فقه الخلاف بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية : التكليف والطهارة المجلد 1

هوية الكتاب

اسم الكتاب: فقه الخلاف- بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

مؤلف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دامه ظله)

عدد المجلدات: 12ج

السنة : 1441ه - 2020م

الناشر : دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

فقه الخلاف

بحوث استدلالية في مسائل فقهية خلافية

الجزء الأول

التكليف والطهارة

المرجع الديني الشيخ

محمد اليعقوبي (دام ظله)

الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة

النجف الأشرف - 1441 ه-/2020م

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

مقدمة فيها موعظة وتذكير

مقدمة فيها موعظة وتذكير(1)

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق المبعوث رحمة للعالمين محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

موضوع بحثنا الاستدلالي هي المسائل الخلافية ولا نعني بها مطلق المسائل التي تعددت فيها آراء الفقهاء واختلفت لأن ذلك يعني استغراق أبواب الفقه كلها إذ لا توجد مسائل تحقق فيها إجماع مطبق إلا في الضروريات، ويتضح الحال من التحقيق في كثير من الإجماعات المدعاة كما سيظهر من البحث.

وإنما نريد بالمسائل الخلافية تلك المسائل التي أصبحت ساحة لسجال علمي عميق ودقيق بين الفقهاء وهي معدودة ويشار لها بالبنان في كتب الفقه. ومثلها تُعجّل في صقل المواهب وتختصر الطريق لأن العمر أقصر من استيفاء الخوض في كل المسائل.

على أننا سنلاحظ في المسائل المختارة حيثيات أُخر كأن تكون المسألة ابتلائية كَثُر السؤال عنها ويراد معرفة تفاصيل حالاتها كمسألة من طُلقت طلاقاً غير صحيح في المحاكم الرسمية وتزوجت آخر أو الوقوف مع العامة في عرفة أو ثبوت الهلال في البلدان المختلفة في آفاقها، أو يستفاد منها في علاج مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو أنها تتضمن بحوثاً من العلوم الأكاديمية العصرية كالرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء؛ للتأكيد على أهمية توظيف

ص: 5


1- الكلمة التي افتتح بها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بحثه الشريف يوم 2/شعبان/1427 الموافق 2006/8/27، وقد نقّحها سماحته لتكون مقدمة للكتاب.

هذه العلوم في عملية الاستنباط الفقهي والذي تترتب عليه ثمرات عديدة أشرنا إليها في مقدمة كتابنا (الرياضيات للفقيه).

كما أن إشاعة مثل هذه البحوث التي تتعرض للآراء الفقهية عند المخالفين هي جزء من ثقافة الحوار مع الآخر وفهم حججه مهما كان الموقف منها تساهم في التقارب وإزالة التشنج إذا تم التعامل مع الآراء بموضوعية وإنصاف لأنها ستكسر حواجز الانغلاق والتعصب. وستجد العذر والدليل لمواقف الآخرين مما يخفف الاحتقان تجاههم، ونقصد بالآخر التنوع الفقهي داخل مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) ومع المدارس الفقهية الأخرى خارجها، حيث سنتعامل معها بنفس الإنصاف والموضوعية والمعايير العلمية للترجيح.

وفي ضوء هذا نعلم القيمة الكبرى لكتب الفقه المقارن مثل الخلاف والتذكرة والمنتهى وأمثالها التي تمثل مدرسة علمية منفتحة ومنصفة وموضوعية.ولإثراء البحث الاستدلالي باعتبار أن هذا النمط منه –أي البحث الاستدلالي في المسائل الخلافية- لا يكتفي بالتعامل مع الدليل -أي لا يكتفي بالاستدلال على القول المختار في المسألة- كما هو شأن البحوث الاستدلالية، وإنما يتوسع ليشمل وجهات النظر المعروضة من قبل الأساطين وغير المعروضة مما يحتمل ورودها في المسألة ويقارن بينها بعد تحليلها وتقييمها ومعرفة أسباب اختلاف الفقهاء ومناشئ أقوالهم وسينمي تلاقحاً فكرياً عميقاً. وسيعطي قدرة أكبر وصورة أوضح لاختيار الرأي الأصوب؛ لأنه يتيح رؤية هذه الصورة الأوسع للأقوال والاحتمالات في المسألة مع الاستدلال على تلك الأقوال.

وبناءً على ذلك فإن مرتبة البحوث الخلافية أرقى من البحوث الاستدلالية وأوسع أفقاً وإدراكاً؛ لأن الثانية تكتفي بالاستدلال على الحكم في المسألة مع إجابة ما يمكن أن يرد عليه من الإشكالات، أما الأولى فتتوسع لمناقشة الآراء المحتملة في المسألة وهذا يتطلب ذهنية وقّادة لإدراك تلك المحتملات، واطلاعاً واسعاً لمعرفة تلك الأقوال، وتحقيقاً معمقاً لمعرفة مباني وأدلة تلك الأقوال أو ما يمكن أن يكون كذلك؛ لأن بعض الفقهاء ليس لهم كتب استدلالية فلا بد من صناعة الدليل لهم.

ص: 6

وهذه المراحل قطعها الشيخ الطوسي (قدس سره) عند تأليف كتابه (الخلاف)، فقد ألف أولاً كتاب (النهاية) في الفقه وذكر فيه المسائل الفقهية المتلقاة من نصوص المعصومين (عليهم السلام)، ثم ألّف كتاب (المبسوط) وذكر فيه الفروع الفقهية المستنبطة من تلك المسائل الأصلية، ثم ألف كتاب (الخلاف) وذكر فيه ((مسائل الخلاف بيننا وبين من خالفنا من جميع الفقهاء من تقدم منهم ومن تأخر، وذكر مذهب كل مخالف على التعيين، وبيان الصحيح منه وما ينبغي أن يعتقد))(1).

هذه كلها ثمرات وفوائد توخّيناها عندما اخترنا البحث في المسائل الخلافية -وهي لعمري تستحق أن يُبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيقها- بلطف الله تبارك وتعالى.

وللبحث –مضافاً إلى ذلك- خصائص أُخر لا تخفى على المتأمل، ولعل من أوضحها أنه يقدم المسألة كمنظومة كاملة من مقدماتها وأجزائها وتفاصيلها وفروعها والمسائل المرتبطة بها في أبواب الفقه كافة؛ لتظهر الروايات والأحكام فيها كبناء متسق يُعرف موضع كل جزء منها، خلافاً للطريقة التقليدية التي تتناول كل مسألة على حدة مما قد يؤدي إلى عدم اكتمال الصورة وربما حصول التناقض بين موارد ذكرها في الأبواب المتعددة من الفقه، وإن هذا الاتساق في البناء أصبح قرينة لاعتماد بعض الروايات ضعيفة السند أو غير واضحة الدلالة.

وقد جعلت عنوانه (فقه الخلاف) لا (الفقه المقارن) الذي هو أليق بالمصطلحات المعاصرة لما قيل من أن الثاني يقتصر على سرد الآراء المختلفة والاكتفاء بعرضها دون الاستدلال عليها والحكم بترجيح بعضها الذي يتكفل به الأول والتعريف محل خلاف «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً» (النساء : 82).

ولا يفوتني هنا أن أعظ نفسي بما نُقل عن المرحوم الشيخ الأنصاري (قدس سره) أنه دخل المسجد يوماً فوجد أستاذاً يدرّس كتابه المكاسب وهو يشرح المطالببعيداً عن مراد مؤلفه الأنصاري فجلس ناحية يبكي ولما سُئل عن

ص: 7


1- كتاب الخلاف للشيخ الطوسي: 1/45، المقدمة.

السبب أجاب إن هذا الأستاذ إنما ناقش مطالبي بسبب أنه لم يفهم مرادي ولعلّي أنا حينما ناقشت الفقهاء العظام لم أكن أفهم مرادهم فتكون إساءة بحقهم.

أقول: على هذا الأدب الرفيع يجب أن تسير نقاشاتنا، وبحسن الظن هذا والإكبار والإجلال نؤسس للحوار والنقاش، ليبارك لنا الله تعالى في حركتنا فننتفع أعظم النفع والفائدة مما سطّره السلف الصالح ونستنطق علومهم وأفكارهم ونوصل ذلك كله إلى الفضلاء من طلبة العلم ليستفيدوا وليرتقوا في مراتب العلم وليواصلوا حمل الأمانة التي تفضّل علينا الله تبارك وتعالى بها وهي نشر فقه أهل البيت (سلام الله عليهم) وعلومهم ومعارفهم.

وإن في هذا إدخالاً للسرور على النبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) فقد ورد عنهم (عليهم السلام) (رحم الله عبدا أحيا أمرنا.. يتعلم علومنا ويعلّمها الناس)(1)

ولتبقى الحوزة العلمية الشريفة منجبة للفقهاء الذين يقول الإمام الباقر (عليه السلام) لأحدهم وهو أبان بن تغلب (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك)(2).

وبالمقابل فقد كان يحزن الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) لموت العلماء وتعطيل حلقات العلم فلما مات أبان بن تغلب قال الإمام الصادق (عليه السلام) (أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان) وكان إذا قدم المدينة تقوضت إليه الحلَق وأُخليت له سارية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في عدد من كبار الفقهاء من أصحابه (بشّر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبا بصير ليث بن البختري المرادي ومحمد بن مسلم وزرارة أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست)(4)

وقال (عليه السلام) فيهم (هم أحبُّ الناس إليّ أحياءً

ص: 8


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: 180.
2- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي: 622.
3- رجال ابن داوود الحلي: 29.
4- اختيار معرفة الرجال: 398.

وأمواتاً)(1) وورد عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من حفظَ من أمتي أربعين حديثاً مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)(2) ويريدون عليهم السلام بالحفظ حفظ الدراية والوعي وعدم الاقتصار على حفظ الرواية.

فتذكروا عظيم نعمة الله عليكم إذ يسّر لكم هذا السبيل وزيّنه لكم ووفقكم الله بلطفه وتذكروا أن الفقيه حينما يبلغ درجة الاجتهاد ويصبح قادراً على الاستنباطوممارسة الاستدلال الفقهي والتعاطي مع نصوص القرآن الكريم وأقوال المعصومين (عليهم السلام) فإنه يتلقى الأحكام من المعصوم (عليه السلام) مباشرةً من خلال النص الذي يتعامل معه بعد أن يطمئن إلى صدوره من المعصوم (عليه السلام) في حين كان قبل ذلك يتلقى الأحكام من الفقهاء ويعمل برؤيتهم وهم مهما بلغوا من جلالة القدر لا يرقون الى درجة المعصوم وهذا التلقي المباشر من المعصوم شرف ما بعده شرف.

نسأل الله تعالى

أن يجعلنا من حفظة دينه

وناشري الهداية والدعاة إلى الله والأدلاء على طاعته

حتى يحشرنا مع الأنبياء والأئمة والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقاً.

ص: 9


1- اختيار معرفة الرجال: 347.
2- الخصال للصدوق، أبواب الأربعين وما فوقه، باب 15.

ص: 10

ميزة الطبعة الثانية

يختلف ترتيب هذه الطبعة عن سابقتها بأن الطبعة الأولى كانت تصدر أجزاؤها تباعاً بحسب الترتيب الزماني لتناول المسائل في بحث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي، وكان المعيار في اختيار المسائل الفقهية أهميتها الاجتماعية والفائدة العلمية لتنمية ملكة الاستنباط لدى الفضلاء لأنها كانت تتضمن مسائل كثر الجدال فيها بسبب العمق الفكري لموضوعها أو بسبب خطورة انعكاسها على المجتمع، لذا كان الجزء الواحد منها قد يضم مسألة في الطهارة ومسألة في الصوم ومسألة في الزكاة..

أما هذه الطبعة فقد روعي فيها ترتيب المسائل بحسب مواضيعها في الأبواب الفقهية المسماة بالكتب وهي: التكليف والطهارة والصلاة.. لتسهل مراجعتها وقراءتها وفق التصنيف المعروف في موسوعات البحوث الفقهية.

وقد جعلنا أولى المسائل من كتاب التكليف وهي علامات البلوغ لأن مقتضى الصناعة الفنية تعريف المكلّف وشروطه والتكليف وأقسامه قبل الدخول في المكلَّف به وهي الأحكام الشرعية، بينما تتناول الكتب الفقهية هذه المسألة في كتاب الصوم أو في كتاب الحج لمناسبةٍ ما. وتبدأ الكتب الفقهية بالطهارة باعتبارها مقدمة الصلاة التي هي عمود الدين.

وتبقى أبواب هذه الموسوعة الفقهية القيمة مفتوحة ما أطال الله في عمر سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله الشريف) وأدام درسه الفقهي، وذلك لأنه لم يتناول كل مسائل الأبواب الفقهية بالبحث وانتقى بعضاً منها للغرضين المذكورين آنفاً، ولكنه في الأجزاء المتأخرة انتقل من المسائل المنفردة إلى مباحث تتفرع منها فتاوى ومسائل، وهو ما يخلق بيئة من مقدمات تصورية وتصديقية لاستنباط الأحكام في المسائل التي لم تبحث، وهي ميزة تسير بالصناعة الفقهية إلى استنباط منظومات للمسائل الفقهية بدل التفكير بكل مسألة على حدة.

وسنفقد بهذا الترتيب الجديد لمسائل البحث ميزة وهي متابعة تطوّر بحث سماحة الشيخ المرجع حيث بدأ بحثه الشريف خلال السنوات الأولى

ص: 11

بإجراء المقارنة بين آراء المعاصرين ثم توسّع عمودياً وأفقياً بعد ذلك، ويمكن إدراك هذه الميزة بملاحظة تواريخ البحوث.

ص: 12

البحث الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته

اشارة

ص: 13

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته

البحث الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته(1)

تكتسب المسألة أهمية كبرى لكون البلوغ موضوعاً للتكليف، فإذا بلغ الإنسان وُضع عليه قلم التكليف بعد رفعه عنه بسبب الصغر، ويستقل البالغ بتصرفاته ويرفع عنه الحجر، وتجري الحدود الكاملة على البالغ دون غيره، ولا يجوز الدخول بالزوجة إلا إذا بلغت، فلا عجب أن يرد موضوع البلوغ في أبواب عديدة من الفقه كما سيتّضح من توزيع رواياته بإذن الله تعالى.

البلوغ لغةً وعرفاً:

قال الراغب: ((البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكاناً كان أو زماناً، أو أمراً من الأمور المقدرة))(2).

وفي جواهر القاموس ((بلغ الغلام: أدرك، وبلغ في الجودة مبلغاً، كما في العباب، وفي المحكم: أي احتلم، كأنه بلغ وقت الكتاب عليه والتكليف، وكذلك: بلغت الجارية، وفي التهذيب: بلغ الصبي والجارية إذا أدركا، وهما بالغان))(3).

فالبلوغ فيما نحن فيه اكتمال القوى لدى الإنسان، فإنها تحصل عنده تدريجياً فيكتمل بعضها في بطن أمه –كأجزاء بدنه- وبعضها خلال مرحلة الطفولة كالحواس إلى أن يصبح مميزاً ثم تبرز عنده القوة الجنسية وتنبعث الحياة في جهازه

ص: 15


1- بدأ تدريس هذا البحث يوم 13/صفر/1430 الموافق 2009/2/9.
2- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة (بلغ).
3- تاج العروس من جواهر القاموس، ج22، مادة (بلغ).

التناسلي بعد خمول وركود فيخرج من حد الطفولة ليبلغ الذكر مبلغ الرجال وتبلغ المرأة مبلغ النساء.

وهذا المعنى في اللغة هو ما يعرفه العرف أيضاً.

وتقترن هذه المرحلة –التي هي بداية المراهقة عند الإنسان- بتغيرات سايكولوجية وفسيولوجية ونفسية يفصّل بيانها علماء الطب والنفس والسلوك والفسيولوجي. وقد اختلفوا في تحديد هذا السن فبينما يرى كثيرون أنه في الثانية عشرة(1)،

يقول آخرون: ((وتحديد هذا السن بالثانية عشرة أمر افتراضي)) و ((إنالفتاة تصل البلوغ قبل الفتى، كما أن نضجها العاطفي يكمل قبل الفتى)) ((كما أنه يختلف بين حضارة وأخرى وبين موقع جغرافي وآخر، كما يتأثر بالتغذية وبموقف المجتمع المعين من الممارسات الجنسية. وهذا الواقع يفسر حدوث البلوغ في وقت مبكر في المناطق الحارة على خلاف تأخره في المناطق الباردة كما يفسّر التناقص المتزايد في ابتداء سن البلوغ في المجتمعات الغربية بالقياس إلى ما كان عليه في الماضي بسبب تحسن التغذية من ناحية وبسبب التسامح في التعبير الجنسي من ناحية أخرى))(2).

وقالوا أيضاً: ((يعتبر البلوغ الحد الأدنى لسن المراهقة، وعلى العموم يعتبر سن الثانية عشرة سن بداية البلوغ، غير أن لهذا الرقم أن ينقص أو يزيد تبعاً لما سبق وبيناه من ظروف اجتماعية أو بيئية أو حضارية، إضافة إلى الفروق الفردية في عمليات التحول البايولوجي والتي يعتبر البلوغ نتيجة أساسية لها، وهناك عدة مظاهر مميزة لمرحلة البلوغ، وهذه المظاهر مترابطة في أساسها كما أنها مترابطة في اتجاهاتها ومدلولاتها، فالبلوغ في الأساس عملية بايولوجية مقررة الحدوث في مرحلة زمنية معينة من مراحل النمو، ويبدأ ذلك بإثارة الغدة النخامية لإفراز الهرمونات التي تؤدي بدورها إلى إثارة الغدد الجنسية وإفراز هرموناتها الخاصة بالنسبة للفتى أو الفتاة، ونتيجة ذلك تبدأ عملية التحول

ص: 16


1- الطب محراب الإيمان، الدكتور خالص جلبي كنجو: 1/68.
2- النفس، انفعالاتها وأمراضها وعلاجاتها، الدكتور علي كمال، الطبعة الرابعة 1989، 2/678.

الفسيولوجي الذي يؤدي إلى ظهور علامات ومظاهر الخصائص الجنسية الثانوية التي تميز كلاً من الفتى والفتاة، وإلى التغيير المفاجئ في نمو الجسم بشكل عام، وكل هذه التغييرات الجنسية والجسمية تدلل على تجاوز مرحلة الطفولة إلى مرحلة جديدة، عبر عنها أحدهم بالقول: (قبل البلوغ يكون الواحد طفلاً، وبعد البلوغ يستطيع أن ينجب طفلاً) هذا ولا تقتصر حالة البلوغ على التغييرات الجنسية، بل تشمل الحياة العاطفية التي ترتبط بوضوح بالتغييرات البايولوجية المشار إليها.

إن أهم ما تتصف به مرحلة البلوغ يتعلق بالنواحي الجنسية، سواء كانت هذه النواحي واضحة أو متسترة، وهو الأمر الغالب، وهذا الواقع هو أمر طبيعي، ذلك أن الدافع الجنسي يكون في هذه المرحلة طاقة بالغة القوة، يدركها البالغ على صورة شعور من الضيق يتحدد في المجال الجنسي، ويدفعه إلى محاولة التفريج عنه بوسيلة أو أخرى. وشعور البالغ والبالغة بالفيض الطارئ من الطاقة الجنسية يتفاوت بين فرد وآخر تبعاً للفروق الفردية التي تقرر سرعة عملية البلوغ، كما أن آثار هذه الطاقة تتوقف إلى حد بعيد على التجارب ذات المدلولات الجنسية في فترة الطفولة وكيفية تصريفها والصراعات النفسية التي قامت بسبب ذلك. ولعل أهم العوامل المؤثرة في الحياة الجنسية في دور البلوغ هو مدى وطبيعة القيود التي تفرضها العائلة أو المجتمع على وسائل تصريف الطاقة الجنسية والتي تتراوح بين الصرامة والشدة وبين الإباحة والتسامح))(1).

والنتيجة أن معنى البلوغ ومفهومه واضح لغةً وعرفاً وعلمياً؛ قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((المراد بالبلوغ الذي هو في اللغة الإدراك: بلوغ الحلم، والوصول إلى حد النكاح بسبب تكوّن المني في البدن، وتحرك الشهوة والنزوع إلى الجماع، وإنزال الماء الدافق الذي هو مبدأ خلق الإنسان بمقتضى الحكمة الربانية فيه وغيره من الحيوان لبقاء النوع، فهو حينئذٍ كمال طبيعي

ص: 17


1- النفس، انفعالاتها وأمراضها وعلاجاتها: 2/680.

للإنسان يبقى به النسل، ويقوى معه العقل، وهو حال انتقال الأطفال إلى حد الكمال والبلوغ مبالغ النساء والرجال))(1).

البلوغ في الشريعة:

يمكن أن نتصور معنيين للبلوغ في الشريعة:

(الأول) المعنى الطبيعي المتقدم فجعل الشارع المقدس هذه المرحلة التي يخرج بها الإنسان من حد الطفولة إلى حد الرجولة هي حد التكليف.

(الثاني) أن يراد معنى جعلي اعتباري حدده الشارع المقدس على نحو الحقيقة الشرعية بغضّ النظر عن الحد الطبيعي وجعل وصول الإنسان إلى هذا الحد (بلوغاً) لأنه يبلغ به حد الوضع والتكليف الذي حدده الشارع المقدس.

والفرز بين هذين المعنيين، أو قل: الإجابة عن السؤال: على أي من المعنيين تحمل الأدلة التي جعلت البلوغ مناطاً للتكليف، وكيف ننظر إلى العلامات التي ذكرها الشارع المقدس للبلوغ ولتحمل التكاليف، هل إنها إرشاد لتلك الحالة الطبيعية أم أنها تأسيس لحدود مرحلة من عمر الإنسان يصل بها إلى استحقاق الدخول في حرم التشريف.

وهذا هو مفتاح حل الخلاف بين الأعلام عند حديثهم عن تحديد سن البلوغ.

فالمشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً حينما ذهب إلى بلوغ الأنثى بإكمال تسع سنوات، هل يعني ذلك أن التسع حد جعله الشارع المقدس للتكليف حتى وإن كنّا نقطع بأن الأنثى ما زالت في دور الطفولة ولا زالت بعيدة عن علامات البلوغ، أم أن التسع تحديد لإرشاد المشتبه والشاك كي يقطع تردده بهذا السن؟ مقتضى فتاواهم الأول أي أنه حد مجعول من الشارع لذا فهم يعتبرونه سنّ التكليف مطلقاً حتى وإن كنّا نقطع بأن الأنثى ما زالت في دور الطفولة، وفي مقابل ذلك فإنهم يبنون على أن البلوغ هو مناط التكليف.

ص: 18


1- جواهر الكلام: 26/4.

ونستطيع القول هنا ليس من باب استباق النتائج ولكن لتخفيف مؤونة المناقشة: أن الشرع المقدس –بمقتضى الروايات الآتية- لم يؤسس معنىً اعتبارياً للبلوغ، وإنما وضع علامات وأرشد إلى جملة من الأمور الكاشفة عن البلوغ لرفع الاشتباه والشك من جهة تحققه خارجاً بعد وضوح معناه، باعتبار أنه تدريجي الحصول وببطء فيعسر تحديد مبدأه مع ارتباط كثير من الأحكام به فتدخل الشارع المقدس لإرشاد المكلفين إلى ما يرشدهم إلى تحقق معناه، أما الأحكام المهمة في نظر الشارعكالعبادات واجتناب بعض المحرمات فقد حثّ أولياء الأمور على تدريب الصبيان عليها قبل حد البلوغ بمدة.

فالعلامات الآتية المستفادة من الروايات ليست مقابل المعنى اللغوي والعرفي والطبي للبلوغ وإنما هي إرشاد له، كما تدخل الشارع المقدس في بيان علامات كون الخارج منياً بدلالة الشهوة والفتور والدفق ليرجع إليها عند الشك والاشتباه فلو علم أن الخارج منيّ رتّب عليه الأثر وإن لم تحصل العلامات المذكورة لمرض ونحوه، وليست المسألة كالكرّ الذي هو تحديد شرعي جعلي للتمييز بين الماء القليل والكثير، وليست كمسافة القصر التي لولا البيان الشرعي لم يعرف حد التقصير.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((إن البلوغ من الأمور الطبيعية المعروفة في اللغة والعرف، وليس من الموضوعات الشرعية التي لا تُعلم إلا من جهة الشرع كألفاظ العبادات)) وقال (قدس سره): ((إن من المعلوم لغة كالعرف كون الغلام متى احتلم بلغ وأدرك، وخرج عن حد الطفولية ودخل في حد الرجولية وكذا الجارية إذا أدركت وأعصرت فإنها تكون امرأة، كغيرها من النساء. نعم، يرجع إلى الشرع في مبدأ السن الذي يحصل به البلوغ مثلاً إذا حصل فيه الاشتباه، بخلاف الاحتلام والحيض والحمل ونحوها مما لا ريب في صدق البلوغ معها لغةً وعرفاً، ولو للتلازم بينها))(1).

ص: 19


1- جواهر الكلام: 26/5.

وقبل البحث في علامات البلوغ ينبغي أن نثبت حقيقة أن البلوغ هو مناط التكليف وشرطه في الشريعة.

البلوغ مناط التكليف

وقد دل عليه القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع.

أما من القرآن الكريم فقد دلت على هذا المعنى آيات عديدة بتعابير منوعة وهي:

(الأولى) قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ(1)

مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (النور: 58).

(الثانية) قوله تعالى: «وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (النور: 59).

(الثالثة) قوله تعالى: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْوَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى باللهِ حَسِيباً» (النساء: 6).

(الرابعة) قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» (الأنعام: 152).

(الخامسة) قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» (الإسراء: 34).

ص: 20


1- تقريب الاستدلال بالآية مع أنها مسوقة لبيان حكم من لم يبلغوا الحلم، من حيث جعل بلوغ الحلم مناطاً للتمييز في الأحكام والآثار، فيجب الاستئذان قبله في أوقات محددة، وبعده مطلقاً، نظير إقامة الحدود فإنها لا تقام على غير البالغين كاملة وإنما على نحو التعزير، وتقام كاملة بعد البلوغ.

والتعابير الثلاثة (بلوغ الحلم، بلوغ النكاح، بلوغ الأشد) تشير إلى معنى واحد وهو معنى البلوغ الذي شرحناه وقد جعلته الآيات الكريمة مناطاً للأحكام (الاستئذان في الدخول في أوقات الخلوة ومظنة التكشف، ورفع الحجر عن أموالهم وتسليمها إليهم واستقلالهم بالتصرف).

وتقريب رجوع هذه التعابير إلى معنى واحد يسير:-

1- (بلوغ الحلم) قال الراغب: ((أي: زمان البلوغ، وسُمّي الحُلُم لكون صاحبه جديراً بالحلم)) وكان قد عرّف الحلم بأنه ((ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام، قال تعالى: «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ» (الطور: 32)، وفي حديث صلاة الجماعة: (لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنهى) أي ذوو الألباب والعقول، وأحدها حِلمٌ بالكسر، وكأنه من الحلم: الأناة والتثبّت في الأمور وذلك من شعار العقلاء))(1).

فالحلم في الآية الشريفة يراد به (الاحتلام) وقد فسّر بأن ((المراد منه هنا خروج المني مطلقاً، سواء كان في النوم أو اليقظة، وليس المراد منه معناه اللغوي الذي هو الرؤية في المنام، فإنه قد يتحقق بدون خروج المني كما أن خروج المني ربما يتحقق بدونه، والعبرة حينئذٍ في البلوغ بالخروج دون الرؤية))(2).

وقد رد عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((إنه لو كان الاعتبار بالاحتلام لزم أن لا يتحقق البلوغ في الرجال ما لم يتحقق الاحتلام، وإن نكحوا وأولدوا وهو واضح البطلان)) لذا قوّى (قدس سره) ((كون العلامة الاستعداد لخروج المني بالقوة القريبة من الفعل، وذلك بتحريك الطبيعة والإحساس بالشهوة سواء انفصل المني معه عن

ص: 21


1- مفردات ألفاظ القرآن، مادة (حلم).
2- النهاية لابن الأثير، مادة (حلم).

الموضع المعتاد أو لم ينفصل، لكن بحيث لو أراد ذلك بالوطء أو الاستمناء تيسر له ذلك))(1).

وسيأتي مزيد من التفصيل عند الحديث عن علامة (الاحتلام) بإذن الله تعالى.

(بلوغ النكاح) ومعناه بلوغهم حداً يتمكنون فيه من النكاح وهو كناية عن القدرة على الجماع والإنزال ((أو الحد الذي يمكن فيه الاحتلام، وليس المراد1- بالبلوغ الاحتلام لأن في الناس من لا يحتلم أو يتأخر احتلامه))(2)، وقد أجمع الفقهاء على عدم دفع المال إلى اليتيم إلا إذا بلغ واستُئنس منه الرشد.

2- (بلوغ الرشد) وهي مرحلة من العمر تبدأ من البلوغ قال تعالى: «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» (الحج: 5) وتنتهي بالكهولة لذا جعلت في القرآن الكريم بين الطفولة والشيخوخة قال تعالى: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» (غافر: 67) وقرن بينها وبين الأربعين سنة، قال تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (الأحقاف: 15) ((وهي تدل على أن البلوغ أمر تدريجي له مراتب من القوة والشدة، وإن الشارع جعل المرتبة البدائية منه موضوعاً للأحكام))(3).

ص: 22


1- جواهر الكلام: 26/11.
2- قلائد الدرر للشيخ أحمد الجزائري (قدس سره): 2/352.
3- رسالة في البلوغ للشيخ جعفر سبحاني: 14.

وقد أكّدت الروايات هذا التفسير ففي صحيحة(1)

هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (انقطاع يتم اليتيم الاحتلام وهو أشده وإن احتلم ولو يؤنس منه رشد وكان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك وليه ماله)(2)

وخبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله تعالى: «حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ» قال: الاحتلام)(3) الحديث، وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما وجب على المحتلمين)(4) الحديث.

لا يقال: إننا لو سلّمنا بصحة هذه النتيجة فإنها مختصة بالأحكام التي وردت فيها الآيات كوجوب الاستئذان وتسليم أموالهم إليهم ولا تعم كل الأحكام.

فإنه يقال: إن التعميم يحصل بضم ما دلّ من آيات وروايات على كون البلوغ شرطاً موحداً للأحكام كافة، وقام عليه الإجماع، وسيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.وأما دلالة السنة الشريفة على كون البلوغ مناطاً للتكليف فقد كان بألسنة شتى:

(منها) ما دل صريحاً على ذلك.

ص: 23


1- وصف صاحب الجواهر (قدس سره) الرواية بالخبر (الجواهر: 26/10) إشارة لتضعيفه وهو كذلك بلحاظ نقل الصدوق في الفقيه فإن طريقه إلى منصور بن حازم الذي روى عن هشام ضعيف لكن يظهر من طريق الشيخ الطوسي (قدس سره) إلى منصور أن للصدوق طريقاً آخر إلى منصور وهو صحيح وطريق الشيخ عن جماعة عن أبي جعفر بن بابويه عن ابن الوليد عن الصفار عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب وإبراهيم بن هاشم عن ابن أبي عمير وصفوان عنه مضافاً إلى أن الشيخ (قدس سره) رواها بطريق صحيح عن منصور.
2- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، في أحكام الوصايا، باب 44، ح9، 8، 11.

(ومنها) ما دل على أن علامات البلوغ كالاحتلام ونبات الشعر الخشن على العانة ونحوها مناط للتكليف.

(ومنها) ما دل على كون البلوغ مناطاً لبعض الأحكام كرفع الحجر عن الصغير وإقامة الحدود الكاملة عليه ووجوب الحج ونحوها وبضميمة ما يأتي بإذن الله تعالى من عدم الفرق في الأحكام من حيث شرط تعلقها بالمكلف فتكون النتيجة كون البلوغ مناطاً للتكليف.

وسنذكرها في الفقرات الآتية من البحث ويكفي الآن ما ذكرناه من الروايات الثلاث وحديث الرفع المتسالم عليه المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ((الذي رواه المخالف والمؤالف بل عن ابن إدريس أنه مجمع على روايته (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه) وعلى كل حال فهو حديث مشهور رواه الفريقان وذكره أصحابنا في كتب الفروع والإمامة في مطاعن الثلاثة))(1).

وخبر الصدوق (رضوان الله عليه) في الخصال عن ابن ظبيان قال: (أُتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال علي (عليه السلام): أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة؛ عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ)(2).

وخبر حمّاد بن عيسى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: (لا حدّ على مجنون حتى يفيق، ولا على صبي حتى يدرك، ولا على النائم حتى يستيقظ)(3).

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن الغلام متى يجب عليه الصوم والصلاة، قال: إذا راهق الحلم وعرف الصلاة والصوم)(4).

ص: 24


1- جواهر الكلام: 26/10.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادة، باب 4، ح10.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدمات الحدود، باب 8، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 29، ح6.

وخبر سليمان بن حفص المروزي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال في حديث: (وإن الصبي لا يجري عليه القلم حتى يبلغ)(1).

ومرسل جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام): (في الرجل يطلق الصبية التي لم تبلغ ولا يحمل مثلها، فقال: ليس عليها عدة وإن دخل بها)(2).وصحيحة يزيد الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها (قلت: فإن زوّجه أبوه ودخل بها وهو غير مدرك، أتقامُ عليه الحدود وهو في تلك الحال؟ قال: أما الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجل فلا، ولكن يُجلد في الحدود كلها على قدر مبلغ سنّه يؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة، ولا تبطل حدود الله في خلقه، ولا تبطل حقوق المسلمين في ما بينهم)(3) الحديث.

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يقذف الصبية، يُجلد؟ قال: لا حتى تبلغ)(4)

ومثلها غيرها في نفس الباب.

وصحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: (يؤخذ الغلام بالصلاة وهو ابن سبع سنين، ولا تغطي المرأة شعرها منه حتى يحتلم)(5).

وصحيحه الآخر عن الرضا (عليه السلام) قال: (لا تغطي المرأة رأسها من الغلام حتى يبلغ الغلام)(6).

وخبر حمزة بن حمران عن حمران قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة وتقام عليه ويؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم وأدرك، قلت: فلذلك حدّ يعرف به؟ فقال: إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك أقيمت عليه الحدود التامة وأُخذ بها وأُخذت له، قلت: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامة وتؤخذ بها ويؤخذ لها، قال: إن الجارية ليست مثل الغلام إن الجارية إذا تزوجت ودُخل

ص: 25


1- مستدرك الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 2، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 6، ح9.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد القذف، باب 5، ح4.
5- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 126، ح3، 4.

بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودُفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع وأُقيمت عليها الحدود التامة وأُخذ لها وبها، قال: والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يُشعر أو ينبت قبل ذلك)(1).

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث (في غلام صغير لم يدرك ابن عشر سنين زنى بامرأة محصنة قال: لا تُرجم، لأن الذي نكحها ليس بمدرك ولو كان مدركاً رُجمت)(2).

وموثقة أبي مريم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في آخر ما لقيته عن غلام لم يبلغ الحلم وقع على امرأة وفجر بامرأة، أي شيء يصنع بهما؟ قال: يضرب الغلام دون الحد ويقام على المرأة الحد، قلت: جارية لم تبلغ وجدت مع رجل يفجر بها؟قال: تضرب الجارية دون الحد ويقام على الرجل الحد)(3)

ومثلها غيرها في نفس الباب.

وخبر قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ قال: إذا احتلم، وعرف الأخذ والعطاء)(4).

ومعتبرة علي بن الفضل الواسطي في قرب الإسناد والكافي قال: (كتبت إلى الرضا (عليه السلام) رجل طلّق امرأته الطلاق الذي لا تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره، فتزوجها غلام لم يحتلم، قال لا حتى يبلغ، فكتبتُ إليه: ما حد البلوغ؟ فقال: ما أوجب الله على المؤمنين الحدود)(5).

ص: 26


1- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح2.
2- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد الزنا، باب 9، ح2.
4- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح7.
5- وسائل الشيعة: كتاب الطلاق، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه، باب 8، ح1. وكتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، 7.

وخبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشفّع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كتبت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات)(1).

وخبر الصدوق في الفقيه بسنده عن حماد بن عمر وأنس بن محمد عن أبيه جميعاً عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (يا علي لا يُتْم بعد احتلام).

وخبره الآخر (على الصبي إذا احتلم الصيام وعلى المرأة إذا حاضت الصيام)(2)، ومثله خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفي ذيله: (الصيام والخمار)(3).3).(2).

وروى أبو علي ابن الشيخ الطوسي (قدس الله سريهما) بسند صحيح عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا رضاع بعد فطام ولا وصال في صيام، ولا يتم بعد احتلام)(4).(3).

وموثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن ابن عشر سنين يحجّ، قال: عليه حجة الإسلام إذا احتلم وكذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت)(5).(4).وموثقة الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: (لا يجوز طلاق الغلام حتى يحتلم)(6)(5)ومثلها موثقة ابن بكير.

ص: 27


1- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح1، 9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 29، ح7.
3- مستدرك الوسائل، ج1، كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح1،2، 10.
4- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 12، ح1.
5- (6) وسائل الشيعة: كتاب الطلاق، أبواب مقدماته وشرائطه، باب 32، ح5، 8.

وخبر إسماعيل بن عيسى قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن وصيّ أيتام تدرك أيتامه فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم فيأبون عليه كيف يصنع؟ قال (عليه السلام): يردُّه عليهم ويكرههم على ذلك)(1).

وأما الإجماع فلأن الأصحاب (قدس الله أرواحهم) يجعلون البلوغ موضوع الأحكام وجريان التكليف ويجعلون الاحتلام وإنبات الشعر والعمر دليلاً عليه، ويعنونون به مسائلهم كانقطاع اليتم وزوال الحجر وإقامة الحدود فالكليني (قدس سره) يُعنْون مجموعة من الروايات في الباب الأخير من كتاب الوصايا في الكافي بعنوان (بيان حد البلوغ)، والشيخ الصدوق (قدس سره) يعنون بعض أبوابه في كتاب الوصية من الفقيه (ما جاء فيمن يمتنع من أخذ ماله بعد البلوغ) و (الوصي يمنع الوارث ماله بعد البلوغ) وعنون باباً في الخصال ب-(حد بلوغ الغلام ثلاث عشرة سنة إلى أربع عشرة سنة) وقال الشيخ الطوسي (قدس سره): ((الإنبات دلالة على بلوغ المسلمين والمشركين: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم)).

وقال (قدس سره): ((يراعى في حد البلوغ في الذكور: بالسن خمس عشرة سنة)) وقال (قدس سره): ((لا يدفع المال إلى الصبي، ولا يفك حجره حتى يبلغ بأحد ما قدمنا ذكره))(2).

وقال القاضي ابن البراج في كتاب الوصية: ((وحدّ بلوغ الغلام احتلامه أو كمال عقله أو أن يشعر، وحدّ بلوغ المرأة تسع سنين، فإذا حصل الغلام على أحد هذه الوجوه فقد حصل في حدّ الكمال، ووجب على وليه تسليم ماله إليه وتمكينه منه، ومن التصرف فيه، وإذا بلغت المرأة تسع سنين جاز تصرفها في مالها، وكان أمرها فيه ماضياً على سائر الوجوه))(3)

وقال ابن حمزة الطوسي: ((وبلوغ الرجل يحصل بأحد ثلاثة أشياء: الاحتلام والإنبات وتمام خمس عشرة

ص: 28


1- فروع الكافي، ج7، كتاب الوصايا، باب 39: الوصي يدرك أيتامه، ح1.
2- الخلاف: 3/281-283،كتاب الحجر،المسائل 1-3.
3- المهذب: 2/119.

سنة))(1)، وقال ابن زهرة الحلبي: ((البلوغ يكون بأحد خمسة أشياء: السن وظهور المني والحيض والحلم والإنبات، بدليل إجماع الطائفة))(2)،

وقال ابن إدريس (قدس سره): ((وحده –أي البلوغ- إمابالاحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة أو الإنبات أو خشونة العانة))(3)،

وقال المحقق (قدس سره) في الشرائع: ((البلوغ الذي يجب معه العبادات: الاحتلام أو الإنبات أو بلوغ خمس عشرة سنة في الرجال على الأظهر وتسع في النساء))(4)،

وقال (قدس سره) في المختصر النافع: ((ولا يزول حجر الصغير إلا بوصفين: الأول البلوغ وهو يعلم بإنبات الشعر الخشن على العانة))(5)،

وحكى صاحب الحدائق (قدس سره): ((الإجماع نصاً وفتوىً على إناطة الوجوب الشرعي بالبلوغ))(6)

وقال مثله العلامة (قدس سره) في القواعد وشارحه جامع المقاصد وغيره.

ونتيجة البحث في هذا الفصل أن مناط التكليف وشرطه هو البلوغ، وهذا أمر معقول لأن البلوغ يعني اكتمال القوى لدى الإنسان وتأهله لتحمل مسؤولية خلافة الله تعالى في الأرض والأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان. وقد عبر عنه القرآن ب-(الأشُدّ) التي تعني القوة.

أما الأمور المذكورة فهي علامات للدلالة عليه باعتباره تدريجي الحصول ويخفى على الآخرين مع تعلق جملة من الأحكام به فتدخل الشارع المقدس لبيان العلامات الطبيعية أو التعبدية الكاشفة عنه.

ومن الشواهد على أن المناط في التكليف البلوغ، وأن العلامات مشيرة إليه وكاشفة عنه وليس أنها بنفسها حدود للتكليف، اشتراطهم في صحة الحكم على السائل الخارج بأنه مني، وعلى الدم الخارج أنه حيض حصوله في وقت

ص: 29


1- الوسيلة: 137.
2- الغنية: 251.
3- السرائر: 1/367.
4- شرائع الإسلام: 1/147.
5- المختصر النافع: 140.
6- الحدائق الناضرة: 13/179.

يمكن فيه البلوغ ويحتمل، أما مع القطع بعدمه فلا، قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((وحدُّه عندنا في جانب القلة في الأنثى تسع سنين، وأما في جانب الذكر فما وقفتُ له على حد يمتدّ به، نعم، نقل في التذكرة عن الشافعي أن حدّه تسع سنين في الذكر والأنثى، وله فيها وجهان آخران أحدهما مضي ستة أشهر من السنة العاشرة والثاني تمام العاشرة، ولا يبعد أن ما بعد العاشرة محتمل))(1).

وسنتناول البحث فيها على قسمين (أولها) للذكور و (ثانيهما) للإناث.

علامات بلوغ الذكر

1-الاحتلام:

وقد دلت عليه الآيات الكريمة المتقدمة والروايات التي فسّرته، ودلت عليه روايات أُخر منها ما تقدم في خبر طلحة بن زيد وخبر حمزة بن حمران وخبر علي بنجعفر في قرب الإسناد وموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ فقال: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم)(2).

وموثقة أبي بصير وداود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن يتيم قد قرأ القرآن وليس بعقله بأس، وله مال على يد رجل، فأراد الذي عنده المال أن يعمل به مضاربة فأذن له الغلام فقال: لا يصلح له أن يعمل به حتى يحتلم ويدفع إليه ماله، قال: وإن احتلم ولم يكن له عقل لم يدفع إليه شيء أبداً)(3).

وصحيحة البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: (يؤخذ الغلام بالصلاة وهو ابن سبع سنين، ولا تغطي المرأة شعرها منه حتى يحتلم)(4).

ص: 30


1- مسالك الأفهام: 4/143 كتاب الحجر.
2- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح12.
3- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، في أحكام الوصايا، باب 45، ح5.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 74، ح3.

ومرسلة العياشي في تفسيره عن عبد الله بن أسباط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: إن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟ فكتب إليه: أما اليتيم فانقطاع يُتمه أشدّه وهو الاحتلام إلا أن لا يؤنس منه رشد بعد ذلك فيكون سفيهاً أو ضعيفاً فليشد عليه)(1).

ورواه الصدوق (قدس سره) في الخصال(2)

بسند صحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وقد ذكرنا في تفسير الآيات الكريمة أن الأقوال في معنى الاحتلام ثلاثة:-

1- الإنزال في النوم لأخذ الحلم في معناه وهي الرؤية في المنام كما حكي عن بعض أهل اللغة. ((لكن الظاهر أن النوم غير معتبر في البلوغ اتفاقاً، كما في الكفاية))(3).

2- الإنزال مطلقاً، لعدم الخصوصية في النوم والعبرة في خروج المني الكاشف عن البلوغ، وإنما أُطلق عليه الاحتلام باعتبار أن خروجه عند البلوغ يكون غالباً في النوم، وهذا مختار جملة من الأساطين كالمحقق والعلامة (قدس الله روحيهما) قال المحقق في الشرائع: ((من علامات البلوغ خروج المني الذي يكون منه الولد من الموضع المعتاد))(4)، وتبعه العلامة (قدس سره) في القواعد على ذلك(5).

3- تحقق النضج الجنسي لدى الذكر وفاعلية جهازه التناسلي بحيث تتحرك شهوته وتحصل له القدرة على إخراج المني بالجماع ونحوه وإن لم يُنزل.

ص: 31


1- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، في أحكام الوصايا، باب 45، ح12.
2- نقلها عنه في مستدرك الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح6. وفي آخرها (فيمسك عليه وليه) بدل (فليشد عليه) في تفسير العياشي.
3- رياض المسائل: 9/239.
4- شرائع الإسلام: 2/351، كتاب الحجر.
5- قواعد الأحكام: 2/133.

وقد اخترنا الثالث لأنه معنى البلوغ الذي أُخذ موضوعاً للأحكام، وبه فسّر العلماء والفقهاء قوله تعالى: « حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ» (النساء:6)، قال الشيخ الجزائري (قدس سره): ((المراد ببلوغ النكاح الحد الذي يقدرون معه على المواقعة والإنزال، أو الحد الذي يمكن فيه الاحتلام، وليس المراد بالبلوغ الاحتلام لأن في الناس من لا يحتلم أو يتأخر احتلامه))(1)

واختاره صاحب الجواهر (قدس سره) وقد نقلنا كلامه.

ويمكن استظهار هذا المعنى من عدة روايات كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما وجب على المحتلمين احتلم أو لم يحتلم، وكتب عليه السيئات وكتبت له الحسنات وجاز له كل شيء إلا أن يكون ضعيفاً أو سفيهاً)(2)

فقوله (عليه السلام): (احتلم أو لم يحتلم ) أي أنزل فعلاً بالاحتلام أو لم ينزل ما دام قد بلغ سن النضج الجنسي المعبر عنه ببلوغ الأشد كما قدمنا في تفسير الآيات الكريمة.

وبدون الحمل على هذا المعنى يقع التناقض بين الصدر الذي أناط التكليف ببلوغ الأشد المفسَّر بالاحتلام وقوله (عليه السلام) لاحقاً: (احتلم أو لم يحتلم).

إن قلتَ: هذا معنى مبهم فكيف يمكن جعله مناطاً للأحكام وهو بهذا الغموض، عكس الإنزال الفعلي، مضافاً إلى أن علماء السايكولوجيا يقولون بأن الميل إلى الجنس الآخر موجود حتى في سن الطفولة، بل أرجعوا حتى تعلق الطفل بثدي أمه من باب الميول الجنسية.

قلتُ: مرادنا بما ذكرناه ليس مطلق ما يدخل في التصرفات الجنسية كانتصاب الذكر أو محاولة التعرف على الجنس الآخر، فإنها موجودة في عمر الطفولة وليس منشأها البلوغ وإنما حب الاستطلاع واستكشاف الأشياء الغريبة كالجنس الآخر ونحوها، أما مقصودنا بالبلوغ فهي ما تعرف بحالة المراهقة

ص: 32


1- قلائد الدرر: 2/352.
2- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 44، ح11.

المعروفة بالشبق وهيجان الشهوة والميل للاتصال بالجنس الآخر ونحوها، وهي حالة وجدانية لا يعرفها إلا صاحبها، ولكن لها علامات تدخّل الشارع المقدس لبيانها، كما أنها تؤثر على سلوكيات المراهق بشكل واضح مهما حاول إخفاءها عن الآخرين، كما أنها تترافق مع علامات ظاهرية كنبات الشعر ونحوه.

وخبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عز وجل: «حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ» قال: الاحتلام، قال: فقال: يحتلم في ست عشرة وسبع عشرة سنة ونحوها، فقال: لا إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات، وجاز أمره إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً)(1)

فقوله(عليه السلام): (لا) أي ليس المعيار بلوغ حالة الإنزال الفعلي الذي قد يتأخر إلى السادسة عشرة أو السابعة عشرة وإنما المناط بلوغ الأشُد الذي فسره (عليه السلام) بالاحتلام في صدر الحديث، وإلا فيقع التناقض الذي أشرنا إليه آنفاً.

ورواها الصدوق (رضوان الله عليه) في الخصال بسند صحيح عن أبي الحسين آدم بياع اللؤلؤ عن عبد الله بن سنان وفيها: (قلت: قد يكون الغلام ابن ثمان عشرة سنة أو أقل أو أكثر ولم يحتلم، قال: إذا بلغ وكتب عليه الشيء ((ونبت عليه الشعر)) جاز عليه أمره إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً)(2).

وخبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: في ثلاث عشرة أو أربع عشرة، قلت: فإنه لم يحتلم فيها، قال: وإن كان لم يحتلم فإن الأحكام تجري عليه)(3).

بتقريب أن السن لم يؤخذ على نحو الموضوعية وإنما الكاشفية عن البلوغ، وقد نفى السائل احتلامه الفعلي، فلا يبقى مسوّغ لتكليفه إلا حصول القدرة على الاحتلام في هذا السن.

ص: 33


1- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 44، ح8.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحجر، في أحكام الحجر، باب 2، ح5.
3- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، في أحكام الوصايا، باب 45، ح3، 12.

وقد يشكل البعض على القول المختار بأنه يلزم منه ((الحكم بالبلوغ قبل الاحتلام والإنزال بمجرد قدرته عليه، وإلا كان الاحتلام كاشفاً عن البلوغ لا بلوغاً بنفسه، لسبق القدرة على النكاح على الاحتلام عادة، ولازمه وجوب قضاء ما فاته قبل الاحتلام، وهو أمر لا يمكن الالتزام به، بل ظاهر الروايات أن الاحتلام بنفسه بلوغ وليس كاشفاً عن سبقه كما هو ظاهر الفتاوى))(1).

أقول: لا مانع من الالتزام به لأن البلوغ هو مناط التكليف بمقتضى الأدلة المتقدمة وإن للبلوغ علامات فإذا تحقق بكاشفية واحدة منها حكم بالبلوغ وترتبت عليه الآثار والأحكام وإن لم يخرج منه المني.

وقد ذكرنا الأدلة على أن المراد بالاحتلام: القدرة على النكاح وإنزال المني وليس الإنزال الفعلي.

2- نبات الشعر على العانة

حكى الشيخ (قدس سره) إجماع الفرقة على أن ((الإنبات دلالة على بلوغ المسلمين والمشركين))(2)،

ونقل صاحب الجواهر (قدس سره) عن العلامة في التذكرة قوله: ((نبات هذا الشعر دليل على البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا)).واستدل صاحب الجواهر (قدس سره) بهذا الإجماع ((مؤيداً بالعادة))(3)

وبعدد من الأخبار المروية من الطرفين.

فمن تلك الروايات صحيحة يزيد الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها: (قلت: فالغلام يجري في ذلك مجرى الجارية؟ فقال: يا أبا خالد إن الغلام إذا زوجه أبوه ولم يدرك كان بالخيار إذا أدرك وبلغ خمس عشرة سنة أو يشعر في وجهه أو ينبت في عانته قبل ذلك)(4)

الحديث.

ص: 34


1- مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الخامس، صفحة 209.
2- الخلاف: 3/281، كتاب الحجر، المسألة (1).
3- جواهر الكلام: 26/6.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 6، ح9.

وخبر حمزة بن حمران المتقدم، وخبر أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) أنه قال: (عرضهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذٍ –يعني بني قريظة- على العانات، فمن وجده أنبت قتله، ومن لم يجده أنبت ألحقه بالذراري)(1).

وصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة في صفحة 33.

وخبر عوالي اللئالي: (أن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم وأمر بكشف مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت فهو من الذراري وصوّبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) )(2).

فهذه العلامة موافقة للعادة وأرشدت إليها الروايات، ولعل الإجماع مستند إليها.

ونوقش (الإجماع) صغرىً وكبرى، أما الصغرى ((فإن الشيخ الصدوق والمفيد لم يذكرا الإنبات دليلاً على وجوب الصوم على الصبي، كما تقدمت عبارتهما، الأمر الذي يكشف عن عدم اعتبارهما الإنبات دليلاً على البلوغ، بل إن الطوسي نفسه لم يذكر الإنبات في المبسوط –كما تقدم- وإنما ذكر الإشعار، وتبعه القاضي ابن البراج كما مرّت عبارته، وكل ذلك شاهد على أنه لا إجماع في البين))(3)

ويرد عليه أن عدم الذكر أعم من عدم الاعتماد لأنهما ليسا في مقام الاستقصاء والحصر كما هو واضح من عبارتهما لمن راجع. وأما الكبرى فالمناقشة بكون الإجماع مدركياً واردة.

ونوقشت الروايات بضعف سند خبر أبي البختري الموصوف بالكذب وخبر حمزة بن حمران به فإنه لم يوثق بعنوانه، نعم، وثّقه البعض –ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره)- بكونه من آل أعين المعلوم جلالتهم وعظم منزلتهم وبرواية صفوان وابن أبي عمير وعدد كثير من المشايخ عنهم وهي

ص: 35


1- وسائل الشيعة: أبواب مقدمة العبادة، باب 4، ح8.
2- مستدرك الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح5.
3- مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الخامس، صفحة 209.

كبرى لم نعتمدها، وبعبد العزيز العبدي الذي رواها عن حمزة وهو لم يوثق بل ضعفه النجاشي، لكن صاحب الجواهر(قدس سره) قال: ((لم ينصّ عليه بمدح ولا ذم، لكن رواية الحسن بن محبوب وخصوصاً في كتاب المشيخة المعروف بالاعتماد قد يحصل منه الظن بعدالته))(1)

وهو كما ترى، مع تصريح النجاشي بالتضعيف، وقيل في ردّه أن التضعيف كان لاحتمال ((وجود الغلو في عقيدته الذي لا ينافي صدق لسانه ويؤيده احتمال اتحاده مع عبد العزيز بن عبد الله الذي روى الأربلي في كشف الغمة ما يدل على وجود الغلو فيه))(2)

وبغض النظر عن توثيق السند فقد قيل باعتبار الخبر من جهة ((انجباره بالشهرة العظيمة ومحكي الإجماع)) وهي كبرى غير تامة.

هذا ولكن الإنصاف أن متن الرواية متين ومن مبانينا في التعاطي مع الروايات عدم الاكتفاء بجهالة راوٍ ونحوها لرد الرواية لأن الأمد بينهم وبين من كتبوا في أحوال الرجال بعيد، وإن حال عدد كبير من فضلاء الحوزة وطلبتها يخفى على المتابع الخبير المعاصر لهم فكيف بالبعيد زمناً.

ووصف السيد السبزواري (قدس سره) الرواية بالصحة وأنها ((من محكمات أخبار الباب ومبيّناتها ومما يشهد متنه بصحة سنده كما لا يخفى على أهله ولا بد من رد غيره إليه أو طرحه عند المعارضة))(3).

ونوقشت رواية يزيد الكناسي بأنه لم يرد توثيق بعنوانه، ويرد عليه أن كنية يزيد الكناسي أبو خالد كما ورد في الرواية، وحينئذٍ يحصل ظنٌّ راجح بأنه متحد مع يزيد أبي خالد القمّاط الكوفي الذي قال عنه النجاشي: ((يزيد أبو خالد القماط الكوفي، ثقة)) لعدة قرائن:-

1- إن النجاشي ذكر يزيد أبا خالد القمّاط فقط وقال عنه كوفي ثقة له كتاب، وذكر الشيخ في رجاله في أصحاب الباقر (عليه السلام) تارة وفي أصحاب

ص: 36


1- جواهر الكلام: 26/26.
2- رسالة في البلوغ للشيخ جعفر السبحاني: 24 عن قاموس الرجال: 6/178.
3- مهذب الأحكام: 21/137.

الصادق (عليه السلام) تارة أخرى يزيد أبا خالد الكناسي فقط فلو كان متعدداً لم يحصل هذا الإغفال منهما.

2- إذا صح ما قيل أن يزيد أبا خالد القماط ((لم يرد إلا مكنّىً بأبي خالد القماط من دون الاسم))(1) فإن إعطاء النجاشي اسم يزيد له مع عدم وروده في مروياته يعني أنه اعتمد على وحدة الاسم.

3- إن يزيد أبا خالد القماط كوفي والكناسي نسبة إلى الكناسة وهو اسم موضع في الكوفة صلب فيه الشهيد زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام)، فنُسب يزيد مرة إلى المحلة ومرة إلى المدينة وهذا متعارف.

ويؤيد التحقيق هذا التطابق بتقريب: أن الكُناسة بالضم –لغةً: القمامة، وقال المؤرخون(2)

أنها اسم لحيّ في الكوفة كان فيه سوقها ومركز تجارتها،وكان يُصلب فيها من يحكم عليه بالقتل وكانت محلاً لرمي الأنقاض عند مخرج الكوفة من الغرب، ويوجد فيها سوق البراذين، أي السوق الذي يتم فيها شراء وبيع الحمير والبغال والإبل والعبيد، مثلما هو الحال في سوق الغنم الواقعة إلى الشرق من الكناسة. والقِماط –بالكسر- ((حبل يُشدّ به الأخصاص وقوائم الشاة للذبح)) و ((قمّطه أي شد يديه ورجليه كما يفعل بالصبي في المهد)) و ((الخُصّ البيت من القصب؛ ومنه الحديث: (الخُصّ لمن إليه القمط) يعني شد الحبل))(3) فتقريب التأييد أن من الطبيعي أن تكون سوق القمّاطين في الكناسة التي يجري الذبح فيها فالنسبة إليهما متحدة.

واستبعد هذا الاتحاد بين الاسمين بوجهين:-

1- إن البرقي ذكر أبا خالد الكناسي ويزيد أبا خالد القماط في أصحاب الصادق (عليه السلام) المشعر بالتعدد، ويرد عليه أن كثيراً من الرواة ترد

ص: 37


1- مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الخامس، صفحة 211.
2- راجع (تأريخ الكوفة) للسيد حسين البراقي، و(خطط الكوفة) للمستشرق ماسينيون.
3- مجمع البحرين: ج2، مادة (كنس) و (قمط) و (خصص).

أسماؤهم بهذا الشكل المتعدد وهو متحد ويذكر أرباب الرجال كل العناوين مثل (محمد بن أبي عمير، ومحمد بن زياد، ابن أبي عمير، أبو أحمد الأزدي، أبو أحمد محمد بن زياد الأزدي) وقد يشيرون إلى الاتحاد وقد يخفى.

2- إن روايات يزيد الكناسي أكثرها عن الإمام الباقر (عليه السلام) وقليل منها عن الإمام الصادق (عليه السلام) بخلاف يزيد أبي خالد القماط؛ فإنها على العكس من ذلك، وهو لم يرد إلا مكنى بأبي خالد القماط دون الاسم.

ويرد عليه بعد فرض التسليم بهذا الادعاء: أنها حالة معروفة أن شخصاً يكون معروفاً بلقب وكنية في زمان ويعرف بغيرها في زمان آخر كأن كان قماطاً ثم ترك العمل وهكذا. وإن الشيخ (قدس سره) عنونه في رجاله بنفس العنوان في أصحاب الباقر (عليه السلام) تارة، وفي أصحاب الصادق (عليه السلام) تارة أخرى، فلا نتوقع إذن أن الراوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) هو غير الراوي عن الإمام الصادق (عليه السلام).

3- اختلاف من يروي عنهما ((فيروي عن يزيد أبي خالد القماط: درست بن منصور وعلي بن عقبة وإبراهيم بن عمر وصفوان بن يحيى ومحمد بن أبي حمزة ومحمد بن سنان، ويروي عن يزيد الكناسي: هشام بن سالم وأبو أيوب وجميل بن صالح وحسن بن محبوب وعلي بن رئاب))(1).

ويرد عليه: أن الرواة عنهما من طبقة واحدة مع تقدم وتأخر لبعضهم عن بعض، مضافاً إلى أن في من ذُكر من روى عنهما كالحسن بن محبوب الذي روى عن (أبي خالد الكوفي) و (يزيد الكناسي)(2).ونلفت النظر إلى أن سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) وصفها بالصحة بناءً على قراءة (بُريد) وليس (يزيد) وإنه (بريد بن

ص: 38


1- رسالة في البلوغ للشيخ جعفر السبحاني: 25.
2- معجم رجال الحديث: 5/95.

معاوية) الثقة، ولكنه (قدس سره) قال: ((ولكن هذا غير واضح)) ((ولم يثبت أن من صفات بريد بن معاوية أنه كناسي))(1).

وعلى أي حال فإن الإنبات من العلامات الطبيعية التي تقتضيها العادة، والروايات إرشاديه إليها، فالنقاش فيها غير مضرّ، وإنما توسعنا فيه لأن صحيحة يزيد تضمنت أحكاماً كثيرة.

وهاهنا فرعان ذكرهما صاحب الجواهر (قدس سره) وهما:-

1- ((إنما اعتبر الأصحاب الخشونة مع عدم التقييد به في النصوص لمعلومية عدم اعتبار الزغب والشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغر، ولأن الخشن هو المعهود في اختبار البلوغ فيحمل عليه الإطلاق لوجوب صرفه إلى المعهود))(2).

2- إن ((التقييد بالعانة لإخراج سائر الشعور فلا يكون دليلاً على البلوغ، وفي المسالك (لا عبره بها عندنا، وإن كان الأغلب تأخرها عن البلوغ، إذ لم يثبت كون ذلك دليلاً شرعاً خلافاً لبعض العامة) قلت: هو قواه في صوم الروضة فقال: (وفي إلحاق اخضرار الشارب ونبات اللحية بالعانة قول قوي) وقال الشيخ في المبسوط في كتاب الحجر: (لا خلاف أن نبات اللحية لا يحكم بمجرده بالبلوغ، وكذلك ساير الشعور، وفي الناس من قال إنه علم على البلوغ وهو الأولى، لأنه لم تجر العادة بخروج اللحية من غير بلوغ)، وفي كتاب الصوم (وحدّه –أي البلوغ - الاحتلام في الرجل، والحيض في النساء، والإنبات والإشعار) إلى آخره. وفى النهاية (وحدّ بلوغ الصبي إما بأن يحتلم أو يكمل عقله أو يشعر) وعن ابن البراج في المهذب (وحد بلوغ الغلام احتلامه أو كمال عقله أو يشعر) وفي التحرير (الأقرب أن إنبات اللحية دليل على البلوغ، أما باقي الشعور فلا) وحكى في التذكرة عن الشافعية وجهين في إلحاق اللحية والشارب بالعانة،

ص: 39


1- ما وراء الفقه: 2/182 من طبعة بيروت.
2- جواهر الكلام: 26/7.

أحدهما الإلحاق ثم قال: (ولا بأس به عندي بناءً على العادة القاضية بتأخر ذلك عن البلوغ، بل هو لا يخلو من قوة للعادة، وللخبرين السابقين الذين لا يقصر سندهما عن حجية أخبار الآحاد، فينقطع الأصل حينئذ بهما. وأما ما قيل من أنه لو كان علامة لاستغنى بها عن اختبار شعر العانة، بل لم يجز الكشف عنها فضعفه ظاهر، ضرورة خروج العانة عن العورة أولاً، وعدم الاستغناء عنها لتقدم نباتها على اللحية والشارب، بل يقوى إلحاق العذار والعارض والعنفقة ونحوها بهما، لعموم المستند، إلا أن ظاهر باقي الأصحاب الاختصاص بالعانة، بل هو صريح بعضهم، ولذا اقتصروا عليها في العلامات، ويمكن أن يكون ذلك منهم لتأخر نباتهما عن البلوغ عادة بكثير، ومدارهم على ذكر العلامات النافعة عند الاشتباه، لا حال معلومية البلوغ الحاصلة غالباً1- نباتهما بحيث لا يحتاج إلى استناد العلامات، وخرق العادات لا ينافي الاطمينان المعتبر في الأحكام الشرعية. نعم، لا عبرة بسائر الشعور عدا ما عرفت في ظاهر كلام الأصحاب، للأصل و عمومات الكتاب والسنة من غير معارض يعتد به، وفي التذكرة (ولا اعتبار بشعر الإبط عندنا، وللشافعي فيه وجهان) ومن ذلك يعلم شذوذ ما في بعض الأخبار من عد شعر الإبط من العلامات، وإلا فنصوص الإشعار خاصة يمكن حملها على الإنبات خاصة، أو مع غيره مما عرفت من اللحية والشارب ونحوها))(1).

وعلى أي حال فإن البلوغ مرحلة من حياة الإنسان تعرف بعلامات عديدة ويتحقق البلوغ بظهور أي واحدة منها.

3- البلوغ بالسن:

وفيه أقوال أوصلها صاحب الجواهر (قدس سره) إلى ستة ((الخمس عشر دخولاً وكمالاً، وكذا الأربع عشر، وكمال الثلاث عشر، والعشر، لكن

ص: 40


1- جواهر الكلام: 26/7-8.

التحقيق أنه ليس فيها إلا قولان، أحدهما المشهور وهو كمال الخمس عشر، والثاني قول ابن الجنيد وهو كمال الأربع عشر))(1):

(القول الأول) بلوغ خمس عشرة سنة

وهو ((المشهور بين الأصحاب في المقام شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً، كما اعترف بذلك في المسالك، بل نقلها مستفيض أو متواتر كالإجماع صريحاً وظاهراً على ما في مفتاح الكرامة حيث قال: (كادت تبلغ إجماعات المسألة: أثنى عشر إجماعاً من صريح وظاهر ومشعر به، بل هو معلوم) ))(2).

((وهو الحجة مضافاً إلى الأصول الكثيرة القطعية أو المعتبرة المستفيضة العامّية والخاصّية، فمن الأولى النبويان في الغنية(3) في أحدهما: (إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأُخذت منه الحدود) ))(4).

ويروون في كتبهم أن هذا السنّ كان معمولاً به في تحديد المقاتلة، وتسجيل الاسم فيمن يفرضوا له، ومن كان دون ذلك فرضوا له في الذرية(5).وهم يعنون بذلك أن الصبي إذا بلغ خمس عشرة سنة عدّ بالغاً مكلفاً وتترتب عليه الآثار وإن لم تظهر عليه علامات البلوغ الطبيعية كالاحتلام والإنبات.

وقد دلت عليه روايات عديدة:-

1- خبر حمزة بن حمران المتقدم عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه قوله (عليه السلام): (إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك أقيمت عليه الحدود التامة)(6) الحديث.

ص: 41


1- جواهر الكلام: 26/28.
2- جواهر الكلام: 26/16.
3- الغنية (الجوامع الفقهية): 594.
4- رياض المسائل: 9/240.
5- ذكر عدداً من الروايات البيهقي في سننه (6/55) ونقلها عنه في جواهر الكلام: 26/24-25.
6- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح2.

2- صحيحة يزيد الكناسي المتقدمة وفيها (أما الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجال فلا، ولكن يُجلد في الحدود كلها على قدر مبلغ سنه يؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة)(1) الحديث.

3- صحيحة معاوية بن وهب في حديث قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في كم يؤخذ الصبي بالصيام؟ قال: ما بينه وبين خمس عشرة سنة وأربع عشرة سنة فإنْ هو صام قبل ذلك فدَعْه، ولقد صام ابني فلان قبل ذلك فتركته)(2).

أقول: أوردها الشيخ الطوسي (قدس سره) ب- (أو) وعلى كلا التقديرين فقد قرّب صاحب الجواهر (قدس سره) الاستدلال بها ((بناءً على إرادة معنى (أو) من الواو فيها، بل عن النهاية روايته بها، بل لا بد من كون المراد ذلك لاستحالة الجمع هنا كما هو ظاهر، وحينئذٍ فمقتضى السياق والترديد كون ما تقدم عليهما وقتاً للتمرين والأخذ على سبيل التأديب، فيكون البلوغ حينئذٍ بأحدهما ويمتنع أن يكون الأقل وإلا لم يكن الزمان المتوسط بينه وبين الأكثر تمرينياً، فيتعين كونه الأكثر، ولعل النكتة في الترديد التنبيه على الفرق بين المتوسط بينهما والمتقدم عليهما في التضييق وعدمه بالنسبة إلى التمرين فإن الصبي يضيق عليه فيما بين الأربعة عشر والخمسة عشر، بخلاف ما تقدم من الزمان فإنه لا يضيق عليه لبعده عن البلوغ))(3).

4- خبر الصدوق في الخصال بسنده عن العباس بن عامر عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يؤدب الصبي على الصوم ما بين خمس

ص: 42


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، باب 6، ح9 عن التهذيب والاستبصار، ونقلها صاحب الوسائل في كتاب الحدود، أبواب مقدمات الحدود، باب 6، ح1 عن الكافي، وقال: إن الشيخ (قدس سره) زاد بعد مبلغ سنة: فيؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه، باب 29، ح1.
3- جواهر الكلام: 26/27.

عشرة سنة إلى ست عشرة سنة)(1).ونوقش الإجماع صغروياً بعدم تعرّض عدد من القدماء للسنّ كالشيخ المفيد في مبحث الصوم من المقنعة والقاضي ابن البراج في الوصية من المهذب، وبمخالفة بعض آخر كابن الجنيد والشيخ الطوسي في النهاية، فقد نقل العلامة عن الأول اختياره أربع عشرة سنة ((مستدلاً برواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) (قلت له: في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: في ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة)، واختار الشيخ (قدس سره) في قضاء النهاية(2)

أنه ثلاث عشرة سنة مستنداً إلى رواية أبي حمزة، لكنه (قدس سره) عدل عنه إلى القول المشهور في الخلاف فقال (قدس سره): ((يراعى في حد البلوغ في الذكور بالسن خمس عشرة سنة، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم))(3).

أما الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) فقد أورد في كتابه الفقيه –الذي أورد فيه ما يفتي به ويحكم بصحته- في باب انقطاع يتم اليتيم من كتاب الوصية معتبرة عبد الله بن سنان التي فيها (إذا بلغ الغلام أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة سنة)(4)

ولم يورد رواية فيها ذكر للخمس عشرة سنة، وعنون الباب في الخصال (حد بلوغ الغلام ثلاث عشرة سنة إلى أربع عشرة سنة)(5).

وقال صاحب الحدائق (قدس سره): ((ونقل بعض أفاضل متأخري المتأخرين(6) عن بعض القدماء والشيخ في كتابي الأخبار وأكثر محققي المتأخرين أنهم قالوا بحصول البلوغ بالدخول في الرابع عشر، قال في المفاتيح: ولا يخلو من

ص: 43


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه، باب 29، ح13.
2- النهاية للشيخ الطوسي: 354، ح 22، باب جامع للقضايا والأحكام.
3- الخلاف: 3/282 المسألة (2).
4- من لا يحضره الفقيه: 4/221، ح 5519.
5- الخصال: 495.
6- أفاد (قدس سره) في الهامش أنه الفاضل المولى أبو الحسن بن محمد طاهر المجاور بالمشهد الغروي في شرحه على المفاتيح.

قوة))(1).

ونوقش الإجماع كبروياً من جهة كونه مدركياً مستنداً إلى الروايات المذكورة.

أما الروايات، فقد نوقش الخبر (الأول) بضعف السند وقد ذكرناه (صفحة 35)، ونوقش (الثاني) بضعف السند من جهة يزيد الكناسي وقد عالجناه، وبعدم وجود هذه الفقرة في الكافي بحسب دعوى صاحب الوسائل، وبوجود إشكالات على بعض الأحكام الواردة في الرواية، ويرد عليه أن سقوط فقرة في الرواية لا يعني سقوطها جميعاً خصوصاً في مثل هذه الرواية التي يحتمل فيها أن أسئلتها لم تجرِ في مجلس واحد، وعلى أي حال فإن المناقشات في هذا السنّ غير مجدية لأنه في الأعم الأغلب متأخر عن ظهور علامات البلوغ الأخرى فتنتفي الحاجة إلى الاعتماد عليه، نعم، يمكناعتباره حداً شرعياً للبلوغ لمن لم تظهر عليه العلامات الأخرى لأن تأخرها عن هذا السن يعتبر حالة غير طبيعية وفي مثلها يرجع إلى الحالة الطبيعية.

(القول الثاني) البلوغ بثلاث عشرة سنة

وقد ذكرنا عدداً من القدماء ممن أخذ بهذا القول كالشيخ الصدوق والطوسي في النهاية ويمكن إرجاع اختيار ابن الجنيد أربع عشرة سنة إليه بأن يكون المراد إكمال ثلاث عشرة سنة والدخول في الرابعة عشرة.

وقد دلت عليه عدة روايات:

(منها) صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما وجب على المحتلمين احتلم أو لم يحتلم، وكتب عليه السيئات، وكتبت له الحسنات، وجاز له كل شيء إلا أن يكون ضعيفاً أو سفيهاً) (2).

ص: 44


1- الحدائق الناضرة: 2/349، كتاب الحجر.
2- هذه الرواية واللتان بعدها تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب الوصايا، باب 44، ح11، 12، 8.

(ومنها) موثقته عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك وذلك أنها تحيض لتسع سنين).

(ومنها) خبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عز وجل: «حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ» قال: الاحتلام، قال: فقال: يحتلم في ست عشرة وسبع عشرة سنة ونحوها، فقال: لا إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات، وجاز أمره إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً فقال: وما السفيه؟ فقال: الذي يشتري الدرهم بأضعافه، قال: وما الضعيف؟ قال: الأبله).

والظاهر أن الروايات متحدة إلا أن الرواة نقلوها بنصوص مختلفة.

(ومنها) خبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: في ثلاث عشرة وأربع عشرة، قلت: فإنه لم يحتلم فيها، قال: وإن كان لم يحتلم فإن الأحكام تجرى عليه)(1).

(ومنها) موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ قال: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم)(2).

مقارنة بين الطائفتين من الروايات:

إن الروايات متعارضة، إذ السن يؤخذ كحد بشرط لا عن الزيادة والنقصان فيتنافى مع غيره، وقد أخذ البعض بروايات الثلاث عشرة سنة لأنها أصح سنداً وأشهر ولأنها مخالفة للعامة حتى قال المحقق الأردبيلي (قدس سره):

ص: 45


1- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب الوصايا، باب 45، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح12.

((وبالجملة ما رأيت خبراً صحيحاً صريحاً في الدلالة على خمس عشرة سنة فكيف في إكماله))(1).

وأخذ البعض بروايات الخمس عشرة لأن العمل بها أشهر حتى كاد أن يكون إجماعاً مضافاً إلى موافقتها للأصل وهو استصحاب عدم البلوغ حتى الحد الثاني وحمل السيد صاحب الرياض (قدس سره) روايات الثلاث عشرة على التقية وقال: ((فالعجب كل العجب من الكفاية حيث استوجه العمل بها مع عدم تصريح منه بقائل بها بالمرة))(2)،

ودفعها –أي روايات الثلاث عشرة- صاحب الجواهر (قدس سره) ب-((استبعاد خفاء مثل ذلك على الأساطين، سيما مع معروفية ما يقع منهم (عليهم السلام) تقية بين خواصّهم، حتى كان بعضهم يقول لبعض: قد أعطاك من جراب النورة))(3).

ص: 46


1- مجمع الفائدة: 9/188.
2- رياض المسائل: 9/243.
3- جواهر الكلام: 26/35. ويشير بالفقرة الأخيرة إلى رواية سلمة بن محرز قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل مات وله عندي مال وله ابنة وله موالي، قال: فقال لي: اذهب فأعط البنت النصف وأمسك عن الباقي، فلما جئت أخبرت أصحابنا بذلك فقالوا: أعطاك من جراب النورة، فرجعت إليه فقلت: إن أصحابنا قالوا لي: أعطاك من جراب النورة قال: فقال: ما أعطيتك من جراب النورة، علمَ بها أحد؟ قلت: لا، قال: فأعط البنت الباقي) (وسائل الشيعة: كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث ولاء العتق، باب 1، ح16). وفي مجمع البحرين (3/506 مادة: نور): ((قوله (عليه السلام): (أعطاك من جراب النورة لا من العين الصافية)) على الاستعارة، والأصل فيه أنه سأل سائل محتاج من حاكم قسيّ القلب شيئاً فعلق على رأسه جراب نورة عند فمه وأنفه كلما تنفس دخل في أنفه منها شيء، فصار مثلاً يضرب لكل مكروه غير مرضي)). وفي ضوء هذا قال الشيخ المفيد (رضوان الله تعالى عليه): ((إن المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد، انتشار الصحيح المصدوق على الأئمة (عليهم السلام) فيه، وما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم، كما تكثر رواية المعمول به، بل لا بد من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرته)). ((ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقيةً ولا شيء دُلِّس فيه ووضع مخروصاً عليهم وكذب في إضافته إليهم،فإذا وجدنا أحد الحديثين متفقاً على العمل به دون الآخر علمنا أن الذي اتفق على العمل به هو الحق في ظاهره وباطنه، وإن الآخر غير معمول به، إما للقول فيه على وجه التقية، أو لوقوع الكذب فيه)). ((وإذا وجدنا حديثاً يرويه عشرة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) يخالفه حديث آخر في لفظه ومعناه، ولا يصحّ الجمع بينهما على حال، رواه اثنان أو ثلاثة، قضينا بما رواه العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة، وحملنا ما رواه القليل على وجه التقية أو توهم ناقله)) (تصحيح الاعتقاد: 71 طبعة تبريز). أقول: لقد استطردنا في ذكر هذه المباني لأنها جارية في أبواب الفقه.

أقول: يمكن الرد على شهرة العمل بأنها بين المتأخرين أما المتقدمون فلا، كالصدوق الذي ذكر في الفقيه صحيحة عبد الله بن سنان وهو يفتي بما ذكره وهكذا، فلا يبقى موضوع للإعطاء من جراب النورة، وأما الحمل على التقية فلا وجه له لعدم ذهاب فقهاء العامة إلى الثلاث عشرة. وإجابة الأئمة (سلام الله عليهم) بما يخالف العامة في المسألة كالبلوغ بالتسع في الإناث وغيرها.

ولدى الأصحاب (قدس الله أرواحهم) محاولات للجمع بحمل روايات الثلاث عشرة على بعض الوجوه:

(منها) ما ذكره صاحب الحدائق بقوله: ((ولا يبعد عندي في الجمع بين الأخبار المذكورة حمل ما دل على البلوغ بخمس عشرة على الحدود والمعاملات كما هو مقتضى سياق رواية حمران وحمل ما دلّ على ما دون ذلك على العبادات))(1).

وخص بعضهم الخمسة عشر بالحدود فقط بدلالة صحيح الكناسي.

أقول: سنرد على هذه المحتملات في الفروع الملحقة، وخلاصته عدم التفكيك بين

ص: 47


1- الحدائق الناضرة: 13/185.

الأحكام في كون البلوغ شرط التكليف بها.

(ومنها) ما احتمله (قدس سره) أيضاً من ((خروج بعضها مخرج التقية إلا أنه لا يحضرني الآن مذهب العامة في هذه المسألة))(1).

ويرد عليه أنه لا قائل منهم بالثلاث عشرة إذ تتراوح أقوالهم بين الخمس عشرة والثمان عشرة(2).

وهذا الخلاف بينهم شاهد على عدم الفرز الذي ذكرناه لأنه يكشف عن أخذهم السنّ على نحو الموضوعية، والصحيح كونه كاشفاً عن البلوغ بلحاظ الأعم الأغلب فالعبرة بتحقق البلوغ بأي نحو كان ولا عبرة بالسن، وورود حدود مختلفة من الأعمار إنما هو بلحاظ تفاوت الناس في ظهور علامات البلوغ بحسب العوامل المؤثرة فيه التي ذكرناها في أول البحث.

والروايات تشهد بذلك من خلال عدة أمور:-

1- الاختلاف بينها وهو يعني كون السن غير ملحوظ بنفسه وإلا لكان واحداً.

2- الترديد بين عمرين في رواية واحدة (كصحيحة معاوية بن وهب صفحة 42 وخبر الثمالي صفحة 45) وهو غير معقول لو كان السن حداً.

3- تعليل الإمام (عليه السلام) لاختيار السن كونه يحتلم فيه فالعبرة بالقدرة على الاحتلام لا السن نفسه كما في خبر عيسى بن زيد عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يثغر الصبي لسبع، ويؤمر1- بالصلاة لتسع، ويفرّق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، ومنتهى طوله لإحدى وعشرين، ومنتهى عقله لثمان وعشرين إلا التجارب)(3).

نعم، يمكن افتراض السن كحد نوعي باعتبار بلوغ الأعم الأغلب فيه، فلو تأخر بلوغ شخص عن تمام خمس عشرة سنة فإنها حالة غير طبيعية فيعود

ص: 48


1- الحدائق الناضرة: 13/185.
2- راجع المغني لابن قدامة: 4/514، الحاوي الكبير للماوردي: 6/344.
3- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 44، ح10.

إلى ما يقتضيه النوع فيكلّف بالأحكام في هذا الحد. أما سن ثلاث عشرة سنة فهو سن البلوغ لكثيرين ولكن ليس هو الحد الأعلى.

علامات بلوغ الأنثى

1- الاحتلام:

الظاهر من كلمات الفقهاء كون الاحتلام علامة على البلوغ لدى الإناث كالذكور.

قال المحقق الحلي (قدس سره) في الشرائع: ((من علامات البلوغ: خروج المني الذي يكون منه الولد من الموضع المعتاد، ويشترك في هذا الذكور والإناث)) وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك عند شرح هذا المتن: ((هذا عندنا وعند الأكثر موضع وفاق، وإنما نبه به على خلاف الشافعي فإن له قولاً بأن خروج المني من النساء لا يوجب بلوغهن، لأنه نادر فيهن، ساقط العبرة وفساده واضح))(1).

وقال العلامة (قدس سره) في القواعد: ((الثاني –مما يحصل به البلوغ-: خروج المني الذي يكون منه الولد من الموضع المعتاد، سواء الذكر والأنثى))(2).

بل في التذكرة ((الاحتلام خروج المني وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد، بلوغ في الرجل والمرأة عند علمائنا أجمع ولا نعلم فيه خلافاً في الذكور، وهو في النساء كذلك، وللشافعي قول- بأن خروج المني من النساء لا يوجب بلوغهن لأنه نادر فيهن- ساقط العبرة. قال: وإطباق أكثر الفقهاء على خلاف هذا))(3).

وعلق عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((فإجماع التذكرة مما يشهد التتبع مع التأمل بصحته)) واستدل (قدس سره) له بعموم «وَابْتَلُوا

ص: 49


1- مسالك الأفهام: كتاب الحجر، صفحة 143-144.
2- القواعد على ما في جامع المقاصد: 5/181.
3- تذكرة الفقهاء: 2/74.

اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِكَاحَ» إلى آخره و (لا يُتْم بعد احتلام) وأصالة الاشتراك في الأحكام ما لم يثبت خلافه، وما عرفت من أن البلوغ حال طبيعي ينبعث عنها ذلك من غير فرق بين الرجال والنساء، كما هو المشاهد في العرف))(1).أقول: إن كانوا يريدون بالاحتلام عند الإناث الكاشف عن البلوغ أي حالة كالذكور تقتضي خروج المني فهذه غير موجودة عند الإناث وإن تكوّن الولد من طرفها يكون بإفراز المبيضين بيضة إلى الرحم حيث يلقحها الحيمن الذكري، وإن كانوا يريدون المنكشف أي البلوغ بنضج الأنثى جنسياً وتحقق قابليتها على استقبال ماء الرجل وتكون الولد فهو معنى صحيح إلا أنه غير ظاهر من كلماتهم وهو لا يمكن بروزه للخارج ومعرفته.

والآية التي استدل بها صاحب الجواهر (قدس سره) إنما تحمل على هذا المعنى الثاني كما اخترنا واختار هو (قدس سره) في معنى الاحتلام وبلوغ النكاح، وكذا الحديث الشريف إن أمكن وإلا فهو مختص بالذكور، أما الاستدلال بأصالة الاشتراك في الأحكام ففيه:-

1- إن ما نحن فيه من الموضوعات الخارجية وليس الأحكام فلا تجري فيه القاعدة.

2- إن أصالة الاشتراك في الأحكام لا تجري مع احتمال الخصوصية لأحدهما وهي هنا موجودة.

والنتيجة أن الاحتلام بالمعنى الأول غير موجود في الإناث وبالمعنى الثاني لا جدوى من اعتباره علامة.

فائدة: الخلاف في هذا المطلب مرتبط بمسألة أخرى وهي تحقق الجنابة عند المرأة بالاحتلام والإنزال، وقد حكي الإجماع ((عليه عندنا، وأخبارنا به كادت تكون متواترة)) ((بل قد يظهر من بعضهم دعوى الإجماع عليه من المسلمين؛ سوى

ص: 50


1- جواهر الكلام: 26/15.

ما ينقل عن أبي حنيفة من اعتبار مقارنة الشهوة والتلذذ في وجوب الغسل، وهو ضعيف جداً))(1).

وذهب إليه بعض من حضرنا بحثه الشريف فقال: ((وأما المرأة فالماء الخارج من قبلها بشهوة موجب للجنابة ولا أثر لما خرج بغير شهوة على الأظهر))(2)

وهو كلام غير مانع لدخول ما لا يشمله الحكم إذ من المعلوم وجود إفرازات مهبلية عند الملاعبة وقبل عملية الجماع يُحكم بطهارتها ولا تنقض وضوءاً ولا توجب غسلاً.

ولعل أستاذنا الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) تقدم خطوة في حصر الموضوع إلا أنها ما زالت غير كافية لحل الإشكال فقال: ((وأما المرأة فإذا خرج منها ماء في حالة شهوة وتهيّج جنسي فعليها الغسل))(3)

وسبقه إلى مثل هذا النص السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وأضاف (قدس سره) بأسلوبه التوضيحي العصري: ((وإذا خرج منها وهي ليست في حالة شهوة وتهيّج لم يجب عليها شيء حتى ولو كانت في وقت مداعبة الزوج لها إذا لم تتأثر بالمداعبة عاطفياً))(4)

ويأتي عليه نفس الإشكال السابق.وقد دلت على الوجوب روايات معتبرة كثيرة (منها) صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج وتنزل المرأة هل عليها الغسل؟ قال: نعم)(5).

(ومنها) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل، قال: إن أنزلت فعليها الغسل)(6) وغيرها.

وتوجد روايات معارضة أخرى منها صحيحة عمر بن أذينة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المرأة تحتلم في المنام فتهريق الماء الأعظم، قال: ليس عليها غسل)(7).

ص: 51


1- جواهر الكلام: 3/3.
2- السيد السيستاني في منهاج الصالحين: 1/61.
3- منهاج الصالحين: 1/72.
4- الفتاوى الواضحة: 1/129 الفقرة (34).
5- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 7، ح3، 5، 21.
6- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 7، ح3، 5، 21.
7- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 7، ح3، 5، 21.

وقد عمل المشهور بالطائفة الأولى فقالوا ب-((عدم الفرق في وجوب الغسل بالإنزال بين المرأة والرجل، وذلك لإعراض الأصحاب عن الطائفة الثانية، ولم ينسب العمل بها إلى أحد من أصحابنا))(1).

أقول: لسنا الآن بصدد البحث في المسألة لأنها مستقلة ولكننا نثيرها هنا للإشارة إلى اعتماد المشهور للإمناء والاحتلام كعلامة عند المرأة.

وكان خلاصة الرأي المختار فيها: أن الإمناء بالمعنى المعروف عند الرجل غير متصور في الأنثى وإنما يفرز جهازها التناسلي سوائل عند الشهوة والتهيج لمنافع فسيولوجية مهمة بلطف الله تبارك وتعالى منها معادلة محيط المجرى إلى الرحم للمحافظة على حياة الحيامن الذكرية، وهذه السوائل طاهرة ولا تنقض وضوءاً ولا توجب غسلاً، نعم، يجب الغسل على المرأة إذا حصلت عندها حالة بلوغ ذروة الشهوة والتي يتبعها استرخاء وفتور كالعلامات التي يجدها الرجل عند الإنزال، ومن هنا سمّيت الحالة (إمناءً) لأن عوارضها تشبه ما يعرض الرجل عند خروج المني، وإلا فإنه لا إمناء لدى المرأة ولا إنزال وإن ماءها الذي يتكون منه الولد –أعني البيضة- يقذف إلى الرحم وليس إلى الخارج فإذا خصّبها الحيمن علقت بجدار الرحم وتغذّت حتى يتكون الجنين، وإن لم يحصل التلقيح قذفها الرحم مع انسلاخ الجدار الداخلي للرحم وتحصل الدورة الشهرية.

وبهذا الإيضاح نوقع التصالح بين من حكم بوجود حالة الإنزال لدى المرأة فأوجب الغسل عليها، وبين من لم يحكم بها –بغضّ النظر عن وجوب الغسل وعدمه- كسيدنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بقوله: ((الأقوى أنه لا حكم لإنزال النساء وخاصة إذا كان بدون شهوة، ومع توفّرها مع الفتور فالأحوط لها الغسل مع ضمّ الوضوء إن كانت محدثة بالأصغر، غير أن هذا الاحتياط استحبابي ولكنه أكيد))(2).

ص: 52


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 6/241 من المجموعة الكاملة.
2- منهج الصالحين: 1/49 المسألة (191).

ووجه التصالح: أن من أثبت الإمناء للمرأة قصد حصول آثار مثل هذه الحالة للرجل عند المرأة من ذروة الشهوة والفتور والاسترخاء، ومن نفى هذه الحالة فبلحاظ عدم وجود حالة قذف لسائل منوي كالرجل لكن المفروض عليه أن يوجب الغسل رغم ذلك.

2- الإنبات:

ظاهر إطلاق كلمات الفقهاء التي نقلنا بعضاً منها في القسم الأول أن الإنبات علامة بلوغ الإناث كالذكور، وصرّح به العلامة في القواعد(1)

((مؤيداً بتتبع أكثر العبارات، وبأن الإنبات أمارة طبيعية اعتبرها الشارع لكشفه عن تحقق الإدراك فلا يختلف))(2).

وأشكل عليه بأن النصوص –وقد تقدمت في القسم الأول- ناظرة إلى الذكور فقط فالتعميم بلا دليل ويرد عليه:-

1- إن الإنبات علامة طبيعية في الإنسان ولا تختص بالذكور، والنصوص إرشادية لها وليست مؤسسة لها فلا يضرّ خلو النصوص منها.

2- وجود الدليل على التعميم وهو الإجماع المتقدم.

3- إن النضج الجنسي لدى الإناث يكون مبكراً ويسبق الإنبات خصوصاً على القول المشهور ببلوغها عند إكمال التسع فتكون هذه العلامة غير مجدية ولعله لذلك لم تتعرض لها النصوص.

3- قابلية التحيّض والطمث:

وإنما عنونّاه بالقابلية لأنه المستفاد من النص كما سيأتي إن شاء الله تعالى ولأن القابلية والقوة والاستعداد يحصل بها البلوغ وليس بالتحيض الفعلي الذي قد يتأخر، فالحيض الفعلي كاشف عن سبق البلوغ وليس بنفسه بلوغاً، ومما يدل

ص: 53


1- على ما في جامع المقاصد: 5/180.
2- جواهر الكلام: 26/7.

على هذا المعنى صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (في رجل ابتاع جارية ولم تطمث، قال: إن كانت صغيرة لا يتخوف عليها الحبل فليس عليها عدة وليطأها إن شاء، وإن كانت قد بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة)(1)،

بتقريب أن الإمام (عليه السلام) افترض بلوغها مع التصريح بأنها لم تطمث.

ومنه يعلم المناقشة في ظاهر كلمات الأصحاب (قدس الله أرواحهم) من جعل الحيض الفعلي هو العلامة على البلوغ، وهذا يفسر كلام المحقق الحلي (قدس سره): ((أما الحمل والحيض فليسا بلوغاً في حق النساء، بل قد يكونان دليلاً على سن البلوغ)) وعلّق عليه صاحب الجواهر (قدس سره): ((بلا خلاف معتد به أجده فيه))(2).

وقد وردت في علامية الحيض روايات عديدة منها:-

1- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعُوقب، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك أنها تحيض لتسع سنين)(3).

بتقريب أن البلوغ وإن حُدِّد بالتسع سنين إلا أنه لم يكن لخصوصية في السن وإنما لأن الأنثى تحيض بهذا السن فالمعيار هو قابلية التحيض. وهو دليل على ما ذكرناه في العنوان.

2- خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (على الصبي إذا احتلم الصيام، وعلى الجارية إذا حاضت الصيام والخمار إلا أن تكون مملوكة فإنه ليس عليها خمار إلا أن تحب أن تختمر وعليها الصيام)(4).

ص: 54


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، باب 3، ح1.
2- جواهر الكلام: 26/42.
3- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 44، ح12.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 29، ح7 عن التهذيب، ورواها عن الفقيه في كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح10 بدون (الخمار).

3- موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ فقال: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم)(1).

4- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن ابن عشر سنين يحج، قال: عليه حجة الإسلام إذا احتلم وكذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت)(2).

5- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا يصلح للجارية إذا حاضت إلا أن تختمر إلا أن لا تجده)(3).

بدلالة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الجارية التي لم تدرك متى ينبغي لها أن تغطي رأسها ممن ليس بينها وبينه محرم؟ ومتى يجب عليها أن تقنع رأسها للصلاة؟ قال: لا تغطي رأسها حتى تحرم عليها الصلاة)(4).

ومثله خبر يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه (سأله عن الرجل يصلي في ثوب واحد؟ قال: نعم، قال: قلت: فالمرأة؟ قال: لا، ولا يصلح للحرة إذا حاضت إلا الخمار إلا أن لا تجده)(5)4وخبر أبي البختري عنه (عليهالسلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: إذا حاضت الجارية فلا تصلي إلا بخمار)(6).5).(4).

ص: 55


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح12.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج، باب 12، ح1، 2.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 126، ح1، 2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 28، ح4، 13.

6- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها (وسألته عن الأمة إذا ولدت عليها الخمار؟ قال: لو كان عليها لكان عليها إذا حاضت وليس عليها التقنع في الصلاة)(1).

أقول: نوقش في سندها من جهة ضعف طريق الصدوق إلى محمد بن مسلم بالحكم بن مسكين، لكنه (رضي الله عنه) رواها في العلل بسند صحيح.

7- صحيحة إسماعيل بن زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أُتي أمير المؤمنين عليه السلام بجارية لم تحض قد سرقت، فضربها أسواطاً ولم يقطعها)(2).

8- مرسلة جميل المتقدمة عن أحدهما (عليهما السلام): (في الرجل يطلق الصبية التي لم تبلغ ولا يحمل مثلها، فقال: ليس عليها عدة: وإن دخل بها)(3).

4- البلوغ بالسن:

وفيه أقوال:

(القول الأول) تحقق البلوغ بكمال تسع سنين

((على المشهور بين الأصحاب، بل هو الذي استقر عليه المذهب، خلافاً للشيخ في صوم المبسوط، وابن حمزة في خمس الوسيلة فبالعشر إلا أن الشيخ قد رجع عنه في كتاب الحجر، فوافق المشهور وكذا الثاني في كتاب النكاح منها بل قد يرشد ذلك منهما إلى إرادة توقف العلم بكمال التسع على الدخول في العشر))(4).

وقد ورد هذا المعنى في عدد كبير من الروايات، موزعة على أبواب كثيرة في جوامع الأحاديث بحسب الأحكام التي تضمنتها، لكنها جميعاً تقع ضمن الاستدلال على هذا القول وسنقسمها تبعاً لذلك على طوائف:

ص: 56


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، باب 29، ح7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحدود، أبواب حد السرقة، باب 28، ح6.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 2، ح2، 3.
4- جواهر الكلام: 26/38-39.

(الطائفة الأولى) ما دل على أن حد البلوغ في الأنثى هو تسع سنين:-

1- مصححة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (حد بلوغ المرأة تسع سنين)(1).

مصححته الأخرى عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: الجارية ابنة كم لا تستصبا؟ أبنت ست أو سبع؟ فقال: لا ابنة تسع لا تستصبا، وأجمعوا1- كلهم على أن ابنة تسع لا تستصبا إلا أن يكون في عقلها ضعف وإلا فإذا بلغت تسعاً فقد بلغت)(2).

2- خبر محمد بن مسلم قال: (سألته عن الجارية يتمتع منها الرجل؟ قال: نعم، إلا أن تكون صبية تخدع، قال: قلتُ: أصلحك الله وكم الحد الذي إذا بلغته لم تخدع؟ قال: بنت عشر سنين)(3).

بتقريب: أن (بنت عشر سنين) تصدق على من أكملت التاسعة ودخلت في العاشرة وهو مطابق للقول المشهور.

(الطائفة الثانية) ما دل على عدم دخول الزوج بالزوجة ما لم تبلغ التسع بضميمة ما دل – من إجماع وروايات- على أن المنع قبل ذلك لأنها صغيرة(4)،(3) ويشهد لهذا المعنى إجماع الفقهاء (قدس الله أرواحهم) على أن أي دم تراه الصبية قبل التسع لا يحكم عليه بأنه حيض حتى لو كان بصفات الحيض.

ص: 57


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح، باب 45، ح10.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 12، ح2، 4. ويحتمل في مصححة ابن أبي عمير أن يكون الكلام (أجمعوا .. إلخ) من الراوي.
3- ومما يؤيد عدم جواز الدخول بالمرأة إلا إذا بلغت ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بسند صحيح عن أبي أيوب الخزاز قال: سألت إسماعيل بن جعفر، إلى أن قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين وليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة) الحديث. (وسائل الشيعة: كتاب الشهادات، أبواب الشهادات، باب 22، ح3) وقول إسماعيل ليس بحجة إلا بناءً على أنه أخذه عن أبيه باعتباره من الأجلاء ومورد حب أبيه، وإنما سأله أبو أيوب بناءً على أنه أخذ الجواب عن أبيه الصادق (عليه السلام).

أي أن تقريب هذه الطائفة يتم بمقدمتين:

الأولى: عدم جواز الدخول بالزوجة إلا إذا بلغت تسع سنين.

الثانية: لا يجوز الدخول بالصغيرة حتى تبلغ فالنتيجة أن الصغيرة تبلغ بالتسع.

ومن تلك الروايات:-

4- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا تزوج الرجل الجارية وهي صغيرة فلا يدخل بها حتى يأتي لها تسع سنين)(1).

5- معتبرة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا يدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين)(2)، ومثلها خبر أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام).

6- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من وطأ امرأته قبل تسع سنين فأصابها عيب فهو ضامن)(3)، ومثلها موثقة طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام).

7- صحيحة حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سئل عن رجل تزوج جارية بكراً لم تدرك، فلما دخل بها اقتضها فأفضاها، فقال: إن كان دخل بها حين دخل بها ولها تسع سنين فلا شيء عليه، وإن كانت لم تبلغ تسع سنين أو كان لها أقل من ذلك بقليل حين دخل بها فاقتضها فإنه قد أفسدها وعطلها على الأزواج فعلى الإمام أن يغرّمه ديتها، وإن أمسكها ولم يطلقها حتى تموت فلا شيء عليه)(4).

(الطائفة الثالثة) ما دلّ على جريان التكاليف وإقامة الحدود عليها ورفع الحجر عنها بهذا السن بضميمة ما دلّ على كون البلوغ شرط التكليف وأن القلم مرفوع عن الصبي حتى يبلغ –كما تقدم- وأن عمد الصبيان خطأ، وعمد الصبي وخطأه واحد كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص: 58


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح، باب 45، ح 1، 2، 5، 9.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح، باب 45، ح 1، 2، 5، 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح، باب 45، ح 1، 2، 5، 9.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح، باب 45، ح 1، 2، 5، 9.

(عمد الصبي وخطأه واحد)(1)

وموثقة إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أن علياً (عليه السلام) كان يقول: (عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة)(2).

ومن هذه الطائفة:-

8- صحيحة يزيد الكناسي المتقدمة عن أبي جعفر وفيها (قلت: أفتقام عليها الحدود وتؤخذ بها وهي في تلك الحال وإنما لها تسع سنين، ولم تدرك مدرك النساء في الحيض قال: نعم، إذا دخلت على زوجها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودُفع إليها مالها وأُقيمت الحدود التامة عليها ولها)(3).(3)

9- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك أنها تحيض لتسع سنين)(4).(4)

10- خبر حمران المتقدم عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه (إن الجارية ليست مثل الغلام إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامة وأخذ لها بها)(5).(5).

11- خبر الصدوق في الفقيه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إذا بلغت الجارية تسع سنين دُفع إليها مالها، وجاز أمرها في مالها، وأقيمت الحدود التامة لها وعليها)(6).(6).

ص: 59


1- وسائل الشيعة: كتاب الديات، أبواب العاقلة، باب 11، ح2، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الديات، أبواب العاقلة، باب 11، ح2، 3.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 6، ح9.
4- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 44، ح12.
5- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح2.
6- (6) وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 45، ح4.

(الطائفة الرابعة) ما تُفسَّر بالبلوغ بهذا السن لعدم وجود خصوصية أخرى مؤثرة في الأحكام التي تضمنتها تلك الروايات إلا لأنها تبلغ بهذا السن ومنها:

12- الروايات الدالة على أن الدخول قبل التسع موجب للحرمة الأبدية كمرسلة يعقوب بن يزيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا خطب الرجل المرأة فدخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين فُرق بينهما ولم تحل له أبداً)(1)، ومثلها خبر بُريد بن معاوية.

13- الروايات الدالة على أن المطلقة دون التسع تتزوج على كل حال كخبر عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ثلاث يتزوجن على كل حال: التي لم تحض ومثلها لا تحيض، قال: قلت: وما حدها؟ قال: إذا أتى لها أقل من تسع سنين، والتي لم يُدخل بها، والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض، قلت: وما حدها؟ قال: إذا كان لها خمسون سنة)(2).

14- الروايات الدالة على أن بنت تسع سنين ليست بمخدوعة كخبر محمد بن هاشم عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (إذا تزوجت البكر بنت تسع سنين فليست مخدوعة)(3).

15- الروايات الدالة على أن الأمة لا تستبرأ إلى تسع سنين كخبر محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) (في حد الجارية الصغيرة السن الذي إذا لم تبلغه لم يكن على الرجل استبراؤها، قال: إذا لم تبلغ استُبرئت بشهر، قلت: وإن كانت ابنة سبع سنين أو نحوها مما لا تحمل فقال: هي صغيرة، ولا يضرّك أن لا تستبرئها، فقلت: ما بينها وبين تسع سنين، فقال: نعم، تسع سنين)(4).

ص: 60


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما تحرم بالمصاهرة ونحوها، باب 34، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 2، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 12، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد، باب 3، ح11.

واستدل لهذا القول أيضاً بالاحتياط فإن الأحوط البدء بالتكاليف في وقت مبكر.

مناقشة القول الأول المشهور:

يوجد توجّه معاصر يناقش في القول المشهور ((وأنه لا يوجد دليل معتبر يعتمد عليه على نظرية التسع))(1).

فناقشوا في (الإجماع) من جهة كونه مدركياً مستنداً إلى الروايات ومن جهة أصل وجوده ((ذلك أن بعض كتب القدماء لم تطرح السن علامة على البلوغ عند البنات، وإنما جعلت المعيار في بلوغهن هو الحيض، وعدم ذكر السن في الكتبالفقهية –حيث تُطرَح علامات البلوغ وتُبَ-يَّ-ن- يُعدُّ بنفسه دليلاً على عدم اعتباره في رأي الفقيه ونظره، وإلا كان لا بد له من ذكره على تقدير أنه يراه من علائمه)) و ((ولا وجود لعلامية السن في البلوغ قبل عصر الشيخ الطوسي في الكتب الفقهية))(2)

وأن عدداً من القدماء لهم قول آخر في المسألة فاختار الشيخ الطوسي (قدس سره) في صوم المبسوط بلوغ عشر سنين وابن حمزة في خمس الوسيلة تمام عشر سنين ومثلهما ابن سعيد الحلي في مبحث الصوم من كتاب (الجامع للشرائع)، إلا أن ابن حمزة اختار في نكاح الوسيلة القول المشهور وكذا ابن سعيد في كتاب الحجر من جامعه، وهو ما فسره صاحب الجواهر (قدس سره) بأنه رجوع عن قولهما السابق إلى القول المشهور.

وناقشوا في (الروايات) من حيث السند تارة ومن حيث الدلالة تارة أخرى بما لا طائل تحته من حيث النتيجة التي نريد الوصول إليها، ولكننا سنفهم وجهها في ضوء النتيجة المختارة بإذن الله تعالى.

ص: 61


1- الشيخ يوسف الصانعي (دام ظله) في مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 5، صفحة 194، وقد عرّفته المجلة بأن له آراءً فقهية عديدة مخالفة للمشهور وخصوصاً في فقه المرأة.
2- مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الخامس: صفحة 193.

ونحن نقول إن أرادوا بمناقشتهم إلغاء حد التسع سنين أصلاً فهذا غير ممكن لأنه معنى متواتر إجمالاً، وإن أرادوا تغيير فهمه من حد مطلق للتكليف إلى حد مشروط بإمكان البلوغ فهذا معنى صحيح وسيأتي بيانه بإذن الله تعالى.

ومن اعتراضاتهم على القول المشهور ((إن بلوغ التسع لا يخلو من حالتين، إما أن يكون أمارة طبيعية للبلوغ، أو أمارة تعبدية بحكم الشارع.

أما الأولى: فلأن بلوغ الإناث الطبيعي يبدأ من السنة الثانية عشرة.

وأما الثانية: فلأن الإمام (عليه السلام) يعلل كون التسع سن البلوغ بتحيّضها في هذا السن، ومع التعليل كيف يكون المعلل أمراً تعبدياً؟)).

وقد أجاب بعض الأعلام المعاصرين بأن ((منشأ الاعتراض هو تصور أنه ليس للبلوغ إلا مرتبة واحدة وهو البلوغ الجنسي الذي تظهر آثاره عند إنبات الشعر أو تحيّض الجارية، فعند ذلك عاد يطرح السؤال السابق، بأنه كيف يكون التسع سنين أمارة طبيعية للبلوغ مع أن البلوغ الطبيعي (الجنسي) يتأخر عن التسع سنين بسنتين أو أكثر؟!.

وقد عرفت أنه لا يراد من البلوغ، البلوغ الجنسي بل بلوغ الجارية حداً ومرتبة تلازم الطفرة النوعية في مزاجها وبُنيتها، وقد كشف الشارع عن مبدئه، وهو التسع سنين، ويحتمل سبق البلوغ على هذا الحد، لكن الشارع اختاره موضوعاً للتكاليف))(1).

أقول: يرد على أصل الاعتراض تواتر هذا المعنى إجمالاً في الروايات، فلا يمكن إلغاؤه جملة وتفصيلاً، وإمكان البلوغ بإكمال التسع، فهي أمارة طبيعية للبلوغ في الجملة كما سنفصّله بإذن الله تعالى.

ويرد على الجواب أن هذه الطفرة النوعية بعينها هي علامة البلوغ لأنها تلازمه ومن آثار تحرك الجهاز التناسلي وبدء نضجه وفاعليته.

أما التمسك ب-(الاحتياط) فإنه لا وجه له:-

ص: 62


1- رسالة في البلوغ للشيخ جعفر سبحاني: 58.

1- لأن الأصل الجاري في المقام هو البراءة ونحوها من الأصول النافية للتكليف.

2- إن الاحتياط إذا كان وارداً في التكليف بالعبادات بوقت مبكّر –وهذا لا حاجة فيه إلى التمسك بالاحتياط لورود الأدلة عليه - فإن تطبيق بعض الأحكام في هذا السن مطلقاً حتى لو لم يوجد احتمال للبلوغ مخالف للاحتياط ومنها:-

أ- إقامة الحدود الكاملة مع أنها مشروطة بالبلوغ والحدود تدرأ بالشبهات.

ب- الدخول بالزوجة الصغيرة إذا أكملت تسع سنين مع اشتراطه بالبلوغ.

ج-- لو حجّت البنت عندما أكملت تسعاً وهي غير بالغة بأية علامة، فالقول بالإجزاء عن حجة الإسلام مخالف لشرط البلوغ وموثقة إسحاق بن عمار المتقدمة (صفحة 27).

وهذه نقوض على القول المشهور.

(القول الثاني) بلوغ الأنثى بثلاث عشرة سنة

وحكي هذا القول عن المحقق الكاشاني، واستدل له بعدة روايات وهي:-

1- موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ فقال: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم)(1).

2- صحيحة عبد الله بن سنان قال: (إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما وجب على المحتلمين احتلم أو لم يحتلم، وكتب عليه السيئات وكتبت له الحسنات، وجاز له كل شيء إلا أن يكون

ص: 63


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب 4، ح12.

سفيهاً)(1) باعتبارها شارحة لعنوان (بلوغ الأشد) الوارد في الآية الشريفة والذي يعني البلوغ وهو شامل للذكر والأنثى.

3- التمسك بعموم الصبيان في خبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: في ثلاث عشرة وأربع عشرة، قلت: فإنه لم يحتلم فيها، قال: وإن كان لم يحتلم فيها فإن الأحكام تجري عليه)(2).

ونوقشت (الرواية الأولى) من جهة إعراض الأصحاب عنها في المقيس عليه –أي بلوغ الذكر في ثلاث عشرة سنة- فضلاً عن المقيس –وهو بلوغ الأنثى في هذا السن-، مضافاً إلى ما اتهم به عمار من عدم إجادته العربية لذا قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((لا يبعد أن يكون هذا من قبيل ما يقع في رواياته من التهافتوالغرائب))(3)

وقال بعض الأعلام المعاصرين عن الموثقة أنها ((يرويها فطحي عن فطحي إلى أن تصل إليه، وقد عرفت أن الرواية متروكة، انفرد بها عمار، ونقل الشيخ في (الاستبصار) أن الأصحاب لا يعملون بمتفرداته، فكيف يصحّ الاعتماد على حديث معرَض عنه طيلة قرون))(4).

ويرد على الأول أن المشهور لم يعرضوا عنها وإنما لم يعملوا بها والأول –لو كان معتبراً- هو المسقط وليس الثاني وأما الإشكال الثاني فلا وجه له ومتن الرواية متين.

وتناقش (الثانية) من جهة أن الآية وإن كانت عامة وتتحدث عن أصل عنوان بلوغ الأشد، إلا أن الرواية ناظرة إلى تفسيره في الذكور فقط كما هو واضح، فالذكر والأنثى يشتركان في كون البلوغ وبلوغ الأشد مناطاً للتكليف لكنهما يختلفان فيما يتحقق به هذا العنوان، ولا دليل على اتحاد الذكر والأنثى في سن البلوغ ليُعمّم الاستدلال بالرواية، بل الدليل على خلافه، ثم إن الرواية

ص: 64


1- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 44، ح11.
2- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب الوصايا، باب 45، ح3.
3- الحدائق الناضرة: 13/185.
4- رسالة في البلوغ للشيخ جعفر السبحاني: 81.

نفسها وردت بألفاظ أخرى في نفس الباب وفي بعضها (إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة) فكيف يصحّ تعميمها.

وتناقش (الثالثة) بأن عنوان الصبيان وإن كان شاملاً للذكور والإناث إلا أن النصّ تكفّل بما يخرج به الذكور من حدّ الصبا بدليل ذكر الاحتلام فموضوع الكلام هم الذكور فقط كالرد الذي ذكرناه في مناقشة الثانية.

فلم يتم دليل على هذا القول إلا موثقة عمار.

علاج التعارض بين القولين

لا شك أن القولين متعارضان ولا يمكن الجمع بينهما لو نظر إلى السنين كحدين على نحو الموضوعية، فلا بد من استعمال مرجحات باب التعارض، وقد رجّح المشهور القول الأول والتزم به لأن العمل به أشهر، ولأن الأخذ بالقول الثاني يلزم منه ترك ذلك العدد الكبير من الروايات التي تتفق بالتواتر الإجمالي على القول الأول.

ورجّح البعض القول الثاني لعدم تمامية أدلة المشهور و ((إن عدم وجود الدليل على بلوغ البنت قبل إتمام الثلاث عشرة سنة يعد بنفسه دليلاً معتبراً على عدم البلوغ إلى ذلك العمر، وأما بعد ذلك ولأجل الاطمئنان بالبلوغ آنذاك، ونتيجة القدر المتيقن وموثقة عمار الساباطي تكون البنت بالغة))(1).

وهو مستفاد مما استدل به صاحب الجواهر (قدس سره) على السن الذي اعتمده المشهور في الذكر لكنه لم يُحسِن الاستفادة إذ المفروض تقريب الاستدلال بأن موضوع التكليف هو البلوغ وهو غير ثابت بحسب الفرض للشك فيه، ولا يجوز التمسك بالعام –وهي عمومات التكليف- في الشبهة المصداقية، وهذا ما يظهر من كلام صاحب الجواهر حيث تَمسَّك (قدس سره) ((بأصل البراءة من التكليف علىالمطلوب، لا لكونه حادثاً منفياً بأصل العدم لرجوعه إلى الاستصحاب، ولا للأصل الشرعي المستفاد من نحو قولهم (كل

ص: 65


1- مجلة الاجتهاد والتجديد: العدد الخامس، صفحة 200.

شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) و (الناس في سعة ما لم يعلموا) وغيرهما، فإن المفهوم من ذلك سقوط التكليف كما يظهر بالتدبر، بل لأن التكليف فرع البيان وهو مفقود في محل النزاع، ودعوى وجود البيان –وهو الخطاب العام الصالح لكل مميز- يدفعها أنها مشروطة بالبلوغ، ولم يثبت قبل إكمال الخمسة عشر))(1)

في الذكور، كما لم يثبت قبل الثلاث عشرة في الأنثى.

مضافاً إلى ((استصحاب عدم البلوغ واستصحاب بقاء ولاية الولي السابق، وبقاء الحجر السابق. كما قال صاحب الجواهر أن نعتبر البنات اللواتي بلغن سن التاسعة غير مكلفات ولا بالغات، فإذا استفدنا من الأدلة الشرعية –كما رأينا في دلالة موثقة عمار الساباطي- سناً آخر للبلوغ جرى الاستصحاب إلى ذلك الزمان لا غير))(2).

أقول: هذه المرجّحات غير نافعة لعدم وجود شهرة فضلاً عن إجماع قبل الشيخ الطوسي (قدس سره) وإن الشهرة المذكورة إنما هي بين المتأخرين فلا تكون معتمدة، والدليل موجود فلا معنى للرجوع إلى الأصول العملية. فالتعارض باقٍ لو أخذنا السن على نحو الموضوعية.

(القول الثالث) إكمال عشر سنين، وقد اختاره بعض القدماء وسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فإنه بعد أن ناقش أدلة المشهور وقال: ((إذن فلا يبقى عندنا دليل على بلوغ الفتاة عند التاسعة أو بانتهاء التاسعة) قال (قدس سره): ((والقدر المتيقن هو بلوغها عشراً، أو قل: في أول عقدها الثاني الذي يبدأ في أول الحادية عشرة، فإنه لا يحتمل بقاؤها على الطفولة بعدئذٍ. فالذي يجب عمله هو الفتوى بالبلوغ عندئذٍ))(3).

فلا دليل عنده (قدس سره) على هذا الاختيار إلا استبعاد الأزيد منه. ويمكن أن يكون الوجه عنده (قدس سره) ما سنختاره من عدم أخذ التسع حداً

ص: 66


1- جواهر الكلام: 26/17.
2- مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الخامس، صفحة 201.
3- ما وراء الفقه: 2/186، طبعة بيروت.

مطلقاً للبلوغ وإنما نتبع العلامات ولكنه (قدس سره) تقدّم خطوة فطبّقها صغروياً على هذا السن للاستبعاد المذكور، ولوروده في عدد من النصوص.

وقال (قدس سره): ((تبلغ الأنثى سن التكليف بالانتهاء من سنتها العاشرة القمرية على الأقوى، وتحتاط بعد الانتهاء من التاسعة بالتكليف احتياطاً مؤكداً، وليس للأنثى علامة أخرى، غير أن رؤية الدم كاشف عن سبق التكليف غالباً إن كانت جاهلة لعمرها أو غافلة عنه))(1).وقال صاحب الحدائق (قدس سره) عن هذا القول: ((وأما القول بالعشر فلم أقف له على دليل، وإن وُجدَ فهو شاذ مأوَّل))(2).

حصيلة النظر في الروايات:

إن التأمل في الروايات يكشف عن عدم التعارض بينها لأن سن التسع لم يؤخذ كحد بنفسه لبلوغ الأنثى على نحو الموضوعية حتى يحصل التعارض لعدة مؤشرات:-

1- إن الشرع المقدس جعل البلوغ مناط التكليف وهو معنى واضح عرفاً ولغة وعلمياً ولم يؤسس حداً شرعياً تعبدياً للتكليف.

2- وجود روايات تمنع من أخذ التسع حداً مطلقاً للبلوغ، كالتي دلّت على التفريق في المضاجع لعشر سنين وهي عديدة (منها) صحيحة عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبي والصبي، والصبي والصبية، والصبية والصبية يُفرَّق بينهم في المضاجع لعشر سنين) (3).

ص: 67


1- فقه الموضوعات الحديثة: الفصل الأول، 23.
2- الحدائق الناضرة: 13/182.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 74، ح2.

وغيرها في نفس الباب، ولا شك أن التفريق في المضاجع يكون قبل البلوغ.

3- وجود الترديد في الرواية الواحدة كصحيحة زرارة (رقم 5) وهو منافٍ لكونه حداً على نحو الموضوعية.

4- إن الأنثى نادراً ما ترى الحيض في التاسعة والأغلب أنه يتأخر عنه، فإذا كان سن التاسعة حداً للبلوغ فيلزم لغوية علامة الحيض لتأخره عن التاسعة مع أنه مذكور في الروايات.

وبتقريب آخر يمكن أن يقال: إن الروايات الدالة على علامية الحيض تنفي بإطلاقها اتخاذ التسع حداً للبلوغ مطلقاً، لأنها تنفي البلوغ عمّن لم تبلغ قابلية التحيّض مطلقاً وإن أكملت تسعاً.

5- ورود التعليل في بعض الروايات لأخذ التسع على أحد معنيين:

(أولهما) إمكان البلوغ في التسع كقوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان (رقم 9) وفيها (وذلك أنها تحيض لتسع سنين) فأخذ سن التسع لأن البنت تنضج فيه وتتحقق عندها القابلية على التحيض.

وقوله (عليه السلام) في رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ثلاث يتزوجن على كل حال: التي لم تحض ومثلها لا تحيض، قال: قلت: وما حدها؟ قال: إذا أُتي لها أقل من تسع سنين)(1).

وقوله (عليه السلام) في خبر حمران: (إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين) فلوحظ في السن زواجها والدخول بها المشروط أصلاً بالبلوغ فهي تدلعلى ((ظرفية العمر، فكأنه قال: إذا تزوجت ودُخل بها عندما يكون عمرها تسع سنين، وهو إن لم يكن قيداً ثالثاً لفعل الشرط كما هو الظاهر، فلا أقل من عدم استقلاليته في الشرطية))(2).

ص: 68


1- وسائل الشيعة: كتاب الطلاق، أبواب العدد، باب 3، ح5.
2- ما وراء الفقه: 2/185.

وقوله (عليه السلام) في صحيحة يزيد الكناسي: (إذا دخلت على زوجها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم) بنفس التقريب السابق.

وقوله (عليه السلام) في مصححة ابن أبي عمير (رقم 2): (وأجمعوا كلهم على أن ابنة تسع لا تستصبا) وكذا خبر محمد بن مسلم (رقم 3).

وهذا المعنى متصور في أجواء الجزيرة العربية التي تتوفر فيها عوامل النضج المبكر وبدوّ البلوغ في التاسعة أو عند إكمالها التي ذكرناها في بداية البحث من حيث نوع المناخ المقارب لخط الاستواء، ونوع الغذاء الغالب فيه التمر، وانتشار ثقافة المجون والخلاعة والتمتع بالإماء، ولذا قال الشافعي(1): ((وأعجل من سمعت به من النساء حضن: نساء تهامة يحضن لتسع سنين))(2).

(ثانيهما) ما يستفاد من بعض الروايات وحاصله: أن سن التسع أخذ كحد لنفي أي احتمال للبلوغ والتحيض قبله وللمنع من الدخول بالمرأة كذلك، ولا يثبت به البلوغ كصحيحة الحلبي (رقم 4) وصحيحة زرارة (رقم 5) وصحيحة الحلبي (رقم 6) فإن غاية ما تدل عليه هو المنع من الدخول قبل التاسعة ولا تدل على جوازه بعد التاسعة إلا بالمفهوم، وهو لا إطلاق له كما ذكرنا في مسألة (تصوير ذوات الأرواح)(3) فلا يمكن التمسك بهذا الإطلاق للاستدلال على جواز الدخول في التاسعة الدال على البلوغ بضميمة ما دلّ على عدم جواز الدخول قبل البلوغ.

ويشهد لهذا المعنى إجماع الفقهاء (قدس الله أرواحهم) على أن أي دم تراه الصبية قبل التسع لا يحكم بأنه حيض حتى لو كان بصفات الحيض.

ص: 69


1- عاش الشافعي في صغره في مكة وتلقّى علومه فيها ثم لبث في البادية ملازماً هذيل سبع عشرة سنة وعاد إلى مكة ثم درس الفقه عند مالك في المدينة. (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 2/173).
2- كتاب الأم: 5/229.
3- فقه الخلاف: 10/50، الطبعة الثانية.

نعم، قد تعرض أطروحة انتصاراً للمشهور بأن يقال أن مناط التكليف وإن كان البلوغ، إلا أنه وبلحاظ تفاوت حصوله للناس، وأن أول أزمنة إمكانه هو إكمال التسع، فقد جعل الشارع المقدس هذا الحد (سناً نوعياً) لبلوغ الناس جميعاً ليتوحّدوا عليه.

وفيه: إن هذا غير معهود من الشارع المقدس فإنه أناط التكليف بالبلوغ والقدرة والعقل ونحوها ويُراعى فيها الحالة الشخصية لكل إنسان، مضافاً إلى أمورذكرناها كلزوم لغوية العلامات الأخرى إلا نادراً، والنقض عليه بجعل خمس عشرة سنة حداً لبلوغ الذكر مع أن المناسب لهذه الأطروحة أن يكون (12-13) سنة.

والخلاصة أن ورود سن التسع في الروايات كان لمعنيين ليس فيهما أنه حد مطلق للبلوغ:

(أحدهما) إمكان بلوغ الأنثى فيه فيحكم ببلوغها في هذه السن بمجرد كون هذا الاحتمال ممكناً في حقها بحسب ما يظهر عليها من تغيرات جسمية ونفسية، وعلى هذا فيمكن أن تكون هذه المسألة مورداً لقاعدة الإمكان التي تناقش في الحيض.

(ثانيهما) عدم إمكان بلوغها قبله وما يترتب عليه من عدم جواز الدخول بها وعدم تسليم أموالها ونحوهما.

وما ورد مطلقاً فيحمل على أحدهما لأنهما معللان والمعلل يقدّم على المطلق.

وقد فهم فقهاء العامة هذين المعنيين فعبّر الحنفية: أن أدنى مدة البلوغ للأنثى تسع سنين، وعبر الشافعية بأن وقت إمكان البلوغ عند استكمال تسع سنين(1)

مع أنهم اختاروا سن البلوغ بخمس عشرة سنة إلى ثمان عشرة سنة.

ص: 70


1- الفقه الإسلامي وأدلته، د.وهبة الزحيلي، الطبعة الثالثة، المجلد 6، صفحة 4473.

القول المختار في علامية السن:

إن البلوغ حالة طبيعية معروفة تصاحبها تغيّرات جسمية ونفسية وعقلية، ولا يحكم به قبل إكمال الأنثى تسع سنين، وإنما يحكم به بعد ذلك مع إمكانه وبدوّ ظهور علاماته، فلو كنا نقطع أن بنتاً ما أكملت التاسعة ولا زالت في دور الطفولة فلا يحكم ببلوغها حتى تبدأ عندها تلك العلامات، ويبقى هذا الحكم حتى بلوغها ثلاث عشرة سنة فإذا لم تظهر عليها علامات فإنها تبلغ بالسن عندئذٍ لأن تأخر العلامات عن هذا السن حالة غير طبيعية وغير الطبيعي يرجع إلى الحالة الطبيعية كما يفيد الاستقراء في موارد الفقه المختلفة.

نعم، في خصوص العبادات ورد حثّ من الشارع المقدس على قيام الصبيان بالواجبات قبل سن التكليف وتلزم الأنثى بها عند إكمالها تسع سنين، ولكن لا يجب عليها القضاء لو تركت إلا من الحد الذي ذكرناه، أعني بدوّ علامات البلوغ بعد إمكانه.

مقتضى العمومات الفوقانية والأصول العملية

لقد عرفنا كيفية الجمع بين الروايات بحسب دلالة الروايات أنفسها ولكن لو تنزلنا وافترضنا استقرار التعارض بين القولين فإنه يحصل الشك في جريان التكاليف والأحكام فيما بين الحدين وحينئذٍ ننظر في مقتضى العمومات الفوقانية –إن وجدت- وإلا فنعمل بمقتضى الأصول العملية.والعمومات الفوقانية مختلفة بحسب الأحكام ففي العبادات يلزم الصبي بها عند الشك لعموم «أَقِيمُوا الصَلاةَ» و «كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِيَامُ» ونحوها، خرج منها المتيقن عدم بلوغه بحديث الرفع ونحوه ويبقى غيره مشمولاً بعموم الخطاب، لجريان العام في الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص.

إن قلتَ: إن غير البالغ –ومنه المشكوك- يقبح خطابه.

قلتُ: لا قبح فيه لأن البلوغ يسبقه التمييز ولا مانع عقلاً من خطاب المميز بالأحكام كما هو واضح من الشريعة.

ص: 71

وأما الأحكام الأخرى كرفع الحجر عنهم وتسليم أموالهم إليهم وإقامة الحدود عليهم والدخول بالزوجة فإن موضوعها البلوغ كما ورد في الروايات فلا تجري هذه الأحكام في الفرد المشكوك لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

أما (الأصول العملية) الجارية في المقام فهي أصالة البراءة من التكليف واستصحاب بقاء الحجر وولاية القيّم وعدم جواز الدخول في الزوجة وأصالة عدم البلوغ وغيرها وكلها تنتج نفي التكليف إلى سن الثالثة عشرة.

نتيجة البحث في المسألة

البلوغ: مرحلة من مراحل عمر الإنسان يخرج بها من مرحلة الطفولة، وتتحقق بنضج الأجهزة التناسلية، وانبعاث القدرة فيها على التأثير والتأثر بالجنس الآخر. وبداية هذه المرحلة تعرف بالمراهقة لأنها تشهد شبقاً وميلاً شديداً للازدواج بالجنس الآخر، وتنعكس على تصرفات المراهق وسلوكياته لذلك فهي تظهر عليه غالباً مهما حاول إخفاءها.

وتتزامن معها عدة آثار فسيولوجية وسايكولوجية تعتبر علامات على البلوغ بعضها يسبق بعضاً كغلظ الصوت للذكور ونمو الأثداء للإناث ونبات الشعر الخشن على العانة فيهما، والعلامة الرئيسية الكاشفة عن تحقق البلوغ عند الذكور هي خروج المني في اليقظة أو المنام، والتحيّض عند الإناث.

ولأن البلوغ موضوع مهم تترتب عليه إلزامات والتزامات وتكاليف وأحكام وحقوق فقد تدخّل الشرع المقدس لبيان العلامات الطبيعية عليه ووضع حدوداً شرعية تعبدية فيما لو تأخر ظهور تلك العلامات وهو سنّ خمس عشرة سنة عند الذكور وثلاث عشر سنة عند الإناث، لأن التأخر عن ذلك حالة غير طبيعية لكن عمر إمكان البلوغ للأنثى هو تسع سنين.

ص: 72

فروع

(الأول) هل يكفي الدخول في السن المذكور لتحقق البلوغ أم المعتبر إكماله.

قال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: ((ويعتبر إكمال السنة الخامسة عشرة والتاسعة في الأنثى، فلا يكفي الطعن فيها عملاً بالاستصحاب وفتوى الأصحاب، ولأن الداخل في السنة الأخيرة لا يسمى ابن خمس عشرة سنة لغةً ولا عرفاً، والاكتفاء بالطعن فيها وجه للشافعية))(1).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((المراد من الخمسة عشر نصاً وفتوىً ما هو المنساق منهما من إكمال العدد لا الدخول فيه، وبه صرّح غير واحد بل نسبه جماعة إلى المشهور بل عن مجمع البيان، وظاهر التذكرة، والمسالك الجوادية، نسبته إلى أصحابنا))(2).

وقوّاه (قدس سره) وقال: ((وأنه يدل عليه الكتاب والسنة والعقل، وقد يقال: والإجماع، إذ المسألة وإن كان قد يُتوهم أنها سداسية الأقوال، الخمس عشر دخولاً وكمالاً، وكذا الأربع عشر، وكمال الثلاث عشر، والعشر، لكن التحقيق أنه ليس فيها إلا قولان، أحدهما المشهور وهو كمال الخمس عشر، والثاني قول ابن الجنيد وهو كمال الأربع عشر))(3).

لكنّ ظاهر المحقق الأردبيلي كفاية الدخول في السنة، قال (قدس سره) ما ملخّصه: ((والظاهر أنه لا يشترط إكمال خمس عشرة، بل يحصل بالشروع فيه، وإكمال أربع عشرة، وبذلك يمكن الجمع بين الأخبار))(4) ثم قال:

ص: 73


1- مسالك الأفهام، كتاب الحجر، 4/144.
2- جواهر الكلام: 26/28.
3- جواهر الكلام: 26/28.
4- مجمع الفائدة: 9/190.

((وتعرف أنه ليس فتوى جميع الأصحاب وليس بحجة، وأن ليس خامس عشر بواقع في كتاب ولا سنة معتبرة ولا إجماع حتى يكون معناه إكماله))(1).

وتبعه صاحب الحدائق (قدس سره) فقال: ((ظاهر عبارات الأصحاب الاكتفاء بمجرد الدخول، وهو ظاهر الأخبار، حيث صرّحت بأن بلوغ الخمس عشرة موجب للبلوغ، وظاهره هو الاكتفاء بالدخول فيها وإن لم يتمها))(2).

وردّ صاحب الجواهر (قدس سره) على الجمع الذي ذكره الأردبيلي فإنه بعد أن عدد الأقوال في مسألة السن قال (قدس سره): ((أما القول بالدخول في الخمس عشر فلم نعرف القائل به، نعم، عن الأردبيلي انه حكاه عن بعض أصحابنا واختاره،وعن الكفاية موافقته في الحكاية دون الاختيار، لكن الظاهر أنه وهم، خصوصاً بعد ما سمعت من التصريح بعدم الاكتفاء بالطعن فيها وأنه لا بد من إكمالها، اللهم إلا أن يكون النظر في هذا القول إلى قول ابن الجنيد بالأربع عشر، بناءً على أن العلم بإكمالها لا يحصل إلا بالدخول فيما بعدها، لكن عليه يتحد هذا القول مع قول ابن الجنيد، ضرورة كون اعتبار الدخول في الخمس عشر للعلم بحصول الحد لا لاعتباره في أصل التحديد، وكان العدول في التعبير حينئذٍ للتنبيه على تأويل نصوص الخمس عشر بذلك))(3).

أقول: الصحيح ما اختاره الشهيد الثاني (قدس سره) وغيره من إكمال السنة، لأن معنى (بلغ) لغةً: أي انتهى إلى أقصى المقصد –كما نقلنا عن المفردات- وإن العرف لا يطلق (بلغ تسعاً) إلا على من أكملها، ولصحة السلب عن من لم يكمل السنة فإن من كان له ثمان سنين وشهراً لا يقال عنه أنه بلغ تسعاً، نعم، لو ورد في الدليل: بلغت السنة التاسعة أو ابنة تسع-كما في صحيحة ابن أبي عمير- أمكن الاكتفاء بالدخول فيها، لكن ذيل الصحيحة يرجع المعنى إلى ما ذكرناه.

ص: 74


1- مجمع الفائدة: 9/191.
2- الحدائق الناضرة: 20/35.
3- جواهر الكلام: 26/28.

وعلى هذا فلا حاجة للاستدلال بالاستصحاب وعمل الأصحاب.

فإن قلتَ: إن هذا البحث إنما يجري بناءً على فهمهم (قدس الله أرواحهم) من كون السن حداً للبلوغ ولا يأتي فيما اخترناه من كونه ظرفاً والمهم تحقق العلامات حيث لا ثمرة فيه على مختارنا.

قلتُ: بل يأتي على مختارنا أيضاً، لأنه حينئذٍ سيقال أن الذي يحكم فيه بالبلوغ عند الذكر إذا لم تظهر العلامات هل هو دخوله في السنة الخامسة عشرة أو إكماله إياها؟ وإن أول أزمنة إمكان البلوغ في الأنثى هل هو دخول السنة التاسعة أم إكمالها.

(الثاني) قال الشهيد الثاني (قدس سره): ((والمعتبر من السنين القمرية دون الشمسية، لأن ذلك هو المعهود في شرعنا))(1)

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره) بأنه ((المعروف عند العرب، وقد قال الله تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ» وقال: «يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ»))(2).

وأضاف (قدس سره) ما يناسب تدقيقاته قائلاً: ((وعلى هذا فيعتبر في الذكر مضي أربع عشرة سنة وأحد عشر شهراً هلالياً في السنة الأولى، ويكمل الشهر الأول منها من السادسة عشر ثلاثين يوماً إن كان تاماً وإلا ففي تكملته ثلاثين كالأول، أو بقدر ما فات منه تم أو نقص احتمالات: أظهرهما عند بعض الأساطين الأول، وكذاالكلام في الأنثى، وربما قيل بانكسار الشهور والسنين كلها بانكسار الشهر الأول فيبطل اعتبار الأهلة ويرجع إلى العدد في الجميع وهو ضعيف))(3).

ص: 75


1- مسالك الأفهام: 4/144.
2- جواهر الكلام: 26/40.
3- جواهر الكلام: 26/40.

(الثالث) تقدم (صفحة 47) أن بعض الفقهاء (قدس الله أرواحهم) جمع بين الروايات المختلفة في تحديد السن بحمل الأقل على التكليف بالعبادات، والأكثر على المعاملات والحدود الكاملة، كما عن صاحب الحدائق (قدس سره).

واختاره الفيض الكاشاني (قدس سره) فقال: ((والتوفيق بين الأخبار يقتضي اختلاف معنى البلوغ بحسب السن بالإضافة إلى أنواع التكاليف كما يظهر مما روي في باب الصيام: أنه لا يجب على الأنثى قبل إكمالها الثلاث عشرة سنة، إلا إذا حاضت قبل ذلك. وما روي في باب الحدود أن الأنثى تؤاخذ بها، وهي تؤخذ لها تامة إذا أكملت تسع سنين.

إلى غير ذلك مما ورد في الوصية والعتق ونحوهما أنها تصحّ من ذي العشر))(1).

وحكى بعض الأعلام المعاصرين عن بعض الباحثين تفصيلاً أكثر حاصله: ((أن البلوغ بمراتبه المختلفة موضوع لأحكام كذلك.

1- ففي مجال العقائد يكفي إجراء الشهادتين على اللسان عن وعي ودرك وإن لم يبلغ الخمس عشرة سنة من الذكور، والتسع في الأنثى، فلو أسلم ولد الكافر وأذعن بهما كإذعان سائر الأفراد، فهو محكوم بالإسلام ويخرج عن كونه تابعاً لوالديه.

2- وفي مورد العقود، كالبيع والإجارة والرهن والإيصاء والعتق والطلاق يكفي البلوغ إلى عشر سنين بشرط الرشد الفكري والعقلاني.

3- وبالنسبة إلى الحدود والتعزيرات يكفي بلوغ الأنثى مبلغ النساء، ومن علائمه التزويج، وتعالي البنية البدنية وإن لم تبلغ العشر.

4- وفي مجال العبادات، يكفي أحد الأمرين الطمث، أو البلوغ إلى ثلاث عشرة سنة خصوصاً في الصوم))(2).

ص: 76


1- مفاتيح الشرائع للفيض الكاشاني: 14، المفتاح الثاني.
2- رسالة في البلوغ للشيخ جعفر السبحاني: 80.

وبعد أن رد عليه قال (دام ظله الشريف): ((وإني أُجلُّ شيخنا المحقق العزيز أنار الله برهانه عن الإفتاء بهذا التفصيل الذي يوجب الفوضى في المجتمع الإسلامي ويُضفي للمسألة إجمالاً وإبهاماً، ولعله –دام ظله- يجدد النظر فيما أفاد)).

أقول: يرد على جميع هذه الأقوال:-

الحشد الكبير من الروايات التي دلت على أن البلوغ هو شرط التكليف بالعبادات وجريان الأحكام ونفوذ المعاملات على حد سواء وأن هذه الأرقام كانت تعابير1- عن هذه الحالة الموحّدة، وقد قام الإجماع على ذلك وإنما اختلفوا في علاماته وتحديد سنه.

2- تصريح عدد من الروايات بترتب كل التكاليف والأحكام عند السن المقرر كصحيحة عبد الله بن سنان وخبر المروزي.

3- إن لجوءهم إلى التفصيل كان لحل مشكلة التعارض بعد أن عجزوا عن الجمع بينها، وقد ذكرنا وجهاً عرفياً مقبولاً له فلا تبقى حاجة للتفصيل أصلاً.

4- يلزم من قولهم أمر غير مقبول وهو كون الصبي بالغاً في باب العبادات غير بالغ في باب المعاملات، وبالغاً فيها غير بالغ في الحدود وهكذا.

((فما تفرد به الفاضل الكاشاني –من أن التحديد بالسن مختلف في التكليفات، وأن الحد في كل شيء هو التحديد الوارد فيه، ظناً منه أن التوفيق بين النصوص الواردة في السن إنما يحصل بذلك- واضح الفساد، لمخالفته إجماع الإمامية بل المسلمين كافةً، فإن العلماء مع اختلافهم في حد البلوغ بالسن مجمعون على أن البلوغ الرافع للحجر هو الذي يثبت به التكليف، وأن الذي يثبت به التكليف في العبادات هو الذي يثبت به التكليف في غيرها، وأنه لا فرق بين الصلاة وغيرها من العبادات، فيه.

بل هو أمر ظاهر في الشريعة، معلوم من طريقة فقهاء الفريقين، وعمل المسلمين في الأعصار والأمصار من غير نكير، ولم يسمع من أحد منهم تقسيم الصبيان بحسب اختلاف مراتب السن، بأن يكون بعضهم بالغاً في الصلاة مثلاً

ص: 77

غير بالغ في الزكاة، أو بالغاً في العبادات دون المعاملات، أو بالغاً فيها غير بالغ في الحدود، وما ذاك إلا لكون البلوغ بالسن أمراً متحداً غير قابل للتجزية والتنويع))(1).

(الرابع) ليس من التبعيض في الأحكام الذي منعناه في الفرع السابق ما لو حدد الفقيه الجامع للشرائط بالولاية عمراً لبعض الحالات الخاصة كسنّ ثمانية عشر عاماً للمشاركة في الانتخابات أو بيع العقارات أو منح إجازة قيادة السيارة ونحوها، فإنه لا علاقة له بالبلوغ وإنما اقتضته مصلحة معينة في نظره وبالعكس فقد يقتضي نظر الفقيه قبول أمره فيما قبل البلوغ.

وقد دلّت الروايات على قبول وصية الصبي إذا بلغ عشر سنين ومنها صحيحة محمد بن مسلم قال:(سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يُدرِك جازت وصيته لذوي الأرحام ولم تجز للغرباء)(2)

وموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته)(3)­­ ومعتبرة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف وحق فهو جائز)(4)، وقبول شهادته كصحيحة جميل قال: (قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): تجوز شهادة الصبيان؟ قال: نعم، في القتل يؤخذ بأول كلامه، ولا يؤخذ بالثاني منه)(5).

4(3).

(الخامس) لو اكتشف دواء يُعجّل بالبلوغ عند الإنسان أي قبل التسع عند الأنثى مثلاً، فهل تجري عليها الأحكام والتكاليف أم لا؟

على ما التزم به المشهور (قدس الله أرواحهم) من جعل السن حداً

ص: 78


1- جواهر الكلام: 26/41.
2- وسائل الشيعة: كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، باب 44، ح1، 3، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب الشهادات، باب 22، ح1.

للبلوغ فإنه لا تجري عليها الأحكام قبل بلوغ التسع تعبداً بالنصوص، أما على مختارنا فتجري لأن مناط التكليف هو البلوغ، وما تلك العلامات إلا كواشف عنه، فمتى صدق الموضوع تحقق الحكم، وإنما منعت الروايات من التعامل مع البنت قبل التسع على أنها بالغة فإنه بلحاظ الحالة الطبيعية، ولا تشمل ما لو اصطنع تعجيل البلوغ بالدواء.

ولكن يجب أن نلتفت إلى أن البلوغ لا يعني تحرك الجهاز التناسلي والشهوة الجنسية فقط وإنما يعني اكتمال القوى لدى الإنسان كما عرّفناه في بداية البحث لذا وصفه القرآن الكريم ببلوغ الأشد، فالبلوغ عبارة عن منظومة من القوى تتكامل وليست قوة واحدة.

إن قلتَ: إن الروايات أفادت –بحسب ما تقدم – نفي إمكان البلوغ قبل التاسعة للأنثى بحيث أنها لو رأت دماً بصفات الحيض فلا يحكم عليه أنه حيض فكيف يمكن القبول بالبلوغ قبل هذا السن.

قلتُ: إن الروايات أناطت التكاليف بالبلوغ كشرط للتكليف، لكن الشارع المقدس تدخل صغروياً لتنقيح الموضوع لمصلحة أشرنا إليها، فيكون تدخله على نحو القضية الخارجية بلحاظ الظروف الموجودة وهو لا ينفي إمكان حصول البلوغ في سنّ قبل هذا.

إن قلتَ: نتمسك بإطلاق نفي الإمام (عليه السلام) للبلوغ قبل التسع الشامل للحالة الطبيعية أو باستعمال الدواء، ولا تبقى خصوصية لفرض استعمال الدواء.

قلتُ: إن المورد من الشبهات الموضوعية التي حددها الإمام (عليه السلام) على نحو القضية الخارجية في عصره (عليه السلام) فلا معنى للتمسك بالإطلاق في المورد.

نعم، لو نظرنا إلى هذا المعنى على أنه حكم فيُتمسَّك بإطلاقه لنفي أي بلوغ قبل التاسعة تعبداً حتى لو اكتملت قواه.

ص: 79

وعلى أي حال فالمسألة لا تخلو من إشكال، فالأحوط الاقتصار في هذه النتيجة على العبادات، أما في إجراء الحدود الكاملة أو الدخول في الزوجة فلا تجري؛ لاحتمال الخصوصية في التسع بنظر الشارع المقدّس.

وهذا ليس تبعيضاً في الأحكام لأنه بلحاظ إجراء الأصول العملية.

ص: 80

البحث الثاني : في مطهّريّة الشمس

اشارة

ص: 81

ص: 82

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثاني: في مطهرية الشمس

البحث الثاني: في مطهرية الشمس(1)

((القول بمطهرية الشمس - في الجملة - هو المشهور لدى الفقهاء -كما عن جماعة كثيرة- بل عن الخلاف والسرائر حكاية الإجماع عليه))(2)،

وخالف سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) فقال بعدم مطهريتها ونقله عن أستاذه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ويشهد له عدم ذكره الشمس ضمن المطهرات في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة).

وذهب إليه شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) فقال: ((بل لا يبعد عدم مطهرية الشمس مطلقاً))(3).

ودليل المشهور عدة روايات بعد الشهرة المحققة والإجماع المنقول حيث نقل صاحب الجواهر(4)

عن أستاذه كاشف الغطاء أنها شهرة كادت تبلغ الإجماع وقال: ((بل هو معقد مذهب الإمامية في كشف الحق والإجماع في السرائر وموضعين من الخلاف))(5)

وقال (قدس سره): ((وهو الحجة بعد صحيح زرارة..)) وسرد الروايات في المقام وتستفاد من كلماته (قدس سره) المبثوثة في مناقشة الروايات تقريبات أخرى فاستدل-لو لم تتم الروايات-:

((بسهولة الملة وسماحتها، بل وبنفي العسر والحرج اللازمين على تقدير عدم الطهارة بالإشراق، بل وبالسيرة من الناس كافة كما في الرياض في جميع

ص: 83


1- (*) ابتدأ إلقاء البحث يوم 4/ ذ. ق./1427 الموافق 2006/11/26.
2- المستمسك : 2/75.
3- منهاج الصالحين للشيخ الفياض : 1/192.
4- جواهر الكلام : 6/253.
5- أحد الموضعين في الخلاف: كتاب الطهارة، المسألة 186 في الجزء الأول الصفحة 218 والآخر في كتاب الصلاة، المسألة 236 في الصفحة 495 من نفس الجزء.

الأزمنة على عدم إزالة النجاسة عن مثل الأرض بالماء، وعلى الاكتفاء بالطهارة بالشمس بل وبما قيل من عموم ما دلّ على طهورية الأرض ومن أن الشمس من شأنها الإسخان الملطف للأجزاء الرطبة والمصعّد لها، مع إحالة الأرض للأجزاء الباقية اليسيرة، فتطهر حينئذ، خصوصاً لو قلنا أن الطهارة النظافة والنزاهة الحاصلتان بمجرد زوال القذارة عن المحل إلى غير ذلك)) وقال إن فيها ((كفاية عن غيرها))(1).

وهي كلها قابلة للمناقشة:1- إن الشهرة حتى لو بلغت الإجماع إنما هي مدركية لوضوح استنادها إلى الروايات التي سنتعرض لها إن شاء الله تعالى فلا يكون الإجماع فضلاً عن الشهرة حجة في المقام.

2- إن ما ذكر من نفي العسر والحرج إنما يصلح لبيان الحكمة والمصلحة في التشريع وليس علة للحكم فلا يصلح دليلاً على مستوى العناوين الثانوية -كما هو المفروض عند ذكر هذه العناوين- وهو (قدس سره) لا يريد أكيداً حكومة هذه العناوين الثانوية واستناد الحكم إليها وإلا لدار الحكم مدارها وهو لا يلتزم به.

وليس المورد من تطبيقاتها كما أننا لا نعتقد أن في الإلزام بتطهير الأرض بالماء فيه عسر ومشقة.

3- ما ذكر (قدس سره) من الإسخان والتصعيد والإحالة يمكن أن يكون مبناه (قدس سره) في التطهير لكن يُنقض عليه بأنه جارٍ في المتنجسات الأخرى كالبدن والثياب فلماذا لا يُعمَّم سبب التطهير مع أنه لا يغني عن التطهير بالماء فيها أما الاستحالة التي عُدَّت من المطهرات فإنها خاصة بموارد تبدل الحقيقة والمورد ليس من موارد تطهير الاستحالة.

4- إن ما قال (قدس سره) من الاستدلال بالسيرة ونقله عن الرياض غير تام صغرى وكبرى:

أما الصغرى: فلعدم وجود سيرة متشرعية وبناء على الطهارة إلا لمن

ص: 84


1- جواهر الكلام : 6/257.

يقول بها فقهياً أما عند غيرهم فربما كان عدم التطهير للاستغناء عن طهارة المكان مثلاً.

وأما الكبرى: فلعدم وجود ما يثبت أن السيرة متصلة جيلاً بعد جيل إلى زمان المعصوم لتكون كاشفة عن فعله (عليه السلام).

5- إن الطهارة لها كيفية حدّدها الشارع قد تقتضي الغسل بالماء أو التعفير بالتراب أو تعدد الغسلات ونحوها ولا يكتفي في تحققها بحصول النظافة والنزاهة بمجرد زوال القذارة عن المحل كما قال (قدس سره).

ص: 85

الاستدلال بالروايات على مطهرية الشمس

وهي عديدة:

الرواية الأولى: صحيحة زرارة (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يُصلى فيه، فقال (عليه السلام): إذا جففته الشمس فصلِّ عليه، فهو طاهر)(1)،

والاستدلال بها في موضعين:

1- تصريح الإمام (عليه السلام) في الذيل بطهارة المكان، وكأن الإمام (عليه السلام) لم يكتف بالإجابة عن مورد السؤال وإنما أعطى القاعدة العامة والعلة في الحكم كما هو شأنه (عليه السلام) مع مثل فقيه عظيم كزرارة فأفاده أن الجواز ليس من جهة العفو عن الصلاة في المكان النجس الجاف كما ربما يقال وإنما لأن المكان يطهر بالشمس والفاء تفيد التعليل وبذلك يكون الإمام (عليه السلام) قد أجاب عن الحالة الخاصة وهي جواز الصلاة والعامة وهي الطهارة لأن السؤال تضمن المعنيين وسنناقش الاحتمال الآخر في هذا الوجه ضمن عنوان (قول آخر في المسألة) بإذن الله تعالى.

2- قوله (عليه السلام): (فصلِّ عليه) من جهتين:

الأولى: إطلاق جواب الإمام (عليه السلام) الشامل لموضع السجود وهو مما تشترط فيه الطهارة(2)

فالفقرة تفيد الطهارة بالدلالة الالتزامية.

وقد يضعّف بأن الإطلاق وإن كان متحققاً في المقام إلا أننا نعتقد أن مثل زرارة ملتزم بما حثّ عليه المعصومون (عليهم السلام) من السجود على الخمرة

ص: 86


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، مج2، أبواب النجاسات، الباب29
2- نقل عن صاحب المدارك المخالفة فقال: ((لم أقف على مستند في اشتراط طهارة محل السجود سوى الإجماع المنقول وليس بحجة)) وسيأتي تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

وأنها سنّة(1)واستحباب

السجود على التربة الحسينية(2)

فيكون موضع السجود خارجاً بهذه القرينة وهي التفاتة لطيفة إلا أنها لا تصل إلى المنع من الاستدلال بالإطلاق.

وقد يقال: إن مثل هذا الاستدلال مبني على سبق علم السائل بعدم العفو عن موضع السجود المتنجس إذا جففته الشمس كاستثناء من اشترط الطهارة في موضعالسجود وهذا ما ذكره مسلّماً السيد الخوئي (قدس سره) في التنقيح(3)

إلا أنه مصادرة على المطلوب عند من يرى دلالة هذه الفقرة وموثقة إسحاق بن عمار الآتية عليه.

أقول: إن هذا الاحتمال سنناقشه في عنوان (قول آخر في المسألة) بإذن الله تعالى ويكفي في دفعه قول الإمام (عليه السلام) في الذيل (فهو طاهر) على نحو التعليل والصحيح في رد هذا التقريب وجهان:

أ- إن أدلة اشتراط طهارة محل السجود لبية لا إطلاق لها فلا تثبت لوازمها كما أريد لها في المقام.

ب- ولو تنزلنا فإن الاستفادة المذكورة غير ظاهرة ولو قلنا بها لالتزمنا بنظائرها كالتي رخصت بالصلاة على الشاذكونة والبواري التي تصيبها الجنابة والبول والماء القذر إذا جفّت من دون تطهير(4)

وهو بعيد ولا يمكن الالتزام به بناءً على اشتراط الطهارة في محل السجود.

فالإطلاق الموجود هنا كإطلاق ما دلّ على حلّية ما في البحر من صيد مثلاً

ص: 87


1- روى الكليني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (السجود على الأرض فريضة، وعلى الخمرة سنة) الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب ما يسجد عليه، الباب 11 ح 1 وفي الحديث الثالث من نفس الباب عن أبي الحسن موسى قال: (لا يستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلي عليها..).
2- روى الشيخ الطوسي في المصباح بإسناده عن معاوية بن عمار عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن السجود على تربة أبي عبد الله (عليه السلام) يخرق الحجب السبع) (نفس المصدر، الباب 16، ح 3).
3- المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره) : 4/124.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 30.

«أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ» (المائدة: 96) فانه لا ينافي وجود شروط في بعض التفاصيل.

الثانية: إن الإمام (عليه السلام) حكم بالطهارة من خلال ذكر بعض آثارها لأن السؤال هنا لم يكن عن جواز الصلاة في المكان حتى يقال أن جواب الإمام لا ينحصر بالدلالة على الطهارة ولعله كان من باب جواز الصلاة في المكان النجس (عدا موضع السجود) وإنما كان السؤال عمّا يعمّ هذا الأثر وهو جواز الصلاة وغيره وهي الطهارة لقول السائل: (على السطح أو في المكان الذي يُصلى فيه) والعطف يدل على المغايرة فحينئذ يكون الإذن بالصلاة في المكان النجس الذي جففته الشمس من آثار الطهارة لا من باب العفو عن الصلاة في المكان النجس.

ونوقش بعدم دلالة العطف على المغايرة دائماً(1)

ولو سلّمنا دلالتها فإنه يكفي فيها التغاير من جهة (أي في الجملة) وإن لم يكن تاماً وفي المقام يكون من باب عطف العام (المكان) على الخاص وهو السطح مع وحدة اللحاظ فيهما وهو كونهما محلاً للصلاة وتكون هنا (أو) للإضراب فبعد أن سأله (عليه السلام) عن السطح عاد ليسأله عن عموم المكان الذي يصلي فيه وليس السطح خاصة، خصوصاً وأن طهارة السطح شيء غير مطلوب لذاته وإنما للصلاة عليه.

والأول وإن كان ممكناً في نفسه إلا أن ما قلناه أظهر على أن حمل (أو) على معنى الإضراب غير وارد هنا لأن زرارة يتحدث عن حالة سابقة وليس في حالة كلام ارتجالي حتى يتصور عليه العدول من معنى إلى معنى.

والثاني مردود لأن طهارة السطح مما تكثر الحاجة إليها لغير الصلاة لمماسّته بالرطوبة المسرية ببدنه عند النوم صيفاً أو بملابسه بعد غسلها وتعريضها للشمس.

على أن السؤال عن الطهارة وذكر جواز الصلاة كأحد آثارها مما تكرّر في

ص: 88


1- فقد تدل -كما قيل- على التوكيد كقوله تعالى: «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا» (النساء: 112) أو للإضراب كقوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» (الصافات: 147) فالمغايرة غير متعينة.

الروايات الشريفة ومنها موثقة عمار الساباطي الآتية فإنها ذكرت النهي عن الصلاة كناية عن عدم طهارة المكان(1)

رغم أن المكان جاف والصلاة في المكان الجاف جائزة وهي وصحيحة زرارة من باب واحد سوى أنهما أشارتا إلى الأثرين المتقابلين أي الطهارة والنجاسة.

وحينئذ لا حاجة إلى تقريب الاستدلال بالرواية على الطهارة بدعوى أن الإمام قال: (فصلِّ عليه) ولم يقل: (فصلِّ فيه) وهي ظاهرة في محل السجود لا مطلق مكان المصلي فتدل على الطهارة لاشتراطها فيه، ورُدَّ بعدم الظهور في ذلك(2)

ووجه عدم الحاجة لعدم وضوح الظهور في هذا المدعى فإن العرف يفهم من قول الإمام (عليه السلام): (فصلِّ عليه) أي (صلِّ فيه).

وقد ردّ سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) الاستدلال بالرواية من جهتين:-

1- ((إن مورد السؤال والجواب هو مورد الصلاة وليس طهارته الأصلية بغض النظر عن الذيل))(3).

وقد رددنا عليه من خلال التقريب الثاني المتقدم وأن السؤال لم يكن عن جواز الصلاة بما هو ولو كان السؤال عن جواز الصلاة خاصة لما استفدناه من الطهارة لاحتمال أن الجواز من باب العفو وإنما كان السؤال عن الأعم بدليل العطف الدال على المغايرة وليس السطح محلاً للصلاة، فالسؤال كان عن شيء له آثار أحدها جواز الصلاة وليس هو إلا الطهارة وإنما ذكر جواز الصلاة

ص: 89


1- نوقش بأنه قياس مع الفارق من أكثر من جهة:- 1- إنه في الموثقة محمول على الكراهة للترخيص في الجاف النجس. 2- إنه بلحاظ موضع السجود. 3- ولو سلمنا فإنه في الموثقة بقرينة (وأعلِم موضعه) ولا قرينة هنا ونرد عليها بأننا ذكرناه كشاهد وليس كدليل حتى تدخل فيه الاحتمالات.
2- نقل هذا الاستدلال السيد الخوئي في تقريرات التنقيح : 3/165.
3- من تقريراتي لبحثه الخارج في الفقه الذي كان يلقيه صباحاً في مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)، تأريخ المحاضرة 20 ذ.ح 1415 وقد كنت أقرر في دفتري نص كلامه (قدس سره).

باعتباره من آثار الطهارة. ولو كان السؤال عن جواز الصلاة في المكان النجس إذا كان جافاً فلا معنى لذكر الشمس حيث لا خصوصية لها من هذه الناحية، وليست هي أظهر الأفراد فلعل الغالب في التجفيف بسبب الريح كما أن التعليل بالذيل (فهو طاهر) يكون حينئذ لا معنى له.

2- ((عدم إمكان حمل (طاهر) في كلام الإمام (عليه السلام) على المعنى الاصطلاحي الفقهي لأنه اصطلاح متأخر لا تفهم في ضوئه الروايات فيحمل على الطهارة اللغوية والعرفية السائدة آنذاك وهو يعني النظافة من الوسخ أي أن قذارته غير موجودة ولا تحمل على الطهارة الحكمية)) وكأنه (قدس سره) لم يكتف بهذا المقدار من البيان فأضاف في اليوم التالي ((يجب أن نلتفت إلى أن النجاسة بالمعنىالفقهي تستفاد من لسان واحد: أرق عليه الماء أو اغسله ولا يستفاد من الأعم من قبيل (لا تصلِّ فيه) فلا يستفاد الخاص من العام لاحتمال وجود مانع آخر كعرق الجنب من حرام الذي ورد فيه (لا تصلِّ فيه) وهو أعم من النجاسة كما أن نقيضه (صلِّ فيه) لا يدل على الطهارة وأن حمل ألفاظ المعصومين (عليهم السلام) على المصطلح الفقهي يحتاج إلى إثبات، وبالاستقراء يثبت ذلك لو تم حسياً أما بالغفلة والاستصحاب القهقرائي فعهدته على مدعيه، كقوله: (الجاف على الجاف ذكي) ليس يعني طاهر بل لا تسري النجاسة وهو أحد المحتملات هنا ويحتمل أن (طاهر) بمعنى صلاته صحيحة، ومن اطمأن فاطمئنانه بسبب التربية الحوزوية ويستصحبه قهقرائياً إلى زمن المعصومين (عليهم السلام) )).

وكلامه (قدس سره) صحيح كبروياً أي أن المعنى الذي تحمل عليه الألفاظ الواردة في كلام المعصوم (عليه السلام) يجب أن يكون مما تعارف عليه أهل اللغة في ذلك الزمان ولا يصح حملها على معانٍ ومصطلحات مستحدثة ومع الشك لا يمكن التمسك بالاستصحاب القهقرائي إلا أن ينضمّ إليه ما يثبت ذلك كالاستقراء ونحوه.

ومن الصحيح أيضاً ما قاله (قدس سره) من أنه لا يمكن التمسك بمدلول عام لإفادة معنى مخصوص كاستفادة طهارة المكان من الإذن بالصلاة فيه لأن

ص: 90

الصلاة تجوز في المكان النجس مع أمن السراية.

وإنما يناقش من عدة جهات صغروية:-

أ- إننا قدمنا أن المستفاد من الرواية السؤال عن طهارة المكان وقد ورد الإذن بالصلاة باعتباره من آثار طهارة المكان.

ب- بناءً على ما قدمناه من كون الفاء في (فهو طاهر) لتعليل جواز الصلاة بطهارة المكان يتعين فهم الطهارة المتشرعية وإلا يصبح لا معنى له.

ج-- إن دعواه (قدس سره) بأن الفهم المتشرعي للطهارة متأخر عن زمان النص غير صحيحة فقد ورد هذا المعنى -أعني الطهارة مقابل النجاسة والقذارة التي وردت بمعنى النجاسة- نصوص عديدة: منها ما سنذكره ضمن الروايات التي استدل بها على مطهرية الشمس وهي المجموعة الخامسة ورد فيها عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال إن الأرض (إذا أصابها قذر ثم أتت عليها الشمس فقد طهرت) وسئل (عليه السلام) عن البقعة يصيبها البول والقذر، قال: (الشمس طهور لها) وورد في دعائه (عليه السلام) عند الوضوء (الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً ولم يجعله نجساً)(1)

وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حكاية وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة)(2)،

ورواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر)(3)

ولا معنى لحمل القذارة هنا على غير النجاسة لعدمفائدة في جعل العلم به غاية للحكم بالطهارة وبمقتضى المقابلة يُعلم المراد من الطهارة، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) (إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضاً)(4)

وفي مطهرية الأرض من النجاسات التي تصيب باطن القدم ورد قول أبي عبد الله

ص: 91


1- وسائل الشيعة : ج1، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 16، ح1.
2- وسائل الشيعة : ج1، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 15، ح2.
3- وسائل الشيعة : ج1، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب1، ح5.
4- وسائل الشيعة : ج1، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 7، ح7.

الصادق (عليه السلام) في صحيح الحلبي (إن الأرض تطهر بعضها بعضاً)(1)

وصحيح الحلبي الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (قلت له: إن طريقي إلى المسجد في زقاقٍ يبال فيه فربما مررت فيه وليس عليَّ حذاء فيلصق برجلي من نداوته، فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس، إن الأرض تطهر بعضها بعضاً)(2).

لذا قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((والمناقشة بعدم إرادة المعنى الشرعي من لفظ الطهارة مدفوعة بما مرَّ غير مرة من إمكان دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية فيها في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن عصر الصادقين (عليهما السلام) ))(3).

وعلى أي حال فإن هذه الإشكالات على الاستدلال بالرواية سابقة على سيدنا الأستاذ (قدس سره) وقد اكتفى السيد الخوئي بالرد عليها بقوله: ((ولعمري إن الكف عن التعرض لأمثال هذه المناقشة أولى وأحسن))(4)

وقال صاحب الجواهر: ((فلا يليق بفقيه التوقف في الاستدلال بها لنحو هذه المناقشات الواهية))(5).

وقد استشكل سيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره) من جهة أخرى فقال: ((إن الإمام لم يأمر بتجفيف الموضع فالبول إذا جف تبقى عينه وعلى هذا لا يمكن القول بطهارته)) لكنها مناقشة في تفاصيل الحكم وسيأتي اشتراط وجود رطوبة لتزيل عين النجاسة وتجففها الشمس ونحن نتحدث هنا عن أصل المطهرية في الجملة.

وناقش شيخنا الأستاذ الفياض في دلالة الصحيحة بقوله ((ودلالة الصحيحة على أصل مطهرية الشمس محل إشكال وتأمل بلحاظ أنه علّق فيها

ص: 92


1- وسائل الشيعة : ج2، أبواب النجاسات، باب 32، ح4.
2- وسائل الشيعة : ج2، أبواب النجاسات ، باب32، ح9.
3- جواهر الكلام : 6/254.
4- التنقيح : ج3/ص166.
5- جواهر الكلام : 6/254.

جواز الصلاة في المكان المزبور على صيرورته جافاً ويابساً بالشمس، فلو كنّا نحن وهذه الجملة فهي لا تدلُّ على أكثر من أن المكان المزبور إذا جف فلا مانع من الصلاة فيه، إذ لا يعتبر أن تكون الصلاة في المكان الطاهر شرعاً، ولذا لا يفهم العرف منها خصوصية للشمس، وأما قوله (عليه السلام): (فهو طاهر) فبما أنه بمثابة التعليل لجواز الصلاة فيه بعد جفافه لعدم كون صحة الصلاة مشروطة بكون مكانها طاهر شرعاً، فلا محالة يكونبمعنى النظيف إذ لا معنى لتعليل الأمر بالصلاة فيه بكونه طاهر شرعاً بعد ما لم تكن الطهارة الشرعية معتبرة فيه، بل تكفي صيرورته جافاً بحيث لا تسري نجاسته إلى المصلي، نعم، لو لم تكن الصحيحة بهذه الصيغة بل كانت بصيغة أخرى مثل: (إذا جففته الشمس فهو طاهر) أو نحوها لدلت على مطهريتها، وأما بهذه الصيغة فلا تدل عليها.

فالنتيجة: أن المقتضي لمطهرية الشمس قاصر في نفسه، فحينئذٍ تكون مطهريتها مبنية على الاحتياط))(1).

وكلامه (دام ظله) غير تام من عدة جهات:-

1- إذا لم يكن دليل المطهرية تاماً فمقتضى الاحتياط والاستصحاب نجاسة المكان وعدم مطهرية الشمس له.

2- إن الصيغة التي اقترحها وجعلها تامة هي عينها المذكورة في كلام الإمام (عليه السلام) وأما الفصل فيها بقوله (عليه السلام): (فصلِّ عليه) فإنه من آثارها ولأن السائل ورد في كلامه ذكر هذا الأثر فكما انتقل السائل من الخاص إلى العام انتقل الإمام (عليه السلام) من خصوص مورد السؤال إلى عموم الآثار.

3- قوله أن الرواية تدل على جواز الصلاة في المكان النجس إذا جفّ مردود بأن السؤال كان أعم من هذا وبأنه سوف لا تبقى خصوصية لذكر الشمس ولا ادري كيف جعل ذكر الشمس دليلاً على مختاره حين قال ((ولذا لا يفهم منها خصوصية للشمس)) وهي تدل على العكس.

4- بعد أن اعترف بأن الذيل بمثابة التعليل فلا معنى لحمل الطاهر على النظيف

ص: 93


1- تعاليق مبسوطة : 1/167.

لأنه ليس علة لجواز الصلاة وإنما الطهارة المتشرعية علة لجواز الصلاة فيكون للتعليل وجه وإن لم تكن منحصرة به لإمكان الصلاة في المكان الجاف مع الأمن من السراية ولكنها هنا منحصرة في ضوء فهم إطلاق كلامه (عليه السلام) الشامل لموضع السجود فلا يجوز السجود على النجس الجاف.

5- إن في كلامه (دام ظله) مصادرة على المطلوب فبعد أن سلم أن قول الإمام (عليه السلام): (فصلّ عليه) تدل على جواز الصلاة في المكان النجس الجاف فرع عليه كون معنى الطهارة النظافة على نحو اليقين فقال: (لا محالة).

6- قوله: ((لا معنى لتعليل الأمر بالصلاة فيه بكونه طاهراً شرعاً)) غير مفهوم لأن التعليل واضح حيث أن المبرر لجواز الصلاة في المكان أحد أمرين إما الطهارة أو كونه نجساً جافاً.

7- قوله: ((لتعليل الأمر)) وصيغة الأمر هنا تدل على الترخيص لا الأمر لأنه في مقام توهم الحظر.

الرواية الثانية: موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله في حديث(1)

قال: (سئلعن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس، ولكنه قد يبس الموضع القذر، قال: لا يُصلّى عليه وأعلِم موضعه حتى تغسله، وعن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطباً فلا يجوز الصلاة حتى ييبس، وإن

ص: 94


1- الرواية التي تضمنت الصدر موجودة في التهذيب، كتاب الصلاة، باب 17، ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز، ح80. وذكر الشيخ الطوسي في التهذيب في كتاب الطهارة الباب 12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح89. نفس الرواية من دون الصدر وابتدأ بقوله (عليه السلام): (سئل عن الشمس) وكذا في الاستبصار، كتاب الطهارة، باب 114 : الأرض والبواري والحصر يصيبها البول وتجففها الشمس.

كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلِّ على ذلك الموضع حتى ييبس، وإن كان غير الشمس أصابه حتى ييبس فإنه لا يجوز ذلك)(1).

والاستدلال بها في عدة مواضع:

الموضع الأول: قوله (عليه السلام): (إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم ييبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة) بتقريب أن جواز الصلاة يمكن أن يكون مستنداً إلى العفو عن الصلاة في المكان النجس مع الجفاف ويمكن أن يكون مبنياً على طهارة المكان بالشمس إذا جففته والاستدلال بالأعم على حصة خاصة غير صحيح إلا بالقرينة وهنا نقول أن الثاني أظهر بقرينة السؤال السابق حيث أجاب الإمام (عليه السلام): (لا يصلى عليه) كناية عن نجاسته بقرينة (وأعلِم موضعه حتى تغسله) ولأن السؤال يفترض جفاف المكان والصلاة على مثله جائزة فلماذا نهى الإمام (عليه السلام) عنها؟ فهذه قرينتان على جواز الصلاة لوحظت فيه الطهارة وليس العفو عن الموضع الجاف.

وقد يناقش هذا التقريب من جهتين:-

1- إن الصدر الذي جعل قرينة على فهم محل الاستدلال غير موجود في الاستبصار والتهذيب في كتاب الطهارة.

2- إن السؤال في الصدر كان عن موضع لا تصيبه الشمس فمن الطبيعي أن تنحصر جواز الصلاة فيه بالغسل فقال الإمام (عليه السلام): (وأعلِم موضعه حتى تغسله) أما الموضع الثاني فتصيبه الشمس فيدخل هنا احتمال العفو عن نجاسة المكان الذي تصيبه الشمس ولا يتعين احتمال الطهارة بالشمس وهما مردودان.

أما الأول: فلورود الرواية كاملة مع الصدر في موضع آخر من التهذيب في كتاب الصلاة والمؤلف إنما يقتطع من الرواية ما يناسب المقام.

وأما الثاني: فإنه إن أراد العفو عن الصلاة في المكان النجس الجاف فهو

ص: 95


1- وسائل الشيعة : كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب29، ح4.

ممكن حتى بغير الشمس وإن كان بمعنى أن المكان الذي تجففه الشمس يكون بمنزلة الطاهر بحيث يصح حتى اتخاذه موضعاً للسجود فهو القول الآخر في المسألة الذي سنعرضه لاحقاً بإذن الله تعالى.

وقد تناقش قرينية السؤال السابق بأنه قياس مع الفارق فإن عدم جواز الصلاة له لازم واحد ينصرف إليه وهو نجاسة المكان أما جواز الصلاة فله لازمان: طهارة المكان والعفو عن المكان النجس إذا كان جافاً فلا تنصرف إليه الكناية.وهي التفاتة لطيفة في نفسها إلا أننا لسنا بصدد القياس والاستدلال وإنما بصدد فهم القرائن على المراد من الكلام وهي كافية بهذا المقدار.

الموضع الثاني: قوله (عليه السلام): (وإن كانت رجلك رطبة وجبهتك رطبة أو غير ذلك منك مما يصيب ذلك الموضع القذر...) من جهتين:-

1- الإذن بإصابة الموضع النجس الذي جففته الشمس رغم وجود الرطوبة في الماس وهذا لا يكون إلا للموضع الطاهر.

2- جواز اتخاذه موضعاً لسجود الجبهة وهو مشروط بالطهارة.

واستشكل سيدنا الأستاذ (قدس سره) على الاستدلال بهذه الفقرة بأن قوله (عليه السلام): (حتى ييبس) تعود إلى الرجل والجبهة لا إلى الموضع القذر لأنه مفروض الجفاف ((ولو كان المراد رطوبة المكان لما كان فرض رطوبة الوجه والرجل معقولاً فمعنى ذلك جفاف المكان وحكم بنجاسة الملاقي له إذا كان رطباً لقوله: (فلا تصلِّ فيه) ولقوله: (حتى يجفَّ ما يصيب المكان القذر منك).)).

والإشكال مذكور في كلمات السيد الخوئي (قدس سره)(1) وزاد في كلام المستشكل بقوله: ((مؤكداً ذلك بما عن الوافي والحبل المتين من قوله (عليه السلام): وإن كان عين الشمس بالعين المهملة والنون بدلاً عن (غير الشمس) لأنها على ذلك صريحة في عدم طهارة الموضع بإصابة الشمس وإشراقها عليه وكلمة (إن) على تلك النسخة وصلية، كما أن قوله: فإنه لا يجوز ذلك تأكيد

ص: 96


1- التنقيح : 3/169.

لعدم جواز الصلاة على ذلك الموضع حتى ييبس)).

وقد استبعد (قدس سره) الدعوى بعدة أمور نلخّص بعضها بتصرف ونعرض عن بعضها القابل للمناقشة ونضيف إليها ما نراه مناسباً بإذن الله:-

1- ما تقدم من أن الرواية تدل في أكثر من موضع على مطهرية الشمس فلا يُعبأ بهذه الاحتمالات بل ترفض لمخالفتها للظهور.

2- إن الضمير في (ييبس) يعود إلى الموضع لقربه لا إلى الجبهة والرجل ولما قاله السيد الخوئي (قدس سره) أنهما مؤنثتان فلا يناسبهما التعبير بالمذكر.

نعم، قد يقال -تخلصاً من إشكال التذكير- برجوعه إلى (ما) الموصولة في قوله (عليه السلام): (ما يصيب ذلك الموضع القذر) ويرد عليه، بأن ما ذكرناه أظهر مضافاً إلى أن الجملة التي بعدها (وإن كان غير الشمس أصابه حتى ييبس) واضحة الرجوع على الموضع والكلام بسياق واحد.

3- إن النسخة لو كانت (عين الشمس) وجب تأنيث الضمير في أصابه لأن الضمير المتأخر في المؤنثات السماعية لا بد من تأنيثه وإن جاز فيه الوجهان لو تقدم على أن كلمة (عين) لم يسبق ذكرها حتى تذكر هنا ولا فائدة من إضافتها وفي كشف اللثام أن العين سهو من الناسخ(1).

4- إن الرواية إنما أوردها الشيخ الطوسي (قدس سره) واستدل بها على مطهرية الشمس للأرض ومع كون الرواية (عين الشمس) غير الدالة على المطهريةفكيف استدل بها (قدس سره) أما ما قاله سيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره) من عدم إمكان عودة ضمير (ييبس) على الموضع لعدم معقوليته لأنه مفروض الجفاف فهو غير صحيح لأن الجفاف مذكور فيما سبق كغاية ولا دليل على تحققه في الفرض وإنما افترض عدم معقوليته لأن رطوبته تجعل افتراض رطوبة الجبهة والرجل لغواً وهذا مردود لأن (حتى ييبس) متعلقة بواسطة الباء بمحذوف وهو

ص: 97


1- كشف اللثام، للفاضل الهندي: 1/459.

(الشمس) دلّ عليه مجموع الكلام ويكون حاصله لا تضع رجلك أو جبهتك على هذا الموضع حتى ييبس بالشمس فأين عدم المعقولية؟.

واستشكل سيدنا الأستاذ (قدس سره) أيضاً من أكثر من جهة:-

1- إن التجفيف وحده لا يكفي للطهارة حتى لمن قال بمطهرية الشمس وقد أجبنا على مثله بأنه مناقشة في التفاصيل.

2- ((إن السؤال عن الشمس هل تطهّر فأعرض الإمام (عليه السلام) وقال: الصلاة على الموضع جائزة)) فكأنه (قدس سره) يريد أن يقول أن الإمام (عليه السلام) أراد أن يوصل معنى عدم مطهرية الشمس بلباقة توافق ظروف التقية ونحوها ويرد عليه:-

أ- إن الاستدلال ليس منحصراً بهذه الفقرة.

ب- إننا استظهرنا أنَّ جواز الصلاة كناية عن طهارة المكان باعتباره من آثارها لا من باب العفو عن الصلاة في المكان النجس.

ج-- إنه لا مسوغ لإعراض الإمام عن الجواب الصريح من تقية ونحوها بل التقية على العكس إذ المعروف عنهم عدم المطهرية -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- فيكون هذا مؤيداً لمرادنا حيث أن الإمام (عليه السلام) تجنّب التصريح بمطهرية الشمس لمخالفتها للتقية وعبَّر عنها بأحد آثارها وهو جواز الصلاة الأعم من الطهارة والعفو وأحال على القرينة المتقدمة لتعيين الحصة المقصودة منها.

د- إن الرواية إن عجزت عن إثبات المطلوب وهو مطهرية الشمس فإنها عن الدلالة على عدم المطهرية أعجز، فلا تنفع المستدل بها على ذلك لأنها غير متعرضة لعدم المطهرية ولا يستظهر منها، نعم، هو يكفيه دخول احتمال عدم المطهرية لإجراء الأصل وهو استصحاب نجاسة المكان أو قد يقال إنه يستظهر من الإعراض في الجواب عن السؤال وهو ما تقدمت الإشارة إليه.

والموضع الثالث من الرواية الذي يمكن أن يستدل به مفهوم قوله (عليه

ص: 98

السلام) (وإن كان غير الشمس قد جففته فلا يجوز ذلك)(1)

وقد اعترف بصلاحية المقطع للاستدلال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) لكنه قال إن ذلك مبني علىأن كون المحمول في صدر الرواية هو الطهارة وهو غير تام إذ أن المحمول جواز الصلاة كما أن الضمير يرجع إلى القريب وهو هنا الرجل والوجه وقد أجبنا عن الإشكالين بأن جواز الصلاة كناية عن الطهارة باعتبارها من آثاره ولو كان المحمول جواز الصلاة فلماذا قال الإمام (عليه السلام): (لا يجوز ذلك) رغم جفاف المكان النجس والمفروض جواز الصلاة فيه، وأما الثاني فهو غريب لأن الموضع اقرب من الرجل والجبهة اللهم إلا أن يريد بالقريب فاعل ييبس وهو عنده (قدس سره) الرجل والجبهة بحسب تقريبه المتقدم وهو مردود لأن (الرجل) مؤنث سماعي (والجبهة) مؤنث لفظي فالموافق لهما (تيبس).

الرواية الثالثة: صحيحة زرارة وحديد بن حكيم الأزدي (قالا: قلنا لأبي عبد الله (عليه السلام): السطح يصيبه البول أو يبال عليه يُصلّى في ذلك المكان؟ فقال: إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافاً فلا بأس به إلا أن يكون يتخذ مبالاً)(2).

ويمكن تقريب دلالتها على مطهرية الشمس بوجهين:-

1- إطلاق نفي البأس بالصلاة في المكان الشامل لموضع السجود وهو مما يشترط فيه الطهارة.

2- تبرع الإمام (عليه السلام) بذكر الشمس لتعليمهما طريقة لتطهير مثل

ص: 99


1- هذه الفقرة غير موجودة في رواية التهذيب الثانية، وذكرت كلمة (عين) بدل (غير) في رواية التهذيب الأولى، نعم، هي موجودة في الاستبصار. وقد أجبنا عن مثل هذه الأمور التي لا تُعدَّ اضطراباً في الرواية ولا تلفيقاً من صاحب الوسائل وإنما هي رواية واحدة قطّعها الشيخ الطوسي (قدس سره) بحسب موضع الحاجة وجمعها صاحب الوسائل لذا قال عند نقله الرواية: (في حديث) إشارة إلى تقطيعه.
2- وسائل الشيعة : مج2، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 29، ح2.

هذا المكان ولو كان الجواب عن جواز الصلاة بذاته لاكتفى (عليه السلام) بذكر الجفاف فما علة إضافته للشمس غير إخبارهما بإحدى المطهرات وأما ذكره للريح فهو من جهة الإخبار عن حالة طبيعية غالبة وهي اشتراك الريح في التجفيف وعدم الخلل بذلك والمهم حصول الجفاف واستناده إلى الشمس ولو بمساعدة الريح. وأما استثناء حالة اتخاذه مبالاً فهو للتنزيه أو لرسوخ عين النجاسة في المكان فتتعذر إزالتها فتصلح الرواية مؤيدة لما تقدمها.

لكن الإنصاف أن الرواية غير ظاهرة في طهارة المكان بالشمس لأن السؤال عن جواز الصلاة في المكان النجس وهو أمر أعم من طهارته لجواز الصلاة في المكان النجس مع أمن السراية خصوصاً وأن الإمام (عليه السلام) اشترط جفاف المكان للصلاة وهذا على عدم الطهارة أدلّ ولو كان طاهراً فلماذا اشترط على المصلي الجفاف؟ أما الإطلاق المذكور في التقريب الأول فقد ناقشنا في أمثاله.

نعم، لو أخذت جملة (وكان جافاً) جزءاً من إصابة الشمس والريح لا من جواز الصلاة أي يكون معناه أنه يُصبح جافاً بإصابة الشمس والريح مع ما قلناه في التقريب الثاني من وجود مسوّغ لذكر الشمس خفّت الوطأة باعتبار أن الجفاف بالشمس مشروط في المطهرية وعلى أي حال فالرواية تكون مجملة وغير دالة على عدمالمطهرية ولا دلالة فيها على المطهرية وربما صلحت كمؤيد في المقام.

الرواية الرابعة: عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر)(1)

وبنفس الإسناد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كل ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر)(2).

ودلالتها على المطلوب ظاهرة بعد رد المناقشة في كون معنى الطهارة في الروايات مطابقة للمعنى المتشرعي إلا أن المشكلة في سندها فإن راويها عن أبي بكر الحضرمي وهو عثمان بن عبد الملك لم يرد فيه توثيق ولا ينفع في إحراز

ص: 100


1- المصدر السابق : ج5، ح6.
2- المصدر السابق : ج5، ح6.

الوثاقة رواية الأساطين لها كالمفيد والشيخ والقميين كأحمد بن محمد بن عيسى لأنهم نقلوا عن الضعفاء ونقلهم لها لا يدل على قبولها بذاتها عندهم لأنه قد يكون لاعتضادها بالروايات الصحيحة الأخرى وذكرهم إياها للتأكيد فلا يتمسك بإطلاقها. نعم، هي تصلح للتأييد باعتماد جماعة من المتقدمين والمتأخرين عليها والعمل بها أما الشيخ الأنصاري فقد وصفها في طهارته بأنها ((معتضدة بنفي الخلاف المتقدم عن التنقيح المعتضد بالشهرة المحكية)) فهي لا تصلح كدليل مستقل.

وناقش سيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره) في دلالتها من جهة إطلاقها وشمولها لما يصح وما لا يصح تطهيره بالشمس وفق ما يأتي من التفصيل بإذن الله تعالى وهو أحد إطلاقين للرواية ذكرهما السيد الخوئي (قدس سره) لا بد من تقييدهما والثاني إطلاقها من جهة اليبوسة وعدمها حيث أنها تقتضي طهارة كل ما أشرقت عليه الشمس سواء يبس بإشراقها أم لم ييبس لكن هذه التفاصيل تكفلت بيانها روايات أخرى ونحن في مقام الاستدلال على أصل المطهرية.

الرواية الخامسة: الأخبار الموجودة في كتاب الجعفريات(1) ففيه عن موسى

ص: 101


1- رواها المحدّث النوري في مستدرك الوسائل : الباب 22 من أبواب النجاسات والأواني عن كتاب الجعفريات المسمى أيضاً بالأشعثيات وهي أخبار رواها محمد بن محمد بن الأشعث عن موسى بن إسماعيل بن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه إسماعيل عن جده الإمام موسى عن أبيه جعفر بن محمد (عليهم السلام) والكتاب مثار جدل وذكر صاحب الجواهر عدة مبررات لعدم الاعتماد عليها أجاب عنها جميعاً المحدث النوري في فوائده في خاتمة المستدرك بدقة علمية وتتبع عالٍ. وكان أحد هذه المبررات عدم نقل صاحب الوسائل عنه فهو دليل عدم اعتماده عليه لاستبعاد عدم وصول نسخة إليه والجواب: إن هذا الاستبعاد في غير محله فلعل السبب هو هذا والشاهد عليه أن صاحب الوسائل نقل عنه بالواسطة في باب كراهة قول رمضان من غير إضافة إلى الشهر (الباب 19 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 3) ونقل وصف كتاب الجعفريات فقال: ((ابن طاووس في كتاب الإقبال نقلاً من كتاب الجعفريات وهي ألف حديث بإسناد واحد عظيم الشأن إلى مولانا موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) ونقله النجاشي ومن حيث التوثيق فإن محمد وثقه النجاشي ويوجد ما يدل على حسن حال موسى وأبيه إسماعيل ونقل المحدث النوري في خاتمة المستدرك شواهد على ذلك)).

بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام)... إلى أن قال، (قالوا: فالأرض يا أمير المؤمنين؟ قال: (إذا أصابها قذر ثم أتت عليها الشمس فقد طهرت) وبهذا الإسناد أن علياً عليه السلام سُئل عن البقعة يصيبها البول والقذر، قال: الشمس طهور لها).

الرواية السادسة: ما ورد في الفقه الرضوي من قوله (عليه السلام) (ما وقعت الشمس عليه من الأماكن التي أصابها شيء من النجاسة مثل البول وغيرها طهرتها، وأما الثياب فلا تطهر إلا بالغسل)(1)

وهي تصلح للتأييد لأن كتاب (الفقه الرضوي) لم تثبت نسبته إلى الإمام الرضا (عليه السلام) بحجة تامة والمظنون أنها رسالة عملية لأحد قدماء الفقهاء كتبه في المشهد الرضوي المقدس ولكنه قد ثبت بالاستقراء أن فتاواهم كانت غالباً نصوصاً للمعصومين (عليهم السلام) فمن هذه الناحية تكون بقوة الرواية غير ثابتة الحجة فتصلح للتأييد.

الرواية السابعة: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام الكاظم (عليه السلام) التي رواها الصدوق (رحمه الله) عنه أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) (عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبها البول، ويغتسل فيهما من الجنابة، أيُصلى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم)(2).

وتقريب الاستدلال أن السائل كان يفترض مسلّماً أن الشمس تطهر مثل هذا المكان لو كانت تصيبه ويسأل عن حالة عدم إمكان وصول الشمس إليه والإمام (عليه السلام) لم ينكر عليه هذا التسليم.

قد يقال إن جواب الإمام لم يكن بصيغة الإقرار لارتكاز السائل وكان

ص: 102


1- مستدرك الوسائل : الباب 22، من أبواب النجاسات.
2- وسائل الشيعة : كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 30، ح1.

جوابه (عليه السلام) منصباً على مقدار السؤال.

ويجاب بأن هذا صحيح بمقدار نص الرواية لكنه غير صحيح بلحاظ أن علي بن جعفر فقيه كبير وأخ للإمام (عليه السلام) فلا يليق به أن يترك على ارتكاز خاطئ.

وعلى أي حال فهي تصلح كمؤيد.

ص: 103

رواية معارضة

وتوجد رواية صحيحة تمسك بها القائلون بعدم المطهرية وأوجبت عندهم صرف ظهور الروايات المتقدمة والتشكيك في حجيتها وهي صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه هل تطهّره الشمس من غير ماء؟ قال: كيف تُطهّر

من غير ماء)(1)

وفي الاستبصار (تطْهُر).

وممن تمسك بالتعارض ورجّح عدم المطهرية سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) ووصف هذا القول بأنه واضح(2)

بعد أن أجاب على عدة إشكالات:

منها: الإضمار الموجود في الرواية بأن الإضمار لا يضر بروايات خاصة الأئمة (عليهم السلام) -ومنهم ابن بزيع- للاطمئنان أنهم رووها عن الإمام (عليه السلام) نفسه.

ومنها: إن قوله (عليه السلام) (كيف تطهر من غير ماء) يعم كل المطهرات وهذا نقض على الاستظهار وأجاب عنه بأن تقييده في المطهرات الأخرى استفيد من أدلة أخرى فما دلّ الدليل على كونه مطهراً أخذنا به، لكنه (قدس سره) اعترف بأن قول الإمام (عليه السلام) هذا آبٍ عن التقييد لأنه استفهام استنكاري.

ومنها: إنه ليكن ما دل على تقييد هذا الاستفهام الأدلة المتقدمة على مطهرية الشمس.

وأجاب (قدس سره) بأن هذا غير معتدل لأنه ورد ذكر الشمس بالدلالة المطابقية فالتقييد بها غير محتمل.

ثم خلص (قدس سره) إلى استقرار التعارض فتتساقط الأدلة ونرجع إلى الأصل العملي وهو استصحاب النجاسة.

ص: 104


1- وسائل الشيعة : باب 12، ح7 / التهذيب : كتاب الطهارة، باب 12، تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح92. والاستبصار : كتاب الطهارة، باب 114، ح4.
2- محاضرة 21 ذ.ح 1415.

ثم عقّب على ذلك بإشكال وجوابه، فقال (قدس سره):

((إن قلت: عند التعارض يؤخذ بما اشتهر بين الأصحاب والشهرة للطائفة الأولى.

قلت: إن الشهرة المرجحة هي الشهرة الروائية لا شهرة الفتوى فإنه من عمل الأصحاب)).

أقول: إن اعترافه (قدس سره) باستقرار التعارض شاهد على ارتكاز تمامية دلالة الروايات المتقدمة على الطهارة رغم مناقشته (قدس سره) فيها ولو لم تتم عنده لما قال بالتعارض لاستظهاره عدم المطهرية من صحيحة ابن بزيع هذه، وبغض النظر عن هذا فالصحيح بأن هذه الرواية لا تعارض الروايات المتقدمة الدالة على المطهرية من عدة وجوه:

الأول: إن الظاهر من الرواية أنها بصدد بيان مدخلية وجود الماء -وإن قلَّ بدليل تنكيره الذي يصدق على النجس- في عملية التطهير بالشمس ولو بإلقاء ماءمتنجس على المكان لكي يستند الجفاف إلى الشمس ولإزالة عين النجاسة والشاهد على ذلك مفروغية السائل من مطهرية الشمس وإنما سأل عن كونها مجردة أي يكفي فيها الإشراق على المكان أم لا بد من انضمام شرط آخر وهو واضح على ما في نسخة التهذيب التي أثبتناها حيث قال السائل: (تطهره الشمس) وليس كما في الوسائل (تطهر) فأجابه الإمام (عليه السلام) بوجوب انضمام الماء ليستند إليها التجفيف فالرواية بصدد بيان هذا الشرط لا أنها تنفي مطهرية الشمس لتعارض الأدلة المتقدمة.

الثاني: إن كلام الإمام (عليه السلام) لم يتضمن جواباً حتى يمكن أن يعارض الروايات المتقدمة وإنما كان سؤالاً ومثل هذا الأسلوب يكون تهرباً من الإمام (عليه السلام) من الجواب الصريح الذي هو القول بالمطهرية تقية من الدولة لذهاب أكثر فقهائها إلى القول بعدم المطهرية ومثاله كما لو سئل أحد بمحضر أحد الطغاة هل تقول بإمامة فلان فيقول وهل يوجد إمام غيره فالجواب هو مجرد سؤال لا يتضمن أي جواب إلا أن الطرف الآخر يفهم تحقق مطلوبه.

الثالث: إن موضوع الطائفة الأولى (صحيحة زرارة وموثقة عمار) مباين

ص: 105

لموضوع هذه الطائفة (صحيحة ابن بزيع) أو مخصص لها فلا تعارض لأن موضوع الطائفة الأولى هي الأرض الرطبة التي يستند تجفيفها إلى الشمس وقد أفادت الرواية طهارتها وموضوع الثانية إما الأرض اليابسة (بقرينة احتياجها إلى الماء) أو مطلق الأرض الشاملة للرطبة واليابسة وعلى التقدير الأول فالموضوعان متباينان ويكون مفاد الرواية أن الأرض الجافة بغير الشمس لا تطهر إلا بالماء وعلى الثاني فإن موضوع الأولى مخصص للثانية فتخرج الأرض الرطبة التي تجففها الشمس بالطائفة الأولى ويحكم عليها بالطهارة وتبقى الأرض الجافة بغير الشمس أو التي لا زالت رطبة تحت موضوع الطائفة الثانية فلا يحكم بطهارتها حتى يصب عليها الماء وهو ما نتفق عليه.

الرابع: إن السائل لم يفترض جفاف الأرض بإشراق الشمس عليها إما لأنها جافة أصلاً أو لأن رطوبة النجاسة ما زالت باقية وفي كلتا الحالتين لا تطهر الأرض إلا بالماء.

الخامس: إننا لو التزمنا بفهمهم للصحيحة فسنلغي جملة من المطهرات كالأرض والاستحالة والانقلاب وغيرها.

فإن قلت: إن تلك المطهرات خرجت بالدليل.

قلت: ومطهرية الشمس أيضاً ثبتت بالأدلة المتقدمة فلماذا لم تخرج أيضاً؟

الخامس: إننا لو قلنا بالمعارضة كان الترجيح للروايات الدالة على المطهرية لمخالفتها للعامة(1) أو أن الإمام (عليه السلام) أراد إخفاء مذهبه في فترة احتدام

ص: 106


1- نقل المرحوم الشهيد الشيخ ميرزا الغروي (قدس سره) في هامش تقريرات أبحاث أستاذه الخوئي (قدس سره) (التنقيح : 3/174) عن الميزان للشعراني ج1 ص24 عند الأئمة الثلاثة أن الشمس والنار لا يؤثران في النجاسة تطهيراً، وقال أبو حنيفة إذا تنجست الأرض فجفّت بالشمس طهر موضعها وجاز الصلاة عليها، وفي كتاب الأم: ج1 ص 45 إذا صب على الأرض شيء من الذائب كالبول والخمر والصديد وشبهه، ثم ذهب أثره ولونه وريحه فكان في شمس أو غير شمس فسواء ولا يطهره إلا أن يصب عليه الماء وذهب إليه الشيخ عبد القادر الشيباني الحنبلي في نيل المآرب : ج1 ص20 وابن مفلح الحنبلي في الفروع : ج1 ص153 وغيرهم ونقل عن صاحب الحدائق أنه نقل عن البحر الرائق لابن نجيم ((قال في المنتهى: لو جفّ بغير الشمس لم يطهر عندنا قولاً واحداً خلافاً للحنفية)). أقول: إن تقريب التقية بهذا الشكل غير مفيد لأن المذاهب الأربعة تبلورت واشتهرت وتبنّتها الدولة بعد عصر الإمام الصادق (عليه السلام) فلا يمكن ملاحظتها في ما ورد عنه (عليه السلام) وإنما تعرض بأكثر من تقريب:- 1- إذا كانت أقوال أئمة المذاهب في مسألة معينة تعبيراً عن آراء فقهاء العامة من الأجيال السابقة عليهم والتي كانت تتبناها الدولة كالحسن البصري وابن سيرين والأوزاعي وسفيان وغيرهم. 2- أن يكون السائل ناقلاً لما يدور بين فقهائهم المعاصرين من آراء على نحو الاستشكال والإيضاح أو النقد كما ينقل عن إسحاق بن عمار أنه عاش مع العامة فتشوش ذهنه ببعض آرائهم فكانت أسئلته للإمام (عليه السلام) إشكالات نتيجة ما علق بذهنه.

الصراع بين المذاهب وكانت الدولة تغذّيه.

ولا ينفع الترجيح بالشهرة(1) لأن المرجح وهي الشهرة الروائية متساوية في الطائفتين والشهرة المتحققة للطائفة الأولى وهي الفتوائية ومرجعها إلى عمل الأصحاب وهي غير مرجحة.

وهذه الوجوه أفضل بالتأكيد من قول صاحب الجواهر بوجوب طرح الصحيحة(2).

ص: 107


1- جواهر الكلام : 6/259.
2- كما فعل السيد الخوئي (قدس سره) في التنقيح: 3/174.

نتيجة استقراء الروايات

ونتيجة ما تقدم القول بمطهرية الشمس في الجملة لوجود المقتضي وفقدان المانع:

أما المقتضي فهما أمران:-

1- الروايات، وقد قرّبنا الاستدلال بصحيحة زرارة وموثقة عمار المؤيدتين بعدة روايات وتم لنا عدة تقريبات.

2- ارتكاز هذا الحكم في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كما في صحيحتي علي بن جعفر وابن أبي بزيع من دون ارتكاز الإمام (عليه السلام) ولو قرب المستدلون بالإجماع -كصاحب الجواهر- تعبديته الكاشفة عن رأي المعصوم (عليه السلام) لكان حجة لأنه لا يكون حينئذٍ مدركياً وعلى هذا فإن المدركي هو قول القادحين في الإجماع لأن نفيهم للمطهرية مستند إلى مناقشتهم في استظهار المطهرية من الروايات ولما أثبتنا إمكان ذلك سقط إنكارهم.

وأما عدم المانع فلأن الموانع التي تصوروها هي:-

1- صحيحة ابن بزيع، وقلنا أنها ليست معارضة لعدة وجوه.

2- عدم حمل لفظ الطهارة على المصطلح المتشرعي وقد رددناه.

ص: 108

قول آخر في المسألة

استشكل بعضهم على استفادة مطهرية الشمس من الروايات وقالوا إن غاية ما تدل عليه هو العفو عن محل السجود إذا كان نجساً وجففته الشمس بشرط عدم وجود رطوبة مسرية وقد نقله صاحب الجواهر عن الراوندي وشكك في نسبته للمحقق الحلي في المعتبر والطوسي في الوسيلة ((فيكون ذلك من منفردات الراوندي، إذ لم نعرف له موافقاً صريحاً من كبراء الأصحاب حتى ابن الجنيد، إذ المحكي عنه أنه احتاط في تجنب الأرض المجففة بالشمس إلا أن يكون ما يلاقيها من الأعضاء يابساً وهو في خلافه أظهر منه في وفاقه))(1).

ووصف هذا القول بأنه (ضعيف جداً) وقال في وجه ذلك إنه لمنافاته لجميع ما دل على اشتراط الطهارة في السجود بناءً على ما عن الراوندي نفسه.

أقول: يمكن تقريب دليل هذا القائل بقصور الأدلة عن إفادة المطهرية بل إن صحيحة ابن بزيع ظاهرة إن لم تكن صريحة في عدم التطهير بغير الماء فإذا أجازت صحيحة زرارة وموثقة إسحاق السجود على الموضع النجس الذي جففته الشمس فإنها تعني العفو عن هذا المورد لا طهارته ولا أقل من الشك في إفادة الأدلة ويكون مقتضى الأصل استصحاب النجاسة ويرد عليه:-

1- إن تقريبات مطهرية الشمس عديدة وليست منحصرة بتصحيح السجود على ما جففته الشمس وهي كافية.

2- إن الدليل على اشتراط طهارة موضع السجود غير قابل للاستثناء والعفو والتخصيص والدليل هو الإجماع والتسالم والارتكاز الراسخ لدى المتشرعة والمتصل بزمان المعصوم (عليه السلام) لعدم وجود مخالف فيه عدا ما تقدم من كلام الراوندي والمحقق وهما لم يخالفا الإجماع وإنما قالا بالعفو عن موضع السجود النجس إذا جففته الشمس وهذه الأدلة وإن كانت لُبّية يقتصر فيها على القدر المتيقن إلا أن عدم إمكانية التخصيص من القدر المتيقن.

ص: 109


1- جواهر الكلام : 6/258.

وقد استدلوا(1) على الاشتراط بصحيحة الحسن بن محبوب عن أبي الحسن (عليه السلام) كتب إليه يسأله عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصَّص به المسجد أيُسجد عليه؟ فكتب (عليه السلام) إليَّ بخطّه: إن الماء والنار قد طهراه)(2)

باعتبار الاستحالة، لكن استناد مثل هذا الحكم المجمع عليه والمتسالم عليه بشكل لا يشك فيه أحد يستبعد استناده إلى رواية واحدة قابلة للمناقشة من حيث الدلالةوهذا يعني أنه إجماع تعبدي كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام).

وقد يناقش الإجماع بأنه مستند إلى حالة نفسية تستبعد وضع الجبهة وهو أشرف مواضع جسد الإنسان وفي أطهر حالة تعبد لله تبارك وتعالى على مكان غير طاهر وحينئذ لا يبقى دليل على هذا الشرط ونحن لا نريد إلغاءه لأنها مجازفة لكننا نريد أن نمنع الاستدلال بلوازم هذا الحكم وآثاره كمن استفاد مطهرية الشمس بجعل هذا الاشتراط إحدى مقدماته.

ونكتفي بالالتزام بأصل الحكم.

ص: 110


1- التنقيح في شرح العروة للسيد الخوئي : 3/243.
2- الوسائل : 3/527، أبواب النجاسات، باب 81، وكذا في 5/358 أبواب ما يسجد عليه باب 10، ح1.

فروع

بعد أن ثبت لدينا مطهرية الشمس في الجملة بقي علينا مناقشة بعض التفاصيل والشروط:

قال صاحب العروة الوثقى: ((الثالث من المطهرات: الشمس، وهي تطهر الأرض وغيرها من كل ما لا ينقل كالأبنية والحيطان، وما يتصل بها من الأبواب والأخشاب والأوتاد والأشجار وما عليها من الأوراق والثمار والخضروات والنباتات ما لم تقطع وإن بلغ أوان قطعها، بل وإن صارت يابسة ما دامت متصلة بالأرض أو الأشجار، وكذا الظروف المثبتة في الأرض أو الحائط، وكذا ما على الحائط والأبنية مما طلي عليها من جص وقير ونحوهما، عن نجاسة البول، بل سائر النجاسات والمتنجسات، ولا تطهر من المنقولات إلا الحصر والبواري فإنها تطهرهما أيضاً على الأقوى والظاهر أن السفينة والطرادة من غير المنقول، ويشترط في تطهيرها أن يكون في المذكورات رطوبة مسرية، وأن تجففها بالإشراق عليها بلا حجاب عليها (الشمس) -كالغيم ونحوه- ولا على المذكورات، فلو جفت بها من دون إشراقها -ولو بإشراقها على ما يجاورها- أو لم تجف، أو كان الجفاف بمعونة الريح لم تطهر، نعم، الظاهر أن الغيم الرقيق أو الريح اليسير على وجه يستند التجفيف إلى الشمس وإشراقها لا يضر، وفي كفاية إشراقها على المرآة مع وقوع عكسه على الأرض إشكال)).

وقال في المسألة الثانية الملحقة: ((إذا كانت الأرض أو نحوها جافة وأريد تطهيرها بالشمس يُصبُّ عليها الماء الطاهر أو النجس أو غيره مما يورث الرطوبة فيها حتى تجففها)).

وقال في المسألة الخامسة: ((لا يشترط في التطهير بالشمس زوال عين النجاسة إن كان لها عين)).

وقال في المسألة السابعة: ((الحصير يطهر- بإشراق الشمس على أحد طرفيه- طرفُه الآخر وأما إذا كانت الأرض تحته نجسة فلا تطهر بتبعيته وإن جفت بعد كونها رطبة، وأما الجدار المتنجس إذا أشرقت الشمس على أحد جانبيه فلا

ص: 111

يبعد طهارة جانبه الآخر إذا جفّ به وإن كان لا يخلو عن إشكال، وأما إذا أشرقت على جانبه الآخر أيضاً فلا إشكال)).

وفي كلامه (قدس سره) عدة موارد للتعليق تمثل فروعاً لأصل المسألة:

الفرع الأول: تحديد ما يمكن تطهيره بالشمس فقد ذهب البعض إلى أنّ الشمس تطهر خصوص الأرض اقتصاراً على القدر المتيقن من النصوص عند مخالفتها للقواعد التي تقتضي التطهير بالماء وتوسع آخرون فقالوا أنها مطهرة للأعم من الأرض ومن غيرها مما لا ينقل حتى الأوتاد على الجدر والأوراق على الأشجار، والظاهر من استقراء الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتابه (الطهارة) أنه قول المشهور، أما صاحب العروة فأضاف إلى كل ذلك الحصر والبواري مما ينقل وقال به غيره ايضاً.

واستدل للمشهور برواية أبي بكر الحضرمي لأن عمومها أو إطلاقها يشمل الجميع بعد إخراج المنقولات عن هذا العموم والإطلاق بالإجماع والضرورة وإطلاق مادل على لزوم غسل المتنجسات بالماء فيبقى غير المنقول مشمولاً لها.

ولكنه قد تقدم أن الرواية غير تامة السند إضافة إلى لزوم تخصيص الأكثر لورود النصوص باشتراط الغسل بالماء للأكثر، فلا تصلح للاستدلال وإنما للتأييد فالمعوّل على صحيحة زرارة وموثقة عمار ولا إطلاق أو عموم فيهما إذ الوارد فيهما (الموضع) و(المكان) فلا بد من الاقتصار على ما يصدق عليه ذلك وعدم التوسع إلى كثير مما ذكر فإن (الموضع) و(المكان) المذكورين في الروايات هما من الأرض وليس من كل شيء حتى لو كان غير منقول بقرينة السؤال وجواز الصلاة فيه ووضع الرجل والجبهة عليه.

نعم، يمكن الاستدلال بإطلاق مفهوم صدر موثقة عمار فإنه سأل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس فحكم الإمام بنجاسته و(غيره) هنا تشمل بإطلاقها الأرض وغيرها لكن المشكلة أن مثل هذه الجملة لا مفهوم لها فضلاً عن أن يكون لهذا المفهوم إطلاق.

وقد سلك السيد الخوئي (قدس سره) طريقاً للاستدلال على قول

ص: 112

المشهور مبنياً على مقدمتين هما:

الأولى: إن صحيحة زرارة وموثقة عمار المتقدمتين اشتملتا على (المكان) و(الموضع) وهما أعم من الأرض فتشملان الألواح وغيرها من الأشياء المفروشة على الأرض إذا كان بمقدار يتيسر فيه الصلاة إذ يصدق على مثله الموضع والمكان.

الثانية: إذا قلنا بمطهرية الشمس لغير الأرض من الألواح والأخشاب المفروشة على الأرض -وهما مما ينقل- تعدينا إلى غير المفروشة منها كالمثبتة في البناء أو المنصوبة على الجدار -كالأبواب- بعدم القول بالفصل.

وقال (قدس سره): ((فإذن قد اعتمدنا في القول بمطهرية الشمس لغير الأرض في غير المنقول على إطلاق الصحيحة والموثقة - بنحو الموجبة الجزئية- كما أنّا اعتمدنا فيها على الإجماع وعدم القول بالفصل- بنحو الموجبة الكلية-))(1).

ونحن قد وافقناه بأن الصحيحة والموثقة لا يستفاد منها إلا طهارة (المكان) و(الموضع) مما تصدق عليه الأرضية وبهذا العنوان حكم بطهارة الألواح وغيرها من الأشياء التي تُعدّ جزءاً من الأرض كالحصى وليس بعنوان كونها أوتاداً أو حصى حتى يقال بعدم القول بالفصل ولا يوجد فقيه نظر إلى الأوتاد والألواح بما هي أوتاد وألواح حتى ندعي الإجماع المركب بل كان نظرهم (قدس الله أسرارهم) إلى الأرض وغير الأرض وهذه الأشياء لوحظت كأجزاء منها مضافاً إلى أننا لا نقول بحجية الإجماع المركب لعدم توفر ملاك حجية الإجماع فيه.

ويمكن الاستدلال بالاستصحاب بأن يقال: إن هذه الألواح حينما كانت جزءاً من الأرض كان يمكن تطهيرها بالشمس والآن بعد اقتلاعها نشك فنستصحب إمكان تطهير الشمس لها أو يقرّب بالاستصحاب التعليقي بأن هذه الألواح لو كانت جزءاً من الأرض كان يمكن تطهيرها فإذا شككنا الآن حينما لم تكن جزءاً نستصحب إمكان التطهير.

والاستصحاب على كلا التقديرين لا يجري لأنه بالتقريب الأول من

ص: 113


1- التنقيح : 3/176.

استصحاب الكلي من القسم الثالث وعلى الثاني من الاستصحاب التعليقي ولا نقول بحجيته فيأمثالهما.

فالمختار أن الشمس تطهر الأرض فقط بمعناها الأعم فتشمل سطوح الأبنية وما يصدق عليه الأرضية وتشمل توابعها التي تُعدُّ جزءاً منها كالحصى والكاشي المفروش عليها والخشب والحديد المبني فيها ونحوها ولا تشمل ما هو أزيد من ذلك كالذي يشير إليه صاحب العروة في كلامه إلى كل ما لا ينقل لعدم الدليل عليه إلا التجريد عن الخصوصية فيما لا ينقل وهو في غير محله لأن الخصوصية ملحوظة في ما تصدق عليه الأرضية وهو كونه مما يصلى عليه.

ويمكن أن يستدل برواية الجعفريات التي ذكرت (البقعة) لشمول عنوانها لأوسع مما ادعيناه ويرد عليه:-

1- أن المنصرف من البقعة هي القطعة من الأرض وإن صغرت عما يسع الصلاة عليها، ونحن نقول به.

2- أن المشهور الذي نحن بصدد الاستدلال لقوله لم يستند إلى كتاب الجعفريات في استدلاله.

فيتبقى هذا الأزيد داخلاً تحت الأدلة التي أوجبت غسل الأشياء المتنجسة بالماء إضافة إلى استصحاب النجاسة عند الشك في ارتفاعها بإشراق الشمس.

الفرع الثاني: في أن مطهرية الشمس هل هي مختصة بالنجاسة الناشئة من البول أم مطلق النجاسات؟

والصحيح هو الثاني وإن اقتصرت أكثر من رواية على ذكر البول فقط إلا أن موثقة عمار وأخبار الجعفريات مطلقة حيث أخذت عنوان (القذر) بل إن موثقة عمار صرحت بالتعميم لغير البول بقوله (عليه السلام): (إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك..).

الفرع الثالث: هل تدخل الحصر والبواري فيما تطهره الشمس من المتنجسات؟

استدل لشمولها بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) في حديث قال: (سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا

ص: 114

جفّت من غير أن تغسل؟ قال: نعم لا بأس بها)(1)

وخبر عمار الساباطي قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن البارية يبلُّ قصبها بماء قذر، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال: إذا جفت فلا بأس بالصلاة عليها)(2).

لكن الرواية ناظرة إلى جواز الصلاة في المكان النجس إذا كان جافاً وهو معنى أعم من كونه دليلاً على طهارة المكان فلا يمكن الاستدلال به نظير صحيحة زرارة قال: (سألته عن الشاذكونة يكون عليها الجنابة أيُصلى عليها في المحمل، قال: لا بأسبالصلاة عليها)(3).

إضافة إلى أنها غير خاصة بالشمس لعدم وجود إشارة إليها في الرواية وإنما هو أمر تكلّفه المستدِلُّ لإثبات مطلوبه.

بل إن صحيحة علي بن جعفر الأخرى دالة على عدم النظر إلى الطهارة وإنما جواز الصلاة على النجس إذا كان جافاً، فقد روي أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) (عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول، ويغتسل فيها من الجنابة أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم)(4).

وقد حاول صاحب الجواهر (قدس سره) تقريب الاستدلال بمثل هذه الروايات على طهارة الحصر والبواري بإشراق الشمس عليها ب-((ترك الاستفصال عن المباشرة بالرطوبة وعدمها وعن السجود عليه وعدمه، خصوصاً إذا ادعى ظهوره في إرادة وقوع تمام الصلاة عليها مباشرة))(5)

لكنه مردود بما ذكرناه من عدم ذكر الشمس أصلاً بل إن صحيحة علي بن جعفر الثانية أجازت الصلاة على الجاف حتى مع عدم إشراق الشمس وهذا يعني عدم تأثيرها في الحكم الذي هو جواز الصلاة على الجاف لا الطهارة إذ لا يعقل أن يكون مطلق الجفاف مطهراً.

أما الإطلاق الذي استفاده من ترك الاستفصال فهو غير صحيح ولا

ص: 115


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، الباب 29 من أبواب النجاسات، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة،الباب 30، ح5.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، باب 30 من أبواب النجاسات، ح3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 30، ح1.
5- جواهر الكلام : 6/255.

يوجد مثل هذا الإطلاق إذ يمنع انعقاده وجود ارتكاز قوي أن الجواز لا يشمل ما إذا وجدت رطوبة فتسري النجاسة ولا يشمل موضع السجود لاشتراط الطهارة فيه وارتكازنا الآن شاهد على ذلك عندما نسمع مثل هذه الرواية.

ثم استدل (قدس سره) على الملازمة بين جواز الصلاة والطهارة في المقام لشمول جواز الصلاة موضع السجود بفقرات من موثقة عمار التي جاء فيها (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر؟ قال: لا يُصلى عليه) فقال (قدس سره): ((ضرورة إرادته السجود عليه، وإلا فلا مانع من الصلاة عليه مع السجود على غيره وإن كان يابساً بغير الشمس)) لكن أهل الفن يفهمون من هذا الجواب حمل النهي على التنزيه بعد أن دلت الرواية الصحيحة على جواز الصلاة على الجاف ويبعد ما استفاده (قدس سره).

وقرَّب الاستدلال بفقرة ثانية من الرواية ((وعن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إن كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك فإصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة)) باعتبار أن جواز الصلاة ممكن مع جفاف الموضع حتى مع عدم إشراق الشمس وهو مردود لأن ذكر الشمس ورد في السؤال فكأن الإمام (عليه السلام) انتقل من حالة جزئية إلى حالة عامة بأن الصلاة على الجاف جائزة مطلقاًسواء كان ناشئاً من إشراق الشمس أو غيره.

وقد ناقشنا فيما سبق الاستدلال بإطلاق الصلاة على المكان لشموله للسجود عليه وقلنا إنه غير تام لوحده إلا مع وجود قرائن، وناقشنا أيضاً في وجود الدليل اللفظي على اشتراط طهارة محل السجود ليلتزم بآثاره وإنما هو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن.

وقد استدل السيد الخوئي (قدس سره) على شمولها بعموم وإطلاق روايتي أبي بكر الحضرمي لقوله: (كل ما أشرقت عليه الشمس..) وقوله: (ما أشرقت..) الذي ((يشمل الحصر والبواري وإنما خرجنا عن عمومها أو إطلاقها في غيرها من المنقولات بالإجماع والضرورة وهما مختصتان بغيرهما))(1).

ص: 116


1- التنقيح : 3/177.

وهو استدلال غير كافٍ لأننا بعد أن قيّدنا خبري الحضرمي بغير المنقولات للإجماع والضرورة لم يبق دليل على شمول الحصر والبواري من المنقولات إلا صحيحة علي بن جعفر المتقدمة فالاستدلال برواية الحضرمي مستقلاً عن صحيح علي بن جعفر غير كافٍ.

واستدل (قدس سره) باستصحاب كونهما قابلين للتطهير بالشمس قبل قطعهما وفصلهما عن النبات الذي هو مما لا ينقل.

لكنه مردود صغرى وكبرى:

أما الصغرى: فلأننا لا نصحّح شمول مطهرية الشمس للنباتات ولكل ما لا ينقل.

وأما الكبرى: فلعدم حجية الاستصحاب التعليقي لعدم شمول أدلة حجية الاستصحاب له واختصاصهما بالفعلي.

وقد رد (قدس سره) هذا الاستدلال كبروياً فقط على مبانيه.

وفي ضوء ذلك يظهر عدم شمول المطهرية للسفينة والطرادة إلا في قاعهما إذا كانت كبيرة مع صدق الأرضية عليه.

الفرع الرابع: يشترط في صحة التطهير وجود رطوبة أو بلل تجففه الشمس ولو بإيجاده إن لم يكن موجوداً على الموضع القذر وهو ظاهر كلمة (جففته) الوارد في صحيحة زرارة ونحوها المتضمن لرفع بلل موجود. وهو ما استظهرناه من صحيحة بن بزيع المتقدمة (كيف يطهر من غير ماء) ولا يشترط في الماء أن يكون طاهراً، فيمكن أن يراق ماء نجس للإطلاق ولعدم الدليل على الاشتراط.

الفرع الخامس: لا بد من استناد الجفاف إلى إشراق الشمس على الموضع النجس لأنه الظاهر من مثل موثقة عمار (أصابته الشمس) وحتى مثل (جففته الشمس) فإن هذا العنوان لا يصدق فيما لو جفّ من دون مباشرة الشمس كما لو حجبها غيم أو حجب الموضع المتنجس فراش ونحوه حتى جفّ.

ولا بأس بانضمام شيء آخر إلى الشمس كالريح مثلاً لكن يشترط أن يكون تأثيرها بالمقدار الطبيعي لتعارفها بحيث أن اشتراط عدمها لا يكاد يبقى فرداً ولبقاء صدق استناد التجفيف إلى الشمس، نعم، لو كان تأثير مثل هذه

ص: 117

العوامل أزيد من المتعارف فلا يصح التطهير لعدم صدق استناد التجفيف إلى الشمس.

الفرع السادس: لقد عمّم البعض الحكم إلى سائر غير المنقولات ((كما عنالمشهور بين المتأخرين، بل نسبه إلى المشهور غير واحد من الأعيان))(1)

واستدل عليه بخبر الحضرمي بعد عدم الالتفات إلى ضعف سنده لإهمال عثمان وعدم التنصيص على توثيق أبي بكر إذ في رواية الأساطين لها كالمفيد ومحمد بن يحيى وسعد وأحمد بن محمد -الظاهر أنه ابن عيسى الأشعري- وعلي بن الحكم، نوع اعتماد عليها، ولا سيما أحمد الذي أخرج البرقي من (قم) لأنه أكثرَ الروايةَ عن الضعفاء واعتمد المراسيل، فكيف يعتمد هو على من لا ينبغي الاعتماد عليه(2).

وقد أجبنا عن هذا التقريب لقبول الرواية بأنه حدس واجتهاد وربما كان لانسجامهما مع ما يفتون به مما يرونه حجة أو لاعتضادها بروايات أخر وكلها كبريات غير تامة وقد أعرض عن العمل بها أكثر القدماء -كما نقل في المستمسك- حيث اكتفوا بتطهير الشمس للحصر والبواري والأرض وكل ما عمل من نبات الأرض وحينئذٍ يرد عليهم إشكال عدم وجود وجه للتفكيك بين ما عمل من نبات الأرض مما هو منقول ونفس النبات بحيث تطهر الأول ولا تطهر الثاني، أما نحن فلا يرد علينا لأننا لم نتوسع أزيد من الأرض.

ص: 118


1- مستمسك السيد الحكيم : 2/78.
2- المستمسك : 2/79.

البحث الثالث: حكم نقل الميت بعد دفنه إلى العتبات المقدسة

اشارة

ص: 119

ص: 120

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الثالث: حكم نقل الميت بعد دفنه إلى العتبات المقدسة

البحث الثالث: حكم نقل الميت بعد دفنه إلى العتبات المقدسة(1)

اتفق الفقهاء على حرمة نبش قبر المؤمن- ويراد به المسلم هنا- على نحو يظهر جسده، إلا مع العلم باندراسه وصيرورته تراباً، واستثنوا من الحكم موارد (منها) النقل إلى المشاهد المشرّفة وأطلق هذا الجواز جملة منهم(2).

وقوّى السيد صاحب العروة (قدس سره) مطلق الجواز حتى لو لم يوصِ الميت بذلك ولكنه احتاط بالترك مع عدم الوصية(3)،

ومنع منه بعض من حضرنا بحثه الشريف حتى مع الوصية، فقال: ((وفي جواز النبش للنقل إلى المشاهد المشرّفة حتى مع وصيّة الميت به أو إذن الولي فيه وعدم استلزامه هتك حرمته إشكال))(4).

لكنه (دام ظله) استثنى في المسألة اللاحقة من حرمة نبش قبر المؤمن موارد إلى أن قال في آخرها: ((أو في مكان أوصى بالدفن في غيره فيجوز نبشه إذا لم يلزم هتك لحرمته)) وإطلاق الثاني منافٍ لصريح الأول كما هو واضح.

ويمكن أن نوجه كلامه (دام ظله) بوجوه نذكرها للتشييد العلمي:-

1- بأن نقول إن الممنوع أولاً هو الوصية بالنبش والنقل وهي باطلة لأنها متعلقة بأمر محرم والوصية الثانية غير الممنوعة متعلقة بالدفن في المكان

ص: 121


1- (*) بدأ إلقاء البحث يوم 30/شوال/1428 المصادف 2007/11/11.
2- منهاج الصالحين للسيد الخوئي (قدس سره)، ج1، ص90. الفتاوى الواضحة للشهيد الصدر الأول (قدس سره)، ص187. منهج الصالحين للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)، ج1، ص81، مسألة (375). منهاج الصالحين للشيخ الفياض (دام ظله)، ج1، ص144، مسألة (321).
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/363.
4- منهاج الصالحين للسيد السيستاني (دام ظله)، ج1، ص144، مسألة (324).

المعين وخالف الورثة فدفنوه في مكان آخر.

لكنه احتمال بعيد، بل إن التفسير الأول غير محتمل لأنه حينما أوصى كان حياً لم يدفن بعدُ، وإنما قلناه لتوجيه كلامه (دام ظله).

2- إن النبش الممنوع أولاً هو ما استلزم ظهور جسد الميت والنبش الثاني الجائز هو ما ليس فيه ذلك كما لو دفن الميت بتابوته ونقل كذلك أو نقل بالتراب المحيط به. وهذا وجه لطيف إلا أن الثاني لا يصدق عليه النبش عرفاً بدليل عدم وجوب الحد والتعزير عليه إلا إذا نقب عن الجسد.

3- إن النبش الممنوع أولاً هو للجسد المدفون بشكل شرعي والنبش الجائز ثانياً هو للميت الذي لم يدفنه أولياؤه على الكيفية الشرعية رجاءَ نقله إلى المكان الذي أوصى به عند التمكن.

أما نحن فقد اخترنا الجواز في حالة الوصية فقلنا في الرسالة العملية أنه ((لا يجوز نبش القبر وإخراج الميت لنقله إلى المشاهد المشرفة فضلاً عن غيرها حتى إذا كان بإذن الولي ولم يلزم هتك حرمة الميت، إلا إذا أوصى بذلك))(1).

والتحقيق في المسألة يقتضي الكلام في عدة مطالب:

الأول: وجوب دفن الميت.

الثاني: حكم نقل الميت من مكان إلى آخر قبل دفنه.

الثالث: استحباب النقل للدفن في المشاهد المشرّفة.

الرابع: حرمة نبش قبر الميت.

الخامس: حكم نبش القبر لنقل الميت إلى المشاهد المشرفة.

السادس: استثناء الوصيّة.

المطلب الأول: وجوب دفن الميت

وقد قام الإجماع عليه لدى المسلمين بل هو من الضروريات وجرت عليه سيرة النبي والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 122


1- سبل السلام: ج1 (العبادات)، مسألة (371).

والدفن ((لغة وعرفاً وشرعاً مواراته في الأرض بأن يحفر له حفيرة فيدفن فيها))(1)

ويراعى فيها أمران بأن ((تستر عن الناس ريحه وعن السباع بدنه بحيث يعسر نبشها غالباً))(2)

وروى الصدوق (رضوان الله عليه) في علة الدفن عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: (إنما أمر بدفن الميت لئلا يظهر الناس على فساد جسده، وقبح منظره، وتغير رائحته، ولا يتأذى الأحياء بريحه، وما يدخل عليه من الآفة والفساد، ويكون مستوراً عن الأولياء والأعداء، فلا يشمت عدوه ولا يحزن صديقه)(3).

ولو قدّر وجود أحدهما وجب مراعاة الآخر ولا يكفي تحققهما من دون تحقق عنوان الدفن، لذا قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا يُجتزأ بما لا يصدق معه مسمى الدفن وإن حصل الفرضان السابقان، فلا يجزي البناء عليه ولا وضعه في تابوت من صخر أو غيره مغطى أو مكشوف ولا غير ذلك))(4).قال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله): ((وأما إذا وضع في الصندوق والتابوت ودفن في الأرض فلا يصدق عليه عنوان المواراة فيها التي هي الواجبة شرعاً، فإن تلك المواراة مواراة في الصندوق لا في الأرض))(5).

وفيه:-

1- إن الوضع في صندوق ودفنه يصدق عليه عرفاً الدفن في الأرض كما يصدق على الكنز أنه مدفون وهو موضوع في الصندوق.

2- النقض عليهم بأنهم يجيزون وضع الميت في اللحود المبنية في السرداب مع أن صدق الدفن في الأرض عليه أبعد عرفاً من المثال المذكور.

ولعله لهذا كان في نفس سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) شيء مما يفعله الكثيرون من اتخاذ مقابر على شكل سراديب وبناء لحود

ص: 123


1- جواهر الكلام: 4/290.
2- نفس المصدر عن المدارك.
3- عيون أخبار الرضا: 1/121.
4- جواهر الكلام: 4/291.
5- تعاليق مبسوطة: 2/284.

على جانبيها ووضع الميت فيها وغلق اللحد وكان (قدس سره) يريد أن يُدفن في قبر يحفر في الأرض ويتخذ في جانبه لحداً على ما هو المذكور في سنن الدفن وقد حققنا رغبته (قدس سره) حيث أشرفنا على دفن جسده الشريف.

والسيد صاحب العروة (قدس سره) بعد أن قال مثل كلام صاحب الجواهر المتقدم: ((ولا يجوز وضعه في بناء أو في تابوت ولو من حجر بحيث يؤمن من الأمرين مع القدرة على الدفن)) في أول الفصل المخصص للدفن، ذكر في فصل آخر في مكروهات الدفن في المسألة (7) فيما يستثنى من حرمة النبش قوله (قدس سره): ((السابع - من المستثنيات-: إذا كان موضوعاً في تابوت ودفن كذلك، فإنه لا يصدق عليه النبش حيث لا يظهر جسده، والأولى مع إرادة النقل إلى المشاهد اختيار هذه الكيفية، فإنه خالٍ عن الإشكال، أو أقل إشكالاً)).

وتصور شيخنا الأستاذ الفياض وجود تناقض بين القولين فقال (دام ظله الشريف): ((الظاهر أن فيه إشكالاً، لأن المتفاهم العرفي من الروايات الآمرة بدفن الميت في الأرض مواراته في بطنها وأما إذا وضع في الصندوق والتابوت ودفن في الأرض فلا يصدق عليه عنوان المواراة فيها التي هي الواجبة شرعاً، فإن تلك المواراة في الصندوق لا في الأرض، فإذن لا تجوز العملية المذكورة وإن كانت مؤقتة فإن فيها تأجيلاً للدفن الواجب شرعاً))(1).

وفيه:-

1- ما تقدم من الرد عليه (دام ظله) بأن الدفن يصدق على وضع الميت في صندوق ومواراته في الأرض.

2- عدم وجود تناقض في كلام السيد صاحب العروة (قدس سره) لأن ما منع منه أولاً هو الوضع في تابوت والبناء عليه بالمقدار الذي يؤمن عليه الأمران من دون دفن أي على سطح الأرض أو قريباً منها أما ما أراد ثانياً فهو وضع الميت بالكيفية الشرعية داخل تابوت ودفن التابوت في الأرض وبذلك يكون قد أدى الوظيفة الشرعية ويحق له إخراجه لعدم

ص: 124


1- تعاليق مبسوطة: 2/284.

تحقق النبش ولكنه (قدس سره) اعترف بوجود الإشكال الذي يأتي وجهه بإذن الله تعالى.

3- إن السيد صاحب الرياض (قدس سره) حكى الإجماع على جواز الوضع في تابوت والدفن داخل الأرض وإن كان مكروهاً قال (قدس سره): ((ويكره دفنه بالتابوت في الأرض إجماعاً حكاه في الخلاف))(1)

ووجه الكراهة واضح من مخالفته لسيرة المعصومين (عليهم السلام) (وسيعرف وجهه من النقطتين 5، 6 الآتيتين) والاحتجاج ليس بالإجماع المحكي بذاته وإنما لأنه يكون متفاهماً عرفياً على خلاف ما قاله شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله).

4- إن المنع ولو لفترة مؤقتة من الوضع في التابوت يكون في حالة ما إذا قُصد منه الدفن ولذا منعوا من الإيداع في الأرض على غير الوجه الشرعي ريثما ينقل إلى المشاهد المشرفة، أما إذا قصد منه معنى آخر كما جرى العرف الدبلوماسي للزعماء اليوم من وضع الجسد في صندوق زجاجي لمدة ثلاثة أيام لإلقاء النظرة الأخيرة فلا بأس به، لأن تأخير الدفن لغرض عقلائي غير ممنوع ما لم يؤدِّ إلى إهانة الميت بتفسخه وظهور رائحته أو يكون مقدار التأخير بمقدار يعد مخالفة لوجوب الدفن، كما أن من المحتمل عدم البأس في وضع الميت في حافظة أو كبسولة ضخمة كما ذكرت بعض المصادر رجاء تقدّم الطب واكتشافه لطريقة تعيد الحياة إليه في حالة كون سبب الوفاة مما يرجى معالجته، والأمر لله تبارك وتعالى أولاً وآخراً، لأن هذا المورد نظير التربص بالميت إذا احتمل أن موته مؤقت وعدم التعجيل بدفنه.

وقد دافع شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) عن كلام صاحب العروة (قدس سره) بقوله: ((إلا أن يقال إن عدم جواز تأجيل الدفن إنما هو بملاك احترامه والحفاظ على كرامته لا لدليل لفظي تعبّدي، وبما أن القيام بتلك العملية

ص: 125


1- رياض المسائل: 1/419 وفي الهامش إن النص مذكور في المبسوط: 1/187 وليس الخلاف.

لا يستلزم هتكاً لحرمته وهدراً لكرامته وإن استلزم تأخير الدفن فلا مانع منه))(1).

ويرد عليه:-

1- إن منعهم من الوضع في تابوت من دون دفن بالكيفية الشرعية مطلق والنص صريح في المنع حتى مع الأمن من الأمرين فلا معنى لهذا الاستثناء.

2- إنه (دام ظله) منع من الإيداع فقال: ((لا يجوز التوديع المتعارف عند بعض الشيعة (أيدهم الله تعالى) بوضع الميت في موضع والبناء عليه، ثم نقله إلى المشاهد الشريفة، بل اللازم أن يدفن بمواراته في الأرض مستقبلاً بوجهه القبلة على الوجه الشرعي))(2)

وهذا اللزوم ينفي ما استثناه.

3- إن الأمر بالدفن وإن لم يستلزم الفورية الدقّيّة إلا أن التأجيل يجب أن لا يصدق عليه عرفاً الإهمال وتضييع الامتثال وهو يصدق على ما قاله.

4- الملاك المدّعى استنباط منه (دام ظله) وتنقيح للمناط وهو لا دليل عليه، فلو حُنِّط الميت بشكل لا يُخشى فساده كفراعنة مصر فهل يجيز عدم دفنهم للملاك المذكور؟ نعم إن حرمة الميت كحرمته حياً(3)

إلا أن هذا لا يعني أن ملاك وجوب الدفن ذلك بل هو من الحِكم بل دلّت رواية العلل على غير ذلك.

5- دلّت سيرة المعصومين (سلام الله عليهم) من لدن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على مباشرة الميت للأرض حين دفنه حتى مع حاجة الجسد أحياناً إلى الوضع في تابوت ونحوه لتقطّع لحمه كشهداء أحُد والطف ولم يفعل المعصوم (عليه السلام) ذلك.

6- ولِما دل على استحباب وضع الخد على الأرض كصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) من حديث: (وإن قدر أن يحسر عن

ص: 126


1- تعاليق مبسوطة: 2/284.
2- منهاج الصالحين، ج1، ص145، المسألة (322).
3- التهذيب، ج1، الباب 23 في تلقين المحتضرين، ح 167.

خدّه ويلصقه بالأرض فليفعل)(1)

وخبر محمد بن عجلان في حديث: (وليحسر عن خده وليلصق خدَّه بالأرض)(2).

فرع: قال بعض الفقهاء (قدس سره): ((وهل يجب ستره عن الأبصار، وإن حُنِّط بما يؤمن عدم تغيّره، كما إذا وضع على باب القبر زجاج يُرى من داخله؟ احتمالان: من العلة-بحسب رواية العلل- ومن عدم صدق الدفن))(3).(2).

وفيه:

إن الصحيح هو المنع بلا تردد لعدم صدق المواراة عليه ولذا لا يجوز لأحد أن ينظر إلى ما في داخل القبر بواسطة الأجهزة التي لا تمنع رؤيتها الجدران لأن المواراة تستلزم ذلك.

إلفات نظر: الذي يظهر من حكاية القرآن لقصة ابنَي آدم أن الإنسان الأول عجز عن الاهتداء إلى دفن الميت «فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَ-ذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (المائدة:31) وهذا شاهد على أن الإنسان عاجز عن الوصول إلى أبسط الفعاليات الحياتية فضلاً عن الاكتشافات البشرية إلا بإيحاء وإلهام من الله تبارك وتعالى وقد يجريها على يد من لا يعرفونه رحمة بالعباد.

ص: 127


1- و(2) وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الدفن، باب 20، ح1، 8.
2- الفقه للمرحوم السيد محمد الشيرازي: 15/31.

المطلب الثاني: حكم نقل الميت إلى بلد آخر لدفنه

ادعى جماعةٌ الإجماع على جواز نقل الميت من بلد موته إلى بلد آخر على كراهة بغض النظر عن بعض الخصوصيات كالنقل إلى المشاهد المشرفة، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((بلا خلاف أجده فيه، بل في المعتبر والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وعن نهاية الأحكام وغيرها الإجماع عليه))(1).

استدل السيد الخوئي (قدس سره) -ببيان منه وأصل الاستدلال موجود في كلام صاحب الجواهر (قدس سره)- بذكر عدة وجوه فقال (قدس سره): ((وهذا الإجماع إن تم فهو وإلا فمقتضى القاعدة جواز النقل من دون كراهة، وذلك للإطلاقات حيث أن ما دل على وجوب الدفن لم يقيد ببلد الموت ومكانه.

وقد استدل على الكراهة بعد الإجماع المتقدم برواية الدعائم عن علي (عليه السلام): (إنه رُفِع إليه أن رجلاً مات بالرستاق فحملوه إلى الكوفة فأنهكهم عقوبة وقال: ادفنوا الأجساد في مصارعها ولا تفعلوا فعل اليهود تنقل موتاهم إلى بيت المقدس... إلخ) ))(2).

وقال (عليه السلام): (لما كان يوم أحُد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاهم إلى دورهم فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منادياً فنادى: ادفنوا الأجساد في مصارعها)(3).

وفيه: إن روايات دعائم الإسلام ضعيفة لإرسالها فلا يمكن الاعتماد عليها في الكراهة إلا بناءً على التسامح في أدلة السنن والمكروهات.

ص: 128


1- جواهر الكلام: 4/343.
2- مستدرك الوسائل: ج2، ص313، أبواب الدفن باب 13، ح15. دعائم الإسلام: 1/238.

واستُدل بالأخبار الآمرة بالتعجيل في تجهيز الميت ودفنه وأنه لو مات أول النهار استُحب أن يدفن قبل الزوال لتكون قيلولته في قبره، وقد عقد في الوسائل لذلك باباً نقل فيه عدة روايات(1).

والوجه في الاستدلال بها أن استحباب التعجيل في الدفن يستلزم كراهة النقل لأن فيه تأخيراً في الدفن، ولكن الروايات المذكورة بأجمعها ضعيفة السند فلا يثبت بها استحباب التعجيل فضلاً عن كراهة النقل والتأخير.نعم، يمكن الاستدلال على استحباب التعجيل بقوله تعالى: «فَاستَبِقوا الْخَيْرَاتِ» (البقرة: 148) وقوله تعالى: «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ» (آل عمران: 133) حيث دلّتا على استحباب التعجيل والمسارعة إلى كل ما هو مأمور به شرعاً.

إلا أن استحباب التعجيل في الدفن لا يقتضي كراهة النقل، فإن التأخير موجب لعدم العمل بالاستحباب، لا أنه ارتكاب المكروه، على أن النقل لا يلزم التأخير، بل قد يكون الدفن موجباً لترك المسارعة والتعجيل في الدفن بخلاف النقل، كما إذا كان الهواء بارداً غايته، أو حاراً غايته بحيث لا يمكن الحفر إلا في مدة طويلة، أو لم يكن هناك آلة الحفر موجودة ولكن يمكن النقل إلى بلد ثانٍ بالوسائط المستحدثة السريعة ودفنه في زمان قريب.

فالمتحصل: أنه لم تثبت كراهة النقل بوجه فهو أمر سائغ من دون كراهة. وهذا الحكم لا يفرّق فيه بين النقل إلى الأماكن البعيدة والقريبة كما هو الظاهر))(2).

ويمكن التعليق على كلامه (قدس سره) والكلام الذي نقله بعدة أمور:-

1- إن الإجماع مدركي فمن ذكر الحكم أشار إلى وجهه بأنه الرواية أو منافاته لاستحباب التعجيل ونحوها مما تقدم فليس الإجماع دليلاً مستقلاً في المقام، حتى يقول (قدس سره): ((إن تم الإجماع فهو)).

ص: 129


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الاحتضار، باب47.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/331-333.

2- الروايات الدالة على الكراهة ضعيفة كما ذكر (قدس سره) ويمكن حمل النهي على أسباب خارجية كاستلزام النقل هتك حرمة الميت في رواية الرستاق، أما قضية النهي عن نقل شهداء أحُد فالرواية - مضافاً إلى ضعف سندها- يمكن أن تكون حكماً في قضية خاصة لأن نقل (70) شهيداً إلى المدينة سيؤدي إلى انكسار في معنوياتهم وهم قد خرجوا بجراحهم فوراً إلى حمراء الأسد وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يخرج إلا من شارك في أحد، كما أن قرب المسافة بين أرض المعركة والمدينة يمنع من الاستدلال على المنع من النقل، وغيرها من المعاني؛ فيكون النهي حكماً في واقعة، ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال.

3- أما الاستدلال بما دلّ على استحباب التعجيل فإنه أضيق من المدّعى لأن المدعى كراهة النقل مطلقاً وهذه الروايات تستفاد منها الكراهة إذا استلزم التأخير، وقد لا يستلزم النقل التأخير كما تقدم، على أن التأخير قد يكون راجحاً في بعض الموارد كتحرّي اجتماع المؤمنين أو الاطمئنان على تحقق الوفاة ونحوها.

4- إن النقل قد يحقق أموراً مستحبة كنقله إلى مكان تسهل زيارته وهي من المستحبات، فيكون مستحباً.

5- أما الاستدلال بما دلّ على استحباب المسارعة إلى الخيرات فهو أضيق من المدّعى أيضاً إذ قد يكون الخير في التأخير أو في النقل كما تقدم.

6- تفكيكه (قدس سره) بين ترك المستحب وفعل المكروه يمكن أن يجاب حلاً ونقضاً، أما النقض فسنفرد له النقطة التالية، وأما الحل؛ فلأن الملازمة موجودة ولو على نحو الموجبة الجزئية كما في المقام عندما يصدق على الضد العام أنه فعل، فالتعجيل بتجهيز الميت مستحب، وتركه الذي هو التأخير في تجهيز الميت فعل مكروه. على أن الملازمة ثابتة على مستوى الآثار والنتائج فترك المستحب – كصلاة الليل- مكروه وترك المكروه -ككثرة الطعام- مستحب إذ المستحب زيادة في الفضل والمكروه نقصان فيه والعلاقة بينهما كالعلاقة بين الواجب والمحرم فترك الواجب حرام

ص: 130

وترك الحرام واجب.

والاختلاف بينهما إنما هو باللحاظ فتارةً يلحظ المولى المصلحة في الفعل فيأمر بها وتارةً يلحظ المفسدة في الترك فينهى عن الترك وقد يصدر منه اللحاظان كما وردت الأحاديث الشريفة في الأمر بالصلاة والنهي عن تركها.

لكن الأصوليين لما حصروا الوجوب بالمصلحة في الفعل والنهي بالمفسدة في الفعل فككوا بينهما.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((فلا اشتراك بينهما -أي الأمر بالشيء والنهي عن ضده العام- أما من ناحية المبدأ، فلأن الأمر تابع للمصلحة الإلزامية في متعلقه، والنهي تابع للمفسدة الإلزامية فيه))(1).

وينقض عليهم مثلاً بوجوب ما يسمّونه ب-(المقدمات المفوتة) فإنه لا مصلحة في فعلها وإنما المفسدة في تركها لأن في الترك تفويتاً للواجب فوجبت بملاك المفسدة في الترك لا بملاك المصلحة في الفعل، وقد يكون النهي -الأعم من الحرمة والكراهة- لمصلحة في الترك ككراهة صوم يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء فإن النهي لمصلحة في ترك الصوم حتى يقوى على الدعاء.

وقد اعترف السيد الخوئي (قدس سره) بوجود الملازمة في محل البحث وإن نفاها بمعنى آخر في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام فقال (قدس سره): ((فإن أُريد من العينية في مقام الإثبات والدلالة -أعني أن الأمر بالشيء والنهي عن تركه يدلان على معنى واحد، وإنما الاختلاف في التعبير فقط- فهذا مما لا إشكال فيه))(2). وتفصيل الكلام في علم الأصول.

7- قوله (قدس سره): إلا بناءً على التسامح في أدلة السنن والمكروهات: وفيه إن القاعدة وردت في المستحبات إلا أن يبني على الملازمة التي نفاها بين

ص: 131


1- محاضرات في أصول الفقه (من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي): ج44/333.
2- موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره)، محاضرات في أصول الفقه: ج44/331.

ترك المكروه والمستحب وهذا نقض عليه (قدس سره) أو يجرّد أخبار من بلغ الآتية عن خصوصيتها ويعمّمها إلى المكروهات وهو قياس مع الفارق ما لم تتوسطه الملازمة الآنفة. ولحاجة المسألة إلى مزيد من البيان سنتحدث عنها في ملحق خاص في نهاية البحث.

والنتيجة: إن كراهة النقل من بلد لآخر لم تثبت بشكل مطلق، فقد يكون النقل راجحاً كدفنه في مكان يسهل زيارته لذويه أو ليُعرف قدره أو لأي أمرٍ آخر كما نُقل عن الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري إنه لما دنت منه الوفاة وكان مشاركاً في حروب الروم أوصى أن تنقل جنازته إلى أبعد نقطة مما يلي الروم ليكون حافزاً للمسلمين أنيتقدموا(1).

والمورد ذكرناه مثالاً على الرجحان لا للاحتجاج بفعل أبي أيوب (رضوان الله تعالى عليه).

وقد يكون مرجوحاً بل حراماً كما لو استلزم تفسخ الجسد وهتك حرمة الميت على تفصيل يأتي بإذن الله تعالى.

أما النقل بحسب الأصل فلا كراهة فيه وقد يُذكر من الشواهد على ذلك نقل جسد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ظاهر النجف وجسد الحرّ الرياحي إلى مرقده المعروف إذا افترضنا أن ذلك كان بإقرار من الإمام زين العابدين (عليه السلام).

المطلب الثالث: استحباب النقل للدفن في المشاهد المشرفة

استثنى المشهور من كراهة نقل الميت من بلد موته إلى بلد آخر النقل إلى المشاهد المشرفة للدفن فيها، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((لا يُكره بل يستحب بلا خلاف فيه أيضاً، بل في المعتبر إنه مذهب علمائنا خاصة. وفيه أيضاً والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وعن غيرها إن عليه عمل الإمامية من زمن الأئمة (عليهم السلام) إلى الآن من غير تناكر، قال في الذكرى: فكان إجماعاً.

قلت: بل أقوى منه بمراتب، وهو كافٍ في ثبوت الحكم المذكور))(2).

ص: 132


1- مسند أحمد: 38/239، ح 23560، الاستيعاب لابن عبر البر: 2/426.
2- جواهر الكلام: 4/343.

قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ولا كراهة فيه بوجه، لأن المدرك في الكراهة إن كان هو الإجماع المدّعى فلا إجماع في النقل إلى الأماكن المتبركة، وإن كان المدرك هو استحباب المسارعة إلى الخيرات فالنقل إلى المشاهد المشرفة وما بحكمها هي عين المسارعة إلى الخيرات لأنه توسل واستشفاع بهم (عليهم السلام)، نعم لو تمت رواية الدعائم من حيث السند لدلّت على مبغوضية النقل ولو إلى الأماكن المتبركة، لدلالتها على ذم نقل الموتى إلى بيت المقدس كما عرفت، إلا أنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

ويؤيد ما ذكرناه رواية علي بن سليمان قال: (كتبت إليه أسأله عن الميت يموت بعرفات يدفن بعرفات أو ينقل إلى الحرم فأيهما أفضل؟ فكتب: يُحمل إلى الحرم ويدفن فهو أفضل)(1).

والمروي عن إرشاد الديلمي وفرحة الغري من قضية اليماني الحامل لجنازة أبيه فقال له علي (عليه السلام): لم لا دفنته في أرضكم؟ قال: أوصى بذلك، فقال له: ادفن فقام فدفنه في الغري(2)(3).فنقل الميت لدفنه في المشاهد المشرفة مستحب عندهم (قدس الله أسرارهم) وذكروا شواهد عليه كحمل النبي الكريم يوسف عليه السلام أباه في تابوت إلى أرض الشام ودفنه في بيت المقدس، واستخراج كليم الله موسى (عليه السلام) عظام يوسف عليه السلام وحملها إلى الشام واستخراج نوح عليه السلام تابوتاً فيه عظام آدم وحملها حتى دفنها في أرض الغري(4)

ويراد بالعظام الجسد لنحافته بالموت كما هو متداول عرفاً أو إطلاق الجزء على الكل كالرقبة.

أقول: إن ما ذكروه من الأدلة عبارة عن روايات ضعيفة فرواية علي بن سليمان قد لا يظهر منها هذا الاستحباب وربما كان ذلك لتمكين أهله من زيارته

ص: 133


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب مقدمات الطواف، باب44، ح2.
2- مستدرك الوسائل، أبواب الدفن، باب13، ح7.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/333.
4- جواهر الكلام: 4/344.

لتخفيف الوحشة لأن أرض عرفات خارج مكة وموحشة إلا ساعات من النهار في يوم واحد من السنة كما يظهر من الروايات.

وأما رواية نقل جنازة اليماني ونظيرتها ضعيفة السند وقد لا يفهم العرف منها تقريراً من الإمام (عليه السلام) على فعله لأن النهي أصبح سالباً بانتفاء الموضوع كما أنها أضيق من المدّعى لاختصاصها بالوصية.

وأما أخبار الأنبياء السابقين فهي مضافاً إلى ضعف سندها من شرع من قبلنا والإمام (عليه السلام) لم ينقل هذه الحوادث للتأسّي بها وإرادة العمل بمضمونها كما قال صاحب الجواهر حتى يمكن الاستدلال بها.

وعلى أي حال فإن ما قدموه من أدلة ليست أقوى مما استدلوا به على كراهة النقل من بلد إلى آخر فلا تصلح لاستثناء المورد من الكراهة ونحن في غنى عن الاستدلال على عدم الكراهة لأننا لم نقل بها أصلاً إلا لطروّ بعض العناوين الثانوية المتقدمة.

أما ما يمكن الاستدلال به على استحباب نقل الميت ودفنه في العتبات المقدسة فأمور منها:

((ويؤيَّد -أي الاستحباب- أيضاً بما فيه من التمسك بمن له أهلية الشفاعة، وهو حسَن بين الأحياء توصلاً إلى فوائد الدنيا، فالتوصل إلى فوائد الآخرة أولى))(1).

وفيه: إن الشفاعة غير مختصة بالمجاورين ولا ينفع في الرد قول صاحب الجواهر (قدس سره): ((لأن حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياءً)) لأنها أجنبية عن محل الاستدلال.

نعم، يمكن تقريب هذا الدليل بما ذكره بعضهم: ((بأن مقابرهم محل الفيوضات الإلهية فيترشح إلى مجاوريها.

وبقول الرضا والهادي (عليهما السلام): (وأمِنَ من لجأ إليكم، وفاز من تمسك بكم، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله ومن أتاكم فقد نجى) وقوله

ص: 134


1- جواهر الكلام: 4/345.

(عليه السلام): (وأشهد أن المتوسل بكم غير خائب وأن من وصل حبله بحبلكم وصل بالعروة الوثقى) كما استدل بذلك في المستند وغيره.إذ من المعلوم صدق هذه العناوين على الميت المستجير بهم، وبما ورد من أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لما دفن عثمان بن مضعون دعى بحجر فوضعه عند رأس القبر، وقال: (يكون علماً لأدفن إليه قرابتي) ))(1).

وهذا المعنى صحيح ونعتقد به.

فلا يبقى من الدليل إلا ما ورد من الأخبار في فضل بعض الأراضي المقدسة فقد ((حكى صاحب البحار(2) في كتاب المزار منه عن إرشاد القلوب للديلمي أنه قال: ((من خواص تربة الغري إسقاط عذاب القبر وترك محاسبة منكر ونكير للدفن هناك، كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت (عليهم السلام) )).

قلت: وفي بالي أني سمعتُ من بعض مشايخي ناقلاً له عن المقداد أنه قال: ((قد تواترت الأخبار أن الدفن في سائر مشاهد الأئمة عليهم السلام مسقط لسؤال منكر ونكير)) هذا كله مع قطع النظر عما فيه من ملاحظة نفس الأرض وما ورد فيها من الفضل والبركة(3)

فإن لذلك مدخلية أيضاً في مسألة الدفن))(4).

والروايات كلها ضعيفة لا يتم الاستدلال بها إلا على فهمهم لقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

ولكن يجب الالتفات إلى أنَّ كل الأدلة التي تقدمت حتى لو تمّ بعضها فإنما يثبت استحباب الدفن عند المعصومين (عليهم السلام)، ولا يلزم منه استحباب النقل، ولكن لما لم يتم عندنا دليل على كراهة أصل النقل فلا بأس بالقول باستحباب النقل للدفن إلى جوار المراقد المقدسة وبشرط أن لا يؤدي إلى

ص: 135


1- الفقه للسيد الشيرازي (قدس سره): 15/233.
2- بحار الأنوار: ج22 من طبعة الكمباني- ص37.
3- وسائل الشيعة: الباب 16، 68، 84 من كتاب المزار.
4- جواهر الكلام: 4/346.

تفسخ الجسد وإهانة كرامة الميت فيما لو كان النقل من أمكنة بعيدة ولذا ((صرّح الشهيد في الذكرى بتقييد استحباب النقل إلى المشاهد بالقرب وعدم خوف الهتك، كما أنه صرّح بتقييده أيضاً بما لم يُخشَ فساده كابن إدريس والمحقق الثاني وعن الشهيد الثاني واستجوده في الحدائق))(1).

إن قلتَ: إن أدلة الدفن مطلقة من حيث الزمن فيجوز التأخير وإن أخبار التعجيل محمولة على الاستحباب.

قلتُ: بل هي مقيَّدة بما لا يؤدي إلى إهانة الميت وانتهاك حرمته كما تقدم من أن حرمته ميتاً كحرمته حيّاً ويمكن تحصيل هذا المقيد باستقراء الموارد كإلقاء من مات في السفينة في الماء بعد إثقاله بالحديد وعدم انتظار الوصول إلى اليابسة، وكدفنه بلا بعض اللوازم إن لم تتوفر وعدم الانتظار إلى حين توفرها وهكذا.

وعلى أي حال فقد استُثنيَ الشهيد من الاستحباب المذكور فإنه يدفن في مصرعه، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((وعن الشهيد (قدس سره) التفصيل بينالشهيد فلا بد أن يدفن في مصرعه وبين غيره فلا مانع من نقله إلى غير بلد الموت وهذا التفصيل لم يظهر له مستند في الأخبار وهو (قدس سره) اعتمد على رواية الدعائم المتقدمة، وقد عرفت ضعفها لإرسالها، فلا فرق بين الشهيد وغيره، فإن نقل الميت إلى المشاهد المشرفة للتوسل بهم عليهم السلام والاستشفاع والتبرك راجح))(2)

والظاهر أن المستند فيه رواية الجعفريات عن جابر بن عبد الله الأنصاري؛ أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بقتلى أحد بعدما نُقلوا أن يردّوا إلى مصارعهم(3)

ورواية الدعائم عن علي (عليه السلام): (لمّا كان يوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاهم إلى دورهم فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) منادياً فنادى: ادفنوا الأجساد في مصارعها)(4).

ص: 136


1- جواهر الكلام: 4/350.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/334.
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 15/225. نقلها عن الجعفريات: 206. باب النهي عن نقل الموتى.
4- دعائم الإسلام، للقاضي النعماني: 1/238.

أما إشكال السيد الخوئي (قدس سره) بضعف المستند فهو جارٍ في المطلب كله وإنما تمموه بقاعدة التسامح في أدلة السنن.

قال صاحب العروة (قدس سره): ((والظاهر عدم الفرق في جواز النقل بين كونه قبل الدفن أو بعده، فلو فُرِضَ خروج الميت عن قبره بعد دفنه بسبب من سبع، أو ظالم، أو صبي، أو نحو ذلك لا مانع من جواز نقله إلى المشاهد المشرفة)).

وقد جوّز السيد صاحب العروة النقل ((وإن استلزم فساد الميت إذا لم يوجب أذية المسلمين))(1).

وذهب الشيخ الأكبر كاشف الغطاء بعيداً حيث قال: ((إنه لو توقف نقله على تقطيعه إرباً إرباً جاز، ولا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان النفع له ودفع الضرر عنه كما يصنع مثله في الحي))(2).

وفيه: إنه مخالفة للثابت وهو وجوب إكرام المسلم وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً بما لم يثبت وهي أخبار الاستحباب المذكورة.

وقد استدل لهم بخبر اليماني بتقريب أن نقله تلك المسافة الطويلة كان يستلزم ذلك، وبإطلاق الروايات المتقدمة وبسيرة المسلمين في النقل وإن استلزم ذلك ((وبأنه كما يجوز التمثيل لحفظ الجسد عن الهلاك الدنيوي كذلك يجوز التمثيل لحفظ الروح عن الهلاك الأخروي- الذي هو أشد من الهلاك الدنيوي- لأن في النقل إلى مشاهدهم اعتصاماً بهم))(3).وكلها مردودة لأن خبر اليماني ضعيف وليس فيه ما يدل على تقرير الإمام (عليه السلام) وربما أجرى ذوو الميت عليه ما يحميه من التفسخ وأما الإطلاق فمقيد بما دلّ على وجوب إكرام المسلم حياً وميتاً وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً؛ مع ضعف تلك الروايات، وأما سيرة المسلمين فليست بحجة في مثل هذه الموارد لالتزامهم بأعراف وتقاليد لا يخرجون عنها حتى مع النهي ولا

ص: 137


1- العروة الوثقى: ج1، ص447.
2- جواهر الكلام:4/348.
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي (قدس سره): 15/238.

يُعلم اتصالها بزمان المعصوم (عليه السلام)، والتمثيل المذكور استحسان وقياس لا دليل عليه بل الدليل على عدمه وقد تقدمت الإشارة إليه.

وقال السيد الخوئي (قدس سره) بالتفصيل بين صورتين:

((الأولى: أن يكون التغير مستنداً إلى اختيار المكلف كتقطيع الميت)).

((والثانية: ما إذا لم يستند التغيّر إلى اختياره بل تغير الميت وأنتن لحرارة الهواء أو طول المدة ونحوهما))(1).

فمنع من الأولى لاسلتزامها هتك حرمة الميت عرفاً وأجاز الثانية بل رجّحها لأن المانع المتصور - ونقله عن صاحب الجواهر (قدس سره)- هو ((إن ذلك هتك للميت وهتك لحرمته وإن لم تنتشر رائحته في الخارج.

ويدفعه: إن إبقاء الميت مدّة ينتن في تلك المدة إنما يُعد هتكاً إذا لم يُقصد به النقل إلى مكان يناسبه وإلا فهو كرامة للميت واحترام له لدى العرف)).

فالصحيح هو ما ذكرناه من الجواز ما لم يستلزم ظهور سوءة الميت التي أمر بمواراتها وهتك حرمته والمرجع في تحديد ذلك هو العرف.

المطلب الرابع: حرمة نبش قبر المؤمن وإن كان طفلاً أو مجنوناً

واستدل عليه بوجوه ذكرها صاحب الجواهر (قدس سره)(2)

وناقشها السيد الخوئي (قدس سره) وهي هذه مع مناقشاتها:

((الأول: الإجماع كما عن جماعة، وعن بعضهم دعوى إجماع المسلمين عليه وكونه معروفاً لدى المتشرعة قديماً وحديثاً.

وفيه: إن الإجماع المدعى ليس إجماعاً تعبدياً وإنما هو مدركي ولو احتمالاً فلا بد من ملاحظة ذلك المدرك ولا موقع للإجماع حينئذٍ)).

أقول:-

ص: 138


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/334.
2- جواهر الكلام: 4/353.

1- إن استدلال صاحب الجواهر (قدس سره) إنما هو بسيرة المتشرعة وليس بالإجماع وإن سمّاه كذلك ولا شك في تمامية حجية هذه السيرة صغرى وكبرى.

2-إن كون الإجماع تعبدياً متصلاً بالمعصومين (عليهم السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يُطمأن إليه فلا معنى للمناقشة فيه، وهل يعقل أن مثل هذا الإطباق من لدن الأولين والآخرين نشأ من الاستناد إلى رواية متأخرة الصدور؟ مضافاً إلى أن الروايات إنما وردت لبيان آثار النبش كالحد والتعزير وكأن الحرمة مفروغ منها.((الثاني: إن النبش مُثلة بالميت وهتك له، وحرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً.

وفيه: إن النسبة بين النبش المدّعى حرمته وبين الهتك عموم من وجه، فإن النبش لا يُعدّ هتكاً في جملة من الموارد كما سيتضح، وعلى هذا الوجه تكون جملة من الموارد المستثناة خارجة عن حرمة النبش خروجاً تخصصياً، وهذا كما إذا دُفن في أرض مغصوبة فلا يكون نبشه حينئذٍ موجباً للهتك من الابتداء، فلم يكن النبش متصفاً بالحرمة ليكون استثناؤه تخصيصاً بل هو خروج تخصصي، وكذا إذا دُفن في أرض لا تناسب الميت ونبش ليدفن في أرض تناسبه أو لينقل إلى العتبات المقدسة ليدفن فيها)).

أقول: إن العرف يرى في نبش قبر الميت وإظهار سوأته خلافاً لما أراده الله تبارك وتعالى من مواراتها هتكاً لحرمته؛ كما هو ظاهر رواية العلل عن الفضل بن شاذان والآية الشريفة وغيرها مما تقدم في المطلب الأول فمنشأ الحرمة هو مخالفة الأمر بمواراة السوأة والهتك ملازم له، أو أنه سبب آخر للحرمة يضاف إلى الأول الذي هو كافٍ في الحرمة.

وقد ورد وصف النبش بالهتك في خبر زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ( أُخذ نبّاش في زمن معاوية فقال لأصحابه: ما ترون؟ فقالوا نعاقبه ونخلِّي سبيله، فقال رجل من القوم: ما هكذا فعل علي بن أبي طالب

ص: 139

عليه السلام، قال: وما فعل؟ قال: فقال: يقطع النبّاش وقال: هو سارق وهتّاك للموتى)(1).

أما نبشه فيما لو دفن في أرض مغصوبة أو توقف إنقاذ بريء على إخراج جسد الميت فالجواز لعناوين ثانوية حاكمة كأداء حق الغير أو قاعدة لا ضرر أو تقديم الأهم على المهم فلا بد من الاقتصار في الجواز على مثل هذه العناوين الحاكمة؛ نعم، يمكن افتراض جواز الإطلاع على الميت حينما لا يكون سوأة لمرجّحٍ ما كما نُ-قل عن كشف جسد الحر الرياحي للاطمئنان بأن أجساد الشهداء لا تبلى، فالتخصص يكون بهذا اللحاظ لا بلحاظ عدم كون النبش هتكاً فما دام الميت سوأة فالنبش هتك، فخروج الموارد المذكورة بالتخصيص وليس بالتخصص.

((الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم من أن الدفن كما يجب حدوثاً كذلك يجب بحسب البقاء، لعدم احتمال أن يكون الواجب مجرد دفنه آناً ما ثم يجوز إبقاؤه من غير دفن بل الواجب إنما هو ستره وإقباره مطلقاً حدوثاً وبقاءً.

وفيه: إن الأمر وإن كان ذلك إلا أن ذلك لا ينافي جواز النبش، لأن المدعى ليس هو إخراج الميت عن القبر وإبقاءه من غير دفن وإنما يُنبش ليدفن ثانياً، فالدفن حدوثاً وبقاءً متحقق وإنما ينبش ويخرج من قبره آناً أو ساعة مثلاً.

نعم لو تمت الدعوى المتقدمة من أنّ أدلة الدفن لها عموم أزماني يقتضي وجوب الدفن في كل آن: كان نبشه وإخراج الميت من قبره ولو آناً ما محرّماً، لأنه مخالف للدفن الواجب في كل آن، إلا أنّا قدّمنا أنا لم نجد في أدلّة الدفن ما يكون له عموم أزماني بوجه، لأنها إنما تدل على وجوب الدفن وحسب من دون دلالة على العموم الأزماني.وعليه فالمدار في حرمة النبش على صدق الهتك والتوهين، وفي أي مورد لم يلزم من نبشه هتك جاز النبش لا محالة))(2).

أقول: هنا تعليقان:-

ص: 140


1- الكافي: ج7، كتاب الحدود، باب 147 حد النباش، ح5.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/349-350.

1- لا يتردد أحد في استظهار هذا العموم الأزماني من أدلة وجوب الدفن وإن الدفن مطلوب حدوثاً وبقاءً وينافيه النبش وإخراج الميت من قبره ساعة أو غيرها، لأن الواجب هو إخفاء السوأة كما في رواية الفضل بن شاذان وغيرها من الأدلة التي تقدمت في المطلب الأول، أما الهتك فهو إما ملازم له أو عنوان يضاف لهذا السبب للحرمة ولذا وردت الأحاديث الشريفة في تعزير النباش إذا لم يسرق شيئاً وقطعه إذا أخذ بعد المفروغية من الحرمة، كصحيحة حفص بن البختري قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حدّ النبّاش حدّ السارق)(1).

ومعتبرة(2)

علي بن سعيد قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النبّاش قال: إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع ويعزّر)(3)

وصحيحة الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (النباش إذا كان معروفاً بذلك قطع)(4). ومصححة ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا قال: (أُتي أمير المؤمنين برجل نباش فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) بشعره

ص: 141


1- الكافي: ج7، كتاب الحدود، باب 147 حد النباش، ح1.
2- وجه الاعتبار: أن علي بن سعيد هذا وإن لم يوثّق لجهالته في كتب الرجال لأن الثقة المشترك معه بالاسم هو علي بن سعيد القاساني وطبقته متأخرة لأنه يروي عن أحمد بن محمد بن عيسى فلا يحتمل أنه هو أما علي بن سعيد هذا فنقول في قبول روايته أن لموسى بن بكر كتاباً رواه عن علي بن سعيد عن زرارة قال عنه صفوان بن يحيى: ((هذا مما ليس فيه اختلاف عند أصحابنا)) (معجم رجال الحديث: 19/37) وهي عبارة غير كافية للتوثيق، ولكن من البعيد عرفاً أن يكون الرجل غير ثقة ويروي عنه موسى كتاباً كاملاً يصفه صفوان بهذا الاسم والوجدان قاضٍ بذلك، فإن من يُخبر عن مئة حالة مثلاً ويثبت بعد الفحص وثاقة نقله فيُركن إليه في نقله، فالمختار في علي بن سعيد قبول روايته إذا كانت موافقة في معناها لما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) كما في المقام.
3- التهذيب: ج10، كتاب الحدود، باب 8، ح82، 83.

فضرب به الأرض ثم أمر الناس أن يطأوه بأرجلهم فوطِئوه حتى مات)(1)

وهي محمولة على تكرار الفعل أزيد من ثلاث مرات وأخذ شيء، ومعتبرة علي بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل أخذ وهو ينبش؟ قال: لا أرى عليه قطعاً إلا أن يؤخذ وقد نبش مراراً فاقطعه)(5).إن قلتَ: هذه الروايات منصرفة عن المقام أعني النبش للنقل إلى المشاهد المشرفة.

قلتُ: هذا صحيح لكننا نتحدث الآن عن أصل النبش بغضّ النظر عن العناوين الثانوية، ثم إن انصرافها بلحاظ إقامة الحد ونحن استدللنا بأخذها الحرمة مسلَّمة حيث تحدثت عن الآثار.

2- إن العموم الأزماني هنا بمعنى أنه إذا دفن فيجب إبقاؤه مدفوناً هو غير العموم الأزماني الذي أشار إليه وذكره دليلاً على عدم جواز نقل الميت من بلد موته إلى بلد آخر بصيغة التوهم فقال (قدس سره): ((نعم، قد يتوهم أن ما دلّ على الأمر بالدفن عام زماني ويدل على وجوب الدفن في كل آنٍ، ومن ثمة لو خرج الميت عن قبره بسبب من الأسباب وجب دفنه ثانياً، وإنما خرجنا عن عمومه بمقدار التغسيل والصلاة عليه ونحوهما، وأما بالإضافة إلى النقل فلا، فمقتضى العموم أو الإطلاق الزماني في دليل الدفن عدم جواز النقل حينئذٍ.

وفيه: إن هذا الوجه لو تم لاستلزم الحكم بوجوب الدفن وعدم جواز تأخيره حتى فيما انقطع بعدم طروّ الفساد على الميت لو بقي ساعة أو ساعتين لبرودة الهواء، كما يستلزم عدم جواز النقل إلى المشاهد المشرفة حتى إذا لم يستلزم طروّ الفساد عليه مع أنه مما لا يمكن الالتزام به.

وهذا الوجه ساقط، وسرُّه أن ما دلّ على وجوب الدفن كقوله (عليه السلام): (يغسَّل ويُكفَّن ثم يُصلى عليه فيدفن) ليس له إطلاق زماني

ص: 142


1- الكافي: ج7، كتاب الحدود، باب147 حد النباش، ح3.

بوجه، وإنما يدل على وجوب الدفن كوجوب غيره من الأمور اللازمة في التجهيز))(1).

فمعنى هذا العموم الأزماني هو معنى الفورية التي تبحث في الأوامر وإنها على نحو الفور أو التراخي ويصلح ردّه لنفي الدلالة على الفورية أي لزوم الامتثال فوراً ففوراً وهي أجنبية عن العموم الأزماني المراد في المقام الذي هو بمعنى الاستدامة، وإن كانت الاستدامة تستظهر من لفظ (يدفن) في المثال إذ العرف لا يفهم منها الدفن ابتداءً ثم إن شاء أخرجه؛ بل يفهم استدامة الدفن بمناسبات الحكم والموضوع.

المطلب الخامس: حكم النبش من أجل نقل الميت إلى العتبات المقدسة

أجازه جماعة كما تقدم في أول البحث والظاهر أن تجويزهم ليس لدليل وإنما هو لاندراجه في كبرى جواز نبش القبر إذا كان لمصلحة الميت، قال السيد الخوئي (قدس سره): ((منها- أي موارد الاستثناء من حرمة النبش- ما إذا كان النبش لمصلحة الميت كالنقل إلى المشاهد))(2)

ومثله قال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)(3)

وغيرهما.وذكر السيد صاحب العروة (قدس سره): ((بل يمكن أن يقال بجوازه -أي النبش- في كل مورد يكون هناك رجحان شرعي من جهة من الجهات ولم يكن موجباً لهتك حرمته أو لأذية الناس، وذلك لعدم وجود دليل واضح على حرمة النبش إلا الإجماع وهو أمر لبّي والقدر المتيقن منه غير هذه الموارد))(4).

ثم استشكل (قدس سره) فيه.

وقال مثله صاحب الذخيرة في مسألة فتح القبر لدفن ميت آخر فيه حيث ((ناقش في شمول الإجماع القائم على حرمة النبش للمقام لأنه دليل لبّي

ص: 143


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/338.
2- منهاج الصالحين: ج1، ص90، الطبعة 29.
3- الفتاوى الواضحة: 187.
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/364.

ويُقتصر فيه على المقدار المتيقن وهو غير صورة النبش لأجل دفن ميت آخر))(1).

أقول: قد أثبتنا في المطلب السابق وجود الدليل المطلق على حرمة النبش غير الدليل اللبّي، وثانياً إن هذا الإجماع له معقد يكون بقوة الدليل اللفظي بدليل استثنائهم موارد الجواز وحددوها بموارد معينة ولو لم يكن له معقد لكفاهم الشك في الدخول ضمن المجمع عليه للقول بجوازه لأن الإجماع دليل لبي.

وقال السيد الخوئي (قدس سره) في تقريبه: ((وأما إذا لم تعد إهانة للميت وكان صلاحاً له كما إذا نُبشَ لكي ينقل إلى العتبات المقدسة والمتبركة فالمشهور بينهم عدم الجواز، واختاره صاحب الجواهر (قدس سره)، بل عن السرائر أنه بدعة وحرام، لكن ذهب جملة من المحققين إلى الجواز كالمحقق والشهيد الثانيين وهذا هو الأظهر))(2).

ثم ساق (قدس سره) نفس الأدلة الثلاثة في المطلب المتقدم فقال (قدس سره) ما ملخّصه إنّ دليل الحرمة ((إنْ كان الإجماع على حرمة النبش إلا في صور مستثناة وليس منها المقام فهو مدركي على أنه غير محقق لمخالفة المحقق والشهيد الثانيين.

وإن كان المستند أن النبش لأجل النقل توهين للميت وهتك له فالنقل للعتبات المقدسة ليس كذلك.

ودعوى أن ذلك بدعة محرمة كما عن السرائر غير مسموعة، لأن غاية ما هناك عدم وقوع النقل بعد النبش في عصرهم (عليهم السلام) لا أنه كان بدعة.

وأما العموم الأزماني في أدلة وجوب الدفن فهو غير ثابت))(3).

وقد ناقشناه في المطلب السابق.

فالنبش محرّم والدفن إلى جوار الأئمة والأولياء شيء حسن لكن على أن لا تكون مقدمته محرمة فلا بأس بنقل الميت ابتداءً بدفنه هناك ما لم يستلزم

ص: 144


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/310.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/340.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/340.

النقل شيئاً محرماً، أو إذا انكشف عنه القبر بسيل أو زلزال أو تفجير أو عصيان فيمكن نقله أيضاً وأما وجود المصلحة فلا مصلحة في ارتكاب المحرّم، ولا يوجد دليل على جواز النبشلما فيه مصلحة الميت مطلقاً، وربما كان وجهه (قدس سره) أن بوجود المصلحة لا يتحقق الهتك، وهذا ما ردّدناه وقلنا أن المنشأ للحرمة هو مخالفة الأمر بمواراة السوأة ويلازمه الهتك أو يؤكده.

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((ولعل اشتراط جواز النقل قبل الدفن بما لم يكن فيه هتك للحرمة منافٍ لجوازه بعد الدفن، لما في النبش نفسه من هتكها))(1)،

ونِعم ما قال (قدس سره).

وأما ما ذكر من نقل بعض الأنبياء لبعضهم (صلوات الله عليهم أجمعين) فربما كان ذلك لهم مع التابوت كما يظهر من بعض الروايات فلا يكون نبشاً لأن صدق عنوان النبش يستلزم ظهور جسد الميت.

ويمكن تحقيق نقل الميت إلى العتبات المقدسة بنقل القبر ومن فيه من دون أن ينكشف جسد الميت بحسب ما أرشد إليه صاحب العروة بقوله (قدس سره): ((السابع- من مستثنيات حرمة النبش- إذا كان موضوعاً في تابوت ودفن كذلك فإنه لا يصدق عليه النبش حيث لا يظهر جسده، والأولى مع إرادة النقل إلى المشاهد اختيار هذه الكيفية فإنه خالٍ عن الإشكال أو أقل إشكالاً))(2)،

وقوله (قدس سره): ((إنه خال عن الإشكال)) لعدم صدق النبش عليه فلا يكون حراماً لكن حرمته من جهة منافاته لاستدامة الدفن بعد حصوله الذي استفدناه سابقاً، إلا إذا لم ينافِ المواراة، وأما قوله (قدس سره): ((أو أقل إشكالاً)) لأنه أقل في ظهور السوأة.

ويكون حكم هذه الكيفية الوجوب فيما لو أوصى الميت بالدفن في مكان وتعذّر تنفيذ وصيته عند موته فيدفن في مكان آخر بهذه الكيفية لتنفذ وصيته في أول أزمنة الإمكان.

ص: 145


1- جواهر الكلام: 4/364.
2- العروة الوثقى: فصل في مكروهات الدفن، المسألة السابعة. التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/363.

كما حكي في كيفية نقلهم جثمان الشهيد الصدر الأول (قدس سره) قبل شهور إلى مرقده الجديد الحالي و((كما صنعوا بقبر حذيفة بن اليمان في العراق قبل سنوات وقد ظهرت كرامته، حيث أن التراب سقط وظهر جسده وإذا به طريّ جديد شيخ أبيض اللحية كأنه مات الساعة، وقد شاهده غير واحد من العراقيين، وكذلك ظهر بدن إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام) عن قريب، لمّا حمله السعوديون عن مدفنه، ودفنوه في البقيع، شاهده غير واحد))(1).

وهذا الجواز من هذه الناحية لا مطلقاً فلو أوصى بالدفن في ذلك المكان فلا يجوز نقله منه حتى بهذه الصورة.

المطلب السادس: جواز النبش والنقل فيما لو أوصى الميت

إن الوصية (تارة) تتعلق بالنبش والنقل وهو أمر محرّم فلا تكون نافذة وتسقط لأنها وصيّة بمحرّم.

(وتارة) تتعلق بالدفن في مكان ما ومنها العتبات المقدسة ولكن أولياء الميت خالفوا الوصية ودفنوه في مكان آخر فمقتضى ما دلّ على وجوب تنفيذ الوصية إخراجه ونقله إلى المكان الذي أوصى بدفنه فيه، لإقوائية دليل وجوب تنفيذ الوصية، قال تعالى: «فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» (البقرة: 181) ولأنها أسبق الحقّين.

وذكر السيد الخوئي (قدس سره) وجهاً آخر فقال: ((إن المقتضي لحرمة النبش قاصر في صورة الوصية، لأن مدركها الإجماع وهو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو غير الوصية بالنقل، وأما مع الوصية به فلم ينعقد إجماع على حرمته))(2) ولا بأس به على مبانيه.

ص: 146


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي: ج15، ص276.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/341.

وينبغي الالتفات إلى أنه إذا أمكن تنفيذ الوصية بنقل الميت بتابوته أو مع التراب المحيط به وجب وحرم النبش وإذا تعذّر كل ذلك وجب النبش لتنفيذ الوصية.

وما قاله بعض الفقهاء (قدس سره) من أنه ((إذا أوجب تنفيذُ وصيته هتكه، وظهور رائحته، وتبدده وتفسخه، فالظاهر سقوط الوصية، لأنه وصية بالمحرم، لأن الهتك الحرام لا يخرج بالوصية عن كونه حراماً))(1)

وقول السيد الخوئي (قدس سره): ((لأن الوصية إنما تكون نافذة في الأمور المباحة، ضرورة أن الوصية لا تقلب الحرمة إلى الجواز))(2):

غير مسموع؛ لأنها حينما صدرت تعلقت بأمر محلل بل راجح كالدفن في العتبات المقدسة ولم تتعلق بحرام وإنما حصل الحرام بمخالفة أولياء الميت لوصيته.

قال المفيد في المسائل الغريّة: ((وقد جاء في حديث ما يدل على رخصة في نقل الميت إلى بعض مشاهد آل الرسول (صلوات الله عليهم) إن أوصى الميت بذلك))(3).

ص: 147


1- الفقه للسيد محمد الشيرازي: ج15، ص288.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/340.
3- الفقه للسيد محمد الشيرازي: ج15، ص231، عن جامع أحاديث الشيعة، أبواب الدفن، الباب22، ذيل ح14. وربما كان من تلك الأخبار قصة اليماني التي رواها في إرشاد القلوب (عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان إذا أراد الخلوة بنفسه أتى إلى طرف الغري، فبينما هو ذات يوم هناك مشرفٌ على النجف، فإذا رجل قد أقبل من البرية راكباً على ناقة، وقدّامه جنازة، فحين رأى علياً (عليه السلام) قصده حتى وصل إليه وسلم عليه فردّ (عليه السلام) فقال له: من أين؟ قال: من اليمن، قال: وما هذه الجنازة التي معك؟ قال: جنازة أبي أتيت لأدفنها في هذه الأرض، فقال له علي (عليه السلام): لم لا دفنته في أرضكم؟ قال: أوصى إلي بذلك، وقال إنه يدفن هناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال له (عليه السلام): أتعرف ذلك الرجل؟ قال: لا، قال عليه السلام: أنا والله ذلك الرجل-ثلاثاُ- فادفن، فقام فدفنه) (إرشاد القلوب، ص440 في فضل المشهد الغروي. وعنه في البحار، ج97 في فضل الكوفة والنجف وماء الفرات).

وربما كان ما تقدم من كلام الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) من أنه ((لو توقف نقله على تقطيعه إرباً إرباً جاز))(1)،

وارد فيما لو أوصى الميت وكان دليل وجوب تنفيذها لازماً إلى هذا الحد.

نكتة: قال السيد الخوئي (قدس سره): ((ولكن للمحقق النائيني تعليقة على المتن في هذه المسألة يستشكل فيها في نفوذ الوصية بالنبش والنقل وهذا منه (قدس سره) عجيب، لأنه أمضى ما ذكره الماتن (قدس سره) سابقاً من أن الأقوى جواز النبش للنقل إلى المشاهد المشرفة، ومع جوازه كيف يتوجه الإشكال في نفوذ الوصية به؟.

نعم، لو قلنا بأن النبش للنقل بدعة محرمة كما ذكره الحلي في سرائره لم تصح الوصية به، لأنها لا تكون مشروعة بوجه ولا تقلب الحرام إلى الجواز ولعل في تعليقته سقطٌ والله العالم بالحال))(2).

أقول: يمكن أن نوجه كلام المحقق النائيني (قدس سره) بأنّ ما أمضاه أولاً من جواز النبش والنقل فيما لو لم يكن الدفن شرعياً لأنه (قدس سره) ذهب إلى نفوذ وصية الميت فيما ((إذا أوصى بأن لا يدفن مدة ويبقى وديعة وأمانة ويدفن بعد ذلك في الأماكن المتبركة أو غيرها))(3)

فإذا وجد نقاش ففي نفوذ مثل هذه الوصية كما ناقش السيد الخوئي (قدس سره) فعلاً لا في التناقض في كلامه (قدس سره).

ص: 148


1- كشف الغطاء: ص145، س5.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 9/364.
3- التنقيح في شرح العروةالوثقى: 9/341.

أما ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من التوجيه بقوله: نعم، فغير صحيح لأن الوصية عادةً تكون بالدفن في العتبات المقدسة وليس بالنبش والنقل وحينئذٍ تكون الوصية مشروعة ولازمة أما الفرض الثاني فهو نادر.

ملحق:

تنبيهات في مفاد أخبار (من بلغ)

توجد عدة روايات معتبرة يطلق عليها أخبار (من بلغ)(1)

جعلوها مستنداً لقاعدة التسامح في أدلة السنن التي يستدلون بها على كثير من المستحبات والمكروهات:

(منها) صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه).

(ومنها) معتبرته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقله).

(ومنها) معتبرة محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له ذلك الثواب، وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله).

(ومنها) معتبرة صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من بلغه شيء من الثواب على شيء من فعل الخير فعمل به كان له أجر ذلك، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله).

وذكر هذا المعنى أحمد بن فهد الحلي في عدة الداعي وقال: روى الصدوق عن محمد بن يعقوب، بطرقه إلى الأئمة (عليهم السلام) أن من بلغه

ص: 149


1- تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب18.

شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه.

وروى السيد ابن طاووس في كتاب (الإقبال) عن الصادق (عليه السلام) قال: (من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه).

ومن طريق العامة ما رواه عبد الرحمن الحلواني مرفوعاً إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من بلغه من الله فضيلة فأخذ بها إيماناً بالله ورجاءَ ثوابه، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك)(1).

والمفهوم لدى الأصحاب من معنى هذه القاعدة أنه لو وجد خبر غير تام الحجية دالّ على مطلوبية شيء (أعم من الوجوب والاستحباب) فيعتبر مفيداً للاستحباب بعد تتميم حجّيّته بأخبار (من بلغ)، لذا احتوت الكتب الفقهية على مستحبات كثيرة لم يرد بها دليل تام وإنما بُني القول باستحبابها على هذه القاعدة.

لذا قيل في مفاد هذه الأخبار أنه ((حجية خبر الضعيف الذي قام على وجوب شيء، أو استحبابه، بالنسبة إلى استحبابه، فيكون حجة على استحباب ذلك الشيء ولو كان ظاهراً في وجوبه. وبيان دلالة هذه الأخبار على هذا الاحتمال هو دلالتها على ترتب الثواب على العمل الذي بلغه أن فيه الثواب.

ولا شك أن ترتب الثواب على عمل دليل على استحبابه، والمثبت لهذا الاستحباب هو عنوان البلوغ))(2).والقراءة الدقيقة لهذه الروايات تفيد عدة معانٍ وسنجد من خلالها أن الأصحاب توسعوا في فهم معناها من عدة جهات:-

ص: 150


1- عدة الداعي: 13، تأريخ بغداد: 8/296.
2- كتاب (القواعد الفقهية) الميرزا حسن البجنوردي (قدس سره): ج3، ص325، القاعدة 35.

1- إن خبر صفوان وما نقله ابن فهد الحلي والسيد ابن طاووس وخبر جابر الأنصاري تفسّر العمل بأنه من فعل الخير في نفسه وليس إن أخبار من بلغ تؤسس استحبابه؛ نعم، هي تؤسس إعطاء الثواب الخاص، فلو صلى شخص ركعتي أول الشهر أو صام كل خميس رجاءَ ثوابهما الخاص أُعطي إياه وإن لم يكن المعصوم (عليه السلام) قد قاله ما دام الفعل خيراً في نفسه.

إن قلتَ: لا تنافي بين خبر صفوان وغيره حتى تحمل عليه؛ كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثم قال: (أكرم العلماء الهاشميين) فإنه لا يقيّد الأولى بالثانية.

قلتُ: هذا صحيح بحسب القواعد في الظهورات لكننا ندّعي في المقام -بجعل بعض الروايات قرينة على البعض الآخر- أن الظاهر هو هذا المعنى.

فإن قلتَ: إن الفعل حتى لو لم يكن خيراً في نفسه فإنه مشمول بهذه الأخبار؛ لأنه بترتب الثواب عليه سيكون مستحباً ومن فعل الخير.

قلتُ: هذا غير تام لأن القضية لا تثبت موضوعها بل لا بد أن يثبت الموضوع ليكون صغرى للحديث.

2- بناءً على ما تقدّم في النقطة الآنفة فإن الأخبار لا تختص بالمستحبات وإنما تعم الواجبات لأنها متّصفة أيضاً بالخير والفضيلة، وبلوغ الثواب عليها ينجّز الوعد المذكور في الأخبار مع الالتفات إلى بقية الملاحظات المذكورة كما لو ورد الخبر في ثواب من صام شهر رمضان أو أدّى صلاة الصبح، فلا وجه لحصر مفاد الأخبار في المستحبات.

3- إن الاستحباب الناشئ من القاعدة بحسب ما عرضوه لمّا كان مبنياً على التسامح فلا يصلح أن يتصرف في ما ثبت بدليل معتبر كتخصيص العام أو تقييد المطلق لأنه ليس أقوى ظهوراً منها، ومن أمثلة ذلك كراهة مناكحة الأكراد المقيدة لإطلاق تزويج الكفؤ رغم أنه آبٍ عن التخصيص أو استحباب ختان النساء المعارض لقاعدة لا ضرر، وسنبحث هذين المثالين مستقلاً إن شاء الله تعالى.

ص: 151

4- إن الأخبار لا تفيد كراهة ما وردت كراهيته في الأخبار غير المعتبرة كالمسألة التي نحن فيها.

إن قلتَ: إن ترك المكروه مستحب فإذا ورد خبر ضعيف في كراهية شيء كمسألتنا كان تركه مستحباً.

قلتُ:-

أ. قد طبّقها على المكروهات من لا يقول بهذه الملازمة كالسيد الخوئي (قدس سره) كما مرَّ في أصل المسألة فهذا نقض عليه.أ. إننا لو قلنا بهذه الملازمة وكان ترك المكروه مستحباً فإن هذا المستحب لا يكون صغرى لأخبار من بلغ كما هو واضح، لأنها لا تتضمن بلوغ ثواب على فعل.

ج-. إن العرف لا يرى ترك كل مكروه مستحباً حتى يصدق على الترك معنى الفعل والعمل، ولا يرى كل ترك للمستحب مكروهاً حتى يصدق عليه نفس المعنى، ففي مسألتنا كان التعجيل بتجهيز الميت فعلاً مستحباً والتأخير بتجهيزه فعلاً مكروهاً فإذا ورد خبر ضعيف في كراهة أمرٍ وصدق على تركه عنوان الفعل أمكن إجراء القاعدة على مبناهم.

نعم، لو افتُرض ورود أخبار على استحباب ترك بعض الأفعال كانت مشمولة بأخبار من بلغ كصوم يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء وكذا استحباب ترك بعض الأمور للحاج أو في البيع والشراء كرؤية العبد ثمنه وكذا في النكاح أو في العلاقات الاجتماعية كمناداة شخص باسمه وغيرها كثير، ولكن هذا غير مقصود لهم في باب المكروهات.

5- إن الروايات تضمنت مفردة (بلغ) عدا الأولى التي ورد في صدرها (سمع) وقد يكون من تصرف الراوي -باعتبار إذن الإمام (عليه السلام) بالنقل بالمعنى-، وذيل الرواية (على ما بلغه) شاهد على أنها لم تخرج عن سياق الروايات الأخرى.

والبلوغ والتبليغ لا يصدق عرفاً إلا إذا كان النقل معتبراً وعليه يبنون في توجيه الدعوات والأوامر وغيرها، ولا يشمل مطلق الخبر حتى وإن كان

ص: 152

معلوم الضعف؛ وسيأتي في المحكي عن الشهيد الثاني (قدس سره) هذا المعنى، ويشهد له الوضع اللغوي فإن ((البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى))(1)،

ولم يرد في القرآن الكريم - في حدود استقرائي الناقص- إلا في الإخبار الصادق كتبليغ الله تبارك وتعالى والأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين، أما في غيره فيستعمل مثل (جاء) كقوله تعالى: «إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ» (الحجرات: 6) «وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ» (النساء: 83).

ويمكن استظهار هذا المعنى من ذيل الأخبار: (وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله) وهذا يعني أن حجية الخبر مكتملة في نفسها، ويأتي هذا الذيل لتأمين احتمال عدم مطابقة الواقع، فإن أهل الفن والمحاورة يرون هذا الذيل مناسباً للخبر ذي القيمة لا الخبر غير ذي القيمة؛ الذي هو ساقط في نفسه فلا معنى لتأمين احتمال عدم مطابقته للواقع لأنه لا يُعبأ به ابتداءً.

ولو استنطقنا الوجدان عن هذا المعنى فنقول لو عكسنا الحالة أي لو بلغ المكلف خبر غير معتبر بوجوب شيء فلم يفعله أو حرمة شيء فلم يجتنبه لعدم الوثوق بالخبر ثم ظهر أنه مطابق للواقع فإنه لا يؤاخذ عليه لعدم صدق البلوغ.وبالتالي عدم تنجّز التكليف وهذا المعنى واضح حتى عند من يلتزم بمسلك حق طاعة المولى عند احتمال التكليف والالتفات إليه وليس بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كالسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره).

فإن قلتَ: إن هذا صحيح لكن الفرق بينهما أن المقام قد تممت حجيته بأخبار من بلغ دون مورد النقض.

قلنا:-

أ. إننا بصدد شرح معنى البلوغ لا الحجية.

ص: 153


1- المفردات للراغب، مادة (بلغ).

ب. إن التتميم موجود بالاحتياط العقلي لوجود الاحتمال المنجّز له بناءً على مسلك حق الطاعة.

فالعرف وظهور الروايات والوضع اللغوي والوجدان كلها شاهدة على هذا المعنى.

6- إن الأخبار خاصة ببلوغ الثواب على فعل شيء ولا تشمل كل ما ورد في طلب فعل معين ما لم يقترن بذكر الثواب ليكون صغرى لأخبار من بلغ. فليس صحيحاً إجراؤهم القاعدة في كثير من الأخبار غير المعتبرة التي تطلب فعلاً معيناً أو تنهى عن فعل معين ولما لم يمكن استنباط حكم إلزامي منهما لعدم اعتبار الدليل فإنهم يحملونهما على الحكم غير الإلزامي. ووجه عدم الصحة: ما تقدم من عدم تحقق صغرى أخبار من بلغ ولأن الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة، فإذا سقطت الرواية عن الاعتبار فلا وجوب ولا حرمة، ولا ينتقل الظهور إلى الاستحباب والكراهة إلا بالقرائن. نعم، على مذهب من قال بأن الوجوب مركّب من جنس وفصل هما الشيء والنهي عن تركه يمكن القول بحلول الاستحباب محل الوجوب باعتبار سقوط الفصل من التعريف وهو النهي عن الترك فيبقى الجنس وهو طلب الشيء الذي يحمل على الاستحباب. لكن هذا مردود بعدم مساعدة العرف عليه لأن الوجوب بسيط أما النهي عن الترك فيستفاد من الإطلاق وليس من الوضع، ولو قلنا بالتركيب فإن الجنس يسقط أيضاً كالفصل عند عدم اعتبار الدليل، فعلى مختارهم لا بد من وجود طلب استحبابي ولو ضعيف ليكون صغرى لهذه القاعدة ولا يكفي مطلق الطلب.

7- إن ما بنوا عليه من تتميم حجّيّة الخبر الضعيف الذي يفيد الاستحباب بأخبار من بلغ غير صحيح، فالخبر غير الحجة لا يصبح حجة في استحباب الفعل بتتميم حجيته بأخبار من بلغ، وإنما يحقق هذا الخبر موضوع أخبار من بلغ وتبقى الحجية لأخبار من بلغ بعد اشتمال الموضوع على كل

ص: 154

العناصر التي اشترطناها، فما لم يقترن مفاد الخبر غير الحجة بعنوان البلوغ فلا يكون الفعل سبباً للثواب وبالتالي لا يكون مستحباً.

8- إن الأخبار خاصة بمن بلغه الثواب فعمله ولا تشمل الفقيه ليفتي به لأن الأخبار لا تؤسس لاستحباب العمل وإنما يعطى فاعله الثواب الذي دفعه إلى العمل، فالقاعدة المستفادة من أخبار من بلغ فقهية وليست أصولية كما نُسب إلى جملة من الأساطين ((لأن نتيجتها وهي حجية خبر الضعيف تقع كبرى في قياس1- الاستنباط))(1)

فهي من هذه الناحية كقاعدة الطهارة والحل ونحوهما التي يطبقها المكلف مباشرة على المصداق ولا تكون حداً أوسط في عملية الاستنباط.

9- إن المكلف الذي يأخذ الاستحباب من الرسالة العملية لا يكون صغرى للأخبار لأنه ليس ممن بلغه ثواب عمل من أفعال الخير، إلا أن ينقل الفقيه في رسالته الثواب المروي على العمل، كما يحصل أحياناً نادرة، أو ما يرد من الثواب في كتب السنن والمستحبات ككتاب (مفاتيح الجنان) وغيره.

وتوجد بعض الأمور التي ذكرناها في كلمات السلف الصالح (قدست أسرارهم) كاشتراط عدم بلوغ الخبر حد الوضع والاختلاق، أو اختصاص القاعدة بأخبار الفضائل ((والمحكي عن الشهيد الثاني -قدس سره- في الدراية أنه قال: جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله تعالى، وأحكام الحلال والحرام، وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حد الوضع والاختلاق.

والمحكي عن الذكرى: ((إن أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم))(2).

ص: 155


1- نقلها عنهم في القواعد الفقهية: للسيد حسن البجنوردي: 3/330.
2- الرسائل الأربع: قواعد أصولية وفقهية، تقريرات بحث الشيخ جعفر سبحاني، الرسالة الرابعة، بقلم علي أكبر الكلانتري الشيرازي، ص5.

وخلاصة المراد من أخبار من بلغ تحفيز المؤمنين على فعل الخير ونفي احتمال عدم حصول العامل على الثواب الموعود لاحتمال عدم مطابقته للواقع وتطمينه بأنه يُعطى الثواب حتى لو لم يكن صادراً من الشارع المقدس.

فالأخبار لا تدل على القاعدة التي ذكروها ولا يمكن الاستدلال بها على استحباب ما وردت به أخبار ضعيفة، فلا بد من الحزم والدقة في الاستفادة من أخبار من بلغ خشية الوقوع في الحرمة بنسبة أمور إلى الدين وهي ليست منه ويتحقق ذلك بالالتزام بهذه التنبيهات بفضل الله تبارك وتعالى.

والاقتصار في مفاد أخبار من بلغ على الحدود التي ذكرناها وإن التوسع الذي تعامل به الفقهاء يفتح الباب واسعاً لدخول كل ما هو مستهجن في مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) بالكذب والافتراء.

نعم، قد يكون للقاعدة دليل آخر غير أخبار (من بلغ) وهو حكم العقل بحسن امتثال أوامر المولى حتى لو وردت بطريق ضعيف ما لم يعارضها دليل على الحرمة، وبحسن اجتناب ما ينهى عنه المولى ولو ورد بطريق غير معتبر ما لم يعارضه دليل على الوجوب، وهو حكم صحيح كحكم العقل بحسن الاحتياط، لكنه غير الحكم بالاستحباب والكراهة الذي فهموه من أخبار (من بلغ).

لذا لا نجد مانعاً من الإفتاء باستحباب ما ورد في أخبار الفضائل والأخلاق والمواعظ حتى لو لم يكن الخبر تاماً ما دام منسجماً مع أحكام الشريعة وكان فضيلة في نفسه كصلاة ليلة الدفن أو أول الشهر أو بعض الأغسال المسنونة ونحوها.

تطبيقان للقاعدة قابلان للنقاش:

لقد توسّع جملة من الفقهاء (قدست أسرارهم) في تطبيق القاعدة إلى موارد في النفس منها شيء وسنشير من باب المثال إلى موردين:

الأول: كراهية مناكحة الأكراد، قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره): ((أفتى مشهور فقهائنا بكراهة مناكحة الأكراد))(1)، وقد خالفهم هو (قدس

ص: 156


1- ما وراء الفقه: 6/225.

سره) وناقش ما استدلوا به من روايات وصفت الأكراد بأنهم (جنس من الجن كشف عنهم الغطاء)(1)

ونهت أخرى عن مخالطتهم ومناكحتهم وكلها ضعيفة السند تنتهي إلى أبي الربيع الشامي الذي قال فيه سيدنا الأستاذ الشهيد (قدس سره): ((إن رواية هذا الرجل ليست بحجة، ليس فقط لأنه لم يوثّق، وإن كان هذا كافياً في إسقاطه عن الحجية، بل لأنه: إما شخص مجهول -كما نصّ عليه السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث- وغير معروف الحال. وإما لأنه -كما قيل – رجل نصّاب وضّاع كذّاب، وعلى كل تقدير فإن روايته ساقطة تماماً)).

ولذا كان مختاره (قدس سره) في هذه المسألة بأن في ((هذه الفتوى نحواً من أنحاء الظلم لهؤلاء الناس، وخاصة فيما إذا كان فيهم الصلحاء والطيبون، كما هو الحال في أية مجموعة من الناس))(2).

ولأن فيها مخالفة للعمومات الآبية عن التخصيص بمثل المورد التي وصفت الزوج الكفؤ كمعتبرة إبراهيم بن محمد الهمداني قال: (كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) في التزويج، فأتاني كتابه بخطّه قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)(3).

وقال في منشأ هذه الروايات السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في حوار معه حول القضية الكردية في العراق إنها -أي الروايات- من وضع أعداء أهل البيت (عليه السلام) لإيقاف زحف هذه المدرسة المباركة باتجاه شمال العراق وتركيا بعد أن اتسع شرقاً وعبر بلاد فارس وغرباً ليصل إلى الأطلسي وقد نجحوا بهذا الدس في إيقاف مدّهِ شمالاً.

الثاني: استحباب ختان المرأة أو ما يسمّونه بخفض الجواري لروايات ضعيفة سنداً أو غير ظاهرة في المطلوب كرواية الكليني في الكافي بسنده عن الحسين بن

ص: 157


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب32، ح1.
2- ما وراء الفقه: 6/226.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 28، ح2.

سعيد عن بعض أصحابه عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الختان سنة في الرجال، ومكرمة في النساء)(1).ونحوه خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خفض النساء مكرمة، وليس من السنة ولا شيئاً واجباً، وأي شيء أفضل من المكرمة)(2).

وهما ضعيفتا السند وتنفيان كون خفض النساء من السنة التي تشمل الواجبات والمستحبات، أما كونها مكرمة في النساء فيمكن أن نفهمها بأكثر من وجه:-

1- إن التخلص من سائر الشهوات ومنها الشهوة الجنسية أو تقليلها على الأقل هو تحرير للإنسان من ذل العبودية لغير الله تبارك وتعالى وتخلص من سلطانها (إلهي .. أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك)(3).

2- إن كونها مكرمة لا يعني الحث على تحصيلها وإنما لو حصلت ولو عصياناً أو جهلاً من قبل الآباء فهي مكرمة.

3- إن مثل هذا التبليغ جزء من عملية تدريجية في القضاء على هذه العادة التي يبدو أنها كانت رائجة في مجتمع يحرم المرأة من التمتع من حقوقها حتى حق الحياة حين كان يئد البنات، فإخراج كون الحالة من السنة يساهم في القضاء عليها تدريجياً لذا لم نجد أجيال المتشرعة خصوصاً من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) تعمل بهذه العادة.

4- إن استعمال لفظ النساء مع المكرمة يعني أن الخطاب موجّه للنساء أنفسهنّ في نيل هذه المكرمة إن شئن وليس لأولياء الأمور بإجراء العملية على

ص: 158


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 58، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 56، ح3. والحديث بنصّه موجود في مصادر العامة ((رواه أحمد والبيهقي من حديث الحجاج بن أرطاة، وهو مدلّس وفيه اضطراب، وقال عنه البيهقي: هو ضعيف منقطع (نيل الأوطار: 1/113))) ونقلناه عن كتاب (الفقه الإسلامي وأدلّته) للدكتور وهبة الزحيلي: 1/461، ط3.
3- بحار الأنوار: 91/151.

بناتهم، ولعل صاحب الحدائق أراد هذا المعنى مما نقله عن بعض مشايخه بقوله: ((مكرمة أي موجب لحسنها وكرامتها عند زوجها والمعنى ليست من السنن بل التطوعات))(1)

ثم جعل حديث أم حبيب مؤيداً له.

مع ما سيأتي بإذن الله تعالى من التقريبات على الحرمة.

وقد ورد النهي عن الاستئصال ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لما هاجرت النساء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هاجرت فيهن امرأة يقال لها: أم حبيب وكانت خافضة تخفض الجواري، فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها: يا أم حبيب العمل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ قالت: نعم يا رسول الله إلا أن يكون حراماً فتنهاني عنه، قال: بلحلال(2)،

فادني مني حتى أعلّمك، قال: فدنوت منه فقال: يا أم حبيب إذا أنت فعلت فلا تنهكي ولا تستأصلي وأشمّي(3)

فإنه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج)(4).

ويمكن جعل الصحيحة دليلاً على الحرمة للنهي الوارد فيها عن القطع والاستئصال والاكتفاء بالإشمام التي تعني التماس ومسمى القطع وليس فيها دلالة على طلب الإشمام وإن كان بصيغة افعل لأنه في مقام توهم الحظر، بل ولا حتى الترخيص فيه لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إذا أنتِ فعلتِ) فألقى عهدة الفعل عليها، وأما قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا بل حلال فتضعف دلالتها بما يلي:-

1- اختلاف النسخ فربما كان جواب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا أي لم يرد نهي وهو أعم من كون حكمه الحلّيّة أو عدم ورود نهي عنها إلى ذلك الحين فأضافت الراوية فهمها بأنه حلال.

ص: 159


1- الحدائق الناضرة: 25/52.
2- وفي التهذيب في موضعين وفي الكافي: لا بل حلال.
3- وردت بنفس النص: (أشمي ولا تنهكي) في مصادر العامة عن جابر بن زيد، راجع كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) ط3: 1/461.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب18، ح1.

2- قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها حلال فهو مشروط بالكيفية التي ذكرها (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي الإشمام التي تعني المقاربة والتماسّ وليس القطع، قال ابن الأثير في النهاية: ((أشمي ولا تنهكي شبّه القطع اليسير بإشمام الرائحة والنهك بالمبالغة فيه، أي اقطعي بعض النواء ولا تستأصليها))(1).

3- أو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قصد بقوله الأصل المقتضي للحلّية ما لم يرد نهي، وفي ذلك الحين لم يكن مثل هذا النهي موجوداً وورد لاحقاً.

4- وربما كان غرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تعلّم أم حبيب النساء هذا المعنى لينلن المكرمة من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة).

ومثله ما عن الجعفريات عن محمد عن أبيه: (إن علياً عليه السلام قال: يا معشر النساء إذا خفضتنّ بناتكن فأبقين من ذلك شيئاً، فإنه أنقى لألوانهن وأحظى لهن)(2).

ورواها في الدعائم وزاد في آخره (عند زواجهن).

ويمكن أن يقرَّب دليل على الحرمة بترتيب مقدمتين:-

الأولى: ما ورد من النهي عن خفض الجارية قبل بلوغها سبع سنين ففي خبر وهب عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: (لا تخفض الجارية حتى تبلغ سبع سنين)(3).الثانية: حرمة النظر إلى العورة بهذا العمر حتى للجنس المماثل، ولما كانت هذه العملية تجرى من قبل الغير، فتكون النتيجة الحرمة لأن العملية ليست من السنة حتى تخرج تخصيصاً من هذه الحرمة، وهذا ينسجم مع التدريج في تبليغ الأحكام الذي أشرنا إليه آنفاً أو تقوم المرأة نفسها بإجراء العملية المذكورة لتحظى بالمكرمة على التقريب المتقدم.

ص: 160


1- النهاية لابن الأثير، مادة ((شمم)).
2- مستدرك الوسائل، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 42، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 18، ح3.

وورد نفي اعتبارها من السنة في عدة روايات معتبرة كصحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجارية تُسبى من أرض الشرك فتسلم فيطلب لها من يخفضها فلا يقدر على امرأة، فقال: أما السنة فالختان على الرجال، وليس على النساء)(1).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ختان الغلام من السنة، وخفض الجارية ليس من السنة)(2).

وورد عن سارة زوجة خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام) الدعاء بطلب عدم المؤاخذة من فعله، كما في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول سارة: (اللهم لا تؤاخذني بما صنعت بهاجر: إنها كانت خفضتها لتخرج من يمينها بذلك)(3).(2).

وهذا الاستغفار مفهوم لما في العملية من إضرار بالمرأة وسلب لحقها في التمتع الجنسي مع الزوج.

وقد نفى سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) إمكان شمول المورد بقاعدة التسامح بأدلة السنن بما يقرب من أحد التنبيهات التي ذكرناها فقال (قدس سره): ((إن ترك السيرة له جيلاً بعد جيل، قرينة على ذلك -أي عدم التزام المتشرعة بالكثير من المستحبات-، فلماذا لم يلتزموا به. الأمر الذي ينتج فقهياً أن استحبابه لا يكون مشمولاً لأدلة التسامح في أدلة السنن لأن ذلك متوقف على وروده عنهم عليهم السلام، فلا يكون موضوعاً لتلك الأدلة)).

ص: 161


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 56، ح1،2.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب 58، ح3. وقد ورد في الحديث الثاني من نفس الباب -وهو ضعيف السند فيه عدة مجاهيل- عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) (في حديث الشامي أنه سأله عن أول من أمر بالختان فقال: إبراهيم وسأله عن أول من خفّض من النساء؟ فقال: هاجر أم إسماعيل خفّضتها سارة لتخرج عن يمينها ((فإنها كانت حلفت لتذبحنها))).

وإذا كان الفعل مضراً ولم يرد دليل على استحبابه حتى على مستوى قاعدة التسامح فيكون حراماً.

ولكن قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره):

((وإذا لم يكن ختان الأنثى مستحباً كان ظلماً لها لا محالة. إلا أنه ليس بحرام على أي حال))(1).

ولا أدري كيف يكون الظلم لا محالة ليس بحرام ولكنه (قدس سره) ربما نظر إلى صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة.وقال (قدس سره): ((وعلى تقدير الرغبة بالختان ينبغي التقليل من اللحم المقطوع إلى أكبر حدٍ ممكن، حتى لو أمكن قطع مليمتر واحد أو أقل لكان أفضل)).

وقد استمعت قبل أيام لتقرير لا أعلم مدى صحة نتائجه المبنيّة على التجارب، خلاصته أن ختان المرأة يؤدي إلى الكآبة والتوتر العصبي ويقلل الخصوبة ويصل إلى التسبب في العقم وإنه يزيد من احتمال الوفاة عند الولادة للأم أو الجنين ويقلل من الإثارة الجنسية بل يؤدي إلى البرود الجنسي وقد أدى في حالات إلى وفاة المختونة ولو لاحقاً علماً أن حوالي (140) مليون امرأة مختونة في العالم والظاهرة منتشرة في عدة دول إسلامية خصوصاً مصر(2).

ص: 162


1- ما وراء الفقه: 6/223.
2- النشرة الأخبارية (آخر ساعة) من قناة (العربية) الفضائية مساء 2007/10/23.

البحث الرابع: طهارة الكحول في الأصباغ والأدوية والعطور

اشارة

ص: 163

ص: 164

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الرابع: طهارة الكحول في الأصباغ والأدوية والعطور

البحث الرابع(1): طهارة الكحول في الأصباغ والأدوية والعطور(2)

تدخل مادة الكحول في كثير من الاستعمالات كالعطور والأصباغ والأدوية، وتتكون نسبة من الكحول عند صناعة بعض أنواع المعجّنات والحلويات وغيرها، فهل يكون لهذا الكحول نفس حكم ما يضاف منه إلى المشروبات الكحولية؟.

ويُتناول حكم هذه المادة فقهياً من ناحيتين: النجاسة والحرمة، ومدار بحثنا هذا الأول.

ومن قال بنجاسة الكحول فإنه بنى حكمه على القول بنجاسة الخمر، لأن تصنيع الكحول المتّخذ من الأصول الطبيعية كالفواكه والحبوب يكون بتخمير السكريات و ((إن سبب تحول السكر إلى كحول هو إنزيم الزايميز الذي تفرزه خمائر خاصة موجودة على الغشاء الخارجي للفواكه بشكل طبيعي وقد يُنمّى بعضها في مزارع خاصة ويضاف إلى المحلول السكري))(3).

ويشترط في حصول عملية التخمير هذه عدة ظروف ذكرناها في كتاب القول الفصل وعناوينها ملخّصةً:-

1- وجود الإنزيم والذي مصدره الخمائر.

ص: 165


1- بدأ إلقاء البحث يوم 14/ ربيع الثاني/1429 الموافق 2008/4/21.
2- أصل البحث موجود في كتاب (القول الفصل في أحكام الخل) الذي كتبناه عام 1420 هج- عقيب استشهاد أستاذنا السيد محمد الصدر (قدس سره) لمناقشة فتواه في حرمة تناول الخلّ المدبَّس، وطُبع الكتاب أوائل عام 1421 هج-.
3- القول الفصل في أحكام الخل: 27.

2- أن تكون درجة الحرارة بين (25-30)o كأفضل مقدار وتحصل في غيرها بمقادير متفاوتة وتميل الخمائر إلى السبات إذا اقتربت الحرارة من الصفر وتقتل إذا اقتربت الحرارة من درجة الغليان.

3- عدم زيادة نسبة السكر في المحلول السكري عن 20 % فإذا زادت توقفت البكتريا عن العمل.

4- أن تكون عملية التخمير بمعزل عن الهواء فيتحول 90 % من السكر إلى كحول أي تصبح نسبة الكحول (90/100)×(20/100)= 18 % بينما إذا كانت الظروف هوائية فنسبة الكحول = 3 % .ويلاحظ هنا أن تحول جزيئات المحلول السكري إلى كحول لا يكون دفعة واحدة بل بالتدريج، ففي صناعة الخلّ الذي يعقب مرحلة التحوّل إلى الكحول ينقلب المحلول إلى خلّ ولا زالت نسبة من السكريات والكحول موجودة فيه.

والعملية المذكورة هي المرحلة الأولى من الطريقة المتعارفة لصناعة الخل ثم تكون المرحلة الثانية بتحول الكحول إلى خل ويشترط في حصوله أن يكون تحت ظروف هوائية لذا يمكن تعجيل التحول بتقليب المواد وإثارتها وتعريضها للهواء.

وقد قال المتخصصون: إن تركيز الكحول في الخمر التي يتناولها الفسقة (12-15)% وفي التخمير الطبيعي تصل نسبته إلى (9-13) % .

وهذا النوع من الكحول الناتج من التخمير يسمى بالكحول الأثيلي أو الإيثانول.

ويوجد نوع آخر من الكحول يسمى المثيلي أو الميثانول ويحضّر صناعياً من دون عملية تخمير كالطريقة المسماة بالتقطير الإتلافي للخشب أو بعمليات كيميائية أخرى وهي مادة سمّيّة.

فالقول بنجاسة الكحول مبتنٍ على القول بنجاسة الخمر وأن تحضيره يكون بطريقة التخمير وليس بالطرق الكيميائية والصناعية الأخرى.

ص: 166

وقد رأينا جملة من العلماء والفضلاء يتحرّزون من مسّ الأبواب والأثاث الخشبية المصبوغة أو من العطور المحتوية على الكحول لالتزامهم بنجاستها، وربما امتنعوا عن تناول بعض الأدوية لنفس السبب، فالمسألة لا تخلو من ثمرات عملية واسعة.

قال السيد الخوئي (قدس سره) بعد أن عد ((المسكر المائع بالأصالة بجميع أقسامه)) من أعيان النجاسات ((وأما السبيرتو المتّخذ من الأخشاب أو الأجسام الأخرى، فالظاهر طهارته بجميع أقسامه))(1)،

وقال مثله السيد السيستاني(2) (دام ظله الشريف) كما قال في موضع آخر: ((الكحول بجميع أنواعه سواء المتخذ من الأخشاب أم من غيرها طاهر غير نجس، فالأدوية والعطور والمأكولات المحتوية على الكحول طاهرة، وتستطيع استعمالها من دون توقف من ناحية النجاسة، ويجوز تناولها وشربها أيضاً إذا كانت نسبة الكحول ضئيلة جداً = 2%))(3).

أما السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله الشريف) فلم يقولا أصلاً بنجاسة الخمر إلا ما اتخذ من العنب فإنه الذي يسمّى لغةً خمراً.

لكن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لما قال بنجاسة المسكر المائع المتخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الشعير خاصة فقد فرّع (قدس سره)عليها ((السبرتو إن كان أصله الطبيعي أحد الأقسام السابقة فهو نجس، وإن كان من غيرها أو شك في ذلك فهو طاهر))(4).

ص: 167


1- منهاج الصالحين، ط29، العبادات، ص109.
2- منهاج الصالحين، ط2، ج1، ص 138.
3- الفقه للمغتربين، جمع وإعداد السيد عبد الهادي الحكيم، ط3، ص 86، المسألة (37).
4- منهج الصالحين، ج1، ص97، المسألة (492).

البحث في مسألة نجاسة الخمر

المشهور بين علمائنا القول بالنجاسة ((ذهب إليه أكثر علمائنا كالشيخ المفيد، والشيخ أبي جعفر والسيد المرتضى وأبي الصلاح، وسلاّر وابن إدريس.

وقال أبو علي بن أبي عقيل: من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما لأن الله تعالى حرّمهما تعبّداً لا لأنهما نجسان.

وقال أبو جعفر بن بابويه: لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر لأن الله تعالى حرّم شربها ولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته))(1).

((وعزى في الذكرى إلى الجعفي وفاقَ الصدوق وابن أبي عقيل وكذا في الدروس، قال في المعالم: بعد نقل القول بالطهارة عن هؤلاء الثلاثة ولا يعرف هذا القول لسواهم من الأصحاب))(2).

وحكاه في الجواهر(3)

عن والد الصدوق في الرسالة التي توافق فقه الرضا (عليه السلام) وفيها: ((لا بأس أن تصلّي في ثوب أصابه خمر لأن الله حرّم شربها ولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته))(4)

فلا وجه لتشكيك الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في نسبة ابن إدريس (قدس سره) القول بالطهارة إلى والد الصدوق(5).

واختاره من المتأخرين المقدس الأردبيلي وصاحب المدارك والفاضل الخراساني (السبزواري) في الذخيرة -كما في الحدائق- وصاحب المشارق(6) -

ص: 168


1- المختلف للعلامة: 1/310، المسألة (230).
2- الحدائق الناضرة: 5/99.
3- جواهر الكلام: 6/3.
4- جامع أحاديث الشيعة، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 7، ح20.
5- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/411-412.
6- وهو السيد حسين الخوانساري (توفي 1098 هج-) صاحب كتاب (مشارق الشموس في شرح الدروس) حرّر منه كتاب الطهارة، ووُصف بأنه مشحون بتحقيقات أصولية يحكيها عنه المتأخرون مثل الشيخ الأنصاري (قدس سره).

كما في طهارة الشيخ الأنصاري (قدس سره) - وقال صاحب البحار: ((لولا الشهرة العظيمةوالإجماع المنقول لكان القول بالجواز متجهاً ولا ريب أن الأحوط العمل بالمشهور))(1)،

وقال صاحب الجواهر (قدس سره): ((وإن كان أول من جرّأهم عليه المصنف في المعتبر))(2).

واستدل على القول بالنجاسة بعدة أدلة:

(الدليل الأول) الآية الشريفة

وهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (المائدة: 90) بتقريبين(3):-

(أولهما) إطلاق الرجس عليها وإن الرجس عموماً - كما حكى في الجواهر عن التذكرة والمنتهى- أو في خصوص الآية بمعنى القذر لغةً وهو معنى النجس في الاصطلاح وجزم الشيخ ب-((إن الرجس هو النجس بلا خلاف))(4)

((وبه قال الطبرسي أيضاً))(5).

واستشكل عليه ((لوضوح أنه لا معنى لنجاسة بقية الأمور المذكورة في الآية المباركة، فإن منها الميسر وهو من الأفعال ولا يتصف الفعل بالنجاسة أبداً، بل الرجس معناه القبيح))(6)

ولا يمكن حمل الرجس على معناه الجامع وإرادة معانيه المتعددة في كل واحد من العناوين بحسبه لأنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممنوع.

ص: 169


1- بحار الأنوار: 80/98.
2- جواهر الكلام: 6/9.
3- ذكرناهما مع مناقشتهما في كتاب (القول الفصل) صفحة 34-35 من الطبعة الثانية.
4- التهذيب، ج1، كتاب الطهارة، باب12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح104.
5- قلائد الدرر للجزائري: 1/62.
6- المستند في شرح العروة الوثقى: 3/83.

وقد أُجيب الإشكال بأن (الرجس) خبر للخمر فقط أما البقية فتقدَّر لها أخبار مناسبة ((ولا يجب مطابقة المحذوف والموجود وإن كان دالاً عليه كما في عطف المندوب على الواجب بصيغة واحدة فيتعين كون الرجس بمعنى النجس))(1).

وفيه: أنه خلاف الظاهر في كون الرجس خبراً عن الجميع وصحّ ذلك مع كونه مفرداً، إما لكونه جنساً وإما على تقدير مضاف أي تعاطي ذلك، وعلى الأول فلا بد من تقدير المضاف في الكل كالشرب واللعب والعبادة والاستقسام.

(ثانيهما) قوله تعالى: «فَاجتَنِبُوهُ» ((فأمَر باجتناب ذلك على كل حال وظاهر أمر الله تعالى على الوجوب واجتناب ما يتناول اللفظ على كل وجه))(2) وهو ((أمر بالاجتناب وهو موجب للتباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بجميع الأنواع)) ومنه النجاسة.وفيه:-

1- إن الاجتناب يفهم في كل مورد بحسبه فاجتناب الخمر عدم شربها واجتناب الأزلام عدم اللعب بها، كما في قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» أي نكاحهن.

2- إن فهم شمول الاجتناب لكل الآثار ومنها اللمس ووقوعه على البدن والثياب المستلزم للقول بالنجاسة تمسك بالإطلاق وليس مورده المحمول أي الحكم هنا وإنما الموضوع، أما الحكم فيكفي في تحقق الاجتناب أثر واحد كالحرمة في المقام ولا حاجة إلى اجتماع جميع وجوه الاجتماع ليتحقق الحكم، ومورد التمسك بالإطلاق هو الموضوع مع اجتماع شروطه، فلو قال المولى: (الصلاة باطلة) فلا يعني هذا توفر كل موجبات البطلان في هذه الصلاة بل يكفي وجود مبطل واحد لصدق المحمول.

ص: 170


1- جواهر الكلام: 6/4.
2- التهذيب، ج1، كتاب الطهارة، باب12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح104.

فالصحيح: إن الرجس هنا مستعمل بمعناه اللغوي وهو كما قال في القاموس: القذر والمأثم وكل ما استُقذِر من العمل، ونقل عن الزجاج أنه قال: الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل.

(الدليل الثاني) الإجماع:

وُصِف القول بنجاسة الخمر بأنه مشهور ((نقلاً وتحصيلاً قديماً وحديثاً بيننا وبين غيرنا شهرة كادت تكون إجماعاً بل هي كذلك)) ((وفي السرائر بعد أن نفى الخلاف عن نجاسة الخمر حكى عن بعض أصحابنا ما يقتضي الطهارة، ثم قال: وهو مخالف لإجماع المسلمين فضلاً عن الطائفة في أن الخمر نجس إه-. كالمحكي عن نزهة يحيى بن سعيد من أن القول بطهارة الخمر خلاف الإجماع، وفي الذكرى أن القائل بالطهارة تمسّك بأحاديث لا تعارض القطعي إلى غير ذلك من الإجماع المستفيض في كلام الأصحاب)) ((ولقد أجاد البهائي في الحبل المتين بقوله: أطبق علماء الخاصة والعامة على نجاسة الخمر إلا شرذمة منّا ومنهم لم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم))(1).

وأصل الإجماع منقول - خلافاً لما تقدّم من كلام صاحب الجواهر- واعترف بذلك العلامة الحلي (قدس سره) حين نقل قول السيد المرتضى ((لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذّاذ)) وقول الشيخ: ((الخمر نجس بلا خلاف)) فإنه قال: ((وقول السيد المرتضى والشيخ حجة في ذلك فإنه إجماع منقول بقولهما وهما صادقان، فيغلب على الظن ثبوته، والإجماع كما يكون حجة إذا نقل متواتراً فكذا إذا نقل آحاداً))(2).

وقال المحقق في المعتبر: ((الخمر نجسة العين، وقال محمد بن بابويه، وابن أبي عقيل منّا: ليست نجسة، وتصحّ الصلاة مع حصولها في الثوب، وإن كانت محرمة.ثم إن الأخبار المشار إليها من الطرفين ضعيفة، والاستدلال بالآية عليه

ص: 171


1- جواهر الكلام: 6/2.
2- المختلف: 1/310، المسالة (230).

إشكالات، لكن مع اختلاف الأصحاب والأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدين))(1).

أقول: الإجماع المنقول ليس بحجة وما ادعي من عدم الخلاف لم يثبت، فقد خالف عدد من فقهائنا الأقدمين ممن يُعتدّ برأيهم لاطلاعهم الكامل على أحكام مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وقرب عهدهم بالمعصومين (سلام الله عليهم)، بل إن الروايات تشير إلى وجود هذا الخلاف حتى في زمان الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) ولم يكن الحكم بالنجاسة مجمعاً عليه عند أصحاب الأئمة (سلام الله عليهم) ففي رواية خيران الخادم الآتية عن الإمام الهادي (عليه السلام): (أنه كتب إلى الرجل يسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير يصلّى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا اختلفوا فيه) الحديث وصحيحة علي بن مهزيار الآتية التي تشير إلى اختلاف النقل عن الأصحاب. وصحيحة كليب بن معاوية التي يظهر منها أن أبا بصير وأصحابه لم يكونوا يعرفون نجاسة الخمر.

مضافاً إلى كون الإجماع في المقام مدركياً لاستناد القائلين بالنجاسة إلى الروايات الدالة عليها وليس إلى الإجماع التعبدي المتلقّى جيلاً بعد جيل حتى يصل إلى عصر المعصوم (عليه السلام)، لذلك فإن المجمعين مختلفون في التفاصيل فمنهم من قال بنجاسة خصوص المتخذ من العنب وقيل من الأصول الخمسة وقيل كل مسكر مائع بحسب استفادتهم من الروايات، فالاستدلال على المسألة منحصر بالروايات.

ص: 172


1- بحوث في شرح العروة الوثقى للسيد الشهيد الصدر الأول (قده): 3/408.

الاستدلال بالروايات

اشارة

وهي على طائفتين:

(الطائفة الأولى) ما استدل بها على نجاسة الخمر

وقد تنوعت في دلالتها على المطلوب على أنواع:

(الأول) ما دل صريحاً على النجاسة وهو خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث النبيذ (قال (عليه السلام): ما يبلّ الميل ينجس حبّاً من ماء، يقولها ثلاثاً)(1).(الثاني) ما دلّ على غسل الثوب أو البدن ونحوهما إذا أصابه الخمر وهو يقتضي نجاسته باعتبار أن الأمر بالغسل إرشادي إلى النجاسة وليس حكماً تعبدياً ومنها:-

1- صحيحة عبد الله بن سنان قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل لحم الجري أو يشرب الخمر فيرده؛ أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال: لا يصلي فيه حتى يغسله)(2).

2- صحيحة علي بن مهزيار قال: (قرأت كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): جُعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه، إنما حرم شربها، وروي عن غير زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فأعد صلاتك، فأعلِمني ما آخذ به. فوقّع (عليه السلام) بخطه وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله (عليه السلام)).

ص: 173


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب38، ح6.
2- الأحاديث من تسلسل (1) إلى (7) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب38، ح1، 2، 3، 4، 5، 7، 15 على الترتيب.

بتقريب أن المراد بقول أبي عبد الله (عليه السلام) ما نقل عنه خاصة في ذيل الرواية دون ما نقل عنه (عليه السلام) وعن أبيه الباقر (عليه السلام)، وقول أبي عبد الله (عليه السلام) المذكور هو عين الآتي في مرسلة يونس.

3- مرسلة يونس بن عبد الرحمن عن بعض من رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فأعد الصلاة).

وفيها تأكيد على النجاسة من حيث الأمر بإعادة الصلاة.

4- خبر خيران الخادم قال: (كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه فإن الله إنما حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصلّ فيه فكتب (عليه السلام): لا تصلّ فيه فإنه رجس) الحديث.

5- خبر هشام بن الحكم الذي رواه أبو جميلة البصري قال: (كنت مع يونس ببغداد وأنا أمشي معه في السوق ففتح صاحب الفقاع فُقّاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتمّ لذلك حتى زالت الشمس فقلت له: يا أبا محمد ألا تصلّي؟ قال: فقال لي: ليس أريد أصلي حتى أرجع إلى البيت وأغسل هذا الخمر من ثوبي، فقلت له: هذا رأيٌ رأيته أو شيء ترويه؟ فقال: أخبرني هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفقاع فقال: (لا تشربه فإنه خمر مجهول فإذا أصاب ثوبك فاغسله)(1).

ص: 174


1- الحديث مذكور بتمامه في التهذيب، ج1، كتاب الطهارة، باب12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح115.

6- موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: لا تصلّ في بيت فيه خمر ولا مسكر، لأن الملائكة لا تدخله، ولا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله).

وروى مثله الكليني في الكافي بنفس السند عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس. وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر، أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس، وقال: في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر، قال: تغسله ثلاث مرات. وسئل أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات)(1).

7- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن النضوح يجعل في النبيذ أيصلح أن تصلي المرأة وهو في رأسها؟ قال: لا حتى تغتسل منه).

8- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر)(2).

9- صحيحة عبد الله بن سنان قال: (سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر: إني أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليَّ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه)(3).

بتقريب ((إن قول السائل واضح في ارتكاز نجاسة الخمر ولحم الخنزير في ذهنه، والإمام (عليه السلام) وإن لم يكن في مقام البيان من هذه الناحية

ص: 175


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب51، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب14، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 74، ح1.

وإنما كان في مقام بيان جريان الاستصحاب، غير أن سكوته إمضاءٌ عرفاً لما ظهر من كلام السائل من ارتكاز النجاسة))(1).

10- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن الشراب في الإناء يشرب فيه الخمر قدح عيدان أو باطية(2) قال: إذا غسله فلا بأس)(3).(الثالث) ما دلّ على لزوم إهراق المرق والماء ونحوهما إذا أصابه الخمر مما يدل على نجاسته بنفس ملاك النوع الثاني ومنها:-

1- خبر زكريا بن آدم قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير، قال: يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمة، أو الكلب واللحم اغسله وكله. قلت: فإنه قطر فيه الدم، قال: الدم تأكله النار إن شاء الله. قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم، قال: فقال: فسد، قلت: أبيعه من اليهودي والنصارى وأُبيّن لهم؟ قال: نعم فإنهم يستحلّون شربه، قلت والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ قال: فقال: أكره أنا أن آكله إذا قطر في شيء من طعامي)(4).

((وتقريب الاستدلال بها: إما بلحاظ الأمر بإراقة المرق الذي قطرت فيه قطرة خمر أو نبيذ، بدعوى: أن المحذور لو كان منحصراً بالحرمة لحصل الاستهلاك ولارتفعت الحرمة، أو بلحاظ الأمر بغسل اللحم الدال على النجاسة، أو بلحاظ الحكم بفساد العجين الذي قطرت فيه قطرة مسكر

ص: 176


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/425.
2- الباطية: إناء من الزجاج عظيمة تملأ من الشراب توضع بين الفسقة يغرفون منها ويشربون.
3- مستدرك الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 36، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب38، ح8.

بدعوى ظهور الفساد في النجاسة، والمهم هو الوسط من هذه التقريبات))(1).

2- مصححة عمر بن حنظلة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره، فقال: لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب)(2).

(الرابع) ما دلّ على وجوب نزح ماء البئر إذا وقع فيها الخمر، ومنها:-

1- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن سقط في البئر دابة صغيرة، أو نزل فيها جنب، نزح منها سبع دلاء، فإن مات فيها ثور، أو صب فيها خمر، نزح الماء كله)(3).

2- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في البئر يبول فيها الصبي، أو يصب فيها بول، أو خمر، فقال: ينزح الماء كله).

(الخامس) ما دل على التوقي مما أصابه الخمر من الآنية والخوان ونحوهما:-

1- صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن الطعام يوضع على السفرة أو الخوان قد أصابه الخمر، أيؤكل عليه؟ قال: إن كان الخوان يابساً فلا بأس)(4).

بتقريب أن نفي البأس عنه في حالة الجفاف يقتضي وجود البأس حينما تكون فيه رطوبة الخمر وليس هو إلا النجاسة.

2- خبر يونس في الميتة عنهم (عليهم السلام) قالوا: (خمسة أشياء ذكيّة مما فيه منافع الخلق... وإنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة، مما في آنية المجوس وأهل الكتاب، لأنهم لا يتوقَّون الميتة والخمر)(5).

ص: 177


1- بحوث في شرح العروة الوثقى للسيد الشهيد الصدر الأول (قده): 3/417.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 18، ح1.
3- الحديث وما بعده تجدهما في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب15، ح1، 4.
4- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب62، ح4.
5- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب33، ح2.

3- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس، فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر)(1).

ويقرب الاستدلال بالروايتين من خلال التمسك بإطلاق النهي عن استعمال الآنية الشامل لحالة عدم وجود شيء من الخمر فيها الموجب لاحتمال الحرمة.

(السادس) ما دلّ على تنزيل الخمر منزلة لحم الخنزير والميتة ومنها:-

1- صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دواء عجن بالخمر، فقال: لا والله ما أحب أن أنظر إليه فكيف أتداوى به إنه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير وترون أناساً يتداوون به)(2).

2- خبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل اشتكى عينيه فنعت له بكحل يعجن بالخمر فقال: هو خبيث بمنزلة الميتة فإن كان مضطراً فليكتحل به)(3).

ويقرَّب الاستدلال بالتمسك بعموم التنزيل ليشمل كل الآثار من حيث الحرمة والنجاسة.

(الطائفة الثانية) ما استدل به على طهارة الخمر:-

1- موثقة عبد الله بن بكير قال: (سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب قال: لا بأس)(4).

ص: 178


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب72، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب20، ح4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب21، ح5.
4- الروايات من تسلسل (1) إلى (6) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب38، ح11، 14، 10، 12، 13، 9 على الترتيب.

2- صحيحة علي بن رئاب قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو أصلي فيه؟ قال: صل فيه إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إن الله تعالى إنما حرم شربها).

3- صحيحة الحسن بن أبي سارة(1)

قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس إن الثوب لا يسكر).

ص: 179


1- الموجود في التهذيب (ج1، كتاب الطهارة، باب12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح109) وفي الاستبصار (ج1، كتاب الطهارة، باب112: الخمر يصيب الثوب والنبيذ والمسكر، ح5) الحسن بن أبي سارة وهو ثقة، وقد رواها الشيخ (قدس سره) في التهذيب والاستبصار بسنده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه عن أبي عبد الله البرقي عن محمد بن أبي عمير عن الحسن بن أبي سارة، وفي الوسائل الحسين؛ وهو لم يوثّق في كتب الرجال لكن السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) قال: ((وسند الرواية تام، لأن الحسين بن أبي سارة ثقة، إما لأنه الحسن بن أبي سارة الموثّق عند النجاشي، باعتبار أنه لم يذكر حسين بن أبي سارة بالتصغير في كتب الرجال، وإما لرواية ابن أبي عمير عنه)) (بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/429). وكلا الوجهين قابلان للمناقشة أما (الأول) فإن ترجيح كون الراوي هو الحسن لوروده هكذا في الاستبصار والتهذيب لا للاحتمال الذي ذكره (قدس سره) لأن الحسين بن أبي سارة المدائني موجود وروي عنه في التهذيب وكامل الزيارات وينطبق اسمه على الحسين بن أبي سيار المدائني وهو مجهول والعنوانان مجهولان. وأما (الثاني) فلعدم تمامية الكبرى ولأن ابن أبي عمير من طبقة يعقوب بن يزيد الذي روى عنه الحسين فالحسين يروي عن طبقة ابن أبي عمير عنه وليس أن ابن أبي عمير يروي عن الحسين إلا أن يطبّق (قدس سره) هذه الكبرى على حسين آخر غير معروف. فالنتيجة أنه لا يمكن أن يكون ما في الوسائل في المقام صحيحاً لأن الحسين روى عن يعقوب بن يزيد الذي لم يدرك الإمام الصادق (عليه السلام) وهو من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام) وروى عنه محمد بن يحيى العطار فمن المقطوع به أنه لم يروِ عن الإمام الصادق (عليه السلام).

4- خبر الحسن بن أبي سارة قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمرّ ساقيهم ويصب على ثيابي الخمر، فقال: لا بأس به إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره).

5- صحيحة بكير في العلل قال: (سئل أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما السلام) فقيل لهما: إنا نشتري ثياباً يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها، أنصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، إن الله إنما حرم أكله وشربه، ولم يحرم لبسه ومسّه والصلاة فيه).

6- معتبرة أبي بكر الحضرمي(1)

قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصاب ثوبي نبيذ أُصلّي فيه؟ قال: نعم) الحديث.

7- خبر الحسن بن موسى الحنّاط قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجّه من فيه فيصيب ثوبي، فقال: لا بأس)(2).

وقريب منه -على وجه محتمل- خبر عبد الحميد بن أبي الديلم، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بُصاقه فقال: ليس بشيء).

إذا حملناه على أن البصاق كان حال كونه يشرب الخمر، وحمله الشيخ (قدس سره) على كون البصاق خالياً من الخمر ((والبصاق ليس بنجس وإنما النجس الخمر))(3).

8- صحيحة علي بن جعفر قال: (سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جرى فلا بأس به قال: وسأله عن الرجل يمرّ في ماء المطر و قد صبّ فيه

ص: 180


1- أبو بكر عبد الله بن محمد الحضرمي، روى الكشي ما يتضمن مدحه وكذا الشيخ في أحاديث التلقين.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب39، ح2.
3- التهذيب، ج1، كتاب الطهارة، باب12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح114.

خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله ؟ فقال: لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس)(1).

9- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل مرّ بمكان قد رُشّ فيه خمر قد شربته الأرض وبقي نداوته، أيصلي فيه؟ قال: إن أصاب مكاناً غيره فليصلّ فيه، وإن لم يصب فليصلّ ولا بأس)(2).

من جهة إطلاق قوله (عليه السلام): (وإن لم يصب فليصلّ) فإنه لم يقيَّد باشتراط تجفيفه أو وضع مانع دونه يصلي عليه، ومن جهة نفي البأس في الصلاة عليه وليس البأس المقصود للسائل إلا نجاسة البدن والثوب بالخمر.

10- خبر حفص الأعور قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الدَنّ يكون فيه الخمر، ثم يُجفَّف يجعل فيه الخل؟ قال: نعم)(3).

بتقريب أن الخمر لو كانت نجسة لما كفى التجفيف في تطهير الدَنّ.

11- صحيحة علي الواسطي - إلا من جهة سعدان بن مسلم(4)- قال: (دخلت الجويرية - وكانت تحت عيسى بن موسى- على أبي عبد الله (عليه1- السلام) وكانت صالحة، فقالت: إني أتطيّب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر وأجعله في رأسي؟ قال: لا بأس)(5).

12- صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة في الطائفة الأولى (الرواية التاسعة).

13- صحيحة معاوية بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث (أجناب) وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلّي فيها؟ قال: نعم،

ص: 181


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب6، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 30، ح7.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 51، ح2.
4- تم البحث عن شأن سعدان في فقه الخلاف: 6/244 بحسب الطبعة الجديدة.
5- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 37، ح2.

قال معاوية: فقطعت له قميصاً وخططته وفتلت له أزراراً ورداءً من السابري، ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفاع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة)(1).

14- خبر أبي جميلة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه وأصلي فيه؟ قال: نعم، قلت يشربون الخمر، قال: نعم نحن نشتري الثياب السابرية ولا نغسلها)(2).

نعم قد يقال بالفرق بين الروايتين 13، 14 وما سبقها في روايات الطائفة الأولى بأنهما تتحدثان عن الثياب التي يصنعها المجوسي وهي أقل عرضة للنجاسة من الإعارة لكي يلبسها، والاحتمال في الصناعة يمكن دفعه بأصالة الطهارة دون هذه ويجاب بأنَّ القاعدة فيهما واحدة وهي التي ذكرها الإمام (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان.

15- صحيحة كليب بن معاوية قال: (كان أبو بصير وأصحابه يشربون النبيذ يكسرونه بالماء، فحدّثتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقال لي: وكيف صار الماء يحلّ المسكّر؟ مرهم لا يشربون منه قليلاً ولا كثيراً،.. ففعلت فأمسكوا عن شربه، فاجتمعنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير: إن ذا جاءنا عنك بكذا وكذا فقال: صدق يا أبا محمد إن الماء لا يحلّ المسكر فلا تشربوا منه قليلاً ولا كثيراً).

بتقريب ((أنه لو كان المرتكز في ذهنهم النجاسة لكان من البعيد أن يتوهّموا كسر محذور النجاسة بالماء، لأن من الواضح أن النجس إذا زيد ماءً تنجّس ما يلقى فيه ولا يطهر، وإنما ينشأ هذا التوهم عند قصر النظر على محذور الحرمة، فيكشف عن عدم ارتكاز النجاسة في ذهن ثلة من فقهاء أصحاب الأئمة (عليهم السلام)))(3).(2).

ص: 182


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب73، ح1، 7.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/413.

ولم ينبّه الإمام (عليه السلام) إلى هذا الارتكاز -عدم النجاسة- ولو كان غير صحيح لكان تعليل المنع به أولى لعدم صحة معالجة النجاسة بهذا الشكل.

16- رواية الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه: (إن علياً سئل عن حنطة صُبَّ عليها خمر قال: الطحين والعجيب والملح والخبز يأتي على ذلك كله)(1).

بتقريب أن الإمام (عليه السلام) عالج جانب الحرمة بالاستهلاك، ولو كانت الخمر نجسة لما طهرتها هذه العمليات.

17- كتاب درست بن أبي منصور عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، آكل من طعام اليهودي والنصراني، قال: فقال: لا تأكل. قال: ثم قال: يا إسماعيل لا تدعه تحريماً له ولكن دعه تنزّهاً له وتنجساً له، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير)(2).

18- خبر هارون بن حمزة الغنوي الذي تقدّم في الصنف السادس بالتمسك بإطلاق قوله (عليه السلام): (فإن كان مضطراً فليكتحل به) ولو كانت الخمر نجسة لنبّه السائل إلى غسل الموضع خصوصاً وأنه من مواضع الوضوء.

19- خبر زكريا بن إبراهيم قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: إني رجل من أهل الكتاب وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعدُ فآكل من طعامهم؟

ص: 183


1- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 7، ح8.
2- مستدرك الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 31، ح3.

فقال لي: يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا ولكنهم يشربون الخمر، فقال لي: كل معهم واشرب)(1).

مناقشة الروايات

اشارة

لو كنّا نحن وروايات الطائفة الأولى لكانت كافية في الدلالة على نجاسة الخمر بالتقريبات المذكورة ولكن بعد معارضتها بروايات الطائفة الثانية فلا بد من إعادة النظر فيهما.

مناقشة روايات الطائفة الأولى:

ويمكن المناقشة في روايات الطائفة الأولى؛ فخبر أبي بصير في النوع الأول ضعيف السند من جهة الإرسال وعدم توثيق إبراهيم بن خالد واشتراك محمد بن الحسن بين أسماء كثيرة بعضها لم تثبت وثاقته.

وأما من حيث الدلالة فإن الرواية وإن بدت صريحة في الدلالة على المعنى المصطلح للنجاسة إلا أنه يمكن ذكر أكثر من وجه محتمل لتضعيف دلالتها:-

1- يحتمل أن اختيار لفظ (ينجّس) هو فهم من الراوي لمقصود الإمام (عليه السلام) ويمكن أن يكون الإمام (عليه السلام) قد عبّر بمثل قوله في شبيهتها معتبرة ابن حنظلة: (لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب) ففهم الراوي النجاسة وعبّر بها والأصحاب إنما ينقلون بالمعنى كما هو معروف.

ص: 184


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح5، ويلاحظ أن محل الشاهد وهو قوله: (ولكنهم يشربون الخمر) ورد في التهذيب ولم يرد في الكافي، وروي الخبر بطرق متعددة.

2- إن الرواية لا تأبى الحمل على التقذير والتنفير لأجل حرمتها بقرينة بقية سياقها الذي جاء هذا النص في ذيلها(1).

3- إن التنجّس يأتي بمعنى التنزّه وقد ورد فيما روي عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يا إسماعيل لا تدعه تحريماً له ولكن دعه تنزّهاً له وتنجّساً له، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير).

4- إن العرف لا يزال يستعمل كلمة النجس بمعنى السيئ وأن الأنجس بمعنى الأسوأ ويحمل النجاسة على الرجس المعنوي وقد ورد في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) المطلقة المعروفة بزيارة وارث: (لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها).

5- إننا إذا سرنا مع الذين نفوا مطهرية الشمس بنفي استعمال الطهارة في معناها الاصطلاحي فسيكون الإشكال في الدلالة أوضح.

وأما النوع الثاني فيحمل الأمر بغسل الثوب ونحوه على التنزيه ورفع الحزازة من النفس بوجهين:-

ص: 185


1- والرواية هكذا: عن أبي بصير قال: (دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده فقالت: جعلت فداك إنه يعتريني قراقر في بطني وقد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق، فقال: ما يمنعك من شربه؟ فقالت: قد قلّدتك ديني، فألقى الله عز وجلّ حين ألقاه فأخبره أن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أمرني ونهاني، فقال: يا أبا محمد ألا تسمع إلى هذه المرأة وهذه المسائل لا والله لا آذن لك في قطرة منه فإنما تندمين إذا بلغت نفسك هاهنا، وأومئ بيده إلى حنجرته - يقولها ثلاثاً- أفهمتِ؟ فقالت: نعم، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يبلّ الميل ينجّس حبّاً من ماء -يقولها ثلاثاً-) (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 20، ح2. فائدة: أم خالد؛ قال الكشي: امرأة صالحة على التشيع وكانت مايلة إلى زيد بن علي (عليه السلام) وقطع يوسف بن عمر - الذي قتل زيداً - يدها في ذلك (معجم رجال الحديث: 23/208) وكانت امرأة بليغة (المعجم: 14/113) وكانت تكرر قولها: ((فأقول لربي إذا لقيته أنك أمرتني بكذا وكذا)).

1- نفي البأس الذي ورد في أمثالها من الطائفة الثانية وصرّحت بعضها بأن الغسل لأجل هذا المعنى كقوله (عليه السلام): (إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره) وقوله (عليه السلام): (إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر) ومثل هذه الأوامر التنزيهية واردة في روايات أهل البيت (عليهم السلام) كصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أبوال الدوابّ والبغال والحمير، فقال:1- اغسله، فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله، فإن شككت فانضحه)(1) فتحمل على الاستحباب والتنزيه لما دلّ على عدم نجاسة هذه الأبوال، وفي المقام كذلك إذ يوجد ما دلّ على عدم وجوب الغسل.

2- ولأن بعضها لا يُحتمل فيه استظهار النجاسة كصحيحة عبد الله بن سنان الأولى فإن مجرد كون المستعير يأكل الجرّي ويشرب الخمر لا يكفي في الحكم على الثوب المعار بالنجاسة فالأمر بالغسل لأجل حال المستعير لا لخصوص ما ذكر في السؤال، ولأجل ذلك فقد نفت صحيحته الأخرى (الرواية التاسعة) وجوب الغسل.

وأما صحيحة علي بن مهزيار فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى وكذا خبر خيران الخادم.

وأما رواية يونس التي هي أأكد الروايات دلالة فهي ضعيفة من حيث السند وأما من حيث الدلالة فيمكن أن يكون الأمر بإعادة الصلاة من جهة مانعية وجود الخمر على ثوب وبدن المصلي ولا يتعين حمله على النجاسة - بقرينة ما دل على عدم وجوب الغسل- كمانعية لبس الحرير وأجزاء ما لا يؤكل لحمه وعرق الجنب من الحرام حيث فهم القدماء الحكم بالنجاسة من قول الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام) في عرق الجنب: (إن كان من حلال فصلِّ فيه، وإن كان من حرام فلا تصلِّ فيه)(2).

ص: 186


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب7، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 27، ح12.

والمناقشة في بقية الروايات إلى الثامنة كالمناقشة في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة، أما صحيحة ابن سنان الأخيرة (التاسعة، صفحة 175) فإنها على عكس المطلوب أدلّ لأنها تنفي تقريب دلالة صحيحته الأولى على النجاسة كما تقدم، أما التقريب المذكور فغير تام لوجوه:-

1- إن الإمام (عليه السلام) ليس في مقام البيان من هذه الناحية وإنما بيّن قاعدة عامة وهي الاستصحاب.

2- لا يوجد ارتكاز لدى السائل قد أمضاه الإمام لأن منشأ السؤال كان عدم تورّع المستعير عن مباشرة النجاسات وارتكابه المحرمات.

3- لو سلّمنا بهذا الارتكاز وإمضاء الإمام (عليه السلام) له فربما كان منشؤه لحم الخنزير، ويكفي نجاسة أحد الفردين لأن النتيجة - وهي ارتكاز النجاسة الممضى- تتبع أخس المقدمتين، كما لو قال السائل: (إني أعرت ذمّياً ينكح المحارم ويأكل لحم الخنزير أفأصلي فيه قبل أن أغسله) ومرّ مثله في رواية يصفهم فيها بأنهم أخباث أو أجناب، فوجود فرد نجس يبرّر السؤال عن نجاسة الثوب.

وتدل صحيحة إسماعيل بن جابر على أن الأمر باجتناب آنيتهم للتنزه صريحاً قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله.ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله. ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تقول إنه حرام ولكن تتركه تتنزه عنه إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير)(1).

وتضاف مناقشة أخرى في الروايات الدالة على غسل الآنية كموثّقة عمار (السادسة) وفيها (لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات) وصحيحة علي بن جعفر (العاشرة) وفيها (إذا غسله فلا بأس) فإن هذا الغسل لأجل إزالة المتبقي من الخمر عالقاً بالإناء مهما كان قليلاً فإنه حرام وهو قد يختلط بما يوضع في الإناء ثانياً بعد سكب الخمر، فإذا زالت هذه البقية ولو

ص: 187


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح4.

بالتجفيف والاستحالة من دون غسل فلا بأس كما دلّ عليه خبر حفص الأعور (العاشر من الطائفة الثانية) وعليه نحمل خبر زكريا بن إبراهيم المتقدم.

ويؤيد هذه المناقشة نوع الآنية المستعمل عندهم يومئذٍ حيث ورد التعبير عن بعضها بأن فيها الخوابي (ليكون أجود للخمر) وسُمِّي بعضها (النقير) وهو خشب كان أهل الجاهلية ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها(1).

وأما النوع الثالث؛ فتقريب الاستدلال به على النجاسة غير تام والأقرب أن الإهراق إنما هو من جهة الامتزاج بالخمر وهو محرم فيهرق الجميع والمقدار المذكور لا يتحقق به الاستهلاك كما هو واضح وجداناً، والأمر بالغسل هو لإزالة ما علق به منه، وكذا فساد العجين، فالرواية تدل على الحرمة خصوصاً مع ارتباطها بالمأكول والمشروب ولو كان المورد أحد الاستعمالات المتعينة بالطهارة لأمكن الاستدلال بها.

والشاهد على أن الإهراق إنما هو من أجل الحرمة معتبرة أبي بكر الحضرمي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قطرة من نبيذ قطر في حبّ أشرب منه؟ قال: نعم إن أصل النبيذ حلال، وإن أصل الخمر حرام)(2).

قال المحقق (قدس سره) في المعتبر: ((فإذا مازج المحلل حرّمه كما لو وقع في القدر دهن من حيوان محرّم فإنا نمنع منه لتحريمه لا لنجاسته))(3).

أما النوع الرابع؛ فتأتي فيها نفس التقريبات المتقدمة على الحرمة مضافاً إلى أن روايات نزح البئر محمولة على التنزيه ورفع الحزازة من النفس لأن ماء البئر معتصم لاتصاله بمادة.

تنبيه: أشكل صاحب الحدائق (قدس سره) على الشيخ الصدوق (قدس سره) بأنه قال: ((في الفقيه والمقنع لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر لأن الله تعالى

ص: 188


1- تجد هذه الروايات في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 52. وفي أبواب الأشربة المحرمة: باب 25.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 38، ح9.
3- المعتبر: 1/424.

حرّم شربهاولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته. وهو ظاهر كالصريح في القول بالطهارة مع أنه حكم بنزح ماء البئر أجمع بانصباب الخمر فيها))(1).

وقد اتضح من أجوبتنا المتقدمة عدم المنافاة فإن نزح البئر ليس للتطهير فإنه ذو مادة معتصم وإنما لدفع حرمة شرب الخمر الذي اختلط بالماء.

وأما النوع الخامس؛ فتناقش دلالة صحيحة علي بن جعفر من جهة أن منشأ البأس هي الحرمة التكليفية في الجلوس على مائدة فيها خمر إذا لم يكن يابساً قد استحال، وقد دلّت عليه موثّقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سئل عن المائدة إذا شُرب عليها الخمر أو مسكر، قال: حرمت المائدة، سُئل: فإن قام رجل على مائدة منصوبة يؤكل مما عليها ومع الرجل مسكّر ولم يسقِ أحداً ممن عليها بعد؟ قال: لا تحرم حتى يشرب عليها)(2) الحديث.

وتقريب الاستدلال بخبر يونس وصحيحة محمد بن مسلم غير تام من جهة عدم تمامية الإطلاق المذكور لأن المادة التي تُصنع منها الأواني يومئذٍ كالخزف تمتصّ الخمر وتحتفظ بأجزاء منه فيكون الأمر باجتنابها من أجل الحرمة لامتزاج المتبقي من الخمر في الآنية مع ما يوضع فيها، ويؤيد هذا المعنى ما في خبر حفص في الطائفة الثانية (الرواية العاشرة) الرخصة في استعمال الدنّ إذا جففت من الخمر واستحالت أجزاؤه المتبقية. وقد حمله الشيخ الطوسي (قدس سره) على التجفيف بعد الغسل وهو مما لا دليل عليه بل خلاف الظاهر لأنه إذا غُسِل فلا يبقى مورد للتجفيف من الخمر.

وتناقش روايات الصنف السادس بأن التنزيل يصدق بلحاظ أثر واحد وهي الحرمة في المقام خصوصاً إذا كان الأثر هو الأبرز والمتبادر من ذكر المنزَّل عليه وهي هنا الحرمة الشديدة فإنها الملحوظة أولاً للذهن من لحم الخنزير والميتة، وما ادعي من التمسك بالإطلاق لإثبات عموم الآثار غير تام لما ذكرناه سابقاً من عدم صحة التمسك بالإطلاق في المحمول، مضافاً إلى أن خبر الغنوي أقرب إلى الدلالة على الطهارة كما قرّبناه في نهاية روايات الطائفة الثانية.

ص: 189


1- الحدائق الناضرة: 5/99.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 33، ح1.

مناقشة روايات الطائفة الثانية

اشارة

نوقشت هذه الروايات جملةً بوجوه منها:

ما نقله صاحب الوسائل (قدس سره) عن الشيخ (قدس سره) من حمْل ((هذه الأخبار على التقية من سلاطين ذلك الوقت وجمع من علماء العامة، وحمل ما لا تصريح فيه بالصلاة على اللبس في غير الصلاة، ويمكن الحمل على تعذّر الإزالة، وبعضه يمكن حمله على الإنكار))(1)

وستأتي مناقشة بعض هذه الوجوه عند الكلام عن حلّ التعارض بين الطائفتين. وهذا الحمل منهم لإقرارهم بصحة عدد من روايات الطائفة الثانية سنداً ووضوح دلالتها.ونوقشت تفصيلاً بوجوه:

فقيل في موثّقة عبد الله بن بكير (الأولى) وخبر الحسن بن أبي سارة (الرابع) بأنه لا يتضمن ((جواز الصلاة فيه))(2)

ونقلها في الوسائل عن الشيخ لجملة من الروايات التي لم تذكر الصلاة.

وفيه: إن المفهوم عرفاً من السؤال هو ذلك وإن لم يصرّح به، وإلا يبقى السؤال بلا معنى إذ لا يحتمل أن السؤال عن حكم وقوع الخمر على الثوب من حيث هو.

واحتمل كاشف اللثام في مثل صحيحتي ابن رئاب والحسن بن أبي سارة (الثانية والثالثة) العفو عن الخمر في الصلاة وإن كانت نجسة.

وفيه:-

1- إنه خلاف الظاهر.

2- إننا نحتمل في الروايات الآمرة بالغسل أنها لمانعية الخمر عن صحّة الصلاة كالحرير وليس لنجاسته فيبطل استدلالهم.

ص: 190


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب38، ذيل ح12.
2- كشف اللثام: 1/394.

وأشكل على مصححة ابن أبي سارة باشتماله ((على التعليل: بأن الثوب لا يسكر، الظاهر في نجاسة الخمر المسكر وحينئذٍ يكون دالاً على نجاسة الخمر لا على طهارته. نعم يدلّ على طهارة الثوب الملاقي له وهو مما لم يقل به أحد، وليس محلاً للكلام هنا، فإن الكلام هنا في نجاسة الخمر لا في سراية نجاسته إلى الملاقي))(1).

وفيه:-

1- إنه كلام لا محصّل له لأن مفهوم التعليل ليس ما ذكره (قدس سره) من نجاسة الخمر المسكر لعدم وجود خمر غير مسكر بل نجاسة الخمر المسكر للثوب ولكن الثوب لا يسكّر فالخمر ليست نجسة فما الذي ينفعه هذا المفهوم؟ وكيف استدل به على المدعى؟

2- إنه (قدس سره) اعترف بوجود لازم لهذا الكلام لم يقل به أحد وهو عدم نجاسة الملاقي للخمر النجسة كالثوب ولا يكفي في جوابه أن المقام ليس محلاً له.

3- إننا لا نريد بنجاسة الخمر إلا ترتيب الأثر عليها وهو انفعال الملاقي لها فما دامت نتيجة كلامه (قدس سره) أن الخمر نجسة لكنها لا تنجّس الملاقي فلا يبقى أثر للحكم بنجاسة الخمر.

4- الذي نفهمه من هذا التعليل أن الإمام (عليه السلام) يريد أن يبيّن الفرق بين أمره (عليه السلام) بغسل آنية الخمر وغسل الثوب إذا أصابه الخمر بأن الأول عرضة للاستعمال في الأكل والشرب فيتناول الإنسان المتبقي فيها من الخمر المسكر المحرّم لإسكاره، بينما إذا أصاب الخمر الثوب فلا يجب غسله إلا تنزّهاً لأن الثوب لا يستعمل فيما يُسكِر، وهذا التقريب يساعد على ما قرّبناه من فهم لروايات غسل الآنية وإهراق ما أصابه الخمر أو نزح ماء البئر إذا انصبّ فيه خمر من أن السبب هي الحرمة لا النجاسة.

ص: 191


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/402.

وأُشكل على خبر الحسن بن أبي سارة (الرابع) بكون مورده ((الخمر الواقع على الثوب من الكأس الذي شرب منه اليهودي والنصراني والمجوسي، فيدلّ على طهارة الخمر وطهارة الأصناف المذكورة من الكفار))(1).

وفيه:-

1- لا مانع من الالتزام بطهارة هذه الأصناف لورود عدة نصوص في ذلك.

2- إن الرواية صرّحت بأن الخمر يقع من إناء الساقي على ثياب السائل وليس من سؤر أولئك الشاربين والإناء لا تصل إليه أيديهم وشفاههم وإنما هو الذي يتولّى صبّ الخمر من كؤوسهم، ولا يُعلم أن الساقي ممن نقطع بنجاسته ولا أقل من الشك فإن الجواب غير ناظر إلى حاله.

وضعّفت صحيحة بكير (الخامسة) من جهة ((ما تدل عليه ضمناً من جواز الصلاة في جزء من الخنزير وهذا يجعل الرواية معارضة لا مع روايات نجاسة الخمر فقط، بل مع روايات نجاسة الخنزير أيضاً، ومع روايات مانعية ما لا يؤكل لحمه الثابتة في الخنزير بقطع النظر عن نجاسته))(2).

وفيه:-

1- إنه لو سُلّم فلا مانع من حصول المعارضة والترجيح بالعلاجات.

2- إن الإشكال مبني على عودة الضمير في ((الصلاة فيه)) على الخمر وودك الخنزير وهو ناشئ من عطفه على الضمير في أكله وشربه، ولكن الظاهر حصول اختلال في الضمائر، فإن الضمير في (فيه) يعود إلى الثوب لأنه مورد السؤال وهو غير مرتبط بالضمير في أكله وشربه لأنهما ذُكرا كجملة اعتراضية لبيان علة الحكم فلا إشكال في لبس الثوب لعدم العلم بمماسّة الخنزير برطوبة مسرية ولا بوجود بعض أجزائه في الثوب.

3- يمكن حمل الودك على الجامد منه وهو ليس ببعيد والإصابة بمعنى المسّ من دون علوق أجزاء منه ولا ضير فيه عندئذٍ.

ص: 192


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/402.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/432.

أما معتبرة أبي بكر الحضرمي (السادسة) فقد حملها الشيخ (قدس سره) على النبيذ الذي لا يسكر.

وفيه: أنه خلاف الظاهر، فإن السؤال عن النبيذ المسكر إذ لا يتوقع من السائل أن يظن الحرمة والنجاسة بمجرد النبذ في الماء لمدة قصيرة وهو حلال(1).ونوقشت رواية حفص الأعور (العاشرة) بأن ((غاية ما تدل عليه الرواية عدم تنجيس الدَنّ للخل، وهذا كما يلائم مع طهارة الخمر يلائم أيضاً مع عدم تنجيس المتنجّس الأول الخالي من عين النجاسة للمائع إذا فرضنا أن التجفيف مساوق لذلك))(2).

أقول: المناقشة ممكنة إذا تمّ ما قاله من عدم تنجيس المتنجس الأول، وهو ما لا يلتزم (قدس سره) به ولا غيره ممن قال بنجاسة الخمر، مضافاً إلى أن الاستدلال غير منحصر بها.

ونوقشت رواية علي الواسطي (الحادية عشرة) بأن نفس البأس إنما يعني عدم حرمة هذا العمل تكليفاً؛ لتوهم السائل بأن كل تعامل مع الخمر محرم بأي نحو كان، ويردّ عليها بأن سكوت الإمام (عليه السلام) عن مثل هذا الاستعمال المرتبط وثيقاً بالطهارة وعدم تنبيه السائل إلى لزوم تطهير ما لاقاه الخمر دليل على عدم نجاستها.

ص: 193


1- وتدل عليه روايات معتبرة كثيرة سيأتي بعضها ومنها ما في العلل عن علي (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نهيتكم عن ثلاث) إلى أن قال: (ونهيتكم عن النبيذ ألا فانبذوا، وكل مسكر حرام، يعني الذي ينبذ بالغداة ويشرب بالعشي وينبذ بالعشي ويشرب بالغداة فإذا غلا فهو حرام) (وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 41، ح7. ومنها موثقة حنان بن سدير قال: (سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في النبيذ فإن أبا مريم يشربه ويزعم أنك أمرته بشربه؟ فقال: صدق أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال ولم يسألني عن المسكر) (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب22، ح5).
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/428.
مراتب علاج التعارض بين الروايات

توجد خمس مراتب للتعاطي مع هاتين الطائفتين مترتبة طولياً، بمعنى أن المرتبة الأولى من العلاج -لو وجدت- فإنها مقدَّمة على الثانية وهكذا:

المرتبة الأولى: وجود النصّ المفسِّر لوجه صدور كل من الطائفتين بما يرفع التعارض بينهما ويكون حاكماً عليهما، وقد قيل بوجوده في المقام من خلال روايتين:

(الأولى) صحيحة علي بن مهزيار في الطائفة الأولى قال: (قرأت كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): جُعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه، إنما حرم شربها، وروي عن غير زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فأعد صلاتك، فأعلِمني ما آخذ به. فوقع (عليه السلام) بخطه وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله (عليه السلام)).

وقد نُظِر إلى هذه الصحيحة تارةً على أنها مفسِّرة لوجه صدور الروايات فتكون حاكمة لأنها تكون شكلاً من أشكال الجمع (الشرعي) -إذا أمكن تسميته- وهو مقدّم على الجمع العرفي وتكون بذلك من مصاديق هذه المرتبة الأولى، ونظر إليهاتارة أخرى على أنها مرجّح علاجي للتعارض فتكون من المرتبة الثالثة، غاية الأمر أنه مرجّح خاص بالمورد وليست من المرجحات العامة ولذا فهي تتقدم عليها تقدّم الخاص على العام

ولذا تردد السيد الحكيم (قدس سره) حين قال بعد أن نفى الريب عن دلالة الصحيحة على الترجيح لرواية النجاسة: ((فلو اقتضت عمومات الترجيح ترجيح رواية الطهارة كانت الروايتان - الصحيحة وخبر خيران الخادم - إما

ص: 194

مخصصتين لها أو حاكمتين عليها))(1)

وهو ما سنزيده أيضاً في التعليقة رقم (6) على الترجيح بالصحيحة.

وقد رجّح جملة من الأساطين روايات الطائفة الأولى بهذه الصحيحة وقرَّب السيد الخوئي (قدس سره) علة الترجيح بقوله: ((لأن الصحيحة ناظرة إلى الطائفتين ومبيّنة لما يجب الأخذ به منهما فهي في الحقيقة من أدلّة الترجيح وراجعة إلى باب التعادل والترجيح، وغاية الأمر أنها مرجّحة في خصوص هاتين المتعارضتين فلا مناص عن الأخذ بمضمونها وهي دالة على لزوم الأخذ بقول أبي عبد الله (عليه السلام) وهو الرواية الدالة على نجاسة الخمر وعدم جواز الصلاة فيما أصابه دون رواية الطهارة، لأنها قول الباقر والصادق (عليهما السلام) معاً وغير متمحّضة في أن تكون قول الصادق (عليه السلام) وحده))(2).

وقد ذكر هذا الوجه صاحب الحدائق(3)

(قدس سره) وصاحب الجواهر(4) (قدس سره) والشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي قال: ((ويكفي في الحكومة بين أخبار الطرفين رواية علي بن مهزيار ورواية خيران الخادم))(5) وذكرهما من دون تقريب أو مناقشة.

ولو تم ما ذكروه (قدس الله أرواحهم) لكانت كافية في الترجيح لصدورها من الإمام اللاحق (على ما سنبينه صفحة 213 سادساً إن شاء الله تعالى) فتكون حاكمة على ما صدر من الأئمة السابقين (عليهم السلام) بل لاستغنى بها عما سواها من ذهب إلى القول بنجاسة الخمر لتضمّنها القولين وهذا ما فعله المحقق الشيخ حسن في المنتقى على ما نُقِل عنه حيث اقتصر عليها في أدلة النجاسة كما حكاه في الجواهر.

ص: 195


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/403.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/86.
3- الحدائق الناضرة: 5/107.
4- جواهر الكلام: 6/9.
5- موسوعة الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة: 5/163.

لكن هذا التقريب قابل للمناقشة من وجوه:-

إن ما رواه زرارة عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) لم يروه عنهما معاً في مجلس واحد وإنما روى عن الإمام الباقر (عليه السلام) مرة وروى عن الصادق (عليه السلام) أخرى فتنحل رواية زرارة إلى روايتين وتفتقد حينئذٍ1- القرينة المذكورة لأن كلا القولين رُويا عن أبي عبد الله (عليه السلام) ولا خصوصية للثاني.

2- في ضوء ما تقدّم يكون الإمام (عليه السلام) قد أجمل الجواب لأن كلا القولين رُويا عن أبي عبد الله (عليه السلام) لكن السائل فهم الأخذ بقول أبي عبد الله خاصة، وإجمال الجواب لمصلحةٍ(1)ما من دون

ص: 196


1- والمصلحة هنا ظاهرة وهي حشد كل الوسائل للتنفير من الخمر - على مستوى التحريم أو الكراهة- لتحقيق النتيجة التي أرادها الله تبارك وتعالى بقوله «فَاجتَنِبُوهُ» فإن إشاعة القول بالطهارة يوجب شيئاً من الأنس والاقتراب منها بشكل من الأشكال لا تكفي الحرمة لمعالجته لأن النجاسة أشد تنفيراً للنفس من الحرمة كما هو واضح والناس يسيئون استخدام الرخص كما هو معلوم، وتنفع في تربيتهم نحو الكمال أخبار التشديد ليحصل عندهم التوازن بين الخوف والرجاء، ففي مصححة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان أبي (عليه السلام) يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء، ولو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا) (أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، ح13). والشواهد على هذا الحشد كثيرة كاللعن الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعشرة في الخمر مبتدءاً بغارسها، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة: غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها، والمحمولة إليه، وبايعها، ومشتريها، وآكل ثمنها) (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 34، ح1) بل امتنع الإمام (عليه السلام) من النظر إليها ففي صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دواء عُجن بالخمر فقال: لا والله ما أحب أن أنظر إليه فكيف أتداوى به إنه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير وترون أناساً يتداوون به) (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب20، ح4) ورُويت بطريق آخر وفيه (لا والله لا يحلّ للمسلم أن ينظر إليه فكيف يتداوى به (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب20، ح10).

التفريط بالحكم الواقعي ممكن بل راجح أحياناً، لأنه إن كان الحكم بالطهارة فقد وجّهه إلى ما فيه التنزيه والاحتياط وإن كان الواقع هو الحكم بالنجاسة فقد فهمه السائل.

وكان الأئمة (عليهم السلام) يستعملون مثل هذا اللحن في أقوالهم ويعدّونه اختباراً لفقاهة الرجال، فمن حديث عن أبي جعفر (عليه السلام): (إنا لا نعدّ الرجل فقيهاً حتى يعرف لحن القول)(1)

وفي معاني الأخبار عن داوود بن فرقد قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إن الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف يشاء ولا يكذب)(2).

3- إن الرواية إنما تصلح حاكماً على الدليلين المتعارضين إذا تضمّنت تفسير وجهي صدورهما، وليست الصحيحة كذلك.

وكمثال لهذا الشرط في المفسِّر موثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): بلغنا عن أبيك أن الرجل إذا تزوج المرأة في عدّتها لم تحل له أبداً، فقال: هذا إذا كان عالماً فإذا كان جاهلاً فارقها وتعتد ثم يتزوجها نكاحاً جديداً)(3)

فهي تفسّر الإطلاق المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) والمذكور في صدر الرواية الذي ينافي روايات أُخَر أجازت العقد للجاهل.

ص: 197


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب23، ح31.
2- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح27.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب17، ح10.

4- ولا تصلح أيضاً كمرجّح خاص بين الطائفتين لاحتمال أنها بصدد الترجيح في مقام العمل للمكلف وهو الظاهر من مراد السائل الذي هو معرفة الحكم الذي يأخذ به، ولا شك أنه حتى القائل بالطهارة يرجّح في مقام العمل اجتناب الخمر وغسل ثوبه منه تنزيهاً واحتياطاً، فالرواية لا تكون مرجّحاً وإنما من روايات القول بالنجاسة كما أثبتناها.

وينفى هذا الاحتمال وتصلح الرواية كمرجّح خاص فيما لو كان الجواب (خذ بالخبر الذي رواه غير زرارة) ولتجنّب الإجمال المذكور.

5- لو سلّمنا بأن المراد بجواب الإمام (عليه السلام) الأخذ بخبر أبي عبد الله (عليه السلام) الثاني الظاهر في نجاسة الخمر لكنه لا ينافي الأخذ بالخبر الأول إلا بناءً على تحقق المفهوم لقول الإمام (عليه السلام): (خذ بخبر أبي عبد الله) وهو غير ثابت فإن هذا الكلام لا يمنع من الأخذ بالآخر.

إن قلت: إن المنع ناشئ من امتناع التخيير أو الجمع للمنافاة بين الطائفتين.

قلت: بل الجمع ممكن وهو ما سنعرضه لاحقاً بإذن الله تعالى، نعم يمكن تصور الامتناع بين حكمه (عليه السلام) بإعادة الصلاة والقول بطهارة الخمر، وقد رددنا على هذا عند مناقشتنا لمرسلة يونس المذكورة في صحيح ابن مهزيار، ولا يعالج ضعف سندها وجودها في صحيحة ابن مهزيار لعدم الدليل على إمضاء تفاصيلها المذكورة في الصحيحة.

6- إن لازم الفهم الذي ذكروه إسقاط رواية زرارة بل كل روايات الطائفة الثانية عن الاعتبار، وفي ذلك احتمالان (الأول) أن الرواية غير صادرة عن الإمامين (عليهما السلام) أصلاً وأنها مكذوبة وهو ما جزم به السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) أو احتمله احتمالاً معتدّاً به(1).(الثاني) أنها صادرة لتقية ونحوها وليست لبيان الحكم الواقعي.

ص: 198


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/439.

وعلى هذا فتكون الصحيحة من المرجحات العلاجية وليس تقدّمها من باب الحكومة بالتفسير، غاية الأمر أنها من المرجحات الخاصة بالمقام وليس من المرجحات العامة لذا فهي مخصّصة لها.

والاحتمالان مردودان؛ أما (الأول) فلوجهين:-

1- إن الإمام (عليه السلام) لم ينفِ صدور رواية الطهارة عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) وكان الأولى في الجواب نفيها لو كانت مكذوبة فيزيل الإشكال من أساسه.

2- لورود روايات معتبرة بهذا المعنى تقدّم ذكرها في الطائفة الثانية.

وأما (الثاني) فسيأتي المنع منه بإذن الله تعالى في نقطة مستقلة.

مضافاً إلى نكتة خاصة بزرارة ألفت نظر الباحثين إليها وهي أنه لو ورد قول عن زرارة وقول عن غيره فإن قول زرارة هو الأقرب للحكم الواقعي ويحمل الآخر على الوجوه المحتملة كالتقية وغيرها لفقاهة زرارة ومعرفته بوجوه الكلام، واختصاصه بالإمام (عليه السلام) بحيث يطلعه على ما يخفيه الإمام (عليه السلام) عن غيره ولحذر زرارة في أخذ الأحكام من الإمام (عليه السلام) مما يضعف احتمال التقية، والشاهد على ذلك صحيحة عمر بن أذينة عن زرارة في حديث عن أبي جعفر (عليه السلام) إلى أن قال: (فقال لي الثانية: اسمع ما أقول لك إذ كان غداً فالقني حتى أقرئكه في كتاب، فأتيته من الغد بعد الظهر وكانت ساعتي التي كنت أخلو به فيها بين الظهر والعصر وكنت أكره أن أسأله إلا خالياً خشية أن يفتيني من أجل من يحضره بالتقية، فلما دخلت عليه أقبل على ابنه جعفر (عليه السلام) فقال له: أقرِئ زرارة صحيفة الفرائض ثم قام لينام فبقيت أنا وجعفر (عليه السلام) في البيت فقام فأخرج إليّ صحيفة مثل فخذ البعير فقال: لستُ أُقرئكها حتى تجعل لي عليك الله أن لا تحدث بما تقرأ فيها أحداً أبداً حتى آذن لك) إلى آخر الحديث، وفيه أن الصحيفة إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام) بيده(1).

ص: 199


1- الكافي، ج7، كتاب المواريث، باب 57: ميراث الولد مع الأبوين، ح3

ونتيجة هذه النقطة أنه ما دام اللازم باطلاً فالملزوم وهو المدعى باطل، بينما على الوجه الذي ذكرناه لا يقع الإشكال لإمكان الجمع.

وأضاف السيد الخوئي (قدس سره) إلى تقريبه السابق للترجيح بالصحيحة قوله: ((هذا على أن الرواية الدالة على طهارة الخمر أيضاً، لو كانت مرادة من قول أبي عبد الله (عليه السلام) لكان هذا موجباً لتحيّر السائل في الجواب، ولوجب عليه إعادة السؤال ثانياً لتوضيح مراده وإن قول الصادق (عليه السلام): أيّة رواية؟ فإن له (عليه السلام) حينئذٍ قولين متعارضين، وحيث أن السائل لم يقع في الحيرة ولا أنه أعاد سؤاله فيستكشف منه أنه (عليه السلام) أراد خصوص الرواية الدالة على نجاسة الخمر لأنها المتمحضة في أن تكون قوله (عليه السلام)))(1).وفيه: إن الإمام (عليه السلام) صاغ الجواب بشكل يفهم السائل منه ما يريد الإمام (عليه السلام) أن يفهمه وهو الحكم بنجاسة الخمر ولم يتحيّر كما فهمه أساطين الفقهاء.

والنتيجة أن الصحيحة لا تصلح للتفسير ولا للترجيح وإنما هي واحدة من روايات الطائفة الأولى.

(الثانية) خبر خيران الخادم قال: (كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه فإن الله إنما حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصلّ فيه فكتب (عليه السلام): لا تصلّ فيه فإنه رجس) الحديث.

وهي أقل أهمية من الصحيحة في إثبات المدعى لجملة من الأمور:-

1- ضعف سندها بسهل بن زياد بعد الإغماض عن كون عنوان الرجل ينصرف إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) ولم يدركه خيران فنفترض أن الرجل هو الإمام الجواد (عليه السلام) أو الإمام الهادي (عليه السلام)، علماً أن الكليني (رضوان الله عليه) روى في الكافي عن سهل

ص: 200


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/86.

عن خيران الخادم قال: (سألت أبا عبد الله:..)(1) ثم ذكر صحيحة عبد الله بن سنان الأولى، فهذا الإشكال محتمل في روايات خيران.

2- إنها لا تصلح للترجيح بين الروايات لأنها لم تتعرض لها وإنما هي ناظرة للاختلاف بين الأصحاب فهي ترجّح بين الأقوال وإن كان هذا الاختلاف ناشئاً من اختلاف الروايات لكنه أجنبي عن المقام، فالرواية من الطائفة الأولى كما أثبتناها وليست مرجّحة ولا حاكمة.

3- يحتمل أن يكون المراد من قول الإمام (عليه السلام): (لا تصلِّ فيه) أعم من الحكم بالنجاسة، كما ذكرنا سابقاً إذ لعله للنهي عن الصلاة في ثوب عليه خمر لا لنجاسته كعرق الجنب من حرام.

مضافاً إلى ما قلناه في مناقشة الصحيحة من أن قول الإمام (عليه السلام) هو ترجيح للمكلف في مقام العمل وليس ترجيحاً بين الروايات وبعض الوجوه الأخرى.

فهذا الخبر كالصحيحة لا يثبت المدعى.

أقول: في مقابل هذه الدعوى للمشهور يمكن أن ندّعي بحاكمية الطائفة الثانية على الأولى لوجود النصّ المفسِّر في روايات الطائفة الثانية وهي عديدة:

(منها) ذيل مصححة الحسن بن أبي سارة وهو قوله (عليه السلام): (إن الثوب لا يسكر) فإننا نستشعر منه أن الإمام (عليه السلام) بصدد رفع توهم لدى السائل أن غسل الثوب الذي أصابه الخمر واجب كغسل الآنية منها فبيّن الإمام (عليه السلام) وجه الفرق بأن وجوب غسل الآنية إنما هو من جهة حرمة الخمر العالق بها فتجب إزالته، وهذا المحذور غير موجود في الثوب لأنه لا يُستعمل في الأكل والشرب فهو (لا يسكر).

فهذا النصّ مفسِّر للروايات الآمرة بالغسل وحاكم عليها.

ص: 201


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 74، ح2.

(ومنها) ما ورد في صحيحة علي بن رئاب وخبر الحسن بن أبي سارة وسنذكره في المرتبة الثالثة بإذن الله تعالى فإنهما يشرحان جهة الأمر بالغسل بأنه استحبابي وضعي لإزالة الحزازة والضيق النفسي.

وهذا المورد من تطبيقات (المرجّح المساوي) الذي شرحناه في مسألة سابقة.

(المرتبة الثانية): وجود ما يوهن حجّية إحدى الطائفتين وبالتالي سقوطها عن الاعتبار، وقد طبّقت هذه المرتبة على كل من الطائفتين، فالكلام في ناحيتين:

(الناحية الأولى) وجوه توهين روايات الطائفة الثانية؛ وهي عديدة:-

1- إعراض المشهور عن العمل بها مع صحة أسانيدها ووضوح دلالتها مما يعني عدم صدورها لبيان الحكم الواقعي، ويزداد إعراض المشهور تأثيراً عندما تكون الروايات كثيرة العدد ومشهورة وصحيحة السند وواضحة الدلالة، قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((تُرجَّح أخبار النجاسة بعمل الطائفة قديماً وحديثاً الموجب للظن المتاخم للعلم بكون ذلك هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فإن صاحب كل مذهب إنما يُعلم مذهبه بعد موته بمذهب مقلديه وشيعته الآخذين بأقواله والمقتفين لآثاره ولا سيما الشيعة المتهالكين على متابعة مذهب أئمتهم المانعين من الأخذ من غيرهم، مضافاً إلى ذلك الاحتياط في الدين الذي هو أحد المرجّحات الشرعية في مقام اختلاف الأخبار))(1).

وفيه: إن هذا الإعراض إنما يكون مانعاً لو كان تعبدياً كاشفاً عن إعراض المعصوم (عليه السلام) وليس المقام منه للاطمئنان بأن إعراضهم ناشئ من ترجيح القول بالنجاسة لسبب أو لآخر كالاحتياط الذي ذكره (قدس سره) في ذيل كلامه، أو الموافقة للكتاب كما ذكر الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب: ((والذي يدل على أن هذه

ص: 202


1- الحدائق الناضرة: 5/109.

الأخبار محمولة على التقية ما تقدّم ذكره من الآية وأن الله تعالى أطلق اسم الرجاسة على الخمر ولا يجوز أن يرِد من جهتهم عليهم السلام ما يضادُّ القرآن وينافيه، وأيضاً قد أوردنا من الأخبار ما يعارض هذه، ولا يمكن الجمع بينهما إلا بأن نحمل هذه على التقية لأنّا لو عملنا بهذه الأخبار كنا دافعين لأحكام تلك جملة ولم نكن آخذين بها على وجه، وإذا عملنا على تلك الأخبار كنّا عاملين بما يلائم ظاهر القرآن فحملنا هذه على التقية لأن التقية أحد الوجوه التي يصحّ ورود الأخبار لأجلها من جهتهم فنكون عاملين بجميعها على وجه لا تناقض فيه))(1).

2- مخالفتها للكتاب حيث دلّت الآية الكريمة على نجاسة الخمر.

وفيه: إننا ناقشنا الاستدلال بالآية ولم تتم التقريبات التي ذكروها.

3- ((إن أخبار النجاسة في نفسها قطعية إجمالاً لاستفاضتها، فتكون روايات الطهارة مخالفة للسنة القطعية، وهي كالمخالفة للكتاب الكريم توجب الخروج عن إطلاق دليل الحجية))(2).

وفيه إن روايات الطائفة الأولى لو قرأت وحدها لأمكن ادعاء هذه الاستفاضة الإجمالية، أما مع معارضتها بروايات الطائفة الثانية المستفيضة أكثر منها فلا يصحّ هذا الادعاء لأن دلالة أكثرها على النجاسة بالإطلاق والظهور غير المتعين بالنجاسة وتصرفه روايات الطائفة الثانية عن هذا الظهور إلى التنزّه واستحباب الغسل، فلا تبقى استفاضة لما دلّ صريحاً على النجاسة، ويمكن احتمال دعوىً مقابلة باستفاضة ما دلّ على الطهارة فإنها لا تقلّ عن الأولى عدداً ودلالةً، مضافاً إلى المناقشات المتقدمة فيها سنداً أو دلالة لذا أوجب الانصراف إلى معانٍ أخرى غير الحمل على النجاسة كالتنزيه ونحوه.

ص: 203


1- التهذيب، ج1، كتاب الطهارة، باب12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ذيل الحديث (112)
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/437.

4- إن روايات الطهارة موافقة للعامة فتحمل على التقية، ولعل هذا الوجه هو الأكثر رواجاً لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم)، قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((ويتعيّن العمل بها - أي الأخبار الدالة على نجاسة الخمر - في هذا الباب فتبقى أخبار القول بالطهارة ويتعين حملها على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية))(1).

وتعيّن هذا الحمل عنده (قدس سره) من جهة بطلان المحتملات الأخرى؛ قال (قدس سره): ((يتعيّن حمل أخبار الطهارة على التقية إذ لم يبقَ بعد بطلان حمل أخبار النجاسة على الاستحباب إلا رميها بالكلية متى عملنا بأخبار الطهارة، وفيه من البطلان ما هو غني عن البيان لكثرتها واستفاضتها وصحة جملة منها باصطلاحهم وعمل الطائفة قديماً وحديثاً عليه إلا هؤلاء الثلاثة المذكورين والثلاثة المتقدمين؛ أو حمل أخبار الطهارة على التقية وبه يتم المطلوب))(2).

وقد صوّرت التقية بتصويرين تضمنهما كلام صاحب الجواهر (قدس سره) الآتي وغيره:

(أحدهما) من جهة إفتاء بعض فقهاء العامة بالطهارة.

(ثانيهما) من جهة الحكام الذين كانوا يشربونها علناً ولا يتورّعون عن مساورتها.

قال صاحب الجواهر (قدس سره): متعجباً من ذهاب بعض المتأخرين -ويقصد المقدس الأردبيلي وصاحب المدارك- إلى القول بالطهارة قال (قدس سره): ((وكيف لا يزداد العجب ولا معارض إلا ما سمعته من تلك الأخبار الواجبة للطرح أو التأويل أو الحمل على التقية من بعض المخالفين سيما من ربيعة الرأي، إذ هو على ما قيل من فقهاء المدينة وشيوخ مالك وكان في عصر الصادق (عليه السلام)، فلا غرو أن يُتّقى منه، خصوصاً مع ملاءمته لطباع السلاطين وذويالشوكة من أمراء بني أمية وبني العباس

ص: 204


1- الحدائق الناضرة: 5/110.
2- الحدائق الناضرة: 5/106.

المولعين بشربها المتهالكين عليها، حتى أنهم ربما حاولوا دفع التحريم عنه كما يشير إليه حديث(1)

المهدي العباسي مع الكاظم (عليه السلام) والتظاهر بنجاستها تقذير عليهم وتنجيس لهم بشربها ومزاولتها، بل ربما نقل عن بعضهم أنه كان يؤمّ الناس وهو سكران فضلاً عن تلوّثه وثيابه بها))(2).

وكلا التصويرين باطلان جملةً وتفصيلاً:

أما جملةً فلتصريح الأئمة (عليهم السلام) بأنهم لا يتّقون في الخمر أحداً من سلطان وغيره ولا يداهنون فيها أحداً، فقد ورد في صحيحة زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحداً: شرب المسكر، والمسح على الخفين، ومتعة الحج)(3)

وفي موثّقة حنّان عن الإمام الصادق (عليه السلام): (والله إنه - أي المسكر - لشيء ما اتقيت فيه سلطاناً ولا غيره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكّر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام)(4).

حيث تشملان بإطلاقهما كل أحكام الخمر من حيث الحرمة والنجاسة لإباء ألسنتها التقييد بالحرمة فقط.

وأما تفصيلاً فكالتالي:

إذ يناقش (الأول) بوجهين:-

1- إن المشهور عند علمائهم القول بالنجاسة، وقد نقلنا عن صاحب الجواهر (قدس سره) (صفحة 171) أنهم أطبقوا على ذلك ((إلا شرذمة

ص: 205


1- وهو خبر علي بن يقطين قال: (سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله؟ فإن الناس يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها، فقال له أبو الحسن (عليه السلام): بل هي محرمة في كتاب الله يا أمير المؤمنين) الحديث. (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 9، ح3).
2- جواهر الكلام: 6/9-10.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 22، ح1، 3.
4- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 22، ح1، 3.

منا ومنهم لم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم)) والمخالف منهم لا يعتدّ برأيه كربيعة الرأي، ولم يكن هذا معروفاً في زمان الإمام الباقر (عليه السلام) وقد روى عنه (عليه السلام) زرارة في صحيحة علي بن مهزيار القول بالطهارة الذي لم ينفه الإمام الصادق (عليه السلام) في الجواب وأمضاه بسكوته فهو دليل على صدور هذا المعنى من الإمام الباقر (عليه السلام).

2- إن مضامين بعض الروايات الدالة على الطهارة تأبى الحمل على التقية لتفصيل جواب الإمام (عليه السلام) ووضوحه وشرح وجه الحكم والتعليل بأن الله حرّم شربها ولم يحرّم الصلاة فيها، ونحوها من المضامين التي لا تناسب الأجوبة الصادرة تقيةً.ويناقش الثاني بوجهين:-

1- إن الأئمة (عليهم السلام) لا يُتوقّع منهم أن ينزلوا إلى مستوى ترفّع عنه فقهاء العامة الموالون للسلطة فلو كان الحكم بالطهارة مما يهتم به الحكام لأفتاهم به العلماء السائرون بركابهم.

2- إن الإفتاء بالطهارة لا ينفع الحكام لوضوح حرمة الخمر ووجوب اجتنابها فهم مخالفون للشريعة على أي حال.

ورُدّ هذا بأن الحرمة لما كانت ثابتة في القرآن وتعَدُّ من الضروريات في الدين فلم يجرؤ السلاطين على معاقبة القائل بها فلا موجب للتقية أما القول بالنجاسة ففيه تقذير وإهانة أكثر من القول بالحرمة مما يوجب العمل بالتقية.

أقول: هذا مردود بأكثر من وجه:-

1- إن ثبوت الحرمة في كتاب الله تعالى لفعل معين لا يردع الحكام عن مخالفته ومحاولة إعطاء الشرعية له باستصدار فتاوى موافقة لهواهم، وبخصوص الخمر فقد حاولوا التشكيك في الحرمة كما في قضية المهدي العباسي مع الإمام الكاظم (عليه السلام).

2- إن هذا التفسير لعدم التقية بالحرمة إذا كان صحيحاً بلحاظ أصل الحرمة فما الذي يفسّر تشدّد الأئمة (عليهم السلام) في مسألة الخمر وكل مسكّر

ص: 206

حتى قالوا في شاربها: إن (مدمن الخمر كعابد وثن)(1)

مضافاً إلى ما تقدّم من عدم انتفاع الحكام بالقول بطهارة الخمر.

وأجيب بأنه ((متى كان صريح القرآن التحريم فالتشديد لازم له إذ من المعلوم عند كل عاقل أن مخالف صريح القرآن رادٌّ لضروري الدين وكل مَن كان كذلك فهو في زمرة المرتدّين فافترق الأمران، وبالجملة فالتحريم لمّا كان صريح الكتاب العزيز الموجب لكونه من ضروريات الدين فهو معلوم لكافة المسلمين فلا تدخله التقية سواء أخبروا بمجرد التحريم أو شدّدوا)) ((بل لو أفتوا بالتقية لربما نسبوهم إلى الجهل ومخالفة الكتاب العزيز، وأما الحكم بالنجاسة فلما لم يكن بتلك المثابة حيث لم يدلّ عليه دليل من القرآن وإنما استفيد من السنة فالتقية جائزة فيه وغير مستنكرة))(2).

ونقلنا هذا الكلام شاهداً على عمق الجدل في المسألة، ويكفي في الردّ عليه ما قلناه مع عدم تمامه في نفسه.

(الناحية الثانية) في ما يوهن روايات الطائفة الأولى ويسقطها عن الاعتبار لأكثر من وجه:-

1- عدم تماميتها واحدة واحدة للمناقشة في سندها أو دلالتها كما تقدّم.

وفيه: إن هذا لا يمنع من حصول الاطمئنان بصدور هذا المعنى إجمالاً عن المعصومين (عليهم السلام).

2- إنها موافقة للمشهور عند فقهاء العامة إلا ما شذّ منهم فتحمل على التقية، لأن مقبولة عمر بن حنظلة دلّت على أن المرجِّح هو مخالفة المشهور عند علمائهم فإن وافقهما الخبران فيؤخذ بما هو أبعد عمّا يميل إليه حكّامهم وقضاتهم حيث ورد فيها: (ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت جُعلتُ فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: يُنظر إلى ما هم إليه أميل

ص: 207


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 16.
2- الحدائق الناضرة: 5/111.

حكّامهم وقضاتهم فيُترَك ويؤخذ بالآخر)(1) وإنما قُدّم الأول لأن التقية من مخالفة المشهور عند علمائهم الذي بنوا عليه الرأي العام لعلّه أولى(2)

من التقية من السلطة لأنها منشغلة بدنياها ولا يهمّها إلا ما يحافظ على مصالحها بينما العلماء المبتلون بالحسد والحقد والتنافس يراقبون كل صغيرة وكبيرة لعلّهم يجدون منفذاً - ولو بالافتراء- لإغراء العامة وتضليلهم لإبعادهم عن الإمامة الحقة بالتسقيط والتشويه.

وفيه: إنه معنى دقيق في نفسه وإذا أردنا أن نحمل إحدى الطائفتين على التقية فحمل الأولى عليها أولى، إلا أنه غير محتمل في المقام:-

1- لما تقدّم من الحشد ضد الخمر والتنفير منها واجتنابها في الكتاب والسنة.

2- لو كان الأمر كذلك لما أطبق عليه العلماء إلا القليل منهم.

3- إن مضامين عدد من روايات الطائفة الأولى تأبى الحمل على التقية كتبرّع الإمام (عليه السلام) في المبالغة في وصفها بأنها رجس ونحوه والأمر بغسلها ثلاثاً في موثّقة عمار وهو قول غير معروف عندهم.

المرتبة الثالثة: وهي محاولة الجمع العرفي بين الطائفتين ما دام المعنيان قد صدرا في الجملة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وهنا أكثر من تقريب:

(التقريب الأول) ما سبق من حمل روايات الطائفة الأولى على التنزيه ورفع الحزازة من النفس وعدم وجود ما يمنع من حمل روايات الطائفة الأولى على هذا المعنى، وأيّدناه بموارد مشابهة له وذكرنا جملة من القرائن على هذا الحمل (صفحة 185).

ص: 208


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح1.
2- من الشواهد التأريخية على ذلك حادثة بيان الإمام الجواد (عليه السلام) حكم قطع يد السارق في مجلس المعتصم العباسي خلافاً لفقهاء العامة وأخذ به المعتصم إلا أن قاضي القضاة ابن أبي دؤاد ظلّ يحرّض المعتصم على قتل الإمام (عليه السلام) حسداً وانتقاماً لهزيمتهم حتى اقتنع المعتصم وارتكب تلك الجريمة النكراء.

وهو استحباب مولوي بحمل ما ورد من الأمر بالغسل في الطائفة الأولى على الاستحباب وهو أيضاً استحباب وضعي إرشادي لإزالة التنفّر والحزازة من النفس، بقرينة قوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن رئاب: (صلِّ فيه إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر) وفي خبر الحسن بن أبي سارة (إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره).

وتؤيد بقرائن أخرى على التنزيه كوحدة السياق في موثّقة عمار (السادسة) فإن صدرها محمول على التنزيه قطعاً، وبقرينة الإضافة على موثّقة عمار بنقل الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب وفيها: (أنه سأله عن الإناء يُشرب فيه النبيذ فقال:تغسله سبع مرات وكذلك الكلب)(1)

بتقريب أنه من غير المحتمل أن يكون حكم النبيذ أشد من حكم الخمر التي وصفها القرآن بأنها رجس.

وورد مثل هذا الاستحباب الوضعي في خبر علي بن أبي حمزة عن عرق الجنب قال: (سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه، فقال: ما أرى به بأساً، قال: إنه يعرق حتى لو شاء أن يعصره عصره، قال: فقطّب أبو عبد الله (عليه السلام) في وجه الرجل فقال: إن أبيتم فشيء من ماء فانضحه به)(2).

ولدفع الاستغراب عن مثل هذا الاستحباب الذي صدر من السيد الخوئي (قدس سره) في مسألة سابقة نقول إنه يشبه النصيحة الطبية أو الاجتماعية وهو يقترن باستحباب شرعي بحسب الدليل الدال عليه أو لا يقترن وموارده في الفقه كثير كعرض الإنسان نفسه على الخلاء قبل النوم وعدم النوم ممتلئاً واختيار المرأة الحسناء والبيضاء في الزواج فإننا لا نتوقع أن الإنسان يؤجر لمجرد أنه تزوّج امرأة حسناء أو كشف عن امرأة بيضاء أو طمثت بنته وهي في بيت زوجها -وهي معانٍ وردت في أحاديث شريفة- فالاستحباب هنا وضعي إرشادي، نعم قد يحصل على الأجر إذا توفّرت عناوين أخرى.

ص: 209


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 30، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 27، ح4.

واحتمل السيد الخوئي (قدس سره) هذا الوجه من الجمع لاحتمال انتفاء ((المعارضة بين الطائفتين نظراً إلى أن إحداهما صريحة في مدلولها والأخرى ظاهرة، فمقتضى الجمع العرفي بينهما تقديم روايات الطهارة على أخبار النجاسة لصراحتها في طهارة الخمر ونفي البأس عن الصلاة في ثوب أصابته خمر بحمل أخبار النجاسة على الاستحباب لكونها ظاهرة في نجاستها كما أمره (عليه السلام) بغسل الثوب الذي أصابته خمر أو إهراق المائع الذي قطرت فيه قطرة منها، فترفع اليد عن ظهورها في الإرشاد إلى نجاسة الخمر بصراحة أخبار الطهارة في طهارتها فتحمل على الاستحباب لا محالة فلا مناص من الحكم بطهارة الخمر))(1).

واستبعد جملة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) هذا الجمع لوجوه ذكروها (منهم) السيد الخوئي (قدس سره) فإنه احتمل عدم إمكان مثل هذا الجمع واستقرار التعارض بين الطائفتين ((لأن المقام ليس من موارد الجمع العرفي بين المتعارضين لما حررناه في محله من أن مورد الجمع العرفي بحمل الظاهر من المتقابلين على نصّهما، إنما هو ما إذا كان المتعارضان على نحو إذا ألقيناهما على أهل العرف لم يتحيروا بينهما، بل رأوا أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، وليس الأمر كذلك في المقام، لأن أمره (عليه السلام) بالإراقة والإهراق إذا انضمّ إليه نفيه (عليه السلام) البأس عن الصلاة في ثوب أصابته خمر وألقيا على أهل العرف لتحيّروا بينهما لا محالة ولا يرون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر بوجه)).وفيه: إن العرف يفهم هذا الجمع بين الطائفتين إذا ألقي عليه ولا يرى بأساً فيه وتضمنت النصوص قرائن عليه كما تقدّم، والحيرة غير موجودة في مورد الأمر بالإراقة والإهراق لأنهما بسبب الحرمة لا النجاسة.

نعم يتحير في مورد واحد وهو الأمر بإعادة الصلاة في مرسلة يونس وقد أجبنا عليه فيما سبق.

ص: 210


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من المجموعة الكاملة): 3/85.

(ومنهم) السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فإنه كرّر هذا الإشكال وأضاف استبعاداً آخر لهذا الجمع حاصله: ((إن نفس استفاضة أحد المضمونين ووروده بكثرة قد لا يساعد عرفاً على حمل كل ذلك على مجرد التنزّه والاستحباب))(1).

ويجاب نقضاً وحلاً:-

أما (نقضاً) فبوجود مستحبات وردت فيها أضعاف هذا العدد من الروايات كغسل الجمعة.

وأما (حلاً) فبأنَّ هذه الاستفاضة غير مستغربة في تقذير الخمر والتنفير منها حتى وصل الحال بالإمام (عليه السلام) إلى الامتناع عن النظر إليها وورود عدة روايات في ذلك لإبعاد المسلمين عنها وخلق أجواء نفسية تأنف من الاقتراب من الخمر فضلاً عن مساورتها أو شربها وقد نجح أهل البيت (سلام الله عليهم) في إيجاد هذه الحالة لدى شيعتهم، فلا عجب أن يرِد هذا العدد من الروايات في مجموع تفاصيل الحالة كغسل الثوب والآنية وإهراق الماء والمرق ونزح البئر إذا كان عنوان واحد وهو النظر إليها قد وردت فيه عدة روايات، ولأن الخمر من المسائل الابتلائية الشائعة فمن الطبيعي كثرة السؤال عنها.

(ومنهم) السيد الحكيم (قدس سره) فإنه استنتج من صحيحة علي بن مهزيار ورجوعه إلى الإمام (عليه السلام) لحلّ التعارض عجزه عن الجمع العرفي و((أن التعارض بين روايتي الطهارة والنجاسة مستحكم على نحو لا مجال للجمع العرفي بينهما)) ((ومن ذلك يظهر وهن الجمع العرفي المتقدم))(2).

وفيه:-

1- إن عدم التفات العرف إلى الجمع غير قادح فيه لأن كون الجمع عرفياً لا يعني أن العرف يلتفت إليه مباشرة وإنما يعني أنه إذا ألقي إلى العرف فإنه يقبله ولا يأباه وهذا القبول موجود في المقام.

ص: 211


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/440.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/403.

2- إن هذا التعمّق في فهم الأدلة والجمع بينهما شيء نمى ونضج تدريجياً أما في عصر الأئمة (عليهم السلام) فكانوا يعملون بالتطبيق المباشر للروايات وقد تختلف فيما بينها فيختلفون في الحكم كما في صحيحة ابن مهزيار وخبر خيران.

3- إن رجوع الأصحاب إلى الأئمة (عليهم السلام) في فهم الاختلاف بين الروايات في صحيحة ابن مهزيار لا يعني عجزهم عن الجمع العرفي وإنما أرادوا أولاً معرفة وجه صدور الروايتين وهل للإمام (عليه السلام) وجه خاص في الجمع بينهما وهل أن الروايتين صادرتان عنهم (عليهم السلام) أم أن إحداهما مكذوبة؟ وهل صدرت إحداهما على وجه التقية ونحوها، وكلها يجب مراعاتها قبل التفكير في الجمع العرفي وهو ما راعيناه في ترتيب أشكال معالجة التعارض.

(ومنهم) صاحب الحدائق (قدس سره) فإنه ذكر وجوهاً سبعة لبطلان هذا الشكل من الجمع العرفي الذي يقتضي حمل الأمر بالغسل على الاستحباب فقال (قدس سره):

((الأول: إنه وإن اشتهر ذلك بينهم في جميع أبواب الفقه إلا أنه لا مستند له من سنة ولا كتاب، وقد استفاضت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بوجوه الجمع بين الأخبار والترجيح في مقام اختلاف الأخبار، ولو كان لهذا الحمل والجمع بين الأخبار أصل في الشريعة لما أهملوه (عليهم السلام) سيما أنهم (رضوان الله عليهم) قد اتخذوه قاعدة كلية في مقام اختلاف الأخبار في جميع أبواب الفقه وأحكامه.

الثاني: إن الحمل على الاستحباب مَجاز باعترافهم والمجاز لا يصار إليه إلا بالقرينة الصارفة عن الحقيقة واختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز. وأما قوله في الذخيرة: ((إن حمل الأوامر والنواهي في أخبارنا على الاستحباب والكراهة شائع ذائع كأنه الحقيقة)) ففيه: إنه إن كان ذلك مع وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي فلا بحث فيه وإلا فهو أول المسألة ومحل منع.

ص: 212

الثالث: إن الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم فيتوقف الحكم به على دليل واضح وإلا كان قولاً على الله تعالى من غير علم، وقد استفاضت الآيات القرآنية والسنة النبوية بالنهي عنه، واختلاف الأخبار ليس من الأدلة التي توجب الحكم بالاستحباب.

الرابع: إن صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران الخادم قد دلّتا على وقوع هذا الخلاف بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في وقتهم وأنهم رجعوا في ذلك إلى إمام ذلك العصر وسألوه عن الأخذ بأي القولين فأمرهم بالعمل بأخبار النجاسة ولو كانت الأخبار الواردة عنهم (عليهم السلام) بالنجاسة إنما هي بمعنى استحباب الإزالة وليس المراد منها النجاسة كما زعمه هؤلاء الأفاضل وأنه طاهر والصلاة فيه صحيحة وإن كان على كراهة، لما خفي على أصحاب الأئمة (عليهم السلام) يومئذ حتى أنهم يسألون عن ذلك، ولكان الإمام (عليه السلام) يجيبهم بأن هذه الأخبار لا منافاة بينها فإن الأمر بغسل الثوب منه إنما هو على جهة الاستحباب وإلا فهو طاهر لا أنه يقرّهم على الاختلاف ويجيبهم بقوله: (لا تصلّ فيه فإنه رجس) فيأمرهم بالأخذ بأخبار النجاسة كما في خبر خيران وبقول أبي عبد الله (عليه السلام) كما في صحيحة علي بن مهزيار.

الخامس: إن جملة من الروايات الدالة على النجاسة لا تلائم هذا الحمل)) ((فإنه لم يعهد في الأخبار التشديد في الأمور المستحبة والمبالغة فيها إلى هذا المقدار وإنما وقع نظيره في الأخبار في النجاسات المقطوع بها لا الأشياء الطاهرة)) وذكر أمثلة على ذلك صحيحة علي بن مهزيار ورواية أبي جميلة البصري وخبر أبي بصير.

((السادس: إنه قد ورد عنهم (عليهم السلام) من القواعد أنه إذا جاء خبر عن أولهم وخبر آخر عن آخرهم فإنه يجب الأخذ بالأخير وهذه القاعدة قد صرّح بها الصدوق في الفقيه في باب (الرجل يوصي إلى الرجلين) حيث قال: ((ولو صحّ الخبرانلكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر الصادق (عليه السلام). ولا ريب أن صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران قد تضمنتا ذلك،

ص: 213

فالواجب بمقتضى هذه القاعدة الرجوع إلى قول الإمام الأخير وهو الحكم بالنجاسة))(1).

وذكر السابع وهو ما تقدم نقله عنه (قدس سره) (صفحة 202).

والوجوه كلها قابلة للمناقشة:

أما (الأول) ففيه:-

1- إن هذا الجمع لا يحتاج إلى دليل لأنه عرفي والدليل عليه سيرة العقلاء في محاوراتهم كالأخذ بخبر الثقة ومجرد سكوت الأئمة (عليهم السلام) عنه وعدم ردع أهل المحاورة عن الأخذ به دليل على اعتماده في خطاباتهم (عليهم السلام) فهذا الوجه يدلّ على عكس مراده (قدس سره).

2- إن ما ورد عنهم (عليهم السلام) من وجوه لمعالجة الأخبار إنما هي للأخبار المختلفة(2) أي التي يستقر التعارض بينها ولا يوجد وجه عرفي يرتضيه أهل المحاورة للجمع بينها، وقد جمعنا بين الأخبار في المقام فهي ليست مختلفة فالعملية خارجة تخصّصاً.

3- إن هذا الجمع داخل في أمر الأئمة (عليهم السلام) بتعلّم أساليب أهل المحاورة ومعرفة وجوه الكلام ومنها هذا الجمع المعتمد عند أهل العرف وقد ذكرنا سابقاً أكثر من رواية ومنها خبر داوود بن فرقد قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إن الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب)(3)

وحمل المطلق على المقيد والمجمل على المبيَّن والعام على الخاص من هذه الوجوه، ومنها صرف الخبر عن ظهوره إلى الاحتمال الآخر بقرينة.

4- النقض عليه (قدس سره) باستعماله هذا الجمع في استدلالاته كما في غسل الجمعة الذي وردت روايات صحيحة ظاهرة بل صريحة في وجوبه

ص: 214


1- الحدائق الناضرة: 5/107-109.
2- تجدها في وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح27.

كصحيحة عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (سألته عن الغسل يوم الجمعة، فقال: واجب على كل ذكر أو أنثى أو عبد أو حرّ)(1)

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث الجمعة (والغسل فيها واجب))(2) وصحيحة علي بن يقطين قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن النساء أعليهنّ غسل الجمعة؟ قال: نعم))(3) والصحيحة إلى حريز عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا بد من الغسل يوم الجمعة في السفر والحضر،ومن نسي فليعد من الغد)(4)

وغيرها كثير، لكنه (قدس سره) حملها على المبالغة في الاستحباب بقرائن من روايات أُخر وأن لفظ ((الوجوب في عرفهم (عليهم السلام) كما استفاضت به أخبارهم أعمّ من هذا المعنى الاصطلاحي)) وأنه من ((الألفاظ المتشابهة))(5).(5).

وأما (الثاني) فلأن القرينة موجودة وهي روايات الطائفة الثانية التي منعت من الأخذ بظاهر روايات الطائفة الأولى لأنها صريحة في الطهارة.

وأما (الثالث) ففيه:-

1- إن الجمع العرفي بين الأدلة دليل وليس قولاً على الله تعالى بغير علم بل هو فهم مستنبط منها أملاه التعارض بين الطائفتين.

2- إن روايات الطائفة الأولى دالة على الاستحباب بعد صرف ظهورها عن الوجوب بقرينة الطائفة الثانية ولو تنزّلنا فإن الإشكال إنما يأتي على من اكتفى بالاستحباب الشرعي أما نحن فقد قلنا بالاستحباب الوضعي أي كالنصيحة لرفع الحزازة من النفس ولمنعها من الأنس بهذه الكبيرة الخبيثة.

وأما (الرابع) فلوجوه:-

ص: 215


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة، باب 6، ح3، 13، 8.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة، باب 6، ح3، 13، 8.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة، باب 6، ح3، 13، 8.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأغسال المسنونة، باب 10، ح1.
5- الحدائق الناضرة: 4/221.

1- ما تقدّم من المناقشة في صلاحية الصحيحة للترجيح أو الحاكمية وإنما هي من روايات الطائفة الأولى.

2- إننا لا ننكر ظهور روايات الطائفة الأولى في وجوب الغسل لكن الطائفة الثانية صرفتها عن هذا الظهور فالأصحاب أخذوا بالظاهر الأولي للروايات ومعهم حق.

3- شرحنا عند مناقشة الصحيحة وجه إعراض الإمام (عليه السلام) عن بيان الجواب التفصيلي الذي طلبه (قدس سره).

وأما (الخامس) ففيه:-

1- إننا ناقشنا في دلالة هذه الروايات سنداً أو دلالةً.

2- النقض عليه بما تقدم من روايات غسل الجمعة وفيها (لا بد، واجب، عليه) الظاهرة بل الصريحة في الوجوب ومع ذلك فقد صرفه الدليل عن الأخذ بها.

وأما (السادس) فيناقش كبروياً من جهة عدم صحة إطلاقها حيث يجب تقييدها بما إذا كان الأخير حاكماً على الأول بنحو النسخ أو بيان المجمل أو التقييد أو التخصيص، وهو ثابت ودلت عليه صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يتّهمون بالكذب فيجيئ منكم خلافه؟ قال: إن الحديث يُنسخ كما يُنسخ القرآن)(1)،وكما لو كانت معالجة لحالة شخصية أو للتقية ونحوها فإنه لا يلغي الحكم الأول الذي يكون هو الحكم الواقعي ومثال الأول نهي الإمام (عليه السلام) لاثنينمن أصحابه عن زواج المتعة في المدينة(2)، ومثال الثاني الصحيحة إلى هشام بن سالم عن أبي عمرو

ص: 216


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح4.
2- نوقشت الرواية في الجزء الأول من الطبعة الأولى من فقه الخلاف، صفحة 100، المسألة الثانية (ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي) في معرض الحديث عن أنحاء أوامر المعصومين (عليهم السلام) ونواهيهم. وفي هذه الطبعة تأخرت هذه المناقشة إلى الجزء الرابع، وهي ما روي عن عمار الساباطي (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لي ولسليمان بن خالد: قد حرّمت عليكم المتعة ما دمتم بالمدينة لأنكما تكثران الدخول عليّ وأخاف أن تؤخذا فيقال هؤلاء أصحاب جعفر) (وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب 5 ح5).

الكناني قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا أبا عمرو أرأيتك لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى الله إلا أن يُعبد سرّاً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم، أبى الله عز وجلّ لنا في دينه إلا التقية)(1)، وفي هذا الإطار يأتي قول الإمام الصادق (عليه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألته عن الصرف) إلى أن قال: (فقلتُ له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم، فقال:لا بأس بذلك إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني، فكان يقول هذا فيقولون: إنما هذا الفرار، لو جاء رجلٌ بدينار لم يُعطَ ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم يُعط ألف دينار، وكان يقول لهم: نِعم الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال)(2).

أقول: الجرأة تعني قدرته - وفق الظروف المتاحة له- على بيان الحكم الواقعي بوضوح من دون إجمال أو تقيّة، والمتأخر مبتلى بذلك.

وفي ضوء هذا التفصيل بفهم ما دلّ على تقديم الحديث المتأخر كمرسلة الحسين بن المختار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: كنت أأخذ بالأخير، فقال: رحمك الله)(3).

أما ما نقله عن الصدوق (قدس سره) في باب (الرجل يوصي إلى الرجلين) فهو أجنبي عن المقام لأن الوصية المتأخرة تنفي الوصية المتقدمة لما دلّ على جواز الرجوع بالوصية كصحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه

ص: 217


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح17.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب6، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح7.

السلام) قال: (للموصي أن يرجع في وصيته إن كان في صحة أو مرض)(1)

أما ما نقله عن الشيخ الصدوق (قدس سره) فلو كان تامّاً لاتّضح ذلك وأنه لا يخرج عمّا قلناه فإن بقية كلامه هكذا: ((وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعانٍ وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس))(2).

وقد توسّعنا نسبياً في إيضاح هذه الكبرى لما وجدناه من إطلاق في كلام الأصحاب (قدس الله أرواحهم).

ويناقش قول صاحب الحدائق صغروياً إذ لم يأتِ خبر متأخر ينسخ الأخبار المتقدمة أما صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران فقد ناقشنا دلالتهما.

(التقريب الثاني) ما قاله الشيخ الجزائري (قدس سره) من ((تنزيل الأخبار الواردة بالطهارة على ما عدا المتخذ من العصير العنبي، ويكون حملها عندئذٍ على التقية لا إشكال فيه مع أن الحكام والعامة يخالطون من يستحلّ شربها من اليهود والنصارى، فالحكم بالنجاسة مظنّة الخوف حينئذٍ ومحل الخطر فلا يبعد الحمل على التقية))(3).

وقد نَسَبَ هذا القول إلى أبي حنيفة حيث أفتى بطهارة جميع المسكرات ما عدا الخمر، وهذا القول بالتفصيل يوجد من يقول به كالسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله الشريف) ولكن لا من جهة الجمع المذكور.

لكن هذا التقريب من الجمع غير تام ولا تساعد عليه الروايات وهو غير جامع ولا مانع فإن فيها ما دلّ على نجاسة المسكرات من غير الخمر كموثقة عمار وصحيحة علي بن جعفر وفيها ما دلّ على طهارة الخمر كصحيحة علي بن رئاب وصحيحة الحسن بن أبي سارة.

ص: 218


1- من لا يحضره الفقيه، ج4 كتاب الوصية، باب (الرجل يوصي إليهما...).
2- من لا يحضره الفقيه، ج4 كتاب الوصية، باب (الرجوع عن الوصية).
3- قلائد الدرر: 1/65.

وقد استدل السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) على هذا القول بالتفصيل بطريقة أخرى سنعرضها لاحقاً بإذن الله تعالى.

فالمعتمد عندنا هو الجمع العرفي بالتقريب الأول ويساعد عليه شاهد ومؤيد:

أما الشاهد فالتقريب الذي قدمناه (صفحة 201) وحاصله حكومة روايات الطائفة الثانية على الأولى ورجحانها، وشرحنا نكتة الحكومة هناك والترجيح هنا.

وأما المؤيد فلأن هذا الجمع يحفظ لروايات الطائفة الأولى وجودها ودلالتها لكنه يصرفها عن ظهورها في الوجوب وهو معقول لأنه مستفاد من الإطلاق لا من النص، أما إذا قدّمنا أخبار النجاسة فسوف لا يبقى لروايات الطائفة الثانية معنى وتُلغى كلها وهو أمر غير معقول بعد عدم إمكان حملها على التقية وعدم إنكار صدورها عن المعصوم (عليه السلام) على أن حمل ما يناهز عشرين رواية في هذه المسألة وأربعين رواية في مسألة (تحديد الغروب)(1)

ينتهي بنا إلى إهمال الكثير مما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) وهو أمر غير معقول.(المرتبتان الرابعة والخامسة): إذا استحكم التعارض واستقر ولم يمكن علاجه فيتساقط الدليلان لعدم شمول أدلة حجّيّة الخبر لمثلهما ونرجع في موردهما إلى العمومات الفوقانية فإن لم توجد - كما في مسألتنا- فيصار إلى الأصول الجارية في المقام.

وفي مسألتنا فإن كل الأصول تؤدي إلى القول بطهارة الخمر أو طهارة الملاقي لها كاستصحاب طهارة الأجزاء التي تكوَّن منها الخمر أو استصحاب طهارة الملاقي للخمر أو أصالة الطهارة.

ص: 219


1- فقه الخلاف: الجزء الثاني من الطبعة الثانية، البحث الثاني.

لكن السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) أفاد بوجود مثل هذا العموم الفوقاني في نفس روايات الطائفة الأولى بعد أن قدّم مقدمة كبروية اعترض فيها على ما جرى عليه الأصحاب حاصلها: عدم صحة تساقط المتعارضين والرجوع إلى أصالة الطهارة ونحوها من الأصول المؤمّنة إلا ((فيما إذا لم يكن في داخل إحدى الطائفتين ما يكون بمثابة العام الفوقاني، بحيث لا يصلح أن يكون طرفاً للمعارضة في المرتبة الأولى، وإنما يصلح أن يكون مرجعاً بعد تساقط المتعارضين.

وأما في حالة اشتمال إحدى الطائفتين على شيء من هذا القبيل فلا بد من الرجوع إليه، ولا يجوز البناء على التساقط المطلق من الجانبين)).

ثم فصّل (قدس سره) الكلام في ((تحقيق تلك الحالة وإثبات اشتمال إحدى الطائفتين على ما يكون مرجعاً بعد التساقط)) فقال (قدس سره): ((إن الأصحاب جرَوا في مورد تعارض الخاصّين المطابق أحدهما لعام فوقي على الالتزام بتساقط الخاصين والرجوع إلى العام، بنكتة أن العام لا يصلح لمعارضة الخاص المقابل فيكون مرجعاً بعد تساقط الخاصين.

ولكنهم دأبوا في نفس الوقت حينما توجد طائفتان متعارضتان في مسألة بدون جمع أو مرجح على إيقاع التعارض والتساقط بينها جميعاً دون تصنيف لروايات كل من الطائفتين من ناحية درجة دلالتها على الحكم مع أنه قد تشتمل إحدى الطائفتين على درجتين من الدلالة على الحكم، وتكون الطائفة الثانية كلها صالحة للقرينية على الدرجة الثانية دون الأولى، ففي مثل ذلك تكون الروايات ذات الدرجة الثانية من الطائفة الأولى بمثابة العام الفوقاني، وإن كان الموضوع واحداً في جميع الروايات.

غير أن نكتة سلامة العام الفوقي عن المعارضة وتعيّنه للمرجعية جارية فيها أيضاً وعلى هذا الأساس لا بد من إدخال هذا التصنيف في الحساب.

وبناءً على ذلك نقول: إن أخبار النجاسة على مراتب:

ص: 220

المرتبة الأولى: ما كان منها كالصريح في الدلالة على النجاسة بحيث لا يصحّ عرفاً حمله على التنزّه، من قبيل موثّقة عمار قال : (لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات).

المرتبة الثانية: ما كان ظاهراً في النجاسة مع إمكان الحمل على التنزه عرفاً في مقام الجمع، كالروايات المشتملة على مجرد الأمر بالغسل.

المرتبة الثالثة: ما كان دالاً على النجاسة بالإطلاق ومقدمات الحكمة وهو أضعف من سابقيه دلالة، وذلك من قبيل ما اشتمل على التنزيل الذي يشمل إطلاقه النجاسة.

المرتبة الرابعة: ما كان دالاً على النجاسة بالإمضاء السكوتي عما كشف عنه سؤال السائل من ارتكاز نجاسة الخمر في ذهنه. وقد يتصور أن هذا نحو إطلاق أيضا فيدخل في المرتبة الثالثة.ولكن الصحيح أنه مرتبة رابعة؛ لأن مثل هذا الإمضاء السكوتي يرتفع لو كان في كلام الإمام (عليه السلام) ما يدلّ على نفي الأمر المرتكز ولو بالإطلاق ومقدمات الحكمة، إذ لا يصدق السكوت حينئذ، وإذا كان الإطلاق الحكمي هادماً لهذه الدلالة عند الاتصال فهو مقدم عليها في الحجية عند الانفصال لو وقع التعارض بينهما.

وأما أخبار طهارة الخمر فهي على مرتبتين:

الأولى: ما دلّ بالصراحة العرفية على ذلك، كرواية علي بن رئاب ورواية ابن أبي سارة.

الثانية : ما دلّ على طهارة الخمر بالإطلاق، كرواية علي بن جعفر الواردة في ماء المطر الذي أصابه الخمر، ورواية ابن بكير الواردة في مطلق المسكر. وأما رواية علي بن جعفر الأخرى الواردة في الصلاة في مكان رشّ بالخمر إذا لم يوجد غيره، فإن قيل بأن دلالتها على الطهارة بلحاظ إطلاق الترخيص فيها لفرض سعة الوقت أو إمكان التجفيف كان حالها حال روايته في ماء المطر.

ص: 221

وإن قيل بأن دلالتها بظهور نفي البأس في نفي النجاسة كانت مرتبة برأسها بين المرتبتين المذكورتين.

فعلى الأول يتساقط الصريحان من الطائفتين ويقيّد ما دل بالإطلاق على الطهارة بما يكون ظاهراً في النجاسة.

وعلى الثاني يتساقط الصريحان بالمعارضة وكذلك الظاهران من الطائفتين والمطلقان منهما وتنتهي النوبة إلى المرتبة الرابعة من مراتب أخبار النجاسة بوصفها بمثابة المرجع الفوقاني لعدم سقوطها بالمعارضة مع أخبار الطهارة بسبب عدم صلاحيتها لمعارضة أخبار الطهارة، وبذلك تثبت نجاسة الخمر))(1).

أقول: يمكن مناقشة كلامه (قدس سره) كبرى وصغرى؛ أما (كبرى) -أي هذا المنهج من الاستدلال- فبوجوه:-

1- إن ما ذكره (قدس سره) من إسقاط كل مرتبة من الدلالة بما يقابلها غير معروف لدى أهل المحاورة ولا يراعونه حتى لو التفتوا إليه وهم المرجع في مثل هذا المورد الذي هو شكل من الجمع العرفي كما قدّمنا والمعيار في قبوله أنه إذا ألقي إليهم فإنهم يعرفونه ولا ينكرونه، والعرف -متكلمين وسامعين- قد يكتفي برواية واحدة للتصرف في ظهور إطلاق عشرين رواية أو يعارضها إذا كانت صريحة مثله كالذي ذكرناه سابقاً في غسل الجمعة فإن روايات صريحة عديدة في الوجوب تكفي رواية واحدة تفيد الترخيص بالترك لصرفها عن الوجوب إلى الاستحباب، فهذا الأسلوب في التساقط غير معتمد إذن، وهذه التدقيقات أليق بالتأملات العقلية لا الاستظهارات اللغوية والعرفية.

2- إن الدلالة متنوعة وكثيرة فإضافة إلى الأشكال التي ذكرها (قدس سره) يمكن أن تكون الدلالة بالمطابقة أو الالتزام أو الاستلزام العقلي أو بالمفهوم أو بضمّ القرائن المتصلة أو المنفصلة وغيرها، مما يجعل هذا المنهج

ص: 222


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/444-447.

في الترجيح غير منتج ولا يُحلُّ إلا بطرق رياضية معقدة ينكرها الذوق العرفي.

3- لو فُرض وجود رواية تُقرِّب دلالتها بتقريبين من مرتبتين كصحيحة علي بن جعفر (التاسعة من الطائفة الثانية) وكان لها معارض في إحداهما، فكيف يتعاطى مع المرتبة الأخرى؟ إنْ أخذ بها فهو خلف سقوطها بالتعارض في المرتبة الأولى، وإن لم يأخذ بها فهو خلف منهجه المذكور.

4- لو فرض وجود رواية صريحة واحدة في إحدى الطائفتين ومعها رواية ذي ذكرناه سابقاً في غسل الجمعةمن المرتبة الرابعة وصريحتان في الطائفة الثانية فكيف سيتصرّف؟ هل تسقط الصريحتان من الثانية مع الصريحة من الأولى باعتبارها من مرتبة واحدة فتكون النتيجة غير معقولة وهي تقديم روايتين صريحة ومطلقة بالإمضاء السكوتي على صريحتين. وإن أسقط إحدى الصريحتين من الثانية بالصريحة من الأولى ثم يقدم الصريحة الأخرى من الثانية على المطلقة من الأولى فهذا يعني تأثير عدد الروايات وهو مما لا يقول به.

5- إن الواجب قبل هذا التصنيف مراعاة وجود نصّ مفسّر في إحدى الطائفتين فيكون حاكماً وقد قرّبنا وجوده وهذه المرتبة مقدّمة على مرتبة التصنيف التي لاحظها (قدس سره) وهذه مناقشة يمكن أن تكون صغروية.

6- لازم ما ذكره (قدس سره) تأثير عدد الروايات في الحكم لأن كثرة عددها يستلزم غالباً تنوع دلالتها وبالتالي تساقط البعض وبقاء البعض الآخر بلا معارض، وهذا العنصر في الترجيح لا يلتزم به (قدس سره) ولا غيره.

7- إن أخذه على الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بأنهم لا يراعون تصنيف الروايات المتعارضة بحسب دلالتها ليس دقيقاً فإنهم جروا على ملاحظة ظهور الأدلة وتصنيفها بهذا اللحاظ وترتيب مراتب دلالتها على المطلوب وتقديم الأقوى ظهوراً ليكون حاكماً على الدليل الآخر ومتصرّفاً فيه وقد طبّقناه في كثير من المسائل حيث صنّفنا أنواع الدلالات ومنها هذه المسألة

ص: 223

حيث تصرفت روايات الطائفة الثانية التي هي كالصريحة في الطهارة في ظهور إطلاق الطائفة الأولى بالنجاسة، وما ذكره (قدس سره) هو تعميق وتفصيل لما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) في كلامه المتقدم من تقديم روايات النجاسة لصراحة الأولى وظهور الثانية وبيانٌ لما أجمله بعض الأكابر بقوله: ((وهذه الأخبار - أي الدالة على الطهارة- وإن اختلفت مراتب ظهورها ولكن في بعض أخبار النجاسة ما هو أقوى دلالة منها))(1)،

نعم هم لم يجعلوا هذا التصنيف مرجّحاً بالمنهج الذي عرضه (قدس سره) لما ذكرناه في التعليق الأول، ولوجود صحيحة ابن مهزيار التي جعلوها حاكمة على التعارض.

8- إن العام الفوقي وما بمثابته- على تعبيره (قدس سره)- ليس من سنخ الدليلين المتعارضين ويُجَنَّب عن شموله بالتعارض ليكون مرجعاً بعد تساقط الخاصين وإنما هو دليل أجنبي عن مورد التعارض وليس مسوقاً لبيان الحكم الذي ورد من أجله المتعارضان وهذا هو سرّ عدم شموله بالتعارض وإن كان بحسب النتيجة ينطبق قهراً على أحدهما لكن هذا لا يكفي لشموله بالتعارض،1- فمثلاً لو تعارض دليلان في حرمة شيء وحلّيته فتساقطا نرجع إلى أصالة الحلّ التي ينطبق مؤدّاها مع الثاني لكن هذا لا يبرّر شمولها بتعارضهما.

9- إن هذا المنهج يغفل الدلالة الإجمالية ومنها المسألة محل البحث حيث لم تسلم دلالة أي رواية بمفردها وإنما كان الدليل على النجاسة الاطمئنان بصدور هذا المعنى عنهم (سلام الله عليهم) في الجملة.

نعم يمكن تقريب كلامه (قدس سره) على فكرة (المرجّح المساوي) الذي شيّدناه فيما سبق ولكن لا صغرى له في المقام.

وأما (صغرى) فمن عدة جهات:-

ص: 224


1- الشيخ حسين الحلي (قدس سره) في دليل العروة الوثقى: 1/477.

1- إننا ناقشنا الروايات التي استدل بها على النجاسة واحدة واحدة ولم تسلم من الخلل فهذا التقسيم الذي ذكره (قدس سره) يكون سالباً بانتفاء موضوعه وهي الحجية.

2- وصفه (قدس سره) موثّقة عمار بأنها كالصريحة في الدلالة على النجاسة في المرتبة الأولى غير دقيق فقد قرّبنا دلالتها على إزالة المتبقي من الخمر لحرمته عند مناقشة روايات الطائفة الأولى فتكون أجنبية عن المسألة وناظرة إلى جانب الحرمة. فلا توجد عنده (قدس سره) رواية تامة سنداً ودلالة على مستوى المرتبة الأولى بينما توجد أكثر من رواية معتبرة صريحة في الطهارة فقد قال (قدس سره) عن موثّقة عبد الله بن بكير: ((وهي تامة دلالة وسنداً)) وعن صحيحة علي بن رئاب: ((والرواية واضحة الدلالة على الطهارة وصحيحة السند))(1).

فيرجّح القول بالطهارة في هذه المرتبة مباشرة ويتم التصرف في دلالات المراتب الأخرى.

3- إنه (قدس سره) انتهى إلى نتيجة مفادها أن الدليل على نجاسة الخمر متعيّن بما دلّ عليها بالإمضاء السكوتي كصحيحة عبد الله بن سنان (التاسعة) وهي نتيجة غير محتملة أن نتمسك بها بعد الحشد الكبير من الروايات الدالة على النجاسة بحيث وصفها (قدس سره) بالاستفاضة، إضافة إلى الوجوه التي أبطلنا بها هذا التقريب وقد ذكرناها (صفحة 189).

4- إن الطائفة الثانية تتضمن رواية من المرتبة الرابعة أي ما دلّ بالإمضاء السكوتي فلا تسلم هذه المرتبة من التعارض وهي صحيحة كليب بن معاوية (الخامسة عشرة) واعترف (قدس سره) بذلك في موضع آخر حيث قال: ((ما دلّ بالإمضاء السكوتي على طهارة النبيذ، وهو خبر كليب بن معاوية، وظاهره ارتكاز الطهارة لدى أبي بصير، ولم يردع

ص: 225


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/430، 433.

الإمام (عليه السلام) عن هذا الارتكاز))(1) فلا تبقى مرتبة من الطائفة الأولى بلا معارض حتى تكون بمثابة عموم فوقاني.

إن قلت: إن السؤال في الصحيحة كان عن النبيذ واستدلاله (قدس سره) على الخمر وهي غير النبيذ.قلتُ: إن لفظ النبيذ ورد في كلام السائل، أما كلام الإمام (عليه السلام) فكان عن المسكر ولا يصلح السؤال قرينة على تقييده لأن الإمام (عليه السلام) أطلق استفهامه الاستنكاري.

5- إن رواية واحدة من مرتبة الصريحة كافية لتقييد مجموعة من الروايات الظاهرة والمطلقة فإسقاط الصريحات بالتعارض وإبقاء ما هو دونها في الدلالة غير عرفي.

6- إن نكتة عدم شمول رواية بالتعارض هو عدم صدورها لبيان محل التعارض كالذي شرحناه في المرجّح المساوي، والرواية التي سلمت عنده من التعارض لا يتوفّر فيها هذا الملاك فهي مشمولة بالتعارض.

7- قوله (قدس سره) في تقريب صحيحة علي بن جعفر الثانية (فإن قيل، وإن قيل) ظاهر في كون القضية مانعة جمع وهي في الحقيقة مانعة خلوّ والتقريبان واردان ففي أي مرتبة ستدخل الرواية والتقريبان من مرتبتين مختلفتين.

8- إنه (قدس سره) افترض مرتبة هذا الشكل من المعالجة بعد العجز عن الجمع العرفي لكنه (قدس سره) عاد إلى هذا الجمع حينما تصرّف بإطلاق ما دلّ على الطهارة وقيّده بظهور ما دلّ على النجاسة.

الرأي المختار

فالنتيجة التي انتهينا إليها حتى الآن من مراتب علاج التعارض هي تقديم الروايات الدالة على الطهارة وحمل الروايات الدالة على النجاسة على

ص: 226


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/450.

التنزيه ورفع الحزازة من النفس والمبالغة في التنفير من الخمر. وهذه النتيجة موافقة للأصول الجارية في المقام.

لكننا نبني عملاً على نجاسة الخمر أي ترتيب آثار النجاسة عليها من وجوب تطهير الملاقي ونحوه وهو ما أفتينا به في الرسالة العملية(1) لوجوه:-

1- إنه مناسب لقوله تعالى: «فَاجْ-تَنِبُوهُ» والقول بالطهارة يوجب عدم التحرّز من الاقتراب والمساورة وإن لم يشربها وهو ينافي الاجتناب.

2- إن الأئمة (عليهم السلام) رجّحوه في مقام العمل وقد صدرت منهم (سلام الله عليهم) أقوال شديدة في الخمر مما يوجب تعفّف النفس عن النظر إليها فضلاً عن الاقتراب منها أو إصابتها للثوب والبدن، ووجود بلاغات مؤكدة في غسل ما أصابه الخمر كمرسلة يونس التي أوجبت إعادة الصلاة وذيل موثّقة عمار وفيه (لا يجزيه - أي الإناء الذي يُشرب فيه الخمر- حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرت).

3- إنه أحوط في الدين وأقرب للتقوى.

4- إنه موافق للمشهور بين الأصحاب الذي كاد أن يكون إجماعاً.

5- إن أخبار الطهارة موافقة لعمل السلاطين فتحمل على التقية، وأخبار النجاسة وإنْ وافقت إجماع فقهائهم لكن المناط في جعل مخالفة العامة مرجّحاً كونهم يفتون مداراةً للحكام وتزلّفاً إليهم فما دامت الفتوى عندهم مخالفة لعمل حكامهم فلا ضير في موافقة المشهور عندهم، وهذا المناط ورد في مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال (عليه السلام): (ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جُعلتُ فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم أميل إليه من حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر)(2).

6- إنه يؤدي إلى عزل شارب الخمر ومقاطعته اجتماعياً مما يُشعره بحقارة نفسه فيكون رادعاً له عن شرب الخبيث.

ص: 227


1- سبل السلام: 1/165، الأمر السابع من تعداد النجاسات.
2- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح1.

فرع في تحديد موضوع الحكم بالنجاسة

اشارة

ذهب المشهور إلى اشتراك الخمر (التي قيل أنها اسم مخصوص للمتخذ من عصير العنب) وسائر المسكرات بالحكم بالنجاسة. وظاهر كلامهم الإطلاق دون التقييد بكون المسكر مما تعارف شربه أم لا.

وفي مقابل المشهور توجد عدة أقوال منها:-

1- نجاسة الخمر المتخذة من عصير العنب خاصة وطهارة ما سواها؛ وهو مختار السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وشيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف).

2- نجاسة المسكر المتخذ من الأصول الخمسة: العنب والزبيب والتمر والعسل والشعير؛ وهو مختار سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره).

3- نجاسة كل مسكر مما تعارف شربه دون غيره وهو مختار السيد الخوئي (قدس سره)؛ قال في تعليقته على العروة الوثقى: ((ويلحق به - أي الخمر- النبيذ المسكر، وأما الحكم بالنجاسة في غيره فهو مبني على الاحتياط، وأما المسكر الذي لم يتعارف شربه كالإسبرتو فالظاهر طهارته مطلقاً))(1).

ص: 228


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 3/82.

4- ما اخترناه من كون موضوع النجاسة هو ما يتعاطاه الفساق مما يصدق عليه عرفاً أنه خمر، وإن كان لها اسم آخر بحسب طريقة صنعها كالنبيذ والنقيع، فإنها التي يتوفر فيها ملاك الوجوه التي ذكرناها الموجب للتنفير والتقذير والتباعد مهما كان منشأ اتخاذه، ولا يشمل المسكرات التي لا يشير إليها العرف على أنها خمر.

والقولان الثالث والرابع وإن اختلفا مفهوماً إلا أنهما متّحدان مصداقاً فإن ما تعارف شربه هو ما يسمى خمراً عرفاً، لكن دليل السيد الخوئي (قدس سره) على هذه النتيجة مختلف عن دليلنا فإنه لمّا كان دليله على النجاسة صحيحة علي بن مهزيار بعد تساقط الطائفتين المتعارضتين أفاد في تقريب الاستدلال ((بأن الصحيحة إنما دلّت على نجاسة خصوص النبيذ المسكر)) ((ولا دلالة لها على المدّعى وهو نجاسة كل مسكر وإن لم يتعارف شربه)) ولم يعتمد على غيرها ((مما ورد في نجاستها لابتلائها بالمعارض))و ((أن المسكر ينصرف إلى المسكرات المتعارف شربها وأما ما لم يتعارف شربه بين الناس أو لم يمكن شربه أصلاً -وإن كان يوجب الإسكار على تقدير شربه- فهو أمر خارج عن إطلاق المسكر في الموثقة - أي موثّقة عمار-، ولا سيما بلحاظ عدم تحققه في زمان تحريم الخمر والمسكر لأنه إنما وُجدَ في الأعصار المتأخرة)) ويقصد (قدس سره) ((المادة الألكلية المعروفة بالسبرتو)) فهو (قدس سره) يعلم أن انصراف المطلق إلى فرد لا يقيّده به وهو ما بنى عليه في علم الأصول إلا أن يدّعى ظهوره فيه وانصرافه عمّا سواه فقال (قدس سره): ((فدعوى انصراف المسكر عن مثله - أي المسكر غير المتعارف شربه- ليست بمستبعدة)).

وفيه:-

1- إن الأحكام الشرعية مأخوذة على نحو القضايا الحقيقية لا الخارجية، فما دام الموضوع - وهو المسكر- منطبقاً على المادة المستحدثة جرى عليها حكمه وإن لم تكن معروفة في زمن صدور النصّ.

2- إن موثقة عمار مطلقة تشمل كل مسكّر سواء تعارف شربه أم لا وإن الانصراف عن الفرد وإن كان مانعاً من شمول المطلق له، إلا أن هذه

ص: 229

الدعوى في المقام غير ظاهرة من الروايات إذ أن العرف لا يأبى أن يكون الإسكار بعنوانه مناطاً للحكم بالنجاسة سواء تعارف شربه أم لا، نعم تتم هذه الدعوى إذا ضممنا الوجوه والملاكات التي ذكرناها، لكنه اعتمد (قدس سره) على الصحيحة خاصة وهي شاملة بإطلاقها لكل نبيذ مسكّر.

3- إن السبرتو المتخذ من الأخشاب المعروف بالكحول المثيلي مادة سمّية قاتلة إذا تمّ أخذه عن طريق الفم وليس من المسكرات فهو خارج موضوعاً عنها وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

وعلى أي حال فمنشأ الاختلاف في كلامهم (قدس الله أرواحهم) أمران:

(الأول) راجع إلى الموضوع بمعنى هل أن عنوان الخمر مختص بالعصير المتخذ من العنب أم أنه يشمل غيره فتكون كل أنواع المسكرات داخلة في العنوان ويشملها الحكم بالانطباق.

(الثاني) راجع إلى الحكم بمعنى أنه بعد التسليم أن عنوان الخمر مختص بالعنبي فهل أن الأدلة التي استدل بها على نجاسة الخمر شاملة لكل الأقسام أم أنها مختصة بالمتخذ من العنب أو غيره بحسب التفصيلات المتقدمة.والأول -لو تم- لا يغني عن الثاني خلافاً لما يظهر من السيد الشهيد الصدر الأول (قدس الله سره) حيث قال: ((المقام الثاني: في إلحاق المسكرات عموماً بالخمر إلحاقاً موضوعياً، لكي يكفي نفس دليل نجاسة الخمر للحكم بنجاسته))(1).

ووجه عدم الكفاية: أن عنوان الخمر حتى لو قيل بتعميمه فإنه لا يشمل كل المسكرات إذ العرف يطلقها على ما هو متعارف عند الفسقة بينما قد يكون الحكم - بحسب أدلة المشهور- شاملاً لكل المسكرات سواء صدق عليها خمر عرفاً أو لا.

ص: 230


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/457.

والذي يدقق في أدلة المشهور على التعميم يجدها تعالج كلا الأمرين ولكن من دون تصنيفها، لذا فسنصنّفها نحن في ضوء منشأي الخلاف وبالترتيب المتقدم، فالكلام في جهتين:

(الجهة الأولى) ما استُدل به على عموم العنوان وهي:-

(الأول) النصوص الدالة على تعميم عنوان الخمر لكل المسكرات كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الخمر من خمسة: العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب، والبتع من العسل، والمزر من الشعير، والنبيذ من التمر)(1).

وخبر علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيسِرُ» الآية: (أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر) وفيه (فأنزل الله تحريمها بعد ذلك وإنما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر والتمر، فلما نزل تحريمها خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقعد في المسجد ثم دعى بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفأها كلها وقال: هذه كلها خمر حرّمها الله فكان أكثر شيء أكفئ في ذلك اليوم الفضيخ ولم أعلم أكفئ يومئذٍ من خمر العنب شيء إلا إناءٌ واحد كان فيه زبيب وتمر جميعاً، فأما عصير العنب فلم يكن منه يومئذٍ بالمدينة شيء)(2) الحديث.

وصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل لم يحرّم الخمر لإسمها ولكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر)(2).

وخبر أبي الجارود قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن النبيذ أخمرٌ هو؟ فقال: ما زاد على الترك جوده فهو خمر)(3).

ص: 231


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 1، ح1، 5.
2- و(4) المصدر السابق، باب 19، ح1،4.
3- و(4) المصدر السابق، باب 19، ح1،4.

وخبر عطاء بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام، وكل مسكّر خمر)(1).وهذا الوجه قد يناقش في كفايته لإثبات المدعى من نجاسة كل مسكر وإن لم يكن شربه متعارفاً ولا يسمى خمراً. لأن صحيحة ابن الحجاج تخصّ الخمر المتخذة من الأصول الخمسة وصحيحة ابن يقطين ظاهرة في الإلحاق بحكم الخمر من حيث الحرمة.

فلا بد أن يتمم الاستدلال بأمور:-

1- إن صحيحة ابن الحجاج لا تدلّ على الحصر لأنها مسوقة لرفع توهم في ذهن السائل بأن الخمر من العنب خاصة فهي لا تمنع من الأزيد والذي يثبت بضم إطلاقات الروايات الأخرى وما دلّ على أنها من تسع(2) ونحوها.

2- إن إلحاق هذه الأفراد بالخمر موضوعي فيكون عنوانها شاملاً لكل أفراد المسكرات وتترتب عليها سائر أحكام الخمر من الحرمة والنجاسة وليس الإلحاق حكمياً خاصاً بالحرمة وإن هذا الإلحاق كان من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يعتبر كلامه المقدس مصدراً للتشريع كالقرآن الكريم ودلّت عليه أيضاً صحيحة الفضيل بن يسار الآتية.

(الثاني) تنصيص أهل اللغة؛ قال الراغب في المفردات: ((والخمر سُمّيت لكونها خامرةً لمقرّ العقل، وهو عند بعض الناس اسمٌ لكل مسكر، وعند بعضهم اسمٌ للمتخذ من العنب والتمر))(3).

ص: 232


1- المصدر السابق، باب 15، ح5.
2- نقل الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الآية «إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيسِرُ» عن ابن عباس قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الخمر من تسع: من البتع وهو العسل ومن العنب ومن الزبيب ومن التمر ومن الحنطة ومن الذرة ومن الشعير والسلت).
3- مفردات غريب القرآن: 159.

وفي مجمع البحرين عن ابن الأعرابي: ((إنما سمي الخمر خمراً لأنها تركت فاختمرت، واختمارها تغيّر ريحها، وقيل سميت بذلك لمخامرتها العقل، والتخمير: التغطية، ومنه ((ركو مخمر)) أي مغطى، والخمر فيما اشتهر بينهم: كل شراب مسكر، ولا يختص بعصير العنب. قال في القاموس: والعموم أصح لأنها حُرِّمت وما في المدينة خمر وما كان شرابهم إلا التمر والبسر))(1).

أقول: تكرّر نقل هذا المعنى في المصادر وهو مما لا يمكن إثباته بل تصديقه لأن الخمر كانت متفشية بشكل فضيع وإذا لم يكونوا يصنعونها من العنب فإنها تحمل إليهم، على أن عدم وجودها لا يضر بدلالة الآية لأنها لا تختصّ بما هو موجود.

ونقل صاحب الحدائق (قدس سره) عن كتاب الغريبين للهروي: ((الخمر ما خامر العقل أي خالطه وخمر العقل ستره وهو المسكر من الشراب)) وعن المصباح المنير للفيومي في الخمر إنها ((اسم لكل مسكر خامر العقل أي غطّاه))(2).أقول: يحتمل أن يكون أصل الخمر لغة هي المتخذة من عصير العنب، ففي لسان العرب: ((الخمر في اللغة عصير العنب المشتد وهو العصير الذي يسكر كثيره، وسمي خمراً لأنها بالسكر تغطي على العقل وأصله في الباب التغطية من قولهم (خمرت الإناء) إذا غطّيته))(3).

والدليل الشرعي يؤكده بوجوه:-

1- ما دلّ على أن تعميم حكم الخمر كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلحاظ هذه النكتة المشتركة كصحيحة الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (حرّم الله الخمر بعينها وحرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسكر من كل شراب فأجاز الله

ص: 233


1- مجمع البحرين للطريحي: 1/700.
2- الحدائق الناضرة: 5/115. (3) لسان العرب، لابن منظور: 4/255.

له ذلك)(1)ومثله خبر أبي الربيع الشامي وفي ذيله: (وما حرّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد حرّمه الله عز وجل)(2).

2- قوله (عليه السلام): (بعينها) يشير إلى هذا المعنى الخاص للخمر ثم تعميم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الاسم لكل مسكّر باعتبار تفويض أمر الدين إليه.

3- يؤيد مغايرة معنى الخمر لغيرها من المسكرات كالنبيذ وغيره عطفها عليها في جملة من الروايات المتقدمة والعطف يدل على المغايرة.

4- إن نفس ورود الروايات بإلحاق غير المتخذ من العنب كالنبيذ والفقاع بالخمر في مثل خبر هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الفقاع قوله (عليه السلام): (لا تشربه فإنه خمر مجهول وإذا أصاب ثوبك فاغسله)(3) دليل على المغايرة بحسب الأصل ولو كانت منها لما احتاجت إلى إلحاق.

وفي ضوء هذا ف-((إطلاق الخمر على غير العنبي المتخذ من العصير على سبيل المجاز أو الاستعارة من حيث المشاركة في الفعل وتغطية العقل، ويرشد إلى ذلك ما رواه في العلل بسنده عن محمد بن سنان قال: (سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: حرّم الله عز وجل الخمر لما فيها من الفساد ومن تغييرها عقول شاربيها ثم ساق ذلك إلى قوله: فبذلك قضينا على كل مسكر من الأشربة أنه حرام محرم لأنه يأتي من عاقبته ما يأتي من عاقبة الخمر)(4) ))(5).

أقول: هذه الوجوه كلها مردودة لذا يحتمل أن يكون عنوان الخمر موضوعاً حقيقة لكل شراب مسكّر، وإطلاقه على المسكر العنبي من باب الاستعمال لأنه

ص: 234


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب15، ح2، 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب15، ح2، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 27، ح8.
4- علل الشرائع، ج2، باب علة تحريم الخمر، ح1.
5- قلائد الدرر: 1/60.

فرد منه وينطبقعليه قهراً وليس أنه موضوعٌ له؛ قال ابن فارس في بيان أصل الكلمة: ((الخاء والميم والراء أصل واحد يدلّ على التغطية))(1).

ولكن اشتهار استعماله في العصير العنبي جعله متعيّناً فيه، فالروايات الشريفة التي وردت في تعميم عنوان الخمر هي لإزالة توهّم الاختصاص في الذهن ولإعادة عموم العنوان إلى أصله، وليس لإلحاق المسكر من غير العنب بالمسكر العنبي حتى يناقش بأن الإلحاق من حيث الحرمة لا يعمّ النجاسة، واختلاف كلمات اللغويين من جهة أنهم لا يميّزون بين المعنى الموضوع له والمعنى المستعمل فيه إلا البعض منهم كابن فارس.

وإن الاثنينية التي استدلوا بها على المغايرة منقوضة بما ورد في موثقة عبد الله بن بكير من عطف النبيذ على المسكر وهو فرد منه قطعاً فيمكن أن يكون عطف غير الخمر عليها من باب بيان الفرد الخفي وليس للمغايرة.

أما ما استدل به من كلمة (بعينها) فيمكن أن تكون بمعنى بذاتها أي بغضّ النظر عن كثرتها وقلّتها والشاهد على ذلك رواية أبي الربيع الشامي قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله حرّم الخمر بعينها فقليلها وكثيرها حرام)، ويمكن أن تكون مجاراة لما يعرفون أي أن الله تعالى حرّم الخمر التي يعرّفونها بالعصير العنبي وبيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شمولها لكل ما استحدثوه من الأشربة المسكرة.

ويؤيده أنهم يفهمون من الخمر سائر المسكرات في الروايات الواردة لبيان آثار شرب الخمر كعدم قبول صلاته وأنها من الكبائر وأن مدمن الخمر كعابد وثن وأنها مفتاح كل شرّ وأن من زوّج كريمته شارب الخمر فقد قطع رحمها وغيرها مما يستهجن العرف فهم الخمر على أنها عصير العنب خاصة.

ص: 235


1- معجم مقاييس اللغة: 2/215، مادة (خمر).

(الجهة الثانية) ما استُدل به على عموم الحكم وهي:-

(الأول) الإجماع ف-((المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن حكم جميع الأنبذة المسكرة حكم الخمر في التنجيس، قال في المعالم: ولا نعرف في ذلك خلافاً بين الأصحاب. والظاهر أن مراده: من قال من الأصحاب بنجاسة الخمر))(1) أي الإجماع المركب ((بمعنى أن كل من قال بنجاسة الخمر قال بنجاسة سائر الأشربة المسكرة، ومن قال بطهارته قال بطهارتها، فيتجه حينئذٍ الاستدلال عليها بكل ما دل على نجاسة الخمر من الإجماعات السابقة))(2).وفيه:-

1- إننا ناقشنا في أصل الإجماع على نجاسة الخمر بعدة وجوه.

2- إن الإجماع على التعميم غير متحقق فإن من ذهبوا إلى نجاسة الخمر اكتفى بعضهم بخصوص ما اتخذ من العنب أو أضاف إليها غيرها دون التعميم.

إن بعضهم صرّح بأن اختياره التعميم مبني على الدليل فالإجماع ليس تعبدياً، فقد حكى صاحب الحدائق قول المحقق (قدس سره) في المعتبر: ((والأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر لأن المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر)).

(الثاني) الملازمة بين حرمة شرب المسكر ونجاسته، فقد نقل السيد الحكيم (قدس سره) وغيره عن الناصريات أن ((كل من قال: بأنه محرم الشرب ذهب إلى أنه نجس كالخمر)) إلى أن قال: (( لا خلاف في أن نجاسته تابعة لتحريم شربه))(3).

وفيه: إن الملازمة غير ثابتة لعدم الدليل عليها، ومن قال بنجاسة الخمر فإنما استند إلى النصوص الظاهرة في ذلك وليس إلى هذه الملازمة.

ص: 236


1- الحدائق الناضرة: 5/111.
2- جواهر الكلام: 6/4.
3- مستمسك العروة الوثقى: 1/403.

(الثالث) ((بعض النصوص الواردة في مطلق المسكر، كموثّق عمار وصحيح ابن حنظلة المتقدمين، أو في خصوص النبيذ الذي قيل: إنه يُعمل من عامة الأشربة))(1).

ورد عليه السيد الخوئي (قدس سره) بضعف سند رواية ابن حنظلة لأنه لم يوثّق وإن كانت له مقبولة في بحث التعادل والترجيح.

وأما موثقة عمار فإنها معارضة ولا يمكن الاستدلال بها ((ونحن إنما حكمنا بنجاسة الخمر بصحيحة علي بن مهزيار ولم نعتمد فيه هذه الموثقة وغيرها مما ورد في نجاستها لابتلائها بالمعارض))(2).

وأن صحيحة علي بن مهزيار دالة على نجاسة خصوص النبيذ المسكر ((ولا دلالة لها على المدعى وهو نجاسة كل مسكر وإن لم يتعارف شربه)).

أقول:-

1- إننا ذكرنا في موضع سابق طريقاً(3) لتوثيق عمر بن حنظلة لذا سمّينا روايته بالمعتبرة والمصححة.

2- إن الأخبار لا تنحصر بهذه فقد ورد عنوان النبيذ المسكر في مرسلة يونس وخبر زكريا بن آدم وورد عنوان الفقاع في خبر هشام بن الحكم ومطلق النبيذ في صحيحة علي بن جعفر (السابعة) فالمناقشة في السند

ص: 237


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/404.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/89-90.
3- ملخّصه أن الكليني (قدس سره) روى بسند صحيح عن يونس عن يزيد بن خليفة قول الإمام الصادق (عليه السلام) في عمر بن حنظلة أنه (لا يكذب علينا) ويزيد وإن لم يوثَّق إلا أن رواية يونس لهذا الجزء من الرواية مع عدم ارتباطه بكلام الإمام (عليه السلام) المتعلق ببيان الحكم الشرعي شهادة من يونس بصحّته ولو لم يعلم يونس -وهو قريب العهد بعمر- بأهليّة عمر لهذا الكلام وصدق يزيد في نقله لما رواه خصوصاً مع عدم ارتباطه بالحكم المنقول وإنّ يونس من أجلاّء الأصحاب وفقهاء أصحاب الأئمة (عليهم السلام).

ونحوه من الأمور الجزئية التفصيلية غير قادح بعد حصول الاطمئنان بصدور المعنى في الجملة.

3- المفروض أنهم قد أسقطوا روايات الطائفة الثانية عن الاعتبار وأنها صدرت تقية بقرينة صحيحة ابن مهزيار فتبقى روايات الطائفة الأولى بلا معارض ويصح الاعتماد عليها، قال (قدس سره): ((إن الصحيحة قرينة على حمل أخبار الطهارة على التقية وذلك لأنها لم تنفِ صدور الحكم بطهارة الخمر عن الصادقَين (عليهما السلام) وإنما دلّت على لزوم الأخذ بما دلّ على نجاستها فبذلك لا بدّ من حمل أخبار الطهارة على التقية، فلعلّها صدرت موافقة لعمل أمراء العامة وحكّامهم وسلاطينهم لبعد اجتنابهم عن الخمر، فإذا سقطت أخبار الطهارة عن الاعتبار فلا محالة تبقى أخبار النجاسة من غير معارض بشيء))(1).

وهو (قدس سره) ممن لا يقول باختصاص عنوان الخمر بالمتخذ من العنب حتى يقال أن هذا الكلام منه (قدس سره) خاص بروايات الخمر المتخذ من العنب لا كل الروايات الدالة على نجاسة المسكرات، وحينئذٍ لا ينحصر الدليل بالصحيحة ويمكن الاستدلال بمعتبرة ابن حنظلة وموثقة عمار ((وقد دلّت الموثقة على نجاسة المسكر مطلقاً وإن لم يتعارف شربه)) كما أقرّ (قدس سره).

وقد دفع (قدس سره) هذا الإشكال بوجهين:-

1- ما نقلناه عنه (قدس سره) من انصراف لفظ المسكر عما لم يتعارف شربه لدى الناس وقد ناقشناه.

2- ((إن الموثقة معارضة فإن الأخبار الواردة في الخمر والمسكر على طوائف أربع: الأولى والثانية: ما دلّ على نجاسة الخمر وما دلّ على طهارتها. الثالثة: ما ورد في طهارة المسكر مطلقاً وهي موثقة ابن بكير قال: (سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن المسكر والنبيذ

ص: 238


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/88.

يصيب الثوب؟ قال: لا بأس). الرابعة: ما ورد في نجاسة مطلق المسكر كما في موثقة عمار والصحيحة المتقدمة، وقد أسلفنا أن ما دل منها على نجاسة الخمر متقدمة على معارضتها للصحيحة المتقدمة، وأما ما دلّ على نجاسة مطلق المسكر وطهارته فهما متعارضان ولا مرجّح لأحدهما على الآخر، لأن فتوى العامة وعملهم في مثل المسكر غير المتعارف شربه غير ظاهرين فالترجح بمخالفة العامة غير ممكن ولا مناص معه من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الطهارة، وهي تقتضي الحكم بطهارة كل مسكر لا يطلق عليه الخمر عرفاً)).

أقول: إن هذا التحليل لا يمكن المساعدة عليه لأمور:-

1- إن هذا الجمع مما لا يقبله العرف لو ألقي إليه لأنه مبني على تصنيف الروايات بحسب العناوين المأخوذة موضوعاً للحكم، والعرف يرى أن العناوين كالخمر والنبيذ لم تلحظ بحدودها وإنما أريد بها معنىً مشتركاً لها جميعاً لذا فقد ورد فيها الخمر تارةً والنبيذ تارة أخرى والنبيذ المسكر ثالثة والفقاع رابعة والمسكر خامسة ووردت مجتمعة في أكثر الروايات ومتداخلة، فيفهم العرف أن المقصود بها جميعاً شيء واحد وهو ما يسمّيه العرف خمراً مما يتعاطاه الفسّاق سواء كان اسمه لغةً خمراً أو نبيذاً أو فقاعاً، ويمكن أن يكون ورودها إلى جانب لفظ الخمر في بعض الروايات لبيان الفرد الخفي حيث خفي على الكثيرين كما دلّت عليه عدة روايات متقدمة كون النبيذ المسكر من الخمر نجاسة وحرمة.

2- إننا ناقشنا في صلاحية صحيحة ابن مهزيار للترجيح أصلاً، ولو صلحت للترجيح فإنها لا تختص بالخمر الذي ذكره السائل لأن خبر أبي عبد الله (عليه السلام) الذي أمر الإمام (عليه السلام) بالأخذ به ذكر الخمر والنبيذ المسكر فالترجيح بالصحيحة شامل للعناوين الأخرى.

3- بعد ما نقلناه من اعترافه (قدس سره) بسقوط روايات الطائفة الدالة على الطهارة وأن التساقط شامل لكل الروايات وليست المختصة بالمتخذ من العنب (بدلالة نفس صحيحة علي بن مهزيار)، يصبح هذا التحليل

ص: 239

سالبة بانتفاء الموضوع ولا معنى للتعاطي مع الروايات الدالة على الطهارة من جديد.

4- إن كلامه (قدس سره) مشوّش فإنه قسّم الروايات بلحاظ الخمر (المتخذة من العنب) وغيرها من المسكرات ورجّح نجاسة الخمر بصحيحة ابن مهزيار وأجرى التساقط والرجوع إلى أصالة الطهارة في غيرها فلم يبقَ له دليل على نجاسة ما سوى الخمر، فمن أين خرج بنتيجة نجاسة ما صدق عليه خمر عرفاً وهذا مفروض في التقسيم؟ ولو قال (قدس سره) أننا نريد بالخمر في الطائفتين الأولى والثانية ما صدق عليه عرفاً أنه خمر فإنه لا تبقى فائدة للتقسيم بعد الذي قاله من انصراف المسكر عن ما لم يتعارف شربه المسمى خمراً.

لذا فالإشكال باقٍ عليه (قدس سره) من حيث إطلاق ما ورد في الروايات الدالة على نجاسة الخمر.

أما السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فقد قسّم ما سوى الخمر من المسكرات إلى ثلاثة أقسام وهو مأخوذ من تدرّج فتوى السيد الخوئي (قدس سره) في تعليقته على العروة وقد نقلناها (صفحة 228)، ونمشي معه (قدس سره) وإلا فإن هذا التقسيم لا وجه له من الروايات التي هي الدليل في المقام، فإن عنوان الخمر والنبيذ والمسكر مذكورة معاً في الروايات مما يحصّل الاطمئنان بأنها لم تكن مرادة بعناوينها الخاصة، وإن الأدلة التي استدلوا بها على نجاسة الخمر كصحيحة علي بن مهزيار وموثقة عمار غير مختصّة بها حتى يتناولوها في بحث مستقل ثم يبحثون في إلحاق غيرها. فهذا التقسيم لا وجه له والأقسام هي:-

1- المسكر من النبيذ؛ واستدل على طهارته بنفس منهجه السابق من تقسيم مراتب الدلالة للروايات المتعارضة فقال (قدس سره): ((إن روايات النجاسة من المرتبة الثالثة والرابعة كانت مخصوصة بالخمر، وعليه فروايات نجاسة النبيذ المسكر ذات مرتبتين:

ص: 240

فمن المرتبة الأولى: رواية عمار(1) ورواية علي بن مهزيار؛ إذ ورد فيهما عنوان النبيذ، ولا يمكن عرفاً حملها على التنزه.

ومن المرتبة الثانية: رواية عمار(2) التي ورد فيها عنوان المسكر في مقابل الخمر والمتيقن منه النبيذ ورواية علي بن جعفر الواردة في النبيذ، ولا يكون دليلاً على طهارة الخمر)).

أما الروايات الدالة على طهارة النبيذ فعلى مراتب، قال (قدس سره):

((الأولى: ما دلّ بالصراحة على الطهارة، وهو كل ما كان صريحاً في طهارة الخمر(3)

ورواية عبد الله بن بكير التي وردت في النبيذ.

الثانية: ما دلّ بالظهور على طهارة الخمر على تقدير وجوده، ويضاف إليه رواية أبي بكر الحضرمي.

الثالثة: ما دلّ بالإمضاء السكوتي على طهارة النبيذ وهو خبر كليب بن معاوية.

وعلى هذا الأساس يتساقط الصريحان والظهوران، ويتشكّل من المرتبة الثالثة من أخبار الطهارة ما يكون بمثابة المرجع الفوقاني. ولو قطع النظر عن هذه المرتبة تم التساقط المطلق والرجوع إلى الأصول النافية))(4).

ص: 241


1- وهي الإضافة التي ذكرها الشيخ (قدس سره) لموثقة عمار: (سأله عن الإناء يشرب فيه النبيذ فقال: تغسله سبع مرات وكذلك الكلب) (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 30، ح2، وذكره في الباب 35، ح2 أيضاً).
2- يعني موثقة عمار (السادسة) من الطائفة الأولى.
3- وكأنه (قدس سره) ضم إليها الأولوية وعدم وجود قائل بنجاسة النبيذ وطهارة الخمر.
4- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/449-450.

أقول: ناقشنا هذا المنهج منه (قدس سره) كما ناقشناه صغروياً فلا حاجة للتكرار.

2- المسكر من غير النبيذ ما هو معدٌّ للشرب وقد حكم بطهارته وعلّله (قدس سره) ب-((أنّا إذا قلنا بطهارة النبيذ المسكر فغيره طاهر أيضاً، كما هو واضح)).

أقول: لا نعلم منشأً لهذا الوضوح إلا القياس، فلا بد أن ينظر فيه كما نُظر في غيره لوجود إطلاق في موثقة عبد الله بن بكير يدل على طهارة كل مسكر فإذا خرج عنوان الخمر والنبيذ بأدلة خاصة فهذا لا يلغي الإطلاق، نعم قد يصوَّر التعارض هنا بين هذه الموثقة وموثقة عمار التي ذكر فيها عنوان المسكر.

3- ((المسكر المائع غير المتعارف شربه خارجاً، وهذا عنوان ذكره السيد الأستاذ -أي السيد الخوئي (قدس سره)- لتطهير الإسبرتو)). وهو ما سنناقشه بإذن الله تعالى في عنوان مستقل.وخلاصة البحث في هذا الفرع أن التعميم الذي قال به المشهور بنجاسة كل المسكرات حتى ما لم يتعارف شربه هو الصحيح على مبانيهم لأنهم رجّحوا روايات الطائفة الأولى وأسقطوا روايات الطائفة الثانية عن الاعتبار وفي الطائفة الأولى مطلقات لكل مسكر كموثقة عمار ومعتبرة عمر بن حنظلة.

مضافاً إلى احتمال قريب وهو أن يكون عنوان الخمر في الروايات شاملاً لكل المسكرات التي يتعاطاها الفساق مما يصدق عليها أنها خمر عرفاً خصوصاً الصادرة عن الصادقين (عليهما السلام) ومن بعدهما من الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم).

أما القول باختصاص النجاسة بالمتخذ من العنب فلم يتم عليه.

ملاحظة:

إن من يقول بتعميم الحكم بالنجاسة لكل المسكرات ولا يقول بنفس العموم لِلَفظ (الخمر) سيأتي عليه إشكال من جهة أنه يقول بطهارة الخمر إذا انقلبت خلاً، ومن المعلوم أن هذا الحكم ليس مطابقاً للقاعدة - كالاستحالة-

ص: 242

لوجود خصوصيات فيه كطهارة الإناء مما يجعله مختصاً بالخمر. ولو راجعت رسائلهم العملية لما وجدتهم يذكرون غير الخمر بل إن الشهيد الصدر (قدس سره) خصّ الخمر حتى بالعنوان فلم يذكر الانقلاب، فقال (قدس سره): ((والمطهر الثالث: تحول الخمر خلاً..))(1).

فإذا ضممنا إلى ذلك أن كل النصوص(2) التي وردت في مطهّريّة الانقلاب كان موضوعها الخمر، فما وجه تعميمهم الحكم حينئذٍ إلى الأزيد من مدلول لفظ الخمر؟

ص: 243


1- الفتاوى الواضحة للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره).
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب77، وكتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 31.

المسألة محل البحث

الكحول هو روح الخمر حتى سميت المسكرات بالمشروبات الكحولية التي تحتوي على نسب مختلفة من الكحول، وتشير الدراسات التأريخية ((والتحليلات الكيميائية لآثار محفوظة في أواني خزفية من شمال الصين أن العديد من المشروبات المخمرة من الرز والعسل والفواكه تم إنتاجها قبل حوالي تسعة آلاف سنة وهذه تقريباً نفس الفترة التي بدأ بها تصنيع بيرة الشعير ونبيذ العنب في الشرق الأوسط. تم إيجاد العديد من الألواح الطينية والآثار الفنية في بلاد ما بين النهرين التي أظهرت أشخاصاً يستخدمون القصب لشرب البيرة من أواني كبيرة))(1) مما يعني أن هذا الإثم الكبير رافق مسيرة الإنسان المبتلى بتسويلات الشيطان والنفس الأمارة بالسوء منذ فجر التاريخ.

والكحول كلمة عامة لأي مركب عضوي يحتوي على جذر الهيدروكسيل (OH) والكاربون والهيدروجين وتسمى كحولات أحادية وثنائية وهكذا بحسب عدد جذر الهيدروكسيل في المركب.

والكحولات بأنواعها لها طرق لإنتاجها بعضها كيميائية صناعية والأخرى طبيعية، والمركب الرئيسي الفعال في المشروبات الكحولية هو الإيثانول وهو سائل طيّار عند الحرارة العادية، أقل كثافة من الماء ويذوب بسهولة فيه، كما أنه لاذع الطعم قابل للاشتعال ويتم تكوينه بطريقة التخمّر، ومصدره الفواكه مثل العنب والتمر والزبيب والخوخ والموز أو من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة والرز ويصنع من العسل والبطاطس والسكر وغيرها.

ولأجل تحسين نوع المشروب - من وجهة نظر الفساق- وتركيز الكحول للتخلص من بعض المنتجات الجانبية لعملية التخمر يصار إلى تقطير المنتج المخمر.

ص: 244


1- الموسوعة الحرة ويكيبيديا، موقع على الإنترنت http://ar.wikipedia.org .

وقد ذكرنا في بداية البحث فكرة عن شروط وظروف عملية التخمير وقلنا فيها أن الكحول المثيلي المتخذ من الأخشاب وغيرها مادة سامة وقد يضاف مقدار منها إلى الكحول الأثيلي المتخذ بطريقة التخمير لمنع الفساق من تناوله وتخصيصه للاستعمالات الأخرى كالمجال الطبي وصبغ الأخشاب ومذيب للأصباغ وغيرها.

والأدلة على نجاسة الخمر مختصة بما صُنِعَ بطريقة التخمير ومنصرفة عن المصنّع بالطرق الأخرى، فحكم الكحول مبني على كيفية اتخاذه.

وفي ضوء النتيجة التي انتهينا إليها وهي عدم وجود دليل تام على نجاسة الخمر وإنما بنينا عملاً على نجاسة ما صدق عليه عرفاً أنه خمر لملاكات ذكرناها، فإن (الإسبرتو) وغيره حتى لو اتخذ بطريقة التخمير الطبيعي فإنه لا إشكال فيه من حيث النجاسة لعدم صدق عنوان الخمر عليه عرفاً.أما النتيجة التي تنتهي إليها أدلة المشهور فالمفروض أنها الحكم بنجاسة كل مسكر حتى لو لم يتعارف شربه، ولو تمسّكاً بصرف إطلاق عنوان المسكّر فإنه يشمل المسكرات عن طريق غير الفم، أعني بالشم كالذي يقال عن السبرتو والثنر والسيكوتين لكن يمكن الاطمئنان هنا بأن لفظ المسكر في الروايات منصرف عن مثلها.

وأخرج السيد الخوئي (قدس سره) المسكرات مما لم يتعارف شربها عن الحكم بالنجاسة، وقد نقلنا كلامه (قدس سره) ومناقشتنا له، ونسبه إلى أستاذه النائيني (قدس سره) حيث نقل عن بعض أقرانه من مقرّري بحث الأستاذ قوله (قدس سره): ((إن ما ورد في المنع عن بيع الخمر والمسكر من الروايات منصرفة عن المادة المعروفة بالألكلية - أي الكحولات- وإن المطلقات إنما تشمل المسكرات المتعارفة التي هي قابلة للشرب دون ما لم يتعارف شربه))(1).

ص: 245


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/90.

أقول: تقدم أن هذا الانصراف غير واضح لإطلاق المسكر وعدم وجود ما يقيّده حتى على نحو الارتكاز العرفي ومناسبات الحكم والموضوع إذ قد يرى العرف أن الحكم بالنجاسة بعلة الإسكار بذاتها حتى لو لم يتعارف شربه.

ويكون الإشكال عليهم أكبر فيما لو فهمنا (الخمر) بمعنى اسم المفعول أي (المخمَّر) لا اسم المصدر، وقد ورد هذا المعنى في بعض النصوص التي ذكرناها في توسعة معنى الخمر موضوعاً.

وأضاف السيد الخوئي (قدس سره): ((وأما المتخَذة من الخمر المعبَّر عنها ب-(جوهر الخمر) التي تتحصل بتبخيرها وأخذ عرقها فهي أيضاً كسابقتها غير محكومة بالنجاسة بوجه، لما قدّمناه في محلّه من أن التبخير يوجب الاستحالة وهي تقتضي الطهارة كما في بخار البول وغيره من الأعيان النجسة))(1).

أقول: هذا قياس مع الفارق لأن الذي يعمل للخمر ليس استحالة وإنما هو تقطير لتركيز نسبة الكحول وإزالة المواد العرضية التي نتجت من عملية التخمير كما قدمنا.

ونفى السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) أن يكون السبرتو -المتخذ من الأخشاب المستعمل لتحليل بعض المواد والعناصر- من المسكرات وإنما هو سمٌّ محض وهو المسمى بالكحول المثيلي.

كما نفى أن يكون الإسبرتو المتعارف في الاستعمالات الطبية متخذاً من الخمر ((فإن المتعارف لا يتخذ من الخمر، وإنما تتخذ من الخمر الطبيعي الخمور المركّزة التي يعتادها أهل الفسوق والفجور))(2).

أقول: هذه الدعوى غير مطابقة للواقع في العراق على الأقل ففي زمنه (قدس سره) كان الإسبرتو يصنع بتخمير التمر - لتوفّره ورخص ثمنه- ويخلط بشيء من الميثانول السام ليصبح غير قابل للاستهلاك البشري، وهذا طبعاً لا يوجب طهارته.

ص: 246


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/93.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/456.

قال (قدس سره): ((وأما ما هو المتعارف في المجال الطبي خارجاً فلا يؤخذ من الخمر، بل من مواد أخرى ولا شك في كونه مسكراً، وفي أن سمّيّته أحياناً ليست إلا بسبب إضافة بعض السموم إليه، وإن عدم تعارف شربه لدى الفساق نشأ من ذلك)).

واعترف (قدس سره) بأن ((طهارته مبنية على دعوى اختصاص النجاسة بالخمر، أي المسكر المتخذ من العصير العنبي)).

ونتيجة البحث في المسألة أن مفاد الروايات -على مبانيهم-عموم الحكم بالنجاسة لكل المسكرات سواء تعارف شربها أو لا وسواء سميت خمراً عرفاً أو لا عند كل من بنى على نجاسة الخمر اعتماداً على ترجيح روايات الطائفة الأولى، أما نحن فلم تتم عندنا دلالة تلك الروايات على النجاسة وإنما بنينا عملاً على نجاسة خصوص ما سمّي خمراً عرفاً مما يتعاطاه الفسقة.

نكتة: قال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): ((وهذا الذي استقربناه من اختصاص الخمر بالمسكر العنبي لغة يطابق نكتة واقعية أيضاً، وهي: أن الكحول - التي هي مادة الإسكار- الأصل فيها هو سكر العنب، وحينما يراد اتخاذ المسكر من غير العنب يتعيّن تحويل سكره إلى سكر عنبي ثم يحوَّل إلى الخمر.

ولعل هذا الاكتشاف يبرز السر في أن العنب خصِّص من بين سائر المواد التي يصنع المسكر منها بالروايات(1)

الدالة على أن حصة من العنب للشيطان))(2).

أقول: هذه النكتة ذكرها (قدس سره) ضمن الأجواء التي كان يعيشها (قدس سره) من مواجهة المادية وإبراز أن العلم والدين صنوان، وإلا فإنها لا أهمية لها في الاستنباط الفقهي لأمور:-

1- إن الروايات ذكرت حصة للشيطان في النخلة أيضاً.

2- إنه منقوض - على مبانيه- بنبيذ الزبيب الذي هو عنب مجفف ولم يقل بنجاسته.

ص: 247


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب22.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/459.

3- إن سكر العنب (الكلوكوز) لا يختص بالعنب إذ يراد به السكريات الأحادية البسيطة والعنب أحد مصادرها.

4- إن هذه الخصوصية لو كانت للعنب لكان الأولى مراعاتها في جانب الحرمة كما يظهر من سياق الروايات بينما الحرمة تشمل كل مسكر.

ص: 248

ملحق:

في النسبة المسموحة من الكحول من حيث الحلية

استثنى جملة من الفقهاء المعاصرين -ومنهم السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)- من حرمة تناول الكحول حالة ((كون نسبة الكحول إلى مجموع الغذاء والدواء مستهلكة عرفاً، بحيث يكون وجودها ملحقاً عرفاً بالعدم، وهذا لا يكون أكثر من 1.5% وإن كان أكثر لا يكون بمستهلك، وأما إذا كان بهذه النسبة وأقل فهو مستهلك ويجوز تناوله))(1)

وسمعت منه (قدس سره) مباشرة نسبة هذا القول إلى أستاذه الشهيد السيد الصدر الأول (قدس سره).

وقال السيد السيستاني (دام ظله الشريف): ((يجوز تناولها - أي الأدوية والمأكولات المحتوية على الكحول- أو شربها أيضاً إذا كانت نسبة الكحول ضئيلة جداًك- 2%))(2).

أقول: كلامهم مطلق من حيث أصل الكحول أي من دون فرق بين كون الكحول مصنّعاً طبيعياً بالتخمير أو بتحضيره من تفاعلات كيميائية ومطلق من حيث كون هذه النسبة المسموحة هي كحول مضاف إلى الغذاء والدواء أم أنها نسبة من الكحول تتكون عند تحضير هذا الدواء أو الغذاء، بل إن ظاهر كلماتهم خصوصاً السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) الآتي في أن الكحول متخذ من الأصول الخمسة.

واستثناؤهم هذه النسبة يكشف عن مشكلة في الأكبر من ذلك وهي إما النجاسة أو الحرمة ولا يحتمل الأول لأن النجس وما يحتويه وملاقيه لا يجوز تناوله مهما كان ضئيلاً، وهذا الاستهلاك المفروض لا يطهر المجموع، وصرّح بذلك سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في إجابته عن سؤال بخصوص وجود نسبة من الكحول في بعض العصائر، قال (قدس سره): ((إن كان العصير مستخرجاً من التمر أو العنب أو العسل أو الشعير فكحوله نجس

ص: 249


1- ما وراء الفقه: 7/209 طبعة بيروت.
2- الفقه للمغتربين، السيد عبد الهادي الحكيم، ط3، ص86، المسألة (37).

وشربه حرام، وإن كان مستخرجاً من مواد أخرى فكحوله طاهر ولكن لا يجوز شربه إلا إذا كانت نسبة الكحول فيه 1.5 بالمئة أو أقل))(1).

أما السيد السيستاني فقد نقلنا قوله بطهارة الكحولات بكل أنواعها.

فالإشكال من حيث الحرمة؛ وتعبيرهم بالاستهلاك يشعر بذلك إذ أن الاستهلاك لا يطهّر النجس ومنشأ الحرمة إما هو إيقاع الضرر البليغ بالنفس وهذا غير محتمل من كلامهم وإما الإسكار كما هو واضح وحينئذٍ يرد على هذا الترخيص عدة أمور:-

1- إن دعوى الاستهلاك مخالفة للوجدان فإن إضافة 1.5-2% لتراً من المسكر إلى مائة لتر من الماء لا يعتبر استهلاكاً والوجدان يقطع بوجوب اجتناب الكل.

2- إنه مخالف لعدة طوائف من الروايات:(منها) ما دلّ على حرمة المسكر مهما كان قليلاً كصحيحة كليب الأسدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب الناس فقال: إيها الناس ألا إن كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام)(2).

(ومنها) ما دلّ على أن خلط المسكر مهما قلّ بالماء الكثير لا يحلّه كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) من حديث وفيه: (فقلت: فقليل الحرام يحلّه كثير الماء؟ فرددّ بكفّه مرتين: لا، لا)(3) وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) من حديث: (فأكسره بالماء؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام: لا وما للماء يحللّ الحرام، اتق الله عز وجل ولا تشربه)(4) ومعتبرة عمر بن حنظلة

ص: 250


1- مسائل وردود: ج2، ص71، مسألة 284.
2- توجد روايات بهذا المعنى في وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 17.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 17، ح1، 7.
4- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 17، ح1، 7.

المتقدمة وفيها: (لا والله ولا قطرة قطرت في حبّ إلا أهريق ذلك الحب) وصحيحة كليب بن معاوية المتقدمة.

(ومنها) روايات نزح البئر المتقدمة حيث أمر الإمام (عليه السلام) بنزح ماء البئر كله إذا صبّ فيها خمر ولا شك أن نسبته أقل من النسبة المذكورة التي ادعي فيها الاستهلاك.

3- إننا انتهينا في البحث إلى نتيجة مفادها أنه على مبانيهم يكون كل مسكر نجساً، وقرّبنا الآن أن لازم كلامهم كون هذا الكحول مسكراً فيكون نجساً و (ما يبل الميل ينجّس حباً من ماء) كما ورد في خبر أبي بصير فلا معنى للترخيص فيه.

فتصحيح الرخصة بوجود مثل هذه النسبة في الغذاء أو الدواء لا بد أن يكون بوجوه:-

1- أن يكون هذا الكحول المضاف مصنّعاً بطريقة كيميائية وليس بالتخمير الطبيعي وأن لا يكون مسكراً.

2- أن لا نفهم من هذه النسبة أنها مقدار من الكحول مضاف إلى الدواء أو الغذاء بهذه النسبة لوجود الإشكالات المتقدمة وإنما هي نسبة متكونة من الكحول عند تصنيع الغذاء أو الدواء كالذي يحصل عند اختمار عجين الخبز أو تكوّن الخل.

ففي صناعة الخل ذكرنا في مقدمة البحث أن تحول السكريات إلى كحول لما كان تدريجياً فبمجرد نبذ التمر أو الزبيب في الماء وتعريضه للتخمير أو تخمير العصير العنبي لا يعني حرمته ونجاسته لعدم تحقق عنوان الخمرية والإسكار وقد وردت روايات في ذلك ومنها صحيحة صفوان الجمال وفيها: (فكان ينقع الزبيب غدوةويشربونه بالعشي وينقّعه بالعشي ويشربونه غدوة)(1) الحديث،

ص: 251


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب17، ح3.

ويحدد خبر(1)

محمد بن عاصم المدة بستة أيام فقد روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بشرب العصير ستة أيام)(2) وخلال هذه المدة تتكون نسبة من الكحول لا نعلمها بالضبط وهي تتأثر بالعوامل التي ذكرناها أول البحث ومنها كون الظروف (لا هوائية) أي أن العصير غير معرّض للهواء.

وذكرت المصادر الكيميائية: ((أن 75% من السكريات القابلة للتحول إلى كحول تتحول خلال 35 ساعة من بدء التفاعل أي أن 15% من السكر الموجود في المحلول يتحول إلى كحول باعتبار ما قلناه أول البحث: أن نسبة السكر في المحلول المخمّ-ر هي 20% ويتكامل التفاعل والتحول وتتحول كل السكريات القابلة للتحول إلى كحول خلال ثلاثة أيام))(3) ولا تنافي بين خبر

ص: 252


1- روه الكليني في الكافي بسند صحيح إلى ابن أبي عمير عن محمد بن عاصم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ولم يرد توثيق محمد بن عاصم إلا أنهم بنوا على توثيقه لرواية ابن أبي عمير عنه، ولوروده في إسناد كامل الزيارات وعلى حسن حاله بما روى الكشي عنه أن الإمام الرضا (عليه السلام) نهاه عن مجالسة الواقفة (راجع معجم رجال الحديث: 16/216، ومستدركات علم رجال الحديث: 7/147).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب3، ح2.
3- القول الفصل في أحكام الخل: 150، الطبعة الثانية، وجاء في الهامش: ((سعيتُ بالمقدار الممكن لتحصيل مخطط بياني يوضّح العلاقة بين نسب الكحول المتكونة خلال الأزمنة المختلفة وستأتي الإشارة إليه فإنه نافع لمعرفة نسبة الكحول المتكونة بعد ستة أيام ومع قطع النظر عنه فإن النسبة المتكونة في الأيام الأولى تمثل الحصة الأكبر من الكحول المتكون (الذي تبلغ نسبته في الحالة القصوى 18%) ولنا على ذلك أكثر من شاهد:- 1- إن نسبة الكحول تتكون بسرعة في الأيام الأولى باعتبار زيادة المواد السكرية الموجودة ومع نقصانها تنقص هي أيضاً. 2- إن هذا التصرف في التفاعلات بين المواد مألوف جداً ويعرفه من درس (تكنولوجيا المواد) وأتكلم عن تجربتي الخاصة -كمهندس مدني- فإن الخرسانة (الكونكريت) تكتسب قوتها العظمى بعد (28) يوماً إلا أن 90% من قوتها يحصل بعد أسبوع أي بعد ربع المدة)).

محمد بن عاصم وهذه المعلومات الكيميائية لأن هذه المصادر تتحدث عن التخمير بواسطة الإنزيمات والعوامل المسرّعة للتفاعل، أما المدة المذكورة في الرواية فإنها بلحاظ وضع العصير في الظروف الطبيعية.

وعلى أي حال فإن عنوان الخمر والإسكار يتحقق بوصول نسبة السكر المتحول إلى كحول إلى نسبة معينة افترضها السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) 1.5% ولا أعلم منشأ هذا التحديد ولم يعلمني به السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عندما سألته سوى أنه تبع بها أستاذه الصدر الأول (قدس سره).وربما كان وجهه أن كل المواد التي تحصل فيها تخمرات كعجين الخبز أو الخل المنقلبة عن الخمر تحتوي على نسبة من الكحول مقاربة لهذه النسبة وهي مقطوعة الحلية شرعاً فهذه النسبة مسموحة.

وبالنسبة لنا فلا إشكال من حيث النجاسة بحسب ما انتهينا إليه من البحث، ولا إشكال من حيث الحرمة لأن الكحول الموجود في الأدوية والأغذية ليس مادة كحولية مسكرة تضاف إلى هذه المواد وإنما مركبات كيميائية صناعية تدخل في تركيب هذه المواد ونسبتها ضئيلة جداً تقل عن 1 بالألف أحياناً.

والحمد لله وحده.

ص: 253

ص: 254

البحث الخامس: طهارة غير المسلم

اشارة

ص: 255

ص: 256

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الخامس: طهارة غير المسلمين

البحث الخامس: طهارة غير المسلمين(1)

وهم على قسمين: كتابيون وغير كتابيين.

القسم الأول: غير الكتابي

((ونجاسته عند الإمامية إجماعية، وحكاية الإجماع على نجاسته بخصوصه من المحقق وجماعة، وعلى نجاسة مطلق الكافر الشامل له من طائفة، منهم: الشيخ والناصريات والانتصار والسرائر والغنية والمنتهى والتذكرة والنهاية: مستفيضة. وهو الحجة عليها))(2).

((وإذا انضم إلى هذه الاستفاضة الاطلاع المباشر على فتاوى عدد كبير من علمائنا، وعدم العثور على خلاف معتد به، بل على مطلق الخلاف في المشرك ونحوه من أقسام الكفار، وما هو الملحوظ من ارتكازية الحكم بالنجاسة في أذهان مختلف طبقات الطائفة استخلصنا من ذلك كله الوثوق بحصول إجماع تعبدي على

النجاسة بنحو يكشف عن تلقي ذلك من الأئمة (عليهم السلام)))(3).

ويناقش هذا الإجماع صغروياً وكبروياً:-

1- المناقشة في الصغرى إذ لم يصرح جملة من القدماء بنجاسة الكافر ولم يذكروه مع أعيان النجاسات التي أفردوا لها باباً(4).

ص: 257


1- (*) بدأ إلقاء البحث يوم 22/ذو الحجة/1429 الموافق 2008/12/21.
2- (*) بدأ إلقاء البحث يوم 22/ذو الحجة/1429 الموافق 2008/12/21. مستند الشيعة للنراقي: 1/196.
3- بحوث في شرح العروة الوثقى للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): 3/304.
4- راجع الفقيه: 1/29 ، باب: ما ينجس الثوب والجسد، والتهذيب: 1/136، باب: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، والاستبصار: 1/100، أبواب: تطهير الثياب والبدن من النجاسات.

وإنما ذكروا أحكاماً مختلفة مرتبطة بالكفار في أبواب مختلفة كعدم الوضوء والشرب من سؤرهم، أو غسل اليد عند مصافحتهم، أو غسل آنيتهم عند استعمالها، أو عدم مؤاكلتهم.

قال السيد المرتضى (قدس سره): ((ومما انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكل كافر وخالف جميع(1)

الفقهاء في ذلك))(2).وقال الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) ((ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الإسلام وأشد من ذلك سؤر الناصب))(3).

وهكذا غيرهما ((ولهذا لا نجد تعرضاً لنجاسة الكافر بهذا العنوان في جملة مما وصل إلينا من عبائر الأقدمين، كهداية الصدوق ومقنعه وفقيهه والمقنعة للمفيد ونحو ذلك))(4) وهذه الأحكام التي ذكروها بحسب ما ورد في الروايات الشريفة، وانتزعوا منها عنوان نجاسة الكافر باعتبارها من آثار

ص: 258


1- حكم أئمة المذاهب الأربعة بطهارة الإنسان مطلقاً مسلماً كان أو كافراً وطهارة سؤره إلا أن يتنجس بنجاسة عرضية كما لو تنجّس ظاهر فمه بالخمر وقالوا إن ((دليل طهارة سؤر الآدمي مطلقاً: ما رواه أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس) )) (الفقه الإسلامي وأدلته، د.وهبة الزحيلي، الطبعة الثالثة، مج1، صفحة 282) ونُقل عن الفخر الرازي في تفسيره (ج16/صفحة 24) قوله: ((اعلم أن ظاهر القرآن «إِنَمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ» يدل على كونهم أنجاساً، فلا يرجع إلا بدليل منفصل، ثم نقل وجوهاً في تأويل الآية المباركة وعقّبها بقوله: اعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل)) (التنقيح في شرح العروة الوثقى من موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 3/37).
2- الانتصار: 10.
3- من لا يحضره الفقيه، ج1، كتاب الطهارة باب المياه وطهرها ونجاستها، ذيل ح 11.
4- بحوث في شرح العروة الوثقى للشهيد الصدر الأول: 3/314.

النجاسة. لكن يمكن القول أن هذه اللوازم أعم من الحكم بالنجاسة، إذ يمكن أن تكون لمباشرتهم للنجاسات (أي نجاستهم العرضية) أو للتنزه واستحباب الاجتناب عن مساورتهم، أو لوجود آثار معنوية سيئة في السؤر وهكذا فلا يتعين أن تكون نتيجة هذه الآثار الحكم بنجاستهم الذاتية. وسيأتي في مناقشة الروايات بيان تفصيلي لهذه الأمور إن شاء الله تعالى.

وحينئذٍ يقال بعدم تحصيل الإجماع على نجاسة الكافر بهذا العنوان، أما هذه الآثار فهي شيء غيرها، لذا قد يقال بعدم الملازمة كما في ولد الزنا الذي ورد في خبر الوشا (رقم 3، صفحة 295) وورد عدم الوضوء في فضل ماء الحائض والجنب إلا إذا كانت مأمونة ففي صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سؤر الحائض فقال: ألاّ توضأ منه، وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ثم تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء)(1)،

فلا يوجد إذن إجماع على الملازمة بين نجاسة السؤر ونجاسة ذيه ((حتى أن صاحب المعالم (قدس سره) عقد بحثاً في أنه هل توجد ملازمة بين طهارة ذي السؤر وطهارة سؤره؟ وذكر: أن المشهور قالوا بالملازمة، وأنه خالف جماعة من الفقهاء كالشيخ في جملة من كتبه(2) وابن الجنيد وابن إدريس

ص: 259


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 7، ح1.
2- حكى العلامة (قدس سره) عن الشيخ في المبسوط قوله بعدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه وهو أعم من القول بنجاسته حيث ينقل عنه (قدس سره) ((أن سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الذي في الحضر غير الطير وغير مأكول اللحم لا يجوز استعماله واستدل صاحب الرياض (قدس سره) للقائلين بنجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه بالاحتياط، والمرسل: (إنه كان يكره سؤر كل شيء لا يؤكل لحمه) (وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 5، ح2) ومفهوم الموثق (عن ماء شرب منه الحمام، فقال: كل ما يؤكل لحمه يُتوضأ من سؤره ويُشرب) (وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 4، ح2) )) (رياض المسائل: 1/81) لكنه نقل تصريح ابن إدريس بالنجاسة قال (قدس سره): ((وابن إدريس، حكم بنجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الطير)) (مختلف الشيعة: 1/64) لكن الظاهر من الشيخ (قدس سره) قوله بالملازمة في التهذيب والخلاف وسننقل النص بعد قليل إن شاء الله تعالى.

وإن جملة من الفقهاء قالوا فيما لا يؤكل لحمه مع طهارته بنجاسة سؤره))(1).

أقول: هذا النقض طرداً وينقض عليها عكساً بطهارة ماء الاستنجاء الذي يتعقبه طهارة المحل إذا لم يكن فيه من عين النجاسة.

2- المناقشة في الكبرى للشك في كون هذا الإجماع تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) وإنما هو مدركي اجتهادي مستند إلى الآية الشريفة «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا» (التوبة:28) كما صرح بذلك جملة منهم كالشيخ الطوسي (قدس سره) فإنه بعد قوله: ((ولا يجوز الطهارة بأسئار الكفار من المشركين والنصارى والمجوس والصابئين)) قال (قدس سره): ((يدل على ذلك قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» فحكم عليهم بالنجاسة بظاهر اللفظ وهذا يقتضي نجاسة أسئارهم بملاقاتهم للماء))(2)

وقال في الخلاف بعد قوله: ((لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم)) قال (قدس سره): ((دليلنا قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» فحكم عليهم بالنجاسة فيجب أن يكون كل ما باشروه نجساً، وعليه إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط تقتضي تنجيسها))(3).

ص: 260


1- بحوث في شرح العروة الوثقى للشهيد الصدر الأول: 3/312 عن معالم الدين (قسم الفقه: 1/359).
2- تهذيب الأحكام: ج1، كتاب الطهارة، باب المياه وأحكامها، ح20.
3- الخلاف، ج1، كتاب الطهارة، صفحة 70، مسألة 16.

وعلل عدم جواز تغسيل الميت المشرك ب-((قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» فحكم عليهم بالنجاسة في حال الحياة، والموت يزيدهم نجاسة))(1).

وإلى بعض الأدلة الأخرى ك-((فحوى ما يأتي من المستفيضة الدالة على نجاسة الكتابي، بل منطوقه بضميمة الإجماع المركب))(2).

ومما يشهد على كون الإجماع مدركياً اختيارهم العناوين التي ذكرناها –كآثار لنجاستهم من نجاسة سؤرهم وغيرها- من نصوص الروايات الشريفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

فائدة: قال الشهيد الصدر الأول (قدس سره): ((من الواضح أن حجية هذا الإجماع –كأي إجماع- تستند إلى كونه سبباً لليقين، أو الاطمئنان بثبوت معقده شرعاً على أساس حساب الاحتمالات، وكونه تجميعاً لقرائن احتمالية يحصل من تراكمها الاطمئنان))(3).

أقول: ناقشنا هذه الفكرة تفصيلاً في كتاب (الرياضيات للفقيه) وقلنا هناك أن حساب الاحتمالات والنتيجة المترتبة عليه ((حالة عقلية)) أما الاطمئنان الذي تسكن إليه النفس وتسير عليه فهو ((حالة قلبية أو نفسية)) عبّر عنها خليل الرحمن لما سأله ربه: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (البقرة:260) ولا ملازمة فقد يسلّم العقل بحالة ويقطع بها مئة بالمئة لكن النفس لا تطمئن إليها وقد يكون العكس ((والنتيجة أن الاطمئنان الذي يدفع المكلف نحو ترتيب الأثر ويبعثه نحو الفعل أو الترك ليس منوطاً فقط بقوة الاحتمال سلباً ولا إيجاباً وإن كانت أبرز عناصره بل هناك مؤثرات أخرى كقوة المحتمل وغيرها))(4).

ص: 261


1- المصدر السابق: صفحة 700، المسألة 487.
2- مستند الشيعة للنراقي: 1/196.
3- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/304.
4- الرياضيات للفقيه: 327 من طبعة بيروت.

الاستدلال بالآية الكريمة

وهي قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا» (التوبة:28).

((بتقريب: أن الله سبحانه حكم بنجاسة المشركين وفرَّع عليها حرمة قربهم من المسجد الحرام، وذلك لأن النَجس –بفتح الجيم وكسره- بمعنى النجاسة المصطلح عليها عند المتشرعة، فإنه المرتكز في أذهانهم وبهذا نستكشف أن النجس في زمان نزول الآية المباركة أيضاً كان بهذا المعنى المصطلح عليه، لأن هذا المعنى هو الذي وصل إلى كل لاحق من سابقه حتى وصل إلى زماننا هذا))(1).وأُشكل على الاستدلال بالآية من عدة جهات:

(الأولى) إن (نجَس) –بالفتح وتكون مصدراً وليس بالكسر فتكون وصفاً لأنها لو كانت وصفاً لطابقت الموصوف بالجمع أما المصدر فيمكن حمله على الجمع لنفس العناية التي سوّغت حمله على المفرد، لا يمكن حمله على النجاسة –التي هي اسم المصدر- بالمصطلح المتشرعي بتقريب ((إن النجس عند المتشرعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه إلا أنه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة لجواز أن لا تثبت النجاسة بهذا المعنى الاصطلاحي على شيء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلاً، وذلك للتدرج في بيان الأحكام، بل الظاهر أنه في الآية المباركة بالمعنى اللغوي وهو القذارة وأي قذارة أعظم وأشد من قذارة الشرك؟ وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام، حيث إن النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه فلا حرمة في دخول الكفار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم –بهذا المعنى -

ص: 262


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/38 من المجموعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره).

وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر لان القذارة الكفرية مبغوضة عند الله سبحانه والكافر عدو الله وهو يعبد غيره))(1).

و ((المتتبع يكاد أن يحصل له القطع بأن لفظة النجاسة لم تكن قد خصصت للتعبير عن القذارة الشرعية، وإنما كان يعبر عنها بتعبيرات مختلفة في الموارد المتفرقة. ولهذا نلاحظ أن مجيء لفظ (النجاسة) في مجموع الأحاديث المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما معدوم، وإما نادر جداً، لا في طرقنا فقط، بل حتى في روايات العامة التي تشتمل على ستمائة حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحكام النجاسة، ولم أجد فيها التعبير بعنوان النجس إلا في روايتين: في إحداهما نقل الراوي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن الهر ليس بنجس)، وفي الأخرى : نقل أن صحابياً واجه النبي وهو جنب فاستحى وذهب واغتسل واعتذر من النبي فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس). وهذا يكشف عن ضآلة استعمال لفظة النجاسة ودورانها في لسان الشارع، الأمر الذي ينفي استقرار الاصطلاح الشرعي بشأن هذه اللفظة))(2).

أقول: توجد عدة روايات منسوبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استُعمل فيها لفظ النجس بالمعنى المصطلح، كخبر عوالي اللئالي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (الماء لا ينجّسه شيء)(3)

وفي حديث آخر (خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته)(4) وخبر دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (صلوات الله عليه): (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن الصلاة بجلود الميتة وإن دبغت وقال: الميتة نجس وإن دبغت)(5) وفي خبر إرشاد القلوب: (وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم نجس قرضوه من أجسادهموقد جعلتُ الماء طهوراً لأمتك

ص: 263


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/ 39.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 329-330.
3- مستدرك الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب 3، ح9، 10. (5) مستدرك الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات والأواني، باب 39، ح6.

من جميع الأرجاس)(1) وخبر الفقيه قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد دخول المتوضّأ قال: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم)(2)

وخبر علل الشرائع عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه: (ولا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر)(3).

وهي أخبار ضعيفة السند والمظنون أنها مروية عن الأئمة (عليهم السلام) وبألفاظهم إلا أنها نسبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من باب (حديثي حديث آبائي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ) وإن بعضها –كالأخيرين- ظاهران في القذارة المعنوية.

أقول: إن تعليل السيد الخوئي (قدس سره) لعدم ثبوت مصطلح النجاسة بتدريجية الأحكام في النص المتقدم موهم بأن أحكام النجاسات لم تثبت في عهد الرسالة وإنما بُيّنت لاحقاً لذا اندفع السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) للرد عليه بوجوه منها ((إن المظنون قوياً تشريع أصل النجاسة قبل هذه الآية، فإن هذه الآية نزلت في سورة التوبة كما هو معلوم، في السنة التاسعة من الهجرة، في أواخر أيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمظنون قوياً تشريع عدة نجاسات إلى ذلك الزمان)) و ((إن تدريجية الأحكام إنما كانت لمصلحة تكليف الناس وإعدادهم، ومن المعلوم أن نجاسة بعض النجاسات على وفق الطبع العقلائي فلا موجب لتأخير تشريعها)) ((ومنها ما ورد أن أحد الحسنين كان في حجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبال فأريد أخذه أو تأنيبه فمنع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعا بماء فصبَّه عليه)) ((ومنها قوله تعالى: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبا» بناءً على كون الطيب بمعنى الطاهر الشرعي))(4).

ص: 264


1- بحار الأنوار: 16/346.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، باب 5، ح5.
3- بحار الأنوار: 15/7.
4- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 328.

وأنت كما ترى فإنها أجنبية تماماً عن مراد السيد الخوئي (قدس سره) ولا نشك في التفاته (قدس سره) لهذه المعاني والصحيح أنه (قدس سره) أراد بالتدريجية في تبلور المصطلح الشرعي حتى يصبح حقيقة في المعنى المتعارف.

والنتيجة أن الراجح في معنى (النجس) في الآية الشريفة هي القذارة المعنوية وخبث النفس والشر ونحوها من المعاني التي نفهمها حينما نقرأ أمثال هذه النصوص كالذي ورد في زيارة وارث المشهورة(1)

للإمام الحسين (عليه السلام) والمروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) وفيها (أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخةوالأرحام المطهرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها) وفي زيارة أول رجب المخصوصة (طهرتَ وطهُرتْ بك البلاد وطهُرتْ أرض أنت بها وطهر حرمك).

ومنه يُعلم ما في كلام السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: ((إن الحقيقة الشرعية وإن لم تثبت، لكن الاستعمال الشرعي في تلك المفاهيم ثابت، ولأجله جرت الاستعمالات عند المتشرعة عليه حتى صارت حقيقة عند المتشرعة))(2)

فإن الآلية التي ذكرها (قدس سره) لتشكل المصطلحات الشرعية وإن كانت صحيحة إلا أنها بدأت بعد زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أما في زمانه فقد كانت التعبيرات بغير هذه الألفاظ ، ولو فرضنا الاستعمال في المعنى المصطلح فإن هذا المقدار لا يكفي لتشكل ظهور للفظ في هذا المعنى حتى يتبادر إليه.

وإذا كان كلامه (قدس سره) يستبطن الاستدلال بالاستصحاب القهقرائي –كما ورد في كلمات بعضهم- فإن كبراه غير تامة لعدم حجية هذا الاستصحاب، وصغراه غير تامة لأنه قد ثبت عكس نتيجته بالاستقراء المذكور.

وحتى في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) حينما أصبح لفظ النجاسة حقيقة في المصطلح بقي استعمال اللفظ في القذارة المعنوية ففي موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام

ص: 265


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي (قدس سره): 721.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/369.

ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم، فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه)(1)

وتفسرها رواية عن ابن أبي يعفور نفسه –ولعلها نفسها- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما إن الله لم يخلق خلقاً شراً من الكلب وإن الناصب أهون على الله من الكلب)(2).

ولو افترضنا استعمال لفظ النجس في المعنى المصطلح في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لا يكفي لتأسيس الظهور والانصراف إلى هذا المعنى كما قلنا.

وقد ردّ الشيخ الأنصاري (قدس سره) على ((التأمل في ثبوت الحقيقة الشرعية في النجس)) وقرّب ظهور النجاسة في المعنى المتعارف بعدة وجوه ((إما لأن النجاسة الشرعية هي القذارة الموجودة في الأشياء في نظر الشارع، فلم ينقل عن معناها اللغوي وإما لدعوى ثبوت الحقيقة الشرعية، وإما لوجود القرينة على إرادة المعنى الشرعي، وهي حرمة قربهم من المسجد الحرام، إذ لا يجب تجنّب المساجد عن غير النجس الشرعي إجماعاً))(3).

أقول: ما ذكر (قدس سره) قابل للمناقشة:أما الوجه الأول فإننا نتفق معه على أن النجاسة شرعاً هي القذارة لكن القذارة على أنواع قال الراغب: ((النجاسة: القذارة وذلك ضربان: ضرب يُدرَك بالحاسة وضرب يدرك بالبصيرة، والثاني وصف الله تعالى به المشركين فقال: «إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ» ))(4).

وهي بحسب الاعتبار الشرعي كذلك، لأن النجاسة الشرعية ليست معنىً مبتدعاً للقذارة وإنما هي اعتبار وتوصيف شرعي لها وتختلف فيما بينها

ص: 266


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، باب 11، ح 5، 4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، باب 11، ح 5، 4.
3- موسوعة الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة: 5/100.
4- (4) مفردات غريب القرآن: 791.

بالآثار والذي يهمنا منها الآن أثر التعدي إلى الخارج، فمن القذارة ما هو قائم بالجسم وهي أعيان النجاسات ومن القذارة ما هو قائم بصفة في الجسم كالجنابة والحيض وتزول بزوال الصفة، ونجاسة المشرك كما يمكن أن تكون من الأولى فإنها يمكن أن تكون من الثانية فتكون متعلقة بصفة الشرك وتزول بزوالها، والنوع الأول من النجاسة متعدٍ إلى الغير دون الثاني وهو محل البحث. ويمكن القول أن النجس في الآية إلى المعنى الثاني أقرب لوضوح تعلق النجاسة بصفة قائمة في الجسم وليس في نفس الجسم.

وأما الوجه الثاني وهي دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية فقد استبعدناها في تقريب الإشكال.

وأما الوجه الثالث فإن هذه القرينة أدل على عكس مطلوبه لعدم حرمة إدخال النجاسة إلى المساجد إذا لم تكن متعدية ولم تستلزم هتكاً وإن الممنوع من دخول المسجد هو ذو القذارة المعنوية كالمجنب والحائض فالمشرك كذلك، وكان هذا الحكم –أعني حرمة دخول المشركين المسجد الحرام- كان مقدمة للحكم بوجوب إخراجهم من جزيرة العرب وهو لا يتعلق بالنجاسة الشرعية المعروفة كما هو واضح.

وذُكرت وجوه أخرى لتقريب دلالة الآية على المعنى المتشرعي للنجاسة غير قضية كون لفظ (نجس) حقيقة في هذا المعنى:

(منها): ((دعوى حمل النجاسة على النجاسة الشرعية بقرينة حالية خاصة، وهي ظهور حال المولى في كونه في مقام المولوية، فلو حمل اللفظ على النجاسة غير الشرعية الاعتبارية لكان هذا إخباراً من قبل المولى عن أمر خارجي، وهو خلاف الظهور الحالي المذكور))(1).

وفيه:-

ص: 267


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 330.

1- إن القرآن الكريم ليس كتاباً مختصاً في الأحكام الشرعية على نحو المولوية حتى يقال فيه ذلك بل (فيه تبيان كل شيء) مما يتعلق بهداية البشر نحو الكمال والسعادة.

2- لو سلّمنا أن الآية يجب أن تكون مسوقة لبيان الحكم المولوي لأن غيره –ككون المشرك ذا قذارة- ليس من وظيفة المولى، فإن الحكم الشرعي لا يختص ببيان حكم النجاسة، فإن القرائن الحالية والحوادث التأريخية تشير إلى أن الآية بصدد بيان حكم آخر وهو إقصاء المشركين وعزلهم اجتماعياً وعقائدياً، فإن هذا الحكم أعقبه طردهم من جزيرة العرب فالمسألة مرتبطة بتطويقهم وإبعادهم تمهيداً لقطع دابر الشرك في بلاد المسلمين ولا علاقة له بالحكم بنجاستهم.(ومنها): ((دعوى الإطلاق في كلمة (نجس)، وأنه بالإطلاق تدل الآية الكريمة على نجاسة المشرك بتمام شؤونه ومراتبه نفساً وبدناً، فتثبت النجاسة المعنوية والجسمية. وبعد معلومية عدم النجاسة الجسمية الحسّية في بدن المشرك تحمل على نجاسة البدن الاعتبارية. فليس الأمر دائراً بين نجاسة النفس ونجاسة البدن، ليدَّعى عدم تعيّن الثاني، بل الإطلاق كفيل بإثباتهما معاً.

ويرد عليه: أن النفس والبدن ليسا فردين من الموضوع في القضية لتثبت بالإطلاق نجاستهما معاً، بل مرجعهما إلى نحوين من ملاحظة المشرك فقد يلحظ بما هو جسم، وقد يلحظ بما هو شخص معنوي.

ولحاظه بما هو جسم ومعنى معاً وإن كان أمراً معقولاً، ولكنه لا يفي به الإطلاق لأن الإطلاق ينفي أخذ قيد زائد في الموضوع، وليس له نظر إلى توسعة اللحاظ، وإدخال حيثيات عديدة تحته، بل يحتاج ذلك إلى قرينة خاصة))(1).

وببيان آخر: إن أثر الإطلاق يظهر في المرتبة اللاحقة بعد تشخيص الموضوع فيوسع حدود المراد منه ولا يتكفل بتشخيص الموضوع، وهنا عندنا

ص: 268


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 331.

موضوعان متغايران هما قذارة البدن وقذارة النفس فلا بد من تحديد أيّهما الموضوع المراد من النجاسة في الآية من قرائن خارجية أولاً ثم يُتمسك بإطلاقه.

(ومنها): ((إن عرفهم (عليهم السلام) في الأحكام الشرعية وفتاويهم وأمرهم ونهيهم في ذلك راجع في الحقيقة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنهم نقلة عنه وحفظة لشرعه وتراجمه لوحيه كما استفاضت به أخبارهم))(1).

وفيه: إنهم كذلك لكن هذا ثابت في مضامين ما نقلوا ولا يثبت أن استعمالات الألفاظ في زمانهم (عليهم السلام) كالتي استعملها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنهم أمروا أن يتحدثوا بلغة قومهم مضافاً إلى الاستقراء المتقدم في عدم ورود هذا اللفظ في المأثور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بطريق غير معتبر.

ويوجد مبعّد لما تدعيه هذه الوجوه ((من الحمل على النجاسة الاعتبارية، وهو: أن الآية الكريمة سيقت مساق حصر حقيقة المشركين بأنهم نجس بلحاظ أداة الحصر، فكأنه لا حقيقة لهم سوى ذلك، وهذا إنما يناسب النجاسة الحقيقية المعنوية لا النجاسة الاعتبارية))(2).

(الثانية): لو تنزلنا وافترضنا أن المراد بالنجاسة هو المعنى الشرعي المتعارف فحينئذٍ يدور الأمر ((بين عنايتين: إحداهما عناية حمل المبدأ على الذات. والأخرى عنايةتقدير كلمة (ذو) ولا مرجح للعناية الأولى، ومع احتمال العناية الثانية لا تدل الآية إلا على كون المشرك ذا نجاسة، وهذا يلائم معنى النجاسة العرضية))(3).

أقول: قد يقال بكفاية هذا الإجمال لرد الاستدلال بالآية على نجاستهم الذاتية، إلا أنه يمكن الرد على الإشكال بوجوه:-

1- ((إن عناية حمل المصدر أخف من عناية التقدير عرفاً))(4).

ص: 269


1- الحدائق الناضرة: 5/165.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 331.
3- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 332.
4- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 332.

2- لو تنزّلنا وحملنا لفظ (نجس) في الآية على المعنى المصطلح فإن ((حصر حقيقة المشرك بالنجاسة أنسب بالنجاسة العينية من النجاسة العرضية))(1).

3- إنه يلزم منه تقييد قاعدة الطهارة لعدم العلم بمباشرته النجاسة ولا دليل على هذا التقييد.

4- إنه مخالف للواقع الخارجي فإن المعروف عن كثير منهم الاعتناء بمظهرهم الخارجي فيلزم تخصيص الأكثر وهو قبيح.

5- ((لو سُلِّم أن المراد (ذو نجاسة) أمكن الاستدلال بإطلاقه على النجاسة الذاتية، إذ النجاسة العرضية إنما تكون بملاقاة الأعيان النجسة مع عدم استعمال المطهر، فإطلاق كونهم ذا نجاسة –حتى مع عدم ملاقاة الأعيان النجسة، ومع استعمال المطهر- يدل على كون النجاسة ذاتية بالالتزام))(2).

(الثالثة) إنه حتى لو تم الاستدلال بالآية على النجاسة فإنها خاصة بالمشركين ولا تعمّ كل أصناف الكفار إلا بضميمة عدم القول بالفصل أو ((بتعارف مطلق الكافر من المشرك))(3) فرجع الدليل إلى الإجماع.

دليل ثالث

وأضاف البعض دليلاً آخر على نجاسة الكفار غير الكتابيين إن لم يتم الإجماع حاصله وجود ارتكاز لدى المتشرعة على نجاستهم ومن المطمأن به امتداده إلى زمن المعصوم (عليه السلام) وهو تعبدي كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام).

وفيه:-

ص: 270


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 332.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/368.
3- جواهر الكلام: 6/42.

1- من غير المعلوم أن الارتكاز هو على النجاسة فالذي نعتقده أن الارتكاز قائم على اجتناب المعاشرة والاختلاط معهم بكل ما تتضمنه من تفاصيل للنهي عن مواددتهم بمقتضى الآية الشريفة «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (المجادلة:22) وهذا حكم تكليفي أوسع من قضية نجاستهم.1- لو تنزلنا وقلنا أن الاجتناب لنجاستهم فإنه يمكن أن يكون بمقتضى الفهم المتشرعي للآية الكريمة «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (التوبة:28) ولا دليل على امتداد هذا الارتكاز إلى زمان صدر الإسلام قبل تشكل المصطلح الشرعي.

ويمكن أن يكون للاحتياط أو للتنزه عنهم باعتبار عدم تورعهم عن مباشرة أعيان النجاسات فهذا الارتكاز ليس تعبدياً.

نتيجة البحث في القسم الأول

والنتيجة إلى الآن عدم الوثوق بالحكم بنجاسة المشركين ونظائرهم كالكفار لعدم صلاحية الدليل، ويكفي الشك في المقام لإجراء قاعدة الطهارة.

ويمكن أن نتقدم خطوة نحو الطهارة بذكر أكثر من وجه يمكن الاستدلال به على الطهارة أو تأييد هذا الحكم، منها:

(الأول): الاستدلال بعدد من الأخبار على الطهارة:

(منها) التمسك بإطلاق خبر يونس –وهو تام السند إلا من جهة إسماعيل بن مرار المختلف في وثاقته- عنهم (عليهم السلام) وفيه: (ولا بأس بأكل الجبن مما عمله مسلم أو غيره)(1)

فإطلاق (غيره) شامل للكفار بكل أصنافهم.

إن قلت: إن هذا الإطلاق مقيّد بما دلّ على نجاستهم كالإجماع ونحوه.

ص: 271


1- جامع أحاديث الشيعة، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 9، ح5 عن الكافي والتهذيب.

قلت:-

1- إن هذا أول الكلام إذ لم يثبت دليل تام على النجاسة.

2- إن مسألة ما يأكله الإنسان والتحرز من الشبهات فيه فضلاً عن المحرمات مما اهتم بها الشارع المقدس ولا يناسب هذا الاهتمام إطلاق الكلام والتعويل على قرائن منفصلة غير معلومة لدى المتلقي مما يوقعه في التغرير.

(ومنها) مرسلة الوشا عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك، وكل من خالف الإسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب)(1).

بتقريب حمل الكراهة على المعنى المصطلح ولدرج المشرك مع ولد الزنا وهو طاهر وكذلك اليهودي والنصراني على ما سيأتي بإذن الله تعالى.

(الثاني) مكون من عدة مقدمات:-

1- إن جملة من الروايات الآتية الظاهرة في طهارة اليهود والنصارى ذكرت المجوس معهم وبعضها ورد في المجوس خاصة فمن ذهب إلى طهارة الكتابيين من يهود أو نصارى أو شكك في نجاستهم فعليه ضم المجوس معهم لنفس الأدلة.

2- إن المجوس إما كفار أو مشركون ((فقد قالوا بإلهية يزدان والنور والظلمة))(2).

3- وبضميمة عدم القول بالفصل بين أصناف المشركين والكفار غير الكتابيين تكون النتيجة أن حكم المشركين كأهل الكتاب، وقد دلت الروايات على طهارتهم فغير الكتابيين مثلهم أو على الأقل يحصل الشك في نجاستهم فتجري قاعدة الطهارة خصوصاً وإن الروايات لا تفيد الحصر بهذه الأصناف وإنما ذُكروا لأنهم مورد السؤال أو معرض الابتلاء في بلدان المسلمين يومئذٍ، فعدم ذكر غيرهم لا يعني عدم شمولهم بنفس الحكم.

ص: 272


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 3، ح2.
2- موسوعة الشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتاب الطهارة: 5/100.

إن قلتَ: إنه ورد في المجوس أنهم (كانوا أهل كتاب فمزّقوه ولهم نبي قتلوه) فهم من أهل الكتاب لذا شملهم حكم أهل الكتاب وليسوا هم من المشركين أو الكفار.

قلت:-

1- إن سند الرواية ضعيف، فإن هذا المضمون هو فحوى أكثر من حديث تنتهي إلى أبي يحيى الواسطي وهو مجهول وقد أرسلها عن بعض أصحابنا عن الإمام الصادق(1)

(عليه السلام) وورد في كتاب الديات روايات(2)

معتبرة على إلحاقهم باليهود والنصارى في مقدار الدية، وهذا حكم خاص بها ولا ينفع في التعميم لمسألتنا بل قد يقال أن الإلحاق بالحكم دليل المغايرة في الموضوع ولو كان من مصاديق عنوان أهل الذمة أو أهل الكتاب لما احتاج إلى إلحاق.

في مقابل ذلك وردت رواية معتبرة تُشعر بأن أهل الكتاب الذين يجري فيهم حكم الذمة هم اليهود والنصارى وهي صحيحة الفضل بن عثمان الأعور عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، وإنما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم على أن لا يهوّدوا أولادهم ولا ينصروهم، وأما أولاد أهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم)(3)

فلم يُذكر المجوس ضمن أهل الذمة.

ودلت جملة من الروايات على اختلاف الأحكام بين المجوس وأهل الكتاب كصحيحة العيص بن القاسم بنقل التهذيب والفقيه قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني، فقال: لا بأس إذا كان من طعامك، وسألته عن مؤاكلة المجوسي، فقال: إذا توضّأ فلا

ص: 273


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 49.
2- وسائل الشيعة: كتاب الديات، أبواب ديات النفس، باب 13.
3- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 48، ح3.

بأس)(1)

فاشترط (عليه السلام) لمؤاكلة المجوسي غسل يده ولم يشترطه في اليهودي والنصراني، ومعتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس، ولا يصلي في ثيابهما،وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة، ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه)(2) فتراه فرّق في الأحكام بينهم.

2- بعض الأخبار التي ذكرت المجوس في عرض أهل الكتاب كصحيحة محمد بن مسلم الآتية (رقم 1، صفحة 280) و كالصحيحة إلى يونس عدا من جهة إسماعيل بن مرار المختلف فيه الآتية (صفحة 300) وفيها (آنية المجوس وأهل الكتاب) وفي تفسير العياشي عن عمر بن حنظلة (في قول الله تبارك وتعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عَلَيهِ» أما المجوس فلا، فليسوا من أهل الكتاب، وأما اليهود والنصارى فلا بأس إذا سمّوا)(3).

3- إن واقع المجوس في عصر صدور النص عن الصادقين (عليهما السلام) هو ما ذكرناه من عبادة النار والنور والظلمة فهم مشركون أو كفار وشملتهم روايات الطهارة ولا ينفع كونهم في الأصل أهل كتاب.

(الثالث) لم يرد في النقول التأريخية أن المشركين وغيرهم حينما كانوا يسلمون يطهّرون ثيابهم وسائر متاعهم مما كانوا يباشرونه بالاستعمال.

وتقريب الاستدلال أنه لو كان المشركون محكومين بالنجاسة الذاتية وقد باشروا متاعهم برطوبة مسرية، فالمفروض أنهم يطهّرون ما باشروه عندما يسلمون، وليس في الأدلة ما يشير إلى أنه مورد خارج عن القاعدة بالتخصيص كطهارة إناء الخمر إذا انقلب خلاً فقياس الموردين على بعضهما في غير محله،

ص: 274


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 53، ح4.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح10.
3- جامع أحاديث الشيعة: أبواب الذبائح، باب 18، ح41.

وليس المورد مشمولاً بدليل (الإسلام يجب غيره أو ما سبقه) ونحوها، ولم يلتزم الفقهاء بأن الإسلام مطهر لما باشره المكلف قبل إسلامه.

وتحصّل مما تقدم إمكان القول بعدم كفاية الأدلة للجزم بنجاسة غير الكتابي من مشركين وكفار وملحدين ولكن الاحتياط لا يُترك مراعاةً للإجماع، وفي هذه النتيجة ثمرة مهمة لمن يذهب إلى تنجيس المتنجس وهي ما لو حصلت مباشرة المسلم لهم برطوبة مسرية فيجب عليه الاحتياط بتطهير الجزء الملامس ولكن لا يجب عليه تطهير ما لاقاه هذا الجزء من الأشياء لأن الأصول لا تثبت لوازمها.

وقد نسب إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) مخالفة الإجماع بقوله في النهاية: ((يكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفار إلى طعامه فيأكل معه، وإن دعاه فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه)) لكنه (قدس سره) صرح قبل ذلك بأسطر: ((بعدم جواز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم، ولا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها وأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم)) لذا وجه الأصحاب عبارته الأولى بوجوه منها حملها ((على حال الضرورة أو ما لا يتعدى وغسل اليد للتعبد لوروده في الأخبار))(1)

أو أنه ((محمول –كما عن نكت المصنف- على المؤاكلة باليابس أو الضرورة، وغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسة، أو على ما ذكره ابن إدريس في السرائر من أنه أورد الرواية الشاذة إيراداً لا اعتقاداً))(2)

مع ما يمكن أن يقال من أن العبارة الأولى صريحة في كون الطعام للمسلم وتحمل على عدم أكلهما في قصعة واحدة ونحوها.

ص: 275


1- مستند الشيعة للنراقي: 1/198.
2- جواهر الكلام: 6/41.

القسم الثاني: الكتابي

((ونجاستهم عندنا مشهورة، والإجماع عليها في عبارات جملة من الأدلة مذكورة، وهو مذهب الصدوقين، والشيخين، والسيدين، والحلبيين، والفاضلين، والشهيدين، والحلي والديلمي، والكركي، وكافة المتأخرين، وقد ينسب الخلاف إلى العماني والمفيد في الرسالة العزّية أيضاً، وهو غير ثابت.

أما الأول: فلأن من نسب الخلاف إليه استفاده من تصريحه بطهارة سؤره، ولعله –بعد تخصيص السؤر بالماء، كما عليه جملة من الأصحاب- مبني على أصله من عدم انفعال القليل.

وأما الثاني: فلأنه إنما حكم بالكراهة، وإرادة المعنى اللغوي منها في عرف القدماء شائعة، وهي الملائمة لدعوى الإجماع على النجاسة من تلاميذه مع كونه رئيس الفرقة.

ومن ذلك –مع عدم قدح مخالفة الإسكافي لكونه(1)

نادراً- يظهر الإجماع على النجاسة هنا أيضاً))(2).

ومناقشة الإجماع هنا كمناقشته في القسم الأول، أما صغروياً فيشهد على عدم تحقق الإجماع تقسيمهم الكفار إلى قسمين: المشرك وأهل الكتاب –كالذي نقلناه عن مستند النراقي وعمله غيره كالمحقق الحلي في المعتبر- ونقل دعوى الإجماع في الأول دون الثاني، وأما كبروياً فكونه مدركياً هنا أوضح لوفرة النصوص التي استندوا إليها.

الاستدلال بالآية الكريمة:

واستدلوا على النجاسة بالآية الكريمة المتقدمة ((بناءً على شمول المشرك للذمي؛ لشيوع إطلاقه عليه، كما صرّح به شارح الروضة، مستشهداً بما حكاه

ص: 276


1- ورد في ترجمة الإسكافي أنه يعتمد القياس في استنباطه ومتأثرٌ بفقه العامة.
2- مستند الشيعة للنراقي: 1/198.

عن النووي في التحرير: من أن المشرك يطلق على كل كافر: من عابد صنم ويهودي ونصراني ومجوسي وزنديق وغيرهم. ويؤيده نسبة الإشراك إلى اليهود والنصارى في قوله تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة:30-31) ))(1).

وبغض النظر عما ذكرناه من المناقشات في دلالة الآية على المعنى المتشرعي للنجاسة، فإن هذا التعميم يرد عليه:-

1- من الواضح لدى المتتبع لآيات القرآن الكريم أن المشركين غير أهل الكتاب ويُذكر العنوانان بشكل منفصل كما ورد في آيات عديدة في سورة المائدة، منها قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (الآية:82) وقوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (الآية: 68) وغيرهما، وكان تغاير العنوانين واضحاً لدى المسلمين وفي طريقة التعامل وفي الأحكام كإخراج المشركين من جزيرة العرب دون أهل الكتاب وما قدمناه من التمييز بين أهل الكتاب والمجوس.

2- إن هذا التعميم لو تمّ فإنه يشمل اليهودي والنصراني بصفتهما مشركين لا بعنوان اليهود والنصارى، فلا تشمل من تمسّك بالتوحيد منهما ولم يتورط بالشرك.

3- إن الشرك المراد في آية «إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ» بحسب الظاهر هو شرك العبادة، قال تعالى: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى» (الزمر: 3)، والشرك الذي وُصفَ به أهل الكتاب هو شرك الطاعة فالحد الأوسط غير

ص: 277


1- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 5/99.

متكرر، وشرك الطاعة فلا يخلو منه أحد غير المعصومين (سلام الله عليهم) قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» (يوسف:106) وقد فسّر الإمام الصادق (عليه السلام) معنى «اتَخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَاباً مِن دُونِ اللهِ» في موثقة ضريس قال: (شرك طاعة وليس شرك عبادة)(1)، والشرك المقصود بالآية التي استدلوا بها هو شرك العبادة لا شرك الطاعة فقد ورد في تفسير الآية «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ» (التوبة: 31) التي استدلوا بها على التعميم هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ألا إنهم لم يصوموا لهم ولم يصلوا ولكنهم أمروهم ونهوهم فأطاعوهم، وقد حرّموا عليهم حلالاً وأحلوا لهم حراماً فعبدوهم من حيث لا يعلمون فهذا شرك1- الأعمال والطاعات)(2).

وقد ورد في الرياء عن يزيد بن خليفة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كل رياء شرك)(3)

ورواية جرّاح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (الكهف: 110) قال: (الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله تعالى إنما يطلب تزكية الناس، يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه)(4).

وفي الحقيقة فإنك لو حققت في عقائد عامة الناس –إلا من عصم الله- لوجدتهم مبتلين بدرجة من درجات الشرك الخفي على الأقل والعياذ بالله ولا يحتمل القول بنجاسة كل هؤلاء.

((وقد ظهر من هذه الأخبار إطلاق الشرك على بعض المنتسبين للإسلام بل على جميع المخالفين وعلى المرائي وبعض العصاة من المؤمنين، ولا يجوز أن يكون الحكم بالنجاسة ثابتاً للكل، فتعيّن صرف إطلاق الآية الكريمة إلى المشرك

ص: 278


1- الكافي: 2/367، ح4.
2- بحار الأنوار، ج69، صفحة 102.
3- الكافي: 2/293، ح3.
4- الكافي: 2/293، ح 4.

الذي جعل معه تعالى إلهاً اقتصاراً على موضع اليقين دون المشرك بحسب الطاعة))(1).

إن قلتَ: ((إن ارتكاز طهارة المسلم ولو كان مرائياً وعاصياً يكون بمثابة القرينة المتصلة على تقييد الإطلاق، ومعه لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق إلا بمقدار اقتضاء هذه القرينة اللبية على التقييد))(2).

قلتُ: هذا بعيد، ويلزم منه تخصيص الأكثر، ثم إن الدليل هو ظهور الآية في المعنى المعروف للشرك وذكرنا هذا لاستبعاد احتماله.

ومما يؤيد هذا الظهور ((جعل الشرك ملاكاً لمنع المشركين من الاقتراب إلى المسجد الحرام، فإن وضوح أن من يقصد بهذا المنع – عملياً - هم المشركون الوثنيون دون الكتابيين الذين لا يقدسون الكعبة أصلاً، وليسوا في معرض الوصول إليها قد يشكل قرينة على ذلك.

وكذلك ما تصدى له النص القرآني عقيب ذلك من تطمين أهل مكة بقوله: «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ» فإن العيلة إنما تُخاف بسبب تحريم مجيء المشركين الوثنيين الذين اعتادوا المجيء. ويكفي –على أي حال- افتراض تكافؤ المعنيين في إجمال الآية الكريمة))(3).الاستدلال بالروايات:

وقد استُدل على نجاسة هذا القسم بمجموعة من الروايات، منها:-

ص: 279


1- قلائد الدرر للشيخ أحمد الجزائري: 1/54.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/333 وأشار إليه الشيخ الجزائري في قلائد الدرر (1/54) وقال عنه: ((وهذا ليس بالبعيد)).
3- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/333-334.

1 – صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر)(1).

وتقريب الاستدلال بها يكون من جهتين:

((أولاً: إن النهي عن الأكل في آنيتهم في صدر الحديث مطلق، وذِكره في الذيل ثانياً مقيداً إنما يكون بحسب الظاهر لبيان حكم آخر غير ما استفيد من الصدر، فصدره سيق لبيان نجاستهم الذاتية وذيله لبيان نجاسة الخمر.

ثانياً: إن المنع عن الأكل من طعامهم الذي يطبخون بما أنه مطلق شامل لما لم يمزج بما ذكر ولا طبخ في الآنية المتنجسة به، فلا محالة يستفاد منه أن المنع إنما يكون لأجل مباشرتهم برطوبة مسرية فيستفاد منه نجاستهم.

وبذلك تظهر دلالة سائر الأخبار الناهية عن أكل طعامهم كأخبار هارون بن خارجة وسماعة ومحمد بن مسلم وغيرها على هذا القول))(2).

2 – صحيحته الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) (في رجل صافح رجلاً مجوسياً، فقال: يغسل يده ولا يتوضأ).

بتقريب أن الأمر بغسل اليد كاشف عن تحقق النجاسة بالمصافحة، أما النهي عن الوضوء فهو لرفع توهم وجوبه الوارد في خبر ضعيف عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سُئل عن الرجل يَحلُّ له أن يصافح المجوسي؟ فقال: لا، فسأله يتوضأ إذا صافحهم؟ قال: نعم، إن مصافحتهم تنقض الوضوء)(3)

وحمله الشيخ على غسل اليد لأن ذلك يسمى وضوءاً.

3 – موثقة أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني، (قال: من وراء الثوب، فإن صافحك بيده فاغسل يدك).

ص: 280


1- الروايات من (1) إلى (9) تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح 1، 3، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 12.
2- فقه الصادق، للسيد محمد صادق الروحاني: 4/439.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، باب 11، ح5.

4 – صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة، وأرقد معه على فراش واحد، وأصافحه؟ قال: لا).

5- صحيحة هارون بن خارجة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟ فقال: لا).

6- صحيحة سعيد الأعرج قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني، فقال: لا).بتقريب ((أن السؤال عن سؤر الكافر قد يكون سؤالاً عن حكمه الوضعي من حيث الطهارة والنجاسة، وقد يكون سؤالاً عن حكمه التكليفي وجواز استعماله وعدمه، وبقرينة كلمة (لا) في الجواب يُعرف بأن السؤال عن الحكم التكليفي، ولكن حيث لا موجب في المرتكز العام لعدم جواز الاستعمال إلا النجاسة كان الجواب دالاً بالالتزام العرفي على النجاسة))(1).

وببيان آخر ((إن ظاهر السؤال عن سؤرهم نظير السؤال عن سؤر بقية الحيوانات إنما هو السؤال عن حكم التصرف فيه بأنحاء التصرفات، وقد صرّح بالسؤال عن أكله وشربه في رواية الصدوق))(2).

7 - صحيحة علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) (عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام، قال: إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام، إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل. وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يضطر إليه).

ص: 281


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/335.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/40 والنص في الفقيه عن سعيد الأعرج أنه سأل الصادق (عليه السلام): (عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل أو يشرب؟ قال: لا) (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح1).

بتقريب أنه لولا نجاسة النصراني لما كان وجه لاشتراط اغتسال المسلم وحده، وأمره بغسل الحوض أولاً ((وإن الأمر باغتساله بغير ماء الحمام لو كان مستنداً إلى تنجس بدن النصراني بشيء من المني أو غيره –كما يتفق- لم يكن هذا مخصوصاً به لأن بدن المسلم أيضاً قد يتنجس بملاقاة شيء من الأعيان النجسة فما وجه تخصيصه النصراني بالذكر، فمن هنا يظهر أن أمره (عليه السلام) هذا مستند إلى نجاسة النصراني ذاتاً))(1).

8- معتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس، ولا يصلى في ثيابهما، وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة، ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه، قال: وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للّبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصل فيه، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله).

9- صحيحة زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في آنية المجوس، قال: (إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء).10- خبر إسماعيل بن جابر قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تأكل ذبائحهم، ولا تأكل في آنيتهم، يعني أهل الكتاب)(2).

11- معتبرة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي أفآكل من طعامهم؟ قال: لا)(3).

12- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن المسلم له أن يأكل مع المجوسي في قصعة واحدة أو يقعد معه على فراش واحد أو في المسجد أو يصاحبه؟ قال: لا)(4).

ص: 282


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/43.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 72 من أبواب النجاسات.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 52، ح3، 4.
4- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 52، ح3، 4.

13- خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب، والصبي، واليهودي، والنصراني، والمجوسي؟ فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً)(1).

بتقريب أنه ((لولا نجاسة القليل بملاقاة المذكورين للَغا التعليل، وليست هي لاغتسال الجنب والصبي لأصالة كونهما طاهرين، فتكون للبواقي))(2).

وقريبٌ منه خبر أبي الحسن الهاشمي في نفس الباب.

14- موثقة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم، فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه)(3).

مناقشة الروايات:

أقول: نوقشت دلالة الروايات على نجاسة أهل الكتاب وينبغي الالتفات إلى أن الروايات بمجموعها كافية للدلالة على النجاسة، وإنما انفتح باب النقاش فيها لوجود مجموعة الروايات المعارضة الدالة على الطهارة، مما اقتضى إعادة قراءتها بما يرفع التعارض على نحو الجمع العرفي، وليس التعارض في مرتبة الاستظهار والاستدلال بها حتى يردّ على المناقشات بأن الظاهر كذا، فهذه المناقشات متأخرة رتبةً عن الاستظهار الذي ذكرناه عند تقريب دلالة الروايات على النجاسة.

وعلى أي حال فإننا نذكر المناقشات بنفس ترتيب الروايات بإذن الله تعالى.

فأوردوا على (الأولى):-

ص: 283


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب 7، ح7.
2- مستند الشيعة للنراقي: 1/199.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، باب 11، ح5.

1- ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) وحكي عن الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه: ((إن دلالتها على طهارة أهل الكتاب أظهر من دلالتها على نجاستهم وذلك لأن الحكم بنجاستهم يستلزم الحكم بالتجنب عن جميع الأواني المضافة إليهم حتى الآنية التي يشربون فيها الماء ولا وجه معه لتقييد الآنية بما يشربون فيه الخمر ولا لتقييد طعامهم بما يطبخونه فمن تقييد الآنية والطعام بما عرفت يظهر عدم نجاسة أهل الكتاب. والنهي عن الأكل في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر مستند إلى نجاسة الآنية بملاقاتها الخمر وأما النهي عن أكل طعامهم المطبوخ فيحتمل فيه وجهان: (أحدهما): أن أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير وشحمه والمطبوخ من الطعام لا يخلو عن اللحم والشحم عادة فطعامهم المطبوخ لا يعرى عن لحم الخنزير وشحمه و( ثانيهما): إن آنيتهم من قدر وغيره يتنجس بمثل طبخ لحم الخنزير أو وضع شيء آخر من النجاسات فيها لعدم اجتنابهم عن النجاسات ومن الظاهر أنها بعدما تنجست لا يرد عليها غسل مطهر على الوجه الشرعي لأنهم في تنظيفها يكتفون بمجرد إزالة قذارتها وهي لا يكفي في طهارتها شرعاً وعليه يتنجس ما طبخ فيها بملاقاتها ومن هنا نهى (عليه السلام) عن أكل طعامهم الذي يطبخونه. ويمكن أن يكون هناك وجه آخر لنهيه (عليه السلام) ونحن لا ندركه))(1).

أقول: إن النهي في الفقرة الأولى مطلق مع أن ردّه (قدس سره) مبني على أن قوله (عليه السلام): (التي يشربون فيها الخمر) قيد للفقرة الأولى أيضاً وهو خلاف الظاهر لوضوح الفصل بفقرة الطعام، وكأن الشهيد الصدر الأول (قدس سره) التفت إلى هذا الإشكال فقرّب رد الاستدلال ببيان آخر تقدم به خطوة وهو أنه ((يكفي لسقوط الاستدلال إجمال الفقرة الأخيرة من هذه الناحية –أي كون القيد راجعاً إلى الفقرة الأولى أيضاً- لأنه يكون من اتصال ما يحتمل قرينيته، وهو يوجب الإجمال))(2).

ص: 284


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 3/41.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/338.

أقول: ليس كل احتمال يوجب الإجمال وإنما لا بد أن يكون بدرجة تزلزل الظهور وهو ليس كذلك في المقام كما قدمنا خصوصاً على النص الذي ذكره (قدس سره) فقد ذكر في الفقرة الأولى (من آنيتهم) وفي الفقرة الأخيرة (ولا في آنيتهم) وهو ينفع في إيجاد الفرق بين الفقرتين ولكننا لا نعلم مستنده في ذلك بعد تطابق المصادر على ما ذكرنا، مضافاً إلى أن الإجمال الأقرب عكس ما قرّبه (قدس سره) كما سنذكر أدناه.

2- الأقرب في الرد أن يقال إن النهي عن استعمال الآنية لازم أعم لنجاستهم الذاتية إذ قد يكون لاستعمالهم إياها في النجاسات من دون تطهيرها كما يظهر من روايات كثيرة ومنها ذيل هذه الرواية، ولا أقل من الإجمال فلا يتعين دلالة الرواية على مطلوبهم، ولا يرد على هذا الإشكال ما نقلناه في تقريب الاستدلال بالرواية؛ لما ذكرناه من التنبيه قبل البدء بالمناقشات.وتناقش (الثانية) من جهة أن دلالتها على نجاسة اليد بالمصافحة يتطلب افتراض تقييد الحكم بوجود الرطوبة المسرية وهو خلاف الإطلاق(1)،

ولا دليل عليه، وأنه حملٌ على الفرد الأقل، مضافاً إلى اكتفاء الإمام (عليه السلام) في خبر خالد القلانسي(2)

الآتي (صفحة 300) إن شاء الله تعالى بمسحها بالتراب أو بالحائط، فيحمل غسل اليد على الاستحباب أو أنه حكم تعبدي يقتضي حصول حالة من الحدث كالحدث الأصغر والأكبر ولكنه يرتفع بغسل اليد لا البدن كله أو الوضوء.

ويرد على (الثالثة) ما أوردناه على الثانية بل الإيراد هنا أوكد لأن المصافحة من وراء الثوب تزيد المشكلة بتنجيس الثوب فلا بد أن يحمل على ما ذكرناه، إلا أن يدّعى أن الرطوبة البسيطة على يد المسلم يمتصها الثوب فيمنع من السراية الحاصلة من المصافحة المباشرة، أما الرطوبة في يد الآخر فغير معلومة

ص: 285


1- إلا أن يدّعى أن هذا القيد معلوم التحقق لأن السائل يعلم بأن (اليابس ذكي) فحينما يسأل عن مصافحة اليهودي والنصراني فإنه يفترض وجود الرطوبة المسرية.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح4.

ويجري فيها الأصل.

ونوقشت (الرابعة) و (الخامسة) بأنه ((لا دلالة فيهما على نجاسة المجوس إذ لم تفرض الرطوبة في شيء من الروايتين ولا بد من حمل النهي عن المؤاكلة والمراقدة معهم على التنزه لئلا يخالطهم المسلمون، لوضوح أن الرقود معهم على فراش واحد لا يقتضي نجاسة لباس المسلم أو بدنه حيث لا رطوبة في البين وكذا الأكل معهم في قصعة واحدة لعدم انحصار الطعام بالرطب))(1).

أقول: ربما كان الرقود في الفراش والمصافحة لا يقترن غالباً بالرطوبة المسرية لكن لا مجال للشك في أن مؤاكلتهم في قصعة واحدة والأكل من طعامهم تستلزم وجود الرطوبة المسرية فالرد غير تام، لكن يرد عليهما:-

1- أنهما واردتان في المجوسي وهو ليس من أهل الكتاب المعني بهم اليهود والنصارى وقد فرّق خبر علي بن جعفر المتقدم (رقم 8) بينهم في أحكام هذه الحالات من جهة.

2- إمكان حملها على الحكم التكليفي العام باجتناب مواددة أعداء الله ورسوله في آخر سورة المجادلة وهو عنوان واسع يتضمن اجتناب مصاحبة بعض الأصناف من غير المسلمين الذين يبغون على الإسلام والمسلمين ويريدون بأهله الشر، والمصاحبة تستلزم هذه الأمور وقد ورد ذكرها صريحاً في صحيحة علي بن جعفر الأخرى (رقم 12) المتحدة مع هذه مما يرجّح هذا المعنى ولا يحتمل أن المراد بها جميعاً الحكم الوضعي أي النجاسة.

وورد نهي مثله في خبر أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لا تبدأوا أهل الكتاب ((اليهودوالنصارى)) بالسلام، وإن سلّموا عليكم فقولوا: عليكم، ولا تصافحوهم ولا تكنّوهم إلا أن تضطروا إلى ذلك)(2).

ص: 286


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/43.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، باب 49، ح9.

وروى الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث المناهي: (نهى عن مصافحة الذمي)(1) والنهي ظاهر في الحكم التكليفي.

3- أن الرواية الثانية صريحة في أن الأكل من طعامهم وهي بذلك تبين إجمال المؤاكلة في الرواية الأولى، وطعامهم وآنيتهم غير مؤتمنة على الطهارة فالرواية لا تتعرض لنجاستهم الذاتية أو لا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال، بل ورد التصريح بعدم حرمة مؤاكلة المجوسي إذا كان من طعام المسلم كما في صحيحة عبد الله بن يحيى الكاهلي(2) الآتية إن شاء الله تعالى (صفحة 296).

وأما (السادسة) فإن السيد الخوئي (قدس سره) لم يناقشها وكأنه سلّم بدلالتها على المطلوب، ولكن يمكن مناقشتها بأن المنع من السؤر لازم أعم فتكون الرواية مجملة إذ لا يُعلم أن النهي بسبب النجاسة الخبثية أو النقص المعنوي ككراهة سؤر ولد الزنا في مرسلة الوشاء عن أبي عبد الله(3)

(عليه السلام) الآتية (صفحة 295)، وإن في السؤر –للمؤمن والكافر- آثاراً معنوية لحظها الشارع المقدس كالشفاء في سؤر المؤمن. ولو سلّمنا بظهور المنع في النجاسة الخبثية لوجود ارتكاز متشرعي ونحوه فيكون الإجمال من جهة عدم العلم بكون النجاسة من جهة نجاستهم الذاتية أو العرضية لمباشرتهم النجاسات، وتعليل الاجتناب بالنجاسة العرضية موجود في روايات الأسئار كالتقييد الذي ورد في معتبرة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن سؤر الحائض والجنب فرخّص الإمام (عليه السلام) (إذا كانت مأمونة ثم تغسل يديها قبل أن تدخلها الإناء)(4) وهذا مع قطع النظر عما سيأتي من الروايات المرخّصة في سؤر اليهودي والنصراني.

ص: 287


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، باب 127، ح7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 3، ح2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 7، ح1.

ويمكن أن نجعل نفس هذه الرواية بمعزل عن الروايات الأخرى دليلاً على الطهارة بوجه فني مكون من مقدمتين:-

أ- إن الرواية دلّت على وجوب اجتناب سؤر اليهودي والنصراني.أ- السؤر هو بقية الماء -أو أي مائع- الذي لاقاه الحيوان بفمه أو بجسمه على اختلاف تعاريفهم(1) ((ولا ريب في ظهور السؤر فيما باشره جسم حيوان لا كشعره بل ولا كظفره المجرد، فلا دلالة على نجاسة مثل الشعر أصلاً))(2).

فالنتيجة عدم نجاسة شعر اليهودي والنصراني وظفرهما بمقتضى هذه الرواية فحسب، فتجري فيهما قاعدة الطهارة وبضميمة عدم القول بالفصل بين أجزاء بدنهما يحكم بطهارتهما، ويكون وجوب اجتناب سؤرهما حكماً تعبدياً خاصاً.

لكن صاحب الحدائق (قدس سره) نقل عدم الخلاف في نجاسة ما لا تحله الحياة أيضاً من الكافر وخالف السيد المرتضى (قدس سره) بحكمه بطهارة ما لا تحله الحياة من نجس العين، ونُقل عن صاحب المعالم مناقشته في النجاسة والميل إلى الطهارة وعدم قياسه على الكلب والخنزير مثلاً ((لخلو الأخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك، وحينئذٍ يكون حكم ما لا تحله الحياة من الكافر خالياً من الدليل، فيتّجه التمسك فيه بالأصل إلى أن يثبت المخرج عنه))(3).

ورد صاحب الحدائق بأن الحكم معلق على عنوانهما.

أقول: هذا الرد ليس بصحيح والصحيح ما قاله صاحب المعالم (قدس سره) لأن النصوص التي استدل بها على نجاسة أهل الكتاب لم تدل صريحاً على المطلوب

ص: 288


1- راجع كلماتهم في مستند الشيعة للنراقي: 1/110 وغيره.
2- كتاب الطهارة من المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري: 5/109.
3- الحدائق الناضرة: 5/174.

وإنما انتزع عنوان النجاسة من اجتناب سؤرهم ونحوه وهو قاصر عن شمول ما لا تحله الحياة.

وأما (السابعة) فإنها تنافي روايات تشير إلى اعتصام ماء الحمام كصحيحة داود بن سرحان قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري)(1)

وخبر إسماعيل بن جابر في قرب الإسناد عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (ابتدأني فقال: ماء الحمام لا ينجّسه شيء)(3) وروايات وردت في نفس الموضوع كخبر أبي الحسن الهاشمي قال: (سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمام لا أعرف اليهودي من النصراني، ولا الجنب من غير الجنب، قال: تغتسل منه، ولا تغتسل من ماء آخر فإنه طهور)(4) وخبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضاً)(5)، فتحمل على النصيحة والإرشاد لاجتنابهم ونحوه لأن ماء الحمام يكون غالباً أكثر من كرّ فيكون معتصماً وإذا افترضناه أقل من ذلك فسبب اجتناب الغسل مع المذكورين هو لعدم ائتمانهم من جهة مباشرتهم النجاسات كالذي قلناه في السؤرمضافاً إلى تقريب دلالة ذيلها –ولعلها رواية أخرى- على طهارة اليهود والنصارى كما سيأتي بإذن الله تعالى.

أما الرواية (الثامنة) فلا دلالة في صدرها على نجاسة أهل الكتاب، وأما النهي عن مؤاكلة المجوسي ومصافحته فقد تقدم الكلام فيه، وإن ذيل الرواية منافٍ للقواعد ولأخبار معتبرة معارضة كصحيحة عبد الله بن سنان(2).

ص: 289


1- إلى (5) وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، باب 7، الأحاديث 1، 8، 6، 7.
2- قال: (سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر: إني أُعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه) (وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 74، ح1).

وأما الرواية (التاسعة) فلا يتعين الأمر بالغسل في التطهير من نجاستهم الذاتية إذ يمكن أن يكون غسل الآنية من أجل وضع النجاسات فيها كالخمر ولحم الخنزير وهذا معنى قد تكرر في روايات المسألة.

وأما (العاشرة) فقد تقدم النقاش في مثلها.

وأما الرواية (الثانية عشرة) فلا دلالة فيها على أن النهي هو لنجاستهم فلعلّه حكم تكليفي باجتناب معاشرتهم خصوصاً مع ذكر المصاحبة والقعود معهم ضمن عناوين المنهي عنه. وهي متحدة مع الرواية (الرابعة) التي هي بنقل الكليني، وهذه بنقل (قرب الإسناد) وكتاب علي بن جعفر.

وأما الرواية (الثالثة عشرة) فلا دلالة فيها على المطلوب ولعل الإمام (عليه السلام) أجاب بالقاعدة العامة لتكون الفائدة أعم من الحالة الخاصة.

وأما الرواية (الرابعة عشرة) فقد حملها الأصحاب على الكراهة والآثار المعنوية لمخالفتها للقواعد التي أسسها أهل البيت (عليهم السلام) كما في الخبر السابق ولسانها لا يأبى ذلك كما هو واضح.

والنتيجة عدم وجود ما يصلح للاستدلال به على نجاسة أهل الكتاب، بل وجود المعارض له.

روايات معارضة:

إن الروايات التي استدلوا بها على النجاسة توصلوا إليها من خلال ثلاثة معانٍ:-

1- عدم استعمال سؤر اليهودي والنصراني في ما يشترط فيه الطهارة كالوضوء والشرب.

ص: 290

2- عدم استعمال آنيتهم والأكل منها وفيها وتناول طعامهم والنوم في فراشهم ولبس ثيابهم.

3- غسل اليد عند مصافحتهم.وقد وردت عدة روايات معارضة لجميع هذه المعاني.

فمن الطائفة الأولى وما يلحق بها من معانٍ أُخر:-

1- ذيل صحيحة علي بن جعفر المتقدمة (السابعة) وفيها (وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يضطر إليه) وحمله في الوسائل ((على كرّيّة الماء أو على المادة في الحمام)) وقرب السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) هذا المعنى على نحو الإشكال على الاستدلال بالرواية وأجاب عليه فقال (قدس سره): ((يستشكل: بأن الرواية –على خلاف موثقة عمار الساباطي - مطلقة من ناحية قلة الماء وكثرته، فتكون أدلة نجاسة الكتابي مقيدة لإطلاق الرواية، بنحو تحمل على الكثير خاصة، غير أن تقييد الرواية بحملها على الكثير خاصة بعيد جداً، لندرة الكثير في بيئة الراوي، وبعد خفاء اعتصام الماء الكثير على مثل علي بن جعفر))(1) مضافاً إلى أن تقييد إطلاق الماء بالمعتصم لما دلّ على نجاسة الكتابي ليس أولى من التمسك بإطلاق الماء للاستدلال على طهارة الكتابي.

وحكي عن الشيخ حمله ((الاضطرار على التقية وأنه لا مانع من التوضّؤ بالماء المذكور تقية))(2).

وفيه: إن الاضطرار عنوان مباين للتقية، وسنناقش عند الترجيح بين الروايات بشكل عام حمل روايات الطهارة على التقية، وإن الماء لو تنجّس فإن التقية لا تسوّغ الوضوء به، وإنما يتيمم مع الانحصار به.

ص: 291


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/348.
2- نقله الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب الطهارة من المجموعة الكاملة: 5/104.

واحتمل السيد الحكيم (قدس سره) هذا المعنى فقال: ((ولعل المراد من الضرورة فيهما خصوص التقية التي ترفع الوضع كما ترفع التكليف، فيكون اليهودي والنصراني طاهرين في حال التقية، ولا بأس بالالتزام به))(1).

أقول: إن كون شيء ما نجساً في ذاته طاهراً في ظرف التقية مما لا يُتعقل، ولو تم هذا فإنه شامل لكل أنواع النجاسات لعدم التفكيك بينها في مثل هذا الحكم، فهل يعقل أن البول أو المني أو الدم يكون طاهراً في ظرف التقية ويكون نجساً في غيرها. نعم، قد تسوغ التقية مباشرة النجاسة حتى في المشروط بالطهارة، لكن يجب إزالة الآثار عند ارتفاع حكم التقية. كما أن رفع التقية للأحكام الوضعية كما ترفع الأحكام التكليفية مبنى لا أظنه (قدس سره) يلتزم به ولا الأدلة تساعد عليه، قال الشيخ النراقي (قدس سره): ((لو ألجأت ضرورة التقية إلى ملاقاة أهل النجاسة بالرطوبة، وفعل المشروط بانتفائها جاز، كما أوجبته شريعة التقية، وبعد زوالها يجب التطهير لمشروطه ما لم يلزم الحرج، للأمر المطلق للغسل الموجب له مطلقاً، وعدم وجوبه حال التقية لا يرفعه بعد رفعها، فإن الثابت عدم وجوب الغسل حال التقية، لا عدم وجوب غسل ما لاقى حالالتقية، وعدم ورود مثل الأمر في جميع النجاسات بعد عدم الفصل بينها غير ضائر، واستصحاب العفو غير نافع، لأن الثابت هو العفو المقيد بحال العذر))(2).

أقول: لعل المراد من كلام الشيخ (قدس سره) معنى آخر وهو الوضوء تقية لمجرد دفع الضرر لا للاجتزاء به فكأنه يأتي بصورة الوضوء لكنه يتيمم للصلاة ولا يعفيه هذا عن تطهير الملاقي عند زوال الموجب لكن هذا المعنى مخالف لظاهر الرواية من كون الوضوء للصلاة.

ص: 292


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/373.
2- مستند الشيعة للنراقي: 1/208.

فالصحيح أن الاضطرار في الرواية يعني عدم وجدان ماء غير هذا. فتفيد استحباب التوضؤ بغيره عند عدم الاضطرار لعدم الفرق ويشهد لهذا الظهور: إضافة الضمير إلى الماء فيناسبه هذا المعنى من الاضطرار ولو كان المراد التقية لأضيف الضمير إلى الوضوء، لأن التقية مرتبطة بكيفية الوضوء والاضطرار مرتبط بالماء.

2- صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت للرضا (عليه السلام): الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة، قال: لا بأس، تغسل يديها)(1).

وهي صريحة في طهارتهم الذاتية وإلا لم ينفعها غسل يديها، وبدلالة تصوير المشكلة من جهة مباشرتهم للنجاسة ولو كانت نجسة ذاتاً لكان التعليل بها أولى. وجواب الإمام (عليه السلام) جملة إنشائية تفيد الأمر بغسل يديها كشرط لطهارة ما تباشره في عملها فهي كالجملة الشرطية ((لا بأس إذا كانت تغسل يديها)) أو ما دامت تغسل يديها ونحوهما.

واستشكل عليها السيد الحكيم (قدس سره) ((بأن الظاهر أن مورد السؤال فيها قضية خارجية، لأن الظاهر من قول السائل ((الجارية النصرانية تخدمك)) خصوص الجارية المعينة التي كانت تخدم الرضا (عليه السلام) ولم يعلم أن هذا الاستخدام كان باختياره، أو باختيار سلطان الجور بأن كان (سلام الله عليه) مجبوراً على ذلك، فيكون السؤال عن حاله مع هذه الجارية في ظرف اضطراره إلى خدمتها، ولو كان المراد السؤال عن القضية الكلية لكان المناسب التعبير بقوله: الجارية تخدم الإنسان، أو تخدمني كما لعله ظاهر. وحينئذٍ يشكل الاستدلال بها على ما نحن فيه، لإجمال الواقعة التي هي موضوع السؤال))(2).

ويرد عليه:-

ص: 293


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح11.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/373.

أ- إن مثل إبراهيم في جلالة قدره لا يمكن أن يسأل عن تكليف الإمام في ما يفعل فإن الإمام لا يسأل عن فعله وهم يُسألون.أ- إن الافتراضات التي ذكرها (قدس سره) –أعني وجود الجارية عنده (عليه السلام) كرهاً- بعيدة في نفسها ولا يناسبها جواب الإمام (عليه السلام) ولو كان وجودها عنده (عليه السلام) تقية فلا يلزم منه أن يكون جوابه (عليه السلام) تقية، فهذا الكلام منه (قدس سره) لا يعدو أن يكون من باب ضيق الخناق، كما اعترف لاحقاً ب- ((بعد المحامل المذكورة وإباء أكثر النصوص عنها))(1).

ج-- إن التعبير عن القضايا الحقيقية بلسان تطبيق الموضوع على المخاطب فيقول: (الجارية تخدمك) وارد ومتعارف كما يمكن أن يطبقها السائل على نفسه فيقول: (الجارية تخدمني) ويمكن أن يطبقه على ثالث فيقول: (رجل تخدمه جارية) إلخ ولا يضر أي واحد منها في كون القضية حقيقية.

د- على تقدير صحة ما ذكره (قدس سره) فإنه لا يغيّر في دلالة الرواية على طهارتهم الذاتية بل قيل إن حملها على القضية الخارجية يكون أبلغ في الأمر لاقتران القول بالفعل، إلا أن يتم (قدس سره) الاستدلال بضميمة ما نقلناه عنه من أن الإكراه كالتقية ترفع الوضع كالتكليف، وقد ناقشناه مضافاً إلى أنه (قدس سره) قال هناك أن ذلك جارٍ في خصوص التقية.

3- مرسلة الوشا عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك، وكل من خالف الإسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب)(2).

ص: 294


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/374.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 3، ح2، 3.

وتقريب الاستدلال بها من جهة أن الإمام (عليه السلام) حكم على هذه الأسئار بالكراهية المحمولة على المعنى المصطلح ولو بقرينة وجود عناوين غير محرمة كولد الزنا.

4- موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي؟ فقال: نعم، فقلت: من ذلك الماء الذي شرب منه؟ قال: نعم)(1) .

وعلق عليه صاحب الوسائل (قدس سره): ((حمله الشيخ على من ظنه يهودياً ولم يتحققه فلا يحكم عليه بالنجاسة إلا مع اليقين، ويمكن حمله على التقية)) وهو خلاف الظاهر.

واستشكل السيد الحكيم (قدس سره) ((بأن الحكم فيه يمكن أن يكون مبنياً على عدم انفعال الماء القليل فيكون كغيره مما ورد في سائر النجاسات))(3).(2)

ويرد عليه (قدس سره):-أ- أنه (قدس سره) نقل الإجماع صريحاً وظاهراً على نجاسة القليل الملاقي للنجاسة وأن الروايات الواردة في ذلك تصل إلى ثلاثمائة، فالاحتمال الذي ذكره (قدس سره) غير وارد، وإن أراد بأن هذا الاحتمال خاص بنجاسة اليهودي فيرد عليه أن أدلة انفعال الماء القليل بالنجاسة آبية عن التقييد والتفصيل بين نجاسة وأخرى، وإن أراد أن هذه الرواية كبعض الروايات الظاهرة في عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة والتي أعرضوا عنها، ففيه أنه مصادرة على المطلوب لأن الحكم بنجاسة اليهودي أول الكلام.

ب- ((إمكان دعوى ظهور السؤال في الرواية في استعلام حال الكتابي، لا حال الماء القليل من حيث الاعتصام وعدمه؛ لأن تعرض الماء القليل في حياة المسلم الاعتيادية لملاقاة نجاسات أخرى أكثر جداً من

ص: 295


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 3، ح2، 3.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/373.

تعرّضه لملاقاة الكتابي، ففرض ملاقاته للكتابي دون تلك النجاسات ينسبق منه النظر إلى حال الكتابي، لا حال الماء))(1).

ومن الطائفة الثانية:-

1- صحيحة عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي أيَدعونه إلى طعامهم؟ فقال: أما أنا فلا أُواكل المجوسي، وأكره أن أُحرِّم عليكم شيئاً تصنعونه في بلادكم)(2)، فتدل على أن تركه (عليه السلام) مؤاكلة المجوس تنزّه وعدم لياقة لمثل مقامه المقدس أن يؤاكلهم مع عدم الحاجة إليه بعكس المبتلين به فإنه يحرّمها عليهم ولازمه طهارتهم، وقد حملها البعض على التقية وسنناقشه عند الترجيح بين الروايات.

2- خبر زكريا بن إبراهيم قال: (كنت نصرانياً فأسلمت فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أهل بيتي على دين النصرانية فأكون معهم في بيت واحد وآكل من آنيتهم؟ فقال لي (عليه السلام): أيأكلون لحم الخنزير؟ قلت: لا، قال: لا بأس)(3)، هذا برواية الكافي والمحاسن، ورواه عن التهذيب بإضافة في ذيله (فقال لي: يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا ولكنهم يشربون الخمر، فقال لي: كل معهم واشرب)(4) وهي صريحة في طهارتهم الذاتية وأن نجاستهم عرضية من جهة أكلهم الخنزير، ويمكن أن تُحمل أمثالها على التقية لوجهٍ ذكرتله وناقشناه (صفحة 292).

3- خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: (سألته عن ثياب اليهود والنصارى أينام عليها المسلم؟ قال: لا بأس)(5).

ص: 296


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/346.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 72، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح5.
5- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 73، ح8.

وهذه الرواية ذكرناها لمعارضة ما استدلوا به على النجاسة من النهي عن الرقود في فراشهم.

4- صحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني، فقال: لا بأس، إذا كان من طعامك وسألته عن مؤاكلة المجوسي، فقال: إذا توضأ فلا بأس)(1)، وهي تدل على عدم نجاستهم الذاتية فإن كانت مؤاكلتهم من طعام المسلم وغسّلوا أيديهم فلا بأس.

وناقش السيد الحكيم (قدس سره) بأن ((دلالتها على الطهارة غير ظاهرة، لقرب احتمال كون الملحوظ في جهة السؤال مجرد المؤاكلة، لا المساورة، ولا ينافيه ما ذكر من غسل اليد، لاحتمال كونه دخيلاً في ذلك بما أنه من آداب الجلوس على المائدة، لا من حيث كونه دخيلاً في طهارة السؤر))(2).

ويرد عليه مخالفته الظاهر، ولو كان السؤال عن الحكم التكليفي لمجرد المؤاكلة لم يبق معنى لاشتراط أن تكون من طعام المسلم، وإذا كان (قدس سره) يبني على مثل هذه المناقشة فكيف استدل بمثيلاتها على النجاسة (كالرابعة وهي صحيحة علي بن جعفر) فيبطل حينئذٍ الاستدلال للإجمال.

5- موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن طعام أهل الذمة ما يحل منه؟ قال: الحبوب)(3).

ومثلها روايات عديدة في نفس الباب، والظاهر أن المراد من الطعام في السؤال الحبوب المطبوخة بقرينة مقابلتها باللحوم ولأن الحبوب الجافة لا يفرق فيها بين أهل الكتاب وغيرهم فلا خصوصية لهم حتى يُذكروا، وفي

ص: 297


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 53، ح4.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/371.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 51، ح1.

خبر دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (أنه رخّص في طعام أهل الكتاب وغيرهم من الفرق إذا كان الطعام ليس فيه ذبيحة)(1).

وحينئذٍ فإن هذه الروايات تفسّر البأس والنهي عن مؤاكلتهم والأكل من طعامهم بأنه ما احتوى أو لامس شيئاً مما لا يحل كلحم الخنزير وشحمه أو الخمر أو آنيتها.

6- صحيحة قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنه سُئل عن قوله تعالى: «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» (المائدة: 5)1- قال: كان أبي يقول: إنما هي الحبوب وأشباهها)(2) ومثلها صحيحة هشام بن سالم.

7- صحيحة إسماعيل بن جابر قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير)(3)

وناقش السيد الحكيم (قدس سره) ((بأن تكرار النهي عن الأكل الدال على مزيد الاهتمام به، لا يناسبه كونه تنزيهياً، فبيانه (عليه السلام) أن النهي تنزيهي مما يوجب الارتياب في وجه الحكم ومعه يشكل العمل به))(4).

((لا سيما مع تعليله بأن في آنيتهم الخمر والخنزير اللذين هما نجسان بلا كلام فلا بد من حمله على التقية))(5).

ص: 298


1- جامع أحاديث الشيعة: أبواب الذبائح، باب 18، ح7.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 51، ح 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح4.
4- مستمسك العروة الوثقى: 1/373.
5- فقه الصادق: 4/443.

أقول: هذا اجتهاد مقابل النص فقد صرح الإمام (عليه السلام) بعدم كون النهي إلزامياً في ذيل الرواية لرفع احتماله في ذهن الراوي بسبب تكرار النهي الذي ورد مثله في بعض الأحكام غير الإلزامية كصلاة الليل(1)، وإن التعليل بأن في آنيتهم الخمر والخنزير دليل على طهارتهم الذاتية، أما عدم وجوب اجتناب الآنية فلعدم العلم بوضع الخمر ولحم الخنزير فيهما فلا موجب للحمل على التقية.

8- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألته عن آنية أهل الكتاب، فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير)(2).

بتقريب: أن مفهوم كلام الإمام (عليه السلام) جواز الأكل في آنيتهم إذا اجتنبوا هذه النجاسات مع مساورتهم إياها بالرطوبات فهم طاهرون ذاتاً.

وناقش فيها السيد الحكيم (قدس سره): ((بأن الشرطية فيه ليست لها مفهوم)).أقول: لا نعلم وجهاً لنفي المفهوم في هذه الجملة التي هي أوضح الجمل في تحقق المفهوم لتقدم الجزاء على الشرط، إلا أن يقال أن الوجه في عدم المفهوم عدم كون العلة لاجتناب الأكل من آنيتهم وهي النجاسة العرضية بأكل الميتة والدم غير منحصرة لاحتمال أن العلة هي النجاسة الذاتية لأهل الكتاب، لكن هذا مردود لأن فيه مصادرة على المطلوب، وقيل أن الوجه كون الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم لها، وهو

ص: 299


1- في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها) إلى أن قال: (وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الزوال) (وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب4، ح2).
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح6.

مردود أيضاً لأن الموضوع –وهو الآنية- ثابت حتى مع انتفاء الشرط وهو عدم أكل النجاسات المذكورة فيها.

9- خبر(1) يونس عنهم (عليهم السلام) وفيه (ولا بأس بأكل الجبن مما عمله مسلم أو غيره، وإنما يكره أن يؤكل سوى الإنفحة في آنية المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقّون الميتة ولحم الخنزير)(2).

وتقريب الاستدلال من جهتين:

(أولاهما) أكل الجبن مما في أيدي غير المسلمين مع مباشرتهم له.

(ثانيهما) تعليل كراهة الأكل من آنيتهم بعدم توقّيهم الميتة ولحم الخنزير وهو يقتضي عدم نجاستهم الذاتية.

10- موثقة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (أن علياً (عليه السلام) كان يقول: كلوا طعام المجوس كله ما خلا ذبائحهم فإنها لا تحلّ وإن ذكر اسم الله عليها)(3).

ومن الطائفة الثالثة:-

خبر خالد القلانسي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألقى الذمي فيصافحني، قال: امسحها بالتراب وبالحائط، قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها)(4).

مضافاً إلى طوائف أُخر من الروايات كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت للرضا (عليه السلام):

ص: 300


1- من جهة وجود إسماعيل بن مرار وقد اختلف في وثاقته.
2- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 9، ح5 عن الكافي والتهذيب.
3- جامع أحاديث الشيعة: أبواب الذبائح، باب 18، ح46.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح4.

الخياط أو القصار يكون يهودياً أو نصرانياً، وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ، ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس)(1).

ويقرّب الاستدلال بها على طهارتهم من جهة إصرار السائل على أنهم يشربون الخمر ويأكلون الخنزير ولا يتطهرون من البول، وهذا يعني عدم نجاستهمالذاتية وإلا كان الأولى التعليل بها ولا يبقى معنى لافتراض النجاسة العرضية ((وهذه الرواية وإن أمكن حملها –بالإضافة إلى الخياط- على صورة عدم العلم بملاقاة يده الثوب رطباً إلا أنها بالإضافة إلى القصار مما لا يجري فيه هذا الاحتمال لأنه يغسل الثوب بيده، وحيث إنه (عليه السلام) نفى البأس عن عمله فتستفاد منه طهارة أهل الكتاب وعدم تنجس الثوب، بملاقاتهم رطباً))(2).

واستشكل السيد الحكيم (قدس سره) بأنه ((لا يظهر منها أن السؤال من حيث النجاسة أو من حيث جواز العمل))(3).

أقول: لا وجه للاحتمال الثاني ولا معنى لأن يسأل إبراهيم عن جواز مثل هذا العمل لليهودي والنصراني إلا من حيث مباشرتهم لملابس المسلمين.

علاج التعارض:

إذا تمت الروايات الدالة على المعنيين –النجاسة والطهارة- سنداً ودلالةً ولو في الجملة فإنه يقع التعارض بينهما، ويعالج التعارض من خلال عدة مراتب:

(الأولى) وجود دليل خاص يحل هذا التعارض ويبيّنه، وهو هنا موجود وأعني به صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة (صفحة 298) قال: (قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير)

ص: 301


1- تهذيب الأحكام، ج6، باب المكاسب، ح 263.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 3/46.
3- مستمسك العروة الوثقى: 1/373.

فإنها تبيّن أن الاجتناب والنهي إنما هو للتنزّه. ويلحق به كل الروايات التي عللت اجتناب آنيتهم وطعامهم بمباشرتهم النجاسات.

لكن هذا الدليل لا يستوعب كل نواحي التعارض لعدم شموله لقضية المصافحة والسؤر والاغتسال في ماء واحد ونحوها.

نعم، يمكن القول بوجود المرجح في نفس روايات الطهارة باعتبارها معللة للنجاسة بأنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر أو يضعونها في آنيتهم ولا يتطهرون من النجاسات، ومعللة للطهارة بأنها تغسل يديها ونحوها، والمعلل يُقدَّم على المطلق لأنه يفسر وجوب الاجتناب وغسل الملاقي المذكور في روايات النجاسة ويفسر عدم وجوب الاجتناب في روايات الطهارة فهي حاكمة على روايات النجاسة ومقدمة عليها ولا تصل النوبة إلى التعارض أصلاً.

(الثانية) وجود ما سمّيناه في مسألة سابقة بالمرجح المساوي وقصدنا به الدليل الذي يكون مسوقاً لبيان حكم معين غير مادة التعارض –وهذه نكتة عدم شموله بالتعارض- ويستفاد منه حكم آخر في مادة التعارض، وهذا المرجح لإحدى الطائفتين يقتضي التصرف في ظهور الطائفة الأخرى وحملها على ما لا ينافي المجموعة الراجحة.

والمرجح المساوي في مسألتنا موجود ومتحقق بعدة وجوه:-

1- الروايات الدالة على جواز النكاح المنقطع بالكتابية كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في الرجل المؤمن يتزوج اليهودية والنصرانية، فقال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ فقلت له: يكون له فيها الهوى، قال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، واعلم أن عليه في دينه غضاضة)(1) وخبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن نكاح اليهودية والنصرانية، فقال: لا بأس به أما علمت أنه كان تحت طلحة بن عبيد الله يهودية على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) )(2).

ص: 302


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالكفر،باب 2، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالكفر،باب5، ح4.

بتقريبين:-

أ- إن الإمام (عليه السلام) نبّه معاوية في الصحيحة إلى منعها عن مباشرة النجاسات، وكان الأولى الإشارة إلى نجاستها الذاتية لو كانت موجودة.

ب- إن الروايات ((على كثرتها واشتهارها وعمل الأصحاب بها لم تتعرض للتنبيه على نجاستها، فإن الملابسات والملامسات التي تكون بين الزوج والزوجة لا تمكن مع نجاسة الزوجة ولم يتعرض في تلك النصوص للإشارة إلى ذلك))(1).

2- الروايات الدالة على تغسيل أهل الكتاب للميت المسلم إذا افتقد المماثل أو أحد المحارم كموثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: (قلت: فإن مات رجلٌ مسلم، وليس معه رجل مسلم ولا امرأة مسلمة من ذوي قرابته ومعه رجال نصارى ونساء مسلمات ليس بينه وبينهن قرابة؟ قال: يغتسل النصارى ثم يغسّلونه فقد اضطر، وعن المرأة المسلمة تموت وليس معها امرأة مسلمة ولا رجل مسلم من ذوي قرابتها ومعها نصرانية ورجال مسلمون، قال: تغتسل النصرانية ثم تغسّلها)(2).

وموثقة عمرو بن خالد(3) عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: (أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفرٌ فقالوا: إن امرأة توفيت معنا وليس معها ذو رحم، فقال: كيف صنعتم بها؟ فقالوا: صببنا عليها الماء صباً، فقال: أما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسّلها؟ قالوا: لا، فقال: أفلايممتموها)(4)، وهذا الحكم هو ((المشهور كما عن

ص: 303


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/376.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب تغسيل الميت، باب 19، ح1.
3- عمرو بن خالد هو أبو خالد الواسطي بحسب القرائن وقد وثّقه ابن فضال (راجع معجم رجال الحديث: 13/104).
4- الاستبصار، ج1، كتاب الطهارة، باب 118: الرجل يموت في السفر، ح14.

جماعة. وعن التذكرة: أنه مذهب علمائنا. وفي الذكرى: لا أعلم لهذا مخالفاً من الأصحاب سوى المحقق في المعتبر))(1).

وقد حاول القائلون بنجاسة أهل الكتاب التخلص من إشكالية هذه النصوص الدالة على طهارة الكتابي، فقال بعضهم: ((إن نجاستهم –أي أهل الكتاب- لا تنافي صحة الغسل، إذ يمكن أن يكون الوجه في الصحة العفو عن هذه النجاسة أو عدم تنجس الماء المستعمل في الغسل ولا بدن الميت من مباشرته)).

أقول: وقد أجبنا عن هذا الوجه –أي عدم الانفعال بملاقاة النجس- فيما سبق، أما احتمال العفو عن النجاسة فغير وارد لأن المطلوب التطهير ولو عجزوا عن الماء الطاهر فالوظيفة التيمم.

ثم ذكر أن كل الروايات الدالة على طهارة أهل الكتاب يمكن ترك العمل بها لإعراض الأصحاب عنها أما هذه فاعترف بأنه ((لا يمكن فيها ذلك لما عرفت من عمل الأصحاب بها))(2).

أما السيد الحكيم (قدس سره) فإنه بعد أن ذكر أن ((الإشكالات التي تتوجه على العمل بالنصوص ترجع إلى أمور: (الأول) عدم تأتّي النية من الكافر من جهة عدم اعتقاده بمشروعية التغسيل. (الثاني) عدم صلاحية الكافر للتقرب. (الثالث) أنها ضعيفة السند. (الرابع) أن الكافر نجس فلا يفيد غيره طهارة لان الفاقد لا يعطي)) ودفعها جميعاً قال (قدس سره): ((ويدفع الرابع: أن الكافر إنما يفيد غيره الطهارة بتوسط الماء، ولا مانع من تأثير الماء النجس في رفع حدث الميت وحصول الطهارة له، لاختلاف السنخ، فلا ينافي قاعدة (إن الفاقد لا يعطي). وأما الطهارة الخبثية الحاصلة من التغسيل. فلأنها من آثار ارتفاع الحدث لا من تأثير الماء النجس، لأن النجاسة الخبثية قائمة بالحدث فتزول بزوال موضوعها. وأما

ص: 304


1- مستمسك العروة الوثقى: 4/92.
2- فقه الصادق: 4/445، 446.

تنجس بدن الميت بالماء النجس، فلا يهم، لأن النجاسة عرضية، وهي أخف من النجاسة الذاتية الزائلة بالتغسيل))(1).

أقول: قد وصفنا هذه المحاولات بأنها لفك ضيق الخناق وإلا فإنه (قدس سره) يعلم أن من شروط رفع الحدث طهارة الماء المستعمل فكيف يكفي اختلاف السنخ في رفع الحدث بماء نجس، والله المسدِّد.

3- الفهم المرتكز لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لطهارة أهل الكتاب الذي تكشف عنه أسئلتهم فقد كانوا يثيرون المشكلة من جهة مباشرتهم للنجاسات كالخمر ولحم الخنزير ولو كانت نجاسة أهل الكتاب معروفة عندهم لسألوا من1- ناحيتها، والإمام (عليه السلام) كان يقرّ هذا الفهم عندهم ومن الروايات في هذا الباب صحيحة عبد الله بن سنان (صفحة 290) وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود (صفحة 293) وصحيحة معاوية بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ألبسها، ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: نعم، قال معاوية: فقطعت له قميصاً وخطته وفتلت له أزراراً ورداءً من السابري، ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة)(2) وغيرها.

(الثالثة) ما يقتضيه الجمع العرفي وهو ممكن في المقام وتشهد له جملة من الروايات، وذلك بحمل النهي الوارد في الأخبار التي استدل بها على النجاسة على النهي التكليفي عن مواددة أعداء الله ورسوله، أو على فرض العلم بوجود نجاسات عرضية طارئة أو على استحباب الاجتناب عنهم وغسل اليد عند مصافحتهم وكراهة مساورتهم، لما دلّ صريحاً على جواز ذلك في روايات

ص: 305


1- مستمسك العروة الوثقى: 4/93.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 73، ح1.

الطهارة، لأن المجموعة الأولى ظاهرة في النجاسة ووجوب الاجتناب وغسل اليد فلا مانع من التصرف في هذا الظهور بمقتضى روايات المجموعة الثانية.

قال السيد صاحب المدارك (قدس سره): ((ويشهد للثاني –أي حمل النهي على الكراهة- مطابقته لمقتضى الأصل))(1)

وحكي عن المحقق السبزواري (قدس سره) قوله في الذخيرة: ((والتحقيق أنه لولا الشهرة العظيمة بين العلماء وادعاء جماعة منهم الإجماع على نجاسة أهل الكتاب لكان القول بالطهارة متجهاً لصراحة الأخبار الدالة على الطهارة على كثرتها في المطلوب وبُعد حمل الكلام على التقية وقرب التأويل في أخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة فإنه حمل قريب))(2).

وهذا ما أوجب نقداً قاسياً من صاحب الحدائق (قدس سره) فوصفه بأنه ((اجتهاد محض في مقابلة النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص)) ومما قال (قدس سره): ((فعدولهم عما مهّده أئمتهم إلى ما أحدثوه بعقولهم واتخذوه قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه بآرائهم من غير دليل عليه من سنة ولا كتاب جرأة واضحة لذوي الألباب)) ((ما هذا إلا عجب العجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب)).

أقول: لقد تكررت منه (قدس سره) مثل هذه الكلمات بحقهم وهم أجلّ من هذه التهم فإنهم لم يعملوا بغير النصوص الشريفة ولم يخرجوا عن الطريقة العقلائية في فهم النصوص والجمع بينها والتي أقرّها الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم).

(الرابعة) المفروض كفاية المراتب السابقة لإزالة المشكلة وحلّ التعارض إلا أن الأصحاب (قدس الله أرواحهم) افترضوا استقرار التعارض وتوجّهوا إلى الترجيحبين المتعارضين والمشهور بينهم الذي كاد أن يكون إجماعاً هو العمل بالروايات الدالة على النجاسة وترك العمل بالروايات الدالة على

ص: 306


1- مدارك الأحكام: 2/218.
2- الحدائق الناضرة: 5/173.

الطهارة، وعُدَّ هذا الإعراض (تارةً) مرجّحاً للعمل بروايات النجاسة كما سيأتي عن صاحب الحدائق (قدس سره) و(تارةً) مانعاً عن الأخذ بروايات الطهارة بعد الاعتراف بإمكان الجمع العرفي الذي ذكرناه، فالشيخ النراقي (قدس سره) بعد أن ناقش التقريبات التي قيلت للاستدلال بالروايات على النجاسة قال (قدس سره): ((ولا ترجيح لشيء من ذلك على حمل النهي على الكراهة)) واستدل بصحيحة إسماعيل بن جابر على التصريح بالكراهة، ثم قال (قدس سره): ((هذا مع أن الثانية بل كثير من غيرها لا يفيد بنفسه أزيد من الكراهة للخلو عن صريح النهي))(1)،

ثم ذكر الروايات التي استدل بها على الطهارة ونقل مناقشاتها ثم قال (قدس سره): ((ولكن الإنصاف ظهور دلالة بعض منها، إلا أنها بمعزل عن الحجية لترك ناقليها العمل بها، ومخالفتها للشهرة العظيمة بين ما تقدم وتأخر، بل المحقق من الإجماع، كيف لا ونجاستهم بين عوام العامة والخاصة وخواصهم معدودة من خواص الخاصة، وهما من أقوى الأسباب المخرجة للخبر عن الحجية))(2).

وقال السيد الحكيم (قدس سره): ((إن أمكن البناء على المناقشات المذكورة في هذه النصوص أي نصوص الطهارة –ولو للجمع بينها وبين ما دل على النجاسة- فهو المتعين، وإن لم يمكن ذلك –لبعد المحامل المذكورة، وإباء أكثر النصوص عنها- فالعمل بنصوص الطهارة غير ممكن، لمخالفتها للإجماعات المستفيضة النقل))(3).

وقال (قدس سره): ((وبالجملة: الوثوق النوعي المعتبر في حجية الخبر لا يحصل في أخبار الطهارة بعد هذا الإجماع))(4).

أقول: إذا كان هذا الإعراض معتبراً بأن كان تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) –وسنناقشه إن شاء الله تعالى- فلا بد أن يُتعامل معه على النحو

ص: 307


1- مستند الشيعة: 1/201.
2- مستند الشيعة: 1/203.
3- مستمسك العروة الوثقى: 1/374-375.

الثاني لا الأول، لأن الإعراض المعتبر يلغي حجية الخبر فلا يعود حجة حتى نفترض التعارض بينه وبين الحجة الأخرى، ولو كان الإعراض من النحو الأول لما وصلت النوبة إليه لأن الترجيح بين المتعارضين لا يصحّ إلا إذا استحكم التعارض، أو قل: إن التعارض بين الدليلين واستعمال المرجّحات فرع ثبوت حجيتهما وعدم إمكان الجمع العرفي بينهما. والمفروض إمكان الجمع العرفي بينهما في المقام فلا بد من تقديم المانع عن الأخذ بهذا الجمع في المرتبة السابقة عن حجيتها، فبين النحوين رتبتان وإن الجمع العرفي كأسلوب للتعاطي مع الروايات المتعارضة بدواً معروف بين الأصحاب.

ومن هنا يظهر الإشكال على منهجية بحث المسألة عند صاحب الحدائق والشيخ الأنصاري (قدس الله سريهما) وغيرهما الذين تعاملوا مع إعراض الأصحاب عن نصوص الطهارة كمرجح وهي مرتبة لاحقة للحجية وإمكان الجمع العرفي بينهما، فالصحيح اعتبار إعراض الأصحاب قادحاً في حجية روايات الطهارة.وعلى أي حال فإن مناقشتنا الآتية ستتناول كلا النحوين من الاعتبار.

قال صاحب الحدائق (قدس سره): ((والحق عندي هو الترجيح لأخبار النجاسة وذلك من وجوه:

(الأول): اعتضادها بظاهر القرآن بالتقريب الذي قدمنا بيانه في معنى الآية وهي قوله سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» وقد عرفت الجواب عما أوردوه على الاستدلال بالآية المذكورة، وهذا أحد وجوه الترجيحات المروية عن أهل العصمة (عليهم السلام) في مقام تعارض الأخبار في الأحكام الشرعية))(1).

أقول: ناقشنا الاستدلال بالآية على أصل النجاسة ومن حيث شمولها لأهل الكتاب ولم يتم عندنا شيء منهما.

ص: 308


1- الحدائق الناضرة: 5/172.

(( (الثاني): كون أخبار الطهارة موافقة لمذهب العامة بلا خلاف ولا إشكال كما صرح به جملة من الأصحاب حتى أن المرتضى كما قدمنا ذكره جعل القول بالنجاسة هنا من متفردات الإمامية، ومما يشير إلى التقية قوله (عليه السلام) في حسنة الكاهلي المسوقة في جملة أدلة القول بالطهارة: (أما أنا فلا أدعوه ولا أواكله وإني لأكره أن أحرم عليكم شيئاً تصنعونه في بلادكم) فإن مرمى هذه العبارة أن ذلك حرام شرعاً ولكنه يكره أن يأمرهم به لما يخاف عليهم من لحوق الضرر بهم في ذلك، وإلا فلو كان حلالاً شرعاً فإنه لا معنى لاختصاص ذلك بهم (عليهم السلام) وهذا أيضاً أحد وجوه الترجيحات المنصوصة من عرض الأخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة والأخذ بخلافهم)).

أقول:-

1- صحيح أن المنقول عن أئمة المذاهب أنهم اختاروا طهارة الإنسان مطلقاً، إلا أن هذا بمجرده لا يوجب حمل أخبار الطهارة على التقية، لعدم كون هذا الحكم مما يمثل رأياً رسمياً يُحذر من مخالفته، مضافاً إلى أنه نقل عن بعضهم المنع من استعمال أوانيهم، قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف: ((لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم، وقال الشافعي: (لا بأس باستعمالها ما لم يعلم فيها نجاسة)، وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: (لا يجوز استعمالها) ))(1) .

2-إن الحمل على التقية يمكن تصوره على نحوين:-

(أولهما) في مقام العمل والتعاطي مع الآخرين فيعلِّمُ الإمام (عليه السلام) شيعته بأن يتعاملوا مع أهل الكتاب على أنهم طاهرون تقيةً، وهذا بعيد لأن أهل الكتاب ليسوا ممن يتقى منهم في المجتمع المسلم، ولو كان الأمر كذلك لاقتضى أن يشترط الإمام (عليه السلام) على السائل

ص: 309


1- الخلاف: 1/4 المسألة 16.

التطهير من آثار النجاسة عند عودته إلى منزله وارتفاع موجب التقية وإلا حصل التغرير به.(ثانيهما) إن الإمام (عليه السلام) أجاب بما أجاب تقية، وهذا بعيد أيضاً لاستبعاد أن يكون الإمام (عليه السلام) في كل موارد صدور هذه الروايات في حال تقية ولأن جملة من النصوص الدالة على الطهارة تأبى الحمل على التقية من جهة وضوح بيانها وكثرتها ومخالفة بعضها للتقية، كمرسلة الوشا.

3-إن التقية –كمسوغ لصدور الروايات الدالة على الطهارة –ليست أولى من التنزه والترفع عن مساورة غير المسلمين الذين نهينا عن مواددتهم و المباشرين للنجاسات المغلّظة كالخمر والخنزير –كمسوغ لصدور الروايات الدالة على النجاسة-، فاحتمال حمل روايات الطهارة على التقية لذلك المسوغ ليس أقوى من احتمال حمل روايات النجاسة على التنزه والحكم التكليفي بوجوب الاجتناب لهذا المسوّغ.

أما ما قاله (قدس سره) من تقريب الرواية فقد بيّنا تقريب الاستلال بالآية على الطهارة اقتضاء المنزلة الشريفة للإمام (عليه السلام) الكثير من التنزه من باب: (حسنات الأبرار ذنوب المقربين).

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): ((ويشهد به –أي احتمال ورودها تقية- بعض الروايات، مثل رواية زكريا بن إبراهيم، حيث ذكر الراوي: أنهم لا يأكلون لحم الخنزير لكنهم يشربون الخمر، في جواب استفصال الإمام (عليه السلام) عن خصوص أكل لحم الخنزير، فإنه لولا التقية لم يكن وجه للفرق بين الخنزير والخمر))(1).

أقول: مضافاً إلى ضعف الخبر، وعدم اتفاق المصادر على وجود هذه الفقرة المتعلقة بالخمر، فإننا قد حررنا سابقاً مسألة نجاسة الخمر ومنه يعرف الفرق بين الخنزير والخمر. والرواية شاهد على الفرق بينهما.

ص: 310


1- كتاب الطهارة من المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 5/105.

(( ( الثالث ): اعتضاد أخبار النجاسة باتفاق الأصحاب إلا الشاذ النادر الذي لا يعبأ بمخالفته، قال في المعالم: ثم إن مصير جمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلى القول بالتنجيس مقتضٍ للاستيحاش في الذهاب إلى خلافه بل قد ذكرنا أن جماعة ادعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف)).

أقول: يرد عليه:-

1- عدم وجود مثل هذا الإجماع كما تقدم، قال المحقق (قدس سره) في المعتبر: ((الكفار قسمان: يهود ونصارى ومن عداهما، أما القسم الثاني فالأصحاب متفقون على نجاستهم، وأما الأول))(1) ثم حكى الأقوال ولو وُجد إجماع لما فصّل بين القسمين بل إنه غير معروف لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لذا كانوا يثيرون في أسئلتهم عن أهل الكتاب قضية نجاستهم العرضية كما قدمنا.

2- إن الإجماع إنما يكون مانعاً عن الأخذ بخلافه لو كان تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) وهو هنا اجتهادي مبني على التمسك بالآية والأخذ بالاحتياط وموافقة أخبار النجاسة للتنزه واجتناب غير المسلمين بل غير المأمونين من المسلمين أيضاً وقد صرّحوا بمبانيهم، ثم تحوّلت هذه الاحتياطات1- والحزازات النفسية إلى فتاوى بالنجاسة وكم من تسالم بين القدماء خالفه المتأخرون كوجوب نزح البئر حتى خالفهم العلامة (قدس سره) ما دام الدليل على خلافهم.

3- إن الشهرة المرجحة في باب التعارض هي الشهرة الروائية لا الفتوائية وشهرة العمل بأحد المتعارضين، والموجودة في المقام الثانية لا الأولى فإن الروايات الدالة على الطهارة لا تقل شهرة عن الأخرى.

4- الشك في اتصال هذا الإجماع بزمان المعصوم (عليه السلام) وعدم وجود مثل هذا الارتكاز لدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بل الموجود

ص: 311


1- حكاه في الحدائق الناضرة: 5/162.

خلافه كما قرّبنا في المرتبة الثانية فالمحتمل أن هذا الإجماع نشأ بعد زمان المعصومين (سلام الله عليهم).

5- إن المانع عن الأخذ بالروايات هو الإعراض عنها –لو تم- لا عدم العمل بها بمجرده وإن القدماء (قدس الله أرواحهم) لم يعرضوا عن روايات الطهارة ((فهذا الشيخ الطوسي لا يرمي ما يدل على الطهارة بالخلل أو نحوٍ من الشذوذ، الذي رمى به ما دل على جواز الوضوء بماء الورد ونحوه، ونلاحظ أن جملة من روايات الطهارة قد أفتى الأصحاب بمضمونها وإن لم يستفيدوا منها الطهارة.

فالشيخ الطوسي (قدس سره) يذكر : (أنه يكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفار إلى طعامه فيأكل معه، وإن دعاه فيأمره بغسل يده ثم يأكل معه إن شاء)، وقد ذكر المحقق الحلي : أن هذه الفتوى مبنية على رواية العيص، إه-.

وهذا يعني: أن الشيخ عمل بها، وإن لم يستفد منها الطهارة لحملها مثلاً على فرض عدم الرطوبة.

كما أن الشيخ قد تمسك ببعض روايات الطهارة لإثبات النجاسة، فقد استدل على النجاسة برواية علي بن جعفر في ماء الحمام مع ذيلها، الذي عرفت منا أنه يدل على الطهارة، ومعنى ذلك عدم صحة افتراض الخلل في النقل في تلك الروايات، وإلا لما صح الاستدلال بها على شيء))(1).

قال السيد الحكيم (قدس سره): ((ودعوى: أن مخالفة الإجماع إنما تقدح في نصوص الطهارة إذا كانت كاشفة عن خلل فيها، من جهة السند، أو جهة الصدور، وهو غير ظاهر في المقام، فإن المذكور في كلام غير واحد أن الوجه في إعراضهم عنها ترجيح نصوص النجاسة عليها، لموافقتها للاحتياط وللكتاب ومخالفتها العامة فإذا تبين الخطأ في ذلك لأن الرجوع إلى المرجحات

ص: 312


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/354.

يكون مع تعذر الجمع العرفي مع أنه ممكن هنا، بحمل نصوص النجاسة على الكراهة، كما تقدم في صحيح إسماعيل بن جابر:

مندفعة؛ بأن ذلك الخطأ لو جاز على بعضهم فلا يجوز على جميعهم كيف؟ ولم يزل بناؤهم على الجمع العرفي في أمثال المقام، كما يظهر بأدنى تتبع في المسائل الفقهية. فالأشبه أن يكون التعليل بما ذكر من قبيل التعليل بعد الورود. والعمدة في الحكم عندهم الإجماع.واحتمال أن هذا الإجماع حدث في العصر المتأخر عن عصر المعصومين (عليهم السلام)، فلا يقدح بالعمل بنصوص الطهارة: بعيد جداً، فإن كثرة الابتلاء بموضوع الحكم مما يمنع التفكيك بين الأزمنة في وضوحه وخفائه، بحيث يكون بناء أصحاب الأئمة (عليهم السلام) على الطهارة، وخفي ذلك على من تأخر عنهم فتوهموا بناءهم على النجاسة فبنوا عليها تبعاً لهم))(1).

أقول: قد اتضح مما ذكرناه من النقاط صحة هذه الدعوى وصحة الاحتمال لارتكاز طهارة أهل الكتاب ذاتاً عند أصحاب الأئمة (عليهم السلام) فراحوا يسألون عن نجاستهم العرضية كما قرّبنا.

فهذا الإجماع نشأ في عصر بعد المعصومين وبشكل تدريجي.

(الخامسة) الرجوع إلى العمومات الفوقانية والأصول إذا استحكم التعارض وفشلت المرجحات في حله، والأصل الجاري في المقام هو أصالة البراءة من وجوب الاجتناب والغسل ونحوهما وجريان قاعدة الطهارة.

أصالة النجاسة العرضية لأهل الكتاب:

قد يستفاد من بعض الروايات أن أهل الكتاب وإن كانوا طاهرين ذاتاً إلا أن الأصل فيهم نجاستهم العرضية بالتمسك بإطلاق تلك الروايات الشامل لحالة العلم والشك في حصول النجاسة العرضية لهم فيكون الأصل نجاستهم.

ص: 313


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/374-375.

ومن تلك الروايات صحيحة إبراهيم بن أبي محمود، قال: (قلت للرضا (عليه السلام): الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ، ولا تغتسل من جنابة، قال (عليه السلام): لا بأس تغسل يديها)(1).

بتقريب حمل جواب الإمام (عليه السلام) على الإنشاء فتكون أمراً بالغسل وشرطاً لمساورتها بأن تغسل يديها فيكون الأصل فيهم النجاسة لمباشرتهم النجاسات.

(ومنها) صحيحة العيص قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال: إن كان من طعامك وتوضأ فلا بأس)(2).

(ومنها) موثقة: عمار بن موسى الساباطي المتقدمة (صفحة 303) وفيها قوله (عليه السلام): (يغتسل النصارى ثم يغسلونه) وقوله (عليه السلام): (تغتسل النصرانية ثم تغسلها).

أقول: الجواب (تارة) يكون على مجموعها و (أخرى) على كل واحدة منها تفصيلاً.

أما (الأول) فلأن لازم هذا الأصل تقييد قاعدة الطهارة ولا نعلم قائلاً به، ولأنه ينافي إطلاق روايات أخرى لا تقيّد التعامل معهم بالغسل فيكون هذا الإطلاق مقيداً للإطلاق الذي ذكره المستدل ويحدده بحالة العلم بمباشرتهم للنجاسات ولا تشمل حالةالشك بنجاستهم فلا تؤسس مثل ذلك الأصل أو يُحمل طلب الغسل على الاستحباب أو التنزه والاحتياط.

ومن تلك الروايات موثقة عمار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب

ص: 314


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14، ح11.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 53، ح1.

منه على أنه يهودي؟ فقال: نعم. فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم)(1).

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام): (أنه سأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء، أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يضطر إليه)(2).

وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت للرضا (عليه السلام): الخياط أو القصار يكون يهودياً أو نصرانياً، وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ، ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس)(3).

وصحيحة إسماعيل بن جابر قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير)(4).

إن قلتَ: يمكن أن نقول العكس فنقيّد إطلاق المجموعة الثانية بالأولى فنحمل الجواز فيها على ما لو سبقه غسل اليهودي والنصراني يده ونحوه.

قلتُ:-

1- إن ألسنة المجموعة الثانية آبية عن التقييد فهل يقبل العرف تقييد موثقة عمار بأن يغسل اليهودي فمه أولاً؟ ومن البعيد أن نتصور في صحيحة إسماعيل بن جابر أن يغسل الكتابي يده في كل مساورة لطعامه، بينما المجموعة الأولى قابلة للتقييد بحالة العلم بحصول النجاسة، بل إن بعض الروايات ظاهرة في حالة العلم بنجاستهم أو ابتناء الأمر بالغسل في الجواب على افتراض السائل لحصولها.

ص: 315


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، باب 3، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 14/ ح9.
3- تهذيب الأحكام، ج6، باب المكاسب، ح 263.
4- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح4.

2- وجود مرجّح مساوي ينفي هذا الأصل وهي الروايات التي دلت على عدم وجوب غسل ما يستعيره الذمي من ثياب المسلم –كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (صفحة 290) وغيرها- مع ذكر السائل مباشرتهم للنجاسات.

3- إن غاية ما يؤدي هذا الإشكال هو التعارض في مادة الاجتماع والتساقط ويكون المرجع هو قاعدة الطهارة.وأما (الثاني) فتناقش صحيحة إبراهيم من جهة إمكان حمل قوله (عليه السلام): (لا بأس تغسل يديها) على الإخبار فلا تكون إنشاءً للأمر وإنما تفيد التزام هذه الجارية بقواعد التعامل مع الإمام (عليه السلام) فتغسل يديها اللتين هما المباشرتان للعمل ويزول بذلك الإشكال عن ذهن السائل.

وتناقش صحيحة العيص من جهة عدم اتحاد النقل مع وحدة المنقول، فالنص المنقول أعلاه هو للكليني في الكافي (نقله صاحب الوسائل في أبواب النجاسات، باب 54، ح1 وفي أبواب الأطعمة والمحرمة، باب 53، ح1) بينما نقلها عن التهذيب والفقيه في (أبواب الأطعمة المحرمة، باب 53، ح4) كالآتي (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني. فقال: لا بأس إذا كان من طعامك، وسألته عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضأ فلا بأس) وفي هذا النص لا يوجد أمر بالغسل لليهودي والنصراني.

نتيجة البحث:

طهارة الإنسان مطلقاً حتى الكافر والمشرك، لكن الاحتياط لا يترك فيهما فيُغسل الملاقي لهما برطوبة مسرية من دون أن يكون سبباً لتنجيس ما لاقاه بها، أما أهل الكتاب من يهود ونصارى فهم طاهرون ذاتاً، والأحوط استحباباً التنزّه عن استعمال آنيتهم جميعاً أو سؤرهم لشبهة ملاقاتها للنجاسات كالميتة والخنزير والخمر.

ص: 316

هذا بغضّ النظر عن الحكم بعدم مواددة من حادّ الله ورسوله بكل ما يقتضيه هذا الحكم من تفاصيل كالمصافحة والمؤاكلة.

ص: 317

ص: 318

البحث السادس: وجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة من جسد الإنسان

اشارة

ص: 319

ص: 320

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث السادس: وجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة من جسد الإنسان

البحث السادس: وجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة من جسد الإنسان(1)

هل يجب الغُسل على من مسَّ قطعة مبانة من جسد الإنسان؟ ومن موارد الابتلاء بهذه المسألة درس التشريح الذي يتعاطاه طلبة كلية الطب فإنهم يأخذون دروساً على أجزاء من جسد الإنسان، وإن كنا نصحناهم بلبس كف عازل (قفّاز) في أيديهم لتجنب وقوع المس والتخلص من حرج الغسل اليومي.

ومن موارد الابتلاء ما يقوم به ذوو المهن النبيلة والقلوب الرحيمة من عمليات إنقاذ وإخلاء لأشلاء ضحايا التفجيرات الإجرامية والحروب وغيرها من الكوارث الطبيعية والحوادث.

وقبل التحقيق في هذه المسألة نبيّن أموراً لها مدخلية في البحث:

(الأمر الأول) وجوب الغسل على من مسّ ميتاً:

المشهور وجوب الغسل على من مسّ ميتاً بالشروط الآتية بإذن الله تعالى، بل نقل غير واحد الإجماع كالشيخ (قدس سره) في كتاب الجنائز من الخلاف، بعد أن نقل في كتاب الطهارة أن ((الغسل من غُسْل الميت واجب عند أكثر أصحابنا، وعند بعضهم أنه مستحب وهو اختيار المرتضى))(2)

فحكايته الإجماع لعدم الاعتداد بالمخالف كما سننقل عنه.

وخالف فيه السيد المرتضى (قدس سره) فقد حكي عنه القول بالاستحباب وإن كان في هذه الحكاية كلام سيأتي (صفحة 335) بإذن الله تعالى، ويظهر من عبارة الشيخ (قدس سره) في الخلاف وجود قائل بذلك قبل السيد (قدس سره) وأنه اختاره، وحكي عن سلار في (المراسم) التردد(3)

ص: 321


1- (*) ابتدأ إلقاء البحث يوم 27/محرم/1432 الموافق 2011/1/3.
2- الخلاف: 1/222، كتاب الطهارة، المسألة (193).
3- المراسم: 40.

واستشكل فيه المحقق السبزواري (قدس سره) في الذخيرة، لكن الشيخ قال في من خالف: ((إن من شذّ منهم لا يعتدّ بخلافه))(1).

قال السيد العاملي (قدس سره) في مفتاح الكرامة عن القول بالوجوب: ((إجماعاً كما في (الخلاف) حيث قال: (والدليل على وجوبه أنه لا خلاف بين أصحابنا في ورود الأمر بالغسل فظاهره في الشرع يقتضي الوجوب ونحتجّ على المخالف بما روي من طرقهم من قوله (صلى الله عليه وآله): (من غسل ميتاً فليغتسل) ) انتهى. وظاهره انحصار المخالف في العامة. وهو المشهور كما في (المختلف) و(جامعالمقاصد) و(الكفاية) ومذهب الأكثر كما في (الخلاف) في كتاب الطهارة و(التذكرة) و(المنتهى) و(المدارك) و(الكفاية) في موضع آخر وهو أشهر القولين كما في (روض الجنان).

والظاهر انحصار الخلاف صريحاً في المرتضى حيث استحبه على ما نقل عنه في (المصباح) و(شرح الرسالة) ورماه بعضهم بالضعف وآخرون بالشذوذ، لكن كلام الشيخ في (الخلاف) يشعر بوجود مخالف غير المرتضى حيث قال: وعند بعضهم أنه مستحب وهو اختيار المرتضى. ويظهر من (المراسم) التردد حيث عد الأغسال الواجبة وقال: وغسل من مس الميت على إحدى الروايتين لكن الشهيد في (الذكرى) قال بعد أن نقل كلامه هذا: (لم نر رواية مصرحة بذلك) انتهى. وقد نَقَل الوجوب جماعة عن القديمين والصدوقين. وهو مذهب الشيخين وسائر المتأخرين ومتأخريهم))(2).

أقول: الظاهر كون الإجماع متصلاً بعصر المعصومين (عليهم السلام) فملاك حجية الإجماع متحقق فيه، ولا يناقش في كونه مدركياً، إذ يظهر من عدة روايات أن وجوب الغسل كان ثابتاً عند أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ومفروغاً منه فكانوا يسألون عن التفريعات والتطبيقات وكان الإمام (عليه السلام) يقرّهم على ذلك كما في صحيحة إسماعيل بن جابر (أليس لا ينبغي أن

ص: 322


1- الخلاف للشيخ الطوسي: 1/701.
2- مفتاح الكرامة: 2/868-869.

يمس الميت بعد ما يموت، ومن مسّه فعليه الغسل) وفي مكاتبة الحسين بن عبيد (هل اغتسل أمير المؤمنين (عليه السلام) حين غسَّل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند موته) أو انتقال الإمام (عليه السلام) إلى تعليل تشريع الوجوب في علل الفضل بن شاذان(1)

وكأن الوجوب مسلَّم.

وقد دلّ على الوجوب مضافاً إلى الإجماع روايات معتبرة كثيرة وفي أبواب متعددة نذكر بعضاً منها:-

1- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (قلت: الرجل يغمض الميت أعليه غسل؟ قال: إذا مسّه بحرارته فلا، ولكن إذا مسه بعد ما يبرد فليغتسل، قلت: فالذي يغسله يغتسل ؟ قال: نعم: قلت: فيغسله ثم يلبسه أكفانه قبل أن يغتسل؟ قال يغسله ثم يغسل يديه من العاتق، ثم يلبسه أكفانه ثم يغتسل، قلت: فمن حمله عليه غسل؟ قال: لا، قلت: فمن أدخله القبر عليه الوضوء؟ قال: لا إلا أن يتوضأ من تراب القبر إن شاء)(2).

أقول: سؤال الراوي عن حكم الغاسل بعد سؤاله عن حكم المسّ يكشف عن أن في المسألة موضوعين هما الغاسل وظاهره الإطلاق أي سواء مسَّ الميت أو لم يمسّ، ومن مسَّ الميت مطلقاً سواء كان مغسّلاً له أم لا، والمعروف عندنا أنه واحد وهو مسّ الميت، وإنما وجب على الغاسل لتحقق المسّ منه عادة.

لكن اختلاف هذين الأمرين في الحكم واضح عند العامة فقد أشار الشيخ (قدس سره) إلى وجود خلاف عند فقهاء العامة فقد أجمعوا على عدم وجوبه في مجرد المسّ لكنهم اختلفوا في وجوبه على الغاسل ورووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (الغسل من غسل الميت، والوضوء من مسّه) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من غسل

ص: 323


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح 2، 6، 11.
2- الأحاديث تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح1، 2، 3، 4، 5، 18.

ميتاً فليغتسل، ومن مسّه فليتوضأ)(1)

وروى العلامة (قدس سره) في التذكرة عنهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام) بعد أن غسَّل أباه ودفنه: (اذهب واغتسل)(2)،

وأفرد (قدس سره) لكل من الموضوعين مسألة، فقال في الأولى: ((يجب الغسل على من غسّل ميتاً، وبه قال الشافعي في البوبطي، وهو قول علي (عليه السلام) وأبي هريرة، وذهب الفقهاء أجمع والشافعي في أحد قوليه في عامة كتبه أن ذلك مستحب.

دليلنا: إجماع الفرقة ومن شذّ منهم لا يعتد بقوله)).

وقال في المسألة الأخرى: ((من مسّ ميتاً بعد برده بالموت، وقبل تطهيره بالغسل وجب عليه الغسل، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.

دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى من إجماع الفرقة))(3).

2- صحيحة إسماعيل بن جابر قال: (دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) حين مات ابنه إسماعيل الأكبر، فجعل يقبله وهو ميت فقلت: جعلت فداك، أليس لا ينبغي أن يمس الميت بعد ما يموت، ومن مسه فعليه الغسل؟ فقال: أما بحرارته فلا بأس، إنما ذاك إذا برد).

3- صحيحة عاصم بن حميد قال: (سألته عن الميت إذا مسه الإنسان أفيه غسل؟ قال: فقال: إذا مسستَ جسده حين يبرد فاغتسل).

4- صحيحة معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الذي يغسل الميت أعليه غسل؟ قال: نعم، قلت: فإذا مسه وهو سخن؟ قال: لا غسل عليه، فإذا برد فعليه الغسل، قلت: والبهائم والطير إذا مسها عليه غسل؟ قال: لا، ليس هذا كالإنسان).

5- صحيحة الصفار قال: (كتبت إليه: رجل أصاب يده أو بدنه ثوب الميت

ص: 324


1- نقلها عنهم الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف: 1/223 كتاب الطهارة، المسألة (193) ورواهما ابن ماجة وأبو داود في سننهما.
2- تذكرة الفقهاء: 2/133 عن سنن البيهقي.
3- الخلاف: 1/700-701 المسألتان: 489، 490.

الذي يلي جلده قبل أن يغسل، هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه فوقع (عليه السلام): إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل).

6- صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل مس ميتاً عليه الغسل؟ قال: قال: إن كان الميت لم يبرد فلا غسل عليه، وإن كان قد برد فعليه الغسل إذا مسه).

7- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (في رجل مسَّ ميتة، أعليه الغسل؟ قال: لا، إنما ذلك من الإنسان)(1)

ومثلها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

8- صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من غسَّل ميتاً فليغتسل، وإن مسّه ما دام حاراً فلا غسل عليه، وإذا برد ثم مسّه فليغتسل) الحديث.

9- موثقة سماعة برواية الصدوق والشيخ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): (وغسل من مسَّ ميتاً واجب)(2).

أقول: بعض الروايات صريحة في الوجوب وأخرى ظاهرة فيه بحسب تنوّع ألسنتها، ويوجد غيرها فراجع.

وحينئذٍ ما الذي دعا بعض الأساطين إلى القول بعدم الوجوب أو التردد والإشكال فيه؟ والظاهر أن الوجه في ذلك مكوّن باختصار من مقدمتين:-

1- إن الروايات التي استدل بها على الوجوب ليست نصّاً فيه وإنما هي ظاهرة في ذلك ويمكن صرفها عنه بالقرينة، قال صاحب الذخيرة: ((لا يخفى أن الأمر وما في معناه من أخبارنا غير واضح الدلالة على الوجوب فالاستناد إلى هذه الأخبار في إثبات الوجوب لا يخلو من

ص: 325


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل الميت، باب 6، ح1، 2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 1، ح3.

إشكال))(1).

2- وجود هذه القرينة الصارفة من خلال عدة روايات تدل على عدم الوجوب.

وفي ضوء هذه الصياغة لدليلهم، يكون من غير المجدي الرد عليهم كبروياً كالذي قاله صاحب الحدائق (قدس سره) بعد أن وصف كلام صاحب الذخيرة المتقدم بأنه ((من جملة تشكيكاته الواهية وفيه خروج من الدين من حيث لا يشعر قائله))(2)

وعلله بأنه ((متى كان الأوامر الواردة في الأخبار في جميع الأحكام لا تدل على الوجوب والنواهي الواردة كذلك لا تدل على التحريم كما كرره في غير موضع من كتابه هذا فلم يبق إلا الإباحة، وبذلك يلزم تحليل المحرمات وترك الواجبات إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة البرهان، والفرض بناءً على ما ذكره أنه لا دليل على وجوب ولا تحريم، واللازم حينئذٍ سقوط التكليف وأن إرسال الرسل وإنزال الشرائع عبث وهو كفر محض كما لا يخفى)).

وقال قريباً منه السيد الخوئي (قدس سره) وحاصله: ((إن الوجوب ليس مدلولاً لصيغة الأمر ، وإنّما هي تدلّ على الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب، وإنّما يستفاد الوجوب من عدم قيام القرينة على الترخيص في الترك، كما أنّ الاستحباب يستفاد من قيامها على الترخيص في الترك، وحيث قامت القرينة علىالوجوب في غسل مسّ الميِّت حكمنا بوجوبه دون غيره، وهذا لا يستلزم استعمال الصيغة في معنيين بل معناها واحد كما مرّ.

على أنّا لو سلمنا ذلك فغاية ما يستفاد من ذلك أنّ الصيغة لم تستعمل في الوجوب، وأمّا أنّها استعملت في الاستحباب فهو محتاج إلى الدليل، وعليه فالرواية لا تدلّ على وجوب الغسل كما لا تدلّ على استحبابه لتعارض سائر

ص: 326


1- حكاه عنه في الحدائق الناضرة: 3/330.
2- الحدائق الناضرة: 3/330.

الأخبار))(1).

وجه عدم الجدوى: أن القائل لم ينفِ أصل دلالة صيغة الأمر على الوجوب، وهذا واضح من كلامه، ومن سيرتهم الجارية في استنباط الأحكام من الروايات، وإنما فهموا من عدد من الروايات عدم الوجوب فجعلوها قرينة على أن الطلب في هذه الروايات التي استدل بها على الوجوب محمول على الاستحباب لوجود تلك القرائن الصارفة لها عن الظهور فيه، وهذا ديدنهم جميعاً في التعاطي مع صيغ الطلب، كما لو ورد (اغتسل للجمعة) وورد (لا بأس بترك غسل الجمعة) فيحمل الأمر في الأول على الاستحباب بقرينة الترخيص في الثاني.

ومن هنا يُعلم ما في كلام السيد الخوئي (قدس سره) المتقدم الذي ذكر احتياج الاستحباب إلى الدليل المنتفي لتعارض الأخبار مع أنه موجود لأن الطلب في المجموعة الأولى من الروايات يحمل عليه بقرينة المجموعة الثانية عند هذا القائل.

فالصحيح في الرد على النافين للوجوب أن يقال:

(أولاً) إن من الروايات ما دل على الوجوب صريحاً وليس بظهور صيغ الأمر حتى يصرف عن ظهوره بالقرينة، ومن التعابير الصريحة قوله (عليه السلام) في موثقة سماعة برواية الصدوق والشيخ (وغسل من مس ميتاً واجب)(2).

ووصفه (عليه السلام) في خبر يونس الآتي (صفحة 329) بأنه (فرضٌ) وفي رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال: (إنما أمر أن يغسّل الميت ..)(3)

إلى آخر الحديث.

وقد أضيف إليها اسم الفعل (عليك) الوارد في عدة روايات وهي دعوى تحتاج إلى إثباتها بالاستقراء، ومن تلك الروايات صحيحة معاوية بن

ص: 327


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره) ): 8/202.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 1، ح3.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل الميت، الباب 1، ح11.

عمار (فإذا برد فعليه الغسل) وفي صحيحة الصفار (فقد يجب عليك الغسل) وإقرار الإمام (عليه السلام) للسائل بنفس التعبير في صحيحة محمد بن مسلم وإسماعيل بن جابر وعاصم بن حميد.

فهذه الألفاظ (فرض) و (واجب) و (أمر) و (عليك) صريحة في الحكم الإلزامي.

(ثانياً) مناقشة الروايات التي استظهروا منها عدم الوجوب وهي عديدة.(منها) ما رواه الشيخ (قدس سره) عن سعد بن أبي خلف قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الغسل في أربعة عشر موطناً، واحد فريضة والباقي سنة)(1)

بتقريب أن السنة بمعنى المستحب وأنها من الآداب.

وفيه:-

1- ما علّق به الشيخ (قدس سره) على الرواية من أن ((المراد أنه ليس بفرض مذكور بظاهر القرآن، وإن جاز أن تثبت بالسنة أغسال أخر مفترضة)).

أقول: من يتأمل في الروايات الشريفة(2)

وكلمات القدماء يجد صحة هذا التوجيه فإن السنة تعني أن وجوبه ثبت بالسنة وليس بالكتاب الذي لم يجب فيه إلا غسل الجنابة كما هو واضح.

ص: 328


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 1، ح11.
2- كما في صحيحة زرارة (القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة الفريضة) (وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب التشهد، باب 7، ح1) مع أن وجوب التشهد مسلَّم، أو في صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في ثلاثة نفر كانوا في سفر: أحدهم جنب والثاني ميت والثالث على غير وضوء ... قال (عليه السلام): (لأن غسل الجنابة فريضة، وغسل الميت سنة) (المصدر: كتاب الطهارة، أبواب التيمم، باب 18، ح1) مع أن تغسيل الميت واجب أيضاً.

ويشهد له ((عدم ثبوت الحقيقة الشرعية للسنة، فيحمل على ما هو معناها في اللغة أي الطريقة، والمراد به ما جرت به الطريقة النبوية، بل هو المراد من أكثر استعمالها في الأخبار، سيما إذا أطلقت في مقابل الفريضة التي يريدون منها ما ثبت وجوبه من الآيات القرآنية، ولا أقل من احتمال ذلك))(1).

2- النقض عليهم بأنَّ من المقطوع به وجوب أغسال أخرى غير الجنابة –كالحيض والنفاس- فلا يمكن الأخذ بالتقريب الذي ذكروه.

3- إن عناوين الأغسال المستحبة كثيرة والواجبة عديدة، ونحن لا نعلم ما هي هذه المواطن التي ذكرت، فلعل المذكورات كانت مستحبة إلا غسل الجنابة فيكون حصر الفرض في واحد إضافياً بلحاظ الأغسال المستحبة التي ذكرت معه وليس مطلقاً حتى ينفي الوجوب عن غيره، وإلا فقد ورد ما يعارضها بزيادة عدد الواجب كالذي رواه الشيخ (قدس سره) بسنده عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الغسل في سبعة عشر موطناً: منها الفرض ثلاثة، فقلت: جُعلتُ فداك ما الفرض منها، قال: غسل الجنابة وغسل من مسّ ميتاً والغسل للإحرام)(2).قال السيد الخميني (قدس سره): ((ولو كان المراد من (أربعة عشر موطناً) هو المعدودة في محكي الخصال صحيحةً عن عبد الله بن سنان لوجب حملها على ما ذُكر؛ لأن فيها غسل الميت، وهو واجب بلا شبهة))(3).

أقول: يريد بالصحيحة ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الغسل في أربعة عشر موطناً: غسل الميت، وغسل

ص: 329


1- مستند الشيعة: 3/61.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 1، ح11.
3- كتاب الطهارة: 3/168.

الجنب، وغسل من غسل الميت، وغسل الجمعة والعيدين، ويوم عرفة..) إلى آخره(1).

ولا أعلم منشأً لهذا الاحتمال إلا تطابق العدد وهو غير كافٍ، مع أن تقريبها على ما يراد مما نحن فيه غير واضح لأنها بصدد بيان الموارد التي شُرِّع فيها الغسل أعم من كونه واجباً أو مستحباً.

4- ونوقشت الرواية من جهة السند لورود الحسن بن الحسين اللؤلؤي، وقد تعارض فيه توثيق النجاشي وتضعيف ابن بابويه، ولو سلّمنا وثاقته، فإن هذه الرواية مما طُعن فيها لأن مما ((استثنى محمد بن الحسن بن الوليد من روايات محمد بن أحمد بن يحيى ما كان ينفرد به الحسن بن الحسين اللؤلؤي وتبعه على ذلك أبو جعفر ابن بابويه –الصدوق- وأبو العباس ابن نوح))(2)

فالرواية من هذه المستثنيات حتى لو قيل بوثاقة اللؤلؤي لأن الشيخ (قدس سره) رواها في التهذيب والاستبصار بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن الحسن اللؤلؤي.

أقول: قال السيد الخميني (قدس سره) عن الرواية هنا: ((ولا يبعد أن تكون صحيحة))(3)

ولا نعلم لذلك وجهاً بعد أن رجّح (قدس سره) في موضع آخر من الكتاب(4)

عدم وثاقة اللؤلؤي لما ذكرناه واستظهر أن استثناء ابن الوليد ((إنما هو لضعف في الرجال أنفسهم، نعم وثّقه النجاشي، لكن سكت عند نقل عبارة ابن نوح، ولعله لرضاه بما ذكره، وكيف كان يشكل الاتكال على توثيقه بعد تضعيف الصدوق وشيخه ظاهراً وابن نوح)).

أقول: لا ملازمة بين توثيق الراوي وردّ بعض رواياته كما هو معلوم، وقد ردّ ابن الوليد شيخ الصدوق روايات اللؤلؤي التي تفرّد بنقلها عنه محمد بن أحمد بن يحيى.

ص: 330


1- الخصال: 498، أبواب الأربعة عشر.
2- معجم رجال الحديث: 4/388 طبعة النجف.
3- كتاب الطهارة: 3/167.
4- المصدر: 2/377.

ولا نعلم كيف صحح الرواية هنا حينئذٍ بعد أن شكك في وثاقة اللؤلؤي وبعد كونها مشمولة بالمستثنيات؟أما سكوت النجاشي عن التعليق على عبارة ابن نوح بعد توثيقه للحسن اللؤلؤي فلا يتعارض مع توثيقه له، وإنما هو تقييد للأخذ عنه في ما عدا المستثنيات.

وفي ضوء ذلك يمكن البناء على توثيق النجاشي للحسن اللؤلؤي أما تضعيف الصدوق فهو مبني على رد شيخه ابن الوليد لروايات ابن يحيى عنه وهو لا يستلزم التضعيف إذ قد يكون الرد لأمر آخر كعدم ثبوت أخذه عنه مباشرة أو عدم إجازته لرواياته عنه ونحوها.

بل يمكن القول أن الاستثناء دليل على توثيق الراوي لأنه لو كان ضعيفاً فيكفي ضعفه لرد رواياته ولا حاجة لاستثناء بعضها على عكس ما قاله السيد الخميني (قدس سره).

(ومنها) ما رواه الشيخ (قدس سره) في موضعين من التهذيب، أحدهما باب الأغسال الواجبة والمندوبة والثاني في آخر باب الزيادات من تلقين المحتضرين، والأول ينتهي إلى القاسم (بن) الصيقل والثاني إلى الحسين (كما في التهذيب) والحسن (كما في الوسائل) بن عبيد، قال: (كتبت إلى الصادق (عليه السلام): هل اغتسل أمير المؤمنين (عليه السلام) حين غسّل رسول الله عند موته؟ فأجابه: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طاهر مطهر، ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) فعل وجرت به السنة)(1)

بتقريب ((أن غسل مس الميت لم يكن واجباً قبل فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنما فعله وجرت به السنة فهو أمر مستحب))(2).

وفيه:-

1- ضعف سند الرواية بطريقيها لجهالة الحسين بن عبيد والقاسم الصيقل.

ص: 331


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح7.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من المجموعة الكاملة): 8/203.

ويوجد اضطراب في من يرويان عنه فهما من رجال الإمام الهادي (عليه السلام) والرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) وهو غير ممكن، أما الحسن بن عبيد فلا وجود له في كتب الرجال.

نعم يمكن أن يُجاب هذا الإشكال خاصة بأن يكون المقصود بالإمام الصادق (عليه السلام) الإمام الهادي (عليه السلام) لأنهم كلهم صادقون فلوحظ الوصف وليس اللقب، ولم يقل عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، ولأنها مكاتبة وهو الأسلوب الغالب مع الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) ولإضمار رواية الصيقل قال (كتبت إليه).

2- قصور الدلالة على المطلوب إذ لم يرد في الرواية (فجرت به السنة) ليكون معلولاً لفعل علي (عليه السلام) وإنما قال: (وجرت) أي أن الغسل مما جرت به السنة ومما فعله علي (عليه السلام).

3- إن الرواية تدل على عكس المطلوب بتقريبين:-أ- ظهور السؤال في كون وجوب الغسل بمسّ الميت أمراً مفروغاً منه وإنما السؤال عن وجوبه بمثل مس الجسد الطاهر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أقرّ الإمام (عليه السلام) هذا الارتكاز.

ب- إن التعليل بكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طاهراً مطهراً يدل على أن الغسل لو لم يكن واجباً على علي (عليه السلام) –بحسب التقريب- فإن ذلك لكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طاهراً فلا يكون كذلك بالنسبة إلى غير المعصوم، وقد أقر الإمام (عليه السلام) فهم السائل بوجوب الغسل بالمس عموماً إلا من استثني.

(ومنها) رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) قال: (الغسل من سبعة: من الجنابة وهو واجب، ومن غسل مس الميت، وإن تطهرت أجزأك)(1) ((بدعوى أن ذيلها يدل على

ص: 332


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح8.

كفاية تطهير البدن في مس الميت من غير حاجة إلى الاغتسال))(1)،

أو ((أن الوضوء يجزي عن غسل مس الميت وإن كان الغسل أفضل))(2).

أقول: دلالة الرواية على الوجوب أقرب لأنها ضمّت غسل المس إلى غسل الجنابة في تعداد السبعة، أما قوله (عليه السلام): (وإن تطهّرت أجزأك) فهي لا تنافي الوجوب وغايتها ثبوت البدل عن الغسل، مع عدم وضوح دلالتها على المطلوب فلعل المراد منه أن التطهير بالاغتسال يجزي عن الوضوء، والتعبير بالتطهر عن الاغتسال قرآني؛ قال تعالى: «وَإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطّهَرُوا» (المائدة:6)، وقد ((حمله الشيخ على التقية، قال: لأنا بيّنا وجوب الغسل على من غسل ميّتاً وهذا موافق للعامة ولا يعمل به إه- وهو جيد، ويعضده أن رواة الخبر من العامة والزيدية))(3).

(ومنها) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (اغتسل يوم الأضحى والفطر والجمعة، وإذا غسلت ميتاً)(4).

بتقريب وحدة الحكم للمذكورات وهو الاستحباب.

وفيه: عدم لزوم وحدة الحكم في العناوين المذكورة في سياق واحد والمهم اشتراكها في الجنس وهو أصل المطلوبية، أما فصولها فيمكن أن تختلف بحسب القرائن والأدلة الأخرى.

(ومنها) التوقيع المروي في الاحتجاج قال: (مما خرج عن صاحب الزمان (عليه السلام) إلى محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري حيث كتب إليه: روي لناعن العالم (عليه السلام) أنه سئل عن إمام قوم يصلي بهم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخَّر ويتقدم

ص: 333


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/205.
2- الحدائق الناضرة: 3/329.
3- المصدر السابق في نفس الصفحة.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 4، ح2.

بعضهم ويتم صلاتهم ويغتسل من مسه، التوقيع: ليس على من مسه إلا غسل اليد وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمم صلاته مع القوم)(1).

وفيه مضافاً إلى ضعف سند روايات الاحتجاج، أن الوجوب مشروط بكون المس بعد برد الميت وقبل تغسيله وهذا غير متحقق في فرض الرواية لعدم برده في هذا الوقت القصير جداً، ويشرح هذا المعنى توقيع آخر في نفس الكتاب قال: (وكتب إليه: وروي عن العالم أن من مس ميتاً بحرارته غسل يده، ومن مسه وقد برد فعليه الغسل، وهذا الميت في هذه الحال لا يكون إلا بحرارته فالعمل في ذلك على ما هو؟ ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع: إذا مسه على (في) هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده)(2).

أقول: في ضوء ما تقدم لا يبقى وجه لمن شكك في وجوب الغسل بمسّ الميت، نعم علل المحقق الكركي (قدس سره) –وتبعه صاحب الحدائق (قدس سره) فيما وجدت- ذهاب السيد المرتضى (قدس سره) إلى القول بعدم الوجوب بأن ((نجاسة بدن الميت كنجاسة بدن الجنب وهو قول(2)المرتضى، وعليه يتخرج عدم وجوب غسل المس))(3)وقال

صاحب الحدائق (قدس سره) عن نجاسة الميت إنها ((حكمية محضة كما ذهب إليه المرتضى وجعله كالجنب وفرّع عليه عدم وجوب غسل المس))(5).(4)

أقول: يظهر من عبارة جامع المقاصد أن التعليل ليس من السيد (قدس سره) وإنما خرّجوه على مباني المرتضى، وعلى أي حال فالمتبع هي النصوص وليست اصطلاحات الفقهاء التي إذا مشينا معها فإن نجاسة الميت حكمية من جهة؛ لوجوب تغسيله، وعينية من جهة أخرى؛ لوجوب تطهير الملاقي بالرطوبة.

فنسبة القول بعدم الوجوب إلى السيد (قدس سره) مبنية على فهم

ص: 334


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 3، ح 4، 5.
2- في هامش صفحة 461 من جامع المقاصد أنه نقله عن مصباحه فخر المحققين في إيضاح الفوائد: 1/66 والمحقق في المعتبر: 1/348.
3- جامع المقاصد: 1/461.
4- الحدائق الناضرة: 3/337.

الأصحاب (قدس الله أرواحهم) قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((ولعلنا لو وقفنا على كلام المرتضى (رحمه الله) لأمكن حمل قوله بعدم الوجوب على مثل هذا الحال أي المسّ بحرارة))(1).

والذي وجدناه في كتابه (جمل العلم والعمل) قوله: ((فصل: في نواقض الطهارة: الأحداث الناقضة للطهارة على ضربين: ضرب يوجب الوضوء.. إلى أن قال:الثاني: يوجب الغسل كإنزال الماء الدافق .. إلى أن قال: وقد ألحق بعض أصحابنا مسّ الميت))(2).

أقول: وهو ليس صريحاً في نفي الوجوب ولم تحضرنا عبارته في شرح الرسالة والمصباح ولكن حكي عنه في المعتبر.

كما حكى صاحب الجواهر (قدس سره) نفسه عن صاحب الوسيلة التردد والتوقف في الوجوب(3)

مع أن الموجود فيه ((التصريح بالوجوب، حيث قال في بيان أقسام نواقض الطهارة: ورابعها ما يوجب كليهما –يعني الوضوء والغسل- وهو ثلاثة: الحيض والنفاس ومسّ الميت من الناس، أو قطعة الميت من حيّ، أو ميت فيها عظم، بعد البرد بالموت وقبل التطهير بالغسل، ولعل توهم الحاكي مما في الوسيلة من أن الغسل المختلف فيه ثلاثة: غسل المس، وغسل قضاء الكسوف لتاركه عامداً مع احتراق القرص، وغسل من سعى إلى مصلوب بعد ثلاثة أيام.

وأما عبارة المراسم فلم نظفر عليها، ولعلها نظير ذلك؛ ولذا حكى في المناهل عن صاحبه موافقة المشهور))(4).

والنتيجة أن التشكيك في وجوب الغسل بمسّ الميت مع كل هذه الروايات المعتبرة المصرحة بالوجوب والظاهرة فيه مما لا وجه له وعلى تعبير

ص: 335


1- جواهر الكلام: 5/335.
2- رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة، نشر دار القرآن الكريم –قم- 1405 هج- العدد 30 جمل العلم والعمل، صفحة 24.
3- جواهر الكلام: 5/332.
4- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 4/428.

الشيخ الأنصاري (قدس سره) أنه ((مما يوجب اضمحلال الشريعة، إذ قلّما يتفق ورود مثلها أو دونها في الواجبات الأخر))(1).

ومن نافلة الحديث القول بأن وجوب الغسل خاص بميتة الإنسان وقد دلّت عليه صحيحتا محمد بن مسلم والحلبي المتقدمتان (تحت الرقم 7) وغيرهما.

فرعان:

(الأول) دلّت الروايات المتقدمة على أن وجوب الغسل مشروط بكون المس حصل بعد برد الميت وقبل تغسيله، أما الأول فقد ذُكر صريحاً في صحيحة محمد بن مسلم وإسماعيل بن جابر وعاصم بن حميد وغيرها. وورد الثاني في صحيحة الصفار، وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (ولا بأس أن يمسَّه بعد الغسل ويقبّله)(2)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مسّالميت عند موته وبعد غسله والقبلة ليس بها بأس)(3)

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ولا تغسِل مِن مسِّه إذا أدخلته القبر ولا إذا أحملته)(4).

وقد ورد في بعض الروايات ما يعارض ذلك ظاهراً فلا بد من حمله عليه.

(منها) صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في رجل أمَّ قوماً فصلى بهم ركعة ثم مات، قال: يقدّمون رجلاً آخر فيعتد بالركعة، ويطرحون الميت خلفهم ويغتسل من مسّه)(5).

بتقريب أن المسّ قد حصل فور موته وهو حار فقد وجب عليه الغسل.

ص: 336


1- المصدر: 4/430.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح15.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 3، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 4، ح2.
5- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح9.

وفيه: إن هذا الظهور نشأ من الأخذ بالإطلاق وهو غير تام إذ لا بد من حمل الوجوب على من مسّه بعد برده.

(ومنها) صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من غسّل ميتاً فليغتسل، وإن مسه ما دام حاراً فلا غسل عليه، وإذا برد ثم مسه فليغتسل، قلت: فمن أدخله القبر؟ قال: لا غسل عليه، إنما يمس الثياب)(1).

بتقريب ((أن مسّ الميِّت بعد غسله لو لم يكن موجباً للاغتسال فما معنى تعليله (عليه السلام) عدم وجوب الغسل بأنّه مسّ ثياب الميِّت، فإن معناه أنّه لو مسّه ببدنه لوجب عليه الاغتسال))(2).

وأجاب السيد الخوئي (قدس سره) بأن الرواية ((وإن كانت ظاهرة في ذلك إلاّ أنّ الظهور يرفع عنه اليد بالنصوص المصرحة بالعدم وتحمل على استحباب غسل المسّ إذا مسّ بعد الاغتسال.

وهذا هو الصحيح في الجواب، لا حمل الرواية على مورد لم يغسل الميِّت حين دفنه لعدم الماء، كما في البراري أو للنسيان أو عصياناً. وذلك لأنّها فروض نادرة، والغالب في الميِّت حال دفنه هو تغسيله، ولا حملها على صورة فساد تغسيله، كما عن المحقق الهمداني (قدس سره) )).

أقول: لا شك في بُعد الأجوبة التي نقلها (قدس سره) إلا أن تسليمه بظهور الرواية في التقريب المذكور ليس في محله لأن مثل هذه التقريبات تقال للتأييد وليس للاستدلال إذ أنها لا تصل إلى مستوى الظهور المعتبر؛ لأن بإمكان المجيب أن يعلل بانتفاء الموضوع –أي عدم حصول المس كما في الرواية- أو بانتفاء الحكم بحسب ما يقتضيه تقديره للحاجة، وقد أجاب (عليه السلام) هنا بالأول.فالأفضل في الرد أن يقال بعدم اعتبار مثل هذا الظهور بالتقريب المذكور فضلاً عن معارضته للروايات المعتبرة الصريحة، أي عدم وجود المقتضي بغضّ النظر عن وجود المانع.

ص: 337


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح14.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/207.

(ومنها) ذيل موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يغتسل الذي غسّل الميت وكل من مسّ ميتاً فعليه الغسل وإن كان الميت قد غسل)(1).

أقول: حملها الشيخ (قدس سره) في التهذيبين على الاستحباب جمعاً بينها وبين صحيحة محمد بن مسلم(2)،

وقرّبه السيد الخوئي (قدس سره) بأن الرواية ((إنما تدلّ على وجوب الغسل حتّى بعد غسل الميِّت بالظهور، فنرفع اليد عن ظهوره بالنصوص المصرحة بعدم الوجوب إذا مسّه بعد تغسيله.

وبذلك نحمل الموثقة على الاستحباب))(3).

أقول: هذا الوجه مقبول بناءً على أن اسم الفعل (عليه) الوارد في الرواية ليس صريحاً في الوجوب وإنما هو ظاهر فيه فيمكن صرفه عن ظهوره بالقرينة، أما على القول بأنه صريح في الوجوب كما تكرر منه –أي السيد الخوئي (قدس سره)- فلا يكون التقريب مقبولاً، وحينئذٍ (إما) أن نستطيع الجمع بحمل الموثقة على وجهٍ ما ((كالحمل على أنه غُسِّل بالسدر وحده، أو به وبالكافور ولم يُغسَّل بالماء القراح، أو على أن الميت غُسِّل بدنه من النجاسات والوسخ ولم يُغسَّل غسل الموت، أو على أن غسل المس الواقع قبل غسل الميت واجب وإن كان الميت غُسِّل لم يسقط ويحتمل غير ذلك))(4)

((مع ما قيل من مشهورية روايات عمار المتفرد بها في نقل الغرائب، فلعل الأولى طرحها كما في الحدائق))(5).

(أو) نقول بالتعارض ونرجح المجموعة الأولى لأنها المشهورة بين الأصحاب.

ص: 338


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 3، ح3.
2- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 4/431.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/206-207.
4- للحر العاملي (قدس سره) في ذيل الحديث.
5- جواهر الكلام: 5/336.

تذييل: ظاهر قوله (عليه السلام) في الروايات المتقدمة كصحيحة معاوية بن عمار: (إذا برد) بدن الميت كله، فلو مسّه حين برد بعضه لم يجب الغسل، ولو كان الجزء الممسوس هو مما برد.

وقد ذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى هذا إلا أنه قدّم أولاً ما تقتضيه القاعدة فقال: ((إذا برد بعض جسد الميت دون بعضه مقتضى القاعدة وجوب الاغتسال بمسّه لأن المطلقات دلّت على وجوب الاغتسال من مسّ الميت مطلقاً، وقد خرجنا عنهافيما إذا مسّه وهو حار بمقتضى النصوص المتقدمة، والقدر المتيقن من تلك المقيّدات ما إذا كان حاراً بتمامه.

وأما إذا برد بعضه وشككنا في وجوب الغسل بمسّه حينئذٍ وعدمه كما إذا لم يكن للمقيّد إطلاق، فلا مناص من أن نرجع إلى المطلقات، وهي تقتضي وجوب الاغتسال ولا محل للرجوع إلى الأصل مع وجودها.

إلا أن ظاهر بعض المقيّدات عدم وجوب الغسل ما دام لم يبرد الميت بتمامه كما في صحيحة إسماعيل بن جابر حيث أن ظاهر كلمة البرد: برد الميت بتمامه، إذ مع برد البعض دون بعض لا يصدق أن الميت برد، وكلمة (إنما) تفيد الحصر، وعليه تدل الصحيحة على أن وجوب الغسل بالمس منحصر بما إذا برد الميت بتمامه، وكذا صحيحة علي بن جعفر))(1).

أقول: صوَّر (قدس سره) المسألة وكأنه يوجد عندنا عام (يجب الغسل بمس الميت) ثم ورد عليه خاص (إلا إذا كان حاراً) والقدر المتيقن من الخاص ما إذا كان حاراً بتمامه، أما الفرد المشكوك وهو ما إذا برد بعضه فيبقى تحت العام ويجب الغسل بمسّه .

وفيه:-

1- إن الخطاب الخاص الذي ذكره (قدس سره) له إطلاق فيصدق على ما لو كان بعض الميت حاراً أنه ما زال بحرارته فلا حاجة للاقتصار على

ص: 339


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/207-208.

القدر المتيقن في الخروج من تحت العام لأن إطلاق الخاص مقدم على عموم العام فيكون مقتضى القاعدة كالنصوص عدم الوجوب.

2- يمكن أن نقول أن تصوير الخطابين ليس دقيقاً إذ لا يوجد عندنا عام وخاص، وإنما يوجد خطابان منفصلان أحدهما (يجب الغسل بمس الميت إذا برد) وثانيهما (لا يجب الغسل بمس الميت إذا كان حاراً) وقد صرّحت صحيحة إسماعيل بن جابر وصحيحة حريز وصحيحة محمد بن مسلم بذلك، وكذا بقية الروايات، وهذا التصوير للخطابات الشرعية ليس اعتباطياً وإنما يستفاد من لسان الروايات ومضامينها. وهنا لا يمكن أن نطلق القول بأن (غسل مس الميت واجب) إذ ينقض عليك بما قبل البرد وما بعد التغسيل فلا يوجد مثل هذا العام المطلق. نعم يمكن أن نقول مثل هذا الخطاب في الجملة لا مطلقاً كما لو كنا بصدد تعداد الأغسال الواجبة فلا يتحقق الإطلاق له كما في موثقة سماعة.

وفي ضوء هذا فإن ما دل على أصل وجوب غسل المس أي ما اعتبره (قدس سره) مطلقاً هو خطاب مجمل من ناحية ما نحن فيه ولا إطلاق له.

وتظهر ثمرة الفرق بين التصويرين في الفرد المشكوك، فعلى تقريب السيد الخوئي (قدس سره) يلحق بالمطلقات نظير دخول الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص في حكم العام، أما على ما قربناه، فلا يجري كلا الخطابين للشك في صدق العنوانين عليه فيجري استصحاب عدم الوجوب الثابت له عندما كان حاراً بتمامه.

نعم يمكن أن يبنى تصوير السيد الخوئي (قدس سره) على مثل قوله (عليه السلام) في ذيل موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (وكل من مسَّميتاً فعليه الغسل وإن كان الميت قد غُسِّل)(1)

ولكن قد علمنا الإشكال على هذا الذيل وتوجيهه.

ص: 340


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 3، ح3.

والذي يهون الخطب في المقام أن نتيجة الخطابين واحدة فإن البرد لا يصدق حتى يبرد تمام البدن، ويصدق عليه أنه بحرارته ما دام بعضه لم يبرد فالنتيجة أنه إذا برد بعضه فلا يجب الغسل بمسه على كلا الخطابين.

ومنه يعلم وجه النظر في ما قاله السيد الحكيم (قدس سره) من أن ((الحرارة المأخوذة شرطاً لنفي الغسل ظاهرة في حرارة تمامه))(1)

إذ الظاهر صدقها ما دام بدنه حاراً في الجملة.

(الثاني) إذا كمل غسل عضو دون الكل فيجب الغسل بمسه؛ لأن الروايات دلت على سقوط الوجوب الثابت بالمس بعد برده بعد تغسيل الميت وهو لا يتحقق إلا بإتمام تغسيله كاملاً حيث لا يصدق عليه أنه قد غسّل إلا إذا تم تغسيله.

وذهب جماعة منهم العلامة (قدس سره) في القواعد والشهيد الثاني (قدس سره) في الدروس إلى عدم الوجوب واستقربه صاحب الرياض(2)

(قدس سره) قال العلامة (قدس سره): ((ولو كمل غسل الرأس فمسَّه قبل إكمال الغسل لم يجب الغسل)) وذكر المحقق الثاني (قدس سره) عدة وجوه للاستدلال عليه بقوله: ((لأن الظاهر أن وجوب الغسل تابع لمسّه نجساً للدوران، وقد حكم بطهارة الرأس حينئذٍ، لأن النجاسة العينية لا تشترط في طهارة أجزاء محلها طهارة الباقي، ونجاسة الميت وإن لم تكن عينية محضة إلا أنها عينية ببعض الوجوه، فإنها تتعدى مع الرطوبة، وأيضاً فقد صدق كمال الغسل بالإضافة إلى الرأس، ولأصالة البراءة من وجوب الغسل، ولا قاطع يقتضيه))(3).

أقول: الوجوه كلها قابلة للنقاش، أما الدوران فإنه: أولاً ممنوع إذ أن الميت إذا

ص: 341


1- مستمسك العروة الوثقى: 3/468..
2- رياض المسائل: 1/480.
3- جامع المقاصد: 1/463.

كان بحرارته لا يجب الغسل بمسّه مع أن نجاسة البدن متحققة، وثانياً لأن عدم وجوب تطهير الملاقي لهذا الجزء الذي كمل تغسيله أول الكلام لورود نفس التعبير في رواياته فيفسّر بإكمال الغسل ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت، فقال: يغسل ما أصاب الثوب) وقد فصّلها خبر إبراهيم بن ميمون قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يقع ثوبه على جسدالميت، قال: إن كان غُسِّل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، وإن كان لم يُغسَّل فاغسل ما أصاب ثوبك منه)(1).

وإن نجاسة بدن الميت عينية من جهة وحكمية من جهة أخرى فلا يصدق الغسل حتى يتم في جميع البدن لأنه كلٌّ ارتباطي نظير اشتراط الوجوب ببرد الميت وهو لا يتحقق إلا ببرده جميعاً، وصدقه بالإضافة إلى الجزء –لو تم- فإنه لا يجدي بعد الذي ذكرناه من أن ظاهر الروايات اكتمال الغسل.

ولو شككنا في الوجوب وعدمه جرى استصحاب الوجوب، وليس المورد مجرى لأصالة البراءة لسبق اشتغال الذمة –إلا عند من لا يقول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كالسيد الخوئي (قدس سره)- ومنع المحقق النراقي (قدس سره) من جريان الاستصحاب هنا ((لمعارضته مع استصحاب العدم))(2).

أقول: ويقصد به استصحاب العدم الأصلي كما صرّح به في غير مورد، والكبرى غير تامة.

وأضاف صاحب المدارك (قدس سره) وجهاً آخر مضافاً إلى ما نقلناه عن جامع المقاصد فقال: ((ولأنه لو كان منفصلاً لما وجب الغسل بمسّه قطعاً فكذا مع الاتصال لعدم تعقل الفرق))(3).

ص: 342


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 34، ح1، 2.
2- مستند الشيعة: 3/65.
3- مدارك الأحكام: 2/279.

أقول: الفرق معقول لاختلاف الموضوع، لأن موضوع الوجوب في حالة الاتصال هو الميت وموضوع الوجوب في حالة الانفصال هي القطعة المبانة فتحقق الموضوع يكون في كل حالة بحسبها؛ ولذلك فقد استشكل على عدم التفريق في استصحاب نجاسة الجزء المبان من الميت، قال (قدس سره): ((نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحاباً لحكمها حال الاتصال ولا يخفى ما فيه))(1).

واستدل صاحب الرياض (قدس سره) على عدم الوجوب ب-((الأصل، وعدم انصراف إطلاق النصوص إلى مثله))(2).

أقول: ظهر مما تقدم وجه المناقشة فيه.

(الأمر الثاني) مقتضى إطلاق عنوان الميت في الروايات كصحيحة محمد بن مسلم وإسماعيل بن جابر وغيرهما، وعنوان الإنسان في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (في رجل مسّ ميتةً أعليه الغسل؟ قال: لا، إنما ذلك منالإنسان)(3)

وصحيحة الحلبي (إنما ذلك من الإنسان وحده): وجوب الغسل بمس الميت مطلقاً سواء كان مسلماً أو كافراً. وإن كان الإطلاق في الصحيحتين الأخيرتين محل إشكال؛ لأن الإمام (عليه السلام) ليس في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما من جهة المقابلة مع الحيوان الذي لا يجب الغسل في مسّ ميتته.

وهذا الإطلاق ظاهر الفتاوى أيضاً كما حكي(4)

التصريح به عن العلامة في القواعد والشهيد في الدروس والمحقق الثاني في جامع المقاصد (قدس الله أرواحهم).

ص: 343


1- مدارك الأحكام: 2/272.
2- رياض المسائل: 1/480.
3- الروايتان في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 6، ح1، 2.
4- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 4/436.

((واحتمل –أي العلامة (قدس سره)- في المنتهى عدم الوجوب –في مسِّ الكافر- بناءً على أن إيجاب الغسل بالمس قبل التطهير بالغسل إنما يتحقق في من يقبل التطهير أما ما لا يقبل كالبهيمة ونحوها فلا، والكافر لا يقبل التطهير فيكون جارياً مجراها))(1).

أقول: هذا الاستدلال غير تام لأنه –بحسب الظاهر- مبني على قيدية (قبل التطهير) في الوجوب، بحسب ما يظهر من كلامه، قال (قدس سره) في المنتهى: ((الأقرب أن الغسل يجب بمسّ الكافر، لأنه في حياته نجس وبالموت لا يزول عنه ذلك الحكم، ويحتمل العدم لأن قولهم قبل تطهره بالغسل، إنما يتحقق في ميت يقبل التطهير))(2).

والصحيح أن التغسيل غاية للوجوب وليس قيداً له؛ لأن الغسل بالمس وإن كان مغيّى من جهة بتغسيل الميت أي تطهيره إلا أنه لا يدور مداره حتى يراعي الثمرة المذكورة، فقد يجب تطهير الملاقي ولا يجب غسل المس كما لو مسّه برطوبة مسرية وكان حاراً، وقد يجب غسل المس ولا يجب التطهير كما لو مسّه بارداً بدون رطوبة مسرية.

وبتعبير آخر إننا حينما نقول أن مس الميت قبل تغسيله موجب للغسل فهذه القبلية ليست قيداً في الوجوب وإنما هي غاية له ينتفي بحصولها، للنقض عليها بمسّ ميت لم يغسَّل بعد ذلك أصلاً، فلا تصدق القبلية لعدم صدق البعدية وهما معنيان متضايفان كما هو واضح.

والظاهر أن العلامة (قدس سره) بنى تفصيله هنا على التقييد بالقبلية، وقد فهمه صاحب الجواهر (قدس سره) كذلك، فقد علل احتمال العلامة لعدم الوجوب بقوله: ((لمفهوم تقييد غسل المس بما قبل التطهير نصّاً وفتوى الظاهر في

ص: 344


1- الحدائق الناضرة: 3/331.
2- منتهى المطلب: 2/457.

اعتبار كون الميت مما يقبل التطهير))(1)،

وسيأتي ما يرتبط بهذا في ملحق البحث عن صور الشك بإذن الله تعالى.ويظهر أن المحقق الثاني (قدس سره) أراد هذه القبلية حينما احتمل عدم الوجوب بمس الكافر، قال (قدس سره): ((ويحتمل عدم الوجوب بمسِّه لأن قولهم: قبل تطهيره بالغسل إنما يتحقق في ميت يقبل التطهير))(2).

لكن العلامة (قدس سره) ذهب إلى إطلاق الوجوب ولم يُشر إلى التفصيل في التذكرة قال (قدس سره): ((لا فرق بين كون الميت مسلماً أو كافراً لامتناع التطهير في حقه ولا يمنع ذلك صدق القبلية))(3).

ورد السيد الخوئي (قدس سره) على كلام العلامة (قدس سره) بأنه ((يشبه كلام العامة لأنّه قياس، فإن عدم وجوب الاغتسال من مسّ البهيمة لا يستلزم عدم وجوبه في مسّ ميت الإنسان، وهما أمران أحدهما غير الآخر وإن كان الكفار كالبهائم حقيقة بل هم أضل سبيلاً، إلاّ أن حكمهما مختلف، ومن ثمة يجوز وطء الكافرة دون البهيمة.

مضافاً إلى أنّه اجتهاد في قبال النص، لدلالة الأخبار المتقدمة بإطلاقها على وجوب الغسل بمس ميت الكافر أيضاً، ودلالتها على عدم وجوب الغسل بمس الميِّت الحيواني كما تقدم، فالقياس مع الفارق))(4).

أقول: يمكن الدفاع عن كلام العلامة (قدس سره) ورد الإشكالين معاً (أما) الأول فلأن العلامة (قدس سره) لم يستعمل القياس وإنما نقّح مناط الوجوب ولما وجده مغيى بالتغسيل استظهر اختصاص الحكم بمن تترتب على تغسيله ثمرة وهو المسلم، مع ما قربناه آنفاً من بناء احتماله على قيدية المس قبل التغسيل للوجوب، وربما قوّى ذلك بانصراف مورد السؤال إلى الميت المسلم لأن غيره نادر يومئذٍ في المجتمع المسلم فلا يحمل عليه النص. أو لأن المسلم هو الملحوظ

ص: 345


1- جواهر الكلام: 5/339.
2- جامع المقاصد: 1/463.
3- تذكرة الفقهاء: 2/135.
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/212-213.

عند السائل وبُني الجواب عليه فيكون منصرفاً عن غيره ونحوها، أما ما لا ثمرة في تغسيله وأنه نجس على أي حال كالكافر فلا وجوب للغسل في مسّه، وشبّه الكافر من حيث عدم الأثر المترتب على تغسيله بالحيوان فأين القياس؟ على أن التشبيه لم يرد في كلام العلامة (قدس سره) وإنما هو تشبيه ساقه من قرب قوله كما في حكاية صاحب الحدائق (قدس سره) المتقدمة.

ومنه يتّضح الرد على الجزء الثاني من كلامه (قدس سره) فإن العلامة (قدس سره) لم يجتهد مقابل النص وإنما قيّد الإطلاقات بمورد النص الذي هو المسلم أو بانصراف العنوان إليه أو انصرافه عن غيره ونحوها.

ولذا استقرب صاحب الحدائق (قدس سره) كلام المنتهى وقال: ((إن ظاهر الأخبار المشار إليه – باعتبار ما دل عليه بعضها من أنه قبل الغسل يجب الغسل بمسه وبعد الغسل لا يجب وحمل مطلقها في ذلك على مقيدها ومجملها على مفصلها - هو اختصاص موردها بالمسلم، لأنه لا خلاف ولا إشكال في أن غسل الكافر لا يفيده طهارةوحينئذٍ فلا يكون داخلاً تحت الأخبار المشار إليها، وبذلك يظهر قرب الاحتمال الذي ذكره في المنتهى وإن كان الاحتياط في وجوب الغسل بمسه غسل أو لم يغسل))(1).

وفيه: إن المورد لا يخصص الوارد، والتقريبات المذكورة لا تصلح لتقييد المطلقات. وردّ عليه المحقق النراقي (قدس سره): ((أنه لا تنافي بين المطلق والمقيّد هنا حتى يحمل عليه))(2) فالإطلاق تام ويكون حجة.

وأجاب الشيخ الأنصاري (قدس سره) على كلام العلامة (قدس سره) بنحو آخر، قال (قدس سره): ((وعن المصنف في المنتهى والتحرير: التوقف في الكافر، ولعله نظير ما ذكرنا في الشهيد: من أن الظاهر من جعل الغسل غاية لوجوب غسل المس اختصاص الحكم بمن يؤثر فيه التغسيل دون من لا يؤثر، إما بدونه كالشهيد أو بقاء نجاسة معه كالكافر.

ص: 346


1- الحدائق الناضرة: 3/331-332.
2- مستند الشيعة: 3/64.

ويضعفه: بأن مستند الغسل ليس منحصراً فيما يدل على بيان الغاية؛ فإن منها: العمومات المعلقة للحكم على الميت، ومنها: ما تقدم من تعليل وجوب الغسل بنجاسة الميت، وهي موجودة في الكافر زيادة على نجاسة كفره على الأقوى: من قبول المتنجس والنجس النجاسة العينية والعرضية، مع أن صحيحة معاوية بن عمار: (قلت له: فالبهائم والطير إذا مسّها، عليه غسل؟ قال: لا، ليس هذا كالإنسان) ظاهرة في ثبوته لمطلق الإنسان المقابل للبهائم.

وصحيحة ابن مسلم: عن الرجل يمس الميتة، أعليه غسل؟ قال: لا إنما ذلك من الإنسان) ومثلها صحيحة الحلبي))(1).

أقول: يرد عليه:-

1- إنه يسلِّم بأن جعل وجوب غسل المس مغيّى بتغسيل الميت دليلٌ على المطلوب مع أنه ليس كذلك كما قدمنا.

2- إن سقوط وجوب الغسل بمس الميت بعد تغسيله مفروغٌ منه فكون وجوب الأول مغيّى بتحقق الثاني في بعض الروايات لا يضر، لأن الغائية تامة فالرد على التقريب بوجود روايات لم تذكر الغاية لا ينفع لأن الغاية مسلمة عند الخصمين.

3- العمومات التي تمسّك (قدس سره) بها لم يغفل عنها العلامة (قدس سره) لكنه قيدها بوجه أو بآخر مما ذكرناه، ويشهد له كلام صاحب الحدائق (قدس سره). أما الإطلاق في الروايات المذكورة فإنه غير تام لأن المولى ليس بصدد البيان من هذه الجهة وإنما هو بصدد أصل المقابلة مع غير الإنسان أي هو بصدد إخراج غير الإنسان وليس بصدد إدخال كل أفراد الإنسان.

(فرع) يجب الغسل بمس الإنسان الميت ما دام العنوان صادقاً عليه، فلا يضرّ كونه ناقصاً لبعض الأجزاء كما إذا فقد يداً أو رجلاً، ولا يضر كذلك لو تناثر بعض لحمه أوكل لحمه بحيث بقي هيكلاً عظمياً، وكذا لو بقي البدن فقط وقطع رأسه وأطرافه، والدليل على الوجوب في الجميع صدق عنوان الميت فيجب الغسل بمسّه.

ص: 347


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 4/436.

مس القطعة المبانة من الإنسان

لا خلاف في عدم وجوب الغسل بمس القطعة المبانة إذا كانت من اللحم فقط ولا عظم فيها.

أما العظم المجرد فسيأتي الكلام فيه بإذن الله تعالى، وإنما الكلام الآن في القطعة المشتملة على العظم وهي على نحوين، إذ قد تكون القطعة مبانة من حيّ أو من ميت والأقوال في وجوب الغسل بمسهما عديدة:-

1- الوجوب مطلقاً –أي سواء كانت من الحي أو من الميت، وادعي عليه الإجماع ((كما في (الخلاف)، وفي (المختلف): (أطلق أصحابنا الموجبون للغسل من مسّ الميت ذلك)، وفي (التذكرة) نسبة الخلاف إلى الجمهور، وهو المشهور كما في (جامع المقاصد)، ومذهب الأكثر كما في (الذكرى)، والأشهر كما في (روض الجنان)، وبذلك صرح في (النهاية) و(المبسوط) و(النافع) و(التحرير) و(المنتهى) و(التذكرة) و(نهاية الإحكام) و(المختلف) و(الذكرى) و(الدروس) و(البيان) و(الموجز الحاوي) وشرحه و(جامع المقاصد) و(فوائد الشرائع) و(حاشية الميسي) و(المسالك) وغيرها))(1).

وذهب إليه من المعاصرين السيدان الخوئي والصدر الثاني (قدس الله روحيهما) ولو للاحتياط.

2- الوجوب بمس المبانة من الميت خاصة كما ((في الفقيه والسرائر والشرائع، ونسب ذلك في شرح المفاتيح إلى الأصحاب، وفي مجمع البرهان: أنه لا دليل على المبانة من الحي، والعمدة في المبانة من الميت الإجماع)). واختاره من المعاصرين السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والشيخ الفياض (دام ظله الشريف)(2).

ص: 348


1- حكي هذه الأقوال عن أصحابها صاحب مفتاح الكرامة: 2/870-871.
2- الفتاوى الواضحة: 192 الفقرة (168)، منهاج الصالحين للشيخ الفياض: 1/147 مسألة (330).

3- الاقتصار على المبانة من الحي حكاه كاشف اللثام عن إصباح الشيعة(1).

عدم الوجوب مطلقاً، وهو للسيد المرتضى (قدس سره) الذي لم يوجب الغسل بمسّ الميت أصلاً، والمحقق الحلي في المعتبر، والسيد صاحب المدارك الذي ردّ أدلة القائلين بالوجوب وتمسّك بمقتضى الأصل وهو عدم الوجوب، ونقل1- الكلام الآتي للمحقق (قدس سره) في المعتبر وقال: ((هذا كلامه وهو في محله))(2).

واختاره من المعاصرين السيد السيستاني(3)

(دام ظله الشريف).

وقد يكون لفقيه واحد عدة أقوال كالمحقق الحلي (قدس سره) الذي يظهر من عبارته في الشرائع اختصاص الوجوب بالمبانة من الميت، وجزم في المختصر النافع بوجوب الغسل بمس القطعة المبانة من الحي والميت، وتوقف في المعتبر قال (قدس سره) بعد أن نقل رواية أيوب بن نوح الآتية بإذن الله تعالى التي استدل بها على الوجوب: ((والذي أراه التوقف في ذلك، فإن الرواية مقطوعة، والعمل بها قليل، ودعوى الشيخ في الخلاف الإجماع لم يثبت، فإذن الأصل عدم الوجوب، وإن قلنا بالاستحباب كان تفصّياً من اطراح قول الشيخ والرواية))(4).

وعلى أي حال فالكلام يكون في جهتين:

(الجهة الأولى) القطعة المبانة من الحي:

واستدل على الوجوب بوجوه:-

1- الإجماع الذي نقله الشيخ (قدس سره) في الخلاف، قال (قدس سره): ((من مسَّ ميتاً بعد برده بالموت، وقبل تطهيره بالغسل، وجب عليه الغسل، وكذلك إن مسّ قطعة من ميت، أو قطعة قطعت من حيّ، وكان

ص: 349


1- كشف اللثام: 2/426 عن إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهية): 2/436.
2- مدارك الأحكام: 2/280.
3- منهاج الصالحين: 1/117 المسألة (334).
4- المعتبر: 1/352 ونقله في المدارك: 2/280.

فيها عظم، وجب عليه الغسل. وخالف جميع الفقهاء في ذلك، دليلنا إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط))(1)

((المؤيد بموافقة المشهور ومخالفة الجمهور))(2).

ونوقش الإجماع صغرىً وكبرىً، أما صغروياً فلوجود المخالف كالسيد المرتضى والمحقق الذي صرّح بأن العامل به قليل مما يوهن الإجماع، وأما كبروياً فلاحتمال أنه مدركي مستند إلى الرواية ولأنه إجماع منقول لا يُعرف منشأه فلا يكون معتبراً.

2- رواية أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا قُطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسّه إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجبَ على من يمسه الغُسل، فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه)(3).

بتقريب: ظهورها في المبانة من الحي، أو التمسك بإطلاقها الشامل له.

ونوقشت الرواية من جهة ضعفها بالإرسال، إلا أن المشهور جبر الضعف بما ذكر من عمل المشهور بها.ونوقش هذا التوجيه كبروياً بعدم انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور، وصغروياً لما قاله المحقق (قدس سره) من أن العامل بها قليل، والجابر –لو قلنا به- إنما هو عمل مشهور المتقدمين.

3- ما في الفقه الرضوي من قوله: (وإن مسست شيئاً من جسد أكيلة السبع فعليك الغسل إن كان في ما مسست عظم، وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليك في مسِّه)(4).

بتقريب التمسك بالإطلاق الشامل للحي. وفيه: إن المناقشة في كتاب

ص: 350


1- الخلاف: 1/701 كتاب الجنائز، المسألة (490).
2- كتاب الطهارة من المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري (قدس سره): 4/441.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 2، ح1.
4- مستدرك الوسائل: 2/492، كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 2، ح1.

(فقه الرضا (عليه السلام) ) معلومة. وإن كان قد دافع عنه عدد من المحققين كصاحب الحدائق(1)

(قدس سره) كما سيأتي بإذن الله تعالى.

4- دعوى صدق عنوان الميت على القطعة المبانة من الحي، ومع تحقق الموضوع تترتب سائر الأحكام ومنها وجوب الغسل بالمس ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره) فقد استدل ((بالمستفاد مما تقدم سابقاً عند البحث على نجاستها من تنزيل القطعة المبانة منزلة الميتة المقتضي لجريان أحكامها عليها، بل لعل الظاهر منها كغيرها دوران الحكم مدار تحقق معنى الموت))(2).

أقول: يمكن دعم هذه الدعوى بإطلاق عنوان الميتة على القطعة المبانة من الحي في عدة روايات كمقبولة أبي بصير عن أبي عبد الله أنه قال: (في إليات الضأن تقطع وهي أحياء: إنها ميتة)(3)

وكالروايات الواردة فيما قطعته الحبالة من أجزاء الحيوان كصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلاً فذروه فإنه ميت) الحديث. وموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئاً فهو ميت (ميتة) )(4)

الحديث.

أقول: مقتضى الإنصاف عدم صدق عنوان الميتة على القطعة المبانة من الحي عرفاً، أما الروايات التي أطلقت عليها هذا العنوان فقد كانت بلحاظ ترتب الأثر الذي أريد من الخطاب –كالنجاسة وحرمة الأكل-، أي أنها بيّنت الحكم المناسب للمورد بلسان ذكر الموضوع وهو عنوان الميتة.

وبناءً على ذلك: لا يجوز التمسك بإطلاقها لإثبات التعميم لكل الآثار ومنها وجوب الغسل بمسّها؛ لأنها منصرفة عنها، مضافاً إلى أنها واردة في ميتة

ص: 351


1- الحدائق الناضرة: 3/339.
2- جواهر الكلام: 5/341.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 62، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذبائح، أبواب الصيد، باب 24، ح1، 2.

الحيوان فلايستفاد منها لزوم ترتيب الآثار على الميت الإنساني، ولولا هذه الأدلة الخاصة لما ترتب عليها شيء من آثار الميتة لعدم صدق العنوان.

ولو تنزلنا وقبلنا بإطلاق عنوان الميتة على القطعة المنفصلة من الحي، فإن هذا الحكم –وهو وجوب غسل المس - لا يجري فيها؛ لأنه ثبت بالاستقراء أن هذا العنوان يراد به ميتة غير الإنسان، أما ميتة الإنسان فيسمى (ميت). بحيث تحول هذا إلى ارتكاز وظهور في مقام التخاطب، كما في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (رقم 7) عن أحدهما (عليهما السلام) (في رجل مسَّ ميتة أعليه غسل؟ قال: لا، إنما ذلك من الإنسان)(1)،

فكان لفظ (الميتة) في كلام السائل ظاهراً في ميتة غير الإنسان.

نعم ورد التعبير بلفظ الميتة في رواية أيوب بن نوح على القطعة المبانة من الإنسان فتحمل على الظاهر أعلاه ولا يجب الغسل بمسّها لولا بقية الرواية التي أوجبت الغسل، وهذا عود إلى الاستدلال برواية ابن نوح وليست دليلاً مستقلاً كما هو مفروض هذا الوجه.

والظاهر أن الشيخ الأنصاري (قدس سره) ناظر إلى هذه النقطة في قوله: ((ودعوى: أن بخروج الروح عنه يصدق الموت عليه، ممنوعة؛ فإن الموت عدم الحياة ممن من شأنه أن يكون حياً، ولا يتصف العضو بالحياة إلا تبعاً للكل، فالحياة في الحقيقة من صفات الإنسان، فانقطاع تعلق روح الكل عن بعض أجزائه وانحصار محله في باقيها لا يوجب عند التحقيق صدق الموت على ذلك الجزء إلا مجازاً لعدم التحرك والنمو والحسّ، كما يشهد به صدقه حال اتصال العضو المفروض، ولو سلّم الصدق لكن لا شك أن الميت في الأخبار هو الإنسان الذي خرج عنه الروح، وثبوت الحكم لبعض أجزاء الميت قد عرفت أنه لأجل انفهامه من أدلة الميت كما يفهم النجاسة، بل ناقش في ذلك أيضاً صاحب المدارك))(2).

ص: 352


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذبائح، أبواب الصيد، باب 24، ح2.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 4/442.

أقول: هذه الدعوى صحيحة عرفاً، ولكن يمكن صدق الموت على القطعة المبانة من الحي بالمعنى المناسب لها وهو انعدام مظاهر الحياة من إحساس وحركة وتحوّلها إلى جماد، وإن لم يحصل لها بالمعنى المناسب للإنسان وهو خروج الروح. مضافاً إلى إمكان إطلاق العنوان تنزيلاً بالتعبد الشرعي وهو ما يدّعيه المستدل بالروايات المتقدمة.

وعلى أي حال فإنه حتى لو صدق عنوان الميتة على الجزء المنفصل من الحي فإنه يمكن الجواب عن هذه الدعوى بأن أدلة وجوب الغسل بمسّ الميت منصرفة عنها.

3- ما قيل وبيّنه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله: ((وقد استدل بالملازمة بين وجوب التغسيل ووجوب الغسل بالمس، وحيث أن القطعة المبانة من الحي المشتملة على العظم واجبة التغسيل فهو يدل على وجوب الغسل بمسها، لما ورد من أن من غسّل الميت فعليه الاغتسال)).

وأجاب (قدس سره): ((أنّ القطعة المبانة وإن كان يجب تغسيلها إلاّ أنّه لاملازمة بينه وبين وجوب الغسل بمسّها، لأن موضوع ذلك مسّ الميِّت، حيث إنّ الرواية دلّت على أن من غسل الميِّت اغتسل، وهذا لا يصدق على مسّ القطعة المبانة من الحي، لأنّها ليست بميت بل هي جزء من بدن الإنسان وصاحبها حي يرزق، ومع عدم صدقه لا موجب للغسل بمسّها وإن كان يجب تغسيلها، فلا ملازمة بين وجوب تغسيل أي شيء ووجوب الاغتسال بمسّه، بل الملازمة بين تغسيل الميِّت والاغتسال بمسّه))(1).

أقول: في كلامه (قدس سره) خلط بين وجهين؛ لأن الملازمة المذكورة إن كانت مبنيّة على صدق عنوان الميت ولو بقرينة وجوب تغسيلها فهذا هو الوجه الرابع.

وإن أريد بالملازمة دليلٌ مستقل –كما هو ظاهر كلامه (قدس سره)- فلا بد من مناقشتها من هذه الجهة لا من جهة صدق عنوان الميت.

والخلاصة أن صياغة الوجه كانت كدليل مستقل بينما صياغة الجواب

ص: 353


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/218.

كانت لوجه آخر، وعلى أي حال فإنه يمكن الجواب عن هذا الوجه –الخامس- بنفي الملازمة لعدم الدليل عليها، وإن وجوب تغسيل القطعة المبانة إذا كان فيها عظم –لو ثبت(1)

مطلقاً- فإنما هو للدليل الخاص وليس لشموله بعنوان الميت الذي يجب تغسيله، والنقض على الملازمة نفياً –لأن ظاهر التعليل أن الملازمة ثابتة نفياً وإثباتاً- بالكافر فإنه لا يجب تغسيله ويجب الغسل بمسه.

تنبيه: ذكر السيد الخوئي (قدس سره) ضمن الأدلة رواية إسماعيل الجعفي الآتية ولم يقرِّب الاستدلال بها مع وضوح كون موردها القطعة المبانة من الميت فهي أجنبية عن المقام واكتفى بمناقشة سندها(2).

هذا ولكن يمكن تقريب الأخذ ببعض الوجوه المتقدمة، (ومنها) رواية أيوب بن نوح بعد معالجتها بأمرين:-

1- إن التعبير بأحد أصحابنا لا يخلو من توثيق للراوي عرفاً ولا يلقي هذا الوصف جزافاً مثل أيوب بن نوح الذي قال عنه النجاشي: ((كان وكيلاً لأبي الحسن وأبي محمد عليهما السلام، عظيم المنزلة عندهما مأموناً، وكان شديد الورع، كثير العبادة، ثقة في رواياته)) وكانت عدة ظروف يومئذٍ تقتضي إخفاء بعض الأسماء.

2- شهرتها بين المتقدمين واعتناؤهم بها وبالأخذ بمضمونها، وهذه الشهرة بين القدماء متحققة لما حكاه الشيخ (قدس سره) المؤيَّد بما في الفقه الرضوي الذي هو رسالة عملية لأحد القدماء والراجح أنه والد الشيخ الصدوق (قدس سره) وتعتبر بمثابة النص لأن القدماء كانوا يحررون فتاواهم على طبق النصوص الشريفة ((واعتماد الصدوقين على هذا الكتاب والإفتاء بعبائره وترجيحها على النصوص الصحيحة المستفيضة في مواضع عديدة حتى أن الأصحاب نسبوا كثيراً من فتاوى علي بن

ص: 354


1- إذ الثابت لزوم إجراء أحكام التغسيل على القطعة المشتملة على الصدر وشيء آخر بحيث يصدق عليه عنوان الميت لكنه مقطوع الرأس والأعضاء، أما غير ذلك كاليد أو الرجل ونحوها فلم يثبت وجوب تلك الأحكام.
2- التنقيح من المجموعة الكاملة: 8/218.

الحسين بن بابويه إلى الشذوذ لمخالفتها صحاح الأخبار وهي مأخوذة من هذا الكتاب)) ((ويؤيده ما ذكره شيخنا المجلسي (طاب ثراه) في مقدمات كتاب البحار (وحكايته أنه) كان عليه خط الإمام الرضا (عليه السلام) وكان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء))(1).

وقول المحقق الحلي (قدس سره) بأن العامل بها قليل غير معبّر عن الواقع لذا أنكره عليه جمع.

(ومنها) الإجماع الذي ادعاه الشيخ (قدس سره) وغيره ممن نقلنا حكايتهم له، ومخالفة السيد المرتضى لا تضر ولذا أهمل وجودها عدد من الأساطين ولأن مخالفته –لو صحّت- فهي مبنية على نفيه أصل وجوب الغسل بمس الميت فهي مخالفة مدركية وقد ناقشنا هذا المدرك. وقول المحقق (قدس سره) أن العامل بها قليل غير معبِّر عن الواقع.

وهذا الإجماع المدعى ليس مدركياً لعدة قرائن:-

1- إنه لا يمكن أن يكون مستنده رواية مرسلة أي لا تصنع رواية مرسلة مثل هذا الإجماع فهو تعبدي ويكون معتبراً.

2- بناءً على ما أفاده المحقق (قدس سره) من أن العامل بالرواية قليلٌ فيكون باقي الإجماع تعبدياً.

3- إن الرواية ظاهرة في المبانة من الحي مع أن الإجماع قائم على المبانة من الإنسان مطلقاً فموضوعهما مختلف.

(ومنها) دعوى صدق عنوان الميت عليها ولو بالتعبد الشرعي بكاشفية جريان أحكامه عليها ولذا استدل صاحب الجواهر (قدس سره) ((بفحوى وجوب جريان أحكام الميت عليها بناءً عليه من التغسيل والتكفين ونحوهما))(2).

فالاحتياط بالغسل لازم، وقد احتاط أيضاً من ناقش في أدلة الوجوب ولم يعتد بها كصاحب المدارك والسيد الخوئي (قدس الله سريهما)، قال ((إذن

ص: 355


1- الحدائق الناضرة: 3/340.
2- جواهر الكلام: 5/340.

لا يمكن الحكم بوجوب غسل المسّ بمس القطعة المبانة من الحي وإن كان الغسل أحوط ولو لأجل الإجماع الّذي ادّعاه الشيخ (قدس سره) وذهاب مشهور المتأخرين إليه))(1).

إن قلتَ: مقتضى النتيجة المتقدمة وجوب الغسل بمسّ مثل الإصبع المقطوعة من الحي ونحوها وكأنه لا قائل بذلك.

قلتُ:-

1- ما المانع من القول بالوجوب في هذا المورد ما دام موضوع الحكم متحققاً.1- إن الأصحاب لم يذكروا هذا المورد وليس أنهم لم يقولوا بالوجوب.

2- إن عنوان العظم المشترط للوجوب قد يقال بانصرافه عن الموجود في الإصبع فلا يكون شرط الوجوب متحققاً.

(الجهة الثانية) القطعة المبانة من الميت:

وقد استدل على وجوب الغسل بمسّها بوجوه تقدم بعضها في الجهة الأولى ومنها:

(الأول) الإجماع الذي نقله الشيخ (قدس سره) في الخلاف، وحكى صاحب الجواهر (قدس سره) ((التصريح من الصدوق وابن إدريس به في المقطوع من الميت)) وقال: ((لا أجد فيه خلافاً إلا من الإسكافي فقيّده في المبان من حي بما بينه وبين سنة، وإلا من المصنف في المعتبر، والسيد في المدارك فلم يوجباه))(2)

واعتبر في الذكرى قولهما خروجاً عن الإجماع المركب لأن ((الأصحاب منحصرون في موجب غسل الميت على الإطلاق، وهم الأكثر، وفي نافيه كذلك على الإطلاق وهو المرتضى، فالقول بوجوبه في موضع دون موضع لم يعهد)).

وقد تقدمت مناقشته.

ص: 356


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/218.
2- جواهر الكلام: 5/340.

(الثاني) رواية أيوب بن نوح التي هي ظاهرة في القطعة المبانة من الحي لانصراف لفظ (الرجل) إلى الحي فيحتاج الاستدلال إلى تتميم كالتمسك بإطلاق الرجل لأن الانصراف لا يصلح للتقييد، ((سيما إذا قلنا: بأن (الرجل) بكسر الراء وسكون المعجمة، كما لا يبعد، ولا يكون قوله (عليه السلام) (فهي ميتة) موجباً لصرفها إلى الحي، فإن المراد بقوله ذلك تنزيل القطعة منزلة الميتة، وإلا فليس صدق الميتة على العضو حقيقياً))(1).

أو بالأولوية كما حكي عن جماعة منهم الهمداني في مصباح الفقيه فإن ((الرواية وإن انصرفت إلى الحي، لكن يلحق به الميت بالأولوية القطعية))(2).

أو من نفس الرواية ((بقرينة قوله (عليه السلام): (فهي ميتة) الظاهر في كون الحكم الذي بعده من أحكام كونها ميتة الحاصل في المبانة من الميت))(3).

أقول: هذه التقريبات يمكن قبولها بعد أمرين (أولهما) معالجة الخلل في سند الرواية وقد قدمناه.

(ثانيهما) تمامية التعميم للمبانة من الميت بالأولوية ونحوها مما تقدم. إذ قد يناقش فيها بأن يقال: إن منشأ الوجوب هو المعنى المصدري للموت أي نفس حدوثه ولا يكفي فيه المعنى اسم المصدري الذي هو الأثر الباقي وهو الموت، وهذا متحقق فيالمبانة من الحي حيث تموت بعد انفصالها، أما المبانة من الميت فلم يعرض لها الموت وهي منفصلة وإنما عرض لها حينما كانت جزءاً من الجسد وكان مسُّها حينئذٍ موجباً للغسل، أما القطعة بعد الانفصال فهي عنوان آخر ولم يعرض عليها حادث الموت فبأي عنوان توجب الغسل؟

وهذا الفهم يمكن استفادته بوجه من رواية الفضل بن شاذان ومحمد بن سنان في العيون والعلل وفيها (لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي منه أكثر آفته)(4) وإذا أردنا تقريبه بمثال فهو استحباب التطيب للمصلي أو لمن قصد

ص: 357


1- كتاب الطهارة للسيد الخميني (قدس سره): 3/188.
2- حكاه السيد الخميني (قدس سره) في كتاب الطهارة: 3/188.
3- مستمسك العروة الوثقى: 3/473.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل الميت، باب 1، ح 11، 12.

دخول المسجد أو زيارة المعصومين (عليهم السلام) فإنه قد يكون متطيباً قبل ذلك ولا زال الطيب موجوداً لكنه يطيّب نفسه قبل الفعل لأنه يفهم أن المعنى المصدري للفعل مطلوب مضافاً إلى المعنى اسم المصدري الذي هو الأثر الباقي، وكذا ما ورد من استحباب الوضوء قبل الصلاة وإن كان متطهراً، وإن الضوء على الوضوء نور على نور.

وهذا كلام نقوله لشحذ الذهن بإذن الله تعالى.

أما الأولوية فهي لا تثبت تمام المطلوب لأن ما قيل في تقريبها ((موجه في إيجاب الغسل في مس القطعة المشتملة على العظم، لا في عدم إيجاب مس القطعة المجردة، ففائدة القول بالإطلاق تظهر في ذلك الذي هو مخالف للاستصحاب))(1).

(الثالث) رواية الفقه الرضوي وقد تقدمت (صفحة 350).

(الرابع) رواية إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن مسّ عظم الميت، قال: إذا جاز سنة فليس به بأس)(2).

بتقريب: إن العظم إذا مرت عليه سنة يكون مجرداً عن اللحم ومثله لا يوجب الغسل بالمس كما سيأتي، فوجه اشتراط مرور السنة هو وجوب الغسل قبل ذلك بمس القطعة المبانة من الميت التي فيها عظم ولحم.

وقد انقدح هذا المعنى للرواية في الذهن عند استدلال بعض الفقهاء –كالإسكافي في الذي ذكرناه آنفاً والمقنع والفقيه(3)-بالرواية على التفصيل بين كون المس بعد السنة وقبلها وإفتائهم بهذا المضمون، ولم أكن أعلم أن العلامة (قدس سره) قد ذكره ونقله عنه صاحب الوسائل (قدس سره) في ذيل الرواية قال العلامة (قدس سره) في المنتهى ((إن في التقييد بالسنة نظراً، ويمكن أن يقال: إن العظم لا ينفك من بقايا الأجزاء، وملاقاة أجزاء الميتة ينجسه وإن لم تكن

ص: 358


1- كتاب الطهارة للسيد الخميني (قدس سره): 3/188.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 2، ح2.
3- حكاه في كشف اللثام: 2/426 وغيره كما سيأتي بإذن الله تعالى.

رطبة، أما إذا جاز عليه سنةفإن الأجزاء الميتة تزول عنه ويبقى العظم خاصة، وهو ليس بنجس إلا من نجس العين))(1).

ويظهر من المحقق الكركي (قدس سره) تبنّي هذا الفهم فقد قال (قدس سره): ((وعند ابن الجنيد يجب الغسل بمس القطعة من الحي ما بينه وبين سنة))(2)

بتقريب: أن الرواية وكلام ابن الجنيد ورد فيهما العظم فبأي وجه عبّر المحقق بالقطعة؟ فكأنه (قدس سره) حمله على الوجه المذكور.

والمشكلة في الاستدلال بالرواية من جهتين (إحداهما) سند الرواية التي رواها الكليني والطوسي (قدس الله سريهما) بإسناد صحيحة عن صفوان عن عبد الوهاب إلخ، من جهة جهالة عبد الوهاب(3)

ونحن لم نبنِ على توثيق كل من يروي عنهم صفوان وإنما من أرسل عنهم إذا ألحقناه بابن أبي عمير، فإذا كان هذا المقدار من ذكر الاسم المجرد إرسالاً عرفاً فيوثق بهذا المبنى.

و(ثانيهما) أن دلالتها على المطلوب غير تامة إذ يمكن استظهار أن العظم الممسوس ليس منفصلاً وإنما كان جزءاً من الميت لكنه موضح ومكشوف بدلالة التعبير (عظم الميت) ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال.

إلفات: استدل الإسكافي ومن وافقه على تقييد وجوب الغسل بالمس إلى سنة بهذه الرواية، وقد ظهر من التقريب أن التقييد بسنة لا وجه له لأن تآكل اللحم عن العظم ليس له مدة محددة ويتأثر بطبيعة البدن وسبب الوفاة ونوع التربة وكيفية الدفن وغيرها.

(الخامس) الأولوية بالوجوب من القطعة المبانة من الحي. وهذا متوقف على تمامية الأولوية وقد ناقشناها في الوجه الثاني، وتمامية القول بالوجوب فيها،

ص: 359


1- حكاه عنه في كشف اللثام: 2/427 وفي جواهر الكلام: 5/343.
2- جامع المقاصد: 1/459.
3- ذكر السيد الخوئي (قدس سره) في (التنقيح من المجموعة الكاملة: 8/222) أن الرواية ضعيفة أيضاً من جهة محمد بن أبي حمزة، وهو من سهو القلم لأن محمداً ثقة وقد ذكر ذلك في معجم رجال الحديث.

وقد ناقشناه وكان مبنياً على الاحتياط، فغاية هذا الوجه أن الاحتياط هنا يكون أولى.

(السادس) التقريبات التي ذكرناها (صفحة 353-354) لجريان تمام أحكام الميتة عليها ومنها وجوب الغسل لمسّها. ويكون التقريب أأكد والنقض على عدم الوجوب أشد حينما تكون القطعة المبانة كالصدر مثلاً الذي تجب الصلاة عليه ولا يصدق عليه اسم الميت الذي جعل مناطاً لوجوب الغسل.

وفيه ما ذكرناه من أن وجوب التغسيل لم يثبت للصدر بما هو قطعة منفصلة وإنما لصدق الميت عليه.وذكر الشهيد (قدس سره) في الذكرى وجوهاً أخرى حاصلها ((إن هذه القطعة جزء من جملة يجب الغسل بمسّها، فكل دليل دلّ على وجوب الغسل بمسّ الميت فهو دال عليها، وبأن الغسل يجب بمسّها متصلة فلا يسقط بالانفصال، وبأنه يلزم عدم الغسل لو مسّ جميع الميت ممزقاً))(1).

وأوضح بيانها السيد الخوئي (قدس سره) ونذكرها بنفس التسلسل:

(السابع) ((الأدلّة الدالّة على وجوب الغسل بمسّ الميِّت، وذلك لأنّ الحكم المترتب على المركّب يترتب على كل واحد من أجزائه حسب المتفاهم العرفي، وإذا قيل مسّ الميِّت موجب للغسل فمعناه أن مسّ يده أو رجله أو غيرهما من أجزائه موجب للغسل بلا فرق في ذلك بين اتصالها وانفصالها.

وقد قالوا وقلنا في مبحث النجاسات أنّ الدليل الدال على نجاسة الكلب مثلاً هو الّذي يدل على أن شعر الكلب أو رجله أو يده نجسة وإن كانت منفصلة، لأنّ النجاسة المترتبة على المركب مترتبة على أجزائه أيضاً))(2).

وأجاب (قدس سره) بأن ((المتفاهم العرفي في الحكم المترتب على المركب وإن كان ثبوته لكل واحد من أجزائه إلاّ أن موضوع الحكم في المقام إنّما

ص: 360


1- نقلها عنه في مدارك الأحكام: 2/280.
2- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 8/220.

هو مسّ الميِّت كما تقدّم، ولا يصدق ذلك بمس جزء من أجزاء الميِّت، لأنّه ليس مسّاً للميت وإنّما هو مسّ جزء منه.

ولا يقاس المقام بمثل ما دلّ على نجاسة الكلب الّذي قلنا إنّه ينحل إلى نجاسة كل جزء من أجزائه، لأن مقتضى الارتكاز والفهم العرفي في مثله أنّ الكلب أُخذ عنواناً مشيراً إلى حقيقته، وهي ليست إلاّ شعره ورجله ويده ولو منفصلة، لعدم اعتبار الهيئة الاتصالية في الحكم بالنجاسة بالارتكاز.

وبعبارة أُخرى: الحكم رتب على الكلب لا بما إنّه كلب ليقال إنّه غير صادق على يده أو رجله مثلاً، والسر في ذلك واضح، للقطع بأن تقطيع الكلب ليس مطهراً له بدعوى أن يده ليست بكلب فطاهرة وهكذا شعره ورجله، فالهيئة الاتصالية غير دخيلة في الحكم بنجاسته.

إذن فالحكم ينحل إلى أجزاء الكلب متصلة كانت أم منفصلة، فإذا قيل الكلب نجس فيفهم منه أن شعره وبقية أعضائه نجسة ولو كانت منفصلة، لأنّه ليس إلاّ هي.

وهذا بخلاف المقام، لأنّ الموضوع فيه بحسب النص هو مسّ الميِّت، وهو لا يصدق بمس جزء من أجزائه))(1).

أقول: كأنه (قدس سره) فهم شمول الحكم بالنجاسة للأجزاء على نحو العموم الاستغراقي، بينما شمول وجوب غسل المس على نحو العموم المجموعي.

وفيه: إنه بهذا المقدار يكون دعوى عهدتها على مدعيها، إذ للخصم أن يدعيأن الارتكاز على خلاف ذلك كما عن الشهيد (قدس سره)، وصرح به الشيخ الأنصاري (قدس سره) وغيره كوجه لوجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة من الميت، قال (قدس سره): ((مع أنه لا مجال للتأمل في المنفصل من الميت –إذ لو أثّر اتصال أجزاء الميت في الحكم لأثّر في الحكم بنجاسة الميت؛ لأن الأخبار إنما دلّت على نجاسة الميتة، وهي لا تصدق على جزء منها- وفي الحكم بوجوب

ص: 361


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 8/220-221.

تغسيله لو لم نجد الميت تام الأجزاء))(1).

أقول: يمكن التسليم بما قاله الشهيد والشيخ الأنصاري (قدس الله روحيهما) من وحدة طبيعة الحكم في الموردين إلا أننا نقول: إن الحكم منصبّ على عنوان الميتة فيهما على نحو العموم المجموعي، أما نجاسة أجزاء الميتة فاستفيدت من الدليل الخاص كالنهي عن الأكل في آنيتهم لأنهم يأكلون الميتة(2)،

وإنما يوضع في الآنية أجزاء من الميتة، وكالنهي عن استعمال الثوب الملاقي لأجزاء من الميتة في الصلاة(3).

ومثل هذا الدليل غير موجود هنا في باب وجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة فالقياس في غير محله.

نعم عرض الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وجهاً في مسألة ثبوت النجاسة للأجزاء المنفصلة من الميتة ويمكن له أن يتمسك به هنا، قال (قدس سره): ((إن ميتة الحيوان إذا قسمت إلى أجزاء فكل جزء وإن كان لا يصدق عليه عنوان الميتة فلا يكون فرداً مستقلاً من موضوع دليل النجاسة، ولكن مجموع الأجزاء يصدق عليها أنها ميتة ذلك الحيوان؛ لأن كونها كذلك غير موقوف على اتصال بعضها ببعض، فيثبت بإطلاق الدليل نجاسة المجموع، من دون حاجة إلى الاستعانة بالارتكاز العرفي لإلغاء دخل الهيئة التركيبية في موضوع النجاسة، وإنما نحتاج إليه لإلغاء دخل ما يكون دخله أوضح بطلاناً، وهو انحفاظ سائر الأجزاء وعدم تلفها، فإنه بعد تجزئة الميتة إلى أجزاء تثبت

ص: 362


1- المجموعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سره): 4/442.
2- في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (سألت عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير) (وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح6).
3- في خبر قاسم الصيقل قال: (كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأصلي فيها؟ فكتب إليَّ: اتخذ ثوباً لصلاتك) الحديث (وسائل الشيعة: أبواب النجاسات، باب 34، ح4).

النجاسة للمجموع على تجزئته؛ لكونه ميتة.

ولا يحتمل عرفاً دخل بقاء جزء وعدم تحلله في بقاء النجاسة في الجزء الآخر المنفصل عنه، وبذلك يثبت المطلوب))(1).أقول: لا يخلو التقريب من مغالطة في محور كلامه وهو قوله: ((ولكن مجموع الأجزاء يصدق ..)) إلخ؛ لأن مجموع الأجزاء المنفصلة لا يصدق عليها ميتة وإنما أجزاء الميتة، فلا ينفع التقريب.

(الثامن) ((استصحاب وجوب الغسل بمسّها، لأن تلك القطعة المنفصلة كان مسّها قبل انفصالها موجباً للغسل، والأصل أنّها بعد انفصالها كذلك توجب الغسل)).

وأجاب (قدس سره) بأنه ((من الاستصحابات التعليقية، لتوقف الحكم بوجوب الغسل حال كون الجزء متصلاً على مسّه وأنه لو مسّها وجب الغسل، وهو حكم تعليقي، فلا حكم فعلي في البين، وقد بنينا في محلّه على عدم جريان الاستصحاب في التعليقيات.

على أنا لو قلنا بجريانها فالموضوع غير باقٍ، لأنه كما عرفت عبارة عن مسّ الميت، وقد كان مسّ القطعة حال اتصالها من مسّ الميت بلا كلام، وهذا بخلاف ما إذا كانت منفصلة، إذ لا يصدق مس الميت على مسّها، واتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة فيها مما لا بد منه في جريان الاستصحاب كما هو ظاهر)).

أقول: لعله يرد بذلك على السيد الحكيم (قدس سره) الذي استدل ((بالاستصحاب التعليقي بناءً على حجيته))(2) واستدل به السيد الخميني (قدس سره) قال: ((مقتضى الأصل أن مسّ القطعة المبانة من الميت موجب للغسل، سواء كانت مشتملة على العظم، أو لا، أو عظماً مجرداً، حتى السن والظفر، فكل ما يوجب مسّه الغسل حال الاتصال يوجبه حال الانفصال.

ص: 363


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/111.
2- مستمسك العروة الوثقى: 3/473.

لاستصحاب الحكم التعليقي، وقد فرغنا عن جريانه إذا كان التعليق شرعياً كما في المقام))(1).

أقول: يرد على الاستصحاب ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من عدم حجيته لكونه تعليقياً ومن عدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة فإن موضوع وجوب الغسل حينما كانت جزءاً هو مسّ الميت، وبعد الانفصال أصبح مسّاً للقطعة المبانة.

مضافاً إلى النقض على الاستصحاب بقطعة اللحم الخالية من العظم التي كان يجب الغسل بمسّها حين الاتصال ولا يجب قطعاً عند الانفصال، وكذا العظم المجرد على القول به.

ويمكن رد الوجهين الثاني والثالث بعد كون الأول خلافاً مبنائياً (أما) الثاني فبأن يقال إن هذا المقدار من التغيّر في الموضوع لا بد منه لتحقق الاستصحاب وهو الشك اللاحق ولو كان الموضوع نفسه فلا معنى للشك فيه، وبتعبير صاحب الجواهر (قدس سره) إن ((نفي احتمال مدخلية الاتصال ثمرة الاستصحاب، فلا يقدح حينئذٍ انسباق الاجتماع إلى الذهن من الأدلة))(2).و(أما) الثالث فإن قطعة اللحم ونحوها مما يقطع بعدم وجوب الغسل بمسّها إجماعاً فلا يوجد شك حتى يُجرى الاستصحاب فهي خارجة عن الاستصحاب تخصصاً.

وقد صحّح السيد الخميني (قدس سره) جريان الاستصحاب ودفع الإشكال عليه في معرض ردّه على المحقق الهمداني، قال (قدس سره): ((وقد يتوهم عدم جريانه، لأنه فرع إحراز الموضوع، والقدر المتيقن الذي علم ثبوته عند اتصال العضو بالميت إنما هو وجوب الغسل بمس الميت المتحقق بمس عضوه، وهو مفروض الانتفاء عند الانفصال، وسببية العضو من حيث هو لم يعلم في السابق حتى يستصحب.

ص: 364


1- كتاب الطهارة للسيد الخميني (قدس سره): 3/185.
2- جواهر الكلام: 5/340.

وفيه: أن موضوع الاستصحاب ليس عين الدليل الاجتهادي حتى يشك فيه مع الشك في الثاني، ويعلم انتفاؤه مع العلم بانتفائه، ضرورة أن موضوع الأدلة الاجتهادية هو العناوين الأولية مثل (الميت) و(العنب) و(العالم) وغيرها.

وأما الاستصحاب فجريانه يتوقف على صدق نقض اليقين بالشك ووحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها.

فإذا أشير إلى موضوع خارجي كالعنب ويقال: (إن هذا الموجود إذا غلى عصيره يحرم، ثم يبس وخرج عن عنوان العنبية لكن بقيت هذيته وتشخّصه عرفاً –بحيث يقال: (إن هذا الموجود عين الموجود سابقاً وإن تغير صفة)- فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه، مع العلم بتبدل موضوع الدليل الاجتهادي كما في المثال؛ لأن موضوعه عصير العنب وهو لا يصدق على الزبيب جزماً، لكن العنب الخارجي متيقن الحكم بهذيته، لا بمعنى تعلق الحكم على عنوان هذيته، بل بمعنى تعلق اليقين بأن هذا الموجود الذي هو مصداق العنوان ذو حكم بتشكيل صغرى وجدانية وكبرى اجتهادية.

ففي المقام يصح أن يقال مشيراً إلى كف الميت المتصلة به: (إذا مسست هذه يجب علي الغسل) فإذا قطعت منه وانفصلت لا تتغير إلا في بعض الحالات، فالقضية المتيقنة عين المشكوك فيها، وهو الميزان في جريان الاستصحاب، وأما تغيير موضوع الدليل الاجتهادي فأجنبي عن جريانه ولا جريانه، وهذا الخلط يسد باب جريانه في كثير من الموارد.

والعجب من قوله أخيراً: (إن سببية مس يده من حيث هو لم تعلم في السابق حتى تستصحب) لأنه إذا علم سببيته من حيث هو بلا دخالة شيء آخر فيتمسك بإطلاق الدليل لا الاستصحاب، إلا مع دعوى قصور الأدلة عن إثبات الحكم حال الانفصال ولو في الفرض))(1).

وعلله في موضع آخر –وهو نجاسة الجزء المنفصل من الميت- بأن

ص: 365


1- كتاب الطهارة: 3/185-186.

((الاتصال والانفصال من حالات الموضوع ولا يوجبان تبدله))(1).

أقول: يمكن القول بعدم تمامية كلامه (قدس سره) كبروياً لأن الحاكم في مداليل الألفاظ في الدليل الاجتهادي هو الحاكم في وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وهو العرف فكيف يتباين حكمه؟ أما المثال الذي ضربه فإن الفارق في الحكم بدوي يزول عند الالتفات أو الإلفات.ويرد على تقريبه (قدس سره) أنه غير تام صغروياً؛ لأن وجوب الغسل بمسّ اليد حال الاتصال لا بما أنها يد وإنما باعتباره مسّاً للميت من يده فلم يحلّ الإشكال على الاستصحاب.

وعلى أي حال فلو تنزلنا وقلنا بالاستصحاب فإنه لا ينفع إلا القليل ممن قالوا بالتفصيل بين القطعة المبانة من الحي فلا يجب الغسل بمسها ومن الميت فيجب، أما المشهور القائل بالوجوب مطلقاً فلا يتم مطلوبه، إلا أن يتممه بعدم القول بالفصل –كما سننقل عن جامع المقاصد – وفيه ما فيه، أو يستدل بدليل آخر.

(التاسع) ((ولأنّه لو لم يجب الغسل بمسّ القطعة المبانة من الميِّت لزم الالتزام بعدم وجوبه فيما إذا مسّ جميع القطعات المنفصلة عن الميِّت فيما إذا كان متقطعاً، كما إذا قطع ثلاثة أقسام وقد مسّ جميعها، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به))(2).

وأجاب (قدس سره) بأنه ((لو لم يصدق على مسّ تمام القطعات من الميِّت المتقطع أجزاؤه مسّ الميِّت، التزمنا بعدم وجوب الغسل بمسّها أيضاً، إلاّ أنّه يصدق مسّ الميِّت عرفاً بمس تمام القطعات، ومعه لا مناص من الالتزام بوجوب الاغتسال حينئذ، وأين هذا من مسّ قطعة مبانة من الميِّت، فإنّه لا

ص: 366


1- كتاب الطهارة: 3/117.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/220.

يصدق عليه مسّ الميِّت كما مرّ، فهذه الوجوه ساقطة))(1).

أقول: هذا الجواب يمكن قبوله لرفع الإشكال ولكن الخصم قد يتساءل عن الحد الفاصل بن التقطيع الموجب للغسل وغير الموجب فإن قدّه نصفين إذا كان لا ينافي وجوب الغسل بمسّها وكذا ثلاثة، فما الفرق لو كانت قطعه عشرة أو أكثر؟ وحينئذٍ قد يدّعي التعميم بعدم القول بالفصل، وهذا ما وجدناه في كلام صاحب الجواهر (قدس سره) قال: ((بل قد يعطي التأمل الجيد القطع بفساد القول بعدم جريان حكم المس على القطعة في القطع العظيمة، سيما التي يصدق عليها اسم الميت كالباقي من الجسم بعد قطع اليدين والرجلين والرأس.

ومنه ينقدح القطع بعدم اعتبار اجتماع جميع أجزاء الجملة، وإلا لانتفى وجوب الغسل بانتفاء اليسير من البدن، وهو واضح الفساد، واحتمال الفرق بين ما ينتفي الصدق بانتفائه وعدمه لو سلّم لم يتم في الميت المقطّع قطعاً متعددة، بل والمقدود نصفين، بل والمنفصل بعضه بحيث لا يصدق على ما بقي جسد الميت، فإنه لا ينبغي التأمل في وجوب غسل المس بذلك، إذ ليس التقطيع من المطهرات))(2).

أقول: هذا كله لا يلغي ما أجاب به السيد الخوئي (قدس سره) وقبلنا به إذ أن الميت المقطع لا يجب الغسل بمس قطعة منه –حتى المقدود نصفين- ليتم التعميم المذكور، وإنما مس تمام القطعات وبناءً على صدق مس الميت عرفاً بذلك.أما عدم كون التقطيع من المطهرات فمسلّم، لكننا لا نقول أن التقطيع رفع وجوب الغسل كالتطهير وإنما دفع الوجوب على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ونتيجة البحث في الجهة الثانية: إمكان التمسك بعدة وجوه للقول بالوجوب منها ما تقدمت معالجتها في الجهة الأولى من البحث ولو لم تكن كافية للجزم بالإفتاء فإنها كافية لتنجّز الاحتياط، وإن الاحتياط بالغسل إذا كان لازماً بمسّ القطعة المبانة من الحي فإنه أأكد في المبانة من الميت.

ص: 367


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/221-222.
2- جواهر الكلام: 5/341.

القول المختار وتقييم الأقوال الأخرى

ظهر مما تقدم أن قول المشهور بوجوب الغسل هو الأقوى وهو موافق للاحتياط، والبيان بمقدار الوجوه التي ذكرناها كافٍ للخروج من الأصل الذي تمسك به النافون للوجوب مطلقاً. وليس عندهم إلا التمسك به –أي الأصل- بعد عدم قيام دليل معتبر عندهم على الوجوب، ولا يخلو من مجازفة خصوصاً مع ارتباطه بالطهارة المشروطة في العبادة، مع أن صاحب الجواهر (قدس سره) اكتفى للخروج من الأصل ((بانقطاعه بصريح الإجماع من الشيخ في الخلاف المعتضد بظاهره من غير واحد من الأصحاب))(1)،

فكيف إذا انضمت إليه الوجوه التي رممناها؟.

أما القائل بالتفصيل بين الميت فيجب والحي فلا يجب فإنه وإن بدا وجيهاً، إلا أنه مما لا يساعد عليه الدليل؛ لأن عمدة ما استدل به على الوجوب في مس القطعة المبانة من الميت هو الإجماع ورواية أيوب بن نوح ودعوى صدق عنوان الميت ولو تعبداً، وهي جارية في الحي وبعضها مختص به وإنما عُمّم بالأولوية إلى الميت فإنكار الوجوب في الحي يلزم منه إنكاره في الميت، وأما ما اختص من الأدلة بالميت –كالاستصحاب- فإنه –لو تم- فيمكن تعميمه للمنفصلة من الحي فهو قابل للتتميم بعدم القول بالفصل كما نقلناه عن الذكرى واعتمده صاحب الجواهر(2)

(قدس سره) بعد عدم الاعتداد بقول المفصّلين.

نعم الاحتياط في الميت أأكد وأشد كما قلنا.

أما القول الآخر بالتفصيل بين الحي فيجب والميت فلا يجب المحكي عن الإصباح فإنه وإن بدا شاذّاً لا وجه له، إلا أنه يمكن الاستدلال على الوجوب في الحي دون الميت برواية أيوب بن نوح وعدم الدليل على التعميم، وأضفنا تقريباً للاختصاص بالحي (صفحة 360).

ص: 368


1- جواهر الكلام: 5/340.
2- جواهر الكلام: 5/340.

فرعان

(الأول) مقتضى الأدلة المتقدمة وجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة إذا اشتملت على العظم، أما العظم المجرد ففيه قولان(1):

أشهرهما عدم وجوب الغسل بمسه لعدم الدليل، لأن مقتضى الأدلة المتقدمة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة إذا كان فيها عظم.

وذهب جماعة إلى الوجوب كما في ((الذكرى والموجز وعن الدروس وفوائد الشرائع والمسالك)) ((ومستندهم دوران الحكم مداره وجوداً وعدماً))(2)

((وردّ بمنع حجية الدوران وجواز كون العلة هي المجموع المركب منه ومن اللحم)).

أقول: هذا صحيح لأن موضوع الوجوب هو مس القطعة المبانة التي تحتوي على عظم، فلا يصدق على العظم وإن كان وجوده مشروطاً، فإذا وجد العظم وجب الغسل بمس القطعة لا بمسّه إذ قد لا يلزم منه مسّ العظم نفسه.

واستدل المحقق الثاني (قدس سره) بالاستصحاب، قال (قدس سره): ((نعم يمكن الاحتجاج باستصحاب الحكم بوجوب الغسل بمسّه حال الاتصال إلى حال الانفصال، ولا يرد أن هذا إنما يتم في عظم الميت لانتفاء القائل بالفرق))(3).

أقول: اتضح الرد على عدة مواضع من كلامه (قدس سره) مما تقدم كعدم جريان الاستصحاب والنقض عليه وعدم قدرة الإجماع المركب على التتميم في مثل المورد ونحوها.

وقال السيد الخميني (قدس سره): ((نعم، العظم المبان من الميت يوجبه، مجرداً كان أو لا، لما تقدم من الأصل –يعني الاستصحاب- ولإشعار ما دلت على أن العظام يجب غسلها، بعد ما يظهر من الروايات أن غسل المس

ص: 369


1- الحدائق الناضرة: 3/342.
2- جواهر الكلام: 5/342.
3- جامع المقاصد: 1/464.

لنحو من السراية، ولا فرق بين الضرس والظفر وغيرهما))(1).

أقول: عُرفت مناقشتها مما تقدم فالاستصحاب غير جارٍ، والإشعار المذكور مجرد دعوى، ولم يثبت وجوب تغسيل كل عظم، والملازمة غير ثابتة ونحوها من الملاحظات.

نعم إذا شكّلت العظام المجردة هيكلاً عظمياً يصدق عليه أنه ميت إنساني وجب الغسل بمسّه وقد تقدم الكلام فيه.

ويوجد قول ثالث في المسألة حيث استند البعض إلى رواية الجعفي المتقدمة فقال بالتفصيل ففي ((الفقيه وعن المقنع: لا بأس بأن تمس عظم الميت إذا جاوز سنة، وكأنه بمعنى عدم وجوب الغسل بمسه، كما قال أبو علي أنه يجب بمس قطعة أُبينت منحي ما بينه وبين سنة، وهو يعطي مساواة العظم للقطعة ذات العظم في إيجاب مسّه الغسل، لكن إلى سنة))(2).

ورُدّ بأن ((عدم اعتبار سند الخبر المذكور، واستقرار المذهب على عدم اعتبار ما فيه من الشرط، وإجمال سؤاله بل جوابه يمنع من العمل به والالتفات إليه)).

أقول: قرّبنا الاستدلال بالرواية على وجوب الغسل بمس القطعة المبانة فالسنة أخذت على نحو الطريقية وليس الموضوعية، وعليه فإن هذا التفصيل يكون بلا دليل.

(الثاني) إنما يجب الغسل مع صدق مسّ الميت الذي هو موضوع الوجوب في الروايات، ويتحقق بمسّ كل أجزاء بدن الميت سواء كان الجزء مما تحله الحياة أو لا كالعظم والظفر، بل حتى الشعر إذا كان مسه يحقق العنوان كما لو كان قصيراً، أما إذا كان الشعر طويلاً خارجاً عن المتعارف بحيث يعد جزءاً زائداً عن البدن فلا يصدق العنوان بمسّه فلا يجب الغسل، هذا من طرف الميت الممسوس.

ص: 370


1- كتاب الطهارة للسيد الخميني (قدس سره): 3/191.
2- جواهر الكلام: 5/343 وقد أدخله فيه كلام كاشف اللثام: 2/427.

أما من طرف الحي الماس فكذلك، أي يتحقق المس بأي جزء من بدنه ما دام معدوداً جزءاً دون ما لا يعد كذلك كما لو حصل المس بشعره الطويل.

إن قلت: ورد في ((صحيحتي الصفار وعاصم بن حميد (إذا أصاب يدك جسد الميت) و (إذا مسست جسده)، والجسد لا يشمل الشعر))(1).

قلتُ:-

1- إننا نتمسك بإطلاق عنوان الميت في الروايات الأخرى التي لا موجب لتقييدها بهاتين الروايتين لأن الطائفتين مثبتتان.

2- إن هذا الاستدلال لو تم فهو ينفي الوجوب بمس شعر الميت ولا ينفيه عن مس الميت بشعر الحي فالدليل أضيق من المدعى بل يمكن ردّه بعدم القول بالفصل.

3- إن الجسد يشمل الشعر الخفيف غير الزائد عن المتعارف إما دائماً أو في خصوص الرواية باعتبار أن الحصر فيها إضافي مقابل الثوب كما هو واضح في صحيحة الصفار.

وحكى صاحب الحدائق (قدس سره) عن الشهيد الثاني (قدس سره) القول بالتفصيل بين ما تحله الحياة فيجب وما لا تحله، قال: ((قال في الروض: (واعلم أن كل ما حكم في مسه بوجوب الغسل مشروط بمس ما تحله الحياة من اللامس لما تحله الحياة من الملموس فلو انتفى أحد الأمرين لم يجب الغسل، فإن كان تخلف الحكم لانتفاء الأول خاصة وجب غسل اللامس خاصة، وإن كان لانتفاء الثاني خاصة فلا غُسْل ولا غَسْل مع اليبوسة، وكذا إن كان لانتفاء الأمرين معاً، هذا كله في غير العظم المجرد كالشعر والظفر ونحوهما، أما العظم فقد تقدم الإشكال فيه، وهو في السنأقوى، ويمكن جريان الإشكال في الظفر أيضاً لمساواته العظم في ذلك، ولا فرق في الإشكال بين كون العظم والظفر من اللامس أو الملموس))(2).

ص: 371


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 8/216.
2- الحدائق الناضرة: 3/343.

أقول: لا دليل على هذا التفصيل بعد الذي ذكرناه من مقتضى الروايات، وكأن الوجه فيه القياس على ما في باب النجاسة من طهارة ما لا تحله الحياة من الميت ((فإذا لم يتأثر بالموت فأولى أن لا يتأثر بمس الميت. بل في رواية الفضل عن الرضا (عليه السلام) الواردة في نفي الغسل بمس غير الإنسان قال (عليه السلام): (لأن هذه الأشياء كلها ملبسة ريشاً وصوفاً وشعراً ووبراً، وهذا كله ذكي لا يموت وإنما يماس منه الشيء الذي هو ذكي من الحي والميت) ))(1).

أقول: وهو مدفوع بإطلاق الأدلة كما قرّبنا.

ص: 372


1- مستمسك العروة الوثقى: 3/472.

ملحق: في حكم الشك

قال صاحب العروة (قدس سره): ((إذا شك في تحقق المس وعدمه، أو شك في أن الممسوس كان إنساناً أو غيره أو كان ميتاً أو حياً، أو كان قبل برده أو بعده، أو كان الممسوس بدنه أو لباسه أو كان شعره أو بدنه، لا يجب الغسل في شيء من هذه الصور))(1).

وهذه المسألة تشتمل على عدة صور للشك والحكم في جميعها عدم الوجوب كما اختاره السيد صاحب العروة (قدس سره) لنفس الملاك وهو عدم تحقق موضوع الوجوب الذي هو مس الميت الإنساني حال برده وهي كلها عناوين وجودية والأصل عدمها، فلا ثمرة في تفصيل الصور عند الاستدلال لكننا سنذكر عناوين الصور لنكات نبيّنها بإذن الله تعالى.

ثم قال (قدس سره): ((نعم إذا علم بالمس وشك في أنه كان بعد الغسل أو قبله وجب الغسل)).

والصور هي:

(الأولى) في تحقق المس وعدمه:

وهنا لا يجب الغسل؛ لعدم ثبوت موضوعه وهو المس، إما بالأصل لأن الأصل عدمه أو باستصحاب عدم تحققه.

(الثانية) الشك في كون الميت الممسوس إنساناً أو غيره:

سواء كان ذلك الغير حيواناً أو غيره:

والحكم هنا عدم الوجوب لعدم تحقق موضوع الوجوب أيضاً وهو مس الإنسان الميت لأن أصالة عدم كون الميت إنساناً جارية، بلا معارض بعد عدم جريان أصالة عدم كون الميت الممسوس ليس إنساناً لعدم ترتب أثر عليها، ولو جرى فعدم التمسك بهذا الأصل لسقوطه بالمعارضة وليس لعدم وجود ((أصل

ص: 373


1- العروة الوثقى: فصل في غسل الميت، المسألة (3).

يشخَّص به كون الممسوس إنساناً أو غيره))(1)

كما أفاد السيد الحكيم (قدس سره). ولا نعلم مراده هل عدم وجود أصل أصلاً وقد تقدم خلافه، أم وجود أصلٍ لكنه سقط بالمعارضة مع الآخر وقد أوضحنا جريانه بعد سقوط المعارض.

واستدل السيد الخوئي (قدس سره) على عدم الوجوب ب-((أصالة عدم كون الممسوس إنساناً)) بناءً على مختاره من ((جريان الأصل في الأعدام الأزلية من غير فرق في ذلك بين الأوصاف الذاتية والعرضية.

وتقريبه في المقام أن ذات الممسوس وإن كانت معلومة الحدوث والتحقق إلا أنا نشك في إضافته إلى الإنسان وغيره، وحدوث الإضافة مشكوك، وهي أمر حادثمسبوق بالعدم، فالأصل عدم تحقق الإضافة إلى الإنسان. أو يستصحب عدم وقوع المس على الإنسان، وبه يرتفع وجوب الغسل لا محالة.

ثم لو منعنا جريان الاستصحاب في المقام فلا بد من الرجوع إلى استصحاب الحالة السابقة في المكلَّف، فإذا كان متطهراً قبل مسِّه ثم مسّ شيئاً وشك في أنه إنسان أو غيره فيشك في انتقاض طهارته بطروء الحدث بالمس وعدمه، والأصل بقاؤه على طهارته وعدم طروّ الحدث في حقه))(2).

وفي كلامه عدة موارد للنظر:-

1- إن صفة الإنسانية ليست شيئاً مضافاً إلى الذات أي ليست صفة مجعولة وإنما هي توجد معه، فإما أن توجد الذات إنساناً أو غيره، فلا يمكن تصور الانفكاك ومن ثم الإضافة كما قالوا في كلمتهم المشهورة: (ما جعل الله المشمشة مشمشة).

2- إنه (قدس سره) اختار في الأصول في مبحث ((هل يمكن إحراز دخول المشتبه في أفراد العام بإجراء الأصل في العدم الأزلي بعد عدم إمكان التمسك بالعام بالإضافة إليه)) واختار الجريان إلا ((في كل مورد يكون المخصِّص موجباً لتعنون العام بعنوان وجودي وتقيده به فلا يمكن إثباته

ص: 374


1- مستمسك العروة الوثقى: 3/475.
2- التنقيح من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سره): 8/224.

بالأصل))(1).

أقول: المورد من المستثنى، إن لم نقل بأنه أولى منه لما قلناه من عدم تصور الانفكاك.

3- المفروض معارضة استصحاب عدم وقوع المس على الإنسان باستصحاب عدم وقوع المس على غير الإنسان فكان عليه (قدس سره) بيان وجه جريان هذا الاستصحاب كما فعلنا، نعم له أن يتمسك بأصالة عدم وقوع المس أصلاً، لكنه خروج عن المسألة التي تفترض وقوع المس.

4- لولا ما يظهر من كلامه (قدس سره) بأنه تنزلي لقوله: ((ثم لو منعنا)) لكان استصحاب الحالة السابقة للمكلف غير تام لأنه شك مسببي ولا تصل إليه النوبة بعد إجراء الأصل في الشك السببي لأن الثاني وارد على الأول، نعم إذا تعذَّر جريان الأصول في رتبة الشك السببي أو جرت لكنها سقطت بالتعارض جاز الانتقال إلى الأصول الجارية في رتبة الشك المسببي.

(الثالثة) الشك في كون الممسوس ميتاً أو حياً:

والحكم هو عدم الوجوب أيضاً لنفس الوجه السابق وهو عدم تحقق موضوعه الذي هو الإنسان الميت. وأفاد السيد الخوئي (قدس سره) بأن ((هذا الشك لا أثر له لأن المس بعد الموت غير موجب للغسل ما دام بحرارته))(2).

أقول: كأنه (قدس سره) لم يتصور إمكان حصول شك على هذا النحو يترتب عليه أثر شرعي، بتقريب أن الحي يكون حاراً فلكي يتحقق الشك لا بد أن يكون الميت بحرارتهوحينئذٍ لا يجب الغسل على كلا التقديرين.

لكن يمكن تصور المسألة إذ قد تكون بعض أجزاء بدن الحي باردة في الشتاء خصوصاً أطرافه أو في بعض الحالات المرضية.

ص: 375


1- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 46/360.
2- التنقيح من الموسوعة الكاملة: 8/226.

(الرابعة) الشك في كون المس قبل برده أو بعده:

وهنا لا يجري الغسل أيضاً للشك في تحقق موضوع الوجوب وهو كون المس حال البرد.

وللصورتين الأخيرتين –الثالثة والرابعة- تفصيل أوسع وذلك لأن لها حالات ثلاث لتضمنهما حادثين أحدهما المس والآخر الموت أو البرودة، وقد يكون تأريخ المس معلوماً دون الأخريين –أي الموت والبرد- أو العكس أو جهالتهما معاً.

وقد اختصر السيد الحكيم (قدس سره) وجه عدم وجوب الغسل فيها جميعاً بقوله: ((لاستصحاب الحياة والحرارة إلى حين المس، هذا لو علم تأريخ المس وجهل تأريخ الحياة والحرارة، أما لو جهل التأريخ في الطرفين أو في المس فالمرجع استصحاب الطهارة))(1).

أقول: رجوعه (قدس سره) إلى استصحاب الطهارة يعني أنه لم يجرِ الأصل في الرتبة السابقة أي الموضوع.

وقد أشار السيد الخوئي (قدس سره) إلى هذا التفصيل بين الصور الثلاث معلقاً على كلام السيد الحكيم (قدس سره) من دون ذكره فقال (قدس سره): ((الصورة الأولى: ما إذا كان تاريخ المسّ معلوماً دون تاريخ البرودة والموت، فمقتضى استصحاب عدم البرودة أي الحرارة، أو استصحاب الحياة وعدم الموت إلى حين المسّ وفي زمانه هو عدم وجوب الغسل في حقّه، لعدم تحقق البرودة أو الموت في زمان المسّ، مع أنّ الموضوع هو كونهما في زمانه أعني المسّ بالبرودة أو مع الموت.

الصورة الثانية: ما إذا كان تاريخ البرودة والموت معلوماً وتاريخ المسّ مجهولاً فالصحيح عدم وجوب الغسل في حقّه، وذلك لاستصحاب عدم تحقق المسّ بعد البرودة أو الموت الّذي هو الموضوع المرتب عليه وجوب الغسل، للصحيحة المتقدمة الدالّة على وجوب الغسل بالمس بعد ما برد.

ص: 376


1- مستمسك العروة الوثقى: 3/475.

والسرّ في جريانه أن وقوع المسّ قبل البرودة أو الموت أو عدم وقوعه ممّا لا أثر له شرعاً، لأنّ الأثر إنّما هو للمس الواقع بعد الحياة أو الحرارة. إذن فاستصحاب عدم المسّ إلى حين البرودة أو الموت غير جار، لأنّه لا أثر له إلاّ بلحاظ لازمه العقلي وهو وقوعه بعد البرودة أو الموت، إلاّ أنّه من الأصل المثبت ولا نقول به، ومع عدم جريانه نشك في تحقق الموضوع لوجوب الاغتسال، والأصل عدمه، وهو غير معارض بشيء.الصورة الثالثة: ما إذا كان التاريخان مجهولين معاً، ولا بدّ حينئذٍ من الحكم بعدم وجوب الغسل لاستصحاب عدم تحقق المسّ بعد البرودة أو الموت، وذلك لعدم كونه معارضاً باستصحاب عدم تحققه قبلهما، لأنّه لا أثر له كما عرفت))(1).

أقول:-

1- يوجد تعليق عام وهو أنه (قدس سره) أسّس سابقاً لوجود عام وهو وجوب الغسل على من مسَّ ميتاً إنسانياً، وخاصٍ هو إخراج الميت إذا كان حاراً، فالمفروض أنه في جميع صور الشك في البرد تناقش المسألة في ضوء النزاع حول أيّهما يقدَّم: هل عموم العام –باعتبار الشك في دخول الفرد تحت الخاص- أم استصحاب الخاص؟.

2- الاستصحاب الذي ذكره (قدس سره) في الثانية والثالثة لا وجه له لأن أدلة حجية الاستصحاب وهي الرواية الصحيحة وسيرة العقلاء لا تشمله فهي منصرفة عن مثل هذه الحالات، فالصحيح عدم جريانه فيهما، والانتقال إلى الأصل الحكمي في المرتبة الثانية وهو استصحاب الطهارة وعدم الوجوب ونحوه كما أفاد السيد الحكيم (قدس سره).

(الصورة الخامسة) الشك فيما لو كان الممسوس بدنه أو لباسه:

(الصورة السادسة) الشك فيما لو كان الممسوس شعره أو بدنه:

ص: 377


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 8/226-227.

ويفترض أن المراد الشعر الطويل الذي لا يصدق مس الميت بمسّه، والوجه في عدم الوجوب في الصورتين ما ذكرناه من عدم تحقق الموضوع لأصالة عدم تحققه فيستصحب حتى يثبت.

(الصورة السابعة) الشك في أن المس وقع قبل الغسل أو بعده:

والحكم هنا وجوب الغسل لتحقق المقتضي له وهو حصول المس، ولم يتيقن حصول المسقط للوجوب وهو تغسيل الميت – مطلقاً أي أن الشك في أصل وقوعه أو في وقوعه قبل المس-، فالعام وهو حصول الموجب للغسل متحقق ونشك في حصول الاستثناء فيجري حكم العام، ولا بد هنا من افتراض أن الميت قد أُخِّر تغسيله إلى ما بعد البرد ليتم تصور الشك، أما لو عُجِّل بتغسيله قبل أن يبرد تمام بدنه فلا يتصور هذا الشك، ولم ينبّه الفقهاء (قدس الله أرواحهم) إلى ذلك ولعله لوضوحه.

وفصّل السيد الحكيم (قدس سره) بين الحالات المتصورة، قال (قدس سره): ((مع الشك في أصل الغسل، فإنه يجب الغسل، لأصالة عدم غسل الممسوس. وأما لو علم بتحقق الغسل والمس وشك في المتقدم والمتأخر، فإن علم تاريخ المس جرت أصالة عدم الغسل فيجب على الماس الغسل، أما مع العلم بتاريخ الغسل أو الجهل بتاريخهما فلا يجب الغسل على الماس، لجريان أصالة عدم المس إلى حين الغسل فيالأول، واستصحاب طهارة الماس في الثاني، أو استصحاب عدم تحقق السبب، يعني: مس من لم يغسل، بنحو مفاد كان التامة))(1).

أقول: ذكرنا الدليل الجاري في المقام، أما ما أفاده (قدس سره) فإنه يتم بناءً على كون موضوع وجوب الغسل هو المس المقيد بكونه قبل التغسيل ولا يجب في المس بعد الغسل على نحو القضيتين المنفصلتين نظير ما تقدم في شرط البرد لكن المقام مختلف إذ أن موضوع الوجوب مطلق من هذه الناحية إما تغسيل الميت فهو

ص: 378


1- مستمسك العروة الوثقى: 3/477-478.

غاية للوجوب فينتفي بعدها وليس قيداً، وإلا يلزم عدم وجوب الغسل بمس الميت إلا إذا لم يُغسَّل بعده أصلاً وقد تقدم الكلام عن التقييد بالقبلية (صفحة 344) حيث تلوح من كلمات بعض الأعلام كقول المحقق في المعتبر ((يجب الغسل بمس الآدمي بعد برده بالموت وقبل تطهيره بالغسل)).

وعلى هذا فاستظهار القيدية من صحيحة الصفار –رقم 5- بقوله (عليه السلام): (إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسّل فقد يجب عليك الغسل) ليس في محله كما أشار السيد الخوئي(1)

(قدس سره) الذي بسط الكلام أكثر في هذه الصورة إلا أن نقل كلامه (قدس سره) لمناقشته يخرجنا عن محل البحث.

ص: 379


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 232-236.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.