الشهید الصدر الثاني کما أعرفه

هویة الکتاب

الشهید الصدر الثاني کما أعرفه

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

جامع: صدر، محمد صادق

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

سنة النشر:1433 هجري قمري|2012 میلادي

قانون الكونجرس:DS 79/66 /ص4ی6

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المدخل

إلفات نظر

ضمّ هذا الكتاب مجموعة كتيبات ومقالات تندرج في نفس الغرض صدرت في اوقات مختلفة جمعناها في كتاب واحد لوحدة الموضوع.

ونعتقد ان هذا الكتاب هو الجزء الاول من هذا العنوان، اما الجزء الثاني فهو كتاب (قناديل العارفين) وقد طبع مستقلاً.

ص: 5

ص: 6

الكتاب الأول: الشهيد الصدر الثاني كما اعرف

اشارة

ص: 7

ص: 8

هذا الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.

بعد استشهاد السيد الصدر الأول (قدس سره) كتب تلميذه وابن عمه الشهيد الصدر الثاني رسالة في سيرة حياته بلغت حدود الثمانين صفحة ووضعها عند المرحوم السيد حسن القبانجي وقد حاولتُ تحصيلها بواسطة بعض الثقات بعد ان احالني الشهيد الصدر الثاني - أي المؤلف - عليها حينما طلبت منه ان يحدثني عن استاذه الشهيد (قدس سره) الا ان السيد القبانجي لم يدفعها اليَّ ولا ادري ان كانت موجودة عنده ام أتلفها ام نقلها الى غيره ولا يتيسر له تحصيلها، المهم انني عذرته لان قوة بطش النظام يومئذٍ - في الثمانينات - كانت بحدٍ فاق كل تصور وقد اصيب السيد القبانجي في الله تبارك وتعالى كثيراً ولم يعد يحتمل أي خطر جديد يمكن ان تسببه هذه الرسالة فيما لو وقعت بايدي جلاوزة النظام وهو احتمال وارد.

ويبدو ان لا سبيل لها الى رؤية النور، ولكنني اؤدي باذن الله تعالى نفس الدور مع استاذي الشهيد السيد الصدر الثاني (قدس سره) فاكتب هذه المذكرات عن صفحات مطوية من حياته (قدس سره) قد لا تكون معروفة حتى عند اقرب الناس اليه مما يجعلها وثيقة تاريخية لجزء من سيرته (قدس سره) وقد كتبتها بعبارة مضغوطة ومختصرة لالحاح المحبين في صدورها، كما ان اغلبها سُجِّل في زمن الطاغية المهزوم فربما تجد فيها بعض الصياغات الموافقة للتقية الا انها على العموم جريئة وكان وقوعها في يد جلاوزة النظام

ص: 9

يشكّل ادانة تقضي على حياة عديدين ممن وردت اسماؤهم.

وكان من المؤمل ان تضم الرسالة فصولاً أخرى الا انني اعرضت عنها بعد أن اصبحت معروفة لدى الامة كالحديث عن مرجعيته كيف بدأت ونمت حتى اصبحت بتلك السعة من النشاطات والتأييد الجماهيري فقد صدرت عدة كتب في ذلك وكذا الفصل الخاص بالحديث عن اعداده للقيادة التي تخلفه وكيفية التخطيط لذلك خصوصاً وانه يعلم ان مصيره الى الشهادة في تلك الاجواء الرهيبة، وبنفس الوقت فانه (قدس سره) لا يرى نفسه معذوراً في إهمال ذلك البناء العظيم الذي شيده في ضمير الامة وسلوكها فكيف يتركه سدى(1).

وعلى أي حال فان هذه الرسالة عن حياة السيد الشهيد الصدر الثاني رغم اختصارها تؤرخ فترة عصيبة من حياة الشعب العراقي المظلوم وقيادته الدينية خلال عقدين من الزمن تقريباً وربما سنحت الفرصة بلطف الله تبارك وتعالى لتوسيعها وتحليلها (وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ).

محمد اليعقوبي

3 شعبان 1424ة.

ص: 10


1- وقد كتبت اشكال هذا التخطيط في بحث (كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلافة من بعده) ونشر في كتاب (من وحي الغدير) ولم أطبق الفكرة على سيرة السيد الصدر (قدس سره) الا ان الفطِن لا يخفى عليه ذلك بجمع النصوص الواردة في المسألة.

التعريف بمؤلف الكتاب

نسبه وأسرته

نسبه وأسرته(1)

هو الشيخ محمد بن الشيخ موسى بن الشيخ محمد علي بن الشيخ يعقوب بن الحاج جعفر.

أبوه الشيخ موسى (1345-1926/1402-1982) خطيب شاعر أصدر مجلة الإيمان في النجف (1963-1968) وكانت لسان النجف المعبّرة عن آلامها وآمالها - كما وُصفت - في تلك الحقبة الزاهرة من حيث وجود المفكرين والعلماء العظام، والمضطربة بالتيارات الفكرية والاجتماعية التي ماجت بها النجف وعموم العراق.

جده الشيخ محمد علي (1313-1896/1385-1965) الملقب بشيخ الخطباء لكونه مؤسس مدرسة جديدة في الخطابة وتخرج على يديه عدد كبير من رموز المنبر وقد أشار الى ذلك الخطيب الشهير المرحوم الشيخ احمد الوائلي في كتابه (تجاربي مع المنبر) محقق ضليع في التاريخ والادب والرجال وله مؤلفات وتحقيقات جليلة.

وجد أبيه الشيخ يعقوب (1270-1853/1329-1910)، شاعر كبير وخطيب ماهر استفاد من المدرسة العرفانية للشيخ حسين قلي الهمداني والشيخ جعفر الشوشتري، له ديوان مطبوع.

ورأس الاسرة الحاج جعفر (1200-1289) - الذي يتفرع منه آل اليعقوبي المنتشرون اليوم - من وجهاء النجف وكانت له أملاك كثيرة وقد اعتمد عليه الشيخ موسى بن الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء المتوفى سنة (1243) في بناء سور النجف لحمايتها من هجمات الوهابيين.

ص: 11


1- تارة يكون الكلام بصيغة الغائب وأخرى بصيغة المتكلم ومصدر الكتابة واحد.

وقد سكنت الأصول الأولى للأسرة مدينة النجف منذ قرون بحيث إن الشيخ يعقوب المتقدم ذكره المولود في النجف (1853) يعبر عنها بمواطن آبائي في أبيات يقول فيها:

تغرّبتُ عن أرض الغري فلم تكن تقر عيوني أو تطيب حياتي

حبستُ ركابي عندها اليوم بعدما أذبتُ عليها النفس بالزفرات

مواطن آبائي بها وأحبتي وفيها مغاني أسرتي وسُراتي(1)

والأسرة عربية المحتد تتفرع عن قبيلة الأوس الأنصارية وجدهم معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة بن عامر كان قائد قوات زيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين (عليه السلام) واستشهد معه، وزيد بن حارثة أو يزيد بن جارية على اختلاف النسخ من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أشرت إلى تفاصيل عن الأسرة في كتاب (الشيخ موسى اليعقوبي: حياته شعره).

ولادته و نشأته

ولد في النجف الأشرف فجر المولد النبوي الشريف (17) ربيع الأول (1380) الموافق (9) أيلول (1960) في بيت جده اليعقوبي ونشأ هناك حتى عام (1968) حيث انتقل والده إلى بغداد لارتباطه بمسؤوليات دينية واجتماعية مع المرحوم الشهيد السيد مهدي نجل المرجع الديني الكبير السيد محسن الحكيم وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية بتفوق فقبل عام (1978) في قسم الهندسة المدنية من كلية الهندسة في جامعة بغداد وتخرج فيها عام (1982) وتخلف عن الخدمة العسكرية منذ اللحظة الأولى لأنه كان يرى أن مجرد ارتداء الملابس العسكرية هو ركون إلى الظالمين ودخول في منظومتهم وهو

ص: 12


1- ديوان الشيخ يعقوب الحاج جعفر.

من الكبائر التي وعد الله تعالى عليها النار، فبقي رهين الحبس الاختياري حتى انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام (1988)، وفي نهايتها اقترن بكريمة المرحوم الشهيد السيد محسن الموسوي الغريفي وبين الأسرتين مصاهرات متعددة.

صاحب والده كثيراً منذ صغره في مجالس خطابته وإلى المساجد التي كان يقيم فيها الصلاة جماعة وكان يحفظ عدداً من الأدعية فيقرأها على المصلين بعد أداء الفرائض وهو دون العاشرة من العمر ومن هنا بدأت نشأته الدينية وكان ينقل الى والدته بعد عودته الى البيت الموضوع الذي تحدث عنه والده بالتفصيل وكان والده يعرفه الى اخوانه ومعارفه في المجالس والمنتديات لنبوغه في الحساب فيمتحنونه وهو دون السابعة من العمر بمسائل في الضرب والجمع وهو يجيبها فوراً ولا زال عدد من أقران أبيه يتذكرون ذلك ومن بين الذين استانسوا بهذه الموهبة المرجع الديني الكبير المرحوم السيد محسن الحكيم المتوفى عام (1970) وكان يقدم له هدية بعد كل امتحان.

وبعد انتقالهم إلى بغداد سكنوا الكرادة الشرقية قرب جامع التميمي مقر المرحوم السيد مهدي الحكيم وكانت الكرادة يومئذ تزهو بالعلماء العاملين والمفكرين والشباب الواعين كالسيد مرتضى العسكري والشيخ عارف البصري (قدس سره) وفيها مكتبات قيمة في جميع حقول العلم والمعرفة فكان أخوه الأكبر المرحوم الشيخ علي يصحبه معه حباً به واعتزازاً ورعاية لمواهبه فاستفاد كثيراً من ذلك وكان يأتيه بالكتب المصورة للأطفال التي كانت تصدر في عدد من البلدان الإسلامية خصوصاً سلسلة القصص الديني للأطفال التي كانت تردنا من مصر فبدأت علاقته بالكتاب الديني وتعلق به ثم بدأ بقراءة كتب التاريخ والسيرة والرجال لما فيها من طابع قصصي مع ما فيها من الدرس والعبر.

ص: 13

وفي بداية السبعينيات بدأ المرحوم السيد علي العلوي مشروعاً للاستفادة من العطلة الصيفية للطلبة بفتح دورات دراسية في العلوم الحوزوية على مستويين:

الاول: للشباب حيث يدرس السيد بنفسه الشرائع والمنطق وقطر الندى.

والثاني: للاطفال يدرس فيها اولاده كتباً مبسطة كالنحو الواضح لعلي الجارم فكانت لهذه الدورة التي استمرت سنة أو سنتين - حيث سُفِّر المرحوم العلوي إلى إيران عام (1974) - أثر واضح في صقل شخصيته وتفكيره وكان بنفس الوقت يعطي دروساً متنوعة بحسب ما استفاد هو من مطالعاته ومن دراسته ومن حضوره في مجالس ابيه قبل صلاتي المغرب والعشاء التي كان يقيمها والده جماعة في مدينة الفضيلية.

انتمى في الصف الثاني المتوسط عام (1973) إلى مدرسة الامام الجواد الاهلية الشيعية التي كانت تهتم بالتوعية الاسلامية اضافة الى الدروس الاكادمية المتعارفة، ودرس التربية الاسلامية فيها عند المرحوم الشهيد الشيخ عبد الجبار البصري الذي كان يقيم صلاة الظهرين جماعة قبل انفضاض الطلبة الى بيوتهم.

وخلال سنتين من وجوده في المدرسة تعلم الكثير وفتح عينه على مستوى اعلى من الكتب الدينية كالمدرسة الاسلامية للشهيد السعيد الصدر الاول (قدس سره) حيث كان احد زملائه من النشطين في هذا المجال يعدّ خلاصات لكتب السيد الشهيد الصدر الاول (قدس سره) ويلقيها علينا وكنا خمسة أحدهم المرحوم الشهيد الحاج جمال رضا علوان واثنان من السادة آل الحيدري.

ولما كانت الظروف الامنية صعبة آنذاك حيث اعدم الشيخ عارف البصري واقرانه عام (1974) فكانوا يتخذون التجوال في شوارع الكرادة

ص: 14

الشرقية الهادئة فرصة لتناول هذه الافكار.

وخلال وجوده في المدرسة بدأت تنمو عنده القابلية على البحث والكتابة حيث كلفه احد المدرسين بكتابة تقرير فاختار الكتابة عن الخمر ونظراً لوجود مكتبة كبيرة في بيته وممارسته مع الكتب فقد اجتمعت عنده معلومات كثيرة عن الموضوع وفي النهاية اصبح كتاباً يناهز المئتي صفحة عنوانه (الخمر أم الخبائث) راجع فيه كتب التفسير والتربية والطب والاجتماع وكان مرتباً بشكل جيد.

وبعد انتهاء الدراسة المتوسطة عام (1975) التحق بالاعدادية الشرقية في الكرادة وكانت فرصة اكبر للالتقاء بنخبة من الشباب الرساليين الذين اثمرتهم في نهاية السبعينات حركة الشهيد الصدر الاول التحق عدد منهم بربهم شهداء بعد ذلك وبقي آخرون لا زالت ذكريات صحبتهم والفترة التي عاشوها لها طعمها الخاص في النفس.

وبعد انتهاء الدراسة الاعدادية عام (1978) دخل الجامعة وقُبل في قسم الهندسة المدنية في جامعة بغداد لرغبته فيها دون كلية الطب التي تقل عن هذا القسم بمعدلات القبول يومذاك.

وكانت أحداث الثورة الاسلامية في ايران تتصاعد والاهتمام منشد الى مجرياتها وكان الجميع يتحلقون حول المذياع وكلهم آذان صاغية خصوصاً لاذاعة صوت (مونت كارلو) في نشرة الساعة الثامنة مساءً حيث يعطي تفصيلاً أخبار الثورة حتى وصول القائد السيد الخميني (قدس سره) الى ايران في الاول من شباط (1979) وانتصارها في الحادي عشر منه وعمّت الفرحة كل المظلومين والمحرومين التواقين للعدالة والحرية، وكان الرساليون الأكثر فرحاً، واحتفل طلبة الطب والهندسة في القسم الداخلي الموحد ووزعوا الحلوى.

ص: 15

وفي صيف ذلك العام بعد انتهاء الامتحانات النهائية شنّت سلطات الامن القمعية حملة اعتقالات طالت الكثير من الشباب الواعي المتدين وتقلد صدام منصب رئيس الجمهورية في تموز من ذلك العام وازال معارضيه البعثيين ليطلق العنان ليده الاثيمة في فعل ما يشاء حتى اقدم على جريمة العصر باعدامه الشهيد العظيم السيد محمد باقر الصدر في نيسان (1980) ونحن في المرحلة الثانية من الدراسة فازداد الوضع الامني سوءاً وتكثف العمل بالتقية بعد قرار ما يسمى بمجلس قيادة الثورة المشؤوم في آذار (1980) باعدام كل من يرتبط بحركة السيد الشهيد الصدر (قدس سره).

وفي ايلول (1980) بدأت الحرب على ايران الاسلام ونحن في بداية الدراسة في المرحلة الثالثة ومرّت أيام عصيبة ذقنا فيها الخوف والفزع لان العيون تتربص بنا وحاولوا ايقاعنا في الفخوخ لتحصيل تهمة ضدنا وكان ينجينا الله تبارك وتعالى وكانوا يصرّون على انتمائنا لحزب البعث ونحن نرفض بذرائع شتى فيتركوننا ويعودون الينا وبقينا على هذا الحال والحرب على الاسلام مستمرة وبدأت القوات الايرانية تستعيد التوازن وتحقق الانتصارات خصوصاً في الشوش ودزفول في آذار (1982) وفي المحمرة في مايس (1982) ونحن في الامتحانات النهائية للمرحلة الرابعة ولم يكن يمنعنا ذلك من الانشداد الى المذياع ومتابعة اندحارات وهزيمة صدام وأزلامه.

وكمحاولة لتأجيل إلحاقنا بالخدمة العسكرية بعد تخرجي قررت ترك الامتحان في درس واحد لكي اتأخر عدة اشهر عسى ان يفرّج الله تبارك وتعالى لان الخيارات المطروحة احلاها مر ولكن أي درس اترك فإنه سيؤثر على معدل التخرج، وحينئذ قررت ترك الامتحان في درس (الثقافة القومية والاشتراكية) الذي يوجه الطلبة بافكار حزب البعث وكانت مجازفة وعناداً للنظام وهو في عنفوانه وزهوه، ولا انسى مسؤول ما يسمى بالاتحاد الوطني

ص: 16

للطلبة حينما سلمني نتائج الامتحانات وهو ينظر اليّ بعينين مريبتين: أنت محمد موسى؟ ويفهم منها العاقل ما يفهم لكنني توكلت على الله تبارك وتعالى ولم اكترث ونجانا الله منها.

وبعد نجاحي في الدور الثاني كان عليَّ ان أؤدي الخدمة العسكرية، وكنت عازماً داخل نفسي على عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية لما ذكرت من رفض الانخراط في منظومة الظالمين حتى وإن كانت الوحدة العسكرية في باب بيتي، فكان امامي احد خيارين:

الاول: عبور الحدود الى ايران الاسلام والهرب اليها بسرعة ما دامت وثائقي الجامعية بعد لم تسقط وهو قرار محفوف بالمخاطر لان الجبهات جميعا كانت تشهد معارك ضارية بين آونة واخرى.

الثاني: الاختفاء في البيت والتخلف عن الخدمة العسكرية وعاقبته الاعدام وقد كثر المنافقون والواشون حتى قتل الاب ولده والمرأة زوجها خوفاً من ان يدان الجميع بتهمة التستر واخفاء (الخونة) بحسب زعمهم.

فعزمت على الاول لانه اسلم لي ولاهلي رغم صعوبة الطريق عن شمال العراق بواسطة بعض الاكراد ورغم ما فيه من كسر قلب والدتي التي فقدت والدي في تموز (1982) وسيق ثلاثة من اخوتي الى الخدمة العسكرية في نفس السنة وكان الرابع مصاباً بعجز الكليتين وطريح الفراش فكنت انا سلوتها ولكنها لم تكن تعارض لي قراراً وودّعت اهلي في صبيحة احد ايام تشرين الاول عام (1982) مغادراً الى ايران الاسلام لكن الوسيط لم يحضر الى المكان المقرر وفشلت السفرة وبرّر ذلك بنشوب قتال في المنطقة المقررة للعبور.

وحمدت الله تبارك وتعالى وعدت الى البيت وكم كانت فرحة امي بي وقالت انك حين غادرت كان كيوم فقد ابيك.

ص: 17

فلم يكن لي بد الا الخيار الثاني فمكثت في البيت وكنت بين مدة واخرى أحصل على وثيقة يستعملها العسكريون عند النزول باجازات لأهلهم يزودني بها بعض الإخوة الرساليين ليشعر المراقبون لي أنني جئت إلى أهلي باجازة اعتيادية، ومضى على هذا الحال الشهر والشهران والسنة والسنتان وكلما نقول إقترب الفرج واذا بالامل يبتعد ولم يعد أحد يعرف كيف ومتى ستنتهي الحرب، ولكني رغم ذلك ربما كنتُ اسعد انسان في تلك الايام لاني كنت في حالة روحية سامية ارافق القران الكريم والكتب التي احتوتها مكتبة والدي وسجادة الصلاة والراديو الذي اتابع فيه أخبار الجمهورية الاسلامية والحرب مع العراق ولا التقي بالآخرين حتى اهلي إلا قليلاً حيث كنت حريصاً على استثمار وقتي بأمثل صورة.

ومن لطف الله تعالى بي ان المكتبة ضمت امهات المصادر التي تُكوّن شخصية المؤمن الرسالي وفي مختلف حقول المعرفة ففيها الميزان وفي ظلال القرآن ووسائل الشيعة وشرح النهج وتاريخ الطبري والمراجعات وغيرها في التاريخ والادب والتفسير والفقه والاصول والرجال والوعي الاسلامي وكنت أثبت في اوراق رؤوس الافكار للكتب التي أقرأها برقم الصفحة والجزء ليتسنى لي الوصول اليها بسهولة متى شئت ولازلت احتفظ بتلك الاوراق.

وكنت ولعاً بالقرآن الكريم وتفسيره فختمته عشرات المرات في تلك الفترة واعتقد ان كثيراً من الالطاف الالهية التي غمرتني ولازالت هي بسبب صحبتي للقرآن وتعلقي به.

ونشأت لدي نتيجة هذه المطالعات المركزة افكار أصيلة وبحوث قيمة وكنت احتاج الى من يراجع لي جهدي ويوجهني ويرعاني فان القراءة وحدها لا تكفي واريد ان أصل الى مراتب اعلى لا تكفي القراءة وحدها

ص: 18

لنيلها ولم يكن على الساحة من ينفعني في ذلك بسبب غياب الاكثر بين سجن وتشريد واعدام او سِيقوا الى الخدمة العسكرية، وعمل الموجودين بالتقية، وحصاري في البيت الى ان هيأ الله تبارك وتعالى سبباً للاتصال بالسيد الشهيد الصدر الثاني بالشكل الذي سأتحدث عنه بإذن الله تعالى في فصل مستقل فبدأت نقلة كبيرة في حياتي وفتحت امام عيني آفاق واسعة.

وبعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية وتخفيف قبضة النظام نسبياً سعيت الى تحقيق رغبتي في الانتماء الى الحوزة العلمية الشريفة وتكميل وانضاج تلك الحصيلة من المطالعة والثقافة ومهدت لذلك بالعودة الى النجف الاشرف والاقامة فيها عام (1988).

واستخرت الله تبارك تعالى فكانت النتيجة هي التريث فلم يكن امامي إلا الانشغال بالكسب لأني أصبحت مسؤولاً عن اسرة وزارني السيد الشهيد الصدر الثاني اكثر من مرة الى محل عملي ولم يكن يشغلني العمل عن مواصلة المطالعة وكتابة البحوث وكانت احد اعمالي وانا في محل الكسب كتاب (الرياضيات والفقه) الذي طبعه استاذي السيد الشهيد الصدر الثاني في نهاية الجزء الثامن من كتاب (ما وراء الفقه) ثم طورته كماً وكيفاً بعد التحاقي الى الحوزة الشريفة الى كتاب (الرياضيات للفقيه).

وبعد انتهاء الانتفاضة الشعبانية المباركة واستقرار الوضع اعدت الاستخارة فكانت النتيجة جيدة جداً وتحقق الامل الذي كنت أصبو اليه منذ سنين وارتديت الزي الديني في شعبان (1412) الموافق شباط (1992) على يد المرحوم آية الله السيد الخوئي (قدس سره) وبمحضر عدد من العلماء والمجتهدين الذين هنأوني بذلك وترحموا على والدي وجدي وفرح السيد الشهيد الصدر الثاني عندما أخبره أخي المرحوم الشيخ علي بذلك وأخذ يتلفت يمنة ويسرة لعله يراني بهذا الزيّ المبارك وعبّر عن الحادثة ب - (انها بشرى حقيقية).

ص: 19

الدراسة الحوزوية

التحقت بجامعة النجف الدينية برعاية المرحوم السيد محمد كلانتر (قدس سره) لانها المؤسسة الوحيدة التي كانت الدراسة فيها منتظمة نسبياً اما بقية المدارس الدينية فكانت لاتزال اشبه بالمعطلة بسبب تداعيات الانتفاضة الشعبانية واقتحام الجيش للمدن الثائرة حيث عاث فيها بالفساد والتدمير وحتى في الجامعة التي كانت آمنة تقريباً لم نكن نجرأ بالدراسة في حرم الجامعة كما تنص عليه الوقفية خوفاً من إثارة حفيظة السلطة فكنا ندرس في غرف السكن مدة ولم يكن يتجاوز عدد طلبة الجامعة (11) طالباً.

ونظراً للحصيلة العلمية والثقافية التي كانت لديّ فقد قبل السيد كلانتر (قدس سره) المعروف بحزمه الشديد في الإلتزام بالمنهج الدراسي المخصص بالترتيب ان أبدأ دراستي مباشرة من اللمعة واصول الفقه للمظفر وكنت أأخذ درسي لمعة في اليوم ودرساً في الاصول وامتحنت مباشرة بعد انتهاء تعطيل شهر رمضان أي بعد بضعة أسابيع من دراسة هذين الكتابين في مكتب السيد الخوئي (قدس سره) وكانت درجتي (95%).

وكنت أحياناً أنظم درساً ثالثاً في اللمعة وثانياً في أصول الفقه؛ لذلك طويت هذه المرحلة بسرعة بفضل الله تبارك وتعالى، فانتهى كتاب الأصول مع حلول شهر رمضان (1413) وبعد عطلة العيد شرعنا بدراسة الكفاية وبدأت بالتزامن معه دراسة الرسائل للشيخ الاعظم الانصاري (قدس سره) وأكملتهما بعد أكثر من ثلاث سنين.

وبدات دراسة المكاسب في ربيع الاول (1414) عند المرحوم السيد محمد تقي الخوئي في مسجد الخضراء وأكملت عنده قسم المكاسب المحرمة وشيئاً من كتاب البيع حتى وافاه الاجل بحادث سيارة في صفر (1415) فحضرت مقداراً آخر عند بعض الأعلام ثم درست الخيارات الى

ص: 20

آخر الكتاب عند علم آخر.

وخلال هذه الفترة كنت سنداً للسيد الشهيد الصدر (قدس سره) في حركته المرجعية وملازماً له في مكتبه وفي صلاة الجماعة. وخلال تلك المصاحبة كنت أستثمر خلوّ مجلس السيد الشهيد الصدر من المراجعين في أوائل مرجعيته فأسأله عن الكثير من الآراء العلمية التي اتلقاها في دروسي وتحصل عندي مناقشات عليها او تنقدح في الذهن من افكار وكانت لهذه المناقشات الاثر الكبير في صقل مواهبي العلمية.

تعلمت من اساتذتي (رحم الله الماضين وحفظ الباقين) كلهم غير العلم الذي اخذته الالتزام بالتحصيل والمواظبة عليه بدقة والاحترام المتبادل والادب الرفيع الذي رسمته كتب الاخلاق للعلاقة بين المعلم والتلميذ.

لم اكن افكر بالالتحاق بالبحث الخارج حتى أُكمل دراسة السطوح لكن استاذي الشهيد (قدس سره) شجعني على الحضور بعد الانتهاء من نصف كتاب الكفاية فمن خلال المناقشات التي كنت اجريها معه قال (قدس سره) انك تستطيع ان تفهم مطالب البحث الخارج فلم اجد بداً من تلبية رغبته (قدس سره) وتحقيق حلمي في ان احضر البحوث العالية عند الاساتذة العظام وهو لا يتعارض مع دروسي الاخرى لانه (قدس سره) كان يلقي بحث الاصول عصراً فابتدأت بالحضور في أواخر شوال (1414) (نيسان 1994) وكان في نهايات مطلب (استعمال اللفظ في اكثر من معنى) وبعد ايام بدأ اول مطلب رئيسي وهو بحث المشتق الذي استمر ازيد من عام وقررّته في مجلدين وطبع لاحقاً، واستمر حضوري عنده (قدس سره) حتى استشهاده في ذي القعدة (1419) وكان في مبحث النواهي.

وفي (ذي الحجة 1415) بدات حضور بحث الفقه عند سماحة آية الله السيد السيستاني وكان يباحث في كتاب الصوم حتى انهاه ودخل في كتاب

ص: 21

الزكاة وكنت مواضباً على الحضور حتى انقطاعه في صفر (1420).

وحضرت سنتين (1416-1418) بحث الفقه على كتاب المكاسب عند المرحوم الشهيد الميرزا علي الغروي (قدس سره).

كما التحقت ببحث شيخنا الاستاذ الفياض (دام ظله الشريف) عندما بدأ في مبحث القطع (أي النصف الثاني من الاصول لاتمام ما بدأت به مع سيدنا الاستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) من النصف الاول فتحصل دورة أصولية كاملة وبقيت معه اربع سنين (1417-1421).

درّستُ الفقه والاصول بجميع مراحل السطوح والمنطق والاخلاق والوعي الاجتماعي ولي محاضرات كثيرة في ذلك طبع بعضها حيث كنت استثمر بعض المناسبات الدينية وبداية ونهاية المواسم الدراسية لاعطاء مثل هذه المحاضرات.

لي عدة إجازات بالرواية احدها من السيد محمد كلانتر (رحمه الله) عن السيد السبزواري والسيد البهشتي وآغا بزرك الطهراني (قدست اسرارهم) وثانيها عن العلامة الدكتور حسين علي محفوظ الذي له اكثر من سبعين طريقاً وثالثها عن السيد عبد الستار الحسني الذي له بعض الطرق النادرة، ورابعها عن عن الشيخ محمود الارّكاني البهبهاني الذل له أكثر من (150) طريقاً من علماء الفريقين ومن مختلف البلدان.

ص: 22

الفصل الأول: البداية

تصاعد الحس الإسلامي لدى المجتمع العراقي في السبعينات وازداد وعيه لقضيته متأثراً بعاملين مهمين:

1 - ظهور قيادة متحركة وشاعرة بداء المجتمع ودوائه متمثلة بشخص السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) والعلماء العاملين المجاهدين كالبصريين ونظرائهم.

2 - احداث الثورة الايرانية وما افرزته من فكر وعمل وكما نعلم فان العراق وايران كالجسد الواحد.

وكان جيل الشباب متجاوباً معها ومتابعاً لها ورغم انني لم اكن محسوباً عليهم بالعمر فلم اكن بالغ الحلم يومئذ إلا ان صحبتي لأخي الشيخ علي الذي يكبرني بأكثر من عشر سنين الى ندوات الشباب واجتماعاتهم الدينية والمجالس الحسينية في الكرادة الشرقية الزاهرة يومئذ فتحت عيني على الكثير من الامور وفتقت ذهني بوقت مبكر وكان يتحفني بالكتب والمجلات والمصورات الدينية التي تناسب عمري كما شجعني على الانتماء للدروس الدينية خلال العطلة الصيفية التي كان يشرف عليها المرحوم السيد علي العلوي في منطقة العبيدي ببغداد فالتحق هو بحلقات الشباب وانا بدروس الصبيان كان ذلك سنة (1970-1971) وبدأنا نحن بعقد الحلقات العلمية في الفقه والعقائد هو للشباب وانا للاطفال في جامع منطقة الفضيلية حيث كان والدي (رحمه الله) يقيم صلاة جماعة.

وفي النصف الثاني من السبعينات حيث التحقت بالدراسة الاعدادية في

ص: 23

(الاعدادية الشرقية) في الكرادة والتي كانت تضم زهوراً من الشباب الواعي المتدين بدأت مسيرتي مستقلة حيث كان لي اقراني منهم (اعدم معظمهم في احداث سنتي (1979، 1980) ونمى مستواي الثقافي والفكري وانتقلت الى طائفة اعلى من الكتب الدينية وكانت كتب السيد ابي جعفر (قدس سره) والآصفي وفضل الله وسيد قطب تستحوذ على اهتمامنا ومنها ايضاً موسوعة الامام المهدي (عليه السلام) حيث صدر الجزءان الثالث والرابع (اليوم الموعود وتاريخ ما بعد الظهور) في تلك الفترة الحاسمة ومن حينها عرفت السيد الصدر مفكراً اسلامياً كبيراً وقائداً اجتماعياً استوعب حياة المعصومين عليهم الصلاة والسلام وصاغها منهجاً مناسباً للأمة في حياتها الحاضرة.

قرات له في مجلة الايمان التي اصدرها والدي في الستينات اكثر من موضوع اعجبني أحدها وهو بعنوان (مسؤولية الدعوة في خير الامم) ومن حينها عشقت السيد الصدر واصبح اسمه يثير اهتمامي اينما وجدته فقد سمعت عنه مرة انه ناب عن السيد ابي جعفر (قدس سره) بالقاء كلمة في افتتاح مسجد السيد المبرقع في مدينة الثورة في ايام تأجّج الاحداث قبيل انتصار الثورة الايرانية.

ثم تعرضت الحركة الاسلامية للضربة القاضية التي افقدتها جُِلَّ رموزها وانزوى السيد الصدر في داره لا يخرج الا لقضاء الحوائج الضرورية لبيته وعائلته وازداد وضعه الامني سوءاً عندما حدث الاعتقال الجماعي لاسرة آل الحكيم فقد كان دار احدهم (وهو المرحوم السيد جواد بن السيد محمد علي وقد اعدم فيما بعد) مجاوراً له فكان بعض افراد أمن النظام مرابطين هناك للمراقبة، فانعزل عن المجتمع بشكل كبير وانقطعت اخباره هذا كله وانا لم اتعرف عليه شخصياً رغم انه واباه واسرته من اصدقاء اسرتنا كسائر الاسر النجفية العريقة.

ص: 24

اما بالنسبة لي فقد التحقت عام (1978) بقسم الهندسة المدنية في كلية الهندسة بجامعة بغداد وتوزع اخواني بينها وبين كلية الطب والصيدلة والجامعة التكنولوجية ثم مضى منهم من مضى شهيداً صابراً محتسباً وبقي من بقي، حتى تخرجت سنة (1982)، (وفي نفس السنة توفي والدي (رحمه الله) وكان عليّ الالتحاق بالخدمة العسكرية بينما الحرب مع ايران الاسلام مشتعلة ولم اكن افكر بلبس البدلة العسكرية ولا طرفة عين فقد كنت ارى الانخراط في القوات المسلحة في أي موقع وان كان بعيداً عن الجبهة هو معاونة للإثم وتكثير السواد ضد الاسلام فحاولت تجاوز الحدود الى ايران وهيأنا مقدماته وودعت أهلي وخرجت الى موقف سيارات السليمانية وهو الطريق المتفق عليه للعبور الا ان ظروفاً حالت دون ذلك فعدت الى البيت واوكلت الامر الى مدبره الحقيقي واختفيت في البيت بعد ان اصبحت متخلفاً عن الخدمة العسكرية وهو عنوان يوجب الحكم بالاعدام ولم اكن اخرج من البيت إلا لحاجة ضرورية وبعد مدة يحتمل فيها عودة العسكري الى اهله باجازة اعتيادية حيث كان موقفي المعلن انني ملتحق بوحدتي العسكرية وبقيت على ذلك حتى آذار (1983) حيث تم التشدد على مراقبة الشباب وتوزيع مفارز الانضباط العسكري في كل مكان فانزويت في البيت نهائياً وكان ذلك لمصلحتي فقد كان وقتي مكرساً لمطالعة الكتب في مختلف حقول المعرفة بما فيها العلوم الحوزوية حيث كانت مكتبة والدي عامرة بها وصقلت موهبتي في الكتابة فبدأت بالتأليف ولكن من دون مرشدٍ او ناقد يأخذ بيدي ويوجهني ويقيّم نتاجي.

وفي نيسان (1985) اضطرتني الظروف الى ترك دارنا في بغداد فيمّمت النجف وحللت دار عمي الشيخ صادق ومكثت فيها مدة بنفس المنهج السابق وخشية ظهور امري كنت انتقل منهم الى دور بعض اقربائنا في كربلاء والحلة

ص: 25

واعود اليهم وكان ابن عمي الشيخ حيدر يلازمني في بيتهم ويزورني في الاماكن الاخرى فكنت اغذيه بخلاصة ما يجتمع لدّي من افكار ومعلومات وعلم بما عندي من بحوث وكتابات فعرض عليّ فكرة الاستفادة من السيد الصدر في تقييمها وتوجيهي فكرياً وهي فرصة لم اكن احلم بها وجرى الاتفاق على ان يتم الاتصال به بواسطة صديق للشيخ حيدر هو الأخ زيد نجل الحاج عبد الغني البغدادي الذي كانت دارهم ملاصقة من الخلف لدار السيد الشهيد (قدس سره) وبينهما باب يستعملونه للضرورة بعد ان كانت الباب الامامية لدار السيد (قدس سره) مراقبة وكان زيد شديد المحبة والولاء للسيد (قدس سره) وعن طريق هذا الباب فرّ أخ لزيد بعد ان اقتحمت قوات الامن دارهم لاعتقاله فاجتاز من بيت السيد الشهيد (قدس سره) الى الخارج ونجا بنفسه، ولزيد أخت مؤمنة مثقفة مجاهدة تسمى (ساجدة) استفادت من السيد (قدس سره) كثيراً ولم يقصّر هو في توجيهها وتوعيتها ورعايتها، اعتقلت مدة ثم افرج عنها لسوء حالتها الصحية حتى توفيت رحمة الله عليها، وقد تمت موافقة جميع الاطراف على هذه الطريقة من مبادلة الافكار بيني وبين السيد (قدس سره) حيث ياتي زيد الى بيت عمي ليأخذ ما اعددت له ويوصلها الى السيد (قدس سره) بيده او بيد اخته الى عائلة السيد ثم يرجع الجواب اليّ بنفس الطريقة وبدأ اللقاء بيننا لآول مرة عبر الاوراق في ذي القعدة (1405) (صيف عام 1985) وكانت نقطة تحول في حياتي وبداية لسيل من البركات والرحمات ولم يكن احد منا يعلم ان هذا اللقاء سيثمر فيما بعد شركة واتحاداً للنهوض بهذا المجتمع وللأخذ بيده نحو الهداية والصلاح ولطرح ايديولوجية جديدة للمرجعية وقيادة الامة.

واول بحث قدمته اليه كان حول (ثبوت الهلال في البلدان المختلفة) وناقشت الاقوال في المسألة وكنت ولعاً بالفقه الاستدلالي وقرأت فيه وفي

ص: 26

علم الاصول كتباً متعددة ودعمت أخيراً الراي العلمي بان ثبوته في بلد كافٍ لثبوته في البلدان التي الى غربه دون التي الى شرقه (ولم اطلع يومئذ على رأيه المختار في المسألة وهو هذا بعينه بل لم اكن اعرف يومئذ انه مجتهد مرشح للمرجعية) ثم قدمت له افكاراً في تحديث الحوزة العلمية وتطويرها وكان فيها شيء من الجرأة والخروج عن الموروث فجاء في جوابه (وليت شعري فكل محاولة لانزال الشريعة الى مستوى الواقع ليست بصحيحة لان مضمونها الحقيقي هو اعطاء الشريعة جزءاً من فساد الواقع وانما الصحيح هو رفع الواقع الى مستوى الشريعة وهذا هو الذي يستهدفه الله تعالى في بشريته ومعناه اعطاء الواقع جزءاً من كمال الشريعة وعدلها بل كل كمالها وعدلها) وقال في موضع آخر (ان مسلك علمائنا واسلافنا (قدس الله اسرارهم) على وجه العموم مهما كانت فيه من المناقشات الجانبية فانه قد أسس وتعب عليه آلاف المفكرين وضحى في سبيله الآلاف من الشهداء والصالحين من اجل حفظ الاسلام والايمان وتفاصيل الشريعة والعقيدة مضافاً الى امكان نشرها وتوسيعها جهد الامكان. وقد اثبت ذلك المسلك جدارته ورجاحته خلال الالف سنة الماضية واثبت انه كفيل - بعناية الله سبحانه - ان يقوم بمهمته خير قيام بالرغم مما يدهم المسلمين والمؤمنين في كل زمان من البلاء والمؤامرات والمصاعب، وان ادل دليل على نجاحه هو بقاء الدين بتفاصيله العملية والمهمة حياً قائماً في اذهان الكثيرين من دون ريب ولا نقص وهذا مصداق لقوله تعالى (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) مع العلم ان الافكار المعادية مما هو مبرمج ومدَّقق اكثر مما يعد ويحصى إلا ان الدين لا يزداد إلا عمقاً ورجاحة.

فاذا كان هذا ناتجاً من المسلك العام لعلمائنا ومفكرينا فينبغي على الفرد ان يعيد النظر اكثر من مرة اذا اراد ان يغير ذلك المنهج او يفرع عليه او

ص: 27

يناقش فيه إذ قد تؤدي المناقشة من حيث لا يعلم الفرد الى نتائج على خلاف النتائج التي جناها المسلك السابق الذي اصبح هدفاً للمناقشة فنكون مثل ذلك الغراب الذي حاول ان يقلد مشية الطاووس فلم يفلح فاراد ان يرجع الى مشية نفسه فوجد انه قد نسيها فخسر كلتا المشيتين.

وهذا لا يعني بحال ان المناقشات لا يمكن سماعها او ان المسلك السابق غير قابل للتعديل ولكن ينبغي ان ناخذ عبرة ممن سبق ممن حاول ان يناقش ويجدد كالشيخ محمد عبدة وابي الاعلى المودودي، فمع احترامي لافكارهم الا انه لم يبق منهم الا ما كان ضمن الخط العام لعلماء المسلمين واما التفاصيل التي جددوها فهي متقوقعة في منطقة او منسية او مجهولة او تكاد ان تندثر وانما التجديد المحتمل بقاؤه والمحرز صحته هو ان يبقى اتجاهه صامداً لفترة طويلة وماراً بالتمحيص ضمن مئات او آلاف من الافكار والمفكرين في اكثر من جيل او عدة اجيال فيكون (اللب) المسلّم صحته في هذا الاتجاه صحيحاً واما التفاصيل فتبقى - رغم ذلك - قابلة للمناقشة).

واستمرت المراسلات وكان بعضها يتخذ شكل الاسئلة المتفرقة التي لا يجمعها علم واحد فكان يجيب على الجانب (المفهومي) لها - كما كان يعبر - أي الفكري اما الجانب العلمي التخصصي فموكول الى محله بعد تناول تلك العلوم في الحوزة الشريفة ولا تكفي الاسطر لحل معضلاتها.

ومن هنا بدأت المرحة الثانية من اتجاهات التفكير فبعد ان كانت في المرحلة الاولى متشتتة اصبحت مركزة على الجانب الحركي الواعي للاسلام والاصلاح الاجتماعي فكتبت (دليل سلوك المؤمن) ادعو فيه الى ان تكون الرسائل العملية (حيّة) تعالج كل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فضلاً عن العبادية وان تخاطب العقل والروح والنفس بدلاً من وضعها الجامد الحالي وان تعرض الفقه الشامل لكل نواحي الحياة مستعرضاً المراحل

ص: 28

التاريخية لتفكير فقهاء المسلمين وتاثرهم بالظروف التي احاطت بهم ثم عرضت نموذجاً لتبويب الرسائل العملية لتغطي هذا الهدف كله، فاجابني بعد السلام والتحية (قبل أي شيء ينبغي ان اؤدي اليك جزيل الشكر للفضل الذي تسديه اليّ بهذه الكتابات النافعة التي ترسلها اليّ وذلك لعدة امور:

منها: انها تملأ قسماً من وقتي الذي جعله (الليل) فارغاً او يكاد.

ومنها: انها جعلتني افكر بما هو منتج ونافع في سبيل الله بعد ان كنت اسقطت ظاهرياً مجرد التفكير في ذلك الى حين طلوع الفجر.

ومنها: انها جعلت لي السرور بالطعوم اللذيذة التي تمر في ذهني والتي كنت قد حرمت منها ردحاً من الزمن.

ومنها: انها عرفتني ان العالم لم ولن يخلو من الخير مهما شاءت شهب الليل (وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) * ليس انت فقط بل آخرين وآخرين والحمد لله رب العالمين).

وكان من ضمن تعليقاته قوله (لعل المفهوم من مقالكم - بشكل وآخر - ان تحثّوا هذا الضعيف الجاهل على المبادرة الى الفقه الواسع الذي تريدون(1)، وليتني كنت من القادرين، بل عساني استوعب حقلاً من حقوله فضلاً عن المجموع، وبغضّ النظر عما يعلمه الله تعالى في سابق علمه وهو بكل شيء عليم. وبغض النظر عن الايمان المسبق بكل هذا المضمون بعمق كما اوضحنا، الا ان هناك نقاط ضعف عديدة تحول دون هذه المبادرة نذكر ما تيسر منها:

اولاً: انه لا دليل على بقاء هذا الضعيف حياً الى حين انجاز مثل هذا المشروع فضلاً عن اطلاع الناس عليه، الامر الذي يجعله - بعد موته - ساقطاً عن المنفعة تقريباً لانه من تقليد الميت.).

ص: 29


1- أي وفق الاطروحة التي قدمتها له (قدس سره).

ثانياً: انه لا دليل على انحسار الليل وطلوع الفجر بحيث يمكن مجرد التفكير في ذلك ولله في خلقه شؤون) ثم ذكر نقطتين أخريين.

ثم كتبت بحثاً آخر انضج منه واوسع بعنوان (الجاهلية الحديثة واسلوب مواجهتها) أخذ بنظر الاعتبار مفردات البحث السابق مع تعليقات السيد (قدس سره) عليها وانطلق منها ليضع العلاجات المناسبة للجاهلية التي نعيش فان الجاهلية(1) بحسب المفهوم القرآني كل حالة اجتماعية لا تقيم حكم الله سبحانه ولا تطبق شريعته (أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) بل ان الجاهلية التي نعيشها اسوء حالاً واردأمن تلك التي بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليستنقذهم منها فمن الحري بنا ان نستلهم الرسالة ونأخذ من الرسول دروساً لمعالجتها مع الأخذ بنظر الاعتبار ان هذا المجتمع مسلم ظاهراً وليس مشركاً فاجابني بعد الحمد والثناء على الله سبحانه والصلاة على انبيائه والسلام على المؤمنين قائلاً (أخي في الله سبحانه ووليي فيه عز وجل. أدام الله توفيقاته عليك كما تحب ويحب وجنبك سوء الفتن وشرور طوارق الليل والنهار واتم نورك وزادك بسطة في العلم وجدارة في العمل انه ولي كل توفيق.

مولاي: عندما انقطعت رسائلك بل بحوثك وافاداتك فكرت قليلاً ثم أرجعتها الى بدء العام الدراسي(2) الذي يشغل ولا يمهل. وبخاصة بعد ان كان الهدف منه شرعياً يقصد به ما انت أعرف به من تقليل الظلم وبث العدل وقضاء حاجة المحتاجين والعطف على المنكوبين - اينما صار الفرد وحيث حصل -.

ص: 30


1- شُرِحت بعض هذه الافكار فيما بعد في كتاب (شكوى القرآن).
2- لم يكن (قدس سره) آنذاك يعلم شيئاً تفصيلياً عن المرسل وقد انقطعت الرسائل فترة لظروف اعاقت استمرارها، وربما كان الى ذلك الحين يظن ان المرسل هو نفس الواسطة أي زيد البغدادي.

ولكن ورود افاداتك من جديد - وهي وفيرة كماً وكيفاً - دلني على ان الرجل الهادف يستحيل ان يتخلى عن هدفه او ينساه او يتغافل عنه حتى ولو في احلك ظلمات الدنيا ودهاليزها وبلاياها، هذا ولكن - يا حبيبي - ينبغي ان تجعل للتقية في فكرك مجالاً فانها حصن المؤمن والجنة الواقية له من كل مكروه، فان مثل هذه البحوث كانت متداولة في الستينات حين كان النسيم وافراً والحُّر متحملاً. واما الآن فنحن لعلنا اولى من الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) بالتقية والهدنة وان لم نكن اولى فمثله، فاننا أضعف ناصراً واقل عدداً).

ثم اجاب عن بعض العواطف المتبادلة وقلّل من اهمية الذات وحذّرمن الوقوع في عبادتها وانما ينبغي ان ينظر الى كل شيء على انه فانٍ في الله سبحانه قال (ولست انا هدفاً بأي شكل من الاشكال، وإلا فساصبح صنماً يدعي الناس انني اقربهم الى الله زلفى) وقال (واما الفجر الذي تشير اليه في رسالتك والذي اود ان افهم منه المعنى المعنوي فهو الفجر الذي يشرق في النفس والضمير قبل ان يشرق على المجتمع، والله سبحانه أخبر بعباده، ومن المؤكد ان التربية الايمانية في ظلمات الدنيا وصعوباتها أقوى واوكد وارسخ من التربية مع الدلال والترفيه وهل تطبيق الاحكام الاجتماعية العامة بين الناس إلا لطاعة الله، فاذا توفرت طاعته تحت ظروف الظلمات، بل بشكل الطف واوكد فذلك هو المطلوب) ثم بدأ بالتعليقات على اصل البحث.

ثم أرسلت بحثاً كتبته بعنوان (عالم الذر والظواهر الباراسا يكولوجية) وهو مختصر نسبياً لا يتجاوز ثلاث صفحات الا انه (قدس سره) كتب الاجابة في (13) صفحة مما ينبئ عن سروره ولذته في الخوض بما وراء المادة.

وتوالت المراسلات وكان منها كتاب في مئتي صفحة تقريباً بعنوان (دور الائمة في الحياة الاسلامية) وهو تعميق وتوسيع لبحث من بضع صفحات بنفس العنوان نشره السيد ابو جعفر (قدس سره) في مجلة الايمان فعلق عليه تعليقات ثمينة وكتب له مقدمة مختصرة تمنى فيها نشره.

ص: 31

وكتب هو (قدس سره) بحثاً بعنوان (فلسفة الاحداث في العالم المعاصر) يناهز الاربعين صفحة وضع فيه النقاط على الحروف في ما يجري في عالم اليوم والاصابع التي تديره - وهي الصهيونية الخبيثة - ونفوذهم في مجتمعاتنا والافكار الهدامة التي يبثونها فينا والممارسات التي ينشرونها بيننا ونحن ساذجون سادرون في جهلنا فكان (قدس سره) الطبيب الحاذق بادواء مجتمعه، وقد ارسل البحث اليّ للاستفادة منه والتعليق عليه فبعثت اليه بذلك فاعاد هو (قدس سره) التعليق عليها مع اضافات الى اصل البحث واستمرت التعليقات المتبادلة وفي النهاية أوكل امر إعداد الكتاب بشكله النهائي اليَّ آخذاً بنظر الاعتبار جميع هذه الملاحظات المشتركة.

ورغب مرة في ان اعرض وجهة نظري عن الحرب مع ايران وصواب الرأي باستمرارها بعد ان اتضح انها لا طائل من ورائها سوى انهاء البلدين الشيعيين بشرياً واقتصادياً فكتبت (نظرات في الحرب والثورة) حيث رايت من الضروري العودة الى أصل الثورة وفلسفة اعلانها كمقدمة لمعرفة اهداف الحرب وماذا يراد منها والنتائج التي تمخضت عنها وكنت متحمساً لاستمرار الحرب أملاً بتحقيق النصر النهائي واردد كلمة القادة الايرانيين (السلم المفروض اسوأ من الحرب المفروضة) وكان هو يرى خلاف ذلك ليأسه من تحقيق ذلك الهدف فالاحجى هو الابقاء على ثروات البلدين وعدم اتلاف المزيد.

بعد هذا الاتجاه من التفكير بدات المرحلة الثالثة التي اتخذت منحى آخر يختلف تماماً عن سابقه فقد حركت بعض كلماته (قدس سره) في نفسي الشوق الى التكامل والسمو والسير في طريق تهذيب النفس. وقد كانت فترة عزلتي في البيت اعطتني دفعة في هذا الاتجاه فقد سكب الله تعالى عليَّ من الطمأنينة والسرور والهدوء ما يفتقر اليه المجتمع حولي للظروف العصيبة

ص: 32

التي كانت تعصف به والكوارث التي حلت به بسبب الحرب، وشجعني (قدس سره) كثيراً في هذا الاتجاه فانه الهدف الاسمى وغاية الغايات.

وزادت تعليقاته وتوجيهاته على مقدار ما كنت ابعث اليه من صحائف وقد شحنت بالعواطف الجياشة لانه يرى ان السائر في هذا الطريق يحتاج الى صدر دافئ يحتضنه وبدأ اهتمامه بي يزداد وشوقه الى رسائلي يتاكد فقال في بعضها (عجباً لهذه العلاقة القلبية التي تجعلني انتظر رسائلك بفارغ الصبر) وكان شديد الكتمان لا يكتب الا ما يراه مناسباً فان اعطاء ازيد من الاستحاق ظلم كما ان اعطاء الاقل ظلم هذا رغم ايمانه بان (التربية المعنوية لا تؤدى بالكتابة وانما عن طريق اللقاء الشخصي والكلام وانما يكون ذلك بالتدريج البطيء حسب قابلية المتكلم والسامع، وهذا مما لا يتيسر فعلاً مع شديد الاسف ومع ذلك فاني سأكتب شيئاً مما لا اظنه يثقل عليك شخصياً).

وفي الرسالة الثانية طلبت منه في ضمن ما كتبت ان يترجم نفسه فكتب بعد الشعور بالخجل من الاهتمام بنفسه: (ولدت في السابع عشر من ربيع الأول (يوم مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عام (1362 ه -) الموافق (23 آذار 1943)، لبست الزي الديني عام (1373 ه -) ودخلت كلية الفقه عام (1957) بقيت فيها خمس سنوات بعد امتحان قبول اجراه لي عميد جمعية منتدى النشر يومئذ الشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله).

درست السطوح قبل دخول كلية الفقه وبعدها على يد عدة اشخاص اهمهم والدي (رحمه الله) والسيد الصدر (قدس سره) والسيد محمد تقي الحكيم حفظه الله والشيخ صدرا البادكوبي (قدس سره).

درست الدروس الاستدلالية (الخارج) في الاصول عند كل من آية الله الصدر وآية الله الخوئي، وفي الفقه عند كل من آية الله الصدر وآية الله الحكيم (لفترة محدودة) وآية الله (...) الذي لا يفوتك تذكره - يعني السيد الخميني (قدس سره) -.

ص: 33

لي اجازات (رواية) عن المعصومين (عليهم السلام) عن جماعة اعدد لك من اتذكر منهم: والدي، السيد حسن الخرسان، السيد عبد الرزاق المقرم، الدكتور حسين محفوظ، السيد آغا حسين خادمي، ولم يحصل اني اجزت احداً الى حد الان. واعلى اجازاتي في الرواية هو ما صدر عن الشيخ آغا بزرك الطهراني صاحب الذريعة (قدس سره) وهو يروي بالمباشرة عن السيد حسن الصدر صاحب التكملة والشيخ النوري صاحب المستدرك وهما لهما اسانيد مفصلة وعالية عن المعصومين (عليه السلام).

واما اجازات الاجتهاد فانا - بصراحة - لم احصل على واحدة منها ولم احاول ذلك اصلاً. ولكني اعتقد الآن باجتهاد نفسي نتيجة لخبرات وتجارب معينة مررت بها، وهو مدعم بظاهر كلام (السيد)(1) في أواخر ايامه.

لم اشارك في (عمل)(2) معين سوى اتباع (السيد) في كل ما يفعل ويقول وكان هو (قدس سره) ينصحني باتخاذ مسلك (العلماء) دون مسلك آخر، وبقيت افكر بنفس هذا الاتجاه العام وصدرت مؤلفاتي على غراره الى ان التفتُّ بتوفيق الله سبحانه الى عيوب نفسي وقلبي وضرورة التكامل من هذه الناحية وقد كان الالتفات في زمن السيد نفسه وقد احتجَّ عليَّ في حينه الكثيرون من الفضلاء (الواعين)(3) حتى ان احدهم طلب مني المباهلة فأبيت بطبيعة الحال، ولعل الوحيد الذي كان يحترم مسلكي ويفهمه الى حد محترم هو (السيد) نفسه فجزاه الله خير جزاء المحسنين).ى.

ص: 34


1- يعني السيد الشهيد الصدر الاول (قدس سره) ولم نكن نستطيع التصريح بالاسماء المخالفة للتقية خشية وقوع الاوراق في أيدي جلاوزة أمن النظام وقد كنّا نستعمل بعض المصطلحات ونضعها بين اقواس للاشارة الى معانيها الخاصة لقساوة الظروف وخشية وقوع الاوراق في ايد معادية، ف - (عمل) أي عمل جهادي و (واعين) أي علماء مجاهدين حركيين. وقد مر لفظ (الليل) الذي يعني زمن سيطرة الظلم ويقابله (الفجر) الذي يعني انحساره باذن الله تعالى.
2- يعني السيد الشهيد الصدر الاول (قدس سره) ولم نكن نستطيع التصريح بالاسماء المخالفة للتقية خشية وقوع الاوراق في أيدي جلاوزة أمن النظام وقد كنّا نستعمل بعض المصطلحات ونضعها بين اقواس للاشارة الى معانيها الخاصة لقساوة الظروف وخشية وقوع الاوراق في ايد معادية، ف - (عمل) أي عمل جهادي و (واعين) أي علماء مجاهدين حركيين. وقد مر لفظ (الليل) الذي يعني زمن سيطرة الظلم ويقابله (الفجر) الذي يعني انحساره باذن الله تعالى.
3- يعني السيد الشهيد الصدر الاول (قدس سره) ولم نكن نستطيع التصريح بالاسماء المخالفة للتقية خشية وقوع الاوراق في أيدي جلاوزة أمن النظام وقد كنّا نستعمل بعض المصطلحات ونضعها بين اقواس للاشارة الى معانيها الخاصة لقساوة الظروف وخشية وقوع الاوراق في ايد معادية، ف - (عمل) أي عمل جهادي و (واعين) أي علماء مجاهدين حركيين. وقد مر لفظ (الليل) الذي يعني زمن سيطرة الظلم ويقابله (الفجر) الذي يعني انحساره باذن الله تعالى.

وفي ختام الرسالة التي استغرقت (21) صفحة قال (واني قد دعوت لك بالخير واسأل الله سبحانه القبول وقلبي معك لا فرّق الله بين قلبينا كما فرّق بين بدنينا وجمعنا واياكم في مستقر رحمته ورفيع عظمته انه على كل شيء قدير) وعندما سألته في رسالة لاحقة عن سبب عدم المشاركة في أي عمل قال (اول ما عرض عليّ الامر وجدت ان (الحياة الحزبية) تجر المجتمع الى التناحر بين الاحزاب هؤلاء يقولون نحن واولئك يقولون نحن، الامر الذي بقي المجتمع ينوء تحت ثقله سنين طويلة وعشنا فيه تجارب مريرة، ومن الصحيح كما قالوا ان هذا الاتجاه يطمس - او يكاد - الانانية الفردية الا انه يؤكد الانانية الجماعية والحزبية. وهذا ضروري الثبوت في النفوس الناقصة والتي لم يتم تطهيرها وتهذيبها بعد.

والامر الآخر الاكتفاء بعطاء السيد نفسه فان عطاءه كان يمثل القمة في هذا الطريق ومن المنطقي ان اكتفي بالقمة عما دونها) ثم ذكر اموراً اخرى.

وفي رسالة اخرى قال ان السيد قال لي - بالمضمون - اتخذ مسلك العلماء المستقلين(1) فان الناس يحتاجون الى العلماء المستقلين كما يحتاجون الى العلماء (العاملين).

وكان مما يثير اهتمامي في كلامه (قدس سره) التفسير (المعنوي) للآيات والروايات الشريفة مما تستغرب غفلتك عنه رغم قربه بل لعلك تحس انه هو المعنى الوحيد فمن (فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ) يستنبط مطلوبية التسمية على كل اكل ومن (سؤر المؤمن شفاء) يفهم اثره المعنوي على النفس من خلال كلامه وافعاله ونظراته وغيرها فانها شفاء حتماً و (لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ) النفس الامارة بالسوء فانها اعدى اعدائك وعدوك الذي بين جنبيك فلك في كل مخالفة لها اجر ولو بتأخير وجبة طعام او شربة ماء او حكة رأس - كما يعبّر -).ي.

ص: 35


1- أي الذين يتفرغون للجهد العلمي ولا ينشغلون بالعمل الاجتماعي.

ومن كلماته ان اولئك الذين (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) هم الذين (يقدمّون) طاعاتهم ويؤكدون عليها ويتوقعون عليها حسن الجزاء بل منهم من يمن بها على الله سبحانه وعلى المعصومين ايضاً وهذا من اشد الاجرام في النظر (الخاصي) اعاذنا الله منه وقد رأيت منهم نماذج عديدة من كسبة ورجال دين وغيرهم.

واما (الندم) فهو للمؤمن لا للكافر، ان الكافر سوف يلهو بآلامه المبرحة في النار، واما المؤمن فسيعضُّ على شفته ندماً من انه قضى حياته الدنيا (وهي بيت الطاعة) يطفِّر كالقبّرة ولم ينل الا هذا المقدار من الثواب، ان ما ناله مهما كان ضخماً وعظيماً فانه مثل قشةٍ تجاه الدنيا وما فيها ازاء ما يرى من مقامات الاولياء.

وهذه المقامات تعرض عليه قليلاً ليعرف المؤمن ما فوته على نفسه ثم تخفى لقلة تحمله في النظر اليها).

ذكرت له الرين على القلوب فقال بهذه المناسبة (حبيبي: احمد الله سبحانه على مصائب مررت بها انا شخصياً لم يسبق لك المرور... تلك المصائب التي تضاعف الرين... الامر الذي يكون زواله اصعب الا ان يشاء ربي شيئاً، وتلك عدة امور اشير الى بعضها:

منها: اندراجي ضمن رجال الدين، ليس لانهم رجال دين اقصد ليس الاسف من اجل ذلك بل من اجل انني ساكتسب منهم (الشمخرة) والتعالي ومن ثم الاستكبار والفرعنة التي هي العدو اللدود في السلوك الصالح.

ومنها: اندراجي في الحوزة العلمية.. لا من اجل ذلك بمجرده ايضاً.. بل من اجل ايحائه بالكفاية العلمية والقدرة الفكرية والرضا عن المستوى الذي وصل او يمكن ان يصل اليه، في حين سمعنا قول الامام الحسين (عليه السلام) (وانا الجهول في علمي فكيف لا اكون جهولاً في جهلي).

ص: 36

ومنها: التفاتي الى امراضي المعنوية وضرورة مداواتها في وقت متأخر نسبياً، بل هو متأخر على كل حال. ومن النعم العظيمة على الفرد ان يبدأ سلوكه الصالح الحقيقي في العمر الاصغر والسن الاقل. فانه يكون له عدة مميزات: قلة الذنوب، قلة الرين، زيادة فرصة الطاعات، زيادة فرصة الجهاد الاكبر وما بعده، قوة الارادة عند الشاب وضعفها عند الشيخ وكلما تقدم العمر).

وعندما ذكرت له امتناني له على هذه الرعاية والتربية علّق بقوله (وانا بدوري ممتن لمن صار هو طريقي الى الهداية والحقيقة، فان الذي قام بتربيتي عدد من الناس اهمهم اثنان هما خير الخلق في اختصاصهم، ولا اعرف احداً غيري اجتمعت لديه هذه النعمة، احدهما السيد الصدر (قدس سره) الذي كان خير الخلق في (علمه) الظاهري. وثانيهما شخص آخر(1) كان خير الخلق - حسب اطلاعي - في مراتب اليقين واقصد بخير الخلق: من هو موجود في هذا الجيل طبعاً عدا الامام (عليه السلام) وكلا هذين لن انساهما طيلة حياتي بل ارجو شفاعة هذا الاخير بعد وفاتي). وكان ينقل بعض الكرامات التي تعبر عن مفاخر الاولياء الموقنين كمعرفة دخول الفجر ومعرفة المتوضئ من المحدث والسيد من العامي ونور الوجه من ظلماته ورؤية الموتى والاعتبار بهم او الاستفادة منهم ان كانوا عظماء وسماع تسبيح الملائكة.

ويقول ان اهداف السائر في هذا الطريق ليس تحصيل هذه الكرامات مهما عظم شأنها وانما هي من النتائج التي يمن بها الله سبحانه بحسب سعة رحمته وفضله وانما الاهداف المهمة هي رضا الله سبحانه وتعالى والتوحيد الخالص وولاية اهل البيت والحصول على القلب السليم، القلب الذي يشعري.

ص: 37


1- عرف فيما بعد انه المرحوم الحاج عبد الزهراء الگرعاوي.

بكربة عندما يهم او يفعل (معصية) بالمعنى المناسب لمستواه وقال ان اول خطوة في هذا الطريق هو الالتفات الى عيوب النفس فينشغل الفرد عن النظر الى عيوب الآخرين.

وتكلم عن (احوال) و (مقامات) السائرين الى الله سبحانه وذكر بالمناسبة قصة طريفة (ان احد الخطباء - واظن جداً انه الشيخ(1) الجد اليعقوبي (قدس سره) - كان خطيباً عند الشيخ النائيني (قدس سره) فكان كلما نزل عن المنبر قال له الناس: طيب الله انفاسك واحسنت، وقال له الشيخ النائيني غفر الله لك، فقال له بعد عدة ايام عن ذلك. فقال ما مضمونه: انك تنسب اموراً كثيرة الى اهل البيت (عليهم السلام) منها القطعي ومنها المظنون ومنها المحتمل ومنها الموهوم فاستغفاري لك انما كان لذلك، فاجاب الشيخ اليعقوبي (قدس سره) بما مضمونه: انه لو قلت في خطابتي ان هذا مظنون وهذا محتمل وهذا موهوم لما بكى احد.

ان (حال) الشيخ اليعقوبي هو حال: من بكى وابكى او تباكى وجبت له الجنة، واما (حال) الشيخ النائيني فهو انه ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد، ولا يجوز نسبة شيء الى اهل البيت (عليهم السلام) بدون (حجة) كاملة، ان كليهما معذور ومأجور امام الله سبحانه ان شاء الله سبحانه).

وفي الرسالة الرابعة التي تزامنت مع ذكرى مرور سنة على بداية المراسلة ومع عودتي الى دارنا في بغداد بعد غياب دام سنة وثلاثة اشهر حيث توفرت لي فرصة اكبر للاستقرار ولمتابعة المنهج مع السيد (قدس سره) وعدت بالذكريات خلال هذه السنة وحجم النقلة التي شهدتها عقلياً وقلبياً ونفسياً ويكفي للتعرف على ذلك المقارنة بين اول رسالة وآخرها فشكرت الله سبحانه على هذه النعم وعلى توفير هذه الفرصة وفتح هذا الباب (بابي.

ص: 38


1- أي جدي المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي.

السيد الشهيد الصدر (قدس سره) الذي غمر بعدئذ المجتمع كله بالبركات وكان يوصي في الجانب العملي بكثرة السجود والبكاء اما خوفاً من الله سبحانه أي اسفاً من الذنوب والعيوب وشوقاً الى السلامة منها واما حزناً على مصائب الامام الحسين (عليه السلام) الذي هو (رحمة الله الواسعة وباب نجاة الامة)، ويقول في الجانب القلبي (ان من كانت طاعاته قلبية تكون ذنوبه قلبية ايضاً ويحاسب على الخطرات وتكون كربته منها شديدة حتى ياذن الله بالفرج ويجعل الله لعبده فرجاً ومخرجاً، ولعل في الطاعات العملية والقلبية المشار اليها ما يخفف من حدة ذلك او يزيله ولو نسبياً باذن الله تعالى).

ويروي في هذا الصدد قصتين حصلتا له:

(الاولى: انه حينما قبض عليّ الظالمون في عام (1974 م) واستمر ذلك خمسة عشر يوماً، مررت بمحنة في داخل السجن وبمحنة بعد اطلاق سراحي، فكان (رد الفعل) بفضل الله سبحانه: ان ذهبت الى الحرم الشريف وتنازلت هناك - في سري طبعاً - عن كل (مميزاتي) الدنيوية: علمي وشأني الاجتماعي واهمية اموالي واسرتي ونحوه ولكنني احسست بعد فترة انني لم افعل شيئاً على الاطلاق لانه (وهب الامير ما لا يملك) كما يقول المثل، بل ان هذا (التنازل) اقرب للذنب منه الى الطاعة.

الثانية: انني يوماً فتحت القرآن الكريم لاجد فيه منزلتي امام الله سبحانه او قل - بالتعبير الدنيوي - (رأي) الله فيَّ فخرجت هذه الاية من سورة الكهف: (وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) ان كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذ الا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب ان آوي اليه، أي كهف هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي على ساكنها السلام عسى ان ينفتح لي هناك عن هذا المعنى وبدات بزيارة (امين الله) حتى وصلت إلى

ص: 39

قوله (عليه السلام): اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك إلى قوله: يا كريم، وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بان الكهف الذي يجب ان ادخله هو هذا. أي ان تصبح نفسي على هذه الاوصاف وتجانب ما سواها. وقد عرضت ذلك على (مولاي)(1) فأقره وقال بصحته). وقد طلب ان لا ارويها عنه الا بعد ان يصلك نعيي - كما قال -.

وفي هذه الرسالة كتب بعض شعره ومنه قصيدة في الحث على السير الحقيقي الى الله سبحانه نظمها بتاريخ (1403/2/22) عدد ابياتها (62) مطلعها:

دع الامانيَّ وابدأ دربك الرحبا فليس شيء على هذا الطريق كبا

ويوجد نص القصيدة موجوداً ضمن رسائله (قدس سره) عندي.

ومما جاء فيها شرح لموقفه مع حركة السيد ابي جعفر (قدس سره) وتقييمه لها وكتب في ذلك حوالي ثلاث صفحات، وقال انه كتب رسالة في حوالي ثمانين صفحة عنوانها (السيد الصدر كما اعرفه) بناء على طلب من المرحوم السيد حسن القبانجي وقد ظل الاخير محتفظاً بها.

واستمرت المراسلات وكان لها محوران رئيسيان هما: الجهاد الاكبر والجهاد الاصغر في حدود الظروف التي كنا نعيشها وكانت عواطفه الجياشة تغمرني وكانت ازيد من استحقاقي ولكن طيبة قلبه وحسن ظنه كان يدفعه الى ذلك وهو صادق فيما يقول فقد صلى ذات مرة ركعتين استغفاراً لقوله (مشتاقين) لاحد الاخوة المؤمنين وقد التقى به بعد مدة فراق وهي كلمة تقال ويمكن ان يكون لها محامل عديدة الا انه خشي الا يكون صادقاً في كلامه، وتوالت تربيته العملية والقلبية وشرح وايضاح مفردات المنهج والتدقيق فيي.

ص: 40


1- يقصد المرحوم الحاج عبد الزهراء الگرعاوي.

مراقبة النفس فنقل عن بعض كتب الشيخ السبزواري: (ان الفرد قد يشعر انه بين يدي الله عز وجل فلا يمد رجله تأدباً امامه تبارك وتعالى فانه اعظم الناظرين).

وفي الرسالة المؤرخة (1987/6/30) اعلمته برغبتي في قطع المراسلة لموانع داخلية وخارجية وقد احترم (قدس سره) رأيي وقناعتي الا انه رغب بالتواصل ولو في السنة مرة معللاً ذلك بقوله (قدس سره): فان رؤية المؤمن ومحادثته ومراسلته تضفي نوراً على القلب بل ان مجرد تذكر اسمه له اثر ايضاً.

وفي شهر آذار (1988) انتقلت بسكني الى النجف واعرضت عن بغداد فصارت لي حرية اكثر في الحركة وكذا هو بعد ان خفَّ الضغط الخارجي واتضح اكثر بعد توقف الحرب مع ايران وصرنا نتلاقى في المناسبات الاجتماعية او في الشارع العام واحياناً ازوره (قدس سره) في داره.

وتزوجت في نهاية عام (1988) وبدأت حياة الكسب والعمل اما هو فقد عاد لممارسة دوره في الحياة الحوزوية والاجتماعية وبدأ يدرس سطح الكفاية في جامعة النجف الدينية على امل ان تكون حلقة الدرس نواة البحث الخارج الذي يعقده بعدئذ وأتم الجزء الاول من الكفاية ثم اعاقته احداث عام (1991) وتفرقت حلقته وهم ثلاثة طلبة او اثنان فاعتقل الشيخ طالب الخليل اللبناني ولم يعلم مصيره وهرب السيد عماد نجل السيد محمد كلانتر الى خارج العراق ولم اكن اعرفهما شخصياً لكني سمعت هذا الكلام منه.

وفي هذه المرحلة بدأ بتاليف كتاب (ما وراء الفقه) حيث عرض عليَّ فكرته وطلب مني المساعدة فيما يتعلق بالعلوم الاكاديمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك وكان يعرض مسودات كتابه لادققها له وفي حينه نشأت فكرة بحث (الرياضيات والفقه) فكتبته له وظل المخطوط عنده الى ان

ص: 41

طبعه باسمي بعد سنين عديدة، وربما زارني الى محل عملي لايصال احد مسودات الكتاب او للتكليف بقضاء حاجة معينة وكان ولده المرحوم الشهيد السيد مؤمل اكثر اولاده صحبة له لعدة عوامل احدها انه يقود سيارته ولخلوه من بعض الموانع التي اعاقت حركة المرحوم الشهيد السيد مصطفى الذي اختفى مدة بسبب هروبه من الخدمة العسكرية ثم التحق بها، اما السيد مقتدى فالتحق بالدراسة الدينية في جامعة النجف قبيل الاحداث.

وقال لي (قدس سره) انه عاود اقامة الصلاة جماعة في الروضة الحيدرية الشريفة بعد انقطاعه عنها لعقد من الزمان وكان قد شغل المكان في تلك الفترة احد المحسوبين على النظام وهو (نوري الموسوي) فمانع الاخير بحجة ان هذا مكاني منذ ثلاث سنين فارسل اليه السيد ان هذا مكان الاسرة منذ خمسين سنة فحاول ذلك الرجل الايحاء الى السيد بانني قد اضرك من جهة السلطة لكن السيد (قدس سره) ثبت على موقفه بحزم وظل محتفظاً بالمكان.

وخلال ايام القصف الامريكي وحلفائها الذي امتد من ليلة (1991/1/17) حتى (1991/2/28) صادفت رحلة السيد الى ايران مع وفد ديني من علماء الشيعة والسنة لتحسين العلاقة مع القيادات الدينية في الجمهورية الاسلامية بعد ان تحسنت من الناحية السياسية وبعد عودته زرته في الدار وتحدث لي عن طبيعة زيارته واهدافها ونتائجها وقد اعلن عن بعض ذلك في احدى لقاءاته المسجلة ابان انتشار مرجعيته.

ص: 42

الفصل الثاني: في الانتفاضة

كان الوضع الامني في العراق متسيباً خلال قصف الحلفاء للعراق فيما اسموه ب - (عاصفة الصحراء) والذي بدأ بعد منتصف ليلة (1991/1/17) بهدف معلن هو تحرير دولة الكويت من سيطرة القوات العراقية وفي الايام الاخيرة كنا لا نشعر بوجودٍ يذكر للنظام، نعم في بعض الحالات الطارئة كان يعززالنظام قبضته او يوحي بذلك على الاقل كما حدث في مراسم تشييع آية الله الشيخ محمد تقي آل الشيخ راضي وآية الله السيد يوسف الحكيم حيث اعتقل مجموعة من الشباب لم يلبثوا ان أُفرج عنهم في نفس اليوم بعد توسط سماحة آية الله الخوئي (قدس سره).

واعلن الحلفاء ايقاف الحرب يوم الخميس (1991/2/28) ومن حينه سرت في اوساط الشعب اخبار عن انطلاق مظاهرات معارضة للسلطة والناس بين مصدقٍ ومكذب لان الرعب الذي زرعه النظام في قلوب الشعب ما زال موجوداً نتيجة لاعماله الشنيعة وبطشه الشديد واعلن ان موعدها يوم الجمعة (3/1) ثم اجلت بسبب انشغال الناس بزيارة النصف من شعبان الى مرقد ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) التي صادفت ليلة السبت وكانت كربلاء مشتعلة بالعواطف الثورية المتأججة وساهم في تصعيدها وجود السيد الخوئي نفسه في الزيارة لكنه لم يستطع الوصول الى الحرم الشريف بسبب الازدحام وترقب الناس لمجيئه فاكتفى بالزيارة من سيارته خارج الصحن الشريف، لكن عدداً من الجماهير اتخذوا من آية الله المرحوم السيد حسين بحر العلوم رمزاً لاظهار الولاء للحوزة الشريفة وكان حاضراً وسط الجموع بعد ان لم تحظ بالسيد الخوئي (قدس سره).

ص: 43

وقد سبقت مدينة البصرة في حصول الانتفاضة حيث حصلت مواجهات مسلحة بدأها الجيش المنسحب من الكويت بكل مهانة واحتقار والذي نجا باعجوبة من قصف الطائرات الامريكية وحليفاتها التي كانت تحصد العراقيين وهم يلوذون بالفرار حفاة منهوكين حيث اعلنت القيادة العراقية الانسحاب من طرف واحد قبل ان يعلن الحلفاء وقفاً لاطلاق النار.

وحين دخول الناجين من هؤلاء مدينة البصرة حصل ارباك وفوضى فارادت القوات المرابطة بالبصرة وقوات الأمن والجيش الشعبي التي تدافع عن النظام والسيطرة على الموقف ومنع التدهور فحصل اشتباك مسلح حتى بالاسلحة الثقيلة بين الطرفين واشتعلت المواجهة واستمرت إلى مدن البصرة الاخرى.

واما النجف فقد انطلقت المظاهرات فعلاً ظهر يوم الاحد (1991/3/3) المصادف (16 شعبان 1411) ولم يكن الشعب مسلحاً بشكل معتد به الا ان معاقل السلطة في مركز المدينة كمديرية الشرطة وبعض مراكزها ومقرات الحزب سرعان ما تهاوت امام تضحيات الشعب الاعزل فغنم المجاهدون اسلحتهم ثم اتخذوا الصحن الحيدري الشريف مقراً للقيادة وباتت الانفاس محبوسة تلك الليلة فغداً يوم المواجهة بين الشعب والنظام الذي ما زالت الكثير من اوكاره كمديرية الامن ومقر الجيش الشعبي ومقر ادارة المحافظة قائمة.

وما ان حل صباح يوم الاثنين حتى انطلقت جماهير الشعب بموكب حسيني يردد شعارات الولاء والثار لأهل البيت (عليهم السلام) ويتقدم الموكب مجموعة من المسلحين وقد اعتلى بعضهم سيارة اطفاء وتابع الموكب سيره على شارع الكوفة الذي تقع عليه اكثر مراكز النظام كمديرية الامن ومقر قيادة الجيش الشعبي ومقر ادارة المحافظة مع بعض جيوب المقاومة لأفراد الحزب المغرر بهم الذين تحصنوا في بعض الابنية لمقاومة زحف الثائرين واخذ المجاهدون يطهرون الموقع تلو الآخر حتى تمت

ص: 44

السيطرة عليها جميعاً عصر ذلك اليوم فعاد المجاهدون الى الصحن الحيدري الشريف ليحتفلوا بالنصر وتخليص المدينة المقدسة من براثن النظام.

وهنا بدأ التساؤل عن المرحلة التالية فلم تكن الانتفاضة مخططاً لها ولمستقبلها ولم تكن لها قيادة تذكر فكان من الطبيعي ان يلتجأ زعماء الحركة الجماهيرية الى علماء الدين وظنوا انهم سيستقبلونهم بالزهور لما حققوه من نصر لكن الامر كان بالعكس فقد قوبلوا - بحسب ما نُقِل لي - بالاعراض والجفوة والاستهجان والتقريع على هذه التصرفات.

واختفى كثير من ائمة الجماعة في بيوتهم ولم يبق احدٌ منهم مستمراً على صلاة الجماعة إلا السيد الصدر فيما اعلم حيث كان يقيم صلاة المغرب والعشاء في الروضة الشريفة وصلاة الظهر والعصر في مسجد الهندي وسارع الى اصدار بيان يدعو فيه الى نصرة الثورة الاسلامية المباركة في العراق وكان الاخ زيد البغدادي احد المجاهدين المتحمسين ومن الساهرين على حماية الصحن الحيدري الشريف ولعله الذي استصدر هذا البيان من السيد لايمانه بجدارة السيد للقيادة ولكي يطرح اسمه على الساحة اذ لم يكن السيد معروفاً اجتماعياً او حوزوياً بشكل واضح وان كان اسمه لم يغب عن ذهن الواعين وان غاب شخصه عقداً من الزمان، وكان بيان السيد السبزواري (قدس سره) متحمساً ايضاً اما بيان السيد الخوئي فقد كان متحفظاً يدعو الى الحفاظ على النظام الاجتماعي العام وصيانة ممتلكات الشعب وعدم ارتكاب مخالفات للشرع المقدس ونشرت البيانات جميعاً في العدد الاول من الصحيفة التي اصدرتها قيادة الانتفاضة واستمرت اربعة او خمسة اعداد، وكنت احتفظ بها الا انني اتلفتها مع امور اخرى حينما اقتحمت قوات النظام بيوتنا للتفتيش.

وبعد يوم او اكثر ارسل اليَّ سماحة السيد سيارة من تلك التي غنمها

ص: 45

الثوار من المؤسسات الحكومية وفيها ولده السيد مؤمل والاخ زيد البغدادي يدعوني للاجتماع به فذهبت فوراً والتقيت به في داره وقال ان الذي دعاني الى هذا اللقاء امران:

احدهما: ضرورة تعيين قائد مدني او قل سياسي للثورة ولا يمكن ان تبقى الامور بلا قرار سياسي بعد استقرار الوضع العسكري في النجف.

وثانيهما: ضرورة الاتصال بايران وطلب النصرة والنجدة منهم.

وحول الامر الاول فقد رشح الاخ الاستاذ محمد عبد الساعدي(1) لذلك المنصب ولكنه اعتذر من قبول ذلك وكان السيد (قدس سره) متوقعاً لذلك فأمرني بتولي المنصب في حال رفض الاستاذ محمد ذلك، فابلغت السيد بالخبر وقلت له ان الخطوة الأولى هي التعرف على العناصر الرئيسية في الانتفاضة ودراسة ان كان بالامكان التأثير فيهم بهذا الاتجاه.

وذهبت الى الصحن الشريف واطلعت على الوضع عن كثب فوجدت ان فرصة السيد في ممارسة دور قيادي بعيدة فقد كان الاتجاه العام نحو السيد الخوئي (قدس سره) ولا يمكن تجاوزه او تحييده واصبح القرار فعلاً بيد مكتب السيد الخوئي وبالذات السيد محمد تقي الخوئي (رحمه الله) ومارسه.

ص: 46


1- هو شخص عرفته عام 1974 عندما كنت طالباً في مدرسة الامام الجواد (عليه السلام) الاهلية التي كانت من المؤسسات الشيعية التي تحظى بتأييد السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ودعمه وكانت شقيقته الشهيدة بنت الهدى مشرفة على مدرسة الاناث وكان الاستاذ محمد مشرفاً عاماً على المدارس وقد عرف بحسه الثوري الحركي وقد اصدر عدة كتب في هذا الاتجاه منذ ان كان طالباً في كلية القانون في منتصف الستينات ومنها كتاب (الاسلام ومعركة المصير الانساني) وبعد فراق عدة سنين اعتقل هو خلالها وجدته فجأة قاضياً لمحكمة الاحوال الشخصية في النجف فاعدت التعريف عليه واستمرت علاقتنا ومن ثم تعرف (او قل اعاد التعريف) بالسيد الصدر بواسطتي وصادف اكثر من مرة ان صحبت السيد لزيارته في داره او صحبته هو لزيارة السيد في داره.

شيئاً من ذلك خلال ايام الانتفاضة وأخبرت السيد بذلك وقلت له باختصار ان دور العلماء يتسم بالحذر الشديد بانتظار انجلاء الموقف قال ومن الذي يجلي الموقف؟! أي اليس العلماء هم الذين يقومون بتسيير الامور وقيادتها نحو وجهتها الصحيحة وليس دورهم التفرج.

وفي احد الايام لم يحضر السيد الى صلاة الجماعة في الروضة الحيديرية وسألته بعدئذٍ فقال ان السيد الخوئي دعا مجموعة من علماء وفضلاء الحوزة ليخبرهم بعزمه على تشكيل لجنة لادارة شؤون المجتمع في هذا الوضع المتأزم ودار النقاش ست ساعات وقد اقترح ان يكون السيد الصدر منهم الا انه رفض وقال لي ان السبب هو انه علم ان هذه اللجنة يكون دورها هامشياً وانما الأمر والنهي بيد السيد محمد تقي نفسه الذي كان سكرتير اللجنة ورفض معه السيد حسين بحر العلوم والسيد مهدي الخرسان ووافق الآخرون وكان بعضهم حياءً من السيد الخوئي نفسه وهم جميعاً من تلامذته واتباعه (كالسيد محي الدين الغريفي (قدس سره) كما اخبرني هو فقد كانت تربطني به علاقة وطيدة وكان يائساً من استمرار الثورة فضلاً عن نجاحها بشكل كامل) وضمت اللجنة ايضاً السيد محمد رضا الخرسان والسيد عز الدين بحر العلوم والسيد جعفر بحر العلوم والسيد محمد رضا الخلخالي والشيخ محمد رضا شبيب الساعدي والسيد محمد السبزواري.

ولما بدأت قوات الحرس الجمهوري بالزحف على كربلاء ومحاصرتها نادى منادي الجهاد من اذاعة الانتفاضة ومقرها الصحن الحيدري الشريف وانطلق الآف المجاهدين من النجف باسلحتهم من مختلف الصنوف بما فيها الثقيلة وقد غنموها من قوات القدس التابعة للحرس الجمهوري التي كانت مرابطة حول مدينة النجف وكان في قيادتهم السيد عبد المجيد الخوئي وسبقهم العلامة الشهيد السيد محسن الغريفي فقرأ بيان

ص: 47

السيد الخوئي من مكبرات الصوت في الحرم الحسيني الشريف وقال لي (رحمه الله) (وهو صهري والد زوجتي) انه رأى خلو شوارع مدينة كربلاء الا من المسلحين المستعدين للدفاع عن المدينة ونزح اغلب اهلها نحو الجنوب مروراً بالنجف وان الوضع متوتر.

وخرجت مع قافلة غير المسلحين اذ لم اكن احمل سلاحاً ولا متدرباً على استعماله وكان معي ايضاً الشيخ قاسم الطائي (وهو زوج اختي، وكان مقيماً معنا في البيت طيلة مدة الحرب ولم يكن قد ارتدى الزي الديني)، ولا انسى الروح الثورية الجامحة والرغبة في الاستشهاد او النصر التي كانت تنطلق من حناجر الثوار وهم يقطعون الطريق من النجف الى كربلاء بالاهازيج والشعارات بمن فيهم الصغير والكبير والشيخ الفاني والشاب وكنّا على طول الطريق نشاهد النازحين من كربلاء طلباً للنجاة وهم سائرون على الاقدام باتجاه النجف في ظل برد الشتاء وليس معهم الا ما خف حمله ويلّوحون بايديهم تشجيعاً للمجاهدين وكأنهم يخاطبونهم بقوله تعالى: (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ...) حتى وصلنا مشارف كربلاء وانتشرت القوات في مراكزها اما نحن غير المسلحين فاعادونا الى النجف لعدم الحاجة الينا في المعركة ورجع هؤلاء على مضض وكلهم شعور بالخسران واخبرت السيد (قدس سره) - حيث كنت اواصل زيارته ومراجعته - بهذه التطورات فشعرت منه بعدم الرضا على زّج نفسي في المكان غير اللائق بي فلكلٍ دوره المناسب له ولما كتبت مقالاً حماسياً بعنوان (حيّ على الجهاد ايها العراقيون) الى صحيفة الثورة وسمعت بعض فقراته تتلى من الاذاعة المنطلقة من الصحن الشريف وسجلّت فيه بعض عواطف المجاهدين اخبرت السيد بذلك فرأيت علامات الارتياح عليه وان هذا هو العمل المناسب لي.

ص: 48

ولما شعر بعض زعماء المجاهدين ان الثورة بدأت تضمحل وتتميع في ظل هذه القيادة الدينية وقد جُردوا من الصلاحيات كما انهم لم يروا أي تفكير في توسيع الثورة الى بقية المحافظات والزحف نحو بغداد وتدعيمها أحسّوا بالحاجة الى قيادة (حركية) جديدة تجتمع فيها صفات الوعي والشجاعة والحزم والرصيد الاجتماعي فوجدوها متمثلة في شخص السيد الشهيد الصدر (قدس سره) ولا ادري ان كان ذلك باشعار من الأخ زيد البغدادي الذي كان معهم او غيره، المهم انهم التفتوا الى السيد (قدس سره) وعرضوا عليه الأمر فوافق عليه.

هذا وقد بدأت قوات الحرس الجمهوري بالزحف نحو مدينة النجف وبدأ قصف مدفعي بعيد يطول احياناً البيوت المتطرفة في شمال شرق المدينة (باتجاه مثلث الحدود بين النجف والحلة وكربلاء حيث عبرت القوات نهر الفرات جنوبي مدينة الكفل) كان ذلك بعد ظهر يوم الثلاثاء (1991/3/12) وفي يوم الاربعاء التالي وكانت اصوات قذائف المدفعية والدبابات تُسمع في ارجاء المدينة لكن من دون ان يطالها والشارع العام يتحدث عن معارك بالاسلحة الثقيلة وتراجع قوات الحرس الجمهوري الزاحف على النجف، أقول في ذلك اليوم صليت الظهر والعصر خلف سماحة السيد (قدس سره) في جامع الهندي وبعد انتهاء الصلاة أحيط بحماية مكثفة ورجال مسلحين وصيحات التكبير والتهليل والصلاة على النبي وآله تشايعه حتى الحرم الشريف ومذيع الانتفاضة يطلق كلمات الترحيب واستقبال الزعيم المجاهد سماحة آية الله السيد محمد الصدر وكنت ضمن المجموعة التي رافقته بعد أن صليت خلفه ولكن من دون ان اعلم بسر هذا التغيير الذي حصل اليوم رغم انه كان يخرج من المسجد يومياً بشكل اعتيادي من دون هذه الهالة والضجيج ومن غير حماية مسلحة.

ص: 49

وصعد السيد على سطح (الكشوانية) المواجهة لباب القبلة والناس تجتمع في الصحن الشريف وهم يقابلونه بالهتافات والقى كلمة ارتجالية مختصرة حث فيها على نصرة الثورة الاسلامية المباركة ودعمها والمشاركة فيها لعل الله سبحانه يرحم هذا المجتمع وينشر لواء الاسلام في ربوع هذا البلد المقدس.

ثم نزل السيد وركب سيارة (شوفرليت - جي. ام. سي) وصعدت معه وشخص آخر عرفني عليه السيد هو (عبد الرسول الكرمي) واكتظت السيارة بالمسلحين واوصلنا السيد الى داره وامرني بمرافقة الكرمي وقال انه سيعرفك على المطلوب، فاصطحبني الى بيته في الشارع الخلفي لدار السيد هذا وقد اشتدت اصوات القصف وبدأت بالدنو من المدينة فقال الكرمي: هذه قواتنا تحاصر قوات الحرس المهاجمة وقد امهلوهم حتى الساعة الواحدة ظهراً فاما ان يستسلموا او القضاء عليهم وبدأ الكرمي يشرح لي خطة الحركة بتشكيل مجموعة من اللجان تكون اشبه بالوزارات المصغرة واحدة للشؤون العسكرية وتشمل القوات التي بدأت الانتفاضة ولا زالت تقاتل في عدة جبهات واخرى لشؤون الدفاع المدني والمليشيات وأخرى لجنة الارتباط بالحوزة العلمية الشريفة والعلماء المجاهدين وأخرى اللجنة السياسية والاعلامية وأخرى لجمع التبرعات المالية ومساندة الثورة اقتصادياً، وكنت على رأس اللجنة السياسية والاعلامية، وأوكل اليَّ امر اختيار العناصر الكفوءة التي تنفع في هذا الاتجاه.

وغادرت بيته بعد انتهاء اللقاء والقذائف وشظاياها تنزل على المدينة كالمطر وازيزها يصك مسامعي والمسافة الى داري تحتاج الى ثلاثة ارباع الساعة بالسير الحثيث، وكنت قد تركت دراجتي الهوائية - التي كانت وسيلتي للتنقل يومئذٍ بعد خلو الشوارع من السيارات الا قليلاً بسبب نقص الوقود الناتج من قصف الحلفاء - قرب الصحن الشريف عند ما رافقت السيد

ص: 50

الى بيته، وكثيراً ما أخذت وضع الانبطاح على الارض عند سماع ازيز القذائف.

وفكرت بالاسماء التي يمكن ان تساعدني في هذه اللجنة وعرض الأمر عليهم الا ان القصف اشتد بشكل منع من الحركة واستمر الأمر كذلك صباح اليوم التالي وانا مهتم بتنفيذ الأمر فاستخرت الله تعالى في ان اقصد احدهم فكانت النتيجة غير جيدة ولم اكن اعلم ان السر في ذلك اعتقال السيد الشهيد الصدر (قدس سره) ووأد القيادة الجديدة في مهدها فقد دخل الجيش مدينة النجف من جهة شمال الشرق يوم الخميس (3/14) واسترجع المراكز الرئيسية على شارع الكوفة ووصل الى جامعة النجف الدينية حيث كان السيد وعائلته مع السيد محمد كلانتر وعائلته وبعض طلبة الجامعة يختفون في السرداب تحاشياً للقصف واعتقلوا جميعاً وسيقوا الى منطقة الرضوانية في الضواحي الشمالية الغربية لبغداد حيث خصصت لاحتواء (المعارضة) وكان وفد السيد ومن معه أول الداخلين الى المعسكر المخصص لاعتقال القادمين من النجف اما المعسكر المعد لأهالي كربلاء فقد كان يغصّ بالمعتقلين - هكذا نقل لي (قدس سره) -.

وفوجئت ظهر الخميس وانا استمع الى الراديو بالمذيع يجري لقاءً مع السيد الصدر وتوقعت انه لقاء قديم اعلنوه للتمويه على المجاهدين الذين لا يزالون يقاومون حول بيت السيد الخوئي وقد حفروا الخنادق ووضعوا المتاريس لمواجهة القوات المهاجمة كما ان الصحن الحيدري وشيئاً من مركز المدينة كان لا يزال تحت سيطرة المجاهدين ولكنني لما انصتُ اليه وجدته جديداً فعلاً ويذكر احداث البارحة (ظهر الاربعاء) ويسأله المذيع عنها.

ولم تنته المقاومة الا يوم الأحد (3/17) بعد ان هددوا باستعمال الغازات السامة في مركز المدينة وهددوا السيد الخوئي ان استمرت المقاومة

ص: 51

حول داره فطلب من المجاهدين التفرق عن الدار وايكال الأمر الى مدبره الحقيقي وكنت أرى من سطح الدار الطائرات السمتية (الهليوكوبتر) وهي تحوم حول منطقة بيت السيد الخوئي والصحن الحيدري وترمي بصواريخها.

وليس هذا محل ذكر ما حل بالمدينة واهلها من فضائع، اما السيد فقد اخبرني انه أُجري اللقاء التلفزيوني معه وهو بين مجموعة من الضباط بعضهم برتب عالية ثم حققوا معه وسجلوا بيانات كثيرة وأملوا صحائف عديدة وبعد ايام اطلقوا سراح السيد فطلب منهم امرين:

احدهما: اعفاء اولاده من الخدمة العسكرية.

وثانيهما: اطلاق سراح جميع من اعتقل معه ففعلوا ذلك الا (الشيخ طالب اللبناني) حسبما علمت.

وكانت نقطة القوة للسيد في التحقيق انه مجتهد مستقل وليس تابعاً للسيد الخوئي فهو ليس مشاركاً في قيادة الانتفاضة كما انه رفض الانضمام الى اللجنة التي شكلها (قدس سره) وكل هذه المعلومات انقلها عنه (قدس سره) بعد زيارتي له وفرح كثيراً بسلامتنا انا وابن عمي الشيخ حيدر وزيد وقد عبّر باسى عن ايام الانتفاضة قائلاً: بان الذين حولي لم يكونوا مخلصين الا اثنين وهما: زيد البغدادي ومحمد اليعقوبي.

وبعد استقرار الوضع لصالح النظام طلبوا من المحافظات ان ترسل وفوداً الى بغداد للاعتذار من (صدّام) وتجديد الولاء فاجبر السيد على ان يكون ضمن وفد النجف ولم يجد بداً من الموافقة فقد كانت حياته على خطر شديد وهو مدان في نظرهم بما اصدر من بيان وخطاب لنصرة الانتفاضة.

ص: 52

الفصل الثالث: جامعة الصدر الدينية

شعرت المرجعية الرشيدة بوجود عدة نقائص في النظام المتداول في الحوزة العلمية الشريفة وبقصور عن مواكبة تحديات العصر واستيعاب ثقافاته فمن تلك النقائص:

1 - عدم وجود بداية واضحة للعام الدراسي ولا نهاية كذلك، فالزمان مفتوح لكل طالب في ان يلتحق متى شاء بحلقات الدرس الموجودة، وقد يكون قد فاته الكثير من المادة ولا يتمكن من تداركها فيحصل ارباك وخلل في مسيرة تحصيله العلمي.

2 - عدم خضوع الطالب لنظام دقيق في التقييم لغياب آلياته كالامتحانات ونحوها فلا تعرف مستويات الطلبة ولا كفاءاتهم حيث يستوي الجميع في التلقي من الاستاذ اللهم الا من خلال بعض المناقشات التي تحصل.

3 - لا يوجد نظام اداري لضبط تحصيل الطلبة وسلوكهم والتزامهم وتنظيم دروسهم وانما المسألة متروكة للطالب والمدرس في ان يفعلوا ما يشاؤون وفق امزجتهم، ولعدم وجود مثل هذه الادارة فلا توجد جهة يمكن ان ترعى الطالب خصوصاً المبتدئ لتنظم له الدروس وترعاه وتحلّ مشاكله، وقد يُمضي الطالب مدة طويلة لكي يعرف ماذا عليه أن يدرس ومن ثم لكي يحصل على مدرس للمادة وقد يكتشف ان هذا المدرس غير كفوء فيتركه ويبحث عن غيره وقد لا يتلقى العلوم بمراحلها التدريجية الصحيحة وكل هذه المشاكل لعدم وجود إدارة وجهة مشرفة توجهه وتأخذ بيده.

4 - عدم وضع طرق صحيحة للتدريس يسير عليها المدرسون ولا خطة

ص: 53

سنوية لتنظيم منهجهم في تدريس المادة، ونحن نعلم ان من المواد الاساسية للتعليم هي طرق التدريس ومناهجها وآلياتها وقد يكون لكل علم طريقة تناسبهُ غير الآخر وهذا الشيء غير موجود في الحوزة وإنما كل مدرس يعتمد على قابلياته ونظرته الخاصة.

5 - غياب دروس اساسية ولها اهمية كبيرة في تكوين شخصية طالب العلوم الدينية الذي سيكون في يومٍ ما مصلحاً اجتماعياً وهادياً وقائداً للأمة كالاخلاق والتفسير والتاريخ وعلوم القرآن والحكمة والعقائد والوعي الاجتماعي.

6 - اعتماد المصادر القديمة التي تفتقر الى المنهجية الفنية واحتوائها على مطالب لم تعد ذات قيمة او خارجة عن العلم الذي تبحثه وتعقيد عباراتها فينشغل بحل رموزها الطالب والاستاذ اكثر من انشغالهم في فهم المادة العلمية.

7 - عدم الاستفادة من العلوم العصرية في المنهج الدراسي رغم وجود عدة ثمرات في تدريسها كالاطلاع على اسرار وحكم التشريع وتنقيح موضوع الحكم الشرعي وفهم الروايات بشكل دقيق في بعض الموارد وتساعد احياناً في تحديد الملاك الأهم عند التزاحم كما انها قد يستفاد منها احياناً في الاستنباط الفقهي نفسه(1) مما لا يمكن تحصيله بدونها.

8 - عدم وجود آلية ناضجة لتدرج الطالب في تحصيل علوم تهيء ذهنيته لتقبل المطالب بشكل جيد لان المناهج الدراسية لم تؤخذ في وضعها هذا الامر وانما هي مؤلفات لاصحابها ثم جعلت مناهج دراسية.

9 - الزام الطلبة جميعاً بالسير على منهج واحد من دون مراعاة لقابلياتهم ولرغبتهم في التخصص في حقل علمي دون آخر وعدم مراعاة حاجة الأمةل.

ص: 54


1- راجع كتاب الرياضيات للفقيه وكتاب القول الفصل في احكام الخل.

والرسالة الاسلامية التي سيحملها الحوزوي الى مثل هذا التخصص.

10 - عدم وجود ضوابط دقيقة لقبول الطلبة من حيث استعدادهم الذهني وسمعتهم الاجتماعية وتوزيعهم الجغرافي وثقافتهم العامة لهذا تجد التباين الواسع بين مستويات الطلبة وتغلغل الكثير من العناصر الفاسدة والضالة والمندسّة.

11 - تصدّي كل من هبّ ودبّ للتدريس لعدم وجود رادع، لا ذاتي ولا خارجي ولا جهة مشرفة تقيّم الاساتذة وتوجه الطلبة للحضور عندهم.

12 - ضعف النشاط الاجتماعي للحوزة سواء على مستوى التبليغ او التلاقح مع الجامعات او الحوار مع الحضارات او الديانات والتيارات الثقافية والفكرية الأخرى.

13 - عدم التعرف على قدرات الطلبة العلمية والاجتماعية والفكرية مما ادى الى تصدي من ليسوا بأهل لمسؤوليات مهمة كالوكالة عن المرجعية الشريفة او ارتقاء المنبر الحسيني او إمامة الجمعة والجماعة.

وبقي السؤال الأهم انه كيف يمكن إصلاح كل نقاط الخلل هذه فان العوائق كثيرة ليس اهمها المانع الخارجي أي الاعداء المتربصين بالحوزة المراقبين لتحركاتها وتوجهاتها من ازلام النظام وغيرهم، وانما هناك مصاعب اخرى:

1 - عدم وجود ادارة مركزية للحوزة تستطيع فرض قراراتها، فان المرجعية متعددة، والطالب يستطيع ان يمنح ولاءه لمن شاء ومتى شاء فاذا شعر ان مرجعية ما لا توافق اهواءه ومصالحه او تريد منه التزامات معينة فرَّ منها لتحتضنه أخرى وترفع عنه تلك القيود وينال الحظوة لديها.

2 - عدم الشعور بالحاجة الى الاصلاح والتطور وهذا الشعور هو أول دافع للعمل.

ص: 55

3 - وجود المنتفعين من هذا الخلل وذوي المطامع وأهل المصالح والاهواء وكثير منهم ممن توصل الى حاشية المرجعية واصبح مؤثراً فيها.

4 - عدم وجود الكفاءات العلمية الكافية التي تستطيع تنفيذ هذه الاصلاحات وتحويلها من حيز النظرية الى التطبيق بتأليف المناهج واتباع الاساليب المقترحة للاصلاح والقيام بالمسؤوليات المتعددة.

لهذه الاسباب وغيرها فشلت دعوات اصلاحية كثيرة حاولت مرجعيات متعددة ان تقوم بها لكن رسوخ الحالة الحوزوية ودفاع المتحجرين عنها اجهضها ولم يُعد بمقدور حتى المرجعيات المهمة ان تُحدِث ثورة اصلاحية في الحوزة، من هنا كان العلاج الانسب هو الاصلاح التدريجي، بمعنى اتخاذ مدرسة نموذجية تطبّق فيها الاصلاحات ويُقبل فيها طلبة بمواصفات خاصة وتدار بادارة كفوءة وتوفر فيها امتيازات اضافية وتوضع لها مناهج دراسية متكاملة ولو عن طريق تأليف كتب جديدة او تبديل كتب دراسية متعارفة وبعد نضجها وتكاملها تتوسع الى مدرسة أخرى وهكذا حتى تشمل تدريجياً أغلب مدارس الحوزة الشريفة من دون ان تثير غضب وحساسية الآخرين، وحملت هذه المدرسة النموذجية اسم (جامعة الصدر الدينية) وفاءً لصاحب الفكرة الأصلية وهو الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ولمن نفذ الفكرة وأسس الجامعة وهو الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام (1417).

لكن المشروع بقي في مكانه ولم يكن بمستوى الطموح حتى كان يوم الثلاثاء (21 صفر 1419) حيث استدعاني سيدنا الاستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وقال لي: ان جامعة الصدر لا يستطيع أحد ان يتقدم بها غيرك وقد كانت تحوطها قبل الآن الكثير من المشاكل وقد زالت الآن فاستجبت لرغبته وتسلّمت إدارة الجامعة على بركة الله تعالى طالباً التسديد منه جلّت وعظمت قدرته.

ص: 56

وقد سعيت بمؤازرة الطلبة والاساتذة الذين لم يبخلوا عليَّ بالنصيحة واستفدت من افكارهم النيرة فحققنا في الجامعة من الاعمال ما لا يوجد في غيرها من مدارس الحوزة على عدة محاور:

الأول: الأداري: فللجامعة عميد يرعاها ويدبّر امورها وله معاونون:

أحدهم لشؤون المدرسين والمنهج الدراسي: ومهامه اختيار المدرسين الكفوئين وتزويدهم بالخطة السنوية للدراسة ومتابعة التزامهم بها وقضاء حوائجهم وتوفير امتيازاتهم وتقييم المناهج الدراسية لتغيرها او استحداث غيرها بحسب ما تمليه المصلحة والتجربة.

ومعاون لشؤون الطلبة: يستمع لمشاكلهم واقتراحاتهم ويقضي حوائجهم ويوفر السكن والرواتب والمساعدات لهم ويتابع التزامهم بالتحصيل الدراسي ويتخذ الاجراءات المناسبة بحق غير الملتزم بالنظام الداخلي للجامعة، ومن طريف انجازات الجامعة بهذا الصدد إنشاء صندوق المظالم والمقترحات، الذي يحق للطلبة وضع مظالمهم وانتقاداتهم ومقترحاتهم تجاه الادارة والاساتذة او أي جهة أخرى من دون ذكر اسم الكاتب اذ ربما يمنعهم عن البوح بها الخجل ونحوه، ويفتح الصندوق اسبوعياً ليُنظر فيما فيه وتتخذ الاجراءات المناسبة.

ومعاون لشؤون البناية: حيث يتولى رعاية بناية الجامعة وصيانتها وتوفير مستلزمات الدراسة فيها، ويحافظ على وقفيتها إن كانت فيها وقفية خاصة.

ومعاون للوثائق والمستندات: يحتفظ بالاضابير الشخصية للطلبة والحاق كل الوثائق المتعلقة بهم من تكريم او انذار وشهادات تقييمهم خلال مراحل الدراسة والوثائق والبيانات الخاصة بالجامعة ككل.

ومعاون للشؤون المالية: يتولى تعيين الرواتب للاساتذة والطلبة والموظفين بحسب ضوابط الجامعة، وتقديم القروض للمحتاجين وتنفيذ

ص: 57

اوامر المساعدات واستقطاع الديون وضبط سجلات الأموال الواردة والمصروفة.

وكل من هؤلاء يرتبط بالعميد مباشرة ويطلعه اسبوعياً على تفاصيل عمله.

الثاني: قبول الطلبة: وضعت شروط لقبول الطلبة بأن يكون حاصلاً على شهادة جامعية ولا يتجاوز عمره (28) سنة ومعروف بحسن السيرة والسلوك بشهادة وكلاء المرجعية الشريفة، وتُجرى له مقابلة يشرف عليها العميد نفسه لاختبار ثقافته وافكاره وأهدافه، وتلاحظ عوامل أخرى في القبول كالتوزيع الجغرافي والنشاط الاجتماعي، وليس لعدد الطلبة المقبولين حد ثابت وإنما تحددّه الحاجة والامكانيات المتوفرة والظروف المحيطة.

الثالث: التقييم والامتحانات: يجرى للطالب امتحانان شهريان في كل فصل وامتحان نهائي في آخر الفصل حيث تقسم السنة الى فصلين وتتوزع درجة الطالب النهائية على الامتحان النهائي والشهريين وسعيه ومشاركته اليومية في الدروس، ويوجد امتحان للدور الثاني وهو للطلبة الذين لم يحالفهم النجاح في الدور الأول، وقد يُرقَّن قيد الطالب من الجامعة اذا لم ينجح بنصف الدروس على الأقل، ويُكَّرم الطلبة المتفوقون بجوائز مالية وعينية مناسبة.

الرابع: مراحل الدراسة ومفردات المنهج الدراسي: قسمت الدراسة الى ثمان مراحل يتأهل الطالب بعدها لحضور البحث الخارج ويُمنح الطالب قبلها شهادتان: الأولى، بعد نهاية المرحلة الثالثة تؤهله لاداء وظيفة التبليغ والوعظ والارشاد وإمامة الجمعة والجماعة والوكالة عن المرجعية الشريفة وإرتقاء المنبر الحسيني. وفي نهاية المرحلة السادسة، ينضم الى (مدرسي الحوزة العلمية)، حيث يتأهل لتدريس المقدمات والسطوح الابتدائية والمتوسطة.

ص: 58

وقد ضمّ المنهج الدراسي مناهج حديثة كحلقات الشهيد الصدر الأول في الأصول وبداية الحكمة ونهايتها للسيد الطباطبائي والعقائد والالهيات للسبحاني ومصباح اليزدي، كما اضيفت للمنهج مفردات غيبّها النظام المتعارف في الحوزة كعلوم القرآن وتفسيره وعلم الرجال والقواعد الفقهية والتاريخ والاخلاق وعلم الحديث والفكر الاسلامي وبعض العلوم العصرية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وقد تعثّر تدريس المواد الثلاثة الأخيرة لعدم نضج مناهجها.

الخامس: مواعيد الدراسة ومدتها: مدة الدراسة ثمان سنين حيث تستغرق كل مرحلة سنة هجرية تقويمية تبدأ في العشر الاواخر من محرم وتنتهي في نهاية شهر ذي الحجة ويكون شهر رمضان والعشرتان الأولى والثانية من محرم عطلة إضافة الى ايام وفيات المعصومين (عليهم السلام) وبعض المناسبات الدينة المهمة والخميس والجمعة من كل اسبوع.

يستمر تقديم طلبات الانتماء خلال شهري ذي القعدة وذي الحجة حيث تعلن في نهايتها اسماء الذين ستجرى مقابلتهم خلال النصف الأول من محرم الحرام.

السادس: النشاط الثقافي والاجتماعي والانساني: انكمش نشاط الحوزة الفكري والاجتماعي خلال السنين المتأخرة بحيث لم يعد يوجد في النجف عدد الاصابع مما يكتب في هذه القضايا فتولت الجامعة رعاية الاقلام الفتية وتوجيهها وإنضاجها حتى برز عدد من الكتاب ساهموا مع عميد الجامعة في اصدار العشرات من الكتب التي ساهمت في رصد وتشخيص الامراض والظواهر الاجتماعية المنحرفة ومعالجتها باسلوب مقنع يمزج الحكم الشرعي

ص: 59

بالموعظة والنصيحة وبالدراسة والتحليل للاسباب والنتائج، فكان لهذه الاصدارات الأثر الكبير في إصلاح المجتمع ورفده بالوعي الديني وسد الفراغ من هذه الجهة.

ومن النشاطات الانسانية، تأسيس صندوق (الزواج رحمة) الذي يقدّم تسهيلات مالية على نحو القرض والمساعدة لتشجيع الزواج وقد ذُكرِت تعليمات الصندوق قي كتاب (الزواج والمشكلة الجنسية).

وتوجد تفاصيل كثيرة عن المشروع نظرية وتطبيقاً في كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية).

ص: 60

الفصل الرابع: ليلة الالتحاق بالملأ الأعلى

اشارة

اعتادت الحوزة والمتشرعة الذهاب الى كربلاء ليلة الجمعة لزيارة مرقد الإمام ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) لما فيها من الفضل العظيم وكُنا ممن وفقهم الله تبارك وتعالى لهذا الالتزام الشريف فذهبنا كعادتنا عصر الخميس (2 ذ. ق 1419) المصادف (1999/2/18).

وعلى مشارف مدينة النجف وجدنا طوقاً من المدفعية الثقيلة قد احاط بالمدينة المقدسة متخفياً وراء السواتر الترابية وقد وجهت فوهات المدافع نحو المدينة وطلائع من الآليات والجنود التي تنبئ على وجود قطعات عسكرية في عمق الصحراء فرابنا الموقف وسألنا عن ذلك فقيل: انها ربما كانت احتياطات عسكرية لان العراق كان يومئذ في ازمة مع الولايات المتحدة وبريطانيا فيخشون من حصول غارات على المدن العراقية، لكننا رددنا عليهم: لو كان الأمر كذلك لكانت فوهات المدافع متجهة الى حيث تأتي الطائرات المغيرة دفاعاً عن المدينة وليست موجهة الى نفس المدينة فانقطع الجواب وعدنا ليلاً الى النجف.

وفي صبيحة اليوم التالي الجمعة (3 ذ. ق) ذهبنا الى مكتب السيد الشهيد (قدس سره) الذي كان مقابل الصحن الشريف من جهة باب القبلة وكنت اجلس يومياً في غرفة خاصة مقابل الغرفة التي اتخذها السيد نفسه للاجابة عن اسئلة الناس وقضاء حوائجهم بعد ان اتسعت مرجعيته (قدس سره) في الاشهر الأخيرة وازداد زحام الناس فلم يبق له وقت لهذه المسؤولية فحولها عليّ وبقي هو (قدس سره) لادارة الأمور العامة.

وقد شهدنا مدينة النجف على غير العادة فالقوات العسكرية منتشرة في

ص: 61

كل مكان والأجواء مكهربة وتساءلنا مرة أخرى عن سر ذلك فقيل ان اليوم (2/19) وهو اليوم الذي تحتفل به المدينة رسمياً كيوم للمحافظة، لكننا قلنا ان هذه المناسبة ليست جديدة ولم يكن يحتفل بها بهذه المظاهر من قبل.

وفي كل يوم كنا نبقى في مجلسنا العام في المكتب حتى يرتفع آذان الظهر فندخل مع السيد الشهيد (قدس سره) الى الحرم الشريف لنؤدي صلاة الظهر جماعة الا يوم الجمعة فنغادر المكان قبل الظهر بأكثر من ساعة للذهاب الى مسجد الكوفة المعظم لاداء صلاة الجمعة المباركة المقدسة بإمامة السيد الشهيد (قدس سره) حيث كان يحجز مكان خلف الإمام مباشرة لاعضاء المكتب فان اغلب الصفوف المتقدمة تشغل من وقت مبكر منذ الفجر.

وذهبنا الى المسجد المعظم وكالعادة كانت النجف تموج بالمؤمنين الذين يقدمون من كل مدن العراق فيحجزون اماكنهم في صلاة الجمعة بفراش ونحوه ثم يأتون لزيارة امير المؤمنين ومرجعهم الشهيد ثم يعودون الى الصلاة المباركة وكذلك السيد نفسه (قدس سره) يذهب الى المسجد قبل الآذان ويبقى في محراب أمير المؤمنين (عليه السلام) يتعبد ويتأمل ويتهيأ حتى ينتهي المؤذن من آذانه فيأتي الى محراب صلاة الجمعة حيث يخلع عبائته ويرتدي البردة البيضاء التي تشبه احدى قطع الكفن ويتقدم الى المنصة المواجهة لجمهور المصلين ليلقي خطبتي الصلاة.

وكنت هذه المرة في الصف الأول الى يمين الامام فيمر طريقه بين محراب امير المؤمنين (عليه السلام) ومحراب صلاة الجمعة عليَّ فسلّم سلامه العام اثناء مروره واحاطني بسلام خاص بعينيه شعرت منه بمعنى خاص لم افهمه.

لكني فهمت معناه بعد ساعات فقد كان سلام تحميل للمسؤولية الثقيلة

ص: 62

وسلام وداع رغم ان فرص اللقاء به يُفترض ان تكون ما زالت موجودة قبل ساعة استشهاده فقد كان يجلس مجلساً ليلياً عاماً يوم الجمعة بعد صلاة المغرب والعشاء وكنت احضر في المكتب لاداء وظيفتي التي ذكرتها قبل قليل الا انني لم اذهب في تلك الليلة لمانع، فقد جرحت يدي اثناء ادائي لبعض الاعمال البيتية قبيل المغرب ولم ينقطع الدم حتى اجدد الوضوء حتى صار الآذان فلم اذهب لصلاة الجماعة في مسجد الكرامة الذي كنت اقيم الجماعة فيه منذ عام (1416) ومن ثم لم اذهب الى المكتب في تلك الليلة فشاء الله لذلك الجرح البسيط ان يمنع من حصول امرٍ الله يعلمه.

وبعد المغرب بساعتين وعند عودته (قدس سره) الى داره حصل الاعتداء الاثيم عليه قريباً من داره في مكان لا يبعد كثيراً عن بناية مدرسة البغدادي التي هي مقر دراسة طلبة جامعة الصدر الدينية فوصل اليهم الخبر مباشرة حيث سمعوا اطلاق الرصاص فاسرع اليّ اثنان هما الشيخ نديم الساعدي معاون العميد لشؤون الطلبة والشيخ علي خليفة من طلبة المرحلة الثانية يومئذ وقالوا ان الناس تتحدث عن عملية اغتيال للسيد (قدس سره) والاخبار متضاربة عن حالته فاسرعت الى الهاتف لاتصل ببيت اولاد السيد (قدس سره) السيد مصطفى والسيد مؤمل (رحمهما الله تعالى) فلم اجد من يرد على الهاتف لان اولاد السيد (قدس سره) وعوائلهم يجتمعون في بيته (قدس سره) حتى الليل يوم الجمعة فذهبت فوراً الى بيت الشيخ حيدر اليعقوبي لاستطلع منه فوجدت الاخبار المتضاربة لكني علمت منه ان السيد (قدس سره) الآن هو في المستشفى الرئيسي في البلد فذهبت فوراُ الى هناك وكانت مطوقة برجال الأمن والباب موصدة بوجه المئات من طلبة العلم والمؤمنين الذين هرعوا الى المستشفى لاستطلاع الخبر واقتربت من الضابط المشرف على الباب وعرفته نفسي وطلبت الدخول فاستمهلني حتى يراجع

ص: 63

المقدم فلان الذي كان مشرفاً على القوة الموجودة في المستشفى فاذن لي شرط تخلّي الناس عن الزحام على الباب وتفرقهم عنها فالتمست منهم ذلك فاستجابوا لي على ان اعود لهم بالخبر الصحيح وكانوا يتوسلون الى الله تعالى بالادعية المأثورة للاطمئنان على سلامة السيد (قدس سره) ودخلت الى جناح الطوارئ وكان هناك السيد مقتدى والسيد سلطان كلانتر صهر السيد (قدس سره) وآخرين من اعضاء المكتب وحاولت الدخول الى غرفة العمليات للتأكد من حالة السيد (قدس سره) فمنعوني لكن الوضع كان يشير الى انتهاء كل شيء فان السيد (قدس سره) وولده السيد مؤمل قضيا نحبهما فوراً اما السيد مصطفى فقد بقي يعاني النزعات الأخيرة ورأيت على يديه بعدئذ اثر (الكانيولا) التي تشد في عضد المريض ليزرق فيها العلاج فانسحب السيد مقتدى وعدد من الاخوة الموجودين الى الدار ليكون قريباً من والدته المفجوعة وبقينا نحن في المستشفى حتى استدعينا الى غرفة الطبيب لاملاء المعلومات عن الشهداء التي تأخذ عادة حين تنظيم شهادة الوفاة كل هذا ونحن لا نريد ان نصدق بالوفاة ونمني انفسنا بالسلامة وان الله قادر على كل شيء.

ولم اكن استطيع ان اخرج الى الناس الذين ينتظروني في الخارج لاني لا ادري ماذا اقول واما السيد مقتدى فخرج صامتاً غير ان الشيخ علي البهادلي (المشرف على شؤون العشائر) اشار لهم بما يفهم منه وقوع الحادث الاثيم، وبقينا اكثر من ثلاث ساعات على هذا الحال: نحن واجمون صامتون في المستشفى وممنوعون عن الوصول الى الاجساد المضرجة بالدماء والمخلصون خارج الباب ترتفع اصواتهم بدعاء الفرج وتردد آية (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ) وقد اغلقت الشوارع العامة ومنع التجوال وكنّا لا نرى ولا نسمع في الشارع الا اصوات صفير السيارات

ص: 64

العسكرية من جيش وشرطة وقوات الامن والامن الخاص التي كانت تترى طول الوقت على النجف من اتجاه بغداد.

وأُجِّل اعلان الخبر رسمياً احتياطاً حتى تتكامل قواتهم وفي الساعة الحادية عشر ليلاً استدعي جماعة منا (السيد حسين كلانتر والشيخ محمد النعماني) الى بناية المحافظة وحاول المسؤولون الايحاء بخبر الوفاة والطلب منهم السيطرة على المشاعر لكنهم لم يطمأنوا الى قدرتهم على اداء هذا الدور فاجلوا اعلامهم صريحاً بالخبر وطلبوا منهم احضار احد كبار رجال الحوزة الى هناك لكي يتحمل مسؤولية تسلم الاجساد الثلاثة فحاول البعض الاتصال بالسيد محمد كلانتر والسيد حسين بحر العلوم (رحمهما الله) فرفضا فحاولوا مع السيد علي البغدادي الذي كان قد تصالح قبل ايام مع السيد (قدس سره) فلم يفتح لهم الباب وكلمهم من وراء الشبابيك فضلاً عن الاستجابة لطلبهم ففشلت المحاولات.

وصارت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل الشتوي الطويل واعيد استدعاء مجموعة منا مرة اخرى الى مبنى المحافظة حيث كان يتجمع كبار المسؤولين الرسميين متحسبين لاي طارئ وقد اخبروهم هذه المرة صريحاً بنبأ استشهاد الثلاثة واشترطوا علينا تفريق الناس قبل تسليم اجساد الشهداء فقررنا ان اخرج واقنع الناس بذلك ثم نعود لتسلم الشهداء.

والى الان لم اصدق كيف تمالكت نفسي - وانا ذو العواطف الجياشة - فلم تذرف عيني ولم يتلعثم صوتي وانا اخرج الى الناس في الساعة الواحدة والنصف من تلك الليلة من ليالي الشتاء القارس المهيئة للمطر بين لحظة واخرى واطلب منهم التفرق والعودة صباحاً ليعلموا حالة السيد (قدس سره) ونجليه ولم أصرح بالنبأ رغم اصرار البعض وركبت السيارة عائداً الى البيت ووفرّوا هم للناس سيارات لنقلهم فقد كانت الشوارع مطوقة ولا احد يستطيع

ص: 65

المرور فيها الا السيارات الرسمية بل ان سيارة النقل الكبيرة التي نقلت طلبة الحوزة اعتقلت قرب الصحن الشريف واقتديوا الى مديرية الامن ولم يطلق سراحهم الا بعد حصول القناعة بان الدولة هي التي امرت بنقلهم من المستشفى الى قرب الصحن الشريف ليعودوا الى مدارسهم الدينية، وهو ما حدثني به أحدهم وهو الشيخ علي حميد الذي كان يومئذٍ مديراً لمكتب السيد الشهيد (قدس سره) ويساعده الشيخ علي صادق.

وما ان ابتعدت عن المستشفى مسافة حتى اطلقت العنان للعواطف والآلام التي كانت حبيسة في صدري فاجهشت بالبكاء الحار وبصوت مرتفع ولم اكن قد اخبرت من معي بالسيارة بالخبر فشاركوني البكاء حتى وصلت الى البيت حيث مكثت اقل من ساعة وعدت بعدها الى المستشفى وكان هناك ايضاً مجموعة من الطلبة فحملنا الاجساد الطاهرة في سيارة مكشوفة وركبنا في ثلاث سيارات شخصية وترافقنا حوالي اربعين سيارة ما بين صغيرة وكبيرة تحمل القوات المدججة بالسلاح وذهبنا في موكب صامت حزين الى المغتسل وقد أذن ولده السيد مقتدى بأن أتولى انا الصلاة على الاجساد الطاهرة والاشراف على باقي التكاليف الشرعية وبقي هو وعدد آخر في الدار، حيث باشر مجموعة من الطلبة على رأسهم السيد محمد الصافي مباشرة الغسل ولم يسمح لاحد من المنافقين من الدخول الى المغتسل فبقوا خارجه لكنهم قلقون من مرور الزمن اذ كانت الاوامر موجهة اليهم من قبل السلطات باتمام الدفن قبل حلول الفجر لكن الغسل تأخر بسبب نزف الدماء التي لم تنقطع من جسد السيد (قدس سره) ورأسه وكانت الاصابة في جبهته قاضية وقاسية ويبدو انه اصيب بوابل من الرصاص وجِّه الى جبهته حيث خرج الرصاص من مؤخره تاركاً حفرة عميقة تدخل منها قبضة اليد وقد انتزعت معها اكثر اجزاء رأسه حيث كان رأسه الشريف ككيس من الهواء

ص: 66

تستطيع ان تضغطه كيف تشاء وليس جمجمة عظمية ورصاصات اخرى على بدنه الشريف وكان جسد السيد مؤمل (رحمه الله) غارقاً بالدماء ايضاً ويبدو وقد جفّ جسمه من الدماء ولم يمكن تكفينهم والحالة هذه فلّفت اجسادهم بقطع نايلون كبيرة وكفنوا عليها بعد ان ملأت جروحهم بالقطن لكنها لم تنفع في قطع الدم.

ويشهد الله بدون مجاملة ولا عاطفة ان وجه السيد (قدس سره) كان يشرق نوراً وكأنه حي، وقد استمرت عملية التغسيل حتى حان موعد صلاة الصبح فصلينا في المغتسل في حين كان اولئك المنافقون على اشد من الجمر ويلحون علينا بين وقت وآخر بضرورة التعجيل حيث علمت بعدئذ من بعضهم ان قصي صدام كان على خط هاتفي مفتوح يتابع معهم التطورات وكان يأمرهم بالاستعجال وانهاء الأمر تحت جنح الظلام وبعد انتهاء الغسل حملنا الاجساد الثلاثة الى الصحن الشريف ووضعت في الرواق في نفس المكان الذي كان يقيم فيه السيد (قدس سره) صلاة الجماعة ولم نطف بها حول الضريح المطهر تنفيذاً لرغبته (قدس سره) التي سمعتها منه (قدس سره) فقد كان يستشكل (معنوياً) من هذا الفعل - أي اطافة الجنائز حول الضريح المقدس - ويقول كيف بي لو مِتُّ ولا استطيع منع من يطوف بجسدي على الضريح وتقدمت للصلاة عليه باذن ولي الفقيد وصلى خلفي بحدود خمسة عشر من اخواني الطلبة في حين كان بعض المنافقين ينظرون الينا وبقي الآخرون منهم خارجاً.

وبعد اتمام الصلاة حملناهم الى المقبرة الجديدة في النجف حيث كان (قدس سره) قد اشترى ارضاً هناك لتكون مدفناً له ولذويه وبدأنا بدفن الجسد الطاهر للسيد (قدس سره) واهلنا عليه التراب ونحن لا نتصور كيف يمكن ان يضم قبر هذا الرجل الذي ارعب اعتى الطواغيت واشرسهم ولا

ص: 67

زلت اتذكر - وكيف انسى - آخر نظرة القيتها عليه (قدس سره) وهو يفترش التراب في لحده مستقبل القبلة على جانبه الايمن، وقد نزل في لحده المرحوم الشهيد الشيخ علي الكعبي إمام جمعة مدينة الثورة في بغداد الذي قدم الى النجف فور سماعه الخبر فنال شرف المشاركة وكان معنا المرحوم الشهيد الشيخ حسين المالكي - الذي كان ملتفتاً الى بعض السنن الشرعية في مثل هذا الحال - والمرحوم الشهيد الشيخ محمد النعماني والسيد سلطان والسيد حسين ابنا السيد محمد كلانتر والشيخ عباس الربيعي والشيخ علي البهادلي وآخرون لا استحضر اسماءهم.

وبدأت السماء تمطر مطراً منهمراً وكأنها تشاركنا المصاب وتذرف معنا الدموع وطلبت من السيد محمد الصافي ان ينشدنا - وهو صاحب الصوت الشجي - ابياتاً في رثاء الحسين (عليه السلام) ونحن نهيل التراب فانشد - ونعم ما انشد - عينية الجواهري:

شممت ثراك فهب النسيم نسيم الكرامة من بلقع

والكل يبكي والبعض يأخذ من تراب القبر ويدخره لقضاء حوائجه بما فيهم بعض الضباط والجنود الذين كانوا شاهرين اسلحتهم على رؤوسنا وقبل ان نواري جسدي الشهيدين السيد مصطفى ومؤمل (رحمهما الله) انسحب محافظ النجف ليزف بشرى!! انتهاء عملية الدفن بسلام!! الى سيده قصي ثم ووري الجميع الثرى وشمس يوم السبت ازفت على الشروق لتنهي اعظم ليلة عشتها وعدت الى منزلي وانا مثقل بالاحزان وارخيت لعيني حتى تفرغ ما تبقى من دموع.

ولم تكن مدينة النجف بمستوى الحدث فقد رأيت - حين عودتي صباح السبت الى البيت - الاسواق مفتحة والاعمال جارية والحياة عادية جداً

ص: 68

ربما لان الخبر لم يصل اليهم بعد لكن الله تبارك وتعالى شاء ان لا يمر الحدث هكذا بل ان يعيش المجتمع والمدينة واقع المصاب الاليم فقد اقام السيد مقتدى صلاة الظهر والعصر جماعة في مكان ابيه - والاوضاع ما زالت طبيعية - فانطلقت صيحات الصلوات على النبي وآله من الموالين واختلطت بدموع وانين المفجوعين بالسيد الشهيد وارتفعت الاصوات فقام الضابط المشرف على امن الصحن الشريف بتصرفٍ عوقب عليه فيما بعد حيث امر باغلاق ابواب الصحن الشريف عدا واحدة فحصل ارباك لدى الزائرين وفرارهم وما إن خرج جمع الفارين الى خارج الصحن حتى حصل ارباك واختلال الوضع في الشوارع والاسواق المحيطة فاغلقت الاسواق وفر الناس - الذين هم اصلاً على وجل - باتجاه خارج المدينة وكلما مر جمع الفارين بمنطقة او سوق او شارع انضم هؤلاء اليهم حتى وصلت مسيرتهم على مسافة عدة كيلو مترات وهكذا ساد الوجوم والصمت الحذر والاجواء المكهربة ممتزجة مع مشاعر الحزن والاسى باستشهاد السيد (قدس سره) الذي علقت الجماهير به آمالها فذهبت ادراج الرياح وانضم اليها الشعور بالندم على التقصير في نصرته فضلاً عن معاداته والوقوف في وجهه وتشويه صورته وها هو يسقط مضرجاً بدمائه في سبيل الدين والمذهب واداء وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

واجتماع هذه العوامل جعل مجلس العزاء الذي اقيم في مسجد صافي الصفا مما قل نظيره فقد امتدت صفوف المستقبلين من المسجد الى الصحن الشريف وهي مسافة مئات الامتار فضلاً عن المسجد والسرادقات التي اقيمت بجنبه هذا ومدينة النجف مطوقة بالجيش لا يستطيع احدٌ ان يدخل اليها الا اذا ثبت انه من ساكنيها فعاشت المدينة حصاراً كاملاً لمدة تزيد على اسبوعين ومنع كل من وفد الى النجف لحضور المجلس بما فيهم بعض

ص: 69

اقربائه (قدس سره) الا الوفود الرسمية او من حصل على اذن خاص من الجهات المختصة.

وكان من المقرر ان يستمر المجلس عشرة ايام الا ان السلطة قلصته الى خمسة ثم الى ثلاثة مما اوجب امتعاضاً لدى ذوي الفقيد فقرروا الغاء مجلس قراءة الفاتحة في اليوم الثاني لكن السلطة اجبرتهم على الاستمر باعتبار ان وفداً يمثل صداماً سيأتي يتقدمهم نائبه لرئاسة الوزراء محمد حمزة الزبيدي فاعيد انعقاد المجلس وختم عند غروب شمس اليوم الثالث ولم يستمر الى الليل.

وفي اول ايام المجلس (السبت) اجمعوا على تقديمي لامامة الصلاة جماعة ورفضت اولاً لعدم رغبتي في تسليط الاضواء عليَ الا انني استجبت لاصرارهم، وكان الخطيب الذي ختم المجلس بمحاضرة دينية هو السيد محمد الصافي الذي الهب عواطف الحاضرين وكانت الجماهير تنتظر لحظة اعتلائه المنبر حتى تطلق زفراتها واناتها واصواتها المرتفعة بالبكاء يحفزهم في ذلك صوته الشجي وطريقته الحزينة.

وقد سجل الدكتور علي حسن الشمري المختص بامراض الباطنية والقلبية مشاهداته للحظات الاخيرة من حياة السيد الشهيد (قدس سره) وولديه وهو من مقلديه ومحبيه وعارفي فضله حيث كان من القلائل الذين حضروها فكتب المذكرة التالية:

(هذا اليوم الجمعة المصادف (1999/2/19) يوم اسود في حياة الناس في العراق وخصوصاً شيعة محمد وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قتلت الايدي الاثيمة المجاهد الوطني العراقي الامامي السيد محمد صادق الصدر وابنيه الاكبر السيد مصطفى والسيد مؤمل، وكان زميلي قد قال لي بان

ص: 70

عليّ ان اذهب الى المستشفى بدلاً منه لتأدية الواجب وعندما ذهبت وجدت قوات الامن منعت الناس من دخول المستشفى عدا الاطباء ودخلت ردهة الطوارئ وقد علمت ان هناك محاولة اغتيال تعرض لها السيد الجليل زعيم الشيعة السيد محمد الصدر وقد انصدمت عندما رأيت المنظر كان ابنه السيد مؤمل سائق والده في آخر رمق من الحياة والاطباء حوله كانهم نحل عاجزين ان يقدموا له أي شيء بعد ان نفذت الطلقات صدره الشريف وعلى السرير الآخر كان هناك السيد مصطفى كان وجهه ازرق وكان في وعي مشوش وكان يقول يا امي يا امي ثم بعد حين كان يقول يا الله يا الله قلت لزملائي اين السيد الاكبر اين السيد محمد كانت الوجوه حزينة وهمس احد طلابي قائلاً البقاء في حياتك قلت غير مصدق، هل سمعتم صدره؟ هل فحصتموه؟ اريد ان اراه؟

كانت قوات الامن تحرس المكان الذي وضع فيه السيد الصدر، قلت لهم افسحوا لي لكي اراه وافقوا على مضض ودخلت الغرفة وجدت المنظر رهيب وجه السيد محمد الصدر شاحب وخالي من الدم وعندما رفعت رأسه الشريف وجدت الطلق الناري قد دخل رأسه الشريف من الخلف استرجعت وحاولت اعتناق السيد لكن الشرطي قال لي: هل انتهيت يا دكتور وعلمت انهم كانوا يخفون الخبر عن ولده السيد مقتدى الذي كان في باب الطوارئ لا يدري ماذا يعمل عدت الى السيد مؤمل الذي ضعف قلبه كثيراً ولا اكاد اسمع ضربات قلبه تعمل حاول زملائي كل شيء ولكنه فارق الحياة. كنت أأمل ان السيد مصطفى حالته احسن حيث كان تنفسه جيداً وكان قلبه يعمل بصورة جيدة ولكن النزف اخذه وعندما رأيت ظهره كان هناك منفذ الى اربع طلقات نارية وكان النزف مستمراً. يا الهي ان حالته غير مستقرة كان بحاجة الى تداخل جراحي سريع ولكن بدأت حالته تتردى وفقد الوعي نهائياً

ص: 71

وفارق الدنيا.. يا الهي ماذا اعمل، هذا امامي وهذان ولداه قد فارقوا الدنيا، ماذا اعمل لا استطيع ان اخبر ابنه ولا حتى احد الشيوخ الذين كانوا قريباً من عندي.

وهكذا انتهت حياة السيد الجهادية وحيث انه اقام صلاة الجمعة المعطلة وكان جريئاً في خطابته وانتقد عدة مواقف كانت تقف امام الدين وانتقد عدة فئات من الشعب وكان يرجو صلاح هذه الفئات وانتقد المارقين عن الدين عدة انتقادات وكان آخر ما انتقده في هذه الجمعة رقم (45) الغجر والذين وضعوا الغجر وجاء السهم سريعاً حيث ان الغجر لم يمهلوا السيد حتى المساء وتربصوا له ووضعوا له فخاً عندما سألت احد الحاضرين اين تم قتل السيد وابنائه قال لي قرب مركز المدينة، ونحن النجفيون في تلك الليلة مستغربين من وجود التيار الكهربائي في المحافظة حيث اننا ومنذ شهر رمضان كان التيار الكهربائي عندنا بمعدل ساعتين في كل 24 ساعة وكما ان مقتل السيد حصل في وقت قريب بعد انتهاء صلاة العشاء حيث كان السيد محمد مع ابنه السيد مؤمل والسيد مصطفى وبالقرب من سكناهم في حي الحنانة كان القتلة المجرمون ينتظرون السيد والمكان أظلم وكان اللاسلكي يعمل ويخبر القتلة بأن السيد سيصل بعد قريب بسيارة ميتسوبيشي رصاصي وخلال دقائق صدر صوت الرشاش المدوي وخلال لحظات تجمعت سيارات الأمن الداخلي ومنعت الناس)، انتهى ما ذكره الدكتور علي الشمري.

ص: 72

محطات سريعة

* في بداية مرجعية السيد الشهيد (قدس سره) عام (1993) كنا مدعوين لتناول العشاء في بيت ولده الشهيد السيد مصطفى ومما دار من حديث:

قلت له مستغرباً: كيف يمكن ان يكون الطالب اعلم من استاذه في حياة الاستاذ، والمفروض ان ما عند الاستاذ اوسع وكلاهما يتقدمان؟

فقال: يمكن ذلك، فمثلاً، انت بعد عشر سنوات يمكن ان تكون اعلم العلماء.

وكنت أرى عدم امكان مجاراته فضلاً عن ان اكون اعلم منه وهو في الحياة ولم ادر انه حينما صرحت باجتهادي بعد عشر سنين فعلاً سنة (2003) لم يكن هو (قدس سره) على قيد الحياة.

* بعد إقامة صلاة الجمعة في وسط وجنوب العراق لم يقمها (قدس سره) في حدود النجف للحساسية الموجودة، وقال له أحدهم: اذا لم تقمها بنفسك فعين من يقيمها بدلاً عنك. فقال (قدس سره): من هذا الذي (أكبر رأسه) واعينه اماماً للجمعة هنا.

وزرته مساء الجمعة التي سبقت عيد الغدير (1418) ففاتحني بموضوع ان اقيم صلاة الجمعة في الكوفة، فقال: ان ذلك سيكون حجة على جميع المرجعيات لانه لا احد يشكك في عدالتك وان وقفوا مني موقفاً مضاداً وأخذوا عليّ بعض الأمور لكنه (قدس سره) لم يرد ان يفاتحني بالأمر جهرة خشية انتشار الخبر قبل ابرامه فكتب (قدس سره) في ورقة صغيرة.

فقلت له: انني منذ ايام افكر بضرورة اقامة صلاة الجمعة في الكوفة

ص: 73

وبصدد الاقتراح عليك ان يتصدى لها من تثقون به من الفضلاء ان لم تقمها بنفسك ولما كنت اعلم ان أول اسم سيرد على الذهن هو انا فقد استخرت الله تبارك وتعالى في المضي على هذا الامر فكانت النتيجة المنع وان الترك جيد فاعرضت عن الأمر. قال (قدس سره): فكر في الأمر فان تلك الاستخارتين كانتا فيما لو انت عرضت الموضوع وهذه المرة انا اعرضه فاخذت منه موعداً خاصاً وشرحت له ان سبب الاستخارة امران:

1 - انني متخلف عن الخدمة العسكرية وهو يعرضني لعقوبة قاسية ايسرها ان انزع الزي الديني والتحق بالخدمة واخشى ان يفتضح امري ان تصديت لإمامة الصلاة باعتبار تركيز الاضواء عليَّ من قبل ازلام النظام.

2 - انني اشعر بالحرج النفسي الشديد ان اكون اماماً ويكون السيد الصدر مأموماً ولا اطيق تحمل هذا الامر.

فقال (قدس سره): استخير انا على الأمر فاستخار على ان يبقيني للامامة ويختار غيري للخطابة فكانت غير جيدة واستخار على اعفائي فكانت جيدة واتذكر ان الآية كانت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) فاعفاني وتصدى هو (قدس سره) حتى نال شرف الشهادة.

* كنت طالباً ادرس اللمعة في جامعة النجف الدينية سنة (1413) فاجرى لنا المرحوم السيد محمد كلانتر (قدس سره) امتحاناً فكلفني في تحقيق مسألة (ان ابن العم الأبويني يحجب العم الأبي من الميراث) أي ان ابن العم من الأبوين يرث مع وجود العم للأب وحده ويمنعه من الميراث وهو خلاف القاعدة فبحثت بحثاً استدلالياً في المسألة وكنت ولعاً بمثل هذه المحاولات وحررت ادلة القائلين وهما النص والاجماع وناقشتهما وتوصلت الى ان جذور المسألة عقائدية كلامية وان الدليل غير تام وناقشت السيد

ص: 74

كلانتر (قدس سره) نفسه الذي نسب الرواية الى الإمام الباقر (عليه السلام) وهي مبتدئة ب - (محمد بن علي بن الحسين) الذي هو الشيخ الصدوق الذي شابه اسم الإمام الباقر (عليه السلام) واستغرق عدة صفحات، وكشفت عن قابلية جيدة وعرضتها بعدئذ على استاذي السيد الصدر (قدس سره) ولم يكن قد صدر كتاب الميراث من رسالته العملية فأفتى فيها بعدئذ بالاستشكال على هذه الفتوى رغم انها تسمى (المسألة الاجماعية) واحتاط فيها وجوباً، ولا زلت احتفظ بالبحث.

* كتب لي مرة في رسالة مطولة اجابة على رسالة مثلها في مناقشة بعض الأمور فقال (قدس سره):

انني لو فكرت فيمن يخلفني في المرجعية لكنت انت على رأس القائمة واني افكر بالتمهيد لذلك بان تقيم صلاة الجماعة في مكاني في الحرم الشريف كان ذلك في نهاية جمادى الأولى (1418).

* في احد دروسه (قدس سره) في الاصول ناقش رأياً لاحد اساتذته - وهو السيد الشهيد الصدر الاول (قدس سره) - بعدة مناقشات وبعد الدرس رددت مناقشاته وقلت: ان الصحيح في الرد على الاستاذ كذا وكذا. فنظر في وجهي مبتسماً وقال: ان هذه المناقشات تفرحني لانها تقربك من الاجتهاد، كان ذلك عام (1417).

* حينما انجزت كتاب الرياضيات للفقيه عرضته عليه (قدس سره) قبل طبعة لان فيه مناقشات عديدة معه (قدس سره) وخشيت ان يكون في اخراجها حساسية ومخالفة لادب التلميذ مع استاذه فاخذ المخطوطة واعادها

ص: 75

عليّ اليوم التالي مسلماً بصحة الاشكالات وقال: الذي لفت انتباهي ان توافقاً عجيباً بينه وبين كتاب الاسس المنطقية للاستقراء للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) الا ان كتابك بمثابة الصغرى وذاك بمثابة الكبرى.

* لما كتب (قدس سره) تقريضه لكتاب المشتق عند الاصوليين الذي جعل (قدس سره) القسم الاول منه الجزء الثاني من موسوعته الاصولية (منهج الاصول) عرض ما كتبه عليَّ لطفاً منه وادباً وسألني إن كان لديَّ تعليق.

وبعد ان اعتذرت من تواضعه علّقت على الفقرة الاخيرة من الكلمة التي يدعوا الله فيها ان يجعلني من المراجع الطيبين والقادة المخلصين، فقلت ان هذه الفقرة تسلّط الاضواء عليَّ والوقت ما زال مبكراً، فقال (قدس سره): انا متعمد لتثبيت هذه الفقرة لانني حينما اموت سوف لن أكون موجوداً حتى اقول لهم ارجعوا الى محمد اليعقوبي.

كان ذلك في شهر رمضان سنة (1418).

ص: 76

الكتاب الثاني: حديث الروح

اشارة

مجموعة بحوث في الفكر الاسلامي كتبها

الشيخ محمد اليعقوبي

وعلق عليها:

الشهيد السعيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره)

ص: 77

ص: 78

التعريف بالكتاب

لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً.

أجدني مرة أخرى مضطراً للعودة بالذكريات الى عام (1986) وهي فترة كتابة هذه الافكار لتعريف القاريء بظروفها واجوائها لأن بعضاً من افكار هذا الكتاب لا يمكن فهمها واستيعابها مجردة عن معايشة ظروف كتابتها فقد كانت بين طرفين:

المجيب: هو عالم بلغ درجة الاجتهاد ومفكر واسع الأفق واخلاقي بصير بادواء النفس ودوائها، نال علمه الوفير من اساتذة عظام في فترة ذهبية من تاريخ النجف الأشرف وعاش قمة نشاط الفكر الحركي والوعي الاسلامي وفترة تأصيله وتأسيسه مضيفاً اليه ما يمتلك هو من ذكاء وهمّة عالية وجِد لا يعرف الكلل ذلك هو الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر قدست روحه الزكية.

والسائل: شاب في العشرينات من عمره تخرّج تواً من دراسته الجامعية ينحدر من أسرة علمية دينية، وفّرت له فرصة للثقافة الدينية ومكتبة تضم عدداً معتداً به من مصادر المعرفة الاسلامية في مختلف حقولها، تفرّغ في تلك الفترة لهذه المطالعات بشغف كبير وعنده طموح الشباب وجرأته ورغبته في أن ينال كل شيء ولو كان في الثريا.

وكانا على موعد من التلاقي الروحي والفكري والتربوي والعلمي إلا ان المانع كان موجوداً فيهما.

فالأول يعيش اقامة جبرية في داره فرضتها عليه الظروف القاسية التي

ص: 79

أحاطت به خاصة وبالأمة عامة بعد استشهاد ابن عمه واستاذه السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) عام (1980) فكان لا يلتقي بأحد ولا يلتقي به أحد إلا نادراً.

والثاني كان حبيس داره لأنه رفض الانخراط في جيش صدام الذي كان يشنُّ عدوانه على الجمهورية الاسلامية في إيران وهذه (جريمة) في نظر الطغاة توجب عقوبات أيسرها الاعدام.

وقد شاع حب الدنيا والنفاق والخوف والرعب حتى قتل الوالد ابنه.

فلم يكن لكل منهما بدٌّ إلا الانزواء في البيت والاشتغال بما ييسره الله تعالى بلطفه وعنايته.

وكان الشاب المذكور قد تولّدت لديه خلال مطالعاته تلك افكار ورؤى يودّ أن يجد من يراه أهلاً لعرضها عليه وتقييمها وتهذيبها وكان أن قدّر الله تعالى فرصة الاتصال بالسيد الشهيد الصدر (قدس سره) عن طريق المراسلات المكتوبة، وفرح كل منهما بصاحبه فقد وجد ضالته فيه، وفتح له أبواباً واسعة (راجع بداية إجابة السيد الشهيد (قدس سره) على بحث - دليل سلوك المؤمن -).

وحينما أقلّب هذه الصفحات الجليلة أجدها غنية بالافكار العميقة والمشاريع الجليلة التي لا زالت بكراً وأجد الأمة بحاجة الى أن تسمو بادراكها لتستوعب هذه الافكار وتعمل بها فإحياء لذكرى سيدي الاستاذ ووفاءً له، وحباً للأمة وحرصاً عليها كي لا تحرم من هذه المعاني الكبيرة أقدم لهم هذه الابحاث سائلاً الله تبارك وتعالى أن يتلطف بنا جميعاً ويختم لنا بالحسنى ويوفي سيدي الاستاذ أجر المحسنين بما منحني من وقته وصبره ورعايته وحبّه إنه وليّ النِعم.

محمد اليعقوبي

26 ربيع الأول 1425-2004/5/16

ص: 80

البحث الأول: دليل سلوك المؤمن

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول تعالى: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) والآية تعمم معنى العبادة لكل الحياة بما فيها الواجبات والفرائض الالهية أي تجعل الحياة كلها عبادة وان الغرض من الخلقة هو لكي يكون الانسان في كل حياته في حالة عبادة.

وليس ادل على ذلك من قيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته المعصومين (عليهم السلام) بأداء كل متطلبات الحياة - كالأكل والشرب والنوم وسائر المباحات - وهم في كل اوقاتهم يحققون معنى العبادة فكل هذه الافعال يمكن أن تكون من العبادات.

لكن الذي حدث الآن ان مفهوم العبادة إنحسر واصبح يشمل الطقوس العبادية فقط كالصلاة والصوم ونحو ذلك ويتبادر الذهن لها اذا ورد هذا المصطلح، وفي الحقيقة فانها مأساة كبرى للإسلام والمسلمين حشدت قوى الاستكبار العالمي وأذنابها والمسلمون المنحرفون - إن صحت التسمية - كالأمويين والعباسيين كل ما اوتيت من قوة لتكريس هذا المفهوم، ويبدو ان جذوره تعود الى ما بعد رحيل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث اقصيت القيادة الشرعية عن تولي امور الأمة وأخذت الحكومات المنحرفة تبتعد شيئاً فشيئاً عن المنهج الاسلامي القويم وتم إكتمال الانحراف (180 درجة) في عهد الأمويين وما بعدهم.

ص: 81

والذي يحز في قلوبنا ذكره هنا ان علمائنا من حيث لا يشعرون ساهموا في تضييق مفهوم (العبادة) في الأذهان منذ أن بدأوا بتقسيم الفقه الى قسمي (العبادات)(1) و (المعاملات)، وصحيح ان تقسيمهم هذا هو تقسيم فني بحت الا انه اوحى في آذان العامة ان العبادات شيء والمعاملات شيء آخر، وان الفرد يستطيع ان يكون مسلماً ملتزماً في عباداته وبنفس الوقت يتخذ له منهجاً في الحكم غير الاسلام ودستوراً في الاقتصاد وآخر في الاجتماع مما وصلت اليه من غير المسلمين بل وحتى من اعدائهم كل ذلك وهو يعتقد انه ما زال مسلماً ملتزماً بحقيقة (لا اله الا الله، محمد رسول الله) التي تؤكد ان الحاكمية في كل شيء لله وحده وان مبلغ احكامه عز وجل هو محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي القرآن تأكيدات كثيرة لذلك لا حاجة لذكرها.

وبكل أسف نقول ان علماءنا لم يستشعروا خطورة هذه الحقيقة ولا نريد ان نتجرأ ونقول ان منهم من استوعبها لكنه تقاعس عن تحمل المسؤولية، وحسب علمي فان فقيهاً ربانياً واحداً(2) فقط (إنتقل الى جوار ربه رضي الله عنه وارضاه) فهم هذه الحقيقة وابرزها للواقع فنظر بعينه الالهية الى مستقبل(3) الاجتهاد ووضع ملامحاً لهذا المستقبل حسب تصوره وقد حقق).

ص: 82


1- ويظهر من تأريخ الفقه الجعفري ان اول من بدأ هذا التقسيم هو المحقق الحلي (قدس سره) في كتاب شرائع الاسلام قال: الحكم الشرعي: إما ان يقوم بقصد القربة ام لا، والاول العبادات والثاني إما ان يحتاج الى اللفظ من الجانبين الموجب والقابل او من جانب واحد او لا يحتاج الى اللفظ فالاول العقود والثاني الايقاعات والثالث الاحكام.
2- المقصود هو السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ولم نكن يومئذ نستطيع التصريح باسمه ونحن نعيش أعلى أشكال البطش والقسوة الصدامية.
3- اشارة الى بحث (المعالم المستقبلية لحركة الاجتهاد) المنشور في آخر عدد من المجلد الثالث من مجلة الايمان النجفية عام (1967).

الله تعالى له رجائه فليهنأ وليقر بذلك عيناً، وصدر كتاب فتاواه(1) بمقدمة وافية نظر فيها بمنظار عام الى معنى العبادة - هكذا نقل لي لأني لسوء توفيقي لم اطلع على هذا الكتاب - وانت اعلم بما اقول (فأهل الدار ادرى بالذي فيه).

ويبدو ان فصل القيادتين مدة طويلة ادخل يأساً في اذهان مفكرينا وفرض عليهم إسلوباً من التفكير ينسجم مع هذا اليأس فلم يتطرقوا لأحكام الاراضي وللحدود والتعزيرات وقد المحتم الى ذلك، كما إن المرجع(2) السابق ذكره (قدس سره) اعطى فكرة مفيدة في هذا الموضوع ولكننا تواقون للمزيد.

وهنا اضيف ملاحظة اخرى وهي ان مصطلح الفقه المتداول الآن لا ينسجم مع ما تدعو اليه الآية الكريمة: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فالفقه هذا لا يترتب عليه أي حذر بل هو شيء يتوجه اليه بعد تحقق الحذر من مصادره كمواقف العظة والعبرة وآيات الوعد والوعيد ومشاهد القيامة في القرآن ومناهج البناء الخلقي للإنسان ونحو ذلك، والفقه بالمصطلح الحالي قاصر عن إستيعاب ذلك لذا تجد المكلف لا يرجع الى كتب الفتاوى الا في حالات الحاجة القصوى واذا رجع اليها فلا يجد فيها الا جسماً خالياً من الروح فلا يلبث ان يمله ولا يعود اليها الا على مضض لانها لا تلبي رغبته في الأخذ بيده في سلم الترقي نحو الكمال وهو ما ينشده الجميع من مفهومي (الفقه) و (العبادة) ولا ننسى هنا قول امير المؤمنين (عليه السلام) في تعريف الفقيه حيث قال: (الفقيه كل الفقيه من لم يقنِّط الناس من).

ص: 83


1- الفتاوى الواضحة للشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) والملحق بعنوان (نظرة عامة في العبادات).
2- المرجع هو الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره).

رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يؤمنهم من مكر الله)(1) فالفقيه هو الفاتح للقلوب بابي الخوف والرجاء.

وبذلك تكون هذه الرسائل الفقهية دليلاً لسلوك المؤمن ليس في الاحكام الشرعية فقط وإنما في جميع شؤون الحياة.

وبمناسبة ذكر فتاوى المراجع - والشيء بالشيء يذكر - هناك إتجاه يلتزم به الفقهاء احياناً وهو إسلوب الحيل الشرعية وبغض النظر عن اصوله الفقهية ومبرراته من الادلة فانه لا يتفق مع الحذر - او التقوى - الذي دعت اليه الآية الكريمة السابقة وعلى سبيل المثال نذكر فتوى للسيد الخوئي بشأن التعامل مع المصارف الربوية وجواز اخذ الفائدة منها بعد إيداع المال فيها لكن لا بنيّة حصول الفائدة وبدون إشتراطها، وبعيداً عن مستندها الاصولي فكيف نأمل ان يعي الناس فساد النظام الاقتصادي الوضعي والآثار السيئة للربا اذا كنا نجد لهم المبررات لكل جديد يأتي به هذا النظام وما الذي تحله هذه الحيلة من المشكلة الربوية والنظام الاقتصادي مخالف لتعاليم الاسلام ولسان حال القوى الشيطانية المستعمرة يقول: لتكن نيتك ما تكون بعد ان وقعت في فخي وعلقت بك شراكي.

ومن الغريب ان يصدر مثل ذلك من السيد الخوئي (مد ظله العالي) بعد ان قال ما يجدر بمثله ان يقول(2) ففي معرض حديثه عن موارد صرف الخمس والاتجاهات الباطلة في ذلك ومنها (القول بالقائه في البحر ونحو ذلك مما يستلزم ضياع المال وإتلافه والتفريط فيه ولا سيما بالنسبة الى الاوراق النقدية مما ليست بذهب ولا فضة، اذ كيف يمكن إيداعها5.

ص: 84


1- نهج البلاغة بشرح محمد عبدة - قسم قصار الكلمات - رقم 90.
2- مستند العروة الوثقى - كتاب الخمس - ص 325.

والاحتفاظ عليها ولربما تبلغ من الكثرة الملايين الا ان تودع في المصارف الحكومية التي هي تحت الايادي الجائرة فتكون وقتئذ الى الضياع اقرب وبالوبال انسب).

ولله تعالى ولمن شطح القلم فتجرأت عليه ولكم العتبى حتى الرضا فما لمثلي وللخوض في احاديث ليست من ثوبي ولكنه الغرور بقليل من العلم نحصل عليه يدفعنا الى ركوبه سعة حلمك ورحابة صدرك، وختاماً لا تنسوا المفرط في محبتكم من صالح ادعيتكم ولا تحرمنا من إفاضاتك فمن اجدر بالافاضة من البحر الذي لا ينزف ولا تدرك سواحله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 85

دعوة لتطوير الرسائل الفقهية لتشمل جميع نواحي الحياة

وحسب تصوري فان الخطوط العريضة للرسائل العملية تبوب كالآتي:

اولاً: الهيكل الداخلي للمجتمع المسلم.

1 - العلاقات الفردية بين الانسان وخالقه وتشمل (الطهارة الباطنية او العقائد، الطهارة الظاهرية، الصلاة، الصوم،...).

2 - النظام الاقتصادي في الاسلام (الزكاة، الخمس، المكاسب المحرمة،...).

3 - النظام الاجتماعي في الاسلام (الزواج، الطلاق، الارث،...).

4 - البناء السلوكي لشخصية المسلم (الجهاد الاكبر، وتدخل ضمنه كل آداب الحياة والتوجيهات السلوكية من اقوال وافعال).

5 - النظام السياسي للإسلام (النظام الداخلي للحكومة).

ثانياً: الهيكل الخارجي للمجتمع المسلم:

1 - علاقات المسلمين كفئة مع الفئات الاخرى كالمعاهدين والمتحالفين والمحاربين.

2 - العلاقات الدولية بين الدولة المسلمة والدول الاخرى.

ثالثاً: وهناك قاضيان عادلان لمراقبة سير بناء الهيكلين وتصحيح أي انحراف وهما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اولاً والجهاد (الأصغر) ثانياً فالأول لضمان سلامة بناء الهيكل الداخلي للمجتمع المسلم والثاني بكل دوافعه واسبابه (نشر الاسلام، رد العدوان، نصرة وانقاذ المستضعفين، ازالة الفتنة، تحطيم الطواغيت الذين يقفون حجر عثرة في طريق تبليغ الاسلام).

اقول: والثاني، أي الجهاد هو الكفيل بسير بناء الهيكل الخارجي على الخط المطلوب.

ص: 86

ولا ريب في شمول الفقه لكل الابواب اعلاه حتى في الرسائل العملية المتداولة لكن مسائله مبعثرة ومشتتة ولم تجمع في مشروع كهذا ولا ننسى ان الصحيفة التي املاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على امير المؤمنين (عليه السلام) ضمت كل ابواب الفقه وجزئياته حتى ارش الخدش كما تنص الرواية، والتقسيم الحالي لكتب الفقه لا يسمح باستيعاب كل المسائل.

ويمكن ان تضاف انظمة جديدة لكل من الهيكلين او تهذب هذه حسب ما يقرره اولياء الامور ويمكن اختصار الكلام الى ما قل وافاد في الفروع الخارجة عن الفقه المتداول الآن لانها مبادىء ومفاهيم متفق عليها تقريباً ولكن لا يكون هذا مبرراً لتركها فهي تحقق الحذر او التقوى الذي طلبته الآية الكريمة تحقيقها من الفقه وتضع مصطلح (العبادة) مكانه الصحيح وهي ايضاً تشد المسلم الى اسلامه الحقيقي وبضمنه الاحكام الشرعية وتجعله دائم الاتصال بهذه الكتب لانه يرى فيها منهجاً كاملاً يغطي كل حياته.

ويلاحظ هنا ان بعض الباحثين قد كتبوا في المواضيع اعلاه الا انهم تناولوا الجانب المفهومي فقط دون الدخول في التفصيلات الفقهية بعكس الفقهاء الذين تناولوا الاحكام الشرعية فقط بشكل فتاوى ولم يتصد احد لجمع المنهجين ولكن يجب ان نعترف بانه ليس كل المسلمين يراجعون كتب الفتاوى مع الكتب هذه سوية ففي مسائل الصلاة مثلاً يراجعون كتب الفتاوى التي تدخل في تفصيلات احكام الصلاة و شرائطها وشكوكها ومبطلاتها حتى ليخال للمرء ان صلاة مليئة بالشكوك وعدم حضور القلب - الا في النية - وعدم خشوع الجوارح يمكن ان تكون صحيحة وكلامهم هذا له مستنداته الاصولية لكن الا يجب ان نفهم المكلف هذا في مقدمة كتاب الصلاة اهميتها ودورها في تقويم سلوك الانسان وأثرها على حياته في النشأتين الدنيا والآخرة ودرجات قبولها ونحو ذلك لكي لا تخرج الصلاة عن

ص: 87

محلها الاساسي في الاسلام وكذلك بقية الاعمال، ولعل أئمتنا (عليهم السلام) كانوا يقومون بالمهمتين معاً فعندما يجيبون شيعتهم على اسئلتهم الشرعية لا يغفلون الجانب التكاملي لهذه الاعمال ومن الشواهد على ذلك رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) والعهد الخالد الذي كتبه الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضى الله عنه) عندما ولاه مصر، وكمجمل عام فإن القرآن الكريم خير نبراس للمشروع اعلاه فقد عالج جميع الابواب.

فالذي نريده من مراجعنا جعل رسائلهم العملية دستوراً كاملاً للمسلمين - والحمل الثقيل لا يقوم به الا اهله ومن اجدر منهم بمثل ذلك اذ هم القوام على الشريعة - وستكون هذه الكتب مصدراً اصيلاً لفهم الاسلام كوحدة متكاملة ومترابطة الاجزاء وستكون منهلاً لكل وارد.

وانتم بالتأكيد اقدر مني على استيعاب هذا المشروع ودوره المهم في تصحيح خط المجتمع المسلم (فرب حامل فقه الى من هو افقه منه) واعوذ بالله تعالى من استخدام صيغة التفضيل بيني وبينك (فأين الحصى من نجوم السما وأين الحسام من المنجل).

وقد تكون البداية صعبة لعدم وضوح الصورة ولضخامة المسؤولية وجسامة التضحيات ولكن هذه العقبات تزول ويتكامل البناء شيئاً فشيئاً بجهود المخلصين من ابناء الاسلام ويزيد الطين بلة اننا نعلم ان المشروع - لو تم انجازه - يبقى حبراً على ورق الى ان يقيض الله تعالى من يعمل به بين عباده ولكن العمل لا يقل عن كونه لبنة في البناء التراكمي لآراء المفكرين في هذا المجال، ولا بأس ان نتذكر ان المرء اذا مات انقطع عمله الا من ثلاث احدها علم نافع تركه والله الموفق للسداد.

ص: 88

جواب الشهيد الصدر (قدس سره)

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليه فليتوكل المتوكلون

السلام عليكم وعلى من تحبون ورحمة الله وبركاته.

قبل أي شيء ينبغي ان اؤدي اليك جزيل الشكر للفضل الذي تسديه الي بهذه الكتابات النافعة التي ترسلها الي، وذلك لعدة امور:

منها: انها تملأ قسماً من وقتي الذي جعله (الليل)(1) فارغاً او يكاد:

ومنها: انها جعلتني افكر بما هو منتج ونافع في سبيل الله بعد ان كنت اسقطت ظاهرياً مجرد التفكير في ذلك الى حين طلوع الفجر.

ومنها: انها جعلت لي السرور بالطعوم اللذيذة التي تمر في ذهني والتي كنت قد حرمت منها ردحاً من الزمن.

ومنها: انها عرفتني ان العالم لم ولن يخلو من الخير مهما شاءت شهب الليل (ولو كره المشركون) ليس انت فقط بل آخرين وآخرين والحمد لله رب العالمين.

غير ان هذا المقال وملحقاته التي ارسلتها - دمت محروساً - تعرفني شيئاً آخر وهو قصوري وتقصيري وجهلي.. ولعل اوضح ما استطيع الاستدلال به على ذلك ان هذه الكتابات تحتاج في جوابها الى ملأ كل فراغات المجتمع على الاطلاق او قل الى التعريف بالاسلام بكامله وهوة.

ص: 89


1- كناية عن سواد الظلم الصدامي وبطشه وما كنا نستطيع الحديث إلا بمثل هذه الاشارات خشية وقوع الرسائل في أيدي جلاوزة الطغاة.

يحتاج الى مجلدات بل الى اجيال. (وما انا وما خطري هبني لابتداء كرمك وسالف برك بي) كل ما في الموضوع لعلي استطيع ان اذكر بعض الملاحظات ليس الا، ولست احسبك تطلب في هذه العجالة اكثر من ذلك، فعذراً وبالطبع سأكون كناقل التمر الى هجر ان قلت: ان التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له، فليلاحظ.

اللهم صل على محمد وآل محمد.

وحين نبدأ بعرض الملاحظات: ينبغي لنا الى ان نتذكر الرواية التي تقول ما مضمونه القريب:

ان الاسلام عشر درجات اعلاها اول درجات الايمان والايمان عشر درجات اعلاها اول درجات التقوى والتقوى عشر درجات اعلاها اول درجات اليقين واليقين عشر درجات، والناس قد تمسكوا بأقل درجات الاسلام.

اقول: بل هم الآن عموماً دون ذلك.

كما ينبغي ان نتذكر هذه الرواية مفهومها: ان الناس جميعاً هالكون الا العالمون والعلماء جميعاً هالكون الا العاملون والعاملون كلهم هالكون الا المخلصون، والمخلصون في خطر.

مولاي وابن مولاي: ان هذه الدرجات التي اشارت اليها الرواية الاولى ليست اعتباطاً ولا هزلاً بل هي درجات حقيقية (راجع قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا... الخ الايات) وهذه الدرجات تختلف في:

1 - المضمون.

2 - النتائج.

3 - الاسباب.

4 - منهج التكامل.

ص: 90

وغير ذلك يكفينا ان نعرف انه كلما ازدادت الدرجة:

1 - قلَّت الذنوب.

2 - كثُرت الطاعات.

3 - زاد اهتمام الفرد برضاء الله.

4 - ازدادت مسؤولية الفرد في الدنيا والآخرة وغير ذلك.

ومعه فالأمور التي ذكرتها في المقال وملحقاته حق كلها الا انها تنفع عدة درجات من الناس، ولا يمكن ان تحمل جميع الناس جميع ما نعرف من الحق، بل لكل درجة منهم منهجها الذي ينفعها في التكامل طبقاً لمواصفات الفرد عموماً، ولا يمكن ان نُحمّل الفرد ما لا يطيق اذ قد تحصل من ذلك مضاعفات غير محمودة اما في الدنيا واما في الآخرة، ولعل من اوضح الاحتمالات في ذلك:

احتمال: ان يخطر في باله - نتيجة لبعض كلامنا - شبهة مستعصية عليه قد تزلزل ايمانه، مهما كانت درجته، واذا حصل ذلك او غير ذلك فنحن الذين ورطناه فنكون نحن المسؤولون امام الله سبحانه وتعالى، وقد ورد في هذا المضمون (انك كسرته وعليك جبره) اعاذنا الله من الزلل.

وهل تستطيع ان تعلِّم (كفاية الاصول) لمن يقرأ الاجرومية او رياضيات التفاضل والتكامل لشخص ضعيف في الرياضيات مثلي.

ان اعطاء (الدواء) الزائد ظلم للمريض كما ان اعطاء (الدواء) الناقص ظلم له ايضاً لانه يقتصر على اقل من استحقاقه وقابلياته، اذن فالأمر مهول جداً امام هذا العدد الضخم من البشر بدرجاته المختلفة دينياً وثقافياً وعقلياً واجتماعياً. وهل الانسان الا أوله من نطفة وآخره جيفة قذرة وما بينهما يحمل العذرة، والتدبير على المدبر الحقيقي جل جلاله.

هذا وارجو ان تكون هذه الكتابة مصونة من غير اهلها طبقاً لنفس هذا

ص: 91

المفهوم.. جزاكم الله خير جزاء المحسنين.

ولعل اوضح سؤال يرد هنا: اننا كيف نستطيع ان نوزع حقول المعرفة على درجات الناس؟ ان جواب ذلك بعد الاعتراف ان تحديد الجواب مئة بالمئة متعذر مئة بالمئة، الا ان الجواب يكون من عدة منطلقات.

اولاً: ان المربي سوف يعرف مستويات من يربيه فرداً او جماعة ويشخص تدريجاً، ومن خلال تجاربه المستمرة ما يحتاجون اليه من تربية علمية ونفسية وغير ذلك.

ثانياً: ان الفرد قد يشعر بنقصه من شيء او عدة اشياء، فيركض وراء هدايته اينما يجدها، وسوف يركز وفي الاعم الاغلب على ما يحتاجه بطبيعة الحال وهو اعلم بنفسه من أي فرد آخر.

ثالثاً: انه يمكن النظر الى الحاجة العامة في المجتمع او الى المستوى العام لاغلب الناس، مع الفحص الدقيق عما يناسب تربية ذلك مع عدم المضاعفات الاخرى، وعنده تكون المبادرة الى اعلان قبل هذه الافكار التربوية بأي وسيلة، كتأليف كتاب او غيره مما لا يخفى.

اقول: فهذه المستويات وغيرها يمكن ان تستوعب البشر واذا بقي من هو جاهل، فقد يكون هو معذوراً او نحن معذورون لعدم الوصول إليه، وخاصة خلال الليل الذي تقل فيه المشاهدة ويصعب فيه السير!..

مولاي: ان الفقه الذي افترضته ليس فقهاً فقط بل هو المنهج العام لهداية البشر وليس من طاقة الفرد ولا الكتاب ان يفي بجميع جوانبه.

واذا اقتصرنا على النظرية وغضضنا النظر عن التطبيق امكن وضعه في الحقول الثلاثة التالية: العقائد والشريعة والاخلاق.

الا ان هذه الحقول ليست حقولاً بسيطة كدونم من الارض بل لكل منها درجات وللناس في فهمها بل في امكان فهمها وهضمها درجات، ونذكر

ص: 92

على سبيل المثل ثلاث درجات لكل حقل: فالعقائد تشمل:

أ - البراهين الاعتبارية الظاهرية على اصول الدين.

ب - التفكير في آيات الله التي جعل الله سبحانه العذاب الاليم في الكفر بها والاعراض عنها.

ج - انشراح القلب واليقين كقوله (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) وقوله (إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

والشريعة تشمل:

أ - المنهج العام الظاهري للعبادات.

ب - المنهج العام الظاهري للمعاملات.

ج - المنهج العام الظاهري للأحكام الاجتماعية.

ونقصد بالظاهري ما كان على مستوى الفهم العام بغض النظر عن التربية الذاتية: العقلية والقلبية والنفسية.

والاخلاق تشمل:

أ - علم الاخلاق المشتمل على التحليل النظري لعيوب النفس وملكاتها.

ب - الجهد او الجهاد العملي لتربية النفس وتكاملها في الطريق الحق وهو الجهاد الاكبر.

ج - المعارف العليا والكرامات التي يحصل عليها الاولياء والصالحون مما هو خفي عن غيرهم.

فهذه تسعة مستويات لعل جميعها او اكثرها مطلوب من الفرد وخاصة بعد قناعته بها والتفاته اليها، ولكل منها اسبابه وتفاصيله ونتائجه، وليس شيء منها بمتعذر على من يطلبه.

ولا اعتقد انه يمكن التفكير في ان تكون كل هذه الامور في كتاب

ص: 93

واحد او موسوعة واحدة، وخاصة بعد ان تحددت الاختصاصات في العصر الحاضر؟

وهي على حق من هذه الناحية الى حد يروى ان شخصاً سأل طبيباً عن اختصاصه فقال: الانف: فقال له: أي المنخرين؟!

مولاي: اذا اردت ان اعلق على بعض ما ورد في مقالك فلعلي بعونه سبحانه وتعالى استطيع بما يلي:

اولاً: ان مفهوم العبادة - كما تفضلتم - غير خاص بما يسمى العبادات بل هو شامل فعلاً لكل مناحي الحياة بل شامل حتى للحياة العقلية والقلبية والنفسية وعلى العموم فان الحقول التسعة السابقة جميعها تصبح عبادة اذا كان الفرد محتوياً على شيء من الاخلاص وحسن النية وعدم نسيان ذكر الله ورضائه.

ثانياً: اعتقد ان الظالمين خلال التأريخ كله قد قضوا فعلاً على جميع مفهوم العبادة الذي عرفناه - الا من عصم الله - ليس فقط الاحكام الاجتماعية والعامة، بل حتى العبادات بالمعنى التقليدي لان الظالم والمتابع للظالم لا يمكن ان تقبل منه أي عبادة او ان توصله الى شيء من الثواب (سوى الاجزاء اذا كان). كما اعطوا طريقاً واسعاً في السير في العصيان والفساد لكل من يشتهي او يريد.. وما اكثر من يشتهي ويريد مع وجود النفس الامارة بالسوء عند جميع الناس الا من عصم الله.

ثالثاً: من الصحيح في الاعم الاغلب ان فقهاءنا اقتصروا في فقههم على الجانب (الظاهري) واهملوا الجانب الاخلاقي التربوي للقلب والنفس، الا اننا لا نعدم ذلك ففي العروة الوثقى للسيد اليزدي بعض الصفحات في الوعظ في ما ينبغي ان تكون عليه حالة المصلي او كذا وكذا.. وكذلك منهاج الصالحين للسيد الحكيم، الا انه قطرة في بحر بطبيعة الحال.

ص: 94

رابعاً: انه من الصحيح في الاعم الاغلب ان الفقهاء اقتصروا على الجانب الفردي للفقه واهملوا الجانب الاجتماعي او العام، الا اننا لا نعدم ذلك وخاصة بين المتقدمين كما عليه شرائع الاسلام واللمعة الدمشقية.

والذي اجده ان الفقهاء المتأخرين عن عصر السيد مهدي بحر العلوم قد بدأ الجانب الاخلاقي من ناحية والجانب الاجتماعي بالتضاؤل عندهم تدريجياً الى ان وصلنا الى ما وصلنا اليه من النتائج، واما الاقدمون فهم - في الاغلب لم يكونوا كذلك في حدود مستويات عصورهم.

خامساً: ينتج من ذلك يا مولاي ان الاتجاه الى الفقه المتكامل من ناحية وحمل هموم المجتمع من ناحية اخرى كان موجوداً بين علمائنا الاقدمين بوضوح. - ويكفي ان يكون موجوداً عند اكثرهم او اهمهم - وكذلك هو موجود بين علماء الجيل السابق من العامة كالشيخ محمد عبدة والسيد جمال الدين الافغاني ولا زال الاتجاه موجوداً فيهم.

والسيد الذي انتقل الى جوار ربه(1) يعتبر اذكى الناس واعلمهم واعمقهم تفكيراً على الإطلاق، ولكنه ليس هو الوحيد الذي تبنى هذا الاتجاه كما اشرنا.

ومن الظلم لعلمائنا ان نحيطهم جميعاً بهذه الفكرة، وانا شخصياً قلت له: ان بعض علمائنا السابقين كانوا (واعين)(2) كالمحقق الحلي فقال: نعم.

سادساً: ان النقص الاساسي في المجتمع ليس هو النقص (الفقهي) - مهما كان شديداً - بل هو النقص العقائدي من ناحية، والاخلاقي من ناحية اخرى، فانه مع وجود هذا النقص كما هو الآن لا يرجعون الى الفقه الا قليلاًة.

ص: 95


1- يعني به السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره).
2- أي حركيين، وهذا من الاصطلاحات المستعملة في زمن التقيّة.

كما اشرتم في كلامكم، واما لو كان للناس شيء قليل من المستوى المقبول في تلك الحقول لشعروا بالحاجة الى الفقه وقبلوه بتفاصيله احسن قبول.

سابعاً: ان فتوى السيد الخوئي في المصارف وغير ذلك من امثالها يمكن ان تلحظ بعدة ملاحظات:

أ - انها قضاء لحوائج الناس وخاصة اذا كان منهم مؤمنون، فاننا اذا حرمنا ان يطرقوا البنوك فقد اوقعناهم في حرج ومأزق غير قليل، فمن المستحسن للفقيه امام الله تعالى ان يعلمهم الطريقة الصحيحة للإستفادة من هذا المرفق من مرافق المجتمع، وهذا - على المظنون - هو مقصود السيد الخوئي وغيره من اصدار هذه الفتاوى، حملاً لهم على الصحة.

ب - انها تعتبر تنزيلاً للدين الى مستوى الناس بينما ينبغي علينا تصعيد الناس الى مستوى الدين، وقد سبق ان قلت هذا المعنى لكم.

ج - انها - بشكل وآخر - تعتبر تنفيذ او اجازة للوضع الظالم المفروض على البلاد الاسلامية من قبل اعدائه.

د - انها - بشكل وآخر - تعتبر سبباً لاستلام اموال مشبوهة ومجهولة المالك وغير ذلك.. الامر الذي يسبب نتائج اخلاقية واجتماعية مؤسفة، منها: قساوة القلب وتعذر الوصول الى (القلب السليم).

ولعل هناك نتائج اخرى وان شاء الله لا يكون فقهاؤنا ملتفتين الى هذه النتائج، وماذا عليهم ان يفعلوا؟ نعم لو كان بعضهم مستطيعاً لغير ذلك كان واجباً عليه والله يساعده..

ثامناً: يحسن اعادة النظر في المنهج العام الملحق بالمقال وجعله مطابقاً - لو صح ذلك - للمراحل او الحقول التسعة التي ذكرناها فيما سبق ثم اذا شئتم عرضتموها على هذا الضعيف.

تاسعاً: إننا يمكن ان نلحظ الاعجاز الكبير الذي تكفله القرآن الكريم

ص: 96

ومدرسة القرآن المتمثلة في المعصومين (عليهم السلام) في دمج الحقول التسعة جهد الامكان، فقلما توجد في كلماتهم زاوية فقهية الا وفيها موعظة اخلاقية، وقلما توجد في كلامهم زاوية عقائدية الا وفيها موعظة كونية وقلما توجد عندهم زاوية اخلاقية الا وفيها إصلاح نفسي وقلبي وهكذا.

وبطبيعة الحال فان القرآن الكريم على رأس القائمة من هذه الناحية ومن كل ناحية ويمكن التأمل في كثير من الآيات لفهم ذلك بوضوح، هذا مختصراً.

عاشراً: لعل المفهوم من مقالكم - بشكل وآخر - ان تحثوا هذا الضعيف الجاهل على المبادرة الى الفقه الواسع الذي تريدون، وليتني كنت من القادرين، بل عساني استوعب حقلاً من حقوله فضلاً عن المجموع، وبغض النظر عما يعلمه الله تعالى في سابق علمه وهو بكل شيء عليم، وبغض النظر عن الايمان، المسبق بكل هذا المضمون بعمق كما أوضحنا، الا ان هناك نقاط ضعف عديدة تحول دون هذه المبادرة نذكر ما تيسر منها:

1 - انه لا دليل على بقاء هذا الضعيف حياً الى حين انجاز مثل هذا المشروع فضلاً عن إطلاع الناس عليه، الامر الذي يجعله - بعد موته - ساقطاً عن المنفعة تقريباً لأنه من تقليد الميت!!

2 - انه لا دليل على انحسار الليل وطلوع الفجر بحيث يمكن مجرد التفكير في ذلك ولله في خلقه شؤون.

3 - انه لا دليل على وجود القابلية الكاملة عقلياً ونفسياً لأجل ذلك، فانه مهما كان الفرد فانه ينبغي ان يعترف بالقصور والتقصير فضلاً عن كونها حقول موسعة ومصادرها متفرقة.

4 - إنه كما قلنا ليس كل الناس يمكن ان يتحملوا كل الحقائق، فلعلنا

ص: 97

نكتب في شيء قربة الى الله ونقع في الورطة من ناحية اخرى - كما سبق - ولا يطاع الله من حيث يعصى.

الى غير ذلك من المصاعب، ولا يمكن ان يرفعها الا توفيق خاص من قبل العلي العظيم سبحانه وتعالى.

الحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الذين أصطفى.

ص: 98

البحث الثاني: الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

من خلال الموضوع السابق والملاحظات عليه نستطيع ان نحدد النقاط التي يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار بما يلي:

1 - التباين الهائل بين مستويات الناس وقابلياتهم (1)(1) والذي هو امر فطري فلا يجوز النظر اليه على انه عائق لمثل هذه المشاريع.

2 - المفهوم الشامل للعبادة والفقه وتغطيتهما لكل شؤون ونواحي الحياة.

3 - المنهج الملائم الذي يجب سلوكه لارجاع المسلمين الى اسلامهم الحقيقي اذ ان من يحاول ذلك يصطدم بعدم وجود المصادر التي تفيده في هذا المجال عدا القرآن الكريم.

4 - إعطاء الأحكام الشرعية مكاناً بارزاً في الفقه الشامل وتيسير الحصول عليها دون تشويش ذهن القارىء بعناوين لا تدل بوضوح عما يندرج فيها كما لو وضعنا الطهارة في قسم العلاقات الفردية مثلاً والخمس في النظام الاقتصادي وعدم عزلها ككتب وأبواب خصوصاً اذا علمنا ان الاحكام الشرعية هي مدار الحاجة والقاسم المشترك للناس على اختلاف مستوياتهم كما انها تتغير من مجتهد لآخر فيجب مراعاة ذلك لئلا ينعكس أثرها على المشروع ككل (2).

ص: 99


1- هذا التسلسل يشير الى تعليقات السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على أصل البحث وستأتي مجموعة باذن الله تعالى.

5 - إضفاء الروح الحركية على الرسائل العملية التي هي خواء منها الا ما ندر وجعلها اكثر حيوية وتماساً مع حياة الفرد والمجتمع المسلمين.

6 - إن في تشريعات الاسلام ما لو طبق في مجالات الحياة المختلفة لكان فيها الطريق السليم لاسعاد البشرية خصوصاً بعد أن فشلت جميع الاطروحات والايديولوجيات في حل المشاكل المعاصرة التي ينوء تحت ثقل آلامها عالمنا المعذب، ونستطيع ان نؤكد ان هذه النظريات والايديولوجيات هي التي زادت من استعصاء هذه المشاكل وإيصال العالم الى طريق مسدود، علماً بأن الفقه الاسلامي بشكله المعروض الآن لا يفي بتقديم نظرية الاسلام على شكل نظم(1) تدير حياة المجتمع البشري.

7 - وجود احكام شرعية لا تفهم وفق التقسيم الحالي للفقه كما سنشرح ذلك في محله انشاء الله تعالى.

8 - القضاء على النظرة الفردية التي ملكت زمام تفكير فقهائنا حتى عاد احدهم - وهو يمارس ملكته الاجتهادية - يرى امامه الفرد المسلم فقط فيحاول تمكينه من تطبيق نظرية الاسلام ولم يدر في خلده ان كيف ستكون الحالة لو حاول مجتمع مسلم تطبيق نظرية الاسلام في جميع شؤون حياته.

والرسائل العملية المتداولة كافية لبعض النقاط كالنقطة الرابعة ولكنها عاجزة عن استيعاب اكثر النقاط الأخرى، كما لو فكرنا بوضعها على اساس الفقه الشامل فاننا سنصطدم ببعض النقاط كالنقطة الاولى اذ سيدور في خلد العامي ان عليه الالتزام بكل هذا الفقه والا فليس دينه بشيء مما يتسبب في نتائج وخيمة وقد ينهار ويفشل كثير من الناس، ولا يطاع الله من حيث يعصى.).

ص: 100


1- هذا ما برز بعد سنين لدى جملة من علماء الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة تحت عنوان (فقه النظرية).

فالحل المقترح هنا هو التفكير في مشروعين يكمل احدهما الآخر يسعى - بتوفيق الله تعالى وعونه - الى تحقيقيهما معاً.

الأول: تطوير الرسائل العملية (3) بما ينسجم مع النقاط اعلاه وذلك بالاحتفاظ بها ككتب فتاوى أي بشكلها الحالي مع ادخال الاضافات والتعديلات الآتية حيث يتم تناولها بشكل مختصر وواف بالغرض بحيث لا يؤثر كثيراً على الهيكل العام للكتاب والغرض منه، والاصلاحات هي:

1 - عرض اصول العقيدة وادلة مناسبة لها (4).

2 - شرح المفهوم العام للعبادة (5) والمصطلحات الاساسية الاخرى كالتوحيد والالوهية والربوبية وبيان حدود وشروط تحقق كل منها.

3 - تربية ملكة التقوى بالاستفادة مما سنذكره في قسم العقائد إنشاء الله تعالى.

4 - امهات الاخلاق الفاضلة التي يجب التحلي بها والرذائل التي ينبغي اجتنابها ومقدمة في مسالك اكتساب الاخلاق.

تضاف كل هذه الأمور في مقدمة الكتاب، ثم:

5 - إضافة مقدمة مختصرة قبل كل كتاب من كتب الفقه ككتاب الصلاة مثلاً يتناول فيها اهمية تلك العبادة وأثرها في حياة الفرد (6) في النشأتين ودرجات قبولها وتكاملها.

6 - إضافة كلمة (فقه) (7) الى العبادات والمعاملات فتصبح (فقه العبادات) و (فقه المعاملات) او اية خطوة اخرى كمحاولة لتفهيم القارىء تغطية الفقه للعبادات والمعاملات معاً وان في المعاملات عبادة ايضاً وبالتالي تحقيق معنى العبادة الشامل.

7 - إضافة قسم ثالث للكتاب باسم (قسم النظم الاجتماعية) يتناول فيه الجانب المفهومي للعبادات والمعاملات ضمن نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها وذلك:

ص: 101

1 - لأن هناك احكاماً شرعية لا يمكن فهمها في ضوء التقسيم الحالي للفقه كوجوب الصوم على غير المسلم، فلأول وهلة يبدو ان هذا تشريع عابث - والعياذ بالله - إذ ما جدوى فرض واجب ديني على من لم يؤمن بالدين اصلاً ومعروف سلفاً وبالضرورة عدم التزامه به ولكن اذا فهمناها (8) في ضوء النظام الاجتماعي للإسلام وحرصه على توفير الجو الملائم الذي يمكن المسلمين من أداء واجباتهم بدون منغصات علمنا ان الهدف من الحكم هو قطع الحجة على غير المسلم لو اراد التجاهر بالافطار مطمئناً الى عدل الاسلام وانه لا يظلم احداً فأوجب عليه مجاراة المسلمين ما دام بينهم وليفعل في بيته ما يشاء، وبدون هذا الحكم ستجد ضمن المجتمع المسلم من يتناول المفطرات امام الملأ بحجة ان الصوم غير واجب عليه مما يسبب خلخلة في اداء هذه الفريضة المقدسة وكذا حرم الاسلام التجاهر بكل المحرمات في شرعه - وان لم تكن كذلك في شرع فاعلها - كشرب الخمر واكل لحم الخنزير، وبنفس المنظار نستطيع فهم وجوب الزكاة على المشركين، واشتراط الشهود في الطلاق وعدم اشتراط ذلك في المراجعة.

2 - ولأن فصل المنهجين (10) (المنهج الفردي الاجتماعي) ثبت عجزه عن تطبيق نظرية الاسلام بشكلها السليم في بعض الموارد اذ ان هناك احكاماً لا يمكن الالتزام بها الا في ظل النظام الاجتماعي للإسلام.

3 - ولأن المجال الفردي الضيق الذي سلكه الفقهاء اعطى انطباعاً بأن الشريعة ككل فردية وهي انما جاءت لمعالجة وضع الفرد المسلم ولا يمكن الاستفادة منها في مجال قيادة المجتمعات البشرية.

8 - تجاوز الحيل الشرعية خصوصاً بما يمس النظم الاجتماعية لأنها احدى نتائج تضييق نظرة الفقيه للفرد المسلم دون اخذ الجانب الاجتماعي بنظر الاعتبار عند ممارسة اجتهاده، ولأن فيها قبولاً ضمنياً (11) بالنظم غير الاسلامية القائمة والتفكير بدلاً عنها بكيفية تغيير هذه النظم لا تبرير التعامل

ص: 102

معها. مثلاً بالنسبة للبنوك الربوية كان من الممكن التفكير بتأسيس بنك اسلامي (9) اهلي تتبناه المرجعية وتوضع فيه حسابات خاصة بحق الامام والسادة والحقوق الاخرى وحسابات التوفير للناس ويقوم هذا البنك بالمساهمة في مختلف المشاريع الاصلاحية والتجارية والقروض ويدار من قبل خبرات متخصصة وملتزمة ويوضع له دستوره الخاص لعرضه على الزبائن وعندئذ سيعم نفعه على الاسلام والمسلمين ويغني عن النظام الربوي ويحل كثيراً من المشاكل وتصبح المرجعية اكثر تدخلاً في الحياة الاسلامية.

وفي الحقيقة فان هذا المنحى في البحث الفقهي (المنحى الاجتماعي) جدير بأن يعمل العلماء فيه (12) اجتهادهم واستنباطهم خصوصاً بعد ان وصل الاتجاه الآخر في البحث الفقهي ويقصد به عمق المادة قمته منذ عهد الانصاري والآخوند (قدس الله سريهما) وعلى اية حال فان البحث الفقهي في هذا الاتجاه ليس جديداً تماماً ولا انه غريب على العلماء ولا انه باب مغلوق لم يطرق من قبل فهناك جوامع الحديث الغنية بالاحكام الاجتماعية وعلى رأسها العهد الخالد الذي كتبه امير المؤمنين لمالك الاشتر (رضي الله عنه) عندما ولاه مصر وهناك بعض التجارب المتفرقة لعلمائنا الاقدمين وتجارب رائعة لبعض علمائنا المتأخرين، ونود التنبيه هنا الى المحاولات المفيدة لعلماء اخواننا اهل السنة في المجال الاجتماعي للفقه الاسلامي ككتاب (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لإبن القيم الجوزية.

والثاني من المشروعين: وضع تفسير تفصيلي للقرآن الكريم وذلك بتناول الايات الكريمة كمجاميع تندرج كل مجموعة من الآيات تحت عنوان معين وليس بتفسير الآيات حسب ترتيبها في المصحف كما هو المتداول في التفاسير مع شرح واف لكل موضوع وبهذا الاقتراح نلتقي مع

ص: 103

دعوة السيد(1) (قدس سره) لوضع مثل هذا التفسير.

والعلاقة بين هذا المشروع وسابقه ظاهرة اذ ان القرآن خير نموذج للفقه الشامل وتجد بين دفتيه آيات كثيرة تصحر بالدعوة الى تحقيق معنى العبادة الشامل في كل نواحي الحياة، كما انه الكتاب الوحيد القيم على اصلاح البشرية في كل زمان ومكان.

وبالجمع بين المشروعين نستطيع استيعاب كل النقاط المذكورة في بداية البحث وبنفس الوقت نتلافى ما يمكن ان تكون عيوباً لو نفذنا احد المشروعين وحملناه المشروع الآخر على ان يحال القارىء في كل منهما الى الآخر كلما دعت الحاجة الى التفصيل وباختصار نقول ان المشروع الاول لا يتناول تفصيل أي شيء عدا الاحكام الشرعية، اما الثاني فيتناول تفصيل كل شيء عدا الأحكام الشرعية (13).

وفصل المنهجين بالشكل المقترح انما هو كمحاولة لعرض الاسلام الحقيقي ولكن بالتدريج (14) اذ بسبب:

1) الاختلاف الهائل بين قابليات البشر النفسية والعقلية والقلبية.

2) انتكاسة الجاهلية الحديثة الى الحضيض.

فلا بد لأية حركة اصلاحية ان تستفيد من كيفية ظهور الاسلام لأن صاحبه (صلى الله عليه وآله وسلم) واجه نفس المشكلتين أعلاه، وفي الحقيقة فإن هذه المواجهة مستمرة ولا تنحصر بوقت معين وعليه فيجب سلوك نفس طريقة القرآن في هداية الناس ونقلهم من مستنقع الجاهلية الى قمة الكمال السامقة مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) مضموناً: لا تصلح اواخر امتي الا بما صلحت به اوائلها، فالذي تحتاجه الامة لكي تنهض من سباتها هو نفسه الذي احتاجت اليه في بداية الرسالة، وعمل القرآنل.

ص: 104


1- أي السيد الشهيد الصدر الأول.

الكريم والرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) على بثه والدعوة اليه ويمكن حصره بشيئين:

1 - تقديم نظرية الإسلام بشكلها النقي الأصيل الخالي من الشوائب والانحرافات.

2 - تربية ملكة التقوى لأن وجود العنصر الأول لا يكفي لتحريك الانسان بدون التقوى فهو الجسد وروحه التقوى، وكمصاديق نذكر هنا على سبيل المثال والمناقشة اصحاب الجمل الذين كان التزامهم الظاهري بالاسلام وقربهم من صاحب الرسالة بدرجة فتنت عدداً كبيراً من الناس ومع ذلك نكثوا البيعة التي في اعناقهم وتسببوا في سفك الدماء وهتك الاعراض المسلمة بسبب اهوائهم الجامحة ولم يكن ما عندهم من التقوى تكفي لكبح جماح هذه الاهواء الطامحة للخلافة.

ومثال آخر اقرب من المثال الاول واكثر دلالة، روي ان شخصاً سأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن قتل النملة او أهو جائز ام لا؟ فقال له عمر: من أي البلاد انت؟ قال: من العراق؟ فالتفت عبد الله الى اصحابه وقال: الا تعجبون من هؤلاء يقتلون ابن بنت نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) دون تحرج ويستفتون في قتل نملة، فإذن كان هناك ناس ملتزمون بالطقوس العبادية الظاهرية الى هذا الحد (15) ومع ذلك ارتكبوا مثل هذا الذنب العظيم، فبماذا يفسر مثل هذا السلوك اليس لانهم فاقدون لعنصر التقوى والفهم السليم لنظرية الاسلام ومن هنا نستطيع ان نفهم لماذا ركز الامام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء في خطبه على إثارة تقوى الله تعالى في نفوس اهل الكوفة والظهور بمظاهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اذ ان الفرصة فاتت أو لنقل لا يسمح الوقت بشرح وعرض الاسلام الأصيل كمعنى العبادة واتخاذ الارباب من دون الله والفرق بين إمامة الحق وإمامة الطاغوت ونسبة تكاليف عبادة الله الى عبادة الطاغوت ونحو ذلك ولا يبرر

ص: 105

سلوك الكوفيين هذا بسياسة الترهيب المتعسفة والترغيب المغرية اللتين سلكهما عملاء الأمويين واذنابهم لأن هذه السياسة عمرها لم تثن مؤمناً عن عزمه او تزيغه عن طريقه المستقيم فهو - أي المؤمن - كما يفيد الحديث الشريف: اصلب من الجبل لأن الجبل يستقل منه بالمعاول ولا يستقل من إيمان المؤمن شيء، وفعلاً كان هناك نفر غير قليل من الكوفيين تمردوا على هذه السياسة والتحقوا بالركب الحسيني ونالوا شرف الشهادة.

فمثل هذه الحالة تتردى اليها الامة باستمرار وتعود الى جاهليتها وقد أنبأ عن هذه الحقيقة قوله تعالى (وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ان هناك جاهلية ثانية (16) ستعيشها الامة وعندئذ يأتي دور الاسلام لينقذها من جديد اذ الجاهلية ليست فترة زمنية مرت ولن تعود وإن الاسلام ادى دوره في علاجها واستنفذ اغراضه وانما الجاهلية حالة لها مواصفات وسمات متى تحققت اصبح الوضع وضع جاهلية، والمجتمع مجتمع جاهلي، وعلى رأس هذه الصفات اقصاء منهج الله عن الحكم (أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً).

وهنا يتجلى جانب من جوانب اعجاز القرآن وهو خلوده وقدرته الدائمة على قيادة البشرية نحو سعادتها والأخذ بيدها كلما هوت من القمة واخلدت الى الارض واتبعت هواها.

ونشير هنا الى ان مشروع تفصيل القرآن يجمع هدفين:

1 - إنه محاولة علمية بحتة وذلك بتفصيل آيات القرآن الكريم لذا تجده يدرج جميع الآيات القرآنية ضمن الموضوع الذي يحتويها ولا يكتفي بما يعرضه اثناء شرح وتفسير الموضوع.

2 - إنه حركة جهادية ذات مسؤولية مزدوجة.

الاولى: تهيئة القواعد الشعبية التي تؤمن بخط الاسلام الأصيل وتسعى الى تحقيقه في واقعها الحياتي وتتفانى في الدفاع عنه.

ص: 106

الثانية: عرض الاسلام كنظام حياتي متكامل لاسعاد البشرية بدلاً عن النظم الوضعية المتهرئة والهزيلة.

لذا قد يخرج التفسير (17) عن حدود منهج تفصيل القرآن الكريم وعزل الآيات فحسب كما انه من الضروري سلوك طريقه القرآن الإصلاحية بحذافيرها لكن مع مراعاة اختلاف الظروف والملابسات وأولها أننا نتعامل مع ناس مسلمين!! لا مشركين.

وطريقه القرآن في إصلاح ومعالجة مجتمع الجاهلية الاولى كانت بالتدريج وفي اتجاهات ثلاثة تسير معاً:

اولاً: في مضمون الرسالة، فلم يأت الاسلام بالاحكام جملة وإنما تدرّج وهناك اتجاهات اخرى للتدرج في مضمون الرسالة منها الانتقال من الاجمال الى التفصيل والتصريح كتحريم الخمر ومنها: بتهيئة الاذهان والتقديم - قبل تبليغ الحكم - بأشياء وامور تصنع الارضية المناسبة لتقبل الحكم واستساغته خصوصاً في التكاليف الثقيلة كالجهاد والذي يراجع سورة البقرة - وهي اول السور القرآنية في المدينة - يجدها في عدة مواضع تهيء المسلمين وتعبأهم للجهاد والقتال فبلّغ العقائد أولاً وربّى ملكة التقوى (18) فكان ذلك هو الغالب في القرآن المكي أي طيلة السنين الثلاث عشرة الاولى من الرسالة الاسلامية التي قضاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، ثم بلغ الاوامر والنواهي بعد ان هيأ مجتمع المسلمين نفسياً وقلبياً وسلوكياً لقبولها بعين الرضا والتسليم كل في وقته المناسب وفق الإرادة الإلهية، فنجد ان القرآن الكريم لم يتعرض اثناء تبليغه العقائد في مكة الى شيء من التشريعات سوى تلك التي تساعد على تكريس تلك العقائد وتعمقها وتجسدها على واقع سلوك الانسان المسلم كالصلاة والانفاق في سبيل الله اما بقية الاحكام كالصوم والجهاد فقد تركت الى ما بعد تكوين المجتمع المسلم المستقل ذي الاساس العقائدي المحكم في المدينة.

ص: 107

وسنستعرض الملامح العامة للقرآن في قسم العقائد انشاء الله تعالى.

ثانياً: في المدعوين فقد بدأ بابن عمه علي (عليه السلام) وزوجته خديجة وغلامه زيد ثم أمر بانذار عشيرته الاقربين وان يصدع بما يؤمر ثم نقل دعوته الى الطائف فالمدينة فعموم الجزيرة العربية وبعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) استمرت الفتوحات وشملت رحمة الله الاسلام العالمين وهذا التدرج يستفاد منه في ناحيتين:

الاولى: بناء واختيار اتباع من درجات او خطوط مختلفة ومتدرجة حسب قابلياتهم وتجاوبهم مع الرسالة الجديدة ومتطلباتها وبذلك يستطيع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الاستناد الى بعض الخطوط (19) ذات المستويات العليا لمواصلة الرسالة اذا فقد الخطوط التي دونها لأسباب شتى كضعف البناء الداخلي او عدم تكامله او ضعف القابليات او تحت ضغط الظروف المحيطة ونحو ذلك، فبعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتدت اغلب الاجزاء الاسلامية فلولا انه بنى في المدينة مجتمع المهاجرين والانصار لما امكن تأديب هؤلاء وارجاعهم الى احضان الاسلام والدولة المسلمة ونفس هذا المجتمع ذي المستوى العالي نسبياً تعرض لهزة ولي الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ففشل كثيرون منهم في الثبات على خط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقي القليلون الذين استطاعوا بصمودهم وثباتهم على المبدأ إعادة غيرهم شيئاً فشيئاً الى خط الخلافة الشرعي والاعتراف بخطئهم وتقصيرهم العظيمين ولو بعد ربع قرن ونفس التباين هذا كان يحدث في معارك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كانت تنهزم أكثر الخطوط (20) ويثبت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من امتحن الله قلبه للإيمان.

الثانية: تبليغ اكبر قدر ممكن من الاحكام اذ مع التباين الهائل بين قابليات ومؤهلات الناس لا يتمكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من

ص: 108

تبليغ كل الاحكام اذ لا يستطيع جلهم التحمل وقد يكفر بها هؤلاء فبمراعاة هذا الاختلاف يبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً لعامة الناس في المسجد ثم يتحف الخاصة منهم بأشياء اخرى ويضيف للخواص من هؤلاء الخاصة اشياء جديدة مع توصية بان لا ينقل اعضاء طبقة الى اعضاء الطبقة الاخرى الا ما يمكنهم تحمله ومن هنا ورد ما مضمونه - وربما استبدلت الاسماء سهواً - إن علم سلمان لو عرض على ابي ذر لقتله (21)، وإن علم ابي ذر لو عرض على المقداد لقتله، ولو عرض علم المقداد على عمار لقتله، هذا وهم من خواص اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن اركان الاسلام، اذن كيف ستكون الحالة لو نقلنا المقارنة الى بقية الناس ولعل هذا وجهٌ محتملٌ لتفسير قول الامام الجواد (عليه السلام) للسيد عبد العظيم الحسني: لو تكاشفتم لما تدافنتم (22) لأنه سيكفر بعضكم بعضاً.

ومن هنا نستطيع فهم حرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تربية واعداد من يواصل الرسالة بعده ليطمئن على صيانتها وديمومتها حتى جعل الله تعالى تنصيب الحامل الثاني للرسالة اكمالاً للدين واتماماً للنعمة وجعله نقطة النهاية واليأس لمحاولات الكافرين للوقوف في وجه الرسالة او التفكير في القضاء عليها، حيث انتقلت المهمة من الحامل الشخصي الى الحامل النوعي ولم يعد بقاء الرسالة منوطاً ببقاء صاحبها والقيم عليها.

كما مكنت هذه الخطوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبليغ بقية الرسالة مما لم يستطع تبليغه لاسباب او لأخرى وهكذا نفهم معنى وجود حواريين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والامام علي (عليه السلام) يدلون اليهم بعلوم المنايا والبلايا.

ويمكن استيعاب ترتب الناس حسب حصصهم من فهم هذا الدين ودرجات التزامهم به بتشكيل هرمي يبدأ بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في القمة ثم يتسع تدريجياً كلما نزل واي مقطع في الهرم يعطي صورة عن

ص: 109

عمق إيمان اصحابه ونسبة عددهم والتناسب عكسي.

ثالثاً: في وسيلة نشر الرسالة فابتدأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجدال بالتي هي احسن ودرء السيئة (23) بالحسنة ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، والمرحلة الثانية: في تكوين مجتمع مسلم مستقل ومقاطعة الكافرين وعدم التعاون معهم والركون اليهم والامتناع عن موالاتهم وهاتان المرحلتان لا تخصان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو سلوك مطرد لجميع الانبياء (24) عليهم السلام فبدون استقلال الجماعة المؤمنة لا ينزل النصر والفتح، وقصص الانبياء والمرسلين (عليهم السلام) كنوح وشعيب هود ولوط وغيرهم شواهد على ذلك، والمرحلة الثالثة: الجهاد والقتال فلابد للدين من دولة تحميه وتصون اهله وتسعى لنشره ولتحطيم العقبات التي تقف في طريقه وتمنع من إيصال ندائه ولرد العدوان وانقاذ المظلومين ورفع الفتنة سواء كانت بتعريض الافراد للقتل والتنكيل والتعذيب او بإقامة أوضاع فاسدة تفتن اهله او بإيجاد تيارات هدامة ونحو ذلك (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ) وهذه المراحل الثلاث متعاقبة فاولاً الاولى وثانياً الثانية ثم الثالثة.

والآن وبعد ان استعرضنا مراحل واتجاهات التدريج في الرسالة الاسلامية التي تؤخذ بنظر الاعتبار عند تقنين المشروع وبعد ذلك تبقى مسؤولية التدريج في تطبيقه وإيصاله الى الناس (ولكل حادث حديث) رائدنا في ذلك التوجيهات العملية التي ذكرتموها وما تمليه الظروف المحيطة ومنها:

1 - معرفة المربي لمستويات من يربيه والاستفادة من تجاربه الخاصة.

ص: 110

2 - شعور الفرد بالشيء او الاشياء التي تنقصه وسعيه المخلص لتلافيه.

3 - معرفة الحاجة العامة للفرد والمجتمع وما يلائم سدّها دون مضاعفات أخرى.

4 - معرفة الوسيلة التربوية المناسبة ونحو ذلك.

التفسير التفصيلي للقرآن الكريم

في الواقع ان فكرة وضع تفسير تفصيلي للقرآن الكريم جديدة العهد وأول من دعا اليها السيد(1) (قدس سره) بيد انه لم يزد عليها شيئاً في حدود ما سمعت والله العالم ولم يبين الخطوط العريضة (25) للمشروع واتجاهات البحث فيه وحبذا لو تفضلتم على تلميذكم المتواضع فتشرفوه بذلك ولكني سمعت له بعدئذ محاضرات في احد ابواب هذا التفسير الذي اقترحه وكانت بعنوان (السنن التأريخية في القرآن الكريم) وظلت الفكرة تراودني واحلم بتحقيقها ومتابعتها شأني في جميع آثار السيد (قدس سره) ولا فخر، والآن وقد ألجأنا البحث الى اقتراح نفس المشروع نشير هنا الى بعض الخطوط الرئيسية التي وضعناها اصلاً استجابة لدعوة السيد (قدس سره) اما البقية فستتضح لمن ينفذ المشروع - بتوفيق الله وعونه وتسديده - عندما يقوم باستعراض الآيات الكريمة وعزل مجاميعها.

1 - المدخل الى تفسير القرآن:

وفيه خلاصة علوم القرآن (لوجود عدد من الآيات بشأنه فيكون من صلب البحث)، علم التفسير: تأريخه وأساليبه وأصوله، شرح الطريقة الجديدة المتبعة في هذا التفسير.

ص: 111


1- أي السيد الشهيد الصدر الأول.

2 - التفسير الوجيز للقرآن (26):

وفيه شرح مجمل لمفردات القرآن لأن المعنى الاجمالي لا غنى للقارىء عنه ولو تركنا تفسير كل آية الى محلها من التفصيل لأُصبنا - قبل القارىء - بالتخبط والتشويش، وبهذه المحاولة يستطيع القارىء الرجوع الى محل الآية في هذا التفسير ليفهم المعنى الاجمالي للآية ويترك تفصيلها الى المحل المناسب.

3 - أ - القرآن وظهور الرسالة الاسلامية:

يتناول فيه اتجاهات التدريج السابقة مع شرح لها ويحال القارىء كلما احتاج الأمر الى التوسع الى الاقسام الخاصة بها كقسم العقائد والشريعة ونحوها.

ب - قسم العقائد وسيأتي توضيحه إنشاء الله:

4 - قسم الاخلاق وسيأتي توضيحه إنشاء الله.

5 - قسم الشريعة وسيأتي توضيحه إنشاء الله.

6 - ابواب متفرقة، مثلاً:

أ - قصص الانبياء: تسبقها مقدمة في النبوة (عدا جانبها العقائدي) وتنزيه الانبياء ومناقشة الآيات المتشابهة في ذلك، القصص في القرآن، القصص في الروايات...

ب - أحداث تأريخية.

ج - جوانب من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

د - السنن التأريخية (ويمكن تناولها في قسم العقائد).

ه - فهرس او دليل (27) للآيات القرآنية لتسهيل الحصول عليها من قبل القارىء.

إن تناول الفقه الشامل بالطريقة اعلاه - اعني طريقة تفصيل القرآن - هو من قبيل (إياك اعني واسمعي يا جارة)، أي إننا نسميه تفصيل القرآن

ص: 112

الكريم ولكن نقصد به وضع دليل سلوك المجتمع المسلم على اساس الفقه الشامل لتغطي كل حياته، فالذي يفهم - بتوفيق الهي - هذه الاشارة ويسعى لتطبيق الاسلام في كل شؤونه يجد في الكتاب بغيته دون ان نحمِّل جميع الناس جميع ما في الفقه الشامل حيث يظل احدهم على مراجعته لكتب الفتاوى، والذي يريد الله تعالى هدايته يطلب المزيد في كتاب تفصيل القرآن ليسلك نفس الطريق الذي سلكه الصحابة الكرام فاصبحوا خير جيل انجبته البشرية وسيساعدنا في ذلك ان كلاً من المشروعين - أي الرسائل الفقهية المطورة وتفصيل القرآن الكريم - يشير الى الآخر كلما دعت الحاجة وتوفرت المناسبة، وسيزداد عدد الذين يفهمون هذه الحقيقة بالتدريج حتى تحين فرصة امكانية تطبيق الفقه الشامل وعرضه بشكل مباشر.

وهذه الطريقة اعني التكلم بشكل اجمالي يتيح لعدد من الناس فهم المراد دون تعنيف ولوم الآخرين ثم التبليغ بشكل اكثر تصريحاً فيزداد عدد الناس وهكذا الى أن يصرح الشارع المقدس بالحكم بوضوح وعندئذ تقام الحجة على الجميع، اقول وهذه الطريقة تحتمها الظروف وطبيعة الرسالة والناس وهي معروفة في القرآن ولها نماذج كأسلوب تحريم الخمر فقد تدرج في بيان الحرمة ولم يكن هذا التدرج بمعنى نقل الحكم من الاباحة الى الكراهة الى التحريم كيف والمشركون قبل المسلمين يعرفون عن هذا الدين انه يحرم الخمر كما يتضح من قصة مجيء اعشى قيس الى مكة لكي يؤمن بالاسلام وصد قريش له عن هدفه، وانما كانت طريقة الاسلام بعرض حكم التدريج بشكل اجمالي جداً يتوصل اليه مَن نوّر الله قلبه بالإيمان ثم تدرج في التصريح بالحكم حتى جهر بالتحريم بشكل واضح يفهمه الجميع.

فبهذه الطريقة (28) لعرض الفقه الشامل يستطيع المتعمق فهم المدلول العام للعبادة والفقه ويسعى لتحقيقه في حياته ويبقى العامي على التزامه الساذج وبينهما درجات، ويساعد ذو كل درجة غيره على الارتقاء (أَنْزَلَ مِنَ

ص: 113

اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (29).

ومن حسنات هذه الفكرة عدم تعريض مثل هذا المشروع الضخم - مشروع تفصيل القرآن الكريم - للبوار وعدم تغيره بتغير الفقهاء والمجتهدين لأن احكامه الشرعية سوف لا تتدخل في الفروع التي هي مظان الخلاف وانما تتناول اصول الاحكام الشرعية المتفق عليها، وسيكون المشروع الآخر - الرسائل العملية بشكلها الجديد - مسرحاً لاجتهادات الفقهاء والعلماء خصوصاً في المنحى الجديد المقترح.

ويمكن ان نضع الهيكل العام لتفصيل القرآن الكريم بالشكل التالي:

القسم الاول: قسم العقائد: وقد سار القرآن - خصوصاً المكي منه - بأربعة خطوط متداخلة وتسير معاً:

1 - إقامة الحجج لاثبات العقائد الاسلامية الاساسية كالتوحيد والنبوة والمعاد ثم ما يتفرع عنها، ويراعى في نوعية الحجج والادلة مناسبتها للعصر (30) وابتعادها عن الترف الفكري الذي كان حصيلة الفراغ الذي عاشه المجتمع الاسلامي في عصر ما بعد صدر الإسلام، وخير الادلة تلك التي تثير كوامن فطرة الانسان وهي الطريقة التي سلكها القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذا سمي (صلى الله عليه وآله وسلم) معلماً ومذكراً، فهو معلم لأنه يعلم اشياءً جديدة، وهو مذكر لأنه يبعث من زوايا النسيان والاهمال الفكري الامور التي اودعها الخالق عز وجل في شريط فطرة مخلوقاته، وفي ادلة القرآن ما يكتفي به لأثبات ذلك، فلإثبات وجود الله تعالى هناك دليل، ابداع الخلق وإتقان الصنع وحكمة الخالق وتعتبر هذه اشياءً تعليمية اما التذكيرية فقد لفت الانتباه الى النعم الالهية وعدد قسماً منها، وهو بذلك يسلك طريقاً لكسب الناس الى الايمان بالله وذلك بالاعتماد على نقطة يتفق عليها الناس على اختلاف عقولهم وهي وجوب شكر المنعم ولما كان الله

ص: 114

تعالى هو المنعم الحقيقي سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة إذن لابد من عبادته وحده.

كما بنى دعوته للإيمان بالله وتوحيده وتقديم العبادة له وحده على جملة امور اخرى يؤمن بها الناس حسب فطرتهم، منها إن الانسان بطبيعته يميل الى الالتجاء الى الكامل لأنه يشعر بالنقص ولما كان الله تعالى هو الكامل الحقيقي فلابد من عبادته ونبذ سواه ممن لا يمتلك هذه الصفة، وأثار صفات اخرى كالغنى المطلق والسببية الحقيقية للرزق والخلق وكل ما في الكون، وكذلك فمن طبائع الانسان دفع الضر عن نفسه، ولما كانت كل الالهة التي يعبدونها من دون الله تعالى لا تضر ولا تدفع ضراً إذن لابد من الالتجاء الى كاشف الضر الفعلي وهو الله تعالى بل هم يلتجأون اليه - وإن لم يؤمنوا به - عند تقطع الاسباب كتعرضهم للخطر في البحر (فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ).

وهكذا في اثبات العقائد الاخرى كما استدل على ضرورة بعث الانبياء بالحاجة الى رفع الاختلاف بين الناس وقصور العقل البشري عن التصدي لذلك.

وتتدرج الادلة - في المشروع - حسب متانتها وبعد غورها، فأولاً الادلة الظاهرية الاعتيادية ثم الآيات الآفاقية والانفسية.

كما تختلف (31) الهداية الالهية باراءة هذه الآيات والكشف عن اسرار ملكوت السماوات والارض تبعاً لدرجة القرب من الله تعالى والزلفى لديه حتى يصل الانسان الى درجة اليقين، قال تعالى: (وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).

2 - ابطال حجج وشبهات (32) المعارضين للعقائد اعلاه والمفكرين لها لتحصين المسلمين من الاغترار بأباطيلها ولتطمئن قلوبهم.

ص: 115

3 - توضيح المفهوم العام للمصطلحات الاساسية في الاسلام كالربوبية والعبودية والالوهية والوحدانية وانها شاملة لكل نواحي الحياة وشؤونها وانهم تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة على حد سواء ولا تقتصر على الطقوس العبادية التي هي شكل من اشكال العبادة فحسب ولهذا السبب عارضت قريش الرسالة منذ البداية لانها فهمت من كلمة التوحيد انها اعطاء كل سلطة لله تعالى فهي اذن ثورة على نظم حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولو كان الاسلام مقتصراً على تقديم الطقوس العبادية لله وحده لما عارضت قريش الرسالة ولما نصبت العراقيل في طريقها فقد كان بين ظهرانيها موحدون احناف يقولون بالتوحيد ويؤدون مراسيم العبادة للإله الواحد ولم تنبس قريش ببنت شفة في معارضتهم لانهم لم يعطوا نظرية التوحيد حجمها الذي اعطاه إياها الاسلام.

4 - التركيز على آيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب من خلال مشاهد القيامة وما بعد الموت والاتعاظ بالامم السابقة والاعتبار بهم فتتربى بذلك ملكة التقوى والذوبان في الدين حتى يصبح المنظار الذي يبصر به الانسان كل ما حوله والمعيار الذي يعرف بواسطته قيمة الاشياء.

وقد ادى القرآن المكي هذه المهمات كلها حتى هيأ المسلمين (33) لما ينتظرهم من احكام وتكاليف ثقيلة فنجحت التربية الالهية هذه وخلقت جيلاً فريداً في التاريخ ذاب في الاسلام وحب الله تعالى حتى لم يعد يرى كيانه ذا بال قبالة طاعة مولاه واصبح يرى الله تعالى في كل شيء.

وبادامة التفكر في الامور السابقة (النقاط الاربعة اعلاه) وبالاستعانة بتطبيق القسمين التاليين (أي الاخلاق والشريعة) - كل حسب درجته ومرحلته إذ ان هذه الاقسام الثلاثة متداخلة وتسير معاً - يصل الانسان الى قمة الحكمة النظرية (34) بانشراح القلب وبلوغ مرحلة اليقين او مقام التوحيد الخالص الذي اخبر تعالى عن ندرة من يصل اليه فقال (وَ ما أَكْثَرُ النّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ

ص: 116

بِمُؤْمِنِينَ) وهذه القلة من المؤمنين غير خالصة الايمان الا القليل حيث قال تعالى: (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ) وممن وصل الى هذه الدرجة امير المؤمنين وسيد الموحدين الذي قال في وصف يقين اهلها (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً).

وهناك نقاط اخرى عالجها القرآن المكي قد تبدو العلاقة غير واضحة بين بعضها وبين قسم العقائد ولكن الذي يحدونا على وضعها فيه أمران:

1 - معالجة القرآن المكي لها بنفس الوقت الذي قام فيه بعرض العقائد الاخرى وقد بنينا منهجنا على اساس الاستفادة من منهج القرآن لارجاع المسلمين الى احضان اسلامهم الأصيل.

2 - كون اغلب الآيات في هذه النقاط عبارة عن نظريات وقواعد يضيف الايمان بها والاعتقاد بمفاهيمها الاهداف التي جعلناها عناوين لها، فإذن هي لا تفقد خيط الاتصال بقسم العقائد، ومن هذه النقاط:

أ - تخفيف الاعباء النفسية على صاحب الرسالة بسبب ما يواجهه من مصاعب وتحديات اثناء تأدية واجبه وسكب الطمأنينة والسكينة على روحه والمؤمنين به فتكون الآيات القرآنية بلسماً يشفي جروح وآلام هذا الطريق الشائك.

ب - مواجهة الشبهات والاستفسارات والأسئلة العامة التي تستجد خلال اداء الرسالة سواء بحسن نية او لإحراج صاحب الرسالة وكذا مقاومة المشاكل الفكرية التي يثيرها اعداء الرسالة لخلخلة إيمان المجتمع المسلم.

ج - السنن الالهية في الفرد والمجتمع (سنّة الاستدراج، الإملاء والإمهال، علاقة الرزق بالاستغفار، عذاب الاستئصال،...)

د - قواعد وكليات التصور الاسلامي وهي مجموعة النظريات والمفاهيم التي ينظر من خلالها الشخص المسلم الى الوجود والاحداث التي تكتنفه وكل ما حوله وهي تضم فيما تضم بعض نظريات التوحيد والعدل

ص: 117

والسنن الالهية والتأريخية، ونظريات اخرى كالتسليم للقضاء الالهي (ومن امثلتها: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ... وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ (3(5)..) وقد يمر جزء من هذه الآيات ضمن الاقسام السابقة ولكن لا بأس بادراجها هنا مرة اخرى لتكوِّن مجموعة واحدة ولتصبح بمجموعها منظاراً يرى به المسلم كل ما حوله.

ه - عرض الامور الغيبية كالملائكة والعرش والكرسي ونحو ذلك.

القسم الثاني: قسم الأخلاق، ويشمل:

1 - علم الاخلاق المشتمل على التحليل النظري لعيوب النفس وملكاتها.

2 - الجهد او الجهاد (36) العملي لتربية النفس وتكاملها في الطريق الحق وهو الجهاد الاكبر ويسمى طريق عرفان النفس ومسالك اكتساب الاخلاق.

3 - المعارف العليا والكرامات التي يحصل عليها الاولياء والصالحون مما هو خفي عن غيرهم.

القسم الثالث: قسم الشريعة: ويكون على جانبين:

أ - الجانب التخصصي (37): وتتناول فيه الاحكام الشرعية من حيث الوجوب والحرمة والندب والكراهة والتخيير في العبادات، والصحة والفساد في المعاملات وهو ما يسمى (فقه القرآن) وذلك بالتعرض لأصول المسائل الشرعية مما هو متفق عليه بحيث يعد رأياً للإسلام والقرآن لا رأي المجتهد على ان تترك تفاصيل المسائل للرسائل العملية وكتب الفتاوى لأن لكل مجتهد رأيه واستنباطه كما هو متداول الآن بعد ادخال الاصلاحات المقترحة.

ب - الجانب المفهومي: حيث لا تتناول تعاليم الاسلام كأوامر ونواهي وانما تدرس من حيث اثرها في سلوك الفرد والمجتمع (38) ودورها في

ص: 118

اسعاد البشرية والأخذ بيدها لانقاذها من مستنقع الجاهلية ورفعها الى مستوى خلافة الله تعالى في الارض، فإذن لا يوجد هنا عنوان عبادات ولا معاملات وانما ينتظم كل شيء حسب موضوعه ومفهومه الاجتماعي، فالخمس من الناحية التخصصية عبادة وهو من الناحية المفهومية في النظام الاقتصادي والزواج في المعاملات تخصصياً وفي النظام الاجتماعي مفهومياً وهكذا، وننبه هنا الى انه يمكن تجاوز البحث في الجانب المفهومي في مشروع تفصيل القرآن بناءً على تناوله تفصيلاً في الرسائل العملية المتطورة، وعلى اية حال فإن هذا ونحوه يحدد محل تناوله وعدمه تفصيلاً واختصاراً بناءً على العلاقة العامة بين المشروعين وهي ان ما يفصِّل هنا يختصر هناك وما يفصّل هناك يختصر هنا وهناك احكام تخص احد المنهجين دون الآخر الا بعلاقة بعيدة كالتسعير والتداول والتوزيع التي تخص النظم الاجتماعية فيؤخذ ذلك بنظر الاعتبار.

والخطوط العريضة للجانب المفهومي لتعاليم الاسلام والقرآن يمكن ان تكون كالآتي:

اولاً: التنظيم الداخلي للمجتمع المسلم:

1 - العلاقات الفردية بين الانسان وخالقه وسلوك الانسان (الطهارة، والصلاة، الصوم،...)

2 - النظام الاقتصادي (كالزكاة، الخمس، المكاسب،...).

3 - النظام الاجتماعي (الزواج والطلاق، الارث، تنظيم الأسرة،...).

4 - النظام السياسي (النظام الداخلي للحكومة وبضمنه الشؤون الادارية و العسكرية والصحية والعامة..)

ولا نغفل هنا الترابط بين تعاليم الاسلام وانظمته وهو احد معجزات الاسلام فالصلاة بين الفرد وخالقه لكن لها الاثر الكبير في النظام الاجتماعي وهكذا..

ص: 119

ثانياً: التنظيم الخارجي للمجتمع المسلم:

1 - علاقات المسلمين كفئة مع الفئات الاخرى كالمعاهدين والمتحالفين والمحاربين.

2 - العلاقات الدولية بين الدولة المسلمة والدول الاخرى.

ثالثاً: التقويم والصيانة والضبط:

1 - الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لضمان سلامة التنظيم الداخلي.

2 - الجهاد لتسيير النظام الخارجي.

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 120

جواب الشهيد الصدر (قدس سره)

بسم الله الرحمن الرحيم

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ وصلى الله على عباده الذي اصطفى آلله خيراً ما يشركون، السلام عليكم وعلى جميع من تحبون ورحمة الله وبركاته.

(وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أخي في الله سبحانه ووليي فيه عز وجل، ادام الله توفيقاته عليك كما تحب ويحب وجنبك سوء الفتن وشرور طوارق الليل والنهار واتم نورك وزادك بسطة في العلم وجدارة في العمل انه ولي كل توفيق.

مولاي: عندما انقطعت رسائلك بل بحوثك وافاداتك فكرت قليلاً ثم ارجعتها الى بدء العام الدراسي الذي يشغل ولا يمهل، وبخاصة بعد ان كان الهدف منه شرعياً يقصد به ما انت اعرف به من تقليل الظلم وبث العدل وقضاء حاجة المحتاجين والعطف على المنكوبين - اينما صار الفرد وحيث حصل -.

ولكن ورود افاداتك من جديد - وهي وفيرة كماً وكيفاً - دلني على ان الرجل الهادف يستحيل ان يتخلى عن هدفه او ينساه او يتغافل عنه حتى ولو في احلك ظلمات الدنيا ودهاليزها وبلاياها، هذا ولكن - يا حبيبي - ينبغي ان تجعل للتقية في فكرك مجالاً فانها حصن المؤمن والجنة الواقية له من كل مكروه، فإن مثل هذه البحوث كانت متداولة في الستينات حين كان النسيم وافراً والحر متحملاً واما الآن فنحن لعلنا اولى من الامام الحسن المجتبى

ص: 121

(عليه السلام) بالتقية والهدنة وان لم نكن اولى فمثله، فاننا اضعف ناصراً واقل عدداً، وان كان في الحديث بما مضمونه: خف من لا يجد عليك ناصراً الا الله: الا ان الله بنفسه امر بالتقية على لسان اوليائه عليهم السلام.

ولعلي اكون في هذا كناقل التمر الى هجر، ولعل كل كلماتي في شقشقة من يدري؟!

مولاي: انا لا استحق كل هذا الثناء العطر الذي غمرتني به وشملتني له، وانما هي عين الرضا التي لا تبصر العيوب، يقول في الدعاء: ولو اطلعوا على ما اطلعت عليه - مني اذن لرفضوني وطردوني ولما انظروني - بالمضمون - وفي القرآن الكريم: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) ولا يخفاكم ما في الحديث: (إن الله لا ينظر الى صوركم ولكن ينظر الى قلوبكم)، فالجسم والعلم والتفكير ونحوها كلها صورة، وانما المهم هو القلب السليم الخالي من الدرن الذي يستحق ما عند الله سبحانه ويكون مؤهلاً لرحمته، وهو وحده العليم بما في هذا القلب من ادران واخلاط.

وهذا الذي اعربت عنه متفضلاً إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اخلاصك وحرصك على الايمان والمؤمنين، ولكن تبدو لي هنا شقشقة اخرى وحاصلها: انني - مهما اكن في ذاتي - لا ينبغي ان تنظر الي من الزاوية الايمانية المحضة أي - اذا كنت اهلاً لذلك - ان اكون طريقاً الى العلم ومن ثم الى الله سبحانه فقط، ولست انا هدفاً بأي شكل من الاشكال، والا فسأصبح صنماً يدعي الناس انني اقربهم الى الله زلفى، ليس هذا هو روح الايمان، ونحن لا نطوف حول الكعبة لانها كعبة، ولا ينبغي ان نزاحم العلماء بركبنا لانهم علماء، بل كل ذلك لاجل الواحد الأحد الفرد الصمد غاية القاصدين وأمل الآملين، وهذا ليس كلاماً معك فقط بل هو كلام لي حتى انظرك انت بنفس المنظار، بل ان انظر نفسي بالمنظار ذاته ايضاً - على اختلاف في الفهم والمحتوى طبعاً -.

ص: 122

واما الفجر الذي تشير اليه في رسالتك، والذي اود ان افهم منه المعنى المعنوي فهو الفجر الذي يشرق في النفس والضمير قبل ان يشرق على المجتمع، والله سبحانه اخبر بعباده.. ومن المؤكد ان التربية الايمانية في ظلمات الدنيا وصعوباتها اقوى وأأكد وارسخ من التربية مع الدلال والترفيه، فينبغي ان نكون كما قال في الدعاء: اللهم اعطني من الرضا بقضائك والتسليم بقدرك بحيث لا احب تقديم ما اخرت ولا تأخير ما قدمت.. كيف ونحن فهمنا بعض وجوه الحكمة في ذلك، فلماذا الضيق، وهل تطبيق الاحكام الاجتماعية العامة بين الناس الا لطاعة الله، فاذا توفرت طاعته تحت ظروف الظلمات، بل بشكل الطف وأوكد.. فذلك هو المطلوب.

واما ما اشرت اليه في الرسالة من الرجوع الى الآخرين، ففي حدود ما يمكن بيانه: ان فيه فائدة وفيه ضرر علي وعليك، اما ضرري: فهو فقدان الطافك وعواطفك وفوائدك والساعات التي اقضيها في الافكار اللطيفة والانظار المعمقة التي احبها واشتاقها، واما فائدتي، فهو تخفيف كاهلي من الحكم الشرعي الذي يجعله السؤال في وجوب الجواب، فإن صياغته بالشكل المناسب متعب امام الله سبحانه وما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد.

واما فائدتك انت فهو الاطلاع على وجهات نظر متعددة وافكار مختلفة تستطيع بعدها أن تأخذ الزبدة وترجع بالمخيض وتميز بشكل ادق اللب من القشور، بل تميز الى جنب ذلك مستويات الناس ومقدارهم واشكال افكارهم واجوبتهم.

واما الضرر المحتمل لك في ذلك، فهو ما تشير اليه انت ضمناً في الرسالة وهو انه لابد من السير على طريق معين وعدم الحياد عنه، ولا يوجد مع شديد الأسف ممن يشار اليه في هذا الطريق غير هذا العبد الحقير كاتب هذه الحروف، ولعل من مستأنف القول لك وامثالك انه لا يجب الاغترار

ص: 123

بالمظاهر الحوزوية كالهندام وجمال المنطق وعمق المجاملة، بل حتى الفضيلة بل والاجتهاد في ان نتوقع ان نجد لدى الفرد ما يفيد ويجدي بالمعنى الذي انت تتوقعه من الفائدة والجدوى ولو كان لديهم ما يفيد لأفادوا به انفسهم ولما اسفوا واسرفوا حتى جلبوا لنا انواع البلاء، ولكنك على أي حال اخبر بمن ترجع اليه، كائناً من كان، وانا في خدمتك، وليس الامل مفقوداً كما قالوا لك اذا أفاض الله علينا وعليكم حفظه ورحمته.

هذا واود ان اشير استطراداً الى بعض المصادر التي يمكن لك الرجوع اليها، منها التعليق الذي كتبه هذا الضعيف على الفتاوى الواضحة، وخاصة ما يرجع الى مقدمات الكتاب والبحث في آخره عن العبادات فان الاصل مع التعليق سيكون مفيداً لك جداً، ولا اعلم مقدار اطلاعك عليه.

ومن المصادر: مجلة (علوم) العراقية فان فيها جانبين لا غنى عنهما للمؤمن: احدهما: عرض القوانين والظواهر الدقيقة والمعمقة للكون المنظور: في السماء او في الارض بشكل تظهر فيه قدرة الخالق وحكمته وهي الآيات الآفاقية.

وثانيهما: ما تسميه المجلة بالباراسا يكولوجي، وهو الفعاليات التي قد تصدر من الافراد خارجاً عن القوانين الطبيعية المسطورة في كتب الفيزياء والكيمياء والفلك، والتي تعزى عندهم الى قوى كهرومغناطيسية يملكها الفرد، وتعزيء حقيقته الى القوى النفسية والروحية واشكال التصرف الميتافيزيقي الموهوب له من قبل العليم القدير، ومثل هذه الامور ليس فقط تدل على وجوده تبارك وتعالى وتضرب المادية الاوربية على فمها، بل تدل على حكمته وعلمه ايضاً، وتدل ايضاً على رحمته وسعة عطائه إذ اعطى البشر عموماً قوى خارقة جبارة لا يعلمها الا هو ولا ينفتح باب التصرف من خلالها الا عندما يريد هو جل جلاله، فان كان الفرد مؤمناً كانت حجة له وإن كان

ص: 124

كافراً او فاسقاً كانت حجة عليه.

اقول: ولهذه المجلة في كل عدد بحثٌ كاملٌ عن هذا الموضوع ولها في عددها الأخير(1) (ملفاً) كاملاً عن ذلك يحتوي على عدد من البحوث.

هذا واود ان اشير الى انني التزمت الى الآن ان ارجع اليك ما ترسله لي من الكتابات حتى الرسالة التي تخاطبني بها، بالرغم من ان اللياقة الادبية تقتضي الاحتفاظ بها، وذلك لهدفين، احدهما: التقية التي انت اعلم بها، وثانيها: ان يتيسر لك تطبيق رسالتي هذه ونحوها على رسالتك فيتضح ان هذا الكلام جواب لذلك الكلام وهكذا، وهذا مهم في نظري.

واود ان اشير بهذه المناسبة للفرق بين الخوف والتقية فانك الآن ممن يتحمل هذا المعنى بفضل الله سبحانه، فان الخوف حالة نفسية والحالات النفسية (لا عقل لها)، بل ولا ايمان لها فهي موجودة عند طاعة الله سبحانه وعند عصيانه، واما التقية فهي تنفيذ حكم الله سبحانه سواء كانت هناك حالة خوف او لم تكن، ومما يدل - مفهومياً - على الفرق بينهما انه قد يرتفع حكم التقية فيكون الخوف غير جائز بل غير موجود في نفس المؤمن، وتحدث هناك (آيات) الشجاعة مثل كلمة الحق عند سلطان جائر وكموقف سعيد بن جبير امام الحجاج وثورة الحسين السبط سلام الله عليه، كما يدل عليه مفهومياً غيبة الامام المنتظر عليه السلام اذ لا يحتمل في حقه (الخوف) على النفس من الظالمين مع انه يقول بالمضمون: وأمرني ابي ابو محمد بالتقية فانا في التقية الى ان يأذن الله بالفرج، وهي مروية في تأريخ الغيبة الصغرى، ولتفصيل الكلام عن ذلك مجال آخر.

هذا وقد ورد في نهاية الرسالة التماس الدعاء واود ان اعلق عليه6.

ص: 125


1- سنة 1986.

بأمرين: احدهما: ان الفم الذي تفتح له ابواب السماء ليس هو فم كفمي ولا لهجة كلهجتي ولا قلب كقلبي، بل يحتاج توجه واخلاص وسلامة اكبر مما ههنا، والله اعلم بما يهب ويمنع، وثانيهما: ما اشار اليه بعضهم(1) في احدى خطبه (هناك) بما مضمونه من ان العبد لا ينبغي ان يقترح شيئاً على الخالق سبحانه كأن يقول: هذا اريده لانه من مصلحتي بل يقول له: انت اعلم بمصلحتي فاعطني ما انت اعلم به مني، وهذا - بحسب فهمي - يشمل الامور الدنيوية والمعنوية معاً، اما الامور الدنيوية فلأن توفرها قد يوجب البعد عن الله سبحانه.

واما الامور المعنوية فلأن توفرها قد يوجب صعوبة التحمل مما يوقع الانسان في صعوبة معنوية في كلا الحالين.

هذا ولا ينبغي ان اوصيك مجدداً الى ان هذه المعاني وغيرها يجب ان تصان عن غير اهلها والا يكون كلُ من المتكلم والسامع متورطاً امام الله سبحانه كما اشرنا في كلمات سابقة.

هذا وارجو من الله سبحانه ان يصونك بحفظه ورعايته من جميع الجهات ومن جميع الآفات وفي جميع الاوقات انه ولي كل حسنة وكل توفيق وهو على كل شيء قدير.

فهذه جواب الرسالة وستأتيك بحوثك بعد ذلك ان كتب الله لي العمر والتوفيق.

والحمد لله رب العالمين.ا.

ص: 126


1- هذا المصطلح نستعمله للإشارة الى قادة الجمهورية الاسلامية في ايران وعلى رأسهم السيد الخميني (قدس سره) وهو المقصود هنا.

تعليقة الشهيد الصدر (قدس سره) على بحث:

الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها

بسم الله.. توكلت على الله.. ولا حول وقوة الا بالله...

1 - قول سماحة الشيخ اليعقوبي (التباين الهائل في مستويات الناس وقابلياتهم...).

وقع في يدي في يوم من الايام كتاب فيه قصص جنسية يقول مؤلفه في المقدمة: أن على الاحداث والمراهقين ان لا يقرأوها؟! ولإن استطاع هذا المؤلف ان يوصي بهذه الوصية فنحن - لا انت ولا انا - نستطيع ان نوصي بها لانه (لا امر لمن لا يطاع) بان نقول مثلاً:

إن (كذا) من الناس يجب ان يمتنعوا عن قرائته، بل سيكون ذلك - لو امكن - اغراء اكثر بالاطلاع.

والمجتمع العالمي اليوم - كواقع لا محيص عنه - يحتوي على مختلف المستويات، من اقصى اليمين الى اقصى اليسار ومن اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، ويجب علينا - على كل تقدير - ان نأخذ هذا التباين بنظر الاعتبار.

إن القرآن الكريم ومدرسته المعصومة هي التي استطاعت ان تجمع بين الأمرين فتعطي للعامة ما ينفعهم وللخاصة ما يكملهم من دون إيجاد (مضاعفات) على أي منهم بلطف الله وحسن توفيقه، ومع ذلك لم يخل هذا الاتجاه من طاعنين ومغرضين ومعاندين، فكيف بنا نحن الضعفاء العزل.

ان ما يكون في مصلحة ذلك كنقطة قوة عدة أمور منها:

ان كل فرد - قارىء - انما يفهم كلامنا بمقدار مستواه.

ومنها: انه ليس كل فرد يرغب بالحصول على هذه الافكار.

ص: 127

ومنها: انه ليس كل فرد يرى نفسه محتاجاً الى هذه الافكار او يرى نفسه مصداقاً لها، ونحو ذلك، وهذا وان كان تحديداً للقارىء الا ان فيه نقاط ضعف كما تعلمون فإن من لا يرغب بالكتاب قد يكون ممن يكره شيئاً وهو خير له، كما ان العكس صحيح.

الا انه مع ذلك لا ينبغي ان يعيق ذلك عن هذه المشاريع اذا تحددت بالحدود المعقولة وكتبت بحكمة وتروي وتجنبت المضاعفات مهما امكن.

2 - قول سماحة الشيخ: (ان الاحكام الشرعية هي مدار الحاجة والقاسم المشترك للناس على اختلاف مستوياتهم كما انها تتغير من مجتهد لآخر فيجب مراعاة ذلك لئلا ينعكس اثرها على المشروع ككل...)

انعكاس اثرها على المشروع، له مستويان نظري وعملي.

اما على المستوى النظري فالاختلافات قليلة التأثير حيث يمكن كتابة الفقه الكامل على فتوى أي مجتهد تقريباً او - بتعبير آخر - على فتوى كل (اعلم).

واما على المستوى العملي فهي عميقة التأثير وحسبنا ان نرى ان مسألة واحدة في الفقه قد تغير حياة الفرد بل حياة المجتمع كقولهم: لا يجوز تقليد الميت ابتداءً، او ان المتنجس الثاني لا ينجس.

او لا تجوز الحيازة للغير (بدون إذنه ونحو ذلك، فكيف بالفقه الشامل الذي يحتوي على عشرات المسائل من هذا القبيل، وللتفلسف في ذلك مجال واسع.

3 - قول سماحة الشيخ: (فالحل المقترح هنا هو التفكير في مشروعين يكمل أحدهما الآخر: اول: تطوير الرسالة العملية...)

يمكن الاستفادة في هذا الصدد من مقدمة الفتاوى الواضحة، فانها اعطت منهجاً جديداً لكل الفقه الذي كان المؤلف عازماً على تطبيقه في

ص: 128

رسالته العملية تلك، الا ان للتغيير والتفلسف فيها مجالاً طبعاً.

4 - قول سماحة الشيخ: (... والاصلاحات هي: 1 - عرض اصول العقيدة وادلة مناسبة لها...).

لا اعلم مقدار اطلاعكم على ان بعض علمائنا الاقدمين قد فعل شيئاً من ذلك كصاحب المعالم وغيره حيث يبدأ بالعقائد ثم باصول الفقه - حسب ما كان في ذلك الحين - ثم يدخل في الفقه ثم ينتهي - احياناً - باجازات الروايات وتفصيل المشايخ الذين اجازوه.

والمهم الآن ان هذا طبعاً يكون على شكل سلسلة كتب او اجزاء وليس كتاباً واحداً بطبيعة الحال.

5 - قول سماحة الشيخ: (2 - شرح المفهوم العام للعبادة والمصطلحات الاساسية الاخرى كالتوحيد...).

يعني شرح ذلك في حدود الممكن بعد ان اشرنا الى انه لا يمكن لنا تحديد القارىء، وكذلك في الفقرتين الثالثة والرابعة.

6 - قول سماحته: (5 - اضافة مقدمة مختصرة قبل كل كتاب من كتب الفقه ككتاب: الصلاة مثلاً يتناول فيها اهمية تلك العبادة واثرها في حياة الفرد...).

هذا الامر له احدى فائدتين: الاولى: مجرد الاطلاع من باب ان العالم بالشيء خير من الجهل به، ثانيها: الترغيب بالعبادة لمن لم يكن راغباً.

اقول: انه في حدود فهمي فان الله تبارك وتعالى وهو الحكيم العليم يرى ان بعض مستويات التربية والتكامل يكون منوطاً بالامتثال الغيبي الخالي من الاطلاع على المصالح والمفاسد بل لمجرد الرضا والتسليم، كأعداد ركعات الصلاة ونحوها، ولعل مجرد التسليم في القلب خير من عامة الصلاة، إذن، فلعلنا نكون في غنى عن هذا البحث او يمكن اختصاره الى حد معقول،

ص: 129

وخاصة وان المراتب العليا غير معلومة وغير محمولة.

7 - قول سماحته: اضافة كلمة (فقه) الى العبادات والمعاملات فتصبح (فقه العبادات).

هذه مسألة شكلية على أي حال، ولكنها لا تخلو من فائدة في عالمنا الذي تسوده الشكليات ولكنها لاربط لها - في حدود فهمي - بتفهيم الفرد بأن في المعاملة عبادات ايضاً، فان هذا يحتاج الى (بحث) خاص وليس يكفله اضافة كلمة (الفقه) كما هو واضح.

8 - قول سماحته: (ولكن اذا فهمناها في ضوء النظام الاجتماعي للإسلام... علمنا ان الهدف من الحكم هو قطع الحجة...).

هذه احدى الحِكَم المتوخاة في هذا الحُكُم، وهناك حكم اخرى يمكن عرضها في حينه.

9 - قول سماحته (بالنسبة للبنوك الربوية كان من الممكن التفكير بتأسيس بنك اسلامي تتبناه المرجعية...)

بالنسبة الى البنك الاسلامي فيه عدة نقاط:

النقطة الاولى: ان ما تشير اليه في مقالك بنك مستقل له طرقه الخاصة وليس كالبنوك الاعتيادية، على حين ان (البنك اللاربوي) كما هو منصوص في مقدمته انما هو محاولة لتمرير المعاملات الاعتيادية في البنوك بشكل شرعي، اقول: ينتج من ذلك ان هذا البنك المقترح اكثر جوازاً واوضح من البنك اللا ربوي المشار اليه.

النقطة الثانية: ان هذا البنك بعد الغاء الربا كيف سيكون استرباحه ومن أي شيء موارده، ان هذه اكبر نقطة ينبغي ان تلحظ في نظامه، وفي حدود فهمي انه يجب عليه ان يعمل كتاجر اعتيادي في الاموال المشتركة التي عنده مضافاً الى عمله في التسليف والاقتراض والا بقي رأس ماله من دون زيادة بل

ص: 130

مهدداً بالنقصان المستمر وهذا مما لا معنى له.

وهذه التجارة هي التي يمكن بها تمرير اعمال (المضاربة) التي يطرق سمعك من انها البديل الشرعي للبنوك، وليست المضاربة بأخذ الاجور على مساعدة الناس او ضم علبة كبريت الى آلاف الدنانير مما هو اقرب الى الربا من أي شيء آخر، والقول بجوازه يحتاج الى جرأة على الله سبحانه.

النقطة الثالثة: إن القائم به - في المجتمع الذي يمكن فيه ذلك - لا ينبغي تعيينه، فقد يكون فرد او قد يكون جماعة وقد يكون مرجعية وقد تكون جهة اخرى اعلى منها لا تخفى عليك.

كأن يكون البنك واحداً او متعدداً.

10 - قول سماحته: (لأن فصل المنهجين (المنهج الفردي والاجتماعي) ثبت عجزه عن تطبيق نظرية الاسلام...)

كان الافضل - كما هو واضح - التعبير: بان الاقتصار على المنهج الفردي وترك المنهج الاجتماعي قد ثبت عجزه وضرره.

هذا وينبغي ان نفهم من المنهج الاجتماعي مفهوماً خاصاً، والا فمن الواضح ان الرسائل العملية كلها - تقريباً او تحقيقاً - تحتوي على احكام اجتماعية ومعاملية كثيرة بل ان بعضها القليل فيه (الحدود والتعزيزات) وان كتاب (مباني تكملة المنهاج) للسيد الخوئي من ادلة ذلك.

11 - قول سماحته: (تجاوز الحيل الشرعية خصوصاً بما يمس النظم الاجتماعية لانها احدى نتائج تضييق نظرة الفقيه... ولان فيها قبولاً ضمنياً بالنظم غير الاسلامية).

جيد جداً أشكرك.

12 - قول سماحته: (وفي الحقيقة فان هذا المنحى في البحث الفقهي (المنحى الاجتماعي) جدير بان يعمل العلماء فيه اجتهادهم...).

ص: 131

هناك فكرة ينبغي ملاحظتها على أي حال كما لاحظها علماؤنا وحاصلها: ان معنى الرسالة العملية هي مجموعة الاحكام التي تفيد الانسان في حياته العملية واما ما ليس بعملي من الاحكام في حدود حاجات المجتمع الذي نعيشه فلا ينبغي للمجتهد ان يوجع رأسه ويقتل فيها وقته اذ يكون فيها ضرر الدنيا والآخرة، اما ضرر الدنيا فالعبث الذي لا طائل تحته واما ضرر الآخرة فلأنه قضى وقته فيما هو خلاف الاولى والاهم، اذن ينبغي اعطاء صيغة محددة مفهوماً للنتائج الصحيحة الدنيوية والاخروية للفقه المقترح، واهمها بحسب فهمي امران:

الامر الاول: في المجتمع الذي يحتاج الى ذلك، وهو المجتمع المسلم (بجميع) جهاته، فيجب على المجتهدين ابراز هذه الفتاوى وجوباً حقيقياً لامراء فيه، لانه بدون ذلك ستتعطل حدود الله سبحانه وتعالى.

الامر الثاني: اعطاء الاسلام كاطروحة متكاملة بازاء الاطروحات الاخرى الشرقية والغربية من قوانين ومفاهيم ضالة مضلة، وان كنت شخصياً لا استطيب استعمال مفهوم الاطروحة على الاسلام، لانها تحتوي على معنى التجربة بان هذا النظام عادل او لا، وهذا الاستفهام غير وارد على الدين الحنيف وان كان هو اكثر من وارد على القوانين الوضعية.

13 - قول سماحته: (ان المشروع الأول لا يتناول تفصيل أي شيء عدا الاحكام الشرعية، اما الثاني فيتناول تفصيل كل شيء عدا الاحكام الشرعية).

يعني غير ما هو موجود في آيات الأحكام، واما هذا الحقل من التفسير فلابد منه كما هو واضح، واظن انه مذكور في آخر بحثكم.

14 - قول سماحته: (وفصل المنهجين بالشكل المقترح انما هو كمحاولة لعرض الاسلام الحقيقي ولكن بالتدريج...).

هذا التدريج غير مفهوم بدوياً، لأنه يبدو من سياق الكلام إننا ينبغي ان

ص: 132

نقدم الفقه ثم التفسير او بالعكس، وهذا غير واضح بأيهما نبدأ - اولاً - ولا مبرر له - ثانياً - اذ ان المجتمع يحتاج اليهما على حد سواء، وانما التدرج انما يكون بالتربية لا بتأليف الكتب فان الكتاب عند تأليفه - أياً كان موضوعه - يكون ناجزاً ولا معنى لكونه تدريجي، فالرجاء ايضاح ذلك.

15 - قول سماحته: (فاذن كان هناك ناس ملتزمون بالطقوس العبادية الظاهرية الى هذا الحد ومع ذلك ارتكبوا مثل هذا الذنب العظيم...).

لا يخفى ان كلام عبد الله بن عمر لا يخلو من مطاطية وتعميم، فان اهل العراق يختلفون في النفسية والعقلية، وهذا الذي يسأل عن جواز قتل النملة ليس هو المشارك في جيش الضلال، كما ان احداً من اولئك لم يسأل مثل هذا السؤال، نعم هذا الوصف منطبق الى حد كبير على الخوارج (ذوي الجباه السود) أي من العبادة وهم (الشراة) أي يشرون الدنيا بالآخرة، ومع ذلك فهم حاربوا سيد الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا زالت اجيالهم الى الآن مقيمة على بغضه مع ان ولايته هي باب الخيرات ومفتاح المبرات.

16 - قول سماحته: (ان هناك جاهلية ثانية ستعيشها الأمة وعندئذ يأتي دور الاسلام لينقذها من جديد...).

هذا موجود في بعض الروايات فعلاً، اقول: كنت تتكلم وتستشهد على التدريجية التي سار عليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ان الكلام ابتعد عن ذلك كثيراً، فالرجاء التركيز في الكلام وتحديده جهد الامكان.

17 - قول سماحته: (.. لذا قد يخرج التفسير عن حدود منهج تفصيل القرآن الكريم وعزل الآيات فحسب...).

هذا الخروج المشار اليه ملازم - عادة لا دائماً - للضحالة وعدم التركيز مع العلم ان البحث الذي يكون مؤهلاً لأن يأخذ موقعه من الافكار

ص: 133

العالمية هو المركز والمرتب بطبيعة الحال.

والذي اجده - باحساس ما قبل الدخول في تلك التفاصيل - ان نفس وجود هذا التفصيل المعمق للقرآن الكريم يكفي لاشباع الحاجات المشار اليها في البحث ولاعلاء كلمة الحق والهدى بين الناس، ومعه لا حاجة الى مثل هذه الاستطرادات المشار اليها في البحث.

وكذلك بالاولى القول (ليس من الضروري سلوك طريقة القرآن الاصلاحية)... الخ بل من الضروري سلوكها وهل لنا غيرها بالحق والعدل، كل ما في الامر ان القرآن الكريم قد تكفل لكل قوم تربيتهم، فاذا كنا (نتعامل مع ناس مسلمين لا مشركين) فإننا نربيهم تربية القرآن للمسلمين لا للمشركين، وهذا اخذ بالتربية القرآنية وليس اعراضاً عنها هذا، ولكننا في الواقع امام مشركين تماماً من عدة جهات اهمها:

اولاً: الاشراك بالشرك الخفي (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ).

ثانياً: عبادة الطاغوت يعني اطاعة الحاكم الظالم والتعويض به عن طاعة الله سبحانه.

ثالثاً: الكفار بمختلف وجهاتهم، من حيث اننا لا نستطيع ان نحدد القارىء بطبيعة الحال كما قلنا فلربما قرأه الكفار كما قرأه المسلمون.

18 - قول سماحته: (لم يأت الاسلام بالاحكام جملة وانما تدرج فبلغ العقائد اولاً وربى ملكة التقوى).

اعتقد ان في استعمال ملكة التقوى هنا تسامحاً، فانها لا تمثل الا درجة عالية من الايمان والورع والصلاح، الامر الذي كان مفقوداً عند الكثيرين من الصحابة، وخير دليل على ذلك انقلابهم على اعقابهم بعد عدة سنوات قلائل ومن الصعب جداً ان نتصور ان شخصاً وصل الى درجات التقوى سيتورط

ص: 134

مثل هذه الورطات، وهذا الانقلاب لو كان قليلاً وشخصياً لهان الامر ولكنه كاد ان يستوعب المجتمع كما تعلمون.

فالذي اراه - عجالة - ان القرآن الكريم في مكة المكرمة حاول تربية الصحابة على امور:

منها: الاعتقاد بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي يستطيع ان يفتح بهم الآفاق.

ومنها: الاعتقاد باليوم الآخر الامر الذي يهون معه بذل النفس بحيث يطأ بعرجته هذه الجنة(1).

ومنها: اذكاء الحماس العاطفي عندهم في هذا الاتجاه، ولعل من ادلته قصر الآيات وقوة معطياتها وكثرة سجعها ونحو ذلك، وهذا كله شيء والتقوى شيء آخر.

هذا ولكن هذه المناقشة لا تنفي التدريجية التي اشرتم اليها.

19 - قول سماحته: (... وهذا التدرج يستفاد منه في ناحيتين:

الاولى: بناء واختيار اتباع من درجات او خطوط مختلفة ومتدرجة حسب قابلياتهم وتجاوبهم مع الرسالة الجديدة ومتطلباتها وبذلك يستطيع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الاستناد الى بعض الخطوط ذات المستويات العالية...).

هذا الامر لم استطع فهمه وهو غير واضح في العبارة، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قائد كامل من جميع الجهات يستطيع ان يعطي لكل واقعة ومشكلة حاجتها الكاملة، فان كان عندكم شيء اكثر تفصيلاً فانه يحتاج الى إيضاح.ة.

ص: 135


1- إشارة الى ما قاله الشهيد في معركة أحد حينما عذره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخروج مع الجيش لانه اعرج وقد سقط عنه التكليف فتوسل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يأذن له بالخروج حتى يطأ بعرجته الجنة.

20 - قول سماحته: (ونفس التباين هذا كان يحدث في معارك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كانت تنهزم اكثر الخطوط ويثبت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من امتحن الله قلبه للإيمان...).

هذا فيه تعميم كبير، لم يحدث مثل ما حدث في غير واقعة (احد) الا نادراً وكانت القيادة النبوية والقرآنية مسيطرة تماماً على النفوس، وعلى أي حال فهذا مجرد مثال يمكن الاستغناء عنه.

21 - قول سماحته: (ومن هنا ورد ما مضمونه - وربما استبدلت الاسماء سهواً - إن علم سلمان لو عرض على ابي ذر لقتله...)

هذا الحديث نعم الشاهد على مستويات التحمل، غير اني اريد ان اشير الى بعض احتمالات تفسير هذا الخبر، فان الرئيسي منها امران:

الاول: ان المقتول هو ابو ذر نفسه، يعني: لقتله العلم.

الثاني: ان المقتول سلمان لا ابو ذر، يعني ان اباذر سيقتل سلمان نفسه لو اطلع على معارفه وعلومه، وهذا ما تؤكده بعض الروايات فأبو ذر (رضي الله عنه) على ما هو عليه من العظمة سيتصرف تصرف العامة الجهال عند الاطلاع على المعارف الالهية العليا: يحسبها كفراً واشراكاً وهذا ادل دليل على وجوب (التقية) والكتمان من العامة والضعفاء.

وينسب الى الامام السجاد (عليه السلام) قوله:

يا رب جوهر علمٍ لو ابوح به لقيل لي انت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون اقبح ما يأتونه حسنا

ولعل من امثلة ذلك قول الجاهل اللعين ابن ملجم لأمير المؤمنين (عليه السلام) عند ضربه بالسيف: الحكم لله لا لك يا علي، (كأن حكمه (عليه السلام) بعيد عن حكم الله سبحانه!).

22 - قول سماحته: (ولعل هذا وجهٌ محتملٌ لتفسير الامام الجواد (عليه

ص: 136

السلام) للسيد عبد العظيم الحسني: لو تكاشفتم لما تدافنتم لانه سيكفر بعضكم بعضاً...).

هذا الحديث شاهد جيد على نفس الفكرة لان المستويات العالية تجد المستويات الدانية ضالة ومشركة، وكذلك العكس.

الا ان هذا المعنى (خاص) وينبغي تجنب ذكره للناس الا من عصم الله، وانما يفسر هذا الحديث:

ان ترك التدافن انما هو لأحد اسباب:

منها: الاطلاع على الذنوب الظاهرية (العملية) للفرد بحيث يبدو الفرد عاصياً بدرجة يستحق معها الاعراض التام.

ومنها: الاطلاع على الذنوب الباطنية (القلبية والنفسية) للفرد بحيث يكون كافراً او يشبه الكافر.

ومنها: الاطلاع على حقده على الناس، وبخاصة الاطلاع على حقده على (القاتل) نفسه، مثلاً لو اطلع زيد على فكرة عمرو عنه شخصياً لقتله او هجره وهكذا.

هذا، وفي حدود فهمي ان هذه الاخبار تشير الى مستوى معين من الجهل باسلوب التربية الحقيقية والا فالحق انه لا حاجة الى القتل على كل حال مادام الفرد في طريق التربية والهدى وغير متمرد على الله سبحانه.

هذا ولا ينبغي الاعراض عن التدريجية المشار اليها في البحث فانها تشمل عدة مستويات:

الاول: التدرج المكاني الذي اشير اليه في البحث من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

الثاني: التدرج الافرادي من القليل الى الكثير كما عليه سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ايضاً.

ص: 137

الثالث: التدرج الاجتماعي من حيث التدرج في تطبيق الاحكام والقوانين من الاخف الى الاصعب والاعقد، كما عليه سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ايضاً.

الرابع: التدرج التربوي لكل فرد بعينه وعدم مجابهته بتربية ثقيلة غير محمولة بالنسبة له وكل هذه التدرجات مستفادة من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره من القادة سلام الله عليهم اجمعين ولا ينبغي الخلط بينها فلكل منها اسبابها ونتائجها ومصالحها وان كانت قد تتداخل احياناً كما يبدو للمتأمل.

23 - قول سماحته: (... في وسيلة نشر الرسالة فابتدأ النبي بالجدال بالتي هي احسن ودرء السيئة بالحسنة ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة،...).

هذا احد التفسيرين للآية الكريمة، وهو ان يدرأ الفرد سيئة غيره، بحسنة نفسه، والتفسير الآخر، والاجدر حسب فهمي هو ان يدرأ الفرد سيئة نفسه بحسنة نفسه يعني يعمل من الحسنات ما يغفر معها السيئات (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ).

24 - قول سماحته (... وهاتان المرحلتان لا تخصان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده بل هو سلوك مطرد لجميع الانبياء...)

لجميع الانبياء يعني من الذين مارسوا الحكم في الجملة وبهذا يتضح استثناء اكثر الانبياء حتى مثل عيسى عليه السلام الذي لم يمارس الحكم اصلاً وعاش في (التقية) طيلة حياته.

اذن فينبغي اعطاء الكلام حقه من الصدق وعدم التعميم الزائد.

ولكن هذا لا يعني بطلان الفكرة المذكورة في البحث وهو (استقلال الجماعة المؤمنة) اقول: ولكن هذا الاستقلال قد يكون ظاهراً مع وجود القوة

ص: 138

والشوكة لديهم، وقد يكون مقتصراً على القلب والنفس مع وجود التقية.

25 - قول سماحته: (ان فكرة وضع تفسير تفصيلي للقرآن الكريم جديدة العهد واول من دعا اليها السيد (قدس سره) بيد انه لم يزد عليها شيئاً في حدود ما سمعت والله العالم ولم يبين الخطوط العريضة للمشروع...).

عدم بيان الخطوط العريضة للتفسير صحيح فيما اعلم، لانه كان المفروض استمراره فيه حتى النهاية وعندئذ سيكون المقصود واضحاً، ولولا انه رضوان الله عليه قطع ذلك بعزمه على الشهادة، وقد القى تسع محاضرات في هذا التفسير كلها موجودة (هناك) وأظن ان عنوانها هو السنن التأريخية كما قلتم وان كنت الان بعيد العهد عن ذلك.

ان ما يمكن ان يكون بمثابة العناوين العامة لهذا التفسير بحسب فهم ذلك المؤلف العظيم هو ما يلي: السنن التأريخية، السنن الكونية، السنن التربوية، السنن الاجتماعية ونحو ذلك، ويندرج في كل عنوان مجموعة من العناوين الأصغر منها، ويندرج تحت كل عنوان من تلك مجموعة من المفاهيم، ويندرج في كل مفهوم مجموعة من الآيات.

والمنهج بهذا الترتيب ونحوه صالح جداً للأستمرارية، ولكن يمكن اقتراح كثير من العناوين التفصيلية التي قد تخطر بالبال مما يمكن ان يندرج في تلك العناوين او يبحث كل منها على حدة: التوحيد، النبوة، اوصاف الجنة، اوصاف النار، اوصاف الملائكة، اوصاف الجن، اوصاف الشياطين، مقدار العلاقة بين هذه الفئات والبشر، الموت، الحشر، اوصاف فئات معينة (الفاسقون، الكفار، اصحاب الجنة، اصحاب النار، ذوي الالباب، المؤمنون، المتقون... الخ) علاقة الفرد بربه، علاقته بأوليائه، علاقته باصدقائه واخوانه، علاقته باعدائه، حال اهل الكتاب، قوانين الحرب، قوانين المعاملات، قوانين وآداب العائلة.. هذا مضافاً الى اخبار الماضين والانبياء والسابقين.

ص: 139

مضافاً الى العلوم اللغوية والبلاغية، مضافاً الى العلوم الكونية وغيرها مما يتضح في وقته. هذا وإن اصدق وصف للقرآن الكريم هو ما ذكره سيد العارفين (عليه السلام)، في نهج البلاغة فراجع.

ولعل الفرد يحصل له منها اليأس من تفسير القرآن ويعترف بقصور قابلياته بل كل قابلية عن بلوغ حقيقة القرآن وسبر اغواره، الا من عصم الله سبحانه، الا ان هذا لا يعني امكان المحاولة على أي حال.

كما ليست الطريقة او الخطوات المذكورة من قبلكم بقاصرة، بل هي جيدة ويمكن اتباعها ايضاً، والافضل - على كل حال - إيكال الأمر الى المؤلف الذي يفضل ان يأخذ على عاتقه مثل هذا المشروع الكبير اياً كان شخصه.

26 - قول سماحته: (التفسير الوجيز للقرآن وفيه شرح مجمل لمفردات القرآن...).

هذه الخطوة ينبغي ان يراد بها ما يلي: اننا عند ابتداء أي موضوع ينبغي ان نعطي الفكرة العامة عنه ولا نبدأ بالتفاصيل رأساً، واما شرح المفردات فيكفي فيه ما يذكره المؤلف خلال التفاصيل، واما اذا اردنا من هذه الخطوة ايجاد مجمل عام لكل القرآن الكريم، فهو متعذر تماماً لعدة اسباب لا تخفى عليكم.

27 - قول سماحته: (فهرس او دليل للآيات القرآنية لتسهيل الحصول عليها من قبل القارىء).

هذا الموضوع موجود ومتداول ولا حاجة اليه مجدداً ولعل افضل الكتب في ذلك: المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم.

28 - قول سماحته: (فبهذه الطريقة لعرض الفقه الشامل يستطيع المتعمق فهم المدلول العام للعبادة والفقه ويسعى لتحقيقه في حياته...)

ص: 140

هذه الطريقة - التدرج - غير ممكنة في كتاب واحد - مهما كانت عدد اجزائه - ولم افهم لها وجهاً محدداً، نعم هي ممكنة بأحد امرين:

الاول: تأليف كتب متعددة بهذا الصدد بعضها مبسط وبعضها معمق لكي يستفيد كل واحد بالكتاب الذي يليق به.

الثاني: طبع مستلات وتوضيحات للكتاب الرئيسي بحيث يستفيد منها من هو دون هذه المنزلة. وكلا الامرين قد فعله السيد (قدس سره) فالأول فعله في سلسلته عن الاصول والثاني فعله في الكتب الصغيرة التي تكفلت ايضاح (اقتصادنا).

29 - قول سماحته (ويبقى العامي على التزامه الساذج وبينهما درجات ويساعد كل ذي درجة غيره على الارتقاء..).

جيد جداً أشكرك.

30 - قول سماحته: (سار القرآن - خصوصاً المكي منه - بأربعة خطوط متداخلة وتسير معاً: - 1 - أقامة الحجج لأثبات العقائد الاساسية... ويراعى في نوعية الحجج مناسبتها للعصر) مناسبتها للعصر أي تيسيرها لفهم الجيل المعاصر مع توفر شرطين ضروريين:

الاول: عدم التنازل عن شيء من حقائق الفكر القرآني لأجل ذلك.

الثاني: عدم التأثر بمعطيات العصر على اختلافها في مسخ الفكرة... وكلا هذين الشرطين قد ضاعا من مفكرينا الاسلاميين ضياعاً يكاد يكون تاماً، مع شديد الاسف كما لا يخفاكم.

31 - قول سماحته: (كما تختلف الهداية الالهية باراءة هذه الآيات والكشف عن اسرار ملكون السماوات والارض تبعاً لدرجة القرب من الله تعالى والزلفى لديه...).

هذا الامر ونحوه ينبغي ان يشار اليه بغموض ولا حاجة الى تفصيله لأن

ص: 141

الاعم الاغلب من النفوس قاصرة عن تحمله.

32 - قول سماحته: (ابطال حجج وشبهات المعارضين للعقائد...)

يعني في حدود المعطى القرآني بدون زيادات استطرادية.

33 - قول سماحته: (وقد ادى القرآن المكي هذه المهمات كلها حتى هيأ المسلمين لما ينتظرهم من احكام وتكاليف...).

سبق ان ناقشنا ذلك، والاوصاف المعطاة هنا في البحث ليست الا للألمعي من الصحابة.

34 - قول سماحته: (ان هذه الاقسام الثلاثة متداخلة وتسير معاً حتى يصل الانسان الى قمة الحكمة النظرية بانشراح القلب...)

هذه الامور خاصة وليست عامة وهي صحيحة.. الا ان اعلان تفاصيلها مما لا يمكن اصلاً فضلاً عن انه مرجوح بل محرم شرعاً، يكفي في ذلك ان اغلب الناس، اما انه لا يفهمها بالمرة اولا يستسيغها او لا يصدقها او لا يرغب بتطبيقها او لا يشعر بالحاجة اليها، ونحو ذلك وبذلك يبتعد كل العامة عنها و (وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، اقول: خذ ما أتاك الله وكن من الشاكرين (وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (وَ ما أَكْثَرُ النّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

35 - قول سماحته: (قواعد وكليات التصور الاسلامي... ومن امثلتها: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ...).

إنك تتكلم الان عن القرآن المكي، فالرجاء التأكد في هذه النقطة والنقطة السابقة عن كون المعاني المشار اليها موجودة فيه دون القرآن المدني، وعلى أي حال فالأمر موكول لحال التأليف.

36 - قول سماحته: (قسم الاخلاق ويشمل... الجهد او الجهاد العملي

ص: 142

لتربية النفس وتكاملها...).

هذا وما بعده يذكر بشكل مقتضب لا حاجة الى تفصيله لانه مما لا يتحمله الناس كيف ونحن نريد تطبيق (الاسلام) في النفوس وهم لم يصلوا الى (الايمان) بعد، فكيف نكلفهم الجهاد الاكبر ونعرفهم بالمعارف العليا التي اعطاها الله سبحانه لأوليائه، تلك اذن درجة اليقين او اعلى درجاته.. والله تعالى اعلم حيث يجعل رسالته ولم يعط بيدنا شيئاً منه.

اقول: وانما ذكرت ذلك لك في بعض كتاباتي السابقة لتكون على اطلاع عن ذلك بصفتي مميزاً فيك حسن الاستعداد بفضل الله وكرمه، وهو غير موجود عند الآخرين، وهذا الاطلاع ينتج اموراً اهمها امران:

الاول: احترام هذه الزمرة العظيمة من الناس التي طالما احتقرها العامة وطعنوا بها واستبعدوا صدق اقوالها، (طبقاً للحديث السابق عن ابي ذر وسلمان) وهم ليسوا بالضرورة من الصوفية وان نبزهم الناس بذلك بل قد يكونون كذلك وقد لا يكونون ولعل اشهر اصحاب الكرامات من غير الصوفية السيد مهدي بحر العلوم والمحقق الاردبيلي وهناك كثيرون غيرهم.

الثاني: التفكير بالاتجاه العملي بالاتصاف بصفاتهم بعد ان يجد الفرد قابلياته لذلك، من دون ان يكلف نفسه ما لا تطيق.. وتحت اشراف تربوي دقيق بطبيعة الحال، وهذا راجع لكل فرد ووجدانه.

وقد كتبت في التعليقة على كتاب الاعتكاف من الفتاوى الواضحة شيئاً مربوطاً ببعض هذه الامور ان احببتم المراجعة.

37 - قول سماحته: (قسم الشريعة ويكون على جانبين:

أ - الجانب التخصصي وتتناول فيه الاحكام الشرعية...).

أو الجانب التشريعي، على ما أرى...

38 - قول سماحته (ب - الجانب المفهومي: حيث لا تتناول تعاليم

ص: 143

الاسلام كأوامر ونواهي وانما تدرس من حيث اثرها في سلوك الفرد والمجتمع...).

اولاً: انظر ما قلناه في (التعليقة 6) فانها نافعة بهذا الصدد ايضاً.

ثانياً: انه يجب الحذر من هذا الاتجاه او في هذا الاتجاه تماماً الا في حدود ما نشير اليه، فإن فكرة التساؤل عن الحكمة في افعال الله سبحانه وتشريعاته فكرة ناشئة في حدود فهمي من الدس الاستعماري الاوربي الذي يحاول بكل وسيلة زحزحة الناس عن دينهم، وقد دخل المطلب الى اذهان الناس على أشكال مختلفة منها: ما كان وسيلة وذريعة لانكار الحكمة او استضعافها ومن ثم التذرع الى العصيان واهمال الشريعة وهذا هو الاغلب وكان هو المطلوب الأساسي للاستعمار.

ومنها: ما كان لمجرد التفقه والمعرفة، وهذا ما اخذه المتدينون الا انهم - على أي حال - بعد ان يكونوا قد سلموا بالحكمة اجمالاً فقد كفوا عناء البحث عن تفاصيل هذه الحكمة، وبعد ان اعترفوا بان ذهنهم قاصر عن الاطلاع على كل التفاصيل فليس عليهم عناء البحث ايضاً هنا.

نعم في حدود ما هو معطى في القرآن الكريم والسنة الشريفة - ونحن الآن في اطار القرآن - مما وجدت الحكمة نفسها ضرورة ايضاحه للناس فلا بأس من التعرض له (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (اسكتوا عما سكت الله عنه) فان وجد مثل ذلك في القرآن شرحناه واكدنا عليه وسكتنا عن الباقي لانه الاوفق بحسب الحكمة الازلية بالتربية الخاصة والعامة.

ص: 144

البحث الثالث: عالم الذر والظواهر الباراسا يكولوجية

اشارة

برز اخيراً علم الباراسا يكولوجي وهو علم يتناول دراسة ظواهر السلوك التي لا يمكن تفسيرها وفق القوانين البايولوجية او الكيميائية او الفيزيائية وعموم القوانين المادية، وشكرت الله تعالى على هذه اللطمة الجديدة للمادية الغربية، ولكن احزنني لجوء العلماء المختصين الى تفسير هذه الظواهر غير المادية بتفسيرات مادية (موجات كهرومغناطيسية (1) ونحو ذلك..) وقلت في نفسي هل من تفسير طبيعي (2) من وجهة نظر الآلهيين لهذه الظواهر، وهنا لمعت في ذهني فكرة عالم الذر (3) ومعيشة الانسان حياته كاملة قبل خروجه الى الدنيا وتساءلت: هل يمكن (4) الاستفادة من مفهوم عالم الذر وتفاصيله والقوانين التي تحكمه في تفسير الظواهر الباراسا يكولوجية خصوصاً حالة التخاطب عن بعد (التلباثي) والتي منها ما حدث (5) لعمر بن الخطاب (لو صحت الرواية) عندما نبه (وهو في المدينة) احد قادة جيوش الفتح الاسلامي نحو المشرق - وهو في بلاد فارس - الى وجود كمين للعدو خلف جبل هناك فقال: يا سارية الجبل! ففهم سارية الاشارة واستطاع ان ينجو من الفخ.

ونحن بعد إيماننا بأن وجود هذه الظواهر غير المادية ولفت انتباه العلماء لها هي من الآيات الالهية لتفنيد مزاعم المادية الاوربية التي لا تعترف بما وراء المادة (الميتافيزيقيا) نقول - انطلاقاً من تصديق القرآن لقانون العلية (6) والتفسيرات الطبيعية التي تحكم الحوادث الكونية اذ لا يتصادم ذلك مع كون الله تعالى هو المسبب الحقيقي بل تترتب هذه الاسباب طولاً لا

ص: 145

عرضاً - نقول: إن هذه الظواهر لها تفسيرها بالاستفادة من آثار عالم الذر (7) التي تظهر بين فترة واخرى للناس مما يعد دليلاً (8) على ان الانسان عاش حياة اخرى قبل الدنيا وقد نسي - أي الانسان - تفاصيلها لكنه لم ينس اصل (9) الميثاق الذي اخذ عليه فيها ولولا ذلك لم يدر احد من خالقه ورازقه على حد قول الصادق (عليه السلام)، والتفسير يكون على اساس ان هذين الشخصين المتخاطبين عن بعد مرا بنفس (10) الحادثة في عالم الذر وتنبها اليها في هذا العالم الدنيوي - او لنقل شاء الله تعالى لهما ان يتذكرا (11) هذا الجزء من حياتهم السابقة - واستفادا من ذلك في فهم ظروف الحادثة عن بعد علماً بأن الانسان في حياته السابقة على الدنيا لا تحكمه القوانين المادية التي تحكم حياتنا الدنيوية ولا تخضع لنفس قيوده.

ويبقى هذا التفسير يعتمد لاثبات صحته على صحة فروض اخرى اهمها ان الانسان عاش حياته هذه كاملة (عدا التفاصيل التشريعية) في عالم الذر وهو يعيدها (12) الآن مع اختلاف في القوانين التي تحكمها بالضبط كتجسم الحياة الدنيوية في الآخرة ورؤيتها على حقيقته (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) وقد كفانا مؤونة الاثبات هذا قرآنياً السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الميزان وها نحن ننقل خلاصة استنتاجاته أما تفاصيل البحث والبرهنة فموجودة في تفسيره (91/1-92، 306/8-331، 277/16-278) قال السيد في (91/1) ما نصه: (إن للإنسان في الدنيا وراء (13) الحياة التي يعيش بها فيها حياة اخرى سعيدة او شقية ذات اصول واعراق يعيش بها فيها وسيطلع ويقف عليها عند انقطاع الاسباب وارتفاع الحجاب، ويظهر من كلامه تعالى ايضاً إن للإنسان حياة أخرى (14) سابقة على حياته الدنيا يحذوها (15) فيها كما يحذو حياته الدنيا فيما يتلوها.

وبعبارة اخرى إن للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا

ص: 146

وحياة بعدها، والحياة الثالثة تتبع حكم الثانية، والثانية حكم الاولى، فالإنسان وهو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن).

ولكن هذا التفسير كما هو واضح (16) لا يشمل جميع الظواهر الباراسا يكولوجية كالوقوف في الهواء مثلاً ولكنها لا تخلو من ارتباط بظروف عالم آخر وراء المادة وهو موجود (17) الآن ومصاحب لعالمنا الدنيوي المادي لكن قوانينها تختلف حين تتاح لافراد العالم (18) الآخر امكانات هائلة لخروجهم عن حكم القوانين المادية لذلك نرى ان اصحاب هذه الظواهر يحتاجون الى مجاهدات (19) روحية وضبط للنفس فيما تطمح اليه من اخلاد الى الارض أي يتصل بهذا العالم الآخر المصاحب لعالم (20) الدنيا زماناً لكنه متقدم رتبة (21) اذ يعيش فيه الناس قبل خروجهم للدنيا كل حسب الزمان المحدد له - وهو الرأي الذي تبناه السيد الطباطبائي في تحليله حول عالم الذر (22) معارضاً بذلك الرأي القائل بأن البشر خلقوا في عالم الذر قبل الدنيا واخذ منهم الميثاق على الربوبية (الاعراف: 172-173) ثم اعيد كل شيء الى محله وفُنِي (23) ذلك العالم.

وعلى اية حال فلابد لهذه الظواهر من تفسير طبيعي (24) من وجهة نظر العلماء الالهيين قبالة آراء العلماء الذين حاولوا تفسير هذه الظواهر غير المادية بأسباب مادية فما هو التفسير الذي تضعونه لذلك؟

وبدون هذا التفسير الطبيعي فستصبح هذه التصرفات معاجز (25) لانها خارقة للعادة وعندئذ ما تأثير ذلك على اعتقادنا بالتلازم بين المعجزة وصدق ادعاء أهلها فيما لو ادعى هؤلاء شيئاً ما؟!

ص: 147

تعليقة الشهيد الصدر على بحث

عالم الذر والظواهر الباراسا يكولوجية

1 - قول سماحة الشيخ اليعقوبي: (ولكن احزنني لجوء العلماء المختصين الى تفسير هذه الظواهر غير المادية بتفسيرات مادية موجات كهرومغناطيسية).

هذا له مبرره من زاويتهم لو لاحظنا بعض النقاط:

اولاً: انهم معودون ومعتادون على العموم على القوانين الفيزياوية الكيمياوية الاعتيادية، فيجدون بطبيعة الحال في خرقها وتجاوز حكومتها هيبة ورهبة في قلوبهم وعقولهم.

ثانياً: انهم يجهلون عمق ذلك العالم اللامادي وشكل قوانينه التي تحكمه، وهم في ظلام وضلال تامين من هذه الناحية.

ثالثاً: انهم مقهورون على الاذعان للسببية المطلقة للكون اعني ان لكل شيء سبباً ولا يستطيعون التخلي عن ذلك بحال، ومن الطريف الذي يثير الضحك والبكاء في نفس الوقت انهم يؤمنون بهذه السببية بالضرورة ولكنهم ينكرون الخلق الالهي الذي هو سبب الكون بمجموعه، ومن الطريف ايضاً ان يكون الاتحاد السوفيتي الذي هو اكثر الماديين مادية تمسكاً بهذه الظواهر اكثر من غيره.

رابعاً: انهم وجدوا ان القوة الكهرومغناطيسية هي اقوى قوة في الكون المادي من حيث فاعليتها وجذبها للأشياء وسيطرتها عليها، ومن هنا وجدوا ان انسب اسم للفاعلية الروحية هو ذلك، بحيث تنطبق كل هذه النقاط الاربعة

ص: 148

عليه... ففكروا... وخاصة النقطة الاولى التي تنفعهم في مجال دعايتهم الايديولوجية حيث يوحون الى الرأي العام ان هذه الظواهر انما هي مجال من مجالات المادة لا اكثر.

2 - قول سماحته: (وقلت في نفسي هل من تفسير طبيعي من وجهة نظر الالهيين...)

هذا التعبير مؤسف جداً من امثالك وانما هو من سهو القلم بلا شك، فان السببية يمكن - بهذا الصدد - تقسيمها إلى عدة اقسام:

القسم الاول: السببية الطبيعية او المادية وهي سببية القوانين الكونية الفيزياوية والكيمياوية التي تحكم عالمنا هذا.

القسم الثاني: السببية المطلقة بعنوان ان الله سبحانه قد جعل لكل شيء سببا... اعم مما اذا كان سبباً روحياً او مادياً.

القسم الثالث: السببية الإلهية، وهو التأثير الرباني في خلق الاشياء جميعاً.

ولا اريد ان ادخل هنا في تدقيق هذه المستويات فلسفياً او عرفانياً.

كل ما في الأمر ان مستوى معين ومحترم من التفكير يعتبرها جميعاً سارية المفعول في الكون العام (المادي والروحي).

وانما الذي ندركه بوضوح هو ان القسم الاول ليس له أي تأثير على العالم الذي تحكمه القوانين من القسم الثاني، بل بالعكس فان القسم الثاني كما يكون شاملاً لعالمه الخاص هو شامل ايضاً لعالمنا المادي من حيث نعلم او لا نعلم.

ومن ذلك نستنتج امرين على الاقل:

الاول: ان تعبيركم بالتفسير الطبيعي لهذه الظواهر تعبير يحتوي على تسامح كبير ومن سهو القلم لانه يتضمن التسليم بشمول القوانين المادية

ص: 149

(القسم الاول) للعالم الروحي (القسم الثاني) وهذا واضح البطلان، وانت تعلم ان لفظ (الطبيعي) واضح بالعالم المادي الذي نعيشه.

الأمر الثاني: ان هذه الظواهر الخارقة انما هي ناتجة عن قوانين القسم الثاني بصفتها ذات تأثير على العالم المادي نفسه، او بصفتها المستقلة احياناً... حسب اختلاف هذه الظواهر.

وهذا التعبير مني كاف لغلق الجواب وانتهائه عن كل هذه الظواهر، لولا انني اجد نفسي بل واجدك ايضاً غير مقتنعين بالقليل وآملين الكثير فلذا اجد نفسي مندفعاً الى تسجيل بعض الزيادات مع الاستعصام بالله سبحانه وتعالى عن الزلل والباطل.

3 - قول سماحته: (وهنا لمعت في ذهني فكرة عالم الذر...).

ينبغي ان نحمل عن عالم الذر - فعلاً - فكرتين:

الفكرة الأولى: انه عالم غير مؤكد الوجود لدى الكثيرين بما فيهم صدر المتألهين الشيرازي صاحب (الأسفار الأربعة) الذي يقول: بأن النفس مادية الحدوث وروحانية البقاء، اذ معنى كونها مادية الحدوث انها حادثة في هذا العالم المادي وليست سابقة عليه.

وكذلك السيد المرتضى في الامالي في شرح الآية (وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) يحاول جاهداً ان يجعل هذا العهد مأخوذاً في هذه الدنيا وليس في عالم قبله وانما هو تعبير عن اعتراف الفرد بالعقائد الحقة بعد وجوده ورشده، فراجع ان امكن.

الا ان كل تلك المناقشات غير واردة في نظري ومن المؤكد وجود عالم سابق يمر به الانسان قبل مجيئه الى الدنيا، وظواهر الكتاب والسنة تدل عليه.

ولا حاجة الى الدخول في تفاصيل الادلة في هذا المختصر، يكفي ان

ص: 150

ابن سينا وهو من اعاظم الفلاسفة يقول في نظمه: نزلت - أي الروح - اليك من المحل الارفع.

الفكرة الثانية: ان عالم الذر وإن كان موجوداً الا انه اضعف وأخس من هذا العالم وليس اقوى منه، وبتعبير أخر ادق: ان الانسان هناك يكون اضعف وأخس ويكون مجيئه الى الدنيا شكلاً من اشكال التكامل لا محالة، والا لم يكن هناك معنى لمجيئه الى هذا العالم.

وعليه فليس من المؤكد ان قوانين ذلك العالم تستطيع ان تقوم بإظهار هذه الظواهر الروحية بل من المقنع خلاف ذلك.

بقي الالماع الى امرين:

الأمر الاول: انه اذا كان عالم الذر اخس من هذا العالم فلماذا يقول الشيخ الرئيس (من المحل الارفع)، وهذا بحث لا ينبغي ان ندخل فيه اذ ليس فيه فائدة تذكر الا التشييد الذهني، وانما مجرد اثارة السؤال لعلها نافعة مع الالتفات الى ان القدر المتيقن وهو ان ابن سينا اجل من ان يدرك ان مجيء الروح الى الدنيا هو شكل من اشكال التسافل لا التكامل.

الامر الثاني: ان خطور (عالم الذر) في ذهنكم كعالم كفيل لتفسير الظواهر الروحية كأنه ناتج لا شعورياً من تخيل انحصار عالم الروح بعالم الذر مع ان المطلب ليس كذلك، ولعلي استطعت ان القي بعض الظلال او الأضواء على ذلك في ما يلي من الكلام.

4 - قول سماحته: (وتساءلت هل يمكن الاستفادة من عالم الذر وتفاصيله...).

اتضح مما سبق جوابه بالنفي ولكن المهم الذي اريد ان اقوله هنا هو البديل المحتمل لذلك.

حبيبي: ان الله سبحانه وتعالى برحمته وقدرته خلق الانسان في احسن

ص: 151

تقويم واودع فيه من الصفات والخصائص المادية والمعنوية والعقلية والروحية ما يفوق التصور بكثير، وهذا من جملة تفسيرات (الخلق الاخر) المشار اليه في القرآن الكريم، كما انه هو المقصود من النظم الوارد عن امير المؤمنين وسيد العارفين سلام الله عليه:

وتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر

وانت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر

وهذا هو الذي سبب استحقاق الإنسان لعدة أشياء:

منها: تحمله للأمانة التي أبت الماديات بل والسماوات ايضاً عن تحملها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولاً (يعني بحسب ظاهره وغفلته).

ومنها: تسخير ما في الارض جميعاً له كما نص عليه في القرآن.

ومنها: تسخير كثير من الظواهر السماوية له كالليل والنهار والنجوم والشمس والقمر والسحاب وغير ذلك مما هو منصوص عليه في الكتاب الكريم.

وقد ادرك الغرب اخيراً الى ان الانسان مهما اوتي من عمل ونشاط فإنما هو يستخدم جزءاً من الف من طاقته الكامنة، وهذا الكسر العشري انما اوردته اوروبا حسب عقيلتها، والا فهو اقل واصغر جداً من ذلك، بنسبة عالم الروح الى عالم المادة الذي لا يعد في جنبه شيئاً يذكر اصلاً.

ولعلك سمعت بتقسيم العالم الى عوالم اربعة: عالم الناسوت و عالم الملكوت وعالم الجبروت وعالم اللاهوت، ويقول الفلاسفة انها مترتبة من حيث الشرف والتجريد والتأثير (لاحظ هذه التعبيرات الثلاث) وان الخلقة الانسانية تحتوي عليها جميعاً وهو في هذا العالم، فالجسم من عالم الناسوت

ص: 152

والنفس من عالم الملكوت والعقل من عالم الجبروت والروح من عالم اللاهوت، هذا كلام الفلاسفة وهو حق منظوراً من زاوية عقلية معينة، ولكل من هذه العوالم قوانينها وتأثيراتها التي نجهل الكثير منها تماماً...

(وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

وهنا ينبغي ان نلتفت الى الافراد الذين استخدموا شيئاً من ملكاتهم وقواهم، فهذا متعمق بالكيمياء وذاك في الفيزياء وذاك في الرياضيات وذاك في الطب وذاك في السحر وذاك في اليوغا وذاك في علوم الدين وذاك في تدريب الوحوش وذاك في الرياضات القاسية كالنوم على المسامير او دفن الفرد عدة شهور او غيرها، مضافاً الى الظواهر البارا سايكولوجية نفسها كالتخاطر والسمع والبصر الخارق مضافاً الى المنامات الصادقة وغير ذلك مما انكشف بعضه واختفى اكثره.

إن أي واحد من هؤلاء الاشخاص قد استعمل ملكة أو عدداً قليلاً من ملكاته ولم يستعملها كلها بطبيعة الحال، بل لم يستعمل كل مدى الملكة الواحدة ايضاً، فكيف لو تم لإنسان ان يستعمل كل ملكاته بكل قواها وماذا عساه ان يكون؟ ومحل الشاهد هو عمق خلقة الانسان وعظمة نعمة الله سبحانه عليه.

يكفينا ان نسمع مضمون الآية: لهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم قلوب لا يفقهون بها... بعد التسليم والوضوح بأن عيونهم وآذانهم المادية سليمة مئة في المئة.

وانما ذلك باعتبار احد امرين او كليهما:

الاول: ان المتوقع من ملكات الاحساس الاعتيادية ان ترى وتسمع اكثر من ذلك بحيث يكون ما تراه وتسمعه على كثرته واهميته كالعدم (لا يسمعون... لا يبصرون) بالنسبة الى العالم المغفول عنه والمحجوب عن الابصار.

الثاني: ان المتوقع من الانسان كإنسان ان يرى ويسمع اكثر من هذا كله

ص: 153

لا بهذه الوسائط المادية بل بوسائط اخرى روحية قد تكون مشابهة في نوعها من هذه المادية وقد لا تكون، ومن هنا ورد: انه لكل إنسان عينان في قلبه فطوبى لمن فتح الله له ذلك (بالمضمون).

وعلى أي حال فأي شيء وردك من ظواهر الباراسايكولوجي فهو قليل من كثير وغيض من فيض بالنسبة الى قدرات الانسان الكامنة، ولا موجب للتعجب لحدوثها.

وهنا يحسن الالماع الى فهم معين لقوله تعالى (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) والمكرر في القرآن العظيم عدة مرات، وهو ان الغافل عن هذه القوى الخفية في نفسه واللاهي في العالم المادي (ذلك مبلغهم من العلم... اللهم لا تجعل الدنيا مبلغ علمنا ولا اقصى همنا)..

قد خسر هذا الشخص نفسه، وأي اسف يدركه واي حسرة ينالها حين يعلم في الآخرة بهذه الحقيقة المرة، وانه قد فوت على نفسه الفرصة الكبرى بما جنى على نفسه بيديه.

5 - قول سماحته: (.. منها ما حدث لعمر بن الخطاب - لو صحت الرواية - عندما نبه وهو في المدينة احد قادة جيوش الفتح الاسلامي...).

الأمر الاول: ان هذه الرواية ممكنة الحدوث، كما اشرنا ونشير في الامر الثاني، الا انني لا ارجح صدقها اكثر من 50% الى 55% على الاكثر وذلك لمدى العوامل الهدامة في التأريخ الاسلامي الذي اوجب - مما اوجب - وضع الكثير من الروايات في سبيل تركيز وتقديس الوضع القائم يومئذ مما لا يخفاكم ولا حاجة الى تفصيله.

الامر الثاني: ان استخدام الانسان لقواه قليلاً او كثيراً غير منوط بالمؤمنين بل ولا المسلمين وغير خاص بالملتزمين بل يعم المنحرفين والشاذين عقائدياً او عقلياً او انسانياً ونحو ذلك، فإن لانفتاح كل روحية في

ص: 154

الانسان مقدماتها واسبابها والتي منها ما هو مادي (اعني من هذا العالم) ومنها ما هو نفسي او فكري، كما ان منها ما هو متعمد للفرد ومقصود ومنها ما يحصل عفواً او صدفة من دون ان يريد الفرد ويتوقع.

وبالطبع اذا كان مقصوداً وكانت المقدمات صحيحة فسيكون اداؤه جيداً ومستمراً ويكون هو له متحملاً كأنه شيء طبيعي له.. بخلاف ما لو جاء صدفة فانه يكون متقطعاً وقليلاً وتحمل الفرد له قليل وتعجبه منه بكثير.

والذي اود الالماع اليه هنا: ان استخدام هذه القوى منها المقرب الى الله سبحانه ومنها المبعد عنه، فشأنها في ذلك شأن هذا العالم الذي منه المبعد ومنه المقرب، واذا كان الفرد قاصراً - عملياً على الاقل - عن استخدام قواه جميعاً فعليه ان يختار من قواه الدنيوية والروحية ما يقربه الى الله والزلفى لديه وينبذ ما سواه، ولعلي استطعت ان ازيد ذلك توضيحاً بعونه تعالى في الآتي من الكلام.

6 - قول سماحته: (انطلاقاً من تصديق القرآن لقانون العلية...).

سبق الكلام في أقسام القوانين، وبقي عليكم ان تأتونا ببعض الشواهد من القرآن الكريم في تصديق قانون العلية والتفسيرات الطبيعية التي اشرتم اليها.

7 - قول سماحته: (ان هذه الظواهر لها تفسيرها بالاستفادة من آثار عالم الذر..).

ظهر جوابه مما سبق.

8 - قول سماحته: (مما يعد دليلاً على ان الانسان عاش حياة اخرى قبل الدنيا...).

طبقاً لما قلناه لا يكون ذلك دليلاً وانما له دليله المستقل.

9 - قول سماحته: (وقد نسي - أي الانسان - تفاصيله لكنه لم ينس اصل الميثاق...).

ص: 155

لا اعتقد ان للميثاق ربطاً بالظواهر الباراسا يكولوجية، سوى مجرد الاستدلال على العالم السابق لو كان لذلك العالم ربط ما به.

10 - قول سماحته: (والتفسير يكون على اساس ان هذين الشخصين المتخاطبين مرا بنفس الحادثة...).

هذا منطلق من الزعم بأن هذا العالم انما هو مجرد تكرار لذلك العالم، الأمر الذي يأتي في كلامك التعرض اليه وهناك نناقشه.

11 - قول سماحته: (شاء الله تعالى لهما ان يتذكرا هذا الجزء من حياتهم السابقة...).

هذا مبني على نظرية التذكر الافلاطونية التي يدعمها ابن سينا: (فلعلها ذكرت عهوداً بالحمى). وهذا ما سأتعرض له عند المناقشة العامة لهذه الفكرة.

12 - قول سماحته: (ان الانسان عاش حياته هذه كاملة (عدا التفاصيل التشريعية) في عالم الذر...).

الآن حان وقت المناقشة: وهنا ينبغي ان نلتفت الى عدة امور:

الأمر الاول: إن هذا قول بلا دليل ولم اعهد احداً يقول به، ويكفي في نفيه عدم الدليل عليه، فان المتبني له هو المسؤول عن الاستدلال لا النافي له.

الأمر الثاني: انه لا معنى للتماثل ومن ثم التكرار.. مع اختلاف القوانين التكوينية والتشريعية معاً، كما المعت اليه في كلامك، فإن هذا يعني عدة امور:

منها: ان الانسان هناك لم يكن بالغاً الكمال الذي حصل عليه هنا فكيف يفعل الناقص عين ما يفعله الكامل.

ومنها: ان المصلحة التكاملية او قل: التربوية هناك غيرها هنا ومن هنا

ص: 156

كانت القوانين التشريعية بل والتكوينية مختلفة، وهذا يدل على ان ردود افعال الافراد هناك تختلف عنه هنا.

الأمر الثالث: قد يستدل على هذا التكرار بنظرية التذكر الافلاطونية بزعم: ان الانسان يتذكر كل شيء.. الا انها في اعتقادي خاصة غير عامة وتوضيح ذلك بمقدار الامكان: ان افلاطون وغيره يعتقد ان للإنسان خلقة أساسية عظيمة موجودة في عالم علوي هو العالم الذي تنطلق منه الروح اولاً، وتعود اليه ثانياً، وتتذكره في هذا العالم ثالثاً.

وهذا لا ينافي ان الله سبحانه بحسب حكمته قد منع الانسان عن الاستمرار في ذلك العالم وانما بدأ خلقه من جديد محجوباً عن ذلك العالم (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) (وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي - بحسب هذا الفهم - من اخس المستويات واضعفها لكي يكون في طريق الكمال التدريجي، ويمر خلال ذلك بعوالم لا نعلمها (الله يعلمها) حسب الحكمة والمصلحة والتي من جملتها عالم الذر وعالم الميثاق، اما عالم الميثاق فيمثل اول استحقاق كمال الفرد للإعتقاد بالخالق جل جلاله، واما عالم الذر فهو العالم السابق مباشرة على هذا العالم، والانسان في كل تلك العوالم يكون قد نسي خلقته الاساسية وغفل عنها تماماً.

ولكنه حين يصل الى هذه الدنيا التي هي الاساسية في فرصة الطاعة والتكامل يبدأ بتذكر الخلقة الاساسية ويبدأ بالشوق اليها والنواح عليها - كما يقولون - كما يبدأ بعمل المقدمات التي توصله اليها، ولا ينالها الا ذو حظ عظيم.

إذن فالتذكر انما هو لمعرفة حقيقة النفس وليس لكل الافعال والاقوال الصادرة عنه في العالم السابق، والأمر بهذا المقدار لا غبار عليه فيما أرى، ولكنه خاص جداً كما تعلم فالرجاء ملاحظة ذلك.

ص: 157

إن افلاطون وسقراط وآرسطو واضرابهم لم يكونوا كما حاولت اوروبا فهمهم وكما عرضهم (عملاؤها) في الكتب التي ترجمتهم وتحدثت عن الفلسفة اليونانية كيوسف كرم او غيره، بل لهم نظرة اخرى اعمق واشمل كالنظرة التي ينظرها اليهم صدر المتألهين في الاسفار، والتي تدل عليها كتاباتهم انفسها لمن اطلع عليها.

13 - قول سماحته: (قال السيد الطباطبائي) ما نصه: (ان للإنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش فيها حياة اخرى...).

هذه هي الحياة الآخرة الآتية بعد الموت ولا نقاش فيها.

14 - قول سماحته: (ويظهر من كلامه تعالى ايضاً ان للإنسان حياة اخرى..).

وهذا واضح بعد الذي قلناه فيما سبق.

15 - قول سماحته: (يحذوها فيها كما يحذو حياته الدنيا فيما يتلوها...).

ما معنى هذا الكلام؟ (يحذوها فيها كما يحذو الخ) فان التفسيرات الممكنة له احد امرين:

الأمر الأول: ان يكون الاحتذاء والمشابهة من جميع الوجوه واشكال السلوك وهو امر قد سبق ان ناقشناه ولا يكون كلام السيد الطباطبائي (قدس سره) حجة في اثباته.

الأمر الثاني: ان لكل من العوالم التي يمر بها الانسان تأثيراً على الفرد في تكامله او تسافله وهذا مما لا شك فيه، بل لكل من العوالم السابقة تأثيراً على تصرف الفرد في العالم الذي يليه، وهذا ايضاً اكيد في نفسه، ولكنه لا يعني بأي حال المشابهة الكثيرة فضلاً عن التطابق، بل قد لا يعني شيئاً من المشابهة كما هو واضح لمن يفكر.

ص: 158

16 - قول سماحته: (ولكن هذا التفسير كما هو واضح لا يشمل جميع الظواهر الباراسا يكولوجية...).

بعد ان تمت مناقشة اصل النظرية التي عرضتموها لا يكون هذا (القصور) النظري محزناً.

17 - قول سماحته: (ولكنها لا تخلو من ارتباط بظروف عالم آخر وراء المادة وهو موجود الآن).

هذا اكيد وقد سبق ان المعنا اليه في تقسيم القوانين الكونية الى ثلاثة اقسام، وليتكم عوضتم بهذا عن (عالم الذر) كمفسر للظواهر الروحية فان فيه الكفاية كما رأينا.

18 - قول سماحته: (حيث تتاح لافراد العالم الآخر امكانات هائلة...).

لابد انك تقصد الافراد الذين استطاعوا استخدام قواهم الكامنة من افراد هذا العالم، وهم ليسوا من افراد عالم آخر على أي حال.

19 - قول سماحته: (نرى ان اصحاب هذه الظواهر يحتاجون الى مجاهدات روحية...).

سبق ان قسمنا ظهور القوى الكامنة الى ما هو عمدي والى ما هو صدفي او اتفاقي، فقد يلتفت الفرد الى وجود بعض قواه النفسية ويستهدف انفتاحها له ويقدم المقدمات لذلك، والذي افهمه ان المقدمات لكل القوى انما هي مبتنية على مجاهدات وصعوبات ينبغي ان يمر بها الفرد.

سواء من ذلك القوى المستخدمة في القرب الى الله سبحانه او المستخدمة في البعد عنه كالسحر وتسخير الجن وغير ذلك، ولعل فيما يأتي توضيحاً لذلك ان شاء الله تعالى.

20 - قول سماحته: (أي يتصل بهذا العالم الآخر المصاحب لعالم الدنيا زماناً...).

ص: 159

في هذه السطور خلطٌ بين العوالم الروحية، فاننا مهما قلنا واكدنا على وجود عالم الذر السابق على هذا العالم بوجوده في هذا العالم لا نستطيع أن نؤكد تأثيره الفعال في إيجاد الظواهر الروحية، بعد الذي قلناه سابقاً وسأشير اليه بعد قليل.

فإن الموجود في هذا العالم ايضاً هو قوانين (القسم الثاني) الخاصة بالعالم الروحي الذي هو اعلى واشرف واعمق تأثيراً واوسع سيطرة من المادة وقوانينها، الامر الشامل للخلقة الانسانية التي سبق وصفها، وهذا بمجموعه هو الذي يؤثر في الظواهر الروحية الباراسا يكولوجية كل منها حسب ما يناسبه من تلك القوانين.

21 - قول سماحته: (أي يتصل بهذا العالم الآخر المصاحب لعالم الدنيا زماناً لكنه متقدم رتبة..).

التقدم في الرتبة يعني هنا احد امرين او كلاهما:

الأمر الاول: العلية والسببية يعني لولا وجود الانسان في عالم الذر لما امكن وجوده في هذه الدنيا.

الأمر الثاني: السببية في التكامل يعني لولا الكمال النسبي الذي حازه هناك لما امكن استمراره في التكامل هنا.

وكلا هذين الأمرين بحسب ما نعرف من النظام الالهي صحيح، واما تفسير التقدم الرتبي بانه هو العالم المسيطر على العالم المادي فهو امر غير صحيح بل العالم المسيطر غيره كما عرفنا.

22 - قول سماحته (وهو الرأي الذي تبناه السيد الطباطبائي في تحليله حول عالم الذر معارضاً بذلك الرأي القائل بأن البشر خلقوا في عالم الذر...).

قصدك: مؤكداً لا معارضاً.. والا يكون في العبارة تهافت واضح، وهو انما قد اكد ذلك في عبارته السابقة فعلاً ولم يعارضه.

ص: 160

23 - قول سماحته (معارضاً بذلك الرأي القائل بأن البشر خلقوا في عالم الذر قبل الدنيا واخذ منهم الميثاق على الربوبية (الاعراف 172-173) ثم اعيد الى محله وفُني ذلك العالم...).

هنا نقطة خلاف لم التفت اليها قبل سطرين، والحق مع السيد الطباطبائي حسب فهمي، فان فناء ذلك العالم يعني عالم الذر السابق.. مبني على انتهاء الحاجة اليه بعد خروج كل من فيه الى هذا العالم، ووجود الشيء بعد استنفاد اغراضه لغو محض اذن فلابد ان يكون ذلك العالم قد فني.

الا ان هذا كلام فارغ لأن الخروج منه الى الدنيا تدريجي وقد كان هذا الخروج بالولادات ساري المفعول ولا زال كذلك وسيبقى الأمر الذي يدل بوضوح ان قسماً من الناس لا زالوا فعلاً في ذلك العالم (ينتظرون) الولادة في هذه الدنيا، الأمر الذي يؤكد وجود المصلحة في بقائه وعدم فنائه وعدم كونه لغواً محضاً.

24 - قول سماحته (وعلى أي حال فلابد لهذه الظواهر من تفسير طبيعي من وجهة نظر العلماء الالهيين...).

سبق أن ناقشنا هذه العبارة، وقد اجبنا عن هذا السؤال بإسهاب فخذ ما آتاك الله وكن من الشاكرين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

25 - قول سماحته (وبدون هذا التفسير الطبيعي فستصبح هذه التصرفات معاجز لأنها خارقة للعادة...).

بقي علينا ادراك الفرق بين الظواهر الروحية والمعجزات: ان ذلك يكون على عدة مستويات:

المستوى الاول: مستوى اهل الغفلة والذين اخلدوا الى الارض، وهؤلاء يكفيهم وجود الفعل الخارق المصاحب لادعاء النبوة في التصديق بها، وهو

ص: 161

ايضاً المطابق مع ظاهر القواعد الاسلامية التي يؤكد عليها امثال السيد الخوئي في التفسير والسيد (شبر) في حق اليقين وغيرهما.

وهو كاف فعلاً مع وجود اليقين في النفس وهو الاذعان العقلي والنفسي بصدق مدعي النبوة، فان المهم امام الله سبحانه هو هذا اليقين والاذعان مهما كانت مقدماته.

المستوى الثاني: مستوى من يلتفت الى هذه الظواهر الروحية ويكون مستواه هو مستوى المثقف العصري في زماننا هذا، فمثل هذا الفرد او الجيل نقول له ما سجلناه في بعض بحوثنا حول الفرق بين السحر والمعجزة.

حيث ان أهم ما قلناه هناك: ان هناك صفات معينة نتوخاها في مدعي النبوة:

الأول: صلاحه الشخصي كفرد ممثل لقمة عليا من الانسانية والاخلاق والصفاء بحسب تجربتنا الحياتية السابقة معه، (ولو المنقول لنا بالتواتر عنه كنبي الاسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).

الثاني: مجيئه بالعدل الشامل الكامل في التشريع والتطبيق، الامر الشامل للعقيدة الحقة بما فيها من تجريد وعمق.

الثالث: مجيئه بمعجزة خالدة مع الدهر بحيث يمكن اثبات عجز الآخرين عنها مهما اوتوا من قوة مادية او روحية وعلى مدى الاجيال وفي كل وقت، ويكون التحدي القرآني شاملاً لكل ذلك.

فكل من كان حاله ذلك كنبي الاسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) آمنا به، وان السحرة وغيرهم احقر واضعف من ذلك بكثير.. ولو كان لهم قوة كافية لكانت لهم سيطرة كافية على العالم مادية او روحية مع العلم ان ذلك

ص: 162

لم يحصل لأي واحد منهم.

المستوى الثالث: مستوى الفرد الواصل الى العلوم الحقة والممارس للظواهر الروحية، فمثل ذلك الشخص يستطيع ان يعرف الحق من الباطل بطريقته الخاصة التي هو اعلم بها من غيره وربما تختلف بين اولئك الخاصة.

والنتيجة واحدة وهي قوله تعالى (وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) - هكذا الآية او نحوه -.

الحمد لله رب العالمين.

ص: 163

رسالة أخرى حول الظواهر الباراسا يكولوجية

قرأت تفسيرك للظواهر الباراسا يكولوجية وكان رأياً سديداً فلله درك والحمد لله على ما انعم، وقد وجدت بعدئذ ما يدعمه من وجهة نظر الطب في كتاب (الطب محراب الإيمان)(1) (ص 172-175) تحت عنوان (فكرة مبسطة عن الغدة الصنوبرية) وسأقتبس بعض الفقرات منه وبواسطته من كتاب (الإنسان ذلك المجهول) و (الغريزة - الجزء الثاني) لكي تطلع عليها، قال المؤلف: (تقع هذه الغدة في مكان يصعب الوصول اليه وهذا مما دعا الى عدم معرفة دور هذه الغدة الحقيقي، فهي تقع في اعلى الجذع الدماغي قريباً من السويقات المخية بين حديبات تسمى الحديبات التوأمية، ولقد لوحظ ان هذه الغدة تشبه العين الثالثة عند الحيوانات مثل الضفادع، فهي تلون الجلد

ص: 164


1- كتاب فريد في بابه وضعه المؤلف (الدكتور خالص جلبي كنجو) كرسالة لنيل شهادة الدكتوراه في الطب في اختصاص التشريح ويبين معجزة خلق الانسان وتصميمه، وهذا الاتجاه في الاطلاع على الآيات الافاقية افضل الاتجاهات لأنه يعرفك نفسك التي بين جنبيك وتجد من خلاله معنى قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وقول امير المؤمنين (عليه السلام): اتحسب نفسك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر كما يتعرض لبعض الحالات المرضية الغريبة التي يسببها أي خلل يحصل في هذا البناء العظيم مما يجعلك تأخذ نفساً عميقاً - كما يقول المؤلف - وتحمد الله تعالى ان انقذك منها، والخلاصة انك تقرأ الكتاب يلهج - ويجب عليه ذلك - شكراً لله تعالى ويسبح بحمده وعظمته وتنظر باحتقار الى من يفر من الله سبحانه الى القول بالصدفة او الطبيعة والكتاب طبع عام 1971.

حسب حاجة البدن فيما اذا تعرض للنور، ونزع هذه الغدة يفضي الى عدم الاصطباغ المعهود للجلد في حالة عدم التعرض للنور).

اما عن دورها في الانسان فينقل المؤلف هذا النص من كتاب (الغريزة الجزء الثاني).

(يرى كثيراً من العلماء ان وظيفة هذه الغدة تتعلق بنمو الحاسة الجنسية، وهي تماثل في الحشرات العيون والنوافذ اذ تتلقى الاشعاعات الاثيرية التي يستعصي ادراكها على الحواس المعروفة فتنقلها الى اجزاء المخ، وهذه تجعلها جلية واضحة، وتحولها الى لون من الوان الوعي، وهي بذلك تعتبر مقر الحاسة السادسة، وتكون في الحيوانات حاسة الاتجاه وغريزة التأديب، فالنحلة تجمع الرحيق ثم تندفع نحو قفيرها في اتجاه مستقيم قاطعة طريقاً قد يبلغ طولها الميلين او اكثر مهتدية بهدي هذه الحاسة، ولذلك فهي عضو حسي يتلقى الذبذبات من الخارج ووظيفتها في الانسان حسب رأي (سيثيل) الاستجابة الى الذبذبات التي تنبعث من الاشياء ولا تستطيع الحواس الخمس المعروفة ان تدركها إما لبعدها او لتدخل ما نسميه المواد المعتمة، وهي اذن مقر المواهب الخفية التي تسمى عند الانسان بالاستشفاف وكذلك التخاطر (التلباثي) أي انتقال الافكار من ذهن شخص لآخر).

وقال صاحب كتاب (الانسان ذلك المجهول): (أن البصر المغناطيسي وتراسل الافكار: معلومات اولية للملاحظة العلمية وفي استطاعة من وهبوا هذه القوة ان يستشفوا افكار الآخرين السرية دون ان يستخدموا اعضاءهم الحسية، كما انهم يحسون ايضاً بالاحداث السحيقة سواء من الناحية الفراغية ام من الناحية الزمنية، وهذه الصفة استثنائية وهي لا تنمو الا في عدد قليل من بني الانسان الا ان هناك كثيرين يملكون هذه الصفة بحالة بدائية، وهم يستخدمونها دون بذل أي جهد وبطريقة تلقائية، ويبدو ان البصر المغناطيسي

ص: 165

مسألة عادية لمن يملكونه، وهو يجلب لهم معلومات اكثر توكيداً من المعلومات التي يحصل الانسان عليها بواسطة اعضاء الحس).

وتراسل الافكار كثير الحدوث، ففي كثير من المناسبات في اوقات الموت او الخطر العظيم يدفع الفرد الى انشاء علاقة معينة بشخص آخر، فالرجل الذي كتب عليه الموت او ان يصبح ضحية احدى الحوادث، وان لم تعقب الوفاة اصابته في الحادث يبدو لصديقه وكأنه في حالة طبيعية لا غبار عليها لأن شبح الموت يظل عادة صامتاً، وقد يحدث احياناً ان يعلن الشخص الذي سيموت انه سيموت عما قريب، وكذلك فان البصر المغناطيسي قد يرى ايضاً منظراً او شخصاً او قطعة من الارض على بعد سحيق (تذكر حادثة عمر، منه).

ويكون في استطاعته ان يصفها بدقة(1)، وهكذا فان معرفة العالم الخارجي قد تصل الى الانسان عن طريق مصادر اخرى غير اعضاء الحس، ومن المحقق ان الفكر قد ينتقل من فرد لآخر ولو كانت تفصل بينهما مسافة كبيرة، وهذه الحقائق التي تنتمي الى علم ما وراء النفس الجديد يجب ان تقبل على علاتها، انها تكون جزءاً من الحقيقة، وتعبر عن جانب نادر يكاد يكون غير معروف من انفسنا، ومن الجائز انها مسؤولة عن الدقة العقلية الحاذقة التي تلاحظ في افراد معينين)(2) ويتابع المؤلف (ان ما مر يذكرنا بما جاء في القرآن الكريم على لسان يعقوب (عليه السلام) (وَ لَمّا فَصَلَتِ الْعِيرُ8.

ص: 166


1- ويمكن ان نضيف هنا وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لبيت المقدس بعد عودته من الاسراء وهو في مكة.
2- الانسان ذلك المجهول/ص 147-148.

قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ)(1) هذا بعد قطع الامل من رؤيته وكان الاخوة في طريقهم لأخذ الوالد الصبور للقاء ولده الذي فقده منذ بضعة عشر عاماً).

ويمكن ان تفسر لنا هذه الحقائق تأكيد القرآن لوجود الآثار المادية السيئة للحسد وهو حالة نفسية خالصة، وذلك في قوله تعالى (وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(2) حيث يمكن للحاسد ان يوجه من عينيه موجات تؤثر في الطرف الآخر وتحدث خللاً في سير بنائه مما يولد اعراضاً مرضية او الوفاة احياناً.5.

ص: 167


1- يوسف: 94.
2- الفلق: 5.

جواب الشهيد الصدر (قدس سره)

قول سماحة الشيخ في الهامش (2): (ويمكن ان نضيف هنا وصف النبي لبيت المقدس...).

تفسيرك هذا يا حبيبي مبني على ان ذهاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الى بيت المقدس كان ذهاباً روحياً او قل: فكرياً.. ولم يكن جسدياً الا انه خلاف المشهور جداً ولعل من ضرورة المذهب لدينا خلاف ذلك، اعني انه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ذهب فعلاً بجسده لا بروحه او قل بهما معاً، وهو ظاهر القرآن الكريم، (راجع الآيات) نعم، تفسير موقف يعقوب (عليه السلام) وانه وجد ريح ابنه كذلك تفسير (اصابة العين) او المنحى الروحي امر لطيف ومسر.

ص: 168

البحث الرابع: فهم ما وراء النص

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع الانبياء والاوصياء.

لا بد لي قبل عرض البحث ان استمحيك عذراً لتدخلي فيما لا يحق لي التدخل فيه ولجرأتي على مقام العلماء الذين اتشرف ان اكون تلميذاً متواضعاً ومطيعاً لهم ولكن الذي يحدوني على هذا التطفل امور:

الاول: حلمك وسعة صدرك.

الثاني: وجوب عرض أي شيء يراد القاؤه الى الأمة - لو اتيح له ذلك - على العلماء وذوي الرأي فيه ليقرر رأيهم قبل ان تعرض على الملأ لئلا تثير اللغط والشبهة في اوساط العامة ويكثر تطفلهم كما حدث غير مرة في حين ان عليهم الطاعة العمياء للعلماء المخلصين وكفى أما ما عدا ذلك فموكول الى اولي الأمر.

الثالث: استطلاع رأيكم والاستفادة من نمير علمكم العذب بما تتحفونا من آراء وتوجيهات ولسان حالي هل اكتفيت فأقول هل من مزيد.

فأمِط عن جهلي وفضولي غضبك وأقرأ متفضلاً وماناً على تلميذك المتواضع.

خلال قراءتي لعدة كتب في تفسير القرآن والاطلاع على مختلف الآراء في التفسير كان العجب يتملكني احياناً عندما أرى معنى الآية الكريمة - في حدود فهمي القاصر - وبنظرة واحدة في مستوى من الوضوح بحيث

ص: 169

اتوقع اتفاق المفسرين عليه لكن لا البث حتى ارى اقوالاً متضاربة ومتباينة واذا كان قسم منها يقترب من المعنى - الذي اسميه واضحاً - فان اقوالاً اخرى تبتعد عنها بعد السماء عن الارض، من ذلك تفسير البعض لقوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي بامهاتهم حيث ان (إمام) جمع (أم) وهو ما يأباه الذوق السليم واللغة القويمة واذا كان هذا التفسير واضح البطلان فلننتقل الى مثال ادق بقليل، كما في قوله تعالى على لسان النبي شعيب (عليه السلام) (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ (1) اللّهُ رَبُّنا).

فقد فسرها بعضهم انه:

(لا ينبغي لنا ان نعود الى الشرك ونترك الحق الذي نحن عليه الا اذا كان الله سبحانه وتعالى قدر علينا في سابق علمه ان نتردى في هوة الكفر بعد ان نجانا منها فهو وحده الذي يعلم ذلك) وهو معنى نجلّ الفرد من المؤمنين (فضلاً عن نبي كريم كشعيب (عليه السلام) ان يقوله ولا ان يخطر على باله بعد ان شرفه الله تعالى وهداه الى صراطه المستقيم والحقيقة ان جملة القطع (إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّنا) ببساطة ليست الا تعبيراً عن ادب الانبياء (عليه السلام) مع ربهم حيث لا يقدمون شيئاً ولا يؤخرون الا وفي اذهانهم (إن شاء الله) وهو معنى قوله تعالى (وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ) ولا تحمل جملة القطع اكثر من هذا المعنى.

سقنا الكلام اعلاه كمقدمة لما نريد ان نقوله إذ ان هذا التباين - واحياناً يكون بسبب قلة الكفاءة - موجود في فهم الفقهاء للنصوص ونحن لا نقصد الاختلاف الحاصل بسبب التباين في ملكاتهم الاجتهادية فهذا مما لا محيص عنه وانما نقصد به (عدم اعطاء الظهور اللفظي ابعاده الحقيقية وفهمه حق فهمه) وهو لا يعود الى خلل في ملكتهم وانما بسبب الالتزام بالاحتياط

ص: 170

احياناً او الجمود على ظاهر النص والتحايل عليه وعدم (2) الخروج الى ما وراء النص او عدم التعامل مع النص تعاملاً روحياً وانما على صعيد الاوراق فقط ولا يعد هذا قولاً بلا دليل او افتاءً بالرأي كما سنرى بعدئذ انشاء الله تعالى إنه قول بدليل فعلاً ولكنه يكتنف بشيء من الغموض وسأستعين على توضيح مقصودي هذا بعرض نماذج فقهية ليس غرضي منها الافتاء او ترتيب الآثار عليها - والعياذ بالله - بل للمناقشة:

1 - حرم الفقهاء تصوير ذوات الارواح مطلقاً بناءً على عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ظاهر النصوص ولكن بمساعدة فهم الظروف والملابسات المحيطة بالحكم كالفترة التأريخية للحكم وكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائد ثورة تغييرية لمجتمع ذي تقاليد جاهلية معينة ونحو ذلك نقول بالاستفادة من ذلك نفهم ان الهدف منه هو قطع دابر الوثنية وعبادة الاصنام، اما اليوم وبعد ان اصبحت الاصنام المعبودة من دون الله تعالى من غير الحجارة والخشب والمواد الاخرى فيظهر ان حكم التحريم يجب ان يعاد النظر فيه (3) حيث اصبح الهدف من تجسيم ذوات الارواح امور اخرى غير محرمة كالزينة وتخليد العظماء ولعب الاطفال.

2 - من شروط الربا أن يكون العوضان من جنس واحد اما اذا لم يكونا كذلك فلا بأس لذا جاء في احدى الفتاوى (لا بأس بالزيادة في احد الطرفين اذا اضيف الى الآخر شيء كأن باع مناً من الحنطة مع منديل بمنين من الحنطة وكذلك اذا كانت الاضافة في الطرفين كأن باع مناً من الحنطة مع منديل بمنين ومنديل). وهو تحايل فظيع (4) على النص اذ ان اشتراط وحدة العوضين انما هو لفسح المجال امام البيع والمعاوضة المشروعة اما ان يستغل ظاهر النص فيفتى بمثل الفتوى اعلاه فهو خيانة للشرع وللعقل المسؤول عن فهم الشرع ويحتاج جرأة على الله تعالى ولو خرج الفقيه قليلاً وراء اللفظ

ص: 171

لرأى ان ما افتى به هو عين الربا المحرم لكنه مزوق بثوب فضفاض.

3 - وفي مسائل الخمس يمكن ان نستفيد من هذا الفهم لظهور النص وجوب الخمس على المكلف في بعض الحالات التي يتخلص فيها الشخص من الخمس ببعض الحيل الشرعية كمن يشتري قميصاً وهو يملك خمسة قمصان ولا يحتاج - ضمن طبقته ووضعه الاجتماعي وحاجته الشخصية - الى اكثر من خمسة قمصان للتبديل بينها فيقوم - للتخلص من الخمس - بارتداء هذا القميص الزائد عن المؤونة مرة واحدة ويتركه وعندئذ يرى انه محتاج للقميص لأنه (5) استعمله وهو فهم خاطىء للزيادة عن المؤونة الواردة في النصوص اذ انها تخص ما زاد عن الحاجة قوةً وفعلاً لا ما لم يستعمله الانسان وبنفس الفهم يجب الخمس على من يشتري عدداً من الكتب لمجرد ملأ مكتبة ما وهو لا يحتاج الى اغلبها فيقوم بتصفح الكتب فقط لكيلا يستحق عليه الخمس بحجة انه استعملها علماً بأن النص لم يجعل الاستعمال وعدمه مداراً للخمس وانما الزائد عن الحاجة والمؤونة.

4 - وبنفس المنظار نفهم ان نجاسة الخمر والمسكر (6) يقصد به نجاسة الشراب ونحوه ولا حاجة الى الخلط بينه وبين أي مادة يدخل في تركيبها الكحول كالاسبيرتو وماء الكولونيا وما شابه لأن النجس هو المسكر المائع في حين ان الكحول عندما يضاف لصنع هذه المواد لا يضاف كمائع مسكر يشرب وانما بطريقة كيميائية لذا افتى العلماء بطهارة المخدرات الجامدة كالهيروين والكوكائين.

احس الآن ان مصطلح (فهم ما وراء النص) اصبح واضحاً، اقول: ظلت هذه الفكرة تراودني - لمجرد البحث العلمي والتحقيق لا للتطبيق - فترة لكني كنت احاول ان اقبرها في مهدها لأني لست من اهلها اولاً ولأني أرى فيها افتاءً بالرأي وهو محرم قرآناً وسنة رغم أني كنت اعود فأقول: انها ليست

ص: 172

كذلك لأنها من قبيل الظهور اللفظي الذي هو حجة في اصطلاح الاصوليين لأن الظهور اللفظي لا يعني المتبادر الى الذهن من اللفظ فقط وانما هو مع مراعاة الظروف والملابسات التي تحيط بالنص ومناسبته وغير ذلك، واحياناً اقول انه ما دام لم يثبت أي شيء عليه سلباً او إيجاباً فهل يمكن الالتزام به فيما يقع في جانب الاحتياط كالمثالين الثاني والثالث اعلاه.

بيد إني لم البث الا قليلاً حتى قرأت بحثاً للسيد(1) (قدس سره) عنوانه:

(المفهوم الاجتماعي للنص في فقه الامام الصادق (عليه السلام) ابدى فيه اعجابه لما ابداه الشيخ محمد جواد مغنية مؤلف كتاب (فقه الامام جعفر الصادق (عليه السلام) من فهم لما وراء اللفظ للحديث الشريف ومراعاة كل الظروف والقرائن المرتبطة بالنص، وقام بدوره في شرح هذا النهج الجديد في البحث الفقهي، وسأحاول تلخيص بحث السيد (قدس سره) لنتمكن من المناقشة والمقارنة بينه وبين ما اسميناه (فهم ما وراء النص):

للنص مدلولان: لغوي او لفظي، واجتماعي ويمكن تعريف الفهم الاجتماعي للنص بانه فهم النص في ضوء ارتكاز عام يشترك فيه الافراد نتيجة لخبرة عامة وذوق موحد وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنص الذي يعني تحديد الدلالات اللفظية الوضعية (أي الدلالات الناتجة عن وضع الكلمات في اللغة) والدلالة الوضعية: السياقية (أي الناتجة عن سياق الحديث وطريقة التعبير) ويأتي دور الفهم الاجتماعي للنص حين ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له، فإن الفقيه في الدرجة الاولى يحدد المعطى اللغوي واللفظي للنص ثم بعد ان يعرف معنى اللفظ يسلط عليه الارتكاز الاجتماعي ويدرس المعنى بالذهنية الاجتماعية المشتركة (مناسبات).

ص: 173


1- يعني الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره).

الحكم والموضوع) فيظهر له من النص اشياء جديدة لم تكن تبدو على مستوى الدرجة الاولى في حدود الفهم اللغوي للفظ.

والاستفادة من المدلولين ليس جديداً في ممارسة الفقهاء للعمل الفقهي لكن الجديد الذي عالجه الشيخ مغنية هو التمييز بين الجانبين واعطاء كل منهما ملاكه وحدوده بعد ان كانا مزدوجين وتحت اسم واحد وهو الظهور.

وهناك مثالان لتوضيح المنهج:

1 - فلو دل النص على ان من حاز ماءً من النهر او خشباً من الغابة ملكه، نفهم فيه ان كل من حاز شيئاً من الثروات الطبيعية الخام ملكه دون فرق بين الماء والخشب وغيرها، لأن مناسبات الحكم والموضوع لا تسمح بجعل موضوع الحكم محصوراً في نطاق الخشب والماء فحسب.

2 - ومثال آخر: اذا جاءت الرواية في ثوب اصابه ماء متنجس وأمرت بغسل الثوب نعرف ان الماء المتنجس اذا اصاب شيئاً نجسه، سواء أصاب الثوب أو أي شيء آخر، لأن مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة في الذهنية العرفية العامة لا تقبل ان تنجيس الماء المتنجس خاصاً بالثوب، فالثوب يعتبر في الرواية قد جاء على سبيل المثال لا التحديد.

اما المبرر للإعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النصوص فهو نفس مبدأ حجية الظهور لأن هذا الارتكاز يكسب النص ظهوراً في المعنى الذي يتفق معه وهذا الظهور حجة لدى العقلاء كالظهور اللغوي لأن المتكلم بوصفه فرداً لغوياً يفهم كلامه فهماً لغوياً وبوصفه فرداً اجتماعياً يفهم كلامه فهماً اجتماعياً وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم.

ويبقى شيء وهو ان الفهم الاجتماعي للنص غير القياس المحرم في مذهب اهل البيت (عليهم السلام) لأن تعميم الحكم - في الفهم الاجتماعي -

ص: 174

لغير ما ذكر في النص ليس على اساس القياس وانما على الارتكاز الذي يشكل قرينة على ان ما ذكر في النص وانما جاء على سبيل المثال فيكون الدليل نفسه ظاهراً في الحكم العام والمشكلة التي تحل على هذا الضوء هي ان كثيراً من الاحكام بينت عن طريق الجواب تحل أسئلة الرواة التي تكون غالباً حالات خاصة ويكون جواب الامام عليها بالذات لكن حالاتهم تكون امثلة لغيرها من الاحكام وجواب الامام يكون عندئذ على سبيل المثال فيمكن تعميمه لتكون اقرب الى واقع الحدود المحتملة لتلك الاحكام، إنتهى ملخصاً.

ويلاحظ هنا ما يلي:

1 - في المثالين الذين ذكرهما السيد (قدس سره) لا يظهر الفرق واضحاً بين منهج الفقهاء في عدم التمييز بين المفهومين (اللغوي الوضعي والاجتماعي) وبين المنهج الجديد الذي عرضه الشيخ مغنية، اذ ما من فقيه يقف في هذين المثالين عند الحدود اللغوية للفظ والتعميم امر مفروغ منه (7).

2 - ان التوسع في فهم النص قد لا يكون بداعي الارتكاز الاجتماعي العام وانما بالاستفادة من الظروف التي احاطت بالنص وتأريخه (8) ومناسبته وكذلك فان بعض اوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صدرت لكونه قائداً أعلى للدولة فأوامره ونواهيه في هذه الحالة لا ينظر (9) اليها كتلك التي تصدر منه كرسول مبلغ عن الله تعالى ومن هذا القبيل حديث الفرار من الوباء فعن الحلبي قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوباء فيكون في ناحية المصر فيتحول الرجل الى ناحية اخرى او يكون في مصر فيخرج منه الى غيره فقال: لا بأس، انما نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك لمكان ربيئةٍ كانت بحيال العدو فوقع فيهم الوباء فهربوا منه فقال رسول الله

ص: 175

(صلى الله عليه وآله وسلم): الفار منه كالفار من الزحف كراهية ان يخلو مراكزهم (روضة الكافي، حديث 85، ص 93) فالذي يفهم هذا النص مبتوراً يعمم (10) الحكم لجميع الازمان والظروف ولا يضعه في ظرفه الخاص.

ومثله ما سار عليه كثير (11) من علمائنا بعدم ذكر اسم الامام المهدي (عليه السلام) لنصوص وردت في ذلك رغم ان الحكم كان لكي لا تعرف السلطة ان للعسكري (عليه السلام) ولداً اسمه (محمد) ويزول الحكم بانتفاء موضوعه وقد صرحت بذلك احاديث اخرى تعتبر مقيدة للأحاديث السابقة من ذلك ما روي عن ابي عبدالله الصالحي قال: سالني اصحابنا بعد مضي ابي محمد عليه السلام أن أسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: إن دللتهم على الاسم اذاعوه وإن عرفوا المكان دلوا عليه، (اصول الكافي، كتاب الحجة، باب: في النهي عن الاسم، حديث 2).

3 - ان السيد (قدس سره) يدعو لادخال مناسبات الحكم والموضوع والظروف المحيطة ونحو ذلك ضمن القرائن المتصلة والمنفصلة للنص اما (فهم ما وراء النص) فنعني به الدخول الى روح النص واستكشاف حدوده أي فهم الاشارات التي يوحي بها النص وكأن النص القي عليك (12) من المعصوم مباشرة وهذا ما لا يدخل ضمن القرائن التي تعارف عليها الفقهاء والاصوليون، على اننا لا نستلم هذا الفهم مباشرة ونعتمد عليه بل نعرضه للدليل وسنجد ان الادلة تساعده بسهولة وتؤيده الملكة السليمة واقل فائدة فيه تبقى في اختصار الطريق لانه سيحصر تفكيرنا في اتجاه معين حتى تثبت صحته او بطلانه بدلاً من مواجهة النصوص والادلة بدون قاعدة سليمة يوفرها فهم النص بأبعاده الحقيقية لأن الطريق سيتشعب وتعسر المهمة وتزداد الجهود.

4 - إن كلا البحثين (13) يدعوان الى كسر جمود ظاهر النص والانتقال

ص: 176

الى كل الافاق التي يمكن ان يستوعبها النص بمراعاة عدة امور منها: مناسبات الحكم والموضوع ومنها كون الحكم عاماً لا يخص المسؤول عنه وانما ذكر هذا على سبيل المثال ومنها - وهو ما نركز على الاستفادة منه - ايحاءات يشعر بها النص وغير ذلك.

وقد وجدت في الموسوعات الفقهية (14) الاستدلالية ما ينطبق على هذا الموضوع وساكتفي بذكر مثال واحد مذكور في محاضرات السيد الخوئي(1) فرغم انه قال إن مثل هذا الفهم (والذي اسماه إشعاراً) مما لا يركن اليه بحسب الصناعة (ص 12) ثم اضاف: الا انه يؤثر بمثابة يخفف عن قوة ظهور الدليل ويتقوى هذا الاشعار بعد ملاحظة الاخبار الواردة في المسألة (نقلنا كلامه بتصرف يسير) اقول: رغم ذلك الا انه استفاد من هذا الفهم ومناسبة الحكم والموضوع في المسألة التالية (ص 178) قال ما نصه: هل يختص الحكم(2) بالشراء او يعم مطلق المعاوضة كالصلح؟ او يعم مطلق الانتقال وان لم يكن معاوضة كالهبة؟؟ وجوه:

اقواها الاخير فإن مقتضى الجمود على ظاهر النص وان كان هو الاول اقتصاراً في الحكم المخالف لمقتضى القاعدة على مقدار قيام الدليل الا ان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الغاء خصوصية الشراء بحسب الفهم العرفي، وإن الاعتبار بمطلق الانتقال من المسلم الى الذمي كيفما اتفق وان التعبير بالشراء من اجل انه الفرد الغالب من أسباب النقل لندرة غيره كما لا يخفى، فلا خصوصية له بوجه، ولا يكاد يفهم العرف فرقاً بين ان يكون النقلم.

ص: 177


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الخمس، مرتضى البروجردي.
2- الحكم هو وجوب الخمس في الارض التي يشتريها الذمي من المسلم.

بلفظ بعت واشتريت او صالحت او وهبت او الشرط في ضمن العقد ونحو ذلك (واضاف، ولعل السر في تشريعه هو التقليل من الانتقال المذكور خارجاً كيلا يتسلط الكفار على اراضي المسلمين ولا تقوى كلمة الكفر وتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ففرض عليه الخمس لكي تقل رغبته في الشراء لتضرره في ذلك غالباً فانه بحسب النتيجة قد اشترى اربعة اخماس الارض بتمام قيمتها).

ص: 178

جواب الشهيد الصدر (قدس سره)

اقول من باب التمهيد: إنك يبدو وتحمل نفسك ما لا تطيق او لا يطيق غيرك على الاقل، فعندك: الثقافة العامة، والجهاد الأصغر والجهاد الاكبر والعلوم الظاهرية الشرعية من الفقه والاصول والتفسير والرجال وغيرها، مضافاً الى الاهتمام بأمور المسلمين والاهتمام بأمور العائلة وغيره مما لا اعرفه، مع العلم ان كل واحد من هذا مع التعمق فيه يقتضي التفرغ له ودفع العمر كله في سبيله..

فأرحم نفسك رحمك الله سبحانه.

وهو بالرغم من ان أكثره بل كله راجح ومطلوب، الا ان الافضل لك هو هذه النقطة التي التفت اليها وحرصت عليها وهو الجهاد الاكبر، وهي فترة قد تطول وقد تقصر، والامل في الله سبحانه وحسن الظن به ان يتداركك بالرحمة والرضوان في اقرب وقت ويوصلك الى النتائج في اسهل طريق، وإن كان ذلك كله اليه سبحانه وقد يحصل ان بعض النتائج لا تحصل الا بعد عدة سنوات كخمسة عشر او عشرين او اكثر، الا انه لا ينبغي اليأس من رحمة الله والقنوط من فضله وسرعة عطائه.

مع العلم ان يد الرحمة والعون ممدودة لكل تائب ومنيب.

ومحل المقصود انها على أي حال ليست فترة مؤبدة بل يصل الفرد بعدها الى مرحلة لا تحتاج الى كلفة كثيرة، بعد ان يكون قد وصل الى نتائج مهمة وواضحة.

وعندئذ كما اشرنا قبل فترة، يصح الالتفات الى الجهاد الأصغر وغيره.

إذن فمثل هذا البحث الذي هو راجع الى مباحث الالفاظ من علم

ص: 179

اصول الفقه لا شك انه مستأنف بالنسبة الى اهدافك الكبرى الحقيقية ومبعد لك عنها الى اجل مسمى.

هذا مضافاً الى ان الأمر موكول فيه كله الى علم الاصول ويبحث هناك بتمامه وتوضع فيه التحقيقات والنظريات المتكاملة ولا مجال في هذه العجالة استيعاب ذلك بطبيعة الحال، وهذا مانع آخر عن الجواب ومع ذلك سوف اجيب طلباً لرضاء الله ورضاك في حدود الميسور.

1 - قول سماحة الشيخ (كما في قوله تعالى: إلا أن يشاء الله ربنا...)

هذه المشيئة بحسب ظاهر السياق انها متعلقة بنفس الشيء الذي كانوا عنه وهو العود في ملة الكفر، وهذا واضح.

الا انه يمكن تقسيم هذه المشيئة الى احتمالين: مشيئة تكوينية ومشيئة تشريعية، وكلاهما على أي حال منوطة بالشرط وواقعة في سياقه فلا تدل الجملة على انها موجودة فعلاً بل هي غير موجودة بالضرورة، و - كما قالوا - ان الشرطية تصدق مع كذب طرفيها، وهذا مما يهون الخطب تماماً في كلام الانبياء بل يجعل القضية طبيعية تماماً.. ففكر.

فإن فهمنا منها الارادة التكوينية، كان معنى الآية ما نقلته انت عن البعض ومضمونه: اننا لن نعود الى ملتكم الا اذا شاء الله تعالى ذلك تكويناً علينا بأن كان ذلك موجوداً في سابق علمه وقضائه، وهذا لا يعني انه تعالى شأنه قد شاء ذلك فعلاً كما قلنا.

وإن فهمنا منها الارادة التشريعية، كان معنى الآية: اننا لن نعود الى ملتكم الا اذا أمرنا الله سبحانه بذلك وشرعه لنا، ونحن نطيعه في كل ما يأمر على كل حال، وهذا ايضاً كما قلنا لا يدل على انه سبحانه قد امر بذلك فعلاً.

فليس هناك أي الفات للنظر في مضمون الآية.

2 - قول سماحته: (وهو لا يعود الى خلل في ملكاتهم الاجتهادية وانما

ص: 180

بسبب الالتزام بالاحتياط أحياناً أو الجمود على ظاهر النَص والتحايل عليه وعدم الخروج الى ما وراء النص...).

هذه العناوين: (عدم الخروج الى ما وراء النص) (عدم التعامل مع النص تعاملاً روحياً) تبدو عناوين مجازية ليس لها تركيز بالمرة، مع العلم ان التدقيق العلمي يقتضي خلاف ذلك.

ويكفينا في علم الاصول في فهم الكتاب والسنة اعتبار الظهور حجة اذا ساعدت على إيجاده العوامل الآتية: الوضع اللغوي، القرائن اللفظية المتصلة.

القرائن اللفظية المنفصلة كالمقيد والمخصص، القرائن الحالية التي تحف بالنص بما فيها لغة عصر الصدور، القرائن المفهومة من مستوى السامع وزمانه ومكانه ونحو ذلك، فإن تم الظهور بعد كل ذلك فلا إشكال في حجيته.

فإن كان المقصود مما وراء النص والتعامل الروحي معه هو ذلك فهو المطلوب، والا كان خارجاً عن الصدد تماماً.

نعم، يمكن ان تكون هناك استنتاجات خارجة عن المستوى الفقهي والحجية الشرعية للفظ.. كما في بعض بحوث التفسير والاخلاق والاجتماعيات، ونحوها قد تحصل للفرد ذهنياً نتيجة للتعامل (الروحي) مع النص، كما تعبرون الا ان هذا لا ربط له بالفقه اصلاً، واذا حصل في الفقه احياناً فإنه لا يكون حجة الا نادراً وقد حذر مشهور الفقهاء من ذلك وامثاله وقالوا: انه يقتضي تأسيس فقه جديد، او الذهاب الى خلاف الاجماع احياناً.

3 - قول سماحته: (فيظهر ان حكم التحريم يجب أن يُعاد النظر فيه حيث أصبح الهدف من تجسيم الأرواح أمور أخرى...).

هذا مرفوض فقهياً لأن النص الناهي عن التماثيل يحتوي على ما يسمى (بالاطلاق الازماني) يعني شموله لكل زمان حتى زماننا هذا، ولو كان معللاً

ص: 181

بالعلة التي في كلامكم لأمكن التجاوز عن الحكم مع زوال العلة، وهو امر صحيح اصولياً، الا انه غير معلل لفظياً وانما العلة المذكورة امر ذهني مفروض على النص من الخارج.

4 - قول سماحته: (وهو تحايل فظيع على النص...).

اذا كان هذا العمل لمجرد التحايل والتوصل الى تمرير المعاملة شرعاً.. فأنا شخصياً مقتنع بحرمتها وبقائها على صفة الربوية، ولا اوافق السيد الخوئي في ذلك مع احترامي له، واما لو كان هذا العمل مما هو محتاج اليه سلفاً كما لو احتاج فعلاً الى حنطة ومنديل وكانت الحاجة عقلائية وموجودة في كلا الطرفين وكان قصد المتبايعين التوصل الى نقل الملكية حقيقة، وانما يكون ذلك في معاملة واحدة للسهولة مثلاً او العجلة في الانجاز ونحوها، فهذا مما لا إشكال فيه على الظاهر وليس فيه تحايلاً على النص او جرأة على الله سبحانه، ما رأيك؟

5 - قول سماحته: (وعندئذ يرى أنه محتاج للقميص لانه استعمله وهو فهم خاطئ للزيادة عن المؤنة).

هذا ايضاً، في حدود فهمي يشبه المسألة السابقة، فإن التصرف القليل إن كان حاصلاً لمجرد التهرب من الخمس فإنه لا يسقطه ولا يدخل هذا الشيء - كالثوب مثلاً - في المؤونة، خلافاً لبعض الفقهاء الذين افتوا بذلك.

ولكن اذا كان هذا التصرف القليل محتاجاً اليه حقيقة في بعض الظروف التي يمر بها الانسان فهذا معناه ان الشيء - كالثوب - قد دخل فعلاً في الحاجة والمؤونة وانه قد سقط خمسه، والأمر في ذلك في اللباس والكتب وسائر الاثاث على حد سواء.

6 - قول سماحته: (وبنفس المنظار نفهم ان نجاسة الخمر والمُسكر يقصد به نجاسة الشراب ونحوه...).

ص: 182

بالنسبة الى المسكر فالخمر على عمومها وكل سائل او جامد يحتوي على الكحول بنسبة غير مستهلكة (اكثر من 1,5%) فانه يحرم تناوله، الا ان شرب الخمر شيء وطهارتها او نجاستها شيء آخر، فإن الجامد من الكحول كله طاهر اذا كان جامداً من اصله، كما ان كل السوائل المحتوية على الكحول طاهرة ما عدا المستخرج من العنب فإنها عين النجاسة مضافاً الى حرمة شربها، ومن هنا قلنا بطهارة الاسبرتو والكولونيا وغيرها اذا كانت مستخرجة من غير العنب كما هو الغالب، بل يكفي الشك في مصدرها في جريان اصالة الطهارة فيها ولا يجب السؤال عنها.

أما مسألة: التخدير فهي غير المسكر والمخدرات غير المسكرات، ومن هنا لم يقل احد في كونها نجسة بل ولا محرمة التناول اذا لم تكن مفوتة عن الواجبات اختياراً سواء كانت سائلة او جامدة او من قسم التدخين او السعوط او غيره - نعم قد تحرم مضافاً الى صورة تفويتها للواجبات كالصلاة، قد تحرم للضرر اذا كان معتداً به ومنسوباً اليها عرفاً، كما تحرم للضرر البليغ وان كان يوجد في المدى البعيد بسببها.

7 - قول سماحته: (إذ ما من فقيه يقف في هذين المثالين عند الحدود اللغوية للفظ والتعميم أمر مفروغ منه...).

هذا معناه ان التعميم في الفهم الاجتماعي او مناسبات الحكم والموضوع امر مفروغ عنه او بتعبير آخر، انها تعمل لا شعورياً في اذهان الفقهاء وتلقائياً، وانما الفضل لعلم الاصول الحديث في انه ميز هذه القرينة العامة عن سائر التفاصيل.

8 - قول سماحته: (ان التوسع في فهم النص قد لا يكون بداعي الارتكاز الاجتماعي العام وانما بالاستفادة من الظروف التي أحاطت بالنص وتاريخه...).

ص: 183

هذا صحيح اجمالاً ولا ينافي صحة التعميم بالفهم الاجتماعي، فإن كلا الامرين قد يكون موجباً للتعميم فعلاً، ولا يشكل هذا اشكالاً على ذلك التعميم بأي حال.

9 - قول سماحته: (فان بعض أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صدرت لكونه قائداً أعلى للدولة فأوامره ونواهيه في هذه الحالة لا ينظر إليها كتلك التي تصدر منه كرسول مُبلّغ من الله).

الأصل في ما يصدر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من توجيهات: أنها مبلغة عن الله سبحانه (إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى) فمع الشك نقول انها مبلغة عن الله تعالى وليست للولاية العامة، بل وحتى لو علمنا انها للولاية العامة فإنها لا تزول بوفاته، بل اذا شككنا ببقائها فان الواجب هو امتثالها وسريان مفعولها، ما لم يدل دليل معين على الانتهاء كالرواية المشار اليها في كلامكم.

10 - قول سماحته: (فالذي يفهم هذا النص مبتوراً يعمم الحكم لجميع الأزمان والظروف).

ينبغي ان يكون التعميم مع وجود تشابه مفهوم عرفاً والا كان قياساً محرماً.

11 - قول سماحته: (ومثله ما سار عليه كثير من علمائنا...).

هذا لا يفتي به احد فعلاً، ولا اعلم ان شخصاً بعد العلامة والمحقق افتى به، نعم بعض العلماء المتوسطين احتاط له وجوباً.

12 - قول سماحته: (أي فهم الاشارات التي يوحي بها النص وكأن النص القي عليك من المعصوم مباشرة...).

هذا غير ممكن بالمعنى الحرفي لأنه على خلاف واقع النص، ويستلزم عدة محاذير منها: افتراض صدور النص في هذا العصر لا في عصره، ومنها:

ص: 184

افتراض أن الامام قد اخذ بنظر الاعتبار الارتكاز المتشرعي لنا لا للراوي المخاطب له، ونحو ذلك مما هو غير مطابق للواقع.

فالصحيح هو وضع النص في الموضع الحقيقي له من زوايا: السائل والقائل والزمان والمكان والارتكازات العرفية اللغوية يومئذ، والبناءات العقلائية التي كانت ايضاً، والافكار المعادية التي كانت سائدة - لو كان تأثيراً في النص احياناً - وهذا كله كاف جداً للدخول الى (روح النص) واستنطاقه الكامل.

وعلى أي حال فالأمر عندك إن كان اكثر من ذلك فانا لم افهمه او لم اوافق عليه لأنه - على اقل تقدير - لا حاجة اليه بعد الذي عرضته بخدمتكم.

13 - قول سماحته: (ان كلا البحثين يدعوان الى كسر جمود ظاهر النص).

هذه الفقرة الى رأس السطر صحيح تماماً ولا يختلف عما قلناه اختلافاً جوهرياً.

14 - قول سماحته: (وقد وجدت في الموسوعات الفقهية الاستدلالية ما ينطبق على هذا الموضوع).

أرى همتي ضعيفة في مناقشة الاستدلالات في الفقرات التالية لأن المطلوب (الاصولي) اصبح واضحاً نسبياً وهو الأمر الرئيسي المستهدف في بحثك، فلا شأن لي بالاستدلالات الفقهية فعلاً.

اقول: هنا اود التعليق في نهاية كلامي على ما ذكرته انت في نهاية كلامك بعد مبحث (من عرف نفسه... الخ).

أخي في الله ومولاي: انت تعرف ان الثقل الوحيد الذي اشعر به تجاهك هو الخوف عليك من التحميل الزائد عليك، وأما لو تجاوزنا ذلك او وفقني الله سبحانه الى تنفيذ هذه المهمة، فأنا اول المستفيدين من اسئلتك

ص: 185

أخروياً مضافاً الى الفوائد الدنيوية:

1 - هي قضاء حاجة المحتاج ومن كتم علمه فهو شيطان أخرس.

2 - قد يحصل ان التفت الى حقائق جديدة علي من كلامك.

3 - المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الانفاق.

4 - ادخال السرور على قلب المؤمن.

الى آخر القائمة الطويلة المباركة التي برحمة الله سبحانه تنفذ ولولا ذنوبي وعيوبي لكانت ناجزة وصحيحة، فلماذا ثم لماذا يكون ذلك ثقيلاً علي وهل أنا - باصطلاح الناس - الا رجل دين وظيفتي في المجتمع هو ذلك ونحوه والاكثر منه والاقل، واوقاتي، في ظروف التقية هذه، وافرة نسبياً تسع هذه الاسئلة وغيرها.

واوصيك في نهاية المطاف بما يسمى (حفظ الظاهر) فإن كثيراً من الناس بل اعلى نسبة منهم مبغضون للزهد ونحوه وينبذونه باوصاف عديدة ادناها: التصوف والتحنث.... فحاول، حبيبي ان لا يفهم احد ممن تحتمل انت منه ذلك التزامك بالسلوك الصالح الحقيقي، حتى ولو كان من افراد عائلتك او اقربائك او اصدقائك، وكن في (تقية) كاملة من هذه الناحية جزاك الله خير جزاء المحسنين.

وها أنذا اودعكم الله سبحانه مع زيادة الحرص على طول اللقاء هذا، ولكن المقادير يجب ان تجري كما أراد لها جل جلاله، ولتكن بعونه وعينه موفقاً في كل مسعى وهدف تسعى اليه، وابتهل اليه جل جلاله ان لا يعامل هذا المجتمع البائس كما نحن اهله بل يعاملنا كما هو اهله إنه اهل التقوى والمغفرة وهو الشكور الحليم الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.

والحمد لله رب العالمين.

ان استطعت أن تعيد قراءة هذه الأوراق مرة أخرى فهو الأحجى...

ص: 186

البحث الخامس: مجال الإعجاز في القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

اختلف الباحثون في اعجاز القرآن أيما اختلاف وتعارضوا فيما بينهم شديد المعارضة وهذا الاختلاف في تحديد مجال اعجاز القرآن وهل هو في خصوص نظمه وبيانه أي بلاغته فحسب ام انه - أي القرآن - عام الاعجاز ويتعدى اسلوبه البلاغي الى وجوه اعجازية اخرى وقد اقام كل منهم ادلة على قوله واتهم انصار كل فريق انصار الفريق الآخر بالخطأ والانحراف عن الصواب وسنذكر ادناه مؤاخذات كل منهما على الآخر:

أ - القائلون بالعموم يتهمون الآخرين بالتصادم مع آية (88) من سورة الاسراء الظاهرة بعموم التحدي، والآية هي قوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

ب - اما الفريق الآخر فيؤاخذ على الاول ما يلي:

1 - ان التحدي بقليل القرآن وكثيرة على حد سواء وقليل القرآن احياناً - خصوصاً النازل منه اول البعثة - لا يحتوي على أي من وجوه الاعجاز التي ذكروها ومع ذلك فان التحدي قائم به كغيره وهذا يعني ان هذه الوجوه ليست هي اعجاز القرآن المطلوب كدليل على صدق النبوة.

2 - ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يعرض نفسه على

ص: 187

الناس كان يطلب منهم الايمان به وبرسالته بدليل واحد هو هذا القرآن الذي يقرأه لا ما يحويه من معارف وغيب أو أي وجه آخر من وجوه الاعجاز التي ذكروها.

3 - إن وجوه الاعجاز التي ذكروها (عدا اسلوبه البلاغي) توجد كلاً او بعضاً في كتب الله الاخرى كالتوراة والانجيل ومع ذلك لم يقل احدها انها معجزة بمعنى الاعجاز المعروف للقرآن.

4 - إن من وجوه الاعجاز ما لا تظهر الا بعد مدة قد تطول وقد تقصر كأخبار الغيب واسرار الخليقة ودقة تنظيماته وتشريعاته فهل ينتظر الناس تحققها ليؤمنوا بهذا الاعجاز ام ماذا؟

5 - ما يستفاد من رواية ابن السكيت عن الامام الرضا (عليه السلام) (توجد في كتاب البيان للسيد الخوئي) حيث سأل الامام بما مضمونه لماذا بعث موسى (عليه السلام) بالسحر وعيسى (عليه السلام) بالطب ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكلام والخطب فظاهر سؤال ابن السكيت وتقرير الامام (عليه السلام) له على سؤاله ان المتبادر للذهن من اعجاز القرآن انما هو في اسلوبه البلاغي.

والسؤال هو: ما هو رأيكم بهذا الخلاف؟ ولمن من الفريقين تمنحون تأييدكم؟ ولماذا؟ وهل يمكن استخلاص رأي يتفادى الاشكالات وينسجم مع الادلة؟ وما هي ردودكم واجوبتكم على المؤاخذات اعلاه؟

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 188

جواب السيد الشهيد الصدر (قدس سره)

بسم الله الرحمن الرحيم

وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعتقد ان القرآن الكريم مهما جاء به من شيء او فكرة فانه يأتي بها في اقصى ما يمكن في (عالم الامكان) من اشكالها وعمقها وسعتها واعجازها، ليس في البلاغة فقط بل في كل شيء.

كل ما في الموضوع انه كما ان افراد الانسان: يختلفون في الصفات مع اشتراكهم جميعاً فيها اجمالاً.. فبعضهم يتميز بالذكاء وبعضهم بالشجاعة وبعضهم بالشبق وبعضهم بالصبر وهكذا.. كذلك الآيات القرآنية يتميز بعضها بأن الاظهر فيها تارة هذه الصفة واخرى تلك الصفة وثالثة غيرها وهكذا مع العلم:

1 - ان بعض الصفات تكون سالبة بانتفاء الموضوع في بعض الآيات لانها خارجة عن مجالها بالمرة، فتكون الصفات الاعجازية هي في خصوص الميادين التي تطرقها بطبيعة الحال.

2 - ان بعض الصفات في عدد من الآيات لا يمكن ان يدرك الا

ص: 189

بشروط معينة: منها: عمق الذكاء ومنها عمق العلم ومنها عمق الايمان ومنها المرور بموضوع حياتي معين وهكذا: كان فيها كلها او عدد منها فلا يجب ان نتعرف عليها جميعاً لاننا قد لا نكون حاصلين على شروط فهمه.

ولكن ما عرفناه من وجوه الاعجاز اكثر من الكافي في اثبات صدق النبوة وصدق القرآن الكريم نفسه ولعل اشمل واوضح اشكال الاعجاز هو الاعجاز البلاغي، بالنسبة الى الجمهور العام للبشر ومن هنا كان التركيز عليه في القرآن والسنة عليه اكثر.

واما الجواب على الوجوه المذكورة:

أ - قوله تعالى (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) وغيرها شامل لكل انواع الاعجاز لا لخصوص الاعجاز البلاغي كما هو واضح، فيكون الحق مع المستشكل هنا، بل لا يكون (مِثْلاً) للقرآن الا اذا كان حاوياً على مجموع (صفاته الاعجازية) لا خصوص الاعجاز البلاغي.

وانما تخيلوا ان الاعجاز البلاغي هو الصفة الرئيسية الوحيدة فكان (مثل) القرآن ما كان معجزاً بلاغياً بالخصوص وهو ليس بصحيح، فلو كان الكلام معجزاً بلاغياً فقط لم يكن مثلاً للقرآن الكريم.

1 - هذا الوجه الاول اتضح جوابه مما سبق، فانه ليست كل الآيات متساوية ولا يتساوى فهمها كما قلنا، فقولهم (لا يحتوي على أي من وجوه الاعجاز) موافق لفهم المتكلم به وهو على ما يبدو قاصر عن فهم القرآن الكريم حق فهمه.

2 - لا دليل على اختصاص معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 190

بالقرآن الكريم، بل الظاهر ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان يعرض نفسه على الناس كان:

اولاً: يستعمل قابلياته الشخصية في الاقناع.

وثانياً: الآيات الاخرى غير القرآن احياناً.

وثالثاً: آيات القرآن نفسه مع الاعتماد على الجهات النفسية للسامعين بالمقدار الذي كان لهم من مستوى التفكير، وكان هذا كافياً في اتجاههم الى احترام القرآن وإيمانهم به.

3 - لم يثبت وجود أي وجه من وجوه الاعجاز في كتب العهود السابقة سواء منها الموجود باليد او التالف، ولهذا لم يقل احد بأنها اعجازية، ومن الواضح ان الانبياء السابقين لم يكونوا يعتمدوا في معجزاتهم عليها بل على المعجزات الاخرى المروي قسم منها في القرآن الكريم نفسه.

وانما هذه الكتب في واقعها تتكفل مهمتين رئيسيتين:

اولاً: التشريع العام الذي يكفل تنظيم المجتمع وهذا هو الاغلب في التوراة.

ثانياً: التوجيه الى الله تبارك وتعالى والخشوع له وتكريس الحياة من اجل رضاه. وهذا هو الاغلب في الانجيل، مع وجود كلتا الصفتين في كلا الكتابين.

4 - وجوه الاعجاز التي تظهر في خلال الزمان الطويل.. خاصة بالاجيال التي تطلع عليها وما بعدها.. واما الاجيال السابقة فحسبها ما تعرفه من وجوه الاعجاز وهو كاف كما اشرنا.

ص: 191

5 - رواية ابن السكيت تركز على الجانب البلاغي باعتباره اعم واشمل في فهم البشر، كما نفهم واشرنا اليه، وليس فيها دلالة على اختصاص الاعجاز به وانه لا يوجد غيره.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

ص: 192

البحث السادس: تأريخ نزول السور القرآنية

سنتناول مناقشة الموضوع من خلال تاريخ نزول احدى السور القرآنية وهي سورة المائدة ثم نذكر استنتاجاتنا، ومن الله التوفيق والتسديد:

اشتهر بين المفسرين والمشتغلين بعلوم القرآن ان سورة المائدة هي آخر سور القرآن نزولاً، وانها نزلت جملة واحدة بل يرى السيد الطباطبائي (قدس سره) (الميزان: 6/6) ان ذلك من المتسالم عليه، اما السيد الخوئي (قدس سره) فقد اورد في كتابه البيان (361-362) روايات من طرق الفريقين لتأييد ذلك، لكن رأيهم هذا لا يخلو من إشكال:

1 - ان الشهرة هذه معارضة لشهرة كون سورة براءة نزلت بعد المائدة، وبعد براءة سورة النصر وهي آخر السور نزولاً وهذا هو المثبت في المصحف الشريف.

2 - مجيء ذكر آية من آياتها وهي قوله تعالى في الآية (24) من السورة حكاية عن موسى (عليه السلام) وقومه: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ).

في كلمة للمقداد بن الاسود الكندي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين شاور المسلمين في الخروج الى قتال قريش في بدر (البيان: 55/1) فيظهر ان هذه الآية نازلة قبل معركة بدر، وقد التفت الى هذا بعض المفسرين كسيد قطب (في ظلال القرآن: 634/2) والطباطبائي (الميزان: 286/5) وقد وعد الأخير ان يشير الى ذلك في البحث الروائي الملحق بتفسير الآية ولم يف بوعده.

3 - سياق بعض الآيات التي تخاطب اهل الكتاب يظهر ان لهم يومذاك

ص: 193

بقية من قوة وانهم متغلغلون بين صفوف المسلمين وزمان هذا في النصف الاول من مدة مكوث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة.

4 - ان الروايات التي اعتمد عليها القائلون بهذا الرأي لا حجية فيها، فهي إما غير قطعية الدلالة كما جاء في بعضها ان سورة المائدة من آخر سور القرآن نزولاً فوجود (مَن) ينفي قطعية الدلالة والى هذا اشار الآلوسي (روح المعاني: 47/6) وفي روايات اخرى ان حلال سورة المائدة حلال الى يوم القيامة وكذا حرامها ولا دلالة في هذا على المطلوب، او انها تعبر عن اراء اصحابها ولا حجة في اقوالهم. ولعل الذي اوقع هؤلاء الباحثين في هذا الخطأ احد امور محتملة:

1 - إن سورة المائدة ضمت آخر آيات الاحكام نزولاً كما ربما يدل على ذلك عدم نسخ احكامها فعمم هؤلاء الباحثون القول على السورة كلها.

2 - انها ضمت آخر آية نزلت (على قول) كما ورد ان آخر آية نزلت هي آية اكمال الدين واتمام النعمة وهي آية (3) من السورة (دراسات في القرآن الكريم: 186).

3 - إن مفتتح السورة هو آخر مفتتحات السور نزولاً، ولما كان تأريخ نزول السور نزولاً ولكن خفي عليهم ان المقصود باوائل السور اول آياتها نزولاً لا مفتتحاتها.

4 - إن جل آياتها نزلت اواخر حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الباحثون انها آخر سورة نزلت تسامحاً مع علمهم بأن تأريخ نزول السورة يحدد بتأريخ نزول اوائل آياتها.

والخلاصة: ان السورة لم تنزل جملة بشهادة سياقها وان بعض آياتها كانت من اوائل ما نزل من القرآن في المدينة كما ان بعضاً من آياتها كان من اواخر ما نزل كآية اكمال الدين واتمام النعمة وآية التبليغ (آية 67) كما ورد في الروايات من طرق الفريقين انها نزلت في نصب امير المؤمنين (عليه

ص: 194

السلام) خليفة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم بعد حجة الوداع.

والرأي الذي نختاره في تحديد تاريخ نزول وترتيب السور القرآنية في ضوء تاريخ نزول آياتها ان الذي يحدد ذلك - واقعاً لا نظرياً في عرف المفسرين والمشتغلين بعلوم القرآن - تاريخ نزول مجموعة الآيات التي تشكل جسم السورة وتكشف عن غرضها الرئيسي، وهم وان يصرحوا بذلك الا ان الواقع يؤكده كما ظهر ذلك من مناقشة تاريخ نزول سورة المائدة، وهذه النظرية تخلصنا من الاصطدام بعدة امور:

1 - عدم انسجام التعريف الموضوع مع الواقع (كما في سورة المائدة) اذ لو كان تاريخ نزول السور يحدد بنزول آياتها لكانت السورة من اوائل السور النازلة في المدينة لنزول بعض آياتها قبل معركة بدر.

2 - ان هناك سوراً مدنية فيها آيات مكية والمفروض ان مثل هذا لا يمكن حصوله في ضوء التعريف المعروض لأن وجود آيات مكية يعني انها اسبق نزولاً من بقية الآيات المدنية فيجب ان تكون السور مكية ولا يمكن حل الاشكال الا في ضوء الرأي الذي اخترناه باعتبار ان هذه الآيات متفرقة ومتناثرة لا تشكل جسم السورة الرئيسي.

3 - لو وجدت سورة ذات مئة آية مثلاً، إثنان منها مكية والبقية مدنية فحسب التعريف المعروض يجب ان تكون السورة مكية ولم نجد احداً يقول هذا.

واخيراً نستنتج ان الفوائد الرسالية في معرفة المكي والمدني انما هي لترتيب الآيات وتأريخها لا للسور، ولا فائدة في معرفة ترتيب السور الا اذا كان نزولها جملة واحدة، لأن ترتيب السور او معرفة مكيتها ومدنيتها لا تعني ابداً كون الآيات كذلك وانما الفائدة - كما قلنا - في معرفة ترتيب الآيات وتاريخها والله العالم.

ص: 195

جواب الشهيد الصدر (قدس سره)

مسألة ترتيب النزول ومكانه وزمانه فهو بحث لا أؤمن به.

فهو بحث يضر اكثر مما ينفع ولا حاجة اليه، ولا دليل عليه أي ان كثيراً مما ذكروه بهذا الصدد ضعيف السند او ضعيف المستند، وحسبنا من كل النواحي ان القرآن الكريم قد تلقيناه بالضرورة بصورته الحالية عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وتشمله السنة القطعية بالصحة، سواء كان في واقع النزول هكذا او بشكل آخر، وسواء كان هناك (مصحف اكبر منه عند علي (عليه السلام) ام لم يكن.

نعم، قد يصدق نادراً في بعض الآيات ان يرد دليل معتبر على زمان النزول او مكانه او سببه، من زاوية كونه صالحاً للقرينة على مضمون الآية، فهذا هو مورد النفع الوحيد فيما أرى بنظري القاصر المقصر.

ومن هذه الناحية فمن الأرجح ان تتفضلوا بقبول اعتذاري عن الافاضة في هذا الموضوع ولكم الشكر الجزيل سلفاً.

ص: 196

البحث السابع: الاجتهاد المقيَّد

ان الطلبة الذين يصلون الى مستوى عالٍ من الفضيلة أي بعد انهاء السطوح العالية بجدارة وبذلك يمتلكون المقدرة على النظر في استدلالات اساتذتهم من المجتهدين وتقييمها ومعرفة الاقوى منها (بدليل ارجاع الناس اليهم في تحديد الأعلم وجعلهم اهل الخبرة) ويكون على درجة من الورع والنزاهة والتجرد عن الهوى فيثمَّن هؤلاء بإعطائهم شهادة فوق التقليد المطلق ودون الاجتهاد المطلق سميناها الاجتهاد المقيَّد لأنها قد جمعت الوصفين، وذلك بأن يتاح لمثل هؤلاء الفرصة في النظر في كل مسألة والأخذ بقول صاحب الدليل الأقوى من بين محتملي الاعلمية ولا يتقيدون برأي فقيه واحد فهو نحو من انحاء الاجتهاد والنظر في الأدلة لكن لا مباشرة وانما في حدود استدلالات الفقهاء محتملي الأعلمية أي الذين قامت حجة شرعية على براءة الذمة بالرجوع اليهم، وبهذا الاعتبار هم مقيّدون مقابل المجتهد المطلق الذي يستنبط الحكم من مصادره الاصلية وهذا ما لم يصلوا اليه وبالمقابل فهُم ليسوا كالعامّي المطلق الذي يأخذ بفتوى الفقيه من دون نظر.

وهي مرتبة علمية تضاهي مرتبة المحتاط المذكورة في الرسائل العملية، إلا ان الاحتياط مرتبة (عملية) وليست علمية حيث يستطيع العامي المطلق أن يكون محتاطاً في مسائل كثيرة إلا تلك التي يحتاج الاحتياط فيها الى دقة نظر وهي قليلة.

اما الفكرة المعروضة فهي مرتبة (علمية) تناسب الدرجة الفاضلة التي وصل اليها الطالب، كما انها تضمن تقليد الأعلم (النوعي) أي في كل مسألة

ص: 197

وليس الاعلم (الشخصي) الذي يمكن أن لا يكون أعلماً في كل المسائل خصوصاً تلك الراجعة الى تنقيح الموضوع فيكون التباين واسعاً بين قدرة الفقهاء وسعة اطلاعهم وثقافتهم العامة، اما المسائل الراجعة الى قواعد الفن خاصة فيمكن ان يقال أن الاعلم الشخصي هو الأعلم النوعي عادة.

وبذلك تكون هذه الفكرة أوفق بالقواعد وأدعى للاطمئنان وأنمى للمَلكة لدى مثل هؤلاء الطلبة ولا تدخل في دائرة تبعيض التقليد بقسمه المشكل.

ص: 198

جواب الشهيد الصدر (قدس سره)

بسمه تعالى... وبه نستعين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد:

فإن هذا البحث محترم ودال على ان كاتبه حاول ان يتفكر ويتعمق كما ينبغي للحقائق ان تقتنص وكما ينبغي للعلم ان يدقق، وان كان فيه شيء من المناقشات فإنما هي مناقشة المفكرين، كثر الله من امثالك.

ولكن ينبغي الالماع الى فكرة اساسية تشمل كل احد وقد يغفل عنها الكثيرون، وإن الذكرى تنفع المؤمنين، وهي ان مسلك علمائنا واسلافنا (قدس الله اسرارهم) على وجه العموم، مهما كانت فيه من المناقشات الجانبية، فانه قد اسس وتعب عليه آلاف المفكرين وضحى في سبيله الآلاف من الشهداء والصالحين، من اجل حفظ الاسلام والايمان وتفاصيل الشريعة والعقيدة، مضافاً الى إمكان نشرها وتوسيعها جهد الامكان، وقد اثبت ذلك المسلك جدارته ورجاحته خلال الالف سنة الماضية واثبت انه كفيل - بعناية الله سبحانه - ان يقوم بمهمته خير قيام بالرغم مما يدهم المسلمين والمؤمنين في كل زمان من البلاء والمؤامرات والمصاعب.

وان ادل دليل على نجاحه هو بقاء الدين بتفاصيله العملية والمهمة حياً قائماً في اذهان الكثيرين من دون ريب ولا نقص، وهذا مصداق لقوله تعالى (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) مع العلم ان الافكار المعادية مما هو مبرمج ومدقق اكثر مما يعد ويحصى الا ان الدين لا يزداد الا عمقاً ورجاحة.

فاذا كان هذا ناتجاً من المسلك العام لعلمائنا ومفكرينا فينبغي على

ص: 199

الفرد ان يعيد النظر اكثر من مرة اذا اراد ان يغير(1) ذلك المنهج او يفرع عليه او يناقش فيه، اذ قد تؤدي المناقشة من حيث لا يعلم الفرد الى نتائج على خلاف النتائج التي جناها المسلك السابق الذي اصبح هدفاً للمناقشة فنكون مثل ذلك الغراب الذي حاول ان يقلد مشية الطاووس فلم يفلح فاراد ان يرجع الى مشية نفسه فوجد انه قد نسيها فخسر كلتا المشيتين.

وهذا لا يعني بحال ان المناقشات لا يمكن سماعها او ان المسلك السابق غير قابل للتعديل، ولكن ينبغي للفرد ان يأخذ عبرة ممن سبق ممن حاول ان يناقش ويجدد كالشيخ محمد عبدة وابي الاعلى المودودي فمع احترامي لافكارهم الا انه لم يبق منهم الا ما كان ضمن الخط العام لعلماء المسلمين واما التفاصيل التي جددوها فهي متقوقعة في منطقة او منسية او مجهولة وتكاد ان تندثر.

وإنما التجديد المحتمل بقاؤه والمحرزة صحته هو ان يبقى اتجاهه صامداً لفترة طويلة، وماراً (بالتمحيص) ضمن مئات او الآف من الافكار والمفكرين في اكثر من جيل او عدة اجيال، فيكون (اللب) المسلم صحته في هذا الاتجاه صحيحاً، واما التفاصيل فتبقى - رغم ذلك - قابلة للمناقشة.

هذه شقشقة (احتياطية) هدرت ثم قرت.

وهذا البحث، حسب ما افهم، اكثر افكاره صحيحة او تكاد تصح.ا.

ص: 200


1- أقول: ليس هذا المشروع تغييراً في المنهج وإنما هو إضافة تحذف بكل سهولة إذا علم عدم جدواها.

الكتاب الثالث: نظرة في فلسفة الاحداث

اشارة

ص: 201

ص: 202

التعريف بالكتاب

يعود تاريخ كتابة هذه الاوراق إلى العام الميلادي 1987 حينما كانت العلاقة الفكرية والروحية مع سيدنا الاستاذ الشهيد الصدر الثاني متواصلة عبر مراسلات سرية اشرت اليها في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما اعرفه) وقد منّ الله تبارك وتعالى عليّ من خلالها بالطاف ونفحات وفوائد خاصة وكان يعيق نشرها بطش صدام اللعين وقسوته.

واليوم وقد كتب الله تعالى عليه الزوال والاضمحلال رأيت من المفيد اخراج هذه الرسائل من سجن (التقية) لتأخذ طريقها إلى قلوب وعقول المؤمنين الواعين لينهلوا من معينها، ويحللوا افكارها فانها تحوي في ثناياها الكثير مما ينبغي وعيه وإدراكه ومعرفته والعمل بمقتضياته.

والذي يقلب هذه الصحائف يدرك ان المؤمن الرسالي لا يتخلى عن حمل الامانة حتى ولو في أحلك الظروف، فقد كان السيد الشهيد تحت إقامة جبرية وتراقبه عيون الجلاوزة وتحسب عليه حركاته وسكناته ومع ذلك فلم يمنعه ذلك من التواصل مع من يراهم أهلا لهذا الوعي الرسالي العميق الذي يكفي عشر معشاره للإدانة وإنزال أقسى العقوبات في زمن ذلك النظام الطاغوتي المتجبر.

وبدأ الكتاب ببحث كتبه السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وبعثه اليّ للاطلاع عليه والاستفادة منه والتعليق عليه فكتبت عليه مجموعة من التعليقات والاضافات نالت استحسانه واشعرته بقدرتي على انجاز المشروع فأخبرني برسالة لاحقة إنه يهبني هذا الجهد لأضيف اليه ملاحظاتي وما يمكن ان يكمل أفكاره فكتبت شيئاً من ذلك وعرضته عليه (قدس سره) فعلق عليه

ص: 203

ووجهني ببعض الملاحظات ونحن سنحافظ على هذا التسلسل فيكون القسم الأول عبارة عن أصل بحثه (نظرة في فلسفة الأحداث) وملحق بعنوان (بعض العبر الدينية والدنيوية) وهي من كتابته (قدس سره) وتعليقاتي على ذلك البحث ثم في القسم الثاني نذكر تعليقات السيد الشهيد (قدس سره) على تعليقاتي وفي الباب الثالث كتبت مجموعة من الإضافات والأفكار التي أضفتها إلى اصل البحث وقد أعلمته (قدس سره) ان بعضها مأخوذ نصاً من عدد من المصادر منتظراً تعليقه عليها قبل ان أأخذ منها ما ينفع ومن تلك المصادر:

1 - في ظلال القرآن للسيد قطب.

2 - المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون للشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء.

3 - وجهة العالم الإسلامي للمفكر الاسلامي الجزائري مالك بن نبي.

4 - حصوننا مهددة من داخلها للمفكر الاسلامي المصري محمد محمد حسين.

5 - مجموعة من أعداد مجلة العربي الكويتية.

وقد علّق السيد الشهيد (قدس سره) على تلك الإضافات بما تجده في الباب الرابع وقد حالت الموانع دون دمج هذه الأفكار في كتاب واحد كما أراد (قدس سره) حتى الآن ولا أراني املك الهمة والفراغ لفعل ذلك بعد ان اتسعت المسؤوليات والهموم والمشاريع، لذا رأيت نشرها كما هي لتبقى وثيقة تاريخية.

ساعدني على إعداد هذه الاوراق جناب الشيخ عبد العظيم الاسدي (دامت تأييداته) بوضع تعليقاتي هوامش على مواضعها من اصل البحث وألحق بقية التعليقات المتبادلة في نهاية البحث لتقليل الارباك على القارئ،

ص: 204

تاركاً الفرصة بل محملاً المسؤولية لمفكرينا وشبابنا الواعين ان يقوموا بإجراء الدراسات والتحليلات لهذه الأفكار ليخرجوا بمشاريع ضخمة تعين الأمة على الصمود في وجه هذا الصراع الهائل ويتمموا النقاط التي يشير اليها ولم تسنح الفرصة لإكمالها.

لاحظ على سبيل المثال: مبحث (آثار التهويد الاستعماري في القسم الأول لترى كيف يضيّعون هويتنا ويمسخون شخصيتنا ولاحظ فصل (بعض العبر والدروس الدينية المستفادة من البحث) ومن خلاله تتعرف على حذاقة القائد الرسالي ووعيه للمخططات والمؤامرات في وقت مبكر فرغم مرور حوالي عشرين عاماً على كتابته الا انه ما زال فريداً في بابه وان كانت بعض أفكاره قد تعرض على كلمات السياسيين والمفكرين الإسلاميين الا أنها ليست بهذا العمق ولا يتمكنوا من توظيفها لخدمة قضية الإسلام في مواجهته الحضارية بهذا الشكل فقد خلط فيها التحليل السياسي بالوعي الإسلامي بالتربية الأخلاقية بالفهم العميق للسنن الإلهية في الكون والمجتمع مما لا تجده في كتاب واحد، رغم اختصاره وهذا ما نفقده في كتابات مفكرينا وعلمائنا.

فمثلاً وانا اكتب هذه الكلمات بتاريخ (14 /ع 1425/1) المصادف (2004/5/4) تضج وسائل الإعلام العالمية بجريمة قوات الاحتلال بتعذيب الأسرى والمعتقلين العراقيين في سجونها وفعل ما ينافي الأخلاق وحقوق الإنسان بعد نشر الصور التي فضحت تلك الأعمال المشينة والكل يتناولها من ناحية سياسية ولم اسمع أحداً ما عرضها من ناحية حضارية فيكشف بها تدني أخلاق الغرب وانسلاخه من كل القيم والمثل الانسانية العليا لكيلا يبقى أحد أعمى البصيرة منبهرا بحضارة الغرب ويحاول اقتباسها بحيث ان أحد المشاركين في هذه الجريمة يدافع عن نفسه بأنه من ضباط الاحتياط ولم يبلّغ

ص: 205

بتفاصيل معاهدة جنيف للتعامل مع الأسرى؟!

عجباً لهؤلاء المتجردين من كل القيم والأخلاق التي يعرفها حتى الحيوان وهو لا يعلم بها الا ان يُقرأ عليه معاهدة جنيف.

ويصرّح آخر بأننا كنّا نلهو ولم نجد فيها بأساً، والاكثر شناعة - وهو من النصر المؤزّر للإسلام - أن هؤلاء المجرمين إنما قاموا بأفعالهم تنفيذاً لأوامر اسيادهم الكبار رموز الحضارة الغربية العظمى كما يصوّرون، وتصوروا إنغماسهم في الانانية وحب الذات حينما اختلسوا هذه الصور ونشروها لاسقاط خصومهم في الانتخابات الرئاسية ولو كان على حساب سمعة دولتهم (العظمى)، هكذا شاء الله تبارك وتعالى فضحهم بأيديهم (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). نعم، خذوا العبرة يا اولي الابصار وازدادوا إيماناً وتسليماً وثقة بتفوقكم الحضاري وأسسكم الرصينة.

وأشعر اني بنشر هذا الكتاب اوفي ببعض الحق لأستاذي ومعلمي ومؤدبي الشهيد (قدس سره) وما زال نشر هذا العطاء الجليل مستمراً بإذن الله تعالى وبنفس الوقت أحث الشباب على المزيد من المطالعة والعمل والبحث والتأسي بهذا التلميذ للسيد الشهيد (قدس سره) الذي كان يومئذ في العشرينات من عمره وفي ظل تلك الأجواء الرهيبة حيث يلاحق المؤمنون ويحبسون على الظنة ويُقتلون على التهمة وهو هارب من الخدمة العسكرية بسبب الحرب على جمهورية إيران الإسلام وهي بنظر الصداميين جريمة توجب عقوبة الإعدام، ومع ذلك فإن هذا الشاب قرأ هذه الكمية من الكتب المعمقة ووعى هذه الأفكار وواصلها مع أستاذه العظيم (قدس سره).

وإني أقرأ بإكبار هذه الافكار التي كتبتها قبل ما يقارب عشرين عاماً ومع ذلك فانها حية ناضجة معقمقة وكأنها نابعة من ممارسة ميدانية تمتد

ص: 206

عشرات السنين وهي بحق منهل يرد اليه ويصدر عنه من يريد ان يفهم العلاقة الحقيقية التي تحكم علاقة الغرب بالاسلام والمسلمين وتفضح مكائدهم وخططهم وتنبه المسلمين الغافلين اليها وليستنبطوا الاساليب الكفيلة بمواجهتها (لاحظ: الابحاث الاربعة التي كتبتها في الباب الرابع) فليكن كل الشباب هكذا بل افضل بكثير فما قيمة هذا التلميذ حتى يُتأسى به ولكني أقول هذه الكلمات من باب المثال وإلفات النظر.

وحينما اذن لي السيد الشهيد (قدس سره) بإنجاز المشروع كان من كتاباته لي (والمهم انه سوف يكون في يدك فتطوّره إلى المقدار الذي تريده بحيث يكون شيئاً (مبيّضاً) للوجه بطبيعة الحال. ولكن الرجاء ان لا يكون فيه اندفاع متزايد وإن كان الموقف أمام الله سبحانه وتعالى يستحق اكثر واكثر الا ان مقداراً من (حفظ الظاهر) ضروري تجاه الرأي العام المسلم والعالمي معاً، ومن هنا فاتخاذ اسلوب الدبلوماسية إجمالاً ضروري)(1).

اسأل الله تعالى أن يتغمد سيدنا الأستاذ الشهيد بالرحمة والرضوان وأن يغفر لي قصوري وتقصيري وعجزي عن أداء شكر المنعم تبارك وتعالى وأن يختم لي ولجميع المؤمنين بالحسنى، إنه ولي النعم.

محمد اليعقوبي).

ص: 207


1- وردت الرسائل التي تعرضت لهذا البحث في كتاب (قناديل العارفين).

ص: 208

الباب الأول: نظرة في فلسفة الاحداث

اشارة

بحث للشهيد الصدر (قدس سره)

بسم الله الرحمن الرحيم

مالك يوم الدين وبه نستعين.

تعود الأحداث اليوم في العالم المعاصر في نظري القاصر إلى الصهيونية العالمية او المجمع الصهيوني المتمثل بمجموعة من (احمرة المال) اليهود الامريكيين الذين يخططون ويدبرون(1) ضد العالم كله، بحيث تعتبر إسرائيل بل امريكا نفسها (كدولة) شوكة من شوكاته واثراً من آثاره.

أهداف اليهود

أهداف اليهود(2)

تنطق التوارة المتداولة بكل وضوح بأن الامر في البشرية سوف يؤول في نهاية الامر إلى الخير وان العدل يعم العالم. وان القيادة سوف تكون بيد بني إسرائيل وستفتح أورشليم أبوابها للعالم حين تكون عاصمته المركزية الوحيدة.(3)

ص: 209


1- في نظري القاصر ان ذلك يعود إلى التوافق المشئوم والمصالح المتبادلة بين اهداف الصهيونية العالمية وطموح الاستكبار العالمي في نهب خيرات الشعوب والتسلط عليها.
2- قبل هذه الفقرة تضاف فقرة: (من هم اليهود) (أ) فيها عرض موجز لتاريخهم، عددهم، توزيعهم.
3- ملاحظة: الهوامش هي تعليقات الشيخ اليعقوبي على بحث السيد الشهيد (قدس سره)، والحروف الهجائية (أ، ب، ت...) داخل هذه الهوامش إشارة لتسلسل تعليقات السيد الشهيد - التي تأتي لاحقاً - على تعليقات الشيخ اليعقوبي.

ولا ينبغي ان نطيل في مناقشة هذه الفكرة بعد ان نثبت بوضوح وجود تحريفات كبيرة في التوراة المتداولة، بل لعل كل ما هو موجود الآن ليس منزلاً على الاطلاق على أي نبي من الانبياء وانما هو مجموعة غريبة من الأفكار كتبها مجموعة من الحاخامات اليهود قبل المسيح وربما بعده، ابتداءً من عزير (عزرا) الذي ادعى انه قد الهم التوارة بعد ان كانت قد تلفت آخر نسخة لها قبل اكثر من مائة عام. المقصود ان اليهود طبقاً للتوارة المتداولة التي يؤمنون بها ويقدمونها ينتظرون مجيء ذلك اليوم العادل ويشعرون بالمسؤولية الدينية في التخطيط له والإعداد لوجوده في المدى البعيد.

حيث يسيطرون اولاً على الشرق الأوسط (من النيل إلى الفرات) وهي المنطقة التي قالت لهم التوراة إنها تفيض لبناً وعسلاً. ثم يمتد ملكهم ليشمل العالم كله، حيث يكون الناس عبيداً أذلاء لهذه المجموعة الرهيبة من القتلة وقطاع الطرق(1).

ومع العلم ان فكرة سيطرة الحق والعدل على العالم في مستقبل الأمر فكرة صحيحة باعتقادنا، ولا نريد الآن ان ندخل في تفاصيلها وقياداتها الا انها ستكون بيد (اهل الحق) حيث كانوا واين وجدوا (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ)(2).

وحيث كان لليهود درجة من الصلاح قبل بعثة المسيح (عليه السلام) ولم تكن شريعتهم منسوخة وكان فيهم عدد لا يستهان به من الانبياء (عليهم السلام) فقد وعدتهم التوارة - لو صحت - بأنهم الذين يملكون العالم ويطبقون العدل فيه.).

ص: 210


1- الافضل (ب) نقل نصوص تؤيد ذلك.
2- (الانبياء: 105).

وأما بعد ان نسخت شريعتهم «وتطاول عليهم الزمن فقست قلوبهم».

وقام البرهان الكامل على وجود العدل في شريعة أخرى غير ما يعتقدون فان المستقبل العادل سوف يكون بيد تلك الشريعة واهلها، اذ لو كان بيد غيرهم لم يكن المستقبل عدلاً صرفاً بل كان ممزوجاً بالظلم والطغيان وهو على خلاف ما نعتقد ويعتقدون.

والمقصود ان اليهود كانوا ولا زالوا يتوقعون ذلك لانفسهم وكلما واتتهم الفرص عملوا اكثر فأكثر باتجاه ذلك خدمة لدينهم ودنياهم معاً بل هم بعد استتاب الأمر لهم بعد «السبي البابلي» اصبحوا يخططون لذلك.

هذه الافكار موجودة فعلاً في التوراة ولا بد من استخراجها والتحويل عليها.

وهو واضح في التوراة التي كتبت في ذلك الحين من قبل أنبيائهم (عليهم السلام) «اشعيا» و «ارميا» و «دانيال» وغيرهم، فكان هذا التبشير دعماً للقلب اليهودي الذي انهار في السبي البابلي.

اقصد بعد ان دافع عنهم الملك الفارسي (كورش) وارجعهم إلى وطنهم فانهم جددوا هيكل سليمان وفعلوا ما شاءوا مما هو مسطور في التوراة أيضاً.

ونحن إذ نجلّ هؤلاء الأنبياء عن قول غير الحق يمكننا ان نحمل كلامهم على الرمز عن «أهل الحق» و «عاصمة الحق» اينما وجدوا ووجدت في العالم.

وقد ابتلي اليهودي بعد السبي البابلي بنكسات عديدة(1) أهمّها بعثة المسيح (عليه السلام) اولاً ثم الإسلام ثانياً ثم الفتوحات الإسلامية ثالثاً).

ص: 211


1- عرض تاريخي موجز للاحداث بالسنين (ت).

وكذلك القتل الجماعي الذي استمر فيهم من قبل عدد من «قواد» الجيوش والحكام «كشيشرون وهتلر».

الا ان ذلك لم يثنهم عن فكرتهم ولم يزلزلهم عن هدفهم كيف وهم موعودون دينياً بذلك وليس هو عن نظرهم مجرد ظن واحتمال.

وكان ولازال الأمر يتصاعد عندهم ويلقون النجاح باستمرار في تخطيطهم طبقاً لقوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً)(1).

ونفهم من (البنين) من الآية ذرية بني إسرائيل واما (نفيرا) فالمراد به المنفذون (عن قصد او غير قصد) لخطط اليهود من غير اليهود وهم كما سنعرف اكثر سكان العالم اليوم بما فيهم كثير من المسلمين مع شديد الأسف.

واما (الأموال) المشار إليها في الآية فلا حاجة إلى بيانها لوضوحها لكل ذي عينين.

والمصلحة التي ندركها لهذه السيطرة اليهودية هي التخطيط الإلهي لكي (تملأ الأرض ظلماً وجوراً) لأجل التسبيب والتقديم لليوم العادل الحقيقي الذي (يملأ الارض قسطاً وعدلاً).

واما لماذا يكون امتلاء الأرض بالظلم مقدمة لامتلائها بالعدل بعد ذلك فهذا الحديث ليس محله. وقد ذكرناه في «موسوعة الإمام المهدي» وهو مكرر في كل أجزائها الأربعة المطبوعة فليراجعها من يشاء.

ان الأرض لن تمتلئ بالظلم الحقيقي الا إذا قيدت بيد اشد الناس ظلماً وتعسفاً وغلظة، ومن هنا اقتضت المصلحة الإلهية ان تكون بيد اليهود. إذ كلما ازداد الظلم اولاً أمكن ازدياد العدل ثانياً.6.

ص: 212


1- الاسراء: 6.

إذن فتأسيس (الصهيونية) والمجمع الصهيوني والماسونية التابعة لها من زاويتهم كان بذلك الهدف الرهيب.

والأمر واضح اعني برجوعه إلى جهة الدين اليهودي فأورشليم اسم مصرح به في التوراة للقدس الشريف كما ان صهيون اسم جبل هناك يقدسونه لسبب من الاسباب (يمكن فهم السبب من (التوراة) مع التحويل عليه). كما ان الماسونية انما هو مقلوب موسانية نسبة إلى (موسى) نبيهم (عليه السلام) وهو منهم بريء.

وهذه فكرة يشار اليها في بعض المصادر وهي راجحة جداً وان كانت تحتاج إلى اثبات اوضح من ذلك لو اردنا الدقة.

وإسرائيل اسم أحد أنبيائهم (وهم ذريته من «الاسباط» الذين هم ابناؤه. وفي دعاء السمات اشارة لذلك (إسرائيلك) ولا يوجد ما ينافي ذلك في التوارة المتداولة). على أي حال انهم ملأوا صدر نبيهم «موسى (عليه السلام) هماً وغماً بعباده العجل وإيذائه (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ)(1) والمناقشة عن كثير من الأمور كقضية البقرة وقولهم «انا لمدركون» وقولهم (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(2)، وغير ذلك كثير مما هو مشروح في التوارة وفي القرآن الكريم معاً.

واذا اردنا التوسع فينبغي اعطاء فكرة عن كل هذه الحوادث ماخوذة من التوراة تارة ومن القرآن الكريم اخرى وكذلك فكرة عن (التيه) وهو موجود في التوراة والقرآن وكذلك عن السبي البابلي وهو موجود ذكره في التوراة وفي التاريخ طبعاً.8.

ص: 213


1- الصف: 5.
2- الأعراف: 138.

هذا فضلاً عما إذا تحدثنا عن الزمن المتأخر عن (موسى) من حيث «تطاول عليهم العمر فقست قلوبهم» حتى سلط الله عليهم نبوخذ نصر الذي يدين بالالحاد فاجتاحهم وكان السبي البابلي المشهور.

مجمل عن اساليبهم

اعتقد انهم رأوا منذ زمن غير قليل وخاصة بعد الحربين العالميتين ان ينطلقوا من زاوية السيطرة على القوى المسيحية حكومات ومنظمات وأفراداً وقد تمّ لهم ذلك من حيث لا يشعر المسيحيون انفسهم بل من حيث لا يشعر الكثير منهم أيضاً.

إن (الحرية) الرأسمالية التي أعلنت في عصر النهضة الاوربية كانت في مصلحة اليهود ضمناً، كما ان فصل الدين عن الدولة كان في مصلحتهم لانه من وجهة نظرهم يعني فصل الدين المسيحي والإسلامي معاً عن الدولة بل كل الدين أيضاً. ولكنهم يحتفظون في داخل نفوسهم بعد فصل دينهم اليهودي عن الدولة بطبيعة الحال.

ان دهاء اليهود اجتماعياً واقتصادياً افادهم كثيراً مع قابليتهم للحركة الدائبة والمكر المتواصل حيث حصلوا على هذه النتائج التي تشاهدها في عالم اليوم بالرغم من قلتهم وذلقهم في نفوس الآخرين.

إن (الغزو الصليبي) قد افادهم أيضاً بشكل اساسي فبالرغم من انه ناشئ من اعتقاد المسيحيين بأنهم هم - دون سواهم - قواد المستقبل العادل للبشرية، والمسيحيون أيضاً يعتقدون - تبعا لما ذكر في الانجيل - انهم قادة العدل العالمي الموعود بقيادة المسيح الذي يعود إلى العالم في المستقبل ويتكفل هذه المهمة بنفسه وهذا (خلاف) ينبغي اثارته في هذا البحث بين

ص: 214

اليهود والمسيحيين والفرق بين العقيدتين «ان القائد اليهودي غير معين عندهم». الا ان القائد المسيحي معين عندهم كالفرق تماماً بين اعتقاد العامة والامامية المسلمين بالمهدي فإنه عند نظر العامة غير معين (يولد في حينه) محل نظر الامامية معين كما هو معلوم، وهذه فكرة مضادة لليهود. على أي حال الا انه افاد اليهود من عدة زوايا:

منها: التركيز على اورشليم أو فلسطين كقاعدة لذلك المستقبل العادل.

ومنها: اضفاء المشروعية على العمل الحقيقي من اجل ذلك المستقبل كل من وجهة نظره.

ومنها: وهو الاهم عملياً، اضعاف المسلمين كمجموعة او كدولة والفتّ في عضدهم إلى اكبر قدر ممكن ولولا طرد الغزو الصليبي اسلامياً لكان له اسوأ الاثر المستمر إلى حد الآن(1).

بل ان الاعمال العدائية ضد اليهود من قبل بعض القادة افادهم أيضاً من حيث اثار عليهم شفقة كثير من المسيحيين الاوربيين والامريكيين وجملة من).

ص: 215


1- لم يعرض البحث كيفية السيطرة على المجتمعات الإنسانية ككل وتناول الحكومات والمجتمعات المسلمة فقط من جوانب معينة، ومن اساليبهم في تطويع العالم (ث) وإخضاعه لسيطرتهم: 1 - فصل الدين عن الحياة العامة وعزل القيمين عليه في الاديرة والكنائس والاكتفاء بالمظاهر الفارغة الخالية من المحتوى العقيدي. 2 - نشر الفساد والانحلال الخلقي وقد احس بهذا الخطر المدمّر للمجتمعات الكثير من الساسة والاطباء وعلماء النفس والاجتماع ولهم كلمات في ذلك. 3 - إيجاد أصنام وآلهة متنوعة كالرياضة ودور الازياء. 4 - سعيهم لجعل الدولار العملة الرئيسية في العالم للسيطرة على الاقتصاد العالمي والتحكم فيه. وغير هذه من المؤامرات لإخضاع البشر لسيطرة الجنس اليهودي مما يعرضه كتاب (بروتوكولات حكام صهيون).

القادة أيضاً وكما ان الحربين العالميتين قد افادتهم أيضاً من حيث انهم اصبحوا «اثرياء حرب» مع انهم لم يشاركوا فيها عملياً ولم يخسروا فيها درهماً واحداً ان فائدتهم نافت على فوائد الدولة والمنظمات المسيحية التي كانت تئن تحت وطأة الحرب حتى بعد انطفائها بفترة من الزمن.

اسمي هذه الحروب - الحربين العالميتين - بالحرب العامة لا بالحرب العالمية لانها انما سميتا بالحرب العالمية لأن الفرد يرى العالم منحصرا به، وانه هو العالم دون غيره، فاذا وقع الحرب بين الاوربيين واشباههم فقد وقعت حرب عالمية مع انها ليست عالمية بحال، فانها لم تشمل افريقيا ولا امريكا الجنوبية ولا استراليا ولا كثيراً جداً من مناطق آسيا وبالتالي فان اكثر مناطق العالم لم تكن في حالة حرب في كلتا الحربين.

فهي بالاضافة إلى كونها لم تكن حرب (عالمية) ليست حرب (عامة) ولكن ما العمل في الاصطلاح ولكن اذا كان لديك(1) اسم مطابق للواقع فالرجاء استعماله.

ان المسيحيين اليوم حكاماً ومحكومين انما هم «خدمة» اذلاء لليهود بالرغم من كثرة المسيحيين وقلة اليهود وبالرغم من ان القوة الظاهرية انما هي بيد المسيحيين دونهم، الا ان هذه القوة الظاهرية ليست الا اداة طيّعة بيد اليهود.

ان بلفور - الوزير البريطاني - الذي اعطى اليهود وعداً بتأسيس وطن قومي لهم، لم يكن يهودياً بل كان مسيحياً رأسمالياً، كما ان الفاتيكان الذي حكم ببراءة اليهود من دم المسيح (عليه السلام) ليس يهودياً بل هو مسيحي،ب.

ص: 216


1- بعض الفقرات هنا مما اضافها السيد الشهيد (قدس سره) لاحقاً بعد ورود تعليقات الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مخاطباً اياه عند تكملة الكتاب.

بل يمثل القيادة المسيحية العليا دينياً(1).

ان اهم وسيلة لهم اليوم، وهي وسيلة خططوا لها من زمن بعيد نسبياً هي سيطرتهم على الولايات المتحدة الأمريكية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.

ان كل من يريد الفوز بالرئاسة الأمريكية الآن وقبل الآن لا يمكنه ذلك الا اذا تزلّف لليهود ووعدهم بالخير والتأييد والمساندة(2) لأنه بدون ذلك سوف يحجبون(3) اصواتهم واصوات من يستطيعون عنه ومن ثم فلن يفوز بالرئاسة.

وهذا ما رأيناه فعلاً بعد الحرب العالمية الثانية وإلى العصر الحاضر واما اذا وجد اليهود - اعني المجمع اليهودي الامريكي - ان هذا الرئيس الامريكي او ذاك قد بدأ بالانحراف عن مواعيده التي قطعها لهم، فهو سيكون من بعض ضحاياهم اليسيرة، كما قتل (جون كنيدي) وقتل قاتله من اجل اخفاء الجهة التي خططت لقتله(4)...

ص: 217


1- ويضيف الشهيد الصدر (قدس سره) إلى ذلك: ويشار إلى تاريخ وعد بلفور اجمالاً او تفصيلاً حسب الرغبة، وكذلك إلى حكم الفاتيكان ببراءة اليهود من دم المسيح، وهنا نحتاج إلى بحث عن الفرق بين موقف الفاتيكان هذا وموقف الإسلام الذي يرى عدم «اعدام المسيح» ولعلي استطيع ان اعطي - في حينه - فكرة عن ذلك لو كتبت لي الحياة..
2- ويضيف (قدس سره): (ويحسن إعطاء شواهد على ذلك).
3- هل ترضى الادارة الأمريكية لهذه العبودية للمجمع (ج -) اليهودي وهل فكرت في الاستقلال عنه، واتذكر هنا رأياً لأحد الكتّاب لا أؤيده شخصياً ولكن اذكره للمناقشة، قال الكاتب في دعم امريكا لانشاء كيان يهودي ان ذلك لتجميع اليهود في مكان واحد للقضاء عليهم بسهولة عند استنفاد الاغراض من وجودهم، وهو رأي يمكن ان يكون صحيحاً لو كان المؤثر في الاحداث (إسرائيل نفسها وليس المجمع الصهيوني).
4- ويضيف (قدس سره): وفي هذه الفقرات المتقدمة تواريخ يحسن الالماع إلى تاريخها وارقامها لو امكن..

ولكن قد يكفي الفات نظر الرئيس او ذاك إلى «ذنبه» بتخطيط «اغتيال» غير ناجح له، كما حصل لعدد من الرؤساء الامريكيين منهم الاخيرين كارتر وريغان.

حيث تكون اذنه قد فركت ويضطر بالعودة إلى الطريق التي يرغب بها اليهود.

ان اموال اليهود الضخمة هناك واعدادهم المهمة أيضاً كما يسرت لهم السيطرة على الرئاسة الأمريكية يسرت لهم السيطرة على مجلس الشيوخ والنواب (الكونغرس) الامريكي، فإن اعداداً كبيرة منهم من اليهود فعلاً وعدداً منهم من عملاء اليهود ووضائعهم.

ان سكان نيويورك من اليهود كثيرون جداً وان من الضروري لنجاح أي رئيس ان يأخذ اصوات هذه المدينة فيكون من الضروري له اخذ اصوات اليهود، ومن المعلوم انها لا يعطونها له مجاناً.

ان العالم المسيحي قد تمت السيطرة عليه فعلاً، واصبح تحت ايديهم بعد الحرب الثانية واصبح سهل الانقياد لهم بعد فصل الدين عن الدولة وتحلله اخلاقياً وكون الميزان الرئيسي عندهم هو المال والاهتمام الاكبر به.

ان اليهود لا حاجة لهم - في هذا التاريخ وما بعده - ان يكونوا وزراء او رؤساء، يكفي لهم ان يكون الوزراء والرؤساء من عملائهم وصنائعهم في الدول الاوربية والأمريكية الشرقية والغربية. وهذا ما حصل فعلاً واصبح الامر ان كل ما تشاؤه القوى الكبرى في عالم اليوم وكل ما يريده مؤيدوهم وعملاؤهم وتابعوهم، انما هو انعكاس مباشر او غير مباشر لتخطيط اليهود واراداتهم.

قلنا قبل لحظة ان اليهود اعتقدوا ان السيطرة تمت لهم على المجتمع الغربي وانما المهم الآن السيطرة على المجتمع المسلم، ومن هنا كانت إسرائيل.

ص: 218

ان فلسطين هي اولاً: دار الميعاد لهم كما عرفنا.

وهي ثانياً: لم تكن تتمتع بقوة حكومية كافية بل لم يكن لها حاكم مرموق اصلاً.

وهي ثالثاً: تجمع شعباً مغفلاً جاهلاً قصير النظر وهذا حالهم يومئذ يمكن السيطرة على افراده وحكومته(1).

ولا حاجة إلى الطعن بالفلسطينيين بشكلهم الحاضر(2) وان كان لاحاجة إلى المزيد من الاطراء والفكرة الاساسية هي ان اعتبار إسرائيل كقضية مركزية يعطي للفلسطينيين اهمية معينة، واما اذا القينا ذلك كما يتضح من هذا البحث فهذه الاهمية تكون ضعيفة تماماً. ولكن مع ذلك لابد من مجاملتهم لعدة مصالح لا تخفاكم، على ان اهمية إسرائيل ليست قليلة، الآن كما هو معلوم، الا ان ايكال رفع هذا الضرر على الشعب الفلسطيني انما هو ايكال إلى سند ضعيف كما هو معلوم أيضاً وان كل هذه المظاهر انما هي للاصطياد بالماء العكر، ولكن مع ذلك لابد مجاملتهم على واقعهم وبالرغم من نواقصهم.م.

ص: 219


1- يذكر قبل هذا انهم - أي اليهود - خيَّروا بين ثلاث دول أحدها فلسطين فاختاروها للاسباب المذكورة، ويمكن ان يضاف لها أهداف الاستكبار العالمي والدول المستعمرة في ضوء الاتفاق المشؤوم بينها وبين الصهيونية العالمية، ومنها: أ - استراتيجية المنظقة اقتصادياً وجغرافياً (ح) وعسكرياً. ب - اضعاف قوة المسلمين وتمزيقهم (خ) والهائهم بهذا العدو مما يجعلهم في حرب مستمرة وبالتالي تصبح المنطقة سوقاً مربحة للسلاح. ج -- توفير قاعدة لهم في المنطقة لحماية مصالحهم وعملائهم (راجع: كلمتنا بمناسبة يوم القدس العالمي المذكورة في الملحق).
2- حينما كتب البحث لم تكن الانتفاضة الفلسطينية الاولى قد بدأت ولم يتبن الفلسطينيون خيار الاسلام في عملهم ومنهجهم وفكرهم.

ولا ننسى ان اهم نقطة قوة نجحت بها الثورة الايرانية هي التركيز عليهم وابدال السفارة اليهودية بسفارة فلسطينية.

ومن ثم خططوا لتكاثر اليهود هناك لفترة من الزمن، حتى ما اذا اصبحت لهم اعداد كافية هناك، اعني كافية لتأسيس دولة وشعب، ومجلس وزراء ونواب وغير ذلك وعلى درجة السرعة، عندئذ استخدموا (عملاءهم) الاوربيين في الهجوم و (عملاءهم) في هذا الشرق البائس في عدم الدفاع او ضعفه او سرعة الانسحاب او نحو ذلك.

ان المواجهة الضعيفة للجيش الغازي، كان لابد منها ارضاءً للرأي العام الإسلامي في الشرق. ولأن الهدف للقادة لم يكن منع تأسيس هذه الوصاية الصهيونية بطبيعة الحال وإلا لرأينا منهم الاستماتة في هذا السبيل، مع العلم انها لم تحصل بل حصل الانسحاب بأسهل وجه وأقرب طريق.

وتم تأسيس هذه الدويلة المصطنعة الحاقدة منذ ذلك الحين، وهي الساعد الايسر لليهود في العالم كما ان ساعدهم الايمن هو يهود امريكا انفسهم كما اسلفنا.

ان تأسيس هذه العصابة لها اكبر الاثر على الحركة اليهودية في العالم من عدد من الزوايا والحقول. والتي اعتقد ان أهمها على الاطلاق هو اسباغ «الروحية» على ارائهم وقراراتهم وتصرفاتهم.

فبدلاً من ان يكون الحاكم عميلاً لليهود اصبح بنفسه يهودياً، وبدلاً من ان يكون الافراد المتآمرون يمثلون ظاهراً افراداً يهود عاديين اصبحوا يمثلون (حكومة) معترفاً بها من قبل كثير من دول العالم بما فيها القوى الكبرى المعاصرة والعالم الشرقي والغربي معا بل كثيراً من دول ما يسمى ب - (العالم الثالث).

ان نفوذ تخطيطاتها في افريقيا وامريكا اللاتينية والشرق الادنى

ص: 220

والاوسط وكل مناطق العالم اصبح ايسر بكثير واسبغت عليه صفة الاهمية الروحية هذا، اما ان الواقع لم يختلف فاليهود هم اليهود دائماً وليس لهذا الصنم الكبير أي محتوى حقيقي، بل ليس له أي محتوى اصلاً بافراد المجتمع اليهودي والامريكي، فان إسرائيل انما هي من صنائعه وعملائه لا اكثر كل ما في الامر انها قد تكون العميلة الاهم له...

ولولا وجود الرأي العام في الشرق الناشئ في اعتقاد دين الإسلام ضد اليهود وضد اعتداءاتهم وافكارهم... الامر الذي اضطر الحكام العملاء في هذا الشرق إلى مقاطعة إسرائيل اجتماعياً ولا اقصد مقاطعتها دبلوماسياً فان هذا امر ظاهري ليس له مزيد قيمة.

وانما اقصد عدم السماح بالسفن والتجارة والتبشير.

اقول: لولا منع هذه الامور لكانت إسرائيل قد اجهزت على الإسلام منذ أمد بعيد(1). الا ان هذا - كما هو معلوم - لم يمنع هذه العصابة الغاشمة من استخدام عملائها في طريق هدم الإسلام والمجتمع الإسلامي بكل الطرق المتاحة(2).

ان كل (المتفرنجين) من الشرقيين والمسلمين ممن يعتقد باهمية أوربا وصحة اتجاهها، بل ممن يرى صحة بعض ما فيها مهما كان قليلاً، انما هو عميل غير مباشر للقوى الصهيونية.

وقد امكن منذ زمن غير قريب تكثير هؤلاء بعدة طرق:ي.

ص: 221


1- اكرر ما قلته لي ضمن تعليقاتك على كتاب (دور الائمة في الحياة الإسلامية) ان أي سلطة لم ولن تكن خطراً ماحقاً على الإسلام وانها اعجز من ان (تجهز) عليه وقد تكفل الله تعالى بحفظه.
2- إشارة لهذه الطرق المتاحة كسلخ المجتمع (د) عن عقيدته وتمييعه ونشر الفساد والتحلل الاخلاقي.

منها: ارسال الطلاب إلى أوربا و (غسل دماغهم) واعطاؤهم اللقاح الكافي ثم ارسالهم إلى بلدهم بأهمية كبيرة وشهادات عالية.

ومنها: عرض التقدم التكنلوجي على العالم.

ومنها: السيطرة المباشرة او غير المباشرة على النفط في الشرق.

ومنها: السيطرة الاقتصادية عموماً على الحكومات والشعوب في الشرق.

ومنها: دعم عملائهم حكام الشرق بالسير في هذا الطريق بوضوح وبإخلاص إلى نهايته(1).

وهنا اريد التعرض إلى نقطتين:

الاولى: إلى قيمة التقدم التكنلوجي الذي افتخرت به أوربا، ان هذا التقدم قد فشل ويزداد فشلاً باستمرار في تقديم أوربا كزعيمة للعالم، وذلك من عدة جهات:

منها: ان التقدم الصناعي من دون تقدم اخلاقي وعدالة وانسانية ليس له أي قيمة، بل سيكون ضرره اكثر من نفعه، كما قد رأينا فعلاً في عالم اليوم في استخدامه في صناعة الاسلحة وأساليب التعذيب الرهيبة وغير ذلك.

ومنها: ان هناك امة قد توفر لها التقدم الصناعي من دون ان يكون لها ظلم واضح للعالم وليس لها احلام توسعية كما للغرب الاستعماري وأقصد بها اليابان(2).

وبذلك اثبتت هذه التجربة امكان انفصال التقدم الصناعي عن8.

ص: 222


1- يضاف اليها: (ومنها) ربط المنظمات والاحزاب بعجلة الاستكبار العالمي وجعلها تدور في فلكه قبل دعمها ومساعدتها في تسلم السلطة ومنها التلويح بعصا الانقلابات وتبديل البيادق لإعادة الحاكم إلى (رشده).
2- إشارة بسيطة لنمو (ذ) التقدم الصناعي المضطرد لليابان والذي بدأته عام 1868.

الآيديولوجية الاوربية من ناحية وعن الظلم واللاانسانية الاوربية من ناحية اخرى.

بل اثبتت هذه التجربة امكان انفصال هذا التقدم حتى عن الذكاء الاوربي والعلم الاوربي نفسه. فقد كانت اليابان إلى عهد غير بعيد امة متخلفة لا يعرف عنها أي شهرة في دين ولا فكر ولا ادب، وهي منعزلة عن العالم قلما يمكن التعرف على لغتها او مباشرة اهلها.

ولكنها بالرغم من كل ذلك ازدهرت وتقدمت صناعياً.

بل اصبحت في عدد من الجهات اكثر تقدماً واهلية من الغرب نفسه، الامر الذي برهن امكان الاستغناء عن الذكاء الاوربي نفسه.

النقطة الثانية: فيما يعود إلى حكام الشرق الذين اشرنا اليهم والذين كانوا ولا زالوا اداة طيّعة للغرب وبشكل غير مباشر لإسرائيل والمجمع اليهودي نفسه.

ان النص الوارد في الإسلام وهو القائل: كيف بكم اذا تركتم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

ان هذا النص منطبق تماماً على البلاد الإسلامية اليوم.

اولاً: ان الحكام كانوا من اولئك الذين ليس لهم أي ضمير ديني او انساني.

ثانياً: ان الحكام كانوا ممن استطاع الغرب وبالتالي «المجمع اليهودي» من غسل دماغهم والخضوع لهم.

ثالثاً: انهم كانوا تحت السيطرة الاقتصادية المباشرة للغرب سواء بصفتهم افراداً او بصفتهم حكاماً.

رابعاً: انهم كانوا تحت السيطرة المباشرة للغرب بالتهديد والارهاب،

ص: 223

فكل حاكم فكّر بالعصيان و المخالفة فان مصيره يكون إلى الفشل بشكل او بآخر.

وان اسلوب الثورات المتكرر كان هو المفضل للغرب في عدد من بلدان هذا الشرق الإسلامي البائس.

خامساً: ان هؤلاء الحكام استطاعوا استقطاب عدد ضخم من الشعوب التي يحكمونها عن طريق كثير من اساليب «الخوف» و «الطمع» التي يستعملونها معهم، فضلاً عن السموم المدسوسة في القوانين والمناهج الدراسية والتي يكون الحديث عن تفاصيلها طويلاً.

ومع شديد الأسف فقد القى الناس قيادهم منذ زمن وإلى العصر الحاضر بيد هؤلاء الحكام، ومن ثم إلى القوى التي يمثلونها فالفرد من هذه الشعوب او تلك اصبح (يفتخر) بان يصبح وزيراً، او نائباً، او مديراً عاماً، او عميلاً في منظمات التجسس الداخلي، او وسائل الاعلام المنحرفة، أَمن اجل ذلك قتل الحسين (عليه السلام) بل من اجل ذلك ونحوه قال والده امير المؤمنين (عليه السلام): (لقد ملأتم قلبي قيحاً) انهم يعينون على انفسهم وضد مصالحهم الحقيقية ديناً ودنياً من حيث يعلمون او لا يعلمون.

بعض الاساليب

اريد هنا ان اشير إلى ان اساليب الاستعمار الغربي ومن ثم التأثير الصهيوني في السيطرة على مجتمعات وعقول الشرق المسلم... هذه الاساليب كثيراً منها ما ذكرناه فيما سبق ومنها ما لم نذكره.

الا ان هناك اسلوباً مهماً قد اتخذه لمضاعفة هذه السيطرة، وهو الشعور بالتكتل والتفرقة بين الناس.

ص: 224

أولاً: بتأسيس اهداف صورية براقة غير الإسلام الحقيقي.

ثانياً: باستغلال بعض المفاهيم المهضومة اجتماعياً.

ثالثاً: بايجاد خلافات جانبية وهموم صغيرة تبعد الفرد المسلم عن هدفه الحقيقي.

وقد حاول الغرب اولاً وقبل فترة من الزمن استغلال الطائفية الدينية وذلك بايجاد فرق دينية مستحدثة مبتدعة... لها ظاهراً صفة (الثورة) والتأثير على الافكار الدينية الشائعة والمتسالم على صحتها.

وقد وجدت في هذا الطريق عدة افكار منسوبة إلى الدين منها البابية والوهابية والقاديانية وغير ذلك (1) ولأنها جميعاً فشلت في السيطرة على المجتمع المسلم ككل، واضحت متقوقعة في جماعة منحصرة او محيط جغرافي معين.

وهذا لا يعني نفي تأثيرها الكلي، بل هو موجود فعلاً وخاصة الوهابية المدعومة بالجهاز الحاكم في الجزيرة العربية.

وبعد ان أفلت نسبياً هذه المحاولات ابتدع الغرب لعبته الاخرى التي نجح فيها إلى حد بعيد وتتمثل في إثارة اللغة والدين والتركيز عليها من اجل الوصول إلى مصالحه.

ومن هنا اعلى (عبد الناصر) شعار الوحدة العربية والقومية العربية وتأسست الجامعة العربية كمدافعة عن حق (العرب) في الوجود والتقدم مع العلم ان اللغة لاتعني اكثر من وسيلة للتفاهم من دون ان يكون من المفروض ان يكون لشعوبها تاريخ مشترك او مصالح مشتركة او علاقات او أي شيء آخر (1).

غير ان التركيز المستمر في الثلاثين سنة الاخيرة هو الذي اوحى لملايين الناس حكاماً ومحكومين هذه الشبهة الضخمة.

ص: 225

كما ان تأسيس إسرائيل كان له اليد الطولى في ذلك.

حيث وقفوا في وجهها بصفتهم (عرب) لا بصفتهم (مسلمين)، وهم قد خدموها بذلك من حيث يعلمون او لا يعلمون.

واما هي اعني قادتها فيعلمون بذلك علم اليقين.

ولم يقتصر الامر على (العروبة) بل اكد (الشاه) في ايران على لغة الفرس والتاريخ الفارسي والملكية الفارسية المستمرة قبل اربعة آلاف سنة.

هذا مع العلم ان الدول الاخرى بما فيها دول الشرق والغرب والعالم الثالث ليس للقومية فيها أي اثر، فهناك اقوام ينطقون بلغة واحدة مع كونهم محكومين بحكومات متعددة كالانگليز والهنود. كما ان هناك حكومات تحكم عدة مجموعات لغوية كحكومات وسط أوربا الشرقية والغربية على السواء هذا ولم يلفت ذلك انظارهم او يثير اسفهم بعد ان كانت مصالحهم المنظورة لهم مضمونة ومتوفرة نسبياً.

وانما خطط الغرب ذلك ليجعله في الشرق هدفاً وشعاراً بمعزل عن دين هؤلاء الشعوب ومصالحهم الحقيقية.

ان إسرائيل تحاربهم بصفتهم يهوداً والدين انما يمكن مقابلته بالدين وليس باللغة، فلو كان اليهود يحاربون بصفتهم (عبريين) لصح نسبياً مقابلتهم بصفتم (عرباً) واما حين يتخذون صفة اليهودية فليس من اداة الحرب سوى الإسلام(1).

ان (العرب) اتخذوا لفترة من الزمن عداء إسرائيل شعاراً لهم واعتبروها «القضية المركزية» فليت شعري ماذا سيكون حالهم لو لم تكن إسرائيل قد تأسست؟ى.

ص: 226


1- وقد اشرنا الى هذا المعنى في كلمتنا بمناسبة يوم القدس العالمي التي سننشرها في ملحق الكتاب باذن الله تعالى.

غير ان إسرائيل قد انتصرت فكرياً مضافاً إلى انتصاراتها العسكرية المتتابعة.

وقد اصبح الحكام «العرب» اقرب إلى الاعتراف بها بل هم معترفون بها ضمناً. وفعلاً فقد قرر مؤتمر قمة (فاس) ان من الافضل حل الخلافات بين جميع الفرقاء المعينين، يعنون بذلك منظمة التحرير الفلسطينية من ناحية وإسرائيل نفسها من ناحية اخرى(1).

وليس هذا الاعتراف ضمنياً بل حقيقي بهذه العصابة الظالمة(2).

اقول: وقد استغل الدين وبالخصوص الإسلام كشعار منحرف لعدد من الدول بما فيها اكثر من دولة عربية، لاجل نفس الاهداف التي اشرنا اليها فيما سبق، وقد تم تبني الإسلام من قبل أي دولة في حدود فهمها ومصالحها ومحافظتها على العلاقة الحميمة والصحبة مع الغرب اعداء الإسلام.

واذا تمت لنا الملاحظة الدقيقة وجدنا ان شعار العروبة قد استُغل لفترة من الزمن (كهدف) مضافاً إلى كونه (شعاراً).

فكانت (الوحدة العربية) هدفاً للناصرية وغيرها، في حين ان شعار الإسلام يقترن بكونه هدفاً في نظر من تبناه من دول الشرق ولم يناد احدٌ ب - «الوحدة الإسلامية» وهذا مفهوم جداً من وجهة نظر الغرب وعملائهم لان هذا الهدف هو العدو الاكبر الذي يحاربونه ويحاولون القضاء على كل من يستهدفه في حين ان (الوحدة العربية) لم تكن كذلك.ن.

ص: 227


1- يذكر تاريخ قمة فاس عام 1982 (ر) ومشروع فهد السعودي.
2- ويضيف (قدس سره) هنا: ومن مستأنف القول لك انه يحسن التعرض الى (تاريخ) مؤتمر (فاس) لو أمكن.

أعمال سابقة

هناك اعمال سابقة على التوسع اليهودي المعاصر لا يمت بشكل مباشر إلى هذا التوسع وانما صنعه الغرب المسيحي نفسه، ولكنه اصبح منذ بداياته وبالتدريج في مصلحة التوسع اليهودي العالمي.

فمن ذلك الغزو الصليبي لبلاد الإسلام ان المسيحيين رأوا صحته كما أشرنا، بصفتهم يحملون راية المستقبل العادل للعالم دون غيرهم، كما نطق لهم الانجيل المتداول الذي يؤمنون به ويقدسونه.

فلم تكن الخطة اذن يهودية بل كانت مسيحية امر بها البابا يؤمئذ واجتمعت لها عدة جيوش من ايطاليا وفرنسا والمانيا وغيرها(1).

ولكننا مع ذلك عرفنا اليهود أنهم قد استفادوا من هذا الغزو واستغلوه في مصالحهم اقصى الاستغلال.

ومن ذلك الاستعمار.

وفرق الاستعمار عن الغزو الصليبي من انهما صادران معاً من أوربا الغربية ومن نفس الاقوام المعتدين على الإنسانية. الفرق ان الغزو الصليبي ذو اتجاه ديني كما سبق في حين ان الاستعمار ذو اتجاه دنيوي خالص، يستهدف حب السيطرة وفرض الانانية على الآخرين من ناحية واستغلال اسواقهم لأجل تمشية الفائض الرأسمالي من ناحية ثانية واستغلال نفوسهم في

ص: 228


1- ويضيف (قدس سره) هنا: ولا اعلم هل من المصلحة تسمية هذه الدول، ولكن من المصلحة حتماً أيضاح الفرق بين (اسلام) هذه و «اسلام» تلك الامر الذي يوضح زيف الهدف أساساً.

مصلحة الغرب بعدة اساليب من ناحية ثالثة(1).

فمن امثلة استغلال (النفوس) الجيش الانگليزي الذي غزا العراق خلال الحرب العالمية الاولى، فإنه لم يكن فيه انگليز الا «القادة» واما الجنود فهم جميعاً من (الهند) الدولة المستعمرة المستضعفة يومئذ.

ومن امثلة ذلك استغلال الافريقيين في العمل في مناجم الذهب والفحم الحجري وغيرها في افريقيا نفسها تحت اشراف الشركات الغربية ومن دون ان يكون لهم غير رواتبهم القليلة.

ومن امثلة ذلك غسل الدماغ الذي اشرنا اليه سابقاً قبل فترة لكل من يذهب إلى أوربا سائحاً، او دارساً، او تاجراً، او باي هدف فان الوضع الاوربي يفرض عليه من حيث يعلم او لا يعلم ان يحترمه ويعتبره (السيدة) في العالم و (القائد) لكل البشرية و (العبقري) الذي سنَّ القوانين (الإنسانية) واخترع الاجهزة (الدقيقة) لا يبقى بعد ذلك الا ذلك الفرد النادر الذي يتكشف له هناك عن الاسفاف والاسراف والابتذال الاخلاقي والديني والاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه أوربا بكل طبقاتها حتى يتيسّر له ان يكفر بكل ما فيها من بهارج وزينة وبكل ما انتجته من علم واختراع.

وقد ابتعد بنا الحديث عن المقصود، حيث اردنا أن نبين ان اليهود وان لم يكن لهم اليد الرئيسية في وجود الاستعمار الا انهم استفادوا منه واستغلوه في مصالحهم إلى ابعد الحدود سواء منهم القديم والحديث.

وان ايسر طريق سلكوه في ذلك هو سيطرتهم على الدول الاستعماريةه.

ص: 229


1- ويضيف (قدس سره) هنا: ويحسن اعطاء فكرة عن تاريخ الغزو الصليبي عن (فهمه) الإسلامي ومن مصادره التاريخية (الفتوحات الإسلامية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره.

نفسها بحيث اصبحت اداة طيّعة في ايديهم ودمية ليّنة تحت ارداتهم الامر الذي جعل سيطرتهم على عملاء الغرب بشكل غير مباشر اكيداً وواضحاً.

بل مستغلاً تماماً ومن كل النواحي.

فليت شعري كيف نتوقع من هؤلاء العملاء ان يحرروا الارض المغتصبة او ان يعملوا ضدها - أي الدول الاستعمارية - قليلاً او كثيراً. ان ذلك ليس الا حلماً فاشلاً خائباً، كما قال الشاعر:

المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار

أخطاء المسلمين

ان هذا التوسع اليهودي التدريجي، حيث كان سرياً وبطيء الحدوث امكن ان ينطلي على الملايين من الناس من المسلمين والمسيحيين على حد سواء غير اني لا احسب انه يخفى على من يتولى السلطة في أي بلد من البلاد سواء في الغرب او في الشرق او غيره.

ان كل من يتولى السلطة الآن انما يمكن استلامه لها وتكفله بمهامها عندما يُرغَم انفه وتسحب اذنه ويعطى المواعيد الكافية والقناعة الشافية في ان يسير بالخط المرضي ويتخذ السيرة المطلوبة من قبل أوربا الغربية منها والشرقية، وبالتالي فهي السيرة المطلوبة للتوسع اليهودي نفسه.

وليت شعري فان المجتمع المسلم حين لم يشعر بالخطر الداهم فكيف كان قد تصدى لبناء نفسه بحيث يمكن ان يستغني بشكل او بآخر.. عن المجتمعات الاخرى.

ولكنه حيث بقي متخلفاً سادراً غافلاً اصبح كالمضطر إلى الخضوع للمجتمعات التي اعتبرها قوية وراقية ومتقدمة.

ان اهم الاخطاء التي ادت إلى ذلك يمكن تلخيصها كما يلي:

ص: 230

اولاً: تحول الحكم التركي الذي كان يتخذ صفة «الخلافة الإسلامية» إلى اللذاذة الدنيوية والفخفخة الفارغة على رؤوس الفقراء والبؤساء من شعوب المنقطة انفسهم الامر الذي ادى إلى كون هذا الحكم - وهو الاثر الاخير للخلافة القديمة - لقمة سائغة وسهلة وسائغة لأول ضربة غربية.

ثانياً: عدم استيعاب المسلمين لدينهم الحنيف من جميع النواحي، اعني اهماله الذي يكاد يكون كلياً من غير جانب العبادات، فلم يدركوا ان فيه نظاماً عادلاً كاملاً للحياة كما لم يدركوا الاهمية الدينية للاستقلال الاجتماعي وعدم سيطرة الكفار من مسيحيين ويهود على المجتمع المسلم.

ثالثاً: عدم عنايتهم - بكل طبقاتهم - بتثقيف النشئ الصاعد اسلامياً وتوعيته دينياً الامر الذي جعل هناك فراغاً وجهلاً عظيمين في اذهان الملايين من الناس وهو ما سبب سهولة الغزو الاستعماري بشكليه القديم والحديث.

وكما كان هذا التثقيف المطلوب اسلامياً يمكن ان يصدر عن الحكم التركي (الإسلامي) الذي كان له استقلال نسبي عن الغرب، كذلك كان يمكن ان يصدر من الناس كافراد اذا كانوا من ذوي المال والشهرة عن طريق تأسيس المدارس وامثالها.

(واستقلال نسبي): اشير بذلك إلى عمالة النظام التركي يومئذ إلى المانيا الهتلرية حتى ان بعض المغفلين هنا كان يعتبر هتلر ونظامه المخالف (للخلافة) من اقوى (انصار الإسلام) ويكون له فيها الامل الكبير في السيطرة على الحلفاء في الحرب الثانية (اعداء الإسلام) عسى ان يرفع الإسلام رأسه بالمانيا.

كذلك كان يمكن ان يصدر من الحوزات العلمية في البلاد الإسلامية سواء كانت منها للشيعة كالنجف وقم او السنية كبغداد والقاهرة وفاس وغيرها.

الا ان شيئاً من ذلك لم يحصل او انه حصل على نطاق ضيق جداً لم

ص: 231

يستطع مجابهة القليل فضلاً عن الكثير من المد الاستعماري والتوسع اليهودي.

وبالتالي لم يستطع ملأ الفراغ الفكري والجهل العقائدي المتفشي في بلادهم انفسهم.

رابعاً: عدم عنايتهم بالاقتصاد عناية كاملة ومركزة تجعله غنياً عن المجتمعات الاخرى وقوياً ضد غزوها اياه.

فقد كان الشائع هو اسلوب التجارة الفردية او (الاقطاع) الصغير الزراعي. ولم يكن هناك استغلال يذكر للموارد الطبيعية كالنفط والماء وغيرها.

بل لم تكن هناك أية معرفة باسلوب استخراجه والاستفادة منه.

حتى جاء الغرب فوجد الناس في الشرق جهلاء تماماً من هذه الناحية، الأمر الذي سببه ان (يمنّ) عليهم باستخراج نفطهم واعطائهم نسباً قليلة من الربح ويذهب بالباقي.

والامر وان كان قد تغير قليلاً فقد اصبح (تأميم النفط) في مصلحة المجتمع المالك له امراً مفروضاً، كما قد تأسست منظمة الدول المصدرة للنفط «اوبك» لاجل حفظ مصالحها.

ولكننا اذا دققنا النظر وجدنا أن كل ذلك هواء في شبك، اذ ان الدافع الرئيسي له كان عدة امور:

الامر الاول: عدم تعرض الغرب للنقد اللاذع من قبل الشعوب المستعمرة، و من ثم الثورة ضده بحيث قد ينتج الاستقلال الحقيقي عن سيطرته الامر الذي ينتج له متاعب هو في غنى عنها.

الامر الثاني: ايجاد ميزانية مهمة للشعوب المستعمرة من اجل زيادة الشراء للصادرات الغربية، وبالتالي سوف تكون السوق اهم واصلح مما كانت عليه من ذي قبل.

ص: 232

الامر الثالث: ايجاد ميزانية(1) مهمة للحكومات العميلة القائمة هناك. الامر الذي ييسر للغرب اخضاع المسيطرين على الحاكم وشراء كل من يريد سيطرته على الحكم بسهولة، ومن ثم ايجاد الانقلابات العمودية التي تستهدف ذر الرماد في العيون، ولو إلى اجل محدود.

فهذه الامور ونحوها هي التي اوجبت ان يستغني الغرب عن قسط من مصالحه الاقتصادية النفطية ويخضع للتأميم وغيره، في سبيل ايجاد مصالح اكثر اهمية واعمق اثراً.

هذا وقد اشرنا انه كيف نأمل من الحكام العملاء للغرب ان يقوموا بأي خطوة مضادة له او خارجة عن ارادته، بل ان يزحزحوا شيئاً من مصالحه قلّت او كثرت الامر الذي يكشف بوضوح ان كل هذه الاحداث (التقدمية) في السيطرة على النفط انما هو في مصلحة الغرب ويعود إلى رضاه وتخطيطه بالذات.

وإذا كان تخطيطاً للغرب كان متدرجاً ضمن التوسع اليهودي ولو بشكل غير مباشر كما اشرنا.ب.

ص: 233


1- واستخدام هذه الميزانية الضخمة في سياستي الترغيب والترهيب لتلك الحكومات في سبيل اخضاع الشعوب.

موقف المعسكر الشرقي

موقف المعسكر الشرقي(1)

لا يختلف المعسكر الشرقي عن نظيره الغربي من الزاوية المبحوثة في هذا الكلام اختلافاً كثيراً، ويتم إيضاح ذلك ببيان عدة نقاط:

النقطة الاولى: انه بالرغم من ان هذا المعسكر يتخذ من الشيوعية فلسفة عقائدية واجتماعية، الا ان هذه الشيوعية نفسها منسوبة إلى صانعها (كارل ماركس) الذي هو بدوره رجل من اليهود.

ومن المعلوم عملياً ان اليهودي متعصب وان لم يكن متديناً، لا اقل انه لا يريد ولا يمكنه ان يريد شيئاً مضاداً للقوم الذين ارتضع لبانهم واكل خبزهم. بل لعله اذا وجد الفرصة المواتية لنفعهم لم يأل جهداً في ذلك.

ونحن نرى عملياً نرى ان ماركس اذ اعلن (الثورة الفكرية) على كل ما هو رأسمالي بصفته مصدر الظلم والاجحاف في العالم.

لم يذكر اليهودية او الصهيونية بصفتها من اسس ذلك الاجحاف او من فروعه.

ولم يذكرها احد من اتباعه والسائرين في ركابه لحد الآن.

النقطة الثانية: ان النقطة - المهمة - في نظر هؤلاء هو اندراج الدول والافراد في فلسفتهم وسيطرتهم بغض النظر عن عقيدة اخرى او دين.

فإذا اصبح اليهود شيوعيين واذا اصبحت إسرائيل تابعة للمعسكر فهو المطلوب اليهم، بغض النظر عما جروا ويجرون من الويلات للعالم البشري كله.

ص: 234


1- لا ننسى ان البحث مكتوب عام 1987 قبل انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.

النقطة الثالثة: ان الدول من كلا المعسكرين الشرقي والغربي منتبهة إلى نقطة مهمة لديه ولعل المعسكر الشرقي اشدّ انتباهاً وتطبيقاً لها وهي عدم اظهار الخضوع والتنازل لليهود بصراحة لأن هذا فيه عدة مصاعب لهم:

اولاً: انه يثير ضدهم الرأي العام لشعوبهم انفسهم فضلاً عن الشعور في الدول المستعمرة والعميلة لهم.

ثانياً: ان فيه كسراً لكبريائهم وغلواء انانيتهم التي يشعرون بها، لانهم بذلك التنازل يصبحون اذلاء لمن يعتقدون انهم هم اذلاء لهم، وفي هذا غاية الذلة والانحطاط.

ثالثاً: انهم يتشاغلون عن التصريح بالذلة امام اليهود بما هو (أهم) في نظرهم من تدبير المجتمع (اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً) ونحو ذلك واذا كان المعسكر الشرقي اشدّ انتباهاً إلى هذه النقاط فسوف يكون اشدّ حذراً واكثر تطبيقاً لهذا المنهج، كيف وهو المتهم (باليهودية) بصفته تابعاً لشخص يهودي (كماركس).

لا يشذ من هذه النقاط الا امريكا اعني الولايات المتحدة الأمريكية التي اعلنت بصراحة مساندتها لليهود في كل الميادين.

وهي انما تفعل ذلك مضطرة لا مجال لديها للخلاف لمدى سيطرة اليهود الامريكان على المجتمع الامريكي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً كما اشرنا ولكن اذا كانت الولايات المتحدة وهي زعيمة المعسكر الغربي قد ذلت امام الطائفة الذليلة فكيف بمن يؤيدها او يتعامل معها او يخضع لها مع ما اوتي من قوة وجبروت.

النقطة الرابعة: من موقف المعسكر الشرقي: ان المتوفر عملياً في آرائه السياسية في العالم هو عدم انتقاد اليهود ولا المجتمع اليهودي ولا إسرائيل ولا شيء من خططهم ومظالمهم.

ص: 235

بل الامر اكثر من ذلك فانه بادر إلى الاعتراف بإسرائيل عند اول تأسيسها وتبادل السفراء معها، ومجلس الامن عندما يصل اليها الدور فيه.

كما انه لم يساعد (العرب) في حروبهم المتعددة مع هذه العصابة الظالمة بأي قطعة سلاح، فامريكا كانت تصب السلاح صباً عند نشوب الحرب في (1967) و (1973) وغيرها على إسرائيل إلى حد قيل انه تصل اليها بمعدل طائرة في كل خمس دقائق.

واما المعسكر الشرقي او الاتحاد السوفيتي بالخصوص فكان يجلس مجلس المتفرج لحرب تتزايد فيها اسلحة إسرائيل على حين تتناقص فيها اسلحة المحاربين لها بلا عوض بل لعله يبخل يومئذ عن بيع الاسلحة فضلاً عن دفعها مجاناً.

الحروب المضادة

وبهذه المناسبة قد يثار سؤال عما اذا كانت الحروب مع هذه العصابة الغاشمة تمثل أيضاً بدورها تأييداً لها اولاً. واذا كانت الحكومات محاربة لها فكيف تكون «عميلة» لها في نفس الوقت؟

الا ان في هذا السؤال جهلاً مكشوفاً عن معنى هذه الحرب وعن معنى هذه (العمالة) فان الحروب الخمسة التي خاضتها إسرائيل مع (العرب)(1) على قسمين:

القسم الاول: حرب تكون فيها إسرائيل هي المخططة والمهاجمة، ويكون المجتمع المسلم هو المتحمل للصدمة مهما كانت صفة حكامه.

ص: 236


1- العرب بين قوسين للتهكم.

يندرج(1) في ذلك حرب (1947) والعدوان الثلاثي عام (1954) وغزو لبنان عام (1982).

واذا كان الهجوم من قبل اليهود انفسهم، فان هذا السؤال يكون مسدوداً كما هو واضح، اذ يتجلى بوضوح ان اكثر الحروب الخمسة اعني ثلاثة منها قد تحملها الحكام (العملاء) بدون ان يكون لهم رأي مضاد لليهود.

وانما استهدفت إسرائيل بها اموراً اخرى من المصالح بعد اسقاط (عمالة) الحكام عن نظر الاعتبار.

وانما يبقى السؤال عن الحربين اللتين كانت المبادءة(2) فيها لمصر، حيث بدأ (عبد الناصر) الحرب عام (1967) وبدأ (السادات) الحرب عام (1978) فلماذا كان ذلك؟ وينبغي بهذا الصدد الالتفات إلى بعض النقاط:

النقطة الاولى: ان الفرد العميل الذليل مهما كان واقعه، قد يحصل لديه يقظة مؤقتة في الضمير ولو من جراء الضغط وسوء التصرف تجاهه وتجاه شعبه من قبل إسرائيل، الامر الذي ينفذ معه الصبر وتعي فيه الحيل، فيضطر إلى اعلان الحرب.

الا ان هذه اليقظة لن تدوم طويلاً، بعد ان تبدأ وعلى الفور من جهة الغرب «سحب اذن» من هذا الحاكم الذليل و (الربت على كتفه) و (توعيته) تارة اخرى الامر الذي يجعله يغط مرة اخرى في نوم عميق.

وهذا هو الذي سببه قلة مدة هذين الحربين حتى ان وسائل الاعلام الإسرائيلية والغربية جعلت لحرب عام (1973) اسم (حرب الايام الستة) لانهان.

ص: 237


1- الحروب التي شنّتها إسرائيل هي العدوان الثلاثي عام (1956) (لا عام 1954) وحرب حزيران عام (1967) وغزو لبنان عام (1982).
2- () الحربان اللتان بدأهما (ز) العرب كانتا عام (1948) بعد انتهاء الانتداب البريطاني وعام (1973) في اكتوبر/ رمضان.

استمرت هذه المدة فقط.

النقطة الثانية: ان امثال هذه الحروب تنشأ من مدى الضغط المتزايد من الشعوب التي بدأت تشعر بصعوبة الموقف وضرورة تحمل المسؤولية الامر الذي يضطر الحاكم إلى ان يخوض (حربا) ولو (مؤقتة) اسكاتاً للرأي العام.

النقطة الثالثة: ان امثال هذه الحروب تنشأ لأجل أيضاح نقطة معينة من جهة الغرب ومن ثم جهة (المجتمع اليهودي) وإسرائيل نفسها، وهذه النقطة هي اثبات (حرية) الحاكم واستقلاله عن الاستعمار بكل اشكاله، ودفع الشك لدى الناس في ذلك، اذ لو كان (عميلاً) لما خاض حرباً مع إسرائيل فان الحرب منافية مع (الصداقة) وللعمالة على كل حال.

وبعد ان حصل الحرب «المؤقتة» سوف تحصل الدول ذات العلاقة على التأكيد على حرية، العملاء واستقلالهم، والامر الذي يوفر للغرب كله وإسرائيل خاصة عدداً من المصالح والمنافع يطول حصرها وعدّها.

النقطة الرابعة: ان امثال هذه الحروب انما تنشأ لاجل التوسع اليهودي نفسه.

اذ نرى بوضوح اتساع رقعة (العصابة الغاصبة) بعد كل حرب من هذين الحربين اذ ادخلت الضفة الغربية كلها تحت سيطرتها في حرب عام (1967)(1) كما ادخلت الجولان وغزة وسيناء تحت سيطرتها في حرب عام (1978) وحرب (الايام الستة)(2).

اذن فمن غير المستبعد ان يوكل إلى الحاكم العميل مهمة الهجوم على إسرائيل وكسر خط (بارليف) وغير ذلك مما تنطق به الدعايات من اجل استهداف التوسع اليهودي في الاراضي الإسلامية.).

ص: 238


1- احتلت الضفة (س) الغربية في نكسة (5 حزيران 1967) ولا توجد حرب عام (1964).
2- لا توجد حرب عام (ش) (1978) وإنما عام (1973).

ومن المعلوم في نظر إسرائيل والمجتمع اليهودي عدم اهمية من يقتل من اليهود فضلاً عن المسلمين في مثل هذه الحرب التي توجب تنفيذ المآرب العليا للمجتمع اليهود الامريكي.

وكيف نبرئ (عبد الناصر) من هذا الاحتمال(1) مع انه اقر مشروع (مورفي) في آخر ايامه الذي كان (اول القطر) بالنسبة إلى المصالحة مع إسرائيل (واول الغيث قطر ثم ينهمر).

وكيف نبرئ السادات وهو الذي ألحق حرب عام (1978)(2) بمعاهدة (كامب ديفيد الخائنة)(3).

وكيف نبرئ باقي الحكام المتّسمين «بالعروبة» مع انهم اجمعوا على الاعتراف الضمني بإسرائيل في (مؤتمر قمة فاس) كما اشرنا لم يخالف في ذلك ولا واحد منهم اصلاً.

اذن فاين (العروبة) والعرب وما فائدة الجامعة العربية بل والامم المتحدة الا الدمار والخراب والتركيز على (طرف خفي) على العمالة والذلة امام اذلاء البشر.

وينبغي ان نشير هنا إلى ان هذه النقاط الاربع للحرب التي اشرنا اليها غير متنافية، بل قد تصدق كلها دفعة واحدة او يصدق عدداً منها باختلاف الزمان والمكان.

وعلى أي حال فقد اصبحت الفكرة لدى القارئ واضحة، والحديث في ذلك ذو شجون والحمد لله على السراء والضراء.ك.

ص: 239


1- مورفي سياسي امريكي في حكومة (ريغان الاخيرة واظنك تقصد مشروع كيسنجر منظر السياسة الأمريكية ووزير الخارجية في حكومة نيكسون (ص).
2- لا توجد حرب عام (1978) وإنما عام (1973).
3- ويضيف (قدس سره) هنا: ويحسن إعطاء فكرة عن تاريخ معاهدة كامب ديفيد ومضمونها ولم اعلق على البحث الملحق ولك في ذلك رأيك.

من آثار التهويد الاستعماري

ونريد بالتهويد الابعاد عن الشعور الإسلامي بصفته صادراً عن اليهود:

الاول: الالتفات إلى ما قبل الإسلام وذلك من عدة حقول:

اولاً: الافتخار بالحضارات السابقة كما حصل في العراق بالنسبة إلى الحضارات البابلية والسومرية وغيرها مع انها في الاغلب مجتمعات متخلفة دينياً ودنيوياً ومجرد كونهم يبنون البيوت والمقابر لا يعني ان لهم حضارة بالمعنى المفهوم الآن ولا جزء منها، وكما حصل في ايران قبل الثورة اذ حاول الشاه الالتفات إلى (الملوكية) المستمرة في ايران خمسة آلاف سنة حتى انه بني التاريخ على ذلك.

الثاني: الالتزام بالتاريخ المسيحي بحيث لا يوجد على الساحة غيره (إلى غير ذلك مما هو سابق على الإسلام).

الثالث: الالتزام بالساعة الزوالية فإنها وان صح كونها «عربية» الأصل او اسلامية، وهذا محل شك طبعاً الا انهم على أي حال انما أخذوها من الغرب وتحمسوا لها احتراماً لحضارتهم.

مع ان هذه الساعة ليس لها مبدأ حقيقي للتوقيت على الاطلاق لا هو للزوال ولا هو نصف الليل ولاغيرها، وانما هو مجرد افتراض منهم لا اكثر ولا اقل.

ومن المعلوم ان الافتراض يكون باطلاً في ضبط الزمان المنضبط بسير الفلك والشمس والقمر.

الرابع: الالتزام بالاشهر الشمسية لانها وردت من هناك، والا فهي لا اصل لها أيضاً الا كونها مشهورة لوضوح انهم يعترفون بأن الربيع لا يبدأ بأول

ص: 240

شهر آذار، ولا الصيف بأول حزيران، ولا الشتاء بأول تشرين وهكذا(1).

وانما هي مجرد افتراض أيضاً.

ولا نريد الدفاع عن (البديل الاصلح لها)، وانما اذا كانوا موضوعيين نسبياً فلهم ان يذكروا هذه الاشهر مع غيرها، نعم قد تذكر بشكل صحفي (لا روح فيه).

الخامس: الالتفات إلى الجاليات غير المسلمة ومحاولة الاستفادة منها في المجتمع وتسليطها على الدوائر المهمة وتربية الشباب وتحرير الاقتصاد عسى ان يعود المجتمع بعد سنين بعيداً عن الإسلام اكثر فاكثر (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(2).

اقول: ان الالتفات إلى هذه الجاليات والعناية بهم ضروري لكن بالشكل المناسب بحيث لا يتسلطون على الحاضر والمستقبل الإسلامي.

السادس: تغيير الاسماء الشخصية التي فيها اشعار ديني إلى اسماء فيها اشعار علماني.

فالاسماء التي عبّدت إلى الاسماء الحسنى كعبد الرحمن وعبد الرحيم تحذف منها (العبد) يقال: رحمن، رحيم، لطيف وهكذا.

والاسماء التي تحتوي على لفظ الدين كعز الدين، وسيف الدين، وصدر الدين، يحذف منها (الدين) ويقال: عزي، وسيفي، وصدري.

ولعلكم تجدون امثلة اخرى من الاسماء الشخصية لهذا الاتجاه.

السابع: تحريف التاريخ الإسلامي تحريفاً شديداً سواء في المنهج او غيره بعدة محاولات:8.

ص: 241


1- قد اوضحنا تفصيل هذه الاشكالات في محاضرة بمناسبة اعياد رأس السنة الميلادية وقد نشرت في كتاب (نحن والغرب).
2- الصف: 8.

اولاً: الدس فيه اعني ذكر حوادث مفتعلة لا اصل لها.

ثانياً: التغاضي عن حوادث واقوال صحيحة.

ثالثاً: محاولة فهم التأريخ وتصرفات القادة باسلوب منحرف باطل.

رابعاً: التعبير عن بعض الاقوال والحوادث التاريخية بشكل يوحي بخلاف المراد الواقعي منها وهكذا.

الثامن: التركيز على سفور المرأة، ولا أقصد عملها فالعمل بحسب ظاهر الحياة الدنيا من حق المرأة كما هو من حق الرجل.

ولكن الشريعة شرطته بالحجاب والادب الديني - وهذا ما توجد محاولات في مختلف البلدان للتخلي عنه - وأول من بدأ في هذا الاتجاه (رضا شاه) - الاب - في ايران واستمر في سائر البلدان لكن من دون اعلان الالزام فيه.

ولو سمحوا احياناً للحجاب فانما هو لاغراضهم العدوانية والتي منها: اشعار المجتمع بوجود الحرية الدينية.

ومنها: وهو الاهم كشف ما يكون لها اتجاه ديني لكي تنال البلاء على ايديهم بالتدريج.

التاسع: التركيز على الاغاني في وسائل الاعلام والتي عرفوا ان الناس مندفعة لها اندفاعاً كافياً، مع العلم انه لا يمكن ان يجتمع ذكر الله او طاعته سبحانه وتعالى بقلب اختلط بهذه المعاني والاساليب الباطلة، ولا يكون الانسان اقرب إلى الدنيا وابعد عن الآخرة إلاّ اذا مارس احدٌ ثلاثة امور: الغناء، والخمر، والنساء وكلها محل تركيز وعناية خاصة من قبلهم بالشكل الذي يرونه مناسباً وغير مسبب لفضيحة خططهم علناً بطبيعة الحال.

العاشر: السيطرة على المطبوعات سواء الصحافة، او النشر، أو التوزيع وغيرها، وذلك في مختلف البلدان في الشرق الأوسط وغيرها، وحصرها في

ص: 242

نطاق ضيق جداً مع محاولة نشر (السموم) على اوسع نطاق(1).

فهذه عشرة امور لا على الحصر والمؤامرة اليهودية الاستعمارية أوسع من ان تضبط. هذا غير الحجز على الفكر النير ومطاردة المفكرين إلى غير ذلك مما انتم اعلم به مني.

أقول: لعل في هذه الامور بعضاً مما هو مبالغ فيه بالنسبة اليكم كالساعة والشهور، الا ان هذا الشعور منكم لمجرد الاعتياد، واعلموا ان هذا لا يشكل موقفاً اجتماعياً معيناً الا بمقدار المصلحة العامة وشكراً.

وارجو التقية فيه بشكل مكثف.).

ص: 243


1- تضاف فقرة حول النتيجة الحتمية التي تؤول اليها المخططات الصهيونية وهي الفشل (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ... وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) (آل عمران: من الآية 112)، (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ) (لأنفال: من الآية 30)، واما دولة إسرائيل فهي حالة طارئة كدولة الصليبيين التي استمرت (88) سنة وان النصر النهائي لابد وان يكون لجند الله تعالى (ض).

بعض العبر الدينية والدنيوية من هذا البحث

يمكننا بفضل الله سبحانه وتعالى ان نستنتج وان نعرض عدة امور مطلعين على الحقائق المشار اليها سلفاً. ولعلنا في حدودنا الحاضرة من الصعب ان نستنتج كل ما ينبغي استنتاجه من ذلك الا ان الاهم من العناوين العامة لتلك النتائج المطلوبة قد تكون هذه العشرة الآتية:

النتيجة الاولى: ان الوضع الاوربي الحالي في الحال يرثى له من الاسفاف والانحطاط، فمضافاً إلى التردي الاخلاقي والإنساني والعاطفي الذي تعيشه هذه المنطقة، واقصد بها كل منتسبي الحضارة الحديثة بما فيه اميركا وروسيا وامثالها فمن كان في هذا الاتجاه.

ومضافاً إلى ان الوضع العالمي الذي طالما افتخرت به أوربا بما فيه العلم التكنولوجي نفسه انما يسير في طريق الهاوية السحيقة التي لا قيام بعدها ضمن حرب عظيمة ساحقة ماحقة، واصبح كل فرد منهم حكاماً ومحكومين يرتجفون باستمرار لمجرد تصور هذا الاحتمال، وهو احتمال فعلي قائم بل وراجح في كثير من الظروف.

حتى انه نقل البعض ان اطفال امريكا يتحدثون في كثير من الاحيان عن ان الحرب العالمية الثالثة متى تقع وان القنابل الذرية أين سوف تسقط وانهم سوف يكبرون او لا يكبرون!!

مضافاً إلى هذا او غير هذا فاننا قد عرفنا بهذا البحث كيف اصبح الوضع الحضاري الحديث كله (عبداً) ذليلاً دائم الاطاعة لأذلاء البشر وشذائذ الإنسانية وقطاع طريق البشرية، الامر الذي يجعل وصمة أكيدة على كل من يعرف ذلك ويرضى به، ومن المؤكد ان كل (من) مارس الحكم في

ص: 244

ايجاد دولة (معروفة) غربية او شرقية فهو ذو إطلاع واضح عن ذلك فضلاً عمن يتولى الرئاسة الأمريكية الذي هو عارف بذلك علناً وعلى رؤوس الاشهاد.

النتيجة الثانية: انه ينبغي الانتباه والحذر تجاه كل الاعمال الصادرة من أوربا واشباهها، فانها مهما لبّست ذلك ببراقع الإنسانية والمعونات الاقتصادية والتنازل فانها إنما تجر النار إلى قرصها وتريد به حفظ مصالحها، وهذا أكيد وقد عرفنا ان مصالحها ترجع من حيث تعلم او لا تعلم إلى مصالح التوسع اليهودي.

وليس هناك من اعمالها شيء لا يجب الحذر منه وإعادة النظر مكرراً قبل حسن الظن به او حمله على الصحة.

النتيجة الثالثة: ان اليهود الآن محاربون للاسلام فعلاً وإن لم تكن بينهما حرب معلنة رسمياً. الا ان اطلاق النار مستمر بينهما باستمرار، وعلى طول الخط ولا يحتاج هذا إلى مثال، الا انه لا ينبغي ان يغيب عن انفسنا قضايا لبنان التي كانت ولا زالت شوكة في حلق المجتمع المسلم، وبخاصة احتلال إسرائيل للاراضي اللبنانية إلى اليوم وان حصل الانسحاب جزئياً ليس هذا فقط، بل ان الوضع الحضاري المعاصر كله محارب للاسلام يكفينا كمثال موقف امريكا حين تدخلت عسكرياً في لبنان فكانت تضرب بيروت الغربية دون بيروت الشرقية(1)، وما ذلك الا لأنها لا تستهدف الا حرب المسلمين، كما انه لا ينبغي تبرءة المعسكر الشرقي عن الدخول في هذه المعمعة بعد احتلاله لاراضي افغانستان وما يفعله من استئصال المجتمعات المعارضة له).

ص: 245


1- امريكا كانت تقصف بيروت الغربية ذات الاكثرية المسلمة وليس الشرقية ذات الغالبية المسيحية (ط).

هناك من عدة سنوات وإلى الآن.

النتيجة الرابعة: الحذر من كل فعل متصف بظاهر حسن حصل او يحصل أو يقترح حصوله او يستهدف من قبل أي شخص او جماعة ما لم يكن مضمون (الحقانية) سلفاً.

فإننا بعد ان عرفنا إن الاثر الغربي ومن ثم اليهودي (اخفى من دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء) كان ينبغي لنا اعادة النظر اكثر من مرة في كل عمل مهما كان ظاهر الإنسانية بل والتدين لاحتمال كونه ناشئاً من مناشئ مؤسفة وغير صحيحة لا اقل من ان يكون هذا من قبيل (الشك الموضوعي) الذي يكون زواله بالادلة الدافعة الدالة على الاخلاص.

النتيجة الخامسة: الحذر من كل فعل او نتيجة وان كانت (مضمونة الحقانية) والاخلاص، اعني الحذر عن الانحراف فيها والاستغلال من قبل ايادي السوء من حيث لا يعلم الفرد ولا ينتبه الا بعد فوات الاوان.

وفي عين الوقت سوف لن يترك (السوء) اثره الواضح حتى بعد ان تحصل نتائجه المطلوبة، كما في الآية الكريمة: (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنّا لَصادِقُونَ)(1).

وقد سمعت من بعضهم - كمثال - ان كل المدارس والكليات التي تؤسس بقصد ديني صحيح فإنها سوف تؤول إلى الانحراف ككلية الفقه في النجف والكلية الجعفرية في لبنان. فالحذر الحذر من هذا (الْمَكْرُ السَّيِّئُ) قبل فوات الاوان. وان كان بفضل الله (لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ)(2)3.

ص: 246


1- النمل: 49.
2- فاطر: 43.

وقال سبحانه وتعالى: (وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)(1) أي أنكم لا تتورطون بالخطأ الا في حال الاغماض والغفلة دون حال الحذر والانتباه.

النتيجة السادسة: ان الحكمة والموعظة يمكن ان تؤخذ من أي شيء مما خلق الله مهما كان عظيماً، او وضيعاً مهماً او تافهاً، وقد سئل لقمان الحكيم (عليه السلام) ممن اخذت الحكمة فأجاب: من الجهال.

من هنا يمكن ان نأخذ هذه العبرة من اليهود، من حيث انهم اخذوا هدفهم الاعلى هدفاً دينياً وكرسوا له جماعتهم وافرادهم، واستغلوا اكثر مواردهم المعنوية والمادية في سبيله وانشأوا اجيالهم عليه.

كذلك يجب على المسلم ان يكرس لنفسه هدفاً مأخوذاً من الاتجاه الديني الصحيح بحيث تتربى عليه الاجيال وتنفق في سبيله النفوس والاموال وبعد ذلك هناك عبرة مأخوذة من اليهود، وهم انهم يستغلون في سبيل تحقيق هدفهم كل شيء وكل أحد، ولا مانع لهم من التورط في أي ظلم وأي اسفاف واسراف، وعندهم ان الغاية تبرر الوسيلة.

فهذا من يجب مخالفتهم فيه فان الهدف النظيف لا يكون الا بالاسلوب النظيف، قال الله سبحانه: (وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(2).

النتيجة السابعة: هناك عبرة اخرى يمكن استفادتها من هذا الموقف هو أنهم اجتمعوا على باطلهم وتفرقنا عن حقنا فالمعروف ان الشعب اليهودي مهما كان نافراً مع الآخرين وعدواً للانسانية كلها الا انهم في داخلهم1.

ص: 247


1- البقرة: 267.
2- الحج: 40-41.

متضامنون نسبياً ومتكاتفون في سبيل مصلحتهم وهدفهم ومهما اختلفوا فانهم انما يختلفون ببعض المقومات دون سائر التفاصيل فضلاً عن الهدف الاساسي.

فما حصل او كيف أثر (المكر السيء) أثره المؤسف بنا نحن ابناء المجتمع المسلم في ان تفرقنا عن حقنا وتبعثرنا عن هدفنا وتقاتلنا في داخل مجتمعنا الواحد.

الشكوى إلى الله وحده.

النتيجة الثامنة: وهناك عبرة اخرى يمكن استفادتها من هذا الموقف وهي ان الاستهداف البعيد جعلهم كما جعل العديد من عملائهم يتصفون ببعد النظر في حدود منظقة واسعة من الزمان والمكان فهم يخططون للبعيد ثم يخططون لمقوماته ثم يخططون لما تحصل به هذه المقومات وهكذا.

يكفي مثالاً على ذلك ان التخطيط كان ولا زال منصباً بتركيز كامل منذ الحرب العالمية الاولى واعني منذ سقوط الخلافة التركية وإلى العصر الحاضر على فصل الدين الإسلامي عن نشاطات وحياة المجتمع وإبعاد الناس عنه والهائهم بصغائر الامور وتوافه النتائج وجرهم في نتيجة المطاف لكي يكونوا أعواناً لهم وسائرين في ركابهم.

ونحن اذا نظرنا إلى العالم من ذلك التاريخ إلى اليوم نجد (النجاح) البطيء والتدريجي الذي حصل عليه هذا المخطط الجهنمي ومع ذلك فهم لا يسأمون ولا ينسون ولا يتخاذلون ما دام من اللازم حصول هذه النتيجة المطلوبة ولو بعد اجيال، فان كان لنا ونحن في المجتمع المسلم أي نظر الى اعمال هذه العصابة الغاشمة فإنما يجب ان نأخذ امثال هذا الاستهداف البعيد

ص: 248

بنظر الاعتبار فيكون لنا هدف بعيد نتبعه ونعمل له، بل يجب ان يكون ذلك في كلا الحدّين حد (الجهاد الاكبر) وحد (الجهاد الاصغر) كما هو معلوم لمن يستوعب معنى هذين (الاصطلاحين) ولا حاجة الآن إلى الدخول في التفاصيل.

النتيجة التاسعة: ان مما يمكن ان نحمل عنه فكرة واضحة الآن ومستمرة من آيات القرآن الكريم نفسه.

اننا لو كنا على مستوى الاهلية المطلوبة من الايمان واليقين ومن امتحن الله قلبه للاسلام وممن لا تأخذه في الله لومة لائم لكن نرى بكل وضوح ان الكفر مهما اوتي من قوة وجبروت ومهما اتسع في نطاق الزمان ورقعة المكان فإن كيده ضعيف وسلاحه خفيف ومكره يعود عليه. وان قوة الله سبحانه وتعالى وليست قوتنا بكل صورة هي التي يمكن ان تقضي عليه وتحقق الوعد بالنصر وانجاز الهدف وهو على كل شيء قدير.

يكفينا من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)(1) وقوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(2)، ثم يقول: (بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ)(3) وقوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(4)، وقوله تعالى: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا0.

ص: 249


1- النساء: 76.
2- الأنفال: 65.
3- الأنفال: 66.
4- آل عمران: 120.

يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(1).

النتيجة العاشرة: انه مما ينبغي ان نحمل عنه فكرة واضحة ومعمقة الآن هو: ان الاهداف المنحرفة الكافرة جعلت من معاكسة إسرائيل والسعي ظاهراً إلى محاربتها هدفاً وحيداً ومركزياً، الا ان الواقع ليس كذلك فان الأراضي المغصوبة إسلامياً كثيرة في التاريخ فان الجيش الإسلامي الفاتح في القرون السابقة دخل كثيراً من مناطق العالم كأسبانيا والبرتغال وقبرص وصقلية وما يسمى بالجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي أعني في الجنوب الآسيوي منها. وكلها اراضي مغتصبة استطاع الكفر السيطرة عليها وسحبها من يد المسلمين، بل ان قسماً من أوربا الوسطى هو كذلك كالمجر ويوغسلافيا وجيكوسلفاكيا وبولندا، او ان قسماً من هذه الدول وغيرها كانت تحت الحكم الإسلامي التركي في اول عهده. وليست إسرائيل هي الارض المغتصبة الوحيدة ولا المجتمع الإسلامي الوحيد المحكوم للكفر، ولا هواهم المجتمعات المسلمة اصلاً، كما هو واضح لمن استعرض المجتمعات المغتصبة ولعل (الاندلس) هم الاهم على الاطلاق تليها (الجمهوريات المسلمة).

نعم، يخطر في البال ان اهمية إسرائيل تنبع من زاوية مجاورتها للمجتمعات المسلمة وفعاليتها ضدها بخلاف المجتمعات الاخرى، ومن هنا صح لها ان تكون (القضية المركزية).

هذه الفكرة صحيحة إلى حد ما وهي في (الظاهر) أكيدة، الا انها مع ذلك لا يمكنها ان تصمد للنقد:

أولاً: ان قرب المكان لا دخل له اصلاً لا في (الاعلام) لسيطرة وسائل2.

ص: 250


1- الحشر: 12.

الاعلام المختلفة على العالم كله ولا في (السلاح) لسيطرة السلاح الحديث على العالم كله أيضاً وانما جعلت إسرائيل في هذه المنطقة بالذات باعتبار أمرين:

الاول: الهدف الديني اليهودي الذي أشرنا اليه.

الثاني: ان المخططين لذلك توقعوا حصول الاتصال الاجتماعي بين المجتمع اليهودي والمسلم، الامر الذي ييسر لليهود بأقرب طريق الاجهاز على الاسلام في نفوس المسلمين. ولولا ان الله سبحانه وهو الحافظ للذكر الذي انزله لوعده والذي قطعه، لكان لهذا الاستهداف أسوأ الاثر.

ثانياً: ان فعالية اليهود في اسرائيل خاصة لا خصوصية لها أصلاً لما اوضحناه في هذا البحث مفصلاً من ان اثرهم فضلاً عن اثر (عملائهم) واذلائهم يشمل العالم كله قريبا كان او بعيداً، واوضحنا ان (العالم) الاساسي لليهود ليس اسرائيل بل هو المجتمع اليهودي الامريكي الذي هو المسيطر الحقيقي على سطح الاحداث في العالم كله.

إذن فاعتبار محاربة اسرائيل كقضية مركزية يعتبر ضعفاً في الذهنية ومحدودية في النظر، وانما يجب شمول هذه المحاربة لكل المجتمعات المغتصبة، أعني المحاربة (النظرية) ان لم تكن المحاربة (العملية) ممكنة ومستطاعة.

فهذه نتائج عشرة امكن استنتاجها بفضل الله من ذلك البحث.

ولعل الله يهدينا الى ما هو ادق من ذلك واكثر، انه ولي كل توفيق والحمد لله رب العالمين.

ص: 251

الرسالة الجوابية لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله)

بسم الله الرحمن الرحيم

لا اريد هنا ان اقرّض البحث، او اثني على كاتبه فليس مثلي من يطري مثلك او يحثه على شيء ما، او يبين له فضل وكمال آخر (وهل يستطيع الجزء ان يحيط بالكل النسبي او يفهمه)، ولكن لا بد من كلمة تفرضها حقوق الاخوة والصداقة الايمانيتين والفكريتين، فأقول: - كواحد من القراء - ان البحث مهم وحساس ويلفت النظر إلى وجود اتجاه معين يسيّر الاحداث في عالم اليوم مما يجعل الفرد يعي ويزداد بصيرة لما يدور حوله ويقظاً للمؤامرات التي تهدد عقيدته ومجتمعه فيبيّن له البحث عدة نقاط منها:

1 - غفلة العالم وهو يقاد رغم انفه إلى ما يضرّه ديناً ودنياً.

2 - الاطلاع على واقع الغرب المهين والذليل السائر على غير هدى رغم البهرجة الظاهرة.

3 - تشابك خطوط السياسة العالمية واتصالها لتصبّ في مجرى واحد.

4 - تقصير اولياء امور المسلمين في حماية العقيدة وعرضها وفق ما يناسب العصر وابتعادهم عن الحياة العامة.

5 - الاتجاه الذي يجب ان يسير عليه المسلمون للقضاء على اعدائهم.

6 - الامور المهمة التي يجب ان يراعيها المسلمون والاخطاء التي يجب تلافيها.

7 - الحذر مما يصدره الغرب في كل المجالات.

8 - الاشعار بجسامة المؤامرة التي يتعرض لها المسلمون والبلاد

ص: 252

الإسلامية والحرب الشرسة التي تشنّها الصهيونية والاستكبار العالميان لاستئصالهم واسلوب المواجهة نظرياً وعملياً... وغيرها مما لا أحصيها في هذه العجالة.

ولا شك ان نشر مثل هذه البحوث - لو قدّر لها ذلك - بعد تعزيزها بالوثائق الدامغة المعبرة عن نواياهم وأهدافهم الخبيثة ككتابي (التلمود) و (بروتوكولات حكماء صهيون) الذي طبع ونشر بعدة لغات عالمية بعد الظفر به والترجمة العربية التي قام بها محمد خليفة التونسي وأنا شخصياً لم اطلع عليها مع الاسف، لكني سمعت عنها ذلك.

أقول: ان نشر مثل هذه البحوث يثير غضب الصهاينة وعملائهم بقدر ما يزيد من وعي الامة لقضيتها ومصيرها.

ولا اكتمك اني حاولت عدة مرات استنساخه (كبقية تعليقاتك) الا انه أعاقني عن ذلك امران:

1 - عدم حصول الأذن.

2 - الامانة العلمية التي تقضي بحفظ حق البحث والتأليف لصاحبه (وما كنت لأتجاوز على هذا الحق حتى ولو استنسخته).

فقاومت هذه الرغبة الجامحة وكان (جهاداً أكبر) حقاً.

وان تفضلكم بعرض البحث على تلميذكم الوضيع شيء مسرّ جداً، جاء مساوقاً لطلب سابق لي حين استأذنتكم ورجوتكم ان تبتدأني بالبحوث اذا نفدت مسائلي او انقطعت رسائلي، ويسعدني ويشرفني ان ارفق مع البحوث ملاحظات كتبها هذا الضعيف الجاهل في احدى لحظات عتوّه وغروره لا يدفعني إلى تسجيلها الا الامانة العلمية والمشاركة الفكرية لصقل المواهب وتنمية القابليات والا فلا طاقة لي على هذه الجرأة، وبعض

ص: 253

الملاحظات ربما لا يشملها عنوان البحث او مما ستشمله التوسعات او هو موجود في البحث وغفلت عنها، وعسى ان يوجد بين هذه وتلك ما يفيد، وعلى اية حال فان الذكرى تنفع المؤمنين.

ملاحظات عامة

1 - يتميز البحث - وكتاباتك الاخرى بصورة عامة - بتركيز الكلام وحصره في نقاط مما يساعد على استيعاب الفكرة دون لف ودوران.

2 - غفل البحث ضمن اساليب الصهيونية والاستكبار سياسة إثارة الخلافات بين الدول لتمزيقها والهائها ولنهب خيراتها بحجة بيع السلاح وتقاسم اطراف النزاع فهذا للشرق وهذا للغرب، وما الحروب والنزاعات التي تثار هنا وهناك الا من تحريك اصابعهم الخبيثة(1).

ص: 254


1- بعد هذا بدأ ذكر الملاحظات وقد جعلناها كهوامش على مواضع التعليق من اصل البحث المتقدم.

الباب الثاني: تعليقة الشهيد الصدر على تعليقة الشيخ اليعقوبي السابقة

أود الآن ان اعلق على تعليقاتك محاولاً اضافة بعض الامور (ملتزماً بنفس العلامات التي ذكرتها انت).

أ(1) - قولك: (قبل فقرة: اهداف اليهود تضاف فقرة» من هم اليهود «فيها عرض موجز لتاريخهم...

اعتقد ان البحث اذا اريد له ان يكون مختصراً نسبياً فيكون عنوان (من هم اليهود) مستأنفاً يعني لا حاجة اليه. نعم اذا اريد له حجم جيد امكن التعرض إلى ذلك، ولكن ينبغي الالتفات إلى فكرة وهي: ان هذا العنوان المقترح انما هو مقدمة لتفاصيل البحث وليس من الصحيح ان تكون المقدمة اكبر من البحث نفسه الا ان يضغط الكلام عن هذا العنوان ضغطاً شديداً. والمصادر التي تحضرني على أي حال (العرب واليهود قبل الإسلام لأحمد سوسة)، وكتاب (اليوم الموعود لمحمد الصدر).

ب - قولك: (الافضل نقل نصوص تؤيد ذلك).

هذا موجود بكثرة في التوراة المتداولة وخاصة في الكتب المتأخرة منها عن السبي البابلي (كاشعيا) و (ارميا) و (دانيال) وانا على استعداد لاستخراجه ان كانت هناك نسخة وقد كنت املك منها نسخة فعلاً الا انها بيعت مع المكتبة المرحومة.

ص: 255


1- هذه الحروف تشير إلى مواضع تعليقات السيد الشهيد الصدر (قدس سره) على تعليقاتي المذكورة في هوامش أصل البحث.

ت - قولك (عرض تاريخي موجز للاحداث بالسنين).

اتضح ذلك من التعليقة السابقة فان المصدر الرئيسي لذلك هو التوراة المتداولة أيضاً ولعل كتاب (قصة الحضارة) لديورانت يساعد على ذلك.

ث - قولك: (لم يعرض البحث كيفية السيطرة على المجتمعات الإنسانية...).

هذا مطلب معمق ناتجة من مجموعة ضخمة من جهود اليهود بما فيهم (هرتزل) وغيره مضافاً إلى (غفلات) الآخرين (مسيحيين ومسلمين) عن واقع اهداف هؤلاء الماكرين.

واما تفاصيل ذلك فالاطلاع عليه يكاد ان يكون متعذراً الا في الملفات الموجودة في السفارات والاستخبارات العالمية الموجودة في امريكا وإسرائيل وبعض البلدان الغربية. وعلى أي حال فمن الضروري (ان يمد الانسان رجله على قدر بساطه) كما يقول المثل ويقتصر على القليل في هذا الصدد.

ولكن الشيء المشاهد هو وجود هذه السيطرة فعلاً فلابد ان تكون لها اسبابها بطبيعة الحال.

ومن مصادر ذلك كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون) وعندنا نسخة منه وهي تكون بخدمتك حين تريد البدأ بالكتابة.

وهذه الامور التي ذكرتها كلها صحيحة مضافاً إلى المذكور في البحث، لكنها امور استنتاجية وليس لها مصادر محسوبة بالصفحات والاجزاء، وان كنت لا اعتقد ان ذلك ضرورياً وان كان ارجح.

وفي كلامك تعرض للرياضة وهو التفات لطيف ارتحتُ له كثيراً.

مولاي: الرياضة تفيدهم وتفيد عملاءهم من عدة جهات:

1 - ذر الرماد في العيون لكي لا ترى عيوب الوضع الداخلي.

ص: 256

2 - ذر الرماد في العيون لكي لا ترى عيوب الوضع الخارجي.

3 - اللهو بأمر رديء جداً وغير عقلائي تماماً وهو ان يكون هناك (گول) في كرة القدم مثلاً.

4 - الانصراف بذلك عن شعائر دينهم.

5 - الانصراف بذلك عن مفاهيم دينهم وعلومه.

6 - الانصراف بذلك عن منافع مجتمعهم الدينية والدنيوية.

7 - التركيز على الاختلاط الجنسي في الرياضة بل قد اصبح التركيز على الرياضة النسائية اكثر لعرض الافخاذ والاثداء وانعدام الآباء والامهات.. في نهاية الشوط. الخ.

وهي قائمة طويلة جداً لا اطيق ذكرها وتعدادها لمدى (جيفتها) وعدم اطاقتي لها فهل يكفي ان اقول (قاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ).

ج -- قولك: (هل ترضى الادارة الأمريكية بهذه العبودية للمجمع اليهودي...).

هذا استفهام في محلة جداً ولكن من المستحيل في الظروف العالمية الحالية على الامريكيين التخلص فهم عبيد مضطرون للعبودية. ان الملايين اليهودية قابلة لأن ترد أي اعتداء، لا بالمواجهة بالطبع بل بالمكر وشراء الضمائر.

واما الرأي المذكور في هذه الفقرة لبعض الكتّاب فهو انما يكون له قيمة لو كان (تصريحاً) رسمياً امريكياً. واما اذا كان وجهة نظر مجردة فهي خاطئة وناتجة - لا محالة - من حسن ظن الكاتب بالكيان الامريكي ونظامه المتعفن كما هو الموجود في الاعم الاغلب من مفكري العالم.

ح - قولك: (استراتيجية المنطقة اقتصادياً وجغرافياً وعسكرياً).

ليس هناك أي استراتيجية سوى كونها جاثمة على قلوب المسلمين

ص: 257

والا فان هناك مناطق استراتيجية اخرى في العالم.

ومن الواضح انها لو كانت في أوربا وامريكا الشمالية لكانت أشد أمناً واروح بالاً، غير انهم جاءوا للمكر والضرب من القفا لا اكثر.

خ - قولك: (اضعاف قوة المسلمين وتمزيقهم..).

كما تصبح المنطقة بعيدة عن اهدافها الدينية الحقيقية. وعن الوقت والمال الكافي لنشره داخلياً فضلاً عن الخارج.

د - قولك: (اشارة لهذه الطرق المتاحة كسلخ المجتمع عن عقيدته...).

حبيبي، كيف السبيل إلى تغيير النفوس ونحن بأيدينا وارجلنا قد خدمناهم، تعلمنا علمهم واحترمناهم ومدحناهم حتى كلّت السنتنا وايدينا. (وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)(1).

ذ - قولك: (إشارة بسيطة لنمو التقدم الصناعي المضطرد لليابان والذي بدأته عام (1868).

حبيبي، المهم هو تقدم اليابان بعد القنبلتين الذريتين، وليس المهم انها بدأت عام (1868) الا لمجرد الاطلاع التاريخي.

ر - قولك: (يذكر تاريخ قمة فاس عام (1982) ومشروع فهد السعودي).

هذا جيد جدا لو امكن.

ز - قولك: (الحربان اللتان بدأهما العرب كانتا عام (1948)... وعام (1973).

اولاً: كنت اقصد بالحرب التي بدأها عبد الناصر هو: ما وقع عام (1967)، والحرب التي بدأها السادات: ما وقع عام (1978) ولا ربط2.

ص: 258


1- ابراهيم: 22.

للموضوع بحرب عام (1948)، كما هو واضح من سياق البحث.

نعم، هناك بعض النقاش في ان عبد الناصر هو الذي بدأ الحرب أو إسرائيل فإنها كانت البادئة حسب الظاهر، الا ان قناعتي هو انها انما بدأت الحرب بعد ان عرفت عزم عبد الناصر على الشروع فيها، وتخطيطه لها.

وهذا واضح في ذهني فعلاً مما علق فيه من الأخبار التي سمعتها يؤمئذ. كنت اقصد من مشروع عبد الناصر بالحرب هو ذلك: اعني تخطيطه لها.

ثانياً: هناك تعبير لك (الحربان اللتان بدأهما العرب) وهذا تعبير يعز عليّ جداً، واجلك عنه تماماً إذ ليس - الواقع - اي اهمية لكونهم عرباً او غير ذلك.

س - قولك: (احتلت الضفة الغربية في نكسة (5 حزيران 1967) ولا توجد حرب عام (1964).

لم أجد ما يقابل هذا التعليق في البحث، والمهم انه سوف يكون في يدك فتطوره إلى المقدار الذي تريده بحيث يكون شيئاً (مبيضاً) للوجه بطييعة الحال.

ولكن الرجاء ان لا يكون فيه اندفاع متزايد، وان كان الموقف امام الله سبحانه وتعالى يستحق اكثر واكثر، الا ان مقداراً من (حفظ الظاهر) ضروري تجاه الرأي العام المسلم والعالمي معاً.

ومن هنا فاتخاذ اسلوب الدبلوماسية اجمالاً ضروري.

ش - قولك: (حرب الايام الستة هي حرب اكتوبر (1973) ولا توجد حرب عام (1978).

هذا إشكال وارد جداً على ذاكرتي.

ص - قولك: (مورفي سياسي امريكي في حكومة ريغان الاخيرة واظنك تقصد مشروع كيسنجر منظّر السياسة الأمريكية...).

مولاي: مورفي وان كان سياسياً في الدولة الأمريكية الحاضرة، الا انه

ص: 259

سياسي الانظمة الأمريكية السابقة أيضاً وبالتأكيد كان هناك مشروع امريكي في اواخر ايام عبد الناصر. كان يفكر عبد الناصر بقبوله بل قد اعلن قبوله اخيراً، واما ان هذا المشروع هل هو منسوب إلى مورفي او كيسنجر او غيرهما فهو راجع إلى المصادر التي قد يمكن الرجوع اليها اذا امكن.

ض - قولك: (تضاف فقرة حول النتيجة الحتمية التي تؤول اليها المخططات الصهيونية...).

هذا الموضوع المقترح هنا يحتاج إلى عنوان مستقل بطبيعة الحال وهو امر ضروري جداً كما تقول.

ط - قولك: (امريكا كانت تقصف بيروت الغربية ذات الاكثرية المسلمة وليس الشرقية ذات الغالبية المسيحية).

هذا ما اعرفه تماماً الا انه من سهو القلم الناتج من محاولة السرعة في الكتابة ولا يخفاك انني كنت مقتنعاً من نفسي على الاقل ولازلت مرجئ لهذه الفكرة من بعض الوجوه - ان المهم ايصال كلمة الحق إلى الآخرين سواء ذلك بثوب قشيب او بثوب رديء - ومن ثم لم اكن اعتني بالفاظي وضبطي الكامل للنصوص، وهذا واضح في كتاباتي اليك أيضاً.

يستثنى من ذلك ما اذا اردنا ان يكون (مبيضاً) للوجه تماماً، فان الثوب القشيب يكون ضروريا كما هو واضح.

هذا واما ما لم اشر إلى التعليق عليه فهو صحيح على رسله.

وطبعاً هذه التعليقات لا تعني الغاء تعليقاتك بل كلاهما ينبغي ان يكون اثره فيما تتفضل به من تفصيل.

اعانك الله سبحانه وتعالى عليه وعلى كل مكروه انه ولي التوفيق.

مخلصك

ص: 260

الباب الثالث: اضافة الشيخ اليعقوبي على بحث نظرة في فلسفة الأحداث

اشارة

(ملاحظة: الهوامش هنا هي لترقيم تعليقات السيد الشهيد الصدر على إضافات الشيخ اليعقوبي).

من اساليبهم في تسخير اصحاب النفوذ والسلطان:

1 - تعيين ذوي السوابق السيئة والمنبوذين عند الشعب لكي يضطر هؤلاء المتسلطون إلى خدمتهم والاحتماء بهم وليسهل التخلص منه عند الضرورة دون اعتراض. (1)

2 - الدخول إلى قلبه من اضعف الثغرات ثم اظهار التفاني في حبه واخلاصه له وملازمته حتى يتحول إلى سور ضخم يحجب عنه كل شيء عدا هو وعندئذ يصبح سجيناً فلا يسمع الا ما يسمحون له بسماعه ولا يرى الا مايريدون له ذلك وهكذا، وعندئذ لا يستفيد منه الا بطانته هذه كعجل الكفار يحبس في الظلام ولا ينتفع بعبادته وتقديسه الا سدنته.

3 - عقد المؤتمرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والتربوية بمشاركة ذوي النفوذ والسلطان في البلاد الإسلامية وهي تخدم عدة اغراض:

اولاً: الاستفادة بطريقة سهلة من المعلومات الدقيقة التي يقدمها المشاركون - بحسن نية او سوء نية - عن واقع حياتهم في مختلف الاختصاصات لدعم بحوثهم وتحقيقاتهم.

ص: 261

ثانياً: معرفة الاتجاهات الفكرية والميول للقادة والمسؤولين لمعرفة الطريق المضمون الذي يسلكونه لاستعبادهم.

ثالثاً: توثيق الصلات بذوي النفوذ في البلاد الإسلامية وكسب (2) ودهم.

رابعاً: السيطرة على توجيه المجتمع عن طريق هؤلاء الاصدقاء.

خامساً: انشاء جيل مصبوب في قوالب اجنبية في بلاد المسلمين لخدمة غير اهداف المسلمين.

تحليل نفسي للشخصية اليهودية

تحليل نفسي للشخصية اليهودية(1)

يتفق علماء النفس على ان هناك ثلاثة عوامل رئيسية هي (التوارة(2)، الشتات، الاضطهاد) قد جبلت شخصية اليهودي التقليدي حتى اصبحت تتسم بست سمات نفسية (3) رئيسية هي القلق والشك والخوف والشعور بالدونية، والحرص على التمايز وعدم الثقة بغير اليهودي، وهناك عامل حاسم في تطور الشخصية اليهودية الحديثة - افرزته التجربة الإسرائيلية - هي المغالاة فيما يطلبون من انفسهم ومن بعضهم بعضاً. ومن العالم أيضاً، ولعل هذا - كما يقول الاديب الامريكي سول بيلو الحائز على جائرة نوبل في كتابه (إلى القدس ومنها) - هو الذي يجعل العالم يضيق ذرعاً بهم. وقد ضاعف عامل

ص: 262


1- عن مجلة العربي، عدد (286) (أيلول 1982) ص 36-33.
2- تمسك اليهود بشريعتهم مع انحرافها ملحوظ، ومن الطريف ذكره بالمناسبة ان ازمة قامت في (الكنيست) مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب ان باخرة إسرائيلية تقدم لركابها - من غير اليهود - اطعمة غير شرعية - وارغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده مهما تعرضت للخسارة. في ظلال القرآن: 621/4.

المغالاة من شدة هذه السمات إلى حد افساد الشخصية اليهودية، مثال ذلك:

1 - ظهرت العدوانية التي كانت كامنة في الشتات ثم تفاقمت فصارت الجريمة المنظمة (المافيا) اسلوباً مألوفاً في الحياة اليومية الإسرائيلية وفق قاعدة ازدواج المعيار القائلة بانه يجوز لليهودي ما لا يجوز لغيره ويتباهى انصارها بمرضهم العقلي المفضل (البارانويا) (4).

2 - انقلب الخنوع التقليدي والشعور بالدونية فاصبح غطرسة حتى مع الاصدقاء، واحتقاراً صريحاً حتى للمهاجرين اليهود (القدامى منهم والجدد) وهؤلاء بدورهم يحتقرون غير اليهود.

3 - استفحل الشك بالعالم الخارجي والمنظمات الدولية خاصة إلى حد العجز عن تمييز الانصار عن الخصوم، فقد قتلت إسرائيل (5) عمداً (34) ضابطاً وجندياً امريكياً عندما دكت بالقنابل والرصاص والطوربيد سفينة التجسس الأمريكية الشهيرة (لبيرتي) في حرب (1967).

4 - اشتد القلق إلى حد انعدام الثقة بالمستقبل (اصبح المهاجرون إلى إسرائيل اقل من النازحين منها).

5 - تزايدت نزعة الخوف إلى حد التقديس المرضي للأمن حتى ظهرت امراض نفسية لا يعرفها الطب النفسي (اضراب الاطفال عن الطعام خشية مصرعهم عندما يكبرون ويساقون إلى جبهة القتال).

6 - الامعان في الاحساس بالتمايز والتفوق ازاء الامميين (أي غير اليهود) إلى حد الولع بالتسلط حتى على الدول الصديقة (السيطرة على مراكز القوى في الغرب وخاصة الولايات المتحدة).

ص: 263

نظرة القوى المستكبرة إلى قيام دولة تعتمد الإسلام والقرآن دستوراً لها

نظرة القوى المستكبرة إلى قيام دولة تعتمد الإسلام والقرآن دستوراً لها(1)

ومن اساليب الاستعمار شغل الدولة الناشئة التي تتحفز للنهوض باثارة مشكلات وعراقيل تشغلها وتصرفها عن اهدافها الاصلية.

يقول ولفرد كانتويل سميث في كتابه (الإسلام في العصر الحديث) ص (219-220) في اثناء الحديث عن مدى نجاح باكستان - اول نشوءها - في تحقيق وجود الدولة الإسلامية: ان هناك اعتبارين تحكما في باكستان وسوف يستمران في التحكم، وهما: المحافظة على وجودها وحياتها ثم اختيار شكل الدولة، والطريق الذي تسلكه، ثم يقول: ان مشكلة الحياة والبقاء لم تكن شيئاً هيناً، فهي تتطلب في ايامنا هذه كثيراً من الاسباب، انها تتطلب يقظة دائمة، ومجاراة للتقدم الصناعي والفني وذكاء خلاقاً، وجهداً ضخماً دائباً لايفتر في ميادين مختلفة تتراوح بين البحث الكيميائي وشئون الاقتصاد الدولي، والاعداد الحربي والاقتصادي والاداري والكياسة السياسية، ومثل هذه الشؤون المنوعة لم تكن تؤدي إلى تحوير النظرية (الايديولوجية) السياسية فحسب، ولكنها كانت تصرف القادة كذلك عن الأهداف الدينية.

إسرائيل بين قطبي الاستكبار العالمي

ان إسرائيل لم تُعد مجرد حليف امريكي، ولكنها جزء(2) لا يتجزأ عن الاسترتيجية الأمريكية (7) هناك مثلاً اتفاقية المنطقة الحرة وهناك أيضاً دعوة إسرائيل للاشتراك في حرب الكواكب وهناك أخيراً استخدام إسرائيل لخدمة المصالح الأمريكية في جنوب افريقيا وسريلانكا (وكذا في الدول

ص: 264


1- عن كتاب: حصوننا مهددة من داخلها، ص 409.
2- عن مجلة العربي العدد (325) كانون الاول (1985) ص 102-97.

التي اعادت علاقاتها مؤخراً مع إسرائيل كزائير وساحل العاج والمغرب) كل هذا لابد ان يكون واضحاً امامنا تماماً.

وماذا عن إسرائيل والاتحاد السوفيتي؟

إن اي نجاح لإسرائيل يشكل مشكلة أمنية داخل الاتحاد السوفيتي. في روسيا (3) ملايين يهودي تحاول إسرائيل جذبهم، وصل الأمر الى انشاء محطة اذاعة خاصة موجهة لليهود السوفيت.

الاتحاد السوفيتي يرى في ذلك احياءً لشعور العداء للسامية، ذلك الشعور الذي عانت الثورة الاشتراكية الكثير للقضاء عليه وبالمقابل ترى إسرائيل (8) في قوة الاتحاد السوفيتي التهديد الوحيد لوجودها. فالعرب لا يهددون إسرائيل الا بمشاركة السوفييت. اذن التناقض بين إسرائيل والاتحاد السوفيتي تناقض حقيقي (9) والمسألة تخرج عن دائرة الايديولوجيات. انها قضية صورة الاتحاد السوفيتي وأمنه الداخلي.

وفي كتاب (مثلث الشؤم) لنعوم تشومسكي، عرض نبيل ابراهيم(1). يناقش تشومسكي امكانية تخلي الولايات المتحدة عن خطها الرافض للقرارات الدولية باستعمال حق الفيتو وانضمامها إلى الاجماع الدولي، والضغط على إسرائيل للحذو حذوها (10)، كما انه يضع سيناريو اكثر احتمالاً تتخذ فيه إسرائيل خطوات انفرادية تعتبرها الولايات المتحدة مخالفة لمصالحها ورغباتها نفترض عموماً ان حالة الاستغلال الإسرائيلي الممنوحة يجب ان تتوافق مع ما تمليه الولايات المتحدة في هذا المجال (11).

وبتعبير آخر فان على اسرائيل ان تنفذ اوامر (12) الولايات المتحدة سواء رضيت بهذا أم لم ترض. وهناك برهان جلي يتقدم به تشومسكي على5.

ص: 265


1- عن مجلة العربي الكويتية، العدد (320) (تموز 1985) ص 155.

ان اسرائيل قد تلجأ الى (سلاحها السري) وعندها يتحول الخطر الى حالة جنون او وحشية، وحسب هذا المنطق فان بامكان اسرائيل ان تهدد (كما هو) الامر الآن بفرض حالة من التحدي العسكري على الاتحاد السوفيتي، وبذا فانها تطلق زناد مواجهة بين القوتين العظميين، يمكن ان تؤدي في حالة الذروة الى حرب نووية. وقد المحت اسرائيل (13) على انها قادرة على ضرب الحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي باسلحتها النووية. وبغض النظر عن مزايا هذا التهديد فان هناك طرقاً عديدة تستطيع بها اسرائيل اثارة مواجهة مع الاتحاد السوفيتي مورطة الولايات المتحدة في الصراع.

وتبقى منطقة الشرق الاوسط واحدة من اكثر المناطق احتمالاً لنشوب حرب عالمية ثالثة وقد شهدت المنطقة من قبل عدداً من حوادث المواجهة بين القوتين العظميين، وتدل جميع المؤشرات على استمرار التوتر والمنافسة بين هاتين القوتين في المستقبل، والدليل على ان لاسرائيل القدرة على تحويل هذا الخطر الى حالة جنونية (قائم ووارد) وحول ما اذا كانت ستشعر يوماً انها تحت الضغط لممارسة (خيارها الشمشوني) وتهدم المعبد على رؤوس الجميع، فان السؤال يبقى مفتوحاً، واذا كان السلوك السابق أي دلالة فانه سبب قوي يدعو الى القلق.

تمزيق وحدة المسلمين وكل التكتلات التي تعتبر عائقًا في طريق اهداف الصهيونية العالمية واستعباد الشعوب،

ومن اساليب ذلك:

1 - انشاء وحدات سياسية تضم عدداً من البلاد الاسلامية وربطها بالدول المستكبرة لتسهيل السيطرة عليها وتوجيهها وكمثال على ذلك نتذكر دور بريطانيا في انشاء الجامعة العربية، وحلف السنتو او حلف بغداد الذي يضم من الدول الاسلامية العراق وتركيا وايران وباكستان مع بريطانيا

ص: 266

وامريكا، وأيضاً الدعوة الى انشاء جامعة البحر الابيض المتوسط ودول الكومونولث ومجموعة الدول الناطقة بالفرنسية.

2 - الدعوة الى استبدال اللغة العامية باللغة الفصحى وانشاء معجم لكل بلد يضم ما يصح في العربية من لهجته - كما يقول مقترح المشروع - وهذه الخطوة الهدامة تقطع الصلة - بمرور الزمن - بين العرب انفسهم وبين العرب والمسلمين الذين تربطهم سوية لغة القرآن والاسلام، وتنزع عن اللغة قداستها (14) وحضانة الدين والقرآن لها.

3 - بعث روح التعصب للاسلام المحلي (15) - اذا صحت التسمية - كما دعا البعض الى انشاء اسلام تركي وهندي وايراني(1) نحوه وايجاد نوع من القومية الدينية المحلية كما يقول احد رجال الترك المناصرين للاتجاه الكمالي في قوله (نريد اسلاماً تركياً يصبح ملكاً لنا وجزءً من مجتمعنا الجديد على نحو الكنيسة الانجيليكانية التي هي مسيحية على نمط انگليزي). فالانجليكانية ليست ايطالية ولا روسية ولكن احداً لا يستطيع اتهامها ليست مسيحية، فلماذا لا يكون لنا اسلامنا الخاص بنا؟

4 - انشاء اصنام وهمية والتعصب لها كالقومية العربية والوطن واللغة والجنس وعدم مراعاة الاخوة الاسلامية.

5 - ربط كل بلد بجاهليته القديمة التي تسبق الاسلام كتشجيع الفرعونية في مصر والبابلية في العراق والاخمينية في ايران حتى ان شاه ايران جعل تاريخ البلد منذ تلك الحقبة أي قبل اكثر من (2500) سنة وقد وجدت هذا التاريخ مطبوعاً على بعض العملات القديمة.

ومما يجدر ذكره هنا ان صك انتداب بريطانيا على فلسطين يتضمن6.

ص: 267


1- في كتاب الاسلام والعصر الحديث ص 197، كما جاء في كتاب حصوننا مهددة من داخلها ص 396.

الاهتمام بالآثار القديمة، وان صهيونياً (هو المليونير وكفلر) (16) تبرع بعشرة ملايين دولار لانشاء معهد للدراسات الفرعونية في مصر(1).

6 - خداع المسلمين بالاتحاد مع الشرق ضد الغرب او مع الغرب ضد الشرق واتهام كل منهما الآخر بشتى الاتهامات وكنموذج على ذلك عقد مؤتمر بحمدون عام (1954) لإقامة اتحاد امريكي مع المسلمين لدرء خطر الشيوعية على الشعوب وعلاجها من وجهة نظر الاسلام والمسيحية.

ان وعد الله حق

قد يسأل البعض اننا نجد آيات قرآنية لا نرى مصادقيتها كضرب الذلة والمسكنة على اليهود (17) واضمحلال القوى الكافرة وانتصار الحق واهله ومع ايماننا بأنه وعد حق تكون هذه النظرة قاصرة وغير تامة لأن لتحقق هذه الامور شروطاً وظروفاً فلا نستطيع التغلب على اليهود الا بعد ان نكون مؤمنين حقاً وبعد أن نطبق المنهج الالهي، أما القضاء على القوى المستكبرة فان له سنناً جارية ومن سنة الله تعالى ان من يتصادم مع الكون وسننه التشريعية لا بد وان تتظافر عليه القوى التكوينية فتقضي عليه(2) ويبين القرآن الكريم السنة الالهية في القضاء على الجماعات والقوى المستكبرة، قال تعالى: (وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (18). ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرّاءُ وَ السَّرّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ)(3).

فهناك اذن مراحل ثلاث:

ص: 268


1- حصوننا مهددة من داخلها، ص 338.
2- الميزان في تفسير القرآن.
3- الاعراف: 95-94.

الاولى: الاخذ بالبأساء والضراء لعلهم يعودون الى الله سبحانه (ومن نماذجه الكوارث الطبيعية وحروب القوى المستكبرة فيما بينها أو ما يسمونه بالحرب العالمية الاولى والثانية فقد اهلكت الحرب الثانية من دول الحلفاء فقط (41) مليوناً من البشر).

الثانية: فاذا لم يثوبوا الى رشدهم وظلوا على طغيانهم طبع الله تعالى على قلوبهم (19) وغفلوا عن جرائمهم وذنوبهم ليستدرجهم الى الهلاك وفتح عليهم بركات من السماء واغرقوا بالنعم حتى ينسوا ما حل بهم ويقولوا قد مس آباءنا الضر أما نحن ففي عافية وهذه المرحلة هي التي تعيشها دول الاستكبار في عالم اليوم (ومن علامة ذلك تصريح مسؤول في البنك المركزي الامريكي قبل سنتين تقريباً ان قيمة الدولار ترتفع باضطراد ووصلت الى 160% دون تدخل منا ولا نعلم سبباً لذلك، ومنه أيضاً حرق الفواكه والخضر وسكب الحليب على الارض لمجرد رفع السعر، ومنها ان كمية القمح التي تعطى لهواً للكلاب والقطط تكفي لمليار من البشر.

3 - وعندئذ تأتي المرحلة الثالثة وهي القضاء على هذه القوى المستكبرة في اوج عظمتها وجبروتها (20) وهو ما حدث للدولة الرومانية والفارسية والعباسية وغيرها قديماً، ولفرنسا وايطاليا وبريطانيا والمانيا الغربية حديثاً، وينتظر المصير نفسه امريكا وروسيا إذ ان هذه الدول تسقط فجأة دون ان تبدو عليها مظاهر الانهيار بعد ان ينخر الفساد والانحراف اساس مجتمعها وقد بدت ملامح هذا الانهيار عليها، وان كان الترف الظاهر يغطي عليها، واعترف بذلك ذوي الفكر والرأي من فلاسفة الغرب، المؤرخ الانگليزي ارنولد توينبي الذي قال: ان الدول الكبرى لا تضمر ولا تذوي ولا تنكمش ولكنها تنهار كما ينهار عمود الخشب الضخم الذي نخر السوس لبه.

وهناك تقارير وبيانات تؤكد هذه الحقيقة قامت بها لجان حكومية

ص: 269

مختصة في الغرب، اما الشرق فرغم ندرة ما ينشر عن مثل هذه الامور فقد نشرت مجلة العربي الكويتية العدد (317) في نيسان (1985) تقريراً قدمه جودور اوجلوف احد كبار اعضاء الاكاديمية السوفيتية للعلوم في مقال كتبه في صحيفة ارنسيتا قال فيه انه يوجد اربعون مليون مدمن في البلد وان مليون حالة وفاة تحدث سنوياً بسبب الاطفال وان طفلاً من كل ستة اطفال يولد مشوها نتيجة ادمان احد الابوين او كليهما الخ... ثم يقول: إذا لم نقدم على هذه الخطوة - أي تحريم الخمر - فلن يصبح لنا وجود أمة».

ان فهم هذه الحقيقة يعطي زخماً للمؤمنين ويغيّر من نظرتهم الى الظاهر المبهرج لهذه القوى المستكبرة.

ص: 270

مكائد اليهود ضد الاسلام وأهله

1 - الدس بين صفوفه.

2 - إثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالاسلام ومن لم يدخل الاسلام قلبه.

ويستفيدون لعمل ذلك من ارسال البعثات التبشيرية وانشاء المؤسسات في بلاد المسلمين وتشجيع المستشرقين لدراسة الاسلام عن كثب، ومعرفة نقاط القوة والضعف عند أهله ليصيبوا مقتله.

3 - تأليب خصومه عليه في انحاء الارض وتأييد كل حركة ضد الاسلام اينما وجدت عن طريق المساعدات تارة وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة اخرى، وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقفهم منها ببعيد وكذا ما يحدث الآن في لبنان والمذابح التي يمارسها الهندوس ضد المسلمين في الولايات الهندية الآن وغيرها من مناطق العالم الاخرى (21).

4 - صنع ابطال يسمّون باسم المسلمين ليكيدوا بهم للاسلام واهله واحتضان وكفالة كل من يستطيع التصدي لحركات الاحياء والبعث الاسلامية في كل مكان فيلبسوهم ثياب الابطال ويمدّوهم باسباب القوة ليستطيعوا الاجهاز على الاسلام في زحمة الضجيج العالمي حول الاقزام الذين يلبسون اردية الابطال، من ذلك حربهم الشعواء على (الخلافة الاسلامية) الممثلة بالدولة العثمانية فلما ارادوا تحطيم (الخلافة) والاجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا (بطلاً) ونفخوا فيه (22)، وتراجعت جيوش الحلفاء التي كانت تحتل الاستانة امامه لتحقق منه

ص: 271

بطلاً في اعين مواطنيه، بطلاً يستطيع الغاء الخلافة والمظاهر الإسلامية والغاء اللغة العربية وفصل تركيا عن المسلمين واعلانها دولة مدنية لا علاقة لها بالدين وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما ارادوا ان يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من المسلمين.

5 - الدس في كتب المسلمين حتى القرآن طبعوا له قبل عدة عقود طبعة محرّفة لكن لعبتهم انكشفت إذ تكفل الله تعالى بحفظ كتابه الكريم.

6 - حشد وسائل الاعلام لتشويه كل حركة اسلامية ناجحة ولكنهم احياناً لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث قد لا يثنون ثناءً ساخراً على الباطل واهله بل يكتفون بتشويه الحق واهله ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه خشية اتهامهم. واحياناً يتظاهرون بعداوة وحرب حلفائهم الذين يضربون لهم الحق واهله (كما في حروب العرب وإسرائيل وقد اكد البحث ذلك).

ويتظاهرون كذلك بمعركة جوفاء من الكلام لكنهم لا يكفون في جميع الحالات عن تشويه الإسلام وأهله لأن حقدهم على الإسلام وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث اسلامي اضخم من ان يداروه ولو للخداع والتمويه.

فرنجة الشرق المسلم

وهو ما يسمى بسياسة التغريب وتهدف إلى سلخ المجتمع المسلم عن اسلامه الذي يعدّ - حسب اعتراف الساسة الغربيين - المؤثر الرئيسي في سلوك ابناء المنطقة ومن ثم اضطرار هؤلاء لمتابعة الغرب واستيراد ثقافته ويتم ذاك بمرحلتين:

المرحلة الاولى: هدم ما توارثناه وقطع صلتنا باسلامنا وزعزعة ثقتنا به ويمكن في هذا المجال ملاحظة النقاط التالية:

ص: 272

1 - علمنة الدولة وفصل الدين عن السياسة والايحاء بان دور الدين هو في الشؤون الروحية فقط.

2 - هدم لسلطان علماء الدين في قلوب المسلمين واثارة السخرية بهؤلاء العلماء وتصويرهم بصورة الجهلاء الجامدين تارة، والمنافقين المستغلين لسلطان وظائفهم تارة اخرى وباثارة المشاكل الوهمية حول قواعد الإسلام واحكامه ليوهموا العامة انها لم تعد كافية لسد حاجات المجتمع العصري.

ومن ذلك ربط تخرج مدرسي الدين من الكليات اللادينية ونزع الطبيعة الدينية عن التعليم، اما خريجو المدارس الدينية والحوزات العلمية فيحاصرون في المساجد فقط تمهيداً لتغريب المناهج الثقافية للبلاد الإسلامية وتفريغ محتواها من أي معنى ديني وتشهد مفردات تعليمنا بذلك. وكمثال على التغريب الثقافي ننقل النص التالي حول السيطرة الثقافية للولايات المتحدة على حليفاتها في الغرب والنموذج يصلح من باب اولى لتطبيقه على السياسة الأمريكية في الشرق المسلم، يقول الدكتور عبد الله عبد الدايم في مقال بعنوان (الصناعات الثقافية بين سلطاننا عليها وسلطانها علينا) المنشور في مجلة العربي، العدد (318)، مايس (1985)، ص 20: (شكت البلدان المتقدمة من سيطرة النموذج الثقافي الامريكي حسبنا ان نرد من احب الزيادة إلى ذلك الكتاب الخطير الذي صدر منذ عامين عن (غزو العقول) وفيه يشير صاحبه ايف اود إلى الطاقة التصديرية للولايات المتحدة في ميدان الثقافة، ويبين كيف يصدر هذا البلد ذاته الثقافة، وكيف يبغي (امركة العالم) وكيف يرتبط لديه في هذا المجال السلطان الثقافي والسلطان السياسي (23).

بل يذهب إلى ابعد من هذا حيث يشير إلى الدور الثقافي لجهاز المخابرات المركزية الامريكية، وإلى ارتباط هذا الدور السياسي في العالم.

ص: 273

كما انه يشير فيما يشير إلى مقاومة الولايات المتحدة لأي جهد دولي في سبيل إقامة نظام عالمي ثقافي واعلامي جديد(1). ابقاءً على سيطرتها الوحيدة الواحدة، على اننا حتى اذا تناسينا هذا الدور السياسي للغزو الثقافي الامريكي لابد مدركون ما في هذا الدور من تنميط واحد للثقافة العالمية(2)، ومن تشكيل لها على غرار النموذج الامريكي وحده، ومن تسطيح للثقافات كما قيل بحيث لا تكون هنالك ثقافات متعددة تتحاور وتتفاعل، بل تكون ثقافة واحدة وحيدة تعدو نحوها سائر الشعوب.

ويصح ان يكون موضوع التغريب الثقافي نقطة مستقلة الا ان الكلام جرنا اليه هنا.

3 - فتنة الناس عن دينهم إما بالتعذيب والتهديد او بتوفير اوضاع فاسدة من شأنها إضلال الناس وإغواؤهم وتزين لهم الكفر والانحراف ومن امثلتها النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح نشر الالحاد ويسنّ تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر وما قرره المجلس البريطاني من اباحة اللواط وبالمقابل ينفرون الناس من الفضائل الخلقية، ومن اساليبها أيضاً خطة قديمة حديثة وهي المقاطعة الاقتصادية، فقد اتبعتها قريش ضد بني هاشم والمنافقون ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا). والشيوعيون عندما حرموا المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين ليموتوا جوعاً او يكفروا بالله تعالى ويتركوا الصلاة.

4 - بث الافكار الهدامة ودعمها كأفكار داروين ونيتشه وماركسي.

ص: 274


1- نتذكر في هذا المجال قرار امريكا بالانسحاب من منظمة اليونسكو في العام الماضي بسبب رفض رئيس المنظمة احمد آمبو وهو افريقي مسلم الانصياع للسياسات الأمريكية.
2- هذا الكلام سنة (1987) قبل أن تتوضح معالم العولمة والنظام العالمي الجديد فهي قراءة مستقبلية لتفكير الاستكبار الأمريكي.

وفرويد.

5 - تشجيع الحركات الدخيلة في الإسلام كالبهائية والقاديانية.

6 - تغيير الموازين الصحيحة التي تحكم المجتمع تحت شعارات براقة، فشعارات الثورة الفرنسية (الحرية، الاخاء، المساواة) من وضع المجمع الماسوني لستر فسادهم والاحتماء بها والقضاء على المخلصين والمصلحين باسمها(1).

أيضاً في الوقت الذي يسمح للمفسدين من الفارغين والعابثين بالظهور، وباسم حرية الرأي يسمح لكل خبيث يريد ان يتناول مقدسات المجتمع بالتسفيه والاستهزاء ويعود سوطاً يلهب ظهر كل محافظ غيور.

7 - تطوير الشريعة الإسلامية ودمجها وتفاعلها مع شرائع الغرب الوضعية وهذا العمل شر من اقتباس تشريع الغرب كله لانه:

أولاً: من الممكن التخلص من الدخيل لو استعير كله اما في الاندماج والتفاعل فادراك الحدود بينهما صعب (24).

ثانياً: ان الناس في الحالة الاولى يدركون ادراكاً واضحاً ان القانون الذي يحكمهم قانون دخيل بينما في الثانية يتوهمون ان القانون الذي يحكمهم قانون اسلامي.

والدعوة أيضاً إلى تجديد الفقه الإسلامي بما يناسب مدنية العصر ولتلائم انماط حياة الغرب المسيحي او اللاديني على الاصح باثارة نقاط يبدو فيها - للجاهل - عدم ملائمة الإسلام للحياة العصرية وهو عمل يؤدي إلى اتباع ملة الغرب في نهاية الامر، قال تعالى (25): (وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).ن.

ص: 275


1- راجع: كتاب للسيد الشهيد الصدر (قدس سره) في مناقشة الاعلان العالمي لحقوق الانسان.

8 - هدم سلطان التقاليد والاعراف الاجتماعية التي تستمد جذورها من الدين وهو سلطان قاهر باسم الدراسات النفسية - خاصة الفرويدية منها - والاجتماعية.

9 - بث الدعايات والمصطلحات الخلابة كالحرية والتقدمية والعلمانية والشعوبية لبلبلة الرأي العام وضلال الرأي الصائب واستعداده عندئذ لكل جديد وسيكون فاسداً حتماً وتفريغ الفكر من كل محتوى هادف ليسجل ملأه بالتيارات الفكرية الضالة المنحرفة التي تجد مرتعها في الفراغ الفكري والعقائدي.

10 - افساد المجتمع تحت شعار تحرير المرأة وتشجيع الاختلاط والانحراف باسم الرياضة والفن وفي معاهد التعليم واشاعة العري باسم الزينة والمودة والادعاء بان سبب الانحراف الجنسي وما يسمونه بالكبت هو بسبب الحجاب.

11 - افساد الريف بعد ان اطمأنوا إلى فرنجة المدن وكنموذج على ذلك ما يقوم به المركز الدولي للتربية الاساسية في العالم العربي من تغيير الافكار والنزعات والاتجاهات وهو هدف المركز كما يصرح احد اعضائه العرب المسلمين!! ويضيف ان العمل يتم بمراحل:

1 - مرحلة التعرف وتأسيس العلاقات الاجتماعية - بعد انتشار اعضاء المركز في الريف - وتمتينها وعدم اثارة الشك والريبة وهي فترة قد تطول وتحتاج إلى صبر وخداع وتمويه والمساعدة في انشاء مرافق خدمية واجتماعية.

2 - مرحلة الدراسة والبحث وجمع المعلومات والبيانات اللازمة باستدراج المساكين من خلال الطبيب او المصلح الاجتماعي او الزراعي.

3 - الاستفادة من المعلومات - وهو ما يستشف من كلام الكاتب حول

ص: 276

اهداف المركز - في التجسس والسيطرة على توجيه المجتمع (26).

12 - التشكيك في المعتقدات الدينية باسم العلم كالايمان بالغيب وما وراء المادة ودعوة البعض لتعريض (تجربة النبوة) و (تجربة الوحي) لقواعد علم النفس الحديث والادعاء بأن الدين قد نفدت اغراضه بعد ان وجد الانسان في العلم كل شيء.

13 - الادعاء بان فشل الدولة الإسلامية في اللحاق بالغرب صناعياً بسبب عدم تطبيق المنهج الغربي كاملاً وهو كل لا يتجزأ بسبب عدم الانسلاخ التام من الإسلام.

14 - تسخير جيش من العملاء - ممّن يسمّون بالمسلمين - للاستهزاء بتعاليم الإسلام وتنفير المسلمين منه.

المرحلة الثانية: وتتمثل في ادخال المدنية الغربية (باسلوب التطور والتدرج بعد دراسة للموقف لا على اساس الانقلاب العنيف والتغيير المفاجئ) كما جاء في تقرير اللورد كرومر واضع اسس الاستعباد الانجليزي في مصر في تقريره لسنة (1906).

وهم إنما يصدرون لنا باسم المدنية - قشور حضارتهم(1) وما يكرس استعمارهم لنا ويحول دون وصول هذا التقدم وعرقلة اي استقلال عنهم فازدادت بذلك مشاكلنا حيث اشتهر اللهاث وراء المادة واصبح الانسان آلةخ.

ص: 277


1- نشرت مجلة boom (مجلة التجارة) في عددها الصدار في نوفمبر (1949) قالت: دولة إسرائيل: عرض: اسمنت، رخام، اميانت، حقائب. طلب: حديد الصناعات والبناء، منتجات كيمائية وعلاجية، فلين. الدولة العربية (العراق، الاردن، الكويت... الخ). عرض: لا شيء. طلب: مجوهرات، ملابس، مساحيق، عطور، لعب، حلوى، فواكه محفوظة، حرير طبيعي، اقطان، حرير صناعي... الخ.

تعمل لاشباع الشهوات والنزوات فقط كما افرز التضخم المالي عدداً كبيراً من الفقراء والذين لا تكفيهم مواردهم، وبالمقابل تجمعت الثروة في ايدي حفنة قليلة، فالطبقة المتوسطة (الموظفون، المدرسون) ألحقوا بالفقراء ما لم يتداركوا أمرهم وكانوا من قبل في حالة مرضية (27).

وأقاموا ضمن هذه الخطة تقاليد اجتماعية منحرفة تشكل ضغطاً على المجتمع وترغمه على اتباعها مع اعترافه بفسادها - ان بقيت له شيء من فطرة - من ذلك ضغوط الاتيكيت (28) وازياء المواسم والحفلات وانك لترى امرأة مشوهة بكثرة المساحيق وبأزياء تثير السخرية - وهي تعلم من نفسها ذلك - الا انها منقادة لاتباعها او لصرف المبالغ الباهضة عليها.

ويلاحظ أيضاً قتلهم لأي محاولة جادة للاكتفاء الذاتي (29) والاستقلال عن الغرب ومن نماذج ذلك بقاء الكتب والمصادر في العلوم التكنولوجية والطب باللغة الاجنبية وهذه تهدف إلى عدة امور:

اولاً: ان المسلم يشعر - ما دام يقرأ كتباً بغير لغته - ان هذه العلوم غريبة عليه.

ثانياً: إمكان قطع تصديرها عند الحاجة كنوع من المقاطعة الاقتصادية.

ثالثاً: بيعها - كما رأينا ذلك - باثمان باهضة.

على المستوى العالمي

وهناك امور عامة يمكن ملاحظتها على مستوى المجتمع العالمي تستهدف تمييع المجتمعات الإنسانية تقديماً لسوقها كالانعام شاءت ام ابت ومنها:

1 - الغاء كل عصبية دينية او جنسية وغيرها والقضاء على كل شيء يجمع أمر أمة والدعوة إلى نبذ العنصرية بمعنى التعصب للمقدسات (30).

ص: 278

2 - الدعوة إلى دين عالمي وذلك باندماج الاديان وانمياعها وعدم شعور الفرد بالمسؤولية والالتزام والغيرة تجاه الدين الجديد.

3 - التغلغل في كل مرافق الحياة للسيطرة على المجتمع وتوجيهه، وبالمناسبة ننقل رسالة كبير حاخامي اليهود في القسطنطينية إلى يهود فرنسا عام (1489 م) حين تعرضوا لاضطهاد لويس الثاني عشر، فقد قال لهم: (انكم تذكرون ان ملك فرنسا يريد ان تصبحوا مسيحيين فعليكم اذن ان تفعلوا... انكم تذكرون انهم يريدون الاستيلاء على ممتلكاتكم، فاجعلوا من ابنائكم تجاراً وبواسطة التهريب تستطيعون شيئاً فشيئاً الاستيلاء على ممتلكاتهم، إنكم تشكون من انهم يحاولون اغتيالكم فاجعلوا من ابنائكم اطباء وصيادلة حتى يتمكنوا من القضاء على حياتهم دون ان يخشوا عقاباً. انكم تؤكدون انهم يهدمون معابدكم فحاولوا ان تجعلوا من ابنائكم كهنة، ورجال دين، لكي يدمّروا كنائسهم... الخ)(1).).

ص: 279


1- حصوننا مهددة من داخلها، ص 182 نقلها عن كتاب (عدو فرنسا رقم 1) ص 13، العدد 19 من سلسلة (كتب سياسية).

ص: 280

الباب الرابع: تعليقة الشهيد الصدر على اضافة الشيخ اليعقوبي

الباب الرابع: تعليقة الشهيد الصدر على اضافة الشيخ اليعقوبي(1)

1 - قول سماحة الشيخ اليعقوبي في اضافته (تعيين ذوي السوابق السيئة والمنبوذين عند الشعب لكي يضطر إلى خدمتهم...).

من الصعب ان نأخذ هذا على إطلاقه، وانما يختارون عادة من يعرفونه بالسوء والاستعداد لخدمتهم مع كونه غير مفضوح بين الناس وإنما يفتضح بعد ذلك بأعماله تدريجياً.

2 - قولك: (توثيق الصلات بذوي النفوذ في البلاد الإسلامية وكسب ودّهم...).

يضاف اليه وكسب ودهم لو أمكن وإلا فالمحاولة لعزلهم أو قتلهم.

3 - قولك: (جبلت شخصية اليهودي التقليدي حتى اصبحت تتسم بست سمات نفسية رئيسية هي القلق والشك والخوف...).

حاول يا مولاي ان يكون بيانك اقرب للموضوعية يعني البيان الرصين والبعيد عن العاطفة نسبياً لأنه هو الاقرب إلى طبقات من الناس.

4 - قولك: (ويتباهى انصارها بمرضهم العقلي المفضل (البرانويا).

البارانويا هو جنون العظمة كما يفسرون في علم النفس فينبغي الالماع إلى ذلك، والفقرة التي بعدها انما هي من مصاديق وتطبيقات هذا الجنون.

5 - قولك: (فقد قتلت إسرائيل (34) ضابطاً وجندياً امريكياً...).

لا اعتقد ان هذه الحادثة وقعت عبثاً او خطأ، وانما هو الارجح جداً

ص: 281


1- وقد وضعنا ارقاماً متسلسلة في مواضع التعليق التي تضّمنها الباب الثالث ابتداءً من ص 118.

اسلوب من اساليب الضغط على الامريكيين كما هو تماماً في تهديد اي رئيس امريكي بالاغتيال.

6 - قولك: (الامعان في الاحساس بالتمايز والتفوق ازاء الامميين...).

هذا أيضاً من مظاهر جنون العظمة، وقد اكدت عليه التوراة فعلاً فان افضل الناس لديهم هم بنو إسرائيل انفسهم ثم اليهود من غير بني إسرائيل وهم محتقرون عندهم واما غير اليهود فحدث عندهم ولا حرج.

7 - قولك: (ان إسرائيل لم تعد مجرد حليف امريكي ولكنها جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية...).

هذا هو الظاهر الا ان الواقع هو ان امريكا انما هي جزء من استراتيجية اليهود وطلبهم لاهدافهم والامثلة المذكورة فيما يلي انما تقبلها إسرائيل لا لمصحلة امريكا بل لمصلحة اليهود انفسهم.

8 - قولك: (وبالمقابل ترى إسرائيل في قوة الاتحاد السوفيتي التهديد الوحيد لوجودها..).

يكفي هذا مدحاً للاتحاد السوفيتي يا مولاي، بل ان هذه الدولة الظالمة ليس لها اي مانع من وجود إسرائيل وخاصة اذا خضعت لنفوذها، كما لا مانع لديهم من اضطهاد إسرائيل للآخرين اذا كان على حساب غير مناوئ او غير مضر بالشيوعية.

وقد كتبت في البحث الاصلي شيئاً عن هذه العلاقة فراجع.

9 - قولك: (اذن التناقض بين إسرائيل والاتحاد السوفيتي تناقض حقيقي...).

بل تناقض ظاهري، ولا اعتقد ان حرباً محتملة تقع بسبب هذه الشرذمة من اليهود في الاتحاد السوفيتي كما انه لا يتصور فيهم ايجاد قلاقل او ثورة هناك باي حال. فما هو التهديد إذن؟

ص: 282

ينبغي لنا ان لا نذم امريكا وإسرائيل ولو على حساب مدح الاتحاد السوفيتي واطرائه، بل جميعها دول ظالمة غاشمة مستكبرة مضادة للقوانين الدينية والإنسانية والاخلاقية، ولكل ما هو حق وصحيح على وجه الارض.

10 - قولك: (والضغط على إسرائيل للحذو حذوها...).

للحذو حذوها في اي شيء؟ ينبغي أيضاحه.

11 - قولك: (ان حالة الاستقلال الإسرائيلي الممنوحة يجب ان توافق مع ما تمليه الولايات المتحدة في هذا المجال...).

هذه الحالة الاستقلالية ليست ممنوحة وانما تغض امريكا النظر عنها على رغم انفها، وهي من احسن الشواهد للسيطرة اليهودية على امريكا نفسها.

12 - قولك: (وبتعبير آخر فان على إسرائيل ان تنفذ اوامر الولايات المتحدة سواء رضيت بها ام لم ترض...).

هذا السطر ليس تعبيراً آخر عما قبله بل مضموناً آخر مناقض له تماماً، فقد كان الكلام السابق يتحدث عن استقلال إسرائيل، وهنا يتحدث عن عبوديتها، والحق انها مستقلة وليست هذه العبارة صحيحة الا نادراً.

13 - قولك: (وقد المحت إسرائيل على انها قادرة على ضرب الحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي باسلحتها النووية..).

هذا المضمون ينبغي ان يلاحظ بحذر بحيث لا يكون مدحاً للاتحاد السوفيتي.

14 - قولك: (وهذه الخطوة الهدامة تقطع الصلة - بمرور الزمن - بين العرب انفسهم وبين العرب والمسلمين الذي تربطهم سوية لغة القرآن والإسلام وتنزع عن اللغة قداستها وحضانة الدين والقرآن...).

مولاي ليس للغة العربية اية قداسة بغض النظر عن الدين او ما فيه وقد رأيت رواية في ذلك تشجب بمضمونها العام اي تعصب عربي وتقول ما

ص: 283

مضمونه ان العربية سبب للتفاهم وليست عرقية سبباً للعصبية، فان رأيت ان اكتب لك مصدرها ونصها فعلت.

وقد برهنا في محله (ومن كتاب اليوم الموعود) ان ارسال النبوة الخاتمة في بلاد العرب لا يعني اشرفيتهم بل قد يعني كونهم أحط الناس او من احطهم، وانما اكتسبوا شرفهم كله من الدين نفسه.

15 - قولك: (بعث روح التعصب للاسلام المحلي (اذا صحت التسمية) كما دعا البعض إلى انشاء اسلام تركي وهندي وايراني...).

هذه الاتجاهات المطمورة فعلاً واثارتها من جديد لا مصلحة فيها بل قد يكون فيها مفسدة، كما لو اقتنع بعض الناس بها مثلاً فتعود إلى المجتمع بعد ان انجاه الله سبحانه منها. فينبغي المرور عليها مختصراً.

16 - قولك: (ان صك انتداب بريطانيا يتضمن الاهتمام بالآثار القديمة وان صهيونياً (هو المليونير وكفلر) تبرع بعشرة ملايين...).

هذا حسب فهمي لاجل كسب عواطف المنطقة او مصر بالذات لاتجاه الاهداف الرأسمالية (وبالتالي اليهودية) او لاجل شرّهم على الاقل.

17 - قولك: (قد يسأل البعض اننا نجد آيات قرآنية لا نرى مصداقيتها كضرب الذلة والمسكنة على اليهود...).

مولاي الذلة والمسكنة مضروبة من حينها وإلى الآن على اليهود، يكفي شاهداً على ذلك ان بعض الذين احتجوا على مذبحة الفلسطينيين في لبنان من داخل إسرائيل قال قائلهم: ان هذا مما يزيد من نفرة العالم من اليهود او قال ان اليهود اساساً منفورين من العالم فكيف اذا اصبحوا قتلة في وضح النهار.

وقصدي ان الذلة لازالت فيهم، وهذا البارانويا هو حالة مؤقتة يرجى زوالها في اي وقت. ونحن موعودون بها في القرآن الكريم (وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) وقد اشرنا إلى شيء من فلسفته في البحث الاصلي فراجع.

ص: 284

18 - قولك: (ويبين القرآن الكريم السنة الالهية في القضاء على الجماعات والقوى المستكبرة، قال تعالى: (وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)(1).

مولاي تلك الآية اوضح واحرج، وهي التي يقول فيها (وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا...).

19 - قولك: (فاذا لم يثوبوا إلى رشدهم وظلوا على طغيانهم طبع الله على قلوبهم وغفلوا عن جرائمهم...).

هذا احد التفاسير المحتملة، وهو تفسير له وجاهته الا انا ينبغي ان ندقق بمعنى قوله: (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) وقوله (حَتّى عَفَوْا) فقد يكون المراد شيئاً آخر، وعلى اي حال فالتفسير فعلاً وجيه.

20 - قولك: (وعندئذ تأتي المرحلة الثالثة وهي القضاء على هذه القوى المستكبرة في اوج عظمتها وجبروتها...).

هذا وجه لطيف وهو احد التفاسير الظاهرية الجيدة لقوله تعالى (وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ) * فجزاك الله خيراً.

21 - قولك: (وكذا ما يحدث الآن في لبنان والمذابح التي يمارسها الهندوس ضد المسلمين في الولايات الهندية الآن...).

مذابح الهندوس والمسلمين قديمة يا مولاي، وان كان من المحتمل ان حوادثها المتأخرة انما هو نتيجة لذلك.

22 - قولك: (فلما ارادوا تحطيم (الخلافة) والاجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا (بطلاً)...).

هذا البطل التركي هو كمال اتوتورك، وهو علماني تماماً ولا يعمل4.

ص: 285


1- الأعراف: 94.

باسم المسلمين حسب ما اعلم والمقصود في هذه الفقرة غير ذلك على ما اعتقد الا ان يتغير عنوانها.

23 - قولك: (من احب الزيادة إلى ذلك الكتاب الخطير الذي صدر منذ عامين يبين كيف يصدر هذا البلد ذاته، وكيف ينبغي (امركة العالم)...).

يبدو لي ان امركة المجتمع الغربي او الاوربي اسهل من امركة او علمنة او تغريب المجتمع المسلم هذا بغض النظر عن التجربة الغربية «هنا» والذي حدث لحالات نفسية معينة في المجتمع ترتفع بارتفاعه بعونه تعالى.

24 - قولك: (أ - من الممكن التخلص من الدخيل لو استعير كله اما في الاندماج والتفاعل فادراك الحدود بينهما صعب).

تكمل العبارة فيكون التخلص من الفكر الدخيل صعباً.

اقول: الا انه ليس بمتعذر بعونه تعالى.

25 - قولك: (والدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي بما يناسب العصر ولتلائم انماط حياة الغرب المسيحي... وهو عمل يؤدي إلى اتباع ملة الغرب في نهاية الامر، قال تعالى (وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(1).

نعم الشاهد.

26 - قولك: (3 - الاستفادة من المعلومات وهو ما يستشف من كلام الكاتب...).

هناك فقرة اساسية ينبغي ان تكون رابعة وهي: الاستفادة من اهل الريف انفسهم، باعطائهم المال وللسيطرة على مرافق المجتمع ليصبحوا (آكلة لحوم البشر) كما حصل.

27 - قولك: (فالطبقة المتوسطة الموظفون، المدرسون،... الحقوا0.

ص: 286


1- البقرة: 120.

بالفقراء ما لم يتداركوا امرهم...).

بنزولهم إلى السوق في غير اوقات الدوام وقد لا يكون هذا ممكناً للفرد او لا يكون كافياً، او يكون مثيراً للمشاكل في وجهه.

28 - قولك: (من ذلك ضغوط الاتيكيت وازياء المواسم والحفلات..).

ومن ذلك المغالاة في المهور، وانه من المسلم ان يندرج الطفل إلى حين رجولته في الدراسة الرسمية الغربية الاتجاه، ومن المسلم عند الكثيرين ضرورة سفور المرأة وخاصة في ميدان الطب وإلى غير ذلك.

29 - قولك: (ويلاحظ أيضاً عرقلتهم لأي محاولة جادة للاكتفاء الذاتي والاستقلال عن الغرب ومن نماذج ذلك بقاء الكتب والمصادر في العلوم التكنولوجية والطب باللغة الاجنبية...).

هذه نقطة مستقلة وهامة الا ان الاستنتاج منها بمثال الكتب كأنه مثال قليل وضيق، كما ان النتائج الثلاث وان كانت تبدو صحيحة الا نها تحتاج إلى تعميق وزيادة.

30 - قولك: (1 - الغاء كل عصبية دينية او جنسية وغيرها والقضاء على شيء يجمع أمر امة والدعوة إلى نبذ العنصرية بمعنى التعصب للمقدسات).

ذلك عند وجود المصلحة لديهم في ذلك، وحين تقتضي المصلحة عكسه (كمصلحة التفريق بين الناس، فرِّق تسد) فانهم يثيرون العصبيات القومية والدينية وغيرها.

31 - قولك: (2 - الدعوة إلى دين عالمي وذلك باندماج الاديان

ص: 287

وانمياعها...).

هذا غير مسموع إلى الآن. وان كان مسموعاً فهو على نطاق ضيق فالاعلان عنه - كما في بعض الوجوه السابقة - يحتوي على بعض المفاسد.

والحمد لله رب العالمين

ص: 288

ملاحق

اشارة

ص: 289

ص: 290

الملحق الأول: حوارت منّوعة مع السيد الشهيد (قدس سره)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

يعود تاريخ هذه الحوارات إلى منتصف الثمانينات حينما كان سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) يعيش في ظل الإقامة الجبرية ولا يمكن الاتصال به لكن عارفي علمه وفضله لم يقعدهم ذلك عن التوصل بأية وسيلة للاستفادة من فيض علومه وتوجيهاته ونصائحه وقد شملنا الله تبارك وتعالى بهذا اللطف فوفر لنا مثل هذه الفرصة عن طريق البيت الذي يقع في ظهر داره وكان بينهما باب ولا يعلم بهذا الطريق جلاوزة النظام خارج الدار وقد ساعدنا في ذلك أبناء ذلك الدار الأخ زيد البغدادي وأخته المرحومة الفاضلة ساجدة التي كانت موضع احترام وعناية لديه (قدس سره) لدينها ووعيها وسلامة قلبها وقد جمعت (رحمة الله عليها) عدداً كبيراً من هذه الحواريات التي وقعت بأيديها مما كانت تبعثه هي أو غيرها وقد رأينا من المناسب طبعها لتعم الفائدة ولتحقيق مزيد من الأجر للسيد الشهيد (قدس سره) وللمرحومة الفاضلة ساجدة ولكل من كان سبباً في هداية الناس ونفعهم ومنهم الشيخ عبد العظيم الأسدي الذي كلفته بتصنيف المسائل

ص: 291

وتهذيبها وحذف المكررات منها ومطابقتها مع الأصل فجزاه الله خير جزاء المحسنين.

أسال الله تعالى أن يشملنا جميعاً بألطافه ويبلغنا غاية رضاه انه ولي النعم.

محمد اليعقوبي

النجف الأشرف

13 ذ. ق 1424-2004/1/6

ص: 292

كلمات للشهيد الصدر في تربية الدين للنفس والمجتمع

كلمات للشهيد الصدر في تربية الدين للنفس والمجتمع(1)

بسمه تعالى

عليه توكلت واليه أنيب

يمكن تقسيم التربية الدينية الى ثلاثة أقسام رئيسية تدخل في حاجتنا الآن:

وان كان هناك تقسيمات اخرى خارجة عن محل الحديث.

القسم الاول: تدريب الانسان على الورع في الجملة، اعني الاهتمام بالقيام بالواجبات والارتداع عن المحرمات، ويكون الهدف في مثله عادة هو الحصول على الثواب الاخروي او كفاية العقاب الاخروي بالمعنى المفهوم عند غالب المتشرعة.

ولا يكون لدى الفرد اهتمام خارج هذه الدائرة، وسيأتي الحديث عن نتائج هذا القسم الا ان الاهم فيه الآن، هو انه الاساس المهم للقسمين الآخرين، اذ بدونه يصعب جداً شعور الفرد بهما او اندراجه خلالهما، بل يعتبر ذلك في درجاتهما العليا مستحيلاً.

ص: 293


1- هذه من مدونات المرحومة الممتحنة ساجدة البغدادي التي كانت تشاركنا في هذه المراسلات مع السيد الشهيد (قدس سره) وكان يحوطها بعناية خاصة ويتحفها بكتاباته الثمينة وهي تدونها في سجلات خاصة نُشِر أكثر البحوث في كتاب (ما وراء الفقه) كبحث في البداء والغيبة والاستخارة والكذب وهناك حواريات فقهية في شتى الابواب توجد عندنا مجموعة منها يمكن ان تنشر في رسالة استفتائية وكانت رضوان الله عليها من حلقات الوصل المهمة معه (قدس سره).

القسم الثاني: ان يكون اهتمام الانسان منصباً على اصلاح المجتمع دينياً وهداية الناس، والقيام بالمصالح العامة والخاصة لهم او ما هو اكثر من ذلك!!

وهذا هو الذي يسمى بالوعي الاسلامي، وهو الذي يفيد بكل تأكيد في مجابهة المصاعب العامة والخاصة التي يمر بها المجتمع والافراد على حد سواء، لا اقول اكثر من ذلك وانتم ادرى به.

القسم الثالث: ان يكون اهتمام الفرد منصباً على اصلاح نفسه اخلاقياً لأجل انتاج صفاء النفس وطهارة القلب واخلاص الضمير، الامل الذي يؤهل الفرد لتلقي المزيد من الرحمات الخاصة الالهية.

وبعد التفاتنا الى هذين القسمين الاخيرين، يبدو لنا واضحاً توقفهما على القسم الاول الذي هو معنى الورع، اذ بدون الورع يعني انكباب الفرد على بعض المحرمات على الاقل او عدم اهتمامه بتركها، الامر الذي يسبب عجزه الجزئي او الكلي عن اصلاح المجتمع من ناحية والحصول على طهارة القلب وصفاء النفس من ناحية اخرى، بل ان القسم الثالث.. واهم اشكال القسم الثاني يكون بمنزلة المستحيل كما المحنا، كما انه بدون الورع يمكن ان يكون الفرد فاقداً للإخلاص وتابعاً لجهات غير صافية والعياذ بالله.

والاهم في التربية الدينية الكاملة هو ان يكون المربي متصفاً بكل الاقسام الثلاثة، ويقابله في بداية النقص والانحراف فقدان الفرد لبعض تلك الاقسام فضلاً عن طبيعتها، الأمر الذي تترتب عليه نتائج وخيمة احياناً بل دائماً.

اما عدم تحقق القسم الاول لدى الفرد فهو الاعظم منها جميعاً، اذ معه يكون المربي فاقداً للورع فكيف بالآخرين الذين تتم تربيتهم، لا شك انهم سيكونون فاقدين له ايضاً

وانما تتم التربية في حدود الفهم الضيق الذي كان لديه والذي كان يحسبه الكل في الكل!!

ص: 294

واما عدم تحقق القسم الثالث، حتى لو تحقق القسمان الاولان معاً.

او تحقق الاول معها فقط، فأثره الاكبر هو قلة الصبر وضآلة المقاومة ضد البلاء الدنيوي الذي لابد عنه في الامور الشخصية والعامة معاً كما تعلمون والذي لابد منه في تربية الفرد ضد الاعداء الخارجين في القسم الثاني والاعداء الداخلين في القسم الثالث، فاذا قل الصبر بدأ الانحراف.

ولا اقل من ان الفرد يميل عندئذ الى اخذ معنى التقية بمعنى اوسع اكثر جداً خارج حدوده الشرعية الحقيقية، ويهادن الآخرين فيما لا يرضي الله عز وجل ويهادن نفسه الامارة بالسوء في عصيانه سبحانه وتعالى.

ومن هنا يتضح ان القسم الثالث ضروري للقسم الثاني بكل تأكيد، فانه وان كانت نتائجه الاخرى كبيرة جداً، الا ان عدمه يعني اعطاء الاعداء بيد الذليل والخضوع لهم كالعبيد او الاندراج معهم في ظلمهم، ولا اقل من اهمال الاهداف العامة وترك الاهتمام بامور المسلمين.

مع ما ينبغي ان يكون واضحاً، بأن صبر غير المتربي وغير المتكامل لا يصح لمجابهة البلاء القوي، حتى ولو كان الفرد ورعاً تماماً فضلاً عما هو اقل منه، فإن الانهيار وزيادة الخوف والقلق وضيق النظرة وسواد الأمور المستقبلية تجاه نظرته، سيكون هو النتاج الاوضح فيه، الامر الذي ينتج اعراضه عن القسم الثاني واقتصاره على مستوى من الدين في نظره!!

كما ان القسم الثاني، مهم للقسم الثالث، وان يكن هو السبب الوحيد له، وتتضح مقدار اهميته من حيث بلاء الدنيا مع وجود الاهتمام المتشرعي لدى الفرد يجعله تجاه (الجهاد الاكبر)، الامر الذي يتصاعد عنده بالتدريج الشعور بالاهتمام الداخلي، الامر الذي يبدأ معه مرحلة التجرد والصفاء النفسي والقلبي، ومن هنا قلنا في بعض بحوثنا ان الجهاد الأصغر يكون مهماً وصحيحاً باعتباره سبباً ومصداقاً للجهاد الأكبر، وقد ورد: لا فتنة اشد من

ص: 295

السيف، اذ من الواضح انه بدون كونه من الجهاد الاكبر لا يكون مقبولاً ولا مجزءاً، بل يكون على الاغلب منحرفاً وغير مخلص، كما ورد: ان فرداً في بعض حروب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قصد الدفاع عن عشيرته فلم تكتب له النجاة ولا الشهادة بالرغم من انه مات مقتولاً في جيش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

نعود الآن الى السؤال الرئيسي: وهو انه لماذا يترك الرجل او المرأة اهتمامه الديني مع ابتلائه بالعمل الدنيوي كالعائلة والاطفال وغيرها.

لا شك ان الفرد رجلاً كان ام امرأة اذا كان حاصلاً فعلاً على درجة كافية ومحمودة من الاقسام الثلاثة للتربية الدينية، فإن أي شيء في الدنيا مهما جل وعز فانه لن يكون مانعاً عن استهداف رضا الله وتطبيق تعاليمه والشعور باهمية اوامره ونواهيه سواء على المستوى الشخصي الظاهري او المستوى الشخصي القلبي او المستوى الاجتماعي او المستوى التربوي اعني في تربيته للآخرين.

وانما يبدأ سبب الانحراف او التوقف على اقل تقدير من بعض النقصان في بعض الاقسام.

وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الاسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع اكثر من اهتمامه بمصالح الفرد او قل: اهتمامه بتربية الآخرين اكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم ان النفس التي لم تصل في التربية الى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة او في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ احسن من استاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل او حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الاخطاء او النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الاسلامي، الامر الذي يجعل افراده اقل صبراً واضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب

ص: 296

وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة اخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو ان الهدف الاعلى للإتجاه الاجتماعي الاسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن انفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الاهداف، الا انها بطبيعتها دنيوية، الامر الذي يجعل حصول الفرد على هدف دنيوي كتجارة ناجحة او اسرة مهمة او زوج غني مانعاً عن السير في تلك الاهداف، حيث يرى الفرد ان هذه الدنيا مرفهة ولطيفة مع كونها فورية ومعجلة فلماذا ينتظر ويضحي في سبيل دنيا بعيدة وصعبة مهما كانت مهمة ومرفهة ايضاً، ولعلها لن تحصل مادام هو في الحياة اصلاً.

وهناك نتيجة اخرى في هذا الصدد ايضاً، لا ينبغي اهمالها على أي حال، وهي:

ان الآخرة التي يستهدفها امثال هؤلاء انما هي آخرة ذات مستوى (دنيوي) تصلح للبطن والفرج لا اكثر ولا اقل، الامر الذي يجعل الدنيا المعجلة اولى في نظر الفرد من هذه الآخرة.

وهذا بخلاف ما لو فهم عن الآخرة اموراً معنوية اعلاها واوضحها رضا الله سبحانه وتعالى فضلاً عن الدرجات العلى التي وعد بها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، فان الدنيا عندئذ ستكون تافهة في نظره حتى لو كانت اكبر من ملك قارون واعدل من حكم داود الامر الذي ينفي عن نظره كل النتائج السلبية التي سمعناها.

وذلك لا يكون الا اذا كان قد مشى بعض الاقدام بالاتجاه الصحيح في القسم الثالث اعني التربية الداخلية للنفس والقلب والوجدان.

ص: 297

هذا مضافاً الى امر آخر قد يكون موجوداً في عدد من الافراد من حيث لا يعلم الآخرون، وعنوانه العام هو (الشك) الذي قد يكون شكاً في الآخرة وقد يكون شكاً في بعض تفاصيل العقيدة او بعض تفاصيل التعاليم الدينية او الفقهية او شكاً في المربي نفسه او شكاً في القيادة ان وجدت، وكلها شكوك غير مشروعة بطبيعة الحال، ولكن قد توجد شكوك لا تخلو من شرعية يعني ان الله سبحانه وتعالى لا يجزي عليها بالعقوبة، كما لو قالت المرأة المتزوجة ان طاعة زوجي اهم عند الله سبحانه من كذا وكذا، وقال الولد: ان طاعة والدي اهم عند الله، وخاصة ان كذا وكذا عبارة عن اعمال اجتماعية صغيرة غير محرزة النتائج ولا قريبة الانتاج، فلو كان العمل الاجتماعي منتجاً بسرعة وسهولة نسبية بنتائج واضحة ومهمة، لما عدل عنها أي فرد، الا انها في الاعم الاغلب ليست كذلك.

وقد تكون مشروعية مثل هذا الاتجاه تعني في نظر الفرد تفضيل الجهاد الاكبر على الجهاد الاصغر مع تشخيصه ان طاعة الزوج او الوالد او نحوه يمثل قسطاً من الجهاد الاكبر في حين ان العكس اعني العمل الاجتماعي بدون اذن الزوج او الوالد لا يخلو في نظره من اشكال بل ليس عليه ثواب بل لعل عليه عقوبة اخروية، وخاصة مع بعد نتائجه وعدم احرازها كما اشرنا.

ومهما تكن الصحة او الخطأ في هذه النظرات الفردية، فان الفرد ان اصبح هكذا لا ينبغي ان يلزم او يجبر على مخالفة (حاله) وفهمه تجاه الله سبحانه، ما دام الهدف الاكبر والاعمق انما هو الآخرة دون الدنيا مهما كانت، ما لم يتم اقناعه منطقياً وشرعياً بخلاف ذلك، وليس هذا سهلاً دائماً.

هذا، وان المرأة تختص بعدة موانع، لا تكاد توجد عند الرجل، او هي غير موجودة بالمرة فيه، تجعلها ان كانت متدينة تختص بالقسم الاول من التربية دون القسمين الاخيرين، اهمها كما يلي:

ص: 298

اولاً: ان نوع المرأة يعتبر المهمة الرئيسية لها في الحياة هي حفظ الاسرة وانجاب الذرية وحسن العناية بهم دنيوياً واخروياً، دون ما سواه من الاهداف، فهي من وجهة نظرها يجب ان تتفرغ تماماً.

ثانياً: ان المرأة هي الجانب الاضعف بالنسبة الى الرجل، وان الرجل سواء كان زوجها او ابوها او اخوها او نحو ذلك يستطيع ان يؤثر فيها معنوياً ومادياً.

وان يفرض عليها رأيه بشكل من الاشكال.

ثالثاً: ان المرأة قليلة الصبر وضعيفة الارادة في خارج اسرتها، الا مَن عصمها الله سبحانه، ليس لديها في الغالب من نفع الاخرين الا هو جزئي وضيق.

رابعاً: ان الاغلب من النساء لا يفهمن او لا يستوعبن كما هو المطلوب الاهداف العليا المهمة، سواء كان ذلك على مستوى القسم الثاني او الثالث من التربية.

خامساً: ان المرأة ترى بطبيعة ضعفها ان الاهداف بعيدة المنال ودونها عوائق وحواجز وبلايا لا يمكن تخطيها والسيطرة عليها الامر الذي يجعل الوصول الى الهدف مستحيلاً تقريباً، فلماذا يورط الفرد نفسه في المستحيل!!

سادساً: ان الحاجات الآنية الفعلية، ذات ضغط على الانسان اشد من الحاجات البعيدة المدى، وهذا موجود في اغلب الرجال والنساء وهو في المرأة اوضح ومن المعلوم ان الحاجات الدنيوية وخاصة حاجة الاسرة والاطفال والزوج هي الفعلية والمؤثرة طبعاً.

سابعاً: ان المرأة تقضي ردحاً من حياتها قليلاً او كثيراً عاجزة او كالعاجزة عن نفع الاخرين خارج اسرتها الا نادراً بسبب العوارض الطبيعية من الحمل والولادة والنفاس والعادة الشهرية التي قد تحصل بشدة وغير ذلك.

وهذا أوضح بكثير وذو اسباب اوسع في المتزوجة من غيرها بطبيعة

ص: 299

الحال.

ثامناً: ان المرأة تقضي ردحاً من ايامها متنجسة كما اشرنا ولا يجب عليها الصلاة، فقد ترى نفسها من قلة فهمها، بأن الصلاة اذا لم تجب عليها وهي عمود الدين، فيكون عدم وجوب الامور الدينية الاخرى اولى بالسقوط عنها، فتتعلل بمختلف الاسباب لتركها.

هذا، ومن الواضح ان المرأة التي تستطيع ان تسيطر دينياً على كل هذه الموانع هي ذات التوفيق التي تستطيع ان تؤدي واجبها الديني الخاص والعام على سواء، ولكن كيف يمكن للتربية الدينية ان تصنع من المرأة نموذجاً مثالياً يفوق اكثر الرجال قال الشاعر:

ولو ان النساء كمن عرفنا لفضلت النساء على الرجال

وهنا ينبغي ان نلتفت الى امرين مهمين في طريق تذليل بعض تلك الصعوبات او الاهم منها:

الأمر الأول: ان التربية الدينية من القسم الاول لا تحتاج في مبدأ امرها لحصول الورع لدى الانسان انثى كان ام رجلاً الى صبر شديد وجلد عظيم بل يكفي فيه الصبر الموجود عند عامة الناس، والالم يجعل الله سبحانه التكليف عاماً لهم جميعاً، كل ما في الامر ان الفرد يجب ان يعتقد بأهمية الاوامر الدينية وبوجود الآخرة بعمق ووضوح.

غير ان التربية الدينية حين تصبح ذات هدف وراء ذلك وابعد منه كالقسم الثاني والثالث، تحتاج الى استيعاب نظري للهدف والى صبر عملي وفعلي لتطبيقه والسير في سبيله (و سعى لها سعيها وهو مؤمن)، وهذا الصبر بالمقدار المحمود منه والذي يمكن تجنب أي انحراف او خمول، لا يكون الا بخطوات معينة من الجهاد الاكبر الذي به تحصل قوة الارادة من ناحية وصفاء النفس من ناحية اخرى، وهما الامران اللذان يمكن بهما السير في

ص: 300

المدارج المتقدمة من القسمين الثاني والثالث على حد سواء، اقول: وهذا هو الحل الرئيسي الذي به تذلل كل المشاكل السابقة على اختلاف أنواعها، سواء للرجل او للمرأة وسينال الفرد من نفعها بمقدار ما سار هو في طريق الجهاد الاكبر.

ونوكل استعراض تلك المشاكل وعرض حلولها الجزئية الى فطنة القارىء او الى تجربته اذا كان ممن سار او يسير في هذا الطريق.

الامر الثاني: ان نوع المرأة، ذات التربية المعروفة في اجيال متطاولة من الظلم والانحراف اجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً، وكذلك بسبب ضعف خلقتها النسبي، من الرجل، اصبحت مبتلاة بالمصاعب السابقة وخاصة الثالث والرابع والخامس منها، الامر الذي يجعل الجهاد الاكبر على المرأة اصعب من الرجل، ومن ثم تكون المقدمات الاساسية لتكفل وتحمل الاهداف الكبرى لأنها أطول مدة.

وبالطبع فان الجهاد الاكبر لا يمكن ان يفرض بكل تفاصيله او بكل ثقله على أي احد، وانما تبدأ بالفرد من الصفر، ثم تبتدئ تعلو به تدريجياً حتى نبلغ به الدرجة التي تنفعه وتنفع غيره، وتفتح عينه على الاهداف ثم تضع حبله على غاربه ليمشي نحوها مختاراً سعيداً خير من ان يشعر بكونه مجبوراً مضغوطاً عليه.

كما ان الجهاد الاكبر سيصعب على المرأة جداً في مجتمعنا الذي يقوى فيه التنافس على زخارف الدنيا في الملبس والمأكل والمشرب والحال والسمعة وغير ذلك، والمرأة التي هي عاطفية بخلقتها ستبذل عاطفتها في هذا الطريق لأجل حصول التنافس فيه كما قال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا وعلى المحصنات جر الذيول

في حين ان العاطفة والتنافس يجب ان يبذلا في سبيل الله سبحانه

ص: 301

واهدافه الكبرى (وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) ومحل الشاهد الان انه مادام التنافس على الدنيا شديداً كان الحصول على نتائج الجهاد الاكبر متعذراً، ومن المعلوم ان هذا التنافس يشتد بعد الزواج، حين تشعر المرأة بكيانها وسلطانها وبيتها الخاص بها وبزوجها.

مضافاً الى نقطة اخرى في الجهاد الاكبر، وهو انه لا يقود فيه ولا يدل على مقدماته الا من مارسه وجربه وسلك فيه، واما الشخص الخالي منه فمن المستحيل عليه القيام بذلك، وانما القائد هنا او المربّي انما هو كالطبيب يشخص الداء ويصف الدواء، ولا يمكن للفرد الاعتيادي ان يكون طبيباً لا للأبدان ولا للأديان.

وأريد ان اقول كلاماً اكثر صراحة، وهو ان التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الاغلب منهم يتهاون ويضعفون امام الدنيا بمختلف الاسباب: اما المال او الخوف في المجتمع او التعذيب داخل السجون، وأكاد اقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم انما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه ثم ادانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط!!

(ولذا صدر من سيدنا الأستاذ: أننا استطعنا ان نربي الآخرين الى نصف الطريق ولم يقل الى نهايته لانه لو كان الامر كذلك، لما حصل أي شيء من تلك النتائج).

ولو كان اولئك المتدينون قد اصلحوا انفسهم قبل اصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الاخلاص وقوة الارادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الالهية الى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وانما كانوا مع شديد الاسف مصداقاً لقوله تعالى: (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ولم يكونوا

ص: 302

مصداقاً لقوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)، وليس ذلك الا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير.

هذا: ولعل قائلاً يقول: ان كيد الاعداء كان كبيراً جداً، بل اكثر من التوقع والتحمل، ولذا تهاونوا فيه من حيث لا يعلمون.

وهذا قد يكون صحيحاً الى حد ما، الا ان الامر بالدقة لا ينبغي ان يكون كذلك، ومن المعلوم ان السائر في سبيل الله ينبغي ان يدقق في امره لا ان يأخذ الأمر سطحياً تافهاً، وذلك:

اولاً: انه كان يجب من اول الأمر تشخيص وتوقع قوة الاعداء ودراسة ذلك بدقة متناهية على ما هو ممكن، وقد سبق لي ان نبهتهم الى ذلك فلم ينتبهوا.

ثانياً: انه كلما كان كيد الاعداء أكبر وجب ان تكون الارادة اقوى لا بالمعنى الظاهري بل بالمعنى الواقعي الذي يكون معه الفرد (اجرأ من ليث وأمضى من سنان) ومعه لا يضره كيدهم مهما كثر.

ثالثاً: ان مجابهة الاعداء بصراحة لو كان مطلوباً دينياً دائماً لفعلناه ولكن الامر ليس كذلك للأمر الشرعي بالتقية، ولذا يجب التصرف في حدود الامكان الخاص بذلك للمصالح العامة والخاصة معاً.

وينبغي الالتفات هنا الى ان اكثر اشكال الجهاد الاصغر مخالفة للتقية.

الا ان اكثر اشكال الجهاد الاكبر غير مخالفة لها، فان الاعداء لا يرون فيه مخالفة لأهدافهم وتدابيرهم جهلاً منهم بواقعه والحمد لله.

وهذا ينتج ان الاهتمام ينبغي ان ينصب في زمن التقية المكثفة ونحوها الى الجهاد الأكبر، حتى تكون النفوس مستعدة للجهاد الاصغر عندما يحين

ص: 303

وقته، ولكن هذا والنداء لأغلب الناس: انه كما قال الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي

كما ينبغي الالتفات: ان الوعظ والتوجيه للآخرين بصيغة الجهاد الاكبر اقوى تأثيراً واسرع تصديقاً من الوعظ والتوجيه بصيغة الجهاد الاصغر، فمثلاً قولنا طهر قلبك وصف نفسك يؤثر اكثر من التعريف بان الاسلام له اقتصاد متكامل او نظام عام مضافاً الى ان تلك اللهجة اوثق بالتقية كما اسلفنا ومعه، فما هو المانع من ان يكون الاغلب من المواعظ هي بتلك اللهجة، وكلاهما لهجة دينية صحيحة، ولا منافاة بينهما كما عرفنا بل يجب ان تكونا مترافقتين في نفس الفرد وادراكاته، الامر الذي يسبب اننا قد قمنا ببناء النفوس قبل بناء المجتمع او بتكميل الفرد قبل تكميل الغير، وهذا هو واجبنا الآن بل دائماً، ونكون قد اعددنا مجتمعاً يتصف بكلا الصفتين في المدى البعيد.

والحمد لله رب العالمين وصل الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 304

صوم زكريا

س: هناك عادة في المجتمع هي الصوم في اول احد من شعبان والاحتفال مع طلب الحوائج والنذور، ويسمى بصوم زكريا، فهل لهذا اصل اسلامي؟

ج: لم نجد ذلك في الادلة، فالظاهر انه لم يرد بعنوانه الخاص ولا اثر له، فان حصل من احد فليكن بقصد الرجاء، على ان الالتزام بما لم تثبت مشروعيته امر مرجوح، فإن وجدتم ان المجتمع يتحمل النهي عنه واظهار عدم مشروعيته، فهو الأولى، وان كان المجتمع لا يتحمل فقولوا لهم: العمل بقصد الرجاء.

السحر

س: الذي نعرفه ان عمل السحر كله حرام، ولكن هل يجوز عمل السحر لتبطيل مفعول السحر؟

ج: جائز على الاظهر (ولكنه قد لا يكون صحيحاً ولا عملياً).

س: هناك موجة من الاتجاه نحو اصحاب الفال قد كثرت هذه الايام، الصغار والكبار، وبضمنهم بعض الواعين يستعينون بنساء يعملن (الطشة) كما يقال، وقد تكلم (صاحبة الطشة) احياناً بكلام لا يخالف الواقع كثيراً، يسأل بعض المؤمنين ان كان في الذهاب والتصديق بهن حرمة؟

ج: مما لا ينبغي الشك فيه ان كل الكلمات التي يقولها اصحاب الفال انما هي رجم بالغيب وما انزل الله بها من سلطان. ومهما قلنا ان بعض الافراد يمكن ان تصدق منهم النبوءات، الا ان هذا نادر (أولاً) ومنوط بشرائط نفسية

ص: 305

وعقلية معينة (ثانياً) ومن الصعب جداً ان نفترض من صدق نبوءة هؤلاء ولا بالصدفة كما يعبرون.

كما انه مما لا ينبغي الشك فيه ان مثل هذه (التجارة) محرمة والمال الواصل إلى هؤلاء الفوالين حرام ليس له ما يجوِّزه شرعاً.

يبقى عندنا سؤالان:

الاول: هل يجوز ارتيادهم؟

والثاني: هل يجوز او هل يمكن تصديقهم؟

والذي اجده بحسب فهمي القاصر، ان الناس انما يذهبون إلى امثال هؤلاء بسبب ما يجدون في انفسهم من نقاط ضعف وصعوبات. ولو لم يكن هذا الضعف موجوداً لما خطر هذا المسلك في بالهم أصلاً.

وعلى أي حال فالأولى ترك هذا السبيل الذي هو مزلقة للدين والدنيا، مضافاً إلى سوء السمعة التي قد يكتسبها المؤمنون امام الآخرين، بعنوان انهم اصبحوا يعتمدون على الفوالين!!

مع ان إيمان المؤمنين ما يكفي ويفي عن امثال هذا الطريق المشبوه، ويكفي الالتفات إلى بعض النقاط الايمانية التي تغني عن الفوالين وعن (آباء) الفوالين، ولكن اين (الإيمان) الذي يهدي إلى هذه النقاط.. ان هؤلاء (مسلمين) قد حسن اسلامهم ولم يجدوا (طعم الإيمان) بعد، ولو قد وجدوه لالتفتوا إلى النقاط التي تحجبهم وتعصمهم عن السلوك في المزالق نذكر منها:

اولاً: التسليم بقضاء الله وقدره بصفته صادر عن الحكيم المطلق والعادل الذي لا يظلم احداً مهما صعب البلاء على النفس وقل معه الصبر.

ثانياً: الرضا بقضاء الله وقدره، يعني تحمل الإيمان بصبر واناة. بل وبرغبة وحماس، لانه صادر من الرحمن الرحيم ارحم الراحمين، وقد اختار

ص: 306

لنا جل جلاله هذا الامر لأجل اصلاحنا وتربيتنا.

ثالثاً: عدم الاعتراض على الله سبحانه وتعالى فيما يفعل فلا يقول (ليش يا ربي) فانه:

1 - لا يسأل عما يفعل وهم يسالون.

2 - ان افعاله صادرة عن حكمة وعلم وعدل، ومن شك في ذلك فهو غير مسلم.

رابعاً: عدم الاعتداد بالطاعات، بل الاعتراف بالمعاصي امام الله سبحانه فلا يقول (احنا شيمسوين) لا بل قد فعلنا الكثير من المعاصي التي قد لا يكفي هذا البلاء عقوبة لها، وانما اقتصر الله سبحانه على هذا المقدار برحمته جل جلاله فله الحمد على ما انعم.

خامساً: التوكل على الله سبحانه توكلاً صادقاً والدعاء له بقلب مخلص ومتوجه في جلب الخير ودرء الشر وطلب النجاح في الدنيا والآخرة.

ولكن (وهذا معنى يعطى لمن يفهمه فقط) لا ينبغي ان نقترح على الله تعالى ما يصلحنا ونقول له افعل.

فعسانا ان نحب شيئاً وهو شر لنا وعسانا ان نكره شيئاً وهو خير لنا.. (والله يعلم وانتم لا تعلمون) - بمضمون الآية.. بل نقول لله سبحانه بالتضرع: افعل ما انت اعلم به منا من خيرنا وصلاحنا ودفع السوء والشر عنا واعذنا من سوء الفتن وسوء المنقلب وسوء الخاتمة. واعنا على انفسنا وعلى دنيانا وآخرتنا ونحو ذلك.

فاذا فعلنا ذلك انتظرنا من الله كل خير، فانه بكرمه وحسن الظن به لا يخيب عبده المتضرع الداعي المسكين المستكين وهو اهل بالرحمة والعطاء.

ادعوه سبحانه ان يعاملنا كما هو اهله لا كما نحن اهله وان يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات انه ولي كل توفيق.

ص: 307

اسئلة ثقافية عامة

س: الاطلاع على الثقافات الغربية، هل يؤثر علينا سلبياً اكثر مما يفيدنا، وبالتحديد مؤلفات فرويد، هل ان دراستها لها مردود سلبي على افكارنا رغم سعينا الى توفير الحصانة الفكرية وحصر هدفنا في الاستفادة من النصوص العلمية الصحيحة فحسب، هل الافضل تجنب هذه الكتب؟

ج: لا اعتقد ان التدقيق في نظريات فرويد مفيد اسلامياً مع احتمال التأثير السلبي يكون الأَولى تجنبه، نعم الثقافة العامة من سائر الجهات الضرورية كما هو معلوم، فالإلمام بخطوطها العامة من اجل نقدها مع العلم بالحصانة الفكرية شيء جيد.

س: في تفسير طول عمر الامام (عليه السلام) المهدي، قول بأن المعصوم لا يتعرض للموت الطبيعي، أي لا يموت الا بحادث خارجي، اذا كانت هذه الفكرة تنطبق على كل المعصومين، فهل مات جميع الانبياء بحادث خارجي؟

ج: ان صحت هذه النظرية فهي خاصة بالمعصومين الاربعة عشر وغير شاملة للأنبياء، على ان عدد من الانبياء نعلم بأنهم ماتوا بالموت الطبيعي (كآدم ونوح وابراهيم وموسى عليهم السلام).

س: في تفسير الميزان ج 1، في موضوع اعجاز القرآن يصف القرآن بأنه كتاباً متشابهاً مثاني، هل يقصد سورة الفاتحة، ما معنى وصفه بالمثاني؟

ج: جاءت (المثاني) في القرآن الكريم مرتين احدهما صفة لسورة الفاتحة في سورة الحجر آية (87) والاخرى في سورة الزمر آية (23) وهي صفة للقرآن كله ن ولعل المراد به - والله اعلم بما ينزل - ان للقرآن اكثر من

ص: 308

معنى يفهمه كل شخص حسب مستواه الثقافي والعقلي والنفسي، وفي بعض المصادر انه تكرر فيه الاحكام والمواعظ.

س: هل يجوز ترجمة القرآن الكريم الى لغة اجنبية؟

ج: اذا كان بمراعاة الدقة والاحتياط نعم.

س: عندما يتكرر السلام على الشخص وفي اوقات مختلفة ولم يرد الجواب متعمداً، هل نقطع السلام؟

ج: اذا لم يكن فيه قطيعة رحم ولا اذى مؤمن ولا مضاعفات شرعية اخرى فالسلام مستحب يجوز تركه وان كان الرد واجباً.

س: هل يجوز احراق اوراق كتب فيها اسم الله وآيات قرآنية؟

ج: احراقها مخالف للإحتياط جداً، وانما تقطع قطع صغيرة بحيث تسقط عن امكان القراءة، او تلقى في بئر او نهر جار.

س: هل يجوز كتابة حادثة تأريخية عن الانبياء والأئمة (عليهم السلام)، او تصور الملائكة بمضمون آخر بحيث لا يبقى من الحادثة الا الاسماء والحدث الرئيسي، مثلاً نتصور حدوث الطوفان في العصر الحديث؟

ج: الظاهر جواز ذلك بشرطين:

الاول: ان تكون هناك قرنية ضمنية او صريحة على الافتعال او (الخيال) مثل ذلك الذي كتب على قصة (قصة لا اساس لها من الصحة) بحيث يكون ذلك واضحاً للقاريء.

الثاني: الورع بالنسبة للمعصومين عموماً فلا ينسب اليهم ما لا تثبت عنهم او بمعناه تماماً، ونطبق الحوادث الاخرى عليه.

ومع ذلك فالأولى جداً ان ننقصر في ذلك على ما اذا كان هناك مصلحة دينية فعلية وعدم وجود أية مضاعفات.

س: هل يجوز للزوجة ان تمتنع عن زوجها دفعاً منها له الى الصلاة؟

ص: 309

ج: اذا كان منع الزوجة داخلاً تحت شرائط الامر بالمعروف فلا بأس بحيث يراد التزام الزوج به بعد ان كان تاركاً.

س: توفي شخص لم يصل طول حياته ولم يصم، هل ينفعه اعطاء نيابة عنه صوم وصلاة؟ ام تذهب هباءً؟

ج: لا اعتقد ذلك اذا لم يلتفت الى التوبة اصلاً الى وفاته، ولكن هذا لا ينافي وجوبها على الولد الاكبر.

س: هناك رأي يعتمد على أئمة اهل البيت (عليهم السلام) بان الحساب في البرزخ لا يشمل الا من محض الكفر محضاً او محض الايمان محضاً، والباقي يلهون عنهم، فهل هذا يعني ان جميع الاحاديث التي تصف حياة البرزخ وكيفية استقبال الملائكة للميت وسؤاله عن ربه ودينه، وما يلاقيه من احوال القبر حيث يقرن عمل الانسان معه متجسداً بشكل حسن او قبيح.. الخ، كل هذا لا يشمل الا من محض الايمان او الكفر، فما بال بقية الناس؟

ج: الرأي المشار اليه في اول السؤال له اكثر من جواب نذكر بعضها:

الاول: المناقشة في سندها أي انها رواية غير ثابتة من الأئمة (عليهم السلام) ولا تقف بأزاء طوائف الروايات الكثيرة المنافية لها والمشار الى بعضها في السؤال نفسه وانها اوكد.

الثاني: ان الحساب خاص بطائفة من الناس اما الباقون منهم، اما ان يلهى عنهم او يعطون الجنة او النار، كل ذلك بلا حساب.

الثالث: ان سؤال القبر لكل احد عن العقائد الرئيسية في الدين من القطعيات وليس هذا حساباً لكي ينافي تلك الرواية وانما الحساب على مفردات الاعمال وهو - عادة - لا يكون الا يوم الحشر.

وفي بالي ان الامر عكس ما ذكره السائل، فإن من محض الإيمان او

ص: 310

الكفر لا يحاسب والباقي يحاسبون، وهذا هو ظاهر القرآن الكريم ايضاً فان من محض الايمان (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) ومن محض الكفر (وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) والاوفق الأخذ بظاهر القرآن الكريم طبعاً.

س: هناك عادات واعتقادات متأصلة عند العامة، وقد اندفع بعض الواعين الى تصديقها بدعوى عمق تأصلها في النفوس كالصبر وتأخير العمل عند سماع العطسة الواحدة وتعجيل الأمر في العطستين.. وكثير على شاكلة هذه الامور، فهل نحن في موقف سليم حين نرفضها بشدة خاصة مع الواعين الملتزمين؟

ج: حسب فهمي ان الفرد الساعي وراء الحقيقة ينبغي ان يكون له تجاه عقائد العوام موقفان متباينان:

الموقف الاول: موقفه امام الله سبحانه وتعالى ليعترف ان كل ذلك مما لا دليل عليه في كتاب ولا سنة ولا عقل ولا حاجة الى تأييده ان لم يكن تأييده مضراً بالدين من بعض النواحي ولو احتمالاً.

الموقف الثاني: موقفه امام العوام انفسهم، ومن هذه الناحية لا حاجة الى مخاصمتهم ومجابهتهم لقصورهم غالباً عن التفهم الواقعي، ونحن مأمورون ان نكلم الناس على قدر عقولهم، كما ان تأييد هذه الافكار امامهم وجاهاً ومدحهم لهم شيء سمج لا حاجة اليه مالم تقتضي اليه مصلحة استثنائية فالأفضل الاعراض عن ذلك، وحسب فهمي ان العامي اذا كان من الساعين وراء الإيمان ينكشف له تدريجياً قصورما كان يفهمه فيرتدع عنه تلقائياً.

واما الواعي القادر على الفهم والتحمل فلا بأس بمواجهته بالمناقشة وتحذيره بأن عقيدته قد تجد لها مضاعفات عند من لا يعتقد بالاسلام كفاراً

ص: 311

او فساقاً، وترجوه بأن يكف عنهم امامهم، مع الاعتقاد بأنها لا تضره امام الله سبحانه الا اذا اعتقد انها دينية فانه من التشريع المحرم.

س: هل يجوز قراءة الكتاب دون اخذ الاذن من صاحبه؟ او مع عدم موافقته؟

ج: اذا لم يكن هناك اذن صريح ولا ضمني بالفحوى ولم تكن هناك مصلحة دينية عليا، فالحكم هو التحريم.

س: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، كيف نفسر الآية عملياً؟ اذا رأينا شخصاً يأخذ نقوداً او حاجة لا تخصه دون ان يتحرج وفقدنا شيئاً آخر سنظن انه السارق فهل يعتبر هذا الظن إثماً؟

ج: على العموم وباختصار فان الإثم هنا حكم تنزيهي او الكراهة وليس المراد التحريم، والظن غير الاختياري ليس إثماً على أي حال ولبسط الكلام في الآية مجال آخر.

س: هل هناك كراهة في لبس الحلقة - خاتم الزواج - باعتبار ان اصلها غير اسلامي، يقال انها عادة قديمة موروثة عن عادة ربط المرأة بالحبل كالحيوان من قبل الرجل في ليلة الزفاف، وبالتمرن تحولت الى سلسلة في اليد واخيراً الى خاتم الزواج، واذا لم تكن هناك كراهة فهل هناك استحباب في عدم لبسها، اما انها شيء عادي؟

ج: ليس هناك كراهة، ولكن الحكم بكونها مرجوحة اخلاقياً امر قريب الى الوجدان، لكن ذلك لا يقال الا للقليل ممن يحتمل.

س: شخص يضطر للكذب من اجل التقية، يقول ان الكذب يخرج من لسانه بسبب الحاجة للسرعة في الموقف قبل ان يكون لديه مجالاً للتورية (التفكير والنية لها)؟

ص: 312

ج: لا جواب له، يعرف تكليفه الشرعي، والتقية خاص بمورد الضرورة - اعني العقوبة على تركه من قبل الظالم - فما خرج عن ذلك كان حراماً.

س: اذا نقصت المواد الاستهلاكية بصورة واضحة، فهل يجوز للعوائل ان تشتري المواد الغذائية بكميات كبيرة خوفاً من نفاذها، وهل يعتبر هذا احتكاراً؟

ج: لن يكون من الاحتكار في حدود الكميات الاعتيادية من ناحية والظروف المنظورة من ناحية اخرى.

الا ان هذا الطلب من الآخرين ليس استحباباً شرعياً فضلاً عن الوجوب بل لعله مرجوح اخلاقياً لأن لله في خلقه شؤون وليس لنا ان نتسبب الى دفع قضاء الله في خلقه مضافاً الى ان الرزق مكفول للناس بالشكل الذي هو اعلم به منا، وهو اشفق منا بنا وبهؤلاء وبغيرهم، فلو عرضت علي هذه الفكرة لما اتخذت أي قدم في هذا الطريق.

قللوا من الحرص على الدنيا، وكثروا الثقة بالله وحسن الظن به تبارك وتعالى، رحمكم الله في الدارين.

س: كيف يستطيع المكلف ان يعرف ما هي وظيفته في الحياة؟

ج: وظيفة كل شخص في الحياة هي استهداف رضاء الله عز وجل وتطبيق طاعته في كل ما يمر على الفرد من حوادث ومشاكل وملابسات، واما ما هو اكثر من ذلك فهو غير واجب بل غير راجح، بل هو بيد الله سبحانه كما ورد: (كل ميسر لما خلق).

س: ما هو حق كل انسان على الله سبحانه وتعالى؟

ج: خير ما يصلح جواباً هذا السؤال هو ما ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (فأما حق الله الاكبر فإنك تعبده لا تشرك به شيئاً فاذا فعلت ذلك بإخلاص جعل الله لك على نفسك ان يكفيك

ص: 313

امر الدنيا والآخرة ويحفظ لك ما تحب منها).

اقول: اذن فالتوحيد الخالص هو حقه سبحانه وتعالى، واما اذا كان السائل يريد العكس اعني حق الانسان على الله سبحانه، فهذا بالنظر الأولي غير موجود لأنه سبحانه غني عن العالمين: الا انه بالنظر الثانوي اعني برحمة الله سبحانه ولطفه موجود، فالخلق كلهم عيال الله وهو الرحيم بعياله يعاملهم بما هو اصلح لهم على الاطلاق بما هو اعلم به منهم ومن الخلق اجمعين.

فقد يعاملهم بالرحمة العامة وهي الخلق والرزق وارسال الانبياء والكتب وقد يعاملهم بالرحمة الخاصة وهي الهداية القلبية والتوجه الى الصراط المستقيم، كل واحد حسب استحقاقه.

س: هل النفس خالدة بالطبع ام انها فانية واكسبها الله الخلود بفضله؟

ج: لا معنى لهذا التقسيم بل الصحيح هو المزج بين القسمين بمعنى: ان الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته جعلها لتكون خالدة بطبعها، أي انه جعل لها طبعاً مناسباً مع الخلود، لا ان هذا الطبع يكون زائداً على ارادته تعالى عما يشركون.

س: هل النفس في ذاتها ذكر ام انثى ام انها واحدة لا تختلف؟

ج: يبدو ان النفوس - مهما كانت متشابهة - فانها تختلف في كثير من الامور كالاجسام فانها متشابهة في اشياء معينة ومختلفة في اشياء ايضاً، واختلاف النفوس محسوس في دار الدنيا فضلاً عن الآخرة، ومن هنا يبدو انها تنقسم الى ذكور واناث ولعل من شواهد ذلك بعض ما هو منقول من كلام الاموات في كتاب (الانسان روح لا جسد).

س: ما اصل النفس؟ اذا كانت مخلوقة لآدم (عليه السلام) فهل تتوالد أم ان كل مولود تخلق له روح جديدة؟

ص: 314

ج: بناء على نظرية صدر المتالهين الشيرازي (قدس سره) في كتابه الاسفار من ان النفس مادية الحدوث روحانية البقاء فان كل مولود تخلق له روح جديدة، واما اقواله فهو خاص بالاجسام، وبعد استقلال الجسم الآدمي الجديد وهو في رحم امه تخلق له روح جديدة ومستقلة فتبارك الله احسن الخالقين.

س: كيف ترتبط النفس بالجسم؟ هل تحل في جزء معين ام في الجسم كله؟

ج: ترتبط النفس بالجسم كله، ومن شواهد ذلك انها تستطيع السيطرة على كل عضو وتحريكه بغض النظر عن الاعضاء الاخرى كما يشهد بذلك الوجدان.

س: هل تخطىء النفس بسبب الجسم والحواس، ام انها لا يمكن ان تتأثر بالجسد الذي هو ادنى منها، لكن اخطاءها ناتجة عن الكبرياء والحسد و... أي امور تخص النفس لا الجسد؟

ج: كلا الامرين الواردين في السؤال سبب للخطأ، ولكن باعتقادي ان الخطأ الذي يحصل بسبب الحواس اقل عدد او اقل اهمية من كلا الناحيتين الفلسفية والاخلاقية من الاخطاء التي تحصل بسبب سوء الباطن والتي تكون عادة فادحة وخطيرة.

س: هل هناك فرق بين الايمان والفلسفة ولكن يتم الاستعانة بالثانية لبلوغ الاولى؟ ام هما شيء واحد لا يفصل بينهما؟

ج: الايمان والفلسفة متغيران مفهوماً بطبيعة الحال، وان كان قد يستفاد من الفلسفة لتعميق الايمان، كما قد يكون لتعميقه اسباب اخرى كالمواظبة على الطاعة والمواظبة على التفكير في خلق الله والمواظبة على محاسبة النفس ونقدها.

ص: 315

س: هل الوجود يكون اولاً ثم الماهية؟ ام العكس؟ ام هما مثلان مختلفان؟

ج: اذا كان الامر دائر بين اصالة الوجود واصالة الماهية التي افترق فيها الفلاسفة الى فريقين كما هو معروف، فالصحيح هو اصالة الوجود وان الماهية ليست الا حدود الوجود ونواقصه، ولا مجال للتفصيل في هذا المجال، لأنها فلسفية معقدة.

س: هل صحيح ما يذكره بعض علمائنا في كتبهم ومؤلفاتهم، ان نظرية التطور لدارون تتفق بشكل ما مع المفاهيم الاسلامية او ان الاسلام يقرها ولكن باسلوبه الخاص؟

ج: ان اقصى ما يمكن ان نقوله هو انه يمكن تطبيق ظواهر الشريعة على نظرية دارون فهي لا تنافيها بمعنى من المعاني ولكن اعتبارها نظرية اسلامية غير صحيح تماماً، كيف والكتاب الكريم واضح في عرض نظرية اخرى تختلف بشكل جوهري مع داروين وظواهر الكتاب حجة.

س: في موضوع الجبر والتفويض يقول (تفسير الميزان): (لا شك ان كل ممكن حادث مفتقر الى علة، والحكم ثابت من طريق البرهان، ولا شك ايضاً ان الشيء ما لم يجب لم يوجد، اذا الشيء ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كان نسبته الى الوجود والعدم بالسوية، ولو وجد الشيء وهو كذلك، لم يكن مفتقراً الى علة وهف).

ما معنى (هف)! وقد كررها مرة اخرى.

ج: يراد بهذا الرمز (هف): (هذا خلف) فهما حرفان من هاتين الكلمتين فيكون المعنى: لو وجد الشيء وهوكذلك - أي بحد الامكان بلا ترجيح - لم يكن مفتقراً الى علة (هذا خلف) أي خلاف ما برهن عليه من ضرورة وجود العلة لكل ممكن.

ص: 316

س: هل يجوز تحضير الارواح؟

ج: جائز ويشترط عدم الاحتقار او الاجبار لها.

س: هل يعتبر رمي لب الصمون تبذيراً؟ واذا كان كذلك فهل يجب نهي الفاعل اذا كان جاهلاً بالحكم؟

ج: اذا سقط لب الصمون عن الفائدة برميه كان رميه تبذيراً بلا اشكال، واما اذا استفيد منه في موارد اخرى فلا بأس، واما الغافل فالأفضل في هذا المجتمع بقاؤه على غفلته الا اذا سأل فيجاب بما قلناه.

س: اذا اعطى شخص لأم الطفل شيئاً فهل يجب عليها ان تسأله هل ان اعطاءه هذا الشيء للطفل على وجه الصرف ام على وجه التمليك وهل يجوز لها ان تصرفه عليه دون فحص؟

ج: حسب الظاهر عرفياً انه اذا لم يجعل المعطي في نيته، او دلالة على ان المال ملك للطفل، فانما هو ملك للآخذ له وهو الأم وليس للطفل. نعم الفحص احوط استحباباً.

س: البيوت المغصوبة؟

ج: يسكنونها بمقدار الضرورة، والاحوط ان تكون عباداتهم اعني الصلاة والطهارات الثلاث: الوضوء والغسل والتيمم في خارجها كالصحن او المسجد فاذا حصلت اول فرصة للخروج منها وجب، والاحوط ان يضمنوا الإيجار لأهله او يتصدقوا به.

س: اذا كان هناك قرآن - الكتاب الكريم - فائض عن حاجة العائلة، فلا يقرأ به احد، وقد يتراكم عليه الغبار، فهل يعتبر هذا من الهجر مع ان قراءة القرآن لم تقطع في الكتب الاخرى، وهل في هذا حرمة؟

ج: ليس في هذا حرمة، وان كان امراً مرجوحاً، ويمكن تلافي ذلك بأحد امرين:

ص: 317

احدهما: توزيع القراءة على كل نسخ المصاحف داخل العائلة.

ثانيهما: اعادة او اهداء او بيع النسخ الزائدة لمن يحتاجها او يقرؤها.

س: قيل لأمرأة انه يجوز ان تأخذ كمية من مال زوجها مادام حياً دون علمه فأخذت (150) دينار في وقت كان يعالج سكرات الموت، عرفت بحرمة هذا الفعل بعد سنين واحست بالندم العميق، فماذا تفعل وهي لا تستطيع ان تخبر الورثة (ابناء الزوج) وتتحلل منهم لأن هذا سيسبب لها مهانة من قبلهم؟

ج: اذا اعتذرت لهم بتطبيقها للحكم الشرعي الذي كانت مسبوقة به فلا اجد ان فيه مهانة.

واذا كان ما اخذته داخلاً في النفقة الواجبة فلا يجب ارجاعه للورثة واما اذا لم يكن كذلك فهي مأذونة ان تتصدق به يعني بمقداره عن مالكه الواقعي قربة الى الله. او ان تحمل المال الينا، واذا كان حالها ضيقاً امكن التدرج في الدفع.

س: هل يجوز تركيب ماطور (سحب الماء) على ماء الاسالة مباشرة؟

ج: اذا لم يحصل ضرر حقيقي على بعض المسلمين فلا حرمة عليه.

س: كثير من الناس يقرأون القرآن بصورة غير صحيحة، فهل يجب ابلاغهم بحرمة ذلك؟ (ربما ادى ذلك الى هجر القرآن من قبلهم).

ج: مثل هؤلاء يوعظون: بانه يجب تحسين القراءة جهد الامكان إما بالتعلم من عارف او بملاحظة الحركات والحروف جيداً واما بكثرة الاستماع الى القراءات في الاذاعات، او بكل هذه الطرق او بغيرها ان وجد، واما حرمة القراءة غير الصحيحة فلا يحسن تنبيههم عليها، وهي - مع بذل الجهد بالتصحيح - غير موجودة على أي حال.

س: هناك من يكتب دعاء الجوشن الكبير على الكفن، فهل لهذا تأثير

ص: 318

على الميت، هل هو شيء مستحب يخفف عذاب القبر؟

ج: نعم هو مستحب ويخفف من عذاب القبر بكل تأكيد الا مع سوء العقيدة والعياذ بالله.

س: يعتقد العامة اعتقاد كامل في ان (الحرمل) دافع للحسد، وان الزهراء (عليها السلام) كانت تستعمله، وان الملائكة تدخل البيت على رائحته، فهل لهذا الاعتقاد صحة، وكيف يمكن رفعه من أذهان العامة؟

ج: لا استبعد ان يكون استعمال الحرمل وارداً في بعض الاخبار وان كانت ضعيفة، وقد فحصت عنها فلم اجدها، ومصادري على اية حال قليلة وعلى أي حال فهناك في موقفنا من ذلك نقطتان:

النقطة الاولى: فيما بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، ان هذا الشيء لم يثبت صحته او حجيته، وان كان استعماله (رجاء) الفائدة امر غير محرم على أي حال، الا ان الاعراض عنه الى ما هو اهم من اشكال الذكر والدعاء والاعتصام والتوكل اولى بكثير.

النقطة الثانية: فيما يجب ان نقوله للعوام.

لا اعتقد اننا يجب ان نحملهم على الكف عن هذه العادة، وخاصة اذا كان له رد فعل سيء منهم او من بعضهم وهو أساءة الظن بالمتحدث اليهم والواعظ لهم، وانما يحتاج ذلك الى تقدم عالي نسبياً في الإيمان والوعي وهو غير حاصل عند عموم الناس.

نعم من حصل له هذا المستوى من الإيمان، فلا بأس بمناقشته حسب ما قلناه في النقطة الاولى، وعلامته انه يرى كلام الواعظ والناصح اولى بالتصديق من هذه (الاشاعات)، وليس عموم الناس كذلك كما تعلمون.

وعلى أي حال فهذه العادة غير مضرة بإيمان العوام ولا مانعة لتطورهم الإيماني، بل هي من وجهة نظرهم - ناتجة منه وداعمة له.

ص: 319

فمحاربتها الواسعة بلا مصلحة بكل تأكيد، الا ان اعطاء الرأي الموافق بأستعماله بلا موجب بل غير صحيح، بل نقول: الله اعلم بصحته واستعماله غير محرم على أي حال.

س: هل الخير مجرد صفة يجب ظهورها بوجود المجتمع الاسلامي؟

ج: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) هكذا يعلمنا ربنا في كتابه، فالخير كله من صفة الله تبارك وتعالى، واما وجوب وجوده في المجتمع الاسلامي فهو تابع للحكم الشرعي بالوجوب فان الخير قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وتطبيقه تابع لذلك، وكذلك في غير المجتمع الاسلامي كافراد المسلمين والمؤمنين او مجموعاتهم.

والخير على أي حال كما هو صفة لله سبحانه كذلك هو صفة لأهل الخير من عباده، وكلما كان الفرد اعلى في مراتب الكمال كانت صفة الخير فيه اجلى واعلى.

س: هل يجوز اخذ الصورة بدون حجاب ويغسلها شخص اجنبي؟

ج: من الناحية الشرعية لا يجوز أدبياً، لكن لا توجد حرمة في الموضوع والحرام يكون على غاسل الصورة من خلال نظرته فيها من الشهوة، ولا بأس بتمييز المرأة والتعرف عليها اذا لم يكن النظر بشهوة، وان كان الادب الشرعي على خلافه.

س: اذا كان الشخص عامياً، هل يجوز ان يدعي انه من نسب السادة؟

ج: لا يجوز، الا ان يدفع عن نفسه القتل ونحوه.

س: عن انجاب الاطفال وتحديد النسل..

ج: على العموم فان انجاب الاطفال راجح شرعاً مهما زاد العدد الا اذا حصل من ذلك ضرر جسدي لأحد الزوجين وضرر ديني ونحو ذلك. والفرد المؤمن اذا زاد انجابه فانما يكثر بذلك الافراد المؤمنين في المجتمع، وهو أمر

ص: 320

اكثر من ضروري في العصر الحاضر الذي يكون فيه الآخرون عدد الذباب والنمل، ولكن يحسب لا على الوجوب التشريعي الفقهي بل على نحو الرجحان الايماني والاخلاقي.

يحسن ان يقترن الانجاب بأمرين مهمين:

الامر الاول: ترويض النفس المشار اليه في الرسالة، فانه امر مهم لكل فرد مؤمن فانه لا تنال عافية النفس وسلامة القلب الا به، وهو يحتوي على جانب عملي كزيادة الصلاة والصوم وقراءة القرآن الكريم والادعية وزيادة المشي في قضاء حوائج الآخرين في الاسرة وغيرها ويحتوي على جانب نظري او قلبي وهو محاولة احياء عدة امور في الوجدان منها الصبر وعدم الاعتراض على الله تبارك وتعالى، ومنها القناعة وعدم الطمع بزيادة الرزق الدنيوي وتوسعه، ومنها المحبة لأهل البيت (عليهم السلام) حباً حياً كاملاً فانه اساس كل حسنة ودافع كل خطيئة.

الامر الثاني: ان يبذل الانسان جهده في تربية اطفاله حسب قناعته يقربهم من كل خير ويبعدهم عن كل شر مضر في الدين والدنيا حسب التيسير والامكان، واما الفقرات الاخرى من التربية فيدعو الله تعالى فيها ويتوكل عليه في اصلاح ذريته (وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

فان حصل بعد ذلك انحطاط في التربية رغماً على الابوين فهذا مما يكون الفرد معذوراً به امام الله سبحانه لأنه خارج عن الاختيار، وحسب فهمي ان الولد او البنت الناقص في التربية خير من آلاف بل ملايين الاولاد والبنات المعدومين للتربية الدينية بل الموجهين توجيهاً خلاعياً.

ولعل هذا الناقص التربية ان يصلحه الله تعالى خير صلاح في مستقبل امره او ان يجعل في اولاده من هو صالح.

ص: 321

واما الرزق فهو على الله سبحانه فانه الرازق ذو القوة المتين (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ) و (الذي شق فمي كافي رزقي حتى يتوفاني) فكأن هذا شيء منتهي ولا ينبغي التفكير به على المؤمن.

س: اذا كانت الأم تشك في كونها مأمونة موثوقاً بها لمصلحة الطفل لأنها قد لا تعرف ما هي مصلحته بسبب كونها لا تعرف اصول التربية الصحيحة، فهل يجوز لها ان تكون قيمة عليه؟

ج: ليس للأم ولاية على الطفل بكل صورة وانما لها حق الاشراف عليه والقرب منه وذلك في حاجاته الشخصية، واما التصرف في امواله فليس للأم ذلك، وانما هو للأب، وأب الأب ووصيهم ووكيلهم ونحو ذلك.

س: هناك حكم بطهارة المجوس باعتبار دينهم من الاديان السماوية، فما هو كتابهم ونبيهم؟

ج: من المؤكد ان نبي المجوس هو زرادشت (الفارسي) ولهم كتاب يسمى (افستا) وانه كان يحترم النار بصفتها مظهراً للنور ومن هنا اصبح تابعوه عبدة النار، ومن المؤكد انهم ثنوية يؤمنون بالهين، ومن هنا فهم مشركون انجاس لا يمكن الحكم بطهارتهم، ولكن من المظنون ان نبيهم هذا كان صالحاً ولعله كان نبياً حقيقة وان لم يثبت بدليل شرعي، والمظنون انه لم يأمرهم بالثنوية في العبادة سوى تقديس النار اجمالاً، وانما حصل ذلك بينهم بعد ذلك.

س: هل يعتبر الصابئة من الاديان السماوية، وهل هم طاهرون؟

ج: دين الصابئة مجهول الهوية، وان كان المظنون انه جاء به نبي قديم وله كتاب، ولكن ضاع الكتاب وضاعت تعاليمه، والحكم بطهارتهم الذاتية خلاف الاحتياط.. الا اذا ثبت انهم يؤمنون بالتوحيد والتجريد اذا امكن السؤال من احدهم.

ص: 322

س: هل ان طاعة الوالدين واجبة بصورة عامة الا في الامور الدينية، كيف يمكن تحديد ذلك، مثلاً مسألة الزواج، هل يجب سماع اوامرهم في كل الامور بالرغم من اتفاق الزوجين المؤمنين؟

ج: على العموم اطاعة الوالدين واجبة في حدود وجوب احترامهما يعني اذا كان العصيان احتقار لهما كان حراماُ، واما لو لم يكن كذلك فلا، ولا فرق في الامور الدينية وغيرها، الا بالأهداف الدينية العليا.. واما في الزواج فالاحوط حصول رضاء الباكر ووالدها معاً.

س: في سؤال سابق قلتم عن طاعة الوالدين: (.. واجبة في حدود احترامهما، يعني اذا كان العصيان احتقاراً لهما كان حراماً، واما لو لم يكن كذلك فلا، ولا فرق في الامور الدينية وغيرها) وفي سؤال آخر عن شخص اراد ان يدخل مشروعاً تجارياً دون موافقة والده قلتم بعدم الجواز، كيف يجب على هذا الشخص اطاعة والده مع ان المشروع في مصلحة عائلته وهو رجل متزوج وله اطفال؟

ج: عدم الجواز ناشيء من ان مواجهة الاب بالعصيان احتقار له فيدخل في وجوب الطاعة التي هي احترام له طبقاً لما قلناه في العبارة الأولى نعم لو كان المكلف يشعر بحرج او ضرر مهم مع الطاعة يسقط الوجوب.

س: ما هو حق كل انسان على مرجعه وعلى الحاكم الشرعي؟

ج: خير ما يصلح جواباً على هذا السؤال ما ورد في رسالة الحقوق للإمام السجاد (سلام الله عليه)، وهو طويل لا مجال لكتابته هنا فليرجع اليه القاريء فهو تارة يسجل حق العالم على المتعلم بقوله (واما حق سائسك بالعلم) واخرى يسجل حق المتعلم على العالم (وهو مورد السؤال) بقوله (واما حق رعيتك بالعلم) (تحف العقول ص 188).

س: ما مقدار مهر الزهراء (عليها السلام) بنقودنا الحالية، قيل انها (24)

ص: 323

دينار، وقيل انها اكثر من (100) دينار؟

ج: حينما زوجت ولدي حسبنا ذلك فرأيناه (500) دينار، والمهم ان تحسب قيمة مثاقيل الفضة، والمهر خمسمائة درهم، والدرهم مثقال شرعي، والمثقال الشرعي ثمانية عشر حبة، فما حصل من ذلك بعد جمعه كان هو المقدار المستحب وهذا يختلف باختلاف السوق.

س: هناك حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تجعلوا قبوركم مساجد) واهل السنة يتخذوها حجة، ويدعون الحرمة في جعل قبور الأئمة (عليهم السلام) مساجد والصلاة فيها، هل هذا الحديث صحيح؟

ج: باختصار ليس للحديث سند صحيح، واذا كان كذلك فهو خاص بغير المعصومين (عليهم السلام) ولا مجال للنقاش مع العامة.

س: انها متاكدة ان (5) دينار التي وصلت اليها كهدية فلوس حرام، فماذا تفعل بها؟

ج: الاحوط التصدق بها عن اصحابها، الا اذا احرزت انها من مجهول المالك فيطبق عليها حكمه.

س: استدانت (5) دينار من اشخاص رحلوا بعد فترة ولا تعرف مكانهم ما حكم هذه النقود؟

ج: تتصرف بها عنهم او تدفعها الى الحاكم الشرعي بشرط الضمان، يعني اذا طالبوا بها في أي وقت فمن الاحتياط الاستحبابي الاكيد دفعها مرة ثانية.

س: هل تكرر الصيغة عند استلام الراتب كل شهر ام يكفي لأول راتب؟

ج: تعلم نية القبض الشرعي (وباللفظ على الاحوط) ويجب تكراره عند قبض مجهول المالك في كل مرة.

ص: 324

س: يعطيها زوجها مال لملكها ولحاجتها، فتسأل هل يحق لها التصرف به دون علمه؟

ج: نعم.

س: زوجها ثري اعطاها نقود لعرس ولدها، وقد أخذت قسم منه دون علمه وصرفته على بناتها، هل يجوز لها ذلك علماً انه لا يعطيها المال الا القليل؟

ج: لا يخلو ذلك من اشكال ما لم تخبره فيرجى به على الاحوط، نعم لو كانت الحاجة ضرورية حقيقية لم تكن ضامنة للمال.

س: هل يجوز دخول المحدث (بالحدث الاكبر) في مقامات الأئمة (عليهم السلام)؟

ج: العتبات المقدسة ملحقة بالمساجد فقهياً كما تعلمون، ومعناه حرمة دخول المحدث بالحدث الاكبر اليها اذا مكث فيها، بل حتى مع مجرد الاستطراق اذا كان ذلك من سوء الادب، ويراد بالعتبة المقدسة البناية التي وسط الصحن بما فيها الطارمة دون الصحن نفسه.

س: هل يجوز للحائض قراءة تفسير القرآن؟

ج: نعم يجوز، بل يجوز لها قراءة القرآن من دون مسه، وانما ذلك على وجه الكراهة لا الحرمة، فكيف ذلك في التفسير.

س: هناك قول ان شتم السيد لا يجوز حتى لو كان فاسقاً؟

ج: لا صحة لهذا القول وليس فيه قول في الكتب.

س: هل يجوز ان نكون وسطاء في بيع اللولب (من غير ربح) مع العلم انه قد تكون المشترية مضطرة تماماً اليه لا وسيلة غيره لمنع الحمل بالنسبة لحالتها الصحية، وقد تكون غير مضطرة ابداً بل مجرد وسيلة فقط؟

ج: لا شك في الجواز مع الاضطرار وان حصل الربح وكذلك مع كون

ص: 325

المرأة متدينة تفهم هذه الامور او مع احتمال ذلك، واما مع الاطمئنان باستعمالها للحرام فهو محل اشكال الا ان الاصح هو حلية الثمن مع علم المشتري بالحكم ولو بافهامه ذلك اذا امكن.

س: اجد كثير من الناس لا يفهمون الخيرة ومكان استعمالها حتى اني لا افهم من كثرة النقاش حولها ولا اعرف الرد عليهم، منهم من يعتبرها الاساس في تحديد كل عمل مهم مثل الزواج وشراء بيت وغيرها - ومنهم من يستهجن ذلك.. وهناك سؤال هل يمكن اعادة الخيرة وخاصة الخيرة التي تؤخذ للزواج؟

ج: اعادة الخيرة على نفس الموضوع بكل تفاصيله غير معقول وغير مقبول، وانما تجوز الاعادة بنية اخرى بحيث يصبح الموضوع مختلفاً، وبالاساس فان الخيرة انما تجوز فيما يبعث على الحيرة مما لا مرجح له في الدين او الدنيا، واما اذا كان له مرجح واضح فلا مجال للخيرة فيه، ولذا لا تجوز الخيرة على عمل المستحبات او ترك المكروهات ونحو ذلك، كما لا تجوز الخيرة في (ان كذا) يحصل او لا يحصل في المستقبل!! او ان فلان الآن هل هو حي او ميت ونحو ذلك مما يستلزم علم الغيب، فان هذا مما هو محجوب عن الخلق القاصرين والمقصرين والحمد لله رب العالمين، واما استهجان فكرة الخيرة اساساً والقول بعدم حجيتها فلا اوافق عليه وليس الآن مجال الدخول في تفاصيله بل ان الامر اوسع من ذلك، فقد تدلنا الخيرة على رحمة الله الواسعة وحكمته وعدله جل جلاله.

س: شرح الآية (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)؟

ج: قوامون يعني قيمون ومفرده قيم وهو المشرف والمدبر، فالرجال هم المدبرون والمشرفون على النساء، وهذه الجملة كما يمكن ان تكون

ص: 326

اخبارية عن واقع الرجال والنساء، كذلك يمكن ان تكون انشائية، يعني انها تجعل للرجال الاشراف والتدبير على النساء تشريعاً قانونياً وليس العكس، وهذه القيمومة والاشراف له عدة مصاديق:

اولاً: قيمومة الزوج على زوجته.

ثانياً: منع المرأة من تولي الحكم والقضاء بل ذلك من وظائف الرجل خاصة.

ثالثاً: عدم جواز تولي المراة صلاة الجماعة بالرجال مع جواز العكس.

رابعاً: رجحان بل ضرورة اعطاء ولاية الاوقاف والمساجد ونحوها بيد الرجال دون النساء.

خامساً: سيطرة العقل على النفس، من حيث ان العقل بمنزلة الرجل والنفس بمنزلة المرأة، والرجل قيم عليها فيكون العقل قيماً على النفس دون العكس، الى غير ذلك من المصاديق.

ثم تأتي الآية الكريمة الى تبرير ذلك واعطاء سببه، فالباء في قوله (بما) سببية، أي بسبب ما فضل الله.. الخ، والضمير في قوله (بعضهم) فيه احتمالان، الاول: ان يعود الى مجموع الرجال والنساء، والثاني: ان يعود الى الرجال خاصة ويكون المعنى مختلفاً تماماً بينهما.

اما الاحتمال الاول، فهو المفهوم الاولي للآية ويكون المعنى بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء، يعني من القوة الجسمية والنفسية والقدرة على الكسب في حين ان المرأة عاطفية وولود وذات عادة شهرية ونحوها مما يصعب عليها في خلقتها تحمل اعباء اعمال الرجال فهذا هو الفضل الخلقي للرجال على النساء، ومعه اقتضت المصلحة اعطاء القيمومة بيد الرجال وحجبها على النساء، واما على الاحتمال الثاني، فيكون المعنى تفضيل بعض الرجال على بعض من حيث الخلقة، او من حيث الرزق.. او غير ذلك،

ص: 327

والمهم ان كل رجل يعطي مما يسره الله سبحانه له من مجموع ظروفه واوصافه، ومعه لا تكون (الباء) في (بما) سببية بل للإلحاق يعني ان الرجال قوامون على النساء بمقدار ما اوتي الرجل من قوة وطاقة، فقد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، وعلى أية حال فهو قيم على المراة.

الا انه يرجح الاحتمال الاول قوله تعالى (وَبِمَا أَنْفَقُوا) فان الباء هنا سببية في ظاهر الآية فتكون قرنية على ان السابقة عليها سببية ايضاً ومعه يتعين الاحتمال الاول.

ويكون المعنى: ان سبب القيمومة امران: احدهما: قوة الرجل على الاكتساب، والثاني: تصديه للإنفاق وجوباً او استحباباً على المرأة دون العكس.

س: اسأل عن رياضة اليوكا، وهل الاسلام يشجع عليها، وما هو التاثير السلبي والإيجابي على الشخص؟

ج: هذه الرياضة يلتزم بها البوذيون في الهند واطرافها وغير مرتبطة بالاسلام بالمرة، واما من حيث جواز تطبيقها على الفرد، فان كانت لا تستلزم ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات جازت، نعم لو صح انها تكسب الفرد قوة نفسية او بدنية وكان من نيته ان ينفع بها الدين والمتدينين، فقد تكون من هذه الناحية راجحة شرعاً، الا ان الاهم ان الشريعة قد عينت بعض الاعمال التي (في) مستوى الرياضة والضغط على النفس الامارة بالسوء يأتي بها أي فرد حسب طاقته قربة الى الله عز وجل، فاذا فعل ذلك كان سائراً في طريق الايمان العالي، وان كان هذا الكلام لا يمكن قوله للعامة، فمن تلك الرياضات ما عليه الانبياء والاولياء من قلة الاكل او قلة نوعيته او قلة الشرب او قلة النوم او قلة اللباس او قلة نوعيته ونحو ذلك من مصادر الزهد لا بقصد ثوابها الاخروي فقط بل بقصد نتائجها الوضعية اعني تصفية القلب وتكامل

ص: 328

النفس وتصاعد المقام عند الله سبحانه، شرط ان لا يمنعه ذلك عن القيام بوظائفه الشرعية الظاهرية والذكر الدائم حسب الامكان والشعور بصدق التوكل والرضا، فهذا كله ونحوه بدل رياضة اليوكا التي لا تنتج من هذه النتائج مهما صعبت وطالت.. الا اقل القليل، وهي غريبة عن ذكر الله والتقرب اليه بحسب طبعها.

س: هل الحاكم الشرعي ولي امر بنت السادسة عشر من عمرها، فاقدة والديها، وجدها للأب؟

ج: لا يجب ذلك اذا كانت البنت رشيدة أي مطلعة ومتعلمة اشغال البيت من طبخ، وخياطة وغير ذلك، واسلوب معاملتها مع الناس جيدة ويمكن ذلك استحباباً، واذا كانت غير رشيدة الحاكم الشرعي يكون ولي امرها.

س: هل كل الاحلام صحيحة؟

ج: ليس هناك أي دليل عقلاً ولا شرعاً على بطلان كل الاحلام جملة وتفصيلاً، نعم، لو شك في ان اكثرها زائف ولا حقيقة له، وانما هو ناشئ من نوازع نفسية لا شعورية لدى الفرد، ولكن مما لا شك فيه وجود الاحلام المطابقة للواقع والتي يجد الفرد تطبيقها في عالم اليقظة بنحو او بآخر، وانكار ذلك مكابرة واضحة على الوجدان، وانت حر باعطاء أي تفسير لذلك عدا الصدفة المحضة التي يقطع بعدمها نتيجة الكثرة في الاحلام الصادقة على مر التاريخ.

س: تسأل الطبيبة: هل يمكن فحص الرجال المرضى بجهاز السونار، ويتم فحصهم عن طريق كشف البطن لأمراض محدودة مثلاً الكلية والمرارة ولا يتم لمسهم بتاتاً ويمكنها ان تحتاط بلبس (الكفوف)؟

ج: اذا كان بمقدار الحاجة ومن دون نظر بشهوة ولا لمس جاز، ولكن وضع الجرجف او لبس الجفوف احوط واكثر اخلاقية طبعاً.

ص: 329

س: اذا كانت الفتاة ذات سمعة جيدة جداً ومحمودة ظاهرياً من قبل الدائرة التي تعمل بها لأن لديها علاقات محرمة، يسأل، هل يجب عليه كتم ما يعرف عنها عن الذين جاءوا للإستفسار عنها لخطبتها او يحكي لهم ما يعرف؟

ج: لا يوجد فيه حكم شرعي الزامي، ولكن لنصح المستشير ارجح مع وعظهم برجحان الكتم لما سيعرفون فان الله ساتر يحب الساترين.

س: اذا تاخرت المرأة عدة سنين ولم تنجب، فهل يحرم عليها مراجعة الطبيبة بسبب كشف العورة؟

ج: نعم يحرم اذا استلزم كشف العورة ما لم تحصل لذلك ضرورة كالمرض او اية ضرورة اخرى.

س: ربما تحتاج هذه المرأة الى تحليل بسيط يكشف عن خلل ما، وبعلاج يطول ويقصر وتنجب، لكن قبل هذا التحليل لابد من الكشف عليها للتأكد من وجود التهاب او عدمه؟

ج: نفس الجواب السابق على الاحوط.

س: احدى النساء تأخرت عن الانجاب عدة سنين فراجعت الطبيبة من اجل الطفل فتبين بعد الفحص انها مصابة بقرحة في الرحم فاحتاجت الى علاج مهم، ومن المعلوم ان ترك مثل هذه الامور قد تؤدي الى امراض خبيثة، فهل كان ذهابها الى الطبيبة حراماً لأن نيتها كانت من اجل الانجاب إذ لم تحس بأي عرض مرضي؟

ج: اذا وجد هناك احتمال المضاعفات كان ذلك من الضرورة المجوزة.

س: عند الولادة لابد وان يكون هناك اشخاص اكثر من حاجة المرأة كالعاملات والممرضات، فماذا تفعل اذا لا يمكن ان يخرجوا مهما طلبت،

ص: 330

ومن المعلوم ان الولادة في البيت مخاطر لا تخفى؟

ج: لا يبعد ان مثل هذه المرأة يجب عليها الطلب مع الامكان لخروج النساء الزائدات من الحاجة، فان لم يخرجن سقط تكليفها لان ذلك شكل من اشكال الضرورة وكان الحرام عليهن لا عليها.

س: هل يجب ابلاغ الجميع بهذا الحكم، ومن الواضح ان لا احد سيلتزم به، اذ لن يعقل احد ان الانجاب شيء غير ضروري، وكل منهن تعتقد انها ستعاني مضاعفات اجتماعية وصحية؟

ان الاشخاص المؤمنين حق الإيمان بحيث يتوكلون على الله في مسألة الانجاب (او غيره) من القلة بل النادر جداً بحيث لا يمكن ان نعتبرهم ممثلين للمجتمع، لهذا ترى العائلة المحرومة من الطفل كثيرة التوتر كثيرة المشاكل بسبب الفراغ وتوتر الأعصاب المستمر فالمرأة والرجل، كلاهما يعاني من ضغط اجتماعي ونفسي شديدين وكأن عدم وجود الطفل سوط يهدد تماسك هذه العائلة، او حتى استمرارها واحياناً تولد هذه الازمة (ان لم يكن في اكثر الاحيان) امراضاً نفسية خاصة بالنسبة للمرأة لانها لا تملك خياراً آخر كالرجل الذي يستطيع الزواج... وبسبب الحاح غريزة الامومة لديها اكثر من الرجل وطبيعي ان كل هذا يسمى ضغط اجتماعي وامراض نفسية وكل امرأة (او رجل) تعتبر نفسه مضطرة للمراجعة او استعمال التلقيح الصناعي من اجل الانجاب ولن يفهم أي كان ان الاولاد شيء غير ضروري.

ج: نعم لا بأس بابلاغ الجميع هذا الحكم يعني: يحرم كشف العورة الا مع الضرورة نعم، ان انجاب الاولاد ليس ضرورة يمكن اخفاؤه عن البعض، وجعل البعض على غفلاتهم، لكن التزمت في اخفائه بلا موجب، فان الحكم عموماً من ضروريات الفقه ومجمع عليه شرعاً وهو حرمة نظر المرأة الى عورة المرأة لغير ضرورة، ولن يوجد فقيه يقول الجواز، الا اذا كان

ص: 331

منحرفاً والعياذ بالله سبحانه، ولكن دعوا تطبيق الضرورة وفهمها الى الافراد انفسهم كما اوكلت فعلاً كذلك من الفقه شرعاً، ولازلتم موفقين.

س: هل يجوز لها زيارة الامام (عليه السلام) بدون علم زوجها وقد منعها؟

ج: لا يجوز.

س: هل يجوز لها ان تشترك بمشروع تجاري باموالها الخاصة دون علم زوجها وقد منعها من ذلك؟

ج: يجوز لها ذلك.

س: احدى العوائل تستعمل الخيرة للرزق عن طريق كتيب اسمه القرعة المباركة، وكتيب آخر اسمه خيرة الانبياء فيه اسم الانبياء، هل يجوز ذلك؟

ج: لا يجوز الارتزاق بهذا الاسلوب، نعم يجوز الارتزاق بالخيرة الاعتيادية فان كانوا لها اهلاً اعطيناهم اجازة.

س: زوجها يجبرها على نزع الحجاب وقد وصلت الى الطلاق، وهي حفاظاً على اسرتها من الهدم والضياع استجابت له كما قيل لها؟

ج: احتياطاً وجوبياً تتحمل الطلاق، لأن نزع الحجاب صعب جداً فيه فضيحة وضرر للمصلحة العامة، اسوء من الجبر على شرب كأس خمر.

س: حاجة ماخوذة قد تكون من الدولة وقد تكون من الاهالي، ما حكمها؟

ج: اذا كانت حكومية يطبق عليها حكم مجهول المالك (يقبضها عن الحاكم الشرعي ويملكها لنفسه) ويعطي صدقة رمزية بازاء استعمالها، فاذا كانت اهلية يتصدقون بقيمتها ويمتلكوها.

ص: 332

س: الحجاب والربطة التي تلبسها المرأة هل تجوز بألوان مختلفة وفيها زينة؟

ج: الحجاب يجب ان يكون عريض وليس فيه فصال قدر الامكان، أي الصدر والخصر غير واضح، وجميعها اذا كانت ملفتة للنظر او مثيرة للشهوة لا يجوز، لأنه من وقع في الشبهات وقع في المحرمات، وكل واحدة ووجدانها في تقدير ذلك.

س: تجري عملية بين الطبيب واصحاب المختبرات والاشعة، ان يرسل الطبيب المريض اليهم ويعطونه نسبة من المال، ويؤدي هذا كثيراً الى ارسال المريض الغير محتاج الى تحليل مختبري او اشعة لاجل النسبة، تسأل الدكتورة هل عملية الاتفاق جائزة بينهم؟

ج: عملية الاتفاق جائزة الا ان غش المرضى غير جائز.

س: هل الضحية واجبة؟

ج: غير واجبة.

س: هل صحيح ان الحقوق الشرعية لا يجوز نقلها من محافظة الى محافظة اخرى؟

ج: يجوز ذلك، لأن الحدود غير معترف بها شرعاً.

س: هل يجوز عقد انابيب المرأة؟

ج: لا يجوز، الا في حالة الضرورة كالمرض.

س: قرآن كريم اخذه من دائرة حكومية، ما حكمه؟

ج: يتصدق بثمنه عن صاحبه او يدفعه للحاكم الشرعي.

س: هل يعتبر الثقب في الاذن (للنساء) من ظاهر البدن بحيث يجب غسله؟

ج: إذا كان على الثقب بشرة عادية، فالاحوط كونه من الظاهر خاصة

ص: 333

اذا كان واسعاً ينفذ منه الضوء.

س: هل يعتبر الكحل من الزينة التي لا يجوز اظهارها، وهل يجوز لبس الخاتم غير البارز في حالة ظهور الكف امام الاجانب؟

ج: هذا كله من الزينة المحرمة على الاحوط.

س: طالبة في كلية الطب الصف السادس، عند دخول غرفة العمليات يجب عليها ان تعقم يدها الى المرفق في حوض موجود امام الطلبة والاطباء، واحياناً يشرف الاستاذ على عملية التعقيم، فهل يجوز لها ان تكشف عن يدها، واذا استطاعت الاستغناء في هذه السنة، فماذا تفعل في السنة المقبلة حيث تكون مقيمة في المستشفى ويتوجب عليها دخول العمليات؟

ج: اذا استطاعت الاقتصار على مقدار ربع الذراع او ثلثه مما يلي الكف (وهو محل السوار عادة) فلتفعل، واما الزائد فاذا استطاعت ان تلفه قبل كشفه بنايلون معقم وملون بحيث تعمل وهي لابسة له فذلك الافضل.

وان تعذر ذلك، فان استطاعت الاستغناء عن الفرع العملي الذي يوجب ذلك فهو الافضل، والا كان جواز كشفه منوطاً بالشعور بالحرج او الضرر او المشقة في الحاضر أو المستقبل لها، فان كان شيء من ذلك موجوداً جاز لها الكشف والا فطاعة الله خير لها في الدارين، وعلى الله فليتوكل المتوكلون وهو حسبي ونعم الوكيل.

س: حين يتحدث الشخص عن مشكلة يمر بها لمجرد الشكوى وتفريغ الالم المكبوت وخلال الشكوى يتعرض لذكر الآخرين بسوء، فهل هذا من الغيبة، وهل يجب علينا ردها اذا كانت الشكوى موجهة لنا في حين قد يكون الشاكي محقاً وقد يكون متعرضاً لظلم بدرجة او بأخرى من هؤلاء الاشخاص؟

ج: (هل هذه من الغيبة؟) نعم وهل الغيبة الا ذلك ونحوه، واذا كان

ص: 334

لابد من الشكوى فليكن بلا تعيين الفاعل (ان كان ممن لا تجوز غيبته) اما الرد فهو وان كان مأموراً به مؤكداً في الروايات الا ان المشهور جداً عدم وجوبه وهو الاظهر، الا انه يبقى من الامور المستحبة والآداب المؤكدة، ويلاحظ:

اولاً: الدفاع ان كان على خلاف التقية يكون محرماً.

ثانياً: هذا في الرد والدفاع عن الغير اذا وقع موضعاً للغيبة، واما الدفاع عن انفسنا فهو جائز ما لم يلزم منه مضاعفات غير شرعية كأذية المؤمن او غيبة او كذب خلاف التقية ونحوها.

س: شخص كلما امر جدّته بالمعروف او نهاها عن المنكر تقول له: لا تكلمني اني أتأذى من هذا الكلام (علماً بانها لا تتاذى من كلام الغيبة والنميمة) وتغضب عليه ولا تسلم عليه بعدها وتسيء الظن به وتذمه، فهل يعتبر عمله هذا عقوقاً لها، وهل يجب عليه تركه؟

ج: في مثل هذا المورد لا يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا الاحوط تركه لأنه من العقوق.

س: هل يجوز اعطاء قراءة ختمة قرآن نيابة عنه في حياته؟

ج: نعم.

ص: 335

ص: 336

الملحق الثاني: عوامل نجاح الحركة الاصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

الملحق الثاني: عوامل نجاح الحركة الاصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)(1)

أعوذ بالله السيمع العليم من الشيطان اللعين الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

لقد كان سيدنا الاستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قائداً ناجحاً على اكثر من صعيد فقد استطاع بفضل الله تبارك وتعالى ايصال صوت الهداية والإيمان الى اقصى مكان وقلل من الانحراف والجريمة بدرجة كبيرة خصوصاً في مناطق وسط وجنوب العراق التي اقيمت فيها صلاة الجمعة واعاد للحركة الاسلامية نشاطها وحيويتها بعد ان جمدت روحها في الثمانينيات بعد استشهاد السيد الصدر الاول، وهز اركان النظام الطاغوتي واسياده، وادخل عليهم الرعب، وشد الجماهير اليه، ودخل قلوبها الى حد العشق والفناء.

فما السر في ذلك وما هي العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا النجاح؟

ص: 337


1- كلمة القاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في الحفل التأبيني الذي أقامه منتسبو مستشفى الصدر التعليمي في النجف الاشرف يوم الاربعاء 7 ذ ق 1424 المصادف 2003/12/31.

عند تحليل شخصية السيد الصدر (قدس سره) وملاحظة الظروف المحيطة به نستطيع تحصيل عدة عوامل استعرضها باختصار لضيق الوقت، وهي في الحقيقة اسس نجاح كل قائد يريد ان يتصدى لاصلاح الأمة.

1 - تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث اصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر أنه يدوس ذاته بقدميه، ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الاكبر مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الاجتماعي وهو الجهاد الاصغر، ومن كلماته (قدس سره): أن النجاح في الجهاد الاصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الاكبر، وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي، وفي الحقيقة فإن أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية لا بد له من المرور بهذه المرحلة حتى يصل الى درجة الامساك بزمام نفسه، وقد خاض (قدس سره) هذه التجربة العملية على يد أكثر من شخص، وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة نكتاً من هذه التربية.

وكان يحب الموعظة لأن فيها إحياءً للقلوب كما اوصى امير المؤمنين (عليه السلام) ولده الحسين (عليه السلام): (يابني أحيي قلبك بالموعظة وامته بالزهادة) فكان يحث على مطالعة كتب الموعظة كإرشاد القلوب ومجموعة ورام وعموم جوامع الاحاديث الشريفة كتحف العقول والخصال، ولقد كانت هذه سيرته منذ نهاية السبعينيات، وحدثني انه كان ملازماً لاستاذه وابن عمه الشهيد الصدر الاول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه، بل التزمه في أيامه الاخيرة كما هو واضح من محاضرته الاخيرة عن حب الدنيا ضمن محاضرات السنن التاريخية في القرآن الكريم، وكان (قدس سره) يود أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمثلاً: حيث يدخل الى الحمام ويرى الماء الحار يقول (صلى الله

ص: 338

عليه وآله وسلم): (نعم البيت الحمام يزيل الدرن ويذكر الآخرة)، وقد فصلنا شيئاً من الكلام في محاضرات (الاسوة الحسنة).

2 - ارتباطه بالله تعالى وإدامه ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من أجله، وقد انتقد في أحدى خطب الجمعة ما يفعله أئمتها من الاكتفاء بسطر واحد أو أقل من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة، اما هو (قدس سره) فكان ينقل مقطعاً من دعاء أو آيات قرآنية او خطبة لأحد الأئمة (عليهم السلام) تعمق الصلة بالله تعالى وتعرف بصفاته الحسنى، وتبين حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى، وكان مراقباً لله سبحانه، ومراعياً له في السر والعلن ومما أدبني به ما رواه عن أحد العلماء: أنه دخل عليه شخص فرآه بزيه الكامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك، قال: لأني بحضرة الله تبارك وتعالى، وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب، ومما حكاه (قدس سره) لي عن سيرته: انه مرة صلى ركعتين استغفاراً لانه قال لشخص التقى به وكان غائباً عنه مدة: مشتاقين، وهي كلمة متعارفة، ويمكن ان تبرر إلا أنه خشي ان يكون كاذباً بهذه الدعوى وهذا - أعني العمل لله تبارك وتعالى - احدى مميزات حركته عن قادة وعلماء آخرين عاشوا للإسلام، واشربت قلوبهم حب الاسلام وهو عمل عظيم الا انه ليس كمن يعيش لله تبارك وتعالى، وبينهما فرق أوضحته في محاضرة سابقة، وهذا التعلق بالله تبارك وتعالى والاخلاص له ومحبته تجعل الشخص يفيض نوراً على الآخرين، ويلقي الله محبته وهيبته وتأثيره في قلوب الناس، (من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله الى عز طاعته)، وفي الحديث القدسي: (ان العبد ليتقرب لي بالنوافل حتى يكون سمعي وبصري) فيكون دليلاً للخلق الى الله تعالى.

3 - معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه، ففي وقت مبكر من حياته

ص: 339

كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفحات اثناء تلاوته للقرآن، ويثبت فيه الآيات التي توحي له بخلق قرآني او موقف أزاء حال معينة او سلوك عليه ان يطبقه، وفي مرحلة اخرى اخبرني ان له نسخة من المصحف ثبت على هوامش صفحاته القراءات المتعددة للكلمات القرآنية، وقال (قدس سره): انه كان يستفيد من هذه القراءات معاني لا توحيها الكلمات المرسومة، واحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلها مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم تماماً مع قراءات اخرى، وختم حياته (قدس سره) وهو يلقي محاضرات (منة المنان في الدفاع عن القرآن)، ويمكن مراجعة كتاب (شكوى القرآن) لتطلع على بركات الحياة في ظل القرآن ودوره في صنع القادة والمصلحين.

4 - دراسة سيرة الائمة (عليهم السلام) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة ادوارهم التي ادوها والمسؤوليات التي قاموا بها، وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا، ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الامة جعل ادوارهم تجربة للأمة وظروفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة (مائتين وخمسين عاماً) لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة، فعرف (قدس سره) متى ينكمش ومتى يتحرك، وماذا عليه ان يفعل، وكيف يتعامل مع الآخرين افراداً أو طوائف أو سلطات، فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينيات وكنت شاباً متحمساً للعمل الاسلامي فيقول: إننا في ظروف لعلها أشد من ظرف الإمام الحسن (عليه السلام)، وحاجته الى الصمت والتقية تجده في سنته الاخيرة يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية.

5 - الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم، لأن العلم من الركائز الاساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ اسنى درجاته ونال ملكة الاجتهاد.

ص: 340

كان يقول انني اشتغل حوالي ثمان عشرة ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتاليف، وقال مرة (قدس سره): إنه أثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان ربما يكتب اربعين صفحة في اليوم الواحد وهو انجاز ضخم لمن مارس عملية التأليف والكتابة، وحتى حينما يذهب الى بغداد لكي تزور زوجته اهلها فإنه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف، وقد أجمع زملاؤه وأقرانه على جده حيث بدأ بدراسة العلوم الدينية وانتمى الى كلية الفقه سنة (1957) وهو الرابعة عشر من العمر بعد امتحان اجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على اقرانه.

6 - عدم انفصاله عن واقعهِ وما يجري فيه ومواكبته له، فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية، ففي الثمانينيات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعني باحدث اخبار العلم وانجازاته، وكان يهمه منها اكثر باب العلوم الباراسا يكولوجية لانها أولاً تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة، ولأن فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط، وكان يستمع الى الاذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث. ومن بحوثه التي كتبها واهداها لي - وهي محفوظة لدي - بحث بعشرات الصفحات بعنوان (فلسفة الاحداث في العالم المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه)، وقد علقت عليه واضفت اليه مثله فرغب إليَّ في ان اضمهما في كتاب. وكان مهتماً بأخبار الجمهورية الاسلامية في إيران وخطابات قائدها العظيم السيد الخميني (قدس سره)، ويستمع مباشرة باللغة الفارسية، وقال (قدس سره) في ذلك: لأنه تجري على لسانه نكات عرفانية

ص: 341

واخلاقية لا تعرضها الترجمة التي تهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي.

وبعد تحرير الجمهورية الاسلامية لاراضيها من القوات العراقية في معركة (المحمرة) في آيار (1982) وانتقال العمليات الحربية الى الاراضي العراقية في تموز (1982) سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهضة التكاليف بشرياً واقتصادياً، فكان من وجهة نظره (قدس سره): أنه لا جدوى من استمرارها لانه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين (وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك)، ومقابله الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى القضاء على المعتدي ومحاسبته، وكنت معه واردد ما كان يقوله الساسة الايرانيون الآخرون كالرفسنجاني والاردبيلي ومن ورائهم السيد الخميني: أن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة، فطلب مني ان نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً - لانه كان تحت الاقامة الجبرية - لمناقشة الرأيين فكتبت بحثاً (نظرات في الحرب والثورة) وقد اتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الانتفاضة الشعبانية المباركة.

7 - نزوله الى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم فقد كان، الى حين تصدية للمرجعية يذهب بنفسه الى السوق ليوفر الحاجات المنزلية، وكان يحب ان يطلع على آلام المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً او (سكرتيراً).

نقل احدهم: انه قلد السيد الصدر (قدس سره) بسبب الطمامة، قيل له: وكيف؟

قال: لأني سألت عدداً من المراجع وانا ابحث عمن اقلده كم هو سعر الطماطة في السوق، فكان جوابهم جميعاً هو الزجر وان هذا ليس من اختصاصنا الا السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيدة منها

ص: 342

والرديئة فعلمت - والكلام له - ان هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة، وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم انه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم: اللهم إيماناً كإيمان العجائز، أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قد تكون اثبت في القلب والنفس من طرق الاستدلال العقلية المتضخمة بالاشكالات والشبهات، وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع ويشاركهم الحر والبرد ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم، ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع فخاطب الحوزة والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الاخرى حتى الغجر بحيث أحس الجميع انه منهم فيتأثرون به ولا يشعرون بالغربة والانفصال.

8 - استثماره لطبيعة العلاقة مع السلطة الحاكمة التي شعرت بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وامتداد الحركة الاسلامية في العراق بالحاجة الى الحوار مع المرجعية الشريفة والانفتاح عليها وتخفيف القبضة الحديدية عن بعض ممارساتها الدينية لكي تتجنب حصول ثورة شعبية عارمة قد لا تنجو منها هذه المرة ولكي تبقي على وجود للقيادة الدينية في النجف لأن انحسارها التام يعني رجوع الشيعة في العراق الى القيادات الدينية في إيران، وفي ذلك خطر عظيم عليهم، لذا كانوا حساسين جداً من مقولة انتقال الحوزة الى قم المقدسة، وحريصين على عدم حصوله، وهاتان الحاجتان كانتا تمسكان يد النظام بدرجة من الدرجات عن التعرض لبعض النشاطات الاسلامية للحوزة، في حين لم تكن تسمح بها أولاً ولا بأقل منها قبل ذلك فاستغل السيد الشهيد (قدس سره) هذا الوضع لينطلق بمشاريعه الاجتماعية، وكانت قمتها صلاة الجمعة، وحينما كان يحذر من بعض الخطوات التي يراها العارفون ببطش النظام انها تؤدي الى الخسارة كان يقول

ص: 343

(قدس سره): إنما السلطة لنا كاشارات المرور، فنحن نسير حتى تشعل لنا ضوءاً أحمر فنقف ثم نتقدم وهكذاً، هذا الاستغلال الدقيق الواعي للعلاقة مع السلطة أتاح الفرصة لانجازات عظيمة، في حين ان المتعارف على التصرف الشيعي امام السلطات اما المواجهة غير المتكافئة والتي نتيجتها إهلاك الحرث والنسل وأزهاق أرواح المؤمنين الذين تعبت أجيال من العلماء على تربيتهم والذين يقول فيهم السيد الخميني (قدس سره) فيما ينقل عنه: (ان بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار)، أو الانكماش والانسحاب الذي يفوت الكثير من المصالح، او الخضوع للحكام والانسياق وراء رغباتهم وفي ذلك تضييع الدين وأهله.

هذا بعض ما استطعت ان ادونه بهذه العجالة،

وهي افكار ينفتح منا ألف باب لاولي الالباب.

أسأل الله تعالى ان يتغمد شهداءه

خصوصاً العلماء الاعلام بالرحمة والرضوان،

ويأخذ بيد الامة والحوزة الشريفة

لتسير على منهاجهم وتأخذ بتعاليمهم

وذلك هو الفوز العظيم.

ص: 344

الملحق الثالث: الشهيدان الصدران: تنوع أدوار ووحدة هدف

نستقبل خلال أيام الذكرى السنوية السابعة لاستشهاد سيدنا الأستاذ الشهيد السيد محمد الصدر (قدس سره) في الثالث من شهر ذي القعدة، وأعتقد أننا الى الآن لم نحتفل بالسيد الشهيد (قدس سره) احتفالاً واعياً يستلهم من أفكاره ومشاريعه ورؤاه ومنهجيته في العمل ما يوجّه مسيرتنا الحاضرة والمستقبلية وقد قلنا أن الماضي إنما يكتسب أهميته ويكون ذا قيمة إذا وُظِّف لحل مشاكل الحاضر والمستقبل ومعالجة قضاياهما أما الاقتصار على الاحتفال العاطفي وتعداد المناقب والانجازات فهذا وإن كان فيه وفاءً لصاحب الذكرى إلا أنه يعود اليه وقد لقي جزاءه الكريم عند ربّه الكريم فماذا قدّمنا نحن وماذا استفدنا من ذلك كله؟

ولا نعني باستلهام التجربة والاستفادة منها استنساخها وتكرارها مهما كان صاحب التجربة عظيماً لأن الظروف الموضوعية وتغيّر الزمان والمكان لها كل التأثير في رسم خطة العمل وهذه ليست متطابقة وإذا كان الأئمة (عليهم السلام) وهم معصومون لهم أدوار متنوعة وإن كان الهدف واحداً مشتركاً فما بالك بغير المعصوم؟

إذن ليس من المعقول أن يعيش اللاحق نفس منهج السابق وبرنامجه فالشهيد الصدر الأول (قدس سره) له ظروفه ومنهجيته والشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وكذا من يأتي بعده، وأشير هنا الى بعض الفروق بين المنهجيتين:

ص: 345

1 - نظم الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عمل الأمة وخصوصاً الشباب الرسالي في تشكيل هو (حزب الدعوة الاسلامية) لمّا رأى ضرورةً لمشاركة الاسلاميين في الحراك السياسي وتنظيم عمل الحركة الاسلامية وكانت الفرصة مؤاتية لذلك حتى قُمع بكل بطش وقسوة واستشهد هو (قدس سره) وخير أبناء الامة فليس من المعقول ان يسير الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على نفس الخط لذا فإنه عبّأ الامة ونظّمها بآلية أخرى هي صلاة الجمعة التي حشّدت مئات الآلاف من المؤمنين يعجز عن تحشيده أكبر الأحزاب حجماً وأكثرها تنظيماً من دون أن يعطي للسلطة مبرراً لضربها.

2 - ان الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ركّز على بناء عقول أبناء الأمة ووعيها فكتب لهم في الاقتصاد والفلسفة والاسس المنطقية للاستقراء وغيرها ولكنه لم يركّز على تهذيب النفس وتطهير القلب مما يُعرف بعلم الأخلاق لا لغفلةٍ منه (قدس سره) عن الحاجة اليه! كيف وهو يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسميه (الجهاد الأكبر) وكان (قدس سره) يجسّد كل الاخلاق الكريمة في حياته الشريفة لكنه ربما كان يعتقد ان التربية العامة من خلال الخطباء والمواعظ وكتب الأخلاق كافية لتأمين هذا الجانب لكنه فوجئ بعد ثلاثة عقود من العمل الاسلامي ومن بعض المواقف التي شهدها في أواخر حياته التي رواها الشيخ النعماني في كتاب (سنوات المحنة وايام الحصار) أنه كان حسن الظن أكثر مما ينبغي وعليه أن يركز على هذا الجانب أكثر من غيره فألقى خطبته المدوّية عن حبّ الدنيا فبكى وأبكى الحاضرين من طلبته في مسجد الطوسي قبيل استشهاده (قدس سره) وقد عبّر هو عن هذا النقص في التربية حين قال (اننا استطعنا أن نربي الناس الى نصف الطريق) وقد نقلها الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض رسائله لي التي طبعتها بأنه (قدس سره) يقصد أنه ربّى عقول الناس ولم يربِّ قلوبهم ونفوسهم وهذا

ص: 346

ما التفت اليه الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فكان يغتنم الفرص لإلقاء المحاضرات الأخلاقية ورسائله لي التي جمعتها في كتاب (قناديل العارفين) خطوة كبيرة في هذا المجال وقد استفدنا بفضل الله تبارك وتعالى من هذه التجارب وغيرها وحاولنا بلطف الله تعالى ان نختط المنهج المناسب للظروف التي نعيشها.

وما نعانيه اليوم من كوارث ومظالم من الأقربين قبل الأبعدين إنما يعود الى النقص في تربية النفس وتهذيبها ومخالفة هواها حتى انه مرّت حوالي ثلاث سنين على سقوط الصنم ولا زال الناس يشعرون بالإحباط من عدم وجود تغيّر ملحوظ في حياتهم بسبب وجود هذا النقص عند الكثير من المتصدّين للحكم وإدارة البلد من دون ان نغمط المحسنين حقّهم التزاماً بقوله تعالى (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، فالعمل في هذا الاتجاه - اتجاه تربية النفس وتهذيبها - من الاسس الرصينة للحركة الإسلامية بالاتجاه الصحيح.

كنت قد كتبت كلمة بعنوان (لو كان الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بيننا الآن لفعل ماذا؟) وتحدثت عن عدة مشاريع استشرافية مستفادة من معالم هذه المدرسة الرسالية وهي إحدى الآليات التي تفعّل هذا المنهج من دراسة سيرة العظماء والقادة والمصلحين فلنكرر السؤال في ذكرى استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) لنستلهم منه (قدس سره) المشاريع والافكار التي تبرمج حياتنا الحاضرة وأنتم كلكم أكاديميون وربما عاش أكثركم الحركة الاصلاحية للشهيد الصدر (قدس سره) وتأثّر بها فمساهمتكم في إجابة استبيان بهذا السؤال ستغني هذه الفعالية وتأتي بنتائج مباركة وقد جرّبنا مثل هذه الآلية فحصلنا على جهود رائعة مثلاً كتاب (ثمار الخطابة بين المنبر الحسيني ومنبر الجمعة) والذي كان حصيلة استبيان عن الفرق بين المنبرين

ص: 347

والنقلة الكبيرة التي أحدثها منبر الجمعة خلال فترة سنة وخرجنا بثلاثة وعشرين خصيصة لمنبر الجمعة، والكتاب مطبوع ويمكن الرجوع اليه.

مضافاً الى ان مثل هذه الفعاليات ستنشّط الحركة الاسلامية في الجامعات وتعزز موقفها لأني اسمع عن نشاط العلمانية والدعاة الى الانحلال في أروقة الجامعات ويغذّيها بعض الاساتذة مع الاسف وأحد أسباب ذلك خمول الاسلاميين وضعف أدائهم وعجزهم عن تقديم برامج مقنعة للشباب الجامعي وكلما تراجع العمل الاسلامي نشط الآخر لأن الساحة لا تبقى فارغة فأما أن يملأها الصلاح أو الفساد والعياذ بالله، والمواجهة مفتوحة بين النور والظلام فكلما انسحب النور انتشر الظلام.

وكنت قد ألقيت قبل سنتين في مثل هذه المناسبة كلمة بعنوان (عوامل نجاح الحركة الاصلاحية للشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وهي تندرج في هذا الاتجاه.

وحينما نطالب بالاحتفال الواعي في مثل هذه المناسبات فإننا لا نريد أن ننتقص من أهمية العاطفة واستثارتها فإنها عنصر قوة لا تقل عن قوة الوعي وإذا اجتمعا - كما اجتمعا في قضية الثورة الحسينية - تولد محرّك كبير للأمة وقدرة على صنع المعجزات.

محمد اليعقوبي

ص: 348

الملحق الرابع: المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

اشارة

الملحق الرابع: المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

تعريف المشروع السياسي

س 1: ونحن نعيش ذكرى استشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) نود أن نتحدث عن موضوع المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الذي هو خافٍ عن الكثيرين نسأل هل كان للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مشروع سياسي باعتباركم كنتم قريبين من سماحته منذ منتصف الثمانينات؟

ج -: بسم الله الرحمن الرحيم، من الواضح ان للسيد الشهيد الصدر (قدس سره) مشروعاً سياسياً أو على الأقل له عمل سياسي وهذا ليس خافياً على أحد، نعم قد تكون معالمه أو تفاصيله خفية، أما أصل الموضوع فهو ثابت وقد دفع حياته الشريفة وحياة ولديه ثمناً لهذا النشاط وقد أثمر مشروعه المبارك في نخر كيان صدام وزمرته بحيث عاد خاوياً متهالكاً سقط في أول صفعة وُجهت له 2003.

ص: 349


1- تقرير بتصرف للحوار الذي أجرته قناة العراقية الفضائية مع سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 2 /محرم/ 1429 المصادف 2008/1/11 لعرضه في الذكرى التاسعة لاستشهاده في 2008/2/19

ولكي نفهم مشروعه السياسي علينا أن نعرف معنى هاتين المفردتين (المشروع والسياسة) فأنني اسمع أنهم يعرّفون السياسة بأنها فن الممكن وهذا التعريف غير دقيق فان الإنسان لا يستطيع أن يأتي إلا بالممكن في جميع حقول الحياة وليس في الحقل السياسي فقط، لذا فأنني اعرّف السياسة بأنها (فنّ رعاية المصالح) وهذا التعريف ينطبق على معنى السياسة في الإسلام باعتبار أننا نخاطب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بأنهم (ساسة العباد) أي أنهم الراعي الأول لمصالح العباد، وينطبق على معنى السياسة عند العلمانيين الذين يقولون (لا توجد صداقات ثابتة ولا عداوات ثابتة وإنما توجد مصالح ثابتة).

نعم يختلف هذا التعريف بين المعسكرين في تفاصيله ومتعلقاته فالمصالح التي ترعاها السياسة الإسلامية هي مصالح العباد والبلاد من دون تفريق بين أحد وآخر مهما كان دينه وقوميته ولونه وجنسه بينما المصالح عند السياسة غير الإسلامية هي المصالح الشخصية والفئوية.

ويختلفان مثلاً من حيث الأُطر المحددّة لآليات العمل والبرامج فالسياسي الإسلامي يؤمن بمبادئ ثابتة لا يتجاوزها مهما كانت النتائج لأنه يعتقد بوجود الآخرة والحساب على الأعمال بين يدي الله تبارك وتعالى ولا يمكن أن يفرّط بآخرته من اجل دنيا زائلة وقد شرحنا هذه المبادئ في خطاب (المبادئ الثابتة في السياسة)، بينما السياسي الآخر لا يتحدد بمبادئ وإنما يؤمن بالميكيافيلية وان الغاية تبرر الوسيلة والوقائع الكثيرة تشهد على أنهم لم يتورعوا عن إزهاق ملايين الأرواح وتدمير الحياة من اجل إشباع نزواتهم وإتباع أهوائهم وشهواتهم.

ص: 350

أما (المشروع) فيعني البرنامج الذي يضع لنفسه أهدافاً يسعى لتحقيقها وآليات يتبعها للوصول إلى ذلك الهدف فلا مكان فيه للعقوبة والارتجالية والتصرفات غير المحسوبة.

وحينئذ أقول في الجواب أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لم يكن يصرّح أو يستطيع التصريح بأن له مشروعاً منتظماً للوصول إلى أهداف محددة وكان يكتفي بالعموميات ويخفي مراده أحياناً ما بين السطور، لان السلطة المعروفة ببطشها وقسوتها ستقضي على مشروعه وهو في المهد لان أي عمل منظم تشعر بأن فيه تهديداً لكيانها ولو كان باحتمال ضئيل جداً فأنها تفتك به حيث كان صدام يقول (إنني اقتل عشرة ألاف من دون أن يرفّ لي جفن) وإنما صَبَرت السلطة زمناً ما على حركة السيد الشهيد (قدس سره) لأنها تعتقد فيها أنها حركة عفوية عاطفية غير منتظمة في مشروع وقد تعمّد السيد الشهيد (قدس سره) إيقاعها في هذا التصور حينما سُئل في بعض لقاءاته المسجّلة عن خطوته اللاحقة قال (أنني لا اعلم ماذا أفعل غداً، وكل ما في الأمر انه عندما يأتي الغد أجد نفسي مقتنعاً بأن أقوم بفعل ما) وهو (قدس سره) يعلم ان هذه الكلمات تصل إلى السلطة لأنها تتابع بدقّة ما يصدر عنه من كلمات وخطب ومنشورات وتحللها.

قيادة الحركة الإسلامية في ظل البطش الصدامي

س 2: هنا يتبادر الى الذهن سؤال كيف استطاع سماحة السيد الشهيد أن يبدأ بمشروعه السياسي حتى وإن كان بشكل غير مباشر في ظل وجود سلطة ونظام قمعي سيما وان سماحته كان معتقلاً عند الأجهزة القمعية حيث كان مراقباً ومحاصراً؟.

ص: 351

ج -: أظّنك تقصد اعتقاله في الانتفاضة الشعبانية في آذار 1991 وهو ليس اعتقاله الوحيد فقد اعتقل عام 1974 في مديرية امن الديوانية ضمن حملة شملت الكثير من طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ومكث فيها حوالي أسبوعين وقد تحدث لي في بعض رسائله عمّا جرى له، هذا مضافاً إلى الإقامة الجبرية التي فرضت عليه عدة سنوات في الثمانينات، وهذا كله لتأكيد كلامك عن قساوة الظروف المحيطة بالسيد الشهيد (قدس سره) ومعرفته الجيدة بها لطول معاناته منها لذا فقد تطلبت حركته الكثير من الحكمة حتى يكسب اكبر مدة زمنية تمكّنه من تحقيق أفضل النتائج.

ولا شك ان لطف الله تبارك وتعالى كان يرعاه ويحفظه وسلّمه من تلك المحن إذ لم يتبق في داخل العراق من طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) المعروفين والمؤهلين لمواصلة مسيرته المباركة الا هو، وما دام قد ادّخره الله تبارك وتعالى لهذا الدور فلابد أنه سيحظى بلطف ورعاية إلهية خاصة.

وقد استطاع (قدس سره) بحكمته ونظرته الثاقبة ان يتعرف على واقع السلطة القائمة وما تفكر به والأساليب التي يمكن إتباعها من دون استفزازها، وعرف الكثير منها أيضا خلال استجوابه في معتقل الرضوانية بعد الانتفاضة وحقق معه عدد من كبار الضباط. كما نقل لي (قدس سره) وعرف من خلالها السياسة الجديدة التي سيتبعها النظام مع المرجعية والحركة الإسلامية وعموم علاقته بالشعب العراقي، والتي بدت واضحة على تصرفات النظام مع المرجعية والحوزة العلمية والشباب المؤمنين خلال التسعينات لذا استطاع (قدس سره) أن يسحب البساط بهدوء من تحت النظام ويفقده قدرته على السيطرة على ضبط الجماهير إلى أن تفاجأ النظام بحركته وقرر قراره المشؤوم، وقد جمعني به (قدس سره) لقاء خاص بعد أيام من الزيارة

ص: 352

الشعبانية التي دعا الجماهير فيها إلى السير مشياً إلى كربلاء واندفع المؤمنون بحماس بالغ مما دعا النظام إلى تهديده بالقتل فسحب الأمر عشية اليوم الذي كانت مدينة الصدر ومناطق أخرى من بغداد قد عقدت العزم على التوجه فيه بشكل مواكب بالآلاف إلى كربلاء وهو يوم الثلاثاء 11 شعبان 1419 وقلت له في ذلك اللقاء ان هذه الحركة رافقتها فعاليات تصعيدية في مواجهة النظام مما يستفزّه ويدفعه إلى اتخاذ قرارات قاسية والأجدى الاستمرار بالطريقة الهادئة في سحب البساط من تحتها، وان منبر الجمعة وحده كافٍ لتقويض أركان النظام، قال (قدس سره) (نعم وقد سحب البساط من تحته بنسبة 75%، ولكنني لست مسؤولاً عن هذه التصعيدات فأنني لم أأمر بها) وكان مقترحي أن لا يخرج أبناء بغداد على شكل تجمعات ضخمة لان ذلك يقلق النظام ويفشل المشروع فلو خرجوا على شكل مجاميع صغيرة وقد شرح (قدس سره) مبرر خروجهم في مواكب ضخمة وبصراحة فقد كنت اعتقد أن النسبة التي قالها (قدس سره) مبالغٌ فيها.

استثمار نتائج الانتفاضة الشعبانية المباركة

س 3: هل افهم من كلام سماحتكم ان السيد الشهيد (قدس سره) استثمر التغيير الحاصل في سياسة النظام أبان الانتفاضة الشعبانية؟

ج -: نعم فقد أفرزت الانتفاضة عدة نتائج مهمة من كسر حاجز الخوف والرعب الذي كان يملك بها النظام نفوس الناس أكثر من مؤسساته ورجاله، وأثمرت الانتفاضة شجاعة كبيرة لدى الشعب، وازدهر التوجّه الديني وأصبحت النجف الأشرف والحوزة العلمية ومكاتب المرجعية تشهد إقبالاً واسعاً من الناس، وتصاعد الوعي الإسلامي وتداول الكتب والنشرات بما فيها الممنوعة التي كانت تستنسخ سراً وهذه العوامل وغيرها دفعت النظام إلى ان

ص: 353

يغيّر سياسته مع الحركة الدينية على الصورة التي تعامل بها مع الحركة إبان مواجهتها للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فتغيّر سياسة النظام ليس لأنه تغيّر في نفسه وإنما اضطر لمجاراة الوضع الجديد الذي تميّز بانطلاقة قوية وواسعة للحركة الدينية.

المرجعية والعمل السياسي

س 4: المعروف إجمالاً في الأوساط الحوزوية عدم تدخل المرجعية في الشؤون السياسية وعادة ما تنأى الحوزة العلمية نفسها عن الأوساط السياسية، فما الذي دفع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لممارسة دور سياسي والخروج عن هذا التقليد المتعارف.

ج -: أفهم من كلامك أنك تجعل القاعدة في تصرف المرجعية والحوزة العلمية هو الابتعاد عن السياسة والشؤون العامة بحيث تكون ممارستها استثناءاً، والصحيح هو العكس فان الأصل في الشريعة الإسلامية أن يتصدى العلماء لرعاية شؤون الأمة وعلى رأسها ممارسة الدور السياسي وان الاستثناء هو التخلي عن هذا الواجب فقد كان النبي (صلى الله عليه واله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أكمل القادة والسياسيين، ونَصِفُ المعصومين (عليهم السلام) في زيارة الجامعة الكبيرة بأنهم (ساسة العباد) وفي الروايات (المتقون سادة والفقهاء قادة) وفي الأحاديث الشريفة أيضاً ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).

وقال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض خطبه التي أثنى فيها على (الحوزة الناطقة) ويعني بها الحوزة المتحركة والتي لها شعور واسع بالمسؤولية تجاه كل شؤون المجتمع، قال فيها ان النبي (صلى الله عليه واله)

ص: 354

والأئمة المعصومين (عليهم السلام) هم من الحوزة الناطقة وقد تميّز في تاريخ المرجعية الدينية خطاب أحدهما يمثل الحوزة الناطقة التي انهمكت في العمل السياسي النقي الصالح إضافة إلى مسؤوليتها العلمية والدينية والاجتماعية وثانيها الذي انغلق على نفسه واكتفى بالشؤون العلمية والفتوى وكان السيد الشهيد يعلن انتماءه إلى الخط الأول كأستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والسيد محسن الحكيم والميرزا النائيني الذي آزر أستاذه الآخوند الخراساني في حركة الدستور المعروفة بالمشروطة أوائل القرن الماضي.

وقال لي مرة في بعض رسائله انه قال لأستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) أن المحقق الحلي (وهو من أعاظم فقهاء الشيعة كان في القرن السابع الهجري في مدينة الحلة ويُدَّرس كتابه شرائع الإسلام في الفقه إلى الآن) كان من العلماء الواعين - وهو تعبيره السابق عن الحوزة الناطقة - فأيّده الشهيد الصدر (قدس سره) في ذلك.

فحينما تسأل عن دوافع الشهيد الصدر لممارسة هذا الدور فلأنه من صميم مسؤولياته التي يؤمن بها ويرى لزوم القيام بها قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم أو سغب مظلوم) إلى آخر الكلام فالقيام بهذا الدور أمانة في أعناق العلماء، مضافاً إلى عوامل أخرى أثّرت في شخصيته ودفعته في هذا الاتجاه ومنها

1 - تأثره بأستاذه الشهيد الصدر (قدس سره) واهتمامه باقتفاء أثره في كل شيء.

ص: 355

2 - ان الإصلاح الواسع الذي كان يريد إحداثه في حياة الأمة لم يكن ممكن التحقيق والتأثير في الأمة إلا بالانخراط في العمل السياسي وتحدي السلطة وتنبيهها إلى المظالم التي ترتكبها.

3 - طيبة قلبه وحبّه الخير لجميع الناس وقوة قلبه في نفس الوقت مما جعله لا يقرّ له قرار حتى يبذل كل ما في وسعه لإنصاف المظلومين ومساعدة المحتاجين ونصرة المحرومين.

وكان يدعو الناس إلى التأكيد على صفة طيبة القلب وقضاء حوائج المؤمنين وإنفاق الأموال على مستحقيها لا (فيافي بني سعد) في المرجعية التي يتّبعونها بعد إحراز الاجتهاد والعدالة طبعاً وكان يركّز على هذه الصفات في البديل الذي يخلّفه.

ولرحمته الكبيرة فقد خاطب جميع شرائح المجتمع حتى الغجر في خطبته الأخيرة في الجمعة التي استشهد فيها.

ما الذي دفع الناس إلى اتباع السيد الشهيد الصدر (قدس سره)

س 5: عذراً للمقاطعة سماحة الشيخ، هل ان ما تفضلتم به من البساطة في المعيشة والتعامل مع الجماهير هو الذي دفع الكثير من الجماهير أن تؤمن بفكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حيث التفّت الأوساط الشعبية حول مرجعيته وبدأت تتفقه في الدين؟

ج -: هذا أحد الدوافع، لان الشرائح التي آمنت بحركة السيد الشهيد (قدس سره) واتبعته متنوعة وكلٌ منها ينطلق من فهمه الخاص له (قدس سره) فالحوزة العلمية رأت فيه العالم المبدع وكان درسه في الأصول مما يحتج (قدس سره) به لإثبات أعلميته ورسالته العملية في الفقه، والمثقفون والمفكرون اتبعوه لما لمسوا فيه من فكر خلاّق وقدرة على الدراسة والتحليل

ص: 356

والموسوعية، والطبقة العامة أمنت به لمواساته لهم ودفاعه عنهم وسعيه المخلص لإصلاح حالهم في الدنيا والآخرة، والسياسيون عقدوا عليه الآمال لأنهم وجدوا فيه المشروع الحقيقي لإزالة الطاغوت.

معالم المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر

س 6: ما هي معالم المشروع السياسي الذي تبناه السيد الشهيد الصدر (قدس سره).

ج -: يمكن ان نذكر على نحو الاختصار جملة من المعالم العامة لمشروعه السياسي

1 - انه مشروع إسلامي يستند إلى الإسلام في قراراته وآليات عمله والمبادئ التي تؤطر حركته فلا مجال فيه للبراغماتيه المحضة المتجردة من المبادئ.

2 - انه وطني فلم يقتصر في خطابه على أتباعه ولا على الشيعة فقط. بل وجّه خطابه إلى أبناء السنة وأمر بإقامة صلوات الجمعة الموحّدة وخاطب كل شرائح المجتمع بغضّ النظر عن انتمائهم والمتابع لخطبه يجد الكثير منها مخصصّة لشرائح معينة وكان آخرهم الغجر الذين وجّه لهم خطاب الإصلاح والهداية في الجمعة التي استشهد في مسائها وفي تلك الخطبة عدّد الشرائح التي خاطبها.

وحينما نقول ان مشروعه وطني فهذا لا يعني الانغلاق على بلده العراق فقط لان رسالة الإسلام عالمية ولكن المتاح له كان ذلك مضافاً إلى ان المشروع الإسلامي العالمي لابد له من حاضنة وقاعدة يستند إليها وينطلق منها كما كانت المدينة المنورة قاعدة انطلاق رسول الله (صلى الله عليه واله)

ص: 357

وستكون الكوفة عاصمة الدولة العالمية المباركة التي يقيمها الإمام الموعود (عليه السلام).

3 - الجماهيرية وإشراك عامة طبقات الشعب في الحركة فلم يقتصر في خطابه ومشروعه على النخب بل تحدّث إلى جميع الناس مباشرة خصوصاً بعد إقامة صلاة الجمعة.

4 - أصالة المرجعية الدينية وهذه نقطة مهمة إذ يوجد خلاف بين السياسيين الإسلاميين حاصله أنه من هو الأصل ولمن مرجعية القرار هل للمرجعية الدينية ويكون دور الحزب التنفيذ والعمل ضمن توجيهات المرجعية أم أن الأصل هو الحزب فهو الذي يقرر وينفذ ويكون دور المرجعية تقديم النصائح غير الملزمة.

وكان (قدس سره) يعيش تجربة مرة من بعض الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تأسست برعاية المرجعية ثم خلفتها وراء ظهرها وأعطت لنفسها الحق في القيمومة على أراء المرجعية.

ولإعادة العمل السياسي الإسلامي الى مساره الصحيح فقد أصّل (قدس سره) للرجوع الإلزامي إلى المرجعية الدينية ورسّخ هذه الثقافة وكانت كلمته المشهورة (لا تقولوا قولاً ولا تفعلوا فعلاً إلا بالرجوع إلى الحوزة العلمية) وهو (قدس سره) لا يقصد بالحوزة كل من وضع العمامة على رأسه ودرس بعض العلوم وإنما يريد بها المرجعية الدينية المتمثلة بالمجتهد العادل العارف بشؤون زمانه لذا وصف في بعض كلماته الشخص الذي يقود الناس وهو ليس بمجتهد ب - (الكحف) وهو قشر الفاكهة الذي يرمى مع الفضلات.

وقد بنى تأصيله هذا على ما نؤمن به من الآخرة والحساب ومسؤوليتنا أمام الله تعالى والتي لا يحق لأحد النظر فيها واستنباط أحكام الحالات

ص: 358

المختلفة من مصادر التشريع الإسلامي الأصلية والإنسان قبل أن يكون سياسيا هو شخص مكلّف أمام الله تبارك وتعالى بواجبات وعليه حقوق.

وحتى على المقاييس الطبيعية فان المرجعية هي أولى الناس بالقيادة لاكتمال صفاتها فيها، فمن حيث العلم بالقانون المنظم للحياة تمثل المرجعية أرقى درجاته بحصول ملكة الاجتهاد وقضاء عشرات السنين في البحث والتدريس والتأليف والحوارات العلمية، ومن حيث النزاهة فهي في أعلى درجات ضبط النفس وكبح شهواتها وملك زمامها والورع والزهد الذي نسميه ب - (شرط العدالة)، ومن حيث الخبرة فان المرجعية تمضي عشرات السنين في التحرك في أوساط المجتمع والاتصال بكل طبقاته وتلقي أنواع المشاكل والمقترحات والمشاريع والأفكار، فما الذي يمنع السياسيين من أعطاء المرجعية دورها الذي تستحقه؟

ولكي يطمأن السياسيون فان المرجعية تعرف المساحة التي تتحرك فيها والمساحة التي تتركها للآخرين لأنها لا تدعي المعرفة بكل شيء ولا أنها محيطة بكل التفاصيل كما ورد في الحديث (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه حتى لا يوردها موارد الهلكة).

النشاطات السياسية للسيد الشهيد الصدر (قدس سره)

س 7: ما هي ابرز النشاطات والفعاليات التي قام بها سماحة السيد الشهيد (قدس سره) لتكون مصاديق لمشروعه السياسي.

ج -: إذا أردنا أن يكون الجواب أكثر فائدة فتقسم هذه الفعاليات إلى مراحل:

الأولى: في حياة أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وقد اختصرها (قدس سره) في بعض رسائله لي بان عمله هو أتباع السيد الشهيد

ص: 359

الصدر الأول (قدس سره) فيما يقول ويفعل ويوجّه واعتقل خلال هذه المرحلة عام 1974 في مديرية أمن الديوانية حوالي أسبوعين، لكنه لم ينتمِ إلى (حزب الدعوة) وقال (قدس سره) في سبب ذلك: أنني وجدت الحياة التي يجسدها المتحزبون فيها (أنانية حزبية) فما الذي جنيناه أذن حين نخرج من أنانية الفرد ونقع في أنانية الحزب.

وحينما سألته في بعض الرسائل عن عدم قيامه بدور قيادي بارز عند تصاعد حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في نهاية السبعينات فأرجعه إلى أمرين

أ - تأثير والده المرحوم السيد محمد صادق الصدر (قدس سره) عليه والذي كان له تأثيره حتى على الأول (قدس سره).

ب - انصرافه يومئذ إلى تهذيب نفسه وأتباع منهج أهل العرفان فابتعد عن الانهماك في العمل الاجتماعي الواسع.

الثانية: عقد الثمانينات: حيث انزوى في بيته بعد استشهاد أستاذه الصدر (قدس سره) ولم يكن يخرج إلا لضرورة وبعد ان شنت حملة جائرة لاعتقال السادة آل الحكيم عام 1983 وكان جاره واحداً منهم واستشهد لاحقاً وضع جلاوزة الأمن نقطة مراقبة عند باب داره فتكثَّف عمله بالتقية حتى وصفها في بعض رسائله بأنها اشد من التقية التي عاشها الإمام الحسن السبط (عليه السلام) وبقي في الإقامة الجبرية حتى حصل انفراج نسبي عام 1987 ثم كان الفرج أوسع بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 وعاد الى نشاطه العلمي وبدأ بالتدريس في جامعة النجف الدينية.

الثالثة: دوره في الانتفاضة الشعبانية عام 1991 وقد شرحته مفصلاً في كتابي (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما اعرفه) حين بايعته قيادة الانتفاضة مرشداً للثورة الإسلامية المباركة (بحسب وصفه (قدس سره) في

ص: 360

خطابه الذي وجهه للجماهير في الصحن الحيدري الشريف) في اليوم الأخير قبل بدء هجوم قوات الحرس الجمهوري على المدينة واعتقل على أثرها في معتقل الرضوانية ببغداد ثم أفرج عنه. وقد خرج من هذه التجربة بنتيجة مؤلمة وهي أن الأمة ما زالت بحاجة كبيرة إلى تربية روحية حتى عبّر بأنه لم يكن معي من المخلصين إلا اثنان.

وانه (قدس سره) بحاجة إلى البدء بمشروع إصلاحي يهدف إلى بناء المجتمع الصالح وبدونه يكون السعي لإسقاط النظام عبثاً ومن كلماته في بعض الرسائل (إن الجهاد الأصغرأي حمل السلاح في مواجهة الطواغيت - لا يكون منتجاً إلا إذا اقترن بالجهاد الأكبر - أي مجاهدة النفس وإصلاحها).

ومثل هذه النتيجة خرج بها السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في نهاية حياته حينما قال - بحسب رواية السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) - (إننا استطعنا أن نربي الناس الى نصف الطريق ولم نكمل النصف الآخر) ويفسرها الثاني (النصف الأول بتربية عقولهم بالعلوم المعمقة من دون تربية نفوسهم وتطهير قلوبهم من حب الدنيا واستهداف ما سوى الله تبارك وتعالى.

الرابعة: مرحلة تصّديه للمرجعية بعد الانتفاضة والتي نفّذ فيها مشروعه الإصلاحي المشار إليه وتصاعد فيه حتى بلغ الذروة في مواجهة النظام من خلال منبر الجمعة وأدت إلى استشهاده يوم 1999/2/19، وكان خلاله يأخذ بيد المجتمع ليرتقي به في سلم الكمال، وفي إحدى رسائلي وصفت تقنين الفقهاء لمسألة أخذ الفوائد المصرفية بأنها حيلة شرعية منافية لروح الإسلام وان كانت بحسب الظاهر على طبق القواعد والمفروض بالفقهاء أن ينشئوا البديل وهو المصرف الإسلامي الذي لا يتعامل بالربا وغيرها من المعاملات

ص: 361

المحرمة فكان مما قال في جوابه مؤيداً (اننا يجب أن نرفع مستوى الواقع إلى مستوى الشرعية وليس بأن ننزل مستوى الشريعة إلى مستوى الواقع وتكييفها معه.

الطعنات من الخلف

س 8: هل كان سماحة السيد يحظى بتأييد من أوساط دينية أو سياسية داخل الحوزة وخارجها؟

ج -: استطيع أن أقول بكل أسف: لا فقد كان موقفهم سلبياً ومعادياً واتخذ أشكالاً متعددة من الأساليب الخبيثة

س: السبب

ج -: ليست الأسباب إلهية صحيحة طبعاً، ولو كان هدف الجميع مخلصاً لله تبارك وتعالى لاتحدوا واجتمعوا على طاعته، أما الجهات الدينية فلأنها ترى في مرجعيته الصاعدة والآخذة بالاتساع مزاحماً لسلطتها التي تعتقد أنه حق خالص لها، وبهذا الصدد قال بعض ذيول أحدى المرجعيات (مالهم ينازعون الناس سلطانهم) أي ما للسيد الصدر (قدس سره) ينازع الناس الذوات الذين يجب أن تبقى المرجعية منحصرة فيهم هذا السلطان؟

وهذه نظرة أنانية جاهلية استعلائية قديمة فقد كان الأمويون المحدقون بالخليفة الثالث يرون فيء المسلمين حقاً خالصاً لهم وأنّه بستان قريش لا يجوز لأحد منازعتهم فيه وان السلطة قميص ألبسهم الله تبارك وتعالى إياه وغيرها اما نظرة الشريعة فان المرجعية مرتبة شريفة لها شروط فمن توفّرت فيه كان أهلاً لها مهما كان جنسه وقومه.

وأما الجهات السياسية فلانكشاف زيفها وإنها تتاجر بمظلومية الشعب العراقي وما يتعرض له من بطش من جلاوزة صدام فقد سحب البساط من

ص: 362

تحت أرجلهم ولاح لكل مراقب ان السيد الصدر (قدس سره) هو الذي يقود المعارضة الحقيقية للنظام وجها لوجه داخل العراق وأنه يقوّض أركان النظام تدريجياً فبدأت القوى المخلصة في إحداث التغيير تلتف حوله وتعرض عليه الاشتراك معه أما أصحاب الدكاكين البائسة فقد كسدت بضاعتهم وكانوا يرون في السيد الصدر كابوساً يجثم على صدورهم فوجهوا سهام غدرهم إليه وكشفوا ظهره للنظام وطوقوه وحاصروه وتركوه وحيداً في مواجهة النظام.

وحينما أحس السيد الصدر (قدس سره) بعزم النظام على تصفيته فكّر بحماية نفسه من خلال توسيع مرجعيته خارج العراق وجعلها عالمية لإحراج النظام ومنعه من الإقدام على الجريمة فأرسل وفداً فيه المرحومان الشيخ علي صادق والشيخ محمد النعماني إلى عدد من الدول الإسلامية القريبة والمجاورة لكن الوفد جوبه بامتعاض شديد ورفض إهانة وافتتح له مكتباً في الجمهورية الإسلامية ووجه في حفل الافتتاح خطاب صداقة وتأييد إلى القيادة والشعب الإيراني ولكن مكتبه أغلق بعد ثلاثة أيام فقط بسعي نفس الجهات.

وكان (قدس سره) شديد التألم من الحرب التي شُنّت عليه بهدف تسقيطه وإنهاء شرعيته بالكذب والافتراء وتوظيف الأبواق المأجورة وكان يقول عن تلك الفترة (تحملتها بأعصابي) ويقول (ان الوحيد الذي نصرني أيام الشدة الشيخ محمد اليعقوبي) وفي آخر أيامه كان يقول عن تلك الفترة (أنني لا استطيع أن اثبت براءتي إلا بدمي) وكان يصف حرب الزعامات بأنها حرب قذرة لأنهم لا يقولون ما هو فيك بل يقولون ما ليس فيك.

وقد ألفت عدة كتب في أرشفة تلك الحرب وتدوين فصولها والله المستعان على ما يصفون.

ص: 363

لماذا أجّل السيد الشهيد تصعيد المواجهة مع النظام؟

س 9: تحدثتم قبل قليل انه (قدس سره) آجل المواجهة مع النظام في بداية مشروعه السياسي وفي بداية ظهوره وتصديه للمرجعية.

السؤال الذي يطرح نفسه لماذا آجل سماحته (قدس سره) المواجهة مع النظام فلما ظهر كانت إستراتيجيته أن لا يواجه النظام بشكل مباشر لكن بعد صلاة الجمعة التي أقيمت في معظم مناطق العراق يعني هكذا يفهم البعض انه سماحة السيد (قدس سره) أصبح في مواجه مباشرة مع النظام السابق من خلال مطالبته بالخدمات العامة من خلال مطالبته بإطلاق سراح المعتقلين ومن خلال مناداته ومن خلال توجيهاته إلى جميع شرائح المجتمع حتى انه في الخطبة الأخيرة يعني وجه كلامه إلى الغجر. فلماذا انتقل من إستراتيجية عدم المواجهة مع النظام إلى إستراتيجية المواجهة بعد صلاة الجمعة؟

ج -: قلنا انه (قدس سره) واجه النظام بأعلى صور المواجهة فقد قاد الانتفاضة، اعني أنهم بايعوه على قيادتها لكنه لم يمهل إلا يوماً واحداً، فهو (قدس سره) خاض هذا المستوى من الاصطدام الا انه خرج بالنتيجة التي ذكرناها وغيّر تكتيكاته في العمل وبدأ بنمط جديد من العمل لكن الأهداف بقيت واحدة.

وربما كان وراء هذا التريث هدف آخر يفهمه كل قائد وصاحب مشروع إصلاحي، فانه مالم يطمئن إلى وجود البديل القادر على مواصلة المشروع وإتمامه بأحسن وجه لا يصعّد مسيرته ويعرّض نفسه للهلاك خوفاً على مشروعه ان يفشل وليس خوفاً على حياته وإن كانت الأعمار بيد الله تبارك وتعالى يقيناً، وهذا ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) في تفسير خوف كليم الله موسى (عليه السلام) في قوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ

ص: 364

يُكَذِّبُونِ. وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) الشعراء 12-14. وقوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) القصص 33-34.

فقد ورد بأن خوفه (عليه السلام) كان من قتله مباشرة قبل أن يقوم بالتبليغ ويطمأن الى وجود الخليفة الذي يواصل حمل الرسالة فاستجاب له تبارك وتعالى وشدّ عضده بأخيه هارون (وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) طه: 29-32.

وفي رسالة الإسلام كان إكمال الدين وإتمام النعمة وإقرار عين النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بنصب امير المؤمنين عليه السلام إماما وهادياً وخليفة من بعده.

لذا تحدث السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في أكثر من مناسبة عن (البديل المماثل) الذي يُعِدّه، ولما صرّح باسمه في لقائه بطلبة جامعة الصدر الدينية يوم 5 جمادي الثانية 1419 أي قبل استشهاده بخمسة أشهر (الآن استطيع ان أقول ان المرشح الوحيد من حوزتنا هو جناب الشيخ محمد اليعقوبي إذا كان الله أمد لي في العمر الى وقت شُهد باجتهاده، فانا لا أعدو عنه هو الذي ينبغي ان يمسك الحوزة بعدي) صعّد من حركته في الزيارة الشعبانية وما بعدها ومضى سعيداً إلى الشهادة التي اختارها الله تبارك وتعالى.

التصدي للمرجعية أساس الانطلاق في المشروع الإسلامي

س 10: كيف هيّأ السيد الشهيد (قدس سره) لمشروعه السياسي اجتماعياً

ج -: كانت الركيزة الأساسية لمشروعه والتي انطلق منها هي عرض مرجعيته لأنه يعتقد - وهو الصحيح - بأن قمة هرم المشروع يجب ان يكون

ص: 365

مجتهداً جامعاً لشروط المرجعية، وأي طرح غير مرجعي لا يمكن أن يكون صحيحاً، ومن بعد ذلك يمكن التفكير بالآليات المناسبة للعمل السياسي من تأسيس حزب أو حركة شعبية أو مؤسسات ونحوها، وتصديه للمرجعية لم يكن بدوافع دنيوية كحب الجاه والقداسة والاستعلاء على الناس وجمع الثروة وغيرها وانما كان لتأصيل الحركة وتثبيت شرعيتها، وإلا فانه لم يكن يفكّر قبل ذلك في المرجعية، ومن الشواهد على ذلك انني عرضت عليه في إحدى مراسلاتي بتأليف ما سميته (الفقه الشامل) وتحديث كتب الفتاوى للفقهاء لتكون شاملة لشؤون الحياة، فكان ردّه الاعتذار والسبب كما قال (قدس سره) لأنني لا احتمل بقائي حياً إلى حين تحقق الفرصة للمرجعية ورجوع الناس إليَّ. مع أهليته لذلك فانه كان يعتقد ببلوغه درجة الاجتهاد ومنذ العام 1977 في حياة أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره).

ص: 366

بسم الله الرحمن الرحيم(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

اما بعد، فمن نعم الله سبحانه على الدين والمذهب عامة وعليّ خاصة وأنا العبد الخاطئ الذليل ان يرزقني عدداً لا يستهان به من الطلاب الفضلاء المخلصين وأهل الهمة المجدين جزاهم الله جميعاً خير جزاء المحسنين.

ومن أهمهم هذا الشيخ الجليل والعلامة النبيل المفضال الشيخ محمد موسى اليعقوبي (دام عزه)، فقد التزم دروسنا في علم الأصول وأنالها العناية الكافية فهماً وكتابةً ومدارسةً، وها هو يقدم لنا في هذا الكتاب نموذجاً من جهوده وليالي تفكيره. وقد قمت بمراجعته وتدقيقه فوجدته وافياً بالغرض ملمّاً بالمطالب حسب الأصول. ولكني اعتبرته هو المؤلف وله حرية التعبير وان كانت المطالب بالأصل صادرة مني بطبيعة الحال. ولكني أجزته في ذلك بعد حفظ المعنى ووضوح المبنى.

و لاشك انه بهذا الجهد الجهيد يسير بخطو حثيث نحو الاجتهاد ومعرفة السداد. أتمنى له المستقبل الزاهر في خدمة العلم والعمل وان يكون من المراجع المخلصين والقادة الطيبين جزاه الله خير جزاء المحسنين.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

حرره بتاريخ التاسع من شهر رمضان المبارك عام 1418

محمد الصدر).

ص: 367


1- مقدمة الجزء الثاني من موسوعة (منهج الاصول) للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وهو (بحث المشتق) الذي قرره سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) وعرضه على السيد الشهيد فاقره واعتبره مكملاً لكتابه (منهج الاصول).

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين..

السلام عليكم أيّها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته..

كثيرة هي المسؤوليات التي اضطلع بها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) انطلاقاً من استشعاره لعظمة موقع نيابة المعصوم (عليه السلام) وسعة ما انيط به من أدوار في حياة الأمة.

ونشير اليوم بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لشهادته إلى أحد تلك الأدوار وهو تصحيح بعض المفاهيم التي تؤثر في حركة الأمة، وذلك لأن كثيراً من الأعمال والسلوكيات يقوم بها أصحابها نتيجة لقناعة بنيت على فهم خاطئ لفكرة معينة، وقد تصل إلى حد ارتكاب الجرائم الشنيعة، ولو صحح المفهوم في أذهانهم لغيّروا طريقة حياتهم.

ومن أمثلتها اليوم ما تتعرض له البلاد من تخريب ودمار وقتل للأبرياء تحت عنوان المقاومة الذي هو بنفسه عنوان برّاق ومثير للحماس لكنهُ جُعِل غطاءاً لمثل تلك الجرائم، وغرّر بالكثيرين من البسطاء والجهلة والمخدوعين فانخرطوا فيه، وعنوان المقاومة بريء من هذه الأفعال المنكرة.

فيكون حينئذٍ جزء كبير من الحل مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض، لما سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قتال

ص: 368


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) على الفضلاء والأساتذة في درس البحث الخارج يوم الأحد 3 /ذ. ق/ 1432 المصادف 2011/10/2 وألقيت بالنيابة عنه في الحفل التأبيني الحاشد الذي أقيم في اليوم السابق على قاعة المسرح الوطني ببغداد.

الخوارج مع من بعده، قال (عليه السلام): (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه).

يقصد بالأول الخوارج وبالثاني من قاتلوه في صفين أي أن الخوارج ممن اختلطت عليهم الأوراق فظنوا أن ما يفعلوه حقاً فلا يجوز قتالهم إلا مع إمام الحق، أما البغاة عليه في صفين فيعرفون بطلان ما هم عليه، ويُنسب للسيد الخميني (قُدس سره) قوله: (إن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار).

فمن مسؤولية القادة والعلماء والمفكرين وصنّاع الرأي وثقافة الأمة أن يتصدوا لبيان المعاني الصحيحة للمصطلحات وإزالة الغبار عنها، وهذا ما قام به السيد الشهيد (قدس سره) واذكر بعض الموارد لذلك.

1 - مفهوم الانتظار الذي اقترن في أذهان الأجيال بالسلبية والانكماش والتخلي عن ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو في الحقيقة عكس ذلك إذ يتضمن معناه في بعده العملي السعي الجاد للإصلاح والتغيير والتمهيد لإقامة دولة العدل الإلهي، قال (قدس سره) (هذا الانتظار الكبير ليس إلاّ انتظار اليوم الموعود باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح في التمحيص الإلهي والمشاركة في إيجاد شرط الظهور في نهاية المطاف) وقال (قدس سره) (ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس الدين، لأنّه مشاركة في الغرض الأساسي لإيجاد البشرية، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).(1)

2 - (الاجتهاد) فإنه يعرّف مشهورياً بملكة استنباط الحكم الشرعي من مداركه الأصلية، وهو بهذا المقدار وإن كان كافياً لتحقيق إبراء الذمة أمام الله تبارك وتعالى في مقام العمل، إلاّ انه لا يثري مدرسة أهل البيت (عليهم3.

ص: 369


1- تاريخ الغيبة الكبرى: 363.

السلام) ولا يعمّق هذا العلم الشريف ولا يستطيع تقديم الإسلام كمشروع حضاري قادر على قيادة الحياة بكل شؤونها وتفاصيلها ومواجهة المشاريع والنظم الأرضية، ما لم ينضم إليه الإبداع والأصالة، لذا سمعتُه (قد سره) يعرّف الاجتهاد (بالنابعية) أي القدرة الذاتية على التأصيل والتقنين، وليس الالتقاطية من آراء الأساطين وأفكارهم وانتقاء ما يطمئن إليه.

روى أحد المراجع المعاصرين (قدس سره) عن المحقق النائيني (قدس سره) أنّه سأل تلامذته يوماً عن الذي يحفظ كيان الحوزة العلمية، فأجابوا بأنّه الاجتهاد لكنه (قدس سره) صحّح لهم وأجاب بأنّه التحقيق، وتعرف من لحن كلامه (قدس سره) أنّه لم يكن يخاف من خلّو الساحة من المجتهدين، ولكنه يخشى عدم وجود محققين مبدعين فيهم، لأنّه (قدس سره) يدرك أكثر من غيره ان الذي يديم الحركة العلمية ويعمّقها هو التحقيق والإبداع والنابعية على تعبير السيد الصدر (قدس سره).

وهذا المعنى تبنّاه من قَبلُ السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فيُنقل عن أحد تلامذته المبرّزين أنّه استجازه في الاجتهاد فوعده بأنّه سيحصل على الملكة بعد خمس سنوات من حضور البحث، وبعد انقضائها طلب السيد التلميذ تلك الشهادة، فقال (قدس سره) له إن هذه المدة كانت بلحاظ ملكة الاجتهاد على المستوى المتعارف، أمّا الاجتهاد بمستوى مدرسة الشهيد نفسه فإنّه يحتاج إلى مدة عشرين عاماً.

3 - الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم والانخراط في العمل الاجتماعي ونشر الوعي الإسلامي، ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب والسير في مدارج الكمال،

ص: 370

أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الكهف 104.

وقد أولى (قدس سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

ومن كلماته (قدس سره) في هذا المجال (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن

ص: 371

أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية.)(1)

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى النقص في التربية (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو ان التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب: أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط!!

(ولذا صدر من سيدنا الأستاذ - يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره) -: أننا استطعنا ان نربي الآخرين إلى نصف الطريق ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج).

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى (وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (محمد/ 38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).(2)2.

ص: 372


1- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشرته في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه) ص 297.
2- الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه: 302.

هذه أمثلة وشواهد على قيام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بهذا الجزء من المسؤولية الملقاة على المراجع القادة.

ولقد سرنا على هذا النهج إذ أن الحاجة إلى هذا التصحيح أوسع اليوم وأخطر وأعقد حيث تحوّل الاختلاف في المفاهيم والمعاني إلى خلاف وتطور الخلاف إلى صراع وقتال يدفع ثمنه الأبرياء والشعب المستضعف المغلوب على أمره، فحرّرت في خطاباتي معاني لجملة من المصطلحات محل الخلاف والجدل كالطائفية والفدرالية والعلمانية والشراكة في الحكم وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وولاية الفقيه وغيرها مما هو مبثوث في المجلدات العديدة من كتاب (خطاب المرحلة).

أسأل الله تعالى أن ينوّر بصائرنا فيرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرفع درجة الشهيدين الصدرين وكل شهداء الإسلام وينعم على هذا الشعب بالسعادة والازدهار.

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 373

الشهيد الصدر الثاني (قده) وإعداد البديل

اشارة

الشهيد الصدر الثاني (قده) وإعداد البديل(1)

إن التعبيرعن المشاعر وردود الافعال إزاء مثل هذه المناسبات الحزينة المؤلمة مختلفة بحسب مستويات الناس، فأنتم الفضلاء والأساتذة وطلبة البحث الخارج يكون تعبيركم المناسب هو ما نفهمه من ذيل الحديث الشريف (إذا مات العالم ثُلم في الإسلام ثُلمة لا يسدّها شيء إلا عالمٌ مثله) بوجوب مضاعفة الجهد وبذل الوسع لتحصيل ملكة الاجتهاد حتى نسدَّ هذه الثُلمة.

وهذا ما يقتضيه منهج أهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين) فإنهم أرجعوا الأمة في زمان غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إلى المجتهد الجامع للشرائط ليقوم ببعض وظائف ومسؤوليات الإمام وهي تلك التي لا يستطيع القيام بها لأنها تتنافى مع المصلحة في غيبته أما وظائفه (سلام الله عليه) الأخرى فهو قائم بها وعلى رأسها لطف وجوده المبارك.

إن اللطف الإلهي اقتضى أن لا تخلوا الأرض من حُجة وإلا لساخت الأرض بأهلها كما ورد في الأحاديث الشريفة والمصداق الأكمل للحجة موجود (عجل الله تعالى فرجه) حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويقيم دولته المباركة، لكن الأمة بحاجة إلى نوع آخر من الحجة يكون نائباً للمعصوم (سلام الله عليه) ويقوم بتصريف الشؤون التي لا يستطيع مباشرتها بنفسه وبدونه تضّل الأمة عن الصراط المستقيم، لذا ورد في الدعاء (اللهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللهم عرّفني رسولك فإنك

ص: 374


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء الذين يحضرون بحثه الشريف في الفقه بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر (قده) في 3 / ذو القعدة / 1429 المصادف 2008/11/2.

إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني).

فمن مسؤولية الحوزة العلمية وخصوصاً المرجعية أن لا تُخلي الأرض من حجة بهذا المعنى الثاني بلطف الله تبارك وتعالى.

نعم هذا الوجوب كفائي وإذا تصدى أحد للمسؤولية فإنه يسقط عن الآخرين ويمكن أن يكتفي به غيره، لكن علينا الاستعداد المبكر لمثل هذا اليوم لأن شروط المرجعية لا تتوفر إلا بعد جهد وجهاد طويلين قد يستمران عقوداً ولا تُعذر الحوزة العلمية أمام الله تبارك وتعالى إذا قصّرت في إعداد البديل، لقد كان السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) منصفاً في الإشادة بكل نبوغ علمي واجتهاد ويرى من مسؤولياته الإشارة إليه، ويشجّع السائرين الذين يؤمَّل لهم الوصول، كنتُ أناقشه باستمرار بعد انتهاء محاضرات البحث الخارج في الأصول وفي أحد الدروس سنة 1417 هجرية عرض رأياً للسيد الشهيد الصدر الأول (قده) وناقشته (حيث كان يرّكز في بحثه على مناقشة آراء أستاذيه السيدين الصدر والخوئي (قدس الله سرهما) فقلت له بعد الدرس إن هذه المناقشة ليست تامة لكذا وكذا والصحيح أن يُردَّ على كلام الشهيد الصدر (قده) بكذا وكذا فنظر إلي مبتسماً وعليه علامات الفخر بتلميذه (إن هذه المناقشات تفرحني لأنها تقربك من الاجتهاد) هذا غير الكلمات التي نشرت بقلمه وبصورته (قدس الله نفسه).

وسأكون إن شاء الله تعالى منصفاً كأستاذي وكما أمر الله تبارك وتعالى فأشيد بكل نبوغ واجتهاد وأشير إليه تحملاً لهذه الأمانة لأن حبس الاعتراف باستحقاق الآخرين ظلم لهم والله لا يحب الظالمين فاغتنموا فرصة وجود المنصفين لأن العقود الأخيرة شهدت - بكل أسف - حبس هذا الحق لذا لم تصدر شهادة اجتهاد واحدة في الحوزة النجفية منذ أكثر من ثلاثين عاماً،

ص: 375

فهل هذا يعني إفلاس هذه الحوزة وعجزها عن أداء دورها فليعلنوا ذلك بشجاعة وموضوعية؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها، إذ أن الحوزة النجفية منجبة بفضل الله تبارك وتعالى وفيها عدد يُفتخر به من الطاقات الواعدة.

إن من المفارقات المؤلمة أن نجد أساتذة الجامعات من الأكاديميين لا يبخلون على طلابهم بالاعتراف بنيل الشهادات العليا بعد الإشراف عليهم ومناقشة رسائلهم فيمنحونهم ما يستحقون وبتقديرٍ عال ٍ رغم أن ذلك يعني منافسة هؤلاء الأساتذة الجدد لهم في مواقعهم التدريسية والوظيفية ولم يمنعهم ذلك من الشهادة بإنصاف لهم، مع أنهم في الغالب علمانيون، فهل هؤلاء أنبل وأكثر إنصافا من مما يجري في أروقة الحوزة العلمية؟ هذا إذا عقدنا المقارنة على هذا المستوى وإلا فبين أيدينا شواهد على قيام كبراء الحوزة العلمية بقتل الإبداع والنبوغ ووضع العراقيل في طريقه وتسقيط صاحبها وتطويق مسيرته فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن الأمل بالله تبارك وتعالى أن يرعى بلطفه هذه الحوزة المباركة ويقيّض لها في كل جيل أمناء على حلاله وحرامه حتى يسلّموا الراية لبقيته وحجته في أرضه المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء).

ص: 376

معايير التقليد في المدرسة الصدرية

معايير التقليد في المدرسة الصدرية(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى على خير خلقه وأحبهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد واله الطيبين الطاهرين..

تقليد المجتهد الجامع للشرائط منهج وسلوك عملي سنه الأئمة المعصومون (عليه السلام) لشيعتهم ليضبطوا حركتهم وفق الشريعة المقدسة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا له الفداء) ولينالوا رضا الله تبارك وتعالى. وهو لا يخرج عن الإطار الذي سار عليه العقلاء في حياتهم بأن يرجعوا في كل اختصاص إلى الخبير فيه والفقه واحد من تلك الاختصاصات.

وفد ذكر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية خصائص وصفات مرجع التقليد كالاجتهاد والعدالة والأعلمية ونحوها، لكن هذه الشروط تمثل الحد الأدنى مما يجب توفره لتحقيق براءة ذمم المكلفين ولذا فإن التواقين للكمال ولنشر راية الإسلام وإعلاء كلمة الله تبارك وإقامة دولة الحق والعدل في الأرض وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين وإنصاف مظلوميهم ومحتاجيهم، أقول إن مثل هؤلاء لا يكتفون بتوفر تلك الخصائص لأنها وحدها لا تكفي لتحقيق تلك الأهداف السامية، ولان المرجعية الدينية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ليست مقاما علميا فقط يكون مسؤولاً عن بيان الحكم الشرعي وطبع الرسالة العملية ونشرها. وإنما هي قيادة وارثة للائمة المعصومين (عليهم السلام) ووظيفة الإمامة لا تكتفي بإراءة طريق الحق والهدى للناس وإنما تأخذ بأيديهم وتوصلهم إلى الكمال، وفرق شاسع

ص: 377


1- تقرير اللقاء الذي أجرته قناة (العراقية) الفضائية مع سماحة الشيخ مساء الخميس 2 ذ. ق 1430 المصادف 2009/10/22 عشية الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) وقد عُمّم ليكون خطبة صلاة الجمعة الموحدة التي صادفت 3 ذ. ق 1430.

بين من يدل على الطريق وبين من يأخذ باليد ويوصل السائر إلى الغاية.

وانطلاقا من هذا النزوع نحو الكمال فإن من المؤمنين من يقلد المجتهد لأنه عارف بالطرق الموصلة إلى الله تبارك وطبيب لأمراض النفس ومعالج لقساوة القلوب، قد سحق أنانية نفسه وهواه واعرض عن الدنيا بكل زخارفها ومظاهرها.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه ثائر مصلح رافض للظلم والفساد، ساع إلى تغييرهما، جاد في إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما توفرت لديه من وسائل لا تأخذه في الله لومة لائم.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه رسالي يتحرك بمشروع الإسلام (دوّار بطبه) على وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ولا يقر له قرارا حتى يقيم دولة الحق والعدل أو يختار الله تبارك وتعالى له دار البقاء.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه مفكر مجاهد بقلمه وبيانه يدافع عن العقيدة والشريعة ويرد شبهات المضلّلين ويقوي قلوب المؤمنين من أيتام آل محمد (صلى الله عليه واله وسلم) كما وصفهم الحديث الشريف (ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حيي عن بينه).

وهذه التوجهات ليست عاطفية أو انفعالية تابعة للأهواء بل هي تستند إلى أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) الكثيرة. والتي لم يتم إبرازها بوضوح في المدرسة التقليدية لسبب أو لآخر.

فمما ورد في وظيفة الفقيه الأخلاقية قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ألا أخبركم بالفقيه حقا؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله...)(1) إلى آخر الحديث.3.

ص: 378


1- كتاب ثلاثة يشكون: 73.

وفي الوظيفة الأخرى ورد قول الإمام الحسين (عليه السلام) وهو متوجه إلى كربلاء الشهادة عندما اعترضته طلائع الجيش الأموي في الطريق فخطب فيهم وقال: أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله وأنا أحق من غيري.(1)

وإذا كانت واحدة من هذه الصفات تقتضي التفاف الناس حول المرجع القائد فإننا وجدناها مجتمعه في أستاذنا الشهيد السيد محمد الصدر (قدس الله روحه الزكية)، وليس عسيراً على الباحث المنصف أن يجد الشواهد الكثيرة على ذلك في أقواله وسيرته المباركة.

وإذا كان الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس الله روحه الزكية) هو من أسس لهذه المعايير في عصرنا الحاضر وأرسى قواعد المدرسة الصدرية المباركة فإن الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هو من تقدم بالمسيرة إلى الأمام حينما لم يكتف بالعموميات والأطر العامة، وإنما وضع النقاط على الحروف وكشف الغبار عن هذه الحقائق وميز هذه المدرسة وأعطاها اسم (الحوزة الناطقة) وأرجع أصولها إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فوصفهم جميعا بأنهم من الحوزة الناطقة، ثم لم يكتف بذلك حتى لبس الكفن ونزل إلى الميدان ليخوض المواجهة مع الباطل وليقاوم الظلم والفساد والانحراف.

لقد كان (قدس سره) يؤكد على أتباعه للبحث عن صفتين في المرجع1.

ص: 379


1- المجلد السابق من هذا الكتاب، خطاب 176 صفحة 211.

القائد ويدعو إلى تحقيقهما بدرجة من الدرجات ويعتبرهما خلاصة وصايا الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء الصالحين وهما طيبة القلب وقوة القلب. وإنهما لتستحقان هذا الاهتمام والتركيز لأنهما مبعث حصول خصال الخير والكمال ومنهما تترشح.

فطيبة القلب تبعث على الرحمة وحب الآخرين والتسامي عن الحقد والغل والأنانية والحرص وغيرها وتدعوا إلى بذل الوسع في قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم، ووصاياه (قدس سره) في تحصيل هذه الصفة كثيرة من خلال خطاب الجمعة ولقاءاته الأخرى وورد في رسالته الكريمة الموجهّة إلي قبل استشهاده بعام ونصف تقريبا وجاء فيها (أنت تعلم إنني كنت ولا زلت أعتبرك أفضل طلابي وأطيبهم قلبا وأكثرهم إنصافا للحق بحيث لو دار الأمر في يوم من الأيام المستقبلية بين عدة مرشحين للمرجعية ما عَدوتك لكي تبقى المرجعية في أيدي منصفين وقاضين لحوائج الآخرين لا بأيدي أناس قساة طالبين للدنيا)(1).

وقوة القلب مبعث الشجاعة والإقدام والحزم وقوة الإرادة والغضب لله تبارك وتعالى ورفض الظلم والباطل والانحراف ونحوها من الصفات، وكان (قدس سره) يصرح بان لدي من قوة القلب ما يكفي لاتخاذ القرارات التي يعجز الآخرون عن اتخاذها ولكشف الحقائق التي يداهن الآخرون في إخفائها. وفي إحدى خطبه المباركة في مسجد الكوفة قال ما مضمونه أن الاستقامة على جادة الشريعة صعبة للغاية لكنها في نفس الوقت سهلة للغاية لأن حقيقتها قوة الإرادة والعزم الصادق.

وهاتان الملكتان (طيبة القلب وقوة القلب) هما قوام القلب السليم الذي ينجو من أتى الله به يوم القيامة [إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء: 89).ن.

ص: 380


1- طبعت الصفحة الأولى من الرسالة فى بداية كتاب قناديل العارفين.

إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حينما بيّن هذه الحقائق كان ينطلق في مسؤوليته في بيان معالم المدرسة الصدرية التي وضع أسسها الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وشاد أركانها الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والتي تجسّد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في العصر الحاضر، وقد قدّم (قدس سره) لنا بذلك فهما للحديث المشهور (إن الإمام المهدي عليه السلام سيأتي بدين جديد وقرآن جديد) مع انه عليه السلام سوف لا يأتي بغير دين وقرآن جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه عليه السلام سيزيل الغبار المتراكم عن حقائق هذا الدين المودعة في القرآن الكريم وآثار المعصومين وسيقدم الفهم الصحيح لها بعد أن يعود الإسلام غريبا والقرآن مهجورا في أوساط عدد هائل من المتسمّين باسمه فيتراءى لهم وكأنه عليه السلام جاء بدين وقرآن جديدين.

فالسيد الشهيد الصدر (قدس سره) لم يبتدع هذه المعايير ولم يضفها من عنده وإنما أعاد الحياة إليها ولفت الأنظار إليها بعد طول الهجران.

وانطلاقا من مسؤولياته هذه فقد كان (قدس سره) يحذر من الرجوع إلى الأنانيين وطلاب الدنيا المتلفعين بعباءة القداسة المصطنعة ليحتجبوا بها عن عامة الناس، لأنهم لا ينظرون إلى هؤلاء الناس إلا كهمج رعاع يقبّلون أيديهم ويدفعون إليهم أموالهم التي تضيع في فيافي بني سعد كما قال (قدس سره) في بعض حواراته المسجلة. وليس لهم هم إلا مداراة مصالح الخاصة من ذوي النفوذ والمال والجاه الذين يسميهم القرآن الكريم (الملأ) والذين كانوا يقفون دوما ضد الحركات الرسالية الإصلاحية وعلى رأسها رسالة الإسلام المباركة ولا يريدون للأمة أن تكون واعية بصيرة بالأمور لان ذلك يعني رفضها للتخلف والجهل والتكبر والاستئثار والامتيازات غير المنصفة للمستبدين.

ص: 381

فعمل (قدس سره) بشكل لا يعرف المداهنة والمجاملة على فضح هذه العلاقة غير الشريفة التي يحصل من خلالها الملأ على مصالحهم وإدامة نفوذهم وشرعية استئثارهم مقابل صنع الهالة المقدسة الزائفة لأصنامهم البشرية مخالفين بذلك وصايا أئمتنا سلام الله عليهم في بذل الوسع لخدمة عامة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن سخط المترفون والمستأثرون ومنها ما ورد في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فإن سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)(1) ومن ضمن تحذيراته قوله (قدس سره): (لقد حررتكم من مخططات ألف عام فلا يستعبدكم احد بعدي).

لقد وعى (قدس سره) ببصيرته النافذة أن هذا الزمان هو كزمان جده الإمام الصادق (عليه السلام) الذي تشكلت فيه المدارس والمذاهب والملل والنحل فانبرى الإمام (عليه السلام) لبيان معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وصفات شيعتهم لئلا تختلط الأوراق ويضيع أهل الحق ولا تميّز هويتهم وخصائصهم ويدعّي الانتساب إليها من هي بريئة منه. وبسبب هذا الجهد المبارك منه عليه السلام سمي المذهب باسمه.

وهكذا سميت الحوزة الناطقة في عصرنا الحاضر باسم الصدرين3.

ص: 382


1- نهج البلاغة / قسمالرسائل: رقم 53.

الشهيدين (قدس الله سريهما) فقيل المدرسة الصدرية لما قدمّاه من جهد وجهاد توجّاه بالشهادة من اجل إرساء دعائم هذه المدرسة المباركة.

إن من حق الذين وعوا مبادئ السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وعرفوه حق معرفته واتبعوه عن بصيرة والتزموا بوصاياه في حياته وبعد استشهاده (قدس سره) أن يفرحوا بفضل الله تبارك وتعالى وبرحمته [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ] (يونس: 58) وأن يرفعوا رؤوسهم ويطاولوا بها السحاب لأنهم نهلوا من المعين العذب والمنبع الصافي فليشكروا الله تبارك وتعالى وليثبتوا على ما هداهم إليه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

محمد اليعقوبي

3 / ذو العقدة / 1430 ه -

ص: 383

الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل

الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل(1)

مما يتميز به القائد عن غيره استشراف المستقبل ومعرفة متطلباته فيستعد له وينجز الأعمال المناسبة له إضافة إلى ما يقتضيه الواقع الحاضر، ولأن هذا المستقبل مجهول عند غيره فإن من حوله سيعترض ويشكك ويتمرد وكان عليه الإذعان والطاعة لقائده مادام قد وثق به واعتقد بجدارته.

خذ لذلك مثلاً الإمام الحسين (عليه السلام) فإنه كُشف له وعَلِم النتائج الباهرة التي ستتحقق بناءاً على حركته المباركة المضمّخة بالدماء الزكية فأقدم (عليه السلام) مسروراً على الشهادة، ولم يكتف بذلك بل كشف عن بصائر أصحابه بعد أن امتحن إخلاصهم وثباتهم فأراهم منازلهم في الجنة التي تعني على بعض الوجوه الآثار المباركة المترتبة على نصرتهم وثباتهم وتضحيتهم يوم عاشوراء والمستمرة إلى يوم القيامة وهي حسنات تضاف إلى رصيدهم والجنة هي تلك الأعمال الصالحة التي يوفق إليها المؤمن.

ولأن هذه الصورة غيرواضحة لغير الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه فقد اعترض عليه كثيرون ومنهم بعض أولاد عمومته ورأوا أن حركته لا جدوى منها إذ ليس من المعقول أن يغيّر نظاماً طاغوتياً تمتد سلطته على بلاد مترامية الأطراف بعشرات من الأصحاب ومثلهم من النساء والأطفال، واعتراضهم هذا ناشئ من اقتصار نظرهم على واقعهم الحاضر من دون استشراف المستقبل ومتطلباته.

وإذا أردنا أن نتقدم خطوة إلى الإمام في هذا التفكير فنقول أن القائد هو الذي يصنع المستقبل ويحدّد مسار الأحداث ومآل الأمور بلطف الله

ص: 384


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من المواكب والوفود القادمة لزيارته وتعزيته يوم السبت 4 /ذ. ق/ 1430 المصادف 2009/10/24.

تبارك وتعالى من خلال المشروع والبرنامج الذي يسير عليه، وهنا أتذكر أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) سألني في اليومين الأولين من الانتفاضة الشعبانية عام 1991 عن موقف المرجعية المعروفة يومئذٍ من الأحداث فقلت يسوده الترقب وانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، قال (قدس سره): حبيبي ومن الذي يصنع الأحداث؟!

من هذه المقدمة أريد أن أركّز على نقطة وردت في الخطاب الذي وجّهته إلى صلوات الجمعة الموحدة في أنحاء العراق أمس في ذكرى استشهاد السيد الصدر (قده) وفحواها أن الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) أدركا ببصيرتهما الثاقبة أن هذا العصر وما يليه هو كزمان الإمام الصادق (عليه السلام) من حيث تشكّل المذاهب والمدارس والأيديولوجيات التي ستتصارع لاجتذاب البشرية وإقناعها بها والتأثير عليها وتوجيهها، والإسلام المحمدي الأصيل الذي نقله لنا أهل البيت (سلام الله عليهم) في وسط هذا التحدي بل هو المستهدف الأول، ولم يعُد كافياً أن نحيلهم إلى الرسالة العملية إذا سألوناعن مختلف قضايا الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحكم والعلاقات الإنسانية والأخلاق وغيرها وسينفضّ الناس عن هذا الدين الحق إذا شعروا بالعجز عن إجابة الأسئلة وحل الإشكالات، فشعرا بالحاجة إلى بيان المعالم التفصيلية لهذا الدين ومواقفه من كل شؤون الحياة حيث عنون الشهيد الصدر الأول (قده) عنوان أحد كتبه (الإسلام يقود الحياة).

كما أن مذهب التشيع لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (سلام الله عليهم) كان معروفاً منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت علامته الولاء لعلي وأهل بيت النبي (صلوات الله عليهم أجمعين) والأخذ عنهم لكن هذا البيان والطرح لم يكن كافياً في عهد الإمام

ص: 385

الصادق (عليه السلام) حيث بدأت الحضارات والأيديولوجيات تتلاقح وتتصارع فتصدى الإمام (عليه السلام) إلى بيان حكم كل حالة والموقف من كل قضية وعلى رأسها التوحيد والإمامة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية وأحكام الحلال والحرام فكانت عصا موسى التي تلقف ما يأفكون.

وهكذا رأى الشهيدان الصدران (قدس الله روحيهما) أن المدارس تتصارع وقد ألقى أتباع كل مدرسة عصاهم التي يخيّل إليهم من سحرهم أنها تسعى ليسحروا الناس ويجتذبوهم فلابد لقادة الإسلام أن يلقوا بعصاهم التي تلقف ذلك السحر وتفضحه وتبين معالم الحق وأهله.

وهذا الاستشراف هو الذي دفع السيد الشهيد الصر الثاني (قده) إلى أن يبيّن مجموعة من الحقائق ويضع خصائص منهج الحوزة الناطقة مما جهله الآخرون فنصبوا له العداوة والبغضاء وافتروا عليه وخذلوه.

وهو (قده) حينما قال: (لقد حرّرتكم من مخططات ألف عام) لا يريد بذلك الإساءة إلى السلف الصالح الذين بذلوا جهوداً جبارة في حفظ علوم أهل البيت (سلام الله عليهم) بمقدار ما سمحت به الظروف، ولكنه (قده) أراد أنه وضع للأمة منهجاً جديداً مواكباً لتحديات العصر فيه إضافة للمنهج السابق الذي لا يغني الاقتصار عليه لتحقيق هذه المواكبة فلا يرجعوا إليه.

ص: 386

من تاريخ الحركة الإسلامية والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) 1990-1985

من تاريخ الحركة الإسلامية والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) 1990-1985(1)

س 1: متى كان لقاؤكم المباشر لأول مرة مع السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وكيف؟

ج: بسم الله الرحمن الرحيم: كان ذلك في سنة 1987 حيث بدأ السيد الشهيد الصدر بالخروج عن عزلته الاجتماعية وأخذ يحضر بعض المناسبات الدينية كالمجالس الحسينية التي تقام في بعض البيوتات وكنت أراه لكنني لم أتحدث معه حتى استأذنته في بعض رسائلي إليه، فأجاب بالإيجاب ولكنه طلب مني صورة شخصية ليتعرّف علي إذا سلمتُ عليه لأنه كان يتوقع كل شيء فيحتمل أن رسائله وقعت بيد جلاوزة النظام وأن أحدهم تقمص شخصيّتي وجاء للإيقاع به، وقد أرسلت صورة حديثة إليه ومع ذلك طلب مني أن أعرّف نفسي حين ألقاه، وقد أرسل (قدس سره) صورته إليّ على العرف الجاري بين المتحابين في تهادي الصور التذكارية.

وبعد ذلك كنت ألتقيه في تلك المجالس وأخصّه بالسلام والحديث المقتضب دون غيره من العلماء الذين يجتمعون في مكان مخصص لجلوسهم رغم إن لي علاقات خاصة مع عددٍ منهم ومثل هذا التصرف غير مألوف لكنني لم أكن استطع تمالك نفسي دون أن أسلّم عليه.

ثم بدأت بزيارته (قدس سره) في داره واللقاء به، كما بدأ بإقامة مجالس العزاء في ذكرى وفاة المعصومين (عليهم السلام) وكان بيته في الحنانة يزدحم بالحضور وأغلبهم من المصلين في جامعة النجف الدينية حيث كان والده (قدس سره) يقيم صلاة الجماعة فيها وتزوّج اثنان من أولاد

ص: 387


1- حوارية أجريت مع سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 4 /محرم/ 1431 الموافق 2009/12/21 لتغطية أحداث هذه الفترة وتتميم كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) لسماحة الشيخ اليعقوبي.

عميدها السيد محمد الكلانتر (قدس سره) من بنتي السيد الشهيد الصدر (قدس سره).

وكنت أرافقه في بعض المناسبات وندعوه في بعض مناسباتنا الاجتماعية كعقد قران بعض الأقرباء كما زارني في داري وفي محل الكسب الذي اتخذته لاحقاً، وصحبناه مرة أنا وأخي المرحوم الشيخ علي بسيارته إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في ليلة الجمعة، وكان يذهب - كما قال في إحدى رسائله - في السنة مرة أو مرتين وكنت أستشيره حتى في أموري الشخصية والاجتماعية كقضية تزويجي وأن تكون علوية، فأيد مطلبي هذا وقال: الأفضل أن تكون علوية من جهة الأبوين وهو ما قسمه الله تبارك وتعالى، وأبدى لي استعداده في دعمي - على حسب تعبيره - عند الخطبة من أي أسرة أرغب فيها.

س 2: هل يعني هذا أن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) هو الذي عقد قرانكم؟

ج: لم يتيسر لي ذلك، والأصح إنني لم اطلب منه (قدس سره) ذلك، لأن عقد قراني كان في بغداد ولم أشأ مزاحمته (قدس سره) وكنت أتوقع أن السفر إلى بغداد محرج له، وكانت لنا علاقة وطيدة بعدد من العلماء، وقد أجرى العقد المرحوم آية الله السيد محيي الدين الغريفي (قدس سره).

س 3: ما الذي حدث عام 1987 وصار السيد الشهيد (قدس سره) يأخذ حريته في الحركة والمشاركة في المناسبات الدينية و الاجتماعية ولو بشكل محدود بعد أن كان منعزلاً تماماً بحيث قال في احد لقاءاته المسجلة أبان مرجعيته، انه لا يسلم على أحد ولا يسلّم عليه أحدفي تلك المرحلة.

ج: التغيرات الاجتماعية لا تحصل دفعه وإنما بالتدرج، لذا لا يمكن تحديد تاريخ معين للتغير في الظروف المحيطة بنا يومئذ والتي أوحت إلى

ص: 388

السيد (قدس سره) بإمكان أخذ حريته النسبية، والعام المذكور كان تاريخاً للحديث عن لقائنا المباشر.

وهذه التغيرات تحتاج إلى عناية خاصة من الباحثين و المفكرين لدراستها وتحليلها ومعرفة عوامل حصولها لأنها فترة مهمة من تاريخ الحركة الإسلامية خاصة والعراق المعاصر عامة وقد أسست لانطلاقة جديدة لها بعد أن خمدت مطلع الثمانينات وأضرمت بانطلاقتها هذه انتفاضة عام 1991 وكسرت شوكة نظام صدام حتى إسقاطه عام 2003 وأعطاها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) زخماً كبيراً عندما تصدى للمرجعية بعد الانتفاضة حتى توّجها باستشهاده عام 1999.

ولا زالت هذه الفترة مجهولة بل يتعمد الكتّاب تجاهلها لأن أكثرهم كان خارج العراق في حينها ويدّعي زعامة المعارضة العراقية، فإبراز تاريخ الحركة الإسلامية داخل العراق في تلك الفترة يفضحهم ويظهر زيف معارضتهم المزعومة. على أي حال استطيع القول أن المعارك الكبيرة التي شهدتها الحرب بين نظام صدام وإيران خلال سنوات 1982-1985 كبدّت العراقيين خسائر جسيمة بالأرواح وعمّت المصائب أغلب البيوت تقريباً وقد وقعت الخسائر في الشيعة الذين جعلهم صدام المقبور وقوداً للحرب، لذا كان رد الفعل الطبيعي هو التوجه إلى الله تعالى والتوسّل بأهل البيت (عليهم السلام) وقصد مراقدهم المقدسة وإحياء الشعائر الدينية ولأكثر من سبب(1) فإن تحولاً نوعياً بدرجة ما قد حصل في كيفية تعاطي النظام مع نمو الظاهرةاب

ص: 389


1- منها شعور النظام بعدم وجود تهديد جدي في الداخل بعد القضاء على رموز المعارضة، أما المعارضة في الخارج فقد كان يسخر منها ومن عملياتها التي لا تملك أي قيمة في تهديده ولا تعدو إثبات الوجود ولضمان استمرار الدعم من الدول المساندة لتلك المعارضة، كما أن الحرب مع إيران لم تعد تهدد وجود نظامه وشعر بتوازن القوى بعد استخدامه للأسلحة الكيمياوية في عمليات هور الحويزة في شباط 1984 وغيرها من الأسباب

الدينية (وأسميها بهذا الإسم تمييزاً عن الحركة الإسلامية التي تعني بروز النخبة وقصدها للعمل الذي يكون نخبوياً عادة أما الظاهرة الدينية فهي حالة شعبية عامة).

وأقصد بالتحول النوعي غضّ النظر عن جملة من الممارسات التي كان يعتبرها جريمة يعاقب عليها القانون كالتدين خصوصاً عند الشباب وارتياد المساجد وحضور صلوات الجماعة والشعائر الدينية وزيارة العتبات المقدسة ووجود الكتاب الديني التقليدي ونحوها التي كانت توجد مادة في قانون العقوبات تقضي بالسجن سبع سنوات على هذه الأمور بتهمة الطائفية.

فصرنا بعد عام 1985 نشهد المجالس الحسينية الضخمة في المساجد والبيوت مما لم يكن مألوفاً من قبل وكان للسادة آل بحر العلوم (الذين قضى كثيرٌ منهم في السجن بعد الانتفاضة الشعبانية) دور بارز في إحياء تلك المجالس على طيلة شهري محرم وصفر وفي وفيات المعصومين (سلام الله عليهم) وأخصّ بالذكر الأعلام الأجلاء السيد علاء الدين والسيد عز الدين والسيد جعفر والسيد حسن الذين اعتقلهم النظام في الانتفاضة مع أولادهم وإخوانهم ومضوا شهداء على طريق ذات الشوكة.

ولشعور النظام بالثقة بنفسه فقد اصدر في مايس/ 1986 عفواً عاماً عن السجناء وأكثرهم من الشباب المتدينين، ونقل أخي المرحوم الشيخ علي الذي كان أحدهم أن عدد المفرج عنهم بلغ ثلاثين ألفاً، وكان على هؤلاء الالتحاق بالجيش الصدامي الذي دُعي للخدمة فيه كل من تقع أعمارهم بين 18-40 سنة، أما غيرهم فيجنّدون في ما يسمى بالجيش الشعبي.

وكنت التقي بمجاميع من هؤلاء الشباب المتدينين في كربلاء عند زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة الجمعة ولما لم يستطع بعضهم التعايش مع النظام فقد غادر قسم منهم العراق بشكل أو بآخر وشكل عدد

ص: 390

آخر مجاميع مسلحة لمواجهة النظام، وكانت المجموعة(1) التي ترأسها المرحوم الشهيد حسين علوان اليعقوبي في النجف الأشرف من أشدها تهديداً للنظام وقامت بتصفية عدد من رموزه وازداد قلقه من عدم العثور على خيط يوصلهم إلى رجالها، حتى تمكنوا من ذلك واعتقلوا الشهيد المذكور وعذّبوه بأقسى وأشرس ألوان التعذيب الوحشي وحبسوا عائلته في البيت(2) واتخذوه مقراً لجلاوزة الأمن الصدامي للقبض على كل من يطرق الباب ومكثوا فيه أسابيع اعتقل فيها عدد من الأصدقاء والأقرباء بينهم عدد من النساء.

وإنصافا نذكر هنا أن المرحوم آية الله السيد حسين بحر العلوم (قدس سره) كان يدعم هذا العمل مادياً ومعنوياً، كما كان للمرحوم الشهيد الخطيب الشيخ عبد الأمير أبو الطابوق الدور البارز في رفع مستوى الوعي والهمة والحماس في نفوس المؤمنين بما يلقيه من محاضرات رسالية تعبوية لم تكن معتادة خصوصاً في مثل تلك المجالس العلنية العامة كالمجلس الذي كان يقام في جامع الطوسي في العشرة الأولى من محرم الحرام ويمتلئ الحرم والساحة ويُفرش الشارع الخارجي (شارع الطوسي) ويتقطع مرور السيارات لامتلاء المكان بالناس، وقد دسّ إليه جلاوزة الأمن سماً قاتلاً آنذاك لكنه لم يمت ببركة دعاء المؤمنين وإنما شُلّت أعضاؤه وسقط شعر رأسه ثم قبض عليه في الانتفاضة ومضى شهيداً.ً.

ص: 391


1- كانت للمجموعة عدة نشاطات غير العمل المسلح كمساعدة المحتاجين خصوصاً عوائل الشهداء والسجناء وتزويج الشباب المؤمنين ومساعدة المتخلفين عن الخدمة العسكرية والمجاهدين بإخفائهم وتنظيم الوثائق الثبوتية التي تتيح لهم الحركة، وقد استفدت أنا شخصياً من هذا العمل الأخير.
2- وهو دار أسرة آل اليعقوبي التاريخي في مدخل المدينة القديمة وتتوارثه الأسرة منذ أكثر من (160) عاماً.

على أي حال لقد استطردت إلى ذكر هذه الأجواء للأمانة التاريخية ولحثّ الكتّاب والمفكرين على تغطية هذه الفترة المهمة، ومحل الشاهد منها إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) أدرك أن جملة من النشاطات يمكن أن يقوم بها ولم تعُد محظورة من قبل النظام فبدأ بالظهور الاجتماعي، ثم عاود التدريس في جامعة النجف الدينية وكان يرغب بتدريس البحث الخارج إلا أن خلو الجامعة - بحسب نظامها الداخلي - من هذا المستوى من البحث دفع السيد الشهيد (قدس سره) إلى القبول بتدريس عدد من الطلبة - كان عددهم ثلاثة - كتاب الكفاية في الأصول على أمل أن يبدأ معهم بحث الخارج عند إكماله. لكن الفرصة سنحت له لافتتاح البحث في أروقة الحوزة إلى جوار أمير المؤمنين (عليه السلام).

س 4: تتمة للاستطراد السابق هل أثّر هذا النمو للظاهرة الدينية على وضع الحوزة العلمية في النجف الأشرف؟

ج: نعم أثر إيجاباً فقد بدأ عدد من العراقيين بالالتحاق بالحوزة العلمية بعد أن انتهى وجودهم تقريباً وتفرّقوا بين إعدام واعتقال وتهجير ومن بقي سيق إلى الخدمة العسكرية أو توارى عن الناس، كما أن توقف الحرب مع إيران عام 1988 فتح الباب لمجيء طلبة العلم من الخليج وغيرها، وعاد إلى التدريس من كان منكفئاً عنه كالسيد الشهيد الصدر (قدس سره)، فكان نمو الحراك العلمي في الحوزة واضحاً، كما تحسّن الوضع المالي بتوافد الزوار من دول العالم وكنت أتردد على مقر إقامة السيد الخوئي (قدس سره) في الكوفة وأرى هذه الوفود، وكذا في بيوت كبار العلماء كالسادة آل بحر العلوم والسيد محيي الدين الغريفي وغيرهم، لكن غزو صدام للكويت قضى على كل هذا التحسن وأعاد عقارب الزمن إلى الوراء.

ص: 392

س 5: ورد في بعض رسائله (قدس سره) معكم المنشورة انه طلب مساعدتكم في تأليف كتابه القيم (ما وراء الفقه) فما وجه هذه المساعدة وما حدودها؟.

ج: ذكر (قدس سره) في بعض رسائله بتواضعه المعروف انه يستفيد من رسائلي وذكر عدة فوائد، منها: أنها تفتح ذهنه على أفكار جديدة، وعنوان كتابه (ما وراء الفقه) جاء بعد ما بعثت له بمشروع للكتابة في (ما وراء النص) أي النص الفقهي، وأصل البحث وتعليقاته (قدس سره) منشورة في كتابي (الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه).

ولما كان الكتاب يتناول المسائل الفقهية من جهة ارتباطها بالعلوم الأخرى ومنها العلوم العصرية، ويعرف السيد الشهيد (قدس سره) أنّ لي حصيلة مفيدة في هذا المجال فطلب مني مساعدته في توفير مثل هذه المعلومات وتدقيق ما يأخذه من المصادر، ومراجعة ما يكتب، ويوجد طلبه في تلك الرسائل.

فكان (قدس سره) يبعث بدفاتر المسودات التي وصلت إلى حوالي (28) كل منها فئة (200) ورقة حيث كان يكتب بصفحة واحدة هي اليسرى ويترك اليمنى المقابلة للإضافات والهوامش والتعليقات وقد اتبعته في ذلك في كتاباتي اللاحقة.

وكنت أؤشر بتعليقاتي على تلك المسودات وكانت التعليقات على كتاب الميراث غزيرة تعجب (قدس سره) من كثرتها وقد بقي بعضٌ منها ذكرته في كتاب (الرياضيات للفقيه).

وقد استفدت من مراجعة مسودات الكتاب كثيراً لأنها كانت أول قراءة منظمة لكتاب فقهي من أول الفقه إلى آخره حيث كنت لا أزال اعتمد على مطالعاتي الشخصية ولم انضمّ إلى كيان الحوزة العلمية.

ص: 393

كما تولّد لي خلال المراجعة شعور بحاجة الحوزة العلمية إلى كتاب يقدّم لهم ما يحتاجون من علم الرياضيات في المسائل الفقهية ويراعى فيه الوضوح في إيصال المعلومة، فألّفتُ (الرياضيات والفقه) حيث نال رضاه (قدس سره) ورغب بطبعه في الجزء الثامن وإلحاقه بكتاب الميراث وأضفت له فقرة (التباديل والتراكيب) جواباً على طلبه (قدس سره) بأنه هل يمكن وضع قانون أو قاعدة لاستقصاء مسائل الميراث بدل الطريقة المتبعة لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بافتراض مسائل لا حدود لها وحلها، وقد كتبت أكثره في أوقات الفراغ في محل الكسب.

وبعد التحاقي بالدراسات الحوزوية عمّقت الكتاب وأضفت له موارد جديدة فكان كتاب (الرياضيات للفقيه) ولله الفضل والحمد أولاً وآخراً.

س 6: ما وقع قرار إيقاف الحرب بين العراق وإيران على السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وعليكم؟

ج: كان السيد الشهيد (قدس سره) من المعارضين لاستمرار الحرب وكان يتمنى على القادة الإيرانيين لو قبلوا بقرار مجلس الأمن لإيقافها منذ عام 1982 بعد أن حرّروا جميع أراضيهم في أواخر مايس من تلك السنة وقد أشرتُ إلى هذا في كتاب (السيد الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه) لأنه كان يرى استمرار الحرب استنزافاً لطاقات البلدين المادية والبشرية وكانت الخسائر تقع في الشيعة الذي كان يرميهم صدام المقبور في الجبهات الأمامية، وكان (قدس سره) يدرك المؤامرة الدولية التي تريد إنهاء الشيعة في البلدين وثرواتهم، وكتب في هذا المجال بحثاً بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم المعاصر) وبعثه إليّ للاطلاع والتعليق عليه، وقد ذكرتُ ذلك في الكتاب المذكور وهو مطبوع.

ص: 394

وكان الخلاف موجوداً بين القادة الإيرانيين أنفسهم حيث كان يرى البعض عدم وجود مبرر لدخول الأراضي العراقية (الذي بدأ في عمليات شرق البصرة في تموز/ 1982 الذي صادف شهر رمضان المبارك) فيما كان يرى البعض الآخر ضرورة ملاحقة صدام في عقر داره وإنزال العقوبة به وإزاحته، وقد نجح الفريق الثاني في إقناع السيد الخميني (قدس سره) الذي كان صاحب القرار النهائي واستمرت الحرب حتى قبِل السيد الخميني (قدس سره) بقرار مجلس الأمن (598) ببيانه التاريخي الذي أصدره في 1988/7/20 الموافق السادس من ذي الحجة بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط المئات من الحجاج الإيرانيين شهداء وجرحى أثناء قيامهم لمسيرة البراءة في مكة المكرمة.

أما بالنسبة لي فقد شُغلتُ بنفسي و تخلّيت في حينها عن أغلب اهتماماتي ومنها مجريات الحرب فلم أتابع ما حصل من العمليات عام 1988، ولم اسمع بقرار وقف الحرب إلا من بعض أقربائي الذين قصدوني للتهنئة بانتهائها والسلامة وكنتُ قد انتقلت بسكني إلى النجف الأشرف منذ أوائل عام 1988. وسمعت خطاب السيد الخميني (قدس سره) المتضمن لقبول قرار مجلس الأمن من التلفزيون العراقي.

ص: 395

الفقهاء ونيابة المعصومين (عليهم السلام)

الفقهاء ونيابة المعصومين (عليهم السلام)(1)

مرّت علينا قبل أيام ذكرى استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث استذكرنا فيها دوره الواسع في حياة الإنسانية جميعاً مما زخرت به الكتب الكثيرة، وبهذه المناسبة أودّ بيان معنى مرتكز في أذهان المتشرعة وتتداوله كتب العلماء والمفكرين وهو أن المجتهد العادل: نائب عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ويستمد شرعيته ووجوب طاعته من هذه النيابة العامة عن المعصومين (سلام الله عليهم).

وهذا المعنى يحتاج إلى توضيح وربما لشيء من التصحيح إذ لا يمكن إطلاق لقب نائب الإمام على كل مجتهد عادل حتى لو كان مرجعاً تتوفر فيه الشروط الأخرى المذكورة في الرسالة العملية، ما لم ينهض بأعباء ومسؤوليات الإمام الواسعة بحسب استعداداته وقابلياته الناشئة من الفوارق الذاتية بين المعصوم وغيره؛ لأن ذلك مقتضى معنى النيابة، وهذا واضح في سائر المواقع كالوظائف السياسية والإدارية فإن النائب يقوم بواجبات المنوب عنه في غيابه، أما إذا كان يتمتع بالامتيازات أكثر مما يقوم به من الواجبات فهذا مصداق للمطففين الذين وعدهم الله عز شأنه بالويل.

وقد بالغ البعض فأطلق لفظ (الإمام) على مرجع تقليده في ظل حمّى الألقاب الرنانة والتعصب لهذا المرجع أو ذاك من دون استحقاق لتلك الألقاب ويفتقر إطلاقها إلى المصداقية بحيث يبدو نشازاً.

أتذكر أن أحد الأساتذة الأكاديميين في الجامعات ألّف كراساً بعد انطلاق صلاة الجمعة المباركة على يد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

ص: 396


1- الخطبة الأولى لصلوات الجمعة الموحدة في مدن العراق يوم 29 شوال 1431، المصادف 2010/10/10 في الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره).

عنوانه: (الإمام والرئيس) يتحدث فيه عن مؤهلات القيادة للسيد الشهيد (قدس سره) وملامح مشروعه، وعرضه بواسطة أحد الفضلاء عليه (قدس سره) لتقييمه، وبمجرد وقوع نظره الشريف على لفظ) الإمام) في العنوان رفضه واعتبر ذلك من مختصات المعصوم (سلام الله عليه) مهما قيل فيه من مبررات.

إن الإمامة مرتبة أعلى من النبوة، وقد دلّت عليه الآية الشريفة: [وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً] (البقرة: 124) وقد كان ذلك بعد نبوته وبعد أن اتخذه الرحمن خليلاً، وهذا التقدم في الرتبة واضح من معنييهما فإن النبوة هي تحمّل العلم بالنبأ والمعرفة بالله تبارك وتعالى والتوحيد الخالص وممارسة تكليفه في إيصال ذلك إلى الناس على نطاق محدود كقومه أو مدينته، أما الرسالة والإمامة فهي تعني الانطلاق بعد ذلك إلى المخلوقين عامة لهدايتهم وعدم الاكتفاء بإراءة الطريق لهم على نطاق محدود وإنما الأخذ بأيدي الناس كل الناس والسير بهم في طريق الكمال لكي يبلغوه بحسب استحقاقهم.

فالمرجع الذي لا يتحرك بالمشروع الإلهي ولا ينزل إلى أرض الواقع ليقنع الناس به ويأخذ بأيديهم في طريق الهداية والصلاح والتكامل لا يصلح أن يكون نائباً للمعصوم حتى لو طبع رسالة عملية تاركاً الخيار للمكلفين إن شاءوا أخذوا بها أو لم يأخذوا وينتظر من يراجعه ولا يتحرك هو إليه بشكل من الأشكال. لأن غاية ما تؤديه هذه الأمور إراءة الطريق والعمل على نطاق محدود وهي وظيفة الأنبياء وطوبى لمن وصلها، لكن الإمام هو من لا يقتصر دوره على ذلك وإنما يأخذ بأيدي الناس ويوصلهم إلى الهدف كمن لا يكتفي بدلالة التائه الذي لا يعرف الطريق الذي يوصله إلى ضالته، وإنما يصطحب هذا التائه ويوصله إلى هدفه، وهذه هي وظيفة أصحاب الرسالات

ص: 397

وهم الرسل والأئمة (عليهم السلام)، فنائب الإمام يرث منهم هذه المسؤوليات الواسعة.

نعم يجوز - إذا اجتمعت فيه الشروط المذكورة في الرسالة العملية - أن يتصدى لبعض مسؤوليات نواب الإمام (عليه السلام) كقبض الحقوق الشرعية وصرفها في مواردها والإفتاء إن كانت له الأهلية لذلك، والقضاء بين الناس، ويكون وكيلاً عن الإمام في القيام بهذه الوظائف، والوكالة له ليست كالنيابة لأنها تكون محدودة بمساحة معينة، كمن يوكّل شخصاً في شراء بضاعة أو تعقيب معاملة أو قبض مال وهذا لا يعني أنه نائبه في كل أموره، فكثير من المراجع والعلماء المجتهدين هم وكلاء الإمام وليسوا نوابه.

ويتضح هذا الفرق عند التأمل في حديثين وردا في فضل العلماء، أحدهما قول الإمام (عليه السلام): (العلماء ورثة الأنبياء)(1) وثانيهما (الفقهاء أمناء الرسل)(2) بضميمة ما رواه أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه: (الفقهاء قادة)(3)، فالعلماء بما تحملوا من علوم هم ورثة الأنبياء، أما إذا تحركوا بهذا العلم في واقع حياة الناس لإقناعهم بالرسالة الإلهية استحقوا أن يكونوا أمناء للرسل حملة الشرائع السماوية وامتداداً لدورهم الرسالي، فالفرق بين العالم والفقيه الذي يستحق قيادة الأمة وولاية أمورها كالفرق بين الأنبياء والرسل الذي هو معلوم، واستحقوا بذلك أن يكونوا قادة للأمة ونواباً لأصحاب الرسالات المعصومين (سلام الله عليهم).

وهذا الفرق بين نيابة المعصوم (عليه السلام) والوكالة عنه بالرغم من أنه على مقتضى القاعدة التي قربناها، وأنه لا دليل عندهم على أن كل عالم1.

ص: 398


1- أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، ح 1.
2- بحار الأنوار: 36/2 باب 9، ح 38، ومستدرك الوسائل، ج 17، ح 21443.
3- بحار الأنوار: 201/1.

مجتهد عادل تتوفر فيه شروط التقليد هو نائب عن الإمام، وكل الذي ورد هو تخويله ببعض الأمور كالإفتاء والقضاء بين الناس - كما في مقبولة عمر بن حنظلة -. ولا تصلح النيابة إلا لمن تحمل وظائف الإمام (عليه السلام) في حياة الأمة، أقول بالرغم من ذلك كله فقد دلت عليه بدقة رواية معتبرة.

فقد روى المحقق الثقة الشيخ عباس القمي في كتابه المعروف (مفاتيح الجنان)(1) عن الميرزا حسين النوري (قدس سره) صاحب مستدرك الوسائل حادثة لقاء الحاج علي البغدادي (الذي وصفه بالسعيد الصالح الصفي المتقي) وأوردها النوري في كتابيه (جنة المأوى) و (النجم الثاقب)، ولها فوائد جليلة، ومحل الشاهد منها أن الحاج البغدادي لما أخبر صاحبه في الطريق - وهو لا يعرفه أنه الإمام المهدي (عليه السلام) - أنه أعطى جزءاً من حقوقه الشرعية إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) وجزءاً إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي - صاحب هداية الأنام - وادّخر جزءاً لإعطائه إلى الشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي، فقال له (عليه السلام): (نعم قد أبلغت شطراً من حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف).

إن هذا التفريق الذي نذكره بين العنوانين ليس مسألة اختلاف في الألفاظ أو العناوين بل له واقع وحقيقة من خلال المواقع والوظائف التي له الحق في التصدي لها، إذ ليس لغير من ينطبق عليه عنوان نائب المعصوم (عليه السلام) ولاية أمر المسلمين أو قيادة الأمة أو اتخاذ القرارات العامة ما لم يتحمل مسؤولية العنوان ويتحرك به في تمام ما يقتضيه من وظائف ولا يكفي فيه مجرد الادعاء.

ونحن نلقي عليكم هذه الأفكار لأننا نعتقد أن مستوى الثقافة والوعي الإسلامي العام قد تقدم كثيراً بفضل الله تبارك وتعالى ونحن تحدثنا على هذا).

ص: 399


1- مفاتيح الجنان، فضل زيارة الكاظمين (عليهما السلام).

المستوى، إلا أننا لم نتعمق في مستوى الاستدلال الفقهي لأنه موكول إلى محله.

لقد ضرب لنا سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مثلاً لتنوع الأدوار التي يؤديها نائب الإمام في حياة الأمة مضافاً إلى الإفتاء وكتابة الرسالة العملية ورعاية شؤون الحوزات العلمية من تهيئة الأمة وإعدادها لتحمل القضية المصيرية وهي التمهيد لدولة الإمام المهدي (عليه السلام) المباركة، ونشر الوعي الإسلامي والمعارف القرآنية وتهذيب الأخلاق وتغيير الواقع الفاسد ومواجهة السلطات الظالمة وتحقيق التكامل للأمة وتفجير طاقاتها، وقضاء حوائج الناس، واحتضان شرائحهم كافة ومخاطبتهم بما يناسبهم. وتشهد له بذلك أعماله المباركة وموسوعاته الفكرية الضخمة ومحاضراته القيمة ومواقفه المشهودة، وقلّما يجود الزمن بمثل من يقدّم هذا العطاء الثرّ، فعند الله نحتسبه، وحشره الله تعالى مع أجداده الطاهرين وحسُن أولئك رفيقاً.

ص: 400

الملحق الخامس: الوثائق والصور

ص: 401

ص: 402

السيد الشهيد الصدر (قدس سره) يصغي باستبشار إلى شرح يقدّمه الشيخ اليعقوبي عن العمل الاجتماعي ووضع جامعة الصدر في قمة نشاط السيد الشهيد (قدس سره) لدى زيارته إلى الجامعة تلبية لدعوة وجهت الية يوم 5 ج 2 1419

ص: 403

الشيخ اليعقوبي في صلاة الجمعة المباركة في مسجد الكوفة المعظم خلف السيد الشهيد (قدس سره) مباشرة.

ص: 404

جلسة ضمّت السيد الشهيد (قدس سره) والشيخ اليعقوبي في 24 شعبان 1419 بعد امره (قدس سره) بالسير مشياً على الاقدام لزيارة الامام الحسين (عليه السلام) وتصاعد المواجهة مع نظام

ص: 405

السيد الشهيد (قدس سره) والى جنه الشيخ اليعقوبي عميد الجامعة ثم الشيخ نديم الساعدي معاون العميد فالمرحوم السيد الشهيد مؤمل ثم الشيخ صلاح جاسم احد فضلاء طلبة الجامعة.

ص: 406

الشيخ اليعقوبي في مكتب السيد الشهيد (قدس سره)

يتوسط عدداً من طلبة العلم والمراجعين

ص: 407

السيد الشهيد (قدس سره) يرتدي الكفن في محراب مسجد الكوفة قبل توجهه لالقاء خطبتي صلاة الجمعة ويظهر الشيخ اليعقوبي إلى جنبه يوم الجمعة المؤرخة 25 محرم 1419.

ص: 408

السيد الشهيد (قدس سره) يستمع إلى حديث متكتم من الشيخ اليعقوبي تعليقاً على بعض الاحداث المهمة.

ص: 409

الشيخ اليعقوبي في غرفته الخاصة في مكتب السيد الشهيد (قدس سره) وحوله عدد من المراجعين وبين ايديهم عدد من مجلة الهدى التي كانت تصدر من المكتب.

ص: 410

السيد الشهيد (قدس سره) والى جنبه الشيخ اليعقوبي وحولهما اولاده وبعض العاملين معه وفيهم الشهداء السيد مصطفى والسيد مؤمل والشيخ محمد النعماني.

ص: 411

السيد الشهيد (قدس سره)

يتوسط مجموعة من العاملين في مكتبه بعد لقائه بهم.

ص: 412

الشيخ احمد جاسم احد طلبة جامعة الصدر يحاور السيد الشهيد (قدس سره) في لقائه بطلاب جامعة الصدر يوم 5 ج 2 1419 والذي قال فيه (ان المرشح الوحيد بعدي من حوزتنا وهو جناب الشيخ محمد اليعقوبي) ويظهر في الصورة عدد من الشهود على ذلك.

ص: 413

السيد الشهيد (قدس سره) والى جنبه الشيخ اليعقوبي وحولهما ولداه السيد مصطفى (رحمه الله) والسيد مقتدى والدفعتان الاولى والثانية من طلبة جامعة الصدر بعد لقائه بهم يوم 5 ج 2 1419.

ص: 414

صورة لنص الكتابة التي عبّر بها السيد الشهيد (قدس سره) عن رغبته في إقامتي لصلاة الجمعة في مسجد الكوفة المعظم مساء الجمعة التي سبقت عيد الغدير 1418.

(اريد منك ان تقيم صلاة الجمعة في مسجد الكوفة فهل تعطونا الضوء الأخضر لذلك)

ص: 415

رسالة قيمة ارسلها سماحة آية الله العظمى الشهيد السعيد السيد محمد الصدر (قدس سره) إلى سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

ص: 416

ص: 417

ص: 418

بسم الله الرحمن الرحيم

شيخنا الأجل دام عزك بعد التحية والسلام ارجو التفضل بالاطلاع على النقاط التالية:

1 - انت تعلم انني كنت ولا زلت اعتبرك افضل طلابي واطيبهم قلباً واكثرهم انصافا للحق بحيث لو دار الامر في يوم من الايام المستقبلية بين عدة مرشحين للمرجعية ما عدوتك لكي تبقى المرجعية في ايدي منصفين وقاضين لحوائج الاخرين لا بايدي اناس قساة وطالبين للدنيا.

حتى انني فكرت في درجة من درجات تفكيري انني اقيمك للصلاة في مكاني عند غيابي تمهيداً لذلك ولازال هذا التفكير قائماً، ولم تمنع عنه رسالتك الصريحة هذه. كما لم اجد في طلابي إلى الآن على كثرتهم وتنوع اتجاهاتهم واذواقهم من هو جامع للشرائط التي اتوقعها اكثر منك، فحقق الله رجائي فيك بعونه وقوته.

1 جمادى الثانية 1418

ص: 419

ص: 420

الفهرس

الكتاب الأول

الشهيد الصدر الثاني كما اعرفه

هذا الكتاب... 9

التعريف بمؤلف الكتاب... 11

نسبه واسرته... 11 ولادته ونشأته... 12

الدراسة الحوزوية... 20

الفصل الأول: البداية... 23

الفصل الثاني: الانتفاضة... 43

الفصل الثالث: جامعة الصدر الدينية... 53

الفصل الرابع: ليلة الالتحاق بالملأ الأعلى... 61

محظات سريعة... 73

الكتاب الثاني

حديث الروح

التعريف بالكتاب... 79

البحث الاول: دليل سلوك المؤمن... 81

دعوة لتطوير الرسائل العملية لتشمل جميع نواحي الحياة... 86

البحث الثاني: الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها... 99

التفسير التفصيلي للقرآن الكريم... 111

البحث الثالث: عالم الذر والظواهر الباراسا يكولوجية... 145

ص: 421

رسالة أخرى حول الظواهر البارا سايكولوجية... 164

البحث الرابع: فهم ما وراء النص... 169

البحث الخامس: مجال الاعجاز في القرآن... 187

البحث السادس: تاريخ نزول السور القرآنية... 193

المبحث السابع: الاجتهاد المقيد... 197

الكتاب الثالث

نظرة في فلسفة الاحداث

التعريف بالكتاب... 203

الباب الأول: نظرة في فلسفة الاحداث... 209

اهداف اليهود... 209

مجمل عن اساليبهم... 214

بعض الأساليب... 224

اعمال سابقة... 228

اخطاء المسلمين... 230

موقف المعسكر الشرقي... 234

الحرب المضادة... 236

من آثار التهويد الاستعماري... 240

بعض العبر الدينية والدنيوية من هذا البحث... 244

الشكوى الى الله وحده... 248

الرسالة الجوابية لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله)... 252

ملاحظات عامة... 254

الباب الثاني: تعليقة الشهيد الصدر على تعليقة الشيخ اليعقوبي السابقة... 255

الباب الثالث: اضافة الشيخ اليعقوبي على بحث نظرة في فلسفة الاحداث... 261

ص: 422

تحليل نفسي لشخصية اليهود... 262

نظرة القوى المستكبرة الى قيام دولة تعتمد الاسلام والقرآن دستوراً لها... 264

اسرائيل بين قطبي الاستكبار العالمي... 264

تمزيق وحدة المسلمين وكل التكتلات التي تعتبرها عائقاً

في طريق اهداف الصهيونية العالمية واستعباد الشعوب... 266

ان وعد الله حق... 268

مكائد اليهود ضد الاسلام وأهله... 271

فرنجة الشرق المسلم... 272

الباب الرابع: تعليقة الشهيد الصدر على اضافة الشيخ اليعقوبي... 281

ملاحق

الملحق الأول: حوارات منوعة مع السيد الشهيد (قدس سره)... 331

كلمات للشهيد الصدر في تربية الدين للنفس والمجتمع... 333

صوم زكريا... 345

السحر... 345

اسئلة ثقافية عامة... 348

الملحق الثاني: عوامل نجاح

الحركة الاصلاحية المباركة للشهيد الصدر الثاني (قدس سره)... 377

الملحق الثالث: الشهيدان الصدران: تنوع ادوار ووحدة هدف... 385

الملحق الرابع: المشروع السياسي للشهيد الصدر الثاني (قدس سره)... 389

الملحق الخامس:

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم... 367

الشهيد الصدر الثاني (قده) وإعداد البديل... 374

معايير التقليد في المدرسة الصدرية... 377

الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل... 385

ص: 423

من تاريخ الحركة الإسلامية... 389

الفقهاء ونيابة المعصومين (عليهم السلام)... 400

الملحق السادس: الوثائق والصور... 407

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.