دلّت معتبرة(1)

عبد العظيم الحسني عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) على أن المراد بهذه العناوين ما مات بسببها فيخرج من الحرمة ما أدرك وهو حي مطلقاً.

وبذلك يمكن رد الوجوه التي استدللنا بها على الاشتراط بالمعنى الذي ذكرناه إذ أن إطلاقات صحة التذكية إذا تحرك الحيوان تنفي الوجهين الأول والثاني، وإطلاق العناوين في الآية كالموقوذة وغيرها مقيدة بمعتبرة الحسني وغيرها.

وفي ضوء ذلك فالأقوى عدم الاشتراط ويكفي في إدراك الذكاة وجود أصل الحياة التي تدل عليها العلامات التي تقدم ذكرها، ويظهر مما حكاه صاحب الجواهر (قدس سره) عن ابن حمزة والمحقق الكركي إيقاعه الصلح بين الفريقين بهذه النتيجةفقد ((حكى العلامة والشهيد والمقداد عن ابن حمزة: أن أدنى الاستقرار أن تطرف عينه أو تركض رجله أو يحرك ذنبه))(2)، وقال المحقق الكركي (قدس سره): ((يُعلم استقرار الحياة بالحركة المعتدلة أو الدم المعتدل عند الاشتباه))(3)

بل هو ظاهر كلام الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف الذي نقلناه (صفحة 368) حيث فسّر الحياة المستقرة بصدور الحركة القوية ويريد بها حركة الأحياء.

ص: 376


1- ورد فيها: (قلت له: قوله عز وجل: «وَالمُنخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ وَالمُتَرَدّيَةُ وَالنَطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَبُعُ إلا مَا ذَكّيتُم» قال: المنخنقة التي انخنقت بأخناقها حتى تموت، والمتردية التي تردى من مكان مرتفع إلى أسفل أو تردى من جبل أو في بئر فتموت، والنطيحة التي نطحتها بهيمة أخرى فتموت، وما أكل السبع منه فمات إلا ما أدركت ذكاته فذكي) (وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 19، ح3).
2- جواهر الكلام: 36/143.
3- جواهر الكلام: 36/152.

وفي مقابل هذا الشرط نقول: لا يضرّ بحلية الذبيحة ما لو لحق الذبح سبب آخر عجّل بإخراج الروح، فلو حصلت التذكية الشرعية، فلا يهم تعجيل إزهاق الروح بعدها بأي نحو كان لتحقق التذكية الموجبة للحلية ولصحيحة زرارة المتقدمة عن أبي جعفر (عليه السلام): (وإن ذَبحتَ ذبيحة فأجدتَ الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك إذا كنت قد أجدت الذبح فكل)(1).

فائدة في منشأ هذا الشرط: قال المحقق النراقي (قدس سره): ((والذي يختلج ببالي أنه قد اختلط الأمر في ذلك المقام على بعضهم، وذلك لما قد أشرنا إليه في مسألة تذكية الصيد المدرك ذكاته، من أن المراد بعدم استقرار الحياة: صيرورتها في شرف الزوال وشروعها في الخروج.

ولا يبعد أن يكون ذلك مرادهم من قولهم: لا يمكن أن يعيش اليوم والأيام، فإنه ما لم يشرع في الخروج لا يمكن الحكم بعدم الإمكان، والصيد الذي صار كذلك بالاصطياد يصدق عليه أنه مقتول الآلة، سيما إذا ترك حتى خرج تمام روحه.

ومن يحكم بلزوم الذبح حينئذ فليس نظره إلا إلى بعض الأخبار كما مر، ومن لم يعتبر هذه الأخبار حكم بعدم لزوم الذبح حينئذ، واشترط في لزوم ذبح الصيد الحياة المستقرة لما ذكرنا، فاختلط الأمر على غيره، وآل الأمر إلى أن تعدى بعضهم إلى الذبيحة من غير استبصار، والله العالم))(2).

أقول: حاصل كلامه (قدس سره) أن استقرار حياة الحيوان شرط لوجوب تذكية الحيوان المصيد وإلا لم يحلّ، أما إذا أدركه الصائد وحياته غير مستقرة بأن أخذ في النزع وخروج الروح فلا تجب تذكيته ويكفي تركه ليموت كرواية أبي بصير المتقدمة (صفحة 374)، فاستقرار الحياة شرط لوجوب التذكية في الصيد لا لصحتها. ثم سرى الشرط إلى الذباحة وتُوهم أنه شرط للصحة وقد وجدناه (قدس سره) يقع في هذا (صفحة 375).

ص: 377


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 13، ح1.
2- مستند الشيعة: 15/430.

لكن مقتضى استدلال المشترطين وما نقلناه من كلمات أئمة المذاهب عن الخلاف (صفحة 368) أن أصلها ليس هذا التوهم.وعلى أي حال فإنه يظهر من بياننا لكلام المحقق النراقي (قدس سره) ما في تعليق صاحب الجواهر (قدس سره) بعد أن نقل هذا الكلام: ((ولا يخفى عليك أنه لا حاصل له، ضرورة عدم الفرق بين الذبيحة والصيد في ذلك))(1).

وفيه: أن الفرق بينهما واضح فالشرط في الصيد لوجوب التذكية وفي الذبيحة لصحتها.

ولعل أحد وجوه توهّم هذا الشرط هو اعتبارهم الذبيحة حيّة بعد فري الأوداج لكنها مشرفة على الموت ولم تخرج روحها، وهو ظاهر تشبيههم الحياة غير المستقرة بحركة المذبوح، وظاهر استدلالهم بأن غير مستقر الحياة بمنزلة الميت، والمذبوح لا تصح تذكيته، ثم وسّعوا الحكم إلى كل مشرف على الهلاك وغير مستقر الحياة لوحدة الملاك.

لكن هذا القياس باطل؛ لأن عدم صحة تذكية المذبوح لفوات موضوع التذكية، وليس لعدم استقرار الحياة، مع أن كون المذبوح حياً محل نظر وإن كان يتحرك حركة قوية قبل أن يتحول إلى جثة هامدة.

الشرط الثامن: عدم إبانة الرأس قبل الموت

اشارة

في هذا العنوان بحثان:

(أولهما) في الحكم الوضعي أي حلية الذبيحة التي قطع رأسها قبل أن تموت وعدمها.

و (ثانيهما) في الحكم التكليفي أي حكم الفعل نفسه.

ولا ملازمة بين الحكمين فقد نسب صاحب الرياض (قدس سره) إلى البعض القول بحرمة الذبيحة وكراهة الفعل(2)، ويقصد بالبعض الشيخ في

ص: 378


1- جواهر الكلام: 36/152.
2- رياض المسائل: 13/334.

الخلاف حيث حكى العلامة (قدس سره) عنه قوله: ((يكره إبانة الرأس من الجسد وقطع النخاع قبل أن تبرد الذبيحة، فإن خالف وأبان لم يجز أكله وبه قال جميع الفقهاء))(1)

لكن الموجود في كتاب الخلاف ((لم يحرم))(2)

وهو المناسب للسياق الذي سننقله (صفحة 382) بإذن الله تعالى، لكنه اختار القول بالحرمة في النهاية كما سيأتي بإذن الله تعالى.

وقبل الخوض في البحثين نذكر الروايات الواردة في المقام وهي:-1- صحيحة الفضيل بن يسار قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل ذبح فتسبقه السكين فتقطع الرأس، فقال: ذكاة وحية لا بأس بأكله)(3).

2- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن مسلم ذبح وسمى فسبقته السكين بحدتها فأبان الرأس فقال: إن خرج الدم فكل).

3- رواية مسعدة بن صدقة قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وسئل عن الرجل يذبح فتسرع السكين فتبين الرأس، فقال: الذكاة الوحية لا بأس بأكله ما لم يتعمد ذلك).

4- رواية سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) بنفس سؤال صحيحة محمد بن مسلم(4)

المتقدمة أجاب (عليه السلام): (لا بأس به إذا سال الدم).

5- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (أنه سئل عن رجل ذبح طيراً فقطع رأسه أيؤكل منه؟ قال: نعم ولكن لا يتعمد قطع رأسه).

ص: 379


1- مختلف الشيعة: 8/320 المسألة (30).
2- الخلاف: 6/52، المسألة (13).
3- الروايات السبع تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 9، بحسب الترتيب.
4- لم يذكر السؤال في الوسائل، لكن يظهر من الفقيه، ج3، ح 4172 أنه نفس السؤال.

6- موثقة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) (أنه كان يقول: إذا أسرعت السكين في الذبيحة فقطعت الرأس فلا بأس بأكلها).

7- صحيحة على بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل ذبح فقطع الرأس قبل أن تبرد الذبيحة كان ذلك منه خطاء أو سبقه السكين، أيؤكل ذلك؟ قال: نعم ولكن لا يعود).

8- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يذبح ولا يسمي، قال: إن كان ناسياً فلا بأس إذا كان مسلماً وكان يحسن أن يذبح ولا ينخع ولا يقطع الرقبة بعد ما يذبح)(1).

9- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث (أنه سأله عن الرجل يذبح فينسى أن يسمى أتؤكل ذبيحته؟ فقال: نعم إذا كان لا يتهم وكان يحسن الذبح قبل ذلك ولا ينخع ولا يكسر الرقبة حتى تبرد الذبيحة).

مضافاً إلى الروايات الآتية الناهية عن نخع الذبيحة باعتبار أن إبانة الرأس تستلزمه.

والبحث يقع في جهتين:

(الأولى) هل تحرم الذبيحة بإبانة الرأس؟

اختار الشيخ (قدس سره) في النهاية حرمة الذبيحة بتعمد قطع الرأس، قال (قدس سره): ((ومن السنة أن لا ينخع الذبيحة إلا بعد أن تبرد، وهو أن لا يبين الرأسمن الجسد ويقطع النخاع، فإن سبقته السكين وأبان الرأس، جاز أكله إذا خرج منه الدم، فإن لم يخرج الدم لم يجز أكله، ومتى تعمد ذلك لم يجز أكله))(2).

ص: 380


1- الحديثان تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح2، 3.
2- النهاية: 584.

قال العلامة (قدس سره) في المختلف: ((وتبعه ابن زهرة في تحريم الأكل)) وحكى صاحب الجواهر (قدس سره) عنه الإجماع واستغربه منه إذ ((لم يُحكَ عن أحد التصريح بذلك إلا عن النهاية، ولم أتحققه أيضاً))(1).

واستظهر صاحبا الرياض والجواهر (قدس الله سريهما) القول بالحرمة من ((ابن حمزة والإسكافي والقاضي))(2)

ولعله من جهة المفهوم أو من جهة سكوتهم عن حكم التعمد مع نفيهم البأس عن حالة عدم التعمد، ((قال ابن الجنيد: وليس للذابح أن يتعمد قطع رأس البهيمة إلا بعد خروج نفسها، فإن سبقته شفرته وخرج الدم، لم يكن بها بأس.

وقال الصدوق: فإذا ذبحت فسبقت الحديدة وأبانت الرأس فكله إذا خرج الدم، ولم يتعرض للتعمد.

وقال ابن البراج: لا يجوز أن ينخع الذبيحة حتى تبرد بالموت، وذلك أن لا يفصل رأسها من جسدها، ويقطع نخاعها، وهو عظم في العنق، فإن سبقته السكين فأبانت الرأس من الجسد، لم يكن بأكل ذلك بأس.

وقال ابن حمزة فإن نخع عمداً أو سهواً ولم يخرج الدم، حرم، وإن خرج الدم وفعل سهواً أو سبقته السكين، لم يحرم))(3).

واستند القائلون بالتحريم إلى الإجماع الذي ادعاه السيد ابن زهرة وجملة من الروايات الآتية بإذن الله تعالى وإلى وجهٍ حاصله: ((أن الذبح المشروع هو المشتمل على قطع الأربعة خاصة، فالزائد عليها يخرج عن كونه ذبحاً شرعياً، فلا يكون مبيحاً، وجرى مجرى ما لو قطع عضواً من أعضائه فمات))(4).

ص: 381


1- جواهر الكلام: 36/123.
2- جواهر الكلام: 36/122، رياض المسائل: 13/335.
3- مختلف الشيعة: 8/321.
4- مسالك الأفهام: 11/481 ونقله صاحب الجواهر (قدس سره) وغيرهما.

وأجيب بأنه ((مجرد دعوى لا دليل عليها، بل مقتضاها حرمة الزيادة وإن لم تكن إبانة، ولا أظن أحداً يقول بذلك، فلا يقطع بمثلها إطلاق الأدلة كتاباً وسنةً فضلاً عن خصوصها من صحيح الطير وغيره))(1).أقول: الجواب صحيح وبتعبير آخر: إن فري الأوداج لم يؤخذ بشرط لا عن غيره، إلا أن يرد نهي فيعود الاستدلال إلى الروايات.

واختار الشيخ (قدس سره) في الخلاف عدم الحرمة وحكى إجماع الصحابة عليه وقال: ((وبه قال جميع الفقهاء.

وقال سعيد بن المسيب: يحرم أكلها.

دليلنا: أن الأصل الإباحة.

وأيضاً: قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ» وهذا ذكر اسم الله عليه، وعليه إجماع الصحابة.

روي عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن بعير ضربت عنقه بالسيف، فقال: (يؤكل).

وعمران بن حصين، قيل له في رجل ذبح بطة، فأبان رأسها، فقال: تؤكل. وعن ابن عمر نحوه. ولا مخالف لهم))(2).

أقول: لا وجه للرجوع إلى الأصل والتمسك بالعمومات بعد ورود الروايات الخاصة بالمسألة وأما روايات العامة فغير معتبرة.

وقال صاحب الرياض (قدس سره): ((ويستفاد من الصحيحة الأولى –ويقصد بها صحيحة الحلبي (التسلسل 5)- منها إباحة الذبيحة على تقدير المخالفة، ويعضده عمومات الأدلة أو إطلاقها كتاباً وسنة على إباحة ما ذكر عليه اسم الله سبحانه. وعليه الشيخ في الخلاف والفاضل في المختلف وولده فخر المحققين والشهيدان في الدروس والمسالك والروضة))(3).

ص: 382


1- جواهر الكلام: 36/123.
2- الخلاف: 6/53، المسألة (53).
3- رياض المسائل: 13/334.

أقول: يرد عليه:-

1- لا دليل على كون قطع الرأس قد وقع عمداً الذي هو محل الخلاف، إلا أن يتمسك بإطلاق لفظ (قطع)، وانعقاده محل نظر.

2- ولو فرض وجود الإطلاق فإنه في كلام السائل فلا يكون معتبراً خصوصاً مع تقييد الإمام (عليه السلام) له في ذيل الرواية والروايات الأخرى.

3- من المحتمل كون الفعل (قطع) مبنياً للمجهول كالفعل (يؤكل) فيكون ظاهراً في وقوع الفعل لا عن عمد ولا ينفع المستدل.

ولكنه (قدس سره) لم يستبعد القول بالحرمة ((وذلك للإجماع المنقول في الغنية، ودلالة كثير من النصوص على الحرمة، منها الصحيحة الأخيرة –أي صحيحة محمد بن مسلم (التسلسل 8)-، لظهورها في ثبوت البأس في الذبيحة مع الإبانة، وهو فيها للتحريم))(1).ثم ذكر (قدس سره) صحيحة الحلبي (التسلسل 9) ورواية مسعدة بن صدقة (التسلسل 3).

إلا أنه (قدس سره) رد الاستدلال بقوله: ((إلا أنه يمكن الذب عن جميعها، فالإجماع: بعدم صراحة حكايته على المقام واحتمال رجوعه إلى شيء آخر غيره. والصحيحتان (التسلسل 8، 9): بأن بناء الدلالة فيهما على كون (لا) نفياً معطوفاً على ما سبقها، لا نهياً أو نفياً مستأنفاً. وفي تعيّن المبنى عليه نظر جداً؛ لاحتمال الأخيرين فيهما أيضاً احتمالاً متساوياً لسابقهما.

والثالثة: بأن غايتها الدلالة على ثبوت البأس مع تعمد الإبانة وهو أعمّ من التحريم. ولو سلّمت الدلالة بنحو التوجيه المتقدم إليه الإشارة فهي بحسب السند قاصرة وعن المكافأة لما مرّ من أدلة الإباحة ضعيفة))(2).

أقول: أما الإجماع فسيأتي توجيهه (صفحة 384) بإذن الله تعالى، وأما إنكار دلالة الروايات على الحرمة فسنناقشه إن شاء الله تعالى.

ص: 383


1- رياض المسائل: 13/335.
2- رياض المسائل: 13/336.

ومقتضى الإنصاف أنه يمكن تقريب الاستدلال بجملة من الروايات على حرمة الذبيحة مع تعمد قطع الرأس:

(منها) صحيحتا محمد بن مسلم والحلبي (تسلسل 8، 9) بتقريب كون (لا) نافية والجملة معطوفة على (وكان يحسن) وحينئذٍ يتحقق البأس الذي هو الحرمة إذا قطع الرأس، ولو فرض أن (لا) ناهية وأن الأصل في النواهي الحرمة التكليفية، إلا أن مورد الرواية قرينة على أن المراد هو الحكم الوضعي أي حلية الذبيحة وليس الفعل ويكون النهي إرشاداً إلى حرمة الذبيحة، كقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ» الذي هو إرشاد إلى حلّيّة الذبيحة.

(ومنها) صحيحتا الحلبي (تسلسل 5) وعلي بن جعفر (تسلسل 7) بنفس تقريب دلالة النهي المتقدم أي بقرينة السؤال.

(ومنها) رواية مسعدة بن صدقة (تسلسل 3) الصريحة في أن موردها حكم الذبيحة ومفهومها البأس إذا تعمد القطع.

(ومنها) موثقة الحسين بن علوان (تسلسل 6) وليس الاستدلال بالمفهوم كما قرّب البعض، إذ لا مفهوم للرواية، ولكن من جهة ذكر إسراع السكين عند نفي البأس ولا خصوصية فيه إلا لتقييد الحلية بعدم التعمد وإلا لا يكون لذكره وجه.

ودلالة هذه الروايات على الحرمة كافية خصوصاً رواية مسعدة بن صدقة (تسلسل 3) التي هي صريحة في حكم الأكل وهي لا تختلف بلسانها عما ورد في الشروط الأخرى التي تحرم الذبيحة بتركها عمداً كالاستقبال، فما الفرق في المتن بينها وبين صحيحة الحلبي وغيرها في الاستقبال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سئل عن الذبيحة تذبح لغير القبلة فقال: لا بأس إذا لم يتعمد).

ولعل دعوى ابن زهرة الإجماع على الحرمة فيما نحن فيه من جهة أن مقتضى القاعدة في فهم النص هو ذلك، وإن لم يحصّل أقوال الفقهاء (قدس الله أرواحهم) صريحاً في الحرمة إذ لا اعتبار بمخالفة من خالف بل يمكن فعلاً استظهارقولهم بالحرمة في حالة العمد بالمفهوم ونحوه مما قربناه من كلمات ابن الجنيد وابن البراج وابن حمزة آنفاً، وهذا التوجيه للإجماع لعله أولى مما نقلناه

ص: 384

(صفحة 383) عن صاحب الرياض (قدس سره) بإرادة شيء آخر وتبعه صاحب الجواهر(1)

(قدس سره).

وفي ضوء هذا نسأل: ما الذي دعا أكثر الفقهاء –حتى حكى صاحب الجواهر (قدس سره) عن البعض عدم وجود الخلاف فيه- إلى عدم القول بحرمة الذبيحة، خصوصاً مثل صاحبي الرياض والجواهر (قدس الله سريهما) اللذين استظهرا من ابن حمزة والإسكافي والقاضي ذهابهم إلى الحرمة وقد نقلنا كلامهم، وهو مطابق لنصوص الروايات، فكان الأولى بهما (قدس الله سريهما) أن يستظهرا الحرمة من تلك النصوص.

والذي يظهر من كلماتهم استنادهم إلى الإطلاقات والأصل وما نقله الشيخ (قدس سره) ((من عدم الخلاف بين الصحابة الذين منهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو سيدهم وقوله حجة))(2)، وإلى بعض النصوص المتقدمة كالذي نقلناه آنفاً (صفحة 382) عن صاحب الرياض (قدس سره) بقوله: ((يستفاد ..)) وقد ناقشنا كل تلك الوجوه، ومنهم من استند إلى النصوص من دون تقريب الاستدلال بها كصاحب المستند (قدس سره).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((الظاهر عدم الحرمة بذلك –أي قطع الرأس- لإطلاق الأدلة كتاباً وسنة، بل ظاهر النصوص المزبورة أنها ذكاة وحيّة أي سريعة، بل لو جعل (السكين) مفعولاً في خبر الحسين بن علوان المتقدم كان كالصريح في حل الأكل حينئذٍ، وكذا صحيح الطير – للحلبي، أي تسلسل 5-))(3).

أقول: استدلاله (قدس سره) كله قابل للنقاش، أما الإطلاقات فلما ذكرناه، وأما الذكاة السريعة فقد قيلت في مورد عدم التعمد –كصحيحة الفضيل بن يسار- أو اشترط فيها ذلك –كرواية مسعدة-، والقراءة المذكورة للسكّين خلاف

ص: 385


1- جواهر الكلام: 36/123.
2- رياض المسائل: 13/335.
3- جواهر الكلام: 36/122.

الظاهر بل خلاف القواعد لأن (أسرع) لا تتعدى بمفعول بل بالباء، وأما صحيحة الحلبي فقد ناقشنا الاستدلال بها مع صاحب الرياض (قدس سره) (صفحة 383).

وأما مناقشة صاحب الرياض (قدس سره) المتقدمة (صفحة 383) للروايات التي استدل بها على الحرمة، فيمكن أن يرد على ما قاله بشأن صحيحتي محمد بن مسلم والحلبي بأن الاحتمالين المذكورين –خصوصاً النفي المستأنف- أبعد مما قربنا به الاستدلال، فكأنَّ الأخذ بهما خلاف الظاهر فليست الاحتمالات متساوية، ولو فُرض تساوي الاحتمالين، فيتشكل علم إجمالي منجّز لحرمة الذبيحة والفعل ولا يجوز إهمال كلا الاحتمالين.وأما رواية مسعدة فقد وصفها البعض –كصاحب الجواهر (قدس سره)- بالموثقة ويمكن أن يكون توثيقه مستنداً إلى وجوه ككونه من رجال تفسير القمي وكامل الزيارات(1)

وغيرهما من التوثيقات. والبأس إذا أطلق فإنه يعني الحرمة، وإذا استعمل في الأعم فبقرينة.

مضافاً إلى تقريب الاستدلال بموثقة الحسين بن علوان، ولم تتم أدلة الإباحة حتى يجعل (قدس سره) أدلة الحرمة قاصرة عن المكافاة.

فكأن الأرجح إلى الآن حرمة الذبيحة إذا تعمد إبانة الرأس. لدلالة الروايات المعتبرة عليه، مع الالتفات إلى ما سنقوله بإذن الله تعالى عند البحث عن حكم قطع جزء من الحيوان المذكى قبل موته، وأنه هل يشمل الرأس أم لا.

هذا ولكن يمكن القول بعدم الاطمئنان لما قيل من التقريبات لحرمة الذبيحة.

(أما) صحيحتا محمد بن مسلم والحلبي فالظاهر في (لا) كونها ناهية، والنهي فيها نهي مستأنف، وأنها فقرة مضافة إلى مورد السؤال وهو أمر معروف في أجوبة الأئمة (عليهم السلام) خصوصاً للفقهاء من الرواة كمحمد بن مسلم

ص: 386


1- راجع معجم رجال الحديث، ج 18.

والحلبي، والأصل في النواهي أنها تكليفية والأمر أوضح في صحيحتي الحلبي وعلي بن جعفر لوضوح كونهما نهياً مولوياً.

(وأما) رواية مسعدة فلا يبعد كون الذيل مما ضُمّ إليها بالجمع مع الروايات الأخرى وإلا فهي كصحيحة الفضيل بن يسار، مع الإشكال في سند الرواية من جهة عدم وجود توثيق لمسعدة وإن وصفت في بعض المصادر –كالجواهر- بالموثقة.

وأما موثقة الحسين بن علوان فلا يمكن الاكتفاء بما ورد في تقريبها؛ لأن ذكر حكم مورد معين لا يعني أية خصوصية له وإنما هو من باب التطبيق للمسألة الكلية، كما لو قال: إذا سافرت من النجف إلى بغداد فقصّر وأفطر، فإنه لا يفيد أية خصوصية لهذا المورد.

فيكون الأظهر أن إبانة الرأس لا تحرِّم الذبيحة وأن ما ورد فيها يتعلق بالحكم التكليفي الذي سنبحثه.

نعم ربما يقال بحرمة الرأس خاصة باعتباره قطعةً مبانة من الحي وسيأتي تفصيله في فرع مستقل بإذن الله تعالى.

(الجهة الثانية) في الحكم التكليفي للفعل أي الإبانة.

وفي المسألة قولان:

(الأول) الحرمة ((كما عليه الإسكافي والمفيد وابن حمزة والقاضي وعن النهاية، واختاره الفاضل في المختلف والشهيدان وغيرهما))(1).

(الثاني) الكراهة ((كما عليه الخلاف والحلي والماتن في الشرائع والفاضل في الإرشاد والقواعد والتحرير، وكثير، ونفى الثاني عنه الخلاف بين المحصّلين)).واستدل للأول بعدة روايات معتبرة تتضمن النهي عن الإبانة، والنهي إذا أطلق فإنه يدل على الحرمة، كصحيحة الحلبي (تسلسل 5) وصحيحة علي بن جعفر (تسلسل 7).

ص: 387


1- رياض المسائل: 13/332.

ويستدل على حرمة الإبانة بما دلّ على حرمة نخع الذبيحة؛ لأن الإبانة تستلزم النخع، فإذا حرم الجزء –وهو النخع- حرم الكل –وهي الإبانة- قطعاً.

كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الذبيحة فقال: استقبل بذبيحتك القبلة ولا تنخعها حتى تموت))(1)

الحديث. وصحيحة الحلبي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تنخع الذبيحة حتى تموت فإذا ماتت فانخعها)(2) وغيرهما مما سيأتي إن شاء الله تعالى.

واستدل أيضاً بصحيحتي محمد بن مسلم والحلبي (تسلسل 8، 9) ونوقش هذا الاستدلال بأن ((من المحتمل كون (لا) فيهما للنفي على أن يكون مدخولها معطوفاً على قوله يحسن وحينئذٍ فغايتهما البأس الذي هو أعم من الحرمة))(3).

وفيه: إن البأس إذا أطلق فإنه يفيد الحرمة، مع أن سياق السؤال هو عن الحرمة، نعم تكون نتيجته حرمة الذبيحة لا الإبانة –ولم يقولوا بها- ولا ملازمة بين حرمة الذبيحة والإبانة، وأضاف السيد صاحب الرياض (قدس سره) شاهداً على التحريم وهو ((مقارنة (لا يقطع) ب-(لا ينخع) وهو للتحريم))(4).(4)

وفيه: إن الورود في سياق واحد لا يلزم منه الاشتراك في الحكم، مع أن كون النخع محرماً أول الكلام عند الخصم.

ثم قال (قدس سره): ((وكيف كان، فالقول الثاني –بالكراهة-ضعيف غايته، مع أنه لا مستند له عدا أصالة الإباحة، وهي بتلك الصحاح مخصصة، وحمل النهي فيها على الكراهة لا وجه له)).

وأما وجه القول بالكراهة –بحسب الجواهر- فهو عدم تعين (لا) في صحيحتي محمد بن مسلم والحلبي في النهي إذ يمكن أن يكون للنفي ومعطوفاً على (يُحسن) فغايتهما ثبوت البأس الذي هو أعم من الحرمة، وأن البأس في

ص: 388


1- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 6، ح1، 2.
2- و (2) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 6، ح1، 2.
3- جواهر الكلام: 36/121.
4- (4) رياض المسائل: 13/334.

مفهوم رواية مسعدة هو في الأكل الذي قال بحلّه بعض من قال بحرمة الإبانة، فانحصر النهي في صحيح الحلبي الأول خاصة ((وهو مع غلبة استعماله فيها يمكن إرادتها منه هنا ولو بمعونة ما عرفت –وهو إجماع الصحابة ونفي الخلاف فيه بين المحصلين-، فيقصر عن معارضة الأصل، خصوصاً بعد إمكان دعوى أن الكراهة تلوح منه ولو من جهة الاستدراك فيه، واحتمل كونه كالموثق المزبور –أي رواية مسعدة - الذي قد عرفت إرادة الكراهة من البأس فيه، وكخبر علي بن جعفر المروي عن كتابه عن أخيه (عليه السلام) (سألته عن الرجل ذبح فقطع الرأس قبل أن تبرد الذبيحة كان ذلك منه خطأ أوسبقه السكين أيؤكل ذلك؟ قال: نعم ولكن لا يعود) بل لعل جمعه مع السلخ في النبوي الآتي المحمول على الكراهة مشعر بذلك))(1).

أقول: يشير بالنبوي إلى مرسل الدعائم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنه نهى أن تسلخ الذبيحة أو يُقطع رأسها قبل أن تموت وتهدأ)(2).

أقول: يرد على ما قاله (قدس سره) وجود ما يدل على الحرمة غير الصحيحة وقد تقدمت جملة من الروايات، فلا تصل النوبة إلى الأصل، وأن النواهي إذا أطلقت فإنها تفيد الحرمة، واستعمالها في الكراهة لا بد أن يكون بقرينة وما ذُكر غير كافٍ، وأما قوله (عليه السلام): (ولكن) فهو ليس للاستدراك بل لإلفات النظر وإضافة الحكم التكليفي إلى حكم الأكل الذي ورد في السؤال، أما جمعه مع السلخ في سياق واحد فلا يضرّ لعدم استلزام وحدة السياق ذلك ويكفي في جمعهما اشتراكهما في جامع النهي.

واستدل المحقق النراقي (قدس سره) ب-((الأصل الخالي عمّا يصلح للمعارضة؛ لأن ما يُظَنّ تعارضه منحصر في صحيحتي الحلبي ومحمد (تسلسلي 8، 9) وهما لمقام الجملة الخبرية عن إفادة الحرمة قاصرتان، وروايتي الدعائم وهما لمكان الضعف الخالي عن الجابر عن صلاحية المعارضة عاجزتان))(3).

ص: 389


1- جواهر الكلام: 36/122.
2- مستدرك الوسائل: ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 6، ح1.
3- مستند الشيعة: 15/437.

أقول: استدللنا بعدة روايات غير صحيحتي محمد بن مسلم والحلبي وستأتي روايتا الدعائم في حكم نخع الذبيحة، وأما احتمال كون الجملة خبرية –أي كون (لا) نافية وليست ناهية- فهو لا يزيد عن احتمال كون الجملة إنشائية تفيد النهي ويتشكل حكم إجمالي منجز، ولا يصح إهمال كل من الاحتمالين لاحتمال الآخر.

فالأقوى حرمة إبانة الرأس للنهي في الروايات المعتبرة مع عدم كفاية القرينة الصارفة إلى الكراهة.

اللهم إلا أن نستشعر –بشمّ الفقاهة ونحوه- أن الحكم من آداب الذبح وأنه تطبيق للسنن الشرعية بالإحسان إلى الحيوان كما في النبوي الشريف (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)(1).

وها هنا أحكام ولواحق:

(الأول) في حكم نخع الذبيحة أي قطع نخاعها الشوكي الممتد داخل العمود الفقري قبل أن تموت، من حيث تحريمه للذبيحة ومن حيث حكم الفعل نفسه.

(أما) من حيث الجهة الأولى فيظهر من بعض كلمات القدماء أن النخع عندهم بمعنى الإبانة، والحكم واحد، كابن البراج وابن حمزة في كلامهما المنقول (صفحة 381) خصوصاً الأول.وصرّح به الشيخ (قدس سره) في النهاية فيما نقلناه عنه (صفحة 380)، وقال ابن إدريس (قدس سره): ((ويكره أن تنخع الذبيحة إلا بعد أن تبرد بالموت، وهو أن لا يبين الرأس من الجسد ويقطع النخاع. وإنما المكروه تعمّد ذلك، دون أن يكون محظوراً على الأظهر من أقوال أصحابنا، بلا خلاف بين المحصّلين في ذلك))(2).

ثم نقل كلام الشيخ (قدس سره) في النهاية وقال (قدس سره): ((وما

ص: 390


1- سنن البيهقي: 9/280.
2- السرائر: 3/115.

أورده في نهايته لا دليل عليه من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع، وإنما أورده إيراداً لا اعتقاداً)).

وردّ عليه العلامة (قدس سره) في المختلف بقوله: ((وقول ابن إدريس ليس بشيء يعوَّل عليه، لأن الأدلة غير منحصرة فيما ذكره، وما يدريه أن ما ذكره الشيخ في النهاية لم يصدر عن اعتقاده))(1).

وعلى أي حال فقد حكى كاشف اللثام القول بحرمة الذبيحة عن النهاية والوسيلة والغنية(2).

أقول: وجهه اتحاد المعنيين عندهم فاتحد الحكم، فلا يعتمد عليه هنا، ولذا لم نجد من قال بحرمة الذبيحة بالنخع غير قوله بحرمتها بالإبانة.

واستدلوا على الحلية هنا بما استدلوا به على الحلية في الإبانة مثل صحيح الحلبي (تسلسل 5) كما فعل العلامة(3)

(قدس سره) –وتبعه صاحب الرياض (قدس سره) كما تقدم وغيرهما-. وقد فصّلنا الكلام هناك وانتهينا إلى عدم حرمة الذبيحة بالإبانة فلا تحرم بالنخع. نعم قد تحرم الذبيحة فيما لو ذبح من القفا فقطع نخاعها وماتت قبل أن يفري الأوداج ويسيل الدم.

(وأما) من حيث الجهة الثانية: أي حكم الفعل ففيه قولان: الحرمة والكراهة.

واستدل على الحرمة بالنهي الوارد في صحيحتي محمد بن مسلم والحلبي (صفحة 380، تسلسل 8، 9) المتقدمتين في حرمة الإبانة وصحيحتيهما المتقدمتين (صفحة 388) في النهي عن نخع الذبيحة، وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن ذبيحة الجارية هل تصلح؟ قال: إذا كانت لا تنخع ولا تكسر الرقبة فلا بأس)(4) الحديث، وفي خبر

ص: 391


1- مختلف الشيعة: 8/322، المسألة (30).
2- كشف اللثام: 9/234.
3- مختلف الشيعة: 8/322.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 23، ح4.

الدعائم عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): (اذبح في المذبح –يعني دون الغلصمة- ولا تنخع الذبيحة، ولا تكسر الرقبة حتى تموت)(1).

والخبر الآخر في الدعائم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عمن ينخع الذبيحة من قبل أن تموت، قال: (أساء ولا بأس بأكلها)(2).

واستدل صاحب الرياض (قدس سره) ب-((النهي في الصحيح عن الإبانة وهو يستلزم النخع))، ولعله لذلك استغرب من الماتن وهو المحقق الحلي (قدس سره) في المختصر النافع قال (قدس سره): ((وفتوى الماتن هنا بالكراهة مع ميله إلى حرمة الإبانة سابقاً غير واضح وجهها، مع أن المسألتين كما عرفت من باب واحد من حيث النهي فيهما المفيد للتحريم السالم عن المعارض أصلاً))(2).

أقول: إن بنى استغرابه على الملازمة التي ذكرها فإنها محل نظر؛ إذ الإبانة تستلزم النخع دون العكس، فقد تحرم الإبانة لأمر أو لآخر ولا يحرم النخع، فيلزم من حرمة الجزء حرمة الكل دون العكس.

وإن كان لتماثل دليليهما وهو النهي الدال بإطلاقه على الحرمة فهو ممكن، إلا أنه قد يمكن توجيهه بوجود القرينة على صرف النهي عن الحرمة إلى الكراهة في النخع دون الإبانة كنفي الخلاف عن كراهة النخع الذي قاله الشيخ (قدس سره) في المبسوط ونحوه.

نعم من قال بكراهة الإبانة فإن كراهة النخع تكون واضحة عنده لأنها لا تزيد عليها، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((قد عرفت سابقاً قوة القول بكراهة الإبانة التي إن لم تكن إنخاعاً فلا ريب في استلزامها الإنخاع بمعنييه. ومنه يُعلم الوجه في النهي عنه في صحيحي محمد بن مسلم والحلبي، مضافاً إلى ما عن المبسوط من نفي الخلاف عن كراهة النخع بمعنى البلوغ إلى النخاع))(3).

ص: 392


1- و (2) مستدرك الوسائل: ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 5، ح1، 2.
2- رياض المسائل: 13/339.
3- جواهر الكلام: 36/135.

وذهب المحقق النراقي (قدس سره) إلى الكراهة، وتخلص من ظهور النهي في تلك الصحاح في الحرمة ب-((منع صراحة النهي فيها، لاحتمال الجملة الخبرية))(1).

أقول: هذا الاحتمال لو سلّمناه فإنه لا يستوعب كل روايات النهي، إذ لا يرد في صحيحتي الحلبي ومحمد بن مسلم المتقدمتين (صفحة 388) لأنهما صريحتان في النهي ولا احتمال للجملة الخبرية.(الثاني) ما قيل من حرمة الإبانة وحرمة الذبيحة أو كراهتهما مخصوص بالتعمد، فلو فعل غفلةً أو جهلاً أو سبقته السكين، فلا حرمة ولا كراهة فيهما، وقد صرّحت النصوص المتقدمة بذلك.

(فرع ملحق) سلخ الذبيحة أو قطع شيء منها قبل أن تموت وتهدأ:

وبتعبير آخر: هل تحل الذبيحة بأجزائها بمجرد تذكيتها أم لا بد من إزهاق الروح، أي أن الأدلة وإن أطبقت على حلية الحيوان بالتذكية إلا أنه هل يُفهم من القرائن والأدلة الأخرى على أن موت الحيوان مشروط في حلية لحمه على نحو الشرط المتأخر؟.

وهذا مبني على التسليم بكون الحيوان حياً بعد تذكيته خلال الفترة القصيرة ولا يعتبر ميتاً، وحركته كالهزات الارتدادية لزلزال الموت، والحكم في ذلك يفصل به المختصون في الطب البيطري، فلو بقي القلب ينبض هذا الوقت اليسير فهل هو علامة على الحياة أم أنه مجرد استمرار لعمله السابق ويتباطأ بسرعة حتى يتوقف؟.

لا يقال: إنه تقدم في بحث عن تذكية الأسماك جواز أكله حياً إذا تمّت تذكيته فالمورد مثله.

ص: 393


1- مستند الشيعة: 15/450.

فإنه يقال: إنه قياس مع الفارق فلا يمكن البناء عليه، ومن تلك الفروق كون القطعة المبانة من الحيوان الحي الذي يذبح ميتة نجسة، وليس الأمر كذلك في الأسماك.

ولا يقاس المورد على ما ذُكر في باب الأسماك من جواز أكلها حية إذا تحققت ذكاتها بأخذها كذلك، لورود النصوص هنا في الحيوان ذي النفس السائلة أن ما أخذ منه حال حياته ميتة.

ونلفت الانتباه هنا إلى أن افتراض الحياة بعد التذكية كان منشأً لتوهم اشتراط استقرار حياة الحيوان عند ذبحه كما قرّبناه في موضعه.

وعلى أي حال فإن الشيء المقطوع (تارةً) يكون الرأس وقد تقدّم البحث فيه في الشرط الثامن وانتهينا إلى حرمة الفعل من دون تحريم الذبيحة به.

أما الرأس نفسه فقد يقال بحرمته لكونه قطعة مبانة من الحي فتكون ميتة. وهو غير تام لموت الذبيحة بقطع الرأس فلا يصدق عليه أنه قطعة مبانة من الحي. مضافاً إلى قوله (عليه السلام) في صحيحة الفضيل (تسلسل 1): (لا بأس بأكله) بتقريب عودة الحكم إلى الرأس، ولو شُكّ فالأصل عدم الحرمة.

نعم يمكن أن يقال بحرمة الذبيحة لو أُبين الرأس من القفا فمات الحيوان قبل فري الأوداج الأربعة.

(وتارةً) يكون المقطوع أي جزء آخر منها أو سلخ الذبيحة قبل أن تموت فقد ادعى ابن زهرة الإجماع على حرمة الذبيحة به(1)

وذهب الشيخ (قدس سره) فيالنهاية إلى حرمة الجزء المقطوع وتبعه ابن حمزة وابن البراج(2)، قال الشيخ في النهاية: ((لا يجوز سلخ الذبيحة إلا بعد بردها، فإن سلخت قبل أن تبرد، أو سلخ شيء منها لم يحل أكله)).

أقول: الفرق في ما هو المحرم بين الشيخ وتابعيه وبين ابن زهرة واضح، لكن البعض نسب حرمة الذبيحة إليه (قدس سره) وهو وهم.

ص: 394


1- غنية النزوع: 397 وحكاه في كشف اللثام: 9/235.
2- مختلف الشيعة: 8/324.

واستدل الشيخ (قدس سره) بمرفوعة محمد بن يحيى قال: (قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إذا ذُبحت الشاة وسلخت أو سلخ شيء منها قبل أن تموت لم يحل أكلها)(1).

أقول: المرفوعة صريحة في حرمة الذبيحة وليس الجزء المقطوع فيكون ما اختاره ابن زهرة موافقاً لها وتوجد رواية أخرى في الدعائم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنه نهى عن سلخ البهيمة أو يقطع رأسها حتى تموت وتهدأ)(2).

أقول: هذا النهي إذا أطلق فإنه ينصرف إلى التكليفي ولا يستفاد منه حرمة الذبيحة أو الجزء المقطوع.

وعلى هذا فلم يتمّ دليل على حرمة الذبيحة إذا قطع شيء منها قبل أن تموت.

وذهب ابن إدريس (قدس سره) إلى الكراهة وتبعه عامة من تأخر عنه، قال (قدس سره) معلقاً على قول الشيخ في النهاية وإيراده مرفوعة محمد بن يحيى: ((أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته إيراداً لا اعتقاداً، لأنه لا دليل على حظر ذلك من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع منعقد، وأخبار الآحاد لا يرجع بها عن الأصول المقررة الممهدة، لأنها لا توجب علماً ولا عملاً، وكتاب الله أحقّ أن يُتمسك به ولا يلتفت إلى هذه الرواية الشاذة المخالفة لأصول المذهب، وهو قوله تعالى «وَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عَلَيهِ» وهذا قد ذكر اسم الله عليه، وذبح ذباحة شرعية، وحصلت جميع الشرائط المعتبرة في تحليل الذباحة، فمن ادعى بعد ذلك حظرها، يحتاج إلى دلالة شرعية لأنه قد ادعى حكماً شرعياً يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي. ولن يجده))(3).

ص: 395


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 8، ح1.
2- مستدرك الوسائل، ج16، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 6، ح1.
3- السرائر: 3/117.

أقول: ما ذكره ابن إدريس صحيح لأن الرواية ضعيفة لا يمكن بناء الحرمة –أي حرمة الذبيحة أو الجزء المقطوع منها- عليها والأصل عدمها.

ولو أمكن الاعتماد على الرواية فإنها تدل على حرمة الذبيحة –كما ذهب إليه ابن زهرة- لا الجزء المقطوع فلا يصلح دليلاً للشيخ ومن تبعه، نعم أوردها المحققالنراقي (قدس سره) بلفظ (أكله) وحينئذٍ يمكن الاستدلال بها على حرمة الجزء، لكننا لا نعلم من أين نقلها صاحب المستند بهذا اللفظ.

ونقل صاحب الجواهر (قدس سره) وجهاً آخر لحرمة الجزء المقطوع قال (قدس سره): ((فإن المحكي عن المبسوط أنه قال: لا يجوز تقطيع لحمها قبل أن تموت، فإن خولف وقطع قبل أن تخرج الروح لا يحل عندنا)) وعن الكافي ((إن ما قطع منها قبل البرد ميتة))(1)

وكأنه قطعة مبانة من حي، وإن كان فيه منع واضح، ضرورة كونه بعد التذكية، ولا تشمله تلك النصوص الظاهرة في غيره))(2).

أقول: إذا افترضنا حياة الحيوان بعد ذبحه فإن أدلة حلية الحيوان بالتذكية مطلقاً حتى قبل موته ليست أولى بالتقديم من إطلاق أدلة كون القطعة المبانة من الحي ميتة ما دام حياً حتى لو ذُكّي. فتخصيصه (قدس سره) الثاني بالأول ترجيح بلا مرجح، ولا يكفي فيه انصراف أدلة الثاني إلى ما لم يُذكَّ لأن الانصراف لا يصلح للتقييد.

بل قد يقال بتقديم أدلة حرمة القطعة المبانة من الحي بناءً على ما قدمناه من كون حلية لحم الحيوان المذكى مشروطة بنحو الشرط المتأخر بموت الحيوان. فلا يتم ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) ، ويكون الجزء المقطوع محرماً لأنه قطعة مبانة من حي.

لكن المشكلة في صدق كون الحيوان حياً بعد التذكية وإن تحرك حركة قوية، وأما المرفوعة فلا يمكن الاعتماد عليها لضعف سندها كما تقدم فلا يتم

ص: 396


1- الكافي في الفقه: 277 حكاه في كشف اللثام: 9/236.
2- جواهر الكلام: 36/125.

دليل على حرمة الذبيحة أو جزئها المقطوع ويمكن التمسك بإطلاقات الحل بالتذكية.

ويمكن الاستئناس للحلية بما ورد في روايات في حلية الصيد إذا قُطِّع قبل موته كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: (سئل عن صيدٍ صِيدَ فتوزعه القوم قبل أن يموت، قال: لا بأس به)(1).

نكتة: أجاب الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس ((عن إرسال الحديث بأن المفهوم في اصطلاح أرباب صناعة الحديث أن قوله: (رفعه) بمعنى (أسنده) فلا يكون مرسلاً.

وفيه: أنه –مع تسليمه- لا يلزم من استناده على هذا الوجه خروجه عن الإرسال، لأن الواسطة مجهول الحال، وذلك كافٍ في الإرسال، كما إذا رواه عن رجل أو عن بعض أصحابنا، ونحو ذلك))(2).

أقول: ذكرنا هذا الوجه مع وضوح الرد للاطلاع والتندّر.

هذا كله من حيث حرمة الذبيحة والجزء المقطوع.

أما حكم الفعل نفسه فقد قيل بحرمته استناداً إلى المرفوعة.

وفيه: أنها غير تامة السند، مع أنها واردة في حرمة الذبيحة لا الفعل.وللملازمة بين حرمة الأكل وحرمة الفعل –كما حكي عن الدروس- وهو كما ترى.

وقيل ((لأنه إيلام للحيوان بلا فائدة وقد نهى عن تعذيب الحيوان))(3)

وقواه كاشف اللثام.

أقول: الوجوه غير كافية للقول بالحرمة.

وقيل بكراهته: استناداً إلى المرفوعة بعد عدم حملها على الحرمة.

وفيه: إنها بصدد حكم الذبيحة لا الفعل فلا يستفاد منها حكمه.

ص: 397


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 17، ح1.
2- مسالك الأفهام: 11/483.
3- كشف اللثام: 9/235.

وقيل في وجه الكراهة ((لأنه إيلام للحيوان، وللنبوي المتقدم (صفحة 390): (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) إلخ، وللخروج عن شبهة الخلاف –مع الشيخ في المبسوط وغيره ممن تقدم))(1).

أقول: لا بأس بالقول بالكراهة لهذه الوجوه وللمرجوحية الأخلاقية.

فائدة: جعل المحقق النراقي (قدس سره) البحث في قطع الرأس وغيره من أجزاء الحيوان واحداً واعتبر مسألة حكم قطع شيء من الحيوان قبل خروج روحه الأصل في مسألة إبانة الرأس فلم يتناولها مستقلة كما وردت في الروايات، قال (قدس سره): ((هل يشترط في حلية الذبيحة خروج روحها، أم لا، بل تحل بمجرد قطع الأوداج بالشرائط ولو لم يخرج روحها بعد، فيجوز قطع جزء منها وإبانة رأسها قبل موتها وأكلها؟

ذهب الشيخ في النهاية والقاضي وابنا حمزة وزهرة إلى الاشتراط، حيث حكموا بحرمة أكل ما قطع منها من الأجزاء والرأس قبل الموت.

وذهب الشيخ في الخلاف والحلي والراوندي والفاضلان والشهيد الثاني في المسالك وصاحب الكفاية وجمع آخر من المتأخرين إلى عدم الاشتراط، ونسبه الأخيران وشارح المفاتيح إلى الأكثر، بل عن الخلاف ادعاء إجماع الصحابة عليه.

وهو الحق، لإطلاقات الكتاب والسنة، والنصوص المجوزة لأكل ما قطع رأسه قبل الموت، حيث إن الرأس أيضاً جزء مقطوع قبل خروج الروح، فلو اشترط الموت في الحلية لم يكن حلالاً))(2).

أقول: هنا عدة تعليقات:-

1- اختياره العنوان في الاشتراط وعدمه ضيّق المسألة بخصوص الحكم الوضعي للذبيحة وأجزائها بينما العنوان الذي ذكرناه تبعاً للمشهور وللرواية أوسع لشموله لحكم الفعل نفسه كما قدمنا.

ص: 398


1- جواهر الكلام: 36/124.
2- مستند الشيعة: 15/434.

كما أن التعبير بالاشتراط وعدمه لم يرد في كلمات القدماء المذكورين بحسب ما نقلنا عنهم وإنما هو شيء عبّر به (قدس سره) عن قولهم بحرمة الجزء المقطوع من الذبيحة قبل الموت وعدمها، وقد علمنا الخلاف في كلماتهم.

2- كان ينبغي التفريق بين كون المقطوع هو الرأس أو أي جزء آخر كما قدّمنا، مضافاً إلى أن أحكام قطع الرأس مستفادة من النصوص الخاصة التي تقدمت، وليس لأنها صغرى لمسألة قطع جزء من الحيوان قبل موته للفرق المذكور، فتجريد النصوص الدالة على حلية الذبيحة بقطع الرأس إلى قطع سائر أجزاء البدن في غير محله.

3- إن الإطلاقات التي تمسك بها –لو تمت وستأتي مناقشتها بإذن الله تعالى- معارضة بما دلّ على كون الجزء المقطوع من الحي ميتة، وقد رجحنا فيما سبق تقديم الثانية على الأولى، ولا أقل من التعارض والتساقط.

فذلكة الكلام في الشروط

إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما بُعث بشريعة الإسلام كان الناس أمة جاهلية يهلّون بذبائحهم للأصنام وقد حرّمها الله تعالى بقوله: «وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ» (البقرة: 173) ((والإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لكل صوت، وبه شُبِّه إهلال الصبي، فما أُهل به لغير الله أي ما ذُكر عليه غير اسم الله، وهو ما كان يُذبح لأجل الأصنام))(1).

فتدخّل الشارع المقدّس لتصحيح هذه الحالة وإصلاحها فحرّم عليهم أن يذبحوا لغير الله وكان يكفي فيه تجنّب الذبح للأصنام من دون تسمية وهو كافٍ فعلاً للناسي والجاهل، ولكن لما كانت حالة تقديم القرابين وذبح الأنعام لغير الله تعالى حالة راسخة في النفوس البشرية للمباهاة أو للمفاخرة أو لإرضاء الحكام والطواغيت وتعظيم شأنهم، ولم يستطع الإسلام قلعها بالكلية من

ص: 399


1- المفردات للراغب، مادة (هلل).

النفوس–كما يظهر من رواية(1)

والد الفرزدق وسحيم بن أثيل-، ولما كان أيضاً عدم الذبح لله مساوقاً للذبح لغير الله جُعلت التسمية لإزهاق الشرك وإحلال التوحيد وألحق بها الشارع المقدس من الأحكام بمقدار ضبط هذا الهدف وجعل السنن والآداب، فالأحكام الأخرى كلها تكليفية، ولاتحرم الذبيحة بها إلا إذا أدت إلى كون الذبح لغير الله تبارك وتعالى، كوجوب الاستقبال بالذبيحة فإنه واجب تكليفي لإبراز التوحيد فمن تعمّد الذبح لغير القبلة لا يصدق على فعله أنه إهلال لله تعالى، وإسلام الذابح يراد منه الاطمئنان بتحقق التسمية وعدم كون الذبح لغير الله تعالى، وأما اشتراط كون الآلة من الحديد فلإراحة الذبيحة، واشتراط حركة الذبيحة وخروج دمها للتأكد من حياتها عند الذبح إذا حصل الاشتباه فيها، وعدم النخع وإبانة الرأس قبل الموت للرفق بالحيوان وعدم زيادة كرب الموت عليه.

وأخبار التسمية ظاهرة في هذا المعنى ومنها خبر الورد بن زيد عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه: (ما تقول في مجوسي قال بسم الله ثم ذبح؟ فقال: كل. قلت: مسلم ذبح ولم يسمّ؟ فقال: لا تأكله، إن الله يقول: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ» و «وَلا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ» )(2)، فإنه يدل على أن شرط الحلية هي التسمية ولا يهمّ بعد ذلك كون الذابح مسلماً أو غيره إلا ما دل عليه الدليل.

ص: 400


1- ذكرت في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 4، ح4، وغيرها من المصادر ومجمل رواية الوسائل ومستدرك سفينة البحار أن سحيم بن أثيل وأبا الفرزدق تغالبا في الكوفة على أن يعقرا للناس في وقت مجاعة فعقرا ناقة واثنتين وثلاثة إلى مائة وثلاث مائة، فخرج الناس يريدون اللحم، وعلي (عليه السلام) بالكوفة، فجاء على بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ينادي: أيها الناس لا تأكلوا من لحومها فإنما أُهلّ بها لغير الله أو قال (عليه السلام): هذه ذبحت لغير مأكلة ولم يكن المقصود بها إلا المفاخرة والمباهاة).
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 15، ح5.

والنتيجة: إن الشرط الوحيد لصحة التذكية هي: التسمية، والإهلال لله تعالى وتدور حلية الذبيحة مدارها، وترك ما ينافيها كتعمد عدم الاستقبال. وأما البقية فهي أحكام تكليفية، هذا مع معروفية معنى الذباحة –أي قطع الحلقوم وإنهار الدم- لدى الناس لاعتيادهم عليها منذ خلق البشرية الأولى ولا حاجة لأخذ معناها من الشرع.

المرجع عند الشك في الشروط

والشك المتصور في العنوان على نحوين:

(أولهما) في أصل ثبوت الشرط ومدخليته في صحة التذكية، كما لو شك في شرط استقرار الحياة أو كون آلة الذبح من الحديد ونحوها.

(ثانيهما) في تفاصيل ما يتحقق به الشرط، كما لو علم بشرطية كون آلة الذباحة من الحديد وشك في كون الآلة التي وقعت بها الذباحة من الحديد.

ولا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية في الثاني؛ لأن شروط التذكية أمور وجودية كالاستقبال والتسمية وفري الأوداج ونحوها، والأصل عدمها إذا لم يُحرز تحققها، وبتعبير آخر: إن التذكية أمر شرعي له حدوده فلا يجوز ترتيب الآثار –كجواز الأكل- إلا إذا أحرز تحققه بحدوده ولا يجزي فيه إلا المتيقن.

وكلامنا هنا في الشروط ليس في هذا النحو من الشك، وإنما في الأول.

والبحث فيه تارة يكون عن العمومات والإطلاقات وأخرى عن الأصل العملي، فالكلام في مستويين:

(المستوى الأول) الإطلاقات والعمومات الفوقانية التي يُرجع إليها عند فقدان الدليل أو تعارضه أو إجماله.

وقد مرّ خلال البحث أنه من الواضح عندهم التمسك بإطلاق قوله تعالى: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» (الأنعام: 118) وقوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّاذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» (الأنعام: 119) عند الاستدلال على نفي بعض الشروط التي لم يقم عليها دليل معتبر، وقد

ص: 401

مرّت في مطاوي البحث جملة من كلماتهم كالذي نقلناه (صفحة 382) عن الشيخ (قدس سره) في الخلاف في إبانة الرأس، وما نقلناه (صفحة 390) عن ابن إدريس (قدس سره) في عدم حرمة الجزء المقطوع بعد التذكية وقوّاه العلامة (قدس سره) في المختلف، وقد كثرت كلمات المتأخرين –كصاحبي الرياض والجواهر (قدس الله سريهما) وغيرهما- الذين تمسكوا بالإطلاقات عند مثل المورد.

وقد قرّب بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) إطلاق هذه الآية والتي تليها «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ» بقوله: ((إن الأمر بالأكل في الآية الأولى إرشاد إلى الإباحة أو حلية الذبيحة وذكاتها; وذلك لمقام توهم الحظر، وبداهة عدم وجوب الأكل، والآية الثانية قرينة على ذلك أيضاً. ومقتضى إطلاقها كفاية ذكر اسم الله في الحلية والتذكية، بلا حاجة إلى شرط آخر من الاستقبال أو طهارة الذابح أو غير ذلك، بل الآية الثانية – بقرينة قوله تعالى فيها: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيكُم»- كالصريحة في العموم، وأنَّ غير ما فصّله وحكم بحرمته بالآيات الأخرى – وهو الميتة والمنخنقة والمتردية ونحوها وما أهل لغير الله وما ذبح على النصب- يكون حلالاً))(1).

أقول: يرد على التمسك بإطلاق الآية –لنفي الشروط المشكوكة- إشكالٌ من جهة عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة وإنما هي في مقام بيان شرطية التسمية لحلية الأكل، ويُقرَّب الإشكال بتقريبين:-

1- في ضوء السبب المروي لنزول الآية، ففي الدر المنثور أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله، فنزلت الآية، فهي في مقام توهم حظر الأكل مما قتلوه بأيديهم، والأمر فيها يفيد نفي هذا الحظر وجواز الأكل مما ذبحوه بعد التسمية،

ص: 402


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/20-21.

والخطابات الواردة في مقام توهم الحظر لا إطلاق لها، ولا تدل على أزيد من رفع الحظر المتوهم. فتفيد الآية جواز الأكل مما ذبحوه بأيديهم المفهوم من القرائن الحالية لا مطلق ما مات وما قتل وإن سمّوا عليه. نعم اشترطت الآية التسمية على المذبوح لجواز الأكل.

2- إن قوله تعالى: «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» هو حصر إضافي مقابل ما أهل لغير الله به الذي حُرِّم في آية أخرى وأشير إليه إجمالاً في هذه الآية بقوله تعالى: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» فما يُهلُّ به لغير الله فهو مما لم يذكر اسم الله عليه ولا يحل كما ورد بعد آيتين في قوله تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» (الأنعام: 121) فلا إطلاق للآية بلحاظ بقية الشروط.

وباختصار فإن الأمر في الآية إرشاد لشرطية التسمية وعدم المنع من الأكل مما ذبحوه بأيديهم.وقد أورد (دام ظله) الإشكال على الإطلاق من جهة ((أن الآية ليست في مقام بيان أكثر من شرطية ذكر اسم الله، وأن ما لم يذكر عليه اسم الله يكون حراماً، كما أكّد ذلك بعد آيتين بقوله تعالى: «وَلا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ وَإنَّهُ لَفِسقٌ» فلا يمكن أن يستفاد منها نفي الشروط الأخرى)).

وأجاب بقوله: ((فرق واضح بين الآيتين، فتارة يقال: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فهذا ظاهر في الشرطية، وأخرى يقال: كلوا مما ذكر اسم الله عليه فهذا ظاهر في أن ما ذكر عليه اسم الله حلال مذكّى، فيصحّ التمسّك بإطلاقه لنفي شرط آخر في الحلية، خصوصاً مع القرينة التي ذكرناها من تفصيل ما حرم عليكم. والآية المذكورة بعد آيتين أيضاً قرينة على أن المراد من الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه حلية كل ما يذكر اسم الله عليه وجواز أكله، لا مجرد شرطية ذكر اسم الله وإلا كان تكراراً محضاً وركيكاً))(1).

ص: 403


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/21، وقد عاد إلى إشارة الإشكال وجوابه في عدة مواضع (في الصفحات 21، 23، 29) مما يعني عمق الإشكال عنده (دام ظله).

أقول: جوابه (دام ظله) لا يجدي في دفع الإشكال حيث تكفّل ببيان الفرق بين الصيغتين، وغايته التسليم بوجود الفرق من دون حل الإشكال، على أننا لا نجد بينهما فرقاً في التعبير عن الشرطية، وقد مرّت علينا بنفس الصيغة الروايات الدالة على بعض الشروط الأخرى كصحيحة محمد بن مسلم (إن خرج الدم فكل)(1)

أو صحيحة أبي بصير ((إذا ركضتْ الرِجل أو طرفت العين فكل)(2).

أما قوله (دام ظله): ((وإلا كان تكراراً)) فإن التكرار ظاهرة معروفة في القرآن ومن أساليب البديع فيه، ولها مبرراتها، رغم أنه ليس تكراراً كما هو واضح، فالآية الأولى في شرطية التسمية ورفع الحظر المتوهم، والثانية في التوبيخ على الامتناع من تناوله بشبهة أنه مما قتلوه بأيديهم.

وذكر (دام ظله) شاهداً ((على صحة التمسك بإطلاق الآية في المقام وهو تمسك الإمام (عليه السلام) في بعض الروايات بذلك، كرواية الورد (أبي الورد) بن زيد عن أبي جعفر (عليه السلام) المتقدمة (صفحة 400) فقد استدل الإمام (عليه السلام) على نفي شرطية إسلام الذابح –مع فرض تسميته- بإطلاق الأمر بالأكل مما ذُكر اسم الله عليه))(3).

أقول: لم يتمسك الإمام (عليه السلام) بإطلاق الآية لنفي شرط إسلام الذابح وإنما استدل بصريحها على أن المدار في الحلية هي التسمية فالآية تدل على شرط التسمية، وهي حجة عليه (دام ظله) لأنها لم تفرّق بين صيغتي الآيتين كما حاول آنفاً.ولو تنزّلنا وقلنا أن للآية إطلاقاً، فإن هذا الوصف الثابت لها في ذاتها ينتفي عنها إثباتاً لكثرة الموارد الخارجة عنها فيحصل ما نستطيع تسميته (انقلاب الصفة) أي من الإطلاق إلى الإجمال بتقريب سريان الإجمال من الخاص إليه أو قبح تخصيص الأكثر أو بأي تقريبات أخر ليس هذا محل شرحها، والعنوان يكون شبيهاً بالذي يشرحونه في مبحث انقلاب النسبة على القول به.

ص: 404


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 9، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 12، ح1.
3- قراءات فقهية معاصرة: 2/23.

وقد اعترف المستدل بأن الآية ليست في مقام البيان من جهة قابلية المحل –وهو الحيوان- للتذكية كما إذا شك في قبول السباع للتذكية، ولا إطلاق فيها لغير المذبوح والمنحور، فلا تحل المقتولة والمرمية من شاهق والمصعوقة بالكهرباء بالتسمية عليها، ولا إطلاق لها ((بالنسبة للشرائط المادية المحتمل اعتبارها في الذبح من حيث هو ذبح، كشروط آلة الذبح أو مذبح الحيوان; لأن كل ذلك مفروض مفروغاً عنه في الآية، وليست الآية بصدد بيانه، وإنما هي بصدد بيان ما يشترط زائداً على أصل الذبح – الذي هو فعل تكويني خاص - من الشروط المعنوية المربوطة بالذبح بما هو نسك كالتسمية أو الاستقبال أو أن يكون الذابح مسلماً أو متطهراً ونحو ذلك))(1).

أقول: انتهى (دام ظله) إلى ما لا يمكن تسميته إطلاقاً مضافاً إلى أنه لم يبين لماذا اعتبر الذبح نسكاً مع أنه فعل عادي من أفعال الناس، وماذا يشمل الإطلاق بالتحديد من الشروط وكلها مما نصّ عليها الشارع المقدس حتى عدم إبانة الرأس التي اعترض على صاحب الجواهر (قدس سره) بتمسكه بالإطلاق لنفيها.

ثم ذكر (دام ظله الشريف) آيات أخر قرّب الاستدلال بإطلاقاتها مما يرد عليها نفس الإشكال تقريباً ولا طائل من الدخول في تفاصيلها.

تنبيه: يمكن أن نحقق نتيجة الإطلاق المذكور بفذلكة الكلام التي قدمناها فإن حاصلهما واحد وهو أن شرط الحلية التسمية فحسب، فما لم يدل دليل معتبر على شرط تكليفي أو وضعي فيمكن التمسك بدوران الحلية مدار التسمية ونفي ذلك الشرط المشكوك، ولعل مراد القدماء الذين تمسكوا بالآية –كالشيخ الطوسي وابن إدريس (قدس الله سريهما)- هو هذا وليس الإطلاق بالمعنى الذي أراد (دام ظله) تقريبه والموجود في أذهان المتأخرين.

ص: 405


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/22.
(المستوى الثاني) في الأصل العملي.

وقد نقلنا عن جملة من أساطين القدماء والمتأخرين (قدس الله أرواحهم) رجوعهم إلى أصالة الحلية لنفي احتمال أي شرط إذا لم يتم عليه دليل معتبر.

وقد حكى (دام ظله الشريف) وجود خلاف في الأصل الجاري في المقام عند تعرضه لهذا البحث ضمن حديثه عن شرط الاستقبال، فإنه بعد أن ذكر أن أدلة الشرطية هما الإجماع والروايات، قال (دام ظله): ((وقبل البحث عن هذين الدليلين لا بد منتشخيص ما هو مقتضى القاعدة إذا لم يثبت شيء منهما، فهل هو الحلّية أو الحرمة؟)).

أقول: الموضع الصحيح لهذا المطلب أن يكون مستقلاً يسبق البحث عن الشروط أو يتأخر عنه لأنه يؤسس لمقتضى القواعد فيها جميعاً، وربما تبع بذلك السيد المرتضى (قدس سره).

ثم قال (دام ظله الشريف): ((ظاهر بعض القدماء كالسيد المرتضى (قدس سره) في الانتصار الثاني –الحرمة-، وأنه ما لم يثبت دليل على التذكية في فرض عدم الاستقبال يحكم بكونه ميتة، ويقتصر في المذكى على المتيقن وهو ما إذا استقبل بذبيحته القبلة.

فقد ذكر في الانتصار (وأيضاً فإن الذكاة حكم شرعي وقد علمنا أنه إذا استقبل القبلة وسمّى اسم الله تعالى يكون مذكياً باتفاق، وإذا خالف ذلك لم يتيقن كونه مذكياً، فيجب الاستقبال والتسمية ليكون بيقين مذكياً). وتابعه على هذا الاستدلال جملة من الفقهاء)).

أقول: يحتمل من قول السيد المرتضى (قدس سره) ((وقد علمنا أنه ..)) أنه بصدد الشك من النحو الثاني أي ما يتحقق به الشرط بعد العلم بثبوته، وهنا لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية. فمحل كلامه (قدس سره) ليس أصل الشرط وإلا لماذا لا يحصل يقين إذا خالف ما دام الشرط لم يثبت وإذا كان مجرد احتمال فإنه وهم لا قيمة له، فإجراؤه أصالة الحرمة إما لأن فرض الشك عنده من النحو الثاني، أو أنه صاغه في ذهنه كذلك، أو أنه بنى على كفاية الاحتمال

ص: 406

لتنجز التكليف، أو أنه فصّل في أنحاء عدم اعتبار الدليل كالذي سنقوله في التعليقة رقم (3) الآتية، وإن كانت بعض كلماته (قدس سره) تشعر بالنحو الآخر من الشك.

ثم قال (دام ظله الشريف): ((والصحيح هو الأول أي الحكم بالحلية وعدم اشتراط الاستقبال إذا شك في الدليل على شرطيته.

وذلك لأن مقتضى الأصل العملي وإن كان هو استصحاب عدم التذكية عند الشك في حصولها – بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية وجريان أصالة عدم التذكية على ما حقق في محله من علم الأصول- إلا أن مقتضى الدليل الاجتهادي حصول التذكية بغير الاستقبال أيضاً إذا تحققت سائر الشرائط المعتبرة، وذلك بالرجوع إلى عمومات التذكية في الكتاب الكريم والروايات))(1).

أقول: يرد عليه:-

1- إن جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية وإن كان صحيحاً كبروياً، إلا أن المقام ليس منه لعدم وجود حالة متيقنة سابقة لعدم التذكية إلا على نحو استصحاب العدم الأزلي وهو غير تام، أو تستصحب حالة عدم التذكية في حال حياته، وهو لا يجري أيضاً لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، بل لا معنى لوصف حالة الحياة بعدم التذكية.

2- لا تجري أصالة عدم التذكية فيما نحن فيه وهو الشك في شرطية شيء، وإلا لوجب الإتيان بكل ما يخطر في البال من احتمالات للشرطية. وإنما تجري في النحو الثاني أي فيما يتحقق به الشرط بعد ثبوته.

3- ما صحّحه ليس صحيحاً على إطلاقه في كل ما لم يثبت من الشروط بحسب تعبيره في أول كلامه، إذ أن الدليل على كون الأصل هو عدم الاشتراط عند الشك فيه: هو أن التذكية حكم شرعي، وما لم يرد في حدٍّ

ص: 407


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/19-20، والبحث منشور في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد الأول/ السنة الأولى 1416 ه-.

من حدودها بيان معتبر فإنه كاشف عن عدم مدخليته وإلا لبيّن، فتجري أصالة البراءة من وجوبه، وتثبت حلية الذبيحة بما دل على تحقق التذكية بالشروط الأخرى، وحينئذٍ فلا بد من التفصيل في حالة عدم ثبوت شرطية شيء بين كون منشأه عدم البيان المعتبر فالأصل هي الحلية، وبين ما لو كان منشأه تعارض النصوص أو إجمالها فإن هذا المقدار من البيان ينجّز أصالة عدم التذكية إلا أن توجد عمومات فوقانية جارية في المورد تفيد الحلية.

وأما الإطلاقات والعمومات فقد ناقشناها في المستوى الأول.

فمختارنا في الأصل الجاري في المسألة هو التفصيل الذي ذكرناه في النقطة (3-) في الصفحة السابقة.

ص: 408

الجهة الثانية: معالجة مشاكل الذبح بالمكائن الحديثة

اشارة

يتناول البحث في هذه الجهة تصحيح عملية الذباحة بالمكائن الحديثة ومعالجة المشاكل الموجودة في المصانع العصرية لتكون مطابقة لشروط التذكية الشرعية التي حققناها في الجهة الأولى من البحث.

وقد ذكر بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) عدة مشاكل في هذه المكائن ونسب هذه الإشكالات إلى بعض الأعلام من دون تعيينه وأجاب عنها وسنعرضها للمناقشة بإذن الله تعالى.

(الأولى) انتساب الذبح لغير الإنسان:

قال (دام ظله الشريف) ((فقد يرد الإشكال من ناحية عدم انتساب الذبح إلى الإنسان، بل إلى الآلة، ويشترط في حلية الذبيحة أن تكون ذبيحة الإنسان، بمقتضى قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الميتَةُ ... إلا مَا ذَكَّيتَم» الظاهر في اشتراط أن تكون التذكية – وهو الذبح الشرعي، كما يدل عليه قوله تعالى: «وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُصُبِ» - تذكية الإنسان، والذبيحة ذبيحته; لأنه مقتضى إضافتها إلى الإنسان، خصوصاً مع كونه استثناءً عن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، مما يكون زهاق الروح فيه لا بفعل الإنسان – سواء كان استثناءً عنها جميعاً أو عن خصوص ما أكل السبع - فإنه يدل على أن ذلك ليس حلالاً ما لم تصدر التذكية من الإنسان، ولو بأن يدرك الحيوان حياً فيذكيه.

ص: 409

ولعله المراد أيضا بقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا أَمسَكْنَ عَلَيكُم) الظاهر في أن يكون إمساك الكلب للصيد من جهة تعليمه وإرساله – لا لنفسه - فيكون الصيد مستنداً إليكم.

وقد دلت على ذلك أيضاً جملة من الروايات الدالة على أنه لا يكفي زهاق روح الحيوان من نفسه أو بفعل حيوان آخر – ولو بخروج دمه أو قطع مذبحه - ما لم يدركه الإنسان فيذكيه.

بل لعل اشتراط كون الذبح أو الصيد بفعل الإنسان ومستنداً إليه مما لا يقبل الشك، فإن التذكية لا تكون إلا بفعله.

فإذا قيل: بأن الذبح بالماكنة فعل الآلة لا فعل الإنسان كان المذبوح بها ميتة كالنطيحة والمتردية))(1).

أقول: جوابه باختصار: أن الكبرى صحيحة وهو اشتراط كون الذبح مستنداً إلى الإنسان، لكن الصغرى غير تامة؛ لأن مباشرة الآلة للذبح لا تنافي نسبة الفعل عرفاً إلى الإنسان القائم عليها، ولو اعتبرنا الآلة هي المباشرة للذبح فإن الإنسان هو السبب، وينسب الفعل إلى الأقوى من المباشرة والسبب وهو هنا الإنسان لذا فإنالمسؤولية تقع عليه في آثار الفعل كالضمان أو القصاص في القتل والدية في الجناية وغيرها، كمن يطلق النار أو يرمي السهم على شخص فيقتله فإن الفعل ينسب إلى الرامي بل إن المورد الذي استدل به –أي صيد الكلب المعلّم- يعدّ نقضاً عليه حيث يصدق على فعل المرسل التذكية مع أن المباشر هو الكلب، فالذباحة بالماكنة تنسب للإنسان القائم عليها.

وأجاب (دام ظله الشريف): ((إن هذا الإشكال يندفع بأنه يكفي في انتساب فعل أو نتيجته إلى الفاعل المختار أن لا يتخلل بين عمله وبين حصول تلك النتيجة إرادة أخرى، بحيث يكون حصول تلك النتيجة بفعله قهرياً وترتبه عليه طبيعياً، وإن تأخر عنه زماناً أو كان بينه وبين تلك النتيجة وسائط تكوينية)).

أقول: اتجه إلى إثبات صدق عنوان التذكية على الذابح بالآلة فلسفياً، والأولى إحالة الأمر إلى العرف كما قرّبنا.

ونستطيع أن نختبر وجدانه بفرض مسألة وهي لو أن إنساناً درّب حيواناً –كالقرد مثلاً- على مسك السكين وذبح الطير، فهنا القرد مسيَّر كالماكنة فهل يجتزئ بالتذكية؟

والجواب على تعريفه: نعم لكن العرف قد لا يساعد عليه.

ص: 410


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/11-12.

مضافاً إلى إمكان المناقشة في حصول النتيجة قهرياً لأن فعل الذابح هنا على نحو المقتضي فلا بد من انضمام عدم المانع وهي إرادة أخرى لإيقاف التشغيل ونحوه.

وأضاف (دام ظله): ((ومن هنا لا يستشكل أحد في صدق القتل وانتسابه إلى الإنسان إذا ما قتل شخصا آخر بالآلة، فحكم الآلة الحديثة المتطورة من هذه الناحية حكم الآلة البسيطة كالسكين والمدية من حيث صدق عنوان (ذبيحة الإنسان) على المذبوح بها، فلا تكون ميتة.

ودعوى: التفكيك بين عنوان (القتل وزهاق الروح) وعنوان (الذبح)، بأن الأول يكفي فيه مطلق الآلة بخلاف الثاني; لأن عنوان الذبح يتقوم بفري الأوداج وإمرار السكين على مذبح الحيوان، فلا بد فيه من مباشرة الإنسان ذلك بيده.

مدفوعة: بأن الذبح ليس إلا عبارة عن إزهاق روح الحيوان عن طريق قطع مذبحه – وهو الحلقوم - وفري الأوداج، سواء كان ذلك بآلة بسيطة كالسكين أو بالماكنة والآلة المتطورة التي تقوم بنفس النتيجة، أي تفري أوداج الحيوان من مذبحه، فيكون الذبح مستنداً إلى الإنسان، وتكون الذبيحة ذبيحته بلا إشكال.

وقد يقال: بانصراف الإطلاق إلى الذبح باليد ونحوه; لعدم وجود غيره حين صدور الأدلة، أو يقال: بعدم الإطلاق في الأدلة، واحتمال دخل المباشرة باليد ونحوه في التذكية.

والجواب: أما عن الانصراف; فإن غلبة الوجود لا توجب الانصراف على ما حقق في محله، وأما على الثاني، فإن الإطلاق ثابت في كثير من الروايات التي رتبت الحكم على عنوان الذبح أو ذبيحة المسلم، بل وفي الآية المباركة «إلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ...» إذا كانت بمعنى ذبحتم.

نعم، لو قيل: بأن المأخوذ في مادة التذكية أو هيئة (ذَكَّيْتُمْ) أن يكون إيجاد صفة المذبوحية والذكاة في الحيوان بيد الذابح المذكي مباشرة وبلا واسطة

ص: 411

مهمةكالماكنة أو تسخير حيوان أو إرادة إنسان آخر يذبح بلا إرادة حرة بل بأمر أو بسلطة شخص آخر، لم يتم الإطلاق عندئذ.

إلا أن استفادة هذا القيد من مادة أو هيئة «ذَكَّيتُمْ» خلاف الإطلاق المتبادر منها)).

(الثانية) عدم تحقق التسمية

قال (دام ظله الشريف): ((بأن يقال: إن الذبح بالماكنة يؤدي إلى حصول الفاصل بين ذبح الحيوان وفري أوداجه الأربعة وبين زمان تشغيل الماكنة أو ربط الحيوان بها من قبل الإنسان المستخدم للماكنة، فلا تكون تسميته – حين التشغيل أو حين ربط الحيوان بها - مجزية في التذكية:-

1 - إما لأن حال هذه التسمية حال تسمية الواقف على الذبيحة التي يذبحها الغير، فكما أنه لا تجزي تسميته ما لم يسم الذابح نفسه، فكذلك الحال في المقام، فيقع الإشكال في حلية الذبيحة من ناحية التسمية المعتبرة فيها.

2 - وإما لوجود الفاصل بينها وبين زمان تحقق الذبح وفري الأوداج))(1).

أقول: صريح كلامه (دام ظله) أن الإشكال إما هذا أو هذا، لكن ظاهر جوابه الآتي أن الإشكال هما معاً لأن منشأه صدور التسمية من مشغّل الماكنة وبحسب المشكلة الأولى المتقدمة فإن الذباحة فعل الماكنة فتكون التسمية صادرة من أجنبي أي غير الذابح وهي الآلة مع وجود الفاصل الزماني.

نعم يمكن تقريب المشكلة بشكل أوضح ليكون الإشكال هذا أو ذاك بأن يقال: إن التسمية التي هي شرط في التذكية يجب أن يؤديها الذابح لا غيره، والذابح في المصانع الحديثة هو الجزء الأخير من العلة في عملية الذباحة سواء كان مشغّل الكهرباء لحزام تعليق الحيوانات أو من يعلقها عليه أو من يشغّل آلة القطع بالبيان الآتي في الفرع الثاني (صفحة 420).

ص: 412


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 13-14.

وحينئذٍ يقال: إن سمّى الذابح عند التعليق أو التشغيل حصل الإشكال الثاني وهو الفاصل الزماني لأن ذلك يحصل قبل قطع الأوداج بزمان معتد به والمفروض حصول التسمية عند الذبح مع الإشكال المبني على المشكلة الأولى وهو كون الذباحة فعل الماكنة، وأما المشغّل فهو أجنبي ولا عبرة بتسمية الأجنبي. وإن قام بالتسمية شخص يقف عند موضع قطع الأوداج فهو أجنبي بحسب الفرض لأن الذابح غيره وهذا هو الإشكال الأول.

وبذلك يظهر أن الإشكال وارد.

نعم يوجد خيار ثالث وهو أن يكرر الذابح المفروض التسمية عند قطع الأوداج فلا يتولى التسمية غير الذابح وبذلك يدفع الإشكال الأول، ويبدو أنه (دام ظله) التزم بصدور التسمية من الذابح فأجاب عن الإشكالين: ((أما عن الأول: فبمنع كون تسميته كتسمية الأجنبي عن الذبح، كيف! وهو الذابح بالآلة، ومجرد كونه حين تحقق فري الأوداج ساكناً لا يجعله أجنبياً عن الذبح بعد أن كان فري الآلة للأوداج بحركته وبسببه وفعله، وقد أشرنا إلى أن كون الآلة معقدة أو متطورة لا يمنع عن استناد الفعل إلى الإنسان، فهو الذابح وتكون تسميته تسمية الذابح، إلا أن طريقة الذبح بالآلة تكون بتحريك الآلة وربط الحيوان بها للذبح، فيشمله إطلاق «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عَلَيهِ»; لا من جهة كفاية ذكر الاسم – ولو من غير الذابح - ليمنع عنه بظهور الآية في إرادة ذكر الاسم على الذبيحة بما هي ذبيحة تذبح، الظاهر في أن من يذبح لا بد وأن يذكر اسم الله، وكذلك ظهور الروايات الكثيرة في اشتراط تسمية الذابح، كصحيح محمد بن مسلم(1)

وصحيح سليمان بن خالد وموثق ابن قيس وموثق الحلبي وفحوى صحيح محمد بن مسلم(2)، وغيرها من الروايات.

ص: 413


1- تجد الروايات في وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، وهي على الترتيب باب 23، ح5، 7، باب 28، ح1، باب 15، ح6.
2- المصدر، أبواب الصيد، باب 13، ح1.

بل من جهة كون المحرك للآلة ذابحاً بها حقيقة، فيشمله العنوان المذكور في الآية والروايات)).

أقول: ظاهر جوابه أن من يتولى التسمية هو العامل والإشكال في كونه أجنبياً أم لا، وقد قلنا أنه على هذا يرد الإشكالان معاً وليس هذا أو ذاك كما قرّب (دام ظله).

((وأما عن الثاني – وهو تحقق الفاصل الزماني بين زماني التسمية والذبح- فهذا ما يمكن تلافيه:

أولاً: بافتراض تكرار الذابح – وهو المحرك للآلة أو الذي يربط الحيوانات بها للذبح - للتسمية إلى زمان حصول الذبح بها.

وثانياً: بأن الفاصل الزماني إذا كان قصيراً بحيث يعد عرفاً بحكم المتصل بزمان الذبح شمله إطلاق ذكر اسم الله في الآية والروايات.

وثالثاً: إن زمان الذبح بكل شي ء يكون بحسبه، فإذا كان الذبح باليد فزمانه مثلاً زمان وضع السكين على مذبح الحيوان للفري، وأما إذا كان بالآلة فزمانه زمان تشغيلها وتوجيهها على الحيوان بحيث يتحقق الذبح ويترتب عليه قهراً.

وإن شئت قلت: إنه في المسببات التوليدية ينطبق عنوان المسبَّب على فعل السبب التوليدي من حينه وإن كان بينهما فاصل زمني.

أو يقال: بأن المستظهر من أدلة شرطية التسمية اشتراطها حين الشروع في الذبح والعمل الاختياري المستند إلى الفاعل المختار، وإن فُرض تحقق الذبح في الحيوان – بحيث يتصف به فعلاً- متأخراً عن ذلك زماناً.

وهذا نظير التسمية في الصيد، حيث يتحقق عنوان الصيد من حين رمي السهم أو إرسال الكلب، ولهذا يجب التسمية عنده، وإن كانت إصابة الحيوان الذي يراد صيده بالسهم أو بالكلب المعلم متأخراً زماناً.

بل لعل ظاهر روايات اشتراط التسمية في الصيد لزوم التسمية عند إرسال الكلب أو تسديد السهم ورميه. ومن هنا أفتى بعضهم بعدم الاجتزاء بالتسمية بعد ذلكإذا لم يسم حين الإرسال عمداً وإن كان قبل إصابة الصيد.

ص: 414

ففي صحيح سليمان بن خالد (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كلب المجوسي يأخذه الرجل المسلم فيسمي حين يرسله أيأكل مما أمسك عليه؟ قال: نعم; لأنه مكلب وذكر اسم الله عليه)(1)

وظاهر جواب الإمام بيان التعليل والضابطة وانطباقها على ما فرضه السائل من التسمية حين الإرسال، والذي يكون عادةً قبل إمساك الكلب للصيد.

وموثق الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: سألته عن الصيد يرميه الرجل بسهم فيصيبه معترضاً فيقتله، وقد كان سمى حين رمّى ولم تصبه الحديدة قال: إن كان السهم الذي أصابه هو الذي قتله فإذا رآه فليأكل)(2).

وأوضح منه دلالةً موثقه الآخر (قال: سالت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصيد يصيبه السهم معترضاً ولم يصبه بحديدة وقد سمى حين رمى، قال: يأكل إذا أصابه وهو يراه. وعن صيد المعراض، قال: إن لم يكن له نبل غيره وكان قد سمى حين رمى فليأكل منه، وإن كان له نبل غيره فلا)(3); لأنه قد ورد فيه قيد التسمية حين الرمي في كلام الإمام (عليه السلام) بخلاف الأول حيث ورد ذلك في كلام السائل فيحتاج فيه إلى دعوى ظهور الجواب في إمضاء ارتكاز السائل شرطية التسمية حين الرمي. فلا إشكال من هاتين الناحيتين)).(4)

أقول: الوجوه التي ذكرها (دام ظله) لتلافي الإشكال الثاني غير تامة:

أما (أولاً) فلأن تكرار التسمية حين قطع الأوداج غير مجدٍ:-

1- لأنه من ضم اللاحجة إلى اللاحجة فلا يكون حجة، أما التسمية الأولى فللفاصل الزماني حسب الفرض، وأما الثانية فلما سنقوله بعد قليل بإذن الله تعالى.

ص: 415


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 15، ح1.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 22، ح2، 3.
3- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 22، ح2، 3.
4- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 14-16.

2- إنه يؤدي إلى إرباك العمل واختلاط التسميات بين ما يعلّق –أي زمان التسمية الأولى- وبين ما يقطع –أي زمان الثانية-.

3- عدم تفهم مسوّغ لهذه التسمية الثانية إذ الواجب تسمية واحدة.

وأما (ثانياً) فلأنه:-

1- أخص من المدّعى إذ الإشكال يعمّ ما لو كان الوقت قصيراً أو طويلاً والغالب خارجاً هو الثاني بحيث يحرز العرف وجود الفاصل الزماني.

2- إن جوابه يتضمن التسليم بالإشكال فيما لو كان الفاصل الزماني معتداً به عرفاً كما هو الموجود خارجاً.

3- إن هذا الوجه يمكن تصوره فيما لو كان العلة الأخيرة من يعلّق الذبائح، أما إذا كان مشغّل الكهرباء مثلاً فإن الزمان طويل قطعاً ولا ينفع فيه هذا الحل.

وأما (ثالثاً) ففيه:-

1- إنه مجرد أطروحة لا دليل عليها ولا يساعد عليها العرف ولا ينسجم مع ظاهر الأدلة.

2- افتراض عملية تشغيل الماكنة أو التعليق سبباً توليدياً لا يخلو من إشكال لأنه ليس علة تامة وإنما هو مقتضٍ لا بد أن ينضمّ إليه عدم المانع إذ يمكن لإرادة أخرى أن تمنع من الذباحة، وسيأتي منه الاعتراف بذلك.

ولو سلّمنا ذلك فإن العرف لا يساعد على تطبيقها في المقام أي لا يكتفي بتلك التسمية مع وجود الفاصل الزماني لأن زمانها بحسب ظاهر الروايات عند فري الأوداج.

3- قياس الذبح على الصيد غير صحيح للفارق الذي سنذكره بينهما فإن التسمية في الصيد للعملية بينما في الذبح للحيوان فالفاصل الزماني في الصيد لا يضرّ لدلالة الروايات عليه وهو غير ما في الذباحة.

فبقي أمامهم خيار آخر وهو أن يسمّي من يُنسب إليه فعل الذباحة كالمشغّل أو المعلق عند وصول الحيوان لشفرة القطع، ومع ذلك فإن هذا الحل لا يخلو من إشكال لأن التسمية يجب أن تحصل عند الذباحة التي هي الفعل الذي

ص: 416

يكون له حيثية تعليلية لاتصاف الذابح بهذا العنوان وقد افترضوا في هذا الفعل أنه التعليق أو التشغيل فرجع إشكال الفاصل الزماني كما هو، فالجمع بين التسميتين بالتكرار يكون من ضم اللاحجة إلى اللاحجة.

نعم على ما ذكرناه في ((فذلكة الكلام)) لا توجد مشكلة لأن الذبيحة لم يُهلَّ بها لغير الله تعالى بل يحكم العرف بأن الذبائح مما أهل بها لله تبارك وتعالى ولو إجمالاً من دون معرفة كيفية ذلك.

وهنا فروع:

(الأول) هل يمكن الاكتفاء بتسمية واحدة لمجموعة من الذبائح المعلقة على الشريط المتحرك عند تشغيل الماكنة ونحوها أم لا بد من تكرارها عند قطع أوداج كل ذبيحة؟.

الظاهر هو الثاني؛ لأن مقتضى قوله تعالى: «وَلا تَأكُلُوا مِمّا لَمْ يُذكَر اسمُ اللهِ عَلَيهِ» وقوله: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عَلَيهِ» أن التسمية مشروطة عند ذبح الحيوان أي أنها شرط لحلية الحيوان فيتعدد الوجوب بتعدد الذبائح المتعاقبة، ولو كانت شرطاً للفعل –وهي الذباحة- من دون لحاظ المتعلق –وهو الحيوان- لأمكن الاكتفاء بالتسمية لكل عملية ذباحة بغض النظر عن عدد الحيوانات المذبوحة. فيعيدها عند كل عملية تشغيل.

وهذا من الفروق بين الذبح والصيد، فإن التسمية في الصيد للفعل بغض النظر عن المتعلق لذا لو سمّى حين إرساله الكلب المعلم وأرسله لاصطياد فريسة فصاد غيرها حلّت، أو سمّى حين رمى بالبندقية على مجموعة من الطيور ولا يعلم تحديداً من يصاب منها حلّت. بينما التسمية في الذبح: على الذبيحة أي متعلق الفعل.

نعم في ضوء ما ذكرنا في ((فذلكة الكلام)) فإنه في المكائن الحديثة حيث تصطف الحيوانات خصوصاً الطيور متقاربة والشريط يتحرك بسرعة: لا يشترط تعدد التسميات بعدد الذبائح ولا يضرّ مرور عدد متناثر من الطيور لأن المهم وقوع العملية ضمن إطار التسمية.

ص: 417

وقرّب بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) ((جواز الاكتفاء بالتسمية الواحدة بأن تشغيل الماكنة على الشريط شروع في ذبح جميع ما هو مربوط به عرفاً، فيصدق على الجميع أنه مما ذكر اسم الله عليه، وما أهل به لله.

ويؤيده كفاية التسمية في الصيد حين الإرسال وعدم الحاجة إلى تكرارها حتى إصابة الصيد مهما طال الفاصل بينهما. فإذا قصد الذابح بالآلة ذبح جميع ما على الشريط من الدجاج مثلاً بحركة تشغيل الآلة وذكر اسم الله بهذا القصد والنية فقد ذكر اسم الله عليها جميعاً وإن كان ترتب الذبح تدريجياً; لأن السبب والفعل الاختياري الصادر من الذابح في ذبح جميعها كان بتشغيل الآلة لا غير، ويكفي هذا المقدار في صدق التسمية بمعنى ذكر اسم الله عليه، ولا يشترط الذكر حين تحقق فري الأوداج، وقد طبق هذا العنوان على الصيد وإرسال الكلب المعلم الذي يكون التسمية والذكر فيه متقدماً زماناً على تحقق إمساك الصيد عادة.

وعلى هذا، قد يقال في المقام: بكفاية التسمية حين تشغيل الآلة بالنسبة لما ربط بها من الحيوانات من أجل الذبح. بل يمكن أن يقال: بعدم الاجتزاء بالتسمية حين الذبح إذا تركها عمداً حين التشغيل، نظير ما قيل في الصيد; لأن فعل الذبح إنما يصدر منه بذلك، ولا فعل آخر له بعد ذلك لتكون التسمية عنده تسمية عند ذبحه))(1).

وفيه:-

1- عدم صدق التسمية عرفاً على جميع الذبائح بهذا المقدار، مضافاً إلى مخالفتها لظاهر الأدلة كما قرّبنا.

2- إن قياس الحالة على ما في الصيد قياس مع الفارق؛ لأن في مثال الصيد المذكور حيوان واحد يذكّى والإشكال من جهة الفاصل الزماني وقد تكفّلت الأدلة بالاجتزاء به، أما في المقام فالمشكلة ليست من جهة الفاصل الزماني وإنما من جهة صدق التسمية عرفاً على جميع الذبائح.

ص: 418


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 18.

نعم يمكن توجيه تعرضه لإشكال الفاصل الزماني باعتباره من لوازم القول بكفاية التسمية الواحدة للذبائح التدريجية، فكلامه (دام ظله) دفع دخل من هذه الناحية، وإن ظهر من كلامه أنه محل البحث.

3- قوله: ((بل يمكن أن يقال: بعدم الاجتزاء بالتسمية .. )) إلخ.

أقول: هذا قول المشهور ويمكن الرد عليه بأن العبرة بالتسمية حين إصابة الحيوان وإنما اكتفي بها حين الإرسال فبضميمة استدامة القصد –أي قصد الذبح والتسمية- حتى إصابة الصيد وكأنها رخصة للصائد باعتبار عدم تعيّن الفريسة أحياناً أو عدم إدراك الصائد للحظة الافتراس ونحوه، لذا فإن من أدرك الصيد وبه حياة وجب عليه تذكيته بالذبح.

ونتيجة ذلك أن الذي يسمي حين الإصابة يكون قد حقق المطلوب بلا ضميمة.

وهذا جواب على نحو الإجمال، أما إذا أريد التفصيل فنسأل عن وجه عدم التسمية عند الإرسال فإن كان جهلاً أو غفلة أو نسياناً فإنه لا يضر بحلّية الصيد فضلاً عمّا لو سمى بعد الإرسال وقد وردت الروايات المعتبرة في ذلك، وإن كان عامداً فإن كان الإرسال لعدم قصد الصيد أصلاً وإنما لغرض آخر حرمت الذبيحة لانتفاء هذاالشرط، وإن كان قاصداً الصيد عالماً بوجوب التسمية عند الإرسال فترَكها عمداً فقد يقع التردد هنا في حلّية الصيد من جهة تركه التسمية عمداً وعدم كفاية التسمية اللاحقة لمثله كما هو المشهور، وقد يقال بكفاية التسمية لاحقاً للتقريب الذي ذكرناه وقد حُكي القول بالاجتزاء عن ((ظاهر القواعد والتحرير والشهيدين في الدروس والمسالك والروضة))(1) لوجوه ذكروها.

واستدرك (دام ظله الشريف) على تقريبه فقال: ((إلا أن هذا إنما يصح فيما إذا كان مجرد تشغيل الآلة أو ربط الحيوان بها علة تامة لترتب الذبح، بحيث لا يمكنه الحيلولة دونه بإيقاف الآلة، كما في الأسباب التوليدية كالإلقاء في النار

ص: 419


1- جواهر الكلام: 36/33.

أو رمي السهم للصيد.

وأما إذا كان بحيث يمكنه إيقاف العمل والحيلولة دون تحقق الذبح في مرحلة البقاء، فليس الفعل سببا توليدياً إلا بضم عدم المنع بقاءً، فيكون الاستناد في ذلك الزمان لا قبله، فقد لا تكفي التسمية عند تشغيل الآلة في مثل ذلك إذا كان الفاصل طويلاً، بل لا بد منها حين تحقق الذبح)).

أقول: هذا اعتراف منه بأن فعل من تنسب إليه الذباحة في المكائن الحديثة ليس من المسببات التوليدية.

ثم انتهى إلى القول: ((وعلى كل تقدير، فلا إشكال في الحلية إذا فرض تكرار الذابح بالآلة لاسم الله تعالى حتى تحقق الذبح بها))(1).

أقول: تقدم بيان الإشكال على تكرار التسمية. نعم يمكن الاجتزاء بتسمية واحدة لعدد من الذبائح فيما إذا كانت تذبح بضربة واحدة كما لو كانت شفرة القطع طويلة وتقطع عدة حيوانات في آن واحد، فإن التسمية الواحدة حين القطع تحقق شرط التسمية لكل الذبائح في القطعة الواحدة.

(الثاني) في تحديد من تجب عليه التسمية من العمال المشغّلين لماكنة الذبح:

والجواب: هو من يُنسب إليه الفعل –أي الذبح- باعتبار إقوائية سببه، أو باعتباره السبب الأخير في سلسلة علل الذبح، فقد يكون هو من يعلق الذبائح على الحزام المتحرك أو من يضغط الزر الكهربائي للتشغيل أو من يشغّل آلة القطع بعد تعليق الذبائح وتحريكها.

وقد بين ذلك بعض الأعلام المعاصرين، قال (دام ظله الشريف): ((والتحقيق: أن الذابح هو الشخص الذي يتحقق على يده الجزء الأخير من سبب الذبح، فإذا فرض أن الماكنة كانت في حالة التشغيل ويأخذ العامل الحيوان ويربطه بها الواحد تلو الآخر ليذبح أتوماتيكياً كان الذابح من يقوم بربط الحيوان لا محالة; لأنه المحقق للجزء الأخير ويكون الذبح بعد ذلك بمثابة

ص: 420


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/ 18-19.

الفعل التوليدي الصادر منه فيجب التسمية عليه.

وعندئذ يمكن أن يقال: بكفاية التسمية عند ربط كل حيوان بالآلة أو وضعه على المذبح; لأنه شروع في الذبح بها، ويكفي التسمية عنده; لصدق عنوان «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَاسْمُ اللهِ عَلَيهِ». نعم، لو كان ربطه لأجل أن يذبح فيما بعد بالآلة لا الآن لم يجزئ التسمية عنده.

وقد ينعكس الأمر بأن يفرض ربط الحيوان بالآلة أولاً ثم تشغيلها، أو يكون المسؤول عن تشغيلها شخص آخر غير من يربط الحيوان بها، كما لعله كذلك في ذبح الدجاج بالماكنة حيث يربط بشريط دائري ثم يجعل الشريط على الماكنة لتدور بها على المذبح سريعاً، ففي مثل ذلك يكون تشغيل الماكنة أو وضع الشريط عليها هو الجزء الأخير من السبب، فيكون المسؤول والمتصدي لذلك هو الذابح فيجب تسميته. ولو كان بفعل أكثر من واحد كفى تسمية واحد منهم في صدق ذكر اسم الله على الذبيحة، وما تقدم من عدم كفاية تسمية غير الذابح لا يخرج إلا ما إذا كانت التسمية من الأجنبي لا المشارك في الذبح الذي يكون ذابحاً أيضا))(1).

(الثالث) لا يجزي في التسمية ما نقله البعض من وضع آلة تسجيل تردد التسمية عند الذبح لاشتراط صدورها من الذابح لا من غيره، مضافاً إلى ((أن عنوان ذكر الله أو التسمية متقوّم بقصد المعنى والالتفات إليه، ولهذا لو تلفّظ به الذابح غير قاصد لمعناه أصلاً لم يكن مجزياً، لعدم كونه ذكراً لاسم الله))(2).

(الثالثة) عدم تحقق الاستقبال:

وهذه المشكلة يمكن حلّها بترتيب وضع الماكنة وكيفية تعليق الذبائح ليكون مذبحها باتجاه القبلة حين قطع الأوداج، إذ لا يشترط أزيد من ذلك ككون

ص: 421


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/17.
2- قراءات فقهية معاصرة: 2/19.

كل مقاديم الذبيحة إلى القبلة، كما لا يشترط مع الاستقبال أن تكون بحال الاضطجاع على جنبها الأيسر وإن استحب ذلك فيمكن أن تكون معلقة حين الذبح، وهذا كله تقدّم في تفاصيل شرط الاستقبال.

وذكر بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) وجهاً للتخلص من ((مشكلة الاستقبال بجعل من لا يرى وجوب الاستقبال عليها من سائر المذاهب الإسلامية، فتكون الذبيحة محللة; لما تقدم من عدم الشك في حلية ذبيحتهم لنا، وقد استفدناه من صحيح ابن مسلم، واستفاده المشهور أيضاً من روايات عدم التعمد، فمن ناحية الاستقبال لا مشكلة في الذبح بالمكائن))(1).أقول: يقصد (دام ظله الشريف) دلالة صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة فقال: كل ولا بأس بذلك ما لم يتعمده)(2)

على حلية ذبائح عامة المسلمين، بدلالة صحيحته الأخرى قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل ذبح ذبيحة فجهل أن يوجهها إلى القبلة، قال: كل منها، فقلت له: فإنه لم يوجهها؟ قال: فلا تأكل منها)(3) وقد قرّب دلالتها بقوله (دام ظله): ((فخروج ذبائح المسلمين – من أبناء المذاهب الأخرى - عن عنوان العمد في الروايات ليس بملاك أن جهلهم بشرطية الاستقبال يجعلهم غير عامدين للذبح إلى غير القبلة، ليقال بأن الجهل بالحكم لا يرفع عنوان العمد إلى الموضوع، بل لعدم قصدهم مجانبة القبلة))(4).3).(3).

وعلى تقريبنا أن المحرِّم للذبيحة هو تعمد الذبح لغير القبلة لا تعمد عدم الذبح إلى القبلة وفعلهم هو من النحو الثاني فلا يكون محرِّماً وتجنبنا بذلك إشكال المشهور حول من تمسّك بكونهم جاهلين للحكم فأشكلوا من جهة صدق العمد عليهم.

لكن المشهور تمسّك لحلية ذبائحهم بسوق المسلمين وقد رددناه بأنه لا

ص: 422


1- قراءات فقهية معاصرة: 2/47.
2- و (3) وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 14، ح3، 2.
3- (4) قراءات فقهية معاصرة: 2/ 42.

ينفعهم لأن هذه الروايات لا تثبت حلية ذبيحة من تعمد عدم الاستقبال منهم، لما قلناه من أن مشهورهم وإن لم يوجبوا الاستقبال لكنه عندهم سنة لا ينبغي تركها، ومن لم يعمل بها منهم يشكّل شبهة غير محصورة لا تنجّز وجوب الاجتناب.

فالحل الذي ذكره (دام ظله الشريف) غير مجدٍ على مذهب المشهور إذا تعمّد الذباحون من عامة المسلمين عدم الذبح إلى القبلة لشمولهم بالنهي الوارد في صحيحة محمد بن مسلم، ويتأكد الإشكال فيما لو كانوا عمالاً يعملون بأمر المعتقد لولاية أهل البيت (عليهم السلام) كما هو ظاهر كلامه ((بجعل من لا يرى وجوب ...)) لأنهم حينئذٍ بمثابة الآلات لأنهم السبب الأضعف باعتبار أنهم أجراء مأمورون فيكون الآمر قد ارتكب ما يوجب حرمة الذبيحة.

هذا كله بناءً على ما مشوا عليه، أما في ضوء ((فذلكة الكلام)) التي أسسناها فيما سبق فلا إشكال لأن هؤلاء التاركين للاستقبال لم يتعمدوا الإهلال لغير الله تعالى بالذبيحة ولم يتعمدوا الذبح لغير القبلة بشرط عدم كون عملهم بأمر.

(الرابعة) كون آلة الذبح من الحديد

واستشكل من جهة عدم كون آلة القطع في الماكنة من الحديد أي الفلزّ المعروف.

وجوابه: على فرض صحة ذلك فإنه لا إشكال فيه على مبنانا من أن المراد بالحديد ما كان حاداً قاطعاً والشفرة في المكائن الحديثة كذلك.

(الخامسة) قطع الرأس خصوصاً في الدجاج وإبانة الرأس محرّمة للذبيحة

وجوابه: إن إبانة الرأس ليست محرّمة للذبيحة ولا الجزء المبان والنهي عنها تكليفي وقد تقدم.

ص: 423

إشكالات أخرى:

وأضاف علمٌ معاصر آخر (دامت بركاته) إشكالات أخرى، قال (دامت بركاته):-

((1- إن الغالب في هذه الطريقة –أي الذبح بالمكائن الحديثة- أن يجتمع معها الصعق بالكهرباء قبل وصول الحيوان إلى الآلة الذابحة بوقت قصير؛ لغرض أن يكون الحيوان مشلولاً ومنعدم الحركة، فإذا أضفنا إلى ذلك قول المتخصصين بأن بعض الحيوانات يموت بهذا الصعق فحينئذٍ يحصل عندنا علم إجمالي بموت بعض الحيوانات قبل إجراء التذكية لها، وبهذا لا يمكن الحكم بحلّ أي ذبيحة من هذه الحيوانات التي نعلم بحصول ميتة فيها وهي شبهة محصورة))(1).

أقول: لا يمكن الجزم بموت البعض فهي شبهة بدوية لا أثر لها، ولو فُرض حصول علم إجمالي بموت البعض فإن الأفراد المشتبهة تكون من قبيل الشبهة المحصورة بل الغالب عدم كونها كذلك؛ لندرة ما يموت من الحيوانات باعتبار أن قوة الكهرباء غير قاتلة، فلا بد من مراعاة تحقق مناط الشبهة المحصورة.

((2- إن الذبيحة المعلقة على الشريط الدوّار ليست كلها على نسق واحد من ناحية الطول، وحينئذٍ فقد تضرب الآلة الحادة موضع الذبح وقد تضرب الرأس نفسه أو الصدر، وحينئذٍ لا تكون كل الحيوانات مذكاة لحصول علم إجمالي بقتل بعضه لما ليس ذبحاً شرعياً.

وحينئذٍ لا يمكن الحكم بحل هذه الطريقة إلا إذا تأكدنا من أن الحيوان الذي صعق بالكهرباء لم يمت وقد ذبحته الآلة الحادة في موضع التذكية)).

أقول:-

1- المفروض مراعاة كون حجم الطيور المعلقة بحجم ووضع تقطع الشفرة أوداجها فيرد هنا ما ذكرناه من عدم الجزم.

2- يمكن القول بالتفصيل بين إمكان إدراك ما لم يذبح من المحل المتعارف وعزله وإعادته إلى شريط الذبح أو ذبحه يدوياً بإقامة عمال يراقبون

ص: 424


1- بحوث في الفقه المعاصر: 2/247.

الحيوانات الخارجة من محل القطع، وما لم يمكن فيه ذلك أي عدم إدراكه حياً فقد يقال بإلحاقه بالدابة المستصعبة حيث يجوز قتلها في أي جزء من بدنها لاهتمام الشارع المقدس بمال المسلم وعدم رضاه بتلفه بعد فرض كون العامل قد بذل وسعه في توفير شروط التذكية الشرعية، فتأمل!.

وعلى أي حال فيمكن معالجة هذه المشكلة بما ذكرناه من إقامة العمال المذكورين ومراعاة تناسق وضع الطيور المعلقة.ثم نقل (دامت بركاته) عن بعض الدراسات الأكاديمية(1)

طرقاً أُخر للذباحة منها:-

1- تدويخ الحيوان قبل الذبح بأشكال عديدة:

(منها) بضرب العظم الجبهي بمطرقة ضخمة تحدث ألماً شديداً للحيوان وتفقده الوعي وينهار مباشرة ثم يتم ذبحه، ويُتعامل بها مع الحيوانات الكبيرة، وهي طريقة قديمة تخلّت عنها المجازر الحديثة.

(ومنها) الصدمة بإمرار تيار كهربائي إلى صدغي الحيوان يحدث فقدان الوعي مباشرة.

(ومنها) بواسطة المسدس الواقذ الذي يحدث ثقباً في جوف الجمجمة.

أو التدويخ بثاني أوكسيد الكربون أو التخدير بحقنه بمادة مخدرة.

والحكم: هو عدم حرمة الذبيحة باستعمالها ما دامت لإفقاده الوعي فقط ما لم تؤدِّ إلى موته قبل التذكية، أما إذا كان حيّاً حين التذكية –كما هو المفروض وتستكشف الحياة بحركة الحيوان ونحوه مما تقدم- فلا بأس.

نعم لا تخلو بعض هذه الطرق من إيلام للحيوان وهو منهي عنه، فإذا أُريد راحته فباتباع أحكام الشريعة وآدابها لما يمرّ به الحيوان من حالة معنوية أثناء إجراء سنن الله تبارك وتعالى فيه، مضافاً إلى ما قيل من أن نزف الدم يستغرق وقتاً أطول من المعتاد عندما يُعرَّض الحيوان لحالات

ص: 425


1- بحث بعنوان ((الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة)) للدكتور محمد الهوادي الأستاذ بجامعات ألمانيا من صفحة 21-25.

التدويخ المختلفة وهذا يعني بقاء كمية من الدم في البدن تؤدي إلى فساد اللحم.

2- الخنق بالطريقة الإنجليزية:

((وهي طريقة تعتمد على خرق جدار الصدر بين الضلعين الرابع والخامس، ومن خلال هذا الخرق يُنفخ بمنفاخ فيختنق الحيوان نتيجة لضغط هواء المنفاخ على رئتي الحيوان، وهذا الاختناق يحول دون نزيف الدم وإنهاره))(1).

والحكم: حرمة الحيوان بهذه الطريقة لموته بالخنق، وكذا يحرم بكل طريقة تؤدي إلى موته بالخنق وغيره كإطلاق غاز ثاني أوكسيد الكربون في غرف مقفلة يؤدي إلى موته.

ولا أدري ما جدوى استعمال هذه الطرق المتضمنة لكثير من المفاسد كموت الحيوان وإيلامه وفساد لحمه وما جدوى استعمالها بدلاً من طريقة الذبح المعروفة؟

مع ملاحظة التناقض في قوانينهم في هذا المجال حيث ((أن القوانين الغربية التي لا تجيز تسويق لحوم الحيوانات الميتة لا تشترط بوضوح في طريقة التدويخ أن لا تؤدي إلى موت الحيوان قبل الذبح، وطريقة الخنق الإنجليزية شاهد على ذلك)).

ص: 426


1- بحوث في الفقه المعاصر: 2/250.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.