موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 7 لمحات الاصول

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 7 لمحات الاصول/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 413ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

المحرر: محمدرضا دهقانزاد

ص: 1

اشارة

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 3

ص: 4

مقدّمة بقلم آیة الله العظمی السبحاني

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي أنزل الكتاب تبياناً لكلّ شيء ، وجعل السنّةَ الشريفة مفتاحاً لفهمه ، ومبيّنة لمعضلاته ، والصلاة والسلام على أفضل من اُوتي الحكمة ، وفصل الخطاب ، وآله الطاهرين الأطياب ، الذين هم عيبة علمِه ، وموئل حُكْمه ، صلاة دائمة مادامت السماوات ذات أبراج ، والأرض ذات فجاج .

أمّا بعد ، فمن دواعي الخير وبواعث الفخر والاعتزاز أن أحظى بكتابة مقدّمة لسِفْر أملاه أحد مشايخي العظام ؛ أعني السيّد المحقّق البروجردي ، ودبّجتْه يراعة اُستاذي الكبير الإمام الخميني قدّس اللّه سرّهما.

أستعرض في هذه الكلمة الموجزة الأدوارَ التي اجتازها علم الاُصول ؛ طوالَ قرون متوالية في الأوساط العلمية الشيعية الإمامية ؛ ليكون القارئ العزيز على بصيرة من تأريخ هذا العلم ، ومراحله وأدواره ، وكيفية نشوئه وتطوّره .

أتقدّم بكلمتي هذه إلى رحاب الاُستاذين الجليلين اللّذين لهما حقّ عظيم على العلم وأهله ، كما أنّ لهما دوراً في تطوير علم الاُصول وتكامله في المرحلة النهائية.

ص: 5

ولست بصدد الإدلاء بترجمتهما (قدّس اللّه سرّهما) وما تركا من الآثار الجليلة والتصانيف ، وأخصّ بالذكر الإمام الخميني وما قام به من خدمة كبيرة للإسلام من خِلال ثورته الإسلامية المباركة ، والتي أعقبتها صحوة إسلامية على نِطاق واسع .

كيف ، والإمام هو النجم الساطع ، والجبل الأشمّ الذي لا ترقى إليه أنظار المتطلّعين ، وليس بوسعي أن اُقدّم صورة واضحة المعالم عن سيرته وخدماته ، وجهاده والبَصَمات التي تركها على العقل الإسلامي ، ولعلّ في هذا التقديم أداءً لجزء يسير ممّا عليّ من الحقوق الكبيرة للاُستاذين العَلَمين ، والرجاء الواثق أن يحظى بالقبول لدى القُرّاء الأعزّاء .

اُصول الفقه . . . نشوؤه وأدواره الإسلام عقيدة وشريعة . والعقيدة هي الإيمان باللّه سبحانه وصفاته والتعرّف على أفعاله . والشريعة هي الأحكام والقوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد والمجتمع في حقول مختلفة تجمعها العبادات ، والمعاملات ، والإيقاعات ، والسياسات .

فالمتكلّم الإسلامي من تكفّل ببيان العقيدة ، وبرهن على الإيمان باللّه سبحانه وصفاتِهِ الجمالية والجلالية ، وأفعالِهِ من لزوم بعث الأنبياء ونصب الأوصياء لهداية الناس وحشرهم يوم المعاد .

كما أنّ الفقيه من قام ببيان الأحكام الشرعية الكفيلة بإدارة الفرد والمجتمع ، والتنويه بوظيفتهما أمام اللّه سبحانه ووظيفة كلٍّ منهما بالنسبة إلى الآخر .

بَيْدَ أنّ لفيفاً من العلماء أخذوا على عاتقهم بكلتا الوظيفتين ، فهم في مجال

ص: 6

العقيدة أبطال الفكر وسَنامه ، وفي مجال التشريع أساطين الفقه وأعلامه ، ولهم الرئاسة التامّة في فهم الدين على مختلف الأصعِدة .

والكتاب الذي تزفّه مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه إلى القُرّاء الكرام له صلة بالفقه والشريعة ؛ حيث يعرّف لنا القواعدَ الممّهدة في استنباط الأحكام الشرعية وما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل ، وقد سُمّي منذ أوّل يوم دوّن بعلم اُصول الفقه لصلته الوثيقة بعلم الفقه ، فهو أساس ذلك العلم وركنه ، وعماد الاجتهاد وسناده .

والاجتهاد : عبارة عن بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها ، وهو رمز خلود الدين وحياته ، وجعله غضّاً طريّاً مصوناً عن الاندراس عَبْر القرون ، ومُغني المسلمينَ عن التطفّل على موائد الأجانب. ويتّضح ذلك من خلال اُمور :

1 - إنّ طبيعة الدين الإسلامي - وأ نّه خاتم الأديان إلى يوم القيامة - تقتضي فتح باب الاجتهاد ؛ لما سيواجه الدين في مسيرته من أحداث وتحدّيات مستجِدّة ، وموضوعات جديدة لم يكن لها مثيل أو نظير في عصر النصّ ، فلا محيص عن معالجتها ؛ إمّا من خلال بذل الجهود الكافية في فهم الكتاب والسنّة وغيرهما من مصادر التشريع واستنباط حكمها ، وإمّا اللجوء إلى القوانين الوضعية ، أو عدم الإفصاح عن حكمها وإهمالها .

والأوّل هو المطلوب ، والثاني سيشكّل نقصاً في التشريع الإسلامي ، وهو سبحانه قد أكمل دينه بقوله : «أَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ» ، والثالث لا ينسجم مع طبيعة الحياة ونواميسها .

ص: 7

2 - لم يكن كلّ واحدٍ من أصحابِ النبي صلی الله علیه و آله وسلم متمكّناً من دوامِ الحضورِ عنده صلی الله علیه و آله وسلم لأخذ الأحكام عنه ، بل كان في مدّة حياته يحضره بعضهم دون بعض ، وفي وقت دون وقت ، وكان يسمع جواب النبي صلی الله علیه و آله وسلم - عن كلّ مسألة يسأل عنها - بعضُ الأصحاب ويفوت عن الآخرين ، فلمّا تفرّق الأصحاب بعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم في البلدان ، تفرّقت الأحكام المرويّة عنه صلی الله علیه و آله وسلم فيها ، فتُروى في كلّ بلدة منها جملة ، وتُروى عنه في غير تلك البلدة جملة اُخرى ؛ حيث إنّه قد حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري ، وحضر المصري ما لم يحضره الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضره البصري ، وحضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلى غير ذلك ، وكان كلّ منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام(1) .

إنّ الصحابي قد يسمع من النبي صلی الله علیه و آله وسلم في واقعة حكماً ، ويسمع الآخر في مثلها خلافه ، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين ، وغفل أحدهما عن الخصوصية ، أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث ، فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً ؛ بالرغم من عدم تنافيهما واقعاً ، ولهذه الأسباب وأضعافِ أمثالها ، احتاج حتّى نفس الصحابة - الذين فازوا بشرف الحضور - في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد والنظر في الحديث ، وضمّ بعضه إلى بعض ، والالتفات إلى القرائن الحالية ، فقد يكون للكلام ظاهر ومراد النبي خلافه اعتماداً على قرينة في المقام ، والحديث نقل والقرينة لم تنقل.

وكلُّ واحدٍ من الصحابة - ممّن كان من أهل الرأي والرواية - تارة يروي نفس ألفاظ الحديث للسامع من بعيد أو قريب ، فهو في هذا الحال راوٍ ومحدّثٍ ، وتارة

ص: 8


1- الخطط ، المقريزي 2: 333.

يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات بحسب نظره ، فهو في هذا الحال مُفتٍ وصاحب رأي(1) .

3 - وهناك وجه ثالث : وهو أنّ صاحب الشريعة ما عُني بالتفاصيل والجزئيات ؛ لعدم سنوح الفرصة لبيانها ، أو تعذّر بيان حكم موضوعات لم يكن لها نظير في حياتهم ، بل كان تصوّرها - لعدم وجودها - أمراً صعباً على المخاطبين ، فلا محيص لصاحبِ الشريعةِ عن إلقاء اُصول كلّية ذات مادّة حيويّة قابلة لاستنباط الأحكام وفقاً للظروفِ والأزمنة .

4 - إنّ حياة الدين مرهونة بمُدارسته ومُذاكرته ، ولو افترضنا أنّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم ذكر التفاصيل والجزئيات وأودعها بين دفّتي كتاب ، لاستولى الرُّكود الفكري على عقلية الاُمّة ، ولانحسر كثير من المفاهيم والقِيَم الإسلامية عن ذهنيتها ، وأوجب ضياع العلم وتطرّق التحريف إلى اُصوله وفروعه ؛ حتّى إلى الكتاب الذي فيه تلك التفاصيل .

وعلى هذا لم تقم للإسلام دعامة ، ولا حُفِظ كِيانُه ونظامه ، إلاّ على ضوء هذه البحوث العلمية والنقاشات الدارجة بين العلماء ، أو ردّ صاحب فكر على ذي فكر آخر بلا محاباة .

وقد حكى شيخنا العلاّمة المتضلّع شيخ الشريعة الأصفهاني قدّس سرّه (1266 - 1339 ق) في مقدّمة كتابه «إبانة المختار» عن بعض الأعلام كلاماً يُعرب عمّا قلناه ، قال : «إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعضٍ، من أعظم مزايا هذه الاُمّة التي أعظم اللّه بها عليهم النعمة ؛ حيث حفظهم عن وصمةِ محاباة أهل الكتابين،

ص: 9


1- أصل الشيعة واُصولها : 234 .

المؤدّية إلى تحريف ما فيهما واندراس تينك الملّتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخول إلاّ بيّنوه ، ولفاعل فعلاً فيه تحريف إلاّ قوّموه ، حتّى اتّضحت الآراء،دوانعدمت الأهواء ، ودامت الشريعة البيضاء على مل ء الآفاق بأضوائها ، وشفاء القلوب بها من أدوائها ، مأمونةً عن التحريف ، ومصونة عن التصحيف .

فإذا كان هذه مكانة الاجتهاد ومنزلته ودوره في خلود الشريعة ، فعلم الاُصول هو الذي يتطرّق إلى كيفية الاجتهاد والاستنباط ، ويذلّل للفقيه استنباط الحكم من مصادره الشرعية .

القواعد الكلّية في أحاديث الأئمّة

لم يكن علم الاُصول بمحتواه أمراً مغفولاً عنه ، فقد أملى الإمام الباقر علیه السلام وأعقبه الصادق علیه السلام على أصحابهم قواعد كلّية في الاستنباط ، رتّبها بعض الأصحاب على ترتيب مباحث اُصول الفقه .

وممّن أ لّف في ذلك المضمار :

1 - المحدّث الحرّ العاملي (ت عام 1104) مؤلّف كتاب «الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة» ، وهذا الكتاب يشتمل على القواعد الكلّية المنصوصة في اُصول الفقه وغيرها .

2 - السيّد العلاّمة شبّر عبداللّه بن محمّد الرضا الحسيني الغروي (ت عام 1242 ق) له كتاب «الاُصول الأصلية» .

3 - السيّد الشريف الموسوي ، هاشم بن زين العابدين الخوانساري الأصفهاني ، له كتاب «اُصول آل الرسول» ، وقد وافته المنية عام 1318 ق .

ص: 10

فهذه الكتب الحاوية على النصوص المرويّة عن أئمّة أهل البيت في القواعد والاُصول الكلّية في مجال اُصول الفقه ، تُعرِبُ عن العناية التي يوليها أئمّة أهل البيت علیهم السلام لهذا العلم .

وقد تبعهم أصحابهم ، فهذا هو :

يونُس بن عبد الرحمان (ت 208 ق)

يقول النجاشي : كان يونس بن عبد الرحمان وجهاً في أصحابنا متقدّماً عظيم المنزلة ، روى عن أبي الحسن موسى والرضا علیهما السلام . فقد صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله» ، وهو نفس باب التعادل والتراجيح في الكتب الاُصولية .

أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237 - 311 ق)

يقول النجاشي : كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا وغيرهم ، له جلالة في الدنيا والدين . . . إلى أن قال : له كتاب «الخصوص والعموم» ، و«الأسماء والأحكام»(1) .

ويقول ابن النديم : هو من كبار الشيعة ، وكان فاضلاً عالماً متكلّماً ، وله مجلس تحضره جماعة من المتكلّمين . . . إلى أن قال : له كتاب «إبطال القياس»(2) .

ص: 11


1- رجال النجاشي : 31 / 68 .
2- الفهرست ، ابن النديم : 225 .

الحسن بن موسى النوبختي

عرّفه النجاشي بقوله : شيخنا المتكلّم المبرّز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها . وذكر من كتبه «خبر الواحد والعمل به»(1) .

يقول ابن النديم : الحسن بن موسى ابن اُخت أبي سهل بن نوبخت ، متكلّم فيلسوف ، كان يجتمع إليه جماعة من النَقَلة لكتب الفلسفة(2) .

يقول ابن حجر : الحسن بن موسى النوبختي ، أبو محمّد ، من متكلّمي الإمامية ، وله تصانيف كثيرة(3) .

اُصول الفقه وأدواره

اجتاز علم الاُصول من لدن تأسيسه إلى زماننا هذا مرحلتين ، وامتازت المرحلة الثانية بالإبداع والابتكار وطرح مسائل مستجدّة ، لم تكن مذكورة في كتب الفريقين .

المرحلة الاُولى :

ابتدأتْ المرحلةُ الاُولى منذُ أوائل القرن الثالث إلى عصر العلاّمة الحلّي (648 - 726) وقد اجتازت أدواراً ثلاثة .

ص: 12


1- رجال النجاشي : 63 / 148 .
2- الفهرست ، ابن النديم : 219 .
3- لسان الميزان ، ابن حجر 2 : 258 / 1075 .

الدور الأوّل (دور النشوء)

وقد بُدئ بإفراد بعض المسائل الاُصولية بالتأليف ، دون أن يعمّ كافّة المسائل المعنونة في هذا العلم يومذاك ، ولم نقف في هذا الدور على كتاب عامّ يشمل جميع مسائله ، وقد عرفت أنّ يونس بن عبد الرحمان صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله» ، وأبا سهل النوبختي كتاب «الخصوص والعموم» و«إبطال القياس» ، والحسن بن موسى النوبختي كتاب «خبر الواحد والعمل به» ، وبالرغم من ذلك فقد ازدهرت حركة الاستنباط والاجتهاد بين أصحابنا في هذا الدور ، فهذا هو «الحسن بن علي العماني» شيخ فقهاء الشيعة ، المعاصر للشيخ الكليني (ت 329 ق) أ لّف كتاب «المتمسّك بحبل آل الرسول» .

يقول النجاشي : أبو محمّد العماني فقيه متكلّم ثقة ، له كتب في الفقه والكلام ، منها كتاب «المتمسّك بحبل آل الرسول» كتاب مشهور في الطائفة . وقيل : ما ورد الحاجّ من خراسان إلاّ طلب واشترى منه نسخاً(1) .

كما ألّف الشيخ الكبير أبو علي الكاتب الإسكافي (ت 381 ق) كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة» في الفقه ، وهو كتاب كبير جامع ، ذكر فهرس كتبه الشيخ النجاشي في رجاله ، وله كتاب «الأحمدي في الفقه المحمّدي» .

يقول النجاشي : وجه في أصحابنا ثقة جليلُ القدر صنّف فأكثر(2) .

ص: 13


1- رجال النجاشي : 48 / 100 .
2- رجال النجاشي : 385 / 1047.

الدور الثاني (دور النموّ)

إنّ حاجة المستنبط في علم الاُصول لم تكن مقصورة على عصر دون عصر ، بل كلّما تقدّمت عَجَلة الحضارة نحوَ الأمام ، ازدادت الحاجة إلى تدوين قواعد الاستنباط ؛ للإجابة على الحوادث المستجدّة وملابساتها التي كان الفقهاء يواجهونها طيّ الزمان ، ممّا ترك تأثيراً إيجابياً على علم الاُصول وساهم في نموّه ، فأفردوا جميع المسائل - بدل البعض كما في الدور الأوّل - بالتأليف ، وقد تحمّل ذلك العب ء ثُلّة من أساطين العلم وسنامه منهم :

أ - شيخنا وشيخ الاُمّة محمّد بن النعمان ، المشهور بالمفيد (336 - 413 ق) صنّف كتاباً باسم «التذكرة باُصول الفقه» وطبعت في ضمن مصنّفاته(1) ، ونقل خلاصته شيخنا الكراجكي (ت 449 ق) في كتابه «كنز الفوائد» .

ب - السيّد الشريف علي بن الحسين ، المعروف بالمرتضى (355 - 436 ق) .

قال النجاشي : حاز من العلوم ما لم يُدانِهِ أحد في زمانه ، وسمع من الحديث فأكثر ، وكان متكلّماً شاعراً أديباً عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا ، وعدّ من كتبه «الذريعة» ، وقد طبع الكتاب في جزءين طباعة منقّحة ، وقد عثرت على نسخة خطّية منها في مدينة «قزوين» جاء في آخرها: إنّ المؤلّف فرغ من تأليفها عام 400 ق ، وقد نقل عنه جلُّ من تأخّر من السُنّة والشيعة .

ج - محمّد بن الحسن ، المعروف بالشيخ الطوسي (358 - 460 ق) .

يقول النجاشي : أبو جعفر ، جليل من أصحابنا ، ثقة عين ، من تلامذة

ص: 14


1- التذكرة باُصول الفقه ، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 9: 5.

شيخنا أبي عبداللّه ، وعدّ من كتبه كتاب «العدّة في اُصول الفقه»(1) ، وقد طبع غير مرّة ، وهو كتاب مفصّل مبسوط يحتوي على الآراء الاُصولية المطروحة في عصره .

د - سلاّر بن عبدالعزيز الديلمي (ت 463 ق) أ لّف «التقريب في اُصول الفقه» ذكره في «الذريعة»(2) .

الدور الثالث (دور الازدهار)

بدأ هذا الدور منذ أواخر القرن السادس إلى أواسط القرن الثامن ، وقد صنّف أصحابنا كتباً خاصّة في اُصول الفقه تُعرِب عن الإنجازات الضخمة ، والمنزلة ا لراقية التي بلغها علمُ الاُصول من خلال دراسة مسائله بإسهاب ودِقّة وإمعان أكثر ، ومن المصنّفين في هذا الحقل :

أ - الفقيه البارع السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511 - 558 ق) مؤلّف كتاب «غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع» ، وكتابه هذا يدور على محاور ثلاثة : العقائد والمعارف ، اُصول الفقه ، والفروع . وقد طبع الكتاب محقّقاً في مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام في جزءين ، والناظر في قسم اُصول الفقه يرى فيه التفتّح والازدهار بالنسبة إلى ما سبقه .

ب - الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن حسن الحمصي الرازي ، وقد صنّف كتابه «المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد» عام 581 في الحلّة

ص: 15


1- رجال النجاشي : 403 / 1068 .
2- الذريعة 4 : 365 ، وذكر أ نّه توفّي في السفر سنة 448 وهو موضع تأمّل .

الفيحاء ، عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز(1) .

وقال منتجب الدين الرازي : الشيخ الإمام سديد الدين علاّمة زمانه في الاُصولين ، ورع ثقة ، وذكر مصنّفاته التي منها : «المصادر في اُصول الفقه» و«التبيين والتنقيح في التحسين والتقبيح»(2) .

ج - نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا الهذلي الحلّي ، المكنّ-ى بأبي القاسم ، الملقّب بنجم الدين ، والمشتهر بالمحقّق (602 - 676 ق) .

قال ابن داود في رجاله : جعفر بن الحسن ، المحقّق المدقّق الإمام العلاّمة واحد عصره ، كان ألسَنَ أهل زمانه ، وأقومهم بالحجّة ، وأسرعهم استحضاراً ، قرأت عليه وربّاني صغيراً ، وكان له عليّ إحسان عظيم . وذكر من تأليفه : «المعارج في اُصول الفقه»(3) ، وقد طبع غير مرّة ، وهو وإن كان صغير الحجم ، لكنّه كثير المعنى شأنُ كلّ ما جادت به قريحتُه في عالم التأليف ، فهذا كتابه «شرائع الإسلام» عكف عليه العلماء في جميع الأعصار ، وكتبوا عليه شروحاً وتعاليق وقد طبع في إيران ولبنان .

وقال في أعيان الشيعة : ومن كتبه «نهج الوصول إلى معرفة علم الاُصول»(4) .

د - الحسن بن يوسف المطهّر ، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 - 726 ق) وهو غنيّ عن التعريف ، برع في المعقول والمنقول ، وتقدّم على العلماء الفحول ،

ص: 16


1- لاحظ المنقذ من التقليد ، مقدّمة المؤلّف : 17 .
2- الفهرست ، منتجب الدين : 107 / 389 .
3- الرجال ، ابن داود : 62 / 304 .
4- أعيان الشيعة 4 : 92 .

وهو في عصر الصبا ، أخذ عن فقيه أهل البيت الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن ، خاله ، وعن أبيه سديد الدين يوسف بن مطهّر الحلّي ، وأخذ العلوم العقلية عن نصير الدين الطوسي وغيره .

وقد ألّف في غير واحد من الموضوعات النقلية والعقلية ، كما ألّف في اُصول الفقه تصانيف عديدة ذكرها السيّد الأمين في أعيانه ، نشير إليها :

1 - «النكت البديعة في تحرير الذريعة» للسيّد المرتضى .

2 - «غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى الوصول» لابن الحاجب .

3 - «مبادئ الوصول إلى علم الاُصول» مطبوع في ذيل «المعارج» للمحقّق .

4 - «نهاية الوصول إلى علم الاُصول» في أربعة أجزاء(1) .

5 - «تهذيب الوصول في علم الاُصول» صنّفه باسم ولده فخر الدين ، وهو مطبوع . وقد كتب عليه شروح وتعاليق مذكورة في أعيان الشيعة(2) .

ه- - عبد المطّلب بن أبي الفوارس بن محمّد بن علي الأعرجي الحسيني ، ابن اُخت العلاّمة الحلّي .

وصفه الشهيد الأوّل بقوله : السيّد الإمام فقيه أهل البيت علیهم السلام في زمانه ، عميد الحقّ والدين ، أبو عبداللّه عبد المطّلب بن الأعرج الحسيني .

كما وصفه غيره بقوله : دُرّة الفخر وفريد الدهر ، مولانا الإمام الربّاني ، وهو ابن اُخت العلاّمة الحلّي رحمه الله علیه وقد أ لّف كتباً كثيرة في الفقه وغيره ، كما أ لّف في

ص: 17


1- نحتفظ بنسخة منها في مكتبة مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام في قم المقدّسة .
2- أعيان الشيعة 5 : 404 .

اُصول الفقه كتابه «منية اللبيب في شرح التهذيب»(1) لخاله العلاّمة الحلّي ، وقد فرغ منه في الخامس عشر من رجب سنة 740 ق(2) .

و - السيّد ضياء الدين عبداللّه بن أبي الفوارس ابن اُخت العلاّمة الحلّي ، فقد شرح كتاب «تهذيب الاُصول» لخاله ، وقام الشهيد بالجمع بين الشرحين ، وسمّاه ب-«جامع البين الجامع بين شرحي الأخوين» .

ز - فخر المحقّقين محمّد بن الحسن نجل العلاّمة الحلّي المتوفّى سنة (771 ق) فقد شرح تهذيب والده وسمّاه ب-«غاية السؤال» .

كان الأمل أن يواكب التأليفُ تقدّمَ العصر ، ولكن الركب توقّف عن متابعة هذا التطوّر وأخلد الى الركود ، فلا نكاد نعثر على تصانيف اُصولية بعد شيخنا عميد الدين إلاّ ما ندر ، كمقدّمة المعالم للمحقّق الشيخ حسين صاحب «المعالم» نجل الشهيد الثاني (ت 1011 ق) .

نعم انصبّت الجهود على تدوين القواعد الفقهية وتنظيمها بشكل بديع نستعرض بعضها :

1 - ألّف محمّد بن مكّي ، المعروف ب- «الشهيد الأوّل» (734 - 786 ق) كتاب «القواعد والفوائد» ، وقد استعرض فيه 302 قاعدة ، ومع الاعتراف بفضله وتقدّمه في التأليف ، لم يفصّل القواعد الفقهية عن الاُصولية أو العربية ، كما لم يرتّب القواعد الفقهية على أبواب الفقه المشهورة ؛ ممّا حدا بتلميذه المقداد عبداللّه السيوري إلى ترتيب تلك القواعد كما سيوافيك .

ص: 18


1- نحتفظ بنسخة من هذا الكتاب في مكتبة مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام في قم المقدّسة .
2- روضات الجنّات 4 : 264 .

2 - الفقيه المتبحّر والاُصولي المتكلّم مقداد بن عبداللّه السيوري (ت 826 ق) من أكابر رجال العلم والتحقيق ، فقد قام بترتيب كتاب «القواعد» لشيخه الشهيد ، وسمّاه ب- «نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية» ، وقد طبع محقّقاً عام (1404 ق) .

3 - الشيخ الأجلّ زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد ، المعروف ب-«الشهيد الثاني» (911 - 965 ق) ، وُلد في عائلة نذرت نفسها للدين والعلم ، وقد ألّف في غير واحد من الموضوعات ، ومن آثاره كتابه : «تمهيد القواعد» ، جمع في هذا الكتاب بين فنَّي تخريج الفروع على الاُصول وتخريج الفروع على القواعد العربية ، وهو كتاب قلّ نظيره عظيم المنزلة ، طبع مرّة مع كتاب «الذكرى» للشهيد الأوّل ، كما طبع أخيراً محقّقاً في مشهد الرضا . استعرض المؤلّف فيه مئتي قاعدة ، وفرغ منها في مستهلّ عام 958 ق .

إلى هنا تمّت المرحلة الاُولى التي طواها علم الاُصول ، وحان الآن استعراض المرحلة الثانية .

المرحلة الثانية : مرحلة الإبداع والابتكار

ظهرت الأخبارية في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر على يد الشيخ محمّد أمين الأسترآبادي (ت 1033 ق) فشنّ حملة شعواء على الاُصول والاُصوليين ، وزيّف مسلك الاجتهاد المبنيّ على القواعد الاُصولية ، وزعم أنّ طريقة أئمّة أهل البيت علیهم السلام وأصحابه تخالف ذلك المسلك ، فممّا قاله في ذمّ الاجتهاد :

ص: 19

وأوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأئمّة علیهم السلام واعتمد على فنّ الكلام وعلى اُصول الفقه ، المبنيّين على الأفكار العقلية المتداولة بين العامّة ، محمّد بن أحمد بن الجُنيد العامل بالقياس ، وحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلّم ، ولمّا أظهر الشيخ المفيد حُسن الظنّ بتصانيفهما بين أصحابه - ومنهم السيّد الأجلّ المرتضى وشيخ الطائفة - شاعت طريقتهما بين متأخّري أصحابنا حتّى وصلت النوبة إلى العلاّمة الحلّي ، فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الاُصولية من العامّة ، ثمّ تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ علي - رحمهم اللّه تعالى - (1) .

أقول : الأخبارية منهج مبتدع ؛ ولم يكن بين علماء الشيعة إلى زمان ظهورها منهجان متقابلان متضادّان في مجال الفروع باسم المنهج الاُصولي والأخباري ؛ حتّى يكون لكلّ منهج ، مبادئ مستقلّة يناقض أحدهما الآخر ، بل كان الجميع على خطّ واحد ، وكان الاختلاف في لون الخدمة وكيفية أداء الوظيفة .

والعجب أنّه استدلّ على انقسام علماء الإمامية إلى أخباريّين واُصوليّين بأمرين :

1 - ما ذكره شارح المواقف ؛ حيث قال : «كانت الإمامية أوّلاً على مذهب أئمّتهم حتّى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعّب متأخّروهم إلى المعتزلة وإلى الأخباريّين» .

وما ذكره الشهرستاني في أوّل كتاب «الملل والنحل» من أنّ الإمامية كانوا في الأوّل على مذهب أئمّتهم في الاُصول ، ثمّ اختلفوا في الروايات عن أئمّتهم حتّى

ص: 20


1- الفوائد المدنية : 97 .

تمادى بهم الزمان ، فاختارت كلّ فرقة طريقة ، فصارت الإمامية بعضها معتزلة إمّا وعيدية وإمّا تفضيلية ، وبعضها أخبارية مشبّهة وإمّا سلفية .

2 - ما ذكره العلاّمة في «نهايته» عند البحث عن جواز العمل بخبر الواحد ، فقال :

«أمّا الإمامية : فالأخباريون منهم لم يعوّلوا في اُصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، والاُصوليون منهم - كأبي جعفر الطوسي وغيره - وافقوا على خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه» .

ولا بدّ هنا من تعليقة مختصرة :

إنّ كلا الشاهدين أجنبيّان عمّا يرومه الأمين .

أمّا الشاهد الأوّل : فهو نقله بالمعنى ، ولو نقل النصّ بلفظه لظهر للقارئ الكريم ما رامه شارح المواقف وإليك نصّه : « . . . وتشعّب متأخّروهم إلى «المعتزلة» : إمّا وعيدية أو تفضيلية (ظ . تفضلية) وإلى «أخبارية» يعتقدون ظاهر ما وردت به الأخبار المتشابهة ، وهؤلاء ينقسمون إلى «مشبّهة» يجرون المتشابهات على أنّ المراد بها ظواهرها ، و«سلفية» يعتقدون أنّ ما أراد اللّه بها حقّ بلا تشبيه كما عليه السلف ، وإلى ملتحقة بالفرقة الضالّة .

وبالتأمّل في نصّ كتاب «المواقف» يظهر فساد الاستنتاج ؛ وذلك لأنّ مسلك الأخبارية الذي ابتدعه الشيخ الأمين ليس إلاّ مسلكاً فقهياً قوامه عدم حجّية ظواهر الكتاب أوّلاً ، ولزوم العمل بالأخبار قاطبة من دون إمعان النظر في الأسناد ، وعلاج التعارض بالحمل على التقيّة وغيرها ثانياً ، وعدم حجّية العقل في استنباط الأحكام ثالثاً .

ص: 21

وما ذكره شارح «المواقف» والشهرستاني - من تقسيم الشيعة إلى أخبارية وغيرها - راجع إلى المسائل العقائدية دون الفقهية، فعلى ما ذكراه فالشيعة تشعّبت في تفسير الصفات الخبرية - كاليد والاستواء والوجه وغير ذلك ممّا ورد في الأخبار بل الآيات - إلى طوائف ثلاث: مشبّهة، وسلفية ، وملتحقة بالفِرق الضالّة.

والحكم بأنّ ما ذكره شارح «المواقف» راجع إلى المسلك الذي ابتدعه الأسترآبادي ، عجيب جدّاً مع اختلافهما في موضوع البحث ، فأين العمل بظواهر الأخبار في صفاته سبحانه ، عن الأخبارية التي ابتدعها الأمين الأسترآبادي في سبيل استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب والسُنّة ؟! مضافاً إلى أنّ مسلكه مبنيّ على اُسس وقوائم لم تكن معروفة عند غيره .

وأمّا الشاهد الثاني - أعني ما ذكره العلاّمة - : فهو أيضاً لا يمُتّ بصلة إلى مسلك الأخبارية المبتدَع ، بل هو راجع إلى مسألة خلافية بين علماء الإمامية منذ زمن بعيد ؛ وهل أنّ الخبر الواحد حجّة في الاُصول كما هو حجّة في الفروع أو لا ؟ فالمحدّثون والذين سبروا غور الأخبار ، ذهبوا إلى القول الأوّل ، والاُصوليون الذين حكّموا العقل في مجال العقائد قالوا بالثاني .

فالأخباري في كلام العلاّمة هو من يمارس الخبر ويدوّنه شأن كلّ محدّث ، لا من يسلك مسلك الأخباريّين في استنباط الأحكام الشرعية .

إنّ هذه الفكرة الخاطئة الشاذّة عن الكتاب والسنّة وإجماع الأصحاب الأوائل ، شغلت بال العلماء من أصحابنا ما يقرب من قرنين ، وأضحت تلك البُرهة فترة ركود الاُصول وتأ لُّق نجم الأخبارية ، فترى أنّ أكثر مؤلّفاتهم تعلو عليها صبغة الأخبارية ، وهم بين متطرِّف كالأمين الأسترآبادي ، ومعتدل كالشيخ

ص: 22

يوسف البحراني (ت 1186 ق) صاحب «الحدائق الناضرة» .

ومن سوء الحظّ أنّ النزاع بين أصحاب المسلكين لم يقتصر على نطاق المحافل العلمية ، بل تسرّب إلى الأوساط العامّة والمجتمعات ، فاُريقت دماء طاهرة ، وهتكت أعراض من جرّاء ذلك ، وقُتل فيها الشيخ أبو أحمد الشريف محمّد بن عبد النبي المحدِّث النيسابوري ، المعروف بميرزا محمّد الأخباري (1178 - 1233 ق) لمّا تجاهر بذمِّ الاُصوليين قاطبة والنيل منهم ، فلقي حتفه عند هجوم العامّة عليه عن عمر يناهز 55 عاماً .

بالرغم من الهجوم العنيف الذي شنّه الأمين الأسترآبادي وأتباعه على الحركة الاُصولية ، نرى أنّ هناك مَن أخذ بزمام الحركة ؛ بتأليف كتب استطاعت حينها أن تصمد بوجه الأخبارية وتذود عن كيان الحركة الاُصولية ، وقاموا بمحاولات :

1 - فقد قام الشيخ عبداللّه التوني (ت 1071 ق) بتصنيف كتاب «الوافية في علم الاُصول» وقد طبع أخيراً محقّقاً .

2 - كما أ لّف المحقّق الجليل السيّد حسين الخوانساري (ت 1098 ق) كتاب «مشارق الشموس في شرح الدروس» ، وهو وإن كان كتاباً فقهياً ، ولكنّه طرح فيه أفكاراً اُصولية بلون فلسفي .

3 - صنّف الشيخ المحقّق محمّد حسن الشيرواني (ت 1098 ق) تعليقته على «المعالم» ، وهو مطبوع على متن كتاب «المعالم» .

4 - قام المحقّق جمال الدين محمّد بن الحسين الخوانساري (ت 1121 أو 1125 ق) بتصنيف تعليقة على «شرح مختصر الاُصول» للعضدي ، كما هو مذكور في ترجمته .

ص: 23

وهذه الكتب - المؤلّفة في فترة انقضاض الحركة الأخبارية على المدرسة الاُصولية - مهّدت لظهور حركة اُصولية جديدة تبنّاها المحقّق الوحيد البهبهاني (1118 - 1206 ق) الذي فتح بأفكاره آفاقاً جديدة في علم الاُصول .

دور المحقّق البهبهاني في إنعاش المذهب وكان للاُستاذ الأكبر الشيخ محمّد باقر الوحيد البهبهاني (1118 - 1206 ق) دور فعّال في إخماد نائرة الفتنة؛ بالردّ القاطع على الأخباريّين ، وتزييف أفكارهم ، وتربية جيل من العلماء والمفكّرين على اُسس مستقاة من الكتاب والسُنّة والعقل الصريح ، واتّفاق الأصحاب ، واستطاع أن يشيِّدَ للاُصولِ أركاناً جديدةً ، ودعامات رصينة ، فنهض بالاُصول من خموله الذي دام قرنين ، مُعلناً بانتهاء عصر الركود وابتداء عصر التطوّر والابتكار .

وبذر البذرة الاُولى التي تلقّفها العلماء بعده بالرعاية حتّى أينعت وأثمرت ثمارها على يد أساطين من العلماء في غضون الأدوار الآتية ، وبها امتازت هذه المرحلة عمّا سبقها من المرحلة الاُولى :

1 - الدور الأوّل (دور الانفتاح)

ابتُدئ هذا الدور بنُخبة من تلامذة الوحيد البهبهاني ، وفي طليعتهم :

أ - السيّد مهدي الطباطبائي المعروف ببحر العلوم (1155 - 1212 ق) .

ب - الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي (ت 1228 ق) صاحب كتاب «كشف الغطاء» .

ج - الاُصولي المتبحّر الميرزا أبو القاسم الجيلاني القمّي (1150 - 1231 ق)

ص: 24

صاحب كتاب «القوانين» .

د - الفقيه الفحل السيّد علي (1161 - 1231 ق) صاحب كتاب «رياض المسائل» ، الذي طبع أخيراً في عشرة أجزاء محقّقاً .

2 - الدور الثاني (دور النضوج)

ابتدأ هذا الدور بتلاميذ خرّيجي مدرسة البهبهاني ، فقاموا بوضع صياغة جديدة للاُسس الاُصولية من منظار جديد ، وعلى رأسهم :

أ - الشيخ محمّد تقي بن عبد الرحيم الأصفهاني (ت 1248 ق) صاحب «الحاشية على معالم الاُصول» .

ب - أخوه الجليل الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (ت 1261 ق) صاحب «الفصول» .

ج - الشيخ الجليل محمّد شريف الآملي المازندراني ، المعروف بشريف العلماء (ت 1245 ق) وكفى به فخراً أنّ الشيخ مرتضى الأنصاري - ذلك النجم اللامع في سماء الاُصول - ممّن استسقى من فيّاض علمه ، وقد بقيت من آثاره العلمية رسالة «جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط» .

3 - الدور الثالث (دور التكامل)

بلغ فيه علم الاُصول الذروةَ في التحقيق والتعميق والبحث ، وتطرّقت إليه مسائل جديدة لم تكن مألوفة فيما سبق ، ويعتبر الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 - 1281 ق) هو البطل المِقْدام في هذا الحقل ؛ حيث استطاع بعقليته الفذّة أن يشيّد أركاناً جديدة لعلم الاُصول ، بلغ بها قمّةَ التطوّر والتكامل.

ص: 25

وأنت إذا قارنت المؤلّفات الاُصولية في هذه البرهة مع ما اُلّف في المرحلة الاُولى وحتّى مستهلّ المرحلة الثانية ، تجد بينهما بوناً شاسعاً يتراءى في بادئ النظر كأ نّهما علمان ، وما هذا إلاّ بفضل التطوّر والتكامل الذي طرأ على بُنْية الاُصول على يد هذا العبقري الفذّ ، ولم يزل ينبوعه فيّاضاً إلى يومنا هذا.

وخرج من مدرسته العديد من الفطاحل والعباقرة ، وأخصّ بالذكر منهم :

أ - السيّد الإمام المجدّد الشيرازي (1224 - 1312 ق) .

ب - المحقّق الكبير الشيخ محمّد كاظم الخراساني (1255 - 1329 ق) مؤلِّف كتاب «كفاية الاُصول» ويعدّ كتابه هذا محور البحوث الاُصولية في الحوزات العلمية إلى يومنا هذا .

وقد تخرّج على يدهما - خاصّة الأخير - نخبة من رجال الفكر والعلماء البارعين في علم الاُصول :

منهم : المحقّق البارع الميرزا حسين النائيني (1274 - 1355 ق) وقد دوّن آراءه تلميذه البارع الشيخ محمّد علي الكاظمي (1309 - 1365 ق) وقد نُشر كتابه باسم «فوائد الاُصول» ، كما دوّن تلك الآراء أيضاً تلميذه الآخر المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي (1317 - 1413 ق) .

ومنهم : الشيخ المحقّق ضياء الدين العراقي (1278 - 1361 ق) صاحب كتاب «المقالات في علم الاُصول»، وقد دوّن أفكاره العالم البارع الشيخ هاشم الآملي (1322 - 1412 ق) في كتاب «بدائع الأفكار».

ومنهم : المحقّق الكبير الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361 ق) وقد تخرّج من مدرسته طليعة من العلماء ، منهم سيّدنا المحقّق العلاّمة

ص: 26

الطباطبائي (1321 - 1401 ق) والسيّد المحقّق محمّد هادي الميلاني (1313 - 1395 ق) .

وأخيرهم لا آخرهم سيّد مشايخنا السيّد المحقّق حسين البروجردي (1292 - 1380 ق) فقد قضى عشرة أعوام من عمره الشريف في درس المحقّق الخراساني ، ودوّن شيئاً من أفكار اُستاذه ، وناقشها في موارد خاصّة تتجلّى في تعليقته الثمينة على «كفاية الاُصول» في جزءين .

قم المقدّسة حرم أهل البيت علیهم السلام

إنّ مدينة قم المقدّسة كانت بلدة عامرة بالعلم والفقه منذ القرن الثاني إلى أواخر القرن الرابع ، اكتظّت بعباقرة الحديث والفقه والرجال ، ومنها انتشر العلم إلى سائر الأمصار .

فالمحدِّثون القُمّيّون عُرفوا في سماء الحديث والفقه ، وكفاك أنّ إبراهيم بن هاشم ، وابنه علي بن إبراهيم، وأحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري ، ومحمّد بن أحمد بن عمران الأشعري ، وغيرهم من جهابذة الحديث والفقه، خرّيجوا مدرسة قم، وقد تركوا مصنّفات ثمينة بقيت مصونة عن حوادث الزمان.

نعم : لم يبقَ تأ لّق نجم العلم في هذه البلدة على منوال واحد ، بل توالى عليه طلوع وغروب مرّة تلو اُخرى إلى أن ساق القضاء رجل العلم والفضيلة ، مثال الزهد والتقى ، آية اللّه العظمى الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي إليها عام 1340 ، فقام بتأسيس الحوزة العلمية فيها ونفض الغبار عن كاهل حوزتها

ص: 27

القديمة ، ونفث روحاً جديدة في عروقها في حين كانت رياح الضلال تعصف في أرجاء العالم كلّه ، ووقعت إيران العزيزة في مهبِّ رياحه ، لكن شاءت الأقدار الإلهية أن تكون الحوزة العلمية سدّاً منيعاً أمام التيّارات الإلحادية ، و وتداً راسخاً يحول دون الهزّة العلمانية ، فأضحت مناراً فيّاضاً يشعّ نوراً وهداية في قلوب الاُمّة الإسلامية ؛ على وجه تمثّل قول أئمّة أهل البيت علیهم السلام في حقّ هذه البلدة الطيّبة .

هبط المؤسّس آية اللّه الحائري مدينة قم في 22 من شهر رجب المرجّب من عام 1340 ق ، وتقاطر روّاد العلم إليها من كلّ فجٍّ عميق ، فانتعش العلم ببركته ، وخرّج طليعة من روّاد العلم والعلماء إلى أن لبّى نداء ربّه في أواخر سنة 1355 ق ، وبذلك فقدت الحوزة العلمية أكبر زعيم لها ومؤسّسها ، ولكن استمرّ عطاء الحوزة العلمية على يد تلامذته ، فقاموا برعاية الجامعة العلمية بعد رحيله أحسن رعاية ، وأخذوا بزمام الاُمور بعزم سديد ويد من حديد في جوّ مشحون بأنواع من الِمحن والشدائد ، التي كادت أن تقلع جذور تلك الشجرة المباركة الطيّبة ، وينبغي علينا ذكرهم إجلالاً للجهود الثمينة التي بذلوها والعناية التي أولوها:

1 - آية اللّه السيّد محمّد الحجّة (1301 - 1372 ق) .

2 - آية اللّه السيّد صدر الدين الصدر (1299 - 1373 ق) .

3 - آية اللّه السيّد محمّد تقي الخوانساري (1305 - 1371 ق) .

وهؤلاء الأقطاب الثلاثة كانوا مراجع العلم وأساتذة الحوزة وزعماءها صابرين للمحن والكوارث ، غير مكترثين بما ينتابهم من صروف الدهر ، وغِيَر

ص: 28

الزمان ، مجابهين ضوضاء الباطل بحكمة عملية وعِظة بالغة .

هكذا كانوا ناهضين بأعباء الرعاية والإصلاح والدراسة والتعليم ، إلى أن شاءت الأقدار الإلهية أن شاركهم أحد أفذاذ العلم وأقطاب الفقه والحديث والاُصول ؛ أعني آية اللّه العظمى السيّد حسين البروجردي (قدّس اللّه سرّه) حيث غادر مسقط رأسه متوجّهاً إلى قم في مستهلّ سنة 1364 ق ، بعد فترة قصيرة من مكوثه في طهران لتدهور صحّته ، فاستقبله العلماء بحفاوة بالغة ، فعادت روح جديدة فيعروق الحوزة ، وتجسّدت الآمال الكبيرة في شخصه وشخصيته وزعامته .

إقامة السيّد البروجردي في قم المقدّسة

قام السيّد بإلقاء الدروس ورعاية الحوزة ، إلى أن هزّ نبأ وفاة زعيم الشيعة آية اللّه العظمى السيّد أبو الحسن الأصفهاني البلادَ الإسلامية في اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام من عام 1365 ق (رضوان اللّه عليه) ، ومنذ ذلك الحين استقطب سيّدنا البروجردي أنظار الشيعة في كلّ أرجاء المعمورة ، وتجسّدت فيه الزعامة الدينية للشيعة الإمامية .

وكان - قدّس اللّه سرّه - ذا ولع شديد بإلقاء الدروس والمحاضرات وتربية الفقهاء على الرغم من قيامه بأعباء الزعامة .

وتعبِّر محاضراته الفقهية عن أبكار أفكاره ، فتناول إلى غير واحد من أبواب الفقه ، كالإجارة ، والوصيّة ، والصلاة ، والخُمس ، والطهارة ، وغير ذلك .

وأمّا اُصول الفقه فقد جعل محور دراستها كتاب «كفاية الاُصول» لاُستاذه

ص: 29

المحقّق الخراساني ، فألقى محاضرات في معظم مباحث الألفاظ ، ثمّ في المباحث العقلية ، فأكمل البحث في القطع والظنّ والبراءة وشيء من مباحث الاشتغال ، حتّى عاقته اُمور الزعامة عن مواصلتها .

كان السيّد البروجردي آية في جُلّ العلوم الإسلامية فما منعه سَبْر الغور في الفقه واُصوله ، عن دراسة المعقول والكلام والتأريخ والرجال ؛ ممّا أدّى إلى انكباب الفضلاء وعلماء الحوزة على محاضراته ؛ مع أ نّهم كانوا فيالرعيل الأوّل من الأساتذة .

وممّن كان يحضر محاضرات سيّدنا البروجردي ، الزعيم الأكبر والإمام الأعظم سيّدنا آية اللّه العظمى السيّد روح اللّه الموسوي الخميني (قدّس اللّه سرّه ونوّر اللّه ضريحه) فقد كان قدّس سرّه أحد المتلهّفين والمتحمِّسين لإقامة السيّد البروجردي في حوزة قم ، وقد تحمّل جهوداً مُضنية في هذا السبيل ، وشكّلت فيما بعدُ إحدى الدوافع الرئيسية إلى حضوره وزملائه في درس السيّد البروجردي ؛ حتّى أضفى طابع النشاط والحيوية على محاضراته ، وأعطاها تأ لّقها وتميّزها عن سائر الدروس .

لم يكن حضور سيّدنا الإمام الخميني أندية دروس السيّد البروجردي حضوراً شكلياً ولإضفاء الجلال والإكبار للمحاضرة فقط ، بل كان هناك دافع آخر ، وهو الاستقاء من منهل علمه ورحيق فكره ، وكنت أحسّ حينما أنظر إليه أ نّه يُنصت إلى دروس الاُستاذ بوعي ودقّة وشَغَف ولم يكن يدور بخَلَدي أ نّه يدوّن ما يسمعه ، ولكنّه (رضوان اللّه عليه) أدرك بصفاء ذهنه - كما حدّثني به شفهياً - جدارة كتابة تلك الدروس لئلاّ تذهب جهود المحاضر سُدىً .

ص: 30

ويرجع تأريخ كتابة تلك الدروس إلى عام 1364 ق وامتدّت إلى 1370 ق ، وقد عاقت بعض الحوادث سيّدنا الإمام الخميني عن متابعة العمل ، ومع ذلك فالكتاب يشتمل على معظم مباحث الألفاظ ومباحث القطع وشيء من مباحث حجّية الظنّ .

كان السيّد الإمام الخميني ينقل آراء السيّد البروجردي في دروسه - التي كنت أحضرها - في علم الاُصول بدقّة ، ثمّ يتابعها بالدراسة والنقاش ، وكان المصدر الوحيد لنقل آرائه هو ما كتبه من محاضراته ، وقد شاهدت ما كتبه بخطّه الشريف في هذا المضمار ، غير أ نّه ممّا يؤسف له أنّ بعض الطوارق أتلفت بعض أوراقه ، ومع ذلك ففي الباقي غِنىً وكفاية .

وأتقدّم بالشكر الجزيل إلى الهيئة العلمية المشرفة على نشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه على وجه يلائم روح العصر ومتطلّباته ، وأخصّ بالذكر حفيده السيّد حسن الخميني ، فهو كوالده المغفور له حجّة الإسلام السيّد أحمد الخميني قدّس سرّه ، قد أدّيا بعض ما للإمام قدّس سرّه من حقوق عليهما وعلى الاُمّة ، فلهما ولمساعيهما أسمى آيات الثناء والتقدير .

كلمة حول شخصية الإمام الخميني قدّس سرّه

إنّ السيّد الإمام الخميني (قدّس اللّه سرّه) من الشخصيات القلائل التي يضنّ بهم الدهر إلاّ في فترات يسيرة ، والكلام عنه وعن خدماته الجليلة وآثاره ومُعطَياته للاُمّة ، خاصّة تلك الثورة الإسلامية العظيمة التي رجّت البلاد وقوّضت عروش الطواغيت ، رهن مقال مُسهَب أو كتاب مفرد ، وقد قمنا ببعض وظيفتنا

ص: 31

تِجاهَ اُستاذنا الكبير عام رحيله سنة 1309 ق ، ونشير في هذا المقال إلى الدورات الاُصولية المختلفة التي أقامها ، والآثار التي تركها في ذاك المضمار :

أ - ابتدأ بتدريس خارج الاُصول بعد حلول السيّد البروجردي بقم المقدّسة ، وبما أنّ السيّد البروجردي بدأ بمباحث الألفاظ ، نزل الإمام عند رغبة ثُلّة من الفضلاء - وعلى رأسهم الشهيد المطهّري - إلى إلقاء محاضرات حول الأدلّة الاجتهادية والاُصول العملية، وكان يكتب ما يلقي تحت عنوان التعليقة على «الكفاية».

فلمّا انتهت دراسته إلى قاعدة «لاضرر ولا ضرار» أعرض عن ضبط المباحث بصورة التعليقة ، وعدل إلى كتابتها بصورة مستقلّة ، حتّى انتهت هذه الدورة إلى دراسة مبحث الاجتهاد والتقليد، وتمّت المحاضرات في شعبان المعظّم من عام 1370، وقد كنّا نحضر محاضراته في هذه الدورة من أواسط الاستصحاب.

وما نشر من الإمام بصورة التعليقة على «الكفاية» إلى قاعدة لا ضرر ، ومنها إلى مبحث الاجتهاد والتقليد باسم «الرسائل» ، فهو من نتاج هذه الدورة المختصّة بالمباحث العقلية فقط .

ب - بدأ (قدس اللّه سرّه) بتدريس دورة جديدة كاملة في مُختتم عام 1370 ق ، وانتهت تلك الدورة عام 1377 ق .

وهذه الدورة هي التي كتبناها وأشرف قدّس سرّه على كلّ ما حرّرناه ، وكتب تقريظاً في صدر الكتاب، وطُبع باسم «تهذيب الاُصول» في جزءين ، غير أ نّا لم ننشر ما يرجع إلى الاستصحاب والتعادل والتراجيح ؛ وذلك لأنّه قد سبقنا نشر ما كتبه الاُستاذ بقلمه الشريف في الدورة الاُولى المختصّة بالمباحث العقلية .

ص: 32

ثمّ إنّ ما نُشر منه أخيراً باسم «مناهج الوصول إلى علم الاُصول» في المباحث اللفظية ، فهو نتاج هذه الدورة ، وقد تمّ بدر تمامه في شهر شوّال المكرّم من عام 1373 ق.

ج - ثمّ بدأ بدورة ثالثة استغرقت بين خمس أو ستّ سنوات ، وقد علّق في هذه الدورة بعض ما بدأ له من الأنظار ، وسجّلها في كتيّب خاصّ إكمالاً للمحاضرات السابقة التي كتبتُها باسم «تهذيب الاُصول» ، ولكن العوائق حالت دون إكمالها ، وتوقّف ركب البحث والدراسة في ثنايا مباحث الاشتغال ، عقْب إقصاء الاُستاذ إلى تركيا ومنها إلى العراق.

فهذا جُلّ ما قام به الاُستاذ من محاضرات قيّمة في اُصول الفقه ، وأمّا سائر محاضراته في الفقه وغيره فحدِّث عنها ولا حرج ، وللحديث عنه مجال آخر.

وللاُستاذ قدّس سرّه رسالة اُخرى باسم «الفوائد» ، سجّل فيها ما بدأ لاُستاذه الكبير آية اللّه الحائري من أبكار أفكار ، ونتاجات جديدة في علم الاُصول وراء ما جاء في كتابه «درر الاُصول» .

فأرجوا من المسؤولين في مؤسّسة نشر آثار الإمام ، نشر هذه الرسالة والتي كانت تضمّ أشياء اُخرى سجّلها فيها .

وفي الختام أرفع آيات الاعتذار إلى سماحة اُستاذي الكبير الإمام الخميني قدّس سرّه ، فإنّ ما قدّمتُ له من الترجمة لم تكن إلاّ لمحة خاطفة ، لا تحيط بجزء من جوانب شخصيته الفذّة . والعذرُ عند كرام الناس مقبول .

جعفر السبحاني

قم ، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام

ص: 33

حول تحقيق الكتاب

1 . صحّحنا الكتاب طبقاً للنسخة التي بخطّ المؤلّف قدّس سرّه .

2 . قمنا بتقويم النصّ وترقيمه بعلائم الترقيم .

3 . أضفنا عدداً من العناوين بهدف تسهيل الرجوع للكتاب، ونظراً لكثرتها فقد جرّدناها من المعقوفين [ ] .

4 . تمّ تخريج الآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة ، وقد أسندناها إلى مصادرها الأصلية كالكتب الأربعة وكتب الواسطة كوسائل الشيعة .

5 . خرّجنا الأقوال والآراء المنقولة قدر المستطاع ؛ سواء الفقهية منها أو الاُصولية أو الرجالية أو التفسيرية أو الفلسفية أو اللغوية أو غيرها . وقد عبّرنا بلفظ «اُنظر» فيما لو لم نتمكّن من تحديد صاحب القول الأصلي، أو لم نعثر على القول في كتابه ، أو لم يكن المنقول مطابقاً للموجود في الكتاب .

6 . وضعنا الفهارس الفنّية في آخر الكتاب تسهيلاً لأمر المحقّقين والاستفادة الكاملة من الكتاب .

7 . لقد ضاع كثير من أوراق الكتاب مربوطة بأبحاث وضع الحروف إلى آخر المشتقّ وبعض الأوراق من خلال باقي المباحث فتركناها إلاّ بعض المواضع التي أثبتناها من كتاب «نهاية الاُصول» تتميماً للبحث .

8 . إنّ الكتاب كان خالياً عن أيّة تعليقة تحقيقية مع كثرة اختلاف آراء الإمام

ص: 34

والسيّد البروجردي، فقد ذكر في الطبعة الاُولى هوامش تفصيلية مبيّنة مواضع الاختلافات، أمّا الآن فقد حذفنا هذه التعليقات اتّكالاً على أصل المؤلّفات المطبوعة في ضمن هذه الموسوعة وحذراً من التكرار .

9 . ولا يخفى أنّ تسمية الكتاب ب- «لمحات الاُصول» كانت من جانب المؤسّسة كما هو المرسوم في تسمية الكتب التي لم يسمّها صاحبها ، حيث إنّ الكتاب قد طبع أوّل مرّة بعد رحيل الإمام في عام 1421 ه . ق (1379ه .ش) . وليعلم أنّ بعض هذه المراحل لتحقيق الكتاب قد وقعت في الطبعة الاُولى وفي هذه الطبعة قد صحّحناها وهذّبناها ثانياً .

وختاماً نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لجميع الأفاضل الذين ساهموا في هذا المشروع المبارك والذي استمرّ ستّة أعوام لنشر هذه الموسوعة ، ونسأل الباري أن يوفّقهم جميعاً ويثيبهم من فضله .

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينى قدّس سرّه

فرع قم المقدّسة

ص: 35

الصورة

نموذج من خط الإمام قدّس سرّه للصفحة الاُولى من الأصل

ص: 36

الصورة

نموذج من خط الإمام قدّس سرّه من الأصل

ص: 37

الصورة

نموذج من خط الإمام قدّس سرّه للصفحة الأخيرة من الأصل

ص: 38

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين

وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين

و بعدُ . . .

ص: 1

ص: 2

المقدّمة

المقدّمة

ص: 3

ص: 4

فصل في موضوع علم الاُصول وتعريفه

اعلم : أنّ من مسلّمات أهل الفنون من الحكماء وأصحاب الميزان ، أمرين :

أوّلهما : أنّ موضوعات العلوم هي التي يبحث في تلك العلوم عن عوارضها الذاتية(1) .

وثانيهما : أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات(2) .

وهاهنا شيء آخر قد تسالم عليه أصحاب فنّ الاُصول من السابقين الأوّلين : وهو أنّ موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة بما هي متّصفة بالوصف العنواني(3) .

ص: 5


1- الإشارات والتنبيهات ، شرح المحقّق الطوسي 1 : 298 - 299 ؛ البصائر النصيرية : 5 - 6 ؛ شرح الشمسية : 14 ؛ الحكمة المتعالية 1 : 30 .
2- شرح المطالع : 18 / السطر 5 ؛ شوارق الإلهام 1 : 54 ؛ شرح الشمسية : 5 .
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 5 / السطر 23 ؛ الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 7 ؛ العدّة في اُصول الفقه 1 : 7 ؛ غنية النزوع 2 : 267 ؛ قوانين الاُصول 1 : 8 ، حاشية نفس المحقّق القمّي رحمه الله في أسفل الصفحة ، قوله : «والمفروض أ نّا نتكلّم بعد فرض كونها أدلّة . . .» و: 9 / السطر 22 .

واستشكل عليه بعض المحقّقين : بأنّ عمدة المباحث الاُصولية [تخرج] عن كونها اُصولية على هذا الفرض ، مثل حجّية الخبر الواحد ، ومباحث التعادل والترجيح وأمثالهما ، وتندرج في المبادئ(1) .

وقد يقال : إنّ الموضوع ذوات الأدلّة ، لا بما هي متّصفة بهذا الوصف ، فيكون البحث عن حجّية الخبر ، بحثاً عن العوارض الذاتية لذات الموضوع ؛ فإنّ الخبر من السنّة ، وهي الموضوع ، واتّصافه بالحجّية من العوارض الذاتية للموضوع(2) .

واستشكل على هذا أيضاً : بأنّ حجّية الخبر الواحد ، لا تكاد تعدّ من عوارض السنّة ، بل هي من عوارض الخبر الواحد ، والخبر بما هو لا يكون موضوعاً للعلم(3) .

وقد تصدّى العلاّمة الخراساني رحمه الله علیه لدفع تمام الإشكالات ؛ بأنّ موضوع العلم لا هذا ولا ذاك ، بل هو الكلّي المتّحد مع موضوعات المسائل خارجاً ، على وزان اتّحاد الطبيعي مع أفراده ، والمغايرة من حيث المفهوم ، كما هو الشأن في الطبيعي مع الأفراد(4) .

والإشكال عليه تارة : بأ نّه ربّما لا نعرف في بعض العلوم جهةً مشتركة متّحدة مع موضوعات المسائل ، كي تكون هي الموضوع للعلم(5) .

ص: 6


1- الفصول الغروية : 11 / السطر 32 .
2- الفصول الغروية : 12 / السطر 10 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 238 - 239 .
4- كفاية الاُصول : 21 و22 .
5- نهاية الأفكار 1 : 9 - 10 و12 .

واُخرى : بأ نّه مع عدم تشخيص الموضوع ، ربّما تتداخل العلوم في المسائل ، ولا يعلم أ نّها من أيّ علم من العلوم ، وقد تسالم القوم على أنّ تمايز العلوم بالموضوعات .

مندفع : أمّا الأوّل : فبأ نّه لا بدّ وأن تكون بين المسائل جهة مشتركة سارية في جميع موضوعات مسائل كلّ فنّ من الفنون ، وهذه هي موضوع العلم وإن لم نعرف اسمها ؛ إذ الأسماء لا دخل لها في المعاني .

وأمّا الثاني : فبأ نّه لا نسلّم هذا التسالم ، بل نقول في قبالهم : إنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض ، لا الموضوعات ، وكلّ مسألة دخيلة في غرض المدوّن ، تكون لا محالة من مسائل العلم المدوّن .

في تمايز العلوم

هذا ، والذي يؤدّي إليه النظر : أنّ مسائل العلوم والفنون ؛ من الأدبية ، والعقلية ، والفقهية ، والاُصولية وغيرها ، كلّها تكون في حدود ذواتها - مع قطع النظر عمّا عداها من المدوِّن وأغراضه - ذاتَ خصوصية ، بها تمتاز مسائل كلّ علم عمّا سواها من مسائل العلم الآخر .

وإن شئت قلت : إنّ كلّ مسألة من كلّ علم ، لها بنفسها خصوصية ذاتية ، تشترك هذه المسألة في لواء هذه الخصوصية مع عدّة مسائل اُخرى ، فتكون هذه وتلك جميعاً من فروع علم واحد ، وهذه الحيثية المشتركة ثابتة وسارية في جميع مسائل الفنّ ، من دون نظرٍ إلى ما هو الغرض من التدوين أصلاً .

ص: 7

مثلاً : عند الإمعان في مسائل علم النحو ، يتّضح أنّ ما يبحث عنه في تمامها ليس إلاّ كيفية أواخر الكلمة ؛ من المرفوعية ، والمنصوبية ، والمجرورية ، وتلك الخصوصية سارية في جميع مسائل علم النحو ولو مع الغفلة عمّا هو الغرض من التدوين ؛ إذ من الواضح أنّ تلك الخصوصية السارية ، لا تكون إلاّ لذوات المسائل بما هي مسائل ، بدون أن يكون للأغراض الداعية إلى التدوين دخل فيها أصلاً .

وهكذا علم الصرف والمعاني والبيان والفلسفة وغيرها ، فإنّ الخصوصية الموجودة سارية في جميع مسائل الفلسفة الإلهية ، وثابتة لتمامها ، من غير دخالة للأغراض فيها ؛ بل هي بنفس ذواتها واجدة لتلك الخصوصية المشتركة .

وممّا يؤيّد(1) ذلك بل يدلّ عليه : ما أفاده المحقّق الطوسي رحمه الله علیه في أوّل مبحث طبيعيات «الإشارات» : من أنّ مباحث الهيولى والصورة التي يبتني عليها العلم الطبيعي ، مصادرات فيه ، ومسائل من الفلسفة الاُولى(2) .

إذ موضوع الفلسفة هو الموجود بما هو موجود وإثبات وجود المادّة والصورة من فروع الفلسفة ، لا العلم الطبيعي ، بل من مبادئه ؛ لأنّ الموضوع فيه الجسم الطبيعي المتأ لّف من المادّة والصورة ، مع أنّ الغرض في العلم الطبيعي يشمل البحث عن الهيولى والصورة .

ولباب الكلام : أنّ المسائل المتشتّتة في كلّ علم مع تشتّتها ، لها خصوصية

ص: 8


1- كتب المصنّف قدس سره فوق «وممّا يؤيّد» إلى «والصورة»: خارج عمّا أفاده الاُستاذ .
2- الإشارات والتنبيهات ، شرح المحقّق الطوسي 2 : 3 .

جامعة لشتاتها ، وحافظة لمتفرّقاتها ، وتلك الخصوصية ثابتة في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن الأغراض ؛ فإنّ الأغراض جهات طارئة خارجة عن ذوات المسائل ، ولا تكاد تكون مميّزة للعلوم ؛ لأنّ المميّز لا بدّ وأن يكون من الخصوصيات الثابتة لذوات المسائل ؛ إذ الغرض الأوّل من الفلسفة وإن كان العلم بموجودية الأشياء ، والعلم هو التصديق ، إلاّ أنّ العلم كيف يمكن أن يكون الجهة المميّزة للفلسفة عن غيرها من العلوم ؛ بحيث يكون جامعاً لمسائلها ، ومانعاً عن غيرها ؟ ! فإنّ العلوم كلّها ممّا يتعلّق هذا الغرض بها ، وتكون مسائل جميع الفنون واجدة لتلك الخصوصية من حيث تعلّق الغرض بها .

نعم ، الأغراض إنّما تكون متفرّعة على تلك الخصوصيات الذاتية الثابتة لجميع المسائل في المرتبة الثانية ، وهذا ممّا لا ينكر البتّة ؛ فإنّ الغرض من تدوين النحو مثلاً ؛ هو العلم بكيفية أواخر الكلمة ، ومن المعلوم أنّ هذا الغرض لا يتعلّق إلاّ بعد ما كانت لمسائل النحو خصوصية ذاتية ؛ هي كيفية أواخر الكلمة . هذا كلّه إذا كان المراد من «الغرض» الغرض الأوّلي .

وأمّا إذا كان المراد الأغراض الثانوية ، كتحصيل نفع أو مصلحة من المسائل الشخصية أو النوعية ، مثل التقرّب إلى اللّه تعالى ، أو غير ذلك ، فهي ممّا تختلف باختلاف الأشخاص ، فكيف يحصل بها ميز كلّي في العلوم ؟!

فانقدح بذلك : أنّ موضوع العلم هو الحيثية المشتركة الجامعة التي تشترك فيها المسائل بأجمعها ، وعين هذه الحيثية هي الجهة المميّزة بين العلوم . هذا بالنسبة إلى موضوعات العلوم .

ص: 9

في تمايز المسائل

وأمّا امتياز نفس المسائل بعضها عن بعض ، فهو أيضاً بنفس ذوات المسائل ؛ فإنّ الخصوصية التي تكون في هذه المسألة ، غير ما تكون في غيرها ، لكن هذه الجهات المميّزة بين المسائل ، إنّما تنتزع من الحيثية المشتركة الكلّية التي تكون موضوعاً للعلم ، وتكون تلك الجهات خارجة عن ذات الموضوع مفهوماً ، ومتّحدة معها خارجاً ، على وِزان خارجات المحمول ، لا المحمولات بالضميمة التي تكون حقائق غير حقيقة الموضوع .

كيف ؟! ولا يمكن أن تكون تلك الجهات المميّزة بين المسائل ، هي عين الجهة المشتركة ذاتاً ومفهوماً ؛ لأنّ الحيثية المشتركة لا يعقل أن تكون عين الحيثيات المتمايزة في المسائل ، ولا جزءها ، بل إنّما تكون مغايرة لها مفهوماً ، ومن عوارضها التي تتّحد معها وجوداً ، كما هو الشأن في العوارض التي من قبيل خارجات المحمول ، فتحمل هذه الجهات المتمايزة المائزة بين المسائل على الجهة المشتركة الوحدانية ، وتكون محمولات لها .

ومن هنا ينقدح : الفرق بين العرض المصطلح في لسان الطبيعي(1) ، والعرض المصطلح في لسان المنطقي(2) ، وتنقدح أيضاً مواضع الخلط بين الاصطلاحين ؛ إذ العرض في اصطلاح الطبيعي : هو ما إذا وجد وجد في الموضوع ، في قبال الجوهر الذي يوجد لا في الموضوع ، بل على نحو الاستقلال .

ص: 10


1- الحكمة المتعالية 4 : 235 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 468 .
2- الإشارات والتنبيهات ، شرح المحقّق الطوسي 1 : 40 ؛ شرح المطالع : 69 / السطر ما قبل الأخير .

والعرض في لسان المنطقي : هو ما يكون خارجاً عن مقام الذات ولو كان منتزعاً عنها ، وبهذا الاصطلاح يكون مفهوم الناطق عرضاً بالنسبة إلى مفهوم الحيوان ؛ لأنّ الناطق مفهوم خارج عن مفهوم الحيوان ، وكذلك الحيوان بالنسبة إلى مفهوم الناطق ، ولكنّهما ذاتيان بالنسبة إلى الإنسان ، ولذا كان حمل «الإنسان» على «الحيوان الناطق» حملاً أوّلياً مفهومياً .

وعلى هذا ، فقد يكون ما في الاصطلاح المنطقي بالنسبة إلى شيء عرضاً ، وبالنسبة إلى شيء آخر ذاتياً ، وأمّا الأعراض في لسان الحكيم الطبيعي ، فهي ممّا لا تختلف بالوجوه والاعتبارات .

إذا عرفت ذلك يظهر : أنّ الجهات المائزة المتمايزة في المسائل التي حكمنا بأ نّها من عوارض الجهة المشتركة ، إنّما هي عوارض لها في اصطلاح المنطقي ، لا العوارض باصطلاح الطبيعي ؛ فإنّها تكون بالنسبة إلى الجامع من قبيل خارج المحمول ؛ بمعنى أ نّها متّحدة في الخارج معها بحيث لا يكون في الخارج شيء غير تلك الحيثية المشتركة ، مثل أنّ الجسمية ليست إلاّ ما تكون في الخارج موجودةً ، حيث لا يكون في الخارج شيء بحذاء الجسمية ، وشيء آخر بحذاء الموجودية ، وهكذا العقل ، وكلّ ما يقال : «إنّه موجود» بالحمل الشائع .

فما هو الجهة المشتركة في جميع مسائل علم الفلسفة ، ويكون موضوعاً للعلم ، هو الموجود بما هو موجود ، والحيثيات المائزة المتمايزة - كالجسمية ، والهيولى ، والصورة ، والعقل ، وكلّ ما يقال : «إنّه موجود» - إنّما هي الجهات المنتزعة من الوجود ، وتكون من عوارض الموجود بما هو موجود ؛ بحيث لا يكون في الخارج إلاّ نفس أ نّه موجود .

ص: 11

لا يقال : بناءً على هذا ، فالجهة المشتركة التي تكون موضوعاً للعلم ، هي محمول المسائل ، لا أنّها موضوع المسائل ، كما يقال : «الجسم موجود» و«العقل موجود» .

لأنّا نقول : المتداول بين ألسنة أهل الميزان ، هو حمل الأعمّ على الأخصّ ، وإلاّ فموضوعية الموجود ممّا لا شكّ فيها ، كما أنّ عرضية الجسم بالمعنى الذي ذكرناه ، ليس مشكوكاً فيها .

وأمّا ما أفاده صاحب «الفصول» تارة : بأنّ العرض الذاتي هو ما كان عارضاً للمعروض بلا واسطة عارضٍ آخر(1) .

واُخرى : بأنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات المتقيّدة بالحيثيات ، كالكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء(2) .

فواضح الفساد ؛ لما في الأوّل : من أنّ المراد بالعرض كما حقّقناه ، ليس ما هو مصطلح في باب الطبيعيات ، كي يقال : «إنّ العرض الذاتي كذا» وهذا من الخلط بين الاصطلاحين .

ولما في الثاني : من أنّ تمايز العلوم بتمايز الحيثيات المشتركة السارية في جميع المسائل ؛ بحيث يكون الموضوع نفس تلك الحيثية ، وهي الجامعة المائزة ، لا أنّه بتمايز الموضوعات المتقيّدة بالحيثيات(3) .

ص: 12


1- الفصول الغروية : 10 / السطر 23 .
2- الفصول الغروية : 11 / السطر 20 .
3- هذا ما أفاده سيّدنا الاُستاذ في درسه ، ولكن الذي يخطر بالبال ، أنّ الحيثية المشتركةالذاتية السارية في جميع المسائل ، وإن كانت ممّا لا تنكر كما أفاده دام ظلّه ، إلاّ أنّه من الممكن فرض حيثية مشتركة ذاتية ، تكون أعمّ من الاُولى ؛ فإنّ حيثية الإنسان مثلاً في علم الإنسان ، تكون حيثية مشتركة ذاتية ، لازمة للحيثية الحيوانية ، ويدوّن العلم لأجلها كما في علم الحيوان ، فتكون الحيثية الإنسانية من المسائل ، فهذا الاختلاف الذي يجعل الحيثية تارة من المسائل ، واُخرى يجعلها موضوعاً للعلم ، إنّما نشأ من قِبَل أغراض المدوّنين الداعية للتدوين . والذي أظنّه في تمايز العلوم ؛ هو أنّ الحيثية المشتركة بنفسها - مع قطع النظر عن أغراض المدوّنين - ممّا لا يمكن الاكتفاء بها في سبيل التمايز ، كما أنّ الأغراض أيضاً بنفسها لا يمكن الاكتفاء بها ، بل ما هو المميّز للعلوم هو الحيثيات المتعلّقة لغرض التدوين ، فعليك بالتأمّل . [منه قدس سره]

وأمّا تمثيله بالكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء ، فغير خالٍ من التسامح كما لا يخفى ، ولعلّه لتفهيم المتعلّمين .

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : من أنّ موضوع العلم هو نفس موضوعات المسائل ، وما يتّحد معها خارجاً ، كالطبيعي وأفراده(1) .

ففيه : أنّ الطبيعي تمام حقيقة كلّ فرد من أفراده ، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده ، وليست الأفراد خارجة عنه كي تكون من عوارضه ، وتكون من خارجات المحمول ، وقد عرفت : أنّ الجهات المائزة بين المسائل ، جهات منتزعة من الجهة المشتركة ، وتكون بالنسبة إلى الجامع من قبيل خارج المحمول ، وأ نّها عوارض ذاتية بحسب اصطلاح المنطقي . هذا كلّه فيما هو الموضوع للعلوم ، وما هو المميّز فيها على النحو الكلّي.

ص: 13


1- كفاية الاُصول : 21 .

التحقيق في موضوع علم الاُصول

وأمّا موضوع علم الاُصول ، فقد قال مؤسّسه الأوّل في رسالة له تسمّى ب- «الرسالة الشافعية» : إنّ موضوع العلم هو عنوان «الحجّة في الفقه»؛ لأنّه يبحث فيه عن أنّ القياس حجّة أم لا ، أو أنّ قول الصحابي حجّة في الفقه أم لا ، أو أنّ الاستصحاب حجّة في الفقه أم لا ، أو أنّ الاستحسان حجّة ، أو خبر الواحد - أو غير ذلك من موضوعات المسائل - حجّة في الفقه أم لا(1) .

وعنوان «الحجّة في الفقه» بما أ نّه جارٍ وسارٍ في جميع المسائل ، هو الموضوع للعلم ، وهو بعينه موضوع المسائل أيضاً ، وإن وقع محمولاً في قضايا المسائل ، وحمل على موضوعاتها ، كما أشرنا إليه(2) في قضيّة «الجسم موجود» وهذا هو صراح الحقّ في موضوع علم الاُصول كما يؤدّي إليه النظر ، وبه تندفع جميع الإشكالات :

أمّا ما أفاده صاحب «القوانين» : من أنّ البحث عن دليلية الدليل ، بحث عن المبادئ(3) ، فمردود : بأنّ الموضوع ليس الأدلّة بما هي أدلّة ، بل الموضوع هو عنوان «الحجّة في الفقه» وكلّ ما يكون خارجاً عن ذات هذا العنوان ومحمولاً عليه ، يكون من عوارض الموضوع حسب اصطلاح المنطقي .

ص: 14


1- لم نعثر في رسالة الشافعي على تصريحه بهذا . نعم، بحث الشافعي عن حجّية الحجج ا لشرعية من الكتاب والسنّة وغيرهما ، ومنه يعلم أنّ موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه . راجع الرسالة ، الإمام الشافعي : 401 ، 471 ، 476 ، 478 و503 .
2- تقدّم في الصفحة 11 - 12 .
3- قوانين الاُصول 1 : 8 .

وعلى هذا ، فكلّ مسألة من المسائل ، لو كان البحث فيها عن حجّيتها ، فهي من عوارض الحجّة ، فتكون من المسائل :

أمّا خبر الواحد ، فيبحث فيه عن أ نّه حجّة في الفقه أم لا ، كما أنّ الشهرة أو الإجماع أو حجّية أيّ من الخبرين في باب التعارض كذلك .

وأمّا سائر المسائل ، فمسألة الاشتغال يبحث فيها عن حجّية العلم الإجمالي ؛ وأ نّه كالعلم التفصيلي في الحجّية تنجيزاً أم لا .

والقطع وإن كان من شدّة الوضوح بمثابة لا يبحث في حجّيته ، بل حجّية كلّ شيء بالقطع ، وحجّية القطع بمقتضى ذاته ، إلاّ أ نّه إذا توهّم المتوهّم وشكّ في حجّيته ، فإثبات حجّيته حينئذٍ يجعله من المسائل .

وقد أفاد المحقّق الخراساني : أ نّه بمسائل الكلام أشبه(1) .

وأنت خبير بما في هذا الكلام ؛ لأنّ البحث في علم الكلام عن إثبات واجب الوجود وتوحيده وصفاته تعالى ، وإثبات النبوّة والولاية والعقائد الإسلامية ، وليست حجّية القطع من جملة هذه الاُمور .

وأمّا مسألة حجّية الظواهر ، فهي وإن كانت ممّا لا ريب فيها ، إلاّ أنّ القدماء كانوا يعنونون هذا البحث في خصوص الموارد التي يعرض للكلام اعتلالٌ ما من التقييد والتخصيص ؛ ممّا يوجب اضطراب الظهور ، وكانوا يبحثون في أنّ العامّ والمطلق بعد التخصيص والتقييد ، باقيان على الحجّية أم لا(2) .

ولكنّ هذا البحث في كتب المتأخّرين ، معنون على النحو الأعمّ الأبسط ، من

ص: 15


1- كفاية الاُصول : 296 .
2- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 332 ؛ العدّة في اُصول الفقه 2 : 424 .

دون اقتصارٍ على تلك الموارد . فعلى كلّ حال البحث عن حجّية الظهور بحث عن عوارض الحجّة ، ويكون من المسائل .

ومن الموارد التي كان الظهور فيها ضعيفاً قابلاً للترديد والإنكار ، هو البحث عن حجّية المفاهيم ، وسنبرهن في محلّه(1) على أنّ وجود المفهوم ولو على نحو الإبهام وغاية الضعف ، ممّا لا يقبل الإنكار ، إنّما الكلام في حجّية هذا الظهور وعدمها ، وهذا بخلاف ما هو المعروف عن الشيخ رحمه الله علیه في باب المفاهيم(2) . وعلى هذا كان البحث عن حجّية المفاهيم من المسائل أيضاً .

وأمّا مسألة البراءة ، فالبحث فيها يرجع إلى أنّ احتمال التكليف - كالقطع به - منجّز أم لا ، ومنجّزية الاحتمال عبارة اُخرى عن الحجّية في الفقه .

وأمّا الاستصحاب ، ففيه يبحث أيضاً عن حجّية البقاء والبناء على الحالة السابقة أم لا .

وفي التخيير عند عدم إمكان الاحتياط ، أو ترجيح أحد الجانبين ، يبحث في الاُصول عن أنّ هذا الجانب ، هل هو حجّة في الفقه أم لا ؟ وحينئذٍ لا مجال للتخيير ، بل هو من باب التعادل والترجيح ، وأمّا مع عدم الترجيح وتساوي الطرفين ، فيبحث فيه عن أنّ التخيير بالنسبة إلى كلّ من الطرفين ، معذِّر عن التكليف وحجّة في الفقه ، وتؤلّف منه قضيّة حملية ؛ من موضوع خاصّ ، ومحمول عامّ ؛ هو عنوان «الحجّة في الفقه» .

نعم ، بعض المباحث والمسائل التي لا يمكن إيقاعها موضوعاً لهذا المحمول

ص: 16


1- يأتي في الصفحة 225 .
2- مطارح الأنظار 2 : 22 .

- كبعض مباحث الألفاظ مثل مسألة الوضع ، والحقيقة والمجاز ، والمشتقّ وغيرها ، أو كبعض المسائل العقلية مثل مسألة الضدّ ، واجتماع الأمر والنهي - هي إمّا من المبادئ اللغوية ، أو من المبادئ الأحكامية كبحث مقدّمة الواجب ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى(1) .

هذا تمام الكلام في تمايز العلوم ، وموضوع علم الاُصول .

وأمّا تعريفه ، فبعد ما حقّقناه في موضوعه ، واضح لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ .

هذا هو الحقّ ، ونحن معه حيثما دار ؛ فإنّ الحقّ أحقُّ أن يتّبع ولو كان في «الرسالة الشافعية» فافهم وتأمّل في المقام .

ص: 17


1- يأتي في الصفحة 92 و125 و177 .

فصل البحث في الوضع

قال المحقّق الخراساني : الوضع نحو اختصاص للّفظ بالمعنى(1) .

ولا يخفى : أنّ هذا الكلام ليس إلاّ إحالة إلى مجهول ، وليس له معنىً محصّل دالّ على كيفية تعلّق الألفاظ بالمعاني . على أنّ الوضع ليس هو اختصاص اللفظ وارتباط بالمعنى ، بل الارتباط والاختصاص ما يحصل من الوضع ، فحينئذٍ لا بدّ وأن يكون المراد ب- «الوضع» هاهنا بمعنى اسم المصدر ، كي يصحّ أن يقال : «إنّه نحو اختصاص للّفظ بالمعنى» .

فنقول : الوضع باعتبار هذا المعنى ، ليس إلاّ الدلالة الشأنية ، وجعل اللفظ بحيث إذا سمع يفهم منه المعنى ، وينتقل الذهن من هذا الكيف المسموع إلى المعنى .

وهذه الدلالة الشأنية باعتبار سببها تنقسم إلى ما هي بالتعيين ، أو بكثرة الاستعمال .

ص: 18


1- كفاية الاُصول : 24 .

وملخّص الكلام : هو أنّ وضع اللفظ بمعناه الاشتقاقي المفعولي ، أو بمعنى اسم المصدر ، هو الدلالة الشأنية على المعنى بنحو الاندكاك والمرآتية ، بحيث إذا سمع يفهم منه المعنى ، وهذه الدلالة بهذه الحيثية لا تحصل بصرف الوضع ، بل إنّما تحصل باتّباع الواضع في الوضع التعييني ، وبكثرة الاستعمال في الوضع التعيّني .

فالدلالة الشأنية للألفاظ تارة : تحصل بتعيين الواضع بشرط اتباعه . واُخرى : بكثرة الاستعمال . وثالثة : باستعمال اللفظ بداعي الوضع .

حول أقسام الوضع والموضوع له

ثمّ إنّه لو كان اللحاظ على نحو العموم ، ووضع اللفظ لهذا الملحوظ العامّ ، كان الوضع عامّاً ، والموضوع له كذلك .

ولو كان الملحوظ حين الوضع عامّاً ، لكنّ-ه يوضع بإزاء الخواصّ والجزئيات ، كان الوضع عامّاً ، والموضوع له خاصّاً .

وإن كان الملحوظ خاصّاً ، والوضع بإزاء هذا الخاصّ ، فالوضع والموضوع له خاصّان ، كما في الأعلام الشخصية . وهذه الأقسام الثلاثة ممّا لا يكاد يشكّ في تصويرها .

إنّما الكلام في تصوير قسم رابع ؛ هو الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ، كما يتراءى تصويره من كلام المحقّق الرشتي(1) .

ولكنّ الحقّ على خلاف ما فرضه ؛ إذ الجزئي ليس بكاسب ولا مكتسب ،

ص: 19


1- بدائع الأفكار ، المحقّق الرشتي : 40 / السطر 17 .

ولا يمكن أن يكون بجزئيته وجهاً وعنواناً للعامّ ، كما يمكن أن يكون العامّ وجهاً وعنواناً للأفراد ، هذا هو السرّ في استحالة القسم الرابع . هذا كلّه بحسب مقام الفرض والثبوت .

وأمّا بحسب مقام الإثبات ، فذكرت لكلّ من الأقسام المفروضة أمثال ، وقد اضطربت أفهام الأعلام في خصوص القسم الثاني ؛ وهو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، الذي يتمثّل بالحروف ، فالاختلاف كلّه إنّما هو فيما هو الموضوع له في الحروف .

المعنى الحرفي

فقد قال المحقّق الرضيّ : إنّ الاسم والحرف كليهما في مرتبة الذات سيّان ، من دون فرق جوهري بينهما ، والخصوصية الاستقلالية والغيرية ناشئة من قِبَل الاستعمال .

وقال أيضاً في تحقيق كلامه : إنّ الاسم ما دلّ على معنىً في نفسه ، والحرفَ ما دلّ على معنىً في غير هذه الكلمة .

وهذا في قبال من قال : إنّ معنى التعريف ؛ أنّ الاسم كلمة دلّت في نفس هذا المعنى ، والحرف كلمة دلّت على معنىً في غير هذا المعنى ، والفرق بين الاسم والحرف هو الفرق بين العرض والجوهر .

وخلاصة هذا النزاع : إنّما هو في ضمير «في نفسه» و«في غيره» بإرجاعه تارة : إلى الكلمة ، واُخرى : إلى المعنى(1) .

ص: 20


1- شرح الرضيّ على الكافية 1 : 36 - 37 .

وقد اختار المحقّق الخراساني كلام الرضيّ ، وقال : بأنّ المعنى في حدّ ذاته لا مستقلّ ، ولا لامستقلّ ، والخصوصيات ناشئة عن طور الاستعمالات(1) .

وقال ا لسيّ-د الشريف في حاشيته على «المطوّل» : إنّ المعنى إن كان ملحوظاً على النحو الآلي والمرآتي يكون حرفياً ، وإن كان ملحوظاً على نحو الاستقلال والنفسية يكون اسمياً ، ومناط المعنى الاسمي والحرفي هو اللحاظ الاستقلالي والآلي(2) .

وقال بعض المحشّين على «القوانين» : إنّ المعنى الحرفي هو الارتباط بين المفاهيم المستقلّة ، وألفاظ الحروف موضوعة بإزاء تلك الارتباطات ، وأمّا المعنى الاسمي فهو نفس هذه المفاهيم المستقلّة التي لا ربط بينها في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن المعاني الحرفية(3) .

وقال المحقّق العلاّمة صاحب «الحاشية» : إنّ المعنى الحرفي هو الإنشائي الإيقاعي ، والمعنى الاسمي ما ليس كذلك(4) .

وأنت خبير : بأنّ في تمام هذه الأقوال ما لا يخفى :

أمّا ما أفاده المحقّق الرضيّ والذي اختاره المحقّق الخراساني ، فهو أنّ من المعلوم عدم إمكان استعمال «من» و«إلى» على نحو الخبرية أو الابتدائية ، وهذا

ص: 21


1- كفاية الاُصول : 26 - 27 .
2- المطوّل ، حاشية السيّد الشريف : 372 .
3- قوانين الاُصول 1 : 10 / السطر 5 ، عند قول المصنّف «وكذلك الفعل» ، حاشية السيّد علي القزويني .
4- اُنظر هداية المسترشدين 1 : 145 - 146 .

ممّا لا يمكن إنكاره ، فإن لم يكن فرق ذاتي بين الحروف والأسماء بحسب المعنى ، فلِمَ لا يمكن استعمال كلّ واحد في محلّ الآخر ؟!

وأمّا ما أفاده الآخرون في تحقيق التعريف ، ففيه : أ نّه على خلاف تعريف المشهور : بأنّ «من» للابتداء ، و«إلى» للانتهاء(1) مع أنّها لو دلّت على معنىً في غير هذا المعنى ، فكيف يمكن دلالتها على الابتداء والانتهاء ؟!

وأمّا ما أفاده صاحب «الحاشية» فليس على ما ينبغي ؛ فإنّ المعاني الإنشائية ما توجد في عالم الاعتبار ؛ بحيث لا تكون حقيقتها إلاّ حقيقة اعتبارية صرفة ، مثل الملكية ، والزوجية وأمثالهما ، وأمّا المعاني الحرفية فكلّها وجودات حقيقية ، وهذا ممّا لا يقبل الإنكار .

وأمّا ما أفاده الآخرون(2) من نقد كلامهم فتامّها قد لا يخلو من التأمّل وارتكاب المشقّات التي لا تزيد المتعلّمين إلاّ مرارة وكلالةً .

نعم ، يمكن إرجاع بعض هذه المقالات إلى ما نحن بصدد تحقيقه ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى .

فنقول ومن اللّه التوفيق : إنّنا إذا سلخنا أذهاننا عن الألفاظ في مثال «سرت من البصرة إلى الكوفة» أو «سر من البصرة إلى الكوفة» لا نرى إلاّ السير الخارجي ممتدّاً بهذا الامتداد الخاصّ ، والبصرة ، والكوفة ، وأمّا أوّلية السير وآخريته فليس بحذائهما شيء في الخارج قبال تلك الأشياء الخارجية المذكورة.

ص: 22


1- شرح الرضيّ على الكافية 4 : 260 و270 ؛ مغني اللبيب 1 : 74 و218 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 47 ؛ نهاية الأفكار 1 : 38 - 52 .

نعم ، هذا الامتداد المعيّن الذي يقال له : «السير» إذا وقع في الخارج كان له حدّ ؛ هو الانقطاع والتناهي بالنسبة إلى الطرفين ؛ أعني طرفيه المحاذي أحدهما للبصرة ، وآخرهما للكوفة ، فتعيّن امتداد السير في الخارج إنّما هو بانقطاع أطرافه وتناهيها المحاذي أحدهما للمبدأ ، والآخر للمقصد .

وهذا التناهي والانقطاع الخارجي ، إنّما هو منشأ لا نتزاع مفهوم الأوّلية والآخرية ، وهذا من غير أن يكون بإزاء نفس الأوّلية والآخرية شيء في الخارج ، كما يكون بإزاء السير والبصرة والكوفة شيء في الخارج ، مع قطع النظر عمّا يوجد في وعاء الذهن .

وأمّا اللحاظ الذهني فهو على نحوين :

تارة : يلاحظ عين ما يكون واقعاً في الخارج ؛ بأن يلاحظ ذلك الامتداد المتناهي الأطراف بالبصرة والكوفة ، بدون تعقّل للوصف الانتزاعي من الأوّلية والآخرية اللّتين لا حقيقة لهما في الخارج ، فتكون حينئذٍ القضيّة المعقولة في الذهن قضيّة تامّة مرتبطة بعض أجزائها ببعض ، حاكية عمّا يكون واقعاً في الخارج ، فيكون نفس هذا الربط بين السير والبصرة وبين السير والكوفة - أي نفس تناهي السير وانقطاعه المعقول في الذهن - هو معنى «من» و«إلى» . هذا إذا لوحظ عين ما هو واقع موجود في الخارج .

واُخرى : تلاحظ بالإضافة لما في الخارج ، مفاهيم اُخرى انتزاعية من الخصوصيات والنفسيات الخارجية ، مثلما إذا لوحظ قبال تصوّر السير والبصرة والكوفة ، مفهوم الأوّلية والآخرية ؛ بانتزاعهما من السير المتناهي الأطراف ، فيكون في وعاء الذهن الأوّلية والآخرية والسير والبصرة والكوفة ، فالمعقول في

ص: 23

الذهن هذه المفاهيم المتشتّتة التي لا ربط بينها ، وهذه المتشتّ-تات ليست إلاّ التصوّرات الذهنية التي قد تصلح لأن تكون قضيّة .

اللهمّ إلاّ أن ينضمّ إليها روابط تربط بين هذه المتشتّ-تات المتفرّقات ، فيقال : «إنّ أوّل سيري البصرة، وآخره الكوفة» فحينئذٍ لوحظ أيضاً السير الخاصّ الخارجي المقتطع الطرفان بما أ نّه وقع في الخارج .

وخلاصة الكلام : أنّ تعقّل ما يكون واقعاً في الخارج ، هو بعينه تعقّل الأشياء المرتبطة بعضها ببعض ، ويكون الربط بينها حقيقة الربط وما يكون ربطاً بالحمل الشائع الصناعي، لا الربط بالحمل الأوّلي، والأوّلية والآخرية والربط والارتباط، ليست إلاّ مفاهيم الربط ، ومفاهيم الربط ليست بمفيدة للارتباط بين الأشياء والمفاهيم الكلّية حقيقة ، ولذا مفاهيم الأوّلية والآخرية والبصرة والكوفة والسير في حدّ ذاتها ، ليست إلاّ صرف التصوّرات الذهنية ما لم ينضمّ إليها ما يكون بالحمل الشائع ربطاً ، ومع الانضمام تكون القضيّة العقلية حاكية عمّا وقع في الخارج ، ويصير السير حينئذٍ مرتبطاً إلى السائر المتناهي سيره بالبصرة والكوفة .

فهذه الروابط كلّها مصاديق الربط ، ومصاديق الربط عبارة اُخرى عن السير الذي وقع في الخارج ، والمعاني الحرفية ما يوجد بها الارتباط بين المفاهيم المتفرّقة ، وهي هذه الروابط الحقيقية ، والابتداء والانتهاء هما الربط بالحمل الأوّلي .

وإن شئت قلت : المعاني الحرفية ما يوجد بها الارتباط بين المفاهيم المتفرّقة المتشتّتة ، والمعاني الاسمية نفس هذه المتفرّقات . هذا هو الفرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي .

ص: 24

وأمّا مناط الفرق وسرّ هذا الافتراق ، فهو ما أشرنا إليه ؛ من أنّ الملحوظ المتعقّل في الذهن ، لا بدّ وأن يكون عين ما وقع أو عين ما سيقع في الخارج من المفاهيم المرتبطة ؛ فإنّ السير الذي يقع في الخارج ، لا بدّ وأن يكون مقطوع الطرفين ، وانقطاع الطرفين في الخارج عين الارتباط في الذهن ، وهذا هو معنى الربط الحقيقي الذي يكون الحرف موضوعاً بإزائه .

وأمّا إذا كان الملحوظ هو المفاهيم ، لا بما أ نّها عين ما وقع في الخارج ، بل بما أ نّها مفاهيم تصوّرية ، أو بما أنّ الارتباطات الملحوظة في الذهن ، ارتباطات مفهومية انتزاعية ، مثل مفهوم الابتداء والانتهاء ، فلا يكون حينئذٍ إلاّ صِرف التصوّرات الذهنية المتشتّتة ، لا ربط بعضها ببعض ، فهذه هي المعاني الاسمية غير المشوبة بالمعاني الحرفية .

ومن هنا انقدح ما في كلام بعض المحقّقين : من أ نّه لا فرق بين الأسماء . . .(1) .

ص: 25


1- سقط في أصل النسخة الخطّية من هنا إلى «أحدهما» في الصفحة 29 .

ص: 26

المقصد الأوّل: في الأوامر

اشارة

و فيه مطالب :

ص: 27

ص: 28

المطلب الأوّل: فيما يتعلّق بمادّة الأمر

اشارة

وفيه جهات من البحث :

الجهة الثالثة : في الطلب والإرادة

دليلا الأشاعرة على ثبوت الطلب النفسي

أحدهما :(1) أنّ الطلب اللفظي ، قد يتحقّق بلا إرادة قائمة بذات المتكلّم تكون مبدأً له ، كأمره تعالى إبراهيم علیه السلام بذبح ولده ، وأمثاله من الأوامر الامتحانية ، ولا بدّ لهذا الطلب اللفظي من مبدأ حالّ في نفس المتكلّم ، وحيث لم يكن الإرادة بالضرورة ، وليس شيء آخر من الأوصاف النفسانية صالحاً للمبدئية ، فلا محالة يكون هو الطلب النفسي . فإذا وقع في مورد ، ثبت الإمكان ، فليكن كذلك في سائر الأوامر ، بل في مطلق الكلام(2) .

وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدّس سرّه على مسلكه في تحرير محلّ النزاع : بأنّ

ص: 29


1- سقط في أصل النسخة الخطّية من «الأسماء» في الصفحة 25 إلى هنا .
2- راجع المحصول في علم اُصول الفقه 1 : 254 ؛ شرح المواقف 8 : 93 .

الإرادة الإنشائية كالطلب الإنشائي في مورد النقض محقّقان ، والإرادة الحقيقية كالطلب الحقيقي غير محقّقين(1) وقد عرفت ما فيه .

والتحقيق في الجواب : أنّ المنشأ لتلك الأوامر هو الإرادة الحقيقية أيضاً، لكنّها الإرادة المتعلّقة بالغايات والمقدّمات التي لا تحصل إلاّ بالأمر بنفس ذي المقدّمة.

بيان ذلك : أنّ الكمالات الفعلية التي لأجلها شرعت التكاليف الإلهية ، قد لا تحصل إلاّ بإتيان نفس المأمور به ، كالأوامر الحقيقية ؛ فإنّ في صدور متعلّقاتها من المكلّف مصالحَ لا تحصل إلاّ به ، وقد تحصل بنفس المقدّمات المسبّبة لذيها ؛ بنحو يعتقد المكلّف أنّ الآمر أراد صدور ذي المقدّمة ، فمن إرادة الغاية ينبعث إرادة إلى المقدّمات التي بوجودها تحصل الغاية ، ولمّا كان حصول الغاية متوقّفاً على نفس طلب ذي المقدّمة ، فلا محالة ينبعث إرادة إلى طلبه .

مثلاً : في أمر الخليل علیه السلام الذي هو مورد النقض ، لو أراد اللّه تعالى حصول مرتبة من الكمال له ، التي لا تحصل إلاّ بتقديم إرادة اللّه على إرادته ، وإعراضه عمّا سواه تعالى بإعراضه عن أحبّ أعزّته وفلذة كبده وقرّة عينه ، فهذه الإرادة لاستكمال الخليل تصير مبدأً لإرادة مقدّمات ذبح الولد ؛ بحيث يقطع الخليل علیه السلام بأ نّه تعالى أراد منه الذبح ؛ فإنّ الغاية كما تحصل بالذبح تحصل بنفس المقدّمات .

بل الذبح بما هو نتيجة فعله الاختياري ، غير دخيل في حصول الكمال المطلوب ، بل الكمال يحصل بتسليمه لأمر المولى ، وإتيان ما في قدرته من

ص: 30


1- كفاية الاُصول : 86 .

أسباب الذبح ؛ من تلّه للجبين ، ووضع المدية على الحلقوم ، والإمرار بشدّة لإرادة الذبح فلم يبق من أسبابه الاختيارية شيء إلاّ أتى به ، فوقع منه ما في قدرته ، وما لم يقع لم يكن تحت قدرته . فإذا سلّم لهذا الأمر العظيم الذي تصغر دونه المُعْظمات ، حصل له الكمال التامّ المتوقّع الذي لا يحصل إلاّ بالمقدّمات . فإرادة حصول هذه الغاية العظمى ، صارت سبباً لإرادة المقدّمات على نحو اعتقد الخليل علیه السلام مطلوبية ذي المقدّمة منه ؛ فإنّ الغاية لم تكن مترتّبة على المقدّمات إلاّ بهذا النحو ، وحصولها به لم يكن ممكناً إلاّ بالأمر بالذبح ، فالأمر به مسبّب عن هذه الإرادة ، فلم يكن غير الإرادة شيء نسمّيه «الطلب» .

ثانيهما : أ نّه لو كان مبدأ الأوامر اللفظية هي الإرادة ، لوجب أن يكون في أمر الكفّار بالإسلام وأمر الناس بإتيان شيء ، حصول المأمور به بالضرورة ؛ لعدم تخلّف مراد اللّه تعالى عن إرادته الواجبة ؛ لكن يتخلّف حصول المأمور به عن الطلب كثيراً ، فيجب أن لا يكون مبدؤه الإرادة . وحيث لا بدّ للطلب اللفظي من مبدأ ، ولا يكون غير الطلب النفسي شيء آخر ، فيكون هو المبدأ(1) .

فبرهانهم على هيئة قياس استثنائي ، ينتج من رفع التالي رفع المقدّم ، فيقال : لو كانت الإرادة الواجبة مبدأً للطلب اللفظي ، لزم حصول المطلوب بالضرورة ، لكنّ المطلوب لا يحصل كثيراً ما بالضرورة ، فلم تكن الإرادة مبدأً له .

ثمّ ينضمّ إليه : أنّ الطلب اللفظي لا بدّ له من مبدأ ، وليس سوى الطلب النفسي ما يكون مبدأً ، فيكون هو المبدأ لا غير . ولمّا ثبت في مورد ،

ص: 31


1- راجع المحصول في علم اُصول الفقه 1 : 254 و255 ؛ نقد المحصّل : 334 .

فليكن سائر الموارد كذلك .

وأجاب عنه العدلية بما حاصله : أنّ الإرادة التي لا تتخلّف عن المراد ، هي إرادته تعالى فعل نفسه ، وأمّا إرادته فعل غيره فلا يلزم أن لا تتخلّف(1) .

وأجاب المحقّق الخراساني بما يرجع إلى جوابهم ؛ فإنّ الإرادة التكوينية هي إرادة فعله تعالى ، والإرادة التشريعية هي إرادة فعل غيره(2) .

الجبر والتفويض

وإلى هنا تمّ كلام الفريقين ، ولا يحتاج إلى شيء آخر ، لكن المحقّق الخراساني قدّس سرّه أضاف شيئاً آخر غير مربوطٍ بالنزاع ؛ وهو تفسير الإرادة بالعلم بالنظام الأتمّ الأصلح على ما هو مذاق الحكماء(3) .

ثمّ عقّبه : بأنّ الإرادة التكوينية والتشريعية إذا توافقتا فلا بدّ من الإطاعة والإيمان ، وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان(4) .

فتولّد منه الإشكال المعروف ، الذي أشار إليه قائلهم بقوله :

مى خوردن من ، حق ز أزل ميدانست

گر مى نخورم ، علم خدا جهل بُوَد(5)

ص: 32


1- راجع نقد المحصّل : 335 ؛ كشف المراد : 307 ؛ الفصول الغروية : 68 / السطر 38 .
2- كفاية الاُصول : 88 - 89 .
3- القبسات : 322 ؛ الحكمة المتعالية 6 : 333 .
4- كفاية الاُصول : 89 - 90 .
5- رباعيات عمر خيّام : 250 ، وقد عرّبه السيّد الصافي النجفي إلى قوله :درى اللّه قِدماً بارتشافي للطِّلافإن أجتنبها ينقلب علمه جهلاً

فأجاب عنه قدّس سرّه بما لا يشفي العليل ، ولا يحسم مادّة الإشكال ، بل يؤكّده ويؤيّده ، حتّى انتهى الأمر إلى كسر رأس القلم(1) .

فلا بدّ من بيان أصل الإشكال ، والتفصّي عنه بنحو الإجمال ؛ فإنّ دفعه تفصيلاً متوقّف على مقدّمات لا يمكن تحصيلها إلاّ في مقرّه من العلوم العالية .

فنقول : أصل الإشكال هو أنّ الإرادة إذا كانت هي العلم بالنظام الأتمّ ، وقد تعلّق العلم بوجود الفعل عن العبد ، فيكون واجب الحصول ، وهو مضطرّ في إيجاده ، فكيف يكون مثل هذا الفعل مورداً للحسن والقبح والمثوبة والعقوبة ؟ !

وبالجملة : إنّ فعل العبد إن علم اللّه وجوده ، وتعلّق به قضاؤه وإرادته ، فهو واجب الصدور ، وإلاّ فيكون ممتنع الصدور ، فكيف يكون العبد قادراً عليه ، ويستحقّ به الثواب والعقاب كما عليه العدلية ؟ !

ولقد أجاب عنه المحقّق البارع نصير الملّة والدين قدّس سرّه : بأنّ العلم تابع للمعلوم ، لا المعلوم للعلم ، فلا يكون تعلّق العلم موجباً للوجوب والامتناع في المعلوم(2) .

وردّه بعض المحقّقين من الفلاسفة : بأنّ تابعية العلم للمعلوم إنّما هي في العلوم الانفعالية ، لا الفعلية ، وهو تعالى علمه فعلي ، فالمعلوم تابع للعلم(3) .

وهذا الإشكال واضح الورود على ظاهر كلامه ، ولكن يمكن توجيهه بما لا يرد عليه .

توضيحه : أنّ علّية كلّ مرتبة من مراتب نظام الكلّ لمرتبة تالية منه ،

ص: 33


1- كفاية الاُصول : 89 - 90 .
2- نقد المحصّل : 328 .
3- الحكمة المتعالية 6 : 384 - 385 .

إنّما تكون لخصوصية ذاتية فيها ، وهي غير مجعولة ، بل الجاعل أوجدها ، والخصوصية ذاتية ثابتة لها بلا جعل ، فما كان العلم بالنسبة إليه فعلياً هو وجود النظام ، وأمّا كون المراتب ذات خصوصية ذاتية - أي خصوصية العلّية والمعلولية - فليس العلم بالنسبة إليها فعلياً ، بل هو شبيه بالانفعالي ، وتابع للمعلوم .

وليعلم : أنّ مناط استحقاق العبد للثواب والعقاب ، ليس هو إرادية الفعل ومجرّد صدوره عن العلم والإرادة ، كيف! وجميع الحيوانات تكون أفعالها عن علم وإرادة بالضرورة ، فلو كان مجرّد صدور الفعل عن علم وإرادة ، مصحّحاً لاستحقاق العقوبة ، للزم الالتزام بصحّة عقوبة الحيوان ، مع قضاء الضرورة ببطلانه .

والتحقيق : أنّ مناط الاستحقاق وصحّة العقوبة ، هو اختيارية الفعل ، وليست الاختيارية بمجرّد الصدور عن علم وإرادة كما يظهر من المحقّق الخراساني(1) وغيره(2) وإلاّ لعاد المحذور .

ولتوضيح الحال لا بدّ من تمهيد مقدّمة ؛ وهي أنّ الإنسان مخلوق من رقائق مختلفة ، هي رقائق العوالم العلوية والعوالم السفلية ، وله بحسب اقتضاء كلّ رقيقة ميل ، فله ميول مختلفة ، فباقتضاء رقائقه العلوية له ميل إلى جهة العلوّ وعالم التقديس والتنزيه ، فيحنّ إلى الكمال وحقيقة العبودية ، وباقتضاء رقائقه السفلية يميل إلى جهة السفل والمنزلة الحيوانية والشيطانية ،

ص: 34


1- كفاية الاُصول : 89 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 337 ؛ وقاية الأذهان : 185 .

ويحنّ إلى الشيطنة والشهوة البهيمية والغضب السبعي .

والإنسان دائماً بين هاتين الجاذبتين ، ومعركة جنود الرحمان والشيطان ، وقد أعطاه اللّه تعالى عقلاً محيطاً مميّزاً للمصالح والمفاسد في العاجل والآجل ، حاكماً على سائر القوى .

ثمّ إنّه تعالى مع إعطائه القوّة المميّزة العاقلة ، لم يتركه سدىً ، بل بعث إليه النبيّ-ين والمرسلين ، وأنزل الكتب السماوية ، هادياً إلى الطريق القويم ، مرشداً إلى الصراط المستقيم ، داعياً إلى ما به كماله وسعادته ، زاجراً عمّا به نقصه وشقاوته .

ثمّ إنّ الإنسان في صدور كلّ فعل منه ، لا بدّ من تصوّره وترجيحه أحد جانبي الفعل والترك ، وحيث كان له عقل مميّز ، وله ميول مختلفة - حسبما عرفت - يجعل الفعل والترك في كفّتي ميزان عقله ، فإن رجح جانب الفعل يختار لنفسه فعله ، ويفعله بإرادته ، أو يختار تركه ويتركه كذلك ، فقد يرجّح النفع الدنيوي العاجل على الضرر الاُخروي الآجل فيختاره ؛ أي يعتقده خيراً لنفسه ، فيفعله باختياره وإرادته ، وقد يرجّح تركه فيتركه كذلك .

ولعلّ إلى ما ذكرنا أشار تعالى في سورة الدهر ، حيث قال : «هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»(1).

ص: 35


1- الإنسان (76) : 1 - 3 .

ولعلّ «النطفة» هي النطفة الروحانية التي أشارت إليها أخبار الطينة(1) كما يظهر للمتدبّر فيها . والمشج هو المختلط ، والجمع للإشارة إلى كثرة الاختلاط ، وهذا الاختلاط إشارة إلى الرقائق العلوية والسفلية .

والدليل على أنّ «النطفة» هي الروحانية ، قوله : )نَبْتَلِيهِ( فإنّ الابتلاء مناسب للروح ، لا للجسد والمادّة الجسمانية . والسمع والبصر أيضاً هما الروحانيان منهما ؛ بمناسبة الابتلاء والهداية ، فبهما يميّز الصلاح من الفساد . وهداية السبيل عبارة عن بعث الأنبياء ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب .

وقوله : «إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» إشارة إلى اختيار الطاعة ، فيكون شاكراً لأنعم اللّه ، أو المعصية فيكون كفوراً.

إذا عرفت ذلك علمت : أنّ مجرّد إتيان العمل بالإرادة ، لا يوجب استحقاق العقوبة والمثوبة ، بل المناط هو الإتيان باختيارٍ وترجيحٍ بحسب ميزان العقل ، فاللّه - تعالى شأنه - قد مكّنه من تحصيل السعادة ، وهداه إلى طرقها ، وأعطاه المؤيّدات الداخلية والخارجية ، فإذا كفر بأنعم اللّه واختار لنفسه الشقاوة ، فلا يلومنّ إلاّ نفسه ، وإذا اختار السعادة فليشكر ربّه .

ص: 36


1- بصائر الدرجات : 34 ، الباب 9 ؛ الكافي 2 : 2 ، الباب 1 ؛ بحار الأنوار 5 : 225 ، الباب 10 .

الجهة الرابعة في أنّ الأمر إذا كان مطلقاً بلا قرينة هل يحمل على الوجوب أو الندب ؟

في أنّ الأمر إذا كان مطلقاً بلا قرينة هل يحمل على الوجوب أو الندب ؟

ولا بدّ قبل تحقيق المقام من تقديم اُمور :

الأمر الأوّل : في معنى الطلب

قد عرفت أنّ الطلب النفساني الذي ادّعاه الأشاعرة ، ممّا لا أساس له(1) ، فاعلم أنّ الطلب عبارة عن البعث والإغراء نحو المطلوب .

وبيان ذلك : أنّ المريد لوجود شيء في الخارج ، قد تتعلّق إرادته بإتيانه مباشرة ، فإرادته تصير مبدأً لتحريك عضلاته وآلاته الفعّالة نحو المطلوب ، فيوجده ويحقّقه في الخارج .

وقد تتعلّق إرادته بإيجاد الغير لمطلوبه ، فيحرّكه ويبعثه نحوه بواسطة طلبه وأمره ، فكأ نّه يستخدم غيره ويجعله كعضلاته وآلاته الفعّالة ، فيحرّكه نحوه ، كتحريك عضلاته . وهذا البعث والإغراء عبارة عن الطلب ، استحبابياً كان أو وجوبياً ، وقبل هذا البعث لا يصدق «أ نّه طلبَ منه» وبعده يصدق كما لا يخفى .

الأمر الثاني

في تحصيل معنى الطلب الندبي والوجوبي وبيان ما به الافتراق بينهما

فاعلم : أنّ ما به الامتياز بين الشيئين قد يكون تمام الذات ، كامتياز

ص: 37


1- تقدّم في الصفحة 29 .

الأجناس العالية بعضها مع بعضٍ .

وقد يكون بعض الذات ، كامتياز الأنواع من الجنس الواحد .

وقد يكون المنضمّات والاُمور الخارجة عن الذات ، كامتياز الأشخاص من النوع الواحد .

وهاهنا قسم رابع عند طائفة من الفلاسفة(1) ، وهو كون نفس الذات والحقيقة المشتركة ما به الامتياز والافتراق ؛ بأن يكون لنفس الحقيقة والذات عَرض عريض ومراتب مختلفة ، كامتياز مراتب الوجود وامتياز مراتب الحقائق البسيطة ، كالخطّ القصير والطويل ، ومراتب الشدّة والضعف في الألوان البسيطة ، كما هو المقرّر في محالّه(2) .

إذا عرفت ذلك : يشبه أن يكون ما به الامتياز بين مبدأ الطلب - الذي هو الإرادة - في الوجوبي والندبي ، هو هذا القسم ، وأنّ الإرادة لمّا كانت من الحقائق البسيطة كالعلم والوجود والوحدة ، تكون لها مراتب مختلفة ، وما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك ، وتكون بينها ذات عَرض عريض .

وأمّا الاختلاف بتمام الذات ، حتّى تكون الإرادة الوجوبية متباينة مع الندبية ، فواضح الفساد .

كما أنّ الامتياز ببعض الذات باطل ؛ فإنّها حقيقة بسيطة .

ولا يكون اختلافهما بالعوارض ، حتّ-ى تكون الإرادتان واحدة ، وتكون

ص: 38


1- هم فلاسفة الإشراق ، اُنظر مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق ، المطارحات 1 : 292 - 303 ؛ شرح حكمة الإشراق : 233 - 238 و303 - 305 .
2- اُنظر الحكمة المتعالية 1 : 427 .

الإرادة الوجوبية في درجة واحدة مع الندبية ؛ فإنّه خلاف الضرورة .

بل تكون الإرادة الشديدة والضعيفة اللّتان هما المبدأ للوجوب والندب ، المرتبتين المختلفتين بتمام ذاتهما ، والمشتركتين بتمام ذاتهما - كما هو الشأن في الامتياز بنحو القسم الرابع من الأقسام - كالوجود وسائر البسائط ، فلمّا كانت الإرادتان مختلفتين ، يكون الطلب الناشئ منهما مختلفاً بالتبع ، فيكون الطلب الوجوبي هو الطلب المتأكّد الناشئ عن الإرادة الشديدة القويّة ، والطلب الندبي هو الطلب الغير المتأكّد الناشئ من الإرادة الضعيفة .

الأمر الثالث : في الفرق بين الطلب الندبي والوجوبي

إنّ الطلب الذي هو البعث والإغراء نحو العمل ، قد يكون متأكّداً ببعض أداة التأكيد ، كنونَي التأكيد وغيرهما ، وقد يكون مقروناً بترخيص الترك ، وقد يكون مطلقاً غير مقترنٍ بشيء منهما .

وقد عرفت : أنّ الفرق بين مبدئَي الندبي والوجوبي بالشدّة والضعف ، وأمّا الفرق بين نفس الطلبين، فيكون بالاقتران بالترخيص وعدمه ، كما سيأتي عن قريب(1) .

وأمّا ما قيل : من أنّ الافتراق بينهما إنّما يكون بصحّ-ة المؤاخذة على الترك وعدمها(2) .

وما قيل : من أنّ الوجوب هو الرجحان مع المنع من الترك ، والندب هو

ص: 39


1- يأتي في الصفحة 43 .
2- الفصول الغروية : 87 / السطر 38 .

الرجحان مع الإذن في الترك(1) .

فيرد على الأوّل : أنّ صحّة المؤاخذة إنّما هي من الآثار العقلية التي يتأخّر وجودها عن تحصّل الأمر ، ولا يمكن دخالتها في تقوّم الأمر المتقدّم عليها .

وعلى الثاني : أنّ الرجحان والرضا بالترك وعدمه ، من مبادئ تحصّل الأمر الوجوبي والندبي ، فلا يعقل تقوّمهما بهما .

الأمر الرابع : في دلالة الطلب على الإرادة دلالة عقلية

إنّ دلالة الطلب على الإرادة وكشفه عنها ، لا تكون دلالة وضعية جعلية ، بل دلالة عقلية ، كدلالة المعلول على علّته وكشف الصادر عن منشئه ومصدره ؛ فإنّ اللفظ الصادر عن المتكلّم بما أ نّه فعل صادر منه كسائر أفعاله ، يدلّ بالدلالة العقلية على أنّ فاعله مريد له ، ومبدأ صدوره هو إرادة الفاعل واختياره .

كما يدلّ على أنّ صدوره إنّما يكون لأجل إفادة ، ولا يكون لغواً باطلاً .

وكذا يدلّ على أنّ قائله أراد إفادة مضمون الجملة ؛ أي الفائدة الخبرية أو الإنشائية مثلاً ، لا الفائدة الهزلية ، وكلّ هذه دلالات عقلية ، لا وضعية جعلية .

ويدلّ من حيث إنّه لفظ موضوع ، على أنّ المتكلّم به أراد المعنى الموضوع له ، لا المعاني المجازية ، وسيأتي إن شاء اللّه في باب المفاهيم ، أنّ دلالتها أيضاً من قبيل الدلالات العقلية(2) .

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : من أنّ صيغة الطلب

ص: 40


1- معالم الدين : 64 و89 .
2- يأتي في الصفحة 228 .

والاستفهام والترجّي وغيرها ، تدلّ بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه الصفات حقيقة ، إمّا لأجل وضعها لإيقاعها فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة(1) ، انتهى .

فإنّ هذه المبادئ - مثل الإرادة في الطلب - مبدأ لوجود الإنشائيات ، ومتقدّمة عليها تقدّم العلّة على المعلول ، ولا يعقل تقيّد المتأخّر بالمتقدّم ، وتجافي العلّة عن مقامها ، وصيرورتها قيداً لمعلولها المتأخّر عنها ، حتّى يكون الموضوع له هو المعلول المتقيّد بالعلّة .

مع ما عرفت : من أنّ دلالة الإنشائيات على مبادئها ، إنّما هي دلالة عقلية ، لا وضعية جعلية ، وكشفها عن مبادئها هو كشف المعلول عن العلّة ، لا كشف اللفظ عن معناه الموضوع له .

الأمر الخامس : في تحرير محلّ النزاع

إنّه قد يقرّر ويحرّر محلّ النزاع في حمل الأمر على الوجوب أو الندب ؛ بأنّ موضوع حكم العقلاء باستحقاق العبد للعقوبة والمذمّة واللوم ؛ لخروجه عن مراسم العبودية ومخالفته لسيّده ومولاه ، هل هو الأمر المتأكّد ببعض أداة التأكيد ، ويكون المجرّد عن المؤكّدات غير موضوعٍ لهذا الحكم العقلائي ؟

أو يكون تمام الموضوع هو الأمر ، سواء كان مطلقاً ، أو مقروناً بأداة التأكيد ، ويكون الاقتران بالترخيص رافعاً لحكم العقلاء ؟

ص: 41


1- كفاية الاُصول : 88 .

وبالجملة : مجرّد صدور الطلب تمام موضوعه ، إلاّ أن يقترن بالترخيص ، هذا بحسب مقام الثبوت .

وهل يحكمون في مقام الشكّ في الاقتران وعدمه بالعقوبة أم لا ؟

وقد يحرّر النزاع ، بأنّ الأمر المقرون بأداة التأكيد ، هل يكشف عن الإرادة الشديدة التي هي موضوع حكم العقلاء للعقوبة ، أم الطلب المطلق الذي لا يقترن بالترخيص موضوعه ؟

فعلى التقرير الثاني ، يكون المدّعى أنّ موضوع حكم العقلاء باستحقاق الذمّ والعقوبة ، هو الإرادة الشديدة ؛ بحيث لو اطّلع العبد عليها ، ويكون المولى غافلاً غير آمرٍ أصلاً ، يجب عليه الإتيان بالمراد ، ولو لم يأتِ يكون عاصياً مستحقّاً لها ، ويكون النزاع في الكاشف ، وأ نّه هل هو الأمر مطلقاً ، أو المتأكّد منه ، وعلى أيّ شيء يحمل في مقام الشكّ في الاقتران بالترخيص أو التأكيد ؟

تحقيق المقام

إذا عرفت ذلك فاعلم : أ نّه لا إشكال في أنّ صرف الطلب إذا صدر من المولى المنعم الذي له حقّ المولوية والسيادة ، متوجّهاً إلى العبد الذي له العبودية ، بأيّ نحوٍ من أنحاء التحقّق - باللفظ ، أو بالإشارة ، أو الكتابة ، أو غير ذلك - يجب على العبد إطاعته ، ولو خالفه يستحقّ عند العقلاء العقوبة واللوم والمذمّة ، ولا يقبلون منه العذر أصلاً ، سواء قلنا : بأنّ الطلب تمام الموضوع لهذا الحكم ، أو قلنا : بأنّ الطلب كاشف عن الموضوع الذي هو الإرادة الغير المقترنة بالرضا بالترك .

ص: 42

بل لو قلنا : بأنّ الطلب تمام الموضوع ، لا بدّ من الالتزام بأنّ الموضوع هو الطلب الذي يكون مبدؤه إرادة الانبعاث ، لا مطلق الطلب ولو كان مبدؤه إرادة التعجيز والسخرية مثلاً أو غير ذلك .

وعلى أيّ حالٍ : مجرّد إحراز الطلب من المولى ، موضوع لحكم العقلاء ؛ إمّا ذاتاً ، وإمّا كشفاً .

بل لو شكّ في مقارنة أمر المولى للترخيص ، أو إرادته للرضا بالترك ، يكون حكم العقلاء ثابتاً . ولو ترك العبد أمر المولى ؛ معتذراً بالشكّ في مقارنته للترخيص ، أو مقارنة إرادته للرضا بالترك ، عُدّ عاصياً مستحقّاً للعقوبة والذمّ عند العقلاء كافّة .

وهذا هو العمدة في حمل الطلب المطلق على الوجوب ، وإن دلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى : )مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ((1) بعد قوله : )قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ((2) فإنّ ذمّه تعالى لإبليس لمخالفته مجرّد أمره بالسجود ، كما يظهر من صدر الآية .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الطلب المطلق سواء كان مجرّداً عن الترخيص ، أو مشكوك التجرّد عنه ، محمول على الوجوب ، وإنّما يحمل على الندب إذا اُحرزت مقارنته للترخيص ، أو مقارنة الإرادة للرضا بالترك.

بل المحقّق القمّي رحمه الله علیه ، ذهب إلى أنّ الطلب مطلقاً محمول على الوجوب(3)

ص: 43


1- الأعراف (7) : 12 .
2- الأعراف (7) : 11 .
3- قوانين الاُصول 1 : 81 / السطر 18 .

ولا تعقل مقارنة الطلب للترخيص ؛ فإنّ البعث إلى الفعل والترخيص في الترك ، متنافيان غير مجتمعين ، وليست للإرادة مراتب ، بل الإرادة مطلقاً حتمية وجوبية ، والأوامر الندبية كلّها إرشادية ؛ ترشد إلى ما في متعلّقاتها من المصالح ، فالآتي بها لا ينال إلاّ تلك المصالح ، والتارك لها يحرم عنها ، وليس في البين طلب أصلاً .

وعلى هذا : يكون الوجوب والندب سنخين متباينين ، أحدهما من سنخ الطلب ، دون الآخر ، وهذا ليس ببعيدٍ عن الصواب .

ص: 44

المطلب الثاني: فیما یتعلّق بصیغة الأمر

فیما یتعلّق بصیغة الأمر

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في الفرق فيما ينشأ به الطلب

قد ينشأ الطلب بنحو قوله : «أطلب منك الضرب» أو «آمرك بالإكرام» وقد ينشأ بنحو «اضرب» و«أكرم» ولا إشكال في تحقّق حقيقة الطلب بكلّ من الإنشائين ، فيبقى سؤال الفرق بينهما .

وقد التزم بعض أساتيذنا بأنّ نحو «اضرب» و«أكرم» ليس مفاده إلاّ النسبة الصدورية إلى الفاعل ، ولا يكون مفاده إنشاء الطلب ، بخلاف مثل «أطلب» و«آمر»(1) .

وفيه : أنّ النسبة الصدورية إمّا تصوّرية ، أو تصديقية ، وكلّ منهما أجنبيّ عن مفاد هذه الصيغ الإنشائية ؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ معنى «اضرب زيداً» ليس

ص: 45


1- تشريح الاُصول : 97 / السطر ما قبل الأخير .

صدور الضرب من زيد بنحو المعنى التصوّري ، ولا صدوره بنحو المعنى التصديقي ، وليست النسبة خارجة عنهما .

وبالجملة : لا إشكال في تحقّق الطلب بكلٍّ من نحو «أطلب» و«آمر» وبالهيئات الإنشائية ، فحينئذٍ يمكن أن يقال : الفرق بينهما أنّ الطلب مطلقاً وإن كان وسيلة إلى حصول المطلوب ، وتكون الغاية والمتوجّه إليه هو المطلوب ، وليس للطلب إلاّ سمة المقدّمية والتوصّل إليه ، لكن قد يلاحظ الطلب بنحو المعنى الحرفي ، فيكون فانياً في المطلوب غير منظورٍ فيه ، وهذا مفاد نحو «اضرب» و«أكرم» .

وقد يكون نفس الطلب منظوراً فيه بالنظر الاستقلالي وبنحو المعنى الاسمي ، ويكون عنوان «الطلب والأمر» حاضراً في الذهن ، وإن كان وسيلة إلى حصول المطلوب ، وهذا مفاد نحو «أطلب» و«آمر» .

وبالجملة : قد تنشأ حقيقة طلب الضرب بنحو المعنى الحرفي فانيةً في المطلوب ، وقد تنشأ بنحو المعنى الاسمي مستقلّة في الملحوظية ، وإن كانت في كلا الصورتين وسيلة إلى المطلوب .

ومنه يظهر عدم التفاوت فيما هو الملاك في حمل الطلب على الوجوب ، سواء اُنشئ بمادّته أو بهيئته ؛ فإنّ الملاك هو تحقّق الطلب بأيّ نحوٍ كان .

ص: 46

المبحث الثاني في كثرة استعمال الأمر في الندب

في كثرة استعمال الأمر في الندب

ادّعى صاحب «المعالم» رحمه الله علیه ، أنّ كثرة استعمال الأمر في الندب في الأحاديث المرويّة عن أئمّتنا علیهم السلام ، جعلته من المجازات الراجحة في الاستعمال ، المساوية للوجوب في الاحتمال ، فإذا ورد منهم أمر بلا قرينة نتوقّف فيه ، ولا نحمله على الوجوب(1) .

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه تارة : حلاًّ بأنّ كثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنّة وغيرهما ، لا يوجب صرف ظهوره عن معناه الوضعي ؛ لأنّ الاستعمال إنّما هو مع القرينة المصحوبة ، وهو - وإن كثر - لا يوجب صيرورته مشهوراً ليرجّح أو يتوقّف .

وتارة : نقضاً بالعامّ فإنّه مع كثرة استعماله في الخاصّ حتّى قيل : «ما من عامٍّ إلاّ وقد خُصّ»(2) لم ينثلم ظهوره في العموم ما لم تقم قرينة(3) .

ويرد عليه : - مضافاً إلى عدم ادّعائه كثرة الاستعمال في الكتاب والسنّة ، بل ادّعاها في الأخبار المرويّة عن الأئمّة علیهم السلام ، ولا ملازمة بينهما ؛ فإنّ ما ورد عنهم وإن كان مأخوذاً عنهما ، ولهذا قال الصادق علیه السلام في جواب من قال له : إنّي اُحبّ أن تروي ما تروي لي مسنداً إلى رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «إنّ كلّ ما أقوله

ص: 47


1- معالم الدين : 53 .
2- معالم الدين : 103 .
3- كفاية الاُصول : 92 .

فهو ممّا حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن أبيه أمير المؤمنين علیهم السلام ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم »(1) لكن لا يلزم أن تكون استعمالاتهم مطابقةً لاستعمال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، بل يمكن أن يكون استعمالهم الأمر في الندب أكثر بكثير من استعماله فيه كما لا يخفى - أنّ الحلّ والنقض كليهما مخدوشان:

أمّا الحلّ ففيه : أنّ استعمال الأمر في الندب مع القرينة المصحوبة ، ليس معناه أنّ الأمر مع القرينة يستعمل في المعنى المجازي ، بل معناه أنّ الأمر يستعمل بنفسه فيه ، والمعيّن لهذا الاستعمال هو القرينة ، كما هو الشأن في سائر المجازات ، فإذا كان كذلك فكثرة استعمال اللفظ فيه توجب اُنساً للذهن بالنسبة إليه ؛ بحيث أ نّه ربّما يصير هذا الاُنس موجباً للترجيح وتقديم اقتضائه على اقتضاء الوضع أو التوقّف وعدم الترجيح .

وأمّا النقض ، ففيه :

أوّلاً : أنّ العامّ لا يستعمل في الخاصّ ، بل هو مستعمل في العامّ دائماً ، والتخصيص إنّما هو إخراج ما دخل فيه ، وحينئذٍ فلا معنى لانثلام ظهوره ، بخلاف الأمر فإنّه مستعمل في الندب ، فكثرته توجب الاُنس .

وثانياً : أنّ استعمال العامّ في الخاصّ لو سلّم ، ليس استعمالاً في عنوان الخاصّ ، حتّى يصير الذهن مأنوساً به ، ويصير اللفظ ظاهراً فيه ؛ بحيث يزاحم ظهوره في العموم ، بل يكون استعمالاً فيما هو بالحمل الشائع خاصّ ، فيكون

ص: 48


1- راجع الكافي 1 : 53 / 14 ؛ الأمالي ، المفيد : 42 / 10 ؛ بحار الأنوار 104 : 44 ؛ وسائل الشيعة 27 : 83 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 8 ، الحديث 26 و 67 و 86 .

المستعمل فيه مختلفاً متكثّراً ، وينتزع عنوان الخاصّ من كلٍّ منها .

وبالجملة : لا تكون كثرة الاستعمال في معنىً واحد ، موجبة للاُنس والظهور المزاحم لظهور العامّ ، وهذا بخلاف استعمال الأمر في الندب ، فإنّ كثرة استعماله فيه توجب الظهور المزاحم ؛ لكونه معنىً واحداً .

هذا ، ولكن إشكال «المعالم» لا يرد على طريقتنا في حمل الأمر على الوجوب ؛ فإنّ الطلب - على ما ذهبنا إليه - إذا صدر من المولى ، فإمّا هو بنفسه موضوع لحكم العقلاء بوجوب الإطاعة وقبح المخالفة ، إلاّ إذا اُحرز الإذن في الترك ، وإمّا لكشفه عن الإرادة الحتمية كشفَ المعلول عن العلّة ، وليس من قبيل الاستعمال حتّى يرد عليه ما ذكر .

تنبيه : في الأحكام السلطانية

وممّا ذكرنا في باب حمل الطلب على الوجوب ، وأنّ الطلب بأيّ نحو كان إمّا تمام الموضوع ، أو كاشف عنه ؛ يعرف حال الجمل الخبرية التي تستعمل في الطلب ، فلا نحتاج إلى بيانها وبيان سائر المباحث المربوطة بحمل الطلب على الوجوب ، لكن لا بأس بصرف عنان الكلام إلى ذكر نكتة كثيراً ما نحتاج إليها في الفقه .

وهي أنّ الأوامر الصادرة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وعن الأئمّة المعصومين علیهم السلام ، قد تكون صادرة بعنوان السلطنة الإلهية ؛ وبما أ نّهم مسلّطون على الرعية من قبل اللّه تعالى ، ولهم الرئاسة العامّة ، كأمره صلی الله علیه و آله وسلم بالخروج مع جيش اُسامة بن ثابت ، وكأمر أميرالمؤمنين علیه السلام بخروج الجيش للشام ، وأشباههما ، فهذه الأوامر بما أنّها صادرة منهم ، واجبة الإطاعة ، والتخلّف عنها - بنفسها

ص: 49

وبما أنّها أوامرهم - حرام موجب للفسق .

وبالجملة : إنّ لأوامرهم ونواهيهم الكذائية موضوعية ، ولعلّ قول بُرَيرة : أتأمرني يا رسول اللّه ؟ كان استفساراً منه صلی الله علیه و آله وسلم عن أنّ أمره هل صدر بجهة السلطنة الإلهية ؟

فقال : «لا ، بل أنا شافع»(1) .

وقد تكون أوامرهم ونواهيهم صادرة لا بجهة السلطنة والحكومة الإلهية ، بل لبيان الأحكام الإلهية والفتوى ، فلا تكون مولوية ، ومخالفتها لا تكون حراماً موجباً للفسق بما أنّها مخالفتهم ، بل بما أ نّها مخالفة لأحكام اللّه ؛ فإنّ أوامرهم الكذائية إرشادية إلى الأحكام الإلهية كفتوى الفقيه ، فلا تكون لها إطاعة ومعصية ، ولا مخالفتها موجبة للعقاب ، بل هي كاشفة عن أحكام اللّه .

نعم ، إنّها لو كانت مطلقة غير مقارنة للترخيص ، أو قرينة الندب ، تكون كاشفة عن الأوامر المولوية الوجوبية .

وإن شئت قلت : لمّا كانت كاشفة عن الطلب الإلهي ، فلا مناص من وجوب إطاعتها ، إلاّ مع الإذن في الترك .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الأوامر والنواهي المنقولة عن أئمّتنا المعصومين علیهم السلام ، بل عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، جلّها إرشادية ليست بمولوية .

نعم ، قد تكون إرشاداً إلى الأوامر والنواهي الإلهية ، وقد تكون إرشاداً إلى الصحّة والفساد ، أو إلى الشرطية والمانعية ، أو المصلحة والمفسدة ؛ حسبما ما يستفاد من تفاصيلها وتضاعيفها .

ص: 50


1- سنن الدارمي 2 : 170 ؛ سنن أبي داود 1 : 678 / 2231 .

المبحث الثالث في التعبّدي والتوصّلي

في التعبّدي والتوصّلي

كان الترتيب الطبيعي يقتضي بيان التعبّدي والتوصّلي وماهيتهما وما تقتضيه كلّ منهما ، ثمّ تفريع مورد الشكّ فيهما واقتضاء الأصل عليه ، لكن المحقّق الخراساني رحمه الله علیه جعل حال الشكّ أصلاً ، وجعل بيان ماهيتهما من مقدّماته(1) .

وكيف كان ، فهاهنا اُمور :

الأمر الأوّل : في تعريفهما

الواجب والندب التعبّديان ، ما لا يسقط الغرض منهما إلاّ بإتيانهما مرتبطين بالمولى ، ومتقرّباً بهما إليه ، سواء تعلّق بهما أمر أم لا ، فتعظيم المولى ومدحه وثناؤه ، تكون تعبّدية وإن فرض عدم تعلّق الأمر بها ، لكن لا بدّ من إتيانها تقرّباً إليه تعالى ؛ لأنّ الإتيان بها لا يسقط الغرض كيفما اتّفق ، بل لا بدّ وأن تكون مرتبطة بالمولى ، ومقصوداً بها حصول عناوينها .

والتوصّليان منهما ما يسقط الغرض بنفس وجودهما مطلقاً ، سواء اُتي بهما تقرّباً إليه تعالى أم لا ، وسواء قصدت عناوينهما أم لا ، بل لو وجدا بلا إرادة واختيارٍ وفي حال النوم والغفلة ، لحصل الغرض منهما .

إن قلت : كما أنّ تعلّق الأمر بشيء غير إرادي محال ، كذا تعلّقه بالأعمّ منه أيضاً محال .

ص: 51


1- كفاية الاُصول : 94 و 98 .

قلت : ليس المراد أنّ الأمر في التوصّلي تعلّق بأمرٍ أعمّ من الإرادي ، بل الأمر مطلقاً - تعبّدياً كان أو توصّلياً - ليس إلاّ لإيجاد الداعي في المأمور ، وبعثه إلى المأمور به لأن يريده ويفعله ، لكن قد يكون لتسبيبه للداعي أو لنفس الداعي والإرادة ، دخالة في الغرض ، وقد لا يكون لها دخالة أصلاً ، بل الغرض يحصل بنفس الفعل بأيّ نحوٍ اتّفق وجوده ، فالمولى يتوصّل بالأمر لإيجاد الداعي للعبد كي يفعل بإرادته .

ولكن كونه في التوصّلي مراداً ، أو معنوناً بداعي الأمر ، أو قصد حصول العنوان وأمثال ذلك ، غير دخيل في الغرض من الأمر ؛ بحيث لو اتّفق تحقّقه بلا إرادة وشعورٍ لحصل به الغرض ، وسقط الأمر المسبّب من الغرض.

الأمر الثاني : في أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر
في أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر

إنّ الأصحاب - رضوان اللّه عليهم - من الصدر الأوّل - على ما اطّلعنا على كلماتهم - كانوا ينظمون قصد التقرّب وامتثال الأمر وأشباههما ، في سلك سائر القيود والشرائط الشرعية من غير تفريق بينها(1) إلى عصر الشيخ العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه ، فأبدى التفرقة بينه وبين سائر القيود والشرائط ، وذهب إلى محالية أخذه في متعلّق الأوامر(2) فأصبح ذلك كالضروريات بين المتأخّرين منه ؛ بحيث تلقّ-وه بالقبول أوّلاً ، ثمّ تكلّفوا في إقامة الدليل عليه ثانياً .

ص: 52


1- راجع مفتاح الكرامة 6 : 607 .
2- مطارح الأنظار 1 : 301 .

وقد اختلفت كلمات تلامذته وأدلّتهم في وجه الاستحالة ، فجعله بعض منهم من ناحية الأمر ؛ وأنّ تعلّق الأمر بهذا المقيّد محال(1) وبعضهم من ناحية الإتيان ؛ وأنّ الإتيان بهذا النحو من المقيّد محال(2) .

والذي حرّره المحقّق المقرّر لبحثه الشريف ، هو أنّ هذه القيود إنّما تتحقّق بعد تعلّق الأمر بالمتعلّق ، ولا يمكن أخذ ما يأتي من قِبَل الأمر في موضوعه ؛ لوجوب تقدّم الموضوع على الأمر الذي هو بحكم الموضوع(3) .

وبالجملة : يلزم من أخذه في الموضوع ، تقدّم الشيء على نفسه ؛ لأنّ الأمر متوقّف على الموضوع ، وهو بالفرض متوقّف على الأمر .

وقرّر بعضهم وجه الاستحالة ؛ بأنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بما هو المقدور ، فلا بدّ من كون المتعلّق مقدوراً، والفرض أنّه غير مقدور إلاّ بعد تعلّق الأمر به(4) .

وقال بعض أساتيذنا : إنّ وجه الاستحالة لا ذاك ولا ذاك ، بل وجهها أنّ تعلّق الأمر بذلك المقيّد ، موجب للجمع بين اللحاظين ؛ أي الآلي والاستقلالي ، لأنّ الموضوع لا بدّ وأن يكون ملحوظاً بنحو الاستقلال ، والأمر لكونه آلة لحصول المطلوب ، ليس ملحوظاً إلاّ بنحو الآلية والحرفية ، فإذا قيّد الموضوع بما يأتي من قِبَل الأمر ، فلا بدّ وأن يكون الأمر ملحوظاً بنحو الاستقلال ؛ لمكان الموضوعية ، فيجمع بين اللحاظين المتنافيين .

ص: 53


1- بدائع الأفكار ، المحقّق الرشتي : 237 / السطر 16 .
2- كفاية الاُصول : 95 .
3- مطارح الأنظار 1 : 302 .
4- اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 94 .

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1) : إنّ لزوم المحال إنّما هو من ناحية إتيان المأمور به ، وإنّ الإتيان بالمتعلّق الكذائي ممتنع .

بيانه : أنّ داعوية الأمر إنّما تكون إلى ما لو وجد يكون مصداقاً لعنوان المأمور به ، فإن كان المأمور به مثلاً نفس الصلاة ، تكون الداعوية إليها ، وإن كان الصلاة متقيّدة بالداعوية ، فداعويته لا محالة تكون إليها مع هذا التقيّد ، مع أنّ هذا التقيّد إنّما يتحقّق بعد الداعوية ، فداعوية الأمر تتوقّف على أنّ ما وجد يكون معنوناً بالداعوية ، وهو يتوقّف على داعوية الأمر .

وإن شئت قلت : إنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، والمتعلّق بالفرض متقيّد بالداعوية ، فالأمر لا بدّ وأن يدعو إلى داعويته ، فتحقّق المتعلّق في الخارج مستلزم للدور المحال .

ولك أن تقول : إنّ الأمر في المقام لا يدعو إلاّ إلى المتقيّد بالداعوية ؛ أي الصلاة بداعي الأمر ، فتكون داعوية الأمر إلى داعويته ، فننقل الكلام إلى الداعوية الثانية ، هل هي تدعو إلى الصلاة ، أو إلى الصلاة بداعي الأمر ؟ فإن كانت تدعو إليها مطلقاً فلا تكون مأموراً بها ؛ لأنّه هو المتقيّد ، وإن دعت إلى المتقيّد فلا بدّ من فرض داعوية ثالثة ، فيذهب الأمر إلى غير نهاية ، ولا تقف السلسلة إلاّ إذا كانت الصلاة بنفسها مأموراً بها .

هذا كلّه إن قلنا : بأنّ قصد التقرّب المعتبر في المأمور به ، هو قصد الأمر .

وأمّا إن قلنا : بأ نّه عبارة عن قصد المحبوبية ، أو حسن الفعل ، أو المصلحة ، فلا يلزم منه محال .

ص: 54


1- نقل السيّد الاُستاذ هذا التقرير من مجلس بحث صاحب الكفاية رحمه الله. [منه قدس سره]

هذه جملة من الإشكالات الواردة في المقام ، وقد عرفت أنّ بعضها راجع إلى استحالة الأمر ، وبعضها إلى استحالة المأمور به .

ويرد على الأوّل منها : أنّ الموقوف والموقوف عليه متغايران ، فلا دور في البين ؛ فإنّ الأمر إنّما يتوقّف على الموضوع في الوجود الذهني ؛ أي على الوجود الذهني للموضوع ، والموضوع يتوقّف بوجوده الخارجي على الأمر .

وعلى الثاني : أنّ الأمر إنّما يتوقّف على القدرة في زمان إيجاد المأمور به ، وفي زمان الإيجاد يصير المكلّف قادراً ولو بنفس الأمر .

وإن شئت قلت : إنّ التوقّف هاهنا لا يستلزم تقدّم الموقوف عليه على الموقوف ، والتقدّم هو مناط الدور ، بل التوقّف هاهنا بمعنى أنّ الأمر لا يحسن أو لا يجوز إلاّ مع علم الآمر بقدرة العبد في موطنه ولو حصلت بنفس الأمر ، فملاك الدور هاهنا غير متحقّق أصلاً .

وعلى الثالث : أنّ المحال غير لازمٍ ، واللازم غير محالٍ ؛ فإنّ اجتماع اللحاظين - بمعنى كون لحاظ واحد آلياً واستقلالياً - وإن كان محالاً ، إلاّ أ نّه غير لازم ، وما هو لازم هو لحاظ الأمر استقلالاً بما أ نّه قيد للمتعلّق بلحاظٍ ، ولحاظه آلياً بما أ نّه بعث إلى المتعلّق بلحاظ آخر ، فيكون الشيء الواحد ملحوظاً بلحاظٍ آلي واستقلالي في آنين ؛ آن تصوّر الموضوع ، وآن تعلّق الأمر ، وهو غير محالٍ .

وعلى الأخير : أنّ التفصيل بين قصد الأمر وغيره ممّا لا وجه له ؛ فإنّ الإشكال وارد حتّى بناءً على جعل قصد التقرّب عبارة عن قصد المحبوبية ، أو حسن الفعل ، أو المصلحة ، طابق النعل بالنعل ، بل الإشكال فيها أشدّ وروداً .

ص: 55

بيانه : أنّ وجه الاستحالة على هذا الوجه ، لا يكون هو الدور المصطلح ، بل وجهها مناطه ؛ فإنّ داعوية الأمر لا تتوقّف على كون المأتيّ به منطبقاً على المأمور به بالحمل الأوّلي ، حتّى يختلف الموقوف والموقوف عليه ، بل تتوقّف على ما هو بالحمل الشائع مأمور به ، ولمّا كانت هاهنا نفس الداعوية مأخوذة في المتعلّق ، تصير الداعوية متوقّفة على نفسها ؛ أي كون الداعوية داعوية إلى داعوية نفسها ، وهذا مناط الدور .

وهذا بعينه وارد على إتيان الشيء بقصد المحبوبية والمرادية وشقيقيهما ؛ فإنّ ذوات الأعمال لا تكون متعلّقة للأمر ، بل هي مع تقيّدها بداعي المحبوبية ، أو الحسن أو المصلحة ، فالمدعوّ إليه بداعي المحبوبية وأمثالها ؛ هو أفعال مع الداعي ، فالداعوية تتوقّف على الداعوية .

وبالجملة : إنّ الصلاة مثلاً لا تكون بنفسها محبوبة ، ولا ذات مصلحة ، فلا يمكن أن تكون ذاتها داعية إلى إتيانها بداعي المحبوبية والمصلحة ، بل لا بدّ من كونها متقيّدة بداعي المحبوبية والمصلحة ، داعية إلى إتيانها كذلك ، وهذا هو عين الإشكال ومناط الدور .

وإنّما قلنا : إنّ الإشكال فيها أشدّ وروداً ؛ لأنّ الأمر لمّا كان أمراً اختيارياً ، يمكن أن يتعلّق بما هو أوسع دائرة من الغرض ؛ للتوسّل به إليه ، فيكون الأمر داعياً إلى نفس الفعل بلا قيدٍ ، وإتيانه متقيّداً إنّما يكون بإرشادٍ من الشرع وحكم من العقل ، لكن في الحبّ والحسن والمصلحة لا يمكن أن يقال : إنّها تعلّقت بأوسع من الغرض ؛ لأنّها اُمور غير اختيارية ، كما لا يخفى .

ص: 56

تفصّيات عن عويصة أخذ قصد التقرّب

وهاهنا تفصّيات عن هذه العويصة ، نذكر بعضها وما فيها :

أحدها : ما عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه ؛ من أنّ الإشكال إنّما يكون ، إذا كان اعتبار قصد الأمر وأمثاله بأمرٍ واحدٍ ، وأمّا إذا كان بأمرين ؛ تعلّق أحدهما : بذات العمل ، وثانيهما : بإتيانه بداعي أمره ، فلا محذور أصلاً(1) .

وفيه : - مضافاً إلى ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) أنّ قصد امتثال هذا الأمر الصوري الذي لا روح فيه ، ولا يترتّب عليه غرض ، ولا يكون ذا مصلحة وحسن ومحبوبية أصلاً ، لا يكون مقرّباً للمولى أبداً ، فقصد هذا الأمر الصوري مع لا قصده سواء ، فلا يصل المولى بهذه الحيلة إلى غرضه مطلقاً .

وثانيها : ما أفاده بعض الأعاظم قدّس سرّه في «الدرر» بما حاصله : أنّ المعتبر في العبادة ليس إلاّ وقوع الفعل على وجهٍ يوجب القرب عند المولى ، وهذا لا يتوقّف على الأمر ؛ لأنّ الفعل على قسمين :

أحدهما : ما ليس للقصد دخل في تحقّقه .

وثانيهما : ما يكون قوامه بالقصد ، كالتعظيم والإهانة .

ولا إشكال في أنّ تعظيم من له الأهلية بما هو أهل له حسن عقلاً ، ومقرّب ذاتاً ، بلا احتياجٍ إلى الأمر .

نعم ، قد يشكّ في أنّ التعظيم المناسب للمولى ماذا ؟ وقد يتخيّل كون

ص: 57


1- مطارح الأنظار 1 : 303 .
2- كفاية الاُصول : 96 - 97 .

عمل تعظيماً له ، والواقع خلافه .

إذا تمهّد ذلك نقول : لا إشكال في أنّ ذوات الأفعال والأقوال الصلاتية - من دون إضافة قصدٍ إليها - ليست محبوبة ولا مجزية قطعاً ، لكن من الممكن كون صدورها مقرونة بقصد نفس هذه العناوين ، مناسباً لمقام الباري عزّ شأنه ، غاية الأمر أنّ الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك ذلك ، ويحتاج إلى إعلام اللّه تعالى ، فلو فرضت إحاطته بجميع الخصوصيات لم يحتج إلى الإعلام .

والحاصل : أنّ العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه ، ومن الواضح أنّ محقّقات هذه العناوين مختلفة باعتبار المعظِّم والمعظّم ، وبعد إعلام اللّه - على ما هو المناسب لشأنه - لا يتوقّف حصولها على الأمر حتّى يلزم الدور ، بل يكفي قصد نفس العناوين(1) .

وفيه : أنّ الإجماع قائم ، بل الضرورة على لزوم قصد التقرّب في العبادات ولولا ذلك لأمكن لنا إنكار أصل قصد القربة والامتثال فيها ؛ لكونه أسهل من دفع هذه العويصة ، وإنّما أوقع الأصحابَ في حيص وبيص ، قيامُ هذا الإجماع والضرورة ، وعلى ما ذكره قدّس سرّه يلزم أن لا يعتبر في العبادات قصد التقرّب ؛ فإنّ العناوين القصدية إذا اُتي بها بقصد تحقّق عناوينها ، تتحقّق في الوعاء المناسب لها ، مثل المعاني الإنشائية .

وليس هذا القصد - أي قصد تحقّق العناوين - كقصد الامتثال والتقرّب معتبراً في المتعلّق ، حتّى يرد إشكال الدور ، بل هو نظير المعاني الإنشائية التي تتحقّق

ص: 58


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 95 - 97 .

بنفس قصد عناوينها ، مع مظهرٍ دالٍّ عليها ، فكما أنّ البيع إذا قصد تحقّقه بإنشاء مفهومه ؛ يتحقّق عنوانه ، كذلك حقيقة التواضع والتعظيم والعبادة إذا قصد بالأفعال حصول عناوينها ، وقصد التقرّب والمحبوبية وأمثالهما ، أمر خارج غير دخيل في تحقّق عناوينها .

فإذا كان الأمر كما عرفت ، فلا بدّ وأن يلتزم القائل بأنّ المعتبر في العبادات ليس إلاّ قصد حصول عناوينها ، مع عدم اعتبار قصد التقرّب والامتثال فيها ، فلو أوجد المكلّف الصلاة والحجّ وغيرهما من العبادات ، قاصداً حصول عناوينها ولو بشهوة نفسه ، التزم بالصحّة والإجزاء ، مع أنّ هذا خلاف الإجماع ، بل الضرورة .

وثالثها : ما أفاده في «الدرر» أيضاً بما ملخّصه : أنّ ذوات الأفعال - مقيّدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانية - متعلّقة للأمر ، وهذا ليس تمام المطلوب ، لكن يتّحد في الخارج معه ؛ فإنّ المطلوب هو الأفعال مع الداعي الإلهي ، وصَرفِ الدواعي النفسانية ، وهما متّحدان في الخارج ، والمولى إنّما أمر بأحد الجزءين لتعذّر الأمر بكليهما ، والأمر بأحد الجزءين إنّما يكون للغير ، كالغسل قبل الفجر لا غيرياً ، فلهذا لا يكون الأمر صورياً ، بل حقيقياً ، والإشكال من ناحية القدرة قد عرفت دفعه .

فتحصّل : أنّ ما اُخذ في المتعلّق ، لا يكون قصد التقرّب وأمثاله ، ولكن يتّحد معه ، فلا محذور فيه(1) .

وفيه : - بعد الاعتراف بأنّ هذا التقرير أسلم من الإشكال ممّا أفاده الشيخ من

ص: 59


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 97 - 98 .

تصوّر الأمرين(1) مع أ نّه يرد عليه ما أوردنا على مقالة الشيخ رحمه الله علیه ؛ فإنّ ما هو المطلوب هو الأجزاء مع كلا القيدين بالفرض ، فقصد أحد القيدين ؛ أي صَرف الدواعي النفسانية فقط، لا يكون مقرّباً ، بل الأمر به صوري لا حقيقي - أ نّه لا دليل على اعتبار صَرف الدواعي النفسانية في العبادات .

نعم ، إنّه ملازم لما قام الدليل - من الإجماع والضرورة - على اعتباره ؛ وهو قصد التقرّب .

وفي الحقيقة : هذا التزام بالإشكال ، لا دفع له ؛ فإنّه بعد اعتبار قصد التقرّب في العبادات بالإجماع نشأ هذا الإشكال ، فلا بدّ من دفعه مع هذا الفرض .

التحقيق في التفصّي عن عويصة أخذ قصد التقرّب
تحقيق ودفع :

ولنا في المقام تحقيق تحسم به مادّة الإشكال ، ولا بدّ لتوضيحه من تمهيد مقدّمات :

الاُولى : أنحاء أخذ القصد

إنّ قصد الأمر والامتثال والمحبوبية وأمثالها ، قد يؤخذ في المأمور به على نحو الجزئية مثل سائر الأجزاء .

وقد يؤخذ على نحو القيدية ؛ بنحوٍ يكون التقيّد بالمعنى الحرفي داخلاً ، والقيد خارجاً .

وقد يؤخذ لا بنحو الجزئية ولا القيدية ، بل يكون المأمور به عنواناً لا ينطبق

ص: 60


1- مطارح الأنظار 1 : 303 .

على الأجزاء إلاّ في حال إتيانها مع هذا القيد .

مثلاً : يمكن أن يكون للصلاة عنوان حقيقي ، لا يتحقّق في الخارج إلاّ بعد كون الأجزاء والشرائط المعهودة ، متقيّدة بقصد الأمر أو المحبوبية ، لكن لمّا كان هذا أمراً لا يعلم إلاّ من قِبَل اللّه ، فلا بدّ وأن يكشف عنه الشارع .

وبالجملة : على هذا الفرض ، لا تكون الصلاة عبارة عن الأجزاء والشرائط المعهودة مطلقاً ، بل هي عنوان لا ينطبق عليها إلاّ في حال مقارنتها مع قصد التقرّب أو المحبوبية .

الثانية : الميزان في مقرّبية المقدّمات

إنّ المقدّمات مطلقاً - داخلية أو خارجية ، تحليلية عقلية أو غيرها - لا تكون واجبة بوجوب آخر غير وجوب ذي المقدّمة ، حتّى يكون لها امتثال ومعصية ، بل لو فرض ترشّح الوجوب عليها من ذيها ، لا يكون وجوبها المقدّمي بما هو ، مقرّباً للمولى ومحصّلاً لغرضه ، وليس لهذا الوجوب امتثال ولا عصيان ، بل مقرّبية المقدّمات وامتثالها بنفس مقرّبية ذي المقدّمة وامتثاله .

فالمقدّمات إنّما تكون مقرّبة ؛ لكونها وسيلة لإتيان ذي المقدّمة ، ومقرّبية ذي المقدّمة بواسطة كونه امتثالاً لأمر المولى ، ومحصّلاً لغرضه ، وهذا المعنى موجود في المقدّمات ، تعلّق بها أمر أم لا ، ولو لم يأتِ المكلّف بالمقدّمات وسيلة إلى حصول ذيها ، لا تكون مقرّبة ، تعلّق بها الأمر أم لا .

فالميزان في مقرّبيتها كونها وسيلة إلى حصول ذيها الذي يكون إتيانه طاعة لأمر المولى، وعملاً بوظيفة العبودية، ويكون تعلّق الأمر كالحجر بجنب الإنسان.

ص: 61

وبالجملة : لا يكون للأوامر المتعلّقة بالمقدّمات نفسية ، بل هي فانية في الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة .

الثالثة : فيما هو الباعث نحو العمل

إنّ الأمر لا يكون محرّكاً وباعثاً نحو العمل مطلقاً ، بل هو موضوع لتحقّق الإطاعة ، وإنّما المحرّك والباعث نحو العمل ، مبادئ اُخر موجودة في نفس المكلّف ، على تفاوت مراتب العباد ومقاماتهم ؛ فإنّ المبدأ المحرّك قد يكون حبّ المولى ، وقد يكون إدراك عظمته وصيرورة العبد مقهوراً تحت نور سطوته وجلاله ، وهذان المبدءان من أعلى مراتب العبودية ، وتكون العبادة المتحقّقة بهما من أعلى مدارج العبادة .

وبعد هاتين المرتبتين مرتبة رؤية العبد نعماء المولى ، ومشاهدة استغراقه في بحار جوده ونواله ؛ من أوّل نشأة وجوده إلى آخر مراتبه ، من النعم الظاهرة والباطنة والحسّية والمعنوية ، وهذا الشعور والإدراك مبدأ محرّك له نحو طاعة أوامره ونواهيه ؛ أداءً لبعض حقوقه تبارك وتعالى ، وشكراً لبعض آلائه ونعمائه .

وبعد هذه المرتبة مرتبة الخوف من ناره وأليم عذابه ، ومرتبة الطمع في جنّته ونعيمه ، وهاتان المرتبتان من أدنى مراتب العبودية وأخسّها .

فإذا وجدت في نفس العبد إحدى تلك المبادئ الخمسة ، تصير محرّكة له نحو طاعته ، فالأوامر والنواهي موضوعات لتحقّق الطاعة ، لا محرّكات نحوها ، وإنّما المحرّك ما عرفت .

إذا عرفت ما مهّدنا لك من المقدّمات فاعلم : أنّ عمدة الإشكال في المقام هو

ص: 62

الدور الوارد في ناحية إتيان المأمور به ، وهذا هو الإشكال الدائر على لسان المحقّق الخراساني قدّس سرّه وتصدّى لجوابه(1) ، وأمّا الإشكالات الاُخر - مثل الدور من ناحية تعلّق الأمر ، ومن ناحية القدرة ، والإشكال من ناحية الجمع بين اللحاظين - فقد عرفت الجواب عنها(2) .

وأمّا هذا الإشكال العويص والعويصة المشكلة ، التي هي كالشبهة في مقابل الضرورة والبديهة ؛ فإنّ الضرورة - كما عرفت - قائمة على اعتبار قصد التقرّب في العبادات ، ومن لدن تأسيس الشرائع إلى الآن كان الأمر على هذا المنوال .

فيمكن دفعه : بأ نّك قد عرفت في المقدّمة الثانية ، أنّ المقدّمات إذا اُوجدت واُتي بها وسيلة إلى إتيان ذيها ، تكون مقرّبيتها بعين مقرّبية ذي المقدّمة ، فالمكلّف إذا علم بأنّ الإتيان بأجزاء المأمور به بقصد التقرّب والتوسّل إلى المأمور به ، يلازم في الخارج حصولَ هذا القيد الذي لا يمكن داعوية الأمر إليه ، فلا محالة يأتي بها ، ويتحقّق المأمور به بتمام الأجزاء والشرائط في الخارج . غاية الأمر : يتحقّق بعضها بداعوية الأمر ، وبعضها بالملازمة بينه وبين سائر الأجزاء والشرائط في الخارج .

إن قلت : الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، وتكون دعوته للأجزاء في ضمن دعوته للكلّ ، فلا يعقل أن يدعو إلى بعض الأجزاء ويحرّك إليه إلاّ في ضمن تحريكه إلى الكلّ .

قلت : بعد ما عرفت في المقدّمة الثالثة ، أنّ الأمر لا يكون باعثاً ومحرّكاً نحو

ص: 63


1- كفاية الاُصول : 95 - 96 .
2- تقدّم في الصفحة 55 .

المأمور به ، وإنّما هو الموضوع المحقّق للطاعة ، والباعث المحرّك هو أحد المبادئ الخمسة ، نقول :

إنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما ليس بحاصل من الأجزاء والشرائط ، والفرض أنّ قيد التقرّب يحصل بنفس تحقّق الأجزاء بقصد التوسّل إلى المأمور به ، والتقرّب في الأجزاء والمقدّمات عين التقرّب في الكلّ وذي المقدّمة ، فلا يلزم أن يكون قيد التقرّب مدعوّاً إليه حتّى يلزم الإشكال .

إن قلت : فإذن تكون داعوية الأمر إلى بعض المأمور به ، وهذا التزام بالإشكال ، مع أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه .

قلت : بعد ما عرفت في المقدّمة الاُولى ، أنّ أخذ قصد التقرّب يتصوّر على وجوه ، نقول : إن اُخذ على نحو القيدية أو على نحو المحصّلية ، لا على نحو الجزئية ، ويكون هذا القيد حاصلاً متحقّقاً ، فلا يلزم أن تكون الدعوة إليه ، بل لا يمكن ؛ لأنّها تكون من قبيل تحصيل الحاصل ، كما أنّ الأمر كذلك في سائر القيود والشرائط ، مثل الستر ، والتوجّه إلى القبلة ، وطهارة اللباس ، فلو كان المكلّف مستور العورة ، متوجّهاً إلى القبلة ولو بغير داعوية الأمر ، تكون دعوته إلى سائر القيود التي ليست بحاصلة .

إن قلت : بعد اللتيّا والتي ، فالإشكال بحاله ؛ فإنّ داعوية الأمر تتوقّف على كون المدعوّ إليه - على تقدير وجوده - مصداقاً للمأمور به ، ومعنوناً بعنوانه ، والفرض أنّ كونه مصداقاً معنوناً به ، يتوقّف على الداعوية ؛ لكونها من قيود المأمور به ، وهذا كرٌّ على ما فرّ منه .

قلت : كلاّ ؛ فإنّ داعوية الأمر لا تتوقّف على ما ذكر ؛ بمعنى لزوم تقدّم كون

ص: 64

الأفعال معنونةً به على الداعوية ، بل لو صارت الأجزاء معنونةً بعنوان المأمور به ، ومصداقاً له ولو بنفس داعوية الأمر ، يكون كافياً ، فالمكلّف إذا وجد في نفسه أحد المبادئ الخمسة المحرّكة نحو طاعة المولى ، وكان متهيّئاً لإطاعة أوامره ، منتظراً لصدورها عنه ، ورأى إيجاد الأجزاء في الخارج بقصد التقرّب إلى المولى إيجاداً لما هو مصداق حقيقي للمأمور به ولتمام المطلوب ، ومعنوناً بعنوان الطاعة له ، يصير الأمر - لا محالة - داعياً إلى إتيانها .

وقد عرفت في المقدّمة الثانية : أنّ التقرّب الحاصل من الأجزاء ، عين التقرّب الحاصل من الكلّ ، وأنّ الأمر الترشّحي - لو كان - هو عين الأمر المتعلّق بالكلّ باعتبارٍ ، ولا نفسية له أصلاً ، فالمكلّف يقصد التقرّب بإتيان الأجزاء ؛ لكونها وسيلة إلى تحقّق المأمور به في الخارج .

وبما ذكرنا من أوّل البحث إلى هاهنا ، يظهر النظر فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في جواب من قال : إنّ ذات الصلاة صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة ، بقوله : كلاّ ؛ لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأموراً بها، فإنّ الجزء التحليلي العقلي لا يتّصف بالوجوب(1) .

وجه النظر : أنّ الجزء التحليلي وإن كان لا يتّصف بالوجوب ، لكن لا احتياج إليه في حصول التقرّب به إلى المولى ، إذا اُتي به للتوسّل إلى الكلّ - كما عرفت - والفرض أنّ ذات الصلاة إذا اُتيت بقصد التوسّل إلى تمام المطلوب ، يحصل بها القرب وتمام المطلوب ؛ أي الصلاة المقيّدة ، وقد عرفت أنّ التقرّب بالمقدّمات

ص: 65


1- كفاية الاُصول : 95 .

إنّما يكون بنفس التقرّب بذيها(1) .

وبالجملة : ذات الصلاة وإن لم تكن مأموراً بها ، لكنّها مقدّمة لحصول المأموربه - أي الصلاة المقيّدة - وما كان كذلك يمكن قصد التقرّب به ؛ لأجل التوصّل إلى المطلوب .

وأمّا ما أفاده قدّس سرّه في جواب أخذ الامتثال شطراً لا شرطاً : بأ نّ-ه ممتنع اعتباره كذلك ؛ فإنّه موجب لتعلّق الوجوب بأمرٍ غير اختياري ، فإنّ الإرادة غير اختيارية(2) .

ففيه أوّلاً : أنّ اختيارية الإرادة بنفس ذاتها ، واختيارية غيرها بها .

وثانياً : أنّ الإشكال بعينه وارد بناءً على تعلّق الأمر بنفس الصلاة ، وعدم سقوط الغرض إلاّ بإتيانها بقصد الامتثال ؛ فإنّ الإتيان بقصد الامتثال إذا كان غير اختياري ، فلا يمكن أن يكون تحصيل الغرض المتوقّف عليه واجباً ؛ لإناطة الامتثال بأمرٍ غير اختياري ، وهذا واضح .

رجع وفذلكة الكلام فيما ذكرنا من دفع الإشكال : أنّ الأمر بالشيء كما أ نّه يدعو إلى ذلك الشيء ، كذلك يدعو إلى مقدّماته الداخلية ، تحليلية كانت أو غيرها ، وإلى مقدّماته الخارجية ، وداعوية الأمر ليست بمعنى محرّكيته ، بل المحرّك هو المبادئ الخمسة السالفة المتحقّقة في النفس ، ويكون الأمر موضوعاً لتحقّق الطاعة .

ولمّا كان الداعي إلى إتيان ما هو مصداق المأمور به ، موجوداً في النفس

ص: 66


1- تقدّم في الصفحة 61 .
2- كفاية الاُصول : 96 .

بواسطة إحدى المبادئ ، ورأى المكلّف أنّ إتيان الأجزاء في الخارج - بعد تحقّق الداعي في نفسه - مصداق حقيقي للمأمور به ، يصير الأمر داعياً إلى إتيان الأجزاء الغير الموجودة ، لا إلى إتيان هذا القيد أو الجزء المتحقّق في النفس بعلله ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما ليس بحاصل من المقدّمات الخارجية والداخلية .

والفرض أنّ داعي الامتثال حاصل لا من قِبَل الأمر ، بل من قِبَل المبادئ السالفة ، فالأمر قد تعلّق بالصلاة بداعي الأمر ، وقد عرفت سابقاً أ نّه لا محذور فيه(1) ، ولمّا كان الداعي موجوداً فلا يدعو إلاّ إلى غيره - وهو بقيّة الأجزاء - فاندفع الإشكال من أصله ، فتدبّر جيّداً .

وهاهنا وجه آخر لعلّه يكون أقرب إلى الأفهام ؛ وهو أ نّه بعد ما عرفت في المقدّمة الاُولى أنّ قصد الأمر والامتثال وأمثالهما ، قد يؤخذ بنحو الجزئية ، أو بنحو القيدية ، وقد لا يؤخذ في المأمور به ، بل يكون من قيود محصّل المأمور به(2) ، وفي المقدّمة الثالثة أنّ المحرّك الداعي إلى امتثال أوامر المولى هو إحدى المبادئ الخمسة(3) .

فاعلم : أن المكلّف إذا كان في نفسه المبدأ المحرّك متحقّقاً ، فلا محالة يصير هذا المبدأ أوّلاً داعياً إلى امتثال أوامر المولى بنحو العنوان الكلّي ، ثمّ ينشأ من هذا الداعي داعٍ إلى ما يكون مصداقاً لهذا العنوان الكلّي ، كالصلاة والحجّ مثلاً ،

ص: 67


1- تقدّم في الصفحة 64 - 65 .
2- تقدّم في الصفحة 60 - 61 .
3- تقدّم في الصفحة 62 .

ويمكن أن يكون المأمور به هو عنوان «الصلاة» وتعلّق الأمر بهذا العنوان ، دون نفس الأجزاء والشرائط ، وتكون الأجزاء في حال تحقّق الشرائط ورفع الموانع مصداقاً له .

ثمّ ينشأ من الداعي إلى إتيان الصلاة - التي هي المأمور به بعنوانها - داعٍ إلى إتيان الأجزاء والشرائط .

فهي مع الداعي المحقّق في النفس بمبادئه ، محصِّلة لعنوان «الصلاة» ولا يلزم من ذلك محذور ؛ فإنّ تحقّق عنوان «الصلاة» في الخارج يتوقّف على قصد الامتثال ، لكن تحقّق قصد الامتثال غير متوقّفٍ على تحقّ-ق الصلاة ، بل هو متوقّف على إحدى المبادئ المحقّقة في النفس بعللها ، وهذا واضح جدّاً .

الأمر الثالث : في مقام الشكّ في التعبّدية والتوصّلية

إذا عرفت حال التعبّدي والتوصّلي ، فاعلم : أ نّهم عنونوا البحث عنهما في المقام ؛ لاستنتاج النتيجة في مقام الشكّ في التعبّدية والتوصّلية ؛ من جواز التمسّك بأصالة الإطلاق مع تمامية مقدّماته وعدمه ، وجواز التمسّك بأصالة البراءة وعدمه .

ولمّا كان البحث عن كلا الأمرين ، محتاجاً إلى إشباع الكلام والنقض والإبرام ، وليس المقام مناسباً له ، فيجب إيكال الأمر إلى المباحث المناسبة لهما من ذي قبل ، بعون اللّه وحسن توفيقه .

ص: 68

المبحث الرابع في «المرّة والتكرار» و«الفور والتراخي»

في «المرّة والتكرار» و«الفور والتراخي»

لا إشكال في أنّ الظاهر من صيغة الأمر ، هو إيجاد الطبيعة ، والمرّةُ والتكرار والفور والتراخي ، كلّها خارجة عن مدلولها ؛ فإنّ المادّة هي نفس الطبيعة بلا قيدٍ ، ومفاد الهيئة هو البعث والإغراء نحوها .

والمراد من «المرّة والتكرار» إمّا الأفراد ، أو الدفعة والدفعات ، والفرق بينهما أنّ الآتي بعدّة أفراد دفعةً ، آتٍ بما هو مصداق المأمور به على الثاني ، دون الأوّل ، ولا إشكال في شيء من ذلك .

إنّما الإشكال في أ نّه على المختار ؛ من دلالتها على طلب الطبيعة ، لو أتى المكلّف بعدّة أفرادٍ معاً ، هل يكون امتثالاً واحداً ؛ حيث إنّ الطبيعة كما تتحقّق في ضمن فردٍ ما ، تتحقّق في ضمن جميع الأفراد ، وهي أمر وحداني ؟

أو امتثالات بعدد الأفراد ؛ حيث إنّ الطبيعة تتكثّر بتكثّر أفرادها ، ولا يكون فردان من الطبيعة موجوداً على حدة ، حتّى يكون المجموع وجوداً وحدانياً للطبيعة ، بل الطبيعة اللا بشرط تتكثّر ، وكلّ فردٍ من الأفراد محقّق للطبيعة ، ولمّا كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّدٍ بالمرّة والتكرار ، فحينئذٍ لو أتى المكلّف بأفراد

متعدّدة فقد أوجد المطلوب - أي الطبيعة - بإيجاد كلّ فردٍ ، ويكون كلّ فردٍ امتثالاً برأسه - كما أ نّه موجود برأسه - وتكون الطبيعة مع كلّ فردٍ موجودة برأسها على نعت الكثرة ؟ الحقُّ هو الثاني .

ص: 69

ومن هذا القبيل الواجب الكفائي ، حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة ، ويكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها ، فلو أتى واحد منهم بها تسقط عن الباقي ، ولا مجال للامتثال ثانياً ، ولو أتى عدّة منهم بها دفعة ، يكون كلّ واحدٍ منهم ممتثلاً ، وتتحقّق امتثالات ، لا امتثال واحد من الجميع .

تنبيه : في الأوامر الواقعة عقيب الحظر

لا ضابط في الأوامر الواقعة عقيب الحظر ، حتّى نرجع إليه في موارده ، بل الفقيه لا بدّ له من الاجتهاد في كلّ موردٍ موردٍ حسب اختلاف المقامات ، ويستظهر من كلّ مورد ما هو مقتضى المقامات .

ص: 70

المطلب الثالث: في الإجزاء

في الإجزاء

وقبل الخوض في المقصود ، لا بدّ من تمهيد اُمور :

الأمر الأوّل : في تحرير محلّ النزاع

قد اختلفت تعبيرات الاُصوليين في تحرير محلّ الكلام ، فقد يقال : هل الأمر يقتضي الإجزاء على فرض الإتيان بمتعلّقه على وجهه أم لا(1) ؟

وقد يقال : إتيان المأمور به على وجهه ، هل يقتضي الإجزاء أم لا(2) ؟

والاقتضاء على التعبيرين مختلف ؛ فإنّه على التعبير الأوّل يكون الاقتضاء بمعنى الدلالة ، أي هل يدلّ الأمر على أنّ الإتيان بمتعلّقه مجزٍ أم لا ؟

وعلى الثاني يكون بمعنى العلّية، وإن لم تكن العلّية بمعناها المصطلح، ويرجع المعنى إلى أنّ الإتيان الكذائي ، هل يوجب الإجزاء وامتناع التعبّد به ثانياً أم لا ؟

ص: 71


1- العدّة في اُصول الفقه 1 : 212 - 213 ؛ الفصول الغروية : 116 / السطر 9 .
2- مطارح الأنظار 1 : 109 ؛ كفاية الاُصول : 104 .

الأمر الثاني : في المراد من «على وجهه»

إنّ المراد من قولهم : «على وجهه» هو ما ينبغي أن يؤتى به ؛ أي إتيانه مع كلّ ما يعتبر فيه ، ويكون دخيلاً في المصلحة الحاصلة منه والغرض الذي اُمر به لأجله .

ولعلّ إضافة هذا القيد ردٌّ على القاضي عبد الجبّار ؛ حيث أنكر الإجزاء ؛ مستدلاًّ بأنّ الطهارة الاستصحابية لا تجزي عن الواقع(1) . فردّ : بأنّ إتيان الصلاة معها لا يكون إتياناً بالمأمور به على وجهه .

وأمّا احتمال أنّ الوجه هو قصد الوجه(2) فلا وجه لتخصيصه بالذكر .

كما أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : من أنّ المقصود به إفادة ما يعتبر في المأمور به عقلاً، ولا يمكن أخذه فيه شرعاً كقصد التقرّب ، حتّى لا يكون القيد توضيحياً(3) منظور فيه؛ فإنّ التفرقة بين الشرائط والقيود وإحداث القول بامتناع أخذ قصد القربة في المأمور به ، إنّما هو من زمن الشيخ العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه (4) وتقييد العنوان بهذا القيد يكون في كلام المتقدّم عليه .

ص: 72


1- اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 204 ؛ فواتح الرحموت ، المطبوع بذيل المستصفى 1 : 394 .
2- اُنظر مطارح الأنظار 1 : 113 .
3- كفاية الاُصول : 105 .
4- مطارح الأنظار 1: 301.

الأمر الثالث : في فارق المسألة عن المرّة والتكرار وغيرها

في فارق المسألة عن المرّة والتكرار وغيرها

الفرق بين مسألة المرّة والتكرار وهذه المسألة ، هو ما أفاده المحقّق الخراساني(1) لكنّ الفرق بينها وبين مسألة تبعية الأداء للقضاء ليس كما أفاد(2) ، بل ما أفاده لا يخلو من غرابة من مثله ؛ فإنّه ليس بين المسألتين مشابهة ومناسبة أصلاً ، حتّى نحتاج إلى إبداء التفرقة ؛ فإنّ المبحوث عنه في مسألة الإجزاء ، هو أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه ، هل يقتضي الإجزاء أم لا ؟ والمبحوث في مسألة تبعية الأداء للقضاء ، هو أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة في الوقت ، هل ينحلّ إلى الأمر بالصلاة وإلى الأمر بإيجادها في الوقت ، حتّى إذا لم يؤتَ بالقيد يجب الإتيان بالمطلق أم لا ؟

وبعبارة اُخرى : هل يقتضي الأمر بالصلاة في الوقت ، وجوب إتيانها خارج الوقت إذا لم يؤتَ بها فيه ، أم لا ؟ فالمفروض في هذه المسألة عدم الإتيان في الوقت ، والمفروض في مسألة الإجزاء هو الإتيان على وجهه ، فأيّ مشابهة بينهما حتّى نتصدّى لبيان التفرقة ؟!

إذا عرفت ما ذكرنا ، فالكلام يقع في ثلاثة مواضع :

ص: 73


1- كفاية الاُصول : 106 .
2- كفاية الاُصول : 107 .
الموضع الأوّل في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن التعبّد به ثانياً

إنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري ، يجزي عن التعبّد به ثانياً ؛ فإنّ المولى قبل الأمر بموضوعٍ ، لا بدّ له من ملاحظة موضوع حكمه وكلّ ما له دخالة في سقوط غرضه ؛ من الأجزاء والشرائط ورفع الموانع ، ثمّ الأمر به ، فلو أتى المكلّف به مع كلّ ما له دخل عقلاً في حصول غرضه ، يستقلّ العقل بأ نّه لا مجال ثانياً لإتيانه تداركاً ، ولا مجال لأمر المولى ثانياً - في الوقت أو خارجه - بعنوان التدارك ، وهذا واضح .

وأمّا مسألة تبديل الامتثال فيما لا يسقط به الغرض ، فهو أمر آخر خارج عن موضوع البحث ؛ لرجوعه إلى كون الأمر بما لا يحصل الغرض منه فقط ، مقدّمياً .

الموضع الثاني في الأوامر الاضطرارية
وحدة الأمر أو تعدّده في المقام

ظاهر كلام من عبّر بأنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري ، هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي(1) ؟ هو أنّ محل البحث والنقض

ص: 74


1- كفاية الاُصول : 108 .

والإبرام أ نّه إذا تعلّق أمر بشيءٍ بملاحظة حال الاختيار ، ثمّ تعلّق أمر آخر بشيء بملاحظة حال الاضطرار، هل يجزي الإتيان بالاضطراري عن الاختياري أم لا ؟

فعليه لا بدّ وأن يكون هنا أمران متعلّقان بموضوعين ، حتّى نبحث عن إجزاء إتيان متعلّق الاضطراري منهما عن الاختياري ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، بل لا معنى للبحث عنه ؛ فإنّ الإتيان بمتعلّق أمرٍ لا معنى لأن يسقط أمراً آخر من متعلّقه .

مضافاً إلى أنّ البحث كذلك لا موضوع له ؛ فإنّ الأوامر إنّما تتعلّق بالطبائع ، وإنّما الاختلاف في أفراد المأمور به وخصوصياتها الشخصية ؛ من حيث الجزء والشرط بالنسبة إلى حال الاختيار والاضطرار ، لا أنّ الأمر بها في حال الاختيار غيره في حال الاضطرار .

فطبيعة الصلاة المتعلّقة للأمر ، تكون أجزاؤها وشرائطها مختلفة بحسب أحوال المكلّفين ؛ فالمختار لا بدّ له من القيام والسجود والطهارة ، والمضطرّ يتبدّل قيامه بالقعود ، وسجوده بالإيماء ، وطهارته المائية بالترابية ، مع أنّ الطبيعة هي المأمور بها في جميع الأحوال ، والاختلاف إنّما هو في مصاديقها وأفرادها التي لم يتعلّق الأمر بها .

فالبحث هاهنا : في أنّ الإتيان بالطبيعة مع هذه الشرائط والأجزاء في حال الاضطرار ، هل يجزي عن الأمر المتعلّق بها ، حتّى لا يحتاج إلى الإعادة والقضاء إذا صار المكلّف مختاراً ، أم لا ؟

ص: 75

الإتيان بالفرد الاضطراري يقتضي الإجزاء أم لا ؟

إذا عرفت ذلك ، فيقع البحث في مقتضى الأوامر الاختيارية ؛ وأنّ الإتيان بالفرد الاضطراري للطبيعة ، هل يجزي عنها ؛ بحيث يسقط الأمر المتعلّق بها ، أم لا ، بل تدلّ الأوامر المتوجّهة إلى الطبيعة ، على لزوم الإتيان بالفرد الاختياري بعد الإتيان بالفرد الاضطراري ؟ فلا بدّ أوّلاً من تنقيح موضوع البحث حتّى يتّضح الحكم .

فنقول : تارةً يكون المكلّف مختاراً من أوّل الوقت إلى آخره ، وتارةً : يكون مضطرّاً كذلك ، وتارةً : يكون مختاراً في بعضه ، ومضطرّاً في بعضٍ .

وعلى الأخير : تارةً نقول بأنّ الاضطرار المأخوذ في الأدلّة - من فقدان الماء ، والعجز عن القيام ، والتكتّف حال التقيّة مثلاً - هو الاضطرار المستوعب للوقت ، وتارةً نقول : إنّه الاضطرار في كلّ وقتٍ بالنسبة إلى الأداء .

وبعبارة اُخرى : هو صِرف وجود الاضطرار في كلّ وقتٍ تحقّق .

وما يكون موضوع الكلام في باب الإجزاء عن الإعادة ، هو هذا الفرض الأخير ، وأمّا الفروض الاُخر فهي خارجة عن مورد البحث ؛ أمّا الأوّلان فواضح .

وأمّا الثالث : فلأنّ المأتيّ به لم يكن فرد المأمور به ؛ أي الفرد الاضطراري منه ، وموضوع البحث فيما إذا أتى المكلّف بالفرد الاضطراري من الطبيعة .

فالبحث ينحصر في الفرض الرابع ؛ أي ما إذا كانت الطبيعة متعلّقة للأمر في وقتٍ مضروب لها ، مثل الصلاة من دلوك الشمس إلى غروبها ، ويكون المكلّف

ص: 76

مخيّراً بين الإتيان بها في كلّ زمانٍ من الوقت المضروب لها تخييراً شرعياً - كما قيل(1) - أو عقلياً - كما هو المتصوّر - ويكون لها فردان أحدهما : اختياري ، والآخر : اضطراري ، ويكون المكلّف على هذا الفرض مخيّراً في كلّ وقتٍ بين الإتيان بالفرد الاضطراري في حال الاضطرار ، أو الانتظار إلى زمان الاختيار والإتيان بالفرد الاختياري ، فإذا أتى بالاضطراري ، هل الأمر المتعلّق بالطبيعة والداعي إلى الفرد الاختياري ، يدعو إلى إتيان الاختياري بعد رفع الاضطرار أم لا ؟

ولعلّ الحكم بعد تنقيح موضوع البحث ، صار متّضحاً أيضاً ؛ لأنّه من القضايا التي قياساتها معها ؛ فإنّ بقاء الأمر بطبيعة مع الإتيان بفردها الذي تتحقّق الطبيعة به ، غير معقولٍ .

وإن شئت قلت : بقاء الأمر بالطبيعة تخييراً مع الإتيان بأحد الأفراد غير معقولٍ ، وقد عرفت(2) أنّ الفرد الاضطراري لم يكن له أمر مستقلّ ، وكذلك الاختياري ليس له أمر استقلالي ، حتّى نبحث في أنّ الإتيان بمتعلّق أحد الأمرين ، هل يجزي عن الأمر الآخر أم لا ؟ بل لا معنى لذلك ، إلاّ أن يقوم دليل عليه ، وهو أيضاً خارج عن مسألة الإجزاء كما لا يخفى .

بل لو قلنا : بأنّ المأمور به الاضطراري ، بدل ونائب عن الاختياري في ظرف الاضطرار ، فلنا أن نقول - بعد الغضّ عن بطلان المبنى - : إنّ ذلك يقتضي

ص: 77


1- معالم الدين : 77 .
2- تقدّم في الصفحة 74 - 75 .

الإجزاء ؛ فإنّه أيضاً يرجع إلى التخيير بين الإتيان بالفرد الاضطراري البدلي في ظرفه ، والإتيان بالفرد الاختياري في ظرف رفع الاضطرار ، والإتيانُ بأحد فردي الواجب مسقط لأمره ، كما هو واضح .

ومن ذلك يتّضح الأمر بالنسبة إلى القضاء أيضاً ؛ فإنّه لو فرض استيعاب العذر لجميع الوقت ، أو يكون التكليف من قبيل المضيّق ، فيكون - بحسب أدلّة الاضطرار- انقلاب الفرد الاختياري بالفرد الاضطراري ، وأتى به المكلّف ، فلا مجال للتشكيك في الإجزاء ، وعدم شمول أدلّة القضاء للمورد ؛ ضرورة أنّ الآتي بالفرد الاضطراري - بعد فرض كونه متعيّناً له مع العذر المستوعب - آتٍ بالطبيعة التي هي الفريضة ، فلا معنى لشمول قوله : «مَن فاتته فريضة فليقضها»(1) .

هذا كلّه بحسب مقتضى أدلّة الواجبات وأدلّة تشريع الفرد الاضطراري ، وقد عرفت أ نّه لا يعقل بقاء الأمر بالطبيعة مع الإتيان بفردها ، وكما لا يعقل ذلك لا يعقل ورود أمرٍ آخر بعنوان التدارك أداءً أو قضاءً ؛ لأنّه فرع عدم الإتيان ، وهذا خلف .

نعم ، للشارع أن يأمر استقلالاً بإتيان فردٍ آخر من الطبيعة بملاكٍ آخر ، كما أ نّه لو قام دليل على عدم الإجزاء ، نستكشف منه أنّ الاضطرار في بعض الوقت - الذي كان مقتضى ظاهر الأدلّة الأوّلية - لم يكن موضوعاً للحكم ، وهذان الفرضان خارجان عن موضوع البحث في مبحث الإجزاء .

ص: 78


1- عوالي اللآلي 2 : 54 / 143 ؛ وراجع وسائل الشيعة 8 : 268 ، كتاب الصلاة ، أبواب قضاء الصلوات ، الباب 6 ، الحديث 1 .

وقد اتّضح بما تلوناه عليك ، وقوع الخلط في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله علیه وغيره من المتأخّرين في تحرير محلّ البحث ، وأنّ التشقيقات التي تكلّفوها(1) ممّا لا أساس لها ، ولا تغني من الحقّ شيئاً .

ثمّ إنّه لو تمّت دلالة أدلّة الاضطرار على أ نّه أعمّ من المستوعب فهو ، وإلاّ فالأصل هو الاشتغال بلا ريبٍ ولا إشكالٍ ؛ لرجوعه إلى الشكّ في التعيين والتخيير .

وإن شئت قلت : لرجوعه إلى الشكّ في سقوط التكليف عن الطبيعة بالإتيان بالفرد الاضطراري .

تنبيه :

ما ذكرنا : من كون الإتيان بالفرد الاضطراري يقتضي الإجزاء ، إنّما هو فيما كان الأمر المتعلّق بالطبيعة باقياً في حال الاضطرار ، ودلّت أدلّة الاضطرار على كون الفرد الاضطراري في حاله مصداقاً للطبيعة . وبعبارة اُخرى : فيما إذا دلّت أدلّة الاضطرار على اتّساع دائرة الطبيعة ، وشمولها للفرد الفاقد للجزء أو الشرط ، أو الواجد للمانع في حال الاضطرار .

وأمّا لو اقتضى الاضطرار رفع الأمر عن الإتيان بالطبيعة عند الاضطرار ، فهو خارج عمّا ذكرنا ، مثلاً لو حكم قاضي العامّة يوم الثلاثين من شهر رمضان بكونه عيداً ، يجب الإفطار بمقتضى التقيّة ، كما قال علیه السلام : «اُفطر يوماً من شهر

ص: 79


1- كفاية الاُصول: 108 - 109؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 79 - 80 ؛ فوائد الاُصول تقريرات المحقّق النائيني الكاظمي 1: 244 - 246.

رمضان أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي»(1) لكن يجب قضاؤه ؛ لأنّ التقيّة تقتضي رفع الأمر عن الصوم في هذا اليوم ، لا رفع مفطرية الأكل والشرب كما لا يخفى .

الموضع الثالث في أنّ الإتيان بالمأمور به الظاهري هل يقتضي الإجزاء أم لا ؟
في أنّ الإتيان بالمأمور به الظاهري هل يقتضي الإجزاء أم لا ؟

وقبل الخوض في المقصود ، لا بدّ من تنقيح محلّ البحث ؛ حتّى لا يختلط الأمر .

فنقول : محلّ الكلام في المقام أيضاً حسبما حرّرنا في الأوامر الاضطرارية فيما إذا تعلّق أمر بطبيعة ، ويكون لها مصداق واقعي جامع لكافّ-ة الشرائط والأجزاء ، وفاقد لجميع الموانع ، ودلّت أدلّ-ة الأحكام الظاهرية - أصلاً كانت أو أمارة - على عدم كون شيءٍ جزءاً أو شرطاً أو مانعاً في حال الجهل بالواقع ، فهل الإتيان بمصداق الطبيعة - حسب اقتضاء الأدلّ-ة الظاهرية - يجزي عن المأمور به أم لا ؟

وأمّا إذا دلّ دليل على وجوب شيءٍ ، فأتى به المكلّف ، ثمّ تبيّن عدم وجوبه ، وإنّما الواجب شيء آخر ، فهو خارج عن محطّ البحث ، كما لو دلّ الدليل على وجوب صلاة الجمعة في يومها ، فصلّى المكلّف صلاة الجمعة ، ثمّ تبيّن وجوب الظهر ، فإنّ هذا خارج عن بحث الإجزاء ؛ لأنّه لا معنى لكون الإتيان

ص: 80


1- الكافي 4 : 83 / 9 ؛ وسائل الشيعة 10 : 131 ، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، الباب 57 ، الحديث 4 .

بمتعلّق أمرٍ ، مجزياً عن أمرٍ آخر متعلّق بموضوع آخر .

وكذلك إذا دلّ دليل على عدم وجوب شيءٍ ، فلم يأتِ به المكلّف في وقته ، ثمّ تبيّن وجوبه ، فهو أيضاً خارج عن بحث الإجزاء ، وهو ظاهر .

فتحصّل من ذلك : أنّ محطّ البحث أنّ الإتيان بالمصداق الظاهري للمأمور به ، هل يكون مجزياً عن الأمر المتعلّق بالطبيعة أم لا ؟

إذا عرفت ذلك فيتمّ الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في الإتيان بالمأمور به حسبما تقتضيه الاُصول الشرعية

فاعلم : أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه لم يستقصِ جميع الاُصول ، وإنّما تعرّض للاُصول المنقّحة لموضوع التكليف بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره ، وأمّا الاُصول الحكمية الجارية في الأجزاء والشرائط، فغير مذكورة في كلامه .

نعم ، قد تعرّض في آخر كلامه للاُصول الحكمية الجارية في أصل التكليف ، كصلاة الجمعة والظهر(1) فلا بدّ لنا من استقصاء الكلام في جميع الاُصول والأمارات .

ثمّ اعلم : أ نّا نتعرّض أوّلاً لمقام الإثبات ؛ وأنّ مقتضى ملاحظة الأدلّة الواقعية المثبتة للأجزاء والشرائط والموانع والأدلّة الظاهرية بحسب الإثبات ما هو ؟ ثمّ لو دلّت الأدلّة على الإجزاء إثباتاً نتشبّث بها ، إلاّ أن يدلّ دليل عقلي على الامتناع فنتركها بمقدار دلالته ، ونأخذ بالباقي .

ثمّ اعلم : أنّ من الاُصول ما تتعرّض لبيان تنقيح الموضوع في الشبهة

ص: 81


1- كفاية الاُصول : 112 .

الموضوعية ، مثل قاعدة التجاوز والفراغ .

ومنها : ما تتعرّض لتنقيح المأمور به في الشبهة الحكمية ، مثل أصالة البراءة المستفادة من مثل حديث الرفع(1) .

وفي أمثال هذه الاُصول المنقّحة للمتعلّق والمأمور به مطلقاً ، لا إشكال في أنّ الظاهر منها هو الإجزاء ؛ فإنّ الظاهر من قوله : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(2) هو البناء على إتيان الجزء المشكوك فيه ، والبناء على إتيان الشرط المشكوك فيه وعدم المانع المشكوك فيه .

ومعنى البناء على ذلك ، أنّ المصلّي الذي أتى بالصلاة لغرض إسقاط الأمر المتوجّ-ه إليه ، وصيرورته مستريحاً من التكليف الإلهي وتبعاته ، قد صار مستريحاً منه بإتيان هذا الفرد المشكوك فيه من حيث الصحّ-ة بعد التجاوز .

وإن شئت قلت : إنّ دليل القاعدة بلسان الحكومة ، يدلّ على توسعة المأمور به ؛ بحيث يشمل ذيله هذا الفرد المشكوك فيه ولو كان ناقصاً بحسب الواقع .

وهكذا الكلام في مقتضى أدلّة أصالة الطهارة والحلّية الجاريتين في الشبهات الموضوعية ، فإنّهما أيضاً ممّا ينقّح الموضوع بلسان الحكومة ؛ فإنّ معنى البناء

ص: 82


1- التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ الخصال : 417 / 9 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الباب 56 ، الحديث 1 .
2- تهذيب الأحكام 2 : 344 / 1426 ؛ وسائل الشيعة 8 : 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 3 .

على الطهارة في اللباس ، هو صحّة إتيان الصلاة به ، وكون هذا المأتيّ به هو الصلاة المأمور بها .

وهكذا الاُصول الجارية في الشبهات الحكمية ، فإنّها أيضاً كذلك ؛ فإنّ دليل رفع الجزئية والشرطية والمانعية ، يدلّ - بلسان الحكومة - على أنّ الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط أو الواجدة للمانع واقعاً لدى الشكّ ، صلاة حقيقةً ، وتكون الصلاة في حقّ الشاكّ هي هذا المأتيّ به ؛ فإنّ مقتضى التعبّد بالبناء على عدم جزئية مشكوك الجزئية وشرطية مشكوك الشرطية ومانعية مشكوك المانعية ، هو البناء العملي ؛ أي الإتيان بالفرد الناقص ، والبناء العملي على كونه صلاةً في حقّه ، وهذا يدلّ على توسعة المأمور به في زمان الشكّ ، وتنزيلِ هذا الفرد منزلة المأمور به التامّ ، وهو المقصود من الإجزاء .

وبالجملة : جميع أدلّة الاُصول الجارية في الأجزاء والشرائط والموانع ، حاكمة على الأدلّة الأوّلية ، ويكون مفادها توسعة دائرة المأمور به .

لا يقال : إنّ ما ذكرت حقٌّ لو لم ينكشف الخلاف ، بخلاف ما إذا انكشف ؛ فإنّ قوله : «كلّ شيءٍ نظيفٌ حتّى تعلم أ نّه قذرٌ»(1) وقوله : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(2) أي ما دام الشكّ باقياً ، وأمّا إذا ارتفع الشكّ ، فلا بدّ من إتيان المأمور به على ما هو عليه في نفس الأمر ، وبحسب الأدلّ-ة الواقعية .

ص: 83


1- تهذيب الأحكام 1 : 284 / 832 ؛ وسائل الشيعة 3 : 467 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحديث 4 .
2- تقدّم في الصفحة 82 .

فإنّه يقال : لا إشكال في أنّ الشكّ المأخوذ في هذه الأدلّة ، هو الشكّ الحادث ، سواء كان مستمرّاً أو لا ، لا الشكّ المستمرّ إلى آخر العمر ؛ فإنّ التعبّد بالعمل على طبق الأصل مع الشكّ المستمرّ غير ممكنٍ ؛ لأنّ وقت العمل على طبقه هو حين حدوثه ، فلا معنى لكون التعبّد بالعمل بالأصل متفرّعاً على الشكّ إلى آخر الوقت أو العمر ، فإذا كان كذلك ، فلا يضرّ انكشاف الخلاف بما نحن بصدده .

بل لا معنى لكشف الخلاف ؛ فإنّ الظاهر من الأدلّة - كما بيّنّا - هو كون الفرد الناقص في زمن الشكّ، مصداقاً للمأمور به حقيقةً ، فإذا اتّسعت دائرة المأمور به ، فلا معنى لكشف الخلاف أصلاً ، فتدبّر جيّداً .

المقام الثاني : في الإتيان بالمأمور به حسبما تقتضيه الأمارات الشرعية

سواء كانت قائمة على تحقّق الموضوع في الشبهات الموضوعية ، كما لو قامت البيّنة على إتيان القراءة أو الركوع مثلاً مع الشكّ في الإتيان ، أو قامت على طهارة اللباس ، أو كونه من المأكول والمذكّى مع الشكّ فيها .

أم كانت قائمة على نفي الجزئية والشرطية والمانعية مع الشكّ في الشبهة الحكمية ، كما لو قام خبر الثقة على عدم جزئية السورة ، أو على عدم شرطية طهارة اللباس ، أو عدم مانعية غير المذكّى .

وهي أيضاً تدلّ على الإجزاء ؛ فإنّ الأمارات وإن كانت لها جهة الكشف والطريقية عن الواقع بأنفسها ، لكن أدلّة اعتبارها تكون بعينها من هذه الجهة مثل أدلّة الاُصول ؛ فإنّ معنى تصديق العادل هو البناء العملي على صدقه ، وكون

ص: 84

خبره مطابقاً للواقع ، والإتيان بالمأمور به على طبق إخباره ، فإذا أخبر العدلان بطهارة اللباس ، أو كونه مذكّى ، فمعنى تصديقهما في عالم التشريع والتعبّد ، هو البناء العملي على طبق قولهما ، وإتيان المأمور به مع اللباس المشكوك فيه ، وخروج المكلّف عن عهدة التكليف ؛ بإتيان الفرد المشكوك فيه على طبق قولهما ، وكذلك الحال في الشبهات الحكمية بلا تفاوتٍ .

وبالجملة : إنّ لسان أدلّة اعتبار الأمارات من هذه الجهة عيناً ، لسان أدلّة الاُصول ؛ من البناء التعبّدي على تحقّق المأمور به ، وتنقيح الموضوع في عالم التشريع ، فهي بلسانها حاكمة على الأدلّة الواقعية، وموسّعة لنطاق أفرادها ، ودائرة ماهياتها .

إن قلت : فعلى ما ذكرت من كون مفاد أدلّة اعتبار الأمارات وأدلّة الاُصول هو البناء العملي ، وأنّ مفادها واحد لا تفاوت فيه ، فلا معنى لحكومة الأمارات على الاُصول ، وهو كما ترى .

قلت : تحكيم بعض الأدلّة على بعضها ، إنّما هو ببركة لسان الدليل وكيفية أداء مفاده ، فربّما يكون مفاد الدليلين من حيث النتيجة واحداً ، ولكن يكون لسان أحدهما وكيفية أداء المعنى ، بنحو يكون عند العرف حاكماً ومقدّماً على الآخر .

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ الأمارات والاُصول مشتركتان في النتيجة ؛ وهي كون مفادهما البناء العملي على وجود شيء أو عدمه ، فلا فرق بين أصل الطهارة وقيام البيّنة عليها من هذه الجهة ؛ فإنّ معنى قوله : «كلّ شيءٍ نظيفٌ»(1) هو البناء

ص: 85


1- تهذيب الأحكام 1 : 284 / 832 ؛ وسائل الشيعة 3 : 467 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحديث 4 .

على الطهارة عملاً ، وجواز لبس ما شكّ في طهارته في المشروط بها ، كما أنّ مفاد اعتبار دليل البيّنة أيضاً هو البناء العملي على الطهارة ، وجواز لبس ما قامت البيّنة على طهارته في المشروط بها ، من غير تفرقة بينهما من هذه الجهة .

لكن كيفية تأديتهما لهذا المعنى مختلفة ؛ فإنّ لسان الاُصول هو البناء على الطهارة لدى الشكّ فيها ، فالشكّ مأخوذ في موضوع الدليل ، وأمّا لسان الأمارات فهو البناء على تصديق العادل عملاً ، وكون خبره مطابقاً للواقع ، وهذا لسان إزالة الشكّ في عالم التشريع ، فيكون رافعاً لموضوع الأصل لدى العرف ، فيقدّم عليه ، وهذا لا ينافي كون مفادهما هو البناء العملي ، كما عرفت .

فإن قلت : لازم ما ذكرت هو تنويع المكلّف ؛ وأنّ تكليف العالم غير تكليف الجاهل ، وأنّ الأجزاء والشرائط والموانع ، إنّما تختصّ بالعالم بها ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ؛ فإنّه - مع ورود الدور في الشبهات الحكمية - مخالف لظاهر أدلّة الأمارات والاُصول ؛ فإنّ الظاهر من تشريع التعبّد بشيءٍ والحكم بالبناء العملي على شيءٍ ؛ هو كونه بحسب الواقع ذا حكم حتّى في زمان الشكّ .

مثلاً قوله : «كلّ شيءٍ نظيفٌ» يدلّ على البناء على طهارة اللباس في زمان الشكّ وجواز الصلاة معه ، فلو لم تكن الطهارة شرطاً للباس المصلّي حتّى في زمان الشكّ ، فلا معنى لهذا التعبّد ، فمن نفس هذا الحكم بالبناء على الطهارة ، يعلم كون الطهارة شرطاً حتّى في زمان الشكّ فيها ، حتّى يصحّ التعبّد .

وكذلك ظاهر قوله : «رفع . . . ما لا يعلمون»(1) أنّ الحكم الموجود بحسب

ص: 86


1- التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ الخصال : 417 / 9 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الباب 56 ، الحديث 1 .

الواقع ، والمجهول لدى المكلّف ، مرفوع تعبّداً وفي عالم التشريع .

وقس على ذلك موارد الأمارات وسائر الاُصول ؛ فإنّ ظاهرها كون الحكم الواقعي مطلقاً لمورد الشكّ ، ولا يمكن تقييد الأدلّة الواقعية بالأدلّة الظاهرية ؛ فإنّ المقيّد والمطلق لا بدّ وأن يردا على موضوعٍ واحدٍ ، فإنّهما من أقسام التعارض وإن كان أحدهما مقدّماً - بحسب الظهور - على الآخر ؛ لأنّ دليل المطلق ظاهر في كونه تمام الموضوع للحكم ، ودليلَ المقيّد ظاهر في دخالة القيد فيتعارضان ، لكن ظهور المقيّد في دخالة القيد أقوى من ظهور المطلق في تمامية الموضوعية ، فيقدّم عليه .

وبالجملة : إنّ المطلق والمقيّد لا بدّ وأن يردا على موضوعٍ واحدٍ حتّى يتحقّق التعارض ، ولمّا كانت أدلّة الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية ، ومتأخّرة عنها برتبتين - لأنّ الشكّ فيها مأخوذ في موضوعها - فلا يمكن تقييدها بها ؛ لعدم ورودهما على موضوعٍ واحدٍ ، ولا يمكن تجافي أحدهما عن موطنه .

قلت : لا محيص عمّا ذكرت ؛ فإنّه حقٌّ لا مرية فيه ، إلاّ أ نّ-ه مع ذلك يكون بين الأدلّة الواقعية والظاهرية تنافٍ وتعارض لا بدّ من رفعه ؛ فإنّ الزجر الفعلي عن شرب الخمر مثلاً حتّى في زمان الشكّ مع الترخيص الفعلي بشربه ، متنافيان ، وكذلك الأمر الفعلي بإتيان الجزء والشرط مع الترخيص الفعلي لدى الشكّ متنافيان ، ولا مناص إلاّ بالالتزام بكون الأحكام الواقعية إنشائية ؛ بمعنى أنّ الحكم المنشأ يكون مطلقاً شاملاً لحال العلم والجهل ، لئلاّ يلزم الدور المستحيل .

ص: 87

ولكن فعلية الحكم تكون مختصّةً بحال العلم ؛ جمعاً بين الأدلّة الواقعية والظاهرية ، ولا يمكن الالتزام بفعلية الأحكام الواقعية .

بل كلّ من تصدّى للجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، لا مناص له من ذلك ، والمحقّق الخراساني رحمه الله علیه القائل بجعل العذر لدى التخلّف أيضاً(1) لا مناص له من القول بشأنية الأحكام ؛ فإنّ-ه مع فعلية الحكم لا معنى لجعل العذر أصلاً كما لا يخفى .

تذييل استطرادي : الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية

وحيث انجرّ الكلام إلى كيفية الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، لا بأس بصرف عنان الكلام إليها على سبيل الاختصار .

فنقول : محصّل الكلام فيها ، أ نّه لا إشكال في عدم إمكان تعلّق الحكم بالعالم به ؛ فإنّ العلم بالشيء يتوقّف على تحصّل الشيء وتحقّقه بالضرورة ، فما لا وجود له أصلاً لا يمكن تعلّق العلم به ، فالحكم لا بدّ وأن يكون متحقّقاً حتّى يتعلّق به العلم ، فالعلم بالحكم يتوقّف على الحكم ، وتعلّق الحكم بالعالم به لا بدّ وأن يتوقّف على العلم به ؛ لأنّ عنوان «العالم بالحكم» لا يتحقّ-ق إلاّ بتحقّق العلم به ، فالعلم يتوقّف على الحكم ، والحكم على العلم ، وهذا دور واضح .

فلا بدّ وأن يتعلّق الحكم بعنوانٍ آخر ذاتي أو عرضي ، مثل : «أيّها الناس» أو «أيّها المؤمنون» ويكون متعلّق الحكم نفس العنوان بلا تقيّدٍ بحال العلم والجهل ، وهذا لا إشكال فيه .

ص: 88


1- كفاية الاُصول : 319 .

كما أنّه لا إشكال في أنّ الأوامر والنواهي الصادرة من كلّ متكلّم آمر ، إنّما تصدر لغرض انبعاث المكلّف نحو العمل ، والانبعاث بها نحوه لا يمكن إلاّ بعد العلم بالأوامر والنواهي ؛ لأنّ العلم بها في سلسلة علل الانبعاث ، فإذا علم المكلّف أوامر المولى ؛ وأنّ موافقتها موجبة لآثار وخواصّ مطلوبة ، ومخالفتها مورثة لنكال وعقوبة ، يشتاق إلى موافقتها ، ويشتدّ الشوق إليها ، ويتحقّق الجزم والعزم والإرادة ، فينبعث نحو العمل ، وأمّا الجاهل بها فلا يمكن أن ينبعث ويتحرّك بها .

وأمّا الانبعاث في محتمل الوجوب والحرمة احتياطاً ، فلا يكون بباعثية الأمر الواقعي ونهيه إذا كانا موجودين واقعاً ، بل بواسطة احتمال الأمر والنهي ، سواء كان أمر ونهي في الواقع أو لا ، فوجودهما وعدمهما - بحسب الواقع - على السواء ، ونسبتهما إلى الإتيان واللا إتيان سواء ، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون باعثاً ، فباعثية الأوامر والنواهي لا تمكن إلاّ بعد العلم بهما .

فإذا كان الأمر كذلك ، فلا بدّ وأن تكون إرادة المولى في الأوامر والنواهي ، مقصورةً على العالمين بها قهراً ومن باب الاضطرار ، وإن كان غرضه متعلّقاً بالأعمّ ، وخطابه متعلّقاً بعنوانٍ شامل للعالم والجاهل ، لكنّ الخطاب لمّا كان لغرض الانبعاث ، وهو لا يحصل إلاّ من العالم به ، ولا يمكن الانبعاث بالنسبة إلى الجاهل به ، فلا محالة تكون إرادته قاصرة عن شمول الجاهل ، ومقصورة على العالم .

ولو تعلّق غرضه بعدم مخالفة أمره الواقعي مطلقاً ، فلا بدّ له من إيجاب الاحتياط بخطابٍ آخر طريقي؛ لغرض حفظ المأمور به بالأمر الأوّلي عن

ص: 89

المخالفة ، حتّى يعلم المكلّف هذا الخطاب الاحتياطي ، فينبعث نحو الاحتياط .

ولا يخفى : أنّ إيجاب الاحتياط في الشبهات التحريمية والوجوبية ، موجب للعسر الشديد زائداً عمّا تقتضيه ذات التكليف ، ولهذا ما أوجب الشارع الاحتياط ؛ لمصلحة التسهيل ، والأوامر الواقعية الأوّلية لا تصلح للباعثية إلاّ للعالم ونحو المعلوم ، لا الشاكّ ونحو المجهول ، كما عرفت .

وهذا طريق الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، فتدبّر تعرف .

إن قلت : إنّ ما ذكرت هو التصويب المُجمع على بطلانه ؛ فإنّ الإجماع قائم على اشتراك التكليف بين العالم والجاهل .

قلت : مناط حجّية الإجماع عندنا هو الكشف عن رأي الحجّة ؛ فإنّ اتّفاق الفقهاء والمحدّثين خلفاً بعد سلفٍ على المسائل التي لا سبيل للعقل إليها ، يكشف كشفاً قطعياً عن رأي الحجّة ، وهذا المناط ليس بمتحقّق في هذه المسألة ؛ لأنّ أوّل من تعرّض للمسائل الاُصولية وجمع شتاتها من أصحابنا ، هو شيخ الطائفة في كتاب «العُدّة» فإنّ «ذريعة» السيّد وإن كانت متقدّمة عليها ، لكنّها غير متعرّضة إلاّ لعدّة مسائل محصورة بنحو الاختصار ، وأمّا «العُدّة» فهي مشتملة على نوع المسائل الاُصولية .

والشيخ رحمه الله علیه لمّا تعرّض لهذه المسألة ، نقل إجماع المتكلّمين خلفاً عن سلفٍ على اشتراك التكليف(1) وإجماعهم لا يكشف عن وجود النصّ المعتبر ، أو عن

رأي الحجّة ، فالمسألة إذن عقلية صرفة ، لا تكون إجماعية بالمعنى المصطلح .

ص: 90


1- العُدّة في اُصول الفقه 2 : 725 - 726 .

فما قام الدليل العقلي عليه ، هو اختصاص العالم بالخطاب - كما عرفت - وأمّا كون الأحكام في صورة الجهل إنشائية غير فعلية ، فلا مناص منه ، ولا دليل عقلاً ولا نقلاً على خلافه .

هذا ، فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ ظاهر أدلّة الاُصول والأمارات ، في مشكوك الجزئية والشرطية والمانعية ، وفيما هو مشكوك التحقّق وقام الدليل على تحقّقه ؛ هو الإجزاء وتوسعة دائرة المأمور به في حال الشكّ كما عرفت(1)، ولا دليل عقلاً أو نقلاً على خلاف ذلك الظاهر ، فلا بدّ من الأخذ به حتّى يقوم دليل على خلافه في المسائل الفرعية ، التي محلّها الكتب الفقهية .

ص: 91


1- تقدّم في الصفحة 81 - 84 .

المطلب الرابع: في مقدّمة الواجب

في مقدّمة الواجب

وهي كلّ ما يتوقّف عليه الواجب في تحقّقه ، ويحتاج إليه في وجوده ، وقبل الخوض في المقصود نقدّم اُموراً تبعاً للقوم :

الأمر الأوّل : في عدم كون المسألة اُصولية

المبحوث عنه في هذه المسألة وإن كان هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف عليه ، لكن مع ذلك لا تكون المسألة اُصولية ، بل هي من المبادئ الأحكامية ، وقد حقّقنا في محلّه الفرق بين المسائل الاُصولية وغيرها ، ووجه امتياز مسائل العلوم بعضها عن بعض(1) فالمسألة ليست اُصولية على ما حقّقنا .

ص: 92


1- تقدّم في الصفحة 10 - 17 .

الأمر الثاني في تقسيمات المقدّمة

في تقسيمات المقدّمة

لمّا كان عنوان البحث في مقدّمة الواجب ؛ هو أنّ مقدّمة الواجب هل هي واجبة أم لا ؟ جرت عادة الاُصوليين على البحث عن المقدّمة وتقسيماتها ، والواجب وتقسيماته ، فنقول : إنّ للمقدّمة تقسيمات :

منها : تقسيمها إلى الداخلية والخارجية

والداخلية ؛ هي الأجزاء المأخوذة في ماهية المأمور به ، والخارجية ؛ هي الاُمور الخارجة عنها ، ممّا يتوقّف وجودها عليها ، ولا توجد بدونها .

وربّما يقال : إنّ الأجزاء بالأسر عين المركّب في المقدّمات الداخلية ، فيستشكل تارة : بأنّ ذا المقدّمة يحتاج إلى المقدّمات ، والاحتياج نحو إضافة بين الشيئين ، ولا يعقل أن يكون المحتاج عين المحتاج إليه .

واُخرى : بأنّ المتوقّف عليه لا بدّ وأن يكون مقدّماً على ما يتوقّف عليه ، والشيء الواحد لا يعقل أن يكون متوقِّفاً ومتوقّفاً عليه ؛ للزوم الدور(1) .

ولعلّ هذا الإشكال مأخوذ من الإشكال المعروف في فنّ المعقول ؛ وهو أنّ العلّة التامّة بجميع أجزائها ، لا بدّ وأن تكون متقدّمة على معلولها ، مع أنّ المادّة

ص: 93


1- قوانين الاُصول 1 : 108 (حاشية المحقّق السيّد علي القزويني) ؛ هداية المسترشدين 2 : 164 .

والصورة من أجزائها ، وهما عين الماهية المركّبة منهما(1) .

والجواب : أنّ المركّبات الاعتبارية عبارة عن عدّة اُمور متكثّرة حقيقةً ، اعتبرت بنعت الوحدة في جهة من الجهات ، كاشتراكها في تحصيل الغرض مثلاً ، فالكثرة في المركّبات الاعتبارية حقيقية ، والوحدة اعتبارية .

كما أنّ الأمر بعكس ذلك في المركّبات الحقيقية التي لها وحدة حقيقية ؛ فإنّه قد تكون الكثرة اعتبارية ، والوحدة حقيقية ، كاعتبار الكثرة في الماهية الواحدة .

وبالجملة : ما لم تعتبر في الاُمور المتكثّرة المتحقّقة بوجودات متعدّدة وحدة ، لا يصير المجموع مركّباً ، ولا الكثرات أجزاءه .

فإذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ المركّب في المركّب الاعتباري ، عبارة عن الأجزاء بالأسر مع اعتبار الوحدة فيها ، وهذا هو ذو المقدّمة ، والمقدّمة عبارة عن كلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء ، فالعسكر مثلاً عبارة عن عدّة أفراد تعتبر فيها الوحدة ، وكلّ واحدٍ واحدٍ من الأفراد مقدّمة له ، فذو المقدّمة الأجزاء بالأسر مع اعتبار الوحدة ، والمقدّمة هي كلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء والأفراد .

لا يقال : فإذا كان كلّ واحدٍ من الأجزاء مقدّمة ، فالمجموع يصير مقدّمة ، مع أ نّه عين المركّب ، فلا محالة يكون الاختلاف بينهما اعتبارياً .

فإنّه يقال : كلاّ ، فإنّ المجموع مقدّمات متكثّرة ، لا مقدّمة واحدة حتّى يرد الإشكال ، كما أنّ كون كلّ واحد من زيد وعمرو وبكر إنساناً لا يلزم أن يكون المجموع منهم إنساناً واحداً ، بل أناسيّ كثيرة ، فإنّ الكثير ليس

ص: 94


1- اُنظر الحكمة المتعالية 2 : 189 ، الهامش 2 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 365 .

موجوداً على حِدة غير وجود المتكثّرات .

ألا ترى : أ نّه يصدق على كلّ واحد من أجزاء المركّب : «أ نّه بعض المركّب» ولا يصدق على جميعها : «أ نّه بعض المركّب» ويصدق : «أ نّها أبعاض بنحو الكثرة ونعت العموم الأفرادي» .

فقد علم ممّا ذكرنا : أنّ المركّب غير الأجزاء حقيقة ؛ فإنّ المركّب أمر وحداني بالوحدة الاعتبارية ، والأجزاء - وهي المقدّمات - اُمور متكثّرة ، موجودة بالوجودات الحقيقية .

ومن هذا ظهر الخلل فيما أفاده المحقّق الخراساني وغيره : من أنّ الاختلاف بين المقدّمات وذيها بالاعتبار ؛ وأنّ الأجزاء بالأسر هي المقدّمة ، وبشرط الاجتماع هي ذوها(1) .

ثمّ اعلم : أنّ الوجوب المتعلّق بالمركّب هو وجوب وحداني منبسط على الأجزاء ، وباعتبار انبساطه عليها يعتبر فيه الأبعاض ، فالوجوب واحد حقيقي ، والأبعاض كثيرة اعتباراً ، وكلّ بعض متعلّق بجزء من الأجزاء ، والأجزاء واجبة بعين وجوب المركّب ، لكن بالمعنى الذي ذكرنا ؛ أي يعتبر فيه أبعاض كثيرة حسب كثرة الأجزاء ، فكلّ جزء تمام المتعلّق لبعض الوجوب ، وبعض المتعلّق لنفس الوجوب .

ومن هذا يظهر فساد احتمالات اُخر : من كون الأجزاء واجبةً بالوجوب الغيري فقط ، أو النفسي فقط إن اُريد منه كون كلّ جزء متعلّقاً لتمام الوجوب ، أو هما معاً .

ص: 95


1- كفاية الاُصول : 115 ؛ مقالات الاُصول 1 : 293 .

وأسخف الأقوال هو الأوّل ؛ فإنّ وجوب المقدّمة يترشّح من وجوب ذيها ، فإذا لم يكن للأجزاء وجوب نفسي ، فمن أين يترشّح الوجوب الغيري ؟!

منها : تقسيمها إلى مقدّمة الوجوب ، والواجب ، والصحّة ، والعلم

لا إشكال في خروج مقدّمة الوجوب عن حريم النزاع ؛ لتوقّف وجوب ذي المقدّمة على وجودها ، فلا يعقل وجوبها من قِبَل وجوبه .

ومقدّمة الصحّة ترجع إلى مقدّمة الوجود ولو على القول بالأعمّ ؛ لتعلّق الوجوب بالصحيح لا الأعمّ .

والمقدّمات العلمية أيضاً خارجة عن حريم النزاع ؛ لعدم ترشّح الوجوب عليها من الواجب في البين .

منها : تقسيمها إلى السبب ، والشرط ، وعدم المانع ، والمُعدّ

وعُرّف السبب : بما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم(1) . وهذا ينطبق على العلّة التامّة ، وأخصّ من المقتضي .

والأولى أن يقال : إنّ ما يتوقّف عليه الشيء إمّا أن يكون ما منه الوجود ، وهو الذي يكون المعلول أثره ومقتضاه ، وهو السبب والمقتضي ؛ أو لا يكون منه الوجود ، بل يكون به الوجود . وهو إمّا يكون بوجوده دخيلاً في تحقّق المعلول ، أو بعدمه ، أو بوجوده وعدمه ، فالأوّل الشرط ، والثاني المانع ، والثالث المُعدّ .

ص: 96


1- القواعد والفوائد : 39 ؛ تمهيد القواعد : 38 .

ولا يخفى : أنّ المقصود من كون العدم دخيلاً ، هو مضادّة وجود المانع وممانعته للوجود ، ولمّا كان كذلك يقال : إنّ عدمه دخيل ، وإلاّ فليس العدم دخيلاً حقيقة في شيء . كما أنّ المراد من كون العدم والوجود دخيلين في المُعدّ - مثل الأقدام لتحقّق الكون على السطح ؛ فإنّها بوجودها وعدمها تكون معدّة - هو أنّ الحركة بوجودها الاستمراري مُعِدّة ، لا أنّ العدم دخيل . وفي الحقيقة : أنّ الشرط إن كان من قبيل الحركة يقال له : المُعدّ . ويمكن إرجاع غير السبب إلى الشرط ، والأمر سهل .

ثمّ إنّه قد وقع بينهم نزاع في السبب والمسبّب في الأفعال التوليدية - مثل حركة اليد والمفتاح وفتح الباب - غير نزاع وجوب المقدّمة ، وهو أنّ الأمر المتعلّق بالمسبّب بحسب ظاهر الدليل هل هو أمر بسببه لُبّاً وحقيقةً ، أم لا ، أو يفصّل بين الأسباب التي تكون آلة لإيصال قوّة الفاعل إلى المسبّب ، كحركة اليد والمفتاح ، وبين غيرها ، كالإحراق والإلقاء في المسبعة ؟

وتحقيق الحال يحتاج إلى مقدّمة : هي أ نّه لا إشكال في أنّ الإرادة سبب لوجود المسبّب التوليدي ، لكنّ السبب الذي هو محلّ الكلام هو الفعل الصادر من الإرادة لا نفسها ، فإذا صدرت حركة اليد من إرادة الفاعل ، وترتّبت عليها حركة المفتاح ، وترتّب عليها فتح الباب ، تحقّقت اُمور ثلاثة :

أحدها : الحركة القائمة باليد .

الثاني : الحركة القائمة بالمفتاح .

الثالث : فتح الباب .

فقد تتعلّق إرادة الفاعل استقلالاً وأوّلاً وبالذات بفتح الباب ، وقد تتعلّق

ص: 97

بحركة المفتاح مثل أن يتعلّق غرضه بامتحان المفتاح ، وقد تتعلّق بحركة اليد مثل أن يتعلّق غرضه بامتحان قوّة يده ، فيحرّكها فيترتّب على حركتها حركة المفتاح ، وعليها فتح الباب .

فهاهنا وجودات ثلاثة ، وإيجادات ثلاثة ؛ لأنّ الإيجاد والوجود واحد حقيقة ، متكثّر اعتباراً ؛ لأنّ الوجود إذا اعتبر في نفسه [فهو] وجود ، وإذا اعتبر انتسابه الصدوري [ إلى] الفاعل [فهو ]إيجاد ، فلا يمكن أن يكون الوجود متعدِّداً ، وا لإيجاد واحداً ، بل هما في الوحدة والتعدّد متكافئان .

لكن مع كونها وجودات وإيجادات ، يكون انتسابها إلى الفاعل بواسطة الإرادة الواحدة ، المتعلّقة بأقدم الأسباب ؛ أي الفعل المباشري ، فحركة اليد متعلّقة للإرادة بلا واسطة ، وحركة المفتاح وفتح الباب منتسبان إليها مع الواسطة ، لا أنّ هاهنا إرادات ثلاثة مستقلّة ، بل إرادة واحدة متعلِّقة بالفعل المباشري ، وبالفعل التوليدي بواسطته ، وبالمولَّد عن التوليدي بواسطة التوليدي . . . إلى آخر الأسباب والمسبّبات .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أ نّه قد استدلّ القائلون بلزوم صَرف التكاليف المتعلِّقة بالمسبّبات إلى أسبابها :

تارة : بعدم مقدورية المسبّبات(1) .

وفيه : أنّ المقدور مع الواسطة مقدور .

وتارة : بأنّ التكليف لا بدّ وأن يتعلّ-ق بالفعل الصادر من المكلّف ، وما

ص: 98


1- اُنظر معالم الدين : 61 .

هو صادر منه هو السبب المباشري ، دون غيره من الأسباب والمسبّبات المتأخّرة عنه(1) .

وفيه : أ نّه إن اُريد من الفعل الصادر منه ما هو صادر بلا واسطة ، فالكبرى ممنوعة ؛ لعدم الدليل عليها ، بل الضرورة قاضية بأنّ التكليف يحسن تعلّقه بما هو فعل اختياري له ولو مع الواسطة . وإن اُريد منه ما هو صادر مطلقاً ، فالصغرى ممنوعة ؛ لقضاء الضرورة بصدور كلٍّ من الأسباب والمسبّبات منه اختياراً .

ومنه يظهر الخلل في المؤيّد الذي ذكروه : وهو أنّ الفاعل بعد إصدار الفعل المباشري قد يموت قبل تحقّق الفعل التوليدي ، كما لو فرض موت الرامي قبل إصابة السهم الغرض ، فانتساب الفعل إلى الرامي انتساب إلى الميّت ، وهو باطل بالضرورة(2) .

وفيه : أنّ الانتساب إليه إنّما هو بصدور الرمي منه وهو في حال حياته ، وأمّا المسبّب فلا يكون بإرادة مستقلّة ، ولا بقوّة فاعلة اُخرى ، وهو واضح .

فاتّضح من ذلك : أ نّه لا وجه لصرف ظاهر الأدلّة الدالّة على تعلّق التكليف بالمسبّبات ؛ ضرورة صحّة التكليف بها ، كما يصحّ بالأسباب .

وممّا ذكرنا يعلم : أنّ مقارنة الأسباب والمسبّبات زماناً غير لازم ، بل يمكن انفكاكهما ، كما أنّ التأخّر الزماني أيضاً غير لازم ، نعم التأخّر الرتبي للمسبّب - قضاءً لحقّ المعلولية - لازم .

ص: 99


1- اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 120 .
2- نفس المصدر .

هذا حال الأسباب والمسبّبات التوليدية من الفواعل الطبيعية الواقعة في عمود الزمان .

وأمّا الأسباب والمسبّبات في الفواعل الإلهية - التي يتقوّم المسبّب [فيها] بالسبب ، ويكون المسبّب عين التعلّق بسببه - فلا يمكن انفكاكهما زماناً ، كما لا يمكن الانفكاك بين العلّة التامّة ومعلولها مطلقاً .

منها : تقسيمها إلى المقارن والمتقدّم والمتأخّر

وقد استشكل في الأخيرين : بأنّ المقارنة بين أجزاء العلّة ومعلولها لازمة ؛ لاستحالة تأخّر العلّة عن المعلول ، وكذلك تقدّمها عليه ، فأشكل الأمر في المقدّمة المتأخّرة كالأغسال الليلية المعتبرة في صحّة صوم المستحاضة عند بعضٍ(1) وكالإجازة في صحّة العقد على الكشف ، وفي المقدّمة المتقدّمة أيضاً كالشرائط والمقتضيات والمتصرّمات زماناً ، والمتقضّية أجزاؤها ؛ لعدم بقائها حين العقد بجميع أجزائها المؤثّرة في العقد ، فيعمّ إشكال انخرام القاعدة العقلية غير الشروط والمقتضيات المقارنة(2) .

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الموارد التي تُوهم ورود الإشكال ، إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف ، وإمّا شرطاً للمكلّف به ، وإمّا لأمر وضعي :

أمّا الأوّل : فكون شيء شرطاً للتكليف - مثل الشرائط العامّة ، كالقدرة ،

ص: 100


1- راجع شرائع الإسلام 1 : 27 ؛ مدارك الأحكام 6 : 57 ؛ مستند الشيعة 3 : 38 .
2- كفاية الاُصول : 118 .

والتمييز بين الحسن والقبيح ، وأمثال ذلك - إنّما هو بمعنى دخالة الشرط في إمكان تعلّق التكليف بالمكلّف .

وبعبارة اُخرى : لا يكون توجّه التكليف إلى المكلّف ، وتعلّقه بالمكلّف به - من المولى الحكيم - ممكناً ، إلاّ مع شرائط وقيود في المكلّف ؛ من كونه قادراً مميّزاً بين الحسن والقبح ، وفي المكلّف به ؛ من كونه مقدوراً ممكن التحقّق ، ولا تكون تلك الشروط مؤثّرة في وجود التكليف حتّى يرد الإشكال ؛ لاستحالة دخالة ما هو من شرائط إمكان تعلّق التكليف بالمكلّف به أو توجّهه إلى المكلّف في المؤثّرية في وجوده ، فعلل وجود التكليف اُمور اُخرى كلّها مقدّمة عليه ، وأمّا تلك الشروط الدخيلة في إمكان التكليف ، فلا محذور في تقدّمها أو تأخّرها عنه ، كما لا يخفى .

وأمّا الثاني : فكون شيء شرطاً للمكلّف به ليس بمعنى كونه مؤثّراً في وجوده ، بل بمعنى أ نّه من حدوده وقيوده .

فتارة : يكون المكلّف به هو عنوان «الصلاة» التي يقارنها الستر ، أو يتقدّم عليها الوضوء مثلاً ، أو يتأخّر عنها شيء ، ومن هذا القبيل صوم المستحاضة ؛ فإنّ المأمور به هو الصوم المتقيّد بكونه متعقّباً بالأغسال الليلية .

وتارة : يتعلّق التكليف بعنوان بسيط ، غير منطبق بحسب الواقع إلاّ على شيء ، يكون مقارناً أو مسبوقاً أو ملحوقاً بشيء .

وكلّ ذلك ممّا لا إشكال فيه أصلاً ، وليس في البين تأثير وتأثّر وعلّية ومعلولية .

ومن ذلك يعلم حال الوضع أيضاً ؛ فإنّ ما هو موضوع انتزاع النقل والانتقال منه

ص: 101

هو العقد المتعقّب بالإجازة ، وليس العقد من قبيل العلّة المؤثّرة ؛ بمعنى ما منه الوجود ، بل هو موضوع لأمر اعتباري عند العقلاء بلا تأثير وتأثّر في البين ، كما هو واضح .

نعم ، قد تكون الشروط من أجزاء العلّة التي منها الوجود ، وحينئذٍ فتقدّمها الطبعي على المعلول ممّا يحكم به العقل ، أمّا مقارنتها الزمانية في غير الزمانيات فممّا لا معنى لها ، وأمّا فيما هو واقع في سلسلة الأزمان ، فلزوم المقارنة بينه وبين المعلول محلّ تأمّل وإشكال ، تأمّل .

إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم : أنّ الكلام واقع في أنّ شروط المأمور به - التي هي من قيوده - هل هي واجبة بالوجوب الترشّحي المقدّمي - كما في المقدّمات الوجودية الخارجية على القول بوجوبها - أم هي واجبة بعين وجوب ذي المقدّمة كالمقدّمات الداخلية على ما عرفت حالها(1) ؟

الحقّ هو الثاني ؛ لأنّ التقيّدات المأخوذة في المأمور به موجودة بعين وجود القيود ، لا بوجود آخر ، ويكون الوجوب المنبسط عليها منبسطاً على القيود أيضاً ، ولا يكون لها وجوب على حِدة ، فحالها حال المقدّمات الداخلية التي عرفت أ نّها واجبة بعين وجوب ذيها .

ص: 102


1- تقدّم في الصفحة 95 .

الأمر الثالث في تقسيمات الواجب

في تقسيمات الواجب

قد عرّف الواجب : بما يستحقّ على فعله الثواب ، وعلى تركه العقاب(1) .

وهذا لازم المعنى ، كما لا يخفى .

والأولى تعريفه : بأ نّه ما تتعلّق به الإرادة المؤكّدة ، وقد ذكرنا سابقاً حال الإرادة في الواجب والمستحبّ(2) ، فراجع .

وكيف كان ، فقد قسّم الواجب بتقسيمات :

منها : تقسيمه إلى المطلق والمشروط

وقد عرّفهما القوم بتعريفات شتّى ، وأطالوا النقض والإبرام في أطرافها . فقيل : إنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على شيء(3) .

وقيل : هو ما لا يتوقّف وجوبه على شيء سوى الشرائط العامّة(4) .

وقيل : ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده(5) .

ص: 103


1- نهاية الوصول إلى علم الاُصول 1: 91 - 92 ؛ الوافية في اُصول الفقه : 171 .
2- تقدّم في الصفحة 42 - 44 .
3- اُنظر مطارح الأنظار 1 : 229 .
4- مطارح الأنظار 1 : 223 ؛ الفصول الغروية : 79 / السطر 21 .
5- نسبه في المطارح إلى التفتازاني والمحقّق الشريف . راجع مطارح الأنظار 1 : 223 - 224 .

والمشروط في كلٍّ من التعاريف مقابل المطلق .

والحقّ : ما أفاد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1) : من أنّ الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان ، ومن قبيل المتضايفين ، وهما لا يجتمعان في موضع واحد بجهة واحدة ، كالاُبوّة والبُنوّة اللتين لا تجتمعان في موضع واحد باعتبار واحد ، وأمّا بجهتين فلا مانع من اجتماعهما ، فيمكن أن يكون شخص واحد أباً وابناً من جهتين ، والمطلق والمشروط من هذا القبيل ؛ فإنّ كلّ شيء يلاحظ مع الواجب ، فإمّا أن يكون وجوبه بالنسبة إليه مشروطاً ، أو لا .

والثاني مطلق بالإضافة إليه ، وإن أمكن أن يكون مشروطاً بالإضافة إلى غيره وهذا واضح .

والظاهر أنّ تخصيص التفتازاني وبعض آخر الكلامَ بالمقدّمات الوجودية - حيث عرّفوه : بما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده - ليس لأجل أنّ في المطلق والمشروط اصطلاحاً خاصّاً ؛ بل لأنّ كلامهم لمّا كان في وجوب المقدّمة ، وكانت المقدّمة الوجودية التي هي مقدّمة للوجوب أيضاً من مستثنيات وجوب المقدّمة ، خصّصوا الكلام بذلك ، وإلاّ فليس في البين اصطلاح خاصّ ، ولا ينبغي النقض والإبرام فيما لا تترتّب عليه ثمرة مهمّة .

ثمّ الظاهر من الفقهاء والاُصوليين والمتكلّمين وكلّ من تصدّى لبيان الواجب المشروط ، هو رجوع الشرط إلى الهيئة إلى زمن الشيخ قدّس سرّه وهو أيضاً اعترف بأنّ مقتضى القواعد العربية رجوعه إليها(2) ، كما أنّ المتفاهم العرفي ذلك إلاّ أ نّه

ص: 104


1- اُنظر كفاية الاُصول : 121 .
2- مطارح الأنظار 1 : 236 - 237 .

أشكل فيه على ما في تقريرات بحثه .

وحاصل إشكاله وما يمكن أن يكون وجه الإشكال اُمور :

منها : أنّ الطلب عقلاً لا بدّ وأن يتعلّق بالمادّة لُبّاً ؛ لأنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء ، فإمّا أن يكون ممّا فيه المصلحة مطلقاً ، فيصير متعلّقاً لشوقه وإرادته وطلبه كذلك ، وإمّا أن تكون فيه مصلحة على تقدير خاصّ . وذلك التقدير : تارة يكون من الاُمور الاختيارية ، واُخرى لا يكون كذلك . وما كان من قبيل الأوّل : قد يكون مأخوذاً على نحوٍ يكون مورداً للتكليف ، أو لا .

وعلى أيّ حالٍ : يتعلّق الشوق والإرادة والطلب به على نحو ما يكون فيه المصلحة ، ولا معنى لعدم تعلّق الإرادة والطلب به ، وتوقّفه على شيء .

ومحصّل مرامه : أنّ الأوامر إنّما تتعلّق بالمتعلّقات لأجل المصالح الكامنة فيها ، وفي الواجبات المشروطة لا بدّ وأن تتعلّق بالمقيّد ؛ لكون المصلحة فيه دون المطلق .

لكن لمّا أشكل الأمر في القيود الاختيارية من أنّ تعلّق الأمر بالمقيّد بها مستلزم لوجوب تحصيل القيد أيضاً ؛ لأنّ الطلب المطلق إذا تعلّق بالمطلوب المقيّد يجب تحصيل قيده بلا إشكال ، مع أنّ في الواجبات المشروطة لم يكن تحصيل الشرط واجباً بالضرورة .

فأجاب عنه : بأنّ المصلحة كما أ نّها قد تكون في المقيّد بنحو يكون القيد مورداً للتكليف - كما في الصلاة المقيّدة بالوضوء والغسل ، فإنّهما دخيلان في المصلحة ، فتعلّق التكليف بهما - كذلك قد تكون في المقيّد بنحو يكون القيد غير مكلّف به ، عكس الصورة المتقدّمة ، كما في الحجّ المقيّد بالاستطاعة ،

ص: 105

فالاستطاعة وإن كان تحصيلها من الاُمور الاختيارية القابلة لتعلّق التكليف بها ، لكنّ المصلحة إنّما هي في الحجّ المقيّد بالاستطاعة ، التي اُخذت على نحوٍ لم يتعلّق التكليف بها ؛ أي حصولها من باب الاتّفاق مثلاً ، فالطلب المتعلّق بالحجّ المقيّد لا يسري إلى القيد ؛ لقيام المصلحة [به] بهذا النحو ، هذا ملخّص ما أفاده المقرّر رحمه الله علیه (1) .

ويرد عليه : - مضافاً إلى أنّ عدم كون شيء مورداً للتكليف ليس من الاُمور الدخيلة في المصلحة ؛ فإنّ الأعدام لا معنى لدخالتها في شيء ، بل هذا في الحقيقة يرجع إلى أنّ في نفس ذات المقيّد مصلحة ؛ بلا دخالة شيء آخر فيها ، فقياس ذلك على موردٍ يكون الأمر العبادي دخيلاً في المأمور به كالوضوء والغسل ، ليس على ما ينبغي - أنّ لرجوع القيود إلى الواجب أو إلى الوجوب ملاكات بحسب مقام الثبوت والواقع ، لا يمكن التخلّف عنها ، فلا بدّ أوّلاً من بيان تلك الملاكات الواقعية ؛ حتّى يتّضح الأمر ، ويرتفع الخلط .

فنقول : إنّ الأوامر قد تتعلّق بالمتعلّقات لغرض جلب المنافع الكامنة فيها ، وقد تتعلّق لغرض دفع المفاسد والمضارّ ، فكلّ قيد يكون دخيلاً بحسب الثبوت في جلب المنافع أو دفع المضارّ - بحيث يكون المتعلّق بلا تقيّده به لا يجلب المصلحة ، أو لا يدفع المفسدة - لا بدّ وأن يرجع إلى الواجب لا الوجوب ؛ فإنّ الوجوب والإيجاب آلة لتحصيل تلك المصلحة أو دفع المفسدة ، ووسيلة لإيصالها إلى العباد محضاً ، وأمّا المصلحة فقائمة بنفس المقيّد بما أ نّه مقيّد ، ففي

ص: 106


1- مطارح الأنظار 1 : 236 و250 و252 .

مثل تلك الموارد يرجع القيد إلى الواجب والمادّة ، لا الوجوب والهيئة ، فلو فرض أنّ الصلاة لا تكون بنفس ذاتها بلا تقيّدها بالطهارة ذات مصلحة ، لا يعقل تعلّق الطلب بها بنحو الإطلاق ، كما لا يعقل أن يكون الطلب المتعلّق بها مشروطاً ، بل الطلب المطلق يتعلّق بالصلاة المقيّدة بها .

هذا ملاك القيود التي لا بدّ من إرجاعها إلى المادّة لُبّاً .

وأمّا ملاك القيود التي لا يعقل رجوعها إليها ، بل لا بدّ من رجوعها إلى الهيئة بحسب الثبوت ، فإنّما يكون في موارد :

الأوّل : ما إذا كانت المصلحة في فعل مطلقاً وبلا شرطٍ ، ولكن يكون في بعث المولى نحوه بنحو الإطلاق مانع ، كموارد عجز المكلّف وجنونه ، أو كونه غير مميّز ، أو كونه غافلاً أو نائماً . . . إلى غير ذلك من موارد قصوره ، فإذا كان الفعل على نحو الإطلاق ذا مصلحة ، فلا يمكن أن يرجع القيد إلى المادّة عقلاً ؛ ضرورة عدم دخالة تلك القيود في المصلحة ، فلا معنى لتقيّدها بها ، ولمّا لم يمكن أن يتعلّق البعث بالقاصر على نحو الإطلاق ، فلا بدّ وأن ترجع القيود إلى الوجوب لا الواجب ، وهذا واضح .

الثاني : ما إذا كانت المصلحة في ذات الفعل مطلقاً بلا قيدٍ وشرطٍ ، ويمكن أن يتعلّق الأمر به على نحو الإطلاق ، لكن لطف المولى بالعبد يقتضي أن يتعلّق الطلب به على نحو خاصٍّ ، ويجعل للوجوب شرطاً أو شرائط ؛ لأجل التسهيل على العباد والتوسعة عليهم ، أو لأنّ المولى يرى أنّ الأمر إذا تعلّق بالفعل بنحو الإطلاق يقع نوع المكلّفين في المعصية ، فلأجل لطفه عليهم يشترط وجوبه بشرائط تسهّل الأمر عليهم ، فلو فرض أنّ في الحجّ مصلحة مطلقاً ، كان المكلّف

ص: 107

مستطيعاً شرعاً أو لا ، وفي الزكاة مصلحة ، بلغ المال الزكوي حدّ النصاب أو لم يبلغ ، لكن مصلحة التسهيل واللطف الإلهي اقتضت أن يشترط الوجوب بالاستطاعة وبلوغ النصاب ، ففي مثل تلك الموارد لا يمكن أن يتوجّه القيد إلى الواجب والمادّة ؛ فإنّ القيد لا دخالة له في المصلحة بالفرض ، فلا معنى لتقيّدها به ، بل المانع في الإيجاب والأمر على نحو الإطلاق .

الثالث : - وهو أوضح الموارد - أن لا يكون الغرض من الأمر جلب المنافع ، بل الغرض منه دفع منقصة متوجّهة إلى العبد ، أو رفع مفسدة ابتلى بها ، كما في باب الكفّارات .

مثلاً : لو فرض أنّ الظهار ، أو الإفطار متعمّداً في شهر رمضان ، وحَنث النذر والعهد ، والصيدَ حال الإحرام . . . وأمثال ذلك ، توجب منقصة للعبد لا تنجبر إلاّ بالكفّارات ، فلا بدّ من تعلّق الطلب بالكفّارات بعد تحقّق تلك المنقصة ؛ لأجل رفعها .

ولا يعقل أن ترجع الشروط والقيود الكذائية إلى المادّة ، ولا يعقل أن يتقيّد المكلّف به بتلك القيود ؛ فإنّها موجبة للمنقصة ، ولا يعقل دخالتها في رفعها ، فلا يمكن أن يقال : إنّ المصلحة قائمة بالكفّارة المقيّدة بإفطار شهر رمضان ، ففي قوله : «إن أفطرت متعمّداً وجبت الكفّارة»(1) لا بدّ وأن يرجع الشرط إلى الهيئة ، ولا يعقل رجوعه إلى المادّة .

وإن شئت فانظر إلى الأمثلة العرفية ، مثل قول الطبيب للمريض : «إذا

ص: 108


1- راجع وسائل الشيعة 10 : 44 ، كتاب الصوم ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، الباب 8 .

مرضت فاشرب الدواء» فهل يمكن أن يقال : إنّ الأمر تعلّق بشرب الدواء المتعقّب بالمرض ، وإنّ المرض له دخالة في المصلحة أو دفع المفسدة ؟ ! تدبّر ولا تغفل .

إذا عرفت ما ذكرنا : من حال القيود في عالم اللبّ والثبوت ، وأنّ بعضها يرجع إلى المادّة ، وبعضها إلى الهيئة ، ومعلوم أنّ مقتضى القواعد العربية والمتفاهم العرفي رجوع القيود إلى الهيئات ، فلا بدّ مع عدم إحراز الرجوع إلى المادّة [من] إرجاعها إلى الهيئة لا المادّة في مقام الإثبات ؛ ضرورة أنّ إفهام مثل هذا المعنى ؛ أي الوجوب المشروط ، من ضروريات أهل اللسان ، فحكمة الوضع تقتضي أن يكون بإزاء هذا المعنى - الذي هو مورد الاحتياج كثيراً في المحاورات - لفظ دالّ عليه ، فالشبهات الواردة في المورد من قبيل الشبهة في مقابل البديهة ، مع أ نّها كلّها قابلة للدفع .

منها : أنّ الهيئة لمّا كانت آلة إيجاد الطلب وتحقّقه ، لا يمكن أن تكون معلّقة ومشروطة بشيء ؛ فإنّ الإيجاد هو المساوق للوجود والتحقّق ، والتعليق هو اعتبار اللا تحقّق ، وهما لا يجتمعان(1) .

والجواب عنه : أنّ الإيجاد الاعتباري أمره سهل ، والمغالطة إنّما وقعت من اشتباه الأمر المحصّل بالأمر الاعتباري ، وإلاّ فالإيجاد الاعتباري قابل للإطلاق والاشتراط والتعليق .

ومنها: أنّ الهيئة من المعاني الحرفية ، فلا يعقل أن تكون مستقلّة باللحاظ ،

ص: 109


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 181 ؛ منية الطالب 1 : 253 .

مع أنّه لا بدّ في الاشتراط والتعليق من اللحاظ الاستقلالي في المشروط والمعلّق(1) .

والجواب : أ نّها قابلة للّحاظ ولو بنظرة ثانية ، مع أنّ لنا أن نقول بمقالة المحقّق القمّي رحمه الله علیه ؛ من أنّ حقيقة الاشتراط هي رجوع الشرط إلى المكلّف ، وتنويع المكلّفين إلى نوعين(2) فقوله : )للّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً((3) أنّ المستطيع يجب عليه الحجّ ، كما أنّ الظاهر من الآية الشريفة ذلك أيضاً ؛ فإنّ الموصول بدل [من] الناس بدل الجزء من الكلّ .

وبالجملة : في جميع الموارد التي ترجع القيود فيها إلى الهيئة ، يمكن التخلّص عن كافّة الإشكالات بإرجاع القيود إلى المكلّفين .

ومنها : أنّ الهيئة جزئية حقيقية ؛ فإنّ الوضع فيها عامّ ، والموضوع له خاصّ ، ولا يمكن تقييد الجزئيات الحقيقية(4) .

والجواب أوّلاً : بمنع الصغرى . وثانياً : برجوع الشرط إلى المكلّف ، كما عرفت .

وبالجملة : لا محيص عن رجوع القيد إلى الوجوب ، ولا بدّ من ردّ الشبهات الواردة في مقابل الحقيقة الرائجة ، تدبّر ولا تغفل .

ص: 110


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 181 .
2- قوانين الاُصول 1 : 124 / السطر 11 .
3- آل عمران (5) : 97 .
4- مطارح الأنظار 1 : 236 .
ومنها : تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز
تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز

وهذا تقسيم واصطلاح من صاحب «الفصول» رحمه الله علیه . قال ما ملخّصه :

وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ، ولا يتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له كالمعرفة ، وليسمّ منجّزاً . وإلى ما يتعلّق وجوبه به ، ويتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له ، وليسمّ معلّقاً كالحجّ ؛ فإنّ وجوبه في أوّل زمن الاستطاعة ، ويتوقّف فعله على مجيء وقته ، وهو غير مقدورٍ . والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب ، وهنا للفعل .

ثمّ شرع في سدّ ثغوره بما محصّله : أنّ الوجوب في الواجب المعلّق حالي ، والواجب استقبالي ، والوجوب الحالي إنّما هو مشروط بأمر انتزاعي متحقّق في الحال ، وإن انتزع من أمر متأخّر ، فوجوب الحجّ قبل مجيء ذي الحجّة معلّق على أمر انتزاعي ؛ هو كون المكلّف بحيث يدرك ذا الحجّة قادراً على الحجّ ، وهذا الأمر الانتزاعي صادق على المكلّف في الحال ، وإن كان انكشافه في الاستقبال ، فلا يكون الزمان المقدّم ظرفاً للوجوب والواجب ؛ حتّى يلزم التكليف بالمحال ، ولا يكون نفس بلوغ المكلّف إلى الوقت شرطاً للوجوب ؛ حتّى يتعلّق الوجوب به بعد حضور الوقت ، بل الشرط هو هذا الأمر الانتزاعي المتحقّق في الحال والمنطبق على المكلّف ، ويكون الوجوب - لأجل حصول شرطه - حالياً ، والواجب استقبالياً .

والفرق بين الواجب المعلّق والمشروط : أنّ الأوّل مشروط بأمر انتزاعي ، والثاني مشروط بنفس الأمر الخارجي ، ففرق إذاً بين قول القائل : «إذا دخل

ص: 111

وقت كذا فافعل كذا» وبين قوله : «افعل كذا في وقت كذا» فإنّ الأوّل جملة شرطية ، مفادها تعلّق الأمر والوجوب بالمكلّف عند دخول الوقت ، والثاني جملة طلبية مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي .

ومن هذا النوع كلّ واجب مطلق توقّف وجوده على مقدّمات مقدورة غير حاصلة ، فإنّ-ه يجب قبل وجود المقدّمات إيجاد الفعل بعد زمن يمكن إيجادها فيه ، وإلاّ لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً ، أو التكليف بما لا يطاق ، وكلاهما ضروري الفساد .

ومحصّل مرامه : أ نّه كما أنّ الحجّ قبل دخول ذي الحجّة يكون واجباً على من يدركه قادراً عليه ، وظرف الإتيان هو ذو الحجّة ، فكذلك الصلاة في أوّل الوقت واجبة على من يأتي بالمقدّمات قادراً على إتيانها بعدها ، فلا فرق بين كون المكلّف به غير ممكن الوجود لأجل تقيّده بزمان استقبالي أو أمر آخر استقبالي لم يكن تحت قدرة العبد ، وبين كونه كذلك [ لأجل] امتناع تحقّقه عقلاً قبل حصول المقدّمات ، ففي كليهما يكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً(1) .

ثمّ شرع في بيان أمر آخر سيأتي في باب الترتّب إن شاء اللّه تعالى(2) .

فتحصّل ممّا لخّصنا من كلامه : أنّه لم يقسِّم الواجب إلى المطلق والمشروط ، والمطلق إلى المعلّق والمنجّز ، كما قيل(3) .

ص: 112


1- الفصول الغروية : 79 - 80 .
2- يأتي في الصفحة 142 .
3- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 106 .

وأيضاً لم يجعل المعلّق قسماً ثالثاً في مقابل المطلق والمشروط ، بل هو قسّم الواجب - باعتبار - إلى المطلق والمشروط ، وباعتبارٍ آخر إلى المعلّق والمنجّز ، وباعتبارٍ آخر إلى غيرهما .

وبما ذكرنا - من تصوير الواجب التعليقي ، وأنّ ظرف الواجب في الاستقبال ، ولكنّ الوجوب حالي - اندفع الإشكال المعروف في وجوب بعض المقدّمات في الواجبات الموقّتة قبل وقتها ، كغسل الجنابة الذي هو شرط لصحّة الصوم ، فإنّه واجب قبل الفجر ، مع أنّ وجوب الصوم من أوّل الفجر ، فيلزم وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها .

فأجاب عن الإشكال صاحب «الفصول» رحمه الله علیه : بكون الواجب في مثله تعليقي(1) .

وأجاب أخوه المحقّق رحمه الله علیه عنه : بأنّ الغسل واجب نفسي تهيّئي(2) .

وأجاب الشيخ العلاّمة رحمه الله علیه عنه - بعد الإشكال على صاحب «الفصول» : بعدم الفرق لبّاً بين المثالين المتقدّمين ؛ أي قوله : «إذا دخل الوقت . . .»(3) إلى آخره - بأنّ الوجوب في مثل تلك المقدّمات لا يكون بملاك الوجوب الترشّحي المقدّمي ، بل بملاك تفويت الواجب ، فكما أنّ العقل يحكم بقبح مخالفة الواجب ، كذلك يحكم بقبح ترك أمرٍ يفوت به الواجب ، وإن لم يكن الوجوب في الحال ، فترك الغسل قبل وجوب الصوم موجب لتفويته ، والعقل يحكم

ص: 113


1- الفصول الغروية : 79 - 80 .
2- هداية المسترشدين 2 : 171 .
3- مطارح الأنظار 1 : 263 - 264 .

بوجوب إتيانه حتّى يتمكّن من صوم اليوم(1) .

هذا ، ولا يخلو كلام الشيخ رحمه الله علیه في المقام من تهافتٍ مع ما اختاره في الواجب المشروط(2) ؛ فإنّ الوجوب المشروط - بما حقّقه - يكون كالوجوب المعلّق على مذهب صاحب «الفصول» . مع أنّ ما ذكره من حكم العقل بلزوم إتيان أمثال ذلك لا بملاك المقدّمية ، بل بملاكٍ آخر ، في محلّ المنع .

ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً على الواجب المعلّق(3) : وهو أنّ وزان الإرادة التشريعية كوزان الإرادة التكوينية ، طابق النعل بالنعل ، وحذو القذّة بالقذّة ، وهي في الإمكان والامتناع تابعة للتكوينية ، فكما أنّ الإرادة التكوينية ممتنعة التعلّق بأمر يكون متقيّداً بشيء غير مقدور كالزمان المتأخّر ، أو أمر آخر لا يكون تحت قدرة العبد ، فكذلك الإرادة التشريعية التي هي بإزاء التكوينية .

والحاصل : أنّه فرق بين الفعل المقيّد بأمرٍ غير مقدورٍ - كالحجّ في ذي الحجّة قبل حضور الموسم - وبين الفعل الذي يكون مقدوراً ، لكن يتوقّف على مقدّمات مقدورة تدريجية الحصول ، ربّما يطول إتيانها عدّة ساعات أو أيّام ، ففي الأوّل يمتنع تعلُّق الإرادة التكوينية الفعلية على إيجاد الفعل ، وإنّما تكون الإرادة تعليقية مشروطة ؛ بأ نّه «لو أدركت ذا الحجّة مثلاً قادراً على الحجّ لحججتُ» بخلاف الثاني ، فإنّ الإرادة الفعلية لا مانع من تعلّقها به ؛ فإنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فقبل الزوال لا يمكن تعلّق الإرادة الفعلية بإتيان الصلاة ، خصوصاً إذا

ص: 114


1- مطارح الأنظار 1 : 268 .
2- مطارح الأنظار 1 : 270 .
3- تشريح الاُصول : 191 / السطر 21 ؛ اُنظر كفاية الاُصول : 128 .

لم يكن لها مقدّمات ، أو كانت حاصلة ، ويكون المكلّف منتظراً لدخول الوقت ، فلا يمكن فعلية الإرادة ضرورة ، وأمّا بعد تحقّق الزوال فتتعلّق الإرادة بها [وإن] توقّف وجودها على عدّة مقدّمات غير حاصلة تكون تحت قدرة العبد ، كتحصيل الساتر والماء وغيرهما من المقدّمات ؛ فإنّ الصلاة مقدورة مع القدرة على مقدّماتها ، فتتعلّق الإرادة بها .

هذا حال الإرادة التكوينية ، والإرادة التشريعية مثلها طابق النعل بالنعل ، فلا يمكن تعلّقها بأمرٍ متأخّر يتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدور - كالزمان وشبهه - إلاّ على سبيل الاشتراط ، ويمكن تعلّقها بأمرٍ متوقّف على مقدّمات مقدورة .

فإذاً فرق بين تأخّر الفعل لأجل عدم حضور وقته ، وتأخّره لأجل التوقّف على مقدّمات تدريجية مقدورة ، تأمّل.

فذلكة

وفذلكة مرام صاحب «الفصول» : أنّ اعتبار انقسام الواجب إلى المشروط والمطلق غير اعتبار انقسامه إلى المنجّز والمعلّق ، وإن كان المعلّق قسماً من المشروط بحسب الواقع ، لكنّ الاعتبارين مختلفان ؛ فإنّ التعليق باعتبار كون الواجب كأ نّ-ه مراعى إلى حصول وقته ، وإن كان الوجوب فعلياً باعتبار اشتراطه بأمر انتزاعي متحقّق بالفعل ، وإنّما الباعث على هذا التقسيم عدم تصويره الشرط المتأخّر .

وأمّا نحن ففي فُسحة من ذلك ، فإنّ الشرط المتأخّر ممّا لا مجال لإنكاره ؛

ص: 115

ألا ترى أنّ القدرة على العمل شرط التكليف عقلاً ، مع عدم لزوم كونها مقارنة للتكليف ، بل اللازم عقلاً كون المكلّف قادراً حين الإتيان ، بل كلّ الأعمال التدريجية مشروطة بالشرط المتأخّر ، وهو القدرة على العمل إلى تمامه .

والإيرادات التي أوردوا على صاحب «الفصول» وإن لم تكن واردة عليه ، لكن يرد عليه - مضافاً إلى عدم الداعي إلى هذا التقسيم بعد تصوّر الشرط المتأخّر - أنّ إشكال الشرط المتأخّر وارد على الواجب التعليقي أيضاً ؛ فإنّ الاُمور الانتزاعية التي جعلها شروطاً للواجب لا تكون شروطاً بمفاهيمها ، بل بوجوداتها ، ومعلوم أنّ الاُمور الانتزاعية موجوديتها بعين مناشئ انتزاعها ، والفرض أنّ المناشئ متأخّرة وجوداً .

وعلى أيّ حالٍ : إنّ الإشكال المعروف - وهو وجوب المقدّمة في بعض الواجبات قبل وجوب ذيها - مرتفع ؛ إمّا بتصوير الواجب التعليقي ، أو بالالتزام بالشرط المتأخّر ، أو بالالتزام بالوجوب النفسي لأجل الغير لو دلّ دليل عليه .

بقيت تتمّات لعلّنا نتعرّض لها من ذي قبل إن شاء اللّه تعالى .

ومنها : تقسيمه إلى الأصلي والتبعي

وهذا تقسيم بحسب مقام الإثبات والدلالة ، كما أنّ التقسيم إلى النفسي والغيري بحسب مقام الثبوت والواقع .

فالأصلي - على ما عرّفه المحقّق القمّي رحمه الله علیه - هو ما فهم وجوبه من خطاب مستقلّ غير لازم لخطاب آخر ، وبعبارة اُخرى ما يكون المتكلّم قاصداً لإفهامه من الكلام .

ص: 116

والتبعي بخلافه ، مثل دلالة الإشارة ، كأقلّ الحمل المفهوم من قوله تعالى : «وَالْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ»(1) ، وقوله : «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»(2) ، فإنّ دلالتها على أقلّ الحمل تكون بدلالة الإشارة ، ولا تكون مقصودة ، والواجب التبعي أيضاً كذلك(3) .

هذا ، لكن يرد عليه : أنّ دلالة الإشارة إنّما تتأتّى فيما إذا كان للمدلول واقع ونفس أمرية ، مع قطع النظر عن الدلالة واللفظ ، وأمّا فيما لا يكون كذلك ، كالإنشائيات التي لا تحصُّل لها إلاّ بنفس الإنشاء ، ويكون استعمال ألفاظها في معانيها استعمالاً إيجادياً ، فلا يتأتّى فيها ذلك ؛ فإنّ ما يكون تحصّله متقوّماً بالإنشاء لا يمكن فيه عدم إرادة الإفهام حتّى يكون الإفهام بدلالة الإشارة ؛ لأنّ تحقّق المعاني الإنشائية إنّما يكون بالإنشاء والإيجاد المتقوِّمين بالقصد ، فكيف يمكن مع عدم قصد الإفهام - الذي يرجع إلى عدم قصد الإنشاء ، وإلى عدم الإنشاء - تحقّق ما هو متقوِّم ومتحقِّق به ؟!

والشيخ المحقّق الأنصاري - على ما في تقريرات بحثه - أرجع هذا التقسيم إلى الثبوت واللبّ ، لا الدلالة والإثبات(4) ، فحينئذٍ يرتفع الفرق بينه وبين التقسيم إلى النفسي والغيري ، فراجع.

ص: 117


1- البقرة (2) : 233 .
2- الأحقاف (46) : 15 .
3- اُنظر قوانين الاُصول 1 : 100 / السطر 1 و : 101 / السطر 17 و : 104 / السطر11 .
4- مطارح الأنظار 1 : 381 .
ومنها : تقسيمه إلى النفسي والغيري
تقسيمه إلى النفسي والغيري

وقد عرّف النفسي : بما اُمر به لأجل نفسه ، والغيري : بما اُمر به لأجل غيره(1) .

واُشكل عليه : بأنّ جُلّ الواجبات - إن لم يكن الكلّ - مطلوبات لأجل الغايات الخارجية ، فيلزم أن تكون واجبات غيرية ، وهو كما ترى(2) .

وما قيل : من أنّ الغايات لا يتعلّق بها الطلب ؛ لكونها غير اختيارية(3) ، مدفوع ؛ ضرورة كونها تحت الاختيار ولو مع الواسطة ، فإنّ القدرة على السبب قدرة على المسبّب ، وإلاّ لما صحّ وقوع مثل التطهير والتزويج والتمليك وأمثالها مورداً للأحكام التكليفية .

كما أنّ ما قيل : من أ نّه لا يلزم أن يكون الغير - الذي يكون لأجله هذا المراد - مراداً أيضاً ؛ حتّى يرد الإشكال ، مدفوع - أيضاً - بأنّ ما تتعلّق به الإرادة لأجل غيره ، لا بدّ وأن ينتهي إلى ما تتعلّق به الإرادة لأجل ذاته ؛ فإنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات ، وإلاّ لتسلسل . فالمراد بالذات هو أوّل سلسلة المرادات ، وتتعلّق به الإرادة أوّلاً ، ثمّ تنشأ منها إرادة إلى مقدّمته ، ومن مقدّمته إلى مقدّمة مقدّمته . . . وهكذا حتّى ينتهي إلى ما لا مقدّمة له ، فتنقطع السلسلة ، فما تتعلّق به الإرادة آخراً يتعلّق به الإيجاد أوّلاً .

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الواجبات النفسية هي ما تكون واجبة

ص: 118


1- هداية المسترشدين 2 : 89 ؛ الفصول الغروية : 80 / السطر 37 .
2- مطارح الأنظار 1 : 330 ؛ اُنظر هداية المسترشدين 2 : 89 .
3- مطارح الأنظار 1 : 329 .

لأجل ذاتها ، لا لأجل بعث آخر ، ويكون بعث المولى متعلِّقاً بها أوّلاً ، ويكون لها استقلال في عالم البعث والطلب وإن كان تترتّب عليها فوائد .

بخلاف الواجبات الغيرية ، فإنّ الطلب الغيري طلب فانٍ في الغير مترشِّح عنه مستظلّ به غير مستقلّ في عالم البعث ، فالبعث في الواجبات الغيرية يكون ظلّ بعثٍ آخر وفيئه ؛ بحيث يمكن أن يقال : إنّه ليس بطلب وبعث باعتبارٍ ، ويمكن أن يقال : إنّه بعث مندكّ في بعث ، فيمكن أن يقال : إنّه لا بعث إلاّ إلى ذي المقدّمة ، ويكون البعث إلى المقدّمات بعين البعث إلى ذيها ، لا أنّ لها بعثاً مستقلاًّ منظوراً إليه ، بخلاف البعث إلى ذي المقدّمة ، فإنّه مستقلّ منظور إليه ولو لأجل ترتّب فوائد عليه .

هذا ، وقال المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في رفع الإشكال ما محصّله : إنّ الواجبات التي لها آثار وخواصّ مطلوبة ، يتعلّق الطلب بها لأجل تلك الآثار والخواصّ ، وإن كانت واجبات غيرية بهذا اللحاظ ، لكن لا ينافي ذلك أن تكون لها عناوين حسنة منطبقة عليها ، تكون بواسطتها واجبات نفسية . فالفرق بين الواجب النفسي والغيري : أنّ الغيري ما يكون وجوبه لأجل التوصّل إلى الغير بما أ نّه متوصّل به إليه ، وهذا لا ينافي أن تكون له جهة نفسية أيضاً ، يكون بها واجباً نفسياً(1) .

وفيه : أنّ تلك الواجبات التي يدّعى أنّ لها جهة نفسية وغيرية ، إمّا أن تكون بالنسبة إلى الغير من قبيل الأسباب بالنسبة إلى المسبّبات ، كحركة اليد والمفتاح

ص: 119


1- كفاية الاُصول : 135 - 136 .

[فحينئذٍ يكون صدور المسبّبات بنفس إرادة أسبابها ، لا بإرادة اُخرى مستقلّة، فلا يكون الثابت إلاّ وجوباً واحداً ، لا وجوبين : نفسي وغيري .

وإمّا أن تكون جزء المؤثّر في وجود الغير ، ويكون الجزء الآخر للعلّة خارجاً عن قدرة المكلّف ، فحينئذٍ لا يكون الغير مقدوراً للمكلّف ، فكيف يتعلّق به وجوب نفسي(1)] .

حكم الشكّ في النفسية والغيرية

ثمّ إنّه لا إشكال فيما إذا علم أحد القسمين ، وأمّا مع الشكّ في واجب بأنّه نفسي أو غيري ، فقد قال المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في بحثه : إنّ مقتضى الإطلاق هو الحمل على النفسية ؛ سواء كان ذلك الغير واجباً في بعض الأحيان وغير واجب في بعضها ، أو كان واجباً على كلّ حال .

أمّا في الأوّل فواضح ؛ أنّ إطلاق الهيئة يقتضي أن يكون هذا واجباً ، وجب غيره أو لم يجب .

وأمّا في الفرض الثاني ؛ فلأنّ مطلق اشتراط شيء بشيءٍ آخر تقييد لإطلاقه ، وأصالة الإطلاق ترفع الشكّ في التقييد .

هذا مضافاً إلى أنّ الوجوب منصرف إلى النفسي .

وفيه : أنّ ما أفاد في الشقّ الثاني - من تقييد الوجوب الغيري - غير معقولٍ ؛ لأنّ الوجوب الغيري ناشٍ من النفسي ومعلول له ، ولا يمكن أن يتقيّد المعلول بعلّته ؛ للزوم تجافي العلّة عن محلّها ، فالبعث الغيري المتأخّر عن البعث النفسي

ص: 120


1- أخذنا ما بين المعقوفتين تتميماً للبحث من نهاية الاُصول : 181 - 182 .

لا يمكن تقيّده به . . . للزوم تأخّر الشيء عن نفسه ومحلّه .

وأمّا الانصراف الذي ادّعاه فهو في محلّه ، لكن على ما قرّرنا من الفرق بين النفسي والغيري ؛ فإنّ الواجب الغيري هو الواجب الفاني في الغير ، ولا نفسية له أصلاً ، والواجب منصرف عنه ، كما لا يخفى .

تذنيبان :
الأوّل : في استحقاق المثوبات

قد اختلف كلمة أصحاب الكلام في أنّ هذه المثوبات - التي تكون في فعل الواجبات والمستحبّات ، وترك المحرّمات والمكروهات - هل هي بصِرف التفضّل منه تعالى شأنه(1) أم العقل يحكم باستحقاق العبد ؛ بحيث يعدّ عدم إعطائها قبيحاً عليه تعالى(2) ؟

والقائلون بالاستحقاق استدلّوا : بأنّ حمل المشاقّ على الغير بلا أجر قبيح عقلاً ، ولا شكّ أ نّه في إطاعة المولى مشقّات ورياضات للعبد ، فلا بدّ من جبرانها بالأجر والثواب .

ولا يخفى ما فيه من الوهن والخطأ ؛ فإنّه - مضافاً إلى أنّ العبد وجوده وقواه وحركاته وسكناته مملوكة للّه تعالى بالملكية الحقيقية القيّومية ، وفي مثلها لا معنى للاستحقاق - أنّ أوامر اللّه ونواهيه ألطاف عقلية ؛ لإصلاح حال العباد وتزكيتهم وتطهيرهم ، وإيصالهم إلى مدارج الكمالات النفسانية والفضائل

ص: 121


1- شرح المقاصد 5 : 125 ؛ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : 170 .
2- المسلك في اُصول الدين : 117 ؛ كشف المراد : 408 ؛ إرشاد الطالبين : 413 .

الروحانية ، أو حفظ النظام الذي يرجع نفعه إليهم .

وبالجملة : ليس في أوامره ونواهيه تعالى نفع له ؛ فإنّه غنيّ عن العالمين ، بل المنافع ترجع إليهم ، وإنّما أوامره ونواهيه كأوامر الطبيب ونواهيه ؛ لإصلاح حال المريض ، فهل يجوز عند العقل أن يرجع المريض إلى الطبيب ، ويطالبه بالأجر على إطاعة أوامره ونواهيه - من شرب الأدوية البشعة ، وترك المشتهيات النفسانية - ويقول : إنّ حمل المشقّة على الغير بلا أجر قبيح . وهذا واضح لدى التفكّر في حال العبد مع اللّه ، ونسبة العبودية إلى الربوبية .

ولعمري إنّ القول بالاستحقاق لا يخلو عن جسارة على ساحته المقدّسة ، وعُجبٍ بالأعمال ، وجهل بحقيقة الحال .

وأمّا استحقاق العقاب في مخالفة المولى ، فهو ممّا حكم به العقل ؛ فإنّ الخروج عن إطاعة المولى هتك لمقام الربوبية ، وفي مثله يحكم العقل بالاستحقاق ، ومعناه أ نّه لو عذّبه المولى يكون في محلّه ، لا أ نّه يعذّبه [حتماً] ؛ فإنّ باب الرحمة والعفو واسعة .

هذا ، ولو التزمنا بالاستحقاق في امتثال الواجبات النفسية ، فهل امتثال الأوامر الغيرية - على فرض وجوب المقدّمة - يوجب الاستحقاق ، أم لا ؟

التحقيق : - حسبما عرفت من أنّ الواجبات الغيرية لا نفسية لها ، بل باعتبار يمكن سلب الوجوب عنها - عدم الاستحقاق .

ولكن هاهنا أمر آخر ، وهو أنّ إتيان المقدّمات مع عدم تعلّق الوجوب الغيري بها - كما هو التحقيق - إذا كان لأجل الإتيان بذي المقدّمة ، يوجب استحقاق المثوبة ؛ فإنّ العقل لا يفرّق بين الإتيان بالواجب النفسي ، وبين الإتيان بالواجب

ص: 122

الغيري ؛ لأجل إطاعة المولى ، لا للشهوات ، فإذا كان الباعث للعبد نحو المقدّمة إطاعة أمر ذي المقدّمة ، ولا داعي له إلاّ الامتثال فيستحقّ المثوبة على القول بالاستحقاق ؛ فإنّه تحمّل المشقّة له تعالى ، والعقل يجد الفرق بين من يتحمّل المشقّ-ة بإتيان مقدّمات كثيرة للواجب النفسي ، ومات قبل إتيانه ، وبين من لم يتحمّلها ، فالاستحقاق إنّما هو لأجل إطاعة الواجب النفسي وإن كان على مقدّماته .

إشكال ودفع

ربّما يشكل في بعض المقدّمات - كالطهارات الثلاث - من جهتين(1):

الاُولى : من حيث ترتّب الثواب عليها ، مع أنّ الأمر الغيري لا مثوبة فيه .

الثانية : من حيث إنّه يعتبر فيها قصد التقرّب والامتثال ، فلا بدّ من تعلّق الأمر الغيري بالطهارات بداعي أمرها ، فيأتي الإشكال المعروف في الواجبات التعبّدية : من كون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه(2) ولا يأتي الجواب الذي قال به المحقّق الخراساني رحمه الله علیه هناك : من تعلّق الأمر بالأوسع من الغرض(3) ؛ لأنّ الأمر الغيري إنّما يتعلّق بالمقدّمة بملاك المقدّمية ، ولم يكن الملاك إلاّ في الطهارة المقيّدة بالتقرّب .

هذا ، والتحقيق في الجواب عن الأوّل ما عرفت : من أنّ الثواب لم يكن لأجل

ص: 123


1- اُنظر مطارح الأنظار 1 : 347 - 349 ؛ كفاية الاُصول : 139 .
2- راجع ما تقدّم في الصفحة 52 .
3- كفاية الاُصول : 95 .

وجوبها الغيري ، بل لأجل الوجوب النفسي المتعلّق بذي المقدّمة .

مضافاً إلى أنّ الوضوء والغسل من المستحبّات النفسية ، فإن أتى المكلّف بهما بداعي استحبابهما النفسي ، فلا إشكال في ترتّب الثواب عليهما ، وإن لم يكن له داعٍ إلاّ الإتيان بذي المقدّمة ، فيأتي بهما لأجله ، فيكون مُثاباً لأجل داعوية الأمر النفسي لإتيانهما ، كما عرفت .

وعن الثاني : أنّ الجواب عن الإشكال هاهنا أهون ؛ فإنّ الطهارة مع داعي الامتثال إذا كانت مقدّمة للصلاة ، تكون نفس الطهارة أيضاً مقدّمة ؛ فإنّها مقدّمة المقدّمة ، فيتعلّق الأمر بذات الطهارة لأجل المقدّمية ، وقد مرّ منّا(1) التحقيق في مثل المقام ، فتذكّر .

الثاني : في الوضوء التهيّئي

قد انقدح بما ذكرنا - من داعوية الوجوب النفسي المتعلِّق بذي المقدّمة إلى إتيان المقدّمات بلا احتياجٍ إلى تعلّق الوجوب الغيري بها - : إمكان تطبيق الوضوء التهيّئي - المفتى به بين الأصحاب(2) - على القاعدة وإن لم نلتزم بالوجوب التعليقي بالنسبة إلى ذي المقدّمة ؛ فإنّ علم المكلّف بأمر المولى في موطنه يدعوه إلى إتيان مقدّمته قبل الوقت ، فإنّ التوقيت لذي المقدّمة لا لمقدّمته ، فالوضوء مقدّمة للصلاة مطلقاً ؛ أتى به قبل دخول وقتها أو بعده ، فالإتيان به بداعي حصول مقدّمتها عند حضور وقتها ممّا لا إشكال فيه ، فتدبّر .

ص: 124


1- تقدّم في الصفحة 65 - 66 .
2- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 49 ؛ الدروس الشرعية 1: 86 ؛ جواهر الكلام 1 : 17 - 18 .

كما أنّه قد انقدح بما حقّقنا سابقاً : أ نّه ليس الوضوء متعلّقاً لأوامر كثيرة حسب تكثّر الغايات ، بل له أمر نفسي استحبابي فقط ، نعم الأمر بالغايات يدعو إلى إتيانه لأجل المقدّمية بلا تعلّق أمر غيري به ، فالأمر الغيري لا أساس له أصلاً ، فالإشكال المعروف : من لزوم اجتماع المثلين أو الأمثال في الوضوء لا أساس له.

ص: 125

الأمر الرابع في بيان ما هو الواجب في باب المقدّمة

في بيان ما هو الواجب في باب المقدّمة

لا إشكال في أنّ وجوب المقدّمة - بناء على الملازمة - يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة ، فما عن صاحب «المعالم» رحمه الله علیه : من أنّ وجوبها مشروط بإرادة المكلّف إتيان ذي المقدّمة(1) منظور فيه .

مضافاً إلى أنّ تعلّق الأمر بشيء إنّما هو لأجل الداعوية والتحريك نحوه ، فإذا كان المكلّف مريداً لإتيان ذي المقدّمة ، فمن الضروري تعلّق إرادته بإتيان مقدّمته ، فبعد تعلّقها به يصير تعلّق الأمر به لغواً باطلاً غير صالح للداعوية .

وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة كما يتراءى من ظاهر كلام بعض محقّقي مقرّري بحث الشيخ العلاّمة أعلى اللّه مقامه(2) ، أو يعتبر فيه أن يترتّب ذو المقدّمة عليها بحيث لو لم يترتّب يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب كما ذهب إليه صاحب «الفصول» رحمه الله علیه (3) ، أو يعتبر فيه كلا الأمرين - أي قصد التوصّل والموصلية - أو لا يعتبر شيء منهما ؟

ص: 126


1- معالم الدين : 71 .
2- مطارح الأنظار 1 : 353 .
3- الفصول الغروية : 81 / السطر 4 و: 86 / السطر 12 .

والتحقيق عدم اعتبارهما :

أمّا عدم اعتبار قصد التوصّل : فلأنّ تمام الملاك في تعلّق الوجوب بالمقدّمة - على القول بالملازمة - هو كونها مقدّمة ؛ وممّا يتوقّف عليها ذوها ، ومعلوم أنّ قصد التوصّل لا يكون ممّا يتوقّف عليه الواجب ، فلا معنى لترشّح الوجوب عليه منه ؛ لفقدان ما هو الملاك .

وليعلم : أنّ المتراءى من صدر كلام المحقّق المقرّر وإن كان ما ذكر ، لكن بعد التأمّل في تمام كلامه واحتجاجاته يعلم أنّ قصد التوصّل إنّما اعتبره في التقرّب بالمقدّمة ، لا في وقوعها على صفة الوجوب ، وهذا موافق للتحقيق ؛ فإنّ التقرّب بها لا يحصل إلاّ مع قصد الامتثال ، وهو لا يحصل إلاّ مع قصد الإيصال إلى ذي المقدّمة ، ولعلّ هذا موافق لما قلنا : من أنّ استحقاق الثواب على المقدّمة إنّما يكون لأجل الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة الذي يدعو إلى مقدّمته . هذا حال قصد التوصّل .

وأمّا المقدّمة الموصلة : فحاصل ما أفاد صاحب «الفصول» رحمه الله علیه : أنّ الموصوف بالوجوب هو المقدّمة مع قيد الإيصال ، وإلاّ يلزم الالتزام بجواز إتيان المقدّمة المحرّمة بلا توصّل إلى ذي المقدّمة ، فيجوز دخول الملك الغصبي الذي يكون مقدّمة لإنقاذ الغريق مع عدم إنقاذه ، وهو كما ترى .

نعم ، لو قصد التوصّل ولم يتوصّل أتى بالمحرّم الواقعي ، لكنّه معذور فيه ، كما أ نّه لو أتى بالمقدّمة المحرّمة بلا قصد الإيصال ، ولكن بدا له التوصّل إلى ذي المقدّمة فتوصّل ، أتى بالواجب الواقعي ، لكنّه متجرٍّ.

ص: 127

وبالجملة : ما هو الواجب هو المقدّمة مع قيد الإيصال(1) .

ويرد عليه : أ نّه إن أراد بوجوب المقدّمة الموصلة التفصيل بين المقدّمة التي هي موصلة بالحمل الشائع - أي ما يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود - وبين غيرها ؛ أي ما يلزم من عدمه العدم ، كما هو شأن المقدّمية ، لكن لا يلزم من وجوده الوجود ، فهذا تفصيل بين المقدّمة السببية وغيرها ؛ أي بين الأفعال التوليدية التي لم تكن إرادة الفاعل متوسِّطة بينها وبين أسبابها ، وبين غيرها ، وليس هذا خلافاً جديداً ، بل هو ما نسب إلى عَلَم الهدى السيّد المرتضى رحمه الله علیه (2) ، وأنكره صاحب «المعالم»(3) . ويأتي حينئذٍ النزاع المعروف في التسبيبيات(4) : من أنّ الأوامر هل هي متعلّقة بالأسباب أو بمسبّباتها ؟

وإن أراد بوجوبها وجوب جميع المقدّمات ، لكنّه ذهب إلى أنّ اتّصافها بالوجوب لا يكون إلاّ مع الإيصال ، فتجب على المكلّف المقدّمة وتحصيل قيد الإيصال .

ففيه : أنّ تحصيل هذا القيد لا يكون إلاّ بإتيان ذي المقدّمة ، فبناء على الملازمة يترشّح الوجوب الغيري من نفس ذي المقدّمة على نفسه بعدد المقدّمات ، فيكون متعلّقاً لوجوب واحد نفسي ووجوبات كثيرة غيرية مترشّحة من ذاته إلى ذاته .

ص: 128


1- الفصول الغروية : 81 / السطر 9 .
2- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 83 .
3- معالم الدين : 60 .
4- تقدّم في الصفحة 97 - 100 .

وبالجملة : يلزم أن يكون ذو المقدّمة مقدّمة لنفسه ، وهو ضروري البطلان .

إيقاظ: لا يخفى : أنّ كلاًّ من صاحبي «المعالم» و«الفصول» والعلاّمة الأنصاري رحمهم اللّه أرادوا - بما التزموا في باب مقدّمة الواجب - تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الواجب ؛ بناءً على كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ، فإنّ تركها - على مبنى صاحب «المعالم» - لا يكون مطلقاً واجباً ، بل الواجب هو الترك في حال إرادة فعل الواجب ، ومعلوم أنّ الآتي بالضدّ لا يريد فعل ضدّه ، فلا يكون تركه مقدّمة .

وسيأتي في باب الضدّ زيادة توضيحٍ لذلك(1) ، وكذا توضيح ما أراد صاحب «الفصول» والشيخ العلاّمة الأنصاري رحمهما اللّه ، فانتظر .

تذنيب : في ثمرة النزاع في هذه المسألة

لا يخفى : أ نّه لا ثمرة مهمّة في هذه المسألة ؛ ضرورة أنّ وجوب المقدّمة - على القول به - لا يكون وجوباً يترتّب عليه أثر ؛ فإنّ هذا الوجوب الترشّحي لا يكون له إطاعة ومعصية ، ولا في إتيانه وتركه استحقاق مثوبة وعقوبة ، ولا بدّ بحكم العقل من إتيان المقدّمة ، تعلّق بها الوجوب الشرعي أو لا .

وما قيل به من سائر الثمرات مثل البرّ بالنذر وغيره(2)، كلّها مخدوش ، ومنها الثمرة التي سيأتي ذكرها في باب الضدّ مفصّلاً(3) ، فلا داعي للتعرّض لها هاهنا .

ص: 129


1- يأتي في الصفحة 136 .
2- اُنظر الفصول الغروية : 81 / السطر 9 و 87 - 88 ؛ مطارح الأنظار 1 : 391 .
3- يأتي في الصفحة 135 - 136 .
تتمّة : حول الأصل عند الشكّ في الملازمة

لا أصل في المسألة يعوّل عليه عند الشكّ ؛ فإنّ الملازمة لا حالة سابقة لها . ووجوب المقدّمة وإن كان مسبوقاً بالعدم ، لكن جريان الأصل فيه مشكل ، فإنّ أصالة عدم تنجّز التكليف ؛ بمعنى عدم استحقاق العقوبة على تركها ، غير جارية ؛ فإنّ التنجّز - مضافاً إلى كونه أمراً عقلياً ليس بيد الشارع جعله ورفعه - لا معنى له في باب المقدّمة ، فإنّه في تركها ليس استحقاق العقوبة ، ولا في فعلها استحقاق المثوبة .

وإن كان المراد بأصالة عدم الوجوب رفع فعليته ، ففيه : أنّه لا يعقل رفع فعلية وجوب المقدّمة مع فعلية وجوب ذيها ؛ فإنّ وجوب المقدّمة تابع لذيها في الوجود ومرتبته ، فلا يعقل انفكاكهما في الفعلية ، والفرض أنّ الشكّ في وجوب المقدّمة ناشٍ عن الشكّ في الملازمة وعدمها ، وليس الشكّ في وجوب مستقلّ يمكن رفعه ووضعه .

حول

استدلال القائلين بوجوب المقدّمة

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ المشهور بين الاُصوليين وجوب المقدّمة(1) ومقصودهم منه هو الوجوب الشرعي ، لا اللابدّية العقلية ؛ فإنّها غير قابلة للنزاع والنقض والإبرام .

ص: 130


1- معالم الدين: 60 ؛ الوافية في اُصول الفقه : 219 ؛ الفصول الغروية : 82 / السطر 18 .

وليعلم : أنّ الشهرة في المسائل الأصلية الفقهية وإن لم تبعد حجّيتها ، بل تترجّح عندنا ، لكن ليست مسألتنا هذه منها ؛ فإنّ الاشتهار في هذه المسألة - على الظاهر - لا يكون إلاّ بملاك إدراك الملازمة العقلية، لا الأمر التعبّدي الواصل إليهم دوننا ، ففي مثلها لا حجّية لاتّفاق الآراء فضلاً عن الشهرة ؛ فإنّ الحاكم في مثلها العقل ، فإن أدرك الملازمة فهو ، وإلاّ فلا موجب لحكمه بالوجوب .

نعم ، ربّما يتوهّم : أنّ تفصيل بعضهم بين السبب وغيره(1) وبعضهم بين الشرط الشرعي وغيره(2) - مع أنّ الملاك العقلي مطّرد في جميعها - يرجِّح كون الوجوب شرعياً ، لا عقلياً محضاً ، وإلاّ فلا معنى للتفصيل .

وفيه : أنّ التفصيلين مبنيّ-ان على اشتباه وخطأ لا بدّ من رفعهما ؛ حتّ-ى يرفع التوهّم :

أمّا التفصيل بين السبب وغيره ، فمبنى الاشتباه فيه أنّ المسبّبات التوليدية لا يعقل تعلّق الأمر بها ، بل لا بدّ من صرف الأوامر المتعلّقة بها ظاهراً إلى أسبابها ؛ فإنّ القدرة إنّما تتعلّق بأسبابها ، وإيجاد الأسباب عين إيجادها ، وليس بينها وبين أسبابها تخلّل إرادة وقدرة .

ولا يخفى: أنّ هذا ليس تفصيلاً في مقدّمة الواجب ، بل هو أجنبيّ عنها تماماً، مع أنّها في حدّ نفسها أيضاً باطلة ؛ فإنّ المقدور مع الواسطة مقدور كما مرّ(3) .

ص: 131


1- تقدّم في الصفحة 128 .
2- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 90 ؛ اُنظر بدائع الأفكار ، المحقّق الرشتي : 354 - 355 .
3- تقدّم في الصفحة 98 .

وأمّا التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ، فغاية ما يتوهّم فيه أنّ الشرطية - فيما لا يكون عند العقل شرطاً - إنّما تنتزع من تقييد المكلّف به به ، كما إذا قيل : «صلِّ مع الطهارة» فلا بدّ من تعلّق الطلب المتعلّق بالمركّب به أيضاً .

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّه - مضافاً إلى خروجه عن مورد النزاع في باب مقدّمة الواجب ، فإنّ النزاع إنّما يكون في المقدّمات الخارجية ، لا القيود والشرائط - أنّ الشرائط الشرعية ترجع إلى العقلية ، فما يرى أ نّه يمكن وجوده بغير المقدّمة الشرعية ، كالصلاة التي يتوهّم إمكان وجودها بلا طهارة عقلاً ، لا يكون كذلك واقعاً؛ فإنّها حقيقة واقعية لا يمكن تحقّقها إلاّ بالطهور ، فالشرائط الشرعية مقدّمات عقلية كشف عنها الشارع .

إذا عرفت ما ذكرنا : فقد استدلّ على وجوب المقدّمة أبو الحسين البصري(1) ، وتبعه غيره(2) : بأ نّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وحينئذٍ إن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً ؛ لصيرورته مشروطاً بإتيان مقدّمته ، لكنّ اللازمين باطلان ، فالملزوم مثلهما ، فإذا بطل الملزوم - أي جواز الترك - وجبت المقدّمة ، وهذا هو المطلوب .

والجواب عنه : أنّ ما يضاف إليه الظرف إمّا أن يكون الجواز ، وإمّا أن يكون الترك ، فعلى الأوّل لا تصدق الشرطية الثانية ؛ فإنّه بمجرّد جواز الترك لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، وعلى الثاني لا ينتج القياس ؛ لعدم تكرار الوسط .

ص: 132


1- المعتمد في اُصول الفقه 1 : 95 - 96 .
2- المحصول في علم اُصول الفقه 2 : 370 .

وقد يستدلّ على وجوب المقدّمة : بتعلّق الأوامر الشرعية والعرفية بها ، كما هو واضح(1) .

وفيه : أنّ الأمر بالمقدّمة إنّما هو تحريك إلى المطلوب النفسي ، لا تحريك إلى المقدّمة .

وقد يقال - كما عن بعض المعاصرين - : إنّ وزان الإرادة التشريعية كوزان الإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات ، فكما أنّ الإرادة التكوينية إذا تعلّقت بشيء تتولّد منها إرادة اُخرى تتعلّق بمقدّماته ، كذلك الإرادة التشريعية طابق النعل بالنعل ، فلا بدّ من طلب غيري مقدّمي متولِّد من الطلب النفسي(2) .

وفيه : أ نّه ممنوع ؛ فإنّ الإرادة التشريعية ليست إلاّ البعث والتحريك نحو الفعل ، ليحصل في نفس المكلّف حبّه واشتياقه وإرادته ، ليتحرّك نحو إيجاده ، وهذا ليس إلاّ إنشاء البعث النفسي نحو ذي المقدّمة ، بدون أن يكون هناك إنشاءات بعثية اُخرى .

ألا ترى : أ نّه لو سُئل الآمر عن ذلك ، لا يعترف بأزيد من بعث واحد متعلّق بذي المقدّمة . نعم ، لا بأس بافتراض الوجوب الذي ليس له ثواب ولا عقاب ولا بعث ولا تحريك نحو المقدّمة ؛ فإنّ البعث إليها هو البعث إلى ذيها حقيقة ، لا إليها ، تدبّر .

ص: 133


1- كفاية الاُصول : 157 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 284 .

المطلب الخامس: في مسألة الضدّ

في مسألة الضدّ

الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا ؟ أقوال .

وتحقيق الحال يستدعي رسم اُمور :

[الأوّل : في كون المسألة من المبادئ الأحكامية

إنّ المراد بالمبادئ الأحكامية هي لوازم الأحكام الشرعية ومعانداتها ، وحيث إنّ موضوع علم الاُصول هو الحجّة على الحكم الشرعي ، لذا ناسب الاُصولي أن يبحث عن حال الأحكام من حيث استلزامها للمقدّمية ، وللنهي عن الضدّ وهكذا ، فتكون مسألتنا من المبادئ الأحكامية .

الثاني : في الضدّ العامّ

اختلفوا في الضدّ العامّ ؛ أي الترك ، فقيل : بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ، بدعوى أنّ الأمر بشيء - كالإزالة - هو عين النهي عن تركها وجوداً ؛

ص: 134

لأنّ حقيقة النهي عبارة عن طلب الترك ، فإذا صار متعلّق الترك تركاً ، يصير معنى النهي طلب ترك الترك ، وهو عين طلب الفعل .

وفيه : أنّ حقيقة النهي عبارة عن الزجر عن الفعل ، لا طلب الترك ، فلا تصحّ دعوى العينية .

نعم ، لا بأس بأن يقال : إنّ الأمر عين النهي عن ضدّه العامّ ؛ فإنّه يصحّ أن ينسب إلى الآمر بفعل : «أ نّه زاجر عنه» على نحو من المسامحة ، كما ينسب إلى الناهي عن فعل : «أنّه طالب لتركه» .

لكن لا بمعنى ثبوت تكليفين ، حتّى يلزم تعدّد العقاب في صورة العصيان ، بل بمعنى اتّحاد البعث نحو الفعل مع الزجر عن تركه في الواقع ونفس الأمر ، وإن اختلفا مفهوماً](1) .

الثالث : في الضدّ الخاصّ

قد استدلّ على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ بوجهين(2) :

أحدهما : أنّ إتيان الضدّ مستلزم لترك ضدّه ، وترك الضدّ حرام ؛ لكونه ضدّاً عامّاً للواجب ، فإتيان الضدّ مستلزم للترك الحرام ، والمستلزم للترك الحرام حرام ، فضدّ الواجب حرام .

وثانيهما : أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه الواجب ، ومقدّمة الواجب واجبة ، فترك الضدّ واجب ، فإذا وجب ترك الضدّ يكون فعله حراماً ؛ لكونه ضدّاً عامّاً له .

ص: 135


1- أخذنا مابين المعقوفتين تتميماً للبحث من نهاية الاُصول : 206 - 208 .
2- اُنظر معالم الدين : 67 - 68 ؛ قوانين الاُصول 1 : 114 / السطر 10 و21 .

ولا يخفى : أنّ هذين الدليلين مأخوذان من نفس عنوان البحث ، أحدهما : من إتيان الضدّ ، والآخر : من تركه .

ثمّ لا يخفى : أنّ مقتضى مجموع الدليلين هو الدور الواضح ؛ فإنّ مقتضى الأوّل أنّ فعل كلٍّ من الضدّين علّة لترك ضدّه ، فإنّ الضدّية من الإضافات المتشابهة الأطراف ، فإذا كان وجود أحد الضدّين مستلزماً لترك ضدّه وعلّة له - لمكان الضدّية - يكون وجود الآخر أيضاً كذلك ، ومقتضى الثاني أنّ ترك كلٍّ من الضدّين مقدّم على ضدّه ؛ لعين ما ذكرنا ، فوجود كلٍّ من الضدّين مقدّم على ترك ضدّه ، وترك كلّ منهما مقدّم على وجود ضدّه ، وهذا دور مستلزم لاجتماع النقيضين ، كما لا يخفى .

ثمّ إنّهم اختلفوا في مقدّمية عدم الضدّ:

فمنهم : من يظهر منه أنّ فعل كلٍّ منهما مقدّمة لترك الآخر ، وتركه مقدّمة لفعله ، فالتوقّف من الجانبين .

وهذا القائل وإن لم يصرّح بذلك ، لكنّ-ه لازم قوله في البابين ، فإنّه فيما نحن فيه ردّ الاستدلال - بأنّ ترك الضدّ مقدّمة ، ومقدّمة الواجب واجبة - بأنّ وجوب المقدّمة ممنوع(1) ، فيظهر منه قبول المقدّمية . وفي ردّ قول الكعبي - بنفي الإباحة المستدلّ عليه : بأنّ كلّ فعل وجودي مقدّمة لتركٍ واجب - قال : إنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة(2) فيظهر منه قبول مقدّمية الوجود للعدم .

ص: 136


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 202 .
2- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 96 - 97 .

ومنهم من قال : بتوقّف وجود الضدّ على ترك ضدّه(1) .

ومنهم : من فصّل بين الضدّ الموجود وغيره ، فقال بالتوقّف في الأوّل دون الآخر(2) .

والحقّ : عدم التوقّف من الجانبين مطلقاً ، وفاقاً للمحقّقين(3) لأنّ التوقّف - إن كان - إنّما هو من جهة التعاند والضدّية ، لا من جهات اُخرى ؛ فإنّها خارجة عن حريم البحث ، فإذا كان المدّعى التوقّف من جهة الضدّية ، فلا إشكال في أ نّها لا تقتضي إلاّ عدم اجتماع الضدّين في محلّ واحد في زمان واحد ، ورفع هذا الاجتماع والاستحالة إنّما هو بقيام عدم أحد الضدّين - مع وجود الضدّ الآخر - مقام وجوده ، وهذا لا يقتضي تقدّم العدم على الوجود .

وبعبارة اُخرى : أنّ ما يرفع الاجتماع المستحيل هو رفع أحد الضدّين مع وجود ضدّه ، وهذا لا يقتضي إلاّ كون الرفع مع وجود ضدّه لا مقدّماً عليه ، والفرض أ نّه لا مقتضي آخر للتقدّم غير التعاند والضدّية .

نعم ، يكون التزاحم بين علّتي وجود الضدّين في مرتبة متقدّمة ، فإذا اقتضى كلّ من علّتي الضدّين وجود معلوله يقع التزاحم لأجل التعاند بين المعلولين ، فيقدّم الغالب ، فيوجد معلوله ، أو يتمانعان إذا لم يغلب أحدهما الآخر .

ص: 137


1- قوانين الاُصول 1 : 108 / السطر 20 ؛ اُنظر بدائع الأفكار ، المحقّق الرشتي : 372 / السطر 17 .
2- اُنظر مطارح الأنظار 1 : 499 .
3- مطارح الأنظار 1 : 513 ؛ كفاية الاُصول : 161 .

الرابع : في ثمرة المسألة

تظهر الثمرة في بطلان العبادة إذا كانت ضدّاً للمنهيّ عنه ، بناءً على الاقتضاء .

وعن البهائي رحمه الله علیه إنكارها ؛ بدعوى أنّ الأمر بالضدّ وإن لم يقتضِ النهي عن ضدّه ، لكن يقتضي عدم الأمر به ؛ ضرورة امتناع تعلّق الأمر بالضدّين ، مع أنّ صحّة العبادة تتقوّم بقصد التقرّب ، وهو لا يحصل إلاّ بقصد امتثال الأمر(1) .

ولا يخفى : أنّ ما اشتهر - من أنّ الأمر بالضدّين قبيح لا يصدر من الحكيم - ليس على ما ينبغي ، بل الحقّ أنّ الأمر بالضدّين ؛ بإرادة البعث مع الالتفات إلى الضدّية واستحالة تحقّقهما في الخارج ، محال لا يمكن صدوره من مريد مطلقاً ، فإنّ البعث إلى المحال مع الالتفات ممّا لا يمكن صدوره من العاقل ، لا لأجل القبح ، بل لأجل امتناع البعث إلى المحال .

ثمّ إنّ القوم تشبّثوا لردّ إيراد البهائي رحمه الله علیه بوجوه:

الوجه الأوّل : أنّ مجرّد الرجحان والمحبوبية يكفي لصحّة التقرّب ، ولا تحتاج العبادة إلى الأمر ، ولا يجد العقل فرقاً بين الفرد المبتلى بالمزاحم وغيره في وجدان تمام الملاك ، من غير منقصة في المبتلى لأجل التزاحم(2) .

الوجه الثاني : بناءً على احتياج صحّة العبادة للأمر ، لا نسلّم امتناع تعلّق الأمر بشيئين ؛ يكون أحدهما موسّعاً ، والآخر مضيّقاً ، بل المسلّم امتناع تعلّقه بالمضيّقين ، فيجوز تعلّق الأمر بالصلاة من دلوك الشمس إلى غَسَق الليل ،

ص: 138


1- زبدة الاُصول : 118 ؛ الاثنا عشرية في الصلاة اليومية : 55 ، الهامش 193 .
2- كفاية الاُصول : 166 .

وبإزالة النجاسة عن المسجد في أوّل الوقت(1) .

لكن لا يخفى : أ نّه في الأوامر الموسّعة - إذا التزمنا بالتخيير الشرعي بين الأفراد - لا تدفع الاستحالة ؛ ضرورة امتناع تعلّق الأمر بشيء معيّناً وتعلّق الأمر بضدّه على نحو التخيير ؛ لاستلزامه الأمر بالضدّين .

نعم ، ما هو الحقّ والظاهر من الأدلّة - من أنّ الأوامر إنّما تتعلّق بالطبائع ، ويكون الزمان مع كونه كلاًّ ذا أجزاء وهمية ، لا كلّياً ذا أفراد ، ظرفاً لوقوع الطبيعة فيه ، وتكون الطبيعة متكثّرة الأفراد باعتبار وقوعها في الزمان الموسّع - يدفع الاستحالة ؛ ضرورة عدم تعلّق الأمر بالأفراد ، بل ما يتعلّق الأمر به هو الكلّي الطبيعي ، والأفراد بخصوصياتها غير مأمور بها ، ولا يكون تحقّق الامتثال بها لأجل تعلّق الأمر بالخصوصية ، بل لأجل تعلّقه بالكلّي .

وبالجملة : لا ضدّية بين الأمر المتعلّق بالطبيعة في ظرف موسّع - كالزمان ، مثل إيقاع الصلاة من دلوك الشمس إلى غَسَق الليل ، وكالمكان الموسّع ، مثل الوقوف في عرفات - وبين الأمر المتعلِّق بفرد مضادّ مع فرد منها ؛ لعدم سراية الأمر المتعلِّق بالطبيعة إلى الأفراد ، وعدم كون الفرد بخصوصياته متعلّقاً للأمر .

وبما ذكرنا : من عدم سراية الأمر المتعلّق بالطبيعة إلى الخصوصيات المميّزة الفردية ، يظهر فساد ما قيل : من أنّ الأمر بالموسّع على سبيل الإطلاق يضادّ الأمر بالفرد المعيّن ، فلا يمكن إرادة كليهما ولا إيجابهما ، فإنّ الممتنع الشرعي

ص: 139


1- جامع المقاصد 5 : 13 - 14 ؛ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 313 .

كالعقلي ، فإذا صار إطلاق الأمر بالطبيعة منشأً لتفويت الواجب المضيّق ، فلا بدّ من تقييده أو تخصيصه بغير الفرد المعيّن ؛ فإنّ المنافاة بينهما إنّما تكون لو سرى الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيات المشخّصة المميِّزة الفردية ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ؛ لأنّ متعلّقه في الموسّع هو الطبيعة المجرّدة عن الخصوصيات ، وهي متعلّق واحد لأمر واحد ، فلا معنى للتقييد والتخصيص فيها .

وبالجملة : نشأ الاشتباه من توهّم سراية الأمر بالطبيعة إلى أفرادها ، مع أ نّها ممنوعة ؛ ضرورة أنّ المولى لا بدّ وأن يأخذ في متعلّق تكليفه كلّ ما هو دخيل في تحصيل المصلحة ، وتكون حدود الموضوع - بجميع أجزائه وشرائطه - مأخوذة في متعلّق أمره لا يشذّ منها شيء ، ولا يجوز أخذ ما ليس دخيلاً في المصلحة فيه ؛ للزوم اللغو والجُزاف ، فكما أنّ عدم أخذ ما هو دخيل في المصلحة ممتنع ؛ للزوم التفويت ، كذلك أخذ ما ليس دخيلاً فيها في المتعلّق ممتنع ؛ للزوم اللغو والجُزاف .

فإذا قامت المصلحة بالطبيعة الكلّية في الظرف الموسّع الزماني أو المكاني ، فلا يمكن أخذ خصوصية من الظرفين - أيّة خصوصية كانت - في متعلّق التكليف ، فلو تعلّق التكليف بالصلاة من دلوك الشمس إلى الغروب ، لا يكون شيء من أجزاء الزمان متعلّقاً للتكليف ، ومأخوذاً في المتعلّق على نعت الخصوصية المميّزة ، ولو مضى من أوّل الوقت مقدار أربع ركعات لا تصير الطبيعة مخصّصة ؛ فإنّ القدرة على الطبيعة بحالها وإن سلبت عن الفرد ، فالفرد الخارج عن تحت القدرة بواسطة مضيّ الوقت لم يكن متعلّق الأمر ، والطبيعة المأمور بها مقدورة ما دام الوقت باقياً . ولو مضى الوقت ، ولم يبقَ منه إلاّ مقدار

ص: 140

أربع ركعات ، لا يصير الفرد بخصوصيته متعلّقاً للأمر ؛ لأنّ الخصوصية غير دخيلة في تحصيل المصلحة ، فأخذها في المتعلّق جزاف .

نعم ، مع ضيق الوقت يصير تحريك الأمر نحو الطبيعة تحريكاً لإتيان الفرد بالتبع ؛ بمعنى أنّ العقل يحكم بلزوم إتيان الفرد ، لخروج الطبيعة مع مضيّ هذا الزمان أيضاً عن تحت القدرة ، ويكون في تركه تفويت المصلحة .

وبالجملة : إنّ الفرد بخصوصيته لا يكون متعلّقاً للأمر ، ولا يكون الأمر بالطبيعة مضادّاً مع الأمر بالفرد .

وبهذا يظهر فساد ما قيل : من أنّ الفرد إذا كان مبتلىً بالضدّ في الأفراد الطولية كالزمان ، فلا بدّ وأن تصير الطبيعة مخصّصة بالنسبة إليه ؛ لأنّ الطبيعة غير مقدورة ؛ لعدم تصوّر فرد لها مقدور في الزمان المبتلى بالضدّ ، وهذا بخلاف الأفراد العرضية ؛ فإنّ القدرة عليها محفوظة مع فردٍ ما .

وجه الفساد : أنّ الطولية والعرضية لا دخالة لهما فيما ذكرنا من أنّ الطبيعة الكلّية تحت الأمر ، وهي مقدورة ما دام فردٍ ما منها مقدوراً ، ففي الزمان الذي يكون الفرد مبتلىً بالضدّ ، تكون الطبيعة مقدورة لأجل الأفراد الاُخر ، ولا تكون الطبيعة مقيّدة بزمان خاصّ حتّى تصير غير مقدورة فيه إذا ابتلي بالضدّ .

ولعمري إنّ هذا الاشتباه ناشٍ من اشتباه الكلّي بالفرد ؛ فإنّ الغير المقدور هو الطبيعة المقيّدة بالزمان ، لا الطبيعة الكلّية الغير المقيّدة .

هذا حال الموسّع والمضيّق ، وقد عرفت صحّة تعلّق الأمرين بالطبيعة والفرد بلا لزوم محالٍ .

ص: 141

التحقيق في مسألة الترتّب

الوجه الثالث : تصوير تعلّق الأمرين بشيئين مضيّقين على نحو الترتّب ، وبيانه يتوقّف على مقدّمات :

الاُولى : - وهي العمدة في هذا الباب وإن غفل عنها القائلون بالترتّب ، أو لم يعتنوا بها كما هو حقّها ، واعتنوا بمقدّمات اُخر ليست كثيرة الدخالة في تحقيق المطلب - أنّ الملاك في بطلان الأمر بالضدّين واستحالته ليس هو الأمر بالمحال ؛ فإنّ الأمر المتعلّق بكلٍّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن لا المحال ، ومجموع الأمرين ليس موجوداً على حِدة ، فالأمر بالصلاة في أوّل الزوال أمر بمقدور ممكن ، والأمر بأداء الدين فيه أمر أيضاً بممكن مقدور ، وليس هاهنا أمر آخر يكون أمراً بممكن أو محال ، فليس ملاك استحالة الأمرين بضدّين هو الأمر بالمحال .

بل الملاك هو أنّ البعث إلى أحد الضدّين في رتبة البعث إلى الضدّ الآخر ، يكون مشتركاً في الاستحالة مع الأمر بجمع الضدّين ؛ ضرورة عدم إمكان العبد من الجمع بين الضدّين ، فالمولى إذا توجّه إلى ذلك لا يمكن أن يأمره بأحد الضدّين في رتبة الأمر بالضدّ الآخر ؛ فإنّ البعث إلى أحدهما - في رتبة البعث إلى الآخر - شريك الأمر بالجمع بين الضدّين في الملاك ، لا هو نفس الأمر بالضدّين ، فإذا أمر بالصلاة في أوّل الزوال ، لا يمكن أن يأمر بإزالة النجاسة من المسجد في رتبة هذا الأمر ، لا للأمر بالجمع بين الضدّين ، بل لوجدان ملاكه .

ص: 142

الثانية : أنّ رتبة عصيان كلّ أمر متأخّرة عن نفس الأمر ، كما أنّ رتبة إطاعته كذلك ، فما لم يكن هنا أمر ، لم يكن ولم يمكن عصيان ولا إطاعة ، فهما متأخّران عن الأمر والنهي المتعلّقين بالموضوع ، وهذه واضحة .

الثالثة : أنّ شرائط التكاليف متقدّمة عليها نحو تقدّم الموضوعات على الأحكام ، فالاستطاعة متقدّمة رتبة على الأمر المتعلّق بالحجّ بشرط الاستطاعة .

وإن شئت قلت : إنّ الشرائط كلّها ترجع إلى تقيّد الموضوع بها ، فتقدّمها على الأمر تقدّم الموضوع على الحكم ، فكما أنّ الأمر إذا تعلّق بالمستطيع ، فقيل : «يجب على المستطيع الحجّ» ، تكون الاستطاعة متقدّمة عليه ، كذلك الأمر المشروط ، بل تقدّم الشرط عليه أوضح .

إذا عرفت ذلك يتّضح لك تصوير الترتّب ، ولا تحتاج إلى طول مقدّمات غير دخيلة في المقصود ؛ فإنّ الأمر بالمهمّ أمر بمقدور ، وكذا الأمر بالأهمّ ، فلا يكون ملاك الاستحالة هو الأمر بالمحال ، كما عرفت في اُولى المقدّمات ، فلا بدّ للقول بالاستحالة من التشبّث بالكبرى الاُخرى ، وهي وحدة الملاك بين الأمر بهما وبين الأمر بالجمع بين الضدّين في الاستحالة ، ووحدة الملاك إنّما هي مسلّمة إذا كان البعثان في رتبة واحدة ، فيتعلّق البعث بالمهمّ في رتبة تعلّقه بالأهمّ .

لكن الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك ؛ فإنّ البعث بالمهمّ متأخّر رتبة عن البعث بالأهمّ بمرتبتين ، فإنّ البعث بالمهمّ مشروط بعصيان الأهمّ ، فالعصيان متقدّم عليه تقدّم الموضوع على حكمه ، وعصيان الأهمّ متأخّر رتبة عن الأمر بالأهمّ فالأمر بالأهمّ متقدّم على عصيانه ، وهو متقدّم على الأمر بالمهمّ ، فالأمر بالأهمّ متقدّم على الأمر بالمهمّ برتبتين ، فملاك الاستحالة - أي كون البعثين

ص: 143

في رتبة واحدة - غير موجود ، فالترتّب حقٌّ .

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ ملاك الاستحالة في الأمر بالضدّين ليس موجوداً فيما نحن فيه ؛ فإنّ أحد الأمرين مشروط بعصيان الآخر ، ومتأخّر عنه .

فإن قلت : بناءً على ما ذكرت : من أنّ الأمر بالأهمّ لا يكون في رتبة عصيانه ، لا بدّ أن يشترط الأمر به بعدم عصيانه ، كما أنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعصيانه ، فالأمران كلاهما مشروطان ؛ أحدهما : بعدم عصيان نفسه ، وثانيهما : بعصيان ضدّه ، مع أنّ اشتراط الشيء بعصيانه ولا عصيانه غير معقول ؛ للزوم التناقض وتحصيل الحاصل ، كما أنّ إطلاقه أيضاً غير معقول ؛ لأنّ الإطلاق والاشتراط توأمان في الجواز واللاجواز .

قلت : إنّ الأمر بالأهمّ لا يكون مشروطاً بشيء أصلاً ، بل هو متعلّق بذات العاصي والمطيع - أي الإنسان - وهو الذي يعبّر عنه بالإطلاق الذاتي ، ولا محذور فيه .

إن قلت : إنّ الأمر بالأهمّ طارد للأمر بالمهمّ ؛ لمكان المضادّة وإطلاقه الذاتي وإن كان الأمر بالمهمّ غير طارد للأمر بالأهمّ ؛ لمكان الاشتراط(1) .

قلت : كلاّ ؛ فإنّ رتبة العصيان رتبة غيبة الأمر وعدم تأثيره في تحريك العبد ، والأمر وإن كان موجوداً ، لكنّه في موضوعه المتقدّم على العصيان ، وهو أمر غير ذي أثر في رتبة العصيان ، والأمر بالأهمّ متقدّم على الأمر بالمهمّ برتبتين ، ولا يمكن التجافي لا من ناحية الأمر بالأهمّ المتقدّم ، ولا من ناحية الأمر بالمهمّ

ص: 144


1- اُنظر كفاية الاُصول : 167 .

المتأخّر ، فلا يعقل أن يكون واحد منهما طارداً لصاحبه . وقد عرفت : أنّ ملاك الاستحالة هو المطاردة ، وملاكها هو كون الأمرين في رتبة واحدة .

إن قلت : إن كان اختلاف الرتبة مصحِّحاً للأمر بالضدّين وموجباً لرفع المطاردة ، فليجُز الأمر بالضدّين مع اشتراط أحدهما بإطاعة الآخر ؛ فإنّ ملاك رفع المطاردة - وهو التقدّم والتأخّر الرتبيان - موجود في ذلك أيضاً.

قلت : كلاّ ، فإنّ الفرق بينهما كالنار على المنار ؛ فإنّ الأمر بإيجاد شيء مع اشتراطه بإيجاد ضدّه في هذا الزمان بعث نحو الضدّين وتحريك نحو المتنافيين ، وفيه ملاك الأمر بالضدّين ، بل يكون أسوأ حالاً من الأمر بشيئين في مرتبة واحدة يكون كلّ واحد منهما مقدوراً في ذاته ، وغير مقدور في رتبة البعث إلى الآخر .

فإن قلت : على هذا لو ترك المكلّف الضدّين فلا بدّ من الالتزام بعقابين ، مع أ نّه عقاب بأمر غير مقدور ؛ لعدم القدرة على إيجادهما(1) .

قلت : أيّ مانع عقلي من الالتزام بعقابين بعد فرض توجّه أمرين على نحو الترتّب ؛ لأنّ القدرة متحقّقة ، لكن على سبيل الترتّب . فالعبد قادر على إتيان الأهمّ ، وحينئذٍ لا عقاب له أصلاً ، وقادر على إتيان المهمّ فحينئذٍ عليه عقاب واحد على ترك الأهمّ ، وقادر على ترك المهمّ أيضاً ، فله عقابان وليس العقابان على أمر غير مقدور .

وبالجملة : ما هو المصحِّح لتعلّق الأمرين هو المصحِّح لصحّة العقوبتين .

ص: 145


1- كفاية الاُصول : 168 .

ثمّ إنّه قد يشتبه الأمر بسبب اختلاط العصيان الرتبي بالخارجي ، فيقال : إنّ شرط الأمر بالمهمّ لمّا كان هو عصيان الأمر بالأهمّ ، وهو لا يتحقّق إلاّ بمضيّ زمان الأهمّ ، فيكون الأمر بالمهمّ بعد مضيّ زمان إتيانه ؛ لأنّ المفروض اتّحاد زمان الأهمّ والمهمّ ، وهو كما ترى .

والجواب : أنّ الشرط هو العصيان الرتبي ، وهو يحصل قبل انقضاء الزمان ، لا العصيان الزماني المتوقّف على مضيّ زمانه .

نقل كلام لتحقيق مرام

إنّ للشيخ العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه كلاماً ، حاصله : أ نّه بناءً على الالتزام بالسببية في باب حجّية خبر الواحد إذا تعارض الخبران يكونان لا محالة من قبيل المتزاحمين ؛ لقيام المصلحة فيهما على هذا المبنى ، فيتقيّد إطلاق كلٍّ منهما بعدم الآخر ، ولا يسقط الخطابان ؛ لأنّ التزاحم يرتفع بواسطة هذا التقييد(1) .

وقد أورد عليه بعض المعاصرين على ما في تقريرات بحثه : بأ نّه التزام بترتّبين ، فضلاً عن ترتّب واحد ؛ فإنّ الالتزام بخطابين - يكون كلّ منهما مترتّباً على عدم امتثال الآخر - التزام بما ذكرنا ، مع أنّ الشيخ قدّس سرّه أنكر إمكان الترتّب ، والتزم بسقوط خطاب المهمّ رأساً ، لا بسقوط إطلاقه فقط(2) ، انتهى .

ولكن بعد إعطاء التأمّل في كلام الشيخ رحمه الله علیه ، يعرف أنّ ما أورده عليه أجنبيّ

ص: 146


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27 : 35 - 36 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 338 - 339 .

عمّا هو مراده ، فإنّ مراده أ نّه بعد الالتزام بالسببية يكون التعارض بينهما من قبيل التزاحم ، ويكون نتيجة تزاحمهما تقييداً لإطلاق كلٍّ منهما بعدم إتيان الآخر ، وهو عبارة اُخرى عن التخيير العقلي ، وبهذا يرتفع محذور التزاحم ، ولا يحتاج إلى سقوط الخطابين ، وهذا غير التقييد بالعصيان الذي هو مناط صحّة الترتّب ؛ كي يكون كلّ منهما مترتّباً على الآخر ، بل المراد تعيّن كلٍّ منهما في ظرف عدم الآخر بما أ نّه عدمه ، لا بما أ نّه عصيانه .

نعم ، لو كان عدم الآخر بمعنى التمرّد والعصيان ، وكان وجوب كلٍّ منهما مشروطاً بعصيان صاحبه ، لكان الإشكال وارداً ، ولكن تفسير كلامه بذلك ضروري البطلان .

هذا تمام الكلام في مسألة الترتّب ، والزائد عليه من قبيل إلزام ما لا يلزم ، أو من قبيل التوضيح والتشريف لها .

ص: 147

المطلب السادس: في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

اعلم : أ نّه قد وقع تحريف من المتأخّرين في هذا المبحث ، وما هو عند القدماء منه غير ذلك ؛ ضرورة أ نّه لا محصّل لهذا العنوان ، فإنّه مع انتفاء الشرط ينتفي المشروط ، فبانتفاء شرط الأمر ينتفي الأمر بالضرورة ، فيصير ملخّص هذا العنوان : أ نّه مع عدم الأمر هل يجوز الأمر أم لا ؟ وهل هذا إلاّ التناقض ؟ والذي يكون معقولاً في هذا المبحث ، ويكون معنوناً عند القدماء هو أ نّه هل يجوز أمر الآمر مع وجدانه لشرائطه حين الأمر ، لكنّه يعلم فقدان شرطه حين حضور العمل ، أم لا ؟ كما في أمره مع علمه بالنسخ قبل حضور وقت العمل ، كما في أمره تعالى بذبح إسماعيل علیه السلام مع علمه بالفداء وفقدان شرطه حين حضور العمل.

فالأشاعرة لمّا التزموا بالكلام النفسي غير الإرادة وسائر الصفات النفسانية ، فقد التزموا بإمكانه ، فإنّ الطلب الذي هو الكلام النفسي عندهم ، قد يتعلّق بأمر

ص: 148

مع علم الآمر بفقدان شرطه حين العمل(1) .

والمعتزلة لمّا أبطلوا ذلك ، وذهبوا إلى أ نّه ليس وراء العلم والإرادة وسائر الصفات النفسانية الوجدانية شيء في النفس يكون هو الكلام النفسي أو الطلب(2) ، فقد التزموا بمحالية تعلّق الإرادة بشيء يكون الآمر عالماً بفقدان شرط أمره وقت حضور العمل .

وأمّا قضيّة إسماعيل علیه السلام وأمثالها فقد فرغنا من تحقيقها في محلّها ، فراجع(3) .

ص: 149


1- راجع المستصفى من علم الاُصول 1 : 413 و 2 : 15 ؛ المحصول في علم اُصول الفقه 1 : 254 و2 : 434 ؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 106 - 107 و191 .
2- اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 107 - 108 و189 .
3- تقدّم في الصفحة 30.

المطلب السابع: في الواجب التخييري

في الواجب التخييري

قد عرّف الاُصوليون - في سالف الزمان - الوجوب ببعض لوازمه وتوابعه ، كقولهم : الواجب ما يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب(1) ، ولمّا وصلوا إلى البحث عن الواجب التخييري أرادوا تطبيقه على التعريف المتقدّم ، فقال بعضهم : إنّ الواجب هو الواحد لا بعينه(2) ، وقال الآخر : إنّه الواحد بعينه معلوماً عند اللّه ، غير معلوم عندنا(3) ، ولازمه أن يكون الواجب مختلفاً باختلاف اختيار المكلّفين . . . إلى غير ذلك من [ التخيّلات] .

والحقّ : أنّ الواجب التخييري - الكثير الوقوع في الشرع والعرف - نحو وجوبٍ في مقابل التعييني ، ويكون الوجوب - أي البعث المؤكّد - متعلِّقاً بكلٍّ من الأطراف ، لكن على سبيل الترديد النفس الأمري ، لا الترديد النفساني ،

ص: 150


1- الفصول في الاُصول 2 : 90 ، و3 : 247 ؛ اُصول السرخسي 1 : 17 .
2- الفصول في الاُصول 2 : 147 .
3- اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 1 : 351 .

وهو نحو من التعلّق ، كتعلّق العلم الإجمالي بأطراف المعلوم بالإجمال ، فإنّه أيضاً نحو من التعلّق ، فبعد إمكان تعلّق الوجوب بكلٍّ من الأطراف بنحو ما ذكرنا ، لا داعي إلى صرف الوجوب التخييري إلى التعييني ، كما أ نّه لا داعي إلى تطبيق التعريف المتقدّم عليه ؛ فإنّ-ه تعريف للواجب التعييني ببعض لوازمه .

وبالجملة : الواجب التعييني والتخييري مفترقان بذاتهما ولوازمهما ، ولا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر ، لا في الذات ، ولا في جميع اللوازم .

فالأحسن في تعريف الواجب إذا اُريد تعريفه بهذا اللازم أن يقال : الواجب ما يستحقّ فاعله الثواب وتاركه لا إلى بدلٍ العقاب ، كما عرّفه أصحابنا الإمامية ، لكن ليس مقصودهم من البدل ما هو المتفاهم عرفاً : من كون أحدهما أصلاً والآخر بديله كما هو واضح ، فيكون هذا التعبير من باب ضيق العبارة بعد وضوح المقصود .

في التخيير بين الأقلّ والأكثر

ثمّ إنّه قد وقع الكلام في إمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر وعدمه .

ومحصّل الكلام في المقام : أ نّه لا بدّ من فرض الكلام في مورد يكون الأقلّ لا بشرط شيء وداخلاً في الأكثر؛ بحيث يكون الأكثر مشتملاً عليه مع الزيادة ، ويكون الأقلّ فاقداً لبعض ما للأكثر فقداناً بالحمل الشائع، لا مقيّداً بالفقدان ، وإلاّ لو فرضنا أنّ الأقلّ يكون بشرط لا ومقيّداً بالفقدان - بحيث يكونان متباينين - خرج عن محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام ، ومعلوم أنّ التخيير بين المتباينين

ص: 151

ولو بهذا المعنى ممكن ، لا معنى للنزاع فيه ، فمحلّ الكلام هو الأقلّ والأكثر بنحو ما أشرنا إليه .

والتحقيق : عدم معقولية التخيير بينهما ؛ فإنّ الأقلّ إذا كان وافياً بتمام المقصود والغرض ، يكون الأكثر - المشتمل عليه مع الزيادة - مشتملاً على ما هو الوافي بتمام الغرض مع الزيادة ، فما هو الوافي بالغرض والمحصّل له يكون واجباً تعيينياً ، لا يرضى الآمر بتركه ، ولا دخالة للزيادة في تحصيل ذلك الغرض ، وإنّما القائم بها مصلحة اُخرى ندبية لا إلزامية .

وبالجملة : ما يتراءى منه صورة التخيير بين الأقلّ والأكثر ، ينحلّ إلى وجوب تعييني متعلّق بالأقلّ ، وإلى أمر ندبي متعلّق بالزيادة ، وإنّما التخيير بين الوجود والعدم بالنسبة إليها ، فلو أتى بها تكون على صفة الندبية ؛ لتعلّق الأمر بها مع الرضا بالترك ، وهذا واضح بعد التأمّل في موضوع البحث وتشخيص الأقلّ والأكثر.

نعم ، يمكن التخيير بينهما في موردين :

أحدهما : ما إذا كان الأقلّ والأكثر تحت طبيعة واحدة ، تكون بحسب الوجود مشكّكة ، ويكون ما به الاشتراك بين الأفراد عين ما به الامتياز ، كالخطّ القصير والطويل ، فإنّ التخيير بين الفردين منها ممكن ؛ لأنّ تعيّن الخطّ لفردية الطبيعة إنّما يكون إذا صار محدوداً ، وأمّا ما دام مستمرّاً متدرّجاً في الوجود ، فلا يتعيّن للفردية ، فكأنّه مبهم قابل لكلّ تعيّنٍ ، فمحصّل الغرض إذا كان فرداً لها ، [و]لا يصير الفرد القصير فرداً لها إلاّ مع محدوديته ، كما لا يصير الطويل فرداً إلاّ معها ، فالفردان وإن كان التفاوت بينهما بالأقلّية والأكثرية ، لكن صيرورتهما

ص: 152

فردين للطبيعة ومحصّلين للغرض غير ممكنة إلاّ بتحقّق الفردية ، وهي متقوّمة بالمحدودية بالحمل الشائع .

وثانيهما : ما إذا كان الأقلّ والأكثر محصِّلين لعنوان آخر ، يكون ذلك العنوان محصِّلاً للغرض ، كما قلنا سابقاً في الصحيح والأعمّ : من أنّ صلاة الحاضر والمسافر تكونان محصّلتين لعنوان ، يكون ذلك العنوان محصِّلاً للغرض ، ففي مثل هذا المورد أيضاً يمكن التخيير بينهما ؛ فإنّ صلاة الحاضر والمسافر مع كونهما مختلفتين بالأقلّية والأكثرية ، لكن كلّ واحدة منهما محصِّلة لعنوانٍ يكون محصّلاً للغرض ، فصلاة القصر للمسافر والتمام للحاضر محصّلتان لذلك العنوان ، تدبّر .

ص: 153

المطلب الثامن: في الواجب الكفائي

في الواجب الكفائي

وهو نحو وجوبٍ يقتضي عند العقلاء المثوبة والسقوط بفعل واحدٍ من المكلّفين إذا أتى به ، والعقوبةَ لجميعهم إذا تركوه . وهذا النحو من الوجوب واقع في الشرعيات والعرفيات كثيراً ، ولا إشكال في أ نّه بفعل واحدٍ من المكلّفين يسقط الأمر ، ويحصل غرض المولى ، ولا إشكال أيضاً في استحقاق جميعهم للعقوبة عند الترك ، إنّما الكلام في حقيقة هذا النحو من الوجوب .

والتحقيق أن يقال : إنّ التكليف له نحو إضافة إلى المكلِّف - بالكسر - ونحو إضافة إلى المكلّف - بالفتح - ونحو إضافة إلى المكلّف به ، وعند التأمّل يظهر : أنّ ما به الافتراق بين الواجبات العينية والكفائية ليس في الإضافتين الأوّلتين :

أمّا الاُولى منهما : فلأنّها إضافة صدورية في كليهما .

وأمّا الثانية : فلأنّ المأمور بإتيان المكلّف به في كليهما جميع المكلّفين ، لا مجموعهم ؛ لعدم وجود المجموع بما هو مجموع وجوداً قابلاً لتعلّق البعث به ، وإنّما هو أمر انتزاعي ، ولا واحد منهم لا بعينه أو على نحو الترديد ؛ لعدم تعقّل

ص: 154

تعلّق البعث بالواحد لا بعينه ، ولا بنحو الترديد الواقعي بين المكلّفين ، وعدم باعثية الأمر بنحو ما ذكر ، مع أنّ الغرض من الأمر هو البعث والإغراء ، بل المأمور والمكلّف هو جميعهم على نحو الاستغراق .

ولا فرق من هذه الجهة بينه وبين الواجب العيني ، وإنّما الافتراق بينهما في الإضافة الثالثة ؛ فإنّ المكلّف به في الواجب الكفائي هو أصل الطبيعة بلا تقيّدها بشيء ، فكلّ واحدٍ من المكلّفين مأمور بإتيان أصل الطبيعة الغير المقيّدة . وأمّا في الواجب العيني فكلّ واحدٍ منهم مأمور بإتيان الطبيعة المقيّدة بكون تحقّقها بمباشرته خاصّة .

فغرض المولى في الواجب الكفائي إنّما تعلّق بحصول الطبيعة من كلّ واحدٍ منهم ، ولازمه أن يحصل الغرض بإتيان واحدٍ منهم ؛ لأنّ الطبيعة الغير المقيّدة لا تكرار فيها ، والفرض أنّ تمام الغرض قائم بها ، فسقوط الأمر عن سائر المكلّفين لا يكون جُ-زافاً ، ولا سقوطاً بالعصيان ، بل سقوط بالإطاعة ، لكن المطيع هو الآتي بالمأمور به ، ومع عدم الإتيان رأساً يكون المستحقّ للعقوبة جميعهم ؛ لأنّ الجميع مأمورون بالإتيان ، ومع الترك يكون جميعهم عصاة .

وهذا بخلاف الواجب العيني ؛ فإنّ الغرض منه إنّما تعلّق بإتيان كلّ واحد منهم بالطبيعة لا على نحو الإطلاق ، بل تكون الطبيعة مضافة إلى كلّ واحد منهم إضافة صدورية مباشرية ، فلا يسقط فعل واحدٍ منهم ما هو المأمور به للآخرين ؛ لأنّ سقوطه عنهم يكون جُزافاً بلا وجهٍ ، وهذا واضح .

ص: 155

بقي تنبيهان :

الأوّل : أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه - في أوائل مبحث الأوامر - ذهب إلى جواز التمسّك بإطلاق المأمور به لكون الأمر عينياً فيما إذا شكّ في العينية والكفائية .

وأفاد في وجهه : أنّ الواجب الكفائي مقيّد بعدم إتيان الآخر ، وأمّا الواجب العيني فلا قيد له من هذه الجهة(1) .

وقد عرفت ممّا قدّمنا : أنّ الواجب الكفائي ليس من قبيل الواجب المشروط والمقيّد بعدم إتيان الآخر ، بل هو متعلّق بجميع المكلّفين على نحو الإطلاق ، وسقوطه عن المكلّفين بإتيان واحد منهم لا يدلّ على الاشتراط ، بل إنّما هو بحصول تمام المقصود وتمام متعلّق الأمر ، ولا يعقل أن يكون الأمر مشروطاً بحصول متعلّقه ، مع أ نّه يلزم منه أن يكون الواجب العيني أيضاً مشروطاً ، وهو كما ترى .

بل مقتضى التمسّك بالإطلاق هو كون الوجوب كفائياً ، فإنّ الواجب الكفائي - كما عرفت - لا يفترق عن العيني إلاّ في الإضافة إلى المتعلّق ؛ لأنّ متعلّق الكفائي هو نفس الطبيعة ، ومتعلّق العيني هو الطبيعة المقيّدة بصدوره عن كلّ واحدٍ من المكلّفين ، وهو قيد زائد يرفع بالأصل .

نعم ، ظاهر الأوامر هو العينية لا الكفائية ، لكن التمسّك بالظهور غير التمسّك بالإطلاق ، كما لا يخفى .

ص: 156


1- كفاية الاُصول : 99 .

الثاني : أنّه لو أتى عدّة من المكلّفين بالمأمور به في عَرض واحد ، هل يكون المجموع مطيعاً ، أو واحد منهم ، أو كلّ واحد منهم ؟

التحقيق : هو الأخير ؛ لأنّ المجموع - كما عرفت - لا وجود له حتّى يطيع أو يعصي ، بل الموجود هو كلّ واحد ، ولا معنى لمطيعية واحد بعينه أو لا بعينه ، بل المطيع هو الجميع ؛ فإنّ التكليف - كما عرفت - إنّما تعلّق بهم على نحو الاستغراق ، والفرض أنّ كلّ واحدٍ منهم آتٍ بالطبيعة المأمور بها ، فيكون مطيعاً .

وهذا فيما نحن فيه أوضح ممّا ذكرنا في مبحث المرّة والتكرار(1) من أنّ المكلّف لو أتى بفردين أو أفراد من المأمور به ، يكون مثاباً بعدد الأفراد المأتيّ بها ؛ لأنّ الطبيعة المأمور بها حصلت بكلّ واحدٍ من الأفراد .

وجه الأوضحية : أنّ المكلّف في ذلك المبحث لمّا كان واحداً ، ونفس الطبيعة هي المأمور بها ، يمكن أن يقال : إنّ الطبيعة المطلقة مع تكثّر الأفراد لا تخرج عن وحدتها ، والمأتيّ بها إنّما هي الطبيعة المشتركة ، وهي واحدة ، ولكن فيما نحن فيه لمّا كان المكلّف كلّ واحد من أفراد المكلّفين ، فإتيان كلّ واحد منهم بالطبيعة في عرض واحد ، إتيان بنفس الطبيعة المأمور بها ، والإطاعة لا تنتزع إلاّ من ذلك ، فكلّ واحد منهم مطيع مثاب .

ص: 157


1- تقدّم في الصفحة 69 .

المطلب التاسع: ينقسم الواجب باعتبارٍ إلى المطلق والموقّت

ينقسم الواجب باعتبارٍ إلى المطلق والموقّت

فالأوّل : ما لا دخالة للزمان في متعلّقه ، ويكون تمام ملاك الأمر فيه هو نفس الطبيعة ؛ بحيث لو فرض إتيانها في خارج الزمان يكون تمام الملاك حاصلاً ، والمصلحة الداعية إلى الأمر متحقّقة ، فكون المكلّف والمكلّف به زمانيين غير دخالة الزمان في موضوع التكليف ، كما أنّ كونهما مكانيين ومحفوفين بالعوارض المادّية غير دخيل في المأمور به .

والثاني : ما له دخالة فيه ، وهو على قسمين : مضيّق وهو ما كان الزمان ا لمأخوذ فيه بمقداره ، كصوم اليوم ، وموسّع وهو ما كان أوسع منه كالصلاة من دلوك الشمس إلى غَسَق الليل .

والموسّع كلّي ذو أفراد عرضية وطولية ، والتخيير بين أفراده عقلي لا شرعي ، ومعنى عقليته أنّ العقل لمّا رأى أنّ الأمر قد تعلّق بالطبيعة في هذا الظرف الموسّع - كالصلاة من الزوال إلى الليل - حكم بأنّ الإتيان بها في أيّ قطعة من الزمان إتيان بمتعلّق الأمر ؛ لأنّ المتعلّق هو الطبيعة المتقيّدة بهذه القطعة

ص: 158

الوسيعة ، والفرد عين الطبيعة خارجاً .

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها ، وهي أنّ الواجب الموسّع لا يصير مضيّقاً لو بقي من آخر الوقت بمقداره ، كما هو المعروف في الألسنة .

ووجهه واضح ؛ لأنّ تمام متعلّق الأمر هو الطبيعة المقيّدة بكونها في القطعة الوسيعة ؛ من غير دخالة لخصوصيات الزمان - كأوّل الوقت أو وسطه أو آخره - فيه .

ومعنى صيرورة الواجب مضيّقاً هو تعلّق الأمر بالطبيعة في القطعة الأخيرة من الزمان ، مع أنّ خصوصية القطعة الأخيرة لا دخالة لها في متعلّق الأمر ، وتكون دخالتها فيه جزافاً بلا ملاكٍ ، فكما أنّ الآتي بالمأمور به في أوّل الوقت ، يكون تمام الملاك في كونه مطيعاً هو إتيان الطبيعة المقيّدة بكونها في القطعة الوسيعة ، لا إتيانها في أوّل الوقت ؛ فإنّ أوّليته غير دخيلة في المصلحة ، كذلك الآتي بها في وسطه أو آخره ، وكون آخر الوقت آخر زمانٍ يمكن فيه الإطاعة ، لا يصيِّر الواجب مضيّقاً ، ولا يوجب كون الخصوصية التي لا دخالة لها في المتعلّق دخيلةً فيه ، كما لا يخفى على المتأمّل .

في كون القضاء بأمر جديد

ثمّ إنّه لا إشكال في أ نّه لا دلالة للأمر بالموقّت على الأمر به في خارج الوقت إذا فات فيه ؛ لأنّ التقيّد بالوقت يدلّ على دخالته في متعلّق التكليف ، وكون المتعلّق هو الطبيعة المقيّدة لا المطلقة ، ومع فوت القيد لا معنى لبقاء الأمر في المطلق ؛ لعدم كونه متعلّق الأمر .

ص: 159

وبعبارة اُخرى : إنّ تمام تحصُّل الأمر بالموقّت إنّما هو بتعلّقه بالموقّت بما أنّه موقّت ، وبعد فوت الوقت إن بقي الأمر :

فإمّا أن يدعو إلى الموقّت الذي فات وقته ، وهو غير معقولٍ ؛ لكونه تكليفاً بالمحال .

وإمّا أن يدعو إلى المطلق ، وهو أيضاً غير معقولٍ ؛ لعدم كونه متعلّقاً له ، والأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه .

وبالجملة : حال الوقت مثل حال سائر القيود ، فإذا تعلّق الأمر بالصلاة المقيّدة بالطهور ، وتعذّر الطهور ، فلا معنى لدعوته إلى الصلاة المطلقة ، وهذا واضح .

إنّما الكلام فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من أنّه لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق في التقييد بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضيّة إطلاقه ثبوتَ الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكونَ التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله ، ويكون من قبيل تعدّد المطلوب(1) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه ، فإنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو فيما إذا اُحرزت وحدة المطلوب ؛ لأجل تقديم ظهور المقيّد في دخالة القيد على ظهور المطلق في كونه تمام المطلوب ، فإذا اُحرزت فصار الدليل مقيّداً ، فلا معنى لدلالته على مطلوبية المطلق خارج الوقت ؛ لما ذكرنا آنفاً .

وإن لم تحرز وحدة المطلوب - سواء احتمل أن يكون في البين مطلوبان مستقلاّن ، أو مطلوب ذو درجتين تكون درجته الضعيفة متعلّقة للمطلق ، ودرجته

ص: 160


1- كفاية الاُصول : 178 .

الشديدة متعلّقة للمقيّد - فلا معنى لحمل المطلق على المقيّد ؛ لعدم المعارضة بينهما أصلاً ، كما كان الأمر كذلك في المستحبّات ؛ لعدم حمل المطلق على المقيّد فيها ؛ لعدم التنافي بينهما . فإذا كان الأمر كذلك يخرج الكلام عمّا نحن فيه ؛ لأنّ المطلق بإطلاقه يدلّ على [ثبوت الوجوب]خارج الوقت ، والمقيّد يدلّ على مطلوب آخر مستقلّ ، أو مرتبة اُخرى من المطلوب في الوقت ، وهو أجنبيّ عمّا نحن بصدده .

ص: 161

المطلب العاشر: هل متعلّق الأوامر والنواهي الطبائع أو الأفراد ؟

الحقّ أنّ الأوامر والنواهي متعلّقة بالطبائع دون الأفراد ، لا بمعنى تعلّقها بنفس الطبائع ؛ أي الماهيات من حيث هي ، فإنّها ليست إلاّ هي ، لا مطلوبة ولا لامطلوبة ، والنقائض كلّها منتفية عن مرتبة ذاتها ، ولا يمكن إثبات شيء لها من حيث ذاتها ، إلاّ ذاتها وذاتياتها ، بل بمعنى أنّ الإرادة والطلب بحسب مقام الثبوت والإثبات إنّما تتعلّق بإيجاد نفس الطبيعة ، من غير دخالة للخصوصيات المفرّدة الحافّة بها في تعلّق الإرادة والطلب والبعث ؛ بحيث لو فرض إمكان إيجادها مجرّدة عن كافّة الخصوصيات الزائدة عن أصل وجود الطبيعة ، تكون تمام متعلّق الإرادة والبعث .

وبالجملة : إنّ كافّة الخصوصيات اللاحقة بالفرد خارجة عن حريم تعلّق الإرادة والطلب حقيقة .

ص: 162

والبرهان عليه : أنّ الطلب من الحقائق التي لها إضافة إلى الطالب إضافةً صدورية ، وإلى المطلوب منه ، وإلى المطلوب ، ولا يمكن تحقّقها مجرّدة عن تلك الإضافات :

أمّا المطلوب منه فلا بدّ من وجوده في الخارج ، حتّى تتعلّق به إضافة الطلب ؛ لعدم تعقّل الطلب من المعدوم .

وأمّا المطلوب فلا يمكن أن يكون طرفَ الإضافة بوجوده الخارجي ؛ للزوم تحصيل الحاصل ، ولزوم عدم تعلّق التكليف بالعصاة ، أو تعلّقه بالمعدوم إذا لم يتحقّق المطلوب ، وهو محال ، ولا يمكن أن لا يكون متحقّقاً أصلاً - لا في الخارج ولا في غيره - لاستحالة تعلّق الإضافة بالمعدومات ، فلا بدّ له من وجود ذهني ، لكن لا بما أ نّه وجود ذهني متقيّد به ؛ لاستحالة تحقّقه في الخارج مع ذاك التقيّد ، فلا محالة يكون المطلوب موجوداً في الذهن ، والطالب لا يرى إلاّ نفسه ، لا موجوديته في الذهن ، ويتعلّق الطلب بالموجود الذهني ، أي الطبيعة المتحقّقة في الذهن ؛ ليجعلها المكلّف موجودة في الخارج .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الطلب قد تعلّق بالطبيعة المتحقّقة في الذهن بحسب الواقع ، وإن كان الطالب غير ناظر إلى تحقّقها الذهني ، فطلب من المكلّف إيجادها في الخارج ، فإذا كان كذلك فلا يمكن أن يتعلّق الطلب بالعوارض الخارجية الحافّة بالطبيعة في الخارج ؛ لأنّها بوجودها الخارجي غير موجودة في الذهن ، ولا يمكن أن تكون نفس الطبيعة الموجودة في الذهن مرآة للحاظها ؛ فإنّ ا لطبيعة إنّما تكون مرآة للحاظ ما به الاشتراك بين الأفراد - أي نفس الطبيعة المتحقّقة - لا مرآة لما به الامتياز بينها ؛ لأنّها مباينة مع الطبيعة ، ولا يمكن

ص: 163

أن يكون المباين مرآة للمباين ، فلا يمكن تعلّق الإرادة والأمر بغير وجود الطبيعة ؛ أي الوجود السعي منها .

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه فصّل بين متعلّق الطلب ومتعلّق الأمر ؛ بأنّ الأوّل هو وجود الطبيعة ، فالطلب يتعلّق بالوجود المتعلّق بالطبيعة ، لا الطبيعة من حيث هي ، فإنّها ليست إلاّ هي . وأمّا الأمر فهو متعلِّق بالطبيعة ؛ لأنّه هو طلب الوجود(1) .

وفيه : - مضافاً إلى ما مرّ(2) من أنّ الأمر والطلب شيء واحد - أنّه يمكن أن يقال : إنّ الطلب متعلّق بنفس الطبيعة بحسب العرف والمتفاهم من الألفاظ ، فتكون نفس المادّة المتعلّقة لهيئة الأمر في قولنا : «اضرب» و«انصر» متعلّقة للطلب حقيقة عند العرف ، ويكون البعث والإغراء متوجّهاً إليها ، ولا يلزم منه أن تكون الطبيعة - التي هي مَقسم للموجود والمعدوم - متعلّقة للطلب ، حتّى لا يدلّ الأمر على إيجادها خارجاً ؛ وذلك لأنّ الطبيعة لا تكون حقيقة مقسماً للموجود والمعدوم ؛ حتّى يكون المعدوم أيضاً هو الطبيعة المتّصفة بالمعدومية ، بل المعدوم ليس بشيء ، وهو باطل محض ، بل الطبيعة لا تكون طبيعة إلاّ في ظرف الوجود ، وكذلك كلّ الماهيات والطبائع لا تصدق نفسها على نفسها إلاّ في ظرف الوجود ، فلا يكون المعدوم بما أنّه معدوم مبعوثاً إليه ، فالطلب إنّما يتعلّق بالطبيعة نفسها عرفاً ، لكن تحصيل الطبيعة وإطاعة أمر المولى لا يمكن إلاّ بإيجادها خارجاً ، لا بأن يكون الطلب متعلّقاً بالوجود ، بل بأن يكون متعلّقاً

ص: 164


1- كفاية الاُصول : 171 - 172 .
2- تقدّم في الصفحة 45 - 46 .

بنفس الطبيعة ، لكن كون الطبيعة طبيعة لا يمكن إلاّ بالوجود وفي ظرفه ، وما ليس بموجود يكون «ليساً» صِرفاً ، لا يصدق عليه ذاته وذاتياته .

وأمّا قضيّة أصالة الوجود والماهية فقضيّة عقلية فلسفية ، خارجة عن متفاهم العرف ومداليل الألفاظ ، وهي أمر دقيق غير مربوط بهذا الوادي .

وأمّا ما يقال : من أنّ الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي(1) فهو مطلب صحيح ، لكن معناه أنّ الماهية من حيث ذاتها لا تكون مصداقاً لشيء ولا يحمل عليها شيء غير ذاتها وذاتياتها ، لا أ نّها لا يمكن أن تكون طرفاً لإضافة ؛ فإنّ طرفيتها للإضافة غير حمل شيء عليها ، فالماهية من حيث هي يمكن أن تكون متعلّقة للأمر ؛ أي طرفاً لإضافة الطلب ، فينتزع منها المطلوبية باعتبار تلك الإضافة التي هي خارجة عن ذاتها من حيث هي ، فذاتها من حيث هي ليست إلاّ هي ، لكنّها تصير طرفاً للإضافة ، وباعتبار طرفيتها لها يحمل عليها : أ نّها مطلوبة ، وهذا أمر خارج عن ذاتها ، كما عرفت .

فتحصّل من ذلك : أنّ الأمر والطلب - وهما شيء واحد - إنّما يتعلّق بالطبيعة لا بالوجود .

والحمد للّه أوّلاً وآخراً .

ص: 165


1- كشف المراد : 86 ؛ الحكمة المتعالية 2 : 3 - 4 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 333 .

ص: 166

المقصد الثاني: في النواهي

في النواهي

ص: 167

ص: 168

فصل

في مفاد النهي

اختلاف الأمر والنهي

قال المحقّق الخراساني قدّس سرّه ما محصّله : إنّ الأمر والنهي مشتركان في الدلالة على الطلب ، إلاّ أنّ الأمر يدلّ على طلب الوجود ، والنهي على طلب العدم ، فمتعلّق أحدهما الوجود ، والآخر العدم ، ولا يدلاّن على الدوام والتكرار ، لكنّهما مختلفان عقلاً مع وحدة المتعلّق ، فإنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة يكون امتثاله بتحقّق فردٍ ما ؛ ضرورة وجود الطبيعة بوجوده ، وعصيانه بترك جميع الأفراد ، وأمّا النهي إذا تعلّق بها من غير قيدٍ ، يكون امتثاله بترك الطبيعة ، وعصيانه بإتيان فردٍ ما . فالأمر والنهي متعاكسان عقلاً وإن كان متعلّقهما طلب وجود الطبيعة وعدمها(1) ، انتهى .

أقول : لو كان مفاد النهي هو طلب عدم الطبيعة ، للزم أن يكون الطلب ساقطاً

ص: 169


1- كفاية الاُصول : 182 - 183 .

مع ترك إتيان فردٍ ما ، وأن لا يكون باقي الأفراد المتعاقبة عصياناً ؛ لسقوط الطلب ، كما أنّ الحال كذلك في جانب الأمر ، مع أنّ العقلاء يحكمون بخلاف ذلك ؛ فإنّ للنهي عندهم إطاعات وعصيانات ، فلو ترك العبد المنهيّ عنه للّه تعالى - مع شهوته لارتكابه - مرّاتٍ عديدة ، عدّ مطيعاً بحسب المرّات ، كما أ نّه لو أتى به مرّات عديدة عدّ عاصياً كذلك ، ولو أتى به مرّة ، وترك للّه تعالى مرّة اُخرى ، لعدّ عاصياً ومطيعاً ، وهذه الأحكام ثابتة بالضرورة عند العقلاء ، وهذا يكشف عن كون مفاد النهي غير ما ذكر قدّس سرّه وفاقاً للمشهور .

والتحقيق حسبما يؤدّي إليه النظر الدقيق : أنّ الأمر والنهي متخالفان بحسب الذات والمبادئ والأحكام .

أمّا اختلافهما ذاتاً : فلأنّ الأمر هو البعث نحو وجود الطبيعة أو نحو الطبيعة حسبما عرفت ، فهو طلب وبعث وإغراء ، والنهي هو الزجر والإزعاج عن الوجود أو الطبيعة ، فمتعلّقهما واحد ، وإنّما اختلافهما بحسب الذات ، فالبعث الإنشائي في الأمر بمنزلة الإغراء الخارجي والإلقاء التكويني نحو العمل ، والزجر الإنشائي بمنزلة الدفع التكويني والمنع الخارجي عن الارتكاب .

وأمّا اختلافهما بحسب المبادئ : فمبادئ الأمر - بعد التصوّر - هو التصديق بالفائدة والاشتياقُ ، ومبادئ النهي هو التصديق بالمفسدة والكراهةُ .

وأمّا بحسب الأحكام : فلمّا كان الأمر متعلّقاً بالطبيعة ، كان تمام المتعلّق له هو الطبيعة ، فبتحقّق فردٍ ما منها يتحقّق تمام المطلوب ، فبقاء الأمر مع تحقّق تمام المطلوب جُزاف باطل .

وأمّا النهي فلمّا كانت حقيقته الزجر عن الوجود ، لا طلب العدم ، كان حكمه

ص: 170

العقلائي هو دفع الطبيعة والزجر عنها بتمام حقيقتها ، فلا يكون مع الانتهاء في زمان مطلوبُ المولى حاصلاً ، ولا مع الإتيان بفرد من المنهيّ عنه نهيُه ساقطاً ؛ فإنّ المعصية لا يعقل أن تكون مسقطة ، لا في جانب الأمر ولا النهي .

وما اشتهر بينهم : من أنّ سقوط الأمر قد يكون بالطاعة ، وقد يكون بالمعصية(1) ، ممّا لا أساس له ، فإنّ الأمر إذا لم يكن موقّتاً لا يسقط إلاّ بموت المكلّف ، وسقوطه به لا يكون للمعصية ، بل لتعذّر توجّه الأمر إلى الميّت .

وإذا كان موقّتاً فما دام وقته باقياً لا يسقط إلاّ بالموت - وقد عرفت حاله - وبعد الوقت يسقط لا للمعصية بل لخروج وقته ، والموقّت لا يعقل بقاؤه بعد وقته كما أ نّه لا يعقل بعثه قبله ، فلا يكون السقوط مستنداً إلى المعصية في شيء من الموارد .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الفرق بين الأمر والنهي بعد وحدة المتعلّق ، أنّ الطبيعة في جانب الأمر لمّا كانت تمام المتعلّق وتمام المطلوب - وهو معنى إطلاق الأمر في مقابل الإهمال - يكون الإتيان بفردٍ ما منها إتياناً لتمام المطلوب ، فلا يعقل بقاء الأمر بعده .

وأمّ-ا في جانب النهي لمّا كان إتيان الطبيعة المتعلّقة للنهي عصياناً له ، فلا يعقل أن يكون النهي ساقطاً لأجله ؛ لتقوّم السقوط بالإطاعة ، وعدم كون العصيان مسقطاً كما عرفت ، فسقوط النهي مع الإتيان بفرد من الطبيعة - الذي هو المحقّق للعصيان - بلا ملاك ولا وجه .

ص: 171


1- مطارح الأنظار 1 : 415 ؛ كفاية الاُصول : 146 ؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري : 126 .

وأمّا ما قيل : من أنّ متعلّق الأمر هو الطبيعة المهملة ، و[متعلّق] النهي [هو الطبيعة] المطلقة(1) ، فلا ربط له بما نحن فيه ، فإنّ الإطلاق والإهمال المصطلحين في باب المطلق والمقيّد - أي كون المتعلّق تمام المطلوب في طرف الإطلاق ، وعدمه في طرف الإهمال - غير مربوطٍ بالمقام ، وإرسال المتعلّق في جانب النهي دون الأمر وإن كان هو الفارق بينهما ، إلاّ أنّ السرّ ما أشرنا إليه ، فتدبّر جيّداً .

تنبيه : فيما يتفرّع على كون النهي هو الزجر

قد ذكرنا سابقاً(2) : أنّ الأمر بالشيء متّحد مع النهي عن ضدّه العامّ ، لا بمعنى اتّحادهما مفهوماً ، بل بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ الأمر بشيء والبعث نحوه هو الزجر عن نقيضه ؛ لأنّ اجتماع النقيضين ممتنع .

وبعبارة اُخرى : إنّ النهي عن النقيض منتزع من الأمر بنقيضه ، لا بمعنى أنّ في ذهن الآمر أمراً ونهياً متوجّهين بنقيضين ، بل بمعنى أنّ العقل يحكم بذلك ، وينتزع من نفس الأمر بشيء النهيَ عن نقيضه ، ويكون المنتزع موجوداً بعين منشأ انتزاعه . وهذا منشأ ما اشتهر بينهم في الأمر الوجوبي : أنّه هو الطلب مع المنع من الترك(3) ، فإنّ المنع من الترك لم يكن منظوراً إليه ؛ بحيث يكون في ذهن الآمر طلب متعلِّق بالفعل ، ومنع متعلِّق بالترك .

ص: 172


1- نهاية الأفكار 1: 406.
2- تقدّم في الصفحة 134 - 135 .
3- المحصول في علم اُصول الفقه 1 : 269 و289 ؛ معالم الدين : 64 .

ومعلوم : أنّ ما ينتزعه العقلاء من الأمر بالشيء ، هو النهي عن نقيضه الذي هو العدم بلا قيدٍ أصلاً ؛ فإنّ منشأ الانتزاع هو المناقضة لا غير .

وما ذكرنا جارٍ في النهي طابق النعل بالنعل ؛ فإنّ النهي عن الشيء عين الأمر بنقيضه ، لا بمعنى أنّ هاهنا نهياً وأمراً ، ولا بمعنى اتّحادهما مفهوماً ، بل بمعنى اتّحادهما خارجاً ، وكون النهي منشأً لانتزاع الأمر بنقيضه ، ولمّا كانت حقيقة النهي عبارة عن الزجر عن الوجود ، ونقيض الوجود هو العدم ، كان الأمر بالعدم منتزعاً منه .

وبما ذكرنا : انهدم أساس الخلاف الذي اختصّ بالنهي من أ نّه هل هو نفس الترك وأن لا يفعل ، أو الكفّ ؟ فإنّ هذا النزاع إنّما له وجه معقول لو كان النهي عبارة عن الطلب ، فينازع بأ نّه طلب الترك أو الكفّ ، وأمّا بعد ما عرفت - من أنّ النهي عبارة عن الزجر عن الوجود - فلا معنى له .

نعم ، لمّا كان نقيض الوجود هو العدم ونفس أن لا تفعل ، يكون النهي عن الشيء متّحداً خارجاً معه ، لا مع الكفّ ؛ فإنّ الكفّ هو العدم مع اعتبار زائد ، وفي الحقيقة الكفّ ضدّ النهي ، لا نقيضه ، ويجوز ارتفاعهما ، بخلاف النقيضين ، لكن كون الترك نقيضاً للزجر عن الوجود ، لا يقتضي أن يكون متعلّقاً للطلب حقيقة ؛ بمعنى أن يكون في ذهن المولى طلب ترك الفعل حقيقة .

كما أ نّه بما ذكرنا انهدم أساس تقسيم النهي إلى التعبّدي والتوصّلي(1) ؛ فإنّ منشأ هذا التقسيم أيضاً هو كون النهي عبارة عن طلب العدم ، وأمّا بعد كونه زجراً

ص: 173


1- بحر الفوائد ، الجزء الأوّل : 218 / السطر 15 - 16 .

عن الوجود فلا معنى لهذا التقسيم ؛ فإنّ قيد التقرّب إذا اُخذ في الوجود فلا بدّ وأن يكون العصيان تعبّدياً ، وهو كما ترى ، ولا معنى لأخذه في العدم الذي هو نقيضه ؛ لأنّ العدم لا يكون متعلّقاً للأمر حقيقة ، ولا يكون منظوراً إليه ، فلا مجال للتعبّدية فيه .

نعم ، لو ترك المكلّف المنهيّ عنه بعد تعلّق شهوته بإتيانه لأجل نهي المولى ، يكون مستحقّاً للمثوبة عقلاً .

ص: 174

فصل

في اجتماع الأمر والنهي

اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ وامتناعه ، وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تمهيد مقدّمات :

المقدّمة الاُولى : في تحرير محلّ النزاع

إنّه لا شبهة ولا إشكال عقلاً في امتناع توجّه الأمر والنهي من شخص واحد إلى مكلّفٍ واحد في زمانٍ واحد بجهة واحدة ؛ ضرورة استحالة اجتماع حالة بعثية وزجرية مع وحدة تلك الاُمور ، وهذه قضيّة ضرورية لا تعتريها الشبهة ، ولا يحوم حولها الإشكال .

إنّما الإشكال في أنّ الأمر من مولى واحد ، إذا تعلّق بعنوانٍ متوجِّهاً إلى مكلّف في زمانٍ ، والنهي تعلّق بعنوانٍ آخر متوجِّهاً إليه في هذا الزمان ، وكان بين المأمور به والمنهيّ عنه تصادق في مصداق واحد في ظرف التحقّق والوجود ؛ بحيث يكون الموجود الخارجي مصداقاً لعنوانين يكون بينهما عموم من وجه

ص: 175

مثلاً ، كعنواني التصرّف في مال الغير والصلاة ، فهل اختلاف العنوانين كذلك يرفع غائلة امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وأنّ العقل يحكم بجواز توجّه الأمر والنهي الكذائيين من مولىً واحد إلى مكلّفٍ واحد في زمانٍ واحد ، أو يحكم بامتناعه بمجرّد تصادق العنوانين خارجاً وإن اختلفا عنواناً ، ويكون هذا الفرض والمورد في نظر العقل من صغريات تلك القضيّة الضرورية المتقدّمة ؟

وبعبارة اُخرى : إنّ الأمر والنهي إذا تعلّقا بعنوانين من مولىً واحد ، متوجّهاً إلى مكلّفٍ واحد في زمانٍ واحد ، فهل يجب أن يكون بينهما تباين كلّي بحسب الصدق ، أو يمكن أن يكون بينهما تصادق ، وجمعُ المكلّف - بسوء اختياره - بين المأمور به والمنهيّ عنه في موجودٍ شخصي وفردٍ خارجي ، ممّا لا يوجب امتناع تعلّق الأمر والنهي بعنوانين مختلفين ؟

المقدّمة الثانية : في المراد من «الواحد» في عنوان المسألة

بناءً على ما ذكرنا - من تحرير محلّ النزاع والجهة المبحوث عنها في المسألة - إنّ المراد من الواحد في عنوانها هو الواحد الشخصي الذي يكون مصداقاً لمفهومين ومعنوناً بعنوانين ، لا الأعمّ منه ومن الواحد الجنسي أو النوعي ؛ فإنّ الوجود هو ناظم شتات المفاهيم ، وجامع متفرّقاتها ، والهوية الوجودية ممّا يمكن أن تتصادق عليها المفاهيم الكثيرة ، وتتصالح فيها العناوين المختلفة .

وأمّا المفاهيم الكلّية - مثل مفهوم الصلاة في المغصوب - فلا تكون واحداً بوجهٍ ، فإنّ مفهوم الصلاة شيء ، ومفهوم المغصوب شيء آخر ؛ لأنّ المفاهيم من

ص: 176

ذاتيها الاختلاف والغيرية ، واجتماعهما مجرّد اجتماع لفظي أو اعتباري ؛ بحيث لا يرجع إلى الوحدة حقيقة .

وبالجملة : الواحد في عنوان البحث هو الواحد الشخصي الذي يكون معنوناً بعنوانين ، يكون أحدهما مأموراً به ، والآخر منهيّاً عنه .

المقدّمة الثالثة : في كون هذه المسألة من المبادئ الأحكامية

قد فرغنا سابقاً عن ميزان المسألة الاُصولية ، فلا نطيل بالإعادة ، وبحسب ما ذكرنا - من كون موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه - لا تندرج تلك المسألة في المسائل الاُصولية ، بل هي من المبادئ الأحكامية .

المقدّمة الرابعة: في ابتناء النزاع على تعلّق الأحكام بالطبائع

وبما ذكرنا - من معنى تعلّق الأحكام بالأفراد - يعلم : أنّ النزاع لا يجري إلاّ بناءً على تعلّق الأحكام بالطبائع ؛ فإنّ معنى تعلّقها بالأفراد هو أ نّها بجميع خصوصياتها الشخصية وحيثياتها الخارجية متعلّقة لها ، ومعه لا محيص إلاّ من القول بالامتناع ، وأمّا مع تعلّقها بالطبائع فيجري النزاع ، كما

لا يخفى .

فما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه - من أنّ النزاع يجري حتّى بناءً على تعلّقها بالأفراد(1) - لا وجه له ، وما أفاده في وجهه مخدوش ؛ لأنّه يرجع إلى التعلّق بالطبائع لا الأفراد.

ص: 177


1- كفاية الاُصول : 188 - 189 .

المقدّمة الخامسة: في عدم الأساس لتقييد مورد النزاع بإحراز المناط

محطّ النزاع في باب الاجتماع هو الإمكان والامتناع بنحو الكبرى الكلّية ، بلا نظر إلى الوقوع واللا وقوع ، فتقييد محلّ النزاع بما إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم مناط الحكم مطلقاً حتّى في مورد التصادق والاجتماع - كما صنعه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (1) - ممّا لا أساس له ، وفيه خلط بين الإمكان والامتناع كبروياً ، وبين ثمرة النزاع في الفقه ومحلّ الوقوع ، فالقائل

بالجواز يقول : إنّ اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي جهتين ممكن ، وقع أو لم يقع ، والقائل بالامتناع ينكره.

نعم ، تظهر الثمرة في الشرعيات في مورد يكون ملاك الحكم متحقّقاً في صور الاجتماع ، وهو أمر آخر وراء محلّ النزاع ، كما لا يخفى .

وهاهنا اُمور اُخر ذكرها المحقّق الخراساني رحمه الله علیه على سبيل المقدّمية(2) ، ونحن نذكر المهمّ منها في تنبيهات المسألة ؛ لمناسبتها معها وعدم دخالتها في المقدّمية .

فيما استدلّ به للقول بالامتناع

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ الاُصوليين - من سالف الزمان - استدلّوا على الامتناع بدليل(3) قد شيّ-د أركانه وأحكم بنيانه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه

ص: 178


1- كفاية الاُصول : 189 .
2- كفاية الاُصول : 191 .
3- العُدّة في اُصول الفقه 1 : 263 ؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2 : 442 - 443 ؛ معالم الدين : 93 .

بذكر مقدّمات :

ملخّص أوّلها : أنّ الأحكام بأسرها متضادّة في مقام فعليتها وبلوغها مرتبة البعث والزجر ، فاجتماع الأمر والنهي يكون من قبيل التكليف المحال ، لا بالمحال .

وثانيها : أنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما هو صادر منه خارجاً وما هو جاعله ، لا ما هو اسمه ولفظه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوانه ومفهومه الذهني ؛ ضرورة أنّ البعث لا يكون نحوه ، والزجر لا يكون عنه ، وإنّما يؤخذ العنوان في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها ، لا بما هو وبنفسه استقلالاً .

وثالثها : أنّ تعدّد الوجه والعنوان لا يوجب تعدّد المعنون ، ولا تنثلم به وحدته ؛ لجواز انطباق المفاهيم الكثيرة على الواحد البسيط المحض ، كمفاهيم الأسماء الحسنى الصادقة على الواحد البسيط الحقّ جلّت آلاؤه .

ورابعها : أنّ الواحد وجوداً واحدٌ ماهية وذاتاً ، فالمفهومان المتصادقان على شيء واحد لا يكون كلّ منهما ماهية وحقيقة ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقا الأمر والنهي، إلاّ أ نّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهية وذاتاً، ويتصادق المفهومان على الفرد في الخارج تصادق الطبيعي على فرده ؛ من غير فرق في ذلك - أي في كون الواحد وجوداً ، واحداً ماهيةً - بين أصالة الوجود أو الماهية .

ومنه ظهر عدم ابتناء الجواز والامتناع على القولين ، كما ظهر عدم الابتناء على تعدّد وجود الجنس والفصل في الخارج وعدمه ؛ ضرورة عدم كون العنوانين من قبيلهما .

ص: 179

إذا عرفت ذلك : عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً ، كان تعلّق الأمر والنهي به محالاً ولو كان التعلّق بعنوانين ؛ لما عرفت : من أنّ التعلّق حقيقة إنّما يكون بما هو فعل المكلّف خارجاً ، لا بالعناوين الطارئة والمفاهيم ، فالفعل الخارجي يكون مجمع الأمر والنهي ، ولمكان تضادّهما يجتمع الضدّان في واحد شخصي ، وهو ضروري البطلان(1) ، انتهى .

ولقد تصدّى القوم لجوابه بما يرجع كلّها أو جلّها إلى تكثير متعلّق الأمر والنهي ، مع اعترافهم بتضادّ الأحكام(2) .

وعندي فيه إشكال ، يبتني توضيحه على بيان مقدّمة :

وهي أنّ تضادّ الأحكام وإن كان ممّا تسالمت عليه كلمة الأصحاب قديماً وحديثاً ، واشتهر بينهم غاية الاشتهار(3) ، لكنّه ممّا لا أساس له ؛ فإنّ الضدّين أمران وجوديان يتواردان على محلٍّ واحد بينهما غاية الخلاف ، وليس الوجوب والحرمة وسائر الأحكام من الاُمور الوجودية الحالّة في متعلّقاتها ، وإن يصدق عليها أ نّها واجبة أو محرّمة مثلاً ، فإنّه لا يلزم في صدق

كلّ مفهومٍ على شيء أن يكون منشأ الانتزاع أمراً موجوداً أو عرضاً حالاًّ في موضوعه ومتعلّقه .

وإن شئت توضيح ذلك فاعلم : أنّ الأمر أو النهي إذا صدر من المولى متوجّهاً

ص: 180


1- كفاية الاُصول : 193 - 195 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 180 ؛ وقاية الأذهان : 345 .
3- معالم الدين : 68 ؛ قوانين الاُصول 1 : 142 / السطر 14 ؛ مطارح الأنظار 1 : 594؛ كفاية الاُصول : 193 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 396 .

إلى المكلّف ومتعلِّقاً بالمكلّف به ، يكون له إضافة إلى المولى إضافة صدورية ؛ لقيامه به صدوراً ، وإضافة إلى المكلّف وإلى المكلّف به ، ويكون تحقّق هاتين الإضافتين بنفس تحقّق منشأ انتزاعهما ، وهو الأمر والنهي القائمان بالمولى قياماً صدورياً ، ولا نفسية لهما ، وليس لهما قيام وعروض على المكلّف ، ولا على المكلّف به . ولهذا ترى أنّ مفهوم المأمور به والواجب والمنهيّ عنه والمحرّم ، تصدق على متعلّقات الأحكام بعد بعث المولى وزجره ، وقبل إيجاد المكلّف إيّاها ، فالصلاة واجبة ومأمور بها قبل إتيانها ، والغِيبة حرام ومزجور عنها قبل ارتكابها ، بل الخارج ظرف سقوط التكليف ، فكيف يمكن أن يكون ظرف ثبوته ؟ ! فهل يكون ثبوته فيه - بعد تحقّق المتعلّق - إلاّ من قبيل تحصيل الحاصل في الواجبات ؟!

وبالجملة : إنّ وزان الأمر والنهي - القائمين بنفس المولى ، المضافين إلى المتعلّق بلا عروض شيء خارجي موجود فيه - وزان العلم والإرادة والقدرة القائمات بنفس الإنسان ، المضافات إلى متعلّقاتها قبل تحقّقها ، فكما أنّ العلم قد يتعلّق بأمرٍ متأخّر قبل تحقّقه ، وينتزع منه مفهوم المعلوم بواسطة نفس إضافة العلم إليه ، وكذا الإرادة والقدرة ، فكذلك الأمر والنهي من هذه الحيثية .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الوجوب والحرمة وكذا سائر الأحكام ليست ممّا يتحقّق بينها تضادّ ؛ لعدم تحقّقها في الخارج ، وعدم عروضها للمتعلّقات ، وإنّما هي إضافات متحقّقة بنفس الأمر والنهي ، القائمين بنفس المولى قياماً صدورياً ، وهي تابعة لمناشئها ، فإن كانت مناشؤها ممكنة الاجتماع ، تكون هي ممكنة الاجتماع ، وإن كانت ممتنعة الاجتماع فكذلك ، بل هي في الوجود

ص: 181

والوحدة والكثرة وجواز الاجتماع وعدمه تابعة لها ، فلا بدّ من عطف النظر إلى المناشئ .

فنقول : لا يكون مطلق اجتماع الأمر والنهي في نفس المولى ممتنعاً ؛ ضرورة اجتماعهما في نفسه بالنسبة إلى متعلّقات متشتّتة كثيرة ، بل ما يكون ممتنعاً - ويكون من قبيل اجتماع الضدّين - اجتماعُ الأمر والنهي من مولىً واحد ، متوجّهاً إلى عبدٍ واحد بجهة واحدة في زمنٍ واحد .

وأمّا تعلّق الأمر بحيثية ، وكذا تعلّق الإرادة بها ، وتعلّق النهي والكراهة بحيثية اُخرى ، فغير ممتنعٍ ، ولو أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في مصداق واحد وموجودٍ فارد ؛ ضرورة أنّ معنى تعلّق البعث بحيثية أن تكون تلك الحيثية تمام المتعلّق للأمر والبعث ، وعدم دخالة حيثية اُخرى فيه ، كما أنّ معنى تعلّق الزجر والنهي بحيثية أيضاً كذلك ، فلا يعقل أن يتجاوز الأمر عمّا تعلّق به وقامت المصلحة الملزمة فيه إلى حيثية اُخرى أيّة حيثية كانت ؛ اتّحدت معه في الخارج أو لا ، فما هو متعلّق العلم بالصلاح هو متعلّق الاشتياق والإرادة والبعث ؛ لا يمكن أن يتخلّف أحدها عنه ويصير شيء آخر دخيلاً فيه بنحوٍ من الدخالة ، وكذا في جانب النهي .

ووِزان الإرادة التشريعية وِزان الإرادة التكوينية في ذلك طابق النعل بالنعل والقِذّة بالقِذّة ، فكما أنّ ما تعلّق العلم بالمصلحة فيه ، يصير متعلّقاً للاشتياق وتَوَقان النفس والإرادة التكوينية للإيجاد ، ولا يمكن أن يتعلّق الشوق والإرادة بما يقارنه ويتّحد معه في الوجود ، فإكرام الصديق الذي هو متعلّق الشوق والإرادة هو تمام الموضوع والمتعلّق لهما ، ولا يكون شيء من مقارناته

ص: 182

والمتّحدات معه في الوجود - من كونه في زمان كذا ، أو مكان كذا ، ومتعلّقاً لإضافات كذائية ، وأوضاع كذائية - متعلّقاً لهما ؛ فإنّها كلّها خارجة عن الموضوع الذي قامت المصلحة به ، ويكون تعلّق الشوق والإرادة بها بلا ملاكٍ يوجبه ، فكذلك الإرادة التشريعية ؛ لاشتراكهما في جميع المقدّمات ، وافتراقهما في أنّ إحداهما متعلِّقة بإيجاد الغير للمتعلّق ، والاُخرى بإيجاد نفسه إيّاه .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الصلاة مثلاً متعلّقة للإرادة والبعث ، وهي بذاتها تمام الموضوع لهما ، ولا يمكن أن يتعلّقا بغيرها ؛ ممّا هو خارج عن عنوان الصلاة وإن اتّحد معها في الخارج ، والتصرّف في مال الغير بغير إذنه متعلّق للكراهة والزجر ، وهو أيضاً تمام الموضوع لهما من غير دخالة شيء فيه من مقارناته والمتّحدات معه ، ولا يعقل سراية الإرادة المتعلِّقة بالصلاة إلى التصرّف الكذائي ؛ لفقدان الملاك ومنافاته لتمام الموضوعية ، فالبعث إلى الصلاة بعث إليها فقط لا إلى غيرها ؛ اتّحد معها في الخارج أو لم يتّحد ، والزجر عن التصرّف في مال الغير زجر عنه فقط دون غيره ، وهما لا يجتمعان في ظرف من الظروف ووعاءٍ من الأوعية .

ولو كان هذا النحو من التعلّق والاجتماع ممتنعاً ؛ لأدائه إلى اجتماع الضدّين ، لكان اجتماع العلم والجهل المتعلِّقين بجهتين - يتّفق اجتماعهما في موجودٍ واحد - محالاً ؛ لعين ما ذكر .

مثلاً : لو علمنا بمجيء زيد غداً ، وعلمنا أ نّه عالم ، وشككنا في عدالته ، اجتمع العلم والجهل في موجود واحد ؛ فإنّ المجيء الشخصي يصدق عليه أ نّه معلوم ومجهول ، معلوم كونه مجيء عالم ، ومجهول كونه مجيء عادلٍ .

ص: 183

وكذا من صلّى في دار مجهولة غصبيتها ، يصدق على الحركات الخاصّ-ة أ نّها معلومة ومجهولة ؛ معلومة من حيثية صلاتيتها ، ومجهولة من حيثية غصبيتها ، ولو كان هذا النحو من التعلّق نحو عروض شيء موجود على شيء موجود ، للزم اجتماع الضدّين في واحدٍ شخصي ، أو الالتزام بعدم حصول هذا النحو من العلم والجهل في موجودٍ شخصي ، أو الالتزام بعدم التضادّ بين العلم والجهل مطلقاً :

والأوّل : ضروري البطلان .

والثاني : خلاف الوجدان .

والثالث : خلاف الضرورة ؛ بداهة امتناع تعلّق العلم والجهل بشيءٍ واحد من جهة واحدة .

فإذا بطلت التوالي بأسرها بطل المقدّم وهو كون هذا التعلّق نحو عروض الأعراض الموجودة الحالّة في محالّها .

ومورد النقض هو عين ما نحن فيه ، والحلّ بما عرفت : وهو أنّ العلم والجهل إنّما يكون قيامهما بنفس العالم والجاهل ، ولهما نحو تعلّق بالمعلوم والمجهول ، ويكون تحقّق تلك الإضافة إلى المعلوم والمجهول - أي المشكوك فيه - بعين تحقّق العلم والشكّ ، وليس لهما وجود على حِدة يكون عارضاً على المعلوم والمشكوك فيه ، فهما في تحقّقهما وامتناع اجتماعهما وجوازه تابعان لمنشأ انتزاعهما ، وهما العلم والشكّ القائمان بنفس العالم والجاهل ، فإذا عطفنا النظر إلى المنشأ نرى أنّ الممتنع هو اجتماع العلم والشكّ في شيءٍ واحد من جهة واحدة . وأمّا تعلّق العلم بجهة والشكّ بجهة اُخرى ، فغير ممتنعٍ ، وإن اتّفق

ص: 184

اجتماعهما في موجودٍ شخصي ، وانطباقهما على واحدٍ خارجي ، كالحركة الخارجية الشخصية المتّصفة بالمعلومية والمشكوكية بجهتين .

دليل جواز الاجتماع

ثمّ إنّا لا نحتاج إلى إقامة البرهان على الجواز حتّى يقال : لعلّ الاجتماع يكون ممتنعاً بجهة اُخرى غير ما ذكر ولم نتنبّه عليها ، فلا بدّ لإثباته من إقامة البرهان ؛ وذلك لأنّ رفع اليد عن إطلاق الأدلّة وعمومها لا يجوز إلاّ بدليل شرعي أو عقلي مفقود في المقام ، ومجرّد احتمال جهة واقعية تكون موجبة للامتناع لا يصحّح رفع اليد عن الأدلّة - كما هو واضح - فلا بدّ للمانع من إقامة الدليل ، لا للمجوِّز .

لكنّ المجوِّزين استدلّوا على الجواز باُمور :

منها : أنّ العقلاء يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعاً وعاصياً ، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوبه ، ونهاه عن التصرّف في فضاءٍ خاصّ ، فأوجد المكلّف الخياطة بحركاته الخاصّ-ة المتّحدة مع الخياطة والتصرّف ، فنفس الحركات الخاصّ-ة مصداق لكلا العنوانين ، ومحقّق للمأمور به والمنهيّ عنه ، ويكون مطيعاً لإيجاد المأمور به ، وعاصياً للتخلّف عن النهي(1) .

تنبيهات :

تنبيهات :

ص: 185


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 92 ؛ قوانين الاُصول 1 : 148 / السطر 7 .

التنبيه الأوّل

في عدم الملازمة بين القول بجواز الاجتماع وصحّة العبادة

ما ذكر - من كون العبد مطيعاً وعاصياً إذا أتى بمجمع العنوانين ومصداق الطبيعتين - إنّما هو في التوصّليات ، وهل يجري في التعبّديات أيضاً أو لا ؟

والتحقيق هو الثاني .

وليعلم أوّلاً : أنّ القول بجواز الاجتماع لا يلازم القول بصحّة العبادة المتّحدة

مع المنهيّ عنه في الخارج ؛ لإمكان التزام القائل بالجواز بالبطلان من جهة اُخرى وملاك آخر غير الامتناع ، وهو أنّ العبادة تتقوّم بقصد التقرّب ، وكون الموضوع ممّا يمكن فيه التقرّب وصالحاً لذلك . ولمّا كان الموجود الخارجي هو مصداق عنوان المعصية ، ومتّحداً بتمام هويته مع المنهيّ عنه - لا بجهة دون جهة - كان المصداق الخارجي بتمام هويته مبعّداً للعبد ، ومعصيةً للمولى ، ومخرجاً له عن رسم العبودية ، وما يكون كذلك لا يمكن أن يصير مقرِّباً للعبد وطاعة للمولى .

وليس للموجود الخارجي جهتان متحقّقتان ، يكون بإحداهما معصية ، وبالاُخرى إطاعة ، بل عنوان المأمور به - كعنوان المنهيّ عنه - منطبق عليه تمام الانطباق ، ويكون بتمام هويّته وشراشر حيثياته الخارجية مصداقاً للعنوانين ، فالصلاة في الدار المغصوبة بتمام هويتها مصداق لعنوان الغصب ومعنونة بعنوان المنهيّ عنه ، وما يكون كذلك لا يمكن أن يكون مقرِّباً ولا إطاعة وعبادة للمولى ، وهذا أمر يصدّقه العقل والوجدان ، وبذلك ظهر وجه المختار .

ص: 186

وليعلم أيضاً : أنّ ما اشتهر بين المتأخّرين - من أنّ المشهور بين الإمامية عدم جواز اجتماع الأمر والنهي(1) ليس له مأخذ صحيح ؛ فإنّه بعد التتبّع في كلمات قدماء أصحابنا الإمامية - رضوان اللّه عليهم - يظهر أنّ ما هو المشهور بينهم إنّما هو عدم صحّة الصلاة في الدار المغصوبة ، وكذا عدم صحّة كلّ عبادة متّحدة مع المنهيّ عنه في الخارج . واستدلّوا على بطلانها بما ذكرنا : من أنّ المبعّد لا يمكن أن يصير مقرّباً ويقع عبادة(2) ، وقد عرفت أنّ هذا أمر آخر غير مربوطٍ بمسألة جواز الاجتماع ، ولا ملازمة بين المسألتين .

نعم ، يظهر من بعض المتأخّرين : أنّ مدرك المسألة هو عدم الجواز(3) ، وهو ليس في محلّه .

وبما ذكرنا في وجه مختار المشهور ، ظهر ما في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في عاشر المقدّمات : من أ نّه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقاً ولو في العبادات وإن كان معصية للمنهيّ عنه أيضاً(4) .

وذلك لما عرفت من وجه الإشكال ، وأنّ ذهاب أصحابنا إلى بطلان العبادة في الدار المغصوبة هو لهذا الوجه ، لا للذهاب إلى الامتناع ؛ فإنّ بحث اجتماع

ص: 187


1- معالم الدين : 93 ؛ قوانين الاُصول 1 : 140 / السطر 18 ؛ الفصول الغروية : 125 / السطر 12 ؛ مطارح الأنظار 1 : 608 - 609 .
2- مسائل الناصريات : 205 ؛ الخلاف 1 : 509 ؛ غنية النزوع 1 : 67 .
3- جواهر الكلام 8 : 285 .
4- كفاية الاُصول : 191 .

الأمر والنهي بهذا العنوان المعروف بين المتأخّرين ، لم يكن إلى زمن العلاّمة قدّس سرّه ، وإنّما حدث في زمانه ، وتبعه المتأخّرون ، فالوجه في ذهاب المشهور إلى البطلان هو الوجه المتقدّم .

وأمّا ما أفاده بقوله : وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر ، إلاّ أ نّه لا معصية في إتيانه بناءً عليه(1) .

ففيه ما لا يخفى : فإنّ ترجيح جانب الأمر إنّما يؤثّر في تقييد النهي بغير مورد الاجتماع إذا لم تكن مندوحة في البين ، وأمّا مع وجودها - كما هو محطّ البحث - فلا معنى للتقييد ولو بلغ مناط الأمر ما بلغ من القوّة والترجيح ؛ فإنّ التقييد معها يكون بلا ملاكٍ وجهة .

وهاهنا أمر : وهو أنّ ما ذكر في وجه بطلان العبادة ، إنّما يجري فيما إذا كان النهي مؤثّراً فعلياً ؛ حتّى يكون صدور الفعل من الفاعل قبيحاً ، ويكون عصياناً وطغياناً على المولى ، وأمّا مع عدم كونه كذلك - كالجاهل بالموضوع أو بالحكم مع قصوره - فصحّة العبادة وصيرورتها مقرِّبة وإطاعة لأمر المولى ، ممّا لا مانع منه ، كما لا يخفى .

التنبيه الثاني : حول جريان النزاع في العامّين من وجه

إنّ جريان النزاع في العامّين من وجه ممّا لا إشكال فيه ، وكذا يجري فيما إذا كان المنهيّ عنه أخصّ مطلقاً بحسب المورد ، لا من قبيل المطلق والمقيّد مفهوماً - أي ما اُخذ مفهوم المطلق في المقيّد - لتأتّي مناط الجواز الذي ذكرنا في

ص: 188


1- كفاية الاُصول : 191 .

العامّين من وجه(1) فيه ، طابق النعل بالنعل ؛ لأنّ الأمر إنّما تعلّق بجهة ، وتكون تلك الجهة تمام الموضوع للأمر ، ولا يعقل تسريته من موضوعه إلى عنوانٍ آخر - أيّ عنوانٍ كان - والنهي كذلك .

ففي الصُقع الشامخ من النفس - الذي يكون مورد تقدير موضوعات الأوامر والنواهي ، ومحطّ تعلّق الإرادة وتقدير المصالح والمفاسد الذي هو قبل تحقّق المتعلّقات - لم تكن موضوعات الأوامر والنواهي مختلطات بعضها مع البعض ، ولا متّحدات كذلك ، وإنّما الاتّحاد يتحقّق في صُقع متأخّر ووعاء نازل ، هو وعاء الوجود العيني التكويني ، لا وعاء الوجود العقلي التقديري .

وقد عرفت : أنّ الوجود الخارجي لم يكن معروضاً للأمر ولا النهي ، ولا أنّ الوجوب والحرمة عرضان خارجيان حالاّن في الموضوعات الخارجية(2) .

وقد عرفت [ أيضاً(3)] : أنّ معنى إطلاق المتعلّق في الأمر والنهي هو كونه تمام الموضوع لهما من غير دخالة شيءٍ آخر - أيّ شيء - فيه . وفي مقابله عدم الإطلاق ، وهو كون المتعلّق - بحسب الإرادة الاستعمالية - هو بعض الموضوع لا تمامه ، واُفيدت قيوده ومتمّماته بدليل آخر مقيّد له ، وليس معنى الإطلاق هو سريان البعث والزجر إلى الأفراد الخارجية ؛ حتّى يقال : إنّ المولى لا بدّ له من تقييد متعلّق أمره أو نهيه بغير مورد الاجتماع .

نعم ، آثار الإطلاق في الأوامر والنواهي والأحكام الوضعية مختلفة ،

ص: 189


1- تقدّم في الصفحة 183 .
2- تقدّم في الصفحة 180 - 181 .
3- تقدّم في الصفحة 171 - 172 .

كما أشرنا إليه سابقاً(1) .

هذا كلّه في العامّين من وجه والأخصّ المطلق بحسب المورد .

وهل يجري النزاع في الأخصّ المطلق بحسب المفهوم ؛ بأن يكون الأمر متعلِّقاً بمفهوم ، والنهي متعلّقاً بنفس المفهوم مع قيدٍ زائد كالصلاة ، والصلاة في الدار المغصوبة ؟

الظاهر جريان النزاع فيه أيضاً ، والتزام المجوِّز بجوازه ، كالعامّين من وجه ، فلو فرض أنّ خياطة الثوب تكون ذات مصلحة تامّة ملزمة ، وكانت تمام الموضوع لتلك المصلحة بلا دخالة شيء وجودي أو عدمي فيها ، فلا بدّ أن يتعلّق الأمر بها بنفس ذاتها بنحو الإطلاق ؛ أي بلا دخالة قيدٍ فيها ، لا بمعنى السراية إلى الأفراد ، كما عرفت آنفاً . ولو فرض أنّ في خياطته في دار زيد مفسدة تامّة - بحيث تكون الخياطة فيها تمام الموضوع للمفسدة - فلا بدّ أن يتعلّق النهي بها ، فلو خاط المكلّف الثوب في دار زيد أتى بمورد الأمر بلا إشكالٍ وكلامٍ ؛ لتحقّق الخياطة التي هي تمام الموضوع بلا دخالة قيدٍ وجودي أو عدمي فيه ، وأتى بمورد النهي أيضاً الذي هو الخياطة في دار زيد ، وتكون تمام الموضوع للمفسدة والنهي ، فأصل الخياطة مأمور بها ، وهي مع التقيّد الكذائي منهيّ عنها ، فهما مفهومان قد تعلّق النهي بأحدهما ، والأمر بالآخر ، وأخذُ أحدهما في الآخر لا يوجب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بجهة واحدة ، واجتماعهما في الوجود بسوء اختيار المكلّف لا يوجب امتناعاً في ناحية التكليف ، كما عرفت .

ص: 190


1- تقدّم في الصفحة 170 - 171 .

التنبيه الثالث : جريان النزاع عند كون المنهيّ عنه أخصّ مطلقاً

كما أنّ تعلّق الأمر والنهي بشيءٍ واحد بجهة واحدة من مولى واحد ، متوجّهين إلى مكلّف واحدٍ في زمانٍ واحد ، لا يمكن ولا يكون مورداً للنزاع ، كذلك لا يجري في مفهومين متساويين في الصدق ، ولا في مفهومين متلازمين بحسب الوجود ، ولا في مورد يكون الأمر أخصّ مطلقاً من النهي - سواء كانت الأخصّية بحسب المورد أو بحسب المفهوم - فإنّ في جميع الصور يكون اجتماع الأمر والنهي محالاً ، ولا يجري النزاع فيها ، وقد عرفت جريانه في العامّين من وجه ، وهذا المورد متسالم عليه بينهم ، وفيما إذا كان المنهيّ عنه أخصّ مطلقاً - سواء كانت الأخصّية بحسب المورد أو بحسب المفهوم - وهذان الموردان محلّ الإشكال في جريانه ، وقد عرفت أنّ التحقيق جريانه فيهما وتحقّق ملاكه فيهما ، بل كلّ موردٍ يكون فيه بين العنوانين عموم وخصوص يرجع إلى العموم المطلق ؛ فإنّ النهي ينحلّ إلى نواهٍ مستقلّة ، فكلّ تصرّفٍ في المغصوب يكون متعلّقاً لنهي مستقلّ ، ونسبة هذا النهي الانحلالي إلى الأمر تكون بالأخصّية المطلقة ، كما هو واضح .

التنبيه الرابع : لا فرق في جريان النزاع بين أقسام الأمر والنهي

لا فرق في جريان النزاع بين الأمر الوجوبي والندبي والنهي التحريمي والتنزيهي ، فعلى القول بالامتناع يمتنع اجتماعهما - بأيّ نحوٍ كان الأمر والنهي - فإنّ تمام الملاك للامتناع هو الضدّية ، ومعلوم أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة ، فكما يمتنع اجتماع الأمر الوجوبي والنهي التحريمي بملاك الضدّية ،

ص: 191

كذلك يمتنع اجتماع كلّ أمرٍ ونهيٍ - بأيّ مرتبة كانا - في شيءٍ واحد بجهة واحدة ؛ لتحقّق الملاك في الجميع .

نعم ، بين النهي التحريمي والتنزيهي فرق من جهة اُخرى ، غير ما هو محلّ البحث ومحطّ النزاع ، وهو أنّ القائل بالاجتماع يمكن أن يذهب إلى بطلان العبادة في مورد الاجتماع في الموجود الخارجي ؛ لما عرفت من أنّ المبعِّد لا يمكن أن يصير مقرِّباً(1) ، وهذا الملاك إنّما يكون في النهي التحريمي .

وأمّا النهي التنزيهي فلا يكون متعلّقه مبغوضاً للمولى ، ولا إتيانه عصياناً وطغياناً عليه ، ولا مبعِّداً للعبد ، فصحّة العبادة في مورد الأمر والنهي التنزيهي ممّا لا مانع منه عقلاً .

التنبيه الخامس : استدلال المجوّزين بوقوع العبادات المكروهة

استدلّ المجوِّز(2) على مدّعاه - مضافاً إلى ما عرفت(3) - بأنّ أدلّ الدليل على الإمكان هو الوقوع ، وقد وقع الاجتماع في الشريعة ، كالعبادات المكروهة ، مثل الصلاة في مواضع التهمة ، وفي الحمّام ، والصوم في السفر ، وبعض الأيّام مثل يوم عاشوراء(4) ، وقد عرفت أن ملاك الامتناع - على فرضه - موجود في الأوامر

ص: 192


1- تقدّم في الصفحة 186 .
2- قوانين الاُصول 1 : 142 / السطر 13 .
3- تقدّم في الصفحة 185 .
4- راجع وسائل الشيعة 5 : 176 ، كتاب الصلاة ، أبواب مكان المصلّي ، الباب 34 ، و10 : 195 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ، الباب 10 ، و : 459 ، كتاب الصوم أبواب الصوم المندوب ، الباب 21 .

والنواهي قاطبة لتضادّ الأحكام بأسرها ، فإذا وقع في موردٍ الأمر الإيجابي والنهي التنزيهي ، أو الأمر الندبي والنهي التنزيهي ، فذلك يدلّ على الإمكان والجواز في مطلق الأوامر والنواهي .

وقد أجاب المحقّق الخراساني رحمه الله علیه عنه : تارةً على نحو الإجمال ، وتارةً على نحو التفصيل .

أمّا جوابه الإجمالي فحاصله : أنّ الظواهر لا تصادم البرهان العقلي ، فإذا قام البرهان على الامتناع ، فلا وجه للتمسّك بالظهور في مقابله ، فلا بدّ من التصرّف والتأويل فيه ، مع أنّ في بعض تلك الموارد اجتمع الأمر والنهي بعنوانٍ واحد وجهة واحدة ، مثل صوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة في الحمّام ممّا لا بدل لها ، فإنّه في كلّ حينٍ تستحبّ الصلاة ففي الحمّام أيضاً تستحبّ ، ولا بدل لها(1) .

هذا ، ولنا جواب إجمالي عن الدليل : وهو أنّ غاية ما يدلّ عليه الدليل في هذه الموارد - من الإجماع والأخبار - هو كراهة هذه العناوين ، مثل صوم يوم عاشوراء والصلاة في الحمّام وأمثالهما ، وصحّتها على فرض الإتيان بها ، ومجرّد هذا لا يدلّ على مدّعاه - أي اجتماع الأمر والنهي - إذ لعلّ الصحّة تكون بواسطة الملاك لعدم احتياجها إلى الأمر ، فمجرّد الصحّة مع الكراهة لا يدلّ على وقوع الاجتماع ، وذلك واضح .

وأمّا جوابه التفصيلي : فهو أنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام :

ص: 193


1- كفاية الاُصول : 197 .

أحدها : ما تعلّق النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له ، كصوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات .

وثانيها : ما تعلّق النهي بعنوانٍ أخصّ من المأمور به ، كالنهي عن الصلاة في الحمّام .

وثالثها : ما تعلّق به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجوداً ، أو ملازم له خارجاً ، كالصلاة في مواضع التهمة ؛ بناءً على أنّ المنهيّ عنه هو الكون في مواضعها . ثمّ أجاب قدّس سرّه عن كلّ قسم تفصيلاً(1) .

ونحن في فُسحة من القسمين الأخيرين ؛ لاختيارنا الجواز فيهما ، كما تقدّم(2) .

وأمّا القسم الأوّل فلا بدّ لنا من الجواب عنه - كالقائل بالامتناع - لورود النقض على كلا الفريقين ، فلا بدّ من البحث عنه تفصيلاً .

فنقول : حاصل ما أفاد المحقّق المتقدّم قدّس سرّه في الجواب عنه : أنّ النهي في مثله إمّا يرجع إلى الترك ؛ لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ، فيكون فعل الصوم ذا مصلحة ، وتركه كذلك ؛ لأجل انطباق ذاك العنوان عليه ، لكن الترك أرجح ، فيكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين ، فيحكم بالتخيير بينهما لولا الأهمّية ، وإلاّ فيقدّم الأهمّ وإن كان المهمّ أيضاً يقع صحيحاً ؛ لرجحانه وموافقته للغرض ، وأرجحية الترك لا توجب منقصة في الفعل ، بل

ص: 194


1- كفاية الاُصول : 197 - 201 .
2- تقدّم في الصفحة 185 و188 - 189 .

الفعل يكون ذا مصلحة خالصة ، وإن كان الترك لأجل انطباق عنوانٍ مرجوح عليه ذا مفسدة غالبة .

وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوانٍ كذائي من دون انطباق عليه ، فيكون حاله حال الانطباق .

والفرق بينهما : أنّ الطلب المتعلّق به حقيقي على الأوّل ، وعرضي على الثاني ، وإنّما يتعلّق حقيقة بما يلازمه من العنوان(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ إرجاع النهي إلى طلب الترك خلاف التحقيق ، كما عرفت مفصّلاً من أنّ النهي عبارة عن الزجر عن الفعل ، لا طلب الترك(2) .

وثانياً : لو سلّم أنّ النهي عبارة عن طلب الترك ، لكن إرجاعه إلى طلب ترك عنوان آخر - منطبق عليه أو ملازم له - خلاف ظواهر الأدلّة الناهية عن الصوم يوم عاشوراء(3) ، أو الصلاة في زمان كذا(4) .

وثالثاً : لا داعي إلى تصوير عنوانٍ أرجح منطبق أو لازم ؛ لجواز كون نفس الترك له رجحان ، كما أنّ للفعل رجحاناً ، ويكون الترك أرجح من الفعل ، ومعلوم أنّ رجحان الفعل والترك غير كون الفعل ذا مصلحة ومفسدة مع كون المفسدة أرجح ، حتّى يقال : إنّ هذا ينافي صحّة الفعل ؛ فإنّ الفعل إذا كان فيه مصلحة خالصة ، والترك كان فيه مفسدة خالصة ، فمع تساويهما يكون المكلّف مخيّراً

ص: 195


1- كفاية الاُصول : 198 - 199 .
2- تقدّم في الصفحة 170 - 171 .
3- راجع وسائل الشيعة 10 : 459 ، كتاب الصوم ، أبواب الصوم المندوب ، الباب 21 .
4- راجع وسائل الشيعة 4 : 234 ، كتاب الصلاة ، أبواب مواقيت الصلاة ، الباب 38 .

بينهما ، ومع أرجحية الترك يصير الزجر مقدّماً ، ولكن لو أتى به يكون صحيحاً ؛ لكون الفعل ذا مصلحة خالصة ، فتصوير العنوان الآخر تبعيد للمسافة بلا داعٍ يدعو إليه .

ورابعاً : لازم ما أفاده أنّ التارك للصوم يكون آتياً بأمرٍ مستحبّ وعبادة قهراً ؛ من دون الالتفات إلى عنوان المأمور به ، وهو كما ترى .

والتحقيق في التفصّي عن هذا الإشكال أن يقال : إنّ الفعل فيه مصلحة خالصة ، ولكن ينطبق على ذلك الفعل عنوان آخر يكون فيه مفسدة راجحة ؛ فالنهي عن الفعل إنّما هو لأجل انطباق تلك العناوين عليه .

مثلاً : صوم يوم عاشوراء بما أ نّه صوم ، فيه مصلحة خالصة ولا مفسدة فيه ، لكن ينطبق عليه عنوان التشبّه ببني اُميّة وبني مرجانة - لعنهم اللّه - وهذا التشبّه فيه مفسدة غالبة على الصوم المندوب ، وكذلك النوافل عند غروب الشمس وطلوعها تكون فيها مصلحة خالصة بما أ نّها صلاة ، ولكن ينطبق عليها عنوان التشبّه بعَبَدة الشمس ، وهذا فيه مفسدة راجحة على مصلحة النافلة ، ولأجل ذلك وقع النهي عنها.

التنبيه السادس : حكم توسّط الأرض المغصوبة

قد وقع الخلاف بين الأعلام بأنّ المتوسّط في أرض مغصوبة إذا كان دخوله فيها غصباً ، وكان التخلّص عن الغصب منحصراً بالتصرّف فيها بغير إذن صاحبها ، هل يتّصف تصرّفه للتخلّص بالحرمة(1) ، أو الوجوب مع جريان حكم

ص: 196


1- إشارات الاُصول : 221 ؛ اُنظر مطارح الأنظار 1 : 713 .

المعصية عليه(1) ، أو بدونه(2) ، أو يتّصف بكليهما(3) ؟ على أقوال .

وهذه مسألة معنونة بينهم ، واختار كلٌّ مسلكاً ، وقد قدّم المحقّق الخراساني رحمه الله علیه لتحقيقها مقدّمة ، لعلّها غير دخيلة فيه .

قال ما محصّله بتوضيحٍ منّا : أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام إمّا أن يكون بسوء اختيار المكلّف أو لا .

وعلى الثاني فلا إشكال في أنّ الحرمة والعقوبة مرتفعان ، وحينئذٍ لو كان له ملاك الوجوب لأثَّر في إيجابه أيضاً ، فيصير واجباً ، كما لو لم يكن بحرامٍ ، وهذا ممّا لا كلام فيه .

وأمّا على الأوّل - بأن يختار ما يؤدّي إلى الحرام لا محالة - فإنّ الخطاب بالزجر عنه وإن كان ساقطاً ، إلاّ أ نّه حيث يصدر عنه عصياناً لذلك الخطاب ، ومبغوضاً ومستحقّاً عليه العقاب ، لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب بلا إشكالٍ ولا ارتيابٍ ، وإنّما الإشكال فيما إذا كان ما اضطرّ إليه بسوء اختياره ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام ، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسّطها بالاختيار(4) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ ما أفاد في الصورة الثانية - من أنّ ملاك الوجوب يصير مؤثّراً في إيجابه بعد ارتفاع الحرمة والعقوبة - منظور فيه ، فإنّ المفروض أنّ ملاك

ص: 197


1- الفصول الغروية : 138 / السطر 25 .
2- مطارح الأنظار 1 : 709 .
3- قوانين الاُصول 1: 153/السطر 21؛ اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن حاجب: 94.
4- كفاية الاُصول : 203 .

الحرمة - أي المفسدة الكامنة في المتعلّق - تكون أقوى من ملاك الوجوب ، ومعه كيف يمكن فعلية الوجوب ولو مع ارتفاع خطاب الحرمة ؟ ! فإنّ المزاحم للوجوب هو غلبة ملاك الحرمة .

مثلاً : أنّ الخمر مع كونه ذا مصلحة ومنفعة ، لكن لمّا كانت مفسدته راجحة ، وإثمه أكبر من نفعه ، صار حراماً ؛ لغلبة الملاك ، فلو فرضنا الاضطرار إلى شربه لمرض أو شبهه ، وارتفع الخطاب لأجله ، فلا يصير راجحاً أو واجباً بمجرّده .

نعم ، لو حدث في ظرف الاضطرار مصلحة اُخرى ملزمة وراجحة على المفسدة صار الفعل لا محالة واجباً ، لكن هذا غير ما أفاده رحمه الله علیه .

وثانياً : أنّ ما أفاده في الشقِّ الأوّل - من وقوع الفعل مبغوضاً وعصياناً - بإطلاقه ممنوع ؛ فإنّ الفعل الاختياري الذي يؤدّي إلى المحرّم اضطراراً ، قد يكون مباحاً ، وقد يكون محرّماً . وعلى أيّ حالٍ : تارةً يكون المكلّف ملتفتاً إلى تأديته إلى المحرّم ، وتارةً لا يكون ملتفتاً إليها .

فإن لم يكن ملتفتاً إلى التأدية ، وكان الفعل مباحاً ، فلا إشكال في عدم وقوع الفعل المضطرّ إليه عصياناً ومبغوضاً ، ولا معاقباً عليه ، كما أ نّه لو كان الفعل محرّماً مع عدم الالتفات لم يقع الفعل المضطرّ إليه محرّماً ومبغوضاً ، وإن كان الفعل الاختياري المؤدّي إلى ذاك المحرّم حراماً ومبغوضاً .

ولا فرق في ذلك بين الاضطرار العقلي والعادي العرفي ، إلاّ أنّ العقلي منه مرفوع عقلاً ، والعرفي بدليل الرفع .

وإن كان ملتفتاً إلى التأدية - سواء كان الفعل المؤدّي إلى الحرام مباحاً أو حراماً - يأتي فيه النزاع الآتي .

ص: 198

وليعلم مقدّمة : أنّ الفعل المضطرّ إليه اختياراً قد يكون واحداً معيّناً ، كمن أوجد لنفسه مرضاً فاضطرّ إلى شرب الخمر ، وقد يكون أحد الفعلين . وعلى الثاني : قد يكون الفعلان من سنخين من المحرّم ، وقد يكونان من سنخ واحد . وعلى الأوّل : تارة يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، كمن اضطرّ إلى شرب أحد إناءين : أحدهما خمر ، والآخر متنجّس ، وقد يكونان متساويين في الملاك . وعلى الثاني - أي ما إذا كانا من سنخ واحد - : تارة يكون أحدهما أكثر عدداً ، أو زماناً من الآخر ، كمن اضطرّ إلى التصرّف في المغصوب ساعة أو ساعتين ، أو مرّة أو مرّتين ، وفي المتساويين من حيث الأهمّية يأتي احتمال الأكثرية من حيث العدد والزمان . وحكم كلّ واحدٍ من الصور معلوم عقلاً .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أ نّه لا إشكال في حرمة الدخول في أرض الغير بغير إذنه ، والبقاء فيها ، والتصرّفات الزائدة عن التخلّص . وإنّما الإشكال في التصرّف التخلّصي ؛ أي ما هو في طريق التخلّص ، سواء كان من قصده الخروج والتخلّص أو لا ، كمن يريد التفرّج والتفريح لكن في طريق التخلّص ، فهل يقع مأموراً به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه ، أو منهيّاً عنه ، أو مأموراً به ومنهيّاً عنه كليهما ، أو منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط ، أو مأموراً به ومنهيّاً عنه على نحو الترتّب ؟ وجوه واحتمالات :

اختار شيخنا المرتضى قدّس سرّه عدم الحرمة ، بل كونه واجباً صرفاً .

وملخّص ما أفاده في وجهه : أنّ التصرّف الخروجي قبل الدخول لا يتّصف بالحرمة ولا بالوجوب على نحو الإطلاق ؛ لعدم كون المكلّف قادراً عليه ، ولو تعلّق به أمر أو نهي فإنّما يتعلّق به على نحو التقدير ، فيكون الأمر أو النهي

ص: 199

متوجّهاً إليه على فرض الدخول ، ولا إشكال في أنّ المولى إذا لاحظ تقدير الدخول لا يكون له إلاّ الأمر بالخروج ، لا النهي عنه ، نظير شرب الخمر المتوّقف عليه النجاة من الهلاك ، فهل ترى من نفسك أنّ من أوجد المرض لنفسه بسوء اختياره ، وتوقّفت نجاته على شرب الخمر ، بقي شربه للخمر على حرمته ، أو يكون الشرب واجباً على هذا التقدير ؟ فشرب الخمر العلاجي لا يكون حراماً في حالٍ من الحالات - كالتصرّف الخروجي - وقبل الدخول لا يكون الخروج منهيّاً عنه أو مأموراً به بنحو الإطلاق ، وبعد تحقّق التقدير لا يكون إلاّ الأمر بالخروج ، لا النهي عنه(1) ، انتهى .

وسيتّضح(2) ما فيه عند تحقيق ما هو الحقّ عندنا .

وأمّا كون الخروج مأموراً به ومنهيّاً عنه جميعاً ، كما اختاره الفاضل القمّي رحمه الله علیه (3) تبعاً لأبي هاشم من العامّة(4) ، ففيه ما لا يخفى ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ شخصي مع عدم المندوحة ، فيلزم منه التكليف بالمحال والجمع بين الضدّين .

وأمّ-ا كونه منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط ، كما اختاره المحقّ-ق الخراساني رحمه الله علیه (5) ففيه : أنّ النهي إذا سقط فلا معنى للعصيان والمخالفة ،

ص: 200


1- مطارح الأنظار 1 : 716 - 718 ؛ اُنظر كفاية الاُصول : 205 .
2- يأتي في الصفحة 204 .
3- قوانين الاُصول 1 : 153 / السطر 21 .
4- اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 94 .
5- كفاية الاُصول : 204 .

ومجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار ، لا يوجب المخالفة والعصيان مع عدم النهي الفعلي .

وأمّا كونه منهيّاً عنه ومأموراً به على نحو الترتّب ، فهو ممّا لا يحتمله أحد ، وإنّما هو احتمال أبديناه .

ويمكن أن يقال في تقريره : إنّه كما يمكن أن يتعلّق الأمر بالأهمّ والمهمّ في صورة التزاحم بشيئين في وقتٍ واحد بنحو الترتّب ؛ بأن يأمر المولى بالأهمّ بنحو الإطلاق ، لكن لمّا احتمل أن يكون أمره بالأهمّ غير مؤثّر في نفس المكلّف فتركه وترك المهمّ أيضاً ؛ لعدم الأمر به فلا يصل إلى شيء من غرضيه ، يأمر بالمهمّ على فرض عدم تأثير الأمر بالأهمّ ؛ حتّى لا يكون زمان عصيان الأمر بالأهمّ خالياً عن إتيان المهمّ ، كما مرّ ذكره في الترتّب مستوفىً(1) ، فكذلك في المقام أنّ النهي إنّما تعلّق بالتصرّف في ملك الغير بغير إذنه بنحو الإطلاق ، وتعلّق أمر آخر بنحو الاشتراط بأ نّه لو لم يؤثّر النهي في نفس المكلّف فعصى ودخل في ملك الغير ، يجب عليه الخروج تخلّصاً من التصرّف .

هذا ، وفيه : أنّ قياس المقام بالترتّب مع الفارق ؛ فإنّ في الترتّب يكون أمران : أحدهما بالأهمّ ، والآخر بالمهمّ ، ومع تركهما يكون المكلّف عاصياً ومعاقباً بالنسبة إليهما ؛ لتركه التكليفين ، وارتكابه المعصيتين .

وأمّا في المقام فلا يكون إلاّ النهي عن التصرّف في ملك الغير بغير إذنه فقط ، ولا يكون أمر في البين ، وإنّما يحكم العقل بلزوم الخروج ؛ لأنّ أمره دائر بين

ص: 201


1- تقدّم في الصفحة 143 - 146 .

البقاء والخروج ، ويكون البقاء أكثر تصرّفاً وأشدّ محذوراً من الخروج ، فيحكم العقل بالخروج .

نعم ، قد ذكر في مبحث الضدّ(1) : أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه العامّ ، لا بمعنى أنّ هنا أمراً ونهياً مستقلّين وإطاعة وعصياناً ؛ حتّى يكون الآتي بالمأمور به مطيعاً من جهتين ، إحداهما إطاعة الأمر ، والاُخرى إطاعة طلب ترك الترك ، بل لا يكون إلاّ أمر فقط ، والنهي عن ضدّه العامّ فانٍ فيه ، ويكون متحقّقاً بعين تحقّق الأمر ، فهما واحد باعتبار ، ومتعدّد باعتبار .

وبالجملة : لا يكون للنهي استقلال ، ولا إطاعة ومعصية .

ونظير ذلك ما مرّ(2) في مبحث مقدّمة الواجب : من كون المقدّمات واجبات بعين وجوب ذيها ، وفانيات فيه ، ولا استقلال لها في الجعل ، فلا إطاعة ولا معصية لها .

ونظير ذلك ما نحن فيه ، فإنّ النهي عن التصرّف في ملك الغير مقتضٍ للأمر بضدّه العامّ - أي ترك التصرّف - ولكن لا يكون ترك التصرّف مأموراً به بالأمر الاستقلالي جعلاً وتحقّقاً ، ولا يكون له إطاعة ومعصية ؛ حتّى يكون هنا أمر ونهي ، ويقال : النهي مطلق ، والأمر مشروط على نعت الترتّب .

وبما ذكرنا من التحقيق يظهر المختار في المقام .

وحاصله : أنّ التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، أو مع نهيه ، حرام مبغوض من

ص: 202


1- تقدّم في الصفحة 135 .
2- تقدّم في الصفحة 119 .

قِبَل المولى ، ويكون ذلك التصرّف خروجاً عن طاعته وعصياناً له ؛ من دون فرق بين التصرّف الدخولي والخروجي في نظر العقل ، فإنّه يرى جميع التصرّفات متساوية في كونها معصية وخروجاً عن رسم العبودية ، ولا يكون الخروج واجباً أو ترك الغصب واجباً ؛ حتّى تكون التصرّفات الخروجية مقدّمات له ، بل التصرّف حرام ، لكن العقل يحكم - عند دوران الأمر بين التصرّف الطويل والقصير- باختيار القصير ، من غير أن يكون للمولى أمر وبعث ، بل ما يكون من قبله ليس إلاّ النهي عن التصرّف .

نعم ، هنا أمر آخر : وهو أنّ العبد - بعد دخوله في ملك الغير عن عصيان - لو تنبّه وتاب عن عمله صارت تصرّفاته السابقة بحكم أدلّة التوبة مغفورة ، خارجة عن حكم العصيان ، وتصير تصرّفاته اللاحقة الاضطرارية بعد التوبة ، تصرّفات غير مسبوقة بالمعصية المؤثّرة ، فيصير حاله بالنسبة إلى التصرّفات الخروجية لأجل التخلّص عن التصرّف ، كمن اضطرّ إلى الدخول واختار الخروج من أقصر الطرق للتخلّص ، فكما أنّ العقل يحكم بمعذورية الثاني ؛ حيث لا يكون ارتكابه للتصرّف الخروجي إلاّ باضطرارٍ محض غير مسبوق بالمعصية ، يمكن أن يقال : إنّ التائب من ذنبه وتصرّفه - إذا اختار الخروج لأجل التخلّص من أقرب الطرق - تكون تصرّفاته الخروجية غير مبغوضة للمولى ؛ للفرق بين من كان خروجه كدخوله بنفس الإرادة للظلم والعصيان ، وبين من كان تائباً عن ذنبه ، ويكون خروجه لأجل التخلّص من معصية المولى ، ويرى نفسه مضطرّاً في تلك التصرّفات الخروجية لأجل التخلّص من التصرّفات الزائدة .

ص: 203

وبما ذكرنا وحقّقنا يتّضح ما فيما أفاده شيخنا المرتضى قدّس سرّه (1) فإنّ كلامه مبنيّ على وجوب ترك التصرّف أو وجوب الخروج ، وقد عرفت عدم وجوبهما .

وأمّا ما أفاد : من أنّ الخروج لم يكن مقدوراً قبل الدخول ، فلم يكن حراماً مطلقاً ، وعلى تقدير الدخول لا يكون إلاّ واجباً ، وجعله نظير شرب الخمر العلاجي(2) .

ففيه أوّلاً : أنّ ما تعلّق به النهي لم يكن عنوان الخروج ؛ حتّى يقال : إنّه غير مقدورٍ ، بل ما تعلّق به النهي إنّما هو التصرّف في ملك الغير ، ولا إشكال في أنّ التصرّف في ملك الغير - قبل الدخول - بأنحائه مقدور للعبد ، فيمكن له التصرّف الطويل والقصير وبمقدار ساعة يكون نصفه الدخول ونصفه الخروج .

وبالجملة : إنّ جميع تصرّفاته تكون مبغوضة للمولى وإن سقط الخطاب بعد اضطراره ، ولا ينافي سقوط الخطاب ، المبغوضية وكون التصرّف طغياناً .

وثانياً : أنّ تنظير المقام بشرب الخمر العلاجي مع الفارق ؛ فإنّه بعد الاضطرار لا تحدث فيما نحن فيه مصلحة ملزمة خارجية ، يكون ارتكاب المحرّم مقدّمة لاستيفائها ؛ فإنّه ليس في البين إلاّ حرمة التصرّف في ملك الغير - كما عرفت - وأمّا بعد الاضطرار إلى شرب الخمر للمرض ، يصير شربه مقدّمة لحفظ النفس الأهمّ منه ، فشربه مقدّمة لاستيفاء مصلحة ملزمة خارجية تكون أهمّ منه .

ص: 204


1- مطارح الأنظار 1 : 709 .
2- راجع ما تقدّم في الصفحة 199 - 200 .

تذنيب : التصرّفات الخروجية مقدّمة للكون في الخارج

قد قاس بعضهم المقام بمسألة الضدّين ، وقال : إنّه لا مقدّمية بين التصرّف الخروجي والكون في خارج الدار لأجل التضادّ بين الكونين ، كما لا مقدّمية بين الضدّين من ناحية العدم والوجود(1) .

ولا يخفى ما فيه لوضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ زمان وجود الضدّين واحد في الخارج ، ويكون بينهما تمانع ، ويكون أحدهما مقارناً لعدم الآخر ، فيقع البحث في مقدّمية أحدهما للآخر وإن كان التحقيق عدمها .

وأمّا فيما نحن فيه فلا يكون زمان الكون في خارج الدار ، عينَ زمان التصرّفات الخروجية ، بل التصرّفات مقدّمة للكون في خارج الدار ، وكذا لترك التصرّف ؛ فإنّ الكون في الخارج وترك التصرّف في ملك الغير ، إنّما يتحقّقان بالخطوة الأخيرة التي تقع خارج الدار ، وتكون الخطوات الواقعة في داخلها مقدّمة للخروج وترك التصرّف ، وأين ذاك من مسألة الضدّين ؟!

وقال بعض آخر : إنّ ردّ المال المغصوب إلى مالكه واجب ، والتصرّفات الخروجية مقدّمة له ، فتقع واجبة(2) .

وفيه : أنّ عنوان الغصب - وهو الاستيلاء على مال الغير عدواناً - غير عنوان التصرّف في مال الغير بغير إذنه ؛ فإنّ التصرّف فيه لا يتوقّف على الاستيلاء ، فالداخل في ملك الغير بغير إذنه ، لا يلزم أن يكون غاصباً ومستولياً عليه ، بل

ص: 205


1- كفاية الاُصول : 204 ، الهامش 4 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 451 - 452 .

ربّما يكون الملك تحت استيلاء صاحبه ، ويتصرّف غيره فيه بغير إذنه ، ولا يخفى أنّ عدم التفريق بين العنوانين صار منشأً للاشتباه في كثيرٍ من الفروع الفقهية . هذا ، مضافاً إلى أنّ وجوب ردّ المال المغصوب ممنوع ، وإنّما يكون الغصب حراماً ، ووجوب الردّ ليس أمراً مستقلاًّ بالجعل والاعتبار ، بل هو أمر منتزع من حرمة الغصب ، كما مرّت نظائره(1) .

ص: 206


1- «در مشهد مقدس ، روز آخر صيام 1366 مبيضّه شد» . كذا في هامش الكتاب بخطّ المصنّف قدس سره .

فصل

في اقتضاء النهي للفساد

هل النهي المتعلّق بالعبادة - سواء كانت بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ - أو المتعلّق بالمعاملة ، يقتضي الفساد ، أم لا ؟

وقبل تحقيق المقام لا بدّ من ذكر ما هو دخيل في ماهية الدعوى ، وإن أطال المتأخّرون الكلام في تمهيد مقدّمات غير دخيلة فيها(1) ، وليس في الخوض فيها ثمرة معتدّ بها ، كالبحث عن أنّ المسألة من أيِّ علم ؟ أو الفرق بينها وبين اجتماع الأمر والنهي . . . وغير ذلك .

فنقول : ما هو الدخيل في جوهر النزاع وماهية الدعوى هو تحصيل معنى الصحّة والفساد .

في بيان معنى الصحّة والفساد

اعلم : أنّ الصحّة والفساد - في العبادات مطلقاً ، وفي المعاملات ، بل في الاُمور التكوينية - بمعنىً واحد ومفهومٍ فارد ، وهما معنيان إضافيان ، يتّصف بهما

ص: 207


1- راجع مطارح الأنظار 1 : 727 ؛ كفاية الاُصول : 217 .

الوجود الخارجي باعتبار نسبته إلى المفهوم المتوقّع وجوده به ، وأمّا نفس المفهوم من حيث هو فلا يتّصف بهما ، كما أنّ الموجود من حيث هو لا يتّصف بهما ، وإنّما يتّصف الموجود لأجل انطباق المفهوم المتوقّع وجوده عليه وعدمه . فكلّ موجودٍ يتوقّع لدى تحقّقه انطباق المفهوم والعنوان الذي له آثار عليه ، يكون صحيحاً إذا تحقّق المفهوم به وانطبق عليه ، ولا محالة تترتّب عليه الآثار المتوقّعة من هذا العنوان ، وفاسداً إذا لم ينطبق عليه ؛ لأجل فقدان ما يعتبر فيه من جزءٍ أو شرطٍ أو عدم مانعٍ . فالصلاة من حيث مرتبة ذاتها وماهيتها لا تتّصف بالفساد ، بل هي ليست إلاّ هي ؛ فإنّ الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي ، كما أنّ ما وجد في الخارج من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود من حيث هي وجودات لا تتّصف به ، بل المتّصف بالصحّة والفساد هو هذا الموجود المركّب ؛ باعتبار ملاحظتها مع مفهوم الصلاة المتوقّع وجودها به ، فإذا انطبق عليه عنوان الصلاة يتّصف بالصحّة ويترتّب عليه آثارها ، وذلك لا يكون إلاّ بعد تحقّق الموجود الخارجي بجميع ما يعتبر في ماهية الصلاة وجوداً وعدماً ، وإذا لم ينطبق عليه لنقصانٍ فيه يتّصف بالفساد ، وإذا انطبق عليه الصلاة يكون لا محالة مسقطاً للقضاء والإعادة ، وموافقاً للأمر والشريعة .

فما وقع في كلمات القوم من الاُصوليين والمتكلّمين(1) تعريفات باللوازم ، لا تحصيل معنى الصحّة والفساد .

ص: 208


1- راجع المستصفى من علم الاُصول 1 : 94 - 95 ؛ المحصول في علم اُصول الفقه 1 : 38 ؛ الفصول الغروية : 140 / السطر 1 ؛ مطارح الأنظار 1 : 732 .

وعلى ما ذكرنا : لا مانع من تفسير الصحيح بالتامّ ، والفاسد بالناقص ؛ بالمعنى الذي ذكرنا .

وما ذكرنا هو ميزان الصحّة والفساد في العبادات والمعاملات، فالغسل الصحيح ما يكون مصداقاً لذلك العنوان ، فيترتّب عليه أثره ، وهو الطهارة ، والمعاملة الصحيحة ما ينطبق عليها العنوان الكذائي ، فيترتّب عليها أثرها لا محالة .

ولا يخفى : أنّ بين مفهومي الصحّة والفساد تقابلاً شبيهاً بتقابل العدم والملكة ؛ لأجل كون الموجود الفاسد غير صحيح متوقّعاً منه الصحّة ، ولأجل هذا التوقّع يشبه بتقابلهما لأنفسهما ؛ فإنّ الحقيقي منهما ما يكون في العدمي شأنية الوجود ، كالكوسجية والالتحاء ، والتوقّع شبيه الشأنية .

تنبيه : الميزان في الاتّصاف بالصحّة والفساد

ليس كلّ عنوان يوجد في الخارج - وقد يترتّب عليه أثر وقد لا يترتّب - يتّصف بالصحّة والفساد ؛ كما أنّ الملاقي للنجس قد يترتّب عليه أثر وهو النجاسة ، وقد لا يترتّب كماء الاستنجاء ، لكن لا يقال للأوّل : إنّه صحيح ، وللثاني : إنّه فاسد ، وأنّ القتل قد يترتّب عليه أثر وهو القِصاص ، وقد لا يترتّب كقتل الأب ابنه ، ولا يتّصف بالصحّة والفساد .

بل الميزان في الاتّصاف بهما : أنّ كلّ ما يوجده العقلاء بما هم عقلاء أو المتشرّعة بما هم كذلك ؛ بترقّب حصول أثر أو آثار منه ، ويترتّب عليه ذاك الأثر تارة ، ولا يترتّب عليه اُخرى ، يقال : إنّه صحيح أو فاسد ، كالمعاملات ؛ فإنّ العقلاء إنّما يقدمون على إيجادها لأجل ترتّب الأثر عليها ، فإذا وجدت في

ص: 209

الخارج بحيث تكون مناشئ لتلك الآثار يقال : إنّها صحيحة ، وإلاّ يقال : إنّها فاسدة ، وكالعبادات ، فإنّ المكلّفين يأتون بها لأجل ترقّب ترتّب الآثار عليها ، فإذا وجدت كذلك يقال : إنّها صحيحة ، وإلاّ يقال : إنّها فاسدة .

بيان مسلكين في إثبات دلالة النهي على الفساد

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ للقوم مسلكين في إثبات دلالة النهي على الفساد :

أحدهما : من جهة ظهور النواهي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات في الإرشاد إلى الفساد .

وتقريره : أنّ العناوين على قسمين :

أحدهما : ما تكون مطلوبة لنفسها .

وثانيهما : ما تكون مطلوبة لا لنفسها ، بل لآثار مترتّبة عليها ، وتكون نفس تلك العناوين آلة - أو كآلة - لتحصيل تلك الآثار .

فعلى الثاني : قد يكون الموجِد لتلك العناوين يعلم كيفية إيجادها ؛ بحيث يترتّب عليها الآثار ، وقد لا يعلم .

وعلى الثاني إن رجع إلى العالم بكيفية ترتّب الآثار عليها ، فأمر بإتيانها بكيفية خاصّة ، أو نهى عنه كذلك ، يكون أمره ظاهراً في أنّ الكيفية الكذائية دخيلة في حصول هذا العنوان وترتّب الأثر عليه ، ونهيه ظاهراً في أنّ الكيفية الكذائية مانعة عن حصول العنوان الكذائي بحيث يترتّب عليه الأثر . كلّ ذلك لأنّ الإتيان بتلك العناوين ممّا كان لترقّب الآثار ، لا لكونها اُموراً مطلوبة لنفسها . فإذا أمر العالم بالواقعيات بالصلاة مع الطهور أو إلى القبلة ، أو نهى عن لبس الحرير فيها ، يكون ذلك ظاهراً في الإرشاد إلى أنّ تلك الحقيقة المترقّبة منها

ص: 210

الآثار ، لا تترتّب عليها الآثار إلاّ مع الطهور وإلى القبلة ، وذاك إلى عدم ترتّب الآثار المرغوبة عليها مع لبس الحرير .

وأوضح من العبادات في ذلك ، المعاملات ؛ فإنّها آلات صِرفة لحصول مسبّباتها ، ولا تكون منظوراً إليها لنفسها أصلاً ، فالأوامر والنواهي المتعلّقة بها من العالم بكيفية ترتّب الآثار عليها ، تكون ظاهرة في الإرشاد بلا إشكال .

والمسلك الثاني : من ناحية منافاة المبغوضية مع الصحّة ، وكون النهي لدلالته على التحريم منافٍ لها عقلاً .

ولا يخفى : أنّ المسلكين مختلفان ؛ من جهة أنّ الأوّل يثبت المطلوب بواسطة الدلالة اللفظية ، فلا بدّ وأن يكون في البين نهي لفظي متعلّق بها . وفي الثاني يثبت من جهة الدلالة العقلية ؛ سواء ثبتت الحرمة بدليل لفظي أو لبّي .

وأيضاً يفترقان من حيث إنّ ظهور النهي في الإرشاد يعمّ العبادات والمعاملات مطلقاً ، بخلاف منافاة الحرمة مع الصحّة عقلاً ، فإنّها تختصّ بالعبادات بالمعنى الأخصّ - أي ما يشترط فيها قصد التقرّب - وأمّا في غيرها فلا منافاة بينهما ، إلاّ على بعض التقريرات الآتية .

وبالجملة : المسلكان مختلفان من حيث الموضوع ، والدالّ ، وكيفية الدلالة .

تتميم : أقسام النهي المتعلّق بالمعاملات

قد قسّم العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه النهي المتعلّق بالمعاملات إلى أقسام ، وزاد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه قسماً آخر، وأمّا في العبادات فلم يذكرا إلاّ قسماً واحداً(1).

ص: 211


1- مطارح الأنظار 1 : 749 ؛ كفاية الاُصول : 224 - 226 .

ومحصّل ما أفاد المحقّق الخراساني - بتوضيح منّا - : أنّ النهي الدالّ على الحرمة المتعلّق بالمعاملات على وجوه :

أحدها : أن يتعلّق بنفس المعاملة بما هي فعل مباشري - أي يكون صدور الإيجاب والقبول محرّماً - كالبيع وقت النداء .

ثانيهما : أن يتعلّق بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب ، كبيع المصحف من كافرٍ .

ثالثها : أن يتعلّق النهي من جهة التسبّب بها إلى الأثر وإن لم يكن الأثر والمؤثّر - بما هما - حرامين ، ويمكن أن يكون الظِّهار من هذا القبيل ؛ فإنّ نفس التلفّظ بصيغة الظِّهار ليس بحرامٍ ، وفراق الزوجة أيضاً ليس بمبغوضٍ ، بل التوصّل إلى الفراق بهذه الطريقة حرام .

وتعلّق النهي بالوجوه الثلاثة لا يدلّ على الفساد .

رابعها : أن تكون الحرمة متعلّقة بما لا يكاد يحرم مع صحّة المعاملة ، مثل النهي عن أكل الثمن والمثمن في بيعٍ أو بيع شيء ، فإنّ حرمته تدلّ على الفساد .

خامسها : أن يكون النهي إرشاداً إلى الفساد ، كالأمر الإرشادي من دون الدلالة على الحرمة والوجوب ، ولا يبعد ظهور النواهي المتعلّقة بها فيه ، لكن في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات ، لا بالمعنى الأعمّ(1) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ النهي عن نفس المعاملة بما هي فعل مباشري - أي بما هي ألفاظ صادرة من المتكلّم - لا معنى له ؛ فإنّها بهذا المعنى ليست لها نفسية ، ولا تتعلّق بها المحبوبية والمبغوضية عند العقلاء ، ولا أظنّ أن يكون في

ص: 212


1- كفاية الاُصول : 225 - 226 .

الشريعة المطهّرة نهي متعلّق بها من هذه الحيثية .

والنهي عن البيع وقت النداء ليس عن التلفّظ به ، بل هو نهي عن الاشتغال بغير ذكر اللّه ؛ إرشاداً إلى حضور الجمعة ، ولمّا كان اشتغال الناس نوعاً بالمعاملات والنقل والانتقالات ، تعلّق النهي بما هو مانع نوعي عن حضورهم إلى الجمعة ، ومعلوم أنّ المعاملات المتعارفة بينهم إنّما هي حقائقها لا ألفاظها .

مضافاً إلى أنّ النهي عن البيع وقت النداء لم يكن تحريمياً ، بل هو نهي غيري ، وإرشاد إلى الاشتغال بذكر اللّه ، وعدم الاشتغال بغيره في هذا الوقت .

وثانياً : ما أفاد - من عدم دلالة النهي على الفساد في القسم الثالث - ليس على ما ينبغي لإمكان دعوى دلالته عليه فيه ؛ لأنّ التسبّب بمعاملة إلى حصول أثرها إذا كان مبغوضاً ، لا يمكن أن تكون المعاملة ممضاة من الشارع ، وعدم إمضائها يدلّ على عدم ترتّب الأثر عليها عنده ، وهذا معنى الفساد .

وثالثاً : أنّ ما أفاد من أنّ النهي يكون ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد في خصوص العقود والإيقاعات ، لا المعاملات بالمعنى الأعمّ ، مخدوش ؛ لأنّ الإرشاد إلى الفساد ، يعمّ المعاملات بالمعنى الأعمّ بالتقريب الذي ذكرنا في المعاملات بالمعنى الأخصّ ؛ فإنّ النهي إذا تعلّق بغسل الثوب بنحو خاصّ - كغسله بالماء المضاف من عالم بكيفية ترتّب الأثر المتوقّع من الغسل - إنّما يدلّ على الإرشاد إلى عدم حصوله معه ، كما ذكرنا سابقاً(1) .

ص: 213


1- تقدّم في الصفحة 210 .

تذنيب : الاستدلال على الفساد بفهم العلماء

قد يستدلّ على دلالة النهي على الفساد بأنّ علماء الأعصار لا يزالون يتمسّكون بالنهي على الفساد ، وذلك يكشف عن كون النهي يدلّ عليه شرعاً(1) .

أقول : لا إشكال في تمسّكهم بذلك عليه ، كما لا إشكال في أنّ المفهوم من النواهي أيضاً ذلك ، كما لا إشكال في عدم الوضع الشرعي فيها ، وأنّ تمسّك العلماء بها للفساد إنّما هو بما هم أهل اللسان لا بما هم أهل الشريعة ، كلّ ذلك واضح لا ينبغي الإشكال فيه .

إنّما الإشكال في سرّ استفادة الفساد منها ، ويمكن أن يكون السرّ فيها اُموراً :

الأوّل : ما ذكرنا آنفاً(2) من أنّ المعاملات لمّا كانت آلات إلى حصول آثار متوقّعة عند العقلاء ، فإذا تعلّق نهي - من عالم بترتّب الآثار وعدم ترتّبها - بمعاملة أو معاملة شيء أو كيفية منها ، يفهم منه عرفاً أنّ النهي لم يكن عن الآلة بما هي أمر مستقلّ ؛ إذ لا استقلال لها في نظر العقلاء ، وليست منظوراً إليها ، بل إنّما تعلّق بها بما أ نّها منشأ للآثار ، ومتوقّع منها آثار مخصوصة ، فإذن يكون النهي إرشاداً إلى عدم حصول الأثر المتوقّع منها ، وهو مساوق للفساد .

الثاني : أنّ النهي دالّ على مبغوضية حصول المسبّب أو التسبّب ، ومع مبغوضيتهما لا يمكن إمضاء المعاملة ، وعدم الإمضاء مساوق للفساد .

ص: 214


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 184 و187 - 190 ؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 209 - 210 .
2- تقدّم في الصفحة 211 .

الثالث : - وهو المعوّل عليه - أ نّه لا إشكال في أنّ ألفاظ المعاملات - بما هي ألفاظ - لا تكون منظوراً إليها عند العقلاء وليست لها شأنية إلاّ الآلية الصرفة لتحقّق مسبّباتها كما أنّ حصول المسبّبات - بما أ نّها اُمور اعتبارية عند العقلاء ، كالملكية والزوجية وأمثالهما - أيضاً ليست لها مطلوبية عندهم ، وإنّما غرضهم منها حصول الآثار وترتّبها عليها ؛ من أكل الثمن والمثمن ، والسلطنة عليهما ، والتصرّف فيهما بما هو موافق لأغراضهم .

فالنواهي إذا تعلّقت بالمعاملات ، لا يكون تعلّقها بالآلة بما أ نّها لفظ معتمد على مخرج الفم ، ولا بالمعنى الاعتباري الصرف بما أ نّه أمر اعتباري عند العقلاء ؛ ضرورة عدم مفسدة ومصلحة في هذه الاُمور الاعتبارية ، وإنّما تنصرف النواهي إلى ترتيب الآثار التي تتوقّع منها ، فإذا نهى عن البيع الربوي ، لا يكون النهي عن لفظ «بعتُ» و«اشتريتُ» ، ولا عن حصول الملكية الاعتبارية بما أ نّها أمر اعتباري عند العقلاء ، بل إنّما يكون النهي عن ترتيب الآثار المطلوبة من المعاملات ؛ من أكل الثمن والمثمن ، والتصرّف فيهما كتصرّف المُلاّك في أملاكهم ، فإذن تكون النواهي دائماً متعلّقة بالمعاملات على نحوٍ يترتّب عليها الآثار ، ولا إشكال في أنّ المعاملة إذا كانت صحيحة لا معنى لتعلّق النهي بآثارها ، فالنهي عنها ملازم للفساد .

تتمّة : في الاستدلال بالروايات

ربّما يستدلّ على الفساد بروايات :

منها : ما رواه في الكافي عن زرارة ؛ حيث دلّ على أنّ النكاح لو كان ممّا

ص: 215

حرّمه اللّه ، وكان فيه عصيان اللّه ، كان فاسداً(1) ، فيدلّ على أنّ المعاملة المحرّمة فاسدة(2) .

هذا ، لكن الظاهر أنّ المراد بالروايات أنّ العبد وإن كان عاصياً بالنسبة إلى السيّد ، ويكون عصيانه للسيّد عصياناً للّه تعالى ؛ من جهة أنّ اللّه أمره أن يطيع سيّده، ولا يخرج عن طاعته، لكنّه لم يأت بالنكاح الذي يكون بعنوانه من الأنكحة المحرّمة ، كنكاح المحارم المذكورة في الكتاب الإلهي(3) كما تشير إلى ما ذكرنا رواية موسى بن بكير عن زرارة ؛ حيث قال فيها : «إنّما أتى شيئاً حلالاً ، وليس بعاصٍ للّه ، إنّما عصى سيّده ، ولم يعصِ اللّه ؛ إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه ؛ من نكاحٍ في عدّة وأشباهه» ، فإنّ التمثيل بالنكاح في العدّة ، يدلّ على أنّ علّة عدم الفساد إنّما هو عدم كونه من العناوين المحرّمة ذاتاً ، كنكاح الاُمّ ومثله .

ختام : في دعوى دلالة النهي على الصحّة

حكي عن أبي حنيفة أنّ النهي يدلّ على الصحّة(4) .

ويمكن تقرير كلامه : بأنّ الصحّة من كلّ عنوانٍ عبارة عن التامّ منه ؛ بحيث يكون ما وجد في الخارج ، ويكون متوقّعاً منه أن يكون مصداق ذلك

ص: 216


1- الكافي 5 : 478 / 2 و3 ؛ وسائل الشيعة 21 : 114 ، كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، الباب 24 ، الحديث 1 و2 .
2- الوافية في اُصول الفقه : 105 - 106 .
3- النساء (4) : 23 .
4- اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 2 : 456 ؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 211 - 212 .

العنوان ، يكون جامعاً لجميع الخصوصيات المعتبرة في ذلك العنوان ؛ بحيث يصدق عليه العنوان .

فالصحّة أو الفساد لا يمكن أن يكون وصفاً لذات العنوان ؛ لأنّ كلّ عنوانٍ لا يكون إلاّ نفسه ، فطبيعة الصلاة لا تنقسم إلى الصحيح والفاسد ؛ للزوم انقسام الشيء إلى نفسه وغيره ، بل ما يتّصف بهما إنّما هو الموجود الخارجي الذي يتوقّع منه كونه مصداقاً للعنوان ، فإن كان جامعاً للخصوصيات المعتبرة في العنوان يكون صحيحَ ذلك العنوان ، وإلاّ يكون فاسدَه ، فإذن إذا تعلّق نهي تحريمي بمعاملة أو عبادة ، دلّ النهي على أنّ تحقّق هذا العنوان في الخارج يكون مبغوضاً ، وأنّ المكلّف قادر على إيجاد مصداقه في الخارج بجميع الخصوصيات المعتبرة فيه ؛ لأنّ النهي لا يمكن أن يتعلّق بغير المقدور ، فإذا حرم على الحائض الصلاة أيّام حيضها ، يكون لا محالة إيجاد المصداق الجامع لجميع الخصوصيات مقدوراً لها ، والفرض أنّ الصحّة من كلّ عنوانٍ عبارة عن ذلك ، وهذا معنى دلالة النهي على الصحّة . هذا .

وفيه : أ نّه مغالطة وخلط ؛ فإنّ المقصود من دلالة النهي على الصحّة في العبادات إن كان أنّ عنوان هذا المفهوم يمكن أن يوجد في الخارج ولو لم يتقيّد بقصد التقرّب ، فهذا أمر ممكن ، لكنّه ليس مورداً لبحث الأعلام .

وإن كان المقصود أنّ العبادة مع تعلّق النهي بها - أي بذاتها وعنوانها - يمكن أن تتحقّق في الخارج مع تعلّق النهي بها ، فهذا أمر غير معقولٍ ؛ لأنّ تعلّق النهي بما يتعلّق به الأمر فعلاً من جهة واحدة محال ، والتقرّب بما يكون منهيّاً عنه مستحيل . وما يكون مورداً للنقض والإبرام هو هذا الشقّ ، لا الأوّل .

ص: 217

ص: 218

المقصد الثالث: في المفاهيم

في المفاهيم

ص: 219

ص: 220

مقدّمة

مقدّمة

في كيفية الدلالة على المفهوم

في معنى المفهوم عند القدماء والمتأخّرين

الظاهر أنّ المفهوم من صفات المدلول بما هو مدلول ؛ بمعنى أنّ دلالة اللفظ قد تكون بحيثية وخصوصية يكون المدلول بهذه الدلالة منطوقاً ، وقد تكون بحيثية وخصوصية يكون المدلول بها مفهوماً ، فهما من صفات المدلول ، لكن بواسطة الدلالة .

وقد وقع النقض والإبرام في تعريفهما :

فعن المشهور : أنّ المنطوق ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم ما دلّ عليه لا في محلّه(1) .

ويظهر من العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه : أنّ ما يكون دلالة اللفظ عليه بمثل «لا غير» كمفهوم المخالفة ، أو بمثل الترقّي من الداني إلى العالي كمفهوم الموافقة ، مثل

ص: 221


1- قوانين الاُصول 1 : 167 / السطر 21 ؛ الفصول الغروية : 145 / السطر 20 ؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 306 .

)فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ((1) فهو مفهوم اصطلاحاً وما ليس كذلك لايقال له المفهوم(2) .

ولكنّه قدّس سرّه اعترف : بأنّ الخصوصية التي لأجلها يقال : إنّه مفهوم أو منطوق ، غير معلومة ، وما ذكرنا أيضاً إحالة على المجهول(3) .

وقيل : إنّ دلالة اللفظ على تمام ما وضع له منطوق ، ودلالته على جزئه أيضاً منطوق على إشكالٍ ؛ فإنّه يمكن أن يكون مفهوماً ؛ لأنّه مدلول بتبع الدلالة على التمام ، ودلالته على الخارج اللازم مفهوم(4) .

أقول : قد استقرّ اصطلاح أهل الميزان(5) على تقسيم الدلالات بالنسبة إلى المفردات ، فعندهم: دلالة اللفظ المفرد على تمام ما وضع له مطابقة ولو سمع اللفظ من غير شاعرٍ مريد .

فما فهم من اللفظ المفرد ودلّ على تمام الموضوع له هو المدلول المطابقي ، ولا محالة له دلالة على جزئه بنحو دلالة التضمّن ، وإن أشكل بعض الاُصوليين في دلالة التضمّن : بأ نّه قد تكون الدلالة على تمام ما وضع له من دون أن تكون على جزئه ؛ لكونه مغفولاً عنه ، نعم ، الدلالة التفصيلية على تمام ما وضع له متضمّنة للدلالة على جزئه ، لكن الدلالة على الجزء مقدّمة على الدلالة على التمام .

ص: 222


1- الإسراء (17) : 23 .
2- مطارح الأنظار 2 : 16 .
3- مطارح الأنظار 2 : 18 .
4- راجع ما سيأتي في الصفحة 224 .
5- الجوهر النضيد : 8 ؛ شرح المطالع : 28 / السطر 18 ؛ شرح الشمسية : 19 - 22 .

هذا ، والدلالة على الخارج اللازم دلالة الالتزام ، وشرطها اللزوم الذهني لا الخارجي ، فقد يكون شيء لازماً لشيءٍ في الذهن ، ومنافياً له في الخارج ، كدلالة الأعمى على البصر .

واللازم : قد يكون لزومه بيِّناً ، وقد لا يكون كذلك .

والبيِّن : قد يكون بيّناً بالمعنى الأخصّ ، وهو الذي يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم ، ويستحيل انفكاكه عنه ذهناً ، وقد يكون بالمعنى الأعمّ ، وهو الذي يلزم من تصوّره وتصوّر ملزومه والنسبة بينهما ، الجزم باللزوم ؛ أي يكون بعد تلك التصوّرات بيّناً غير محتاجٍ إلى تجشّم الاستدلال عليه .

وغير البيّن من كلّ قسم ما يقابله .

وأمّا الاُصوليون فيقسّمون الدلالات باعتبار دلالة الكلام ، لا بمعنى أنّ للكلام وضعاً غير وضع المفردات ، ودلالة غير دلالتها ، بل بمعنى أنّ ما فهم من قوله : «زيد قائم» - ولو بدلالة «زيد» على الذات و«قائم» على الوضع الخاصّ ، والهيئة على اتّحاد المحمول اللا بشرط مع الموضوع خارجاً - يسمّى بدلالة المطابقة ، ولا محالة يدلّ على جزء المعنى ، فيدلّ القيام باعتبار كونه من مقولة الوضع ؛ بمعنى تمام المقولة ، على الهيئة الحاصلة من النسبتين ؛ نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض ، ونسبة المجموع إلى الخارج ، فيدلّ على الوضع ؛ بمعنى جزء المقولة ، بدلالة التضمّن . وإن دلّ على أمرٍ لازم له في الخارج تكون تلك دلالة الالتزام .

فالدلالة الالتزامية في اصطلاحهم هي الدلالة على اللازم الذي يمكن الاحتجاج به ؛ فإنّ نظرهم في تقسيم الدلالات إلى ما يحتجّ به على المتكلّم وله ،

ص: 223

والدلالات الثلاثة - بالمعنى الذي ذكرنا - يمكن الاحتجاج بها عليه وله ، فإذا قال المتكلّم : «إنّ الشمس طالعة» كما يمكن الاحتجاج عليه بإخباره بطلوع الشمس ، كذلك يمكن الاحتجاج عليه بإخباره بوجود النهار ، اللازم خارجاً لطلوع الشمس ، ويكون إخباره بوجود النهار بعين إخباره بطلوع الشمس . وهذه الدلالات الثلاثة دلالات لفظية في محلّ النطق ، وتكون حجّة بلا إشكال ، والقدماء من القوم أيضاً يعدّون هذه الدلالات دلالات لفظية ، ودلالة المفهوم عندهم أمر خارج عنها ، وهي الدلالة لا في محلّ النطق ، وهي نحو دلالة تفهم من اللفظ ، لكن لا يمكن الاحتجاج على المتكلّم بأ نّه نطق بها ، فإذا قال المتكلّم : «إن جاءك زيد فأكرمه» يفهم منه أ نّه إذا لم يتحقّق المجيء لا يجب الإكرام ، لكن لا يجوز أن يحتجّ على المتكلّم بأ نّك قلت : إذا لم يتحقّق المجيء لا يجب الإكرام ، وإذا قيل له : لِمَ قيّدتَ كلامك بالمجيء ؟ له أن يعتذر بأعذارٍ .

وبالجملة : إنّ دلالة المفهوم خارجة عن الدلالات الثلاث التي هي في محلّ النطق .

لكنّ المتأخّرين لمّا لم يتأمّلوا في كلام القدماء حقّ التأمّل ، وظنّوا أنّ دلالة المفهوم من قبيل دلالة الالتزام ؛ أي ما يكون لازم المعنى خارجاً ، وقعوا في حيصَ بيصَ في توجيه المفاهيم ، فقالوا : إنّ أداة الشرط تدلّ على العلّية المنحصرة(1) ، والوصف المعتمد يشعر بالعلّية(2) ، وتجاوزوا عن الإشعار إلى

ص: 224


1- اُنظر الفصول الغروية : 148 / السطر 1 .
2- قوانين الاُصول 1 : 181 / السطر 6 ؛ الفصول الغروية : 152 / السطر 31 ؛ مطارح الأنظار 2 : 85 .

الدلالة ، وعنها إلى الدلالة المنحصرة .

وهكذا وقعوا في حيصَ بيصَ آخر ؛ حيث نظروا في كلام القدماء [فوجدوهم ]يقولون : إنّ المفهوم الكذائي هل هو حجّة أم لا ؟ مع أنّ الدلالة الالتزامية حجّة بلا إشكال ، فأوّلوا كلامهم بأنّ المقصود أنّ المفهوم ثابت أو لا ؟

وإلاّ فمع ثبوته فهو حجّة بلا إشكال ، فالنزاع صغروي ، لا كبروي(1) .

كلّ ذلك للاختلاط الواقع منهم ؛ لأجل قلّة التتبّع في كلام القوم ، وما يظهر للمتأمّل فيه بعد التتبّع أنّ دلالة المفهوم عندهم دلالة اُخرى خارجة عن الدلالات اللفظية ، ومع كون الكلام ذا مفهوم بهذا المعنى - أي لا في محلّ النطق - وقع البحث بينهم في أنّ هذه الدلالة هل هي حجّة ، ويمكن الاستدلال عليها والاحتجاج بها أم لا ؟ فالنزاع كان بينهم كبروياً لا صغروياً .

والشاهد عليه - بعد ظهور كلماتهم - كيفية استدلالاتهم للحجّية في المفاهيم ؛ لأنّ مدار احتجاجهم على لزوم لغوية القيد الزائد ، فإذا وجب إكرام زيد مطلقاً يكون إيراد قيد المجيء لغواً ، وإذا وجب التبيّن عن كلام المخبر مطلقاً ، فلماذا التوصيف بالفسق ؟ إلى غير ذلك .

وأمّا المتأخّرون فاستدلّوا عليه بدلالة الأدوات على العلّية المنحصرة ، مع أ نّه لا وجه لها أصلاً .

وممّا ذكرنا - من أنّ مدار استدلال القوم في باب المفاهيم مطلقاً هو إيراد المتكلّم القيد الزائد في الكلام ، وهو يدلّ على أنّ الحكم لمورد القيد ، وعند فقده

ص: 225


1- هداية المسترشدين 2 : 420 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 478 .

ينتفي الحكم - يظهر [سرّ] ما أفاد عَلَم الهدى السيّد الشريف المرتضى رحمه الله علیه من ردّ استدلالهم ، بالتمسّك بقوله تعالى : «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ...»(1) إلى آخره ، فإنّه يمنع عن قبول الشاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه شاهد آخر ، ثمّ علمنا أنّ انضمام امرأتين إلى الشاهد الأوّل ، قائم مقام الرجل الواحد ، ثمّ علمنا أنّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً(2) .

فأشكل عليه رحمه الله علیه بوجوه كثيرة(3) ، وربّما يقال : إنّ ما صدر منه في الردّ على المفهوم لا ينبغي أن يصدر من أصاغر الطلبة ، فضلاً من مثله ؛ فإنّ الآية الشريفة غير مربوطة بباب المفاهيم .

لكن بما ذكرنا يظهر وجهه ؛ فإنّ ما يستدلّ به للمفهوم - في جميع المفاهيم - شيء واحد ، هو مدار الاستدلال عند القدماء ، والوجه الفريد الذي كانوا يعتمدون عليه ؛ وهو أنّ إيراد القيد الزائد لو لم يكن لإفادة المفهوم ، كان لغواً لا يصدر من الحكيم . ولقد أجاب السيّد رحمه الله علیه بما أفاد عن هذا الاستدلال : بأنّ القيد قد يجيء لا لإفادة المفهوم ، بل لأمرٍ آخر ، كما في الآية الشريفة .

ثمّ اعلم : أنّ الكلام في المفاهيم إنّما يكون في قسميه - أي مفهوم الموافقة والمخالفة كليهما - ومدار الكلام فيهما إنّما هو في القيود الزائدة في الكلام ، لكن البحث في مفهوم الموافقة في أنّ بعض القيود لا يفهم منه القيدية لدى العرف ، ويكون موضوع الحكم نفس الذات من دون تقيّدها بالقيد ، كما في قوله : «رجل

ص: 226


1- البقرة 2 : 282 .
2- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 406 .
3- اُنظر معالم الدين : 78 ؛ مطارح الأنظار 2 : 31 .

شكّ في صلاته بين الاثنين والثلاث»(1) ، فإنّ الموضوع في نظر العرف هو المصلّي الشاكّ من غير دخالة للرجولية فيه ، فالقيود إذا كانت بنظر العرف ملغاة غير دخيلة في الحكم ، وكان الحكم بنظرهم ثابتاً لغير مورد القيد ، كان ذلك من مفهوم الموافقة ؛ سواء كانت نسبة المنطوق إلى المفهوم هي الأولوية ، كقوله تعالى : «فَلا تَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ»(2) ، أو لا كالمثال المتقدّم ، والقدماء جعلوا القول بالمفهوم فيما إذا كانت النسبة هي الأولوية ، قولاً بالتفصيل في المسألة ، لا أنّ البحث في المفهوم مختصّ بها .

وبالجملة : إنّ موضوع البحث في المفاهيم أعمّ من المفهوم الموافق والمخالف ، وفي الأوّل أعمّ ممّا يكون بالأولوية أو لا ، والجامع بين المفهومين في البحث هو القيد الزائد ، وإن كان القيد في مفهوم المخالفة على طبق القاعدة - أي كونه للاحتراز والقيدية - وفي الموافقة على غير القاعدة أي الإتيان به إنّما هو من جهة كونه أحد الأفراد ، ويكون القيد ملغىً بنظر العرف .

ومفهوم الموافقة عند القدماء هو الذي يعبِّر عنه المتأخّرون ب- «إلغاء الخصوصية» ، وهو غير تنقيح المناط ؛ فإنّ الثاني أمر عقلي ، والأوّل من المداليل العرفية .

ص: 227


1- راجع وسائل الشيعة 8 : 214 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 9 .
2- الإسراء (17) : 23 .

رجع : في كيفية دلالة الكلام على المفهوم

قد أشرنا(1) إلى أنّ المفهوم ليس من المداليل اللفظية ؛ أي المطابقة والتضمّن والالتزام ، بل المداليل المذكورة من المنطوق ولو مع الواسطة وبالتبعية ، فلا بدّ من بيان كيفية دلالة الكلام عليه ، وأنّ المفهوم من أيّة خصوصية من خصوصيات الكلام يستفاد .

التحقيق أن يقال : إنّ الأصل العقلائي في الكلام الصادر من المتكلّم - بما أ نّ-ه فعل من أفعاله الاختيارية - الحمل على أ نّه صدر لأجل فائدة وغرضٍ ، ولم يصدر منه لغواً باطلاً ، وهذا الأصل ليس مختصّاً بالكلام ، بل هو جارٍ في كلّ فعل من أفعاله الاختيارية ، فإذا شككنا في أنّ تكلّمه الكذائي صدر منه لغواً ، أو لأجل غايةٍ وغرضٍ ، حمل على كونه ذا غاية وغرضٍ ، ثمّ لو شككنا في أنّ غرضه فيه هل هو التفهيم أم شيء آخر غيره من الأغراض ؟ يحمل على الأوّل ؛ وذلك أيضاً لأصل عقلائي ؛ فإنّ الكلام آلة للتفهيم ، فاستعماله لأجل غايات نادرة خلاف الأصل العقلائي .

ثمّ لو شككنا في أنّ غرضه هو تفهيم المعنى الحقيقي أو غيره ، يحمل على الأوّل ؛ لأصالة الحقيقة التي هي أصل عقلائي آخر ، ولا تصل النوبة إلى أصالة الحقيقة إلاّ بعد الأصلين السابقين .

ثمّ اعلم : أ نّه كما في أصل صدور الكلام يجري الاُصول العقلائية ، كذلك في الخصوصيات الزائدة فيه ، فإذا شككنا في قيدٍ في كلامه أ نّه أتى به لغواً أو

ص: 228


1- تقدّم في الصفحة 223 .

لغرضٍ ، يحمل على الثاني . ولو شككنا في أ نّه للتفهيم أو لا ، يحمل على الأوّل . فالبناء العقلائي في القيود الزائدة في الكلام على الحمل على غرض التفهيم ، وما تكون القيود آلة لتفهيمه هو دخالتها في الموضوع ، إن كان الموضوع مقيّداً بها مثلاً ، وهذا ليس من قبيل دلالة اللفظ على المعنى الذي وضع له ، أو على جزئه أو خارجه ، بل هو خارج عنها ، وإنّما هو من قبيل دلالة الفعل الاختياري الصادر من الإنسان على شيءٍ بحسب الأصل العقلائي ، لا الوضع ؛ لكون المتكلّم ممّن صدر منه الكلام لأجل غرضٍ ، لا لمحض اللغوية ، وليس من الدلالات الثلاث . وكذا دلالة الكلام على كونه بصدد التفهيم ليست منها .

فدلالة القيد على دخالته في الموضوع أو الحكم بالأصل العقلائي لا بها ، فأداة الشرط والأوصاف المعتمِدة على موصوفها ، لا تكون دلالتها على دخالتها في الموضوع أو الحكم بالوضع ؛ حتّى تكون من سنخ الدلالات ، بل بالأصل العقلائي بما هي أفعال اختيارية ، وبما هي ألفاظ وآلات للتفهيم .

وبما ذكرنا يتّضح أمر آخر : وهو أنّ القضايا المشروطة قد يكون سوقها لأجل إفادة كون المشروط علّة للجزاء ، وقد يكون لأجل إفادة أنّ الجزاء ثابت للمشروط بهذا الشرط .

فالأوّل : كقول الطبيب : «إن شربت السقمونيا فيسهل الصفراء» .

والثاني : كقوله علیه السلام : «إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لا ينجّسه شيء»(1) .

ص: 229


1- راجع وسائل الشيعة 1 : 158 و 159 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب9 ،الحديث 1 و 2 و 6 .

فإن سيقت لإفادة العلّية فلا مفهوم لها ؛ لأنّ المتكلّم لم يأتِ في كلامه بقيد زائد ، بل أفاد أنّ «السقمونيا» مثلاً علّة لإسهال الصفراء .

وبالجملة : كلّما كان إتيان الشرط لإفادة علّيته للجزاء ، ولا يكون فيه قيد زائد ، لا يكون له مفهوم .

وإن سيقت على النحو الثاني ، يكون لها مفهوم إن تمّ ما ذكر من أنّ القيود الزائدة في الكلام تفيد دخالتها على نحوٍ ينتفي الحكم عند انتفائها .

إبانة : في أنّ مجرّد التقييد لا يدلّ على المفهوم

اعلم أ نّه بعد ما ذكرنا(1) - من أنّ مدار حجّية المفهوم عند القدماء في جميع المفاهيم شرطاً أو غيره على وجود القيد ، وأنّ الظاهر من إتيان القيد في الكلام دخالته في الموضوع أو الحكم - لا بدّ وأن يعلم أنّ غاية ما يقتضيه إتيان القيد أنّ الذات المجرّدة عن القيد لا تكون تمام الموضوع للحكم ، ويكون تمام الموضوع له هو المقيّد بما هو مقيّد ، وإلاّ يكون إتيان القيد لغواً مخالفاً للأصل العقلائي ، وأمّا عدم كون الموضوع مع قيدٍ آخر نائباً مناب هذا القيد في تمامية الموضوع للحكم ؛ فلا دلالة للقيد عليه ، ولا يكون مقتضى التقيّد بشيء عدم كون قيدٍ آخر نائباً عنه في الدخالة في الموضوع .

مثلاً : إذا سئل الإمام علیه السلام عن غدير ماء تَلِغ فيه الكلاب ، فقال : «إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لا ينجّسه شيء»(2) يدلّ ذلك على أنّ تمام الموضوع لعدم التنجّس ،

ص: 230


1- تقدّم في الصفحة 225 .
2- تقدّم في الصفحة 229 .

ليس الماء المجرّد عن بلوغ الكرّية ، وإلاّ يكون إتيان القيد لغواً ، وإنّما تمام الموضوع هو ذات الماء مع قيد الكرّية ، لكن لا يدلّ ذلك على أنّ الماء - مع وصفٍ آخر غير الكرّية - لا يكون موضوعاً لعدم التنجّس ؛ حتّى يكون قوله : «الماء الجاري لا ينجّسه شيء»(1) منافياً ومعارضاً له .

نعم ، لو اُحرز أنّ المتكلّم كان بصدد بيان تمام ما له دخل في الموضوع ، واكتفى بذكر قيدٍ أو قيودٍ ، لاستفيد منه المفهوم ، كما لو سئل : «ما هو الماء الذي لا ينجّسه شيء ؟» فقال : «إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء» ، فإنّه بضميمة مسبوقيته بالسؤال يكون ظاهراً في المفهوم ، ولكن مع قيام القرينة يكون للّقب أيضاً مفهوم ، كما لو سئل : «ما المائع الذي لا ينفعل ؟» فقال : «الماء لا ينفعل» ، فإنّ المفهوم عرفاً - مع قيام هذه القرينة - أنّ غير الماء ينفعل .

وممّا ذكرنا يتّضح : أنّ احتجاج عَلَم الهدى رحمه الله علیه على عدم المفهوم احتجاج متين في غاية التحقيق ؛ فإنّ مدار المفهوم - كما عرفت - على لَغوية القيد الزائد ، فأجاب السيّد عن هذا الاستدلال : بأنّ القيد لا يقتضي إلاّ كونه دخيلاً في الموضوع ، ولا يكون الموضوع المجرّد عنه تمام الموضوع ، وأمّا عدم نيابة قيدٍ آخر منابه ، فلا يدلّ عليه التقييد ، واستشهد بقوله تعالى : «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ...»(2) إلى آخره(3) .

ص: 231


1- الجعفريات ، ضمن قرب الإسناد : 11 ؛ مستدرك الوسائل 1 : 190 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 5 ، الحديث 1 .
2- البقرة (2) : 282 .
3- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 406 .

حول تعريفي المحقّقين الخراساني والنائيني للمفهوم

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه قد عرّف المفهوم بأ نّه عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الذي اُريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة(1) .

والظاهر - بقرينة ما أفاد في مفهوم الشرط(2) - أنّ مراده من «الخصوصية» هو انحصار العلّية ، ومن «المعنى» هو ذات المعنى الدالّ على أصل العلّية .

ولكن يرد عليه : أنّ تلك الخصوصية إمّا أن تكون زائدة على المعنى المراد ؛ بحيث لا تكون مرادة ، ولا اللفظ دالاًّ عليها ، وإمّا أن تكون مرادة من اللفظ ، وتكون من خصوصيات المعنى المراد بما أ نّه مراد .

فعلى الأوّل : لا وجه لعدّ لازم مثل تلك الخصوصية من المفاهيم ؛ فإنّ الخصوصية الملزومة إذا لم تكن مرادة فلا يكون اللازم أيضاً مراداً ، فلا وجه لعدّ المفهوم من المداليل ، وأ نّه حكم غير مذكور ، أو حكم لغير مذكور .

مثلاً : لو دلّت القضيّة الشرطية على صِرف علّية الشرط للجزاء ، لكن عرضت العلّية خصوصية الانحصار من غير أن تكون تلك الخصوصية مرادة ، وكان المفهوم لازماً لتلك الخصوصية الغير المرادة ، فلا وجه لعدّ المفهوم اللازم لغير المراد مدلولاً .

وعلى الثاني : تصير الخصوصية جزء المعنى المراد ، ويصير المفهوم لازماً

ص: 232


1- كفاية الاُصول : 230 .
2- كفاية الاُصول : 231 .

للمعنى ، فلا داعي لتعريفه بما ذكر ممّا يخلّ بالمقصود ؛ فإنّ المعنى هو ما اُريد من اللفظ ، فإذا اُريد من اللفظ شيء مع تلك الخصوصية ، يصير الشيء المتخصّص بتلك الخصوصية معنى اللفظ ، لا أنّ المعنى أمر ، والخصوصية أمر آخر ، كما يوهمه التعريف المذكور .

فالأولى تعريفه - على مسلكه - بأنّ المفهوم حكم إنشائي أو إخباري لازم للمعنى المراد من اللفظ .

ولقد تصدّى بعض الأعاظم المتأخّر عنه لتعريف المفهوم بما حاصله : أنّ المفهوم هو اللازم البيِّن بالمعنى الأخصّ ، وأمّا اللازم البيِّن بالمعنى الأعمّ فيكون من الدلالات السياقية ، وينقسم إلى دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة(1) ، انتهى .

ولازمه أن تكون أقسام الدلالات أكثر من دلالة المنطوق والمفهوم ؛ فإنّ دلالة المنطوق بناءً عليه تكون منحصرة بدلالة المطابقة ، ودلالة المفهوم هي دلالة الالتزام ؛ أي الدلالة على اللازم البيِّن بالمعنى الأخصّ ، فدلالة اللفظ على اللازم البيِّن بالمعنى الأعمّ - التي جعلها مَقسماً لدلالة الإشارة واُختيها - تكون خارجة عنهما ، وهنا قسم رابع : وهو الدلالة على اللازم الغير البيِّن في مقابل اللازم البيِّن بالمعنى الأعمّ ؛ أي ما لا يكون نفس تصوّر اللازم والملزوم والنسبة بينهما كافياً في الجزم باللزوم ، بل يحتاج إلى برهانٍ ، مع أنّ القوم حصروا الدلالات بالدلالة المنطوقية والمفهومية .

وقد عرفت أنّ دلالة المطابقة وشقيقتيها من الدلالات المنطوقية(2) . وأمّا دلالة

ص: 233


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 477 .
2- تقدّم في الصفحة 228 .

الإشارة واُختيها فهي أيضاً من الدلالات المنطوقية ؛ فإنّ المنطوق منقسم إلى الصريح وغير الصريح . والثاني إلى ما دلّ عليه اللفظ بدلالة اقتضاءٍ وتنبيهٍ - يقال له : «الإيماء» أيضاً - وإشارة ؛ لأنّ ما يدلّ عليه اللفظ : إن كان غير مقصودٍ للمتكلّم فهو المدلول عليه بدلالة الإشارة ، كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل(1) . وإن كان مقصوداً : فإن كان صدق الكلام أو صحّته يتوقّف عليه ؛ فهو المدلول عليه بدلالة الاقتضاء ، نحو «رُفع عن اُمَّتي.. . الخطأ والنسيان»(2) ونحو )وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ((3) فإنّهما يدلاّن على مقدّرٍ مصحّحٍ للكلام . وإن اقترن بالحكم ما فهم منه العلّية فهو المدلول عليه بدلالة الإيماء والتنبيه كما لو قال السائل : «واقعتُ امرأتي في نهار رمضان» ، فاُجيب : «كفّر» ، فإنّ اقتران قوله بقول السائل ممّا يفهم منه علّية المواقعة للكفّارة ، وهذه كلّها دلالات منطوقية عند القوم .

هذا تمام الكلام في معنى المفهوم ، وقد عرفت التحقيق فيه .

ص: 234


1- البقرة (2) : 233 ؛ الأحقاف (46) : 15 .
2- التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ الخصال : 417 / 9 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .
3- يوسف (12) : 82 .

فصل

في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم

هل الجملة الشرطية تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، كما تدلّ على الثبوت عند الثبوت ، أم لا ؟

أمّا على طريقة القدماء : فقد اتّضح لك بما أشرنا إليه(1) : أنّ غاية ما يدلّ عليه القيد الزائد هو دخالته في ثبوت الحكم ، أمّا عدم قيام قيدٍ آخر مقامه ، فلا يدلّ عليه إلاّ مع قيام القرينة .

وأمّا على طريقة المتأخّرين المتشبّثين بذيل العلّ-ة المنحصرة ، وأنّ المفهوم من الدلالات الالتزامية المدلول عليها في الكلام بواسطة الدلالة على حصر علّية الشرط للجزاء ، فأحسن ما اُفيد في المقام هو ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من تقرير الدلالة على ترتّب الجزاء على الشرط بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة بوجوه :

التبادر .

والانصراف .

ص: 235


1- تقدّم في الصفحة 230 .

وقضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة، كدلالة صيغة الأمر على الوجوب النفسي.

والتمسّك بإطلاق الشرط على الانحصار ؛ ضرورة أ نّه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثّر وحده ، وقضيّة الإطلاق أ نّه مؤثّر مطلقاً كذلك .

والتمسّك بإطلاق الشرط ، بتقريب أنّ مقتضاه تعيّنه ، كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر التعيين لا التخيير(1) .

وهذه وجوه خمسة يمكن التمسّك بها لتقريب المقصود .

ولقد أجاب رحمه الله علیه عنها بما يغني عن الإتعاب(2) ، وإن أصرّ بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه على تتميم الوجه الخامس(3) ، لكنّه لم يأتِ بشيءٍ مقنعٍ ، فراجع.

وهاهنا وجه سادس لإثبات الانحصار ؛ وهو أنّ الشرط إذا كان علّة منحصرة ، يكون مؤثّراً في الجزاء بخصوصيته ، بخلاف ما إذا لم يكن بمنحصر ، فإنّه حينئذٍ يؤثّر بجهة جامعة بينه وبين شريكه ؛ لأنّ الخصوصية المميّزة لا تعقل دخالتها مع عدم الانحصار ، والظاهر من القضيّة الشرطية أنّ الشرط بخصوصيته مؤثّر في الجزاء ، لا بالقدر الجامع بينه وبين غيره .

ولقد أبديت هذا الوجه لدى المحقّق الخراساني رحمه الله علیه فأجاب عنه : أنّ ذلك حكم عقلي بحسب الدقّة العقلية ، مخالف للأنظار العرفية المتّبعة في أمثال المقامات .

بقي اُمور :

ص: 236


1- كفاية الاُصول : 232 - 234 .
2- نفس المصدر .
3- أجود التقريرات 2 : 252 - 253 .

الأمر الأوّل

في عدم المعنى لقولهم «إنّ المفهوم انتفاء سنخ الحكم»

إنّه لا إشكال في أنّ انتفاء شخص الحكم عن الموضوع عقلي ، لا يكون من قبيل المفهوم ، فلا يكون من المفهوم مثل قوله : «أوقفتُ داري على أولادي إن كانوا عدولاً» ، أو «على أولادي العدول» ، وكذا في الوصيّة والنذر ؛ فإنّ مثل هذه العناوين - التي توجد بنفس الإنشاء ، ولا وجود لها غير ما ينشئه المنشئ ، وتكون عناوين شخصية لموضوع خاصّ - لا يكون انتفاؤها عن غير موضوعاتها بدلالة المفهوم ، بل إنّما هو بحكم العقل ، فالوقف على الأولاد العدول لا يمكن أن يكون وقفاً على غيرهم ، وهذا ممّا لا إشكال فيه .

وكذا لا إشكال في أنّ القضايا الإخبارية ممّا يمكن أن تكون حكاية عن عنوانٍ كلّي أو جزئي ، مثل : «إن جاءك زيد فيجب إكرامه» بنحو القضيّة الإخبارية ، تكون دلالتها على الانتفاء بدلالة المفهوم على فرضه .

ومن هذا القبيل القضايا الإنشائية التي تكون إرشاداً إلى الأحكام الإلهية ، كفتاوى الفقهاء ، فإذا قال الفقيه للمستفتي : «إذا شككت بين الأربع والثلاث فابنِ على الأربع ، وصلِّ ركعتين من جلوس ، أو ركعة من قيام» ، تكون هذه القضيّة الإنشائية حكاية عن الحكم الواقعي الإلهي ، ويمكن أن يكون الحكم الكلّي مرتفعاً عند فقدان الشرط ، وتكون دلالتها عليه من قبيل دلالة المفهوم على القول به ، وكذا الأخبار الصادرة عن المعصومين علیهم السلام ؛ فإنّها أيضاً

ص: 237

إرشادات إلى الأحكام الإلهية المنشأة ، وتكون دلالتها على الانتفاء من قبيل المفهوم .

إنّما الإشكال في القضايا الإنشائية التي تكون بصدد إنشاء الأحكام ، كالأوامر الصادرة عن اللّه تعالى معلّقة على الشرط ، وكذا ما صدر عن الموالي العرفية معلّقاً عليه ؛ ممّا تكون آلة لإيجاد الوجوب ، ممّا تكون نحو تحقّقها بنفس الإنشاء ، ويكون إيجادها ووجودها الإنشائي واحداً حقيقة ومختلفاً بالاعتبار ؛ فإنّ الألفاظ المستعملة في المعاني الإنشائية يكون نحو استعمالاتها فيها استعمالاً إيجادياً - كما حُقّق في المعاني الحرفية(1) - فلا وجودَ لها قبل الاستعمال يكون الاستعمال حاكياً عنه ، ففي مثل هذه المعاني يقع الإشكال في أنّ ما علّق على الشرط لا يمكن أن يكون نفس ماهية الفرد ؛ فإنّ الماهيات من حيث هي ليست إلاّ هي ، وليست هي - في مرتبة ذاتها مع قطع النظر عن الوجود - صالحة لحمل شيءٍ عليها إلاّ ذاتياتها ، فلا تصلح لتعلّق شيءٍ عليها ، ولا لتعلّقها على شيءٍ ، والوجود ليس إلاّ أمراً متشخّصاً وجزئياً خارجياً ، والحكم الكلّي وسنخ الحكم لا يكون مذكوراً في القضيّة اللفظية ، ولا يكون معلّقاً على الشرط .

ولا إشكال في أنّ المفهوم قضيّة غير مذكورة ، يكون موضوعها ومحمولها متّحدين مع المذكورة ، كما لا يكون مفهوم «إن جاءك زيد فأكرمه» - ممّا يكون إكرام زيد موضوعه ، والوجوب محموله - قضيّةً مختلفة الموضوع مع القضيّة

ص: 238


1- تقدّم في الصفحة 22 - 25 .

المنطوقة ، مثل : «إن لم يجئك فلا يجب ضربه» ، أو مختلفة المحمول معها ، أو مختلفة الطرفين ؛ كلّ ذلك لأجل لزوم اتّحاد المنطوق والمفهوم في الموضوع والمحمول ، والاختلاف في السلب والإيجاب .

وبالجملة : كلّ ما علّق على الشرط ، ويكون هو علّة منحصرة له ، يكون منتفياً بانتفائه لا غير ، والفرض أنّ ما يصلح للتعليق في القضايا الإنشائية - التي يكون نفس استعمالها في معانيها إيجادها لها ، ويكون مفادها تكاليف جزئية ومعانٍ شخصية - هو هذا المعنى الشخصي والأمر الجزئي ؛ لأنّ الفرد ينحلّ إلى ماهية كلّية ووجود ، والماهية لا تصلح لتعلّقها بالعلّة ، والوجود المعلّق جزئي ، يكون انتفاؤه بانتفاء الشرط عقلياً ، لا من باب المفهوم ، وسنخ الوجوب وكلّيه غير مذكورٍ في القضيّة حتّى ينتفي بانتفائه .

وبما ذكرنا ظهر ما في كلام المحقّق صاحب «الكفاية» ومن تأخّر عنه ممّن عبّر بتعبيره: من أنّ المفهوم انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه ؛ ضرورة انتفائه عقلاً بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده(1) . . . إلى آخره .

فإنّ فيه : - مضافاً إلى أنّ الشرط لا يكون من قيود الموضوع على طريقة المتأخّرين في باب المفهوم ؛ لأنّه علّة منحصرة للجزاء عندهم ، والعلّة متقدّمة تحصّلاً على المعلول ، فلا يكون من قيود الموضوع الذي يكون مع الحكم في التحصّل وإن كان له نحو تقدّمٍ في العقل ، نعم على طريقة القدماء يكون الشرط

ص: 239


1- كفاية الاُصول : 236 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 484 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 196 .

من قيوده كما عرفت(1) - أنّ ما علّق في الكلام ليس إلاّ وجوب إكرام زيدٍ ، وهو أمر شخصي وموجود جزئي ؛ سواء ذكر بنحو القضيّة الإنشائية أو الإخبارية في مقام الإنشاء ، والجزئي غير قابل للكثرة .

نعم ، أصل وجوب الإكرام أو أصل الوجوب كلّي ، لكنّهما غير مذكورين في القضيّة ، وما ذكر جزئي ، فإذا كان الشرط علّة منحصرة لشخص الحكم ينتفي لا محالة بانتفائه .

وأمّا على طريقة القدماء ، فما هو قيد في الكلام يكون قيداً لموضوع الحكم الشخصي المذكور في القضيّة ، ولا محالة مع عدم القيد يكون الحكم منتفياً ، وأمّا انتفاء أمرٍ آخر - غير مذكورٍ في الكلام - فلا معنى له .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أ نّه ليس هناك معنى محصّل لما استقرّت عليه آراء المتأخّرين : من أنّ المفهوم انتفاء سنخ الحكم .

وأمّا ما في تقريرات العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه : من أنّ النزاع ليس في شخص الحكم ، فإنّه ينفد بنفاد الكلام ، وليس له بقاء وثبات(2) .

ففيه : أنّ ما ينفد بنفاد التكلّم هو التلفّظ بالحكم ؛ ضرورة أنّ الكلام غير قارّ الذات ، ولكنّ الحكم المعلّق على الشرط غيره بالضرورة ، وما هو معلّق هو الحكم المُنشأ بهذا الإنشاء والمنتزع منه ، وله بقاء وثبات عند العقلاء وإن كان من الاُمور الاعتبارية .

ص: 240


1- تقدّم في الصفحة 225 .
2- مطارح الأنظار 2 : 37 .

الأمر الثاني

في تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء

إذا تعدّد الشرط مع وحدة الجزاء مثل : «إذا خفي الأذان فقصِّر» ، «إذا خفي الجدران فقصِّر» ، فبناءً على المفهوم يقع التعارض بين منطوق كلٍّ منهما مع مفهوم الآخر ، وفي مقام رفع التعارض والجمع بينهما احتمالات :

أحدها : رفع اليد عن كلٍّ من المفهومين .

الثاني : تقييد كلٍّ من المفهومين بمنطوق الآخر .

الثالث : جعل الشرط هو القدر المشترك بينهما .

الرابع : تقييد كلٍّ من المنطوقين بالآخر .

فعلى الاحتمالات الثلاثة الاُوَل تكون النتيجة هي تحقّق القصر بتحقّق كلٍّ منهما ، والانتفاء بانتفائهما جميعاً.

نعم ، بناءً على أوّل الاحتمالات منها ، لو دلّ دليل على اعتبار أمرٍ آخر لا يكون معارضاً لهما ؛ لعدم المفهوم لهما .

وأمّا على الاحتمال الرابع فلا يتحقّق القصر إلاّ بتحقّقهما ، ويكون الانتفاء بانتفاء واحدٍ منهما .

ثمّ إنّ الاحتمال الأوّل - في المثال المذكور - أبعد الاحتمالات ؛ لأنّ حكم الإتمام والقصر في الحضر والسفر كان معروفاً بين المسلمين ، فليست الشرطيتان لإفادة أصل حكم القصر ، بل لإفادة تحديد حدّ السفر ، ومعلوم أنّ ما قبل الحدّ يكون باقياً على الحكم الأوّل - وهو التمام - فتدلّ القضيّتان على انتفاء

ص: 241

حكم القصر عند فقدان الحدّ فيكون لهما مفهوم .

ويتلوه في الضعف الاحتمال الثاني ؛ لأنّ المفهوم لازم المنطوق وتابع له ، وليس له استقلال بالإنشاء ؛ حتّى يرد عليه التخصيص ، وتختلف الإرادة الاستعمالية مع الجدّية - كما في باب التخصيص - فإذا كان الشرط علّة منحصرة للجزاء ، ويفهم منها المفهوم ، فلا معنى لتقييده وتخصيصه .

وأمّا الاحتمالان الآخران ، فلا يبعد أظهرية أوّلهما ؛ أي كون الشرط هو أمراً آخر يكون كلّ منهما أمارة عليه ؛ بأن يقال : إنّ الميزان في القصر مقدار من البعد ؛

بحيث إذا أراد المسافر تشخيصه بحسّ بصره خفيت الجدران عنه ، وإذا أراد تشخيصه بحسّ سمعه خفي أعلى صوت البلد عنه ؛ أي أذان المؤذّنين .

الأمر الثالث

في تداخل الأسباب والمسبّبات

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، فهل يتعدّد الجزاء ؛ أي يجب الإتيان به متعدّداً حسب تعدّد الشرط ، أو يتداخل ، ويكتفي بإتيانه دفعة واحدة ؟

ولا يخفى : أ نّه ليست هذه المسألة من المسائل التي تكون الشهرة فيها حجّة ؛ حتّى نبحث عن تحقّقها وعدمه ؛ للعلم بعدم كاشفيتها عن النصّ ، فليس في البين إلاّ ظهور القضيّة .

ثمّ إنّ الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في اقتضاء كلّ من الشرطيتين وجوباً مستقلاًّ وعدمه ، وهو معنى تداخل الأسباب وعدمه .

ص: 242

ثانيهما : بعد فرض عدم التداخل ، هل يجوز امتثال التكليفين في مصداق واحد ؟ وهذا معنى تداخل المسبّبات .

ثمّ إنّه لا ربط بين هذه المسألة والمسألة السابقة بوجه ؛ فإنّ الكلام هناك بعد تسليم المفهوم ، وهاهنا غير مربوط به ، بل لو فرضنا عدم المفهوم يقع البحث في أنّ القضيّة الشرطية - الظاهرة في الحدوث عند الحدوث - إذا تعدّدت مع وحدة الجزاء ، هل تكون ظاهرة في لزوم الإتيان به متعدّداً ، أو تتداخل الأسباب ؟ فلا جهة اشتراك بين المسألتين .

هذا ، مضافاً إلى أنّ خفاء الأذان والجدران ممّا لا سببية لهما لوجوب القصر ، بل لتحديد البعد الموجب لذلك ، فلا يكون خفاء الأذان سبباً للقصر ، وخفاء الجدران سبباً آخر له ، بخلاف هذه المسألة ؛ فإنّ كلّ شرطٍ سبب مستقلّ ، له سببيته ، فما وقع من بعض الأعاظم من ابتناء المسألة على المسألة السابقة(1) ممّا لا وجه له .

ثمّ اعلم : أنّ العلاّمة الأنصاري أقام البرهان على عدم التداخل : بأنّ ظاهر القضيّة هو استقلال علّية كلٍّ من الشروط للجزاء ، وحفظ هذا الظهور يقتضي الحكم بتعدّد الجزاء عند تعدّد الشرط .

نعم ، إطلاق الجزاء يقتضي أيضاً أن تتداخل الشروط ، لكن ظهور الإطلاق لا يتعارض مع ظهور الشرطية في الاستقلال ؛ لأنّه معلّق على عدم البيان ، وظهور الشرطية بيان له(2) .

ص: 243


1- كفاية الاُصول : 239 .
2- مطارح الأنظار 2 : 66 .

وقريب منه ما أفاد المحقّق الخراساني ، لكنّه عدَل عن ظهورها في الاستقلال إلى ظهورها في الحدوث عند الحدوث(1) .

والفرق بينهما : أنّ تقرير المحقّق الخراساني لا يتمّ فيما إذا تقارنت الشروط ؛ لأنّه معه ليس التداخل مخالفاً للظهور المدّعى ، فإذا حدث وجوب الوضوء عند تقارن النوم والبول ، يكون ظهور الشرطيتين في الحدوث عند الحدوث محفوظاً مع التداخل .

نعم ، مع تقدّم إحداهما لا بدّ وأن لا تتداخل ؛ حفظاً لظهور الشرطيتين في الحدوث .

وأمّا على تقرير الشيخ يكون التداخل - مطلقاً - مخالفاً للقاعدة ؛ أي ظهور الشرطية في الاستقلال .

فتحصّل ممّا أفاداه : أ نّه لا بدّ من تقييد إطلاق الجزاء ؛ حفظاً لظهور الشرطية في الاستقلال أو الحدوث .

أقول : لا إشكال في إمكان تعلّق الأمر بفردين من الطبيعة ، مثل «أكرم زيداً إكرامين» ؛ سواء تعلّق بمجموع الفردين ، أو بكلٍّ منهما استقلالاً ؛ بحيث ينحلّ إلى أمرين ، ولا إشكال في أنّ كلّ فرد يكون في الفرض متعلّقاً لأمر ؛ من غير امتياز بينهما بحسب الواقع ، فإذا أوجد المكلّف إكراماً بقصد إطاعة المولى يعدّ مطيعاً له ؛ من غير أن تكون إطاعة لواحد معيّن من الأمرين ؛ لعدم الامتياز الواقعي ، وهذا ممّا لا إشكال فيه .

كما أ نّه لا إشكال في جواز سببية الأمرين لوجوبين متعلّقين على فردين من

ص: 244


1- كفاية الاُصول : 240 - 242 .

الطبيعة في عَرض واحد ، مثل «إذا بلت ونمت توضّأ وضوءين» .

إنّما الإشكال في إمكان تعلّق الوجوب بفردين من الطبيعة تعاقباً ، مثل «إذا بلت فتوضّأ» ، و«إذا نمت فتوضّأ» فإنّ تعلّق الوجوب في الشرطية الاُولى بطبيعة ، وفي الثانية بالطبيعة الاُخرى ، أو في الاُولى بفرد منها ، وفي الثانية بفرد آخر ، ممّا لا يعقل ؛ فإنّ النوم قد يكون مقدّماً ، وقد يكون مؤخّراً ، وكذا البول ، وليست القضيّتان ناظرتين إلى حال الاجتماع .

وحينئذٍ : لا يمكن تقييد أحد الجزاءين بكونه فرداً آخر غير الجزاء الآخر ، أو طبيعة اُخرى غير مقتضى الشرطية الاُخرى ، ومعه أيضاً لا يكون قيد صالح لتقييد الطبيعة ، ومع عدم إمكان التقييد يكون التداخل ممّا لا محيص عنه ، وفقدان القيد الصالح لتقييد متعلّق الأمر يظهر بمراجعة الوجدان .

وأمّا إرجاع سببية الشرط إلى نفس الطبيعة - بأن يقال : إنّ النوم سبب لطبيعة الوضوء ، والبول كذلك ، وهي قابلة للتكرار - فممّا لا مجال له ؛ ضرورة ظهور الشرطية في سببية النوم والبول للوجوب المتعلّق بالطبيعة ، لا لنفسها ، كما لا يخفى .

وما عن العلاّمة من أ نّه لا يخلو : إمّا أن يؤثّر كلّ واحدٍ من الشرطيات في الجزاء مستقلاًّ ، أو يؤثّر المجموع في واحدٍ ، أو يؤثّر واحد معيّن لا غير ، أو غير معيّنٍ ، أو لا يؤثّر واحد منها ، والكلّ معلوم البطلان إلاّ الأوّل(1) .

ففيه : أنّه يمكن أن يقال : إنّ المؤثّر أوّلها وجوداً لا غير ، كما يمكن اختيار ثاني الاحتمالات .

ص: 245


1- مختلف الشيعة 2 : 423 ؛ اُنظر مطارح الأنظار 2 : 58 .

واستدلّ بعض آخر على عدم التداخل بما يقرب من ذلك . وحاصله : أنّ ظهور الشرط إنّما يكون في العلّية بالنسبة إلى الجزاء ، فلو كان هو مع غيره أو أحدهما - معيّناً أو غير معيّنٍ - شرطاً ، كان خلاف ظاهر أخذ كلّ شرطٍ مستقلاًّ في القضيّ-تين ، فلا مناص من الالتزام بعدم التداخل(1) .

وفيه : أ نّه عبارة اُخرى عمّا قرّبه المحقّق الخراساني(2) مع تصرّفٍ مخلٍّ بالاستدلال .

وقد يظهر من التقريرات إشكال على عدم التداخل ، محصّله : أنّ ظاهر إطلاق الجزاء في كلٍّ من الشرطيات هو إيجاد صِرف الطبيعة ، وهو ممّا لا يتكثّر كالفرد(3) .

والجواب : أ نّه لو كان الإشكال ذلك لكان واضح البطلان ؛ لأنّ الطبيعة قابلة للتكرار مع عدم انسلاخها عن الوحدة النوعية - كما قيل : إنّ المفهوم إن لم يمتنع صدقه على الكثيرين فهو كلّي(4) - بل الإشكال في أنّ كلاًّ من الشرطيات علّة للوجوب المتعلّق بالطبيعة ، وهو غير قابل للتكثّر .

وقال أيضاً : إنّ مقتضى القضيّ-تين هو اشتغال الذمّة بإيجاد الطبيعة مرّتين(5) .

وفيه : أنّ اشتغال الذمّة ليس أمراً معقولاً سوى وجوب إيجاد الطبيعة فالإشكال على حاله .

ص: 246


1- مصباح الفقيه 2 : 258 - 261 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 174 ، الهامش 1 .
2- كفاية الاُصول : 240 - 242 .
3- مطارح الأنظار 2 : 66 .
4- الحاشية على تهذيب المنطق : 38 .
5- مطارح الأنظار 2 : 69 .

الأمر الرابع

في مفهوم مثل قوله علیه السلام : «إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء»

هل المفهوم في مثل قوله علیه السلام : «إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء»(1) - ممّا يفيد السلب الكلّي - هو الإيجاب الكلّي ، فيستفاد منه تنجّس الماء القليل بكلّ شيءٍ قذر ، أو لا يفيد إلاّ الإيجاب الجزئي ، فيستفاد منه التنجّس ببعض النجاسات على سبيل الإهمال ؟

اختار أوّلهما الشيخ الأنصاري ؛ بتقريب أنّ المنطوق لمّا كان منحلاًّ إلى قضايا حسب تكثّر الموضوع ؛ لكونه قضيّة حقيقية - وهو كذلك - فلا بدّ وأن يكون المفهوم على طبقه ؛ لعدم الفرق بين المفهوم والمنطوق إلاّ في الإيجاب والسلب لا غيرهما(2) .

واختار ثانيهما المحقّق صاحب «الحاشية» ؛ لأنّ نقيض السالبة الكلّية هو الموجبة الجزئية(3) .

وهو الحقّ ؛ لأنّ الظاهر من القضيّة المتقدّمة هو عاصمية الكرّ عن تأثير أيّ شيءٍ من النجاسات ، ومقتضى المفهوم عدم هذه العاصمية الثابتة في المنطوق ، وهو مساوق عرفاً للإيجاب الجزئي .

ص: 247


1- راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب9، الحديث1و2و6.
2- مطارح الأنظار 2 : 43 - 45 .
3- هداية المسترشدين 2 : 459 - 461 .

تنبيه

حول باقي المفاهيم

اعلم أنّه على ما بنينا عليه تبعاً للقدماء - من أنّ المفهوم على القول به ، إنّما هو لأجل القيد الزائد في الكلام ، ولزوم اللغوية لولاه(1) - لا تفترق أقسام المفاهيم في ذلك ، ولا ينبغي لكلّ مفهوم بحث مستقلّ ؛ لوحدة المناط فيها .

نعم ، قد يقع الخلاف في شيءٍ آخر في بعض المفاهيم :

كالخلاف في أنّ الغاية داخلة في المغيّى مطلقاً ، أو لا مطلقاً ، أو التفصيل بين غاية الموضوع والحكم .

وكالخلاف في أنّ الدلالة في الغاية والاستثناء من دلالة المنطوق أو المفهوم .

قد يقال : إنّ أداة الغاية والاستثناء والحصر حيث يستفاد منها الانتهاء - ومعنى الانتهاء هو انتفاء الحكم عمّا بعدها - تكون الدلالة منطوقية ، وهو غير بعيد .

وكالإشكال المشهور في كلمة التوحيد ؛ من أنّ المقدّر إن كان «الممكن» فلا تدلّ على وجوده تعالى ، وإن كان «الموجود» فلا تدلّ على نفي إمكان الشريك له تعالى(2) .

والجواب عنه : أنّ الأعراب في زمان الجاهلية إنّما يعبدون غير اللّه تعالى من

ص: 248


1- تقدّم في الصفحة 228 .
2- اُنظر الفصول الغروية : 154 / السطر 28 ؛ كفاية الاُصول : 248 .

صنوف الأصنام ، ولا يعتقدون اُلوهيتها ، وكان شركهم في العبادة لا غيرها ، وكلمة التوحيد إنّما هي لنفي المعبود الآخر سوى اللّه ، فمعنى كلمة التوحيد : أنّه لا إله معبود إلاّ اللّه ، فالإقرار بها مقابل للاعتقاد الرائج ، وموجب لتوحيد اللّه تعالى الذي هو محلّ النزاع بينهم .

والحمد للّه أوّلاً وآخراً .

ص: 249

ص: 250

المقصد الرابع: في العامّ والخاصّ

في العامّ والخاصّ

ص: 251

ص: 252

فصل في تعريف العامّ والخاصّ

قد عرّف العامّ بتعاريف ، فاُشكل عليها طرداً وعكساً ، مع أنّ التعاريف لفظية - لا حقيقية - كما قيل(1) .

ومعنى الاطّراد : أنّ المعرّف - بالفتح - إذا جعل موضوعاً ، وحمل عليه المعرِّف - بالكسر - يصدق عليه بنحو الإيجاب الكلّي ، فإذا صدق المعرِّف - بالكسر - على كلّ ما يصدق عليه المعرّف ، يقال : إنّ التعريف مطّرد وجامع ؛ أمّا الاطّراد فلأجل صدقه الكذائي ، وأمّا الجامعية فلكونه جامعاً لجميع ما يصدق عليه المعرّف .

ومعنى الانعكاس : أن تنعكس هذه القضيّة كلّية ، فإذا صدق المعرّف - بالفتح - على المعرِّف صدقاً كلّياً ، يقال : إنّه منعكس ومانع ؛ أمّا انعكاسه فظاهر ، وأمّا مانعيته فلكونه مانعاً عن دخول غيره في التعريف .

ص: 253


1- كفاية الاُصول : 252 .

وكيف كان ، فقد عرّف العامّ بأ نّه لفظ مستغرق لما يصلح أن ينطبق عليه(1) .

وفيه أوّلاً : أنّ العموم ليس من صفات اللفظ ، بل هو من صفات المفهوم والمعنى ، إلاّ أن يراد اللفظ بما له من المعنى .

وثانياً : أنّ العامّ لا ينطبق على المصاديق ؛ لأنّ «زيداً» مثلاً ليس «كلّ عالم» أو «العلماء» .

فالأولى أن يعرّف : بأ نّه ما دلّ على شمول مفهومٍ لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، فلفظة «الكلّ» و«الجميع» وأمثالهما دالّة على استغراق ما يتلوها لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، فالصيغ الدالّة على العموم إنّما هي آلات لاستغراق المفهوم - كالعالم والإنسان - لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه .

ثمّ إنّ هذا التعريف إنّما هو للعامّ الاستغراقي ، وأمّا العامّ المجموعي فليس له صيغة تخصّه ، وإنّما مثّل القدماء له بمثل «الدار» التي هي مركّبة من عدّة أجزاء مختلفة الحقيقة ، وإذا اعتبر في مصاديق مفهومٍ واحد وحدة واجتماعاً ، يصير أيضاً من العامّ المجموعي ، ولكنّه مجرّد فرضٍ ، وليس له صيغة خاصّة ، وسيأتي أنّ الأحكام الجارية في العامّ الاستغراقي جارية في المجموعي ، مثل الدار وسائر المركّبات التي نحوها(2) .

ولا يخفى : أنّ الألفاظ المتداولة الدالّة على العموم إنّما تدلّ على الاستغراقي ، مثل الجمع المحلّى باللاّم والكلّ والمفرد المضاف .

ص: 254


1- العدّة في اُصول الفقه 1 : 273؛ المعتمد في اُصول الفقه 1 : 189 .
2- يأتي في الصفحة 265 .

أمّا دلالتها على العموم : فلأنّها متساوية النسبة إلى جميع المصاديق ، فلا يعقل اختصاصها ببعضٍ دون بعضٍ .

وأمّا اختصاصها بالاستغراقي - أي العامّ الاُصولي - : فلأنّها آلة لحاظ الكثرات والمصاديق ، ومعلوم أنّ المصاديق إنّما هي الأفراد بنعت الكثرة لا الاجتماع ، فزيد وعمرو فردان من «العالم» ، ومجموعهما ليس فرداً له ، فجميع أفراد العلماء مصاديق كثيرة له ، وليس مجموعهم ممّا ينطبق عليه العلماء ، فهذه الصيغ تختصّ بالعامّ الاستغراقي ، لا البدلي والمجموعي .

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه ذهب إلى أنّ ما ذكر للعامّ من الأقسام ، إنّما هو لاختلاف كيفية تعلّق الحكم به ، ومع قطع النظر عنها فليس للأقسام اعتبار(1) .

وأنت خبير بما فيه ؛ ضرورة أنّ هذه الاعتبارات إنّما هي قبل تعلّق الحكم ، فالكلّ يدلّ على الاستغراق ، تعلّق به حكم أو لا .

وبالجملة : إنّ اللاحظ - مع قطع النظر عن الحكم - قد يلاحظ الأفراد مستقلاًّ من مرآة المفهوم كما هي في الخارج ، وقد يلاحظها بنعت الاجتماع والوحدة ؛ حتّى تكون الأفراد أجزاء معنىً واحد ، وقد يلاحظ واحد منها بنعت البدلية ، وتعلُّق الحكم إنّما هو متأخّر عن لحاظ الموضوع ، ولا يعقل أن يكون دخيلاً في اعتباره .

ثمّ إنّ المتراءى من ذكر العامّ والخاصّ أ نّهما متقابلان ، ويكون للعامّ صيغة ، وللخاصّ صيغة اُخرى مقابلة له ، لكن الواقع ليس كذلك ؛ فإنّ القدماء قد عرّفوا

ص: 255


1- كفاية الاُصول : 253 .

الخاصّ : بأنّه ما قصر شموله(1) ، والظاهر منه أنّ صيغة العامّ منقسمة إلى قسمين :

أحدهما : ما يكون مستغرقاً لما يصلح أن ينطبق عليه .

وثانيهما : ما قصر شموله عنه .

وبعبارة اُخرى : أنّ العموم إن بقي على عمومه فهو عامّ ، وإن قصر شموله عن جميع الأفراد فهو خاصّ . وهذا تقسيم للعامّ إلى قسمين ، ولا يكون للخاصّ في مقابل العامّ صيغة تخصّه .

وبما ذكرنا ظهر : أنّ للعامّ صيغة تخصّه دون الخاصّ .

وما يقال في أولوية كون الصيغ حقيقة في الخاصّ : تارة : لأجل أنّ الخاصّ متيقّن في المرادية : إمّا بنفسه ، وإمّا في ضمن العامّ .

واُخرى : لأجل كون الخاصّ أكثر من العامّ ، حتّى قيل : «ما من عامٍّ إلاّ وقد خُصّ» ، فكونها حقيقة في الخاصّ تقليل للمجاز(2) .

ففيه : إن اُريد بالأولوية هي الأولوية بحسب الوضع ، فقد ذكرنا سابقاً : أنّ سبب الوضع هو الاحتياج ، فكما يحتاج الناس إلى إفادة الخاصّ ، يحتاجون إلى إفادة العامّ بأنحائه .

وإن كان المراد بعد الوضع والاستعمال ، ففيه : - مضافاً إلى عدم كفاية هذه الاستدلالات لإثبات الحقيقة - يرد على الأوّل : أنّ تعيّن الخاصّ - على أيّ حالٍ - ممّا لا معنى له :

ص: 256


1- اُنظر العدّة في اُصول الفقه 1 : 274 .
2- اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 217 - 218 ؛ الفصول الغروية : 161 - 162 .

أمّا أوّلاً : فلأنّه يتفرّع على الشكّ .

وأمّا ثانياً : فلأنّ المراد بالخاصّ ليس هو مفهومه ؛ لأنّه واضح الفساد ، بل المراد هو ما دون العامّ من الأفراد الباقية ، وللبقيّة مراتب ، وتعيّن اللفظ - من بين تلك المراتب - لمرتبة دون اُخرى بلا معيّنٍ .

وعلى الثاني : أنّ التخصيص لا يوجب المجازية حتّى يوضع اللفظ بإزاء الخاصّ تقليلاً للمجاز .

ص: 257

فصل في النكرة واسم الجنس في سياق النفي

ولا يخفى : أنّ النكرة وكذا اسم الجنس في سياق النفي تفيدان العموم ؛ سواء كان السلب بسيطاً مثل «لا رجل» ، أو مركّباً مثل «لا رجل في الدار» ؛ وذلك لأنّ النفي المتعلّق بالطبيعة لا يصدق إلاّ مع عدم جميع أفرادها ، ومع تحقّق فرد منها لا يجوز نسبة النفي إلى الطبيعة ، ولا يحتاج إلى أخذها مرسلة ، كما قال المحقّق الخراساني(1) ، كما سيأتي توضيحه في المطلق والمقيّد(2) .

ثمّ لا يخفى : أنّ لفظة «لا» في السلب البسيط لا تحتاج إلى الخبر ، كما عليه سيبويه - على ما ببالي - ففي قوله : «لا رجل» لا يقدّر «موجود» خبراً لها ؛ لأنّ نفي الطبيعة بسيطاً يفيد المقصود من غير تقدير .

ولا دليل على كون «لا» في ذلك التركيب معنىً حرفياً ؛ حتّى يقال : إنّها

ص: 258


1- كفاية الاُصول : 254 .
2- يأتي في الصفحة 320 و329 .

تحتاج إلى المرتبطين ؛ لعدم تعقّل تركيب كلام من الحرف والاسم ؛ لأنّ «لا» في هذا التركيب مساوق لقولنا : «نيست» في الفارسية ، فإذا قيل : «زيد نيست» ، «انسان نيست» لا نحتاج إلى التقدير ، كما لا يخفى ، فلعلّ «لا» تكون اسماً في هذا التركيب .

ص: 259

فصل في حجّية العامّ المخصّص

لا شبهة في أنّ العامّ المخصّص حجّ-ة في الباقي ، كان الخاصّ متّصلاً أو منفصلاً .

وربما يفصّل بين المتّصل والمنفصل ؛ بأ نّه حجّة في الأوّل دون الثاني(1) .

احتجّ النافي : بأنّ استعمال العامّ في الخاصّ مجاز ، والمخصِّص - متّصلاً أو منفصلاً - قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي ، وحيث تكون مراتب المجازات كثيرة ، وفي كلّ مرتبة عددها كثير ، بل يمكن أن يكون العامّ مستعملاً في معنىً مجازي آخر غيرها ، وليست قرينة معيّنة في البين يصير العامّ مجملاً ، وتعيُّن أحد المجازات من بينها بلا معيّنٍ ترجيح بلا مرجّح(2) .

ودعوى : تعيّن البقيّة بعد التخصيص ؛ لكونه أقرب المجازات(3) .

ص: 260


1- اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 221 ؛ مطارح الأنظار 2 : 131 .
2- اُنظر قوانين الاُصول 1 : 266 / السطر 3 ؛ مطارح الأنظار 2 : 132 .
3- قوانين الاُصول 1 : 266 / السطر 5 .

مدفوعة : لأنّ الأقربية إنّما هي بحسب اُنس الذهن ، وليست البقيّة كذلك(1) .

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه بما حاصله : أنّه لا يلزم من التخصيص كون العامّ مجازاً :

أمّا في المتّصل : فلأنّ أداة العموم مستعملة في معناها ، وهو شمول مدخولها وإن كانت دائرته مختلفة سعة وضيقاً ، فلفظة «كلّ» في مثل «كلّ رجل» و«كلّ رجل عالم» قد استعملت في العموم وإن اختلفت دائرة مدخولها(2) .

وهذا وإن كان بظاهره منقوضاً بالاستثناء ، لكن حال الاستثناء حال المخصِّص المنفصل ؛ لورود الاستثناء على المستثنى منه بعد استعماله في العموم ، فالاستثناء إخراج من العموم ، فيأتي فيه الجواب الآتي في المنفصل .

ثمّ قال في المنفصل : إنّ إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاصّ قرينة عليه ، بل الممكن قطعاً استعماله معه في العموم قاعدة .

ومحصّله : الفرق بين الإرادة الاستعمالية والجدّية ؛ وأنّ العامّ مستعمل في العموم بحسب الإرادة الاستعمالية ضرباً للقاعدة ، ويكون الخاصّ مانعاً عن حجّية ظهوره ؛ تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر ، لا مصادماً لأصل ظهوره حتّى يصير مجملاً(3) .

ويتراءى ورود إشكال عليه : وهو أنّ ما ذكر كرٌّ على ما فرّ منه ؛ فإنّ ما يكون حجّة عند العقلاء - بين العبد والمولى - هو ما يراد من اللفظ جدّاً لا استعمالاً ،

ص: 261


1- كفاية الاُصول : 256 - 257 .
2- كفاية الاُصول : 255 - 256 .
3- كفاية الاُصول : 256 .

والخاصّ قرينة على عدم تعلّق الإرادة الجدّية بالعموم ، ولا معيِّن لتعلّقها بأيّة مرتبة من مراتب الخصوص ، فالعامّ الحجّة مجمل(1) .

وفيه : أنّ أصالة تطابق الإرادتين محكّمة عند العقلاء حتّى يعرف خلافها .

والتحقيق في بيان مرامه في الإرادة الجدّية والاستعمالية ، يتوقّف على تحقيق باب الحقائق والمجازات ، وإن مرّ سابقاً .

فنقول : إنّ استعمال اللفظ في المعنى عبارة عن طلب عمل اللفظ فيه ؛ أي جعل اللفظ بإزائه ، وإحضاره في ذهن المخاطب بواسطته ، فحينئذٍ قد يستعمل اللفظ في المعنى ، ويريد المتكلّم أن يثبت المعنى في ذهن المخاطب ، ويكون غرضه إفهام المعنى الموضوع له وإثبات حكم له ، فيقال له : الحقيقة ، من «حَقّ الشيء» ؛ أي ثبت(2) ، والحقيقة هي الثابت ، وهي صفة المعنى حقيقة ، واللفظ

يتبعه . وقد يستعمل فيه ، ويريد المتكلّم أن لا يثبت المعنى الموضوع له في ذهنه ، بل ينتقل منه إلى معنىً آخر ، فيكون اللفظ مستعملاً في المعنى الموضوع له ، والمعنى الموضوع له مستعملاً في المعنى الآخر .

ومعنى استعمال المعنى الموضوع له في غيره ؛ هو طلب عمله فيه - أي إحضاره في الذهن بواسطته ، بادّعاء اتّحاده معه - كأن يقال : «جاء حاتم» إذا جاء شخص سخيّ ، فاستعمل لفظ «حاتم» في الشخص المعروف من بني طيّ ، واُريد الانتقال منه إلى الجائي ؛ بدعوى اتّحاده معه ، ويقال لهذا الاستعمال

ص: 262


1- نهاية النهاية 1 : 279 .
2- المصباح المنير : 143 .

استعمالاً مجازياً ، وللمعنى مجازاً ، من «جازَ الشيء» ؛ أي عبره(1) ؛ لكون المعنى الموضوع له محلّ عبور الذهن وانتقاله إلى المعنى الغير الموضوع له ، فاللفظ مطلقاً لا يستعمل إلاّ في الموضوع له .

والفرق بين الحقيقة والمجاز : أنّ الاستعمال في الأوّل لإحضار المعنى في الذهن وإثباته فيه ، وفي الثاني لإحضاره فيه ؛ لكونه عَبرة إلى الآخر ؛ بدعوى اتّحاده معه ، ولولا ذلك لما كان مصحِّح للاستعمال ؛ فإنّ مصحّحه هو الوضع ، ولَما استحسنت الاستعمالات المجازية .

ألا ترى : أ نّه إذا جاء شخص موصوف بكمال البخل والضنّة ، فقيل : «جاء حاتم» يكون استعمالاً [هزيلاً] ومضحكاً للحضّار ، ولولا استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ، واستعمال المعنى في المعنى بدعوى الاتّحاد والعينية ، لما صار [هزيلاً] ومضحكاً .

والشاهد عليه : أيضاً - بعد شهادة الوجدان السليم - أ نّه قد يكون عدّة ألفاظ لها معانٍ خاصّة ، لا يراد من واحدٍ منها المعنى المجازي ، بل من مجموعها ، ولا يمكن أن يقال : إنّ المجموع مستعمل فيه ، مثل قوله تعالى : )وَلَمّا سُقِطَ فِى أَيْديهِمْ وَرَأوْا أَ نَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا...((2) حكاية عن قوم موسى وندامتهم على عبادة العجل ، فعبّر تعالى عن وحشتهم وندامتهم بقوله : )سُقِطَ فِى أيْديهِمْ( ، مدّعياً اتّحادهم مع من سقط في يده شيء فجأة ، فأخذته الوحشة ، ومعلوم أنّ

ص: 263


1- راجع القاموس المحيط 2 : 176 ؛ المصباح المنير : 114 .
2- الأعراف (7) : 149 .

كلّ واحدٍ من ألفاظ الجملة لم يستعمل إلاّ في معناه ، واُريد إحضار معنى الجملة في الذهن ؛ عَبرة إلى المعنى المجازي المقصود .

وبالجملة : لا إشكال في أنّ حال المجازات والحقائق ما ذكرنا : من أنّ استعمال الألفاظ إنّما هو في المعاني الموضوعة لها في الجميع ، فيصحّ أن يقال : إنّ المعاني الحقيقية تكون مرادة استعمالاً وجدّاً في الاستعمالات الحقيقية ، وتكون مرادة استعمالاً - لا جدّاً - في الاستعمالات المجازية ، والمعاني المجازية تكون مرادة جدّاً - لا استعمالاً - أي لا تكون الألفاظ مستعملة فيها ابتداءً ومستقيماً ، بل هي مستعملة في المعاني الحقيقية ، والمعاني مستعملة في المعاني المجازية .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ العامّ قد يكون مستعملاً في العموم ، ويجعل المتكلّم المعنى العامّ عبرة للخاصّ ؛ بدعوى اتّحادهما ، مثل قول بعضهم في مدح بعض الاُمراء : «إنّ جميع العالم بلد الأمير ، وجميع الناس هو الأمير» ، وحينئذٍ يكون حاله حال سائر المجازات .

وقد يستعمل العامّ في معناه الموضوع له ، لكن لا يريد بقاء تمام أفراده في ذهن السامع وتعلّق الحكم بجميعها ، بل يريد إحضار العامّ وإخراج ما لا يريد أن يتعلّق به الحكم ؛ لعدم لفظٍ خاصّ للباقي ، أو تعلّق غرضه بإفهامه كذلك جرياً على العادة ، فإذا قال : «أكرم العلماء» ، وأراد جميعهم بالإرادة الاستعما لية ، ولم يكن العامّ مستعملاً في الخاصّ - كما عرفت في المجازات - فقد يريد بقاء العامّ على عمومه ، وقد يريد إخراج بعض الأفراد منه ، فيستعمل العامّ توطئة لإخراج الخاصّ وبقاء الباقي .

ص: 264

وهذا الاستعمال لا يكون بمثابة الاستعمالات الحقيقية ؛ لعدم تعلّق الغرض ببقاء تمام الموضوع له في ذهن السامع وثباته فيه كالحقائق ، ولا بمثابة الاستعمالات المجازية ؛ لعدم ادّعاءٍ في البين ، وعدم عَبرة العامّ إلى المعنى الغير الموضوع له ، فهو أمر متوسّط بينهما ، فاُريد الخاصّ بالإرادة الاستعمالية في ضمن العامّ ، واُريد الباقي بالجدّية والاستعمالية في ضمنه .

ولا فرق في ذلك بين العامّ الاستغراقي والمجموعي ؛ أي اللفظ الموضوع للمركّبات ، كالدار والبستان والبيت ، فإذا قيل : «بع داري إلاّ عشرها» يكون حاله حال العامّ الاستغراقي المخصّص ، وقد عرفت(1) : أنّ القدماء مثّلوا للعامّ المجموعي بمثل المركّبات ، وأمّا المجموعي - بمعنى جميع الأفراد التي يعتبر فيها الوحدة والاجتماع - فليس له لفظ خاصّ موضوع .

ثمّ إنّ ما ذكرنا هو تفسير مرام المحقّق الخراساني ، وهو رحمه الله علیه وإن ذهب في المجازات إلى غير ما ذكرنا ، وقال : إنّ الألفاظ فيها مستعملة في المعاني المجازية ، ومصحّح الاستعمال هو موافقة الطبع(2) ، لكن سلك في المقام ما هو التحقيق الحقيق بالتصديق(3) .

نعم ، إنّه قال : إنّ استعمال ألفاظ العامّ في العموم ، إنّما هو لضرب القاعدة وللاحتجاج به في مقام الشكّ(4) ، ونحن قلنا : إنّه أمر عادي طبيعي متعارف .

ص: 265


1- تقدّم في الصفحة 254 .
2- كفاية الاُصول : 28 .
3- كفاية الاُصول : 256 .
4- نفس المصدر .

ثمّ إنّ ما فصّلناه هو تحقيق المقام بحسب البرهان ، وإلاّ فالأمر أسهل من ذلك ، فإنّا قد ذكرنا مراراً : أنّ موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه ، والعامّ المخصّص ممّا يحتجّ به في الفقه ؛ لأنّ بناء العقلاء هو على التمسّك بالعمومات الصادرة من الموالي بعد التخصيص ، من غير اعتناءٍ بمثل هذه الشبهة - أي صيرورة العامّ مجملاً - فهذه وأمثالها شبهة في مقابل البديهة لدى العقلاء فتدبّر .

ص: 266

فصل في سراية إجمال الخاصّ إلى العامّ

اشارة

لا إشكال في أنّ الخاصّ المجمل بحسب المفهوم - بأن كان دائراً بين الأقلّ والأكثر - لا يسري إجماله إلى العامّ إذا كان منفصلاً ؛ لعدم حجّيته إلاّ في القدر المتيقّن ، فيكون العامّ حجّة من غير معارضٍ في مقدار إجمال الخاصّ .

كما لا إشكال في سراية إجماله إليه مطلقاً إذا كان متّصلاً به ؛ لعدم انعقاد ظهوره من أوّل الأمر .

وأمّا المنفصل المردّد بين المتباينين - سواء كانا متساويين بحسب الأفراد ، أو لا- فيسري إجماله حكماً إلى العامّ ، ولا يتّبع ظهوره في واحدٍ منهما بالخصوص ، لكنّه حجّة في أحدهما المردّد ، ونتيجتها عدم جريان الاُصول فيهما . فإذا علم تخصيص «أكرم العلماء» بواحدٍ من زيد وعمرو ، لا يجوز التمسّك به في واحدٍ منهما لكنّه حجّة بالنسبة إلى واحد منهما ، فلا تجري البراءة أو استصحاب عدم التكليف فيهما .

وأمّا إذا كان الخاصّ مجملاً بحسب المصداق ؛ بأن يكون مفهومه مبيّناً ، لكن

ص: 267

شكّ بالشبهة الخارجية في كون فردٍ مصداقاً له ، بعد العلم بكونه فرداً للعامّ .

فإن كان الخاصّ متّصلاً به ، فلا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعامّ ؛ لعدم انعقاد ظهور له من رأسٍ .

وإن كان منفصلاً منه ، ففيه خلاف بين المحقّقين .

واستدلّ المجوّز : بأنّ المصداق الخارجي لمّا كانت فرديته للعامّ معلومة ، يكون العامّ حجّة فيه ؛ لضمّ صغرى وجدانية إلى كبرى شرعية ، فيقال : «هذا خمر ، والخمر حرام» فلا بدّ من رفع اليد عن الحجّة الفعلية بحجّة أقوى ، لكن الخاصّ لم يكن حجّة على الفرد ؛ لعدم العلم بكونه مصداقاً له ، فلا يمكن تشكيل القياس بالنسبة إليه .

لا يقال : إنّ العامّ بعد التخصيص يصير معنوناً ، فلا يمكن التمسّك به .

لأنّه يقال : هذا خلط بين التخصيص والتقييد ؛ لأنّ الثاني يوجب ذلك ، لا الأوّل ، فالخاصّ يخرج الأفراد من العامّ من غير تقييده بعنوانه ، والأفراد الباقية في المثال واجبو الإكرام بملاك كونهم علماء ، لا بملاك كونهم علماء عدولاً .

لا يقال : إنّ الفرد المشكوك فيه يكون مشكوك الاندراج تحت المراد الجدّي للعامّ ، فلا يمكن التمسّك به .

فإنّه يقال : لمّا كان مندرجاً تحته بالإرادة الاستعمالية نحكم بكونه مراداً جدّياً لأصالة تطابقهما .

هذا محصّل الاستدلال في جواز التمسّك .

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه بما حاصله : أنّ الفرد المشتبه ، وإن كان فرداً للعامّ بلا كلامٍ ، إلاّ أنّه لم يعلم كونه فرداً له بما هو حجّة ؛ لاختصاص

ص: 268

حجّيته بغير الفاسق ، فإنّ الخاصّ وإن لا يزاحم ظهور العامّ ، لكن يزاحمه بما هو حجّة ، فتخصّص حجّيته بغير عنوانه ، فحينئذٍ يكون الفرد المشتبه غيرَ معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين(1) .

وتوضيحه : أنّ هاهنا مقامين :

أحدهما : مقام حجّية العامّ بالنسبة إلى الحكم الكلّي .

ثانيهما : مقام حجّيته بالنسبة إلى الأفراد الخارجية .

لا إشكال في أنّ حجّيته بالنسبة إلى الحكم الكلّي ، لا تتوقّف على معلومية الفرد ، فقوله : «أكرم العلماء» حجّة بالنسبة إلى وجوب إكرام كلّ عالم واقعي ؛ علم مصداقه أو لم يعلم ، ولهذا تجري الاُصول في إحراز موضوعه ونفيه ، فيستصحب بقاء عالمية زيد مثلاً أو نفيها ، ولولا حجّيته بالنسبة إلى الواقع مطلقاً ، لكان جريان الأصل بلا محلٍّ ، فالعامّ حجّة على الأفراد الواقعية ، وليس العبد معذوراً في ترك الفحص ، ولا حجّة له في ترك إكرام المصداق الواقعي ، بعد قيام الحجّة على وجوب إكرام كلّ رجل عالم واقعي .

وبالجملة : إنّ العامّ ظاهر في وجوب إكرام كلّ فردٍ واقعي ، والأصل العقلائي يقتضي مطابقة الإرادة الاستعمالية للجدّية ، فيكون حجّة على وجوب إكرام الأفراد الواقعية ، فإذا ورد خاصّ - كقوله : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» - يكون هو أيضاً حجّة على الحكم الكلّي ؛ من غير توقّفٍ على معلومية الأفراد - كما عرفت في بيان حجّية العامّ - فيدلّ الخاصّ على أنّ إكرام العالم الفاسق ليس

ص: 269


1- كفاية الاُصول : 258 - 259 .

بواجبٍ ، وتكون الإرادة الاستعمالية في العامّ بالنسبة إلى الفسّاق الواقعية من العلماء مخالفة للإرادة الجدّية ، فالأفراد الواقعية من العلماء العدول داخلة في العامّ بحسب الحجّية والإرادة الجدّية ، والفسّاق الواقعية خارجة عنه بحسب الإرادة الجدّية ، فالفرد المشتبه كما لا يكون الخاصّ حجّة بالنسبة إليه ؛ لإمكان كونه عادلاً ، لا يكون العامّ حجّة عليه ؛ لإمكان كونه فاسقاً واقعاً ، والفاسق الواقعي خارج من العامّ جدّاً .

لا يقال : بعد اللتيّا والتي يكون الفرد المشتبه - بعد كونه فرداً للعامّ بحسب الإرادة الاستعمالية - مشكوكاً فيه من حيث مطابقة الجدّ والاستعمال ، والأصل العقلائي يقتضي المطابقة ، فيكون العامّ حجّة عليه ، ولا ترفع اليد عنه بغير حجّة قاطعة .

فإنّه يقال : إن كان المقصود من إجراء أصالة التطابق إحرازَ الحكم الواقعي - أي كون الفرد المشتبه واجب الإكرام واقعاً ، ومصداقاً للعالم العادل - فهي لا تصلح لذلك ؛ للعلم بخروج الفاسق الواقعي ، والفرد مشكوك فيه فرضاً ، ولا يحرز الأصلُ عدالته .

وإن كان المقصود من إجرائها ؛ أنّ الحكم الظاهري عند الشكّ في الفسق هو التعبّد بوجوب الإكرام ، فيكون العامّ كفيلاً للحكم الواقعي والظاهري ، فلا يمكن ذلك ؛ لكون الحكمين في رتبتين ، والحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي .

إن قلت : العامّ بعمومه الأفرادي يشمل كلّ فردٍ ، وبإطلاقه الأحوالي يعمّ كلّ حالٍ من حالات الموضوع ، ومشكوكية الفرد ومعلوميته منها ، والخاصّ لا يكون

ص: 270

حجّة إلاّ بالنسبة إلى الفرد المعلوم ، والمشكوك فيه باقٍ تحت العامّ ، ويكون حكماً ظاهرياً .

قلت : - مضافاً إلى ما أشرنا إليه من عدم إمكان تكفّل العامّ للحكمين المترتّبين ؛ للاحتياج إلى استئناف نظرٍ من المنشئ للحكم - يرد عليه : أنّ معنى الإطلاق ليس لحاظ القيود المتكثّرة ؛ والأحوال المتخالفة اللاحقة للموضوع ؛ لامتناع كون العنوان الواحد آلة للحاظ الكثير ، فلا يمكن أن يكون العالم مثلاً مرآةً للكثرات إلاّ بما أ نّها عالم ، لا بجهات وحالات اُخرى من المشكوكية والمعلومية والطول والقصر ، بل المراد من الإطلاق هو عدم تقيّد ما هو الموضوع بأمرٍ ، ولا يكون موضوع الحكم في القضيّة إلاّ العنوان المأخوذ فيها .

وبعبارة اُخرى : معناه هو كون العنوان المأخوذ في القضيّة تمام الموضوع للحكم ؛ من غير تقيّده بقيدٍ آخر ، وهو معنى الإرسال أيضاً ؛ أي كونه مرسلاً من القيود ، فالعالم في قولنا : «أكرم العالم» تمام الموضوع للوجوب ، من غير دخالة شيء آخر فيه ، ولازمه أ نّه كلّما تحقّق عنوان العالم يجب الإكرام ؛ تحقّق عنوان آخر أو لا ، ومع جميع المقارنات يكون الموضوع هو عنوان العالم ، وتكون القيود والمقارنات كالحجر جنب الإنسان .

فاتّضح بذلك : أنّ العالم المشكوك في فسقه ، لا يكون موضوع الحكم إلاّ بما أ نّه عالم ، فلا يعقل أن يكون الحكم المتعلّق بالعنوان الواقعي من غير أخذ الشكّ فيه حكماً ظاهرياً ؛ لتقوّم الحكم الظاهري بكون موضوعه عنوان المشكوك فيه بما أنّه كذلك .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ العامّ تعلّق حكمه بجميع الأفراد الواقعية بما

ص: 271

أ نّها أفراد العالم بالإرادة الاستعمالية ، والأصل العقلائي يحكم بمطابقتها للإرادة الجدّية ، والمخصِّص قد أخرج الأفراد الواقعية بعنوانه من تحت العامّ ، ودلّ على أنّ المتكلّم بالعامّ تكون إرادته الجدّية في مورد الخاصّ مخالفة للاستعمالية ، فيكون الحكم الواقعي بعد التخصيص وجوب إكرام العالم الغير الفاسق ، وعدم وجوب إكرام العالم الفاسق ؛ فعند الشكّ في كون فردٍ من العالم أ نّه فاسق ، فإن اُريد بالتمسّك بالعامّ أو الأصل العقلائي وجوبُ إكرام الفرد المشكوك فيه واقعاً ولو كان فاسقاً ، فلا يمكن التزامه ؛ لأنّ الفاسق الواقعي غير واجب الإكرام واقعاً .

وإن اُريد إثبات حكم ظاهري لدى الشكّ ، فلا يعقل تكفُّل العامّ لحكمين واقعي وظاهري . فلو رجع كلام المحقّق الخراساني إلى ما ذكرنا فهو ، وإلاّ فإتمامه مشكل .

وقد يستدلّ لعدم جواز التمسّك بالعامّ : بأنّ بناء العقلاء في التمسّك بالعامّ في التخصيص ، إنّما يكون فيما إذا لزم من خروج الفرد التخصيصُ الزائد ، كما لو شكّ في خروج الفسّاق من قوله : «أكرم العلماء» . وأمّا إذا خرج عنوان ، وشكّ في كون فرد منه أو لا ، فلا ؛ لعدم لزوم التخصيص الزائد لو كان الفرد من عنوان الخاصّ ؛ لأنّ ما خرج هو عنوان الفاسق لا أفراده(1) .

هذا كلّه حال المخصِّصات اللفظية .

وأمّا اللبّيات منها : فيظهر من تقريرات العلاّمة الأنصاري رحمه الله علیه : أنّ جواز التمسّك وعدم جوازه ، مبتنيان على معنونية المخصِّص بعنوانٍ خاصّ كعنوان

ص: 272


1- اُنظر مطارح الأنظار 2 : 141 ؛ تشريح الاُصول : 261 / السطر 17 .

الفاسق ، وعدمه مثل ما إذا أخرج ذوات الأفراد من غير عنوانٍ ، فلا يجوز على الأوّل ، دون الثاني(1) .

ثمّ قال - في ذيل كلامه - : إنّ الغالب في المخصِّصات اللفظية هو الأوّل ، وفي اللبّية هو الثاني ، كما إذا قال المولى : «أكرم العلماء» وعلم المكلّف بعدم إرادته إكرام عدوّه(2) .

ويرد عليه : أ نّه لو لم يكن المخصّص اللبّي معنوناً بعنوان بل اُخرج ذوات الأفراد ، خرجت الشبهة عن كونها مصداقية ، فإنّ معنى الشبهة المصداقية كون الفرد مشكوك الاندراج تحت عنوان الخاصّ ، ومع عدم معنونية الخاصّ يرجع الشكّ إلى الشكّ في التخصيص الزائد .

وسيجيء توجيه لكلامه . حاصله : أنّ المخصّص ربّما لا يكون معنوناً بعنوانٍ خاصّ ، بل يكون مخرجاً لذوات الأفراد ، لكن بحيثية تعليلية وعلّة سارية ، كما سيأتي تفصيله .

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : ففصّل في اللبّيات بين ما يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب وغيره ، فجوّز في الثاني ، دون الأوّل ؛ لعدم انعقاد الظهور فيه للعامّ إلاّ في الخصوص ، وأمّا في الثاني فالظاهر بقاء العامّ في الفرد المشتبه على حجّيته(3) .

وفيه : أنّه قد علم ممّا سلف : أنّ المناط في الحجّية هو الكبرى الكلّية الملقاة

ص: 273


1- مطارح الأنظار 2 : 143 .
2- نفس المصدر.
3- كفاية الاُصول : 259 .

من الشارع ؛ من غير فرق بين ما ألقاها باللفظ ، وما التفت إليه العقل ، أو اُلقيت بدليل آخر من اللبّ ، فالمخصِّص - سواء كان لفظياً أو لبّياً - هو الأفراد بوجودها الواقعي بحسب الكبرى الكلّية ، والفرد المشكوك فيه ، كما أ نّه مشكوك في اندراجه تحت كبرى المخصِّص ، كذلك بالنسبة إلى كبرى العامّ بما هي حجّة ومراد جدّي ؛ من غير فرق بين اللفظيات واللبّيات . ولو كان العامّ كفيلاً للحكم الواقعي والظاهري لزم ما أسلفناه من لزوم الجمع بين الحكمين المترتّبين .

ويمكن توجيه كلامه بما لا يخلو من إشكالٍ أيضاً : وهو أنّ المولى كما اتّكل على عقل المكلّف في المخصِّص المتّصل بحسب الكبرى الكلّية ، كذلك يمكن أن يتّكل عليه في تشخيص صغرياتها ؛ أي لم يكتفِ في التخصيص باللبّي بالاتّكال على عقله في الكبرى فقط ، فحينئذٍ لا يكفي في التخصيص صرف معلومية عنوان المخصِّص بحسب الكبرى الكلّية ، بل لا بدّ في إخراج الأفراد عن العموم من تشخيص الصغرى وضمّها إلى الكبرى حتّى يخرج الفرد من تحت العامّ ، فيكون هاهنا حكم واقعي لأفراد واقعية بحسب الإرادة الجدّية في العامّ ، وحكم ظاهري لأفراد مشكوك في كونها من الخاصّ ، لا بحسب الإرادة ا لجدّية ، بل لأجل حفظ الحمى ؛ بمعنى أنّ لزوم إكرام الأفراد المشكوك فيها لأجل محفوظية الأفراد النفس الأمرية للعامّ ؛ حيث لا تنحفظ إلاّ بذلك ، ولا مانع عقلاً من تصوير هذا النحو من الحكم الواقعي والظاهري للعامّ بعد تخصيصه على النحو المتقدّم ، لكنّه أيضاً لا يخلو من إشكالٍ .

بقي هاهنا اُمور :

ص: 274

الأمر الأوّل: في التمسّك بالعامّ إذا كان الخاصّ معلّلاً

لو كان المخصِّص ذوات الأفراد ، لكن بحيثية تعليلية ، كما لو ورد «أكرم العلماء» ، ثمّ ورد «لا تكرم زيداً وعمراً وبكراً ؛ لأنّهم فسّاق» ، فهل يكون كالتخصيص الزائد في مورد الشكّ في فسق مصداق ، ويجوز التمسّك بالعامّ ، أو كالمخصّص اللفظي المعنون بعنوان ، مثل «لا تكرم الفسّاق منهم» ، فلا يجوز التمسّك به ؟

لا يبعد الجواز ؛ لأنّ الفرد المشكوك فيه لا يكون من قبيل الشبهة المصداقية فرضاً ، بل من قبيل الشكّ في التخصيص الزائد ؛ وإن كان منشؤه الشكّ في سريان العلّة في المشكوك فيه .

الأمر الثاني: في العامّين من وجه المتنافيي الحكم

إذا ورد حكمان متنافيان على عنوانين مستقلّين يكون بينهما عموم من وجهٍ ، كقوله : «أكرم العلماء» ، و«لا تكرم الفسّاق» ، أو «لا تكرم كلّ رجل فاسق» ، فإن علم تصادقهما على موضوع ومصداق خارجي ، فلا إشكال في تقديم أقوى المقتضيين ، والحكم بالتخيير والتساوي في صورة عدم رجحانهما ؛ لأنّ المورد من قبيل تزاحم المقتضيين .

ص: 275

وأمّا لو علم صدق أحد العامّين على فردٍ ، وشكّ في كونه مصداقاً للآخر ، كأن

علم كون زيدٍ عالماً ، وشكّ في فسقه ، فهل يتمسّك بعموم «أكرم العلماء» ؛ بملاك أنّ حجّية العامّ تامّة ، وكون الفرد مصداقاً له محرزاً بالوجدان ، ونشكّ في وجود حجّة مزاحمة له ، أو لا يجوز ؛ لأنّ الخارج عن العامّ - على فرض التصادق - هو الأفراد الواقعية ، فالشكّ في الفرد هو الشكّ في حجّية العامّ بالنسبة إليه ، كما ذكرنا سالفاً(1) ؟

والحقّ هو الأوّل ؛ لأنّ الحكم الثابت لعنوانٍ مستقلّ آخر ، ليس من قبيل الإخراج والتخصيص ؛ حتّى يأتي فيه ما ذكرناه سابقاً ، بل من قبيل إثبات حكم لموضوع مقتضٍ له ، فالموارد المتصادقة من قبيل تزاحم الحجّتين ، لا تخصيص أحدهما بالآخر ، فالفرد المشكوك فيه - بعد تمامية إحدى الحجّتين بالنسبة إليه ، وعدم تمامية الاُخرى - لا محيص عن التمسّك بالحجّة ، وليس رفع اليد عنها إلاّ بغير الحجّة ، وهذا ممّا لا إشكال فيه .

الأمر الثالث: في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية

في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية

لعلّك سمعت أنّ القضايا مطلقاً تنقسم إلى الهلية البسيطة والمركّبة :

والاُولى : ما كان الوجود محمولاً لموضوعها ، كقولنا : «زيد موجود» ، أو «ليس بموجودٍ» ، فالوجود محمولي ، والقضيّة بسيطة ؛ لكونها أبسط من المركّبة ،

ص: 276


1- تقدّم في الصفحة 268 - 272 .

أو لكون الوجود البسيط الغير المتقيّد محمولاً لها .

والثانية : ما كان الوجود رابطاً فيها ، والمحمول غير الوجود ، كقولنا : «زيد قائم» ، أو «ليس بقائم» ، فإنّ الوجود فيها رابط بين الموضوع والمحمول وليس محمولاً ، ولذا قيل إنّ الوجود الرابط يختصّ بالهليات المركّبة .

ثمّ لا يخفى : أنّ النسبة السلبية - كالنسبة الإيجابية - نسبة برأسها ، لا كما قيل من أنّ السلب في السلبيات وارد على النسبة الإيجابية ، ويعتبر في القضيّة السالبة الإيجاب أوّلاً ، ثمّ يرد السلب عليه ، ويكون أجزاء القضيّة أربعة(1) . فإنّه خلاف الوجدان في السالبات ، بل القضيّة السالبة مركّبة من ثلاثة أجزاء كالموجبة ، والنسبة السلبية نسبة بسيطة كالإيجابية ، كما أنّ إيقاع النسبة وانتزاعها ليسا من أجزاء القضيّة ؛ لأنّ أجزاءها إنّما هي ما تكون ثابتة في المادّة النفس الأمرية - أي الخارج - ومعلوم أنّه ليس في الخارج شيء وراء الموضوع والمحمول والنسبة التي بينهما ؛ كي يكون هو إيقاع النسبة أو انتزاعها .

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ العامّ المخصّص بالمنفصل ، أو بمثل الاستثناء من المتّصل ، لمّا كان غير معنونٍ بعنوانٍ خاصّ ، بل بكلّ عنوانٍ غير عنوان الخاصّ ، ويكون جميع الأفراد مشمولة له بعنوانٍ واحد هو عنوان العامّ ، والمخصِّص إنّما يخرج بعض الأفراد من غير حصول قيدٍ في العامّ ، ومن غير تعنونه بعنوانٍ ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي غالباً ممكناً ، وذلك بوجهين :

ص: 277


1- الشفاء ، قسم المنطق ، الفنّ الثالث 1 : 34 - 35 ؛ شرح المنظومة ، قسم المنطق 1 : 252 .

الوجه الأوّل في تقرير الأصل : ما أفاد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه ، وهو بنحو السالبة الهلية البسيطة كما إذا شكّ في امرأة أ نّها قرشية أو غيرها ، بعد ورود قوله : «إنّ المرأة ترى الدم إلى خمسين»(1) ، وقد خرجت بالمنفصل أو بنحو الاستثناء المرأة القرشية ، فيقال - لأجل إحراز الموضوع - : إنّ انتساب هذه المرأة إلى قريش لم يكن سابقاً ، والآن كما كان ، فهذه القضيّة هلية بسيطة سالبة ، موضوعها انتساب المرأة إلى قريش ، ومحمولها هو الوجود ، والنسبة سلبية .

وكون القضيّة المتيقّنة سالبة بسلب الموضوع ، والمشكوك فيها سالبة بسلب المحمول ، لا يضرّ بالاستصحاب ؛ فإنّ القضيّة السالبة بسلب الموضوع أو المحمول لم تكن قضيّ-تين ؛ لأنّ القضايا تنقسم إلى الموجبات والسوالب ، ولا ثالث لهما ، فالقضيّة السلبية أعمّ من السلب الموضوعي أو المحمولي ، وهي قضيّة واحدة .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ أصالة عدم انتساب المرأة إلى قريش تجدي في تنقيح الموضوع ، وأنّها ممّن لا تحيض إلاّ إلى خمسين .

لا يقال : إنّ أصالة عدم الانتساب لا تجدي في تنقيح الموضوع إلاّ بالأصل المثبت ؛ لأنّ ما خرج من العامّ هي المرأة القرشية ، وما بقي هي المرأة الغير القرشية ، والأصل بنحو الهلية البسيطة لا يثبت كونها غير قرشية ، أو عدم كونها قرشية بنحو الهلية المركّبة ، التي هي موضوع الحكم .

قلت : نعم ، لا يجدي ذلك لو احتجنا إليه ، لكن لا نحتاج إليه ؛ لأنّ العامّ شامل

ص: 278


1- راجع وسائل الشيعة 2 : 335 ، كتاب الطهارة ، أبواب الحيض ، الباب 31 .

لجميع الأفراد ، والمانع منه هو عنوان الخاصّ ، وأصالة عدم الانتساب تدفع المانع ، فيبقى الفرد تحت العامّ .

والحاصل : أنّ تمام الموضوع في الحكم هو العنوان المأخوذ فيه ، فالمرأة تمام الموضوع لرؤية الدم إلى خمسين ، وبعد خروج القرشية يكون الموضوع أيضاً هو عنوان العامّ من غير تقييده بشيءٍ ، والفرض أنّ المرأة محرزة بالوجدان ، والمانع من تعلّق الحكم هو الشكّ في كونها من عنوان الخاصّ ، وهو أيضاً مدفوع بالأصل ، فأصالة عدم الانتساب إلى قريش ممّا يجدي لإثبات الحكم لها ؛ من غير احتياجٍ إلى إثبات كونها غير قرشية بنحو «ليس» الناقصة(1) .

هذا حاصل ما أفاده المحقّق الخراساني بتوضيحٍ منّا .

ولا يخفى : أنّ قوله : «إنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل ، لمّا كان غير معنونٍ بعنوانٍ خاصّ ، بل بكلِّ عنوانٍ لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ» في غاية الإشكال والسقوط ، إن أراد بمعنونية العامّ بكلّ عنوانٍ أنّ جميع العناوين المقارنة للأفراد دخيلة في موضوعية الحكم ، حتّى تكون المرأة في قوله : «إنّ المرأة ترى الدم إلى خمسين» موضوعاً للحكم مع جميع حالاتها اللاحقة بها ، كالعالمية والجاهلية والقرشية وغيرها لأنّ ذلك واضح الفساد ، فإنّ كلّ عنوانٍ اُخذ في موضوع الحكم ، لا يمكن أن يتجاوز الحكم عنه إلى غيره .

ص: 279


1- كفاية الاُصول : 261 .

نعم ، لا يضرّ مقارنته بكلّ عنوانٍ خارجي ، فالمرأة في المثال المذكور موضوع للحكم من غير دخالة شيءٍ آخر فيه ، ومع كلّ مقارنٍ تكون هي بنفسها موضوعاً له ، ولعلّ مراده يرجع إلى ما ذكرنا .

ثمّ إنّه يرد عليه : أنّ أصالة عدم الانتساب ممّا لا أصل لها ؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة في الاستصحاب لا بدّ وأن تكون عين القضيّة المشكوك فيها ، وفيما نحن فيه ليست كذلك ؛ لأنّ هذه المرأة لم تكن قبل وجودها قابلة للإشارة ، وليست هذيتها محفوظة ، فانتساب هذه المرأة في الأزل ممّا لا يجوز أن يقال معدومة أو موجودة وليست معدومية انتسابها تقابل موجوديته تقابل الإيجاب والسلب ، بل كتقابل العدم والملكة .

وإن شئت قلت : إنّ الانتساب لمّا كان من الاُمور الإضافية والاعتبارية ، فلا تحقّق له إلاّ بعد تحقّق المرأة ووجودها ، وقبله لا يعتبر الانتساب ، لا أنّه يعتبر عدم الانتساب .

هذا ، مضافاً إلى أنّ العامّ بعد التخصيص ، يصير بحسب مقام الثبوت والواقع معنوناً بعنوانٍ وجودي أو عدمي ، ولا يعقل أن تكون الأفراد بعد التخصيص نفس ذاتها ؛ من غير حصول عنوانٍ مقابل للخاصّ لها ؛ ضرورة أنّ المرأة في قوله : «المرأة ترى الدم إلى خمسين» بعد تخصيصه : ب- «أنّ المرأة القرشية ترى الدم إلى ستّين»(1) لا يمكن أن تكون تمام الموضوع لرؤية الدم إلى خمسين ، بل الموضوع هي المرأة الغير القرشية ، أو المرأة التي ليست بقرشية على نعت الليسية

ص: 280


1- راجع وسائل الشيعة 2 : 336 ، كتاب الطهارة ، أبواب الحيض ، الباب 31 ، الحديث 5 و 9 .

الناقصة والعدم النعتي ، فلا مجرى للاستصحاب لإثبات كونها غير قرشية .

وبما ذكرنا : يتّضح الإشكال على الإيراد الذي أورده بعض المتأخّرين من أعاظم المعاصرين على ما في «الكفاية» بأنّ التخصيص إن كان كالتقييد يخرج العامّ عن تمام الموضوعية إلى بعضها ، يكون الأصل مجدياً .

ولكنّ التحقيق خلافه ؛ فإنّ شأن المخصِّص إخراج الفرد مع إبقاء العامّ على تمام الموضوعية ، وإنّما يقلّل العامّ بلا انقلابٍ فيه ، نظير موت بعض الأفراد ، فلا يبقى مجال لجريان الأصل ؛ إذ الأصل السالب ليس شأنه إلاّ نفي الحكم الخاصّ عن مورده ، لا إثبات حكم العامّ عليه ، ونفي أحد الحكمين بالأصل لا يثبت الآخر(1) .

وفيه : أ نّه إن أراد من [كون] باب التخصيص غير باب التقييد ، أنّ ظهور العامّ لا ينقلب عمّا هو عليه ، ولا تصير البقيّة بعد التخصيص متقيّدة بحسب مقام الظهور ، فهو مسلّم ، لكن لا يضرّ بجريان الأصل .

وإن أراد أنّ الحكم بحسب الواقع والإرادة الجدّية كذلك ، وأنّ العامّ بعد التخصيص يبقى على تمام الموضوعية واقعاً ، فهو ظاهر البطلان كما عرفت .

الوجه الثاني في تقرير الأصل : ما يظهر من العلاّمة الأنصاري - على ما في تقريرات بحثه - من إجراء أصالة عدم القرشية بنحو الهلية المركّبة ، فيقال : إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها ، والآن كما كانت(2) .

ويرد عليه عين ما أوردنا على المحقّق الخراساني .

ص: 281


1- مقالات الاُصول 1 : 444 - 445 .
2- اُنظر مطارح الأنظار 2 : 143 - 144 .
وهم وإزاحة :

قال المحقّق الخراساني ما حاصله : إنّه ربّما يظهر من بعضهم(1) : التمسّك بالعمومات فيما إذا شكّ في فردٍ ، لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة اُخرى ، كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائعٍ مضاف ، فيستكشف صحّته بعموم مثل : «أوفوا بالنذر»(2) فيما إذا وقع متعلّقاً للنذر . ثمّ ردّه قائلاً : بأنّ ذلك ممّا لا يكاد يتوهّمه عاقل(3) .

وأنت خبير : بأنّ عدم جواز التمسّك بأدلّة وجوب الوفاء بالنذر لصحّة الوضوء بالمائع المضاف ، ليس إلاّ من جهة عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ؛ فإنّ أدلّة النذر - بعد تقييدها بقوله : «لا نذر إلاّ في طاعة اللّه»(4) - تكون من قبيل العامّ المخصّص ؛ ممّا لا يجوز التمسّك بها فيما شكّ في كونه طاعة اللّه من جهة الشبهة المصداقية .

نعم ، هنا أمر آخر : وهو دعوى كشف حال الفرد بعد التمسّك بالعامّ ، فيحكم بصحّة الوضوء ، وكونه طاعة اللّه ، فهو من أفراد العامّ لا المخصِّص ، وهذا ظاهر الفساد ، وأمّا صِرف التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، فليس ظاهر الفساد ولا ينبغي التعبير عنه بما عبّر به .

ص: 282


1- اُنظر مطارح الأنظار 2 : 148 .
2- هذا إشارة إلى قوله تعالى )وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ(. الحجّ (22) : 29 .
3- كفاية الاُصول : 261 - 262 .
4- راجع وسائل الشيعة 23 : 317 ، كتاب النذر والعهد ، أبواب النذر والعهد ، الباب 17 .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قوله : «لا نذر إلاّ في طاعة اللّه» من قبيل المقيّد لدليل «أوفوا بالنذر» فيصير معنوناً بعنوانه فيكون التمسّك به من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفس العامّ ، وهو ممّا لا يلتزم به عاقل ، كما أفاد .

ثمّ لا يخفى : أنّ تأييد كلام هذا القائل بما ذكر في «الكفاية» - من أدلّة صحّة الإحرام قبل الميقات والصيام في السفر إذا تعلّق بهما النذر(1) ممّا لم يظهر له وجه ، فإنّ مدّعى هذا القائل هو جواز الوضوء والغسل بالمائع المضاف مطلقاً ؛ تعلّق به النذر أو لا ، واستدلّ عليه : بإطلاق أدلّة وجوب الوفاء بالنذر ؛ لكشف حال الفرد المشكوك فيه . ولا يؤيّد ذلك هذا المدّعى ؛ لأنّ الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر ممّا لا يجوزان شرعاً ، وما يكون جائزاً هو الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر مع تعلّق النذر بهما ، لا مطلقاً ، فما ذكر من التأييد غير مربوط بالمدّعى .

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر لتصحيح نذر الإحرام قبل الميقات(2) والصيام في السفر(3) ثبوتاً مع حرمتهما قبله وقيام الدليل على الصحّة في مقام الإثبات وجوهاً :

أحدها : أنّ الدليل الدالّ على الصحّة إثباتاً ، يكشف عن رجحانهما ذاتاً قبل الميقات وفي السفر ، لكن لم يؤمر بهما استحباباً أو وجوباً ؛ لمانعٍ مرتفع بالنذر .

ص: 283


1- كفاية الاُصول : 262 .
2- راجع وسائل الشيعة 11 : 326 ، كتاب الحجّ ، أبواب المواقيت ، الباب 13 .
3- راجع وسائل الشيعة 10 : 198 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ، الباب 10 ، الحديث 1 و 7 .

وردّه : بأ نّه مخالف لما دلّ على أنّ الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت(1) .

ثانيها : أ نّهما يصيران راجحين بنفس تعلّق النذر بهما ، بعد عدم كونهما كذلك .

لا يقال : كيف يعقل ذلك مع قيام الدليل على أن «لا نذر إلاّ في طاعة اللّه» ؟ ! لأنّ لازمه توقّف النذر على الرجحان والرجحان على النذر ، مضافاً إلى لزوم صيرورتهما توصّليين ؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر توصّلي .

لأنّه يقال : إنّ دليل صحّتهما يكشف عن عروض عنوانٍ راجح عليهما ، غير عنوان الإحرام والصوم ، وغير عنوان النذر ، بل عنوان آخر ملازم لتعلّق النذر بهما ، وذلك ممّا يصحّح عباديتهما .

ثالثها : تخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلّق النذر بهذا الدليل ، وحينئذٍ يمكن أن يقال : بكفاية الرجحان الطارئ من قِبَل النذر .

لا يقال : إنّ الرجحان الطارئ من قِبَله لا يصحّح العبادية ، كما أشرنا إليه آنفاً .

فإنّه يقال : عباديتهما إنّما هي لأجل تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً ومتقرّباً بهما منه تعالى ؛ فإنّه وإن لم يتمكّن من إتيانهما كذلك قبله ، إلاّ أ نّه يتمكّن منه بعده ، ولا يعتبر في صحّة النذر إلاّ التمكُّن من الوفاء ولو بسببه(2) انتهى .

ويرد على الوجه الثاني : أنّه لا معنى لصيرورتهما عباديين لأجل طروّ عنوانٍ مجهول يغفل عنه المكلّف ، ولا يكون مقصوداً له ، لا تفصيلاً ولا إجمالاً ، وإنّما هو أمر يخترعه عقل بعض المدقّقين ؛ لتصوير الإمكان ثبوتاً .

ص: 284


1- راجع وسائل الشيعة 11 : 323 ، كتاب الحجّ ، أبواب المواقيت ، الباب 11 ، الحديث 3 .
2- كفاية الاُصول : 263 .

وعلى الوجه الثالث : أنّ تصوير العبادية بما ذكر - من أخذها في متعلّق النذر ، وتعلّق الأمر بالوفاء به على الموضوع المتقيّد بقصد التقرّب - كرٌّ على ما فرّ منه قدّس سرّه في باب التعبّدي من عدم إمكان أخذ التقرّب في متعلّق الأمر ، وأ نّه مستلزم لعدم إمكان إتيان المأمور به ؛ لتوقّف داعوية الأمر على داعويته بالتفصيل الذي مرّ ذكره(1) .

نعم ، بناءً على ما ذكرنا من تصويره ، لا مانع منه ، فراجع(2) .

الأمر الرابع: في التمسّك بأصالة العموم عند الشكّ بين التخصيص والتخصّص

لو ورد عامٌّ ، وعلم بعدم كون فردٍ محكوماً بحكمه ، وشكّ في كونه من باب التخصيص أو التخصّص ، فهل يجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص لكشف حال الفرد ؛ بأن يقال : إكرام كلّ عالم واجب بحكم أصالة العموم ، فمن لا يجب إكرامه فليس بعالم ؛ بحكم عكس النقيض اللازم للقضيّة ، فزيد مثلاً ليس بعالم(3) ؟

الظاهر عدم جريانها لذلك ؛ لأنّ جريانها مخصوص بما إذا شكّ في كون فردٍ محكوماً بحكم العامّ بعد إحراز كونه منه ، وأمّا بعد العلم بالمراد والشكّ في

ص: 285


1- تقدّم في الصفحة 54 .
2- تقدّم في الصفحة 62 - 64.
3- راجع مطارح الأنظار 2 : 149 ؛ كفاية الاُصول : 263 - 264 .

التخصيص والتخصّص ، فلا ؛ لأنّ معنى أصالة العموم ، هو أنّ كلّ فردٍ مرادٍ بالإرادة الاستعمالية ، مراد بالجدّية أيضاً ، فاللفظ لا يتكفّل إلاّ وجوب إكرام كلّ عالم بالإرادة الاستعمالية ، والأصل العقلائي يقتضي كون الإرادة الاستعمالية في كلّ فردٍ مطابقة للجدّية ، ولا يتعرّض العموم لحال الفرد إثباتاً ونفياً ، لعدم كونه مفاده ، وإنّما هو في مقام إثبات الحكم الكلّي ، لا بيان حال الأفراد ، وكذا الأصل العقلائي لا يتعرّض إلاّ لتطابق الإرادتين ، من غير تعرّض لحال الفرد .

الأمر الخامس: لو دار الأمر بين التخصيص والتخصّص لإجمال الخاصّ

لو قامت الحجّة على عدم وجوب إكرام زيدٍ ، وكان مشتركاً بين زيد العالم والجاهل ، وشكّ في التخصيص والتخصّص(1) ، فقد يكون زيد محكوماً بحسب الحجّة بحكم غير إلزامي ، كعدم وجوب إكرامه ، وقد يكون محكوماً بحكم إلزامي ، كحرمة إكرامه .

فعلى الأوّل : لا إشكال في جريان أصالة العموم ، ويكون العامّ حجّة على وجوب إكرام زيد العالم ، ولا ترفع اليد عنه لأجل الدليل المجمل ، للشكّ في التخصيص بعد قيام الحجّة على وجوب إكرامه .

ومعلوم أنّ هذه المسألة غير السابقة التي حكمنا بأنّ أصالة العموم لا تكشف عن حال الفرد .

ص: 286


1- راجع مطارح الأنظار 2 : 150 .

وعلى الثاني : يمكن أن يتمسّك أيضاً بأصالة العموم ؛ بأن يقال : إنّ مقتضاها كون زيد العالم واجب الإكرام ، ولازم وجوب إكرامه عدم حرمة إكرامه ، ولازم ذلك أن يكون زيد المحرّم إكرامه هو زيد الجاهل ، لا العالم ، ولوازم الاُصول العقلائية حجّة ؛ لكونها أمارة على الواقع ، وحينئذٍ تنحلّ الحجّة الإجمالية ، لا بمعنى الانحلال الاصطلاحي ، بل بمعنى أ نّها تنحلّ إلى قيام الحجّة بوجوب إكرام زيد العالم ، وحرمة إكرام زيد الجاهل ، فانحلالها بحسب أثرها ؛ فإنّه لولا أصالة العموم يكون أثر الحجّة الإجمالية تنجّز الحرمة الواقعية ، ولزوم ترك إكرام كليهما عقلاً .

وقد يقال : إنّ الحجّة الإجمالية تنحلّ إذا قامت الحجّة على وجوب إكرام زيد العالم بالخصوص ، كما لو قامت البيّنة على وجوب إكرام زيد العالم ، وأمّا العامّ فلا يتكفّل لحكم الأفراد بالخصوص ، بل هو حكم عامّ متعلّق بعنوانٍ عامّ هو عنوان «العالم» ؛ من غير تعرّضٍ للفرد بخصوصه ، والحجّة الإجمالية القائمة على حرمة إكرام زيد المردّد بين العالم والجاهل - التي يجب عقلاً الخروج عن عهدتها بترك إكرام كليهما - تقدّم على العامّ(1) .

وفيه : أ نّه لا فرق من هذه الجهة بين إفادة حكم زيد العالم بدليل خاصّ أو حجّة عامّة ، فإنّ زيداً مصداق العالم وجداناً ، ومحكوم بوجوب الإكرام ؛ بضمّ الصغرى الوجدانية إلى الكبرى الكلّية ، فإذا وجب إكرامه لا يحرم إكرامه ، ولازمه حرمة إكرام زيد الجاهل ، ولازم الاُصول اللفظية حجّة ، كما عرفت .

ص: 287


1- اُنظر أجود التقريرات 2 : 318 .

الأمر السادس: في وجه فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة

قد يتوهّم : أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب - بل المتّفق عليه بينهم - من الحكم بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين أن تكون يداً عادية أو أمينة ؛ للاشتباه من جهة الاُمور الخارجية ، إنّما هو لأجل التمسّك بعموم قوله : «على اليد ما أخَذَتْ حتّى تؤدّي»(1) ، مع أ نّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وهذا مع كونه مخالفاً للتحقيق ، مخالف لقواعد باب القضاء ، لأنّ عدم الضمان موافق للأصل ، وللمدّعي إثباته .

ويدفع : بأنّ فتوى المشهور ليس لما ذكر ، بل للروايات الواردة في هذا الباب ؛ ممّا يستفاد منها هذا الحكم .

ص: 288


1- عوالي اللآلي 1 : 224 / 106 ؛ مستدرك الوسائل 14 : 7 ، كتاب الوديعة ، الباب 1 ، الحديث 12 ؛ المسند ، أحمد بن حنبل 15 : 121 / 19969 ؛ سنن أبي داود 2 : 318 / 3561 .

فصل في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن مخصِّصه ؟ فيه خلاف . وربّما يدّعى الإجماع على عدم الجواز(1) ، لكن هذه المسألة ليست من المسائل التي تكشف الشهرة أو الاتّفاق عن نصٍّ خاصّ ، فلا تكون من المسائل الإجماعية ، مع أ نّها لم تكن معنونة قبل القرن الرابع على ما يشهد به التتبّع ؛ فإنّ أوّل من تعرّض لها هو أبو العبّاس بن سريج في أواخر القرن الثالث ، أو أوائل القرن الرابع ، واختار عدم الجواز(2) ، وأنكر عليه تلميذه أبو بكر الصيرفي قائلاً : بأ نّه لولا جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن مخصِّصه ، لوجب أن لا يجوز العمل بالحقيقة قبل الفحص عن قرينة المجاز(3) .

ثمّ بعد ذلك صارت المسألة معنونة في كتب القوم ، وقد عثرنا على هذا

ص: 289


1- اُنظر قوانين الاُصول 1 : 272 ؛ مطارح الأنظار 2 : 157 .
2- اُنظر اللمع في اُصول الفقه : 91 ؛ المحصول في علم اُصول الفقه 2 : 535 .
3- اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 2 : 537 .

البحث وكلامهم فيه في مطاوي كلماتهم في جواز إسماع المتكلّم العامّ المخصّص من غير ذكر مخصِّصه متّصلاً به ، بل أورد المخصِّص منفصلاً(1) .

ومن المعلوم : أنّ البحث عن حجّية العامّ قبل الفحص ، متفرّع على جواز إسماع العامّ المخصّص بدون ذكر مخصِّصه .

وليعلم : أنّه لا دخالة للعامّ - بما أنّه عامّ - في الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة ، ولا بما أنّه من الأدلّة اللفظية ، بل البحث يطّرد في جميع الاُصول اللفظية والعقلية .

فيقال : هل يجوز العمل بالظهور قبل الفحص عن معارضه ، وهو يعمّ أصالة الحقيقة والعموم والإطلاق ، وهل يجوز العمل بالاُصول العقلية - كأصل البراءة - قبل الفحص عن البيان ؟

فلا فرق في الاُصول اللفظية والعقلية مطلقاً في الجهة المبحوث عنها .

وما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : من الفرق بين الفحص هاهنا وبينه في الاُصول العملية ؛ بأ نّه هاهنا عمّا يزاحم الحجّة ، بخلافه هناك ، فإنّه بدونه لا حجّية ؛ ضرورة أنّ العقل بدونه يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيانٍ ، والنقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً ، إلاّ أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به(2) .

ليس على ما ينبغي ، ضرورة أنّ العامّ - بما أ نّه لفظ كاشف عن الإرادة

ص: 290


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 390 - 391 ؛ العدّة في اُصول الفقه 2 : 465 - 466 ؛ المعتمد في اُصول الفقه 1 : 331 .
2- كفاية الاُصول : 265 - 266 .

الاستعمالية - لا يكون حجّة إلاّ إذا جرت فيه أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية للجدّية وهي لا تجري قبل الفحص عن المخصّص ، فلا يكون العامّ قبل الفحص حجّة ؛ حتّى يكون الفحص عن مزاحمها بعد تمامية الحجّة ، بل الفحص من متمّمات الحجّية ، كما أنّ النقل الدالّ على البراءة والاستصحاب [يكون] من العمومات أو الإطلاقات التي تكون مورد البحث في جواز التمسّك بها قبل الفحص ، وقد عرفت أنّ المسألة ليس من المسائل الإجماعية .

ثمّ اعلم : أنّ «الجواز» في عنوان البحث ليس الجواز التكليفي ؛ بمعنى أ نّه لو عمل به قبل الفحص لارتكب محرّماً ، بل بمعنى صحّة الاحتجاج وعدمه ، كما هو الشأن في سائر المسائل الاُصولية ، فلو عمل به قبل الفحص ، فصار مخالفاً لمطلوب المولى ؛ لأجل ورود التخصيص لم يكن معذوراً ، ويكون معاقباً على مخالفة الواقع ، لا على ترك الفحص والعمل بالعامّ قبله ، كما أ نّه لو عمل به بعده يكون معذوراً ، وله الحجّة على المولى .

ثمّ إنّ محلّ البحث في المسألة - كما يظهر من المحقّق الخراساني(1) - إنّما هو بعد الفراغ عن اعتبار أصالة العموم بالخصوص من باب الظنّ النوعي ، لا من باب الظنّ المطلق ، ولا من باب الظنّ الخاصّ الفعلي ، ولا يكون العلم الإجمالي حاصلاً بوجود المخصِّص ؛ ضرورة أنّ مع القول باعتبارها من باب الظنّ المطلق أو الظنّ الفعلي ، يكون الأمر دائراً مدار حصولهما ، فلا مجال للبحث عن الحجّية قبل الفحص أو بعده ، كما أنّه لو علم إجمالاً بورود المخصِّص ، فلا مجال

ص: 291


1- كفاية الاُصول : 264 .

للتشكيك في لزوم الفحص ، وإن يظهر من استدلال بعض المحقّقين على لزومه بالعلم الإجمالي بورود المخصّصات(1) ، أعمّية البحث .

وكيف كان : فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله علیه على عدم الجواز فيما إذا كان العامّ في معرض التخصيص دون غيره : بأ نّه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقلّ من الشكّ(2) .

ولم يظهر مراده من المعرضية ؛ هل هي عبارة عن احتمال المخصِّص أو الظنّ به ، أو العلم الإجمالي به ؟

فعلى الأوّل : يكون هذا الاحتمال حاصلاً لجميع العمومات من غير فرق بينها ، وليس بناء العقلاء على الاعتناء بمثل هذا الاحتمال ، ولا الفحص عن المخصِّص المحتمل ، كما يظهر بالتأمّل في بنائهم على العمل بالعمومات الصادرة عن الموالي العرفية .

وعلى الثاني : لا يكون دليل على اعتبار هذا الظنّ ، وليس بناء العقلاء على عدم العمل معه .

وعلى الثالث : يكون خلاف المفروض ؛ لأنّ الكلام فيما إذا لم يكن علم إجمالي في البين .

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده : ما هو موافق للتحقيق - كما يظهر من ذيل كلامه - وهو أنّ العمومات قد تكون في لسان أهل المحاورة من الموالي والعبيد لدى التخاطب مشافهة أو مكاتبة ، وفي هذه الصورة لا شبهة في حجّيتها ولو مع

ص: 292


1- مطارح الأنظار 2 : 168 ؛ مقالات الاُصول 1 : 455 .
2- كفاية الاُصول : 265 .

احتمال التخصيص ، وكذا لا شبهة في حجّية سائر الظواهر من الإطلاقات والحقائق مع احتمال المعارض لها ، بل ولو مع العلم بأنّ المولى قد يعوّل على مخصِّصٍ ومقيِّدٍ منفصلين . والدليل على ذلك بناء العقلاء وسيرتهم ، وليس للعبد بعد ورود العامّ من المولى أن يترك العمل باحتمال ورود المخصِّص ، ولا للمولى أن يعاقب العبد على العمل بالعامّ مع ترك الفحص ، وذلك ظاهر .

وقد تكون العمومات وأمثالها في لسان المشرِّع والمقنِّن ، ويكون له كتاب قانونٍ وتشريعٍ الذي من شأنه أن تذكر فيه المخصِّصات والمقيِّدات وسائر القيود والحدود . وهذا المقنّن قد لا يبالي بمخالفة أحكامه عند الجهل بها ، وقد لا يكون كذلك ، بل يكون معتنياً بها ، ففي هذه الصورة لا يكون للعبد عذر في ترك الفحص عن أحكامه الواقعية .

والأمر في الأحكام الشرعية كذلك ؛ فإنّ أحكامه تعالى قوانين مدوّنة في الكتاب والسنّة النبوية وأخبار أهل العصمة - عليهم صلوات اللّه - ويكون من شأنها ورود المخصِّصات والمقيِّدات عليها ، وقد أمر اللّه تعالى عباده بتعلّم أحكامه ، فقال : «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَ-تَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ...»(1) إلى آخره ، وورد : أنّ «طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ»(2) و«هلاّ تعلَّمت»(3) وأمثالها .

ص: 293


1- التوبة 9: 122.
2- الكافي 1 : 30 / 1 ؛ وسائل الشيعة 27 : 26 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 4 ، الحديث 17 .
3- الأمالي، الطوسي: 9 / 10.

والذي يظهر بالتأمّل في الآيات والأخبار أنّ المراد بالعلم ليس هو العلم الوجداني ، بل هو بمعنى العلم بالأحكام من طريق الأدلّة ؛ أي الخطابات الواردة في لسان الكتاب والسنّة ، كما هو الظاهر من قوله تعالى : «أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ»(1) ؛ أي العلم المأثور ، ومعلوم أنّ وجوب التعلّم ليس نفسياً يعاقب المكلّف على تركه ، بل يكون العقاب على ترك الأحكام الواقعية .

وبالجملة : قد قطع اللّه تعالى العذر عن عباده في ترك الفحص وترك التعلّم لأحكامه الواقعية ، فللّه على الناس حجّة بالغة(2) ، وليس لهم عليه تعالى حجّة ، فلا بدّ لكلّ مكلّفٍ أن يتفحّص عن مرادات اللّه وأحكامه الواقعية بالمقدار الميسور له .

هذا حال لزوم الفحص بناءً على ما ذهبنا إليه ، وقد عرفت : أنّ المناط فيه ليس هو العلم الإجمالي ، فلا مورد لبعض الإشكالات(3):

منها : أنّه لا يجوز العمل بالعامّ قبل انحلال العلم ولو بعد الفحص الكثير .

ومنها : أنّه بعد الانحلال لا يجب الفحص عن مخصِّصات العمومات المشكوك في تخصيصها .

وذلك لما عرفت : من أنّ المناط للفحص هو ما دلّ على وجوب التعلّم من الآيات والأخبار ، فبعد الفحص والتعلّم تصير العمومات حجّة ، وليس للعبد عذر قبل الفحص ولو في الشبهة البدوية .

ص: 294


1- الأحقاف (46) : 4 .
2- إشارة إلى الآية 149 من سورة الأنعام .
3- اُنظر مقالات الاُصول 1 : 455 .

نعم ، بناءً على أنّ لزوم الفحص إنّما هو من جهة العلم الإجمالي ، لا يجوز التمسّك بالعموم ولو بعد الفحص عنه ما لم ينحلّ العلم ؛ لعدم خروجه عن الطرفية بالفحص عنه .

والجواب عن هذه الشبهة بأ نّه بعد الفحص عنه يعلم أ نّه خارج عن طرف العلم من أوّل الأمر(1)، كما ترى .

هذا حال الفحص .

وأمّا مقداره فيتفاوت بحسب الوجوه التي استدلّ بها له ؛ فإن كان المبنى هو العلم الإجمالي ، فلا بدّ من الفحص حتّى ينحلّ العلم ، وإن كان حصول الظنّ فإلى أن يحصل .

وبناءً على ما ذكرناه فلا بدّ من الفحص بالمقدار الميسور له ؛ بحيث لا يقع في العسر والحرج ، فلا بدّ من تحصيل التكاليف الواقعية ، وتهيئة وسائله من تعلُّم العلوم العربية ، والمنطق ، واُصول الفقه بمقدار الاحتياج ، والتتبّع لفتاوى الفقهاء لكي لا يقع في خلاف الإجماع أو الشهرة المتّبعة ، وتعلّم القرآن ولا أقلّ من آيات أحكامه ، بل ربّما يكون العلم بغيرها دخيلاً في فهم بعض الأحكام ، وتعلّم علم الحديث والرجال ، والبحث عن الأسانيد وطبقات الرجال ، والفحص عن الروايات ، بل عن روايات أهل السنّة وفتاويهم ، فإنّها أيضاً قد تكون دخيلة في فهم أحكام اللّه .

وبالجملة : لا بدّ للمكلّف أن يبذل جهده لتحصيل الأحكام ، وليس له العذر في تركه ، ونسأل اللّه التوفيق والتأييد له ، وعلى اللّه التكلان .

ص: 295


1- مقالات الاُصول 1 : 455 .

فصل في الخطابات الشفاهية

هل الخطابات الشفاهية تختصّ بالحاضرين أو تعمّ غيرهم حتّى المعدومين ؟ هذا النزاع كان معنوناً بين الاُصوليين من قديم الأيّام(1) .

والمحقّق الخراساني جعل ما يمكن أن يكون محلّ النزاع أحد اُمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ التكليف ولو لم يكن بنحو المخاطبة ، هل يمكن تعلّقه بالمعدومين أم لا ؟

ومحصّل ما أفاده في هذا المضمار : أنّ التكليف الحقيقي مستحيل ، والإيقاعي الإنشائي ممكن بلا بعث وزجر فعليين ، بل بغرض أن يصير فعلياً بعد وجودهم وحصول شرائط التكليف ، فلا يكون لغواً ، كما أنّ التكليف الفعلي مقيّداً بوجود المكلّف ووجدان الشرائط ، بمكانٍ من الإمكان(2) .

ص: 296


1- نهاية الوصول إلى علم الاُصول 2: 193 ؛ المستصفى من علم الاُصول 2 : 81 ؛ المحصول في علم اُصول الفقه 1 : 393 - 394 ؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 245 .
2- كفاية الاُصول : 266 - 267 .

هذا ، ولا يخفى : أنّ النزاع على الوجه الأوّل ممّا لا معنى له ؛ فإنّ أحداً من العقلاء لا يمكن أن يجوِّز تعلّق التكليف بالمعدوم في حال عدمه ، كما أنّ التكليف الإيقاعي الإنشائي لا لغرض البعث ، لا يصير فعلياً عند وجود الشرائط ، والبعث الإنشائي الإيقاعي ممّا لا يمكن تعلّقه وتوجّهه بالمعدومين ويكون لغواً .

وليعلم : أنّ طرفي النزاع قد تسالما على أنّ التكاليف مشتركة بين الموجودين والمعدومين ، وأنّ حكمه تعالى على الأوّلين حكمه على الآخرين ، ولكنّ النزاع في أنّ الاشتراك إنّما هو ثابت بنفس الخطابات المشتملة على التكاليف ، أو بغيرها مثل إجماعٍ أو ضرورة أو دليل لفظي ، ومعلوم أ نّه بعد هذا التسالم لم يكن النزاع فيما أفاده رحمه الله علیه .

ولا يخفى : أنّ نفس العناوين المأخوذة في التكاليف - مثل قوله تعالى : «وَللّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1) وقوله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ»(2) و«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا»(3) لا تصدق إلاّ على الموجودين ، فلا يكون المعدوم ناساً ، ولا مستطيعاً ، ولا مؤمناً ، ولا مصداقاً لأمرٍ من الاُمور ، وعنواناً من العناوين .

فالنزاع إنّما يكون في أنّ التكاليف المتعلّقة بالعناوين ، هل تختصّ بالمصاديق المتحقّقة حال الخطاب أو في مجلس المخاطبة ، أو تعمّ غيرهم ممّن سيوجد تدريجاً ، ويصير مصداقاً لها في عمود الزمان ؟

ص: 297


1- آل عمران (3) : 97 .
2- النساء (4) : 170 .
3- البقرة (2) : 104 .

وإن شئت قلت : إنّ القضايا المتضمّنة للتكاليف ، هل هي قضايا خارجية ، أو حقيقية ، وتكون التكاليف متعلّقة بالعناوين بغرض البعث والزجر ، لكن بنحو القضايا الحقيقية ؛ من غير تقيّدها بزمن الخطاب ، فتصير فعلية لدى وجود المكلّف ، وصيرورته مصداقاً للعناوين ، وجامعاً لشرائط التكليف ؟

وهذا النزاع مضافاً إلى إمكانه واقع .

والحقّ : هو الثاني ، وأنّ كلّ فردٍ من الأفراد في ظرف وجوده وصيرورته مصداقاً لها ، مبعوث بنفس الخطابات الصادرة ، وتكون حجّة عليه في ظرف تحقّقه من دون أن تعمّ التكاليف المعدومين ، أو تقيّد بوجود المكلّف ووجدانه الشرائط .

وما يقال : من أنّ التكليف إضافة متقوِّمة بمتضايفين ، ولا يمكن أن تتحقّق بين الموجود والمعدوم ، فلا بدّ في التكليف ولو إنشائياً بغرض البعث ، من وجود المكلّف بالكسر والفتح(1) . خلط بين الإضافة التي من المقولات ، وبين الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة ، مثل العلم والقدرة والإرادة ؛ فإنّ الثانية تكون تحقّقها بقيامها بنفس العالم والقادر والمريد ، مضافةً - بنحو من الأنحاء - إلى المعدوم ، كالعلم بالأشياء المستقبلة ، وكعلمه تعالى قبل الإيجاد .

نعم ، الإضافة المقولية لا يمكن تحقّقها إلاّ بين الموجودين .

الثاني : هل تصحّ المخاطبة مع المعدومين وتوجيه الخطاب إليهم ولو لم يكن متضمّناً للتكليف ؟

ص: 298


1- اُنظر قوانين الاُصول 1 : 229 / السطر21 .

حاصل ما أفاده في هذا المقام : أ نّه يمتنع الخطاب الحقيقي إلى المعدوم حال عدمه ، وأمّا بملاحظة حال وجوده فلا مانع منه ، كما أنّ الخطاب الإيقاعي الإنشائي ممّا لا مانع منه حتّى إلى المعدوم ، ونتيجته صيرورته فعلياً عند وجوده وحصول شرائطه .

والظاهر أنّ مثل أدوات النداء لم يكن موضوعاً للخطاب الحقيقي ، بل هو موضوع للإيقاعي الإنشائي منه ، فالمتكلّم ربّما يوقع الخطاب بها تحسّراً أو تأسّفاً أو حزناً ، كقوله : يا كوكباً ما كان أقصرَ عُمرَه . . .(1) . فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي حينئذٍ التخصيص بمن يصحّ مخاطبته .

نعم ، لا يبعد دعوى الانصراف إلى الخطاب الحقيقي ، كما هو الحال في أداة الاستفهام والتمنّي والترجّي(2) ، انتهى موضع الحاجة .

أقول : حقيقة الخطاب عبارة عن توجيه كلامٍ إنشائي أو إخباري إلى شخص لغرض إفهامه ، ولا يتقوّم تحصُّل الخطاب بتضمّن الكلام لأداة الخطاب ، كالكاف وحروف النداء وأمثالها ، فلو ألقى متكلّم كلاماً إخبارياً إلى شخص ، فقال - متوجّهاً إليه ولغرض إفهامه - : «زيد قائم» ، يكون الكلام خطاباً بالحمل الشائع ، والسامع مخاطباً كذلك ؛ من غير احتياج إلى أداة الخطاب . نعم ، مع اشتمال الكلام عليها يكون آكد فيه من عدمه .

فالخطاب عبارة عن توجيه الكلام إلى الغير لغرض إفهامه وإعلامه ؛ [ليصل]

ص: 299


1- عجزه : «وكذاك عمر كواكب الأسحار» . وهو من قصيدة للشاعر أبي الحسن التهامي . راجع تأسيس الشيعة : 215 - 216 .
2- كفاية الاُصول : 267 - 268 .

المتكلّم بواسطة فهم المخاطب ، إلى ما هو مقصده الأعلى .

وليس هذا المعنى من المعاني التي يقع بإزائها لفظ ، كسائر الألفاظ الموضوعة للمعاني ، بل التكلّم بما هو فعل من الأفعال الاختيارية للمتكلّم ، يكون بحسب طبعه عند العقلاء آلةً للتوسّل بها إلى التخاطب ؛ بحيث لو سلب عنها ذلك ، ويتوسّل بها إلى غيره من المقاصد - كإظهار التأثّر والتأسّف أو الإشفاق والشوق - يكون مجازاً عقلائياً ، لا لفظياً لغوياً ؛ بمعنى أن هذا الفعل الاختياري الذي يكون بحسب طبعه آلة للتوجّه إلى الغير لغرض الإفهام ، إذا توجّه بها إلى ما ليس له شعور وإدراك ، لغرضٍ آخر غير الإفهام - كالتحسّر في قوله : ياكوكباً ما كان أقصرَ عُمرَه . . . - لا تكون ألفاظه مستعملة في غير معانيها اللغوية ، فحرف النداء في المثال وكذا سائر ألفاظه استعملت في معانيها الموضوعة لها ، لكن وقع هنا انحراف وتجوّز في التكلّم الذي هو من الأفعال الاختيارية ، لا من الألفاظ الموضوعة للمعاني ، فالمجاز عقلائي لإيجاد ما يكون إيجاده طبعاً لغرض الإفهام لا لهذا الغرض ، بل لمقاصد اُخر .

وإنّما قلنا : إنّه مجاز وانحراف ، لأنّ العقلاء يحملون إيجاد هذا الفعل الاختياري على طبق طبعه لو خُلّي ونفسه ، فلو قال المولى لعبده : «أكرم زيداً» ، ليس له أن يعتذر عن تركه ؛ باحتمال صدور الكلام منه لغرض آخر غير الإفهام ، من الاُمور المترتّبة على هذا الفعل الاختياري ، فإنّه لا يصار إليه إلاّ مع نصب قرينة ، ومع عدمها يحمل التكلّم على ما هو طبعه .

واتّضح ممّا ذكرنا : أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني من أنّ الخطاب موضوع

ص: 300

للإيقاعي والإنشائي ، ولكنّه منصرف إلى الحقيقي(1)، ليس على ما ينبغي ؛ لما عرفت من أنّ الخطاب لم يكن من الألفاظ الموضوعة ؛ حتّى يقال : إنّه موضوع لمعنى كلّي ، ومنصرف إلى أحد أفراده أو أقسامه ، بل هو فعل اختياري كسائر الأفعال الاختيارية ، كما أنّ الأمر في الطلب وأمثاله ليس على ما أفاده ، بل كما ذكرنا على ما مرّ تفصيله .

هذا مضافاً إلى أنّ الخطابات الإلهية في الكتاب العزيز ، ليست صادرة لغير غرض الإفهام ، كالتأسّف والتحزّن والتحسّر وأمثالها بالضرورة .

مع أنّ نسبة الخطابات الإلهية إلى المعدومين والموجودين في زمن الخطاب وفي محضر النبي صلی الله علیه و آله وسلم على السواء ؛ فإنّها إنّما نزلت على قلب سيّد المرسلين صلی الله علیه و آله وسلم ، كما قال تعالى : «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَميِنُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ»(2) ، ومعلوم أ نّها لم تكن من الخطابات اللفظية التي يسمعها كلّ سامع ولو كان حاضراً في مجلس الوحي ، والنبي صلی الله علیه و آله وسلم إنّما هو حاكٍ عن تلك الخطابات الغيبية ، لا أنّها هي نفس الخطابات كما هو واضح وحكايته عن الوحي وصل إلينا بالواسطة ؛ فلا يضرّ بالمدّعى تصرُّم الألفاظ وعدم سماعها ، بعد كون الحكاية مستمرّة بالكتابة أو بالنقل ، كما قال تعالى : «لِاُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ»(3) ، فنفس الخطاب غير مسموع لأحد ، ولا مستمرّ الوجود ، لكن الحكاية عنه مستمرّة باقية إلى آخر الأبد .

ص: 301


1- كفاية الاُصول : 267 - 268 .
2- الشعراء (26) : 193 - 194 .
3- الأنعام (5) : 19 .

وممّا ذكرنا يتّضح النظر فيما أفاده قدّس سرّه .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ النزاع في باب شمول الخطابات للمعدومين ، ليس في شمولها في حال عدمهم ؛ بحيث يكون المعدوم طرف المخاطبة مع كونه معدوماً ؛ فإنّه ضروري البطلان ولا يمكن أن يكون مورد النقض والإبرام بين الأعلام ، بل الكلام في أنّ تلك الخطابات ، هل صدرت لغرض إفهام الموجودين حال الخطاب أو الأعمّ منهم ومن المعدومين في زمنهم ؛ ممّن سيوجد في عمود الزمان بحسب التدريج كلّ في وعائه وزمانه لا حال عدمه ، فقوله تعالى : «للّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»(1) مثلاً صدر لإفهام كلّ من كان مصداقاً لهذا المفهوم في الأزمنة المتدرّجة ، وهذا نزاع معقول يمكن الذهاب إلى طرفيه .

والحقّ أن يقال : إنّ الخطاب الصادر من المتكلّم إذا لم يكن له ثبات بوجهٍ ولو بحفظه بالدفاتر والخواطر ، لا يمكن أن يكون خطاباً إلى غير الموجود في مجلس الخطاب . وإن كان له ثبات ولو بالكتب والحفظ ولو في بعض الآلات ، فلا إشكال في إمكان تعميمه كالخطابات الواردة في الكتب ، مثل قوله : «اعلم» ، «افهم» وكالوصايا من الأشخاص إلى أولادهم نسلاً بعد نسل ، ولا إشكال في أنّ الخطابات الإلهية من هذا القبيل .

ص: 302


1- آل عمران (3) : 97 .

فصل في تخصيص العامّ بالضمير الراجع إلى بعض أفراده

إذا تعقِّب العامّ بضمير راجع إلى بعض أفراده ، فهل يوجب ذلك تخصيصه أم لا ؟ كقوله تعالى : «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» إلى قوله : «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ»(1) حيث اختصّ حكم الأحقّية بالردّ بالرجعيات .

قال المحقّق الخراساني : إنّه دار الأمر بين التصرّف في العامّ ؛ بإرادة خصوص ما اُريد من الضمير ، أو التصرّف في الضمير ، بإرجاعه إلى بعض ما هو مرجعه ، أو بارتكاب التجوّز في نسبة الحكم إلى الكلّ توسّعاً ، ومع الدوران بينها تكون أصالة العموم بلا معارض ؛ لأنّ المراد من الضمير معلوم ؛ لرجوعه إلى الرجعيات مثلاً ، وإنّما الشكّ في كونه من باب الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد ، ولم يثبت بناء العقلاء على اتّباع الظهور في ذلك ، بل المتيقّن منه اتّباعه في تعيين المراد ، لا في كيفية الاستعمال .

ص: 303


1- البقرة (2) : 228 .

هذا ، إذا انعقد للكلام ظهور في العموم ، وأمّا مع اكتنافه بما يصلح للقرينية ، فيحكم بالإجمال ، ويرجع إلى ما تقتضيه الاُصول(1) ، انتهى ملخّصاً .

أقول : إنّ الاحتمالين الأخيرين ساقطان رأساً . أمّا احتمال رجوع الضمير إلى بعض ما اُريد من المرجع ، فلما عرفت في محلّه : من أنّ المبهمات - ومنها الضمائر - إنّما وضعت لما هو إشارة بالحمل الشائع ؛ أي لإيجادها ، لا لمفهومها ، ولا لمصداق المشار إليه ، كما يتراءى من بعض حواشي «المطوّل»(2) ، ولا بدّ للإشارة من تعيّن المشار إليه بوجهٍ : إمّا بنحو الحضور خارجاً ، أو ذهناً ، أو بنحو التخاطب كضمير المخاطب ، أو التكلّم كضمير المتكلّم . ف- «أنت» وأخواتها وضعت للإشارة إلى متعيّن بالتخاطب ، و«هو» وأخواتها وضعت للإشارة إلى متعيّن في الذهن ، أو سابق في اللفظ ، وإذا لم يكن للمرجع تعيّن بوجه ، فلا يكون للإشارة مورد ، فلا بدّ وأن يرجع الضمير إلى كلّ ما اُريد من العامّ ؛ لأنّه

المذكور في الكلام والمتعيّن في المقام ، ولا يكون بعض ما اُريد من العامّ متعيّناً بوجه ؛ لا لفظاً وذكراً ، ولا عقلاً وذهناً ، فاحتمال رجوعه إلى البعض ساقط .

وإن شئت قلت : إنّ الضمير لمّا وضع لأن يكون آلة للإشارة إلى متعيّن ، يكون تابعاً للمشار إليه في العموم والخصوص ، فأصالة الظهور في الضمير تابعة لأصالة العموم ؛ فجريان الأصل في العامّ يرفع الشكّ من الضمير ، ويكون من قبيل الأصل الحاكم .

وأمّا حديث المجاز في الإسناد بإسناد أحقّ-ية الرجوع في الآية إلى كلّ

ص: 304


1- كفاية الاُصول : 271 - 272 .
2- المطوّل : 70 ، حاشية السيّد الشريف .

المطلّقات توسُّعاً ، فهو أيضاً ساقط ، لأنّ إسناد ما للبعض إلى الكلّ ، إنّما يحسن إذا اعتبر الكلّ شيئاً واحداً ، وادُّعي أنّ ما صدر من البعض صادر من الكلّ ؛ لمكان اتّحاده معه ، كقوله : «بنو فلانٍ قتلوا فلاناً» ؛ بدعوى أ نّهم بمنزلة شخصٍ واحد ، فإذا صدر من واحدٍ منهم أمر ، فقد صدر منهم ، وأمّا مع إرادة الاستغراق من العموم ، فحيث يكون كلّ واحدٍ من أفراده مستقلاًّ في الحكم من غير ادّعاء الوحدة ، فلا مصحّح للتجوّز وإرجاع الضمير إلى الكلّ توسّعاً ، فإذا سقط الاحتمالان ، بقي الاحتمال الأوّل .

والتحقيق : أنّ العامّ باقٍ على عمومه ، والضمير راجع إليه والإسناد واقع عليه بحسب الإرادة الاستعمالية ، والمخصِّص الخارجي أخرج بعض ما اُريد بحسب الاستعمال عن العامّ ، كما هو الحال في كلّية المخصِّصات .

وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده من إمكان اكتناف العامّ بما يصلح للقرينية ؛ أي كون الضمير صالحاً للقرينية ؛ لما عرفت من أنّ الضمير تابع لمرجعه ، وأصالة العموم حاكمة على أصالة الظهور فيه ، فلا يصلح الضمير للقرينية ، وإنّما المخصّص للعامّ أمر آخر خارج والمخصّص الخارجي يوجب عدم تطابق الإرادتين في الضمير لا العامّ ؛ لأنّ حكم التربّص ثابت لجميع المطلّقات ، والاختلاف إنّما هو في جواز الرجوع وعدمه .

ص: 305

فصل في تخصيص العامّ بالمفهوم

قد عرفت فيما سبق(1)، الفرق بين المفهوم المخالف والموافق ، وأنّ الثاني

يرجع إلى إلقاء الخصوصية ، ولا يشترط فيه الأولوية ، كما في قوله : الرجل يشكّ بين الثلاث والأربع ، قال : «يبني على الأربع»(2) فإنّ العرف يلقي الخصوصية مع أنّ المرأة لا أولوية لها وبعد فرض إلقاء الخصوصية يخصّص العامّ .

وما أفاده في «الكفاية» من كون التخصيص به مورد الاتّفاق(3)، غير مسلّم ، بل قد يظهر وجود الخلاف بين القدماء ، كما في كلام العضدي - بعد الترديد - : أنّ الأظهر هو التخصيص به(4) فالتعبير به ممّا يتراءى منه الخلاف في المسألة .

ص: 306


1- تقدّم في الصفحة 226 - 227 .
2- راجع وسائل الشيعة 8 : 216 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 10 .
3- كفاية الاُصول : 272 .
4- اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 275 .

وأمّا الأوّل ؛ أي المفهوم المخالف ، فهو يرجع إلى دخالة القيد ، وأنّ الحكم ثابت للذات مع تقيّدها بقيدٍ ، وليست الذات تمام الموضوع للحكم ، وقد عرفت(1) : أنّ ذلك هو مورد بحث القدماء ، دون ما هو المبحوث عنه لدى المتأخّرين من أنّ أداة الشرط يستفاد منها العلّية المنحصرة ، أو الوصف مثلاً يشعر بالعلّية المنحصرة .

وبالجملة : إنّ الملاك في كلّية المفاهيم عند القدماء شيء واحد هو دخالة القيد في الحكم ، فعلى هذا يكون التقييد أو التخصيص بالمفهوم المخالف راجعاً دائماً إلى حمل المطلق على المقيّد ، والسرّ فيه هو السرّ فيه .

مثلاً : ما روته العامّة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من أنّه قال : «خلق اللّه الماء

طهوراً لم ينجّسه شيء ، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته»(2) تكون نسبته إلى قوله : «إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء»(3) ، نسبة المطلق إلى المقيّد ؛ فإنّ الأوّل يدلّ على أنّ الماء تمام الموضوع لعدم التنجّس ، والثاني يدلّ على أنّ للكرّية دخالة فيه ، فتقع المعارضة بين المنطوقين ، ولا إشكال في أظهرية المقيّد في دخالة القيد من المطلق في تمام الموضوعية ، فيحمل عليه .

وأمّا إذا لم يكن الماء كرّاً فلا يدلّ الثاني على شيء ؛ فإنّ المفهوم منه ليس إلاّ دخالة القيد ، وأمّا عدم دخالة شيء آخر ، فلا ، فيمكن أن يقع قيد آخر مقام القيد

ص: 307


1- تقدّم في الصفحة 225 - 226 .
2- راجع التفسير الكبير 24 : 95 .
3- راجع وسائل الشيعة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 1 و 2 و 6 .

المذكور ، فيكون الماء مثلاً مع الجريان أو مع المادّة أيضاً غير منفعل .

وبالجملة : إنّ التخصيص بالمفهوم المخالف عند القدماء ، من صغريات حمل المطلق على المقيّد ، والكلام فيه هو الكلام فيه .

وأمّا عند المتأخّرين ، فعلى القول بالعلّية المنحصرة ليس دلالة مفهومية ، بل هي دلالة بالمنطوق ؛ حيث تدلّ أداة الشرط أو الوصف المعتمد على الموصوف على العلّية المنحصرة ، فتدلّ على عدم الحكم عند عدم القيد ، وحينئذٍ ليس من قبيل المطلق والمقيّد ، كما لا يخفى ؛ ولهذا تدلّ على عدم مدخلية قيدٍ آخر سوى القيد المذكور ، فتدبّر .

ص: 308

فصل الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة

الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة ، هل يمكن رجوعه إلى الكلّ أم لا ؟ وعلى الأوّل هل الظاهر رجوعه إلى الكلّ ، أو الأخيرة ، أو لا ظهور له ؟

قد عرفت في مبحث الحروف : أنّ معانيها غير مستقلّة في الوجود ، وأنّ موجوديتها بنفس المعاني الاستقلالية التي هي فانية فيها ، والاستثناء ب- «إلاّ» من المعاني الحرفية الربطية الغير المستقلّة ، الفانية في المعاني الاسمية .

فحينئذٍ قد يعتبر الجمل المتعدّدة بنعت الوحدة ، فيخرج ب- «إلاّ» من مجموعها من حيث المجموع ، وهذا ممّا لا محذور فيه .

وقد يعتبر القضايا متعدّدة كثيرة ، فيراد أن يستثنى ب- «إلاّ» من كلّ واحدٍ منها ، فمحذوره أشدّ من استعمال لفظٍ واحد في معانٍ متعدّدة ؛ فإنّ الحروف آلة للحاظ المعاني الاسمية وفانية فيها ، ولا يمكن فناء شيءٍ واحد في اُمور كثيرة ، ولا يقاس ذلك بالاستثناءات المتعدّدة ؛ فإنّ حروف العطف فيها رابطة ، فيخرج الأوّل ب- «إلاّ» ويرتبط الثاني به بحرف العطف . . . وهكذا ، فلا محذور فيه ،

ص: 309

بخلاف الاستثناء الواحد من الجمل الكثيرة ، فإنّه من قبيل استعمال اللفظ الواحد في معانٍ متعدّدة ، بل أشدّ محذوراً منه .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاستعمال ليس إلاّ من قبيل العلامة ، فبعد تصوّر الجمل المتعدّدة ، وكون المستثنى خارجاً من كلٍّ منها ، يجعل علامة للإخراج من كلٍّ منها ، فيفهم المخاطب بواسطتها كونه خارجاً من جميعها .

أو يقال : ربّما يلاحظ الجمل الكثيرة بلحاظٍ واحد حين استعمال الأداة الاستثنائية ، وإن تلاحظ تلك الجمل مستقلّة حين استعمالها ، فيستثنى باللحاظ ا لواحد من جميعها . ويؤيّد ذلك : عدم إمكان إلزام أئمّة الأدب بالإشكال المتقدّم .

هذا بحسب مقام الثبوت .

وأمّا بحسب مقام الدلالة والظهور : فلا إشكال في عدم الظهور في شيءٍ ، ولكن القدر المتيقّن هو الأخير ، وغيره يحتاج إلى الدليل .

ص: 310

فصل جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

الحقّ جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص ؛ للسيرة المستمرّة في جميع الأعصار عليه ، ولولاه لما قام للمسلمين فقه ؛ ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب .

واستدلّ على عدم الجواز باُمور :

الأوّل : أنّ الخبر الواحد ظنّي ، والكتاب قطعي ، ولا يجوز رفع اليد عنه به(1) .

والجواب : أنّ التصرّف ليس في السند ، بل في العموم ، وأصالة العموم ظنّية ، فرفع اليد عن العموم به رفع لليد عن الدليل الظنّي بالدليل الظنّي الأقوى ؛ للسيرة العقلائية .

الثاني : أنّ دليل حجّية الخبر هو الإجماع ، وهو قاصر عن المورد ؛ لأنّ القدر المتيقّن منه غيره(2) .

ص: 311


1- العدّة في اُصول الفقه 1 : 344 ؛ اُنظر شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 274 .
2- العدّة في اُصول الفقه 1 : 345 - 346 ؛ اُنظر كفاية الاُصول : 275 .

وفيه : أنّ الدليل هو السيرة القطعية العقلائية ، ولم يرد ردع عنها ، والإجماع أيضاً عملي يرجع إليها ، لا إلى الإجماع المصطلح ، كما أنّ سيرة المسلمين ترجع إلى السيرة العقلائية ، لا المتشرّعة ، وقد عرفت : أنّ السيرة في جميع الأعصار [جارية] على تخصيص الكتاب بالخبر .

الثالث : أ نّه لو جاز التخصيص لجاز النسخ ؛ لأنّ النسخ هو التخصيص الزماني ، ولا يجوز نسخه به قطعاً(1) .

وفيه : منع الملازمة ؛ لقيام الإجماع على عدم جواز النسخ ، دون التخصيص .

مضافاً إلى منع عدم جواز النسخ أيضاً .

الرابع : أنّ الأخبار المتواترة معنىً أو إجمالاً ، تدلّ على وجوب طرح الأخبار المخالفة للقرآن ، فكيف يخصّص القرآن به(2) .

والجواب عنه : أنّ تلك الأخبار على كثرتها على طوائف :

الاُولى : ما دلّت على وجوب عرض الخبر على كتاب اللّه ، فإن وجد فيه شاهد أو شاهدان عليه فيعمل به ، وإلاّ فلا(3) .

وهذه الطائفة تدلّ على عدم حجّية الأخبار من رأسٍ ، فإنّه لو وجد شاهد أو شاهدان من كتاب اللّه على شيءٍ ، ويكون شرط العمل به ذلك ، يكون المعمول عليه هو الكتاب فقط ، فلا معنى لحجّيته ، فهذه الطائفة معارضة لجميع ما دلّ

ص: 312


1- اُنظر العدّة في اُصول الفقه 1 : 345 ؛ معالم الدين : 141 .
2- اُنظر العدّة في اُصول الفقه 1 : 350 ؛ كفاية الاُصول : 275 - 276 .
3- راجع وسائل الشيعة 27 : 110 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 11 و 18 .

على حجّية الخبر الواحد ، وقد دلّت الأخبار المتواترة على إمضاء السيرة العقلائية في العمل بالأخبار ، كما أنّ عمل الأصحاب عليه خلفاً عن سلفٍ ، فلا يمكن أن تكون تلك الأخبار رادعة عنها .

مع أ نّها أخبار آحاد لا تبلغ حدّ التواتر ، فرادعيتها عنها دورية .

الثانية : ما دلّ على الترجيح بكتاب اللّه عند تعارض الخبرين(1) .

وهذه الطائفة غير مربوطة بما نحن فيه .

الثالثة : الأخبار الدالّة على عدم صدور الأخبار المخالفة أو غير الموافقة للقرآن منهم ، وأنّ الخبر الكذائي «زُخرف» و«باطل» و«يضرب على الجدار»(2) .

الرابعة : ما دلّت على أنّ الأخبار المخالفة أو غير الموافقة لا يجوز العمل بها ، ويجب ردّ علمها إليهم(3) . فالعمدة هي هاتان الطائفتان .

والجواب عنهما : أنّه لا محيص عن حملهما على المخالفة بالتباين ؛ ضرورة ورود الأخبار المخالفة لعموم الكتاب وإطلاقه منهم ، بل ما من خبرٍ إلاّ وهو مخالف لعموم الكتاب أو إطلاقه ، وقلّما يتّفق أن تكون الأخبار المتواترة على

ص: 313


1- راجع وسائل الشيعة 27 : 106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 1 و 19 و 21 و 29 .
2- راجع التبيان في تفسير القرآن 1 : 5 ؛ العدّة في اُصول الفقه 1 : 350 ؛ وسائل الشيعة 27 : 110 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 12 و 14 و 48 .
3- راجع وسائل الشيعة 27 : 120 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 10 و 15 و 35 و 37 .

خلافه ، مع أنّ لسان [تينك] الطائفتين طرح الأخبار المخالفة مطلقاً ؛ واحدة كانت أو متواترة .

هذا ، مضافاً إلى أنّ المخالفة بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ليست مخالفة عرفاً ؛ فإنّ المخالفة أو غير الملائمة والموافقة عند العرف هي المباينة عندهم .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ تخصيص الكتاب بالخبر الحجّة جائز .

ص: 314

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد

اشارة

ص: 315

ص: 316

فصل في تعريف المطلق والمقيّد

في تعريف المطلق والمقيّد

عرّف المطلق : بأ نّه ما دلّ على شائعٍ في جنسه ، والمقيّد بخلافه(1) .

وقد استشكل عليه بعدم الاطّراد والانعكاس(2) .

وقال المحقّق الخراساني : إنّ مثله شرح الاسم ، وليس بتعريف حقيقي ، وهو ممّا يجوز ألاّ يكون بمطّرد ، ولا بمنعكس(3) . وهو كما ترى .

ويرد على هذا التعريف إشكالات:

منها : أنّه إن كان المراد بالجنس فيه ، هو الطبيعة التي مدلول اللفظ ، يلزم أن يكون المطلق شائعاً في نفسه ، وهو كما ترى .

وإن كان الجنس الذي فوق مدلول المطلق ، يلزم أن يكون شائعاً فيما فوقه ، وهو أشدّ محذوراً .

ص: 317


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 284 ؛ معالم الدين : 150 ؛ قوانين الاُصول 1 : 321 / السطر 16 .
2- الفصول الغروية : 218 / السطر 12 ؛ اُنظر كفاية الاُصول : 282 .
3- كفاية الاُصول : 282 .

وإن كان المراد بالجنس هو الأفراد ، ففيه : أنّها ليست جنس الكلّي .

ومنها : أ نّه يظهر من هذا التعريف : أنّ الإطلاق والتقييد وصفان للّفظ باعتبار المعنى الموضوع له ، فبعض الألفاظ وضع لمعنىً شائع في جنسه ، وهو المطلق ، وبعض الألفاظ وضع لمعنىً غير شائع فيه وهو المقيّد ، فالموضوع له في المطلق غيره في المقيّد .

وإن شئت قلت : إنّ الأعلام الشخصية والجزئيات الحقيقية ممّا لا شيوع لها تكون من المقيّدات ، والماهيات الكلّية من أسماء الأجناس وأعلامها والنكرات ؛ ممّا لها شمول استغراقي أو بدلي من المطلقات ، وهذا خلاف التحقيق في المطلق والمقيّد حسبما يستفاد من موارد استعمالاتهما لدى الفقهاء والاُصوليين .

والتحقيق : أنّ المطلق والمقيّد ليسا من صفات المعنى الموضوع له ، وليس للمطلق معنىً ، وللمقيّد معنىً آخر موضوع له لفظ آخر في قباله ، بل المطلق والمقيّد صفتان لموضوع الحكم بما أ نّهما موضوعه ، فربّما جعل شيء تمام الموضوع في ثبوت حكم عليه ، وربّما لا يكون كذلك ، بل جعل موضوعاً مع قيد زائد .

فالمطلق : ما يكون موضوعاً لحكم من الأحكام بلا دخالة قيد فيه غير ذاته ، ويقال له : المطلق ؛ لإطلاقه عن القيود والسلاسل ، ولكونه جارياً على مقتضى ذاته .

والمقيّد : ما يكون موضوعاً لحكم مع دخالة شيء آخر فيه ، ويقال له : المقيّد ؛ لتقيّده ، كالمحبوس المقيّد بالسلسلة .

وممّا ذكرنا يتّضح اُمور :

ص: 318

الأوّل : أنّ المطلق لا بدّ له من شيوع ، سواء كان شيوعاً فردياً ، أو حالياً ، فما لا شيوع له أصلاً - لا بحسب الأفراد ، ولا بحسب الحالات والأزمان - لا يعدّ مطلقاً .

الثاني : أنّ الشائع أيضاً لا يعدّ مطلقاً إلاّ إذا اُخذ موضوعاً لحكم ، ويكون تمام الموضوع له بلا دخالة شيء فيه ، فقوله : «أعتق رقبة» مطلق ، كقوله : «أكرم زيداً» .

الثالث : أنّ الإطلاق والتقييد صفتان لأمر واحد باعتبارين ، فالرقبة إذا كانت تمام الموضوع لحكم تكون مطلقة ، وإذا كانت مع قيد الإيمان موضوعاً له تكون مقيّدة ، فالإطلاق والتقييد وصفان للرقبة في المثال ؛ باعتبار تمام الموضوعية للحكم وعدمه .

الرابع : أنّ الإطلاق والتقييد وصفان إضافيان ، فربّما كان شيء باعتبار قيد مطلقاً ، وباعتبار قيد آخر مقيّداً ، فعتق الرقبة بالنسبة إلى الإيمان يمكن أن يكون مقيّداً ، وبالنسبة إلى الصحّة والمرض مطلقاً .

الخامس : أنّ بين المطلق والمقيّد تقابل العدم والملكة ، فالمطلق هو غير المقيّد ممّا من شأنه أن يكون مقيّداً .

السادس : أنّ الإطلاق والتقييد وصفان للمعنى أوّلاً وبالذات ، وللّفظ الدالّ عليه ثانياً وبالعرض ، فالرقبة في مقام الثبوت، إذا كانت تمام الموضوع لحكم ، تكون مطلقة ، وإلاّ تكون مقيّدة ، واللفظ الدالّ على الأوّل مطلق بواسطة ، والدالّ على الثاني مقيّد كذلك .

ص: 319

السابع : أنّ الإطلاق متقوّم بأمر عدمي ، وهو عدم أخذ شيء في الموضوع سوى الذات ، ولا يحتاج إلى لحاظ السريان والشيوع في الأفراد ، ولا إلى تقيّدها بالسريان فيها .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ ملاك الإطلاق ؛ أي صيرورة الموضوع متساوي النسبة إلى جميع الأفراد بالنسبة إلى حكم ، شمولياً كان أو بدلياً ، هو كونه تمام الموضوع ثبوتاً ، وملاك التقييد كونه الموضوع مع قيد .

وهذا هو ملاك السريان ، لا تقييده بالسريان أو لحاظه فيه ، بل التقييد به يوجب عدم السريان ، فالاختلاف بين الإطلاق والتقييد إنّما هو باعتبار مقام الموضوعية لحكم ، لا بحسب مقام الوضع ، فلا يكون الموضوع له فيهما مختلفاً .

تنبيه : في ألفاظ المطلق

بناءً على ما ذكرنا في تحقيق المطلق والمقيّد ، لا حاجة إلى تحقيق أسماء الأجناس وأعلامها وأمثالهما ، لكن نذكر ما هو التحقيق فيهما استطراداً وتبعاً ل- «الكفاية»(1) .

فنقول : أمّا اسم الجنس كإنسان وفرس وسواد وبياض من الجواهر والأعراض ، فوضع لنفس الطبيعة اللا بشرط ، التي هي نفس الماهيات من حيث هي ، المنتفية عن مرتبة ذاتها غير ذاتها وذاتياتها ، حتّى النقائض ، فالإنسان بما أ نّه إنسان ، لا موجود ولا لا موجود ، ولا واحد ولا كثير ، ولا أسود

ص: 320


1- كفاية الاُصول : 282 - 286 .

ولا لا أسود . . . وهكذا ، فالأوصاف التي تكون من قبيل الخارج المحمول ، والتي من قبيل المحمول بالضميمة ، كلّها مرتفعة عن مرتبة ذات الماهية ، كما أنّ مقابلاتها كذلك ، وهذا لا يحتاج إلى تحقيق أقسام الماهية ، لكنّا نشير إليها تبعاً للقوم .

فنقول : إنّهم قسّموها إلى الماهية بشرط شيء ، وبشرط لا ، ولا بشرط .

فعرّفوا الاُولى : بأ نّها عبارة عن الماهية مع لحاظ شيء معها ، كالإنسان الموجود أو الكاتب .

والثانية : بأ نّها هي مع لحاظ التجرّد عن كلّ شيء واعتبار عدمه .

والثالثة : بأ نّها هي مع عدم لحاظ شيء معها .

فاُشكل عليهم : بأنّ المقسم فيها عين القسم الثالث ؛ أي الماهية لا بشرط شيء ، فأطالوا الكلام والنقض والإبرام لدفع الإشكال وتحصيل الفرق بينهما(1) .

والذي يساعد عليه النظر الدقيق : أنّ تلك الأقسام ليست لنفس الماهية ، بل هي أقسام للحاظها على أنحاء ، فقد تلحظ بشرط شيء ، وقد تلحظ بشرط لا ، وقد تلحظ لا بشرط شيء ، فأصل اللحاظ مقسم وهو غير أقسامه وليست الأقسام للماهية حتّى يرد الإشكال . وليست الماهية اللا بشرط على قسمين : مقسمي وقسمي ، وكلّ من تصدّى لتقسيم الماهية قسّمها بلحاظ

ص: 321


1- راجع الحكمة المتعالية 2 : 16 - 19 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 339 ؛ مطارح الأنظار 2 : 251 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 569 ؛ نهاية الدراية 2 : 490 - 494 .

هذه الاعتبارات ، وإن غفل عن كون التقسيم للاعتبار واللحاظ لا لنفسها .

بل لا يمكن أن يكون التقسيم لنفسها ؛ فإنّ الماهية المجرّدة ؛ أي التي بشرط لا ، لا حقيقة لها أصلاً بحسب الواقع ، لا في الخارج ولا في الذهن ، فكيف تكون من أقسامها ؟ !

كما أنّ اللا بشرط بما أ نّها لا بشرط ، لا حقيقة لها ، فتحقّقهما وتقرّرهما بحسب الاعتبار واللحاظ ، وإن كان نفس الاعتبار مغفولاً عنه ، فالتقسيم باعتبار اللحاظ ، والمقسم لحاظ الماهية ، لكن اللحاظ مغفول عنه ، فالأقسام وإن كانت متقوّمة باللحاظ ، ولكنّه مغفول عنه .

وهذا بوجهٍ نظير الجواب عن الإشكال في باب «أنّ المجهول المطلق لا يخبر عنه» بأنّ هذا إخبار(1) .

فيجاب : بأنّ هذا الإخبار باعتبار معلوميته بحسب اللحاظ ؛ وإن كان اللحاظ مغفولاً عنه .

هذا حال اسم الجنس .

وأمّا عَلَمه : فهو كما ذكره المحقّق الخراساني(2) تبعاً لأعاظم أئمّة النحو ، كسيبويه في «الكتاب»(3) وابن مالك(4)، من أ نّه لا فرق بين أسماء الأجناس وأعلامها ؛ فإنّهما موضوعتان لنفس الطبيعة من غير لحاظ شيء آخر معها ،

ص: 322


1- راجع الحكمة المتعالية 1 : 345 - 347 .
2- كفاية الاُصول : 283 .
3- الكتاب 1 : 306 .
4- البهجة المرضيّة 1 : 57 ؛ شرح ابن عقيل 1 : 126 .

ولا معنى لوضع اللفظ بإزاء الطبيعة المتعيّنة بالتعيّن الذهني(1) ؛ فإنّه معه لا يمكن أن يحمل على الخارج .

هذا إذا كان المراد بالتعيّن الذهني مفهومه ، وإن كان المراد هو التعيّن الماهوي ؛ أي ما هو بالحمل الشائع كذلك ، فلا يحتاج إلى التقيّد ؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، وإثبات أحكام المعرفة على عَلَم الجنس دون اسمه ، ليس باعتبار التعيّ-ن الذهني ، بل إنّما تعريفه لفظي مسموع من العرب ، كالتأنيث اللفظي .

وأمّا المفرد المعرّف باللام : فينقسم إلى أقسام ، حيث إنّه إمّا أن يتعيّن الشيء في الخارج ، ويحكم عليه بأ نّه كذلك ، أو لا .

فالأوّل : هو المعرّف بلام العهد ، كقوله تعالى : «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ»(2) ، وقولنا : «اُنظر إلى الرجل كيف يضحك» .

والثاني : لا يخلو إمّا أن يكون الملحوظ نفس الماهية من غير لحاظ اتّحادها مع الأفراد ، أو لا ؛ أي مع لحاظها كذلك ، والثاني : إمّا أن يلاحظ اتّحادها مع جميع الأفراد ، أو مع بعضها ، ويقال لجميع الشقوق الثلاثة : المعرّف بلام الجنس ، إلاّ أنّ الشقّ الأخير هو المعرّف بالعهد الذهني في الاصطلاح ، كقوله : «ولقد [ أمرُّ ]على اللئيم يسبُّني»(3) . والمقصود منه هو بعض الأفراد المعلومة عنده .

إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم : إنّه وقع البحث عندهم في أنّ الخصوصيات

ص: 323


1- قوانين الاُصول 1 : 203 / السطر 19 ؛ هداية المسترشدين 3 : 162 - 163 .
2- المزّمّل (73) : 16 .
3- راجع المطوّل : 79 - 80 .

المتقدّمة هل تتأتّى من قِبَل اللام ، أو القرائن من غير دخالة اللام في إفادتها(1) ؟ والحقّ هو الثاني .

والتحقيق : أنّ التعيّن الواقعي بالحمل الشائع كافٍ في التعريف ، ولا يلزم فيه أخذ مفهوم التعيّن الذهني في الشيء ؛ ليلزم منه عدم الانطباق على الخارج إلاّ بتجرّده عن التعيّن ، والتعيّن الواقعي اللازم للتعريف حاصل في جميع أقسام المعارف ؛ من غير احتياج إلى التقييد المضرِّ بالحمل على الخارج ، فالمعارف لا تحتاج في معرّفيتها إلى اللام ؛ لأنّ التعيّن حاصل لذاتها بذاتها ، فلا تفيد اللام التعريف ، كما لا تفيد الإشارة - كما قيل(2) - أو مفهوم المشار إليه حتّى لا ينطبق على الخارج ، ولا إيجاد الإشارة وما هو بالحمل الشائع كذلك ؛ لأنّه يلزم منه إفادة إشارتين في مثل قولنا : «هذا الإنسان عالم» إحداهما : من «هذا» ، والاُخرى : من اللام .

والمحقّق الخراساني ذهب إلى كون اللام في مثله للتزيين ، كالحسن والحسين(3) .

وفيه : أنّ اللام لا يدخل إلاّ في المعاني الوصفية التي تفيد الكلّية ، كوصف الحسن ؛ وإدخال اللام على الأعلام الشخصية إنّما هو للتلميح على النقل عن الوصفية ، كما قال ابن مالك :

ص: 324


1- كفاية الاُصول : 284 - 285 .
2- قوانين الاُصول 1 : 210 / السطر ما قبل الأخير ، و 215 / السطر الأخير ؛ اُنظر كفاية الاُصول : 285 .
3- كفاية الاُصول : 284 - 285 .

«وَبعضُ الأعْلامِ عليه دَخَلا *** للَمْحِ ما قد كان عنه نُقِلا»(1)

فلا يكون اللام للتزيين مطلقاً ، حتّى ما تدخل على الأعلام الشخصية .

والتحقيق : أ نّه لا فرق وجداناً فيما يستفاد من اللفظ ، بين مدخول اللام كالرجل ، ومدخول التنوين كرجل ، وغيرهما كالمضاف ، فإذا لم يكن فرق بين دخول اللام وعدمه ، فكيف يفيد التعريف أو شيئاً آخر؟! فحينئذٍ يكون تعريف اللام لفظياً كالتأنيث اللفظي .

وأمّا الجمع المعرّف باللاّم : فقد يقال في تقريب دلالته على العموم : إنّ اللام تدلّ على التعيين ، ولا تعيّن إلاّ لجميع الأفراد ، فلا بدّ من الدلالة على العموم(2) .

فأشكل عليه المحقّق الخراساني : بأنّ المتيقّن من بين مراتب الجمع هو أقلّ مراتبه ، وهو المتعيّن(3) .

وفيه ما لا يخفى : فإنّ أقلّ مراتب الجمع ؛ أي الثلاثة ، كلّي يصدق على كلّ ثلاثة من مدلول الجمع ، فتعيّن إحداها بلا معيّن .

والتحقيق : أنّ منشأ دلالة الجمع على العموم هو نفس المفهوم ؛ فإنّه حاكٍ عن جميع الأفراد ؛ بحيث لا يشذّ فرد عن كونه مصداقاً له ، فلا معنى لتعيّن بعضٍ ؛ لأنّ لازمه دلالته على ذلك البعض دون الآخر من غير مرجّح ، فنفس الجمع دالّ على جميع الأفراد ؛ من غير احتياج إلى دخول اللام فيه ، فتعريف الجمع المعرّف أيضاً لفظي ، وقد عرفت : أنّ أخذ مفهوم التعيّن فيه مخلّ

ص: 325


1- الألفية : 12 .
2- الفصول الغروية : 169 / السطر 33 .
3- كفاية الاُصول : 285 .

بالصدق ، ومصداقه حاصل لنفس المدخول بذاته .

ومن المطلقات النكرة: وهي دالّة إمّا على فرد معيّن واقعاً غير معيّن عند المخاطب ، كقوله : «وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ . . . »(1) وإمّا على الطبيعة المهملة المأخوذة مع قيد الوحدة ، كقولنا : «جئني برجل» .

والحقّ : أنّ القسمين بمعنى واحد ، وهو الطبيعة المهملة مع قيد الوحدة ، إلاّ أنّ الدلالة على التعيّن الواقعي عند المتكلّم نشأت من دالّ آخر ، مثل «جاء» في المثال المتقدّم على نحو تعدّد الدالّ والمدلول ، فلا وجه للنزاع في أنّ المعنى الموضوع له في النكرات ، هل هو الفرد المردّد ، كما اختاره صاحب «الفصول»(2) ، أو الكلّي المأخوذ مع قيد مفهوم الوحدة ؛ حيث إنّ ضمّ مفهوم كلّي - هو مفهوم الوحدة - إلى كلّي آخر ، لا يوجب صيرورة الشيء جزئياً ، كما اختاره صاحب «القوانين»(3) وهو الحقّ ؛ لأنّه لا معنى للفرد المردّد إن كان مراده هو الذي ظهر من كلامه ؛ أي كون كلّ فرد هذا أو غيره ؛ فإنّ ما في الخارج ليس هو أو غيره ، بل هو من مصاديق الطبيعة الواحدة .

وإن كان مراده منه هو لحاظ الفرد على نحو الترديد القابل للانطباق على كلّ واحدٍ من الأفراد ، كالعلم الإجمالي فهو ممّا لا إشكال فيه ، إلاّ أنّه راجع إلى ما اختاره المحقّق القمّي .

ثمّ إنّ ما قيل في المقام : من أنّ الإطلاق إن كان هو بمعنى الإرسال والشمول ،

ص: 326


1- القصص (28) : 20 .
2- الفصول الغروية : 163 / السطر 7 .
3- اُنظر قوانين الاُصول : 204 / السطر 1 و208 / السطر 10 ، و212 / السطر 1 .

لا يمكن عروض التقييد عليه إلاّ تجوّزاً(1) ، يرد عليه : أنّ التقييد هو إضافة قيد إلى ما يدلّ على المطلق ، فتقييد المطلق ليس بمعنى استعمال المطلق في المقيّد حتّى يلزم المجاز ، كان معنى المطلق هو الإرسال ، أو لا ، بل بمعنى إفادة الخصوصية بدالٍّ آخر ، فلا يلزم التجوّز .

ص: 327


1- كفاية الاُصول : 286 .

فصل في مقدّمات الحكمة

في مقدّمات الحكمة

الإطلاق والتقييد ثبوتاً

قال المحقّق الخراساني رحمه الله علیه ما محصّله بتوضيح منّا : إنّه بعد ما ظهر أ نّه لا دلالة لمثل «رجل» إلاّ على الماهية المبهمة بحسب الوضع ، وأنّ الشياع والسريان ليس ذاتياً لها ، ولا لازماً لذاتها ، بل يكون من العوارض والطوارئ الخارجة عمّا وضع له ، فلا بدّ من لحاظ هذا السريان بحسب مقام الثبوت ، والدلالة عليه بحسب مقام الإثبات والدلالة ، وهي مقدّمات الحكمة(1) .

فهاهنا دعاوٍ :

الاُولى : أنّ كلّ ماهية وضعت لنفس الذات من حيث هي .

الثانية : أنّ الشائع خارج عن ذاتها ، وليس لازماً لذاتها ، بل يكون من العوارض المفارقة .

ص: 328


1- كفاية الاُصول : 287 .

الثالثة : أنّ حصول الشياع والسريان لا يمكن إلاّ بلحاظها كذلك بحسب مقام الثبوت .

الرابعة : أ نّ-ه لا بدّ من قيام الدليل عليه بحسب مقام الإثبات ، وهو مقدّمات الحكمة .

أقول : إن كان المراد من الشياع هو سريان الماهية نفسها في أفرادها ، فلا إشكال في أ نّه من ذاتياتها ، لا بمعنى دخوله في مفهومها ، بل بمعنى أ نّها شائعة واقعاً ؛ أي متّحدة مع الأفراد ، وليس هذا الشيوع والاتّحاد قابلاً للافتراق عنها حتّى يكون من قبيل الأعراض المفارقة ، فالماهية بذاتها متّحدة مع الأفراد وسارية فيها ، ولا يمكن افتراقها عنها .

وإن كان المراد من الشياع والسريان هو الشياع بحسب موضوعية الماهية للحكم ، وأنّ الماهية إذا كانت موضوعاً لحكم فلا بدّ في شيوعها في جميع الأفراد من لحاظ شيوعها وسريانها فيها ، وإلاّ فنفس جعل الماهية موضوعاً للحكم لا يوجب سريانه في الأفراد ، فلا بدّ في السريان من لحاظه لبّاً وقيام الدليل عليه إثباتاً ، فهذا له وجه .

ومن الممكن أن يكون مرادهم ذلك ؛ فإنّ الأوّل بعيد ، لكنّه أيضاً خلاف التحقيق ؛ فإنّ لحاظ سريان ماهية في الأفراد معنى العموم ، لا الإطلاق ، ولا يمكن أن تجعل الماهية آلة للحاظ بعض أفرادها في التقييد الذي يقابل الإطلاق ، فالإطلاق والتقييد بحسب اللحاظ ممّا لا أصل لهما ، بل الإطلاق والتقييد - على ما يستفاد من موارد استعمالهما في لسان الأصحاب - وصفان لشيء واحد ، له سريان ما ولو بلحاظ الحالات ؛ باعتبار جعله تمام الموضوع

ص: 329

لحكم ، أو لا ، كالرقبة ، فإنّها في كفّارة اليمين مطلقة ، وفي كفّارة قتل الخطأ مقيّدة بالمؤمنة ، وفي كفّارة الظهار مختلف فيها ، فالرقبة قد تكون مطلقة ، وقد تكون مقيّدة .

وهذا الإطلاق والتقييد قد يتحقّقان في الأعلام الشخصية بالنظر إلى الحالات ، فزيد قد يجعل تمام الموضوع لحكم ، فيكون مطلقاً ، وقد يجعل زيد العالم موضوعاً له ، فيكون زيد بعض الموضوع ، فيكون مقيّداً ، مثال الأوّل : «أكرم زيداً» ومثال الثاني : «أكرم زيداً العالم» أو «الجائي» أو «يوم الجمعة» .

إحراز الإطلاق في مقام الإثبات

إذا عرفت ذلك : فهل يدلّ دليل في مقام الإثبات ، في صورة الشكّ في أنّ ما جعل موضوعاً لحكم مطلق أو مقيّد ، يثبت واحداً منهما .

قد يقال : إنّ بعض القدماء قبل سلطان العلماء ، استدلّ بأصالة الحقيقة على حمل اللفظ على الإطلاق ، وهو - على فرض الصحّة - في غاية السقوط ؛ فإنّ اللفظ في المقيّد لا يستعمل إلاّ فيما وضع له . ولا أظنّ بأحد أن يتخيّل أنّ «الرقبة» في قوله : «أعتق رقبة مؤمنة» ، استعملت في «الرقبة المؤمنة» حتّى يكون مجازاً ؛ ضرورة أنّ كلاًّ من الطبيعة والقيد مستعمل فيما وضع له ، ويستفاد منهما بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ما هو موضوع الحكم ، وهذا ممّا لا إشكال فيه .

الاستدلال على الإطلاق بدليل الحكمة

واستدلّ المحقّق الخراساني على الإطلاق بدليل الحكمة ، وهو مركّب من مقدّمات ، واستدلاله إنّما يكون على مبناه من كون الإطلاق هو السريان

ص: 330

في موضوع الحكم وهو من العوارض المفارقة ، يعرض الماهية لأجل لحاظها سارية .

المقدّمة الاُولى : كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، وليس المقصود كونه في مقام بيان تمام مراده ؛ فإنّ كلّ متكلّم في تكلّمه يكون بصدد بيان تمام مراده ، بل المقصود كونه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه ؛ أي بيان كلّ ما هو دخيل في موضوع حكمه ، لا في مقام الإهمال والإجمال .

الثانية : [ انتفاء ما يوجب التعيين .

الثالثة :] انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب ؛ أي لا يكون في ذهن المخاطب في حين التخاطب ، جهات توجب العلم الإجمالي بين الأقلّ والأكثر ؛ بحيث يكون الأقلّ هو القدر المتيقّن ، كما إذا ورد : «أعتق رقبة» ، ويكون في ذهن المخاطب جهات توجب العلم بأنّ الموضوع إمّا تمام أفراد الرقبات بنحو البدلية ، أو الرقبات المؤمنات ؛ بمعنى أ نّه إمّا جعل الرقبة مرآة لتمام الأفراد ، أو مرآة للمؤمنات منها ، فتكون المؤمنات متيقّنة منها ؛ إذ لو كان المتيقّن في البين ، لما أخلّ بغرضه لو كان تمام مراده المؤمنات ؛ لأنّ المخاطب يعلم بأنّ المؤمنات موضوع الحكم ويشكّ في بقيتها ، فالمتكلّم بيّن موضوع حكمه ، وأدخله في ذهن [ المخاطب] ولم يخلّ ببيان ما هو موضوع حكمه ، وإنّما أخلّ ببيان كون البعض تمام الموضوع ؛ لاحتمال أن يكون البعض الآخر أيضاً موضوعاً ، وهذا غير الإخلال بالغرض . بل يمكن أن يقال بالنظر الثانوي : بيّن أ نّه تمام الموضوع ؛ فإنّ المفروض أنّ المتكلّم في مقام تبيين تمام الموضوع ، فبيّن أنّ المتيقّن موضوع ، ولم يبيّن غيره ، فيجب أن لا يكون

ص: 331

موضوعاً ، وإلاّ لَبيّنه ، فينتج : أنّ المتيقّن تمام الموضوع .

وإنّما قيّد المتيقّن بكونه في مقام التخاطب ؛ لأنّ الخارج عنه لا يضرّ بالإطلاق ، فإنّ المخاطب إذا علم بالقدر المتيقّن من برهان خارجي ومقدّمات عقلية خارجة عن مقام التخاطب ، لا يمكن أن يقال : إنّ المتكلّم بيّن تمام موضوع حكمه ؛ فإنّ البرهان الخارجي لا دخل له ببيان المتكلّم ، ولا يكون المتكلّم حين بيانه للحكم مبيّناً لموضوعه ، بخلاف مقام التخاطب ؛ فإنّ المتكلّم إذا علم أنّ المخاطب يرد في ذهنه القدر المتيقّن حين التخاطب ، يتبيّن له أنّ كلامه كأ نّه محفوف بالبيان لموضوع حكمه(1) .

هذا مفاد كلام المحقّق الخراساني بتوضيح منّا .

ولا يخفى : أنّ المقدّمة الثانية لا مقدّمية لها ، فإنّ الموضوع في باب الإطلاق ،

هو ما إذا جعلت الماهية موضوع الحكم بلا قيد ، وشكّ في أنّ المراد هو الإطلاق أو التقييد ، فعدم بيان القيد محقِّق موضوع البحث ، لا من مقدّمات إثبات الإطلاق .

وأورد بعض الأعاظم على المقدّمة الثالثة :

أوّلاً : بأنّ القدر المتيقّن لو كان مخلاًّ بالإطلاق ، لما جاز التمسّك به فيما إذا ورد في مورد الجواب عن سؤال بعض الأفراد ، كما لو سئل : «هل يجب إكرام زيد العالم ؟» فقال : «يجب إكرام العالم» مع أ نّه يتمسّك أحياناً بتلك المطلقات .

وثانياً : لا فرق بين القدر المتيقّن في مقام التخاطب وغيره ، فالتفصيل بلا وجه .

ص: 332


1- كفاية الاُصول : 287 .

وثالثاً : أنّ الإخلال بالغرض لازم ولو مع القدر المتيقّن ؛ فإنّ موضوع حكمه لو كان الأفراد المتيقّنة ، لم يبيّن ولم ينصب دليل عليه ، وهذا معنى الإخلال به(1) .

أقول : أمّا قضيّة القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، والفرق بينه وبين غيره ، فقد مرّ ذكره(2) .

وأمّا قضيّة الإخلال بالغرض مع وجود القدر المتيقّن ، فلا وجه له لو بنينا على كون الإطلاق هو جعل الماهية مرآةً لتمام الأفراد ، والتقييد جعلها مرآةً للبعض ، كما أفاده الشيخ ، وتبعه غيره حتّى المُورد(3) ؛ فإنّ المفروض أنّ معنى بيان موضوع الحكم تبيين أنّ تمام الأفراد أو بعضها هو موضوعه ، فإذا كان في البين قدر متيقّنٍ ، فلا إشكال في تبيين كون الماهية مرآة للمتيقّن ، وعدم تبيين كونها مرآة للأفراد الغير المتيقّنة ، ومع عدم تبيينها يعلم أ نّها ليست موضوع حكمه ؛ لأنّ المفروض كون المتكلّم في مقام بيان تمام الموضوع للحكم ، وقد بيّن القدر المتيقّن ؛ أي أورده في ذهن المخاطب ، ولم يبيّن غيره ، مع كون المخاطب شاكّاً في كونه مراداً .

نعم ، بناءً على ما سلكناه في معنى الإطلاق ، وقلنا : إنّ الإطلاق عبارة عن جعل الماهية تمام الموضوع للحكم من غير جعلها مرآة للأفراد(4) ، تكون تلك المقدّمة حشواً غير محتاج إليها، فإنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب ممّا لا دخل

ص: 333


1- أجود التقريرات 2 : 432 - 434 .
2- تقدّم في الصفحة 332 .
3- مطارح الأنظار 2 : 251 ؛ كفاية الاُصول : 287 ؛ أجود التقريرات 2 : 425 .
4- تقدّم في الصفحة 320 .

له بمقدّمات الحكمة ؛ ضرورة أنّ الأحكام حينئذٍ إنّما تثبت للحيثيات ، لا للأفراد، فإذا قال المولى : «أعتق رقبة» ، وكان في مقام بيان تمام موضوع حكمه، يعلم بأنّ موضوع حكمه هو حيثية الرقبة صِرفاً ؛ من غير دخالة حيثية اُخرى - أيّة حيثية كانت - فيه ، وإلاّ لكان عليه البيان . وليست الأفراد على هذا المبنى المنصور موضوعاً للحكم ؛ حتّى يكون القدر المتيقّن في مقام التخاطب مضرّاً بالإطلاق ؛ ضرورة أنّ الأفراد إذا لم تكن بما أ نّها أفراد ؛ وبنعت الكثرة ، محكومةً بحكم ، لا يكون عدم القدر المتيقّن في مقام التخاطب دخيلاً في الإطلاق .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ المقدّمات التي مهّدها المحقّق الخراساني رحمه الله علیه لا تكون دخيلة في التمسّك بالإطلاق على مسلكنا إلاّ المقدّمة الاُولى ؛ أي كون المتكلّم في مقام البيان .

فذلكة : في ملخّص ما حقّقناه في معنى الإطلاق والتقييد

وملخّص ما حقّقناه في معنى الإطلاق والتقييد إنّما نذكره في ضمن اُمور ؛ لمكان أهمّيتها :

الأوّل : قد عرفت أنّ أهل المعقول قد قسّموا الماهية إلى : اللا بشرط وبشرط شيء وبشرط لا ، فاُشكل عليهم بأنّ المقسم هو اللا بشرط ؛ حيث لا يمكن أن يكون بشرط لا ولا بشرط شيء ؛ لعدم انطباق كلٍّ منهما على صاحبه ، فيلزم اتّحاد القسم والمقسم .

وأجاب عنه المحقّق السبزواري : بأنّ اللا بشرط القسمي مقيّد باللابشرطية دون المقسمي .

ص: 334

وقد أجبنا عن الإشكال : بأنّ المقسم ليس هو الماهية كي يرد الإشكال ، بل هو اعتبار الماهية ولحاظها ، فيكون نفس الملحوظ ممّا يقبل الوجود في قسم ، ولا يقبله في آخر ، ولا بشرطٍ في ثالث(1) .

وبالجملة : المقسم لحاظ الماهية ، ولذلك نلتزم بأنّ المقسم لا يكون كلّياً طبيعياً ، بخلاف الماهية اللا بشرط القسمي ؛ فإنّ ذاتها - مع قطع النظر عن الاعتبار- تكون هي الماهية اللا بشرط ، واللحاظ غير مأخوذ في الأقسام .

ثمّ إنّه قد وقع النزاع في وجود الكلّي الطبيعي الذي هو معروض الكلّية ، ويكون كلّياً بالحمل الشائع . وعلى فرض وجوده ، هل هو اللا بشرط القسمي ، أو المقسمي ؟ بعد وضوح أ نّه لم يكن الماهية بشرط لا التي لا تقبل الوجود ، ويكون وجوده الذهني على وزان وجود المعدوم المطلق في الذهن . كما أ نّه لا يمكن أن يكون الطبيعي هو بشرط شيء ؛ لأنّه كلّي يصدق على كثيرين ، والماهية بشرط شيء ليس كذلك .

اختار من ذهب إلى الطريق الأوّل في حلّ الإشكال - كالمحقّق السبزواري(2) : أنّ الطبيعي هو اللا بشرط المقسمي ؛ حيث لا يمكن كون القسمي هو الكلّي الطبيعي على مختارهم ؛ لأنّ الطبيعي غير مقيّدٍ بقيدٍ ، واللا بشرط القسمي مقيّد عندهم ، ولأنّ الماهية المقيّدة باللا بشرطية كلّي عقلي ، والطبيعي ليس كذلك .

وأمّا على مختارنا : فالطبيعي هو اللا بشرط القسمي ؛ لأنّ المقسم هو اعتبار الماهية لا نفسها ، والطبيعي هو الماهية ، والماهية اللا بشرط تقع قسماً

ص: 335


1- راجع ما تقدّم في الصفحة 321 - 322 .
2- شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 344 .

للمخلوطة والمجرّدة فقط ، والمقسم بين الثلاثة هو اعتبار الماهية .

وبالجملة : المقسم لحاظ الماهية والأقسام نفسها .

الثاني : قد اتّضح أنّ الإطلاق عبارة عن كون شيء تمام الموضوع لحكم ، فكلّ ما يكون تمام الموضوع لحكم ، ويكون جميع أفراده أو حالاته متساوياً بالنسبة إلى الحكم ، يكون مطلقاً ؛ والمقيّد بخلافه . وليس معنى الإطلاق ما دلّ على شائع في جنسه حتّى تكون الطبائع الكلّية بحسب الوضع من المطلقات ، والجزئيات الحقيقية من المقيّدات .

الثالث : ما أشرنا إليه من أنّ مناط الإطلاق ليس ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(1) تبعاً للشيخ الأنصاري(2)، [من] لحاظ السريان والشياع ؛ فإنّهما حاصلان لنفس الطبيعة ذاتاً من غير احتياج إلى اللحاظ ، بل اللحاظ يخرجها عن إمكان الانطباق على جميع الأفراد ، بل مناط الإطلاق حمل الطبيعة تمام الموضوع للحكم بحيث لا يلاحظ في الموضوع قيد زائد على نفس الطبيعة .

فقد علم : أنّ مقوّم الإطلاق ليس إلاّ عدم ملاحظة شيء في موضوع الحكم .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ الألفاظ التي تدلّ على المعاني المطلقة - كأسماء الأجناس وأعلامها والنكرة - ليست موضوعة إلاّ للطبيعة من حيث هي ، ونفس وقوعها في موضوع الحكم من غير قيد هو مناط الإطلاق ، من غير فرق بين الشمولي والبدلي . والسريان والشياع غير مأخوذين في الموضوع له ولا في موضوع الحكم .

ص: 336


1- كفاية الاُصول : 287 .
2- مطارح الأنظار 2 : 251 .

ولا ينطبق ذلك [ إلاّ] على الماهية اللا بشرط القسمي ؛ لأنّها متساوية النسبة إلى جميع أفرادها .

ومن ذلك يعلم : أنّ النزاع في أنّ الشياع والسريان في المطلقات ، هل هو من الوضع أو من مقدّمات الحكمة ، ليس على ما ينبغي .

تنبيه : حول مقالة سلطان العلماء

حول مقالة سلطان العلماء

ويقرب ممّا ذكرنا كلام سلطان العلماء على ما في التقريرات(1) ؛ قال : يمكن العمل بالمطلق والمقيّد من غير الإخراج عن حقيقته ، فلا يجب ارتكاب التجوّز لو عمل بالمقيّد ، ويبقى المطلق على إطلاقه ؛ فإنّ مدلول المطلق ليس صحّة العمل بأيّ فرد فرد حتّى ينافي المقيّد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد ، بل المقيّد في الواقع . ألا ترى أ نّه معروض للتقييد كقولنا : «رقبة مؤمنة» وإلاّ يلزم حصول المقيّد بدون المطلق مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت . فظهر أنّ مقتضى المطلق ليس ذلك وإلاّ لم يتخلّف فيه(2) ، انتهى .

ولا يخفى : أنّ المطلق لا يبقى على إطلاقه مع التقييد ، فقوله : - بأن يعمل بالمقيّد ، ويبقى المطلق على إطلاقه - مسامحة ، فمراده أنّ التقييد لا يوجب خروج المطلق عن معناه الموضوع له .

وبعد التأمّل في كلامه يتّضح : أنّ كلامه ظاهر فيما ذكرنا من معنى الإطلاق ،

ص: 337


1- مطارح الأنظار 2 : 252 .
2- معالم الدين ، حاشية سلطان العلماء : 155 ، (ط - الحجري) ذيل قوله : «فلأ نّه جمع بين الدليلين» .

وأنّ حقيقته عدم التقييد بقيدٍ ، وأنّ ذات الطبيعة بنفسها مطلقة ، من غير اعتبار قيد السريان والشياع ، كما هو ظاهر قوله : إنّ مدلول المطلق ليس صحّة العمل بأيّ فردٍ كان ؛ حتّى ينافي مدلول المقيّد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد ، فما ذكره راجع إلى ما ذكرنا ، إلاّ أنّ الذي ذكره في معنى الإطلاق والتقييد ، مربوط بمقام الوضع ، لا الموضوعية للحكم ، كلفظ «الرقبة» ، وما نحن فيه هو الإطلاق ؛ بمعنى تمام الموضوعية للحكم ، والتقييد في مقابله .

ولعلّ مراد المشهور من السريان والشياع في المطلق - على فرض ثبوت الشهرة - هو السريان بالحمل الشائع ، لا أنّ مفهومه قيد في الموضوع له .

وينبغي التنبيه على اُمور :

الأمر الأوّل : طريق إحراز كون المتكلّم في مقام البيان

بعد ما عرفت من أنّ كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه ممّا لا بدّ منه في الإطلاق ، فطريق إحراز كونه في مقام البيان أنّ ظهور حال المتكلّم في أنّ كلامه الصادر منه بما أ نّه فعل من أفعاله الاختيارية ، إنّما هو لبيان مراده . فكلامه بما أنّه عمل من أعماله ، لا بما أنّه لفظ دالّ ، يدلّ دلالة عقلائية على

كونه بصدد بيان موضوع حكمه .

كما أنّ بناء العقلاء وديدنهم على التمسّك بهذا الظهور الفعلي ، فترى أ نّهم عند فقدان القيد في الكلام يحملونه على الإطلاق ؛ أي على كون ما اُخذ موضوعاً أنّه تمام الموضوع . وإذا ورد بعد ذلك قيد ، واُحرز وحدة الحكم ، يقع التعارض بين الإطلاق والتقييد ، ويحمل الإطلاق على التقييد ؛ لأنّ منشأ ظهور المطلق

ص: 338

في الإطلاق ، إنّما هو متقوّم بأمر عدمي هو عدم التقييد ، ومع وصول القيد ترفع اليد عن ظهور المطلق في الإطلاق ، كما أنّ بناء العقلاء على أصالة الحقيقة ، إنّما هو عند عدم القرينة ، ومعها ترفع [ اليد] عنها ، وكذا الحال في أصالة العموم عند فقدان المخصِّص .

وقد يقال : إنّ ذلك صحيح إذا لم يكن من دأب المتكلّم ذكر قيود كلامه من المخصِّصات والمقيِّدات ، منفصلة وأمّا معه فلم يثبت بناء العقلاء على ما ذكر ؛ أي الحمل على الإطلاق .

وفيه : أنّا لا نسلّم خروج الشارع عن دأب العقلاء في إلقاء كلامه ، وإلاّ فيشكل الأمر في باب أصالة الحقيقة والعموم أيضاً .

الأمر الثاني : إشكال ودفع

قد يستشكل على القول المنسوب إلى المشهور : بأنّ الشياع المأخوذ في معاني الألفاظ المطلقة إمّا أن يكون شياعاً بدلياً كما في باب الأوامر ، وإمّا أن يكون شياعاً استغراقياً كما في أغلب النواهي والأحكام الوضعية كقوله : «أَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ...»(1) .

فعلى الأوّل : يلزم التجوّز في إطلاقات باب النواهي وما يكون مثلها في الشياع الاستغراقي .

وعلى الثاني : يلزم ذلك في إطلاقات باب الأوامر ومثلها ، ولا جامع بين

ص: 339


1- البقرة (2) : 275 .

الشياعين ؛ حتّى يقال : إنّ المأخوذ هو الشياع الجامع(1) .

وهذا الإشكال لا يرد على مقالتنا في باب الإطلاق ؛ لأنّ المأخوذ في الموضوع ليس إلاّ نفس الطبيعة ، من غير قيد الشياع وغيره وإن كانت الطبيعة شائعة ذاتاً .

و[ أمّا] الاختلاف الحاصل في جانب الأوامر والنواهي ، فقد ذكرنا منشأه في مبحث النواهي(2) . وملخّصه : أنّ مقتضى أخذ الطبيعة في متعلّق البعث هو مطلوبية إيجادها في الخارج ، وبعد وجودها بوجود فرد ما منها يحصل المطلوب ، فيسقط الأمر ، وإلاّ يلزم تحصيل الحاصل . وأمّا النهي فلمّا كانت حقيقته عبارة عن الزجر عن الطبيعة ، والطبيعة تتكثّر بتكثّر الأفراد ، فكلُّ ما فرض من الطبيعة يكون الزجر بالنسبة إليه موجوداً ، ولا يسقط الزجر بعصيان بعض الأفراد ، كما فصّلناه في ذلك الباب .

وقد ذكرنا(3) : أنّ ما هو المعروف من أنّ الأمر أو النهي كما يسقطان بالإطاعة يسقطان بالعصيان(4)، ليس بصحيح ؛ فإنّ الإسقاط بالعصيان ممّا لا معنى له .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الطبيعة في جانب الأوامر والنواهي غير ملحوظة إلاّ نفس ذاتها ، فالسريان غير ملحوظٍ فيها ؛ لا في مقام الوضع ، ولا مقام الإطلاق ،

ص: 340


1- مقالات الاُصول 1 : 491 - 493 .
2- تقدّم في الصفحة 170 - 171 .
3- تقدّم في الصفحة 171 .
4- مطارح الأنظار 1 : 415 ؛ كفاية الاُصول : 146 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 126 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 350 .

فلا نحتاج إلى تصوير الجامع بين الشياعين .

نعم ، إنّما يرد الإشكال على مقالة المشهور ؛ أي أخذ الشياع والسريان في وضع تلك الألفاظ على ما نسب إليهم(1) .

الأمر الثالث : أقسام المطلق

الطبيعة المجعولة الموضوعة لحكم قد تكون موضوعاً له بنفس ذاتها من غير حكايتها عن الأفراد ، كما في متعلّق الأوامر والنواهي ؛ فإنّ أفراد طبيعة الإكرام أو الشرب - المتعلّق للأمر والنهي - لا تكون موجودة في الخارج حتّى تكون حاكية عنها ، فلا محالة يكون الأمر والنهي متعلّقين بنفس الطبيعة ، لا الطبيعة الحاكية عن الخارج .

وقد تكون موضوعاً له بما أ نّها حاكية عن الأفراد ، كقوله تعالى : «إنَّ الاْءِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ»(2) ، فإنّ الخسران ليس للطبيعة قبل وجودها ، بل لها بحسب الوجود الخارجي ، وكقوله : «أَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ»(3) ، فإنّ الحلّية إنّما هي للوجود الخارجي منه ، ولا بدّ في هذا النحو من الإطلاق من لحاظ الأفراد تحت عنوان الطبيعة .

ومن هذه الجهة فرق بين الإطلاق في القسم الأوّل والثاني ، ولكن ملاك

ص: 341


1- مطارح الأنظار 2 : 276 ؛ كفاية الاُصول : 288 ؛ أجود التقريرات 2 : 440 ؛ نهاية الأفكار 2 : 563 .
2- العصر (103) : 2 .
3- البقرة (2) : 275 .

الإطلاق في كلا القسمين هو عدم أخذ القيد الزائد في المتعلّق :

أمّا في القسم الأوّل : فقد فرغنا عن بيانه .

وأمّا في القسم الثاني : فملاك الإطلاق فيه أيضاً عدم أخذ قيدٍ آخر ؛ لتكون الطبيعة متساوية النسبة بالنسبة إلى جميع الأفراد ، ومع القيد تكون حاكية عن بعضها ، ومعلوم أنّ الطبيعة الكلّية المطلقة لا تحكي إلاّ عن وجود أفرادها ، لا أمرٍ آخر وخصوصية اُخرى ، ولا تحتاج إلى قيد السريان والشياع ؛ لأنّهما ذاتيان لها ، فهذا الإطلاق كسابقه يتقوّم بأمر عدمي ؛ هو عدم لحاظ قيد زائد ، لا أمر وجودي هو سريان الطبيعة ، فهي حاكية بذاتها عن تمام الأفراد .

وهذا الإطلاق أشبه بالعموم . ومن قال : «إنّ المفرد المحلّى باللام يفيد العموم»(1) لعلّ منشأه ذلك ، فإنّ «العالم» ك- «العلماء» من حيث حكايتهما عن الأفراد ، فعنوان «العالم» يحكي عن كلّ من له العلم ، فالقول بإفادته العموم من جهة شَبَهه بالعامّ ، مع أ نّه مطلق لا عامّ ، كما عرفت .

ولكن فرق بين إطلاقه وإطلاق النكرة ، فإنّ الثاني من القسم الأوّل من الإطلاق ؛ لأنّ في «أعتق رقبة» لا يكون الملحوظ إلاّ طبيعة الرقبة بما هي ، لا بما هي حاكية .

هذا حال الإطلاق بكلا قسميه .

وأمّا منشأ اختلاف كيفية الإطلاق من الشمولي والبدلي ، فليس بنحوين من اللحاظ ؛ أي لحاظ نحو من السريان في الشمولي ، ونحوٍ آخر في البدلي ،

ص: 342


1- العدّة في اُصول الفقه 1 : 275 ؛ شرح العضدي على مختصر ابن حاجب : 215 / السطر 16 ؛ اُنظر مفاتيح الاُصول : 156 / السطر 28 .

بل يكون منشأ اختلافهما من أخذ نفس الطبيعة في متعلّق الأمر وفي متعلّق النهي ، واختلاف مقتضاهما كما أشرنا إليه(1) ، وهذا من غير فرق بين قسمي الإطلاق .

الأمر الرابع : شرط الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة

الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة في باب الإطلاق ، إنّما هو فيما إذا لا ينافي إطلاق المطلق في الكلام مع إرادة المقيّد واقعاً ، وأمّا مع تنافيهما فيكفي التمسّك بأصالة الحقيقة لإثبات الإطلاق ؛ من غير احتياج إلى إثبات كون المتكلّم في مقام البيان ، أو سائر المقدّمات على فرض احتياجنا إليها .

توضيحه : أ نّه قد لا تكون الطبيعة بذاتها تمام الموضوع لحكم ، بل تكون هي مع قيدٍ زائد تمامه ، إلاّ أنّ المتكلّم يريد إيكال بيان القيد إلى دليل منفصل عن المطلق ، ولا يضرّ ذلك باستعمال اللفظ المطلق فيما هو موضوع له ، كما إذا قال : «أعتق رقبة» ، مع عدم كون طبيعة «الرقبة» تمام الموضوع للعتق ، بل «الرقبة المؤمنة» تمامه ، وأراد بيان قيد الإيمان بدليل منفصل ، فحينئذٍ لا يكون استعمال لفظ «الرقبة» إلاّ في الطبيعة الموضوع لها ، ويكون بيان القيد من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول بالنسبة إلى إفادة تمام الموضوع ، فحينئذٍ لو شككنا في أنّ «الرقبة» تمام الموضوع ، لا يمكن إثباته بأصالة الحقيقة ؛ لما عرفت من أنّ اللفظ المطلق مستعمل في معناه الحقيقي ، ولو مع عدم كونه تمام الموضوع ،

ص: 343


1- تقدّم في الصفحة 340 .

فنحتاج في إثباته إلى مقدّمات الإطلاق ودليل الحكمة .

وأمّا إذا كان التقييد بالقيد المنفصل منافياً لاستعمال بعض الألفاظ المذكورة في الكلام الأوّل فيما وضع له ؛ فيمكن كشف الإطلاق من أصالة الحقيقة من غير احتياجٍ إلى دليل الحكمة ، وإحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، كالنكرة الواقعة في سياق النفي ؛ فإنّ حرف النفي وضع لنفي مدخوله ليس إلاّ ، فالخصوصية الزائدة إذا اُخذت قيداً للمدخول ينفي حرف النفي المدخول بخصوصيته ، واستعمل في معناه الموضوع له .

وأمّا مع انفصال القيد ، وذكر الطبيعة بلا قيدٍ عقيب النفي ، فمقتضاه نفي الطبيعة المطلقة المدخولة ، فإذا اُريد نفي الطبيعة المقيّدة من غير ذكر القيد ، يكون استعمال حرف النفي في غير ما هو موضوع له . فإذا شكّ في ذلك ، يرجع الشكّ إلى استعمال حرف النفي في معناه الموضوع له أو غيره ، فيجوز التمسّك بأصالة الحقيقة ؛ والحكم بأنّ الطبيعة المنفية هي تمام الموضوع للحكم ، فلو قيل : «لا رجل في الدار» ، وشكّ في أنّ مراده مطلق الرجل ، أو الرجل العالم ، يكفي في كشف الإطلاق نفس أصالة الحقيقة ؛ لأنّ اللام وضعت لنفي مدخولها لا غير ، فإن استعملت في ذلك تكون مستعملة في معناها الحقيقي ، وإن استعملت واُريد منها نفي أمر زائد على المدخول ، تكون مستعملة في غير ما هي موضوعة له ، فأصالة الحقيقة تكشف عن إطلاق مدخولها من غير احتياج إلى مقدّمات الإطلاق .

ولا يبعد أن تكون النواهي الواردة على الطبائع أيضاً كذلك ، أي لا تحتاج

ص: 344

في إثبات إطلاق مدخولاتها إلاّ إلى أصالة الحقيقة ، دون مقدّمات الإطلاق ، بخلاف الطبائع الواقعة في سياق الإثبات ؛ فإنّ بيان القيد الزائد فيها لا ينافي استعمال المطلق في الإطلاق ، ولا يوجب استعمال لفظٍ في غير ما هو موضوع له .

وأمّا في النواهي فيوجب ذلك استعمال حرف النهي في غير الموضوع له ، كما قلنا في النفي ، فتدبّر .

والحمد للّه أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .

ص: 345

ص: 346

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين

ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 347

ص: 348

المقصد السادس: في بيان الأمارات المعتبرة عقلاً أو شرعاً

اشارة

وقبل الخوض فيما هو المهمّ ، لا بأس بتقديم فصول:

ص: 349

ص: 350

الفصل الأوّل: في تمهيدات لمباحث القطع

في تمهيدات لمباحث القطع

يذكر فيه اُمور :

الأمر الأوّل : اُصولية مبحث القطع

إنّ مبحث القطع - بناءً على ما ذكرنا في موضوع علم الاُصول : من أ نّه هو الحجّة في الفقه(1) من مسائل علم الاُصول ؛ ضرورة كونه حجّة فيه كسائر الأمارات المعتبرة ، وإن كانت حجّيته ذاتية ضرورية ، وليس من مسائل علم الكلام ؛ لأنّ علم الكلام هو ما يبحث عمّا يجب على اللّه ، أو يقبح عليه ، وفي مسائل القطع لا يبحث عن أمثاله .

وأمّا ما أفاده الشيخ الأنصاري في معنى الحجّية : من أنّها هي التي وقعت وسطاً في الإثبات(2) ، فهي الحجّة على طريقة المنطقيين ، لا على طريقة

ص: 351


1- تقدّم في الصفحة 14 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 29 .

الاُصوليين ؛ لأنّ الوقوع وسطاً في الإثبات أو اللا وقوع كذلك ، لا مساس له بالحجّية الاُصولية التي هي بمعنى المنجّز والمعذّر كما لا يخفى .

مضافاً إلى أنّ الحجّة في المنطق عبارة عن كلتا مقدّمتي القياس(1) لا مجرّد الوسط في الإثبات .

الأمر الثاني : في المراد من «المكلّف» في تقسيم الشيخ قدّس سرّه

إنّ المراد من «المكلّف» في المقسم في رسالة الشيخ(2) هو المكلّف الفعلي بالنسبة إلى بعض الأحكام الضرورية ؛ فإنّه إذا التفت إلى حكم غير ما يكون لأجله مكلّفاً ، فإمّا أن يحصل له القطع ، أو الظنّ . . . إلى آخره ، لا المكلّف الفعلي بالنسبة إلى ذلك الحكم الذي يحصل له الأقسام ؛ ضرورة عدم كونه مقسماً لها ، ولا المكلّف الشأني ؛ فإنّه [ لا يكون] مكلّفاً ، بل له شأنية التكليف ، والظاهر من قوله رحمه الله علیه : «اعلم أنّ المكلّف . . .» إلى آخره ، هو المكلّف الفعلي ، كما هو الشأن في كلّية العناوين المأخوذة في موضوع حكم .

الأمر الثالث : في مراتب الحكم

إنّ المحقّق الخراساني جعل للحكم مراتب ؛ من الاقتضائي ، والإنشائي ؛ أي [ الذي] يكتب في الدفاتر ، والفعلي ، والمنجّز(3) . وإن جعل للفعلي مرتبتين ؛

ص: 352


1- البصائر النصيرية : 78 / السطر 15 ؛ شرح الشمسية : 17 / السطر 3 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 - 25 .
3- كفاية الاُصول : 297 ؛ درر الفوائد ، المحقّ-ق الخراساني : 70 ؛ فوائد الاُصول ، المحقّق الخراساني : 81 .

الفعلي قبل التنجّز ، وبعده ، فتصير المراتب خمساً .

ولا يخفى : أنّه لا يصير الشيء [ذا] مراتب إلاّ إذا كان محفوظاً بذاته في جميع المراتب ، ويختلف شدّة وضعفاً ، كمراتب البياض والسواد ، أو زيادة ونقصاً كالكمّ ، وأمّا مع عدم محفوظيته فيها فلا يكون ذا مراتب .

ومن ذلك يتّضح : أنّ ما ذكره من المراتب للحكم منظور فيه :

لأنّ مقام الاقتضاء - أي كون موضوع الحكم ذا مصلحة أو مفسدة - لا يكون من مراتب الحكم ؛ لعدم تحقّقه في هذا المقام ، ولا يكون الاقتضاء قوّةً واستعداداً بالنسبة إلى الحكم ، كالنطفة بالنسبة إلى الصورة الإنسانية ؛ فإنّها استعداد بالنسبة إلى الصورة ، ولها إمكان استعدادي بالنسبة إلى النطفة ، فيمكن أن يقال : إنّ الاستعداد من مراتب وجود الشيء .

وأمّا الاقتضاء ، فلا يكون كذلك ، ولا يتبدّل بالحكم كما هو واضح ، فعدّه من مراتبه ممّا لا وجه له ، كما أنّ إطلاق «الحكم» عليه غير صحيح .

وكذا الحال في الحكم الإنشائي على اصطلاحه - أي ما يكتبه الحاكم في الدفاتر لأجل النظر إليه والحكّ والإصلاح حتّى تتمّ حدوده ، ثمّ يحكم حكماً فعلياً - فإنّه أيضاً لو اُطلق عليه «الحكم» لا يكون من مراتبه ؛ بمعنى صيرورته حكماً فعلياً بعد كونه إنشائياً ، بحيث تكون ذات واحدة لها مرتبتان .

وكذا التنجّز ليس من مراتب الحكم ؛ فإنّه وصف عقلي اعتباري للحكم الفعلي ، لأجل تعلّق علم المكلّف به ، أو قيام الحجّة عليه ، من غير أن تكون للحكم مرتبتان شدّة وضعفاً ؛ فإنّ الحكم الفعلي لا يكون ناقصاً قبل العلم ، ولا يصير بعده تامّاً أو مؤكّداً ، بل الحكم على ما هو عليه ، لكنّه قبل تعلّق العلم

ص: 353

لا يمكن أن يكون باعثاً فعلياً ومحرّكاً ، بخلافه بعد تعلّقه ، وليست له إلاّ مرتبة واحدة ؛ منجّزة بعد تعلّق العلم به ، وغير منجّزة قبله .

لا يقال : إنّ الحكم قبل تعلّق العلم به ، قد يكون محرّكاً ، كما في الاحتياط مع احتمال التكليف .

فإنّه يقال : لا يعقل أن يكون المحرّك في الاحتياط ، هو الحكم الواقعي المجهول ؛ لأنّ وجوده الواقعي وعدمه سواء في تحرّك العبد ، بل المحرّك فيه نفس الاحتمال مع مقدّمات اُخرى ، فالاحتياط قد يصادف الواقع ، وقد لا يصادفه ، وما يكون كذلك لا يمكن أن يكون المحرّك فيه هو الحكم الواقعي .

الأمر الرابع : في تقسيم الحكم إلى الواقعي والظاهري

إنّ للحكم تقسيمات ؛ من التكليفي ، والوضعي ، ولكلٍّ منهما أقسام .

وينقسم أيضاً إلى الحكم الواقعي والظاهري .

والأوّل : ما يتعلّق بالموضوعات بعناوينها الأوّلية ، كالمستطيع ، والبالغة غلاّته حدّ النصاب .

والثاني : ما يتعلّق بالعناوين الثانوية - أي مع الشكّ في الأحكام الأوّلية - فيكون جعلها بلحاظ الأحكام الأوّلية ، من غير أن تكون لنفسها مصلحة ويكون الجعل لتلك المصلحة ؛ فإنّه إذا كان الجعل بلحاظها يكون حكماً واقعياً ، لا ظاهرياً ، مثلاً : لو كان تعلّق الشكّ بحكم ، موجباً لحصول مصلحة مورثة لتعلّق الحكم به ، ويكون تعلّق الحكم به لأجلها ، فلا يكون حكماً ظاهرياً وحجّة على الحكم الواقعي ، فجعل وجوب الاتّباع في خبر الثقة - إذا كان لمصلحة في نفس

ص: 354

اتّباعه - لا يصير حجّة على الحكم الواقعي ، ولا أمارة عليه ، بل يكون حكماً واقعياً في عَرض سائر الأحكام الواقعية .

فالأحكام الظاهرية ما يكون جعلها لحفظ الأحكام الواقعية الأوّلية ، فلو أمر المولى بالاحتياط ، أو جعل خبر الثقة حجّة لحفظ الواقعيات ، يصير الواقع منجّزاً بواسطة الحكم الظاهري ، فالحكم الفعلي قد يصير منجّزاً بتعلّق العلم به ، وقد يصير منجّزاً بواسطة الأحكام الظاهرية .

والمراد من «التنجيز» صيرورة الحكم الفعلي بحيثية تكون مخالفته خروجاً عن رسم العبودية ، وتكون العقوبة عليها غير قبيحة عند العقلاء . وهو منحصر بالأحكام الإلزامية في الواجبات والمحرّمات ، دون المرغّبات والمنزّهات . وأمّا كون الحكم محرّكاً فعلياً ، فلا يكون مختصّاً بالإلزاميات .

فالعلم بالحكم الإلزامي منجِّز ، وبمطلق الأحكام يوجب الباعثية الفعلية ، فعدّ

التنجيز لمطلق الأحكام - كما هو ظاهر كلام المحقّق الخراساني(1) ليس على ما ينبغي .

وقولنا «إنّ الباعثية مختصّة بحال العلم» ليس معناه أنّ الحكم جعل للعالم به ؛ فإنّه دور باطل .

بل التحقيق : أنّ الحكم الفعلي جعل لكلّ مكلّفٍ ، لكنّه لا يكون باعثاً ومحرّكاً إلاّ بعد العلم ، وإنّما أمر المولى ليعلم المكلّف وينبعثَ نحو المطلوب ، فالعلم بالحكم من مقدّمات الانبعاث ، لا أنّ الحكم مجعول للعالم به .

ص: 355


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 70 ؛ كفاية الاُصول : 297 .

الأمر الخامس : في تقسيم حالات المكلّف باعتبار وجود المنجّز وعدمه

إنّ الشيخ الأعظم قد ثلّث حالات المكلّف إلى القطع ، والظنّ ، والشكّ(1) .

ولمّا ورد عليه إشكال التداخل، عدل عنه المحقّق الخراساني إلى التثنية، فقال: «إمّا أن يحصل له القطع، أو لا» وجعل القطع بالأحكام الظاهرية من أقسام القطع(2).

ويرد عليه : أنّ القطع لمّا كان منجّزاً قاطعاً للعذر ، تنحصر منجّزيته بتعلّقه بالأحكام الواقعية ؛ إذ لا معنى لتنجيزه الأحكام الظاهرية ، فإنّ القطع بحجّية الخبر الواحد لا يكون منجّزاً ، بل المنجّز هو الخبر القائم على الواقع ، لا القطع المتعلّق بحجّيته ، مضافاً إلى ورود إشكالات اُخر عليه كما سيتّضح لك .

فالتحقيق أن يقال : إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم فعلي ؛ فإمّا أن يكون له منجّز أو لا ، فيدخل في الأوّل القطع بالحكم ، والأمارات المعتبرة ؛ فإنّها منجّزات للواقع ؛ بمعنى أ نّه إذا خالف المكلّف مفادها ، وكان موافقاً للواقع ، يصير مستحقّاً للعقوبة على الواقع، وإن عمل بها وتخلّف مفادها عن الواقع، لا يكون معاقباً عليه.

وأمّا أصالة الاشتغال ، فراجعة إلى منجّزية القطع الإجمالي للواقع الذي في الأطراف ، فمع المخالفة يكون معاقباً على الواقع المعلوم على فرض المصادفة ، فأصل الاشتغال بأقسامه من باب منجّزية القطع للواقع .

وأمّا أصل التخيير ، فقد يكون مع منجّزية الواقع بنحوٍ ، كما لو علم بالتكليف إجمالاً ولم تمكن الموافقة القطعية ، ولكن أمكنت الموافقة الاحتمالية ، وكذا

ص: 356


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 25 .
2- كفاية الاُصول : 296 .

المخالفة القطعية ، كمن علم بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر عليه ، ولم يمكنه الإتيان بكلتيهما ، وأمكنه تركهما وإتيان إحداهما ، فالواقع حينئذٍ منجّز في صورة ، وغير منجّز في اُخرى ؛ لأنّه لو تركهما يكون معاقباً على الواقع المتروك ، ولو أتى بواحدة منهما لا يكون مستحقّاً للعقوبة ولو كان الواقع غير ما أتى به .

والعقل إنّما يحكم بوجوب إتيان إحداهما مخيّراً بينهما ، إذا لم يكن لإحداهما مرجّح ، كما لو ظنّ بكون الواقع إحداهما خاصّة ؛ فإنّ الأخذ بالراجح لازم عقلاً ، فيحكم العقل بمنجّزية الواقع على فرض ترك الأخذ بالمرجّح ، وعدمها على فرض الأخذ به . فلو ظنّ بأنّ الواجب هو الجمعة ، وتركها وصادف الواقع ، يستحقّ العقوبة عليه ، دون ما إذا أتى بها وخالف الواقع ؛ فإنّه معذور .

والسرّ فيه : أنّ المكلّف العالم بالواقع ، لا بدّ له - بحكم العقل - من التحفّظ عليه بمقدار الميسور ؛ وهو الأخذ بالمظنون ، فلا بدّ له من الأخذ به مراعاةً للواقع وتحفّظاً عليه .

فتحصّل من ذلك : أنّ أصالة التخيير أيضاً من أقسام منجّزية القطع للواقع ، كما أنّ الأخذ بالمظنون منها .

وأمّا أصالة التخيير في الدوران بين المحذورين ، فهي ترجع إلى عدم منجّزية القطع للواقع ، فتكون من قبيل أصالة البراءة ، وإن افترقتا في أنّ التنجيز في مورد أصل البراءة ممّا لا مقتضي له ، وأمّا في مورد أصالة التخيير فالمقتضي له - وهو العلم بالتكليف - وإن كان موجوداً ، لكنّ المانع منه متحقّق .

وأمّا الاستصحاب ، فهو أيضاً راجع إلى منجّزية الواقع ؛ فإنّ المكلّف لو خالف الاستصحاب وصادف الواقع ، يكون مستحقّاً للعقوبة عليه ، سواء كانت الشبهة

ص: 357

حكمية أو موضوعية ، فالاستصحاب منجّز كسائر المنجّزات .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ المكلّف إمّا أن يحصل له منجّز أو لا ، فيدخل في الأوّل جميع المنجّزات ؛ من القطع ، والأمارات ، وأصالتي الاشتغال والتخيير في غير الدوران بين المحذورين ، والاستصحاب ، وفي الثاني أصالتا البراءة ، والتخيير في الدوران بينهما .

واتّضح أنّ عدّ أصالتي الاشتغال والتخيير في مقابل القطع كما صنعه الأعلام(1) ممّا لا وجه له .

ولا يخفى : أنّ المراد من وجوب العمل بالقطع ، ليس هو الوجوب الشرعي ، بل ا لمراد منه هو الوجوب العقلي ، وهو يرجع إلى منجّزية الواقع كما عرفت .

كما أنّ التخيير في أصالة التخيير مطلقاً ، ليس هو التخيير الشرعي ، بل هو التخيير العقلي بالتفصيل الذي عرفت ، فصحّ أن يقال : إنّ جميع حالات المكلّف ترجع إلى وجود المنجّز وعدمه ، فلا تغفل .

وممّا ذكرنا - من أنّ أصالة الاشتغال والتخيير عقلية لا شرعية ، وأصالة البراءة بحسب اصطلاح الاُصوليين هي الأصل العقلي ، وأمّا المستفاد من الشرع فلا يطلق عليه أصل البراءة - يظهر النظر فيما أفاده الشيخ الأنصاري : من أنّ المرجع عند الشكّ هو القواعد الشرعية الثابتة للشاكّ(2) .

نعم ، هو يصحّ بالنسبة إلى الاستصحاب ؛ فإنّه قاعدة شرعية .

ص: 358


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 25 ؛ كفاية الاُصول : 296 - 297 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 4 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 25 .

الفصل الثاني: معنى حجّية القطع

قال الشيخ : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً(1) .

أقول : يحتمل أن يكون المراد من «وجوب متابعة القطع» هو الوجوب الشرعي الثابت للواقع المقطوع به ؛ لكون متابعة الواقع هو العمل بالقطع بالحمل الشائع . والمراد من «عدم الإشكال» هو عدم الإشكال لدى القاطع .

فالمعنى المحصّل : أ نّه لا إشكال لدى القاطع في وجوب متابعة الواقع وجوباً شرعياً ، فإذا قطع بوجوب صلاة الجمعة ، أو وجوب ترك شرب الخمر ، فلا إشكال عنده في وجوبهما عليه ، فيرجع إلى أنّ القاطع بوجوب صلاة الجمعة وترك شرب الخمر ، قاطع بوجوب العمل بهما شرعاً ، فتصير القضيّة ضرورية ؛ يكون المحمول فيها عين الموضوع .

ويحتمل أن يكون المراد منه أ نّه لا إشكال لدى القاطع وغيره من العقلاء ، في

ص: 359


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 29 .

وجوب متابعة القاطع لقطعه وجوباً عقلياً ؛ أي يكون عند العقلاء القطع منجّزاً للتكليف الواقعي ، بمعنى أ نّه لو خالف قطعه ، وكان مصادفاً للواقع ، ليستحقّ العقوبة على الواقع .

وبهذا المعنى تكون سائر الأمارات أيضاً واجبة العمل بها ؛ أي لا إشكال في منجّزيتها للواقع ، والفرق بينه وبينها أ نّه لا يحتاج في ذلك إلى جعل بخلافها .

والظاهر من كلامه الآتي بعد هذا الكلام هو المعنى الأوّل ؛ فإنّه قال في مقام الفرق بين القطع وغيره من الأمارات : إنّه لا يصير وسطاً في الإثبات ، فلا يقال :

«هذا مقطوع الخمرية ، وكلّ ما كان كذلك يجب الاجتناب عنه» بل يقال : «هذا خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه» بخلاف سائر الأمارات ، فإنّه يقال : «هذا مظنون الخمرية ، وكلّ مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه» فتقع وسطاً في الإثبات(1) .

فإنّ الظاهر منه : أنّ مراده من «وجوب العمل بالقطع» هو الوجوب الشرعي الثابت للواقع ، وإنّما يكون ذلك عملاً بالقطع ؛ لانطباق العمل به على العمل بالواقع المقطوع به ، فيكون وجوباً شرعياً .

إذا عرفت ذلك نقول : إنّه لا إشكال في أنّ إطلاق «الحجّة» على الأمارات عند الاُصوليين ، ليس إلاّ لأنّها حجّة على الأحكام الواقعية الثابتة لموضوعاتها ؛ بمعنى أنّها منجّزات لها ، فتكون الأمارات حجّة على الواقع ، ومنجّزة لها ، ولا تطلق عليها «الحجّة» باعتبار وجوب العمل على طبقها وجوباً

ص: 360


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 29 - 30 .

ظاهرياً في مقابل الواقع ؛ فإنّ وجوب العمل بالأمارات لدى الشكّ في الواقع ، حكم ظاهري اُخذ في موضوعه الشكّ في الواقع ، ويكون مجعولاً بلحاظ التحفّظ على الواقع ، فهاهنا أمران :

أحدهما : الأحكام الواقعية المنجّزة بواسطة قيام الأمارات عليها .

ثانيهما : الأحكام الظاهرية الثابتة للأمارات ، وتكون هي موضوعات لها .

فالأمارات منجّزات للأحكام الواقعية ، وموضوعات للأحكام الظاهرية ؛ أي يجب ا لعمل على طبقها لدى الشكّ في الواقع ، فإذا قيل : «إنّها حجّة» إنّما يراد كونها منجّزات للواقع ، لا أ نّه يجب العمل على طبقها وجوباً ظاهرياً .

وبهذا المعنى من إطلاق «الحجّة» على الأمارات ، تطلق على القطع أيضاً ؛ لكونه أيضاً منجّزاً للواقع كسائر الأمارات ، ولا يقع القطع ولا غيره من المنجّزات وسطاً في الإثبات في قياسٍ باعتبار منجّزيتها للواقع .

وأمّا وقوع الأمارات وسطاً في قولنا : «هذا قامت الأمارة الكذائية على وجوبه ، وكلّ ما كان كذلك يجب العمل به» فإنّما هو بالنسبة إلى الحكم الظاهري الثابت لها لدى الشكّ ؛ أي الحكم الذي تكون الأمارات القائمة على الواقع موضوعات له ، لا الموضوعات الواقعية ، فتدبّر ولا تغفل .

ثمّ إنّه قد اتّضح : أنّ الظاهر من كلام الشيخ - أي قوله : لا شكّ في وجوب العمل بالقطع - هو الاحتمال الأوّل ، لكن صريح كلام المحقّق الخراساني هو المعنى الثاني ، حيث قال : «لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً»(1) .

ص: 361


1- كفاية الاُصول : 297 .

لكن بقي إشكال في قوله : إنّ القطع موجب لتنجّز التكليف فيما أصاب ؛ باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته ، وكونه عذراً فيما أخطأ قصوراً(1) .

وهو أنّ القطع إذا كان منجّزاً للتكليف ، فلا يعقل أن يكون موجباً للعذر ؛ ضرورة أنّ عدم القطع بالحكم حينئذٍ موجب للعذر ، لا القطع بعدمه ، فنسبة المعذّرية إلى القطع بعدم الحكم ، غير تامّة .

بل الجمع بين العبارتين تناقض وتهافت ؛ فإنّه إذا صار القطع موجباً للتنجّز ، فلا بدّ وأن يكون الحكم في حدّ ذاته - بلا تعلّق القطع به - غير مقتضٍ للتنجّز ، ولازم كون القطع بالعدم عذراً ، أنّ الحكم بحسب وجوده الواقعي وفي حدّ ذاته ، مقتضٍ للتنجّز ، والقطع بخلافه عذر .

ص: 362


1- كفاية الاُصول : 297 .

الفصل الثالث: في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي والطريقي

لا إشكال في أنّ معنى اعتبار أمارة ، هو أ نّه إذا قامت على حكم أو موضوع ذي حكم ، يجب ترتيب آثار القطع بهما عليها . فكما أنّ القطع بهما منجّز وموجب لوجوب العمل على وفقه عقلاً ، كذلك الأمارة المعتبرة . فمعنى وجوب تصديق العادل، جعل مؤدّى قوله موافقاً للواقع عملاً ، ووجوب العمل على طبقه، وجعل مؤدّاه كمؤدّى القطع في مقام العمل ، فلا بدّ وأن يكون المكلّف شاكّاً في الحكم أو الموضوع الذي هو ذو حكم ، حتّى يكون لقيام الأمارة معنىً معقول .

فإذا كانت صلاة الجمعة مشكوكاً فيها ، وقامت الأمارة على وجوبها ، وحكم الشارع باعتبار تلك الأمارة ، يجب عقلاً ترتيب آثار القطع بوجوبها . وكذا إذا شكّ في حياة زيدٍ ، فقامت على حياته ، يجب ترتيب آثار القطع بحياته .

فالحكم الواقعي يصير منجّزاً بالأمارة المعتبرة ، كتنجّزه بالقطع بلا افتراق بينهما من هذه الحيثية ، وهذا معنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي ، وهو ممّا لا إشكال فيه .

ص: 363

وأمّا إذا كان القطع موضوعاً لحكم أو جزء موضوعٍ له ، فيكون القطع بالخمرية أو الخمر المقطوع به ، موضوعاً للحرمة ، فلا يعقل قيام الأمارة مقامه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ قيام الأمارة على شيءٍ ، إنّما يعتبر مع الشكّ في تحقّقه ، دون ما إذا قطع بعدم تحقّقه ؛ فإنّه حينئذٍ لا معنى لقيامها عليه ، والمفروض أنّه مع الشكّ في الخمرية يقطع بعدم تحقّق موضوع الحكم ؛ فإنّ موضوعه هو المقطوع به ، لا المشكوك فيه .

وأمّا ثانياً : فلأنّ اعتبار الأمارة ، إنّما هو فيما إذا قامت على حكمٍ أو موضوعٍ ذي حكم ، والفرض أنّ الموضوع هو «مقطوع الخمرية» لا الخمر ، فقيامها على الخمرية قيام على غير ما هو الموضوع ، فلا معنى لاعتبارها وقيامها مقام القطع ، ولو فرض قيام الأمارة على نفس الموضوع ، فقامت البيّنة على أنّك قاطع بالخمرية ، مع كونك شاكّاً فيها ، تقطع بكذبها ، ومعه لا يعقل اعتبارها .

فقيام الأمارة - بما لها من المعنى ، من كونها أمارة للواقع ومعتبرة - مقامَ القطع الموضوعي ، ممّا لا معنى له .

نعم ، لا بأس بقيامها مقامه بمعنى آخر ؛ وهو تنزيل قيام الأمارة مقام القطع ا لموضوعي ، كتنزيل الطهارة الترابية مقام المائية ، كما لو دلّ دليل على أنّ الأمارة إذا قامت على خمرية شيء ، يكون قيامها بمنزلة تعلّق القطع به في كونه ذا مصلحة أو مفسدة ملزمة ، فيكون حينئذٍ حكماً واقعياً كسائر الأحكام الواقعية ، لكنّه خارج عن الأمارية التي يكون اعتبارها بلحاظ الشكّ في الواقع .

وما أفاده الشيخ ممّا ظاهره المنافاة لما ذكرناه : من أنّ القطع المأخوذ في الموضوع على قسمين ؛ فإنّه تارة : يؤخذ على نحو الطريقية ، وتارة : على نحو

ص: 364

الصفتية ، فتقوم الأمارات بأدلّة اعتبارها مقام القطع الموضوعي على النحو الأوّل ، دون الثاني(1) .

فالظاهر رجوعه إلى ما ذكرناه ؛ وأنّ مراده من ذلك أ نّه قد يكون القطع في ظاهر الدليل ومقام الإثبات والدلالة ، مأخوذاً في الموضوع ، لكنّه ليس موضوعاً في مقام الثبوت والواقع ، بل الحكم ثابت للواقع بلا دخالة القطع فيه ؛ لا بنحو تمام الموضوع ، ولا بنحو جزئه ، بل يكون طريقاً محضاً إلى المتعلّق ، كسائر الموارد التي لم يؤخذ في ظاهر الدليل أيضاً في الموضوع .

فإذا قال : «إذا قطعت بخمرية شيء اجتنب عنه» ويكون المراد هو الاجتناب عن الخمر الواقعي ، ويكون القطع كاشفاً وطريقاً محضاً إلى الموضوع الواقعي ، تقوم الأمارات مقامه ؛ لأنّ الحكم ثابت للواقع ، لا المقطوع وإن اُخذ في ظاهر الدليل في الموضوع ، بخلاف ما إذا اُخذ في الموضوع بحسب مقام الثبوت ، كما أخذه كذلك بحسب الإثبات .

وبالجملة : ليس مراده التفصيل بين القطع المأخوذ في الموضوع ثبوتاً على نحو الطريقية والصفتية ، بل مراده التفصيل بين القطع المأخوذ في الموضوع وغيره ؛ أي ما كان طريقاً محضاً ، ولو اُخذ في ظاهر الدليل في الموضوع .

ويؤيّد ما ذكرنا بل يدلّ عليه قوله : ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع ، قيام الأمارات الشرعية وبعض الاُصول العملية مقامه(2) ؛ فإنّ عدّ هذا من

ص: 365


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 33 - 34 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 33 .

خواصّ القطع الطريقي ، ينافي التفصيل بين قسمي القطع الموضوعي وقيام الأمارات مقام قسمٍ منه ؛ فإنّ خاصّة الشيء ما لا يشترك معه غيره فيها .

ويؤيّده أيضاً ما أفاده بعد ذلك في مقام بيان القطع المأخوذ في الموضوع بقوله : فإنّه تابع لدليله ؛ فإن ظهر منه أو من دليل خارج ، اعتباره على وجه الطريقية للموضوع ، قامت الأمارات وبعض الاُصول مقامه(1) .

فإنّ الظاهر من قوله : على وجه الطريقية للموضوع ، أنّ متعلّق القطع هو تمام الموضوع ، لا بعضه وبعضه الآخر هو القطع ؛ فإنّه لا يناسب هذا التعبير كما لا يخفى .

ودون هذا التوجيه لكلامه توجيه آخر وهو أنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، فله إضافة إلى القاطع ، وإضافة إلى الأمر المقطوع به ؛ لكشفه عنه ، فيمكن أن يؤخذ في الموضوع بما أ نّه صفة خاصّة للقاطع ، وأن يؤخذ فيه بما أ نّه كاشف عن الواقع ، فإن اُخذ على النحو الثاني قامت الأمارات مقامه ، دون ما إذا اُخذ على النحو الأوّل .

وفيه ما عرفت : أنّ معنى اعتبار الأمارة القائمة على حكمٍ أو موضوعٍ ذي حكم ، هو ترتيب آثار الواقع عليه لدى الشكّ فيه ، وأمّا مع القطع بعدمه فلا معنى لاعتبارها ، فإذا اُخذ القطع في موضوعٍ ، فقامت الأمارة على ذلك الموضوع للشاكّ ، يقطع بعدم تحقّق موضوع حكمه .

وأيضاً : قيام الأمارة على الخمرية ، لا على القطع بها ، والموضوع هو الثاني ،

ص: 366


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 33 .

لا الأوّل ، ولو قامت على الثاني تكون كذباً قطعاً .

وهاهنا احتمال ثالث في توجيه عبارته وهو أنّ المراد من القطع الملحوظ على الصفتية ملاحظته من حيث إنّه كشف تامّ ، ومن الملحوظ على نحو الطريقية ملاحظته من حيث إنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة ؛ أي ملاحظة الجامع بين القطع وبين سائر الطرق المعتبرة .

فإن اُخذ في الموضوع على النحو الأوّل ، لا تقوم الأمارات مقامه ، بخلاف ما إذا اُخذ فيه على النحو الثاني ، فإنّها تقوم مقامه بواسطة الأدلّة الدالّة على اعتبارها .

فإن كان القطع بعض الموضوع ، وبعضه الآخر هو الواقع المقطوع به ، فيكفي في إثبات جزء الموضوع واعتبار الأمارة بالنسبة إليه ، كونه ذا أثرٍ تعليقي ؛ أي لو انضمّ إليه الجزء الآخر يكون ذا أثرٍ فعلي شرعي ، وكم له من نظير ، فإنّ إثبات بعض الأجزاء بالأصل أو الأمارة ، والباقي بالوجدان ، غير عزيزٍ .

وأمّا إن كان تمام الموضوع ، فلا معنى لاعتبار الأمارة إلاّ إذا كان للموضوع أثر آخر تعتبر الأمارة بلحاظه ، مثل أن يكون الخمر موضوعاً للحرمة واقعاً ، وما علم خمريته يكون موضوعاً للنجاسة مثلاً ، فحينئذٍ يمكن إحراز الخمر تعبّداً بقيام البيّنة ؛ لكونها ذات أثرٍ شرعي ، وبعد قيامها يترتّب عليها الحكم الآخر الذي رتّب على العلم من حيث إنّه طريق إلى تحقّق موضوعه(1) .

وفيه : أ نّه فيما إذا كان القطع جزء الموضوع ، يكون اعتبار الأمارة متوقّفاً

ص: 367


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 330 - 332 .

على كونه ذا أثر ، وكونه ذا أثر متوقّف على اعتبار الأمارة ، فقيام الأمارة لا يمكن إلاّ على وجهٍ دوري .

وإذا كان تمام الموضوع ، وكان له أثر آخر - كما في المثال المتقدّم - فلا مانع منه ، إلاّ أ نّه يلزم منه أن يكون الحكم الواقعي ، مترتّباً على الحكم الظاهري بعكس المتعارف ؛ فإنّ وجوب ترتيب آثار الحرمة على الأمارة القائمة على الخمرية ، حكم ظاهري يترتّب عليه الحكم الواقعي الذي هو النجاسة .

ص: 368

الفصل الرابع: في التجرّي

تحرير محلّ النزاع

ولا بدّ قبل تحقيق المقام من تحرير محلّ النزاع ، فنقول : ما يمكن أن يكون محلّ النزاع أحد اُمور أربعة :

الأوّل : أنّ القطع إذا تعلّق بحرمة شيء أو وجوبه ، هل هو موجب للحرمة الشرعية على مخالفته - سواء صادف الواقع أو لا - أم لا يوجب ؟

الثاني : إذا تعلّق القطع بهما ، هل هو موجب للحرمة على المخالفة إذا لم يصادف الواقع أم لا ؟

الثالث : الصورة الاُولى بحالها ، لكن يقع النزاع في أنّ العقل هل يحكم باستحقاق العقوبة على المخالفة أم لا ؟

الرابع : الصورة الثانية بحالها ، ويقع النزاع في الحكم العقلي كالثالثة .

ثمّ إنّ النزاع يمكن أن يقع في أنّ التجرّي هل له ملاك غير ملاك التجرّي الذي في المعصية ، أم لا بل ملاكهما واحد ؟

وتوضيحه : أنّ في المعصية جهتين ، إحداهما : قبح نفس الفعل بما أنّه

ص: 369

ذو مفسدة محضة أو غالبة ، وثانيتهما : قبح مخالفة المولى والتجرّي عليه ، فيمكن النزاع في أنّ ملاك قبح التجرّي ، هل هو ملاك قبح المعصية من الجهة الثانية ، أم له ملاك مستقلّ غير الملاك الذي في المعصية ؟

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّه لا إشكال في أنّ النزاع إنّما هو في الصورة الرابعة ؛ فإنّها قابلة للنقض والإبرام .

وأمّا كون الحرمة الشرعية متعلّقة بنفس مقطوع الحرمة بما أ نّه كذلك ، فمقطوع العدم ؛ لعدم الدليل عليها ، بل لازم تعلّق الحرمة به ، أن تتحقّق في المعصية الواحدة الصادرة من المكلّف ، معاصٍ غير متناهية ؛ فإنّ مقطوع الحرمة حرام بالفرض ، فإذا تعلّق القطع بمقطوع الحرمة ، يتحقّق حرام آخر ، وهكذا في صورة تعلّق القطع بالقطع . . . إلى ما لا نهاية له ، فتتضاعف المحرّمات حسب تضاعف القطع .

وأمّا القول : بأنّ في التجرّي ملاكاً مستقلاًّ غير ملاك التجرّي الذي في المعصية ، فهو غير محقّق ؛ ضرورة أنّ الملاك الآخر المستقلّ مقطوع العدم .

فالنزاع إنّما هو في أنّ القطع إذا تعلّق بحرمة شيء أو وجوبه ، فكما أنّه في صورة الإصابة موجب لاستحقاق العقوبة على المخالفة ، فهل هو في صورة عدمها أيضاً موجب لاستحقاقها عقلاً أم لا ؟

وأمّا تعبير الشيخ العلاّمة : بأنّ النزاع في أنّ القطع حجّة عليه وإن لم يصادف الواقع أو لا(1) ففي غير محلّه ؛ فإنّ معنى الحجّية - كما مرّ مراراً - هو تنجيز الواقع على المكلّف ، ومعلوم أنّه لا معنى لتنجيز القطع الغير المصادف للواقع .

ص: 370


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 37 .

فيما استدلّ على قبح التجرّي

ثمّ إنّه قد استدلّ على قبح التجرّي بالإجماع والعقل(1) .

أمّا الإجماع ، فلا شبهة في عدم تحقّقه ؛ فإنّه مضافاً إلى كون المسألة عقلية - كما قال الشيخ(2) أ نّها ليست من المسائل الأصلية المعنونة في كلام قدماء أصحابنا ، بل من المتفرّعات التي ليست دعوى الإجماع عليها في محلّها .

وأمّا العقل ، فقد يقرّر : بأنّ الحكم باستحقاق عقوبة العاصي دون المتجرّي ، إناطة لاستحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ؛ لأنّ العاصي والمتجرّي متساويان إلاّ في تصادف قطع أحدهما للواقع دون الآخر ، وهو غير اختياري(3) .

وقد يقال : إنّ العقل يحكم باستحقاق المتجرّي للعقاب(4) .

وأجاب عنهما الشيخ الأنصاري رحمه الله علیه : بأنّ العقاب على العصيان ، إنّما يكون على شرب الخمر اختياراً ؛ فإنّ العاصي شرب الخمر اختياراً ، والعقل إنّما يحكم بتساويهما في استحقاق الذمّ من حيث شقاوة الفاعل ، وسوء سريرته مع المولى ، وخبث طينته ، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع به(5) .

ص: 371


1- راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 37 - 38 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 39 .
3- ذخيرة المعاد : 210 / السطر 3 .
4- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 38 .
5- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 40 - 41 .

أقول : ما أفاده من أنّ العاصي والمتجرّي مستحقّان للذمّ من حيث خبث طينتهما ، وسوء سريرتهما ، وشقاوتهما الذاتية ، ليس كذلك مطلقاً ، بل قلّما يتّفق أن يكون صدور العصيان والتجرّي على المولى ، ناشئَين عن سوء السريرة مع المولى ، ولو فرض كون العبد مع مولاه كذلك ، لكشف ذلك عن كفره وعناده مع مولاه .

لكن الأمر ليس كذلك نوعاً ؛ فإنّه كثيراً ما يكون العاصي أو المتجرّي حسنَ السريرة معه ، خاضعاً لربوبيته ، مائلاً لطاعته ، محبّاً له ، لكن غلبته الشهوات والميول الباطنية ، وأعانت عليه الوساوس الشيطانية ، فإذا ارتكب المعصية ندم على ما فعل غاية الندامة ، وذمّ نفسه ، ورجع إلى ربّه . ومثله تكون سريرته حسنة ، وطينته طيّبة ، وليس من الأشقياء ، بل ربّما يكون من السعداء ، فلا يصحّ أن يقال عمّن عصى واجترأ على مولاه : «إنّه سيّءُ السريرة ، خبيث الطينة . . .» إلى غير ذلك .

والتحقيق أن يقال : إنّ الذمّ لا يكون على سوء السريرة وخبث الطينة كما ذكره ، ولا على العزم والجزم على المعصية ، وكونِه بصدد هتك المولى ، مع كون الفعل المتجرّى به على ما هو عليه كما عليه المحقّق الخراساني(1) ، بل لأنّ المتجرّي والعاصي ، إنّما يكونان متوافقين في أنّ مبدأ المخالفة للمولى كان فيهما بالقوّة ، فصار فعلياً بحركتهما الاختيارية ، فالمتجرّي خرج من قوّة مخالفة المولى إلى فعليتها بذلك الفعل الاختياري كالعاصي ، وإنّما

ص: 372


1- كفاية الاُصول : 298 - 299 .

الفرق بينهما أنّ العاصي وقع في مفسدة الفعل بما أ نّه فعل ذو مفسدة ، دون المتجرّي .

وبعبارة اُخرى : إنّ الأفعال - مع قطع النظر عن انتسابها إلى المولى - لها مفاسد ومصالح ذاتية قبل تعلّق التكليف بها ، فالخمر فيها مفسدة غالبة على مصلحتها ، تعلّق بها تكليف أو لا ، وإذا تعلّق التكليف بها يصير منسوباً إلى المولى لأجله ، فيصير ارتكاب شرب الخمر - مضافاً إلى إيصال المكلّف إلى المفسدة الذاتية - موجباً لمخالفة المولى وخروجِ العبد عن رسم العبودية وطريق الطاعة ، والمتجرّي القاطع بأنّ المائع الكذائي خمر يكون شريكاً للعاصي في الجهة الثانية للعصيان ، لا الاُولى .

فالفعل المتجرّى به يصير قبيحاً لا بعنوانه الذاتي ، بل بعنوانٍ عرضي ثابت له بواسطة قطع العبد بكونه متعلّقاً للتكليف . ولا فرق في نظر العقل من هذه الجهة بين تصادف القطع للواقع وعدمه ، فكما أنّ ارتكاب شرب الخمر المقطوع به مذموم عند العقلاء ، ويكون خروجاً عن رسم العبودية ، وقبيحاً بالعنوان المنطبق عليه - وهو عنوان مخالفة المولى والجرأة عليه - كذلك الفعل المتجرّى به من هذه الحيثية ، طابق النعل بالنعل .

نعم ، الخمر في ذاتها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها ذات مفسدة ، والماء المقطوع بكونه خمراً ليس كذلك .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الفعل المتجرّى به كالعصيان من جهة ، ويفترق عنه من جهة اُخرى .

ص: 373

مقالة المحقّق الخراساني في هذا المقام

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ، قد أرخى عنان القلم إلى بحث لا ينبغي الخوض فيه كثيراً ، وأعاد ما أفاد في باب الطلب والإرادة(1) : من أنّ العقاب على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، وأ نّهما وإن لم يكونا بالاختيار لكونهما من مبادئه فيتسلسل ، إلاّ أنّ بعض مبادئ الاختيار غالباً يكون وجوده بالاختيار ؛ للتمكّن من عدمه .

مضافاً إلى إمكان أن يقال : إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة ، إنّما يكون من تبعة بُعده عن سيّده بتجرّيه عليه ، كما كان من تبعة العصيان ، فكما أ نّه يوجب البُعد ،

كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ؛ فإنّه وإن لم يكن باختياره ، إلاّ أ نّه بسوء سريرته وخبث باطنه ؛ بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً .

وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال ، وينقطع السؤال ب- «لِمَ» فإنّ الذاتيات ضرورية الثبوت للذات ، والسؤال عن أنّ الكافر لِمَ اختار الكفر ، والعاصي العصيان ؟ كالسؤال عن أنّ الحمار لِمَ يكون ناهقاً ، والإنسان ناطقاً ؟ . . . إلى آخره(2) .

وقد مرّ الكلام فيه سالفاً(3) وملخّص المقال : أنّ الظاهر وقوع الخلط في معنى الاختيار ، وظنّ أنّ الفعل بمجرّد كونه عن إرادة وعزمٍ ، موجب لصحّة العقوبة أو

ص: 374


1- كفاية الاُصول : 89 - 90 .
2- كفاية الاُصول : 300 - 301 .
3- تقدّم في الصفحة 36 .

المثوبة عليه ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ؛ فإنّ الحيوانات أيضاً لها عزم وإرادة ، ويكون صدور الأفعال منها عن إرادة وعزمٍ في مقابل صدورها عن الطبائع ، مع أنّ العقوبة والمثوبة على أفعالها ممّا لا وجه لهما .

بل التحقيق : أنّ ما يوجب استحقاقهما عليهما عقلاً إنّما هو الاختيار ، وهو عبارة عن تشخيص الخير وطلبه ، وقد مرّ(1) أنّ الإنسان خلق من لطائف العوالم العلوية ولطائف العوالم السفلية ، كما قال اللّه تعالى : «إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ»(2) والنطفة الأمشاج - أي المختلطة(3) - هي النطفة المعنوية والتخمير الإلهي من اللطائف العلوية والسفلية .

ولكلٍّ من اللطيفتين ميول إلى عالمها ؛ فالإنسان باللطيفة العلوية يميل إلى العالم العلوي ، ودار ثواب اللّه ، ويتوجّه إلى الحقائق الغيبية ، وباللطيفة السفلية يميل إلى العالم السفلي ، ويتوجّه إلى الشهوات النفسانية ، واللّه تعالى جعل فيه قوّة العقل والتمييز ، وأيّده بالعقول الكاملة الخارجية ؛ من الأنبياء والمرسلين ، والأولياء والعلماء الكاملين .

فهو دائماً يكون بين الميول المختلفة العلوية والسفلية ، وله قوّة العقل والتمييز بين الحسن والقبح ، فإن رجح - بحسب ميوله العلوية ، وتأييد العقل الداخلي والخارجي - جانب العلوّ ، ورأى خيره فيه واصطفاه واختاره ، يشتاق إليه ويريده ، ويفعل ما يناسبه .

ص: 375


1- تقدّم في الصفحة 34 - 36 .
2- الإنسان (76) : 2 .
3- تاج العروس 2 : 100 - 101 .

وإن رأى خيره في العاجل ، وغلبته الشهوات والميول النفسانية ، واختار الخير العاجل - وإن كان قليلاً فانياً - على الآجل وإن كان كثيراً باقياً ، يشتاق إليه ويريده ويفعل على منواله ، فمناط استحقاق العقاب إنّما هو هذا الاختيار ، الذي يكون بقوّة العقل والتمييز ، مع تمامية الحجّة من اللّه تعالى عليه .

ويؤيّد ما ذكرناه : ما ورد في الروايات من أنّ في قلب كلّ إنسانٍ نكتتين ؛ بيضاء وسوداء ، فإذا أطاع تزداد النكتة البيضاء حتّى تحيط بالقلب ، وإذا عصى تزداد النكتة السوداء كذلك(1) .

وما ورد : من أنّ للقلب اُذنين ينفث فيهما الملك والشيطان(2) .

وما ورد في كيفية خلق الإنسان من أخذ طينته من السماوات السبع والأرضين السبع(3) . . . إلى غير ذلك ممّا يظهر للمتتبّع .

تفصيل صاحب الفصول رحمه الله علیه

ثمّ إنّه يظهر من صاحب «الفصول» رحمه الله علیه التفصيل ؛ وهو أنّ العبد مستحقّ للعقوبة على فعله المتجرّى به ، إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فإنّه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقاً أو في بعض الموارد ؛ نظراً إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية ؛ فإنّ قبح التجرّي ليس ذاتياً ، بل يختلف بالوجوه والاعتبار ، فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافرٍ واجب القتل ،

ص: 376


1- الكافي 2 : 273 / 20 .
2- الكافي 2 : 266 / 1 - 3 .
3- راجع الكافي 2 : 5 / 7 .

وتجرّى ولم يقتله ، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا الفعل عقلاً عند مَن انكشف له الواقع . . .(1) إلى آخره .

أقول : تحقيق المقام يتمّ بذكر اُمور :

الأوّل : أنّ معنى مزاحمة الجهات المحسّنة والمقبّحة في الأفعال ، ليس هو انمحاء جهات الحسن في صورة غلبة جهات القبح عليها ، أو بالعكس ، بل تكون الجهات بحالها بحسب الواقع ، لكن حسن الفعل أو قبحه تابع للجهة الغالبة ، فالخمر التي فيها نفع وصلاح ، لكن فسادها وضرّها أكثر منهما ، وإثمها أكبر من نفعها ، ويكون حكمها تابعاً للجهة الغالبة ، لا ينمحي صلاحها الجزئي ونفعها السير ، بل يكون باقياً مغلوباً عند تزاحم المقتضيين .

الثاني : أنّ التحقيق في كون الحسن والقبح ذاتيين أو بالوجوه والاعتبار ، أنّ بعض العناوين المتصوّرة ، تكون بحسب ذاتها حسنة أو قبيحة عقلاً ، فيحكم العقل بحسنها أو قبحها الذاتيين ، إذا وجدت في الخارج بذاتها مع قطع النظر عن الطوارئ والعوارض الخارجية الملحقة بها في الخارج ، كالصدق والكذب من حيث ذاتهما ، مع قطع النظر عن اللواحق فهذا معنى ذاتية الحسن والقبح .

لكن تلك العناوين الحسنة أو القبيحة ، إذا وجدت في الخارج ، قد تتصادق عليها عناوين اُخر في الوجود الخارجي والهوية العينية ، فتتزاحم معها ، فحينئذٍ يكون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبار ؛ لأجل التزاحم الخارجي بين المقتضيات التابعة للعناوين الصادقة على الهوية العينية .

ص: 377


1- الفصول الغروية : 431 / السطر 36 .

فقتل ابن المولى قبيح ذاتاً ، إذا تحقّق في الخارج بذاته من غير لواحق اُخر مزاحمة له في المقتضي، ولكن قد يصير حسناً إذا عرضه عنوان راجح، مثل كونه قاتلاً للمولى، وإكرام المولى حسن ذاتاً ، وقد يتصادق مع عنوان آخر في الخارج، فيصير قبيحاً بالعرض ؛ لكونه معرّفاً له عند العدوّ القاهر الذي يريد قتله .

الثالث : قد عرفت أنّ الأفعال بذاتها مع قطع النظر عن أمر المولى أو نهيه ، مشتملة على مصالح ومفاسد ذاتية ، وبعد تعلّقهما بها ينطبق عليها عنوان آخر ، لأجله يحكم العقل بحسنها أو قبحها ، فإذا أمر المولى بشيء ، وأطاع العبد ، يكون فعله حسناً لأجل انطباق عنوان طاعته عليه ، ولو تركه يكون تركه قبيحاً لأجل انطباق عنوان العصيان عليه ، وكذا في النواهي ، وكلّ ذلك من متفرّعات أمره ونهيه .

وقد عرفت أيضاً : أنّ ملاك حكم العقل بقبح التجرّي ، هو عين ملاك حكمه بقبح المعصية ؛ وهو الخروج عن رسم العبودية ، وكون الفعل الخارجي منتهى ما يمكن للعبد أن يظهر به المخالفة للمولى ، من غير فرق من هذه الحيثية بين العصيان والتجرّي ، ويختصّ العصيان بوقوع المكلّف في المفسدة الذاتية للفعل .

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ ما أفاده صاحب «الفصول» من كون العبد غير مستحقٍّ للعقوبة مع مصادفة فعله لما هو واجب واقعاً ، غير صحيح ؛ لما عرفت من أنّ تزاحم الجهات المحسّنة مع الجهات المقبّحة ، ليس بمعنى انمحائها ، فحينئذٍ يكون التجرّي على المولى - بعنوانه القبيح - متحقّقاً ، وله أن يعاقب العبد عليه ؛ لعدم سقوط قبحه ، والمصلحة الواقعية لا توجب زوال القبح من جهة التجرّي .

ص: 378

نعم ، هنا أمر آخر ؛ وهو أنّ هذا التجرّي في نظر المولى قبيح ، وموجب لسخطه على العبد بما أ نّه متجرّئ عليه ، ونجاة ابنه من الهلاك ذات مصلحة تامّة ، فحينئذٍ قد يكون قبح التجرّي أقوى في نظره ، وقد يكون ملاك نجاة ابنه أقوى . فأيّهما يكون أقوى يكون مؤثّراً في نفسه ؛ أي قد يصير مسروراً لأجل تحقّق الواقعة ، وقد يصير محزوناً .

وهذا غير مربوطٍ بعدم استحقاق المتجرّي للعقوبة ؛ لأنّ المتجرّي كان إقدامه وحركته نحو مخالفة المولى ، وهو أمر ، والمزاحمة بين عنوان التجرّي والمصلحة الواقعية أمر آخر لا يوجب خروج التجرّي عن كونه قبيحاً وجرأة على المولى وهتكاً لحرمته .

لا يقال : إنّ استحقاق العقوبة تابع لإتيان العبد ما هو مبغوض المولى ، والفعل المتجرّى به إذا انطبق عليه عنوان ذو مصلحة غالبة ، لا يكون مبغوضاً له .

لأنّا نقول : هذا ممنوع ، بل استحقاق العقوبة إنّما هو على مخالفة المولى . ألا ترى أنّ مخالفة الأوامر والنواهي الامتحانية ، موجبة لاستحقاق العقوبة ، مع عدم كون الفعل أو الترك مبغوضاً له ؟ !

هذا ، ثمّ إنّه قد تحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ الحقّ في باب التجرّي مع المثبتين ، لكن بالمعنى الذي ذكرنا في محلّ النزاع ؛ من أنّ النزاع في حكم العقل باستحقاق العقوبة وعدمه .

وبما ذكرناه : من أنّ المدّعى إثبات استحقاق العقوبة لا فعليتها - فإنّها أمر ليس للعقل فيه دخالة وحكم حتّى في مورد المعصية - يظهر الجواب عمّا يمكن

ص: 379

أن يقال : من أنّ ظاهر الأدلّة الشرعية أنّ العقوبة على فعل المعصية ، فشرب الخمر وقتل المؤمن وترك الصلاة والصوم وأمثالها موجبة للعقوبة بحسب الأدلّة ، ولا دليل على العقوبة على غيرها .

فإنّ هذه الظواهر تدلّ على أنّ العصيان له عقوبة فعلية ، ولا تدلّ على نفي استحقاقها على التجرّي ، والمدّعى أنّ التجرّي موجب لاستحقاقها لا فعليتها .

ثمّ قال صاحب «الفصول» في ذيل كلامه : «إنّ التجرّي إذا صادف المعصية الواقعية يتداخل عقابهما»(1) .

وفيه : أنّ محلّ الكلام هو ما إذا لم يصادف الواقع ، وإلاّ فهو معصية .

اللهمّ إلاّ أن يريد به أ نّه إذا قطع المكلّف بكون مائعٍ خمراً وشربه ، فتبيّن عدم كونه خمراً ، لكن ظهر أ نّه مغصوب ، فصادف التجرّي معصية واقعية ، يتداخل العقابان .

وفيه : أ نّه لو كفى في تنجّز التكليف الواقعي العلم بجنس التكليف ولو في ضمن نوعٍ آخر ، يكون المثال المذكور معصية لا تجرّياً ، ولو توقّف التنجّز على العلم بنوع التكليف يكون تجرّياً لا معصية ، والجمع بينهما ممّا لا يمكن فتدبّر .

ص: 380


1- اُنظر الفصول الغروية : 87 / السطر 34 .

الفصل الخامس: في العلم الإجمالي

في العلم الإجمالي

هل العلم الإجمالي كالتفصيلي مطلقاً ، أو لا مطلقاً ، أو فيه تفصيل ؟ وجوه .

والكلام يقع تارة : في إثبات التكليف به ، وتارة : في إسقاطه .

المقام الأوّل : في إثبات التكليف بالعلم الإجمالي

والأقوال المعروفة فيه ثلاثة :

الأوّل : كونه كالشكّ البدوي ، وهو منسوب إلى المحقّقَين الخوانساري والقمّي رحمهما اللّه (1) وسيجيء حال النسبة(2) .

الثاني : كونه كالقطع التفصيلي بالنسبة إلى المخالفة القطعية ؛ أي كونه علّة تامّة بالنسبة إليها ، دون الموافقة القطعية ، فإنّه بالنسبة إليها بنحو الاقتضاء

ص: 381


1- مشارق الشموس : 281 - 282 ؛ قوانين الاُصول 2 : 25 / السطر 3 و 36 - 37 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 279 - 280 .
2- يأتي في الصفحة 387 .

لا العلّية ، فمع عروض المانع - وهو ترخيص الشارع - لا يكون منجّزاً للواقع ، وهو مختار الشيخ الأنصاري قدّس سرّه (1) .

الثالث : كونه بنحو الاقتضاء لا العلّية مطلقاً ، وهو مختار المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) .

وهنا احتمالات اُخر لا يعلم لها قائل ، ولا بدّ أوّلاً من تنقيح محلّ البحث .

فنقول : تارة يقع الكلام في العلم الإجمالي - أي الذي لا يحتمل خلافه - وتارة في الحجّة الإجمالية .

أمّا الكلام في العلم الإجمالي ، فحاصله : أنّ محلّ البحث ما إذا تعلّق العلم بتكليف متعلّق بأمرٍ واقعي معيّن واقعاً ، ومردّد لدى المكلّف ، كعلمه بوجوب صلاة في يوم الجمعة ، إمّا الظهر ، وإمّا الجمعة .

ولا إشكال في منجّزية هذا العلم الذي لا يحتمل خلافه ، للتكليف الواقعي ؛ لأنّ معنى تنجّز التكليف ، أن يصير بحيث يستحقّ المكلّف العقوبة على مخالفته . ومعنى منجّزية العلم أن يصير التكليف بسبب تعلّقه به كذلك ، فلو علم المكلّف بتكليف أكيد لا يرضى المولى بتركه ، متعلّق بصلاة معيّنة واقعاً ، وتردّدت بين الظهر والجمعة فتركها ، يكون عند العقل مستحقّاً للعقوبة على التكليف المعيّن الواقعي ، فإذا ترك إحداهما ، فصادفت المتروكة التكليفَ الواقعي ، يكون مستحقّاً للعقاب عليها ، من غير فرق بين الصورتين ؛ لأنّ استحقاق العقوبة في

ص: 382


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 200 و210 .
2- كفاية الاُصول : 314 .

صورة ترك المشتبهين ، ليس لأجل ترك مجموعهما ، ولا لترك كلٍّ منهما ، بل إنّما يكون لأجل ترك التكليف الواقعي المنجّز ، وهو حاصل في الصورة الثانية ؛ أي ترك إحداهما المصادفة للواقع .

وبالجملة : العلم الجازم بالتكليف الفعلي الذي لا يرضى المولى بتركه ، منجّز للواقع ، ومعنى تنجّزه صحّة العقوبة على تركه ، سواء تركه في ضمن ترك المجموع ، أو ترك أحدهما .

وأمّا حديث جعل البدل(1) فإن كان المراد منه جعله في الواقع - أي جعل عدل للتكليف الواقعي في ظرف عروض الاشتباه - فهو خلاف الفرض ؛ لأنّه يرجع إلى التكليف التخييري بأحد المشتبهين ، والمفروض في العلم الإجمالي أن يكون التكليف الواقعي معيّناً بحسب الواقع ، ومردّداً عند المكلّف .

وإن كان المراد جعل البدل في الظاهر - أي جعل التكليف الظاهري عند اشتباه التكليف - فهو ممّا لا يمكن ؛ لأنّ التكليف الواقعي المتعلّق للعلم الإجمالي ، فعلي لا شأني ؛ لأنّ معنى الفعلية هو صيرورة التكليف بحيث يكون باعثاً وزاجراً نحو المتعلّق ، وهو حاصل مع العلم الإجمالي ، كالتفصيلي .

توضيحه : أنّ التكاليف - بعثية كانت أو زجرية - لا يمكن أن تتقيّد بالعلم بها ، بل إنّما تتعلّق بمتعلّقاتها ، من غير تقييدٍ بعلم المكلّف وجهله ، ولكن مع ذلك تكون إرادة المولى قاصرة عن بعث الجاهل ، وكذا تكاليفه تكون

ص: 383


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 204 .

قاصرة عنه ، لا لكونها متقيّدة بحال العلم ، بل لعدم إمكان بعث الجاهل .

وإن شئت قلت : إنّ المولى إنّما ينشئ التكاليف ؛ ليعلم بها المكلّف ، وينبعث منها نحو متعلّقاتها ، أو ينزجر عنها ، فإذا كانت التكاليف الواقعية غير قابلة للتأثير في المكلّف بعثاً أو زجراً ، تكون شأنية ، وحينئذٍ يمكن للمولى جعل الترخيص والحكم الظاهري ؛ من الاحتياط والترخيص .

وقد عرفت سابقاً : أنّ التكليف الواقعي غير صالحٍ للباعثية ، وأنّ احتمال التكليف وإن كان أحياناً باعثاً ، لكن بما أ نّه نفس الاحتمال ؛ فإنّ وجود التكليف الواقعي وعدمه بالنسبة إليه سواء ، فالاحتمال باعث ، سواء كان المحتمل واقعاً أو لا(1) .

لا يقال : إنّ القطع بالتكليف أيضاً كذلك ؛ فإنّه مع عدم مطابقته للواقع يكون أيضاً باعثاً ، فوجود التكليف الواقعي وعدمه سواء .

فإنّه يقال : نحن لا ننكر باعثية القطع ولو مع عدم مطابقته للواقع ، لكن نقول : إنّ التكليف إذا صار معلوماً يكون هو الباعث ، ولا نقول : بانحصار الباعث في التكليف حتّى يرد الإشكال .

وبالجملة : إنّ التكليف الواقعي غير قابل للبعث والزجر بوجوده الواقعي مع الشكّ فيه .

فحينئذٍ ، إن أراد المولى حفظ تكليفه الواقعي لأجل أهمّيته ، فلا بدّ له من جعل تكليفٍ طريقي ؛ هو إيجاب الاحتياط لحفظ الواقع ، حتّى يعلم المكلّف هذا

ص: 384


1- تقدّم في الصفحة 89 و354 .

التكليف الظاهري بالاحتياط ، فيعمل على طبقه .

وإن لم يكن بنظره بهذه المثابة من الأهمّية ، أو كانت مصلحة التوسعة على المكلّف أهمّ من حفظ الواقع ، يجوز له الترخيص في إتيان المشتبه .

لكن قد عرفت : أنّ ذلك فيما إذا لم يكن التكليف الواقعي باعثاً فعلياً أو زاجراً كذلك ، ومع كونه كذلك فلا يمكن جعل الترخيص ، ولا جعل البدل ، ولا جعل حكم ظاهري آخر ، والمفروض أنّ التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال ، يكون منجّزاً وباعثاً وزاجراً فعلياً ، ويكون التكليف الفعلي المتعلّق بموضوعه ، معلوماً لا يحتمل خلافه ، وفي مثله لا معنى للحكم الظاهري .

ولا فرق في مورده بين الموافقة والمخالفة القطعيتين ؛ لأنّ المخالفة إنّما هي بترك الواجب الواقعي وإتيان المحرّم الواقعي ، سواء في ضمن المخالفة القطعية أو الاحتمالية .

نعم ، مع المخالفة الاحتمالية يكون المكلّف متجرّياً مع عدم المصادفة للواقع .

إن قلت : إنّ الركعة المفصولة في الشكّ في عدد الركعات ، وجواز المضيّ في الشكّ بعد التجاوز والفراغ والوقت ، من قبيل جعل البدل ، فما تلتزم به في تلك الموارد ، نلتزم به هاهنا .

قلت : كلاّ ؛ فإنّه فيها لا يكون من قبيل جعل البدل ، ولا ربط بينها وبين ما نحن فيه :

أمّا الركعة المفصولة في الشكّ في عدد الركعات ، فالإتيان بها من قبيل كيفية مصداق المأمور به بحسب حال المكلّف ؛ فإنّ الأمر بالصلاة إنّما تعلّق بطبيعتها ، فإذا عرض للمكلّف عارض ، ودلّ الدليل على إتيان الصلاة في هذه الحالة

ص: 385

بكيفية كذائية ، يستفاد منه أنّ المصداق الكذائي مصداق للطبيعة في هذه الحالة ، فالصلاة مع الطهارة الترابية في حال فقدان الماء ، عين الطبيعة مع المائية في حال وجدانه ، لا أنّ المولى رفع اليد عن الصلاة مع المائية ، وجعل الصلاة مع الترابية بدلها .

وكذا الصلاة مع الركعة المفصولة حال الشكّ ، عين الطبيعة المأمور بها ، لا بدلها .

وبالجملة : إنّ الدليل الدالّ على إتيان الطبيعة في حال عروض العارض بكيفية خاصّة ، حاكم على الأدلّة الأوّلية ، ومعيّن لمصداق المأمور به .

ومنه يعلم الحال في الشكّ بعد التجاوز والفراغ .

وأمّا الشكّ بعد المحلّ - أي الشكّ في إتيان الصلاة بعد الوقت - فجواز المضيّ وعدم الاعتناء به ليس من قبيل جعل البدل ، وإلاّ لزم أن يكون عدم الصلاة بدلاً منها ، وهو كما ترى ، بل هو لأجل الإرفاق بالمكلّفين ، ورفع اليد عن التكليف الواقعي ؛ فإنّه مع عدمه يقع المكلّف في الحرج والعسر ؛ لأنّ عروض الشكّ مع مضيّ الأزمنة المتطاولة نوعي أكثري ، قلّما يتّفق عدم عروضه ، فشرعت قاعدة الشكّ بعد الوقت ؛ لرفع الحرج عن المكلّف ، وصرف النظر عن التكليف .

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ جعل البدل ممّا لا معنى له .

هذا مضافاً إلى أنّ قرين المعلوم بالإجمال لا يصلح للبدلية عن المعلوم ، ومجرّد كونه قريناً له في تعلّق الشكّ به ، لا يوجب صلاحيته للبدلية ، فترك الماء المشكوك فيه بدلاً عن الخمر ، ممّا لا معنى له كما لا يخفى .

ص: 386

ثمّ إنّه لا فرق في العلم الإجمالي - أي العلم الجازم الذي لا يحتمل خلافه - بين الشبهة المحصورة وغيرها ، فمع فرض تعلّق العلم بالتكليف الفعلي الذي لا يرضى المولى بمخالفته ، يحكم العقل بوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة - محصورة كانت أو غيرها - هذا كلّه في العلم الإجمالي .

وأمّا الكلام في الحجّة الإجمالية ، فمحصّله : أ نّه لو قامت الحجّة - من عموم أو إطلاق - على حرمة الخمر حتّى في أطراف الشبهة ، ودلّت أدلّة أصالة الحلّ على حلّية كلّ مشكوك فيه ، فيتعارض الدليلان في الموضوع المشكوك فيه ، فوقع الكلام والنقض والإبرام في تقديم إطلاق دليل حرمة الخمر ، أو إطلاق دليل حلّية كلّ مشكوك فيه .

وهذا هو مورد بحث المحقّقَين القمّي والخوانساري ، لا العلم الإجمالي ؛ لتصريحهما بلزوم الموافقة القطعية في العلم الإجمالي(1) فكلامهما في الحجّة الإجمالية ، لا العلم الإجمالي .

وكلمات الشيخ الأنصاري في هذا المقام مضطربة ؛ فإنّ-ه عقد البحث في العلم الإجمالي ، مع أنّ غالب الأمثلة التي أوردها من قبيل الحجّة الإجمالية ، لا العلم الإجمالي .

والتحقيق في العلم هو ما ذكرنا ، وأمّا في الحجّة الإجمالية فموكول إلى باب البراءة والاشتغال ؛ فإنّ المناسب هنا هو البحث عن العلم ، لا عن الحجّة .

ص: 387


1- مشارق الشموس : 282 ؛ قوانين الاُصول 2 : 36 - 37 ؛ اُنظر حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 233 .

المقام الثاني : في إسقاط التكليف

والأولى صرف عنان القلم إلى ما تعرّض له الشيخ في الامتثال الإجمالي ، وهو المقام الثاني(1) .

ومجمل الكلام فيه : أنّ البحث في جواز الامتثال الإجمالي ، ليس في المحرّمات ، ولا في الواجبات التوصّلية ، ولا في الواجبات التعبّدية مع عدم إمكان تحصيل العلم التفصيلي أو الحجّة التفصيلية ، والامتثال على الوجه المعيّن ؛ فإنّ المطلوب في المحرّمات ليس إلاّ صرف الترك - وهو يحصل مع ترك الأطراف - وفي التوصّليات إلاّ التحقّق بأيّ وجه اتّفق - وهو يحصل مع إتيانها - وإذا لم يمكن الامتثال في التعبّديات إلاّ على نحو الإجمال ، فلا كلام في جوازه ؛ فإنّه غاية قدرة المكلّف في امتثال أمر المولى .

وإنّما الكلام والإشكال في التعبّديات مع إمكان رفع الإجمال علماً أو بطريق معتبر ، فيقع الكلام فيها تارة : في الأقلّ والأكثر ، واُخرى : في المتباينين .

وعلى الأوّل : يقع الكلام تارة : في الشكّ في الجزء ، وتارة : في الشكّ في الشرط .

وعلى الأوّل تارة : يكون المشكوك فيه مردّداً بين كونه جزءاً واجباً أو مستحبّاً ، واُخرى : يكون مردّداً بين الجزئية وعدمها مع عدم احتمال المانعية .

فإن كان الترديد بين الأقلّ والأكثر في الجزء ، مع الترديد في كونه واجباً أو مستحبّاً ، فلا إشكال في جواز الاحتياط بإتيانه ، وعدم لزوم رفع الإجمال ؛

ص: 388


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 71 .

لعدم الإخلال مع إتيانه بشيءٍ ممّا يعتبر أو قيل باعتباره في العبادة ، حتّى قصد الوجه والتميّز والتقرّب ؛ لما عرفت في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الصلاة ليست عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر ؛ ضرورة أ نّه مع كونها كذلك ، لا يمكن صدقها على الأفراد المختلفة بحسب الأجزاء والشرائط ، والاشتراك اللفظي معلوم البطلان .

فلا بدّ وأن يقال : إنّ الصلاة عبارة عن عنوان عرضي مقول بالتشكيك ، صادق على الأفراد المتفاوتة في النقص والزيادة والكمال وغيره ، نحو صدق كلّ طبيعة مقولة بالتشكيك على أفرادها ، فالمصداق التامّ الكامل للمختار الحاضر صلاة ، والناقص الذي يشتمل على أربع تكبيرات - كصلاة المطاردة - أيضاً [صلاة] .

ولا يتوهّم : أنّ المصداق الناقص من حيث الأجزاء والشرائط ، ناقص في الصلاتية ؛ إذ قد يكون الناقص من هذه الجهة ، أتمّ من المشتمل على جميع الأجزاء والشرائط ؛ لأنّ الميزان في النقص والتمام في الصلاتية ، هو تمامية هذا العنوان العرضي الصادق على الأفراد ونقصه ، مثل عنوان المتوجّه الخاصّ إلى المولى .

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ الأجزاء المستحبّة ليست خارجة عن الصلاة ، ولكن اُتي بها فيها ، بل هي موجبة لتمامية المصداق وكماله ، فالقنوت إذا جيء به يكون متمّماً لمصداق الصلاة ، وتصدق «الصلاة» على الفرد الواجد له ، وتتّحد الطبيعة مع الفرد الواجد اتّحاد الطبيعي مع أفراده ، فالمصداق الواجد للجزء المستحبّ ، مصداق للصلاة الواجبة ، لكنّه مصداق أتمّ من الفاقد له ، لا أنّ الصلاة شيء ، والجزء المستحبّي شيء آخر .

ص: 389

فمعنى استحباب الجزء أو الجزء المستحبّي ، أنّ الصلاة مع عدم الإتيان به تكون صحيحة ، لكنّها أنقص من الواجدة له .

فحينئذٍ يكون الآتي بالجزء المشكوك فيه ، آتياً بالمأمور به على وجهه ، متقرّباً إلى اللّه ، ممتازاً عمّا عداه ، لأنّ الأمر الصلاتي متعلّق بالطبيعة ، ولا تكون الأجزاء أو كلّ واحدٍ منها متعلّقة للأمر ووجهاً للوجوب ، وإن كان المصداق فرداً كاملاً للواجب .

وممّا ذكرنا يظهر حال الشرط أيضاً ، فإنّ الشرائط الاستحبابية أيضاً من مكمِّلات الصلاة ، كالأجزاء المستحبّة .

وأمّا الكلام في المردّد بين كون شيء جزءاً أو لا ، أو شرطاً أو لا ، مع القطع بعدم المانعية ، فقد يقال : إنّ قصد التقرّب متعذّر في هذا الجزء أو الشرط ؛ فإنّ قصد التقرّب عبارة عن كون الأمر داعياً إلى إتيان المأمور به ، والفرض أنّ تعلّق الأمر الضمني بهما مشكوك فيه ، فلا يمكن قصد التقرّب بهما .

والجواب : أنّ قصد التقرّب إنّما يكون بالأمر المتعلّق بالطبيعة المأمور بها ، لا الأوامر الضمنية ، والفرض أ نّه حاصل .

مع أنّ المكلّف ليس له داعٍ في إتيان الجزء أو الشرط إلاّ احتمال أمر المولى ، فهو قاصد للأمر الاحتمالي على فرضه ، ولا يعتبر في قصد التقرّب شيء زائداً على ذلك - كما سنشير إليه - فالاحتياط في المشكوك فيه من هذه الجهة أيضاً لا مانع منه ؛ أي أنّ الإتيان بهما احتياط لإتيان كلّ ما يحتمل أن يكون دخيلاً في المأمور به ؛ من قصد التقرّب وغيره ، فيكون جائزاً .

وأمّا الكلام في المتباينين فيما يستلزم الاحتياط فيه تكرار مجموع العبادة ،

ص: 390

كتردّد الواجب بين كونه ظهراً أو جمعة ، وتردّد القبلة بين الجهات ، فالأقوى فيه أيضاً أنّ الإتيان بهما احتياط - أي إتيان للمأمور به الواقعي بجميع ما يعتبر فيه - فيجوز الإتيان بهما من باب الاحتياط ؛ لأنّ الإشكال إن كان من باب قصد التقرّب المعتبر في العبادة ، فلا إشكال في حصوله ؛ لأنّ المكلّف لم يأتِ بهما إلاّ لأجل أمر المولى - أي لحصول المأمور به الواقعي - فهو متقرّب به بما هو في الواقع مأمور به ، وإن لم يعلم حين الإتيان أنّ القرب بأيّهما حصل .

نعم ، يحتمل أن يعتبر في العبادة العلم التفصيلي بالمأمور به حين الإتيان به ، ولا يمكن رفعه بالتمسّك بأصالة الإطلاق ؛ لأنّها إنّما يتمسّك بها فيما يمكن أخذه في المتعلّق ، والعلم بالأمر متأخّر عنه ، فلا يمكن أخذه فيه ، وما لا يمكن التقييد به لا يمكن فيه التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ معنى أصالة الإطلاق أ نّه لو كان

القيد معتبراً في المأمور به ، فعلى المولى أن يقيّده به ، فعدم التقيّد يكشف عن عدم الدخالة ، ومع امتناع التقييد يحتمل أن يكون عدم الأخذ لامتناعه ، لا لعدم دخالته .

لكن أصالة البراءة العقلية والنقلية جارية ؛ لأنّه على المولى بيان القيد ، ومع عدمه يكون العقاب عليه بلا بيانٍ ، فالإشكال مرتفع من جهة قصد التقرّب ، وكذا من جهة احتمال دخالة العلم التفصيلي .

وأمّا كون التكرار لعباً بأمر المولى فممنوع ؛ لأنّ المفروض أنّ الآتي بهما إنّما يأتي احتياطاً ، لا لعباً .

ص: 391

ودعوى الإجماع على عدم جواز التكرار وبطلان الاحتياط(1) ممنوعة ؛ لأنّ المسألة عقلية أوّلاً ، وغير معنونة لدى القدماء ثانياً ، ومع ذلك كيف يمكن دعواه ؟ !

وممّا ذكرنا يظهر الحال فيما لا يستلزم التكرار ، بل هو أولى بالجواز .

كما أنّ الاحتياط في الشبهة البدوية الغير المقرونة بالعلم الإجمالي مع إمكان رفعها بالفحص والاجتهاد أيضاً لا مانع منه ، لا من جهة قصد التقرّب ، ولا من جهة اُخرى ، كما يظهر بالتأمّل فيما ذكرنا .

والأولى صرف عنان القلم فيما هو المهمّ من مباحث الأمارات الغير العلمية .

ص: 392


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 71 - 72 .

الفصل السادس: الأمارات الغير العلمية

اشارة

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في إمكان التعبّد بها

المراد بالإمكان

و«الإمكان» يطلق في العلوم العقلية على معانٍ(1) ، لا يهمّنا التعرّض لها . والظاهر أنّ المراد به هاهنا غيرها ، بل يطلق هاهنا باصطلاحٍ خاصّ بالاُصولي ؛ وهو الإمكان الوقوعي - أي ما لا يلزم من وقوعه محال - وهو غير الإمكان الوقوعي باصطلاح أهل المعقول ؛ فإنّه مرادف للإمكان الاستعدادي كما عرّفوه به(2) .

وبالجملة : مرادهم في المقام ، أنّ التعبّد بالأمارات أو بمطلق الأحكام

ص: 393


1- راجع الحكمة المتعالية 1 : 149 - 154 .
2- شرح تجريد العقائد ، القوشجي : 41 / السطر 15 ؛ شوارق الإلهام 1 : 383 .

الظاهرية ، هل يلزم من وقوعه محال - كما عليه ابن قِبَة - أو لا ؟

وليعلم : أنّ الإمكان ليس مقتضى أصل عقلي أو عقلائي ، ليرجع إليه عند الشكّ ، ولكن لو لم يدلّ دليل عقلي على امتناع التعبّد بالأحكام الظاهرية ، فلا محيص عن أخذ ظواهر الأدلّة الدالّ-ة عليها . ومجرّد احتمال الامتناع وعدم الدليل على الإمكان ، لا يوجب جواز رفع اليد عن الحجج الظاهرية والأدلّة المعتبرة الدالّة على حجّية الأمارات والاُصول ولزوم التعبّد بها .

وأمّا ما يقال : من أنّ أدلّ دليل على الإمكان هو الوقوع ، فوقوع التعبّد بها شرعاً يكشف عن الإمكان(1) ، فهو صحيح لو كان وقوع التعبّد بها قطعياً ، وليس كذلك ؛ لأنّ الأدلّة الدالّة عليه ظنّيات سنداً ، أو دلالة ، أو كليهما ، ومثلها لا تدلّ على الإمكان ، ولا تكشف عنه حقيقةً . وليس الإمكان أمراً يمكن التعبّد به شرعاً ؛ فإنّه أمر عقلي ، لا أثر عملي .

استدلال ابن قبة لامتناع التعبّد بالأمارات

ثمّ إنّ ابن قبة قد استدلّ على الامتناع بدليلين(2):

أحدهما : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، لجاز التعبّد به في الإخبار عن اللّه تعالى ، والثاني باطل إجماعاً ، فكذا الأوّل .

ص: 394


1- كفاية الاُصول : 317 - 318 .
2- اُنظر معارج الاُصول : 141 ؛ قوانين الاُصول 1 : 432 / السطر 23 ؛ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 105 - 106 .

والظاهر أنّ مراده من «الإخبار عن اللّه» هو إخبار المُتنبّي عن اللّه تعالى بأحكام شريعته .

والجواب عنه : أنّ المقصود لو كان قبول قول المتنبّي تعبّداً من غير دليل ، فنمنع الملازمة ؛ لعدم الملازمة بين جواز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم - مع قيام الدليل عليه - وبين جواز التعبّد في الإخبار عن اللّه مع فقد الدليل على النبوّة .

وإن كان المقصود قبول قوله مع قيام دليل قطعي عليه ، فنمنع بطلان التالي ، وليست المسألة بكلا شقّيها إجماعية ، بل هي أمر عقلي ، يدلّ على عدم قبول قول المتنبّي بلا دليل ، وقبول قوله مع الدليل القطعي .

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده من «إمكان التعبّد في الإخبار عن اللّه» هو التعبّد من قِبَل النبي الثابت النبوّة بالنسبة لإخبار شخصٍ مدّعٍ للنبوّة ، أو شخصٍ غير مدّعٍ لها ، بل مخبر عنه بواسطة صفاء نفسه .

فحينئذٍ نقول : أمّا على الفرض الأوّل ، فعدم وقوعه لقيام الضرورة على ختم النبوّة ، فلا ملازمة بين التعبّد بهما .

وأمّا على الثاني : فلا مانع منه عقلاً وإن لم يثبت وقوعه ، ولا ملازمة أيضاً بين عدم وقوعه أو عدم ثبوت وقوعه ، مع عدم وقوع التعبّد بالأمارات أو مطلق الأحكام الظاهرية ، فهذا الدليل لا يرجع إلى محصّل معتدٍّ به .

ثانيهما : أنّه يلزم من التعبّد بها تفويت المصلحة ، والإيقاع في المفسدة ، والجمع بين المثلين والضدّين ، والجمع بين الإرادتين المتضادّتين ، وهذه كلّها مفاسد تحليل الحرام ، وتحريم الحلال المذكورين في كلامه .

ص: 395

والجواب عن تفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة ؛ أمّا على طريقية الأمارات كما هو الحقّ - لعدم كونها تأسيسية ، بل هي اُمور عقلائية أمضاها الشارع ، ومعلوم أنّ الأمارات عند العقلاء ليست إلاّ طريقاً إلى الواقع ، وكاشفات عنه - فقبح إيجاب العمل بالأمارات والتعبّد بها ، إنّما هو فيما إذا فوّتت الأمارة المصلحة ، أو أوقعت في المفسدة .

وأمّا مع جهل المكلّف بالأحكام الواقعية ؛ بحيث لو تركه الشارع على جهله يرى وقوعه في خلاف الواقع كثيراً ، ويرى أنّ في جعل الأمارة على الواقع إيصالاً له إليه ، أكثر ممّا لو تركه على حاله ، فلا قبح فيه ، وتخلّف الأمارة عن الواقع إذا كان قليلاً - في مقابل الإصابة ، وفي مقابل جعل الأمارة - شرّ قليل ، في قبال الخير الكثير ، ولا يترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل .

مع أنّ وقوعه في الخلاف أيضاً ، من تبعات جهله ، لا من تبعات التعبّد بالأمارة ، وعدم القبح في هذه الصورة إنّما هو بحسب تشخيص الشارع كثرة الإصابة وقلّة المخالفة .

ولو فرض أنّ المكلّف يرى انفتاح باب علمه إلى الواقع ، وتوهّم أنّ التعبّد بالأمارة موجب لصرفه عن علمه بالواقع ، ورأى الشارع أ نّه جاهل مركّب ، فلا يكون تعبّده بالأمارة قبيحاً .

نعم ، لو فرض انفتاح باب العلم حقيقة ، وأنّ التعبّد بالأمارات موجب لتفويت المصلحة ، والإيقاع في المفسدة ، يكون التعبّد بها قبيحاً ، لكنّه فرضٌ صِرفٌ لا واقع له ، هذا كلّه على الطريقية .

وأمّا على الموضوعية والسببية ، فهي على صور :

ص: 396

إحداها : عدم حكم مشترك بين الجاهل والعالم متعلّق بالعناوين الواقعية ، وكون الحكم تابعاً لقيام الأمارة لأجل مصلحة حاصلة للمتعلّق بواسطة قيامها ، وهذا تصويب باطل مجمع على بطلانه ، والأخبار متواترة على بطلانه(1) .

ثانيتها : كون الواقع ذا حكمٍ مشتركٍ بين المكلّفين ، مع تقيّده بعدم قيام الأمارة على خلافه ، وأمّا مع قيامها فيكون الحكم تابعاً للأمارة ؛ لغلبة مصلحة مؤدّى الأمارة على مصلحة الواقع ، وهذا أيضاً تصويب باطل بالأخبار والإجماع ، وإن لم يكن وضوحه كالأوّل .

ثالثتها : أن لا يكون لقيام الأمارة تأثير في الفعل ، ولا تحدث فيه مصلحة بقيامها ، بل يكون لسلوك الأمارة أو الأمر بسلوكها مصلحة ، يتدارك بها ما فوّت على المكلّف من مصلحة الواقع .

وليعلم : أنّ نسخ «الفرائد» مختلفة في هذا المقام المذكور ، فإنّ في النسخة المطبوعة أوّلاً في حدود سنة مائتين وسبعين : أنّ في سلوك الأمارة مصلحةً كذائية .

وفي النسخة المطبوعة في حدود سنة ثمانين قريباً من وفاة الشيخ رحمه الله علیه : أنّ في الأمر بالعمل على طبق الأمارة مصلحةً كذائية .

قال بعض المشايخ : إنّ مسلك الشيخ كان أوّلاً مطابقاً للنسخة الاُولى ، فأشكل بعض تلامذته عليه ، فأمر بتغيير العبارة بما في النسخة الثانية ، ووجه الإشكال غير معلوم ولا مذكور في كلامه(2) .

ص: 397


1- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 113 .
2- أجود التقريرات 3 : 122 .

أقول : نحن نناقش في كلا المسلكين :

أمّا المسلك الثاني - أي كون الأمر بالسلوك ذا مصلحة جابرة ، من غير أن تكون في المأمور به مصلحة ، كما تكرّر نظيره في كلمات المحقّق الخراساني(1) - فأمر غير معقولٍ ؛ فإنّ الأمر وِزانه وزان الإرادة التكوينية في عدم النفسية له ، وكونِه فانياً في المأمور به ، ويتوسّل به إليه ، من غير أن يكون ملحوظاً بذاته .

كما أنّ الإرادة بالنسبة إلى المراد كذلك ، فلا يمكن أن تتحقّق الإرادة لمصلحة في نفسها ؛ لعدم النفسية لها ، وكذا لا يمكن أن يتحقّق الأمر لمصلحة فيه ، وهكذا النهي ، فإذا انسلخ الأمر عن كونه آلة للتوسّل إلى المأمور به ، وكانت له نفسية ملحوظة ، يخرج عن كونه أمراً ، وكذلك النهي ، فلا يعقل أن يكون الأمر أو النهي لمصلحة فيهما .

مضافاً إلى أنّه لا يمكن أن تكون تلك المصلحة القائمة بنفس الأمر الغير المربوطة بالمكلّف ، جابرة للمصلحة الفائتة عليه ، فأيّة مناسبة بين المصلحة في الأمر ، والمصلحة في الواقع حتّى تكون الاُولى جابرة للثانية ؟!

وأمّا المسلك الأوّل - أي كون نفس سلوك الأمارة ذا مصلحة كذائية - ففيه : أنّ معنى سلوكها ليس إلاّ العمل بمؤدّاها على أ نّه مؤدّى الأمارة ، فلو فرض وجوب شيءٍ ، فأدّت الأمارة إلى حرمته ، فلازم هذا المبنى أن يكون في ترك العمل به - بما أ نّه مؤدّى الأمارة - مصلحة جابرة لمصلحة الواقع ، مع عدم تعقّل كون العدم ذا مصلحة أو مفسدة .

ص: 398


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 72 و 507 ؛ كفاية الاُصول : 319 و354 .

مضافاً إلى أنّ النهي عن الشيء ، إنّما ينشأ عن مفسدة العمل ، والنهي هو الزجر عن العمل لمفسدة فيه ، لا طلب الترك - كما عرفت سابقاً(1) ولازم ذلك أن تجتمع في الفعل مصلحة ومفسدة ، ويكون ترك المفسدة جابراً لمصلحة الفعل ، وهو كما ترى .

ولو أدّت الأمارة إلى استحباب ما هو واجب واقعاً ، فلازم هذا المسلك أن يصير الفعل - بواسطة المصلحة الغير التامّة العائدة إلى المكلّف - موجباً لرفع الوجوب ، مع عدم تعقّل أن يصير الواجب لأجل تزايد المصلحة الغير الملزمة ، خارجاً عن وجوبه .

ولو أدّت إلى كراهة ما هو الواجب ، يلزم أن يخرج الواجب عن وجوبه ؛ لأجل مفسدة غير مؤكّدة .

ولو أدّت إلى إباحته ، يلزم أن يكون عدم اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة ، جابراً لمفسدة ترك الواجب .

وقس على ما ذكر ما لو فرض كون الواقع حراماً ، وأدّت الأمارة إلى أمثال ما ذكر ، فتصحيح جعل الأمارات بمثل ذلك ممّا لا يمكن .

وأمّا قضيّة الجمع بين المثلين ، فليست بمحذورٍ ؛ فإنّ التحقيق أنّ الأحكام ليس لها وجود خارجي في الموضوع ، حتّى يقرّر محذور اجتماع المثلين في الحكمين المتوجّهين إلى موضوعٍ واحد ؛ بأنّ المثلين مشتركان في الماهية ولوازمها ، واختلافهما إنّما يكون باختلاف الموضوع ، ومع عدم اختلافه لا تعدّد ،

ص: 399


1- تقدّم في الصفحة 135 .

حتّى تصحّح المثلية والامتياز ، ومع الامتياز يخرج عن اجتماع المثلين ؛ فإنّ كلّ ذلك للعرضين الحالّيْن في موضوعٍ ، والأحكام ليست من عوارض المتعلّقات بما أ نّها موجودات خارجية ؛ فإنّ الخارج ظرف سقوط الحكم ، ولا يعقل بقاؤه في الوجود الخارجي ؛ لأنّ البعث والتحريك إنّما هما لإتيان المتعلّق وإيجاده ، ولا يعقل بقاؤهما بعد الإتيان والإيجاد .

ومن ذلك يتّضح : أنّ اجتماع الضدّين لأجل أنّ الأحكام متضادّات ، ليس بمحذورٍ أيضاً ؛ لعين ما ذكرنا في المثلين .

نعم ، المحذور الذي لا بدّ من جوابه ؛ هو لزوم اجتماع الإرادتين المتضادّتين في متعلّق واحد ؛ ضرورة امتناع تعلّق الإرادة الحتمية الوجوبية مع الإرادة الحتمية التحريمية ، أو الراجحة الاستحبابية ، أو التنزيهية ، أو الترخيصية ، على موضوعٍ واحد ، من مريدٍ واحد ، متوجّهة إلى مكلّف واحد ، في زمان واحد .

ولقد تصدّى بعض الأعاظم للجواب عنه . وما يظهر من المحقّ-ق الخراساني رحمه الله علیه في دفعه طرق :

الأوّل : ما في تعليقته - بعد بيان مراتب الأحكام ؛ أي الشأنية ، والإنشائية ، والفعلية ، والتنجيزية - وهو أنّ التضادّ إنّما هو بين الأحكام الفعلية ، دون الإنشائية والشأنية ، وأنّ الأحكام الواقعية في مورد مخالفتها مع الأمارات ، إنّما تصير شأنية وإنشائية ، ويكون الحكم الفعلي ما أدّت إليه الأمارة . وأجاب عن لزوم التصويب وبطلانه إجماعاً : بأنّ الإجماع كما قام على بطلانه - أي عدم حكمٍ مشتركٍ بين العالم والجاهل مطلقاً - كذلك قام الإجماع بل الضرورة على

ص: 400

عدم فعلية الأحكام الواقعية لكلّ من يشترك في الحكم(1) .

الثاني : ما في «الكفاية» وهو أنّ وجوب اتّباع الأمارة إذا كانت موافقة للحكم الواقعي لا يكون إلاّ الحكم الواقعي - بناءً على الطريقية - ومع التخلّف يكون حكماً صورياً ، لا بعثاً وزجراً فعلياً ، فاختلف الحكمان بحسب الفعلية والإنشائية ، ورفع التضادّ بينهما(2) .

الثالث : ما فيها أيضاً ؛ وهو أنّ التعبّد بالأمارات إنّما هو بجعل الحجّية ، وليست الحجّية مستتبعة لأحكام تكليفية بحسب ما أدّى إليه الطريق ، بل لا تكون الأمارات إلاّ منجّزة للواقع في صورة الإصابة ، وموجبة لصحّة الاعتذار في صورة المخالفة ، فلا يلزم اجتماع الضدّين أو المثلين(3) .

وأجاب عن الإشكال بعض(4) أعاظم تلامذة العلاّمة الميرزا الشيرازي - وقيل(5) : إنّه منه قدّس سرّه وقد شيّد أركانه هذا العظيم - بأنّ الأحكام الواقعية المتعلّقة بالموضوعات الواقعية ، لا يمكن إطلاقها بالنسبة إلى حال الشكّ في الحكم ؛ فإنّه من الحالات الطارئة للموضوع والمكلّفِ بعد تعلّق الحكم ، فلا يمكن الإطلاق والتقييد بالنسبة إليها .

فموضوع الحكم الواقعي ، هو الذي لا يمكن فيه لحاظ الإطلاق والتقييد

ص: 401


1- در الفوائد ، المحقّق الخراساني : 71 .
2- كفاية الاُصول : 319 - 320 .
3- كفاية الاُصول : 319 .
4- هو العلاّمة المحقّق البارع السيّد محمّد الفشاركي طاب ثراه .
5- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 140 .

بالنسبة إلى الحالات اللاحقة المتأخّرة عنه ، وموضوع الحكم الظاهري هو مشكوك الحكم بما هو مشكوك ، وهو متأخّر رتبة عن الذات ، ولا يمكن الجمع بينهما في اللحاظ ؛ فإنّ أحدهما ممّا يمتنع تقييده وإطلاقه بالنسبة إلى الشكّ ، والآخر ما يكون الشكّ موضوعاً له ، فتختلف رتبتهما ، ويرتفع التضادّ بينهما .

كما أنّ الصواب في باب الترتّب ورفع التضادّ فيه ، هو اختلاف الرتبة ؛ فإنّ الأمر بالأهمّ لا يمكن إطلاقه بالنسبة إلى حال العصيان ؛ فإنّه من الحالات اللاحقة للحكم ، ولا يمكن تقييد الموضوع به ، ولا إطلاقه بالنسبة إليه ، والأمر بالمهمّ يكون متقيّداً بعصيان الأهمّ ، فهو متأخّر رتبة عن الأمر بالأهمّ . فكما أنّ رفع التضادّ في باب الضدّين باختلاف الرتبة ، فكذلك فيما نحن فيه(1) .

هذا ، ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ الإطلاق - كما مرّ ذكره(2) - ليس عبارة عن جعل الماهية آلة للحاظ الخصوصيات والحالات ، حتّى تكون ملحوظة ودخيلة في تعلّق الحكم ، بل حقيقته عبارة عن جعل الطبيعة تمام الموضوع للحكم ، خاليةً عن كافّة القيود والحالات .

فموضوع وجوب الحجّ في قوله: )وَللّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً((3) ليس إلاّ المستطيع ، من غير دخالة شيءٍ من الحالات السابقة على تعلّق الحكم به ، أو اللاحقة له ، ومن غير لحاظ شيءٍ سوى نفس طبيعة المستطيع في موضوع الحكم .

ص: 402


1- اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 140 و351 - 354 ؛ وقاية الأذهان : 487 - 490 .
2- تقدّم في الصفحة 271 و320 .
3- آل عمران (3) : 97 .

و«الْبَيْع» في قوله : «أَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ»(1) ليس آلة للحاظ شيءٍ من الحالات أو الخصوصيات ، بل معنى إطلاقه أ نّه بنفسه - من غير قيدٍ - موضوع للحلّية ، ويكون تمام الموضوع لها هو البيع بما أنّه هو.

فبناءً عليه ، يكون الحكم المتعلّق بالموضوع المطلق ، محفوظاً مع الحالات السابقة واللاحقة . فوجوب صلاة الجمعة ثابت لها مع الشكّ في وجوبها ، ومع العلم به ، كما أ نّه ثابت لها مع الحالات السابقة على تعلّق الحكم .

فالإطلاق محفوظ مع الطوارئ السابقة على تعلّق الحكم واللاحقة له ؛ لما عرفت من أنّ معنى الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ القيود ، حتّى يقال : بامتناع لحاظ الحالات المتأخّرة عن تعلّق الحكم ، بل هو عبارة عن كون الشيء موضوعاً للحكم ، من غير دخالة قيدٍ من القيود أو لحاظه ، والذات الموضوعة للحكم محفوظة مع كافّة الحالات السابقة واللاحقة ، من غير دخالتها في الحكم .

إذا علم ذلك يظهر : أنّ اختلاف الرتبة لا يرفع التضادّ ؛ لا فيما نحن فيه ، ولا في باب الضدّين . ولو صار اختلاف الرتبة مسبِّباً لدفع التضادّ ، لجاز فيما نحن فيه أن يتعلّق الوجوب بالموضوع ، والحرمة بمعلوم الوجوب ؛ لأنّ الشكّ في الحكم والعلم به كليهما من الحالات المتأخّرة ، ولجاز في باب الضدّين تقييد الأمر بالمهمّ بإطاعة أمر الأهمّ ؛ لأنّ الطاعة والمعصية أيضاً كلتيهما متأخّرتان عن تعلّق الحكم بالموضوع .

ص: 403


1- البقرة (2) : 275 .

بل الجواب عن إشكال التضادّ في باب الضدّين ، هو ما عرفت سابقاً(1) وسيأتي الجواب عنه فيما نحن فيه .

وأمّا ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في تعليقته : من شأنية الحكم الواقعي وفي «الكفاية» أخيراً - مع تسليم انتزاع الحجّية عن الحكم التكليفي - : بأنّ حكم الأمارة لمّا كان طريقياً للتوسّل إلى الحكم الواقعي ، فمع المصادفة لا يكون إلاّ الحكم الواقعي ، ومع المخالفة يكون حكماً صورياً ، وإنّما حكم به لأجل عدم الامتياز بين صورة المصادفة وغيرها ، وإلاّ لا يحكم إلاّ على طبق ما هو المصادف لا غير .

فيمكن تصحيحهما بأن يقال : إنّ إرادة المولى - التي هي روح الحكم - إنّما تعلّقت بوجود الواجب الواقعي ، أو عدم المحرّم الواقعي ، وهذه الإرادة صارت سبباً للخطاب الواقعي ؛ ليتوسّل به إلى المطلوب ، أو إلى رفع المكروه ؛ أي أراد المولى بالخطاب انبعاث المكلّف نحو المطلوب ، أو انزجاره عن المكروه ، إلاّ أنّ الخطاب لا يمكن أن يؤثّر إلاّ في حال العلم به ؛ ضرورة عدم باعثيته مع الجهل .

لكن لا بمعنى أنّ إرادة وجود الفعل أو عدمه ناقصة ، بل بمعنى أنّ الخطاب مع كونه متعلّقاً بذات الفعل من غير تقييدٍ بالعلم والجهل ، ناقص عن بعث الجاهل ، لكنّ الإرادة متحقّقة في هذا الحال .

فحينئذٍ قد يكون المطلوب بوجهٍ لا يرضى المولى بتركه مطلقاً ، فيأمر

ص: 404


1- تقدّم في الصفحة 145.

بالاحتياط ؛ ليعلم المكلّف بالخطاب الاحتياطي ، ويتوسّل المولى لأجله إلى المطلوب الواقعي .

وقد لا يكون كذلك ، أو يرى في إيجاب الاحتياط محذوراً ، فيتوسّل إلى مراده بخطابٍ آخر غير إيجاب الاحتياط ؛ وهو جعل أمارة أو أمارات للتوسّل بها إلى المطلوب الواقعي ، فيأمر بمتابعة خبر الثقة أو أمارة اُخرى .

وهذا الخطاب أيضاً خطاب طريقي توسّلي ، يتوسّل به إلى المطلوب الواقعي ، فإذا طابقت الأمارة الواقع ، لا يكون إلاّ الحكم الواقعي والإرادة الواقعية ، التي يكون الخطاب الأوّلي والخطاب الثانوي وسيلةً إلى تحصيل متعلّقها ، وإذا خالفته لا يكون الخطاب إلاّ صورياً ، كالقصد الضروري في الإرادة التكوينية .

فحينئذٍ نقول : إن لوحظت الإرادة المتوسّلة بالخطاب الواقعي لتحريك العبد نحو المطلوب ، يجوز أن يقال : إنّ الإرادة التي تتسبّب بالخطاب الواقعي الأوّلي لتحريك المكلّف ، شأنية في حال الجهل ، لا لقصور فيها ، بل لقصورٍ في الخطاب .

وإن لوحظت الإرادة مطلقة ، وكان نطاق النظر أوسع من غير تقييدٍ بالخطاب الواقعي ، يجوز أن يقال : إنّ الإرادة الواقعية التي هي روح الحكم فعلية ، علم المكلّف بالخطاب الواقعي أو لا ، ولأجل فعليتها توسّل بالخطاب الثانوي ، وجعل الأمارة وسيلة إلى مراده الواقعي .

فتحصّل من ذلك : أنّ التقريبين كليهما صحيحان ، وإن كان ما في «الكفاية» أتمّ وأصحّ ؛ ضرورة عدم موجبٍ للحاظ الإرادة الواقعية متقيّدة بتسبّبها الخطاب الأوّلي ؛ لعدم دخالته فيها ، ضرورة عدم تقيّد الإرادة الواقعية التي صارت

ص: 405

منشأً للخطاب ، بالتوسّل إلى تحصيل المراد بالخطاب ؛ فإنّ العلّة لا يعقل أن تتقيّد بمعلولها .

وليعلم : أنّ ما ذكرنا من ترجيح ما في «الكفاية» على ما في التعليقة - من بقاء الحكم الواقعي على فعليته ، وعدم صيرورته شأنياً - إنّما هو فيما إذا علم المكلّف بالأمارة المؤدّية إليه ، وأمّا مع جهله بالحكم الواقعي وبالخطاب الأوّلي والثانوي المتعلّق بالأمارة ، فلا تعقل فعليته ؛ ضرورة امتناع توجّه الإرادة ا لفعلية والحكم الفعلي لغاية بعث الجاهل المطلق .

في بيان ما هو المجعول في الأمارات الشرعية

ثمّ إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني : من جعل الحجّية(1) وكذا ما ادّعى بعض الأعاظم من جعل الطريقية والوسطية في الإثبات والمحرزية(2) ممّا لا يرجع شيء منها إلى محصّل ؛ فإنّ الحجّية وقاطعية العذر ، ليست إلاّ حكم العقل والعقلاء باستحقاق المكلّف للعقوبة في صورة مصادفة الطرق للواقع إذا ترك مؤدّاها ، وحكمهما بقبح مؤاخذته وعقوبته في صورة عدم المصادفة إذا عمل بها ، ومثله ليس بيد الجاعل ، ولا من الأحكام الوضعية القابلة للجعل ، كالولاية ، والحكومة .

وكذا الطريقية والمحرزية والوسطية في الإثبات ، ليست قابلة للجعل ؛ فإنّ الظنّ كاشف ذاتاً عن الواقع كشفاً ناقصاً ، ولا يمكن جعل هذه الكاشفية

ص: 406


1- كفاية الاُصول : 319 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 20 و 23 و 106 و 108 .

الذاتية له ، ولا إعطاء كشفٍ آخر فوق هذا الكشف الذاتي له ، كما لا يمكن جعل الكاشفية للشكّ .

هذا مضافاً إلى ما ذكرنا في أوّل القطع(1) : من أنّ الوسطية في الإثبات أجنبيّة عن باب حجّية الأمارات ، وأنّ الحجّية التي فيما نحن فيه غير الحجّية المنطقية .

والعجب ممّن أصرّ على أنّ الأمارات التي بأيدينا كلّها عقلائية أمضاها الشارع(2) ومع ذلك ذهب إلى جعل ما ذكر ممّا لا معنى معقول لها .

ظهور دليل الحكم الظاهري في الإجزاء

ثمّ إنّ ما ذكرنا : من الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، إنّما هو في الوجوب والحرمة الواقعيين مع قيام دليل الحكم الظاهري على خلافهما .

وأمّا الكلام في أدلّة الأحكام الظاهرية الحاكمة على أدلّة الأحكام الواقعية ، والموسّعة لنطاق المأمور به ، فقد مرّ الكلام فيها في مباحث الإجزاء(3) .

ومحصّله : أنّ قوله : «كلّ شيءٍ نظيفٌ حتّى تعلم أ نّه قذرٌ»(4) حاكم على الأدلّة الدالّة على مانعية نجاسة ثوب المصلّي وبدنه من الصلاة ، أو الأدلّة الدالّة على شرطية الطهارة لها ، وهو ظاهر عرفاً في أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية ،

ص: 407


1- تقدّم في الصفحة 351 - 352 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 106 - 108 .
3- تقدّم في الصفحة 80 .
4- تهذيب الأحكام 1 : 284 / 832 ؛ وسائل الشيعة 3 : 467 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحديث 4 .

مصداق للمأمور به ، ومسقطة لأمرها .

فلا يرد عليه : أنّ ذلك صحيح مع عدم كشف الخلاف ، وأمّا معه فإطلاق أدلّة شرطية الطهارة الواقعية يحكم بوجوب الصلاة معها ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ دليل الحكم الظاهري - كما عرفت - ظاهر في كون المأتيّ به مصداقاً للمأمور به ، فبعد الإتيان بمصداقه لا يعقل بقاء الأمر ، ولا تجب على المكلّف في كلّ يومٍ إلاّ صلاة واحدة ، فالإعادة ممّا لا وجه لها ، بل المكشوف خلافه إنّما هو نفس الطهارة ، لا الآثار المترتّبة عليها .

وبعبارة اُخرى : إنّه بعد ظهور الأدلّة في كون المأتيّ به مع الطهارة الظاهرية ، مصداقاً للمأمور به ، لا يعقل كشف خلاف ذلك ، فهو مصداق للمأمور به حتّى مع كشف كون الثوب أو البدن نجساً .

إن قلت : إنّ الحكم الواقعي في طول الظاهري ، ورتبته مقدّمة عليه ، ولا يعقل تقييده به وتوسعته لأجله ؛ لأنّ الحاكم والمحكوم لا بدّ وأن يكونا في مرتبة واحدة .

قلت : بعد تسليم إطلاق دليل الحكم الظاهري ، وتسليم ظهوره في الإجزاء ، لا محيص من التصرّف في دليل الحكم الواقعي ، وتوسعة دائرة المأمور به ، وإلاّ لزم رفع اليد عن الحكم الظاهري ، أو إطلاقه بلا موجبٍ يوجبه .

إن قلت : لعلّ مفاد دليل الحكم الظاهري ، هو المعذورية لدى المخالفة ، فلا يفيد الإجزاء بعد الانكشاف .

قلت : لا معنى لجعل العذر فيما نحن فيه ؛ لأنّه لو انكشف الخلاف في الوقت ، فلم تتحقّق المخالفة بعدُ ، حتّى يكون الحكم الظاهري عذراً ؛ لبقاء وقت إطاعة

ص: 408

الحكم الواقعي ، والمفروض أنّ دليل الحكم الظاهري مطلق ؛ انكشف الخلاف في الوقت أو لا ، بل لا معنى لتقييده بعدم انكشاف الخلاف ؛ للزوم لغويته .

ولو لم ينكشف الخلاف إلى ما بعد الوقت ، فلا معنى لكون مفاده جعل العذر أيضاً ؛ لأنّ نفس دليل الحكم الظاهري أوقع المكلّف في المخالفة ؛ إذ لولا دليله لَحصّل المكلّف الطهارة الواقعية ، فلا معنى لكونه معذّراً بعد كونه موقعاً في المخالفة ، فلا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ؛ بحمل الحكم الظاهري على جعل العذر أو جعل الحجّية ، فإنّه أيضاً ممّا لا معنى له فيما نحن فيه ، كما لا يخفى .

فلا بدّ من التصرّف في الحكم الواقعي ؛ بحمله على الشأنية ، لكن فرق بين الالتزام بالشأنية في باب الإجزاء ، وفيما ذكرنا في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ؛ فإنّ المكلّف في الثاني لمّا كان جاهلاً بالحكم الواقعي والخطاب المتعلّق به ، لا يعقل كون الخطاب باعثاً له ؛ لتوقّف باعثيته على العلم به ، فلا بدّ وأن يكون شأنياً .

بخلاف الأوّل ، فإنّ المكلّف يعلم بشرطية الطهارة في الصلاة ، ويمكن له تحصيل الطهارة الواقعية ، ومع ذلك جعل المولى الحكم الظاهري ، وأجاز الصلاة مع الطهارة الظاهرية .

فحينئذٍ يقع الإشكال في جعل الحكم الظاهري مع إمكان تحصيل الشرط الواقعي .

ويمكن أن يقال : إنّ المقتضي للحكم الواقعي وإن كان موجوداً ، فيكون اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية عن اقتضاء وملاك ، لكن مع الشكّ في الطهارة

ص: 409

يكون تحصيلها ملازماً لمشقّة زائدة على أصل التكليف ، فمصلحة التوسعة ورفع المشقّة عن العبد ، صارت مزاحمة لمصلحة التكليف بالطهارة الواقعية ، ولأجل رجحانها عليها رخّص في الصلاة مع الطهارة الظاهرية ، فمصلحة التسهيل على المكلّف صارت موجبة لجعل الحكم الظاهري .

إن قلت : فما الداعي إلى جعل الحكمين ، إذ لو جعل المانع عدم العلم بالنجاسة لكفى ؟ !

قلت : - بعد ظهور الأدلّة في جعل الحكمين ، حتّى أنّ أدلّة الأحكام الظاهرية أيضاً دالّة على اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية ؛ لمكان قوله : «حتّى تعلم أنّه قذرٌ»(1) وبعد عدم إمكان رفع اليد عن الحكم الظاهري ، لا لمكان رواية عمّار الساباطي ، بل للسيرة المستمرّة القطعية القائمة على ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه ؛ بحيث توجب القطع بكون هذا الحكم ثابتاً في الشريعة - يمكن أن يقال في الجواب عن هذا الإشكال العقلي : بأنّه من الممكن أن يكون إذن الشارع وأمره ، دخيلاً في الملاكات والمصالح الواقعية ، فالصلاة إنّما صارت معراج المؤمن ومقرّبة للعبد ، لا لاشتمالها ذاتاً على تلك الخصوصية أمر بها الشارع أو لا ، بل لأمر الشارع ، وكونها إطاعة لأمره ، ومحصّلة للعبودية ، فأمر الشارع وإذنه دخيل في الملاك والمصلحة .

نعم ، تعلّق الأمر بالأركان المخصوصة وبهذه الكيفية الخاصّة ؛ لترجيح وملاك

ص: 410


1- تهذيب الأحكام 1 : 284 / 832 ؛ وسائل الشيعة 3 : 467 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحديث 4 .

ومصلحة كائنة فيها ، لكنّها لم تكن تمام الملاك ، فالشارع أمر بتلك الأركان لرجحان ما فيها ، وأراد بأمره تمكين العبد من تحصيل تمام الملاك والمصلحة التامّة الملزمة الموجبة لقرب العبد ، وعروجه معراج الكمال ، فأمر أوّلاً بالصلاة ، وجعل شرطها الطهارة الواقعية ؛ لملاك واقعي .

وهذا الأمر مع الشرط الكذائي ، مكّن المكلّف من تحصيل المصلحة التامّة النفس الأمرية . وإذا شكّ المكلّف في طهارة لباسه ، صار موضوعاً لإذنه بإتيانها مع اللباس المشكوك فيه ؛ لملاك التسهيل كما عرفت .

وهذا الإذن في هذا الموضوع ، يمكن أن يكون دخيلاً في تحصيل المصلحة التامّة ، ويكون الإذن ممكّناً للعبد من تحصيلها ، وقبل الشكّ لا يكون الموضوع محقّقاً ، بل يكون الحكم الواقعي ممكّناً له ، ومع الشكّ يكون الإذن وجعل الطهارة الظاهرية كذلك ، فجعل الحكمين الظاهري والواقعي ، ممّا لا مانع عقلي منه .

وهذه الدعوى وإن لم تكن مقرونة بدليل مثبت لها ، لكن مجرّد الإمكان كافٍ في لزوم الأخذ بظهور دليلي الحكم الواقعي والظاهري ؛ إذ لا ترفع اليد عن الظهور الحجّة إلاّ بدليل قاطع عقلي أو نقلي ، ومع هذا الاحتمال ترفع دعوى الامتناع ، فيجب الأخذ به .

ثمّ إنّ ما ذكرنا : من ظهور دليل الحكم الظاهري في الإجزاء ، يأتي في أدلّة الأمارات أيضاً طابق النعل بالنعل ؛ فإنّ ظاهر ما دلّ على وجوب العمل بقول الثقة أو جوازه ، هو صيرورة الصلاة مع الطهارة الظاهرية المخبر بها ، مصداقاً للصلاة المأمور بها ، فدليل حجّية الأمارات يوجب التوسعة في مصاديق

ص: 411

المأمور به ، كدليل الأصل من غير فرقٍ بينهما من هذه الجهة .

فلا فرق بين قوله : «يجب العمل على طبق الحالة السابقة لدى الشكّ» وقوله : «يجب العمل على طبق قول الثقة» في دلالتهما على أنّ المأتيّ به مصداق للمأمور به ، وأنّ المكلّف مع الإتيان بمصداق المأمور به مع الطهارة الظاهرية ، ينال جميع الآثار المتوقّعة من إتيان المأمور به ؛ من المثوبات الاُخروية ، وعدم وجوب القضاء والإعادة ، كما ذكرناه مفصّلاً في مبحث الإجزاء(1) .

ص: 412


1- تقدّم في الصفحة 80 .

الفهارس العامّة

الفهارس العامّة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 413

ص: 414

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية رقمها الصفحة

البقرة (2)

«يَا أَ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» ... 104 ... 297

«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ

قُرُوءٍ» ... 228 ... 303

«وَبُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ» ... 228 ... 303

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ

كامِلَيْنِ» ... 233 ... 117

«أَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ» ... 275 ... 339، 341، 403

«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ» ... 282 ... 226، 231

آل عمران (3)

«وَللّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ

اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» ... 97 ... 110، 297، 402

«للّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» ... 97 ... 302

ص: 415

الآية رقمها الصفحة

النساء (4)

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ» ... 170 ... 297

المائدة (5)

«أَليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ» ... 3 ... 3

الأنعام (6)

«لِأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» ... 19 ... 301

الأعراف (7)

«قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ» ... 11 ... 43

«مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» ... 12 ... 43

«وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَ نَّهُمْ

قَدْ ضَلُّوا» ... 149 ... 263

«سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ» ... 149 ... 263

التوبة (9)

«فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ

لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ» ... 122 ... 293

يوسف (12)

«وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ» ... 82 ... 234

ص: 416

الآية رقمها الصفحة

الإسراء (17)

«فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ» ... 23 ... 222، 227

الشعراء (26)

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ

لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» ... 193 - 194 ... 301

القصص (28)

«وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ» ... 20 ... 326

الأحقاف (46)

«أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» ... 4 ... 294

«وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً» ... 15 ... 117

المزّمّل (73)

«فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ» ... 16 ... 323

الإنسان (76)

«هَلْ أَتَى عَلَى الاْءِنْسَانِ حِينٌ مِنَ

الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا

خَلَقْنَا الاْءِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ

نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا

هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» ... 1 - 3 ... 35

ص: 417

الآية رقمها الصفحة

«إِنَّا خَلَقْنَا الاْءِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ

نَبْتَلِيهِ» ... 2 ... 375

«نَبْتَلِيهِ» ... 2 ... 36

«إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» ... 3 ... 36

العصر (103)

«إِنَّ الاْءِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ» ... 2 ... 341

ص: 418

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لا ينجّسه شيء ... 229، 230

إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء ... 247، 307

اُفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي ... 80

إنّ المرأة ترى الدم إلى خمسين ... 279

إنّ كلّ ما أقوله فهو ممّا حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن أبيه أمير المؤمنين... ... 48

إنّما أتى شيئاً حلالاً ، وليس بعاصٍ للّه ، إنّما عصى سيّده ، ولم يعصِ اللّه ... 216

باطل ... 313

حتّى تعلم أنّه قذرٌ ... 410

رُفع عن اُمَّتي... الخطأ والنسيان ... 234

رفع... ما لا يعلمون ... 86

زُخرف ... 313

طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ... 293

على اليد ما أخَذَتْ حتّى تؤدّي ... 288

كلّ شيءٍ نظيفٌ ... 85، 86

كلّ شيءٍ نظيفٌ حتّى تعلم أنّه قذرٌ ... 83، 407

كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو ... 82، 83

ص: 419

لا ، بل أنا شافع ... 50

الماء الجاري لا ينجّسه شيء ... 231

مَن فاتته فريضة فليقضها ... 78

هلاّ تعلَّمت ... 293

يبني على الأربع ... 306

يضرب على الجدار ... 313

ص: 420

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي ، محمّد ، سيّد المرسلين ، رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم = محمّد بن عبداللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبداللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام ... 1، 47، 48، 49، 50،301، 307، 347، 394،

395

أمير المؤمنين علیه السلام = علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل ... 48، 49

الصادق علیه السلام = جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس ... 47

الخليل علیه السلام = إبراهيم، النبي

إبراهيم، النبي ... 29، 30، 31

إسماعيل، النبي ... 148، 149

موسى، نبي اليهود ... 263

ص: 421

ص: 422

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين ... 6، 13، 15، 18، 21، 29،32، 34، 41، 47، 51،54، 57، 63، 65، 72،73، 79، 81، 88، 95،104، 119، 120، 123،156، 160، 164، 169،177، 178، 187، 193،197، 200، 211، 212،232، 235، 236، 239،243، 244، 246، 255،258، 261، 265، 268،272، 273، 278، 279،281، 282، 283، 290،291، 292، 296، 300،303، 317، 322، 324،325، 328، 330، 332،

‘ص: 423

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين ... 334، 336، 352، 355،356، 361، 372، 374،382، 398، 400، 404،

406

ابن الشهيد الثاني، الحسن بن زين الدين ... 47، 126، 128، 129

ابن قبة ... 394

ابن مالك، محمّد بن عبداللّه ... 322، 324

أبو العبّاس بن سريج ... 289

أبو بكر الصيرفي ... 289

أبو حنيفة ... 216

أبو هاشم، عبدالسلام الجبّائي ... 200

اُسامة بن ثابت ... 49

الأصفهاني، محمّد تقي ... 21، 22، 113، 247

الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم ... 6، 12، 111، 113، 114،115، 116، 126، 127،129، 326، 376، 378،380

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين ... 16، 52، 57، 59، 60،72، 104، 113، 114،117، 126، 129، 146،199، 204، 211، 240،243، 244، 247، 272،281، 333، 336، 351،

‘ص: 424

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين ... 352، 356، 358، 359،361، 364، 370، 371،382، 387، 388، 397

بُريرة ... 50

البصري، محمّد بن علي ... 132

بعض أساتيذنا= النهاوندي النجفي، علي بن فتح اللّه

بعض الأعاظم= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

بعض الأعاظم= الحائري، عبدالكريم

بعض أعاظم تلامذة العلاّمة الميرزا الشيرازي= الفشاركي، محمّد باقر بن محمّد جعفر

بعض أعاظم العصر= النائيني، محمّد حسين

بعض الأعاظم المتأخّر= النائيني، محمّد حسين

بعض المتأخّرين من أعاظم المعاصرين= العراقي، ضياء الدين

بعض المحشّين على القوانين= القزويني، علي بن إسماعيل

بعض المحقّقين= الأصفهاني، محمّد حسين

بعض المحقّقين من الفلاسفة= صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

بعض المشايخ= النائيني، محمّد حسين

بعض المعاصرين= النائيني، محمّد حسين

البهائي= الشيخ البهائي، محمّد بن الحسين

التفتازاني، سعد الدين= التفتازاني، مسعود بن عمر

التفتازاني، مسعود بن عمر ... 104

الجرجاني، علي بن محمّد ... 21

حاتم ... 262، 263

الحائري، عبد الكريم ... 57

ص: 425

الخراساني= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

الخواجه نصير الدين الطوسي= نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد

الخوانساري= المحقّق الخوانساري، الحسين بن محمّد

الرشتي، حبيب اللّه بن محمّد علي ... 19

رضي الدين الأسترآبادي، محمّد بن حسن ... 20، 21

زرارة ... 215، 216

الساباطي، عمّار بن موسى ... 410

السبزواري، هادي بن مهدي ... 334، 335

سلطان العلماء ... 330، 337

سيبويه ... 258، 322

السيّد الشريف= الجرجاني، علي بن محمّد

السيّد المرتضى= علم الهدى، علي بن الحسين

الشيخ الأنصاري= الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ البهائي، محمّد بن الحسين ... 138

شيخ الطائفة= الطوسي، محمّد بن الحسن

صاحب الحاشية (محمّدتقي الأصفهاني)= الأصفهاني، محمّدتقي

صاحب الفصول الغروية= الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم

صاحب القوانين= الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن

صاحب الكفاية= الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

صاحب المعالم= ابن الشهيد الثاني، الحسن بن زين الدين

صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم ... 33

الطوسي، محمّد بن الحسن ... 90

العراقي، ضياء الدين ... 281

ص: 426

العضدي ... 306

العلاّمة الحلّي، الحسن بن يوسف ... 188، 245

علم الهدى، علي بن الحسين ... 90، 128، 226، 231

الفشاركي، محمّد باقر بن محمّد جعفر ... 401

القاضي عبدالجبّار ... 72

القزويني، علي بن إسماعيل ... 21

القمّي= الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن

الكعبي ... 136

المحقّق الخوانساري، الحسين بن محمّد ... 381، 387

المحقّق الرضي= رضي الدين الأسترآبادي، محمّد بن حسن

المحقّق السبزواري= السبزواري، هادي بن مهدي

موسى بن بكير ... 216

الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن محمود ... 401

الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن ... 14، 43، 110، 116،

200، 326، 381، 387

النائيني، محمّد حسين ... 24، 133، 146، 232،

233، 237، 332، 406

نصير الدين الطوسي، محمّد بن محمّد ... 8، 33

النهاوندي النجفي، علي بن فتح اللّه ... 45، 53

ص: 427

ص: 428

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم ... 295، 312، 313

الإشارات والتنبيهات ... 8

تعليقة المحقّق الخراساني على الرسائل= درر الفوائد في الحاشية على الفرائد

تقريرات بحث الشيخ الأنصاري= مطارح الأنظار

تقريرات بحث المحقّق النائيني= فوائد الاُصول

الدرر= درر الفوائد للمحقّق الحائري

درر الفوائد في الحاشية على الفرائد ... 400، 404، 406

درر الفوائد للمحقّق الحائري ... 57، 59

الذريعة إلى اُصول الشريعة ... 90

الرسالة الشافعية ... 14، 17

رسالة الشيخ= فرائد الاُصول

العدّة في اُصول الفقه ... 90

الفرائد= فرائد الاُصول

فرائد الاُصول ... 352، 397

الفصول الغروية ... 12، 111، 113، 114،115، 116، 126، 127،

ص: 429

129، 326، 376، 378،380

فوائد الاُصول ... 146

القوانين= قوانين الاُصول

قوانين الاُصول ... 14، 21، 326

الكافي ... 215

الكتاب (للسيبويه) ... 322

الكفاية= كفاية الاُصول

كفاية الاُصول ... 54، 239، 281، 283،306، 320، 401، 404،405، 406

مطارح الأنظار ... 105، 117، 240، 246،272، 281، 337

المطوّل ... 21، 304

المعالم= معالم الدين

معالم الدين ... 47، 49، 126، 128، 129

ص: 430

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم» .

«أ»

1 - الاثنا عشرية في الصلاة اليومية . الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي (953 - 1030) ، تحقيق الشيخ محمّد الحسّون ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي ، 1409 ق .

2 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني) . السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413) ، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مطبعة ستارة ، 1419 ق .

3 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين . جمال الدين مقداد بن عبداللّه السيوري الحلّي (م 826) ، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1405 ق .

4 - إشارات الاُصول . حاج محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكافي الأصفهاني (1180 - 1261)، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، طهران ، مكتبة المعتمدية ، 1245 ق .

5 - الإشارات والتنبيهات ، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي . الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبداللّه بن سينا (370 - 427) ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، طهران ، دفتر نشر كتاب ، 1403 ق .

6 - أصل شيعة واُصولها . الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء (م 1373) ، تحقيق علاء آل جعفر ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة الإمام علي علیه السلام ، 1415 ق / 1994 م .

ص: 431

7 - الاُصول السرخسي . أبو بكر محمّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (م 490) ، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتاب العلمية ، 1414 ق .

8 - أعيان الشيعة . السيّد محسن الأمين (م 1371) ، تحقيق حسن الأمين ، 10 مجلّداً + الفهارس ، بيروت ، دار التعارف للمطبوعات .

9 - الألفية . محمّد بن عبداللّه بن مالك الأندلسي (600 - 672) ، الطبعة الثالثة ، قم ، دفتر نشر نويد إسلام ، 1379 ش .

10 - الأمالي . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق مؤسّسة البعثة ، الطبعة الاُولى ، قم ، دار الثقافة ، 1414 ق .

11 - الأمالي . أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي الملقّب ب- «الشيخ المفيد» (336 - 413) ، تحقيق الحسين اُستاد ولي وعلي أكبر الغفّاري ، قم ، الطبعة الثانية ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1412 ق .

12 - أنوار الملكوت في شرح الياقوت . العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726) ، تحقيق محمّد نجمي الزنجاني ، الطبعة الثانية ، قم ، الرضيّ وبيدار ، 1363 ش .

«ب»

13 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار . العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110) ، الطبعة الثانية ، إعداد عدّة من العلماء ، 110 مجلدٍ (إلاّ 6 مجلّدات ، من المجلّد 29 - 34) + المدخل ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1403 ق / 1983 م .

14 - بحر الفوائد في شرح الفرائد . الميرزا محمّد حسن الآشتياني ، الطبعة الحجرية ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، قم ، 1403 ق .

15 - بدائع الأفكار . الشيخ حبيب اللّه الرشتي ، الطبعة الحجرية ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث .

ص: 432

16 - بصائر الدرجات . أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فرّوخ الصفّار (م 290) ، تصحيح الميرزا محسن كوچه باغي ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1404 ق .

17 - البصائر النصيرية في المنطق . زين الدين عمر بن سهلان الساوجي ، قم ، مدرسة الرضوية .

18 - البهجة المرضيّة . جلال الدين السيوطي ، تعليق مصطفى الحسيني الدشتي .

«ت»

19 - تاج العروس من جواهر القاموس . السيّد محمّد بن محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي (1145 - 1205) ، الطبعة الاُولى ، 10 مجلّداً ، بيروت ، منشورات دار مكتبة الحياة ، 1306 ق .

20 - تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام . السيّد حسن الصدر (1272 - 1354) ، طهران ، مكتبة الأعلمي .

21 - التبيان في تفسير القرآن . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي ، بيروت ، 10 مجلّدات ، دار إحياء التراث العربي .

22 - تشريح الاُصول . الشيخ مولى علي بن مولى فتح اللّه النهاوندي (م 1322) ، الطبعة الحجرية ، طهران ، دار الخلافة ، 1320 ق .

23 - التفسير الكبير . محمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي (544 - 606) ، الطبعة الثالثة ، 32 جزءاً في 16 مجلّداً ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1411 ق .

24 - تمهيد القواعد . الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911 - 965) ، تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1416 ق .

25 - التوحيد . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ، الشيخ الصدوق (م 381) ، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1398 ق .

ص: 433

26 - تهذيب الأحكام . أبو جعفر محمّد بن الحسن ، الشيخ الطوسي (385 - 460) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 10 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1365 ش .

«ج»

27 - جامع المقاصد في شرح القواعد . المحقّق الثاني علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (868 - 940) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 13 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1408 - 1411 ق .

28 - الجعفريات أو الأشعثيات المطبوع مع «قرب الإسناد» . أبو علي محمّد بن محمّد الأشعث ( القرن الرابع) ، طهران ، مكتبة نينوى الحديثة .

29 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام . الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (م 1266) ، تحقيق الشيخ عبّاس القوچاني ، الطبعة الثالثة ، 43 مجلّداً ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1367 ش .

30 - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد . العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر (648 - 726) ، قم ، انتشارات بيدار ، 1413 ق .

«ح»

31 - الحاشية على تهذيب المنطق . المولى عبداللّه بن شهاب الدين الحسيني اليزدي (م 981) ، الطبعة العاشرة ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1421 ق .

32 - حاشية فرائد الاُصول أو الفوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية . الحاج آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني النجفي (م 1322) ، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القميّ ، الطبعة الاُولى ، قم ، مهديّ موعود(عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، 1421 ق / 1379 ش .

33 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة . صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050) ، الطبعة الثانية ، 9 مجلّدات ، قم ، مكتبة المصطفوي .

«خ»

34 - الخصال . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ

ص: 434

الصدوق (م 381) ، تصحيح علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الثانية ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1403 ق .

35 - الخطط المقريزية . أبو العبّاس أحمد بن علي المقريزي (م 845) ، بيروت ، دار صادر .

36 - الخلاف . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق جماعة من المحقّقين ، الطبعة الاُولى ، 6 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1407 ق .

«د»

37 - درر الفوائد . العلاّمة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ، تعليق آية اللّه الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف ، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي ، الطبعة الخامسة ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1408 ق .

38 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد . الآخوند محمّد كاظم الهروي الخراساني (1255 - 1329) ، تحقيق السيّد مهديّ شمس الدين ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ، 1410 ق / 1990 م .

39 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية . الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي (م 786) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1412 - 1414 ق .

«ذ»

40 - ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد . المحقّق السبزواري محمّد باقر بن محمّد مؤمن (1017 - 1090) ، الطبعة الحجرية ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث .

41 - الذريعة إلى اُصول الشريعة . أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436) ، تحقيق أبو القاسم گرجي ، مجلّدان ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مؤسّسه انتشارات و چاپ دانشگاه طهران ، 1363 ش .

ص: 435

«ر»

42 - رجال ابن داود . تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلّي (647 - 707) ، إعداد السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم ، قم ، منشورات الشريف الرضيّ ، بالاُفست عن طبعة النجف الأشرف ، المطبعة الحيدرية ، 1392 ق .

43 - رجال النجاشي . أبو العبّاس أحمد بن علي بن أحمد بن العبّاس النجاشي الأسدي الكوفي (372 - 450) ، تحقيق السيّد موسى الشبيري الزنجاني ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1407 ق .

44 - الرسالة . الإمام الشافعي (م 204) ، تحقيق أحمد محمّد شاكر ، بيروت ، المكتبة العلمية .

45 - روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات . الميرزا محمّد باقر الموسوي الخوانساري (1226 - 1313) ، 8 مجلّدات ، قم ، مكتبة إسماعيليان ، 1390 ق .

«ز»

46 - زبدة الاُصول . الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي (953 - 1030) ، تحقيق فارس حسون كريم ، الطبعة الاُولى ، مدرسة وليّ العصر علیه السلام العلمية ، 1423 ق / 1381 ش.

«س»

47 - سنن أبي داود . أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (م 275) ، إعداد كمال يوسف الحوت ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الجنان ، 1409 ق / 1988 م .

48 - سنن الدارمي . أبو محمّد عبداللّه بن عبد الرحمان السمرقندي الدارمي (181 - 255) ، مجلّدان ، بيروت ، دار الفكر ، 1398 ق .

«ش»

49 - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام . المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن ابن يحيى بن سعيد الهذلي (602 - 676) ، تحقيق عبد الحسين محمّد علي بقّال ، الطبعة الثالثة ، 4 أجزاء في مجلّدين ، قم ، مؤسّسة إسماعيليان ، 1409 ق .

ص: 436

50 - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك . عبداللّه بن عقيل العقيلي الهمداني المصري (698 - 769 ) ، الطبعة الرابعة عشرة ، القاهرة ، المكتبة التجارية الكبرى ، 1384 ق / 1964 م .

51 - شرح الرضيّ على الكافية . رضي الدين محمّد بن الحسن الأسترآبادي النحوي (م 688) ، تصحيح يوسف حسن عمر ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، تهران ، منشورات مؤسّسة الصادق ، 1398 ق / 1978 م .

52 - شرح الشمسية . قطب الدين محمود بن محمّد الرازي (م 766) ، الطبعة الحجرية ، طهران ، انتشارات علميه إسلامية ، 1304 ق .

53 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب . القاضي عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الغفّار ، تصحيح أحمد رامز الشهير بشهري المدرّس بدار الخلافة ، إسلامبول ، مطبعة العالم ، 1307 ق .

54 - شرح المطالع . قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي (م 766) ، قم ، انتشارات الكتبي .

55 - شرح المقاصد . مسعود بن عمر بن عبداللّه المعروف ب- «سعد الدين التفتازاني» (712 - 793) ، تحقيق عبد الرحمان عميرة ، الطبعة الاُولى ، 5 أجزاء في 4 مجلّدات ، قم ، منشورات الشريف الرضيّ ، 1370 - 1371 ش .

56 - شرح المنظومة . المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289) ، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، طهران ، نشر ناب ، 1369 - 1379 ش .

57 - شرح المواقف . السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني (م 812) ، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني ، الطبعة الاُولى ، 8 أجزاء في 4 مجلّدات ، قم ، منشورات الشريف الرضيّ ، 1412 ق / 1370 ش ، «بالاُفست عن طبعة مصر ، 1325» .

58 - شرح تجريد العقائد . علاء الدين علي بن محمّد القوشجي (م 879) ، الطبعة الحجرية ، قم ، منشورات رضيّ - بيدار .

59 - شرح حكمة الإشراق . محمّد بن مسعود بن مصلح المشهور بقطب الدين الشيرازي (م 710) ، قم ، انتشارات بيدار .

ص: 437

60 - الشفاء . الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبداللّه بن سينا (370 - 427) ، تحقيق عدّة من الأساتذة ، 10 مجلّداً ( الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان) قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1405 ق .

61 - شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام . المولى عبد الرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الفيّاض (م 1051) ، تصحيح أكبر أسد عليزاده ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1425 - 1430 ق .

«ع»

62 - العدّة في اُصول الفقه . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مطبعة ستارة ، 1417 ق .

63 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية . محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر) ، تحقيق مجتبى العراقي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مطبعة سيّد الشهداء ، 1403 ق .

«غ»

64 - غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع . أبو المكارم السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي المعروف بابن زهرة (511 - 585) ، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1417 ق .

«ف»

65 - فرائد الاُصول ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1419 ق / 1377 ش .

66 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية . محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم ، دار إحياء العلوم الإسلامية ، 1404 ق . «بالاُفست عن الطبعة الحجرية» .

ص: 438

67 - الفصول في الاُصول . أحمد بن علي الرازي الجصّاص (305 - 370) ، تحقيق دكتر عجيل جاسم النشمي ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية دولة الكويت ، 1405 ق .

68 - فوائد الاُصول . الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تصحيح السيّد مهديّ شمس الدين ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مؤسّسة الطبع والنشر ، وزارة الإرشاد الإسلامي ، 1407 ق .

69 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) . الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365) ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1404 ق .

70 - الفوائد المدنية . محمّد أمين بن محمّد شريف الأخباري الأسترآبادي (م 1033) ، تحقيق الشيخ رحمة اللّه الرحمتي الأراكي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1424 ق .

71 - فواتح الرحموت= المستصفى من علم الاُصول .

72 - الفهرست . أبو الفرج محمّد بن إسحاق ، ابن النديم (م385) ، إعداد الشيخ إبراهيم رمضان ، الطبعة الثانية ، بيروت ، دار المعرفة للطباعة والنشر .

73 - الفهرست . منتجب الدين أبو الحسن علي بن عبيداللّه بن بابويه الرازي (504 - 600) ، تحقيق السيّد جلال الدين المحدّث اُرموي ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1366 ش .

«ق»

74 - القاموس المحيط والقابوس الوسيط . أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (729 - 817) ، 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الجيل .

75 - القبسات . السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف ب-«الميرداماد» (م 1041) ، تحقيق الدكتور مهديّ المحقّق ، الطبعة الثانية ، طهران ، انتشارات و چاپ دانشگاه طهران ، 1374 ش .

ص: 439

76 - القواعد والفوائد في الفقه والاُصول والعربية . الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي المعروف بالشهيد الأوّل (734 - 786) ، تحقيق عبد الهادي الحكيم ، الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، مكتبة المفيد ، 1399 ق / 1979 م .

77 - قوانين الاُصول . المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231) ، مجلّدان ، الطبعة الحجرية ، المجلّد الأوّل ، طهران ، المكتبة العلمية الإسلامية ، 1378 ، والمجلّد الثاني ، طهران ، المستنسخة سنة 1310 ق .

«ك»

78 - الكافي . ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الخامسة ، 8 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .

79 - الكتاب . أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الملقّب ب- «سيبويه» (م 180) ، مجلّدان، قم ، نشر أدب الحوزة ، 1404 ق .

80 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد . العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر ، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1414 ق .

81 - كفاية الاُصول . الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي .

«ل»

82 - لسان الميزان . شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (م 852) ، الطبعة الثانية ، 7 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، 1390 ق / 1971 م .

83 - اللمع في اُصول الفقه . الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن الشيرازي (م 476) ، الطبعة الثانية ، بيروت ، عالم الكتب ، 1406 ق .

ص: 440

«م»

84 - مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق . شهاب الدين يحيى سهروردي (م قرن ششم) ، تصحيح هنرى كربن و سيد حسين نصر ، چاپ دوم ، 3 جلد ، طهران ، مؤسسه مطالعات و تحقيقات فرهنگى ، 1372 ش .

85 - المحصول في علم اُصول الفقه . فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606) ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوض ، الطبعة الثانية ، 4 مجلّدات ، بيروت ، المكتبة العصرية ، 1420 ق / 1999 م .

86 - مختلف الشيعة في أحكام الشريعة . العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726) ، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 9 مجلّدات + الفهرس ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1412 - 1420 ق .

87 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام . السيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي (م 1009) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 8 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1410 ق .

88 - مسائل الناصريات . أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436) ، تحقيق مركز البحوث والدراسات العلمية ، قم ، مؤسّسة الهدى ، 1417 ق .

89 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل . الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254 - 1320) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 25 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1407 ق .

90 - المستصفى من علم الاُصول . أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (م 505) ، الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، انتشارات دار الذخائر ، 1368 ش .

وبذيله «فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت» . عبد العلى محمّد بن نظام الدين الأنصاري (م 1225) .

ص: 441

91 - مستند الشيعة في أحكام الشريعة . أحمد بن محمّد مهديّ النراقي (م 1245) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 18 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1415 - 1420 ق .

92 - المسلك في اُصول الدين . نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد المحقّق الحلّي (602 - 676) ، تحقيق رضا الاُستادي ، الطبعة الثانية ، مشهد ، مجمع البحوث الإسلامية ، 1421 ق / 1379 ش .

93 - المسند . أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241) ، إعداد أحمد محمّد شاكر وحمزة أحمد الزين ، الطبعة الاُولى ، 20 مجلّداً ، القاهرة ، دار الحديث ، 1416 ق .

94 - مشارق الشموس في شرح الدروس . آقا حسين بن جمال الدين محمّد الخوانساري (1019 - 1099) ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث .

95 - مصباح الفقيه (الطهارة ، الصلاة ، الزكاة ، الخمس ، الصوم ، الرهن) . الحاج آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني النجفي (م 1322) ، الطبعة الاُولى ، 19 مجلّداً :

الطهارة والصلاة . تحقيق المؤسّسة الجعفرية لإحياء التراث ، (ج 1 - 17) ، قم ، مؤسّسة مهديّ الموعود(عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، 1417 - 1431 ق .

الزكاة والخمس والصوم والرهن . (ج 13 و14 ، حسب ترتيب مؤسّسة النشر الإسلامي) قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1416 ق .

96 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير . أحمد بن محمّ-د بن علي المقري الفيّومي (م 770) ، الطبعة الاُولى ، جزءان في مجلّ-د واحد ، قم ، دار الهجرة ، 1405 ق .

97 - مصنّفات الشيخ المفيد . أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي (336 - 413) ، الطبعة الاُولى ، 14 مجلّ-داً ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1413 ق / 1371 ش .

98 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري) . الميرزا أبو القاسم الكلانتري

ص: 442

(1236 - 1292) ، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1425 ق .

99 - المطوّل في شرح تلخيص المفتاح . سعد الدين التفتازاني الهروي مسعود بن عمر بن عبداللّه (م 792) ، وبهامشه حاشية المير سيّد شريف ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفى ، 1407 ق .

100 - معارج الاُصول . المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676) ، إعداد محمّد حسين الرضوي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام ، 1403 ق .

101 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول» . أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011) ، تحقيق لجنة التحقيق ، الطبعة الحادي عشر ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1416 ق .

والطبع الحجري مع حواشي سلطان العلماء وغيره ، قم ، منشورات الرضيّ .

102 - المعتمد في اُصول الفقه . أبو الحسين محمّد بن علي بن الطيّب البصري المعتزلي (م 436 ق / 1044 م) ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1403 ق .

103 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب . ابن هشام أبو محمّد عبداللّه بن يوسف بن هشام الأنصاري (708 - 761) ، تحقيق عدّة من العلماء ، الطبعة الخامسة ، قم ، مكتبة سيّد الشهداء علیه السلام ، 1375 ش .

104 - مفاتيح الاُصول . السيّد محمّد الطباطبائي (م 1242) ، الطبعة الحجرية ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث .

105 - مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة . السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي (1160 - 1228) ، تحقيق محمّد باقر الخالصي ، الطبعة الاُولى ، صدر حتّى الآن 24 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1419 - 1431 ق .

ص: 443

106 - مقالات الاُصول . الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361) ، تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1414 - 1420 ق .

107 - المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد . الشيخ سديد الدين الحمصّي ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1412 ق .

108 - منية الطالب في شرح المكاسب (تقريرات المحقّق النائيني) . الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري (1254 - 1363) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1424 ق .

109 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش .

«ن»

110 - نقد المحصّل (تلخيص المحصّل) . الخواجه نصير الدين الطوسي (م 672) ، الطبعة الثانية ، بيروت ، دار الأضواء ، 1405 ق / 1985 م .

111 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي) . الشيخ حسينعلي المنتظري ، الطبعة الاُولى ، قم ، نشر تفكّر ، 1415 ق .

112 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي) . الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (م 1391) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 4 أجزاء في 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1405 ق .

113 - نهاية الدراية في شرح الكفاية . الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1414 ق .

114 - نهاية النهاية في شرح الكفاية . الميرزا علي الإيرواني النجفي (1301 - 1354) ،

ص: 444

الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1370 ش .

115 - نهاية الوصول إلى علم الاُصول . جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 - 726) ، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق ، 1425 - 1429 ق .

«و»

116 - الوافية في اُصول الفقه . المولى عبداللّه بن محمّد البُشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني (م 1071) ، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، الطبعة الاُولى ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1412 ق .

117 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة . الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 30 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1409 ق .

118 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة . عماد الدين أبو جعفر محمّد بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة ( القرن السادس) ، تحقيق الشيخ محمّد الحسّون ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1408 ق .

119 - وقاية الأذهان مع رسالتي سمطا اللآل في مسألتي الوضع والاستعمال وإماطة الغين عن استعمال العين في معنيين . الشيخ أبو المجد محمّد رضا بن محمّد حسين النجفي الأصفهاني ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1413 ق .

«ه-»

120 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين . الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1420 - 1421 ق .

ص: 445

ص: 446

7 - فهرس الموضوعات

مقدّمة بقلم آية اللّه العظمى السبحاني ... ه-

حول تحقيق الكتاب ... لد

المقدّمة

فصل : في موضوع علم الاُصول وتعريفه ... 5

في تمايز العلوم ... 7

في تمايز المسائل ... 10

التحقيق في موضوع علم الاُصول ... 14

فصل : البحث في الوضع ... 18

حول أقسام الوضع والموضوع له ... 19

المعنى الحرفي ... 20

المقصد الأوّل : في الأوامر

و فيه مطالب :

المطلب الأوّل : فيما يتعلّق بمادّة الأمر ... 29

وفيه جهات من البحث :

الجهة الثالثة : في الطلب والإرادة ... 29

ص: 447

دليلا الأشاعرة على ثبوت الطلب النفسي ... 29

الجبر والتفويض ... 32

الجهة الرابعة : في أنّ الأمر إذا كان مطلقاً هل يحمل على الوجوب أو الندب؟ ... 37

ولابدّ قبل تحقيق المقام من تقديم اُمور :

الأوّل : في معنى الطلب ... 37

الثاني : في تحصيل معنى الطلب الندبي والوجوبي وبيان ما به الافتراق بينهما ... 37

الثالث : في الفرق بين الطلب الندبي والوجوبي ... 39

الرابع : في دلالة الطلب على الإرادة دلالة عقلية ... 40

الخامس : في تحرير محلّ النزاع ... 41

تحقيق المقام ... 42

المطلب الثاني : فيما يتعلّق بصيغة الأمر ... 45

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في الفرق فيما ينشأ به الطلب ... 45

المبحث الثاني : في كثرة استعمال الأمر في الندب ... 47

تنبيه : في الأحكام السلطانية ... 49

المبحث الثالث : في التعبّدي والتوصّلي ... 51

هاهنا اُمور :

الأمر الأوّل : في تعريفهما ... 51

الأمر الثاني : في أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر ... 52

تفصّيات عن عويصة أخذ قصد التقرّب ... 57

التحقيق في التفصّي عن عويصة أخذ قصد التقرّب ... 60

لابدّ لتوضيحه من تمهيد مقدّمات :

الاُولى : أنحاء أخذ القصد ... 60

ص: 448

الثانية : الميزان في مقرّبية المقدّمات ... 61

الثالثة : فيما هو الباعث نحو العمل ... 62

الأمر الثالث : في مقام الشكّ في التعبّدية والتوصّلية ... 68

المبحث الرابع : في «المرّة والتكرار» و«الفور والتراخي» ... 69

تنبيه : في الأوامر الواقعة عقيب الحظر ... 70

المطلب الثالث : في الإجزاء ... 71

وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تمهيد اُمور :

الأمر الأوّل : في تحرير محلّ النزاع ... 71

الأمر الثاني : في المراد من «على وجهه» ... 72

الأمر الثالث : في فارق المسألة عن المرّة والتكرار وغيرها ... 73

إذا عرفت ماذكرنا فالكلام يقع في ثلاثة مواضع :

الموضع الأوّل : في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن التعبّد به ثانياً ... 74

الموضع الثاني : في الأوامر الاضطرارية ... 74

وحدة الأمر أو تعدّده في المقام ... 74

الإتيان بالفرد الاضطراري يقتضي الإجزاء أم لا ؟ ... 76

تنبيه : في هو خارج عن مورد الإجزاء ... 79

الموضع الثالث : في أنّ الإتيان بالمأمور به الظاهري هل يقتضي الإجزاء أم لا ؟ ... 80

يتمّ الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في الإتيان بالمأمور به حسبما تقتضيه الاُصول الشرعية ... 81

المقام الثاني : في الإتيان بالمأمور به حسبما تقتضيه الأمارات الشرعية ... 84

تذييل استطرادي : الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ... 88

المطلب الرابع : في مقدّمة الواجب ... 92

وقبل الخوض في المقصود نقدّم اُموراً :

الأمر الأوّل : في عدم كون المسألة اُصولية ... 92

ص: 449

الأمر الثاني : في تقسيمات المقدّمة ... 93

منها : تقسيمها إلى الداخلية والخارجية ... 93

منها : تقسيمها إلى مقدّمة الوجوب ، والواجب ، والصحّة ، والعلم ... 96

منها : تقسيمها إلى السبب ، والشرط ، وعدم المانع ، والمُعدّ ... 96

منها : تقسيمها إلى المقارن والمتقدّم والمتأخّر ... 100

الأمر الثالث : في تقسيمات الواجب ... 103

منها : تقسيمه إلى المطلق والمشروط ... 103

ومنها : تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز ... 111

فذلكة مرام صاحب الفصول ... 115

ومنها : تقسيمه إلى الأصلي والتبعي ... 116

ومنها : تقسيمه إلى النفسي والغيري ... 118

حكم الشكّ في النفسية والغيرية ... 120

تذنيبان :

الأوّل : في استحقاق المثوبات ... 121

الثاني : في الوضوء التهيّئي ... 124

الأمر الرابع : في بيان ما هو الواجب في باب المقدّمة ... 126

تذنيب : في ثمرة النزاع في هذه المسألة ... 129

تتمّة : حول الأصل عند الشكّ في الملازمة ... 130

حول استدلال القائلين بوجوب المقدّمة ... 130

المطلب الخامس : في مسألة الضدّ ... 134

تحقيق الحال سيدعي رسم اُمور :

الأوّل : في كون المسألة من المبادئ الأحكامية ... 134

الثاني : في الضدّ العامّ ... 134

ص: 450

الثالث : في الضدّ الخاصّ ··· 135

الرابع : في ثمرة المسألة ··· 138

التحقيق في مسألة الترتّب ··· 142

نقل كلام لتحقيق مرام ··· 146

المطلب السادس : في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ··· 148

المطلب السابع : في الواجب التخييري ··· 150

في التخيير بين الأقلّ والأكثر ··· 151

المطلب الثامن : في الواجب الكفائي ··· 154

بقي تنبيهان :

الأوّل : في التمسّك بالإطلاق فيما إذا شكّ في العينية والكفائية ··· 156

الثاني : فيما لو أتى عدّة من المكلّفين بالمأمور به في عرض واحد ··· 157

المطلب التاسع : ينقسم الواجب باعتبارٍ إلى المطلق والموقّت ··· 158

في كون القضاء بأمر جديد ··· 159

المطلب العاشر : هل متعلّق الأوامر والنواهي الطبائع أو الأفراد ؟ ··· 162

المقصد الثاني : في النواهي

فيه فصول :

فصل : في مفاد النهي ··· 169

اختلاف الأمر والنهي ··· 169

تنبيه : فيما يتفرّع على كون النهي هو الزجر ··· 172

فصل : في اجتماع الأمر والنهي ··· 175

قبل الخوض في المقصود لابدّ من تمهيد مقدّمات :

المقدّمة الاُولى : في تحرير محلّ النزاع ··· 175

ص: 451

المقدّمة الثانية : في المراد من «الواحد» في عنوان المسألة ··· 176

المقدّمة الثالثة : في كون هذه المسألة من المبادئ الأحكامية ··· 177

المقدّمة الرابعة : في ابتناء النزاع على تعلّق الأحكام بالطبائع ··· 177

المقدّمة الخامسة : في عدم الأساس لتقييد مورد النزاع بإحراز المناط ··· 178

فيما استدلّ به للقول بالامتناع ··· 178

دليل جواز الاجتماع ··· 185

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في عدم الملازمة بين القول بجواز الاجتماع وصحّة العبادة ··· 186

التنبيه الثاني : حول جريان النزاع في العامّين من وجه ··· 188

التنبيه الثالث : جريان النزاع عند كون المنهيّ عنه أخصّ مطلقاً ··· 191

التنبيه الرابع : لا فرق في جريان النزاع بين أقسام الأمر والنهي ··· 191

التنبيه الخامس : استدلال المجوّزين بوقوع العبادات المكروهة ··· 192

التنبيه السادس : حكم توسّط الأرض المغصوبة ··· 196

تذنيب : التصرّفات الخروجية مقدّمة للكون في الخارج ··· 205

فصل : في اقتضاء النهي للفساد ··· 207

في بيان معنى الصحّة والفساد ··· 207

تنبيه : الميزان في الاتّصاف بالصحّة والفساد ··· 209

بيان مسلكين في إثبات دلالة النهي على الفساد ··· 210

تتميم : أقسام النهي المتعلّق بالمعاملات ··· 211

تذنيب : الاستدلال على الفساد بفهم العلماء ··· 214

تتمّة : في الاستدلال بالروايات ··· 215

ختام : في دعوى دلالة النهي على الصحّة ··· 216

ص: 452

المقصد الثالث : في المفاهيم

مقدّمة : في كيفية الدلالة على المفهوم ··· 221

في معنى المفهوم عند القدماء والمتأخّرين ··· 221

رجع : في كيفية دلالة الكلام على المفهوم ··· 228

إبانة : في أنّ مجرّد التقييد لا يدلّ على المفهوم ··· 230

حول تعريفي المحقّقين الخراساني والنائيني للمفهوم ··· 232

فصل : في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ··· 235

بقي اُمور :

الأمر الأوّل : في عدم المعنى لقولهم «إنّ المفهوم انتفاء سنخ الحكم» ··· 237

الأمر الثاني : في تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء ··· 241

الأمر الثالث : في تداخل الأسباب والمسبّبات ··· 242

الأمر الرابع : في مفهوم مثل قوله علیه السلام : «إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء» ··· 247

تنبيه : حول باقي المفاهيم ··· 248

المقصد الرابع : في العامّ والخاصّ

فيه فصول :

فصل : في تعريف العامّ والخاصّ ··· 253

فصل : في النكرة واسم الجنس في سياق النفي ··· 258

فصل : في حجّية العامّ المخصّص ··· 260

فصل : في سراية إجمال الخاصّ إلى العامّ ··· 267

بقي هاهنا اُمور :

الأمر الأوّل : في التمسّك بالعامّ إذا كان الخاصّ معلّلاً ··· 275

ص: 453

الأمر الثاني : في العامّين من وجه المتنافيي الحكم ··· 275

الأمر الثالث : في إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية ··· 276

وهم وإزاحة : ··· 282

الأمر الرابع : في التمسّك بأصالة العموم عند الشكّ بين التخصيص والتخصّص ··· 285

الأمر الخامس : لو دار الأمر بين التخصيص والتخصّص لإجمال الخاصّ ··· 286

الأمر السادس : في وجه فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة ··· 288

فصل : في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ··· 289

فصل : في الخطابات الشفاهية ··· 296

فصل : في تخصيص العامّ بالضمير الراجع إلى بعض أفراده ··· 303

فصل : في تخصيص العامّ بالمفهوم ··· 306

فصل : الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة ··· 309

فصل : في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ··· 311

المقصد الخامس : في المطلق والمقيّد

فيه فصول :

فصل : في تعريف المطلق والمقيّد ··· 317

تنبيه : في ألفاظ المطلق ··· 320

فصل : في مقدّمات الحكمة ··· 328

الإطلاق والتقييد ثبوتاً ··· 328

إحراز الإطلاق في مقام الإثبات ··· 330

الاستدلال على الإطلاق بدليل الحكمة ··· 330

فذلكة : في ملخّص ما حقّقناه في معنى الإطلاق والتقييد ··· 334

تنبيه : حول مقالة سلطان العلماء ··· 337

ص: 454

ينبغي التنبيه على اُمور :

الأمر الأوّل : طريق إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ··· 338

الأمر الثاني : إشكال ودفع ··· 339

الأمر الثالث : أقسام المطلق ··· 341

الأمر الرابع : شرط الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة ··· 343

المقصد السادس

في بيان الأمارات المعتبرة عقلاً أو شرعاً

وقبل الخوض فيما هو المهمّ ، لا بأس بتقديم فصول :

الفصل الأوّل : في تمهيدات لمباحث القطع ··· 351

يذكر فيه اُمور :

الأمر الأوّل : اُصولية مبحث القطع ··· 351

الأمر الثاني : في المراد من «المكلّف» في تقسيم الشيخ قدّس سرّه ··· 352

الأمر الثالث : في مراتب الحكم ··· 352

الأمر الرابع : في تقسيم الحكم إلى الواقعي والظاهري ··· 354

الأمر الخامس : في تقسيم حالات المكلّف باعتبار وجود المنجّز وعدمه ··· 356

الفصل الثاني : في معنى حجّية القطع ··· 359

الفصل الثالث : في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي والطريقي ··· 363

الفصل الرابع : في التجرّي ··· 369

تحرير محلّ النزاع ··· 369

فيما استدلّ على قبح التجرّي ··· 371

مقالة المحقّق الخراساني في هذا المقام ··· 374

تفصيل صاحب الفصول رحمه الله علیه ··· 376

ص: 455

الفصل الخامس : في العلم الإجمالي ··· 381

وفيه مقامان :

المقام الأوّل : في إثبات التكليف بالعلم الإجمالي ··· 381

المقام الثاني : في إسقاط التكليف ··· 388

الفصل السادس : الأمارات الغير العلمية ··· 393

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في إمكان التعبّد بها ··· 393

المراد بالإمكان ··· 393

استدلال ابن قبة لامتناع التعبّد بالأمارات ··· 394

في بيان ما هو المجعول في الأمارات الشرعية ··· 406

ظهور دليل الحكم الظاهري في الإجزاء ··· 407

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 415

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 419

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 421

4 - فهرس الأعلام ··· 423

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 429

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 431

7 - فهرس الموضوعات ··· 447

ص: 456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.