بطاقة تعريف: الشمري، حبیب طاهر
عنوان واسم المؤلف: الجوابات الحاضرة/ حبيب طاهر الشمري.
تفاصيل المنشور: مشهد: مجمع البحوث الاسلامية العتبة الرضوية المقدسة ، 1430 ق.= 1388.
مواصفات المظهر: 570 ص.
ISBN : 46000 ریال 978-964-971-002-0 : ؛ 68000 ریال
حالة الفهرسة: فابا (الطبعة الثانية)
ملاحظات: عربي.
ملحوظة: الطبعة الأولى: 1427ق. = 1385.
ملاحظة: الطبعة الثانية.
ملاحظات: ببليوغرافيا: ص. [537]- 557؛ أيضا مع الترجمة.
عنوان : الارتجال في الأدب
عنوان : نصائح وخيارات
المعرف المضاف: مجمع البحوث الاسلامية العتبة الرضوية المقدسة
ترتيب الكونجرس: PN6071 /ب4 ش8 1388
تصنيف ديوي: 808/88
رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 85-14380
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحیم
الجوابات الحاضرة : ما جاء علی البدیهة ، من غیر فصلٍ ولا إعمالِ فکرة أو تحیّرِ خاطر ، ثمّ هو یأتی من غیر تکلّف ، وبذا وذا یکون وَقْعُه أبلغ وأثره آنَس .
وقد عُرف من العرب رجال ونساء اشتهروا بحضور الخاطر وسرعة البدیهة وامتلاک الحجّة ، مع فصاحة وبلاغة تزید فی قوّة الردّ ، وحُسن بیان یُضفی علیه أُنساً
وطلاوة .
وهی علی أبواب وضروب ، منها الأجوبة المُسْکِتة المُفحمة ، وهی أوسعها مضماراً وأبعدها للرمیّة . ولیس کلّ ما سُکت علیه یدخل فی هذا الباب ! فقد یکون السکوت خوفاً من السلطان وعاقبة الأُمور ، أو اجتناباً لبذاءة وحماقة ، وإنّما الجواب المُسکت
ما یحسن السکوت علیه لموافقته الحقّ ، وبقدر ما یملک من الحُجّة ، یکون مسکتاً تنقطع عنده اللجاجة .
ومنها الأجوبة المُقنِعة ، وهذه لا تختلف عن أُختها «المُسکِتة» فی شرط موافقة الحقّ وامتلاک الحجّة ، إلاّ أنّها لا تُرغم الخصم .
ومنها الأجوبة الظریفة وما یجری مجری الهزل ، وهذه تصدر من عاقلٍ فَکِه ، أو هو یرید أن یصل مقصده بهذا اللون من الأجوبة . وربّما صدرت من مجنون أصالةً أو مُتَجاننٍ لسبب ما .
ص: 5
وقد یکون الجواب قصیراً للغایة لا یتجاوز السطرَ والسطرین مع بلوغه المقصود والغایة ، وربّما أخذ لونَ الحوار والحجاج الطویل ، ممّا یستغرق صفحاتٍ کثیرةٍ ، وذلک
لطبیعة الموقف ، وبُغیة إقامة الحجّة البالغة ، ومع ذلک لا یملّه سامعُه ولا یسأمه قارئُه .
وللأعراب فی کلّ لون من الجوابات حصّة وافرة ، وحلاوة خاصّة !
ومن خلال الجوابات یجد المرء کثیراً من ضالّته فی حقائق التاریخ وتراجم وسِیَر الأشخاص وعقائدهم وأفکارهم ، فهو إذاً لیس أدباً محضاً ولا فنّاً خالصاً غیر هادف ، کما قد یوحی به عنوان البحث ، خاصّة إذا لُوحظ الجهد المبذول فی الرجوع إلی کتب التاریخ والحدیث والتراجم والأدب والتفسیر ، وقائمة المصادر تشهد لذلک . ولم یکن العمل مجرّد جمع مادّة وذکر مصادر بقدر ما أمکن من عَقْد مقارنة واستنتاج وترجیح ، ولذا ذُکر فی الهامش الکثیر من النافع ، إن شاء اللّه تعالی .
أسأله تعالی حسن التوفیق ، وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین ، وصلّی اللّه علی سیّدنا ونبیّنا محمّد وآله الطاهرین .
حبیب الشمّریّ
ص: 6
صدع رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله بتبلیغ الإسلام ، وکان لابدّ له من معجزة تُثبت نبوّته ، وکان للمُرسِل أن یختار لرسوله ما یناسب البیئة الاجتماعیّة التی شعّ فیها صُبح الرسالة ؛ فکان القرآن الکریم الذی أعلن تحدّیه وما زال یُعلن ذلک ؛ فلقد تحدّی الإنسَ والجنَّ علی حدٍّ سواء ، علی أن یأتوا بمِثل ما أتاهم به النبیّ صلی الله علیه و آله من کلام ربّه العزیز المتعال . فعجزوا ، وتدرّج معهم فی التحدّی حتّی کان غایة ما طلب منهم هو أن یأتوا بسورة من مِثله ، فلم یفعلوا ، فتیقّنوا - وهم مَن بضاعته البلاغة والفصاحة یتبارون فی ذلک - أنّ هذا القرآن مِن عند اللّه تعالی ، فمنهم مَن آمن وأسلم ، ومنهم مَن استکبر فجحد وکفر إلاّ أنّه لم یعمد إلی قبول تحدّی القرآن .
قال ابن إسحاق : إنّ الولید بن المغیرة المخزومیّ اجتمع إلیه نفرٌ من قریش ، وکان ذا سنّ فیهم ، وقد حضَر الموسمَ فقال لهم : یا معشرَ قریش ، إنّه قد حضر هذا الموسمُ ، وإنّ وفود العرب ستقدم علیکم فیه ، وقد سمعوا بأمر صاحبکم هذا فأجمعوا فیه رأیاً واحداً ، ولا تختلفوا فیکذِّب بعضکم بعضاً ، ویردّ قولُکم بعضُه بعضاً .
قالوا : فأنت یا أبا عبد شمس فقُلْ وأقِم لنا رأیاً نقول به .
ص: 7
قال : بل أنتم فقولوا أسمع .
قالوا : نقول کاهن .
قال : لا واللّه ما هو بکاهن ، لقد رأینا الکُهّان ، فما هو بِزَمْزَمة(1) الکاهن ولا سَجْعه .
قالوا : فنقول مجنون .
قال : ما هو بمجنون . لقد رأینا الجنون وعرفناه ، فما هو بخَنْقه ولا تخالُجِه ولا وَسْوستِه .
قالوا : فنقول شاعر .
قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر کلَّه رجَزه وهَزَجه وقَریضَه ومَقْبوضه ، ومَبْسوطه ، فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول ساحر .
قال : ما هو بساحر ، لقد رأینا السُّحّار وسِحْرَهم ، فما هو بنَفْثهم ولا عَقْدهم .
قالوا : فما نقول یا أبا عبد شمس ؟
قال : واللّه إنّ لقوله لَحلاوةً ، وإنّ أصله لَعَذْق(2) وإنّ فرعه لَجَناة ، وما أنتم بقائلین
من هذا شیئاً إلاّ عُرِف أنّه باطل ! وإنّ أقربَ القول فیه لَأنْ تقولوا : ساحر ، جاء بقول هو سِحر یُفَرِّق به بین المرء وأبیه ، وبین المرء وأخیه ، وبین المرء وزوجته ، وبین المرء وعشیرته . فتفرّقوا عنه بذلک ، فجعلوا یجلسون بسُبُل الناس حین قَدِموا الموسم ، لا یمرّ بهم أحدٌ إلاّ حذّروه إیّاه وذکروا لهم أمرَه . وصدرت العربُ من ذلک الموسم بأمررسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فانتشر ذِکرُه فی بلاد العرب کلِّها(3) .
ص: 8
لقد أبطل الولید کلّ ما کانت تقوله قریش فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله . فما هو بکاهن ، ولا مجنون ، ولا شاعر ، ولا ساحر ، بل هو شجرة طیّبة أصلها ثابت وفرعها مُثمِر ، فما علی الولید إلاّ أن یعلن إسلامه إلاّ أنّه عاد فاستکبر فقال : إنْ هو إلاّ سِحر یُؤثَر ! وهذا القول کان قد رفضه أوّلاً .
لقد کان التحدّی الأوّل فی أن یأتوا بمِثْل القرآن ، وذلک قوله تعالی : « قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلی أَن یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لاَ یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ کَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیراً »(1) .
فلمّا عجزوا بل لم یجرّبوا النِّزال ومَضَوا فی غیّهم ، سألهم أن یأتوا بعَشْرِ سُور مُفْتَریات - لمّا زعموا أنّ النبیّ جاء بحدیثٍ مفتریً - فقال لهم : « أَمْ یَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ »(2) .
فکُبکب فرسان الأدب والبلاغة ولم یُجیبوا ، فکان التحدّی الأخیر أن سألهم أن یأتوا بسورة واحدة من مِثله ! « وَإِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلی عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَکُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ »(3) ، « أَمْ یَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ »(4) .
فأُفحموا وما ردّوا جواباً وأظهروا العجز ، فأخبَتَ للحقّ بعضٌ وأظهر إسلامه ، واستکبر بعضٌ فسلک طریق الغوایة .
ص: 9
إبراهیم یُفحم نمرودَ
کان نمرود بن کنعان قد عتا عن أمر ربّه ، وادّعی الربوبیّة ، فحاجّه إبراهیم الخلیل علیه السلام فقطعه : « قَالَ إِبْرَاهِیمُ فَإِنَّ اللّهَ یَأْتِی بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِی کَفَرَ »(1) .
ص: 10
من الأجوبة المُسکِتة المُفحِمة المُقنِعة ، لما فیها من صدق البرهان وقوّة الحجّة ، ما رواه أبو الطُّفیل عامر بن واثلة الصحابیّ(1) ، قال : کنت مع علیّ علیه السلام فی البیت یوم الشوری ، فسمعتُ علیّاً یقول لهم : لأحتجَّنَّ علیکم بما لا یستطیع عربیُّکم ولا عجمیُّکم یُغیّر ذلک .
ثمّ قال : أنشدکم باللّه أیّها النَّفَر جمیعاً ! أفیکم أحدٌ وحّد اللّه قبلی(2) ؟
ص: 11
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدُکم باللّه هل فیکم أحدٌ له أخٌ مثل أخی جعفر الطیّار فی الجنّة مع الملائکة ، غیری ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه هل فیکم أحدٌ له عمٌّ مثل عمّی حمزة أسد اللّه وأسد رسوله سیّد الشهداء ، غیری ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد له زوجة مثل زوجتی فاطمة بنت محمّد سیّدة نساء أهل الجنّة(1) ، غیری ؟
ص: 12
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد له سِبْطان مثل سِبطیَّ الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنّة(1) ، غیری ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد ناجی رسولَ اللّه عشرَ مرّات ، یُقدِّم بین یَدَی
نَجْواه صدقةً(2) قبلی ؟
ص: 13
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد قال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «مَن کنتُ مولاه فعلیّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَن عاداه . لیبلّغ الشاهدُ منکم الغائب»(1) ، غیری ؟
ص: 14
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد قال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «اللّهمّ ائتِنی بأحبِّ الخلق إلیکَ وإلیَّ وأشدِّهم حُبّاً لکَ وحُبّاً لی یأکل معی من هذا الطائر»(1) فأتاه فأکل
ص: 15
معه ، غیری ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه هل فیکم أحد قال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «لأُعطینّ الرّایةَ غداً رجلاً یُحبّ اللّه ورسوله ، ویحبّه اللّه ورسوله ، لا یرجع حتّی یفتح اللّه علی یَدَیه» إذ رجع غیری منهزماً ، غیری(1) ؟
ص: 16
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد قال فیه رسول اللّه لبنی ولیعة : «لَتنتهُنَّ أو لأَبعثَنَّ إلیکم رجُلاً کنفسی ، طاعتُه کطاعتی ، ومعصیتُه کمعصیتی ، یغشاکم بالسیف» ، غیری(1) ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیه : «کذب مَن زَعم أنّه
ص: 17
یُحبّنی ویُبغض هذا»(1) ، غیری ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد قال له جبرئیل : هذه هی المواساة ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إنّه منّی وأنا منه» ، فقال له جبرئیل : وأنا منکما(2) ، غیری ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
ص: 18
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد سلّم علیه فی ساعة ثلاثة آلاف من الملائکة فیهم جبرئیل ومیکائیل وإسرافیل ، حیثُ جئتُ بالماء إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله من القَلیب(1) ، غیری ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد یُقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین علی لسان النبیّ صلی الله علیه و آله ، غیری(2) ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد قال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إنّی قاتلتُ علی تنزیل القرآن ، وتُقاتل أنت علی تأویل القرآن»(3) ، غیری ؟
ص: 19
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد أنزل اللّه فیه آیة التطهیر حیث یقول : « إِنَّمَا یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً »(1) ، غیری ؟
ص: 20
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد وقی رسولَ اللّه بنفسه من المشرکین ، فاضطجع مضطجعه(1) ، غیری ؟
ص: 21
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد بارز عَمرو بن عبدوَدّ حیث دعاکم إلی البراز ، غیری(1) ؟
ص: 22
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم أحد قال له رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله : «أنت منّی بمنزلة هارون من موسی إلاّ أنّه لا نبیّ بعدی» ، غیری(1) ؟
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، هل فیکم مَن رُدّت علیه الشمس حتّی صلّی العصرَ فی وقتها(2) ، غیری ؟
ص: 23
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : فأنشُدکم باللّه ، أتعلمون أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : «إنّی تارک فیکم الثّقلین : کتاب اللّه وعترتی ، لن تضلّوا ما استمسکتم بهما ، ولن یفترقا حتّی یَرِدَا علَیَّ الحوض»(1) ؟
ص: 24
قالوا : اللّهمّ نعم .
قال : فأنشُدکم اللّه ، هل فیکم أحد أمره رسول اللّه صلی الله علیه و آله بأن یأخذ «براءة» من أبی بکر ، فقال له أبو بکر : یا رسول اللّه أنزلَ فیَّ شیء ؟ فقال له : «إنّه لا یُؤدّی عنّی إلاّ علیّ»(1) ، غیری ؟
ص: 25
قالوا : اللّهمّ لا .
قال : نشدتکم باللّه، هل فیکم أحد أقرب إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی الرحم ، ومَن جعله رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله نفسَه ، وابناه ابناءه ، ونساءه نساءه(1) ، غیری ؟
ص: 26
قالوا : اللّهمّ لا .
نکتفی بهذا القدر(1) من محاججة أمیرالمؤمنین علیه السلام لأهل الشوری الذین نصبهم الخلیفة الثانی ، فکانت أجوبته لهم مُفْحمةً لا تقوم لها حجّة ، فلم یکن منهم إلاّ تصدیقه فی کلّ قول ودلیل .
قال رجل من الیهود لعلیٍّ أمیرِ المؤمنین علیه السلام : ما دفنتم نبیّکم حتّی قالت الأنصارُ : منّا أمیرٌ ومنکم أمیر .
فقال له أمیرالمؤمنین : أنتم ما جَفَّت أقدامُکم من ماء البحر حتّی قُلْتُم لنبیِّکم : اجعَلْ لنا إلهاً کما لهم آلهة(2) .
وعن الشعبیّ ، وابن المسیّب قالا : جاء رجل من أحبار الیهود إلی علیّ علیه السلام ، فناظره فقطعه ، فقال له : أنتم ما دفنتم نبیَّکم حتّی اختلفتم فیه .
فقال علیه السلام : کذبتَ ویلک نحن ما اختلفنا فیه ، وإنّما اختلفنا عنه ، وإنّما أنتم ما جفّت
ص: 27
أرجلکم من ماء البحر حتّی قلتم : یا موسی اجعل لنا إلهاً کما لهم آلهة ، فأسلمَ الیهودیّ(1) .
ذمّ رجلٌ الدنیا عند علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، فقال علیّ : «الدنیا دارُ صدقٍ لمن صَدَقها ، ودارُ نجاةٍ لمن فَهِم عنها ، ودار غِنًی لمن تزوّد منها ، ومَهبِطُ وَحْی اللّه ، ومُصلّی ملائکته ، ومسجد أنبیائه ، ومَتجر أولیائه . رَبِحوا فیها الرحمة ، واکتسبوا فیها الجنّة . فمَن ذا الذی یذمُّها وقد آذَنَت بِبَیْنها ، ونادت بفراقِها ، وشَبَّهتْ بسُرورها السُّرورَ ، وببلائها البلاءَ ، ترغیباً وترهیباً . فیا أیُّها الذامُّ للدنیا ، المعلِّلُ نفسه ، متی خدَعتک الدنیا بما استَذمَّت(2) إلیک ؟ بمصارعِ آبائک فی البِلی ، أم بمضاجعِ أمّهاتک فی الثّری ؟! کم مَرَّضت بیدَیک ، وکم علَّلْتَ بکفَّیک ، تطلبُ له الشِّفاء ، وتَستَوصِف له الأطبّاء ، غداةَ لا یُغنی عنه دواؤک ، ولا ینفعه بکاؤک ، ولا تُنْجیه شفقتُک ، ولا تشفع فیه طَلِبتُک !»(3) .
عن أبی سعید الخُدْریّ قال : خرجنا حُجّاجاً مع عمر بن الخطّاب ، فلمّا دخل الطواف استلم الحجَر وقبّله ، وقال : إنّی لَأعلمُ أنّک حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع ، ولولا أنّی رأیتُ رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله یُقبّلک ما قبّلتک !
قال : ثمّ مضی فی الطّواف ، فقال له علیّ بن أبی طالب : إنّه لَیضرُّ وینفع !
فقال له عمر : بِمَ قلتَ ذلک ؟
ص: 28
قال : بکتابِ اللّه .
قال : وأین ذلک من کتاب اللّه ؟
قال : قول اللّه عزّ وجلّ : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِن بَنِی آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّکُمْ قَالُوا بَلَی »(1) ، قال : لمّا خلق اللّه آدمَ علیه السلام مسحَ مَنکبه ، فخرج ذُرّیّتُه مثلُ الذرّ ، فعرّفهم بنفسه أنّه الربّ ، وأنّهم العبید ، وأقرّوا بذلک علی أنفسهم ، وأخذ میثاقهم بذلک ، فکتبه فی رَقٍّ أبیض . قال : وکان هذا الرکن الأسود یومئذٍ له لسان وشفتان وعینان ، فقال له : افتح فاک ، فألقَمَه ذلک الرقّ ، وجعله فی موضعه ، وقال : تشهد لمَنْ وافاک بالموافاة إلی یوم القیامة .
قال : فقال له عمر بن الخطّاب : لا بقیتُ فی قومٍ لستَ فیهم أبا حسَن ، أو قال : لا
عِشتُ فی قوم لستَ فیهم أبا حسَن(2) .
ذکر سِبط ابن الجَوزیّ أنّ ملک الروم کتب إلی عمر بن الخطّاب یسأله عن مسائل ، فعرضها علی الصحابة فلم یجد عندهم جواباً ، فعرضها علی أمیرالمؤمنین علیّ ، فأجاب عنها فی أسرع وقت بأحسن جواب .
قال : قال ابن المسیّب : کتب ملک الروم إلی عمر : مِن قیصر ملک بنی الأصفر ، إلی عمر خلیفة المسلمین . أمّا بعد ، فإنّی مُسائلک عن مسائل فاخبِرْنی عنها :
ما شیء لم یخلقه اللّه ؟ وما شیء لا یعلمه اللّه ؟ وما شیء لیس عند اللّه ؟ وما شیء کلّه فم ؟ وما شیء کلّه رِجْل ؟ وما شیء کلّه عین ؟ وما شیء کلّه جناح ؟ وعن رَجُل لا عشیرة له ، وعن أربعة لم تحمل بهم رحم ، وعن شیء یتنفّس ولیس فیه روح ،
ص: 29
وعن صوت الناقوس ماذا یقول ، وعن ظاعن ظعن مرّة واحدة ، وعن شجرة یسیر الراکب فی ظلّها مائة عام لا یقطعها ما مثلها فی الدنیا ، وعن مکان لم تطلع فیه الشمس إلاّ مرّة واحدةً ، وعن شجرة نبتت من غیر ماء ، وعن أهل الجنّة فإنّهم یأکلون ولا یتغوّطون ولا یبولون ، ما مثلهم فی الدنیا ، وعن موائد الجنّة فإنّ علیها القصاع فی کلّ قصعة ألوان لا یختلط بعضها ببعض ، ما مثلها فی الدنیا ، وعن جاریة تخرج من تفّاحة فی الجنّة ولا ینقص منها شیء ، وعن جاریة تکون فی الدنیا لرجلَین وهی فی الآخرة لواحد ، وعن مفاتیح الجنّة ما هی ؟
فقرأ علیّ الکتاب ، وکتب فی الحال خلفه : «بسم اللّه الرّحمن الرّحیم» ، أمّا بعد ، فقد وقفت علی کتابک أیّها الملک ، وأنا أجیبک بعون اللّه وقوّته وبرکته وبرکة نبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله :
أمّا الشیء الذی لم یخلقه اللّه تعالی فالقرآن ؛ لأنّه کلامُه وصِفتُه ، وکذا الکتب المُنزَلة ، والحقُّ قدیمٌ وکذا صفاتُه .
وأمّا الذی لا یعلمه اللّه فقولُکم : له ولَدٌ وصاحبةٌ وشریک ، ما کان له ولَد وما کان معه من إله ، لم یَلد ولم یُولَد . وأمّا الذی لیس عند اللّه ِ فالظلمُ ، وما ربُّک بظلاّمٍ للعبید . وأمّا الذی کلُّه فمٌ : فالنار تأکل ما یُلقی فیها . وأمّا الذی کلُّه رِجل فالماء(1) . وأمّا الذی کلُّه عینٌ فالشمسُ . وأمّا الذی کلُّه جناح فالرّیح . وأمّا الذی لا عشیرة له فآدم . وأمّا الذی لم یحمل بهم رحم فعصا موسی ، وکبش إبراهیم ، وآدم وحوّاء . وأمّا الذی یتنفّس من غیر روح فالصبحُ ، لقوله تعالی : « وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ »(2) .
وأمّا الناقوس فإنّه یقول : طَقاً طَقاً حقّاً حقّاً مَهْلاً مَهْلاً عَدْلاً عَدلاً صدقاً صِدقاً ، إنّ الدّنیا قد غرّتنا واستَهوتْنا ، تمضی الدنیا قَرناً قَرناً ، ما من یومٍ یمضی عنّا ، إلاّ أوهی
ص: 30
منّا رُکنا ، إنّ الموتی قد أخبرنا أنّا نرحل فاسْتَوطنّا .
وأمّا الظّاعنُ فطُور سَیْناء ، لمّا عَصَت بنو إسرائیل ، وکان بینه وبین الأرض المقدّسة أیّام فقلع اللّه منه قطعة وجعل لها جناحین فنتقه(1) علیهم ، فذلک قوله : « وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ کَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ »(2) ، وقال لبنی إسرائیل : إن لم تؤمنوا
وإلاّ أوقعته علیکم ، فلمّا تابوا ردّه إلی مکانه .
وأمّا الشجرة التی یسیر الراکبُ فی ظلّها مائة عام فشجرة طُوبی ، وهی سِدْرةُ المنتهی فی السماء السابعة إلیها ینتهی أعمال بنی آدم وهی من أشجار الجنّة ، لیس فی الجنّة قصر ولا بیت إلاّ وفیه غُصنٌ من أغصانها ، ومثلها فی الدنیا الشمس أصلُها واحد وضوؤها فی کلّ مکان .
وأمّا الشجرة التی نبتت من غیر ماء فشجرةُ یونس ، وکان ذلک معجزةً له ، لقوله تعالی : « وَأَنبَتْنَا عَلَیْهِ شَجَرَةً مِن یَقْطِینٍ »(3) .
وأمّا غذاء أهل الجنّة فمَثَلُهم فی الدنیا الجنین فی بطن أُمّه ؛ فإنّه یتغذّی من سرّتها ولا یبول ولا یتغوّط .
وأمّا الألوان فی القصعة الواحدة فمثله فی الدنیا البیضة فیها لونان أبیض وأصفر ولا یختلطان .
وأمّا الجاریة التی تخرج من التفّاحة فمثلها فی الدنیا الدّودةُ تخرج من التفّاحة ولا تتغیّر .
وأمّا الجاریة التی تکون بین اثنین فالنخلة التی تکون فی الدنیا لمؤمنٍ مثلی ولکافرٍ مثلک ، وهی لی فی الآخرة دونک لأنّها فی الجنّة وأنت لا تدخلها .
ص: 31
وأمّا مفاتیح الجنّة فلا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه .
قال ابن المسیّب : فلمّا قرأ قیصر الکتاب قال : ما خرج هذا الکلام إلاّ من بیت النبوّة ! ثمّ سأل عن المجیب ، فقیل له : هذا جوابُ ابن عمّ محمّد صلی الله علیه و آله ، فکتب إلیه : سلام علیک ، أمّا بعد فقد وقفتُ علی جوابک وعلمتُ أنّک من أهل بیت النبوّة ومعدن الرسالة وأنت موصوف بالشجاعة والعلم ، وأوثر أن تکشف لی عن مذهبکم ، والروح التی ذکرها اللّه فی کتابکم فی قوله : « وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی »(1) .
فکتب إلیه أمیرالمؤمنین : أمّا بعد ، فالروح نُکتة(2) لطیفة ولُمعة شریفة من صنعة باریها وقدرة مُنشئها ، أخرجها من خزائن مُلکه وأسکنها فی مُلکه(3) ، فهی عنده لک سبب وله عندک ودیعة ، فإذا أخذتَ مالَکَ عنده أخذَ مالَهُ عندَک ، والسلام(4) .
بعد مناظرة ابن عبّاس رضی الله عنه(5) للخوارج یوم النّهروان ، وإقامته الحجّة علیهم ، طلب هؤلاء أن یَخرُج إلیهم أمیرُ المؤمنین علیه السلام لیناظروه ، فخرج إلیهم وقال : أیّها الناس ، أنا علیّ بن أبی طالب ، فتکلّموا بما نقِمتم به علیَّ !
فقالوا : إنّ أوّل ما نقمنا به علیک أنّا قاتلنا یومَ البصرة بین یدیک ، فلمّا أظفرک اللّه
ص: 32
بهم أبَحتَنا ما کان فی عسکرهم ، ومنعتَنا النّساءَ والذرّیّة !
فقال
علیه السلام : یا هؤلاء ، إنّ أهل البصرة قاتَلونا وبدأوا بقتالنا ، فلمّا أظفرَنی اللّه بهم قَسَمتُ بینکم سلب مَن قاتلکم ، ومنعتکم النّساء والذرّیّة ؛ لأنّ النّساء لم یُقاتِلنَ ، والذرّیّة وُلِدوا علی فطرة الإسلام ، فمنعتکم الذرّیّة والنّساء لأجل ذلک ، وقد رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله مَنّ علی أهل مکّة یومَ فتحها فلم یَسبِ نساءَهم ولا ذرّیّتهم . وإذا کان النبیّ صلی الله علیه و آله مَنّ علی المشرکین فلا تعجبوا منّی إذا مَنَنتُ علی المسلمین ، فلم أسبِ نساءهم ولا ذرّیّتهم .
قالوا : إنّا نقمنا علیک غیر هذا ، نقمنا علیک یومَ صِفّین فی وقت الکتاب الذی کتبته بینک وبین معاویة أنّک قلت لکاتبک : اکتُبْ : «هذا ما تقاضی علیه أمیرُ المؤمنین علیّ بن أبی طالب ومعاویة بن أبی سفیان» ، فأبی معاویةُ أنّک أمیرالمؤمنین ، فمَحَوتَ اسمک من الخلافة ، وقلت لکاتبک : اکتُبْ : «هذا ما تقاضی علیه علیُّ بن أبی طالب ومعاویة بن أبی سفیان» ، فإن لم تکن أمیرالمؤمنین فأنت أمیر الکافرین ! ونحن مؤمنون ولا یجب أن تکون أمیراً علینا !
فقال علیه السلام : یا هؤلاء ! إنّکم قد تکلّمتم فاسمعوا الجواب . أنا کنتُ کاتب النبیّ صلی الله علیه و آله یومَ الحدیبیّة ، فقال لی النبیّ صلی الله علیه و آله : اکتب «هذا ما اصطلح علیه محمّد رسولُ اللّه وأهل مکّة» ، فقال أبو سفیان : إنّی لو علِمتُ یا محمّد أنّک رسول اللّه لَما قاتلتک ، ولکن اکتبْ صحیفتک باسمِک واسم أبیک ، فأمرنی رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله ، فمَحَوتُ الرِّسالة من الکتاب وکتبتُ : «هذا ما اصطلح علیه محمّد بن عبد اللّه وأهل مکّة» ، وإنّما محَوتُ اسمی من الخلافة کما محا النبیّ اسمه من الرِّسالة ، فکانت لی به أُسوة .
قالوا : فإنّا نقمنا علیک غیرَ هذا ، إنّک قلت للحکمَیْن : «انظروا فی کتاب اللّه ؛ فإن کنتُ أفضل من معاویة فأثبِتانی فی الخلافة ، وإن کان معاویة أفضل منّی فأثْبِتاه فی الخلافة» ، فإن کنت شاکّاً فی نفسک أنّ معاویة أفضل منک فنحن أعظم شکّاً !
ص: 33
فقال لهم : إنّما أردتُ بذلک النَّصفة لمعاویة ؛ لأنّی لو قلتُ للحکمَین : احکُما لی وذَرا معاویة ، کان معاویة لا یرضی بذلک . وإنّما کان النبیّ صلی الله علیه و آله ، لو قال للنصاری لمّا قَدِموا
علیه من نجران : تعالَوا نبتهل فنجعل لعنة اللّه علیکم ، کانوا لا یَرضَونَ بذلک ، ولکنّه أنصَفَهم فقال : « تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکَاذِبِینَ »(1) ، فأنصَفَهم من نفسه . وکذلک أنا أنصَفت معاویة ، ولم أعلم لِما أراد عمرو بن العاص من خدیعة صاحبی .
قالوا : فإنّا نقمنا علیک غیر هذا ، إنّک حکّمت حکماً فی حقٍّ هو لک .
فقال : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله حکّم سعد بن مُعاذ فی بنی قُرَیظة ولو شاء لم یفعل ، فحَکَم فیهم سعدُ بقتلِ النِّساء والرجال وسَبی الذرّیّة والأموال . وإنّما أقَمتُ حَکَماً کما أقام النبیّ صلی الله علیه و آله لنفسه حَکَماً ، فهل عندکم شیء غیر هذا تحتجّون به علیَّ ؟
فسکت القوم وجعل بعضُهم یقول لبعض : صدق فیما قال ، ولقد دحضَ جمیع ما احتجنا به علیه . ثمّ صاح القوم من کلّ ناحیةٍ ، وقالوا : التوبةَ ، التوبةَ ، یا أمیرَالمؤمنین !
فاستأمن إلیه منهم ثمانیة آلاف ، وبقی علی حربه أربعة آلاف ، طحنهم علیه السلام فی معرکة عُدِم نظیرُها ، فلم یَنج منهم إلاّ دون العشرة ، وهو ما أخبر به علیه السلام أصحابه قبل وقوع المعرکة - معرکة النهروان - فکان الأمر کما قال(2) .
عن الحارث الأعوَر(3) : أنّ علیّاً سأل ابنه الحسن عن أشیاء من أمر المروءة فقال :
ص: 34
یا بُنیّ ما السَّداد ؟ قال : یا أبَه ، السَّداد دَفْعُ المنکر بالمعروف .
قال : فما الشَّرَف ؟ قال : اصطناع العشیرة وحمل الجریرة .
قال : فما المُروءة ؟ قال : العَفاف وإصلاح المرء حالَه .
قال : فما الدقّة ؟ قال : النظر فی الیسیر ومنع ا لحقیر .
قال : فما اللُّؤم ؟ قال : إحراز المرء نفسَه وبَذْله عِرسَه من اللؤم .
قال : فما السَّماحة ؟ قال : العدل فی الیُسْر والعُسْر .
قال : فما الشُحّ ؟ قال : أن تری ما فی یدیک شَرَفاً وما أنفقته تلَفاً .
قال : فما الإخاء ؟ قال : الوفاء فی الشدّة والرخاء .
قال : فما الجبن ؟ قال : الجرأة علی الصدیق والنُّکول عن العدوّ .
قال : فما الغنیمة ؟ قال : الرغبة فی التقوی ، والزهادة فی الدُّنیا هی الغنیمة الباردة .
قال : فما الحِلم ؟ قال : کظْمُ
الغیْظ ومَلْکُ النفس .
قال : فما الغِنی ؟ قال : رضاء النفس بما قسَم اللّه عزّ وجلّ لها وإن قلّ ، فإنّما الغِنی غِنی النفس .
قال : فما الفَقر ؟ قال : شَرَه النفس(1) فی کلّ شیء .
قال : فما المَنَعة ؟ قال : شدّة البأس ومُقارعة أشدّ الناس .
قال : فما الذلّ ؟ قال : الفزع عند المصدوقة(2) .
قال : فما الجرأة ؟ قال : موافقة الأقران .
قال : فما الکُلْفة ؟ قال : کلامک فیما لا یَعنِیک .
قال : فما المجد ؟ قال : أن تُعطی فی الغُرْم وأن تعفو عن الجُرم .
ص: 35
قال : فما العقل ؟ قال : حفظ القلب کلَّ ما استرعیته .
قال : فما الخُرْق(1) ؟ قال : معاداتک لإمامِک ورفعک علیه کلامک .
قال : فما السَّنا ؟ قال : إتیان الجمیل وترک القبیح .
قال : فما الحزْم ؟ قال : طُول الأناة والرفق بالولاة ، والاحتراس من الناس بسوء الظنّ هو الحَزْم .
قال : فما السَّفَه ؟ قال : اتّباع الدُناة ومصاحبة الغُواة .
قال : فما الشرف ؟ قال : موافقة الإخوان وحفظ الجیران .
قال : فما الغفلة ؟ قال : ترکُک المسجد وطاعتک المفسد .
قال : فما الحرمان ؟ قال : ترکُک حظَّک وقد عُرضَ علیک .
قال : ثمّ قال علیّ علیه السلام : یا بنیّ ، سمعتُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : «لا فقرَ أشدّ من الجهل ، ولا مال أعوَد من العقل ، ولا وحدة أوحش من العُجْب ، ولا مُظاهَرَة أَوْثَق من المُشاوَرَة ، ولا عقل کالتدبیر ، ولا حسَب کحسن الخلُق ، ولا ورع کالکفِّ ، ولا عبادة کالتفکّر ، ولا إیمان کالحیاء والصبر ، وآفة الحدیث الکذب ، وآفة العلم النسیان ، وآفة الحلم السَّفَه ، وآفة العبادة الفَتْرة(2) ، وآفة الظَّرَف الصَّلَف ، وآفة الشجاعة البَغْی ، وآفة السَماحة المَنّ ، وآفة الجمال الخُیَلاء ، وآفة الحسَب الفخر .
یا بنیّ ، لا تستَخِفنّ برجلٍ تراه أبداً ، فإن کان أکبرَ منک فعدّ أنّه أبوک ، وإن کان مثْلک فهو أخوک ، وإن کان أصغر منک فاحسب أنّه ولدک(3) .
قال القاضی أبو الفَرَج المعافی بن زکریّا : فی هذا الجزء من جوابات الحسن أباه عمّا ساءله عنه من الحکمة وجزیل الفائدة ما ینتفع به مَن راعاه وحفظه ، ووعاه وعمل
ص: 36
به ، وأدّب نفسه بالعمل علیه ، وهذّبها بالرجوع إلیه ، وتتوفّر فائدته بالوقوف عنده ، وفیما رواه أمیرالمؤمنین عن النبیّ ما لا غنًی لکلّ لبیب عن حفظه وتأمّله ، والمسعود مَن هُدِیَ لتقبّله(1) .
روی الزُّبیر بن بَکّار(2) فی کتاب «المفاخرات» قال : اجتمع عند معاویة عمرو بن العاص ، والولید بن عُقبة بن أبی مُعَیط ، وعُتبة بن أبی سفیان بن حرب ، والمُغیرة بن شُعبة ، وقد کان بَلَغهم عن الحسن بن علیّ علیه السلام قَوارصُ ، وبلغه عنهم مِثلُ ذلک ، فقالوا : یا أمیرَ المؤمنین ، إنّ الحسن قد أحیا أباه وذِکرَه ، وقال فصُدِّق ، وأمَر فأُطیع ، وإنّ ذلک لَرافعُه إلی ما هو أعظم منه ، ولا یزال یَبْلُغنا عنه ما یسوؤنا .
قال معاویة : فما تریدون ؟
قالوا : ابعَثْ علیه فلْیَحضُر لِنَسُبَّه ونَسُبَّ أباه ، ونُعیِّره ونُوبِّخه ونُخبره أنّ أباه قتل
عثمانَ ونُقرِّره بذلک ، ولا یستطیع أن یُغیِّر علینا شیئاً من ذلک !
قال معاویة : إنّی لا أری ذلک ولا أفعله .
قالوا : عَزَمنا علیک یا أمیرالمؤمنین لَتَفعلَنَّ .
فقال : وَیْحکُم لا تفعلوا ! فواللّه ِ ما رأیتُه قطّ جالساً عندی إلاّ خِفتُ مقامَه وعیْبَه لی .
قالوا : ابعَثْ إلیه علی کلّ حال .
قال : إنْ بَعَثْتُ إلیه لَأنصِفَنَّه منکم .
ص: 37
فقال عمرو بن العاص : أن یأتی باطلُه علی حقِّنا ، أو یُرْبِی قولُه علی قولنا ؟!
قال معاویة : أمَا إن بَعَثتُ لاَمُرنّه أن یتکلّم بلسانه کلِّه .
قالوا : مُرْهُ بذلک .
قال : أما إذ عَصَیتمونی ، وبَعَثتم إلیه وأبَیتم إلاّ ذلک فلا تُمرِضوا له فی القول(1) ، واعلَموا أنّهم أهلُ بیتٍ لا یَعیبهم العائب ، ولا یُلصَق بهم العار ، ولکن اقذِفوه بحَجرِه ، تقولون : إنّ أباک قتل عثمان ، وکَرِه خلافة الخلفاء من قَبله . فبعث إلیه معاویة ، فجاءه رسولُه فقال : إنّ أمیرَ المؤمنین یدعوک . قال : مَن عنده ؟ فسمّاهم له . فقال الحسن علیه السلام : ما لَهُم خَرّ علیهم السَّقْفُ من فوقهم ، وأتاهم العذابُ من حیث لا یَشعرون ؟! ثمّ قال : یا جاریة ، ابغِینی ثیابی ، اللّهمّ إنّی أعوذُ بک من شُرورهم ، وأدْرَأُ بک فی نُحورهم ، وأستعینُ بک علیهم ، فاکْفِنِیهم کیف شئتَ وأنّی شئتَ ، بحَولٍ منک وقوّة ، یا أرحم الراحمین .
ثمّ قام ، فلمّا دخل علی معاویة ، أعظَمَه وأکرَمَه وأجلَسَه إلی جانبه ، وقد ارتادَ القوم وخَطَروا خَطَرانَ الفُحول ، بَغْیاً فی أنفسهم وعُلُوّاً ، ثمّ قال : یا أبا محمّد ، إنّ هؤلاء بَعَثوا إلیک وعَصَونی .
فقال الحسن علیه السلام : سبحان اللّه ! الدار دارُک ، والإذنُ فیها إلیک ، واللّه ِ إن کنتَ أجبتَهم إلی ما أرادوا وما فی أنفسهم ، إنّی لَأستحیی لک من الفُحْش ، وإن کانوا غَلَبوک علی رأیک ، إنّی لَأستحیی لک من الضَّعف ، فأیّهما تُقرِّر ، وأیّهما تُنکِر(2) ؟
فقال معاویة : إنّی کَرِهت أن أدعوَک ، ولکن هؤلاء حَمَلونی علی ذلک مع کراهتی
ص: 38
له ، وإنّ لک منهم النَّصَف ومنّی ، وإنّما دَعَوناک لنُقرِّرَک أنّ عثمان قُتل مظلوماً ، وإنّ أباک قتله ، فاستَمِعْ منهم ثمّ أجِبْهم ، ولا تَمنَعْک وَحدَتُک واجتماعُهم أن تتکلّم بکلّ لسانک .
فتکلّم عمرو بن العاص ، فحمد اللّه وصلّی علی رسوله ، ثمّ ذکر علیّاً علیه السلام ، فلم یَترُک شیئاً یَعیبه به إلاّ قاله ، وقال : إنّه شتَم أبا بکر وکَرِه خلافته ، وامتنع من بیعته ، ثمّ بایعه مکرَهاً ، وشَرِک فی دم عمر ! وقَتَل عثمان ظُلماً ، وادّعی من الخلافة ما لیس له !
ثمّ ذکر الفتنة یُعیِّره بها ، وأضاف إلیه مساوئ وقال : إنّکم یا بنی عبد المطّلب لم یکن اللّه لِیُعطیَکم المُلک علی قتلکم الخلفاء ، واستحلالکم ما حرّم اللّه من الدماء ، وحِرْصِکم علی المُلک ، وإتیانِکم ما لا یحلّ . ثمّ إنّک ، یا حسن ، تُحدِّث نفسَک أنّ الخلافة صائرة إلیک ، ولیس عندک عقلُ ذلک ولا لُبّه ، کیف تری اللّه سَلَبک عقلَک وترکک أحمقَ قریش ! یُسخر منک ویُهزأ بک ، وذلک لسوءِ عملِ أبیک . وإنّما دَعَوناک لنسبّک وأباک(1) ؛ فأمّا أبوک فقد تفرّد اللّه به وکفانا أمرَه ! وأمّا أنت فإنّک فی أیدینا نختار فیک الخصال ، ولو قتلناک ما کان علینا إثم من اللّه ، ولا عیب من الناس ! فهل تستطیع أن تردّ علینا وتکذِّبنا ؟ فإن کنت تری أنّا کذبنا فی شیء فاردُدْه علینا فیما قلنا ، وإلاّ فاعلم أنّک وأباک ظالمان !
ثمّ تکلّم الولید بن عُقبة بن أبی مُعَیط ، فقال : یا بنی هاشم ، إنّکم کنتم أخوال عثمان(2) ؛ فنِعمَ الولدُ کان لکم ، فعَرف حقّکم ، وکنتم أصهاره فنِعمَ الصِّهْرُ کان لکم یُکرمکم ، فکنتم أوّلَ مَن حَسَده ، فقتله أبوک ظُلماً ، لا عُذرَ له ولا حجّة ، فکیف تَرَون
ص: 39
اللّه َ طلب بدمه ، وأنزلکم منزلَتَکم ، واللّه ِ إنّ بنی أُمیّة خیرٌ لبنی هاشم من بنی هاشم لبنی أُمیّة ، وإنّ معاویة خیرٌ لک من نفسک !
ثمّ تکلّم عُتْبة بن أبی سفیان ، فقال : یا حسن ، کان أبوک شرّ قریش لقریش ، أسفَکها لدمائها ، وأقطَعَها لأرحامها ، طویلَ السیف واللِّسان ، یقتل الحیَّ ویَعیب المیّت ، وإنّک ممّن قتل عثمان ! ونحن قاتِلوک به ، وأمّا رجاؤک الخلافةَ فلستَ فی زَنْدِها قادحاً ، ولا فی مِیراثها راجحاً ، وإنّکم یا بنی هاشم قتلتم عثمان ، وإنّ فی الحقّ أن نَقتُلک وأخاک به ، فأمّا أبوک فقد کفانا اللّه أمرَه وأقادَ منه ، وأمّا أنت فواللّه ِ ما علینا لو قتلناک بعثمان إثم ولا عدوان !
ثمّ تکلّم المُغیرة بن شُعبة ، فشتم علیّاً وقال : واللّه ما أعیبه فی قضیّةٍ یخون ، ولا فی حُکم یمیل ، ولکنّه قتل عثمان ! ثمّ سکتوا .
فتکلّم الحسن بن علیّ علیه السلام ؛ فحَمِد اللّه وأثنی علیه ، وصلّی علی رسوله صلی الله علیه و آله ، ثمّ قال : أمّا بعدُ یا معاویة ، فما هؤلاء شَتَمونی ولکنّک شَتَمتَنی ، فُحشاً ألِفْتَه وسُوءَ رأیٍ عُرفتَ به ، وخُلُقاً سیّئاً ثَبَتَّ علیه ، وبَغْیاً علینا ؛ عداوةً منک لمحمّدٍ وأهله . ولکن اسمَعْ یا معاویة واسمعوا ، فلأَقولَنّ فیک وفیهم ما هو دون ما فیکم . أنشدُکم اللّه أیّها الرَّهْط ، أتعلمون أنّ الذی شَتَمتُموه منذ الیوم ، صلّی القِبلَتَین کِلیهما ، وأنت یا معاویة کافرٌ تراها ضَلالةً ، وتعبد اللاّتَ والعُزّی غَوایَةً ؟!
وأنشدُکم اللّه َ ، هل تعلمون أنّه بایَعَ البَیعَتَین کِلیهما بَیْعة الفتح وبیعة الرِّضوان ، وأنت یا معاویة بإحداهما کافر ، وبالأُخری ناکث ؟!
وأنشدُکم اللّه َ ، هل تعلمون أنّه أوّل الناس إیماناً ، وأنّک یا معاویة وأباک من المؤلَّفة قلوبُهم ، تُسِرُّون الکفر ، وتُظهرون الإسلام ، وتُستَمالُون بالأموال ؟!
وأنشدُکم اللّه َ ، ألستم تعلمون أنّه کان صاحبَ رایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله یومَ بدر ، وأنّ رایة المشرکین کانت مع معاویة ومع أبیه ، ثمّ لَقِیَکم یومَ أُحد ویوم الأحزاب ، ومعه
ص: 40
رایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ومعک ومع أبیک رایة الشِّرک ؛ وفی کلّ ذلک یفتح اللّه له ویُفلج حُجَّته(1) ، وینصر دعوته ، ویُصدّق حدیثه ، ورسول اللّه صلی الله علیه و آله فی تلک المواطن کلّها عنه راضٍ ، وعلیک وعلی أبیک ساخط ؟!
وأنشدُک اللّه َ یا معاویة ، أتذکر یوماً جاء أبوک علی جملٍ أحمر ، وأنت تسوقه ، وأخوک عُتبة هذا یقوده ، فرآکم رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال : «اللّهمّ العَنْ الراکبَ والقائدَ والسائق» ؟!
أتنسی یا معاویة الشِّعرَ الذی کتبتَه إلی أبیک لمّا همّ أن یُسلم ، تنهاه عن ذلک :
یا صَخرُ لا تُسْلِمَنْ یوماً فتَفضَحَنا * بعد الذی بِبَدرٍ أصبحوا فِرَقا
خالی وعَمّی وعَمُّ الأُمّ ثالثُهم * وحَنْظَلُ الخیرِ قد أهدی لنا الأرَقا
لا تَرْکَنَنَّ إلی أمرٍ تُکلِّفُنا * والراقصات بهِ فی مکّةَ الخُرُقَا
فالموتُ أهوَنُ من قولِ العِداةِ : لَقَد * حادَ ابنُ حَربٍ عن العُزّی إذاً فَرَقا
واللّه لَمَا أخفَیتُ من أمرک أکبرُ ممّا أبدَیتُ !
وأنشدکم اللّه َ أیّها الرَّهْط: أتعلمون أنّ علیّاً حَرَّم الشهوات علی نفسه بین أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله فأُنزِل فیه : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَیِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ »(2) ، وأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله بعثَ أکابرَ أصحابه إلی بنی قُرَیظة فنزلوا من حِصنهم فهُزموا ، فبعث علیّاً بالرایة ، فاستنزلهم علی حُکم اللّه وحُکم رسوله ، وفَعَل فی خَیبر مِثلَها ؟!
ثمّ قال : یا معاویة ، أظنُّک لا تعلم أنّی أعلم ما دعا به علیک رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله لمّا أراد
أن یکتب کتاباً إلی بنی خُزَیمة ، فَبَعث إلیک ابنَ عبّاس ، فوجدک تأکل ، ثمّ بَعَثه إلیک مرّةً أُخری فوجدک تأکل ، فدعا علیک رسول اللّه بجوعک ونَهَمک إلی أن تموت !
وأنتم أیّها الرهط نَشَدتکم اللّه َ ، ألاَ تعلمون أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لَعَن أبا سفیان فی
ص: 41
سبعة مواطن ، لا تستطیعون رَدَّها :
أوّلها : یومَ لَقِیَ رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله خارجاً من مکّة إلی الطائف ، یدعو ثَقیفاً إلی الدِّین ، فوقَعَ به وسَبَّه وسَفَّهَه وشتَمه وتوَعَّدَه ، وهَمّ أن یَبْطِش به ، فلَعَنَه اللّه ُ ورسولُه وصُرِف عنه .
والثانیة : یوم العِیر ؛ إذ عَرَض لها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وهی جائیة من الشام ، فطَرَدَها أبو سفیان ، وساحَل بها ، فلم یظفر المسلمون بها ، ولَعَنَه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ودعا علیه ، فکانت وقعة بدر لأجلها .
والثالثة : یوم أُحُد ، حیث وقف تحت الجبل ، ورسولُ اللّه صلی الله علیه و آله فی أعلاه ، وهو یُنادی : اعْلُ هُبَل ! مراراً ، فلَعَنَه رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله عشر مرّات ، ولَعَنَه المسلمون .
والرابعة : یوم جاء بالأحزاب وغَطفَان والیهود ، فلعنه رسول اللّه وابْتَهَل .
والخامسة : یوم جاء أبو سفیان فی قریش فصَدُّوا رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله عن المسجد الحرام ، والهَدیَ معکوفاً أن یَبْلُغَ مَحِلَّه ، ذلک یوم الحُدَیبیّة ، فلعنَ رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله أبا سفیان ، ولَعَن القادة والأتباع ، وقال : «ملعونون کلُّهم ، ولیس فیهم مَن یُؤمن» ، فقیل : یا رسول اللّه ، أفما یُرجَی الإسلام لأحدٍ منهم ، فکیف باللعنة ؟ فقال : «لا تُصیب اللعنةُ أحداً من الأتباع ، وأمّا القادة فلا یُفلِح منهم أحد» .
والسادسة : یومَ الجمَل الأحمر(1) .
والسابعة : یومَ وقفوا لرسول اللّه صلی الله علیه و آله فی العَقَبة لیستَنفِروا ناقتَه ، وکانوا اثنی عشر رجلاً ، منهم أبو سفیان ؛ فهذا لک یا معاویة .
وأمّا أنت یابنَ العاص ؛ فإنّ أمرک مُشتَرک ، وَضَعَتک أُمُّک مجهولاً ، من عُهْرٍ
ص: 42
وسِفاح ، فتَحاکَم فیک أربعةٌ من قریش(1) ، فغَلَب علیک جَزّارُها ، ألأمُهُم حَسَباً ، وأخبَثُهم مَنصِباً ، ثمّ قام أبوک فقال : أنا شانئُ محمّدٍ الأبْتَر ! فأنزل اللّه فیه ما أنزل(2) .
وقاتَلتَ رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله فی جمیع المشاهد ، وهَجَوتَه وآذَیتَه بمکّة وکِدتَه کیدَک کلَّه ، وکنتَ من أشدّ الناس له تکذیباً وعداوة . ثمّ خرجتَ ترید النَّجاشیَّ مع أصحاب السفینة ، لتأتِیَ بجعفر وأصحابه إلی أهل مکّة ، فلمّا أخطأک ما رجَوتَ ورجَعَک اللّه ُ خائباً ، وأکذَبَک واشِیاً ، جعلتَ حدَّک علی صاحبک عمارة بن الولید ، فوَشَیتَ به إلی النجاشیّ ، حسداً لما ارتکبَ مع حَلِیلَتِک ، ففَضَحک اللّه وفَضَح صاحبَک ! فأنت عدوُّ بنی هاشم فی الجاهلیّة والإسلام . ثمّ إنّک تعلم ، وکلّ هؤلاء الرَّهْط یعلمون أنّک هَجَوتَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله بسبعین بیتاً من الشِّعر ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «اللّهمّ إنّی لا أقول الشِّعر ولا ینبغی لی ، اللّهمّ العَنْهُ بکلِّ حرفٍ ألفَ لعنة» فعلیک إذاً من اللّه ما لا یُحصی من اللَّعن .
وأمّا ما ذکرتَ من أمر عثمان ، فأنت سَعَّرت علیه الدنیا ناراً ، ثمّ لَحِقتَ بفلسطین ، فلمّا أتاک قَتلُه ، قلتَ : أنا أبو عبد اللّه إذا نَکأتُ قَرحةً أدمَیتُها . ثمّ حَبَستَ نفسَک إلی معاویة ، وبِعتَ دینک بدُنیاه ، فلسنا نلومُک علی بُغض ، ولا نُعاتبک علی ودّ ، وباللّه ِ ما نَصَرتَ عثمان حیّاً ولا غَضِبتَ له مقتولاً . وَیحَک یابن العاص ! ألست القائل فی بنی هاشم لمّا خرجتَ من مکّة إلی النجاشیّ :
تقولُ ابنتی : أین هذا الرَّحیل * وما السَّیرُ مِنِّی بِمُستَنکَرِ
فقلتُ : ذَرِینی فإنّی امرؤٌ * أُریدُ النَّجاشِیَّ فی جعفرِ
ص: 43
لِأکوِیَهُ عندَهُ کَیَّةً * أُقِیمُ بها نَخوَةَ الأصعَرِ
وشانئُ أحمدَ من بینهِم * وأقوَلُهُم فیه بالمُنکَرِ
وأجری إلی عُتبةٍ جاهداً * ولو کان کالذَّهبِ الأحمَرِ
ولا أنثنی عن بنی هاشمٍ * وما اسطَعتُ فی الغَیبِ والمَحضَر
فإنْ قَبِلَ العَتبَ منِّی لَهُ * وإِلاّ لَوَیتُ له مِشفَرِی
فهذا جوابُک ، هل سمعته ؟!
وأمّا أنت یا ولید ؛ فواللّه ِ ما ألُومک علی بُغض علیّ ، وقد جَلَدَک ثمانینَ فی الخَمر ، وقتَل أباک بین یَدَی رسول اللّه صَبراً ، وأنت الذی سمّاه اللّه ُ الفاسقَ ، وسمّی علیّاً المؤمنَ ، حیث تَفاخَرتُما فقلت له : اسکُت یا علیّ ، فأنا أشجَعُ منک جَناناً ، وأطوَلُ منک لساناً ، فقال لک علیّ : اسکُت یا ولید ، فأنا مؤمن وأنت فاسق . فأنزل اللّه تعالی فی مُوافَقَة قوله : « أَفَمَن کَانَ مُؤْمِناً کَمَن کَانَ فَاسِقاً لاَ یَسْتَوُونَ »(1) ، ثمّ أنزل فیک علی مُوافقة قوله : « إِن جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا »(2) .
ص: 44
وَیحک یا ولید ! مهما نَسِیتَ ، فلا تَنسَ قولَ الشاعر فیک وفیه :
أنْزلَ اللّه ُ والکتابُ عزیزٌ * فی علیٍّ وفی الولیدِ قُرانا
فتَبوَّی الولیدُ إذ ذاک فِسقاً * وعلیٌّ مُبوَّأٌ إیمانا
لیس مَن کانَ مُؤمناً عَمرَکَ ا * للَّهُ کمَن کانَ فاسِقاً خَوّانا
سوف یُدعَی الولیدُ بعد قلیلٍ * وعلیٌّ إلی الحسابِ عِیانا
فعلیٌّ یُجزی بذاکَ جِناناً * وولیدٌ یُجزی بذاک هَوانا
رُبَّ جَدٍّ لِعُقبَةَ بن أبانٍ * لابِسٍ فی بلادِنا تُبّانا
وما أنت وقریش ؟ إنّما أنت عِلجٌ من أهل صَفُّوریة ، وأُقسِم باللّه ِ لأنت أکبرُ فی المیلاد وأسَنّ ممّن تُدعی إلیه !
ص: 45
وأمّا أنت یا عُتبة ، فواللّه ِ ما أنت بحَصِیفٍ فأُجیبَک ، ولا عاقلٍ فأُحاورَک وأعاتبک ، وما عندک خیرٌ یُرجی ، ولا شرٌّ یُتّقی ، وما عقلُک وعقلُ أمَتِک إلاّ سَواء ، وما یضرّ علیّاً لو سَبَبته علی رؤوس الأشهاد !
وأمّا وعیدک إیّای بالقتْلِ ، فهلاّ قَتَلتَ اللِّحیانیّ إذ وَجَدتَه علی فراشک ؟! أما تستحیی من قول نَصر بن حَجّاج فیک :
یا للِّرِجالِ وحادثِ الأزمانِ * ولِسُبَّةٍ تُخزِی أبا سُفیانِ
نُبِّئتُ عُتبةَ خانَهُ فی عِرسِهِ* جِبسٌ لئیمُ الأصلِ من لِحیانِ
وبعدَ هذا ما أَربأُ بنفسی عن ذِکره لفُحشِهِ ، فکیف یخافُ أحدٌ سیفَک ، ولم تَقتُلْ فاضِحَک ؟! وکیف ألُومک علی بُغض علیّ ، وقد قَتَل خالَک الولید مُبارَزةً یومَ بدر ، وشَرِک حمزةَ فی قتْل جدِّک عُتْبة ، وأوحَدَک من أخیک حنظَلَة فی مقام واحد ؟!
وأمّا أنت یا مُغیرة ، فلم تکن بخَلیقٍ أن تقع فی هذا وشِبهِه ، وإنّما مَثَلُک مَثَلُ البعوضة إذ قالت للنخلة : استَمسِکی ؛ فإنّی طائرةٌ عنکِ ! فقالت النخلة : وهل عَلِمتُ بکِ واقعةً علَیَّ فأعلَمَ بکِ طائرةً عنّی ؟!
واللّه ِ ما نشعرُ بعداوتِک إیّانا ، ولا اغتَمَمنا إذ عَلِمنا بها ، ولا یَشُقّ علینا کلامُک ، وإنّ حدَّ الزِّنا لَثابتٌ علیک ، ولقد دَرَأ عمرُ عنک حقّاً ، اللّه ُ سائلُه عنه .
ولقد سألتَ رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله : هل ینظر الرجل إلی المرأة یرید أن یتزوّجها ؟ فقال : «لا بأسَ بذلک یا مُغیرة ما لم یَنْوِ الزِّنا» ، لعلمِه بأنّک زانٍ . وأمّا فَخرُکم علینا بالإمارة ، فإنّ اللّه تعالی یقول : « وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِکَ قَرْیَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِیهَا فَفَسَقُوا فِیهَا فَحَقَّ عَلَیْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِیراً»(1) .
ثمّ قام الحسن فنفضَ ثوبه ، وانصرف . فقال معاویة : قد أنبأتکم أنّه ممّن لا تُطاق
ص: 46
عارِضَتُه ، ونَهَیتُکم أن تَسُبّوه فعَصَیتمونی ، واللّه ِ ما قام حتّی أظلَم علَیَّ البیت ، قُومُوا عنّی ، فلقد فَضَحکمُ اللّه ُ وأخزاکم بترککم الحَزم ، وعُدولِکم عن رأی الناصح المُشفق ، واللّه المُستعان(1) .
قال الحسنُ علیه السلام لحبیب بن مَسلَمة : رُبَّ مسیرٍ لکَ فی غیر طاعة اللّه .
فقال : أمّا مسیری إلی أبیک فلا !
قال : بلی . ولکنّک أطعتَ معاویةَ علی دنیا قلیلة . ولَعَمْری لئِنْ قام بِکَ فی دنیاک لقد قعَدَ بک فی دینک . ولو أنّک إذ فعلتَ شرّاً قلتَ خیراً کما قال اللّه تعالی : « خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَیِّئاً »(2) ! ولکنّک فعلتَ شرّاً وقلتَ شرّاً ، کما قال اللّه تعالی : « کَلاَّ بَلْ رَانَ عَلی قُلُوبِهِم مَا کَانُوا یَکْسِبُونَ »(3) .(4)
قال الشعبیّ : کان معاویة کالجمل الطَّبِّ(5) ، قال یوماً والحسن علیه السلام عنده : أنا ابنُ بحرِها جُوداً ، وأکرمِها جُدوداً ، وأَنضَرِها عُوداً !
فقال الحسن : أفعلیَّ تفخر ؟ أنا ابن عُروقِ الثَّری ، أنا ابن سیّد أهل الدّنیا ، وأنا ابنُ مَن رضاه رضا الرحمن ، وسُخْطُه سُخْطُ الرحمن . هل لک یا معاویةُ من قدیم تُباهی
ص: 47
به ، أو أبٍ تُفاخرنی به ؟ قل لا أو نعم ، أیَّ ذلک شِئتَ ، فإن قلتَ لا أثْبَتَّ ، وإن قلت نعم عُرِفتَ .
قال معاویة : فإنّی أقول ، لا تصدیقاً لک .
فقال علیه السلام :
الحقُّ أَبلَجُ ما یُخیلُ سبیلُهُ * والحقُّ یعرِفُه ذَوو الألبابِ(1)
بینما معاویة بن أبی سفیان جالس فی أصحابه إذ قیل له : الحسن بالباب .
فقال معاویة : إن دخل أفسد ما نحن فیه !
فقال له مروان بن الحکم : ائذَنْ له ؛ فإنّی أسأله ما لیس عنده فیه جواب .
قال معاویة : لا تفعل ؛ فإنّهم قوم أُلهموا الکلام ، وأذِن له . فلمّا دخل وجلس ، قال له مروان : أسرعَ الشَّیبُ إلی شاربک یا حسن ، ویقال إنّ ذلک من الخُرْق !
فقال الحسن : لیس کما بَلَغک ، ولکنّا معشرَ بنی هاشم أفواهُنا عَذْبةٌ شِفاهُها ، فنساؤنا یُقْبِلن علینا بأنفاسهنّ وقُبَلهنّ ، وأنتم معشر بنی أُمیّة فیکم بَخَر(2) شدید ، فنساؤکم یَصرِفنَ أفواههنّ وأنفاسَهنّ عنکم إلی أصداغکم(3) ؛ فإنّما یشیب منکم موضعُ العِذار(4) من أجل ذلک .
قال مروان : إنّ فیکم یا بنی هاشم خصلةَ سَوء !
قال : وما هی ؟
ص: 48
قال : الغُلْمة(1) .
قال : أجل ، نُزِعت الغُلمةُ من نسائنا ووُضعت فی رجالنا ، ونُزعت الغُلمة من رجالکم ووُضعت فی نسائکم ، فما قام لأُمویّة إلاّ هاشمیّ !
فغضب معاویة وقال : قد کنتُ أخبرتکم فأبَیتم حتّی سمعتم ما أظلم علیکم بیتکم وأفسد علیکم مجلسکم(2) !
لَقِی عمرو بن العاص الحسنَ بن علیّ علیهماالسلام فی الطواف ، فقال : یا حسن ، أزعمتَ أنّ الدِین لا یقوم إلاّ بک وبأبیک ؟ فقد رأیت اللّه أقامه بمعاویة ، فجعله ثابتاً بعد مَیله ، وبیّناً بعد خفائه . أفیرضی اللّه قتل عثمان ، أم من الحقّ تدور بالبیت کما یدور الجمل بالطحین ؟ علیک ثیاب کغُرقئ البیض ، وأنت قاتلُ عثمان ، واللّه إنّه لَألمُّ للشَعث ، وأسْهل للوعْث أن یوردک معاویة حیاضَ أبیک !
فقال الحسن صلوات اللّه علیه : إنّ لأهل النّار علاماتٍ یُعرفون بها وهی : الإلحادُ فی دین اللّه ، والموالاة لأعداء اللّه ، والانحراف عن دین اللّه ، وإنّک لَتعلم أنّ علیّاً لم یتریّث فی الأمر ، ولم یشکّ فی اللّه طرفةَ عَین . وأَیْمُ اللّه لَتنتهینّ یابنَ العاص ، أو لَأقرعنّ قُصّتک(3) بقراع وکلام ، وإیّاک والجرأة علیَّ ؛ فإنّی مَن عرفتَ لستُ بضعیف المَغمَز ، ولا بِهشِّ المُشاشة(4) ، ولا بمریء المأکلة ، وإنّی لَمِن قریش کأوسطِ القِلادة ، مُعرِقٌ حسبی لا أُدعی لغیر أبی . وقد تحاکمتْ فیک رجال من قریش فغضب(5) علیک ألأمها حسَباً ، وأعظمها لعنة ، فإیّاک عنّی ! فإنّما أنت نجس ، ونحن أهل بیت الطهارة أذهب اللّه عنّا الرِّجْسَ وطهّرنا تطهیراً(6) .
ص: 49
لمّا خرج حَوْثَرة الأسدیّ(1) ، وجّه معاویة إلی الحسن علیه السلام یسأله أن یکون المتولِّیَ لمحاربة الخوارج ، فقال : واللّه ِ ، لقد کَفَفْتُ عنک لحقْنِ الدماء ، وما أحسِب ذلک یَسَعُنی . أفأُقاتل عنک قوماً أنت واللّه ِ بقتالی أولی منهم(2) ؟!
وأتاه رجل ، فقال : إنّ فلاناً یقَعُ فیک . قال : ألقیتَنی فی تعب ، أُرید الآن أن أستغفر اللّه لی وله(3) .
وروی عن رجلٍ من أهل الشام ، قال : دخلتُ المدینةَ ، فرأیتُ راکباً علی بغلة لم أرَ أحسنَ وجهاً ولا سَمْتاً ولا ثوباً ولا دابّةً منه ، فمال قلبی إلیه ، فسألت عنه ، فقیل : هذا الحسن بن علیّ بن أبی طالب . فامتلأ قلبی له بُغضاً ! وحسدتُ علیّاً أن یکون له ابن مثلُه ! فصِرتُ إلیه فقلت : أنت ابن أبی طالب ؟
فقال : أنا ابنُ ابنِه .
قلتُ : فَبِک وبأبِیک ! أسبُّهما .
فلمّا انقضی کلامی قال : أحسبُک غریباً .
قلت : أجل .
قال : فمِلْ بنا ، فإن احتجتَ إلی منزل أنزلناکَ ، أو إلی مالٍ آسیناکَ ، أو إلی حاجةٍ عاوَنّاک .
ص: 50
قال : فانصرفتُ وما علی الأرض أحَبُّ إلیَّ منه(1) .
قال معاویة ، وعنده أشراف الناس من قریش وغیرهم : أخبِرونی بأکرم الناس أباً وأُمّاً وعمّاً وعمّةً وخالاً وجدّاً وجدّة .
فقام مالک بن العَجْلان(2) ، وأومأ إلی الحسن بن علیّ صلوات اللّه علیه ، فقال : هو ذا ؛ أبوه علیّ بن أبی طالب ، وأمّه فاطمة بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وعمّه جعفر الطیّار ، وعمّته أُمّ هانئ بنت أبی طالب ، وخاله القاسم ابن رسول اللّه ، وخالته زینب بنت رسول اللّه ، وجدّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وجدّته خدیجة بنت خُوَیلِد .
فسکت القوم ، ونهض الحسن ، فأقبل عمرو بن العاص علی مالک ، فقال : أَحُبُّ بنی هاشم حَملَک علی أن تکلّمتَ بالباطل ؟!
فقال ابن عجلان : ما قلتُ إلاّ حقّاً ، وما أحدٌ من الناس یطلب مرضاة مخلوق بمعصیة الخالق إلاّ لم یُعطَ أُمنیته فی دنیاه ، وخُتِم له بالشقاء فی آخرته . بنو هاشم أنضَرُکم عُوداً ، وأَوْراکم زَنْداً ؛ أکذلک هو یا معاویة ؟
قال : اللّهمّ نعم(3) .
أتی الحسن بن علیّ رضی اللّه عنهما معاویةَ بن أبی سفیان وقد سبقه ابنُ العبّاس رحمه الله ، فأمر معاویةُ بإنزاله . فبینا معاویة مع عمرو بن العاص ، ومروان بن
ص: 51
الحکم ، وزیاد المُدعی إلی أبی سفیان ، یتحاورون فی قدیمهم ومجدهم إذ قال معاویة : قد اکثرتم الفَخْرَ ، ولو حضَرَکم الحسن بن علیّ وعبد اللّه بن عبّاس لقصروا(1) من أعنّتکم .
فقال زیاد : وکیف ذاک وما یقومان لمروان بن الحکم فی غرب منطقه(2) ، ولا لنا فی بَواذِخنا(3) ! فابعث إلیهما فی غد .
فبعث معاویة بابنه یزید إلیهما ، فأتیا فدخلا علیه ، وبدأ معاویة فقال : إنّی أُجِلّکما وأرفعکما علی المسامر فی اللیل ولاسیّما أنت یا أبا محمّد ؛ فإنّک ابن رسول اللّه وسیّد شباب أهل الجنّة . فشکر له ، فلمّا استَوَیا فی مجلسهما قال عمرو : یا حسن ، إنّا قد تَفاوَضْنا فقُلنا : إنّ رجال بنی أُمیّة أصبَرُ علی اللِّقاء وأمضی فی الوغاء وأوفی عهداً وأکرم ضیماً وأمنع لما وراء ظهورهم من بنی عبد المطّلب .
ثمّ تکلّم مروان بن الحکم ، فقال : کیف لا یکون ذلک وقد قارَعْناهم فغلبناهم ، وحاربناهم فملکناهم ؟! فإن شئنا عَفَونا وإن شئنا بَطَشنا .
ثمّ تکلّم زیاد ، فقال : ما ینبغی لهم أن یُنکروا الفضل لأهله ، ویجحدوا الخیر فی مظانّه ؛ نحنُ الحملة فی الحروب ، ولنا الفضلُ(4) علی سائر الناس قدیماً وحدیثاً !
فتکلّم الحسن بن علیّ رضی الله عنه ، فقال : لیس من الحزمِ أن یصمت الرجل عن إیراد الحجّة ، ولکن من الإفک أن ینطق الرجل بالخَنا(5) ویصوّر الکذب فی صورة الحقّ . یا عمرو ، أفتخاراً بالکذب ، وجرأةً علی الإفک ؟! ما زلتُ أعرف مثالبَک الخبیثة أبَدیَّها .
ص: 52
أتذکر مصابیح الدُّجی ، وأعلام الهدی ، وفرسان الطِّراد ، وحُتوف الأقران ، وأبناء الطِعان ، وربیع الضِیفان ، ومَعدِن العِلم ، ومهبط النبوّة ؟ وزعمتم أنّکم أحمی لما وراءِ ظهورکم ؛ وقد تبیّن ذلک یوم بَدْر حین نکَصَتِ(1) الأبطال ، وتساورتِ(2) الأقران ، واقتحمت اللیوث ، واعترکت المنیّة ، وقامت رَحاها علی قُطبها ، وفَرَّت عن نابها ، وطار شَرَرُ الحرب ، فقَتَلْنا رجالکم ، ومَنّ النبیُّ صلی الله علیه و آله علی ذراریکم ، وکنتم لَعَمْری فی هذا الیوم غیر مانعین لما وراء ظهورکم من بنی عبد المطّلب .
ثمّ قال : وأمّا أنت یا مروان ، فما أنت والإکثار فی قریش ؟ وأنت طلیق بن طلیق ، وأبوک طرید تتقلّب فی خزایة إلی سوءة ، وقد أُتی بک إلی أمیرالمؤمنین یوم الجمل ، فلمّا رأیتَ الضرغام قد دَمِیَتْ بَراثِنُه واشتبکت أنیابه ، کنتَ کما قال الأوّل :
بَصْبَصْنَ ثمّ رَمَیْنَ بالأبعارِ
فلمّا مَنّ علیک بالعفو وأرخی خِناقَک بعد ما ضاق علیک وغَصَصتَ بِریقِک ؛ لا تقعد منّا مقعد أهل الشُّکر ولکن تُساوینا وتُجارینا ، ونحن مَن لا یدرکنا عارٌ ولا یلحقنا خزایة .
ثمّ التفت إلی زیاد وقال : وما أنت یا زیاد وقریش ؟! ما أعرف لک فیها أدیماً صحیحاً ولا فرعاً نابتاً ولا قدیماً ثابتاً ولا مَنبتاً کریماً ؛ کانت أُمُّک بغیّاً یتداولها رجالات قریش وفجّار العرب ، فلمّا وُلِدتَ لم تعرف لک العربُ والداً ، فادّعاک هذا - یعنی معاویة - فما لک والافتخار ؟! تکفیک سُمیّة(3) ، ویکفینا رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله ، وأبی سیّد المؤمنین الذی لم یرتدّ علی عَقِبَیه ، وعمّای حمزة سیّد الشهداء وجعفر الطیّار فی الجنّة ، وأنا وأخی سیّدا شباب أهل الجنّة . ثمّ التفت إلی ابن العبّاس فقال : إنّما هی
ص: 53
بُغاث(1) الطّیر انقضّ البازیّ علیها . فأراد ابن العبّاس أن یتکلّم ، فأقسم علیه معاویة أن یکفّ فکفّ .
ثمّ خرجا ، فقال معاویة : أجاد عمرو الکلامَ أوّلاً لولا أنّ حُجّته دُحِضَت ! وقد تکلّم مروان لولا أنّه نَکَص ! ثمّ التفت إلی زیاد فقال : ما دعاک إلی محاورته ؟ ما کنتَ إلاّ کالحَجْلِ فی کفّ العُقاب !
فقال عمرو : أفلا رمیتَ من ورائنا ؟
قال معاویة : إذاً کنتُ شریککم فی الجهل ! أَفأُفاخِر رجلاً رسولُ اللّه جدُّه وهو سیّد مَن مضی ومَن بقی ، وأُمّه فاطمة سیّدة نساء العالمین ؟! ثمّ قال : واللّه ِ لئن سمع أهلُ الشام ذلک إنّه لَلسّوءةُ السَّوْآء .
فقال عمرو : لقد أبقی علیک ، ولکنّه طحن مروان وزیاداً طَحْنَ الرَحی بثِفالِها ووطئهما وط ء البازلِ القُرادَ بمنسمه .
فقال زیاد : واللّه ِ لقد فعل ، ولکنّک یا معاویة ترید الإغراء بیننا وبینهم ، لا جرَم واللّه ِ لا شهدتُ مجلساً یکونان فیه إلاّ کنتُ معهما علی مَن فاخَرَهما(2) !
فخلا ابنُ عبّاس بالحسن رضی الله عنه فقبّل بین عینیه ، وقال : أفدیک واللّه ِ ، ما زال بَحرک یَزخَر وأنت تصول حتّی شفیتنی من أولاد البغایا(3) !
ثمّ إنّ الحسن رضی الله عنه غاب أیّاماً ، ثمّ رجع حتّی دخل علی معاویة وعنده عبد اللّه بن
ص: 54
الزبیر ، فقال معاویة : یا أبا محمّد ، إنّی أظنّک تَعِباً ، فأتِ المنزلَ فأرِح نفسک .
فقام الحسن فخرج ، فقال معاویة لعبد اللّه بن الزبیر : لو افتخرتَ علی الحسن فأنت ابن حَواریّ رسول اللّه وابنُ عمّته ، ولأبیک فی الإسلام نصیب وافر !
فقال ابن الزبیر : أنا له .
ثمّ جعل لیلته یطلب الحُجَج ، فلمّا أصبح دخل علی معاویة وجاء الحسن ، فلمّا استوی فی مجلسه قال له ابن الزبیر : لولا أنّک خَوّار فی الحروب غیر مِقْدام ما سلّمتَ لمعاویة الأمر ، وکنت لا تحتاج إلی اختراق السهول تطلب معروفه ، وکنت حَرِیّاً أن لا تفعل . أما واللّه ِ لو استجمع لی ما استجمع لک لَعلمتَ أنّنی ابن الزّبیر ، وأنّنی لا أنکص عن الأبطال . وکیف لا أکون کذلک وجدّتی صفیّة بنت عبد المطّلب ، وأبی الزّبیر حَواریّ رسول اللّه ، وأشدّ الناس بأساً ، وأکرمهم حسباً فی الجاهلیّة ، وأطوعهم لرسولِ اللّه ؟!
فالتفتَ الحسنُ إلیه وقال : واللّه ِ لولا أنّ بنی أُمیّة تنسبنی إلی العجز عن المقال لَکففتُ عنک تهاوناً بک ! أإیّای تُعیّر وعلیَّ تفتخر ؟! لجدّک فی الجاهلیّة مکرمة :تَزوُّجه عمّتی صفیّة بنت عبد المطّلب ، فبَذَخ بها علی جمیع العرب وشَرُف بمکانها ،فکیف تفاخر مَن فی القلادة واسطتها وفی الأشراف سادتها ؟ نحن أکرم أهل الأرض زنداً ، لنا المشرق الثاقب والکرم الغالب . ثمّ تزعم أنّی سلّمت الأمر إلی معاویة ! فکیف یکون ویحک کذلک وأنا ابنُ أشجع العرب ؟! ولدتنی فاطمةُ سیّدة النساء وخیرُ الأُمّهات ، لم أفعل ویحک ذلک جُبناً ولا فَرَقاً ، ولکنّه بایَعَنی مِثلُک وهو یطلب یَثْرَة(1) ویُداجینی المودّة فلم أثق بنصرته ؛ لأنّکم بیتُ غدرٍ وأهل إحَن ووتر ، فکیف لا تکون کما أقول ، وقد بایع أمیرَ المؤمنین أبوک ثمّ نکث ونکص علی عقبیه واختدع
ص: 55
حشیة(1) من حشایا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، لیُضلّ بها الناس ؟! فلمّا دلَف نحو الأعنّة ورأی بَریق الأسنّة قُتل بمضیعة لا ناصر له ، وأُتی بک أسیراً وقد وطئتک الکُماةُ بأظلافها والخیلُ بسنابکها ، واعتلاک الأشتر فغَصَصتَ بریقِک وأقعَیتَ علی عقبیک . فنحن ویحک نور البلاد وأملاکها ، وبنا تفتخر الأمّة ، وإلینا تُلقی مقالید الأزمّة ، نَصُول وأنت تختدع النساء ، ثمّ تفتخر علی بنی الأنبیاء . لم تَزَل الأقاویل بنا مقبولة ، وعلیک وعلی أبیک مردودة . دخل الناس فی دین جدّی طائعین وکارهین ، ثمّ بایعوا أمیرالمؤمنین صلواتُ اللّه علیه ، فسار إلی أبیک وطلحة حین نکثا البیعة وخَدَعا عِرْس رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقُتلا عند نکثهما بیعته ، وأتی بک أسیراً تُبَصبِص بذَنَبِک ، فناشدتَه الرَّحمَ أن لا یقتلک فعفا عنک ، فأنت عَتاقَةُ أبی ، وأنا سیّدک وأبی سیّد أبیک(2) ، فذُق وَبالَ أمرک .
فقال ابن الزبیر : اعذُرنا أبا محمّد ، فإنّما حَمَلنی علی محاورتک هذا ، واشتهی الإغراء
بیننا ، فهلاّ إذ جهلتُ أمسکتَ عنّی ! فإنّکم أهلُ بیتٍ سجیّتکم الحِلْم .
قال الحسن : یا معاویة ،انظر ، أأکَعُ عن محاورة أحدٍ ویحک ؟! أتدری من أیّ شجرة أنا ، وإلی مَن أنتمی ؟ انتهِ عنّی قبل أن أَسِمَک بِسِمةٍ یتحدّث بها الرُّکبان فی آفاق البلدان !
قال ابن الزبیر : هم لذلک أهل .
فقال معاویة : أما إنّه قد شَفَا بَلابِلَ صدری منک ورمی فقتلَک ، فبقیتَ فی یدِه کالحجل فی کفّ البازی یتلاعب بک کیف شاء ، فلا أراک تفتخر علی أحد بعد هذا(3) .
ص: 56
قال أنس : کنتُ عند الحسین علیه السلام ، فدَخَلتْ علیه جاریة بیدها طاقةُ ریحان فحَیَّته بها ، فقال لها : أنتِ حُرّةٌ لوجه اللّه تعالی ، فقلتُ له : تُحیِّیک بطاقةِ ریحان لا خطر لها فتُعتقُها ؟!
قال : کذا أدَّبَنا اللّه ُ جلّ جلاله ، قال : « وَإِذَا حُیِّیتُم بِتَحِیَّةٍ فَحَیُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا »(1) ، فکان أحسن منها عِتقُها(2) .
وجنی غلام له جنایة تُوجب العقابَ علیه ، فأمر به أن یُضرَب ، فقال : یا مولای « وَالْکَاظِمِینَ الْغَیْظَ » .
قال : خَلُّوا عنه .
قال : یا مولای « وَالْعَافِینَ عَنِ النَّاسِ » .
قال : قد عفوتُ عنک .
قال : یا مولای « وَاللَّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ »(3) .
قال : أنت حرٌّ لوجه اللّه ، ولک ضِعف ما کنتُ أُعطیک(4) .
ولمّا قتلَ معاویةُ حُجْرَ بن عَدیّ وأصحابَه ، لَقِی فی ذلک العام الحسینَ علیه السلام ، فقال : یا
أبا عبد اللّه ، هل بلغَکَ ما صنعتُ بحجرٍ وأصحابه من شیعة أبیک ؟!
فقال : لا .
ص: 57
قال : إنّا قتلناهم وکفنّاهم وصلّینا علیهم .
فضحک الحسین علیه السلام ، ثمّ قال : خَصَمَکَ القومُ یومَ القیامة یا معاویة . أمَا واللّه لو وَلِینا مثْلَها من شیعتک ما کفّنّاهمْ ولا صلّینا علیهم(1) . وقد بلغنی وقوعُک بأبی حسنٍ ، وقیامُک واعتراضک بنی هاشم بالعیُوبِ ، وأیمُ اللّه لقد أوتَرْتَ غیرَ قوسک ، ورمیْتَ
غیرَ غَرَضِک ، وتَناولْتَها بالعداوة من مکانٍ قریب ، ولقد أطعتَ امرءاً ما قَدُمَ إیمانُه ، ولا حَدُث نِفاقُه ، وما نظرَ لکَ ، فانظُرْ لنفْسِک أو دَعْ . یرید : عمرو بن العاص(2) .
عن عِکْرمة عن ابن عبّاس : بینما هو یُحدِّث الناس ، إذ قام إلیه نافع بن الأزرق ، الخارجیّ فقال له : یا ابنَ عبّاس ، تُفتی الناس فی النملة والقملة ، صِفْ إلهَک الذی تعبد !
فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لقوله ، وکان الحسین بن علیّ جالساً ناحیةً ، فقال : إلیَّ
یا ابنَ الأزرق .
قال : لستُ إیّاک أسأل !
قال ابن عبّاس : یا ابن الأزرق ! إنّه من أهل بیت النبوّة ، وهم ورثَةُ العلم .
فأقبل نافع نحو الحسین ، فقال له الحسین : یا نافع ، إنّ مَن وضع دینَه علی القیاس لم یَزَل الدهرَ فی التباس ، سائلاً ناکباً عن المنهاج ، طاعناً بالاعوجاج ، ضالاًّ عن السبیل ، قائلاً غیرَ الجمیل . یا ابن الأزرق ، أصِفُ إلهی بما وَصَف به نفسَه : لا یُدرَک بالحواسّ ، ولا یُقاس بالنّاسِ ، قریبٌ غیر مُلتصِق ، بعیدٌ غیرُ مُنتقِص ، یُوحَّد ولا یُبَعَّض ، معروف بالآیات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الکبیرُ المتعال .
فبکی ابن الأزرق ، وقال : یا حسین ، ما أحسنَ کلامَک !
ص: 58
قال له الحسین : بلغنی أنّک تشهد علی أبی وعلی أخی بالکفرِ وعلیَّ .
قال ابن الأزرق : أمَا واللّه یا حسین ، لئن کان ذلک لقد کنتم منارَ الإسلام ، ونُجومَ
الأحکام .
فقال له الحسین : إنّی سائِلُک عن مسألةٍ .
قال : سَلْ .
فسأله عن هذه الآیة : « وَأَمَّا الْجِدَارُ فَکَانَ لِغُلاَمَیْنِ یَتِیمَیْنِ فِی الْمَدِینَةِ »(1) . یا ابن الأزرق ، مَن حُفِظ فی الغلامَین ؟
قال ابن الأزرق : أبوهما .
قال الحسین : فأبوهما خیرٌ أم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟
قال ابن الأزرق : قد أنبأ اللّه تعالی أنّکم قومٌ خَصِمُون(2) !
عن جعفر بن محمّد ، عن أبیه ، عن جدّه علیهم السلام ، قال : کان الحسین بن علیّ علیهماالسلام یصلّی ، فمرّ بین یدَیه رجل فنهاه بعض جُلَسائه ، فلمّا انصرف من صلاته قال له : لم
نهیتَ الرجل ؟
فقال : یا ابن رسول اللّه ، خَطَر فیما بینک وبین المحراب .
فقال : ویحک ، إنّ اللّه عزّ وجلّ أقرب إلَیّ من أن یخطر فیما بینی وبینه أحد(3) .
ص: 59
بعد شهادة الحسین بن علیّ علیهماالسلام ، أُدخل عیاله علی عبید اللّه بن زیاد ، فکلّم ابنُ زیاد زینبَ بنت علیّ علیهماالسلام ، فردّت علیه فأفحمته(1) . ثمّ التفتَ إلی علیّ بن الحسین فسأله عن اسمه ، فقال : علیّ بن الحسین .
فقال : أوَلمْ یُقتل علیّ بن الحسین ؟
قال : ذاک أخی ، وکان أکبر منّی فقتلتموه .
قال ابن زیاد : ولکنّ اللّه قتله .
فقال علیّ : « اللَّهُ یَتَوَفَّی الأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِهَا »(2) ، « وَمَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ »(3) .
فأمر ابن زیاد بأن یُکشَف عنه ، فأُخبر أنّه قد أدرک ، فأمر بقتله ، فتعلّقت به عمّته زینب ، وأقبل علیّ علی ابن زیاد ، فقال : أبالقتلِ تُهدّدنی ؟! أما علِمتَ أنّ القتل لنا عادة وکرامتنا الشهادة ، فسکت ابن زیاد(4) .
بعد وقعة الطّفّ ، أُتی بحرمِ رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتّی أُدخلوا مدینة دمشق ، فأُوقفوا علی درج باب المسجد حیث یقام السَّبیّ ، فأقبل شیخ حتّی دنا منهم وقال : الحمد للّه الذی قتلکم وأهلککم وأراح الرجال من سطوتکم ، وأمکن أمیرالمؤمنین منکم !
فقال له علیّ بن الحسین : یا شیخ ، هل قرأتَ القرآن ؟
ص: 60
فقال : نعم قد قرأتُه .
قال : فعرفتَ هذه الآیة : « قُل لاَ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »(1) ؟
قال الشیخ : قد قرأتُ ذلک .
قال علیّ بن الحسین : فنحن القُربی یا شیخ .
قال : فهل قرأتَ فی سورة بنی إسرائیل : « وَآتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ »(2) ؟
قال الشیخ : قد قرأتُ ذلک .
فقال علیّ : نحن القُربی یا شیخ ، ولکن هل قرأتَ هذه الآیة : « وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبی »(3) ؟
قال الشیخ : قد قرأتُ ذلک .
قال علیّ : فنحن ذو القُربی یا شیخ . ولکن هل قرأت هذه الآیة : « إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ
لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً »(4) ؟
قال الشیخ : قد قرأتُ ذلک .
قال علیّ : فنحن أهلُ البیت الذین خُصِصنا بآیة الطهارة .
فبقی الشیخ ساعة ساکتاً نادماً علی ما تکلّمه ، ثمّ رفع رأسه إلی السماء ، وقال : اللّهمّ إنّی تائب إلیک ممّا تکلّمته ومن بغْضِ هؤلاء القوم ، اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک من عدوّ محمّدٍ وآلِ محمّدٍ من الجنّ والإنس(5) .
قال علیّ بن الحسین ، وقد قیل له : ما بالُکَ إذا سافرتَ کتَمتَ نسَبَک أهلَ الرِفقة ؟
ص: 61
قال : أکره أن آخُذ برسول اللّه صلی الله علیه و آله ما لا أُعطی مِثلَه(1) .
قیل له : مَن أعظَمُ الناس خَطَراً(2) ؟
قال : مَن لم یَرَ الدنیا خَطَراً لنفسه(3) .
وتزوّج أَمَةً له أعتقها ، فلامَه عبدُ الملک بن مروان علی ذلک ، وکتب إلیه : أمّا بعد ، فإنّه قد بَلَغنی عنک أنّک أَعْتَقتَ أَمَتَک وتزوّجْتَها ، وقد کان لک فی أکفائک من قُریش ما تَستکْرِم به فی الصِّهْر ، وتَستَنْجِب به فی الوَلَد ، فلمْ تنظرْ لنفسِک ولا لولدِک ونکحتَ فی اللؤْمِ !
فکتب إلیه : أمّا بعد ، فإنّی أعتقتها بکتاب اللّه وارتجعتها بسنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وإنّه واللّه ما فوقَ رسولِ اللّه مُرتقًی لأحدٍ فی مجد ، إنّ اللّه قد رفعَ بالإسلام الخَسیسةَ ، وأَتَمّ النَّقیصةَ ، وأکرمَ به من اللُّؤْمِ ؛ فلا عارَ علی مسلم . هذا رسول اللّه صلی الله علیه و آله قد تزوّج أَمَتَه وامرأةَ عبدِه(4) .
فقال عبد الملک : إنّ علیّ بن الحسین یَشرُفُ من حیثُ یَتّضِع الناسُ(5) .
ص: 62
روی الصّاحبُ ابن عبّاد عن أبی محمّد الجعفریّ عن أبیه عن عمّه عن جعفر ، قال : قال رجلٌ لعلیّ بن الحسین : ما أشدَّ بُغضَ قُریش لأبیک !
قال : أوْردَ أوّلَهم النارَ ، وأَلزمَ آخِرهم العارَ(1) .
قال : ثمّ جری ذِکرُ المعاصی ، فقال : أعجبُ لِمَن یَحتَمِی من الطّعام لِمَضَرّته ، ولا یَحتمی من الذنب لمعَرّته(2) !
وقیل له : کیف أصبحتَ ؟
قال : أصبحنا خائفین برسول اللّه (3) ، وأصبح جمیع الناس أهل الإسلام آمنین به(4).
قال رجل لرجلٍ من آلِ الزبیر کلاماً أَقْذعَ فیه ، فأَعرَض الزبیریّ عنه ولم یُجِبْه ، ثمّ دار کلام ، فسبّ الزبیریُّ علیَّ بن الحسین ، فأعرض عنه ولم یُجِبه ، فقال له الزبیریّ : ما یَمنعُک من جوابی ؟ قال علیّ : ما یَمنعک من جواب الرجل(5) .
ومات له ابنٌ فلم یُرَ منه جَزَع ، فسُئل عن ذلک ، فقال : أمرٌ کنّا نتوقّعه ، فلمّا وقع لم نُنکِرْه(6) .
ص: 63
عن المِنهال ، قال : دخلتُ علی علیّ بن الحسین ، فقلت : کیف أصبحت ، أصلحک اللّه ؟
فقال : ما کنتُ أری شیخاً من أهل المِصر مثلک لا یدری کیف أصبحنا ، فأمّا إذا لم تَدرِ أو تعلم فسأُخْبرَک . أصبحنا فی قومنا بمنزلة بنی إسرائیل فی آل فرعون إذ کانوا یُذَبِّحونَ أبناءَهم ویَسْتَحیونَ نساءَهُمْ . وأصبح شیخنا وسیّدنا یُتقرّب إلی عدوّنا بشتمه أو سبّه علی المنابر ، وأصبحتْ قُریش تَعُدّ أنّ لها الفضلَ علی العرب لأنّ محمّداً صلی الله علیه و آله منها لا یُعَدّ لها فضلٌ إلاّ به ، وأصبحت العرب مُقِرّة لهم بذلک . وأصبحت العرب تَعُدّ أنّ لها الفضل علی العجم لأنّ محمّداً صلی الله علیه و آله منها لا یُعَدّ لها فضلٌ إلاّ به ، وأصبحت العجم مُقِرّة لهم بذلک . فلئن کانت العرب صدقت أنّ لها الفضل علی العجم ، وصدقت قریش أنّ لها الفضل علی العرب لأنّ محمّداً صلی الله علیه و آله منها ؛ إنّ لنا أهلَ البیت الفضل علی قُریش لأنّ محمّداً صلی الله علیه و آله منّا ، فأصبحوا یأخذون بحقّنا ولا یعرفون لنا حقّاً ؛ فهکذا أصْبحنا إذ لم تعلم کیف أصبحنا(1) .
قال عبد اللّه بن مَعْمَر اللیثیّ لأبی جعفر محمّد الباقر : بلغنی أنّک تُفتی فی المُتْعة !
فقال : أحلّها اللّه فی کتابه ، وسنّها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وعمل بها أصحابه .
فقال عبد اللّه : فقد نهی عنها عمر !
ص: 64
قال : فأنت علی قول صاحبِک ، وأنا علی قول صاحبی رسولِ اللّه صلی الله علیه و آله .
قال عبد اللّه : فیسرُّک أنّ نساءَک فَعلنَ ذلک ؟
قال أبو جعفر : وما ذِکرُ النساء هاهنا یا أَنْوَک(1) ؟ إنّ الذی أحلَّها فی کتابه وأباحها لعباده أَغْیَرُ منک وممّن نهی عنها تکلُّفاً ، بل یسرّک أنّ بعضَ حَرَمِک تحت حاکَةِ(2) یثرب نِکاحاً ؟
قال : لا .
قال : فلِمَ تحرّم ما أحلّ اللّه لک ؟
قال : لا أُحرِّمُ ، ولکنّ الحائک ما هو لی بکف ء .
قال : فإنّ اللّه ارتضی عمَلَه ورغّب فیه وزوّجه حُوراً ، أفترغبُ عمّنْ یَرغبُ اللّه
فیه ! وتَستنکِفُ ممّن هو کف ء لِحور الجنان کِبراً وعُتُوّاً ؟!
فضحک عبد اللّه ، وقال : ما أحسِب صدورَکم إلاّ مَنابِتَ أشجار العلم ، فصارَ لکم ثَمَرُه ، وللناس وَرَقُه(3) .
سُئل علیه السلام : لِمَ فرضَ اللّه تعالی الصومَ علی عباده ؟
فقال : لیجدَ الغنیّ مَسَّ الجُوع فیَحْنوَ علی الضعیف(4) .
قال المدائنیّ : بینما محمّد بن علیّ فی فِناء الکعبة ، أتاه أعرابیّ فقال له : هل رأیتَ اللّه حیثُ عبدتَه ؟
ص: 65
فأَطرق وأَطرق مَن کان حوله ، ثمّ رفع رأسه إلیه فقال : ما کنتُ لِأَعْبدَ شیئاً لم أرَه.
فقال : وکیف رأیتَه ؟
قال : لم تَرَهُ الأبصار بمُشاهَدةِ العِیان ، ولکن رأتْه القلوبُ بحقائقِ الإیمان ، لا یُدرَک بالحواسّ ، ولا یُقاس بالناس ، معروف بالآیات ، منعوت بالعلامات ، لا یجور فی قضیّته ، بانَ من الأشیاء وبانت الأشیاء منه ، « لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَی ءٌ »(1) ذلک اللّه لا إله إلاّ هو .
فقال الأعرابیّ : اللّه أعلمُ حیث یجعل رسالاته(2) .
قال جعفر بن محمّد علیهماالسلام : لمّا قُتل إبراهیم بن عبد اللّه بن الحسن ، بباخَمْری حسرنا عن المدینة ، ولم یُترک فیها منّا مُحتلِم ، حتّی قَدِمنا الکوفة ، فمکثنا فیها شهراً نتوقّع فیها القتل . ثمّ خرج إلینا الربیع الحاجب فقال : أین هؤلاء العَلَویّة ؟ أدخِلوا علی أمیرالمؤمنین رجلَین منکم من ذوی الحِجی .
قال : فدخلنا إلیه أنا والحسن بن زید ، فلمّا صِرتُ بین یدَیه قال لی : أنت الذی تعلم الغیب ؟
قلت : لا یعلم الغیب إلاّ اللّه .
قال : أنت الذی یُجبی إلیک الخَراج ؟
قلت : إلیک یُجبی الخَراج .
قال : أتدرون لِمَ دَعَوتُکم ؟ قلت : لا .
قال : أردتُ أن أهدم رباعکم ، وأروع قلوبکم ، وأعقر نخلکم ، وأترککم بالسَّرَاة(1) ، لا یقربکم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق ؛ فإنّهم لکم مفسدة .
فقلت له : إنّ سلیمان أُعطی فشَکر ، وإنّ أیّوب ابتُلی فصَبر ، وإنّ یوسف ظُلم فغَفر ، وأنت من ذلک النسل .
قال : فتبسّم وقال : أعِدْ علیَّ ، فأعَدتُ ، فقال : مِثلُک فلیکن زعیمَ القوم ، وقد عفوتُ عنکم ، ووهبتُ لکم جُرم أهل البصرة ، حدِّثنی الحدیثَ الذی حدّثتَنی عن أبیک ، عن آبائه ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله .
ص: 67
قلت : حدّثنی أبی ، عن آبائه ، عن علیّ ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال : «الأرحام معلّقة بالعرش تنادی : اللّهمّ صِلْ مَن وصلنی ، واقطع مَن قطعنی» .
قال : لیس هذا .
قلت : حدّثنی أبی ، عن آبائه ، عن علیّ ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «صِلةُ الرحم تُعمّر الدیار ، وتُطیل الأعمار ، وإن کانوا کفّاراً» .
فقال : لیس هذا .
فقلت : حدّثنی أبی ، عن آبائه ، عن علیّ ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إنّ اللّه عزّ وجلّ یقول : أنا الرحمن ، خَلقتُ الرَّحِم وشقَقتُ لها اسماً من اسمی ، فمَن وصَلَها وصَلتُه ، ومَن قَطَعها بَتَتُّه»(1) .
قال : لیس هذا الحدیث .
قلت : حدّثنی أبی ، عن آبائه ، عن علیّ علیه السلام ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أنّ ملکاً من الملوک فی الأرض کان بقی من عمره ثلاث سنین ، فوصل رحمه فجعلها اللّه ثلاثین سنة» .
فقال : هذا الحدیثَ أردت ! أیّ البلاد أحبّ إلیک ؟ فواللّه ِ لأصِلنّ رحمی إلیکم .
قلنا : المدینة ، فسرّحَنا إلی المدینة ، وکفی اللّه مؤنته(2) .
قیل له : إنّ أبا جعفر المنصور لا یلبس منذ صارت إلیه الخلافةُ إلاّ الخَشِن ولا یأکل إلاّ الجَشِب .
فقال : لِمَ یا وَیْحَه ، مع ما قد مکّن اللّه له من السلطان وجَبَی إلیه من الأموال ؟!
فقیل له : إنّما یفعلُ ذلک بُخْلاً وجَمعاً .
ص: 68
فقال : الحمد للّهِ الذی حَرَمهُ من دُنْیاهُ ، ما لَهُ تَرَکَ دِینَه(1) ؟!
وقیل بحضرته : جاوِرْ مَلِکاً أو بَحراً ، فقال علیه السلام : هذا کلامٌ محال ، والصواب : لا تجاور ملکاً أو بحراً ؛ لأنّ المَلکَ یُؤذیکَ والبحرَ لا یُرْویک(2) .
وسُئل عن فضیلة لأمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام لم یَشْرَکْه فیها غیره ، فقال : فَضَلَ الأقربین بالسَّبق ، وفَضَل الأبعدین بالقرابة(3) .
سُئل علیه السلام : لِمَ صار الناس یکلَبون أیّامَ الغلاء علی الطعام، ویزید جوعهم علی العادة فی الرُّخْص؟
قال : لأنّهم بنُو الأرضِ ، فإذا قَحَطتْ قَحَطُوا وإذا أَخْصبَتْ أَخْصَبُوا(1) .
وشکا إلیه رجل جارَه ، فقال : اصبِرْ علیه .
فقال : ینسبنی الناسُ إلی الذلِّ .
فقال : إنّما الذَّلیل مَن ظَلَم ، إنّما الذلیل من ظَلَم(2) .
فقال الصادق علیه السلام : یا أمیرالمؤمنین ! لا أجِد بدّاً من النَّصاحة لک ، فاقبَلْها إن شئتَ أَوْ لا .
قال : وما ذاک ؟
قال : إنّه مضی لکَ ثلاثةُ أَسْلافٍ ؛ أیّوبُ ابتُلِی فصَبَر ، وسلیمانُ أُعطِیَ فَشَکَر ، ویوسفُ قَدَرَ فغَفَر ، فاقتدِ بِأَیِّهمْ شِئتَ .
قال : قد غَفَرتُ(1) .
وقف أهلُ المدینة وأهلُ مکّة ببابِ المنصور ، فأَذِنَ الربیعُ لأهل مکّة قبل أهل المدینة ، فقال جعفر الصادق : أتأذن لأهل مکّةَ قبل أهل المدینة ؟
قال الربیع : إنّ مکّةَ العُشّ .
فقال الصادق : عُشٌّ واللّه ِ طارَ خِیارُه ، وبقِیَ شِرارُه(2) .
وقیل له : ما بلغَ من حُبِّکَ لموسی ؟
قال : وَدِدْتُ أنْ لیس لی ولد غیرُه ، کیلا یَشرکَه فی حبّی أحد(3) .
أحمد بن عمرو الرازیّ ، قال : وقع الذُّباب علی المنصور فذَبّه عنه ، فعاد ، فذَبّه حتّی
ص: 71
أَضْجَرهُ ، فدخل جعفر بن محمّد ، فقال له المنصور : یا أبا عبد اللّه ، لِمَ خلقَ اللّه ُ الذبابَ ؟
قال : لیذلّ به الجبابرة(1) .
قال الخلیل بن أحمد صاحبُ العَرُوض : سمعتُ سفیان بن سعید الثوریّ یقول : قدِمتُ إلی مکّة ، فإذا أنا بأبی عبد اللّه جعفر بن محمّد قد أناخ بالأَبْطَح ، فقلتُ : یابن رسول اللّه ، لِمَ جُعِل الموقف من وراء الحَرَم ؟ ولم یُصَیَّر فی المشعر الحرام ؟
فقال : الکعبة بیت اللّه عزّ وجلّ ، والحرمُ حِجابُه ، والموقفُ بابُه ، فلمّا قصده الوافدونَ ، أوقَفَهُم بالباب یَتَضرّعون ، فلمّا أَذِنَ لهم بالدُّخول أدناهم من الباب الثانی وهو المُزْدَلِفة ، فلمّا نظر إلی کثرة تضرّعهم وطول اجتهادهم رحمهم ، فلمّا رحمهم أمرهم بتقریبِ قُربانهم ، فلمّا قرّبوا قربانهم وقضوا تَفَثَهم(2) ، وتطهّروا من الذنوب التی کانت حجاباً بینه وبینهم أمرهم بزیارةِ بیتِه علی طهارةٍ منهم له .
قال : فقال له : فلِمَ کُرِه الصوم أیّامَ التَّشْریق ؟
فقال : إنّ القوم فی ضیافة اللّه عزّ وجلّ ، ولا یجب علی الضَّیف أن یصوم عند مَن أضافه .
قال : قلتُ : جُعِلْت فِداک ، فما بالُ الناس یتعلّقون بأستار الکعبة وهی خِرَق لا تنفعُ شیئاً ؟
فقال : ذلک مثلُ رجُل بینه وبین رجلٍ جُرْمٌ ، فهو یتعلّق به ویطوف حولَه رجاءَ أن یهب له ذلک الجُرْمَ(3) .
ص: 72
عن محمّد بن مسلم ، قال : دخل أبو حنیفة علی أبی عبد اللّه جعفر الصادق علیه السلام ، فقال له : رأیتُ ابنک موسی یصلّی والناس یمرّون بین یدَیه فلا ینهاهم وفیه ما فیه .
فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : اُدعوا لی موسی ، فدُعی فقال له : یا بُنیّ إنّ أبا حنیفة یذکر أنّک کنت صلّیت والناس یمرّون بین یدیک ، فلم تنههم .
فقال : نعم یا أَبَه إنّ الذی کنتُ اُصلّی له کان أقرب إلیَّ منهم ، یقول اللّه عزّ وجلّ : « وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ »(1) .
قال : فضمّه أبو عبد اللّه علیه السلام إلی نفسه ثمّ قال : یا بنیّ ، بأبی أنت وأمّی یا مُستودَع الأسرار(2) .
ولیس مثل الصادق علیه السلام یعجز عن جواب أبی حنیفة ، وإنّما أراد أن یُسمعه إیّاه من فم ولده لیکون أبلغ فی الحجّة .
وعن أبی عُمیر ، قال : رأی سفیان الثوریّ أبا الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، وهو غلام یصلّی والناس یمرّون بین یدَیه ، فقال له : إنّ الناس یمرّون بین یدَیک وهم فی الطواف ، فقال له : الذی اُصلّی له أقرب من هؤلاء(3) .
ص: 73
وسمع موسی رضی الله عنه رجلاً یتمنّی الموتَ ، فقال : هل بینک وبین اللّه ِ قرابةٌ یُحابیک بها ؟
قال : لا .
قال : فهل لک حَسناتٌ تَزِیدُ علی سیِّئاتِک ؟
قال : لا .
قال : فأنت إذاً تتمنّی هلاک الأبد(1) !
لم یکن بنو العبّاس أقلّ عَسفاً من بنی أمیّة فی تتبّع أهل بیت الوحی علیهم السلام وشیعتهم تقتیلاً وتنکیلاً ، حتّی قیل فی طغیانهم وجرائمهم :
تاللّه ِ ما فَعَلَتْ بنو أمیّةَ فیهمُ * مِعشارَ ما فَعَلتْ بنو العبّاسِ
ونظیر ما وقع من الحجّاج مع یحیی بن یَعْمَر ، فی شأن الحسن والحسین علیهماالسلام وأنّهما من ذُرّیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله . فقد وقع أشباهه أیّام بنی العبّاس ، من ذلک :
أنّ هارون العبّاسیّ لمّا خرج إلی الحجّ ، دخل المدینة وتوجّه لزیارة النبیّ صلی الله علیه و آله ، ومعه الناس ، فتقدّم إلی قبر النبیّ فقال : السلام علیک یابنَ عمّ ! مفتخراً بذلک علی غیره ، فتقدّم موسی بن جعفر الکاظم علیه السلام ، فقال : السلام علیک یا أبَه !
فتغیّر وجه هارون وتبیّن الغیظ فیه ، وسأله فقال : لِمَ زعمتم أنّکم أقرَب إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله منّا ؟
ص: 74
فقال : یا أمیرالمؤمنین ، لو أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أُنْشِر فخطبَ إلیک کریمتَک ، هل کنتَ تجیبه ؟
فقال : سبحانَ اللّه ! وکنتُ أفتخر بذلک علی العرب والعجم !
فقال : لکنّه لا یخطب إلیَّ ولا أزوّجه ؛ إنّه وَلَدَنا ولم یَلِدْکُم(1) .
سأله هارون : لِمَ قُلتم : إنّا ذُرّیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وجوّزتم أن ینسبوکم إلیه فیقولوا : یا بنی رسول اللّه ، وأنتم بنو علیّ ، وإنّما یُنسَب الرجُلُ إلی أبیه دون جدّه ؟
فقال علیه السلام : أعوذُ باللّه من الشیطان الرجیم « وَمِن ذُرِّیَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَیْمَ-انَ وَأَیُّوبَ وَیُوسُفَ وَمُوسی وَهَارُونَ وَکَذلِکَ نَجْزِی الْمُ-حْسِنِینَ * وَزَکَرِیَّا وَیَحْیی وَعِیسی وَإِلْیَاسَ »(2) ولیس لعیسی أبٌ وإنّما أُلحِق بذُرّیّة الأنبیاء من قِبَلِ أُمّه ؛ وکذلک أُلْحِقا - أی الحسن والحسین علیهماالسلام - بذُرّیّة النبیّ صلی الله علیه و آله من قِبَل أُمِّنا فاطمة علیهاالسلام ، وأزیدُک یا أمیرالمؤمنین ، قال اللّه تعالی : « فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ »(3) ، ولم یَدْعُ صلی الله علیه و آله عند مباهلة النصاری غیر علیّ وفاطمة ، والحسن والحسین وهما الأبناء(4) .
عند هذا انقطعت حجّة هارون وسکت علی مضضٍ ، إلاّ أنّه عزم علی إسکات صوت الحقّ ، فقبض علی ابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وهو قائم یصلّی عند قبر جدّه ، وحمله
مقیّداً إلی البصرة فحبسه سنةً ، ثمّ نقله إلی بغداد ، فما زال ینقله من سجن إلی آخر
حتّی قتله بالسمّ .
ص: 75
سأله الفضل بن سهل فی مجلس المأمون ، فقال : یا أبا الحسن ؛ الخَلق مُجبَرون ؟
فقال : اللّه أعدَل أن یُجبِر ثمّ یُعذِّب .
قال : فمُطْلَقون ؟
قال : اللّه أحکَم أن یُهمِل عبدَه ویَکِلَه إلی نفسه(1) .
ورُوی عن بعض أصحابه أنّه قال : دخلتُ علیه بمَرو فقلتُ له : یا ابنَ رسول اللّه ، رُوی لنا عن الصادق أنّه قال : «لا جَبرَ ولا تَفویضَ ، أمرٌ بین أمرَین» فما معناه ؟
قال : مَن زعم أنّ اللّه یفعل أفعالنا ثمّ یُعذِّبنا فقد قال بالجبر . ومَن زعم أنّ اللّه َ فوّض أمر الخلق والرزق إلی خَلقه فقد قال بالتفویض . والقائل بالجبر کافر ، والقائلُ بالتفویضِ مُشْرِک .
فقلتُ : یا ابنَ رسولِ اللّه ، فما أمرٌ بین أمرَینِ ؟
قال : وجودُ السبیلِ إلی إتیانِ ما أُمِروا بهِ وتَرْکِ ما نُهُوا عنه(2) .
قال عمرو بن مَسعدة : بعثنی المأمونُ إلی علیّ بن موسی ، لأُعلِمَهُ ما أمرنی بهِ من کتابٍ فی تقریظِه ، فأعلمتُه ذلک ، فأطرقَ مَلیّاً ثمّ قال : یا عمرو ، إنّ مَن أخَذَ برسولِ اللّه صلی الله علیه و آله لَحقِیقٌ أنْ یُعطِی به(3) .
ص: 76
أُدْخِلَ إلی المأمون رجلٌ أراد ضربَ عُنُقِه والرِّضا حاضرٌ ، فقال له المأمون : ما تقول فیه یا أبا الحسن ؟
فقال : أقول إنّ اللّه لا یَزیدُک بحُسنِ العفو إلاّ عِزّاً ، فعفا عنه(1) .
حدّث أبو الصَّلْت الهَرَویّ ، قال : کنتُ مع علیّ بن موسی وقد دخل نَیْسَابور ، وهو راکب بغلةً شَهْبَاء ، فغدا فی طلبه علماءُ البلد : أحمد بن حنبل ، ویاسین بن النَّضْر ، ویحیی بن یحیی ، وعدّة من أهل العلم ؛ فتعلَّقوا بِلجامِه فی المُربَّعة ، فقالوا له : بحقِّ آبائِک الطّاهرین ، حدِّثْنا بحدیثٍ سمعتَه من أبیک ، فقال : حدّثنی أبی العَدْلُ الصّالحُ موسی بن جعفر ، قال : حدّثنی أبی الصادق جعفر بن محمّد ، قال : حدّثنی أبی باقرُ علمِ الأنبیاء محمّد بن علیّ ، قال : حدّثنی أبی سیّد العابدین علیّ بن الحسین ، قال : حدّثنی أبی سیّدُ شبابِ أهل الجنّة الحسین بن علیّ ، قال : سمعتُ أبی سیّد العرب علیّ بن أبیطالب ، قال : سمعتُ رسول اللّه یقول : «الإیمانُ معرفةٌ بالقلبِ ، وإقرارٌ باللسانِ ، وعَملٌ بالأرکانِ» .
قال : فقال أحمد بن حنبل : لو قرأتُ هذا الإسنادَ علی مجنونٍ لَبَرِئ من جُنونه(2) .
وسُئل رضی الله عنه عن صفة الزاهد ، فقال : مُتَبَلِّغ بدونِ قُوتِه ، مُستعدّ لیومِ موته ، مُتبرِّم بحیاتِه(3) .
ص: 77
وسُئل عن القناعة ، فقال : القناعةُ تَجْمع إلی صیانة النفس ، وعزِّ القَدَرِ ، طَرْحَ مُؤْنِ الاستکثار والتَّعبُّد لأهلِ الدنیا . ولا یسلُک طریقَ القناعةِ إلاّ رجلان : إمّا مُتَقَلِّل یریدُ أجْرَ الآخرةِ ، أو کریم مُتَنَزِّهٌ عن لِئامِ الناسِ(1) .
وقال له المأمون : یا أبا الحسن ؛ أَخبِرْنی عن جدِّک علیِّ بن أبی طالب ، بأیّ وَجْهٍ هو قسیمُ الجنّة والنّار ؟
فقال : یا أمیرالمؤمنین ، ألم تَرْوِ عن أبیک عن آبائه عن عبد اللّه بن عبّاس أنّه قال : سمعتُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : «حبُّ علیٍّ إیمانٌ ، وبُغضُه کفرٌ» ؟
فقال : بلی .
قال الرضا : فقسمةُ الجنّةِ والنارِ إذا کانت علی حُبِّه وبُغْضِه فهو قَسیمُ الجنّةِ والنّار .
فقال المأمون : لا أبقانی اللّه ُ بعدَک یا أبا الحسنِ ، أشهدُ أنّک وارثُ علمِ رسول
اللّه صلی الله علیه و سلم .
قال أبو الصَّلْت الهَرَویّ : فلمّا رجع الرضا إلی منزله أتیتُه ، فقلت : یابنَ رسول اللّه ، ما أحسنَ ما أَجبتَ به أمیرَالمؤمنین !
فقال : یا أبا الصلت ؛ إنّما کلّمتُه من حیث هو ، لقد سمعتُ أبی یحدّثُ عن آبائه عن
علیٍّ ، قال : قال لی رسول اللّه صلی الله علیه و سلم : «یا علیُّ ، أنت قسیمُ الجنّةِ والنارِ یومَ القیامةِ ، تقول للنارِ هذا لی وهذا لکِ»(2) .
ص: 78
ودخل علیه بخراسان قوم من الصوفیّة ، فقالوا له : إنّ أمیرالمؤمنین المأمون نَظَر فیما ولاّه اللّه من الأمر فرآکم أَوْلی الناس بأن تَؤُمُّوا الناسَ ، ونظر فیکم فرآکم أَوْلی الناس بالناس ، فرأی أن یَرُدّ هذا الأمرَ إلیک ، والأُمّةُ تحتاجُ إلی مَن یأکل الجَشبَ ویلبس الخَشِنَ ، ویرکبُ الحمارَ ، ویعودُ المریضَ .
وکان الرضا مُتَّکئاً ، فاستوی جالساً ، ثمّ قال : کان یوسف نبیّاً یَلبسُ أقبِیَةَ الدِّیباج المزَرَّرَة بالذهبِ ، ویجلس علی متَّکآتِ آلِ فرعون ویَحْکُم ؛ إنّما یُراد من الإمام قِسْطُه وعَدلُه ، إذا قال صَدَقَ ، وإذا حَکَمَ عَدَلَ ، وإذا وَعَد أَنْجَز ؛ إنّ اللّه َ تعالی لم یُحرِّم لَبُوساً ولا مَطْعَماً ، وتلا : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ »(1) .(2)
محمّد الجواد بن علیّ بن موسی بن جعفر بن محمّد بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب ، تاسع أئمّة المسلمین وخلیفة اللّه تعالی فی العالمین . من السلالة الطّاهرة وبحر الجود والتقی والعلم وهم :
هُم أبحُرُ العلمِ التی ما شانَها * کَدَرٌ ، ومَجراها من الرّحمنِ
فضْلٌ أقَرَّ به الحَسُودُ ، وسُؤدَدٌ * صَدَعَتْ به آیٌ مِن القرآنِ
ولقد أجری علماء المذاهب الأخری فی زمنه معه مناظرات کُبکِبوا فیها وانقطعت حجّتهم وسلّموا له ، من ذلک :
أنّ یحیی بن أکثم سأل أبا جعفر محمّد بن علیّ الجواد علیه السلام ، فقال : ما تقول یا ابن رسول اللّه فی الخَبَر الذی رُوی أنّ جبرئیل نزل علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقال : یا محمّد ،
ص: 79
إنّ اللّه یُقرؤک السلام ویقول لک : سَلْ أبا بکر ، هل هو راضٍ عنّی فإنّی راضٍ عنه ؟!
فقال علیه السلام : لستُ بمنکر فَضل أبی بکر ، ولکن یجب علی صاحب هذا الخبر أن یأخذ مثال الخبر الذی قاله رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حجّة الوداع : «قد کَثُرَت علیَّ الکذّابة وستکثر ؛ فمَن کَذَب علیَّ متعمّداً فلیتبوّأ مقعدَه من النار ، فإذا أتاکم الحدیثُ فاعرِضُوه علی کتاب اللّه وسنّتی ؛ فما وافق کتاب اللّه وسنّتی فخذوا به ، وما خالف کتاب اللّه وسنّتی فلا تأخذوا به» . ولیس یوافق هذا الخبرُ کتابَ اللّه ، قال اللّه تعالی : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ »(1) ، فاللّه عزّ وجلّ خَفِی علیه رضا أبی بکر من سخطه حتّی سأل عن مکنون سرّه ؟! هذا مستحیل فی العقول .
قال یحیی بن أکثم : وقد روی أنّ مَثَل أبی بکر وعمر فی الأرض کَمَثلِ جبرئیل ومیکائیل فی السماء .
فقال : وهذا أیضاً یجب أن یُنظَر فیه ؛ لأنّ جبرئیل ومیکائیل مَلَکان للَّهِ مُقرَّبان لم یَعصِیا اللّه قطّ ولم یفارقا طاعته لحظة واحدة ؛ وهما - أی أبو بکر وعمر - قد أشرکا باللّه عزّ وجلّ وإنْ أسلما بعد الشرک ، وکان أکثر أیّامهما فی الشرک باللّه ، فمُحالٌ أن یشبّههما بهما .
قال یحیی : وقد روی أنّهما سیّدا کهول أهل الجنّة .
فقال علیه السلام : وهذا مُحال أیضاً ؛ لأنّ أهل الجنّة کلّهم یکونون شباباً ولا یکون فیهم کَهْل ؛ وهذا الخبر وضعه بنو أُمیّة لمضادّة الخبر الذی قال فیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی الحسن والحسین بأنّهما سیّدا شباب أهل الجنّة .
ص: 80
قال یحیی : وروی أنّ عمر بن الخطّاب سِراج أهل الجنّة .
فقال علیه السلام : وهذا أیضاً مُحال ؛ لأنّ فی الجنّة ملائکة اللّه المقرّبین وآدم ومحمّداً وجمیع الأنبیاء والمرسلین ، لا تضیء بأنوارهم حتّی تُضیءُ بنور عمر !
قال یحیی : وروی أنّ السَّکِینة تنطق علی لسان عمر .
فقال علیه السلام : لستُ بمنکر فضائل عمر ، لکنّ أبا بکر - وإنّه أفضل من عمر - قال علی رأس المنبر : إنّ لی شیطاناً یَعتَرینی ، فإذا مِلتُ فسَدِّدونی .
فقال یحیی : قد رُوی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال : لو لَمْ اُبعَثْ ، لَبُعِث عمر !
فقال علیه السلام : کتابُ اللّه أصدَقُ من هذا الحدیث ، یقول اللّه تعالی فی کتابه : « وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِیِّینَ مِیثَاقَهُمْ وَمِنکَ وَمِن نُوحٍ »(1) فقد أخذ اللّه میثاق النَّبیّین ، فکیف یمکن أن یستبدل میثاقه ؟! وکان الأنبیاء لم یُشرکوا طرفةَ عَین ، فکیف یبعث بالنُّبوّة مَن أشرک
وکان أکثر أیّامه فی الشِّرک باللّه ِ ؟! وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «نُبِّئتُ وآدمُ بین الرّوح والجَسَد» .
قال یحیی : وقد رُوی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال : ما احتَبَس الوحی عنّی قطّ إلاّ ظننتُه قد نزل علی آل الخطّاب !
فقال علیه السلام : وهذا مُحالٌ أیضاً ؛ لأنّه لا یجوز أن یشکّ النبیّ صلی الله علیه و آله فی نُبوّته ، قال اللّه تعالی : « یَصْطَفِی مِنَ الْمَلاَئِکَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ »(2) ، فکیف یمکن أن تنتقل النُّبوّة ممّن اصطفاه اللّه إلی مَنْ أشرک به ؟!
قال یحیی : رُوی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال : لو نزل العذاب لَما نجا منه إلاّ عمر !
فقال علیه السلام : وهذا مُحال أیضاً ، إنّ اللّه تعالی یقول : « وَمَا کَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
ص: 81
یَسْتَغْفِرُونَ »(1) ، فأخبر سبحانه أنّه لا یعذّب أحداً ما دام فیهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وما داموا یستغفرون اللّه تعالی(2) .
وعند هذا الحدّ من الحوار ، توقّف یحیی بن أکثم معترفاً للإمام الجواد علیه السلام بأنّه بحر لا یُسبَر غَورُه ، ولا یُبلَغ قاعُه . ولم یکن علیه السلام فی أجوبته متعنّتاً ، إنّما دلیل القرآن الکریم والحجّة البالغة والمنطق السلیم .
ص: 82
لمّا صرف أبو موسی الأشعریّ همّته لتخذیل أهل الکوفة عن نصرة أمیرالمؤمنین علیه السلام یومَ الجَمَل ، بما کان یُزوِّقه لهم من أحادیث ینسبها إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، بعث أمیرُالمؤمنین ولدَه الحسن والصحابیَّ الجلیل عمّار بن یاسر إلی الکوفة لیستنفِروا أهلها . وکان لعمّار کلامٌ بُهِت معه أبو موسی وانقطعت حجّته فسکت .
ثمّ إنّ أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی الله عنه بعث بالحسن وعمّار بن یاسر حین خفّ للمسیر إلی أهل الکوفة یَستَنفِرهم ، وکان أبو موسی قد حوّل الناسَ عن علیّ . فقام عمّار بن یاسر خطیباً فی أهل الکوفة ، فحَمِد اللّه وأثنی علیه ، وقال : أیّها الناس ، هذا أخو نبیّکم وابن عمّه یَستَنصِرکم ویستفِزّکم لنصر دین اللّه ، وقد ابتُلیتم بحقّ أُمّکم(1) ، وحقُّ ربّکم أوجَبُ علیکم ، وحُرمتُه أعظم .
ثمّ أقبل علی أبی موسی ، فقال : أنتَ سمعتَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : إنّها ستکون فتنةٌ بَعدی ، الماشی فیها خیرٌ من الساعی ، والقاعد فیها خیرٌ من الماشی(2) !
ص: 83
قال أبو موسی : هذه یدی بما قلت .
فقال له عمّار : إنْ کنتَ صادقاً إنّکَ سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول ذلک فإنّما عنَاکَ بذلک وحدک وأنت کذلک ، واتّخذ بذلک علیک الحجّة ، فإن کنتَ صادقاً فالزَمْ بیتک ولا تدخل فی شیء من هذه الأُمور .
قال الإسکافیّ : فافهَموا هذه الأقاویل ممّن خالف أمیرالمؤمنین کیف یضعف ویتناقض عند کلام الُمحقّین ؛ لأنّ الذی أتی به أبو موسی إن کان المراد فیه ما ذهب إلیه فلم یأتِ ببیانٍ ولا حجّة ولا رأیٍ یُعتمد علیه ، ولا سیّما أنّه سکت بعد ما قَرَعَه عمّار بالحجّة ، فقد صار مِن أجلِ سکوته حائراً وفی أشرّ الطّائفتین رأیاً(1) .
بعد ما فلَج أبو موسی عن جواب عمّار ، توجّه عمّار تلقاء أهل الکوفة ینصح لهم ویدفع شبهات المُبطِلین .
ثمّ أقبلَ عمّار بوجهه ، فقال : أیّها الناس ، إنّا إنّما خَشِینا علی هذا الدِّین أن یتعرّی
ص: 84
أدیمُه ، وأن یَهِنَ من جوانبه ، وقد نظَرنا لأنفسِنا ورضِینا بعلیّ بن أبی طالب لنا خلیفةً وإماماً ودلیلاً ومؤدّباً ، فنِعمَ الخلیفة ونِعمَ الدلیل ، مؤدِّباً لا یُؤدَّب ، وفقیهاً لا یُعَلَّم ، وصاحبَ بأسٍ لا یَنکُل ، وسابقةٍ فی الإسلام لیست لأحد ، فانهَضوا إلیه رَحِمَکم اللّه ؛ فإنّ عصابةً من الناس حالَفوا علیه فتوجَّهوا إلی البصرة عاصِین له باغِین علیه ، حاسِدین له ، ولو قد حَضَرتموهم تَبَیّن لکم أنّهم ظالمون . وهذا ابن بنت نبیّکم قد أتاکم یَستَنفِرکم .
أیّها الناس ، إنّکم بین مَنظَرٍ ومَسمَعٍ من کتاب اللّه وسُنّة نبیّه صلی الله علیه و آله . واللّه ِ ما دَرَسَت المصاحفُ ولا عَفا الأثرُ ولا قَدُم العهد ، ولا بالسُّنن التی حَدَثت من خفاء فیجهل جاهل أو یقول قائل . وقد سمعتم ما قال صاحبکم والذی نهاکم عنه من الشخوص إلی هذین الجَمعَین ، ولَعَمری ما صدق فیما قال ، ولا رَضِی اللّه من عباده بالذی ذَکَرَه . لقد أنزل اللّه علینا قرآناً بیّن فیه طاعته من معصیته ، وحکم فیها أحکامه ولم یدعْ ملّةً من الملل إلاّ وقد حکم فیها بالجهاد حتّی یفیئوا إلی أمر اللّه ، فحکم علی المشرکین أن یُقاتَلوا حتّی یدخلوا فی الإسلام ، فقال : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکِینَ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ »(1) ، وقال : « قَاتِلُوهُمْ یُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَیْدِیکُمْ »(2) ، وقال فی ملّة أهل الکتاب : « قَاتِلُوا الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْیَوْمِ الآخِرِ وَلاَ یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ یَدِینُونَ دِینَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتَابَ حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَن یَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ »(3) . فجعل غایة أمرهم أن یدخلوا فی الإسلام أو یُعطُوا الجزیة عن یَدٍ وهم صاغرون ، أو یُقتلوا أو تُسبی ذراریهم وتُؤخذ أموالهم .
وقال فی أهل القِبلة : « وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ
ص: 85
إِحْدَاهُمَا عَلَی الأُخْری فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِی ءَ إِلی أَمْرِ اللَّهِ »(1) ، وقال فی الآیة الأخری : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتّی لاَ تَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ لِلَّهِ »(2) ، فلم یَرضَ اللّه ُ من أهل طاعته من عباده أن یجلسوا فی بیوتهم ، وأن یُخَلُّوا بین الناس یَسفِکُ بعضُهم دماءَ بعض ، فسِیروا بنا رَحِمَکم اللّه إلی هذین الجَمعَین فاستَمِعوا من حُجَجهم ، ثمّ انظروا مَن أَولی بالعهد والنصر فیما افترض اللّه علیکم ؛ فإن أصلَح اللّه ُ أمرَهُم رجعتم مأجورین وقد قضیتم حقّ اللّه علیکم ، وإن بغی بعضهم علی بعض نظرتم فی الفئة الباغیة وعرفتموها کما أمرکم اللّه وافترض علیکم .
فلمّا سمع الناس قولَ عمّار بن یاسر عرّجوا(3) عن أبی موسی ، وقالوا : یا أبا الیَقظان ، إنّکَ کنتَ من رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالمکان الذی تَعلَم ، فنسألک بحقّ اللّه وحقّ رسوله ، هل سمعتَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یذکر هذه الفتنة ؟
فقال عمّار : أشهَدُ أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أمرنا بقتال الناکثین والقاسطین ، وأمرنا بقتال المارقین من أهل النَّهروان بالطرقات(4) ، وسمعنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : «علیّ مع الحقّ
ص: 86
ص: 87
والحقّ مع علیّ ، لا یفترقان حتّی یَرِدا علَیَّ الحوضَ یوم القیامة»(1) .
ص: 88
فقَبِل الناس قول عمّار بن یاسر واستجابوا له .
قال الإسکافیّ : فانظروا رحمکم اللّه فی أمر مَن خالف علیّاً وحاربه ، کیف کشف ضعفه وبغیه ؟! وکیف یظهر الانتشار فی قوله وفعله ، ویقرّ علی نفسه قبل قیام الحجّة علیه .
هذا أبو موسی یبایع لعلیّ بن أبی طالب فی أوّل الأمر ، فلمّا بلغه أنّ علیّاً ناقِمٌ علیه وأنّ رأیه أن یبعث بغیره غیّر کلامه وخذّل الناس عنه(1) !
ص: 89
بعد خطبة عمّار بن یاسر فی أهل الکوفة ، قام زید بن صُوحان(1) فحَمِد اللّه وأثنی
ص: 90
علیه وصلّی علی النبیّ صلی الله علیه و آله ، ثمّ قال : أیّها الناس ، ما فی اللّه ولا فی نبیّه من شکّ ولا بالحقّ والباطل من خفاء ، وإنّکم علی أمرٍ جَدَد وصراط قیّم ، إنّ بیعة علیّ بیعة مَرْضیّة لا تقبض عنها یدُ موقِن ولا یَبسُط إلیها مُخطئ کفَّه .
أیّها الناس ، هل تعلمون لأمیرالمؤمنین علیّ مِن خَلَف ؟ هل تنقمون له سابقة ؟ أو تذمّون له لاحقة ؟ أو تَرَون به أوَداً ؟ أو تخافون منه جهلاً ؟ ألیس هو صاحبَ المواطن التی مِن فضلِها لا تُعدَلون به ؟ فمَن عمودُ هذا الأمر ونظامُه إلاّ هو ؟ ثمّ رفع صوته ینادی : عبادَ اللّه ، إنّی لکم ناصح ، وعلیکم مُشفِق ، اُحبّ أن تَرشُدوا ولا تَغوُوا ، وإنّه لابدّ لهذا الدِّین من والٍ یُنصف الضعیفَ من الشدید ، ویأخذ للمظلوم بحقّة من الظالم ، ویقیم کتاب اللّه ، ویحیی سنّة محمّد صلی الله علیه و آله . ألا وإنّه لیس أحد أفقَه فی دین اللّه ، ولا أعلم بکتابِ اللّه ، ولا أقرب من رسول اللّه صلی الله علیه و آله من أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب ، فانفِروا إلی أمیرالمؤمنین وسیّد المسلمین وسیروا علی اسم اللّه فإنّا سائرون « الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن یُتْرَکُوا أَن یَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ یُفْتَنُونَ »(1) .(2)
بعد زید بن صُوحان ، قام حُجْر بن عَدِیّ الکِندیّ(3) فقال : أیّها الناس ، هذا
ص: 91
الحسن بن علیّ ، أحدُ أبَوَیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله والآخر مَن لیس له عَدیل من أُمّة محمّد ولا شَبیه .
هذا سیّد شباب أهل الجنّة فی الدنیا والآخرة ، وهو رسول أبیه إلیکم یدعوکم إلی الحقّ والنصر لدین اللّه ، فالسعیدُ مَن وازَرَه ، والشقیّ مَن تخلّف عنه ، فانْفِروا رحمکم اللّه خِفافاً وثِقالاً وجاهدوا بأموالکم وأنفسکم لعلّکم تُفلحون .
فتهیّأ الناس للمسیر وأجابوا مسارعین ، والحمدُ للّه ربّ العالمین(1) .
ص: 92
بعد الذی کان من أمر الخوارج وانحیازهم إلی حَرُوراء قریةٍ قرب الکوفة ، بعثَ أمیرُالمؤمنین علیه السلام إلیهم ابنَ عبّاس لیناظرهم . فأقبَلَ علیهم ابنُ عبّاس ، حتّی إذا أشرف علیهم ونظروا إلیه ناداه بعضُهم وقال : ویْلَک یا ابنَ عبّاس ! أکفَرتَ بربّک کما
کفر صاحبُک علیّ بن أبی طالب ؟
فقال ابن عبّاس : إنّی لا أستطیع أن أُکلّمکم کلّکم ، ولکن انظروا أیّکم أعلَم بما یأتی ویَذَر فلیخرج إلیَّ حتّی أُکلّمه .
فخرج إلیه رجلٌ منهم یُقال له : عَتّاب بن الأَعوَر الثَّعلبیّ حتّی وقف قُبالَتَه ، فجعل یقول ویحتجّ ویتکلّم بما یرید ، وابنُ عبّاس لا یکلّمه بشیء ، حتّی إذا فرغ من کلامه أقبل علیه ابن عبّاس فقال : إنّی أرید أنْ أضرب لک مَثَلاً ، فإن کنتَ عاقلاً فافْهَمْ .
فقال الخارجیّ : قُلْ ما بدا لک .
فقال له ابن عبّاس : خَبِّرنی عن دار الإسلام هذه ، هل تعلم لمَن هی ، ومَن بناها ؟
فقال الخارجیّ : نعم ، هی للّه عزّ وجلّ ، وهو الذی بناها علی أیدی أنبیائه وأهل طاعته ، ثمّ أمر مَن بعثه إلیها مِن الأنبیاء أن یأمروا الأُمم أن لا یعبدوا إلاّ إیّاه ، فآمن قوم وکفر قوم ، وآخِر مَن بعثه إلیها من الأنبیاء : محمّد صلی الله علیه و آله .
فقال ابن عبّاس : صدقتَ ، ولکن خَبِّرْنی عن محمّد حین بُعث إلی دار الإسلام فبناها کما بناها غیرُه من الأنبیاء ، هل أحکم عمارتها وبیّن حدودها ، وأوقف الأُمّةَ علی سُبُلها وعملها وشرائع أحکامها ومعالم دینها ؟
قال الخارجیّ : نعم ، قد فعل ذلک .
قال ابن عبّاس : فخبِّرنی الآن ، هل بقی محمّد فیها أو رحل عنها ؟
قال الخارجیّ : بل رحل عنها .
ص: 93
قال ابن عبّاس : فخبِّرنی ، رحل عنها کاملةَ العمارة بیّنة الحدود أم رحل عنها وهی خربة لا عمران فیها ؟
قال الخارجیّ : بل رحل عنها وهی کاملة العمارة ، بیّنة الحدود قائمة المنار .
قال ابن عبّاس : صدقتَ ، الآن فخبّرنی هل کان لمحمّد صلی الله علیه و آله أحدٌ یقوم بعمارةِ هذه الدار من بعدِه أم لا ؟
قال الخارجیّ : بلی ، قد کان له صحابة وأهل بیت ووصیّ وذرّیّة یقومون بعمارة هذه الدار من بعده .
قال ابن عبّاس : ففعلوا أم لم یفعلوا ؟
قال الخارجیّ : بلی ، قد فعلوا وعمروا هذه الدار من بعده .
قال ابن عبّاس : فخبّرنی عن هذه الدار من بعده هل الیوم علی ما ترکها محمّد صلی الله علیه و آله ، من کمال عمارتها وقوام حدودها ، أم هی خربة عاطلة الحدود ؟
قال الخارجیّ : بل هی عاطلة الحدود خربة .
قال ابن عبّاس : أفذُرِّیّته وَلِیَتْ هذا الخرابَ أم أُمّته ؟
قال : بل أُمّته .
قال ابن عبّاس : أفأنت من الأُمّة ، أم من الذُرّیّة ؟
قال : أنا من الأُمّة .
قال ابن عبّاس : یا عتّاب ! فخبِّرْنی الآن ، کیف ترجو النجاة من النار وأنت من أُمّة قد أخرَبَتْ دارَ اللّه ودارَ رسوله ، وعَطّلتْ حدودها ؟!
فقال الخارجیّ : إنّا للَّهِ وإنّا إلیه راجعون ! ویحک یا ابنَ عبّاس ! احتَلْتَ واللّه ِ حتّی أوقعتَنی فی أمر عظیم وألزمتَنی الحجّة حتّی جعلتنی ممّنْ أخرَبَ دارَ اللّه (1) !
ص: 94
بحکمته وذکائه سار ابن عبّاس مع هذا الخارجیّ المعاند للحقّ سیراً منطقیّاً حتّی جعله یعلن أنّه ومن معه علی باطل وأنّ أمیرالمؤمنین علی الحقّ !
البلاذریّ : حدّثنی وهب بن بَقِیة ، حدّثنا یزید بن هارون ، عن عمران بن جریر ، عن أبی مجلز ، قال : عابُوا علی علیّ تحکیمَ الحکمین ، فقال علیّ : جعل اللّه فی طائرٍ حَکَمین ، ولا أحکم أنا فی دماء المسلمین حَکَمَین(1) ؟!
والمدائنیّ عن سلیمان بن داود بن الحُصَین ، عن أبیه ، قال : قیل لابن عبّاس : ما دعا علیّاً إلی الحَکَمین ؟
فقال : إنّ أهلَ العراق ملُّوا السیفَ وجزِعوا منه جَزَعاً لم یَجزعه أهلُ الشام ، واختلفوا بینهم ، فخاف علیّ لمّا رأی من وهنهم أن ینکشفوا ویتفرّقوا عنه ، فمالَ إلی القضیّة ، مع أنّه أخذ بکتاب اللّه حین أمر بالحکمین فی الصید والشِقاق ، ولو کان معه من یصبر علی السیف لکان الفتح قریباً(2) .
وعن علقمة بن قیس ، قال : قلت لعلیّ : أتُقاضی معاویة علی أن یحکّم حکمان ؟
فقال : ما أصنع ؟! أنا مُضطهَد(3) .
عبد الرزّاق بن همام ، بسنده إلی ابن عبّاس ، قال : مشیتُ وعمرَ بن الخطّاب فی بعض أزقّة المدینة ، فقال لی : یا ابنَ عبّاس ، أظنُّ القوم استصغروا صاحبَکم إذ
ص: 95
لم یُوَلُّوه أُمورَکم(1) !
فقلت : واللّه ِ ما استصغره اللّه ُ إذ اختاره لسورةِ براءة یقرؤها علی أهل مکّة .
فقال لی : الصوابَ تقول ! واللّه ِ لَسمعتُ رسولَ اللّه یقول لعلیِّ بن أبی طالب : «مَن أحبَّکَ أحبّنی ، ومَن أحبّنی أحبَّ اللّه ، ومَن أحبَّ اللّه َ أدْخَله الجنّة مُدِلاًّ»(2) .
وعن ابن عبّاس ، قال : بَیْنا أنا مع عمر بن الخطّاب فی بعض طُرُق المدینة ، یدُه فی یدی ، إذ قال : یا ابن عبّاس ، ما أحسب صاحبک إلاّ مظلوماً !
فقلت : فَرُدّ علیه ظُلامته یا أمیرَ المؤمنین .
قال : فانتَزَع یدَه من یدی وتقدَّمنی - یُهَمهِم ، ثمّ وقف حتّی لَحِقتُه ، فقال لی: یابنَ عبّاس ، ما أحسب القوم(3) إلاّ استصغروا صاحبَک .
قال : قلتُ : واللّه ِ ما استصغره رسول اللّه حین أرسله وأمره أن یأخذ «براءة» من أبی بکر ، فیقرؤها علی الناس ، فسکت(4) .
قال ابن عبّاس : کنتُ أسیرُ مع عمر بن الخطّاب فی لیلة ، وعمرُ علی بغل وأنا علی
ص: 96
فرس ، فقرأ آیة فیها ذِکرُ علیّ ، فقال : أمَا واللّه یا بنی عبد المطّلب لقد کان علیٌّ فیکم أَوْلی بهذا الأمر منّی ومن أبی بکر !
فقلت فی نفسی : لا أقالنی اللّه إن أقَلْتُه . فقلت : أنت تقول ذلک ، وأنت وصاحبُک
وثبتُما وافترعتما الأمر منّا دون الناس ؟!
فقال : إلیکم یا بنی عبد المطّلب ! أمَا إنّکم أصحاب عمر بن الخطّاب ، فتأخّرت وتقدّم هُنَیهةً ، فقال : سِرْ لا سرتَ ! وقال : أعِدْ علیَّ کلامَک ، فقلت : إنّما ذکرتَ شیئاً فردَدتُ جوابَه ولو سکتَّ سَکَتْنا .
فقال : إنّا واللّه ِ ما فَعَلْنا الذی فَعَلنا عن عداوةٍ ، ولکن استصغرناه(1) وخَشِینا أن لا یجتمع العرب وقُریش لِما قد وَتَرها(2) !
قال : فأردت أن أقول : کان رسول اللّه یبعثه فینطح کبشَها فلم یستصغره ، أفتستصغره أنت وصاحبُک ؟! فقال : لا جَرَم ، فکیف تری ؟ واللّه ِ ما نقطع أمراً دونَه ، ولا نعمل شیئاً حتّی نستأذنه(3) .
قال ابن عبّاس : طَرَقَنی عمرُ بن الخطّاب بعد هَدْأة اللّیل ، فقال : اخرُجْ بنا نَحرس نواحی المدینة ! فخرج وعلی عُنقه دِرّته ، حتّی أتی بقیعَ الغَرقَد ، فاستلقی علی ظهره وجعل یضرب أخمصَ قدمَیه بیده وتأوّه صَعَداً ، فقلت له : ما أخرجَکَ إلی هذا الأمر ؟
فقال : أمرُ اللّه یا ابنَ عبّاس .
قلتُ : إنْ شئتَ أخبرتُک بما فی نفسک .
ص: 97
قال : غُص غوّاص ، إنْ کنتَ تقول فتُحسِن .
قلت : ذکرتَ هذا الأمر وإلی مَن تُصیِّره .
قال : صدقتَ .
فقلتُ له : أین أنت عن عبدالرحمن بن عوف ؟
فقال : ذاک رجلٌ مُمْسِک - أی بخیل محبّ للمال - وهذا الأمر لا یصلح إلاّ لمُعطٍ من غیر سَرَف ومانعٍ فی غیر إقتار(1) .
فقلت : سعد بن أبی وقّاص ؟
قال : ذاک مؤمن ضعیف(2) .
فقلت : طلحة بن عبید اللّه ؟
قال : ذاک رجل یناول للشرف - أی السُّمعة والشُّهرة - والمدیح ، یُعطی مالَه حتّی یصل إلی مال غیره ، وفیه بَأْو - أی عُجْبٌ وتفاخر - وکِبْر(3) .
قلت : فالزبیر بن العوّام ، فهو فارسُ الإسلام ؟!
قال : ذاک یومٌ إنسان ویومٌ شیطان ! إن کان لَیُکادِح علی المِکْیَلة من بُکرةٍ إلی الظُّهر حتّی تفوته الصلاة(4) .
فقلت : عثمان بن عفّان ؟
قال : إن وَلِیَ حملَ ابنَ أبی مُعَیط وبنی أُمیّة علی رقاب الناس ، وأعطاهم مالَ اللّه ، ولئن وَلی لَیَفعلنّ واللّه ِ ، ولئن فعل لَتَسیرنّ العربُ إلیه حتّی تقتله فی بیته(5) .
ص: 98
ثمّ سکتَ . قال : فقال : أمْضِها یا ابن عبّاس ، أتری صاحبکم لها موضِعاً ؟!
فقلت : وأین یتبعّد من ذلک مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه ؟
قال : هو واللّه کما ذکرتَ ، ولو وَلِیَهُم تحمّلهم علی منهج الطریق فأخذَ المحجّةَ الواضحة ، إلاّ أنّ فیه خصالاً : الدُعابة فی المجلس ، واستبداد الرأی ، والتبکیت للناس مع حداثة السنّ !
قلت : هلاّ استحدثتم سِنّه یوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبد وَدّ ، وقد کَعَم - أی جَبُنَ - عنه الأبطال ، وتأخّرَتْ عنه الشیوخ ؟! ویوم بَدْرٍ إذ کان یَقُطّ الأبطال قَطّاً ؟! ولا سبقتموه بالإسلام .
فقال : إلیک یا ابنَ عبّاس ، أتُرید أن تفعل بی کما فعل أبوک وعلیّ بأبی بکر یومَ دخلا علیه ؟
قال : فکرهتُ أن أُغضبه فسکتُّ .
فقال : واللّه ِ یا ابن عبّاس إنّ علیّاً ابن عمّک لَأحقُّ الناس بها ، ولکن قریشاً لا تحتمله ! ولئن وَلِیَهُم لَیأخذنّهم بِمُرِّ الحقّ لا یجدون عنده رُخصة ، ولئن فعل لَینکُثُنّ بیعتَه ثمّ لَیَتحارَبُنّ(1) .
واستشاره عمر فی تولیة حِمْص رجلاً ، فقال : لا یصلح أن یکون إلاّ رجلاً منک .
قال : فکُنْهُ .
قال : لا تَنتَفعُ بی .
قال : ولِمَ ؟
ص: 99
قال : لسوء ظنّی فی سوء ظنِّک بی(1) !
قیل له أو لقُثَم أخیه : کیف وَرِث علیٌّ النبیَّ دونکم ؟
فقال : إنّه کان أوّلَنا بهِ لُحُوقاً ، وأشدَّنا به لُصُوقاً(2) .
وقال فی کلام له یجیب ابنَ الزبیر : واللّه ِ إنّه لَمصلوبُ قُریشٍ ، ومتی کان عوّامُ بن عوّامٍ یطْمَعُ فی صفیّةَ بنتِ عبدِ المطّلب ؟ قیل للبَغْل : مَن أبوکَ ؟ قال : خالی الفَرسُ(3) !
جاء إلیه رجل فقال : إنّی أُرید أن أعِظَ . فقال : إن لم تَخشَ أن تفتضح بثلاثِ آیات من کتاب اللّه ، قوله : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَکُمْ »(4) ، وقوله : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ »(5) ، وقول العبد الصالح شُعیب : « وَمَا أُرِیدُ أَنْ أُخَالِفَکُمْ إِلی مَا أَنْهَاکُمْ عَنْهُ »(6) ، أَأَحْکَمْتَ هذه الآیات ؟
قال : لا .
قال : فابدأ بنفسِکَ إذاً(7) .
قال عبد اللّه بن صَفْوان(8) لابن عبّاس : کیف کانت إمارةُ الأخلاف فیکم ؟ یعنی إمارة عمر .
ص: 100
فقال : التی قبلها خیرٌ منها . أوَ سُنّةَ عمرَ تریدُ أنت وصاحبُک ابنُ الزبیر ؟ ترکتما
واللّه سُنّةَ عمرَ شَأْواً مُغْرِباً(1) .
قال علیّ بن عبد اللّه بن عبّاس : کنتُ مع أبی بمکّة بعد ما کُفّ بَصَرُه ، وسعید بن جُبیر یقودُه . فمرّ بضَفّةِ زمزم ، فإذا قومٌ من أهل الشام یَسُبّون علیّاً علیه السلام . فقال لسعید : رُدَّنی إلیهم ، فردّه فوقف علیهم فقال : أیُّکُمُ السّابُّ اللّه َ عزّ وجلّ ؟
قالوا : سبحان اللّه ، ما فینا أحدٌ سبّ اللّه َ .
قال : فأیُّکُمُ السّابُّ رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله ؟
قالوا : سبحانَ اللّه ، ما فَعَلنا .
قال : فأیُّکُمُ السّابُّ علیَّ بن أبی طالب ؟
قالوا : أمّا هذا فکان !
قال : فأشهدُ علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، سَمِعَتْه أُذنای ووَعاه قلبی یقول لعلیّ بن أبی طالب : «یا علیّ ، مَن سَبَّک فقد سَبَّنی ، ومَن سَبَّنی فقد سَبَّ اللّه عزّ وجلّ ، ومَن سَبَّ اللّه عزّ وجلّ کَبَّه اللّه علی مُنْخُرَیه فی النّار» . ثمّ ولّی عنهم ، ثمّ قال لی : یا بُنَیّ ، ماذا رأیتهم صنعوا ؟
فقلتُ له : یا أَبَهْ :
نظروا إلیکَ بأَعیُنٍ مُحْمَرَّةٍ * نَظرَ التُّیوسِ إلی شِفَارِ الجازِرِ(2)
فقال : زِدْنی ، فِداک أبوک !
ص: 101
فقلتُ :
خُزْرُ العُیونِ نَواکسٌ أبصارُهم * نَظرَ الذَّلیلِ إلی العزیزِ القاهرِ
قال : زِدْنی ، فداک أبوک !
قلتُ : لیس عندی مزید .
فقال : ولکن عندی فداک أبوک :
أحیاؤُهم عارٌ علی أمواتِهم * والمیِّتُونَ مَسَبَّةٌ للغابرِ(1)
وذکر العَبْدیّ(2) الحادثةَ ضمن قصیدةٍ له ، قال :
وقد روی عِکْرِمةٌ فی خَبَرٍ * ما شَکّ فیه أحدٌ ولا امْتَری
مرّ ابنُ عبّاسٍ علی قومٍ وقد * سَبُّوا علیّاً ، فاستَراعَ وبکی
وقال مُغتاظاً لهم : أیُّکُمُ * سبَّ إلهَ الخَلْقِ جلَّ وعَلا ؟!
قالوا : مَعاذَ اللّه ! قال : أیُّکُم * سبَّ رسولَ اللّه ظُلماً واجتَرا ؟!
قالوا : مَعاذَ اللّه ! قال : أیُّکُم * سبَّ علیّاً خیرَ مَنْ وطئ الحصا ؟!
قالوا : نَعَم قد کان ذا ! فقال : قد * سمعتُ واللّه ِ النّبیَّ المُجتبی
یقول : مَن سَبَّ علیّاً سبَّنی * وسُبَّتی سبُّ الإله ، واکتفی
أبو بکر بن عبد اللّه بن أبی مُلَیْکة(3) ، عن أبیه ، قال : جاء رجل من أهل الشام
ص: 102
فسبّ علیّاً عند ابن عبّاس ، فحصَبَه ابنُ عبّاس ، فقال : یا عدوَّ اللّه ، آذیتَ رسولَ اللّه « إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِیناً »(1) ، لو کان رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله حیّاً لاَذَیتَه(2) .
عن زید بن أرْقَم ، قال : دخلتُ علی أُمّ سَلَمة زوج النبیّ ، فقالت : ممّن أنت ؟
قلت : من أهل الکوفة .
قالت : من الذین یُسَبّ فیهم رسول اللّه ؟
قلت : لا واللّه ِ یا أُمّهْ ، ما سمعتُ أحداً یسبّ رسولَ اللّه .
قالت : بلی واللّه ِ ! إنّهم یقولون : فعلَ اللّه ُ بعلیٍّ ومَن یُحبّه ! وقد کان رسول اللّه یُحبّه(3) .
وبأسانید عن عبد اللّه الجَدَلیّ ، عن أُمّ المؤمنین أُمّ سَلَمة ، أنّها قالت : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : «مَن سَبّ علیّاً فقد سَبّنی ، ومَن سبّنی فقد سَبّ اللّه»(4) .
عن العبّاس بن عبد المطّلب ، قال : سمعتُ عمر بن الخطّاب وهو یقول : کُفُّوا عن
ص: 103
ذِکْرِ علیّ بن أبی طالب إلاّ بخیرٍ ، فإنّی سمعت رسول اللّه یقول : فی علیّ ثلاثُ خِصال وَدِدتُ لو أنّ لی واحدة منهنّ ، کلّ واحدةٍ منهنّ أحبّ إلیَّ ممّا طلعت علیه الشمس ، وذاک أنّی کنت أنا وأبو بکر وأبو عبیدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول اللّه ، إذ ضرب النبیُّ علی کفّ علیّ بن أبی طالب ، وقال : «یا علیّ ، أنت أوّل المسلمین إسلاماً ، وأنت أوّل المؤمنین إیماناً ، وأنت منّی بمنزلة هارون من موسی . کذَب مَن زعم أنّه یُحبّنی وهو یُبغضک . یا علیّ ، مَن أحبّک فقد أحبّنی ، ومَن أحبّنی أحبّه اللّه تعالی ، ومَن أحبّه اللّه تعالی أدخله اللّه الجنّة . ومَن أبغضک فقد أبغضنی ، ومَن أبغضنی فقد أبغضه اللّه تعالی ، وأدخله النار»(1) .
عن رَبعیّ بن حِراش ، قال : استأذنَ عبد اللّه بن عبّاس علی معاویة ، وقد عَلقتْ عنده بُطون قُریش ، وسعیدُ بن العاص جالسٌ عن یمینه ، فلمّا رآه معاویة مُقْبِلاً ، قال : یا سعید ، واللّه لَألقینّ علی ابن عبّاس مسائل یَعْیَا بجوابها .
فقال له سعید : لیس مثل ابن عبّاس یعیا بمسائلک .
فلمّا جلس ، قال له معاویة : ما تقول فی علیّ بن أبی طالب ؟
قال : رحم اللّه أبا الحسن ، کان واللّه علَمَ الهُدَی ، وکهْفَ التُّقی ، ومحلَّ الحِجی ، وطَود النُّهی ، ونُور السُّری فی ظُلَم الدُّجی ، داعیاً إلی المحجّة العظمی ، عالماً بما فی الصُّحف الأُولی ، وعالماً بالتأویل والذِّکری ، ومتعلِّقاً بأسباب الهدی ، وتارکاً للجور والأذی ، وحائداً عن طُرُقات الرَّدی ، وخَیرُ مَن آمَن واتّقی ، وسیّد مَن تَقمَّص وارتَدی ، وأفضَلُ مَن حَجّ وسعی ، وأسمَح مَن عَدَل وسَوّی ، وأخطَب أهلِ الدنیا إلاّ
ص: 104
الأنبیاء والنبیّ المصطفی ؛ فهل یوازیه مُوحِّد ؟! وزوجُ خیر النِّساء وأبو السِّبطین ، لم تَر عینی مثلَه ولا تری إلی یوم القیامة واللِّقا . مَن لعنه ، فعلیه لعنة اللّه والعباد إلی یوم القیامة(1) .
وجّه ملک الروم إلی معاویة بقارورة ، فقال : ابعَثْ فیها من کلّ شیء ، فبعث إلی ابن عبّاس ، فقال : لُِتملأَ له ماءً ، فلمّا ورد به علی ملک الروم قال : للَّهِ أبوهُ ما أَدْهاهُ !
فقیل لابن عبّاس : کیف اخترتَ ذلک ؟
فقال : لقولِ اللّه عزّ وجلّ : « وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ کُلَّ شَی ءٍ حَیٍّ »(2) .(3)
ممّن عُرف بسعة العلم وسرعة البدیهة وقوّة الحجّة : عبد اللّه بن عبّاس ، فما خاصمه مُخاصِم إلاّ وجَثا له بما ألزَمه به من الحجّة .
روی عبد اللّه بن عمر ، قال : کنت عند أبی یوماً ، وعنده نَفَر من الناس ، فجری ذکر الشِّعر ، فقال : مَن أشعَرُ العرب ؟
فقالوا : فلان وفلان ، فطلع عبد اللّه بن عبّاس ، فسلّم وجلس ، فقال عمر : قد جاءکم الخبیر ! مَن أشعَر الناس یا عبد اللّه ؟
قال : زهیر بن أبی سُلمی .
قال : فأنشِدْنی ممّا تستجیده له .
ص: 105
فقال : إنّه مدح قوماً من غَطْفان ، یقال لهم بنو سِنان ، فقال :
لو کان یَقعُدُ فوقَ الشمسِ مِن کرمٍ * قَومٌ بأوّلِهِم أو مجدِهم قَعَدوا
قومٌ أبوهم سِنانٌ حینَ تَنْسِبُهُم * طابُوا وطابَ من الأولادِ ما وَلَدُوا
إنسٌ إذا أمِنوا ، جِنٌّ إذا فَزِعوا * مُرَزَّؤون بَهالِیلٌ إذا جَهِدوا
مُحسَّدونَ علی ما کانَ مِن نِعَمٍ * لا یَنزِعُ اللّه ُ منهم ما لَهُ حُسِدوا !
فقال عمر : واللّه ِ لقد أحسَن ، وما أری هذا المدح یصلح إلاّ لهذا البیت من بنی هاشم ؛ لقرابتهم من رسول اللّه صلی الله علیه و آله .
فقال ابن عبّاس : وفّقک اللّه ، فلم تزل موفّقاً .
فقال : یا ابنَ عبّاس ، أتدری ما منع الناس منکم ؟
قال : لا .
قال : لکنّی أدری .
قال : ما هو ؟
قال : کَرِهَتْ قریش أن تجتمع لکم النبوّة والخلافة ، فیَجْخِفوا جَخْفاً(1) ، فنظرَتْ قریش لنفسها فاختارت ووفّقت فأصابت !
فقال ابن عبّاس : أیُمیطُ(2) أمیرالمؤمنین عنّی غضبَه فیسمع !
قال : قل ما تشاء .
قال : أمّا قولک : إنّ قریشاً کَرِهَتْ ، فإنّ اللّه تعالی یقول لقوم : « ذلِکَ بِأَنَّهُمْ کَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ »(3) .
وأمّا قولک : «إنّا کنّا نَجْخِف» ، فلو جَخَفْنا بالخلافة جَخَفْنا بالقَرابة ، ولکنّا قوم
ص: 106
أخلاقُنا مشتقّة من خُلُق رسول اللّه صلی الله علیه و آله الذی قال اللّه تعالی : « وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ
عَظِیمٍ »(1) ، وقال له : « وَاخْفِضْ جَنَاحَکَ لِمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ »(2) .
وأمّا قولک : «فإنّ قریشاً اختارت» فإنّ اللّه تعالی یقول : « وَرَبُّکَ یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ وَیَخْتَارُ مَا کَانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ »(3) ، وقد علمتَ أنّ اللّه اختار مِن خلقه لذلک مَن اختار ، فلو نظرتْ قریش من حیث نظر اللّه لها لَوُفِّقت وأصابتْ قریش .
فقال عمر : علی رَسْلِک یا ابنَ عبّاس ، أبَت قلوبکم یا بنی هاشم إلاّ غِشّاً فی أمر قریش لا یزول ، وحِقداً علیها لا یحول !
فقال ابن عبّاس : مهلاً ! لا تنسب هاشماً إلی الغشّ ؛ فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه الذی طهّره اللّه وزکّاه ، وهم أهل البیت الذین قال اللّه تعالی عنهم : « إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً »(4) . وأمّا قولک : «حِقداً» فکیف لا یحقد مَن غُصِبَ شَیئُه ، ویراه فی ید غیره ؟!
فقال عمر : أما أنت یا ابن عبّاس ، فقد بَلَغنی عنک کلامٌ أکره أن أُخبرک به ، فتزولَ منزلتُک عندی .
قال : وما هو ، أخبِرْنی به ، فإنْ یکُ باطلاً فمِثْلی أماطَ الباطلَ عن نفسه ، وإنْ یکُ حقّاً فإنّ منزلتی عندک لا تزول به .
قال : بلغنی أنّک لا تزال تقول : أُخِذ هذا الأمر منک حسداً وظُلماً .
قال : أمّا قولُک یا أمیرَالمؤمنین : «حسداً» ، فقد حسد إبلیسُ آدمَ فأخرجه من الجنّة ، فنحنُ بنو آدم المحسود . وأمّا قولک : «ظلماً» فأمیرُالمؤمنین یعلم صاحبَ الحقّ مَنْ هُو(5) !
ص: 107
ثمّ قال : یا أمیرالمؤمنین ! ألم تحتجّ العرب علی العجم بحقّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، واحتجّت قریش علی سائر العرب بحقّ رسول اللّه ، فنحن أحقّ برسول اللّه من سائر قریش(1) .
فقال له عمر : قم الآن إلی منزلک .
فقام ، فلمّا ولّی هتف به عمر : أیّها المنصرف ، إنّی علی ما کان منک لَراعٍ حقَّک !
فالتفت ابن عبّاس فقال : إنّ لی علیک یا أمیرالمؤمنین وعلی کلّ المسلمین حقّاً برسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فمَن حفظه فحقَّ نفسه حَفِظ ، ومَن أضاعه فحقَّ نفسه أضاع . ثمّ مضی .
فقال عمر لجلسائه : واهاً لابن عبّاس ! ما رأیتُه لاحی أحداً قطّ إلاّ خَصَمَه(2) !
قال : یا عبد اللّه ! علیکَ دماء البُدْن(1) إن کَتَمتَنیها ! هل بقی فی نفسه شیء من أمر الخلافة ؟!
قال : قلت : نعم .
قال : أیزعم أنّ رسول اللّه نصّ علیه ؟
قال ابن عبّاس : قلت : وأزیدک : سألت أبی عمّا یدّعی - أی من قول علیّ علیه السلام من نصّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالخلافة علیه - فقال : صَدَق .
فقال عمر : کان من رسول اللّه فی أمره ذِرْو(2) من قول لا یثبت حجّة ، ولا یقطع عذراً ، ولقد کان یَربَع(3) فی أمره وقتاً ما ، ولقد أراد فی مرضه أن یُصرّح باسمه فمَنَعتُه من ذلک(4) .
وفی هذا الحوار جواب مُسکِت لمَن انکر وصیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالخلافة لأمیرالمؤمنین علیه السلام ، حیث أثبتها عمر وابن عبّاس .
ص: 109
بَعَث أمیرُالمؤمنین علیّ علیه السلام ابنَ عبّاس إلی عائشة یأمرها بالخروج إلی المدینة - وذلک بعد أن وَضَعَت الحربُ أوزارها فی وَقْعة الجَمَل - فدخل علیها بغیر إذنها ، واجتَذَب وِسادةً فجلس علیها ، فقالت له : یا ابن عبّاس ، أخطأتَ السُّنّة المأمورَ بها ، دَخَلتَ إلینا بغیر إذننا ، وجَلَستَ علی رَحْلنا بغیر أمرنا !
فقال لها : لو کنتِ فی البیت الذی خَلّفکِ فیه رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله ، والذی أمرکِ اللّه أن تَقَرّی فیه ، ما دخلنا إلاّ بإذنک وما جَلَسنا علی رَحْلک إلاّ بأمرک ، وإنّ أمیرالمؤمنین یأمرک بسُرعة الأوْبَة والتأهّب للخروج إلی المدینة .
فقالت : أبَیْتُ ما قلتَ وخالَفتُ ما وَصَفتَ !
فمضی إلی أمیرالمؤمنین فخبّره بامتناعها ، فردّه إلیها وقال : إنّ أمیرالمؤمنین یعزم علیکِ أن ترجعی ، فأنعَمَتْ وأجابت إلی الخروج(1) .
وزاد بعضهم قال : قالت : وأین أمیرالمؤمنین ؟! ذاک عمر !
قال ابن عبّاس : فقلتُ : عمر وعلیّ .
قالت : أبَیْتُ .
قلتُ : أمَا واللّه ِ ما کان أبوکِ إلاّ قصیرَ المدّة ، عظیمَ المشقّة ، قلیل المنفعة ، ظاهر الشؤم ، بیّن النَّکد ، وما عسی أن یکون أبوک ؟! واللّه ما کان أمرُک إلاّ کحَلْبِ شاة حتّی صِرتِ لا تأمرین ولا تنهین ولا تأخُذین ولا تُعطین ، وما کنتِ إلاّ کما قال أخو بنی أسد :
ما زالَ إهداءُ الصَّغائرِ بیننا * نَثّ الحدیث وکثرة الألقابِ
حتّی نَزَلت کأنّ صوتَکَ بینهُم * فی کلِّ نائبةٍ طَنینُ ذُبابِ
ص: 110
قال : فبَکَتْ حتّی سُمع نحیبُها من وراء الحجاب . ثمّ قالت : إنّی مُعجّلةٌ الرحیلَ إلی بلادی إن شاء اللّه تعالی ، وما من بلدٍ أبغَضُ إلیّ من بلدٍ أنتم فیه !
قلتُ : فلِمَ ذاک ؟ فواللّه ِ لقد جعلناکِ للمؤمنین أُمّاً وجعلنا أباکِ صدّیقاً .
قالت : یا ابنَ عبّاس ، أتمنّ علَیّ برسول اللّه ؟!
قلتُ : ما لی لا أمنّ علیکِ بمَن لو کان منکِ لَمَننتِ بهِ علَیّ ؟!
ثمّ أتیتُ علیّاً فأخبرتُه بقولها وقولی ، فسُرَّ بذلک وقال : أنا کنتُ أعلَمُ بک حیث بَعَثتُک(1) .
عن ابن عبّاس الهمدانیّ عن أبیه قال : کانت عند ابن عبّاس یتیمة ، فخطبها إلیه رجل ، فقال : إنّی لا أرضاها لک .
قال : وکیف وقد نشأتْ فی حِجرک وعندک ؟!
قال : إنّ فیها بَذاءً وهی تتشرّف .
فقال : لا أُبالی .
فقال ابن عبّاس : فإنّی إذاً لا أرضاک لها(2) .
سأل رجل من قریش رجلاً من بنی قیس بن ثعلبة : ممّن أنت ؟
قال : من ربیعة .
ص: 111
قال له القرشیّ : لا أثر لکم ببطحاء مکّة !
قال القیسیّ : آثارنا فی أکناف الجزیرة معروفة ، ومواقفنا فی یوم ذی قار مشهورة ، فأمّا مکّة فسواءٌ العاکفُ فیه والبادِ کما قال اللّه تبارک وتعالی ، فأفحمه(1) .
روی أبان بن عیّاش ، قال : سألت الحسن البصریّ عن علیّ علیه السلام ، فقال : ما أقول فیه ! کانت له السابقة والفضل والعلم والحکمة والفقه والرأی والصُّحبة والنَّجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة ؛ إنّ علیّاً کان فی أمره علیّاً ، رحم اللّه علیّاً وصلّی علیه .
فقلت : یا أبا سعید ! أتقول : «صلّی اللّه علیه» لغیر النبیّ ؟!
فقال : ترحّمْ علی المسلمین إذا ذُکِروا ، وصَلِّ علی النبیّ وآله ، وعلیّ خیرُ آلِه(2) .
ص: 112
ص: 113
فقلت : أهو خیرٌ من حمزة وجعفر ؟
قال : نعم .
قلت : وخیر من فاطمة وابنیها ؟
قال : نعم ، واللّه إنّه خیرُ آل محمّد کلِّهم ، ومتی یُشکّ أنّه خیر منهم ، وقد قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «وأبوهما خیرٌ منهما»(1) ؟! ولم یَجرِ علیه اسمُ شِرک ، ولا شرب خمر ، وقد قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله لفاطمة علیهاالسلام : «زوّجتک خیرَ أُمّتی»(2) ، فلو کان فی أُمّته خیر منه لاستثناه(3) .
ص: 114
ص: 115
ص: 116
ولقد آخی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بین أصحابه ، فآخی بین علیّ ونفسه(1) ؛ فرسول اللّه صلی الله علیه و آله
ص: 117
ص: 118
خیر الناس نفساً ، وخیرهم أخاً .
فقلت : یا أبا سعید ، فما هذا الذی یقال عنک إنّک قُلتَه فی علیّ ؟
فقال : یا ابن أخی ، أحقِنُ دمی من هؤلاء الجبابرة ، ولولا ذلک لَشالَتْ بی الخُشُب(1) .
ص: 119
إسحاق بن إبراهیم بن إسماعیل عن حمّاد بن زید ، قال : بعث إلَیّ یحیی بن أکثم وإلی عدّة من أصحابی ، وهو یومئذٍ قاضی القضاة ، فقال : إنّ أمیرالمؤمنین أمرنی أن أُحضر معی غداً مع الفجر أربعین رجلاً کلُّهم فقیه یَفْقَه ما یقال له ویُحسن الجواب ، فسَمُّوا مَن تظنّونه یصلح لما یطلب أمیرالمؤمنین . فسَمَّینا له عدّة ، وذکر هو عدّة ، حتّی تمّ العدد الذی أراد ، وأمر بالبُکور فی السَّحَر ، فغَدَونا علیه قبل طلوع الفجر ، فقال : أحببتُ أن أُنبئکم أن أمیرالمؤمنین أراد مناظرتکم فی مذهبه الذی هو علیه والذی یَدین اللّه به .
قلنا : فلیفعل أمیرالمؤمنین ، وفّقه اللّه .
فقال : إنّ أمیرالمؤمنین یَدین اللّه علی أنّ علیّ بن أبی طالب خیرُ خلقِ اللّه بعد رسوله صلی الله علیه و آله ، وأولی الناس بالخلافة له .
قال إسحاق : فقلت : یا أمیرالمؤمنین ، إنّ فینا مَن لا یعرف ما ذَکر أمیرُالمؤمنین فی علیّ ، وقد دعانا أمیرُالمؤمنین للمناظرة .
فقال : یا إسحاق ، اخترْ ، إنْ شئتَ سألتُک أسألک(1) ، وإنْ شئت أن تسألَ فقُلْ .
قال إسحاق : فاغتنمتُها منه فقلت : بل أسألک یا أمیرَالمؤمنین .
قال : سَلْ .
قلتُ : من أین قال أمیرُالمؤمنین إنّ علیَّ بن أبی طالب أفضلُ الناس بعد رسول اللّه وأحقُّهم بالخلافة بعده ؟
قال : یا إسحاق ، خبِّرنی عن الناس : بِمَ یتفاضلون حتّی یقال فلانُ أفضلُ من فلان ؟
ص: 120
قلت : بالأعمال الصالحة .
قال : صدقت . قال : فأخبِرْنی عمّنْ فضَلَ صاحبَه علی عهدِ رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ثمّ إنّ
المفضول عمِل بعد وفاة رسول اللّه بأفضل من عمل الفاضل علی عهد رسول اللّه ، أیُلْحق به ؟
قال : فأطرقتُ ، فقال لی : یا إسحاق ، لا تقُلْ نعم ؛ فإنّک إن قلت نعم أوجدتُک فی دهرنا هذا مَن هو أکثرُ منه جهاداً وحجّاً وصیاماً وصلاةً وصدقةً .
فقلت : أجل یا أمیرالمؤمنین ، لا یلحق المفضولُ علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله الفاضلَ
أبداً .
قال : فانظر یا إسحاق ما رواه لک أصحابُک ومَن أخذتَ عنهم دینک وجعلتهم قدوتک من فضائل علیّ بن أبی طالب ؛ فقس علیها ما أتَوک به من فضائل أبی بکر ، فإن رأیتَ فضائل أبی بکر تشاکل فضائل علیّ ، فقُل إنّه أفضل منه ؛ لا واللّه ، ولکن فقِسْ إلی فضائله ما روی لک من فضائل أبی بکر وعمر ، فإن وجدتَ لهما من الفضائل ما لعلیّ وحده ، فقُلْ إنّهما أفضل منه ؛ ولا واللّه ، ولکن قِسْ إلی فضائله فضائل أبی بکر وعمر وعثمان ، فإن وجدتها مثل فضائل علیّ فقُلْ إنّهم أفضل منه ؛ لا واللّه ، ولکن قِس بفضائل العشرة الذین شهد لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالجنّة ، فإن وجدتها تشاکل فضائله فقل إنّهم أفضل منه .
قال : یا إسحاق ، أیّ الأعمال کانت أفضل یوم بَعَث اللّه رسولَه ؟
قلت : الإخلاص بالشهادة .
قال : ألیس السبق إلی الإسلام ؟
قلت : نعم .
قال : اقرأ ذلک فی کتاب اللّه تعالی یقول : « وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِکَ
ص: 121
الْمُقَرَّبُونَ »(1) ، إنّما عنی مَن سبق إلی الإسلام ، فهل علمتَ أحداً سبق علیّاً إلی الإسلام ؟
قلت : یا أمیرالمؤمنین ، إنّ علیّاً أسلم وهو حدیث السِّنِّ لا یجوز علیه الحکم ، وأبو بکر أسلم وهو مُستکمِل یجوز علیه الحکم .
قال : أخبِرْنی أیّهما أسلم قبل ، ثمّ أناظرک من بعده فی الحداثة والکمال !
قلت : علیّ أسلم قبل أبی بکر علی هذه الشریطة .
فقال : نعم ، فأخبِرْنی عن إسلام علیّ حین أسلم : لا یخلو من أن یکون رسول اللّه صلی الله علیه و آله دعاه إلی الإسلام ، أو یکون إلهاماً من اللّه ؟
قال : فأطرقت ، فقال لی : یا إسحاق ، لا تَقُل إلهاماً فتقدِّمَه علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؛ لأنّ رسول اللّه لم یعرف الإسلامَ حتّی أتاه جبریل عن اللّه تعالی .
قلت : أجل ، بل دعاه رسولَ اللّه إلی الإسلام .
قال : یا إسحاق ، فهل یخلو رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین دعاه إلی الإسلام من أن یکون دعاه بأمر اللّه أو تکلَّف ذلک من نفسه ؟
قال : فأطرقت ، فقال : یا إسحاق ، لا تنسب رسول اللّه إلی التکلّف ، فإنّ اللّه یقول : « وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَکَلِّفِینَ »(2) .
قلت : أجل یا أمیرالمؤمنین ، بل دعاه بأمر اللّه .
قال : فهل من صفة الجبّار جلّ ثناؤه أن یکلِّف رُسلَه دعاءَ مَن لا یجوز علیه حکم ؟
قلت : أعوذ باللّه !
فقال : أفَتَراه فی قیاس قولک یا إسحاق : «إنّ علیّاً أسلم صبیّاً لا یجوز علیه
ص: 122
الحُکم» قد کلّف رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله من دعاء الصِّبیان ما لا یُطیقون ! فهو یدعوهم الساعةَ ویرتدّون بعد ساعة ، فلا یجب علیهم فی ارتدادهم شیء ولا یجوز علیهم حکم الرسول علیه السلام ، أتری هذا جائزاً عندک أن تنسبه إلی اللّه عزّ وجلّ ؟
قلت : أعوذ باللّه !
قال : یا إسحاق ، فأراک إنّما قصدتَ لفضیلة فضّل بها رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله علیّاً علی هذا الخلق ، أبَانَه(1) بها منهم لیُعرفَ مکانُه وفضلُه ، ولو کان اللّه تبارک وتعالی أمره بدعاء الصبیان لدعاهم کما دعا علیّاً ؟
قلتُ : بلی .
قال : فهل بَلَغک أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله دعا أحداً من الصبیان من أهله وقرابته ؛ لئلاّ تقول إنّ علیّاً ابن عمّه ؟
قلتُ : لا أدری ولا أعلم فَعَل أو لم یفعل !
قال : یا إسحاق ، أرأیتَ ما لم تدْرِه ولم تعلمه هل تُسأل عنه ؟
قلت : لا .
قال : فَدَعْ ما قد وضعه اللّه عنّا وعنک .
قال : ثمّ أیّ الأعمال کانت أفضلَ بعد السَّبق إلی الإسلام ؟
قلت : الجهاد فی سبیل اللّه .
قال : صدقت ، فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما تجدُ لعلیٍّ فی الجهاد ؟
قلت : فی أیّ وقتٍ ؟
قال : فی أیّ الأوقات شئت !
قلت : بَدْر ؟
ص: 123
قال : لا أُرید غیرَها ؛ فهل تجد لأحدٍ إلاّ دونَ ما تجد لعلیّ یوم بَدْر ؟ أخبِرْنی : کم قتلی بَدْر .
قلتُ : نَیفٌ وستّون(1) رجلاً من المشرکین .
قال : فکم قَتلَ علیّ وحده ؟
قلت : لا أدری !
قال : ثلاثة وعشرین أو اثنین وعشرین(2) ، والأربعون لسائر الناس .
قلت : یا أمیرالمؤمنین ، کان أبو بکر مع رسول اللّه فی عریشه(3) .
قال : یصنع ماذا ؟
قلت : یُدبِّر .
قال : وَیْحَک ! یُدبِّر دونَ رسولِ اللّه أو معه شریکاً ، أو افتقاراً من رسول اللّه إلی رأیه ؟ أیّ الثلاث أحبّ إلیک ؟
قلت : أعوذُ باللّه ِ أن یُدبِّر أبو بکر دونَ رسول اللّه ، أو یکون معه شریکاً ، أو أن یکون برسول اللّه افتقار إلی رأیه .
قال : فما الفضیلة بالعَرِیش إذا کان الأمر کذلک ؟ ألیس مَن ضرب بسیفه بین یدی رسول اللّه أفضلَ ممّن هو جالس ؟
قلت : یا أمیرالمؤمنین ، کلّ الجیش کان مجاهداً .
قال : صدقت ، کلٌّ مجاهد ، ولکن الضارب بالسیف المحامی عن رسول اللّه وعن الجالس ، أفضل من الجالس ، أما قرأتَ کتاب اللّه : « لاَ یَسْتَوِی الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ
ص: 124
غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ وَالْمُ-جَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُ-جَاهِدِینَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَی الْقَاعِدِینَ دَرَجَةً وَکُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَی وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُ-جَاهِدِینَ عَلَی الْقَاعِدِینَ أَجْراً عَظِیماً »(1) .
قلت : وکان أبو بکر وعمر مجاهدَین .
قال : فهل کان لأبی بکر وعمر فضل علی مَن لم یشهد ذلک المشهد ؟
قلت : نعم .
قال : فکذلک ! سَبَق الباذل نفسه فضلَ أبی بکر وعمر .
قلت : أجل .
قال : یا إسحاق ، هل تقرأ القرآن ؟
قلت : نعم .
قال : اقرأ علَیَّ « هَلْ أَتی عَلَی الإِنسَانِ حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ یَکُن شَیْئاً مَذْکُوراً »(2)
فقرأت منها حتّی بلغت : « وَیُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَیَتِیماً وَأَسِیراً »(3) .
قال : علی رَسلِک ؛ فیمَن أُنزِلت هذه الآیات ؟
قلت : فی علیّ(4) .
قال : فهل بلغک أنّ علیّاً حین أطعَم المسکین والیتیم والأسیر ، قال : إنّما نُطعمکم لوجه اللّه ؟ وهل سمعت اللّه وصف فی کتابه أحداً بمثل ما وصف به علیّاً ؟
قلت : لا .
قال : صدقتَ ! لأنّ اللّه جلّ ثناؤه عرف سیرتَه . یا إسحاق ، ألستَ تشهد أنّ العشرة فی الجنّة ؟
ص: 125
قلتُ : بلی یا أمیرالمؤمنین .
قال : أرأیت لو أنّ رجلاً قال : واللّه ما أدری هذا الحدیث صحیح أم لا ، ولا أدری إن کان رسول اللّه قاله أم لم یَقُله ؛ أکان عندک کافراً ؟
قلت : أعوذُ باللّه !
قال : أرأیتَ لو أنّه قال : ما أدری هذه السورة من کتاب اللّه أم لا ، کان کافراً ؟
قلت : نعم(1) .
قال : یا إسحاق ، أری بینهما فرقاً . یا إسحاق ، أتروی الحدیث ؟
قلت : نعم .
قال : فهل تعرف حدیث الطَّیر ؟
قلت : نعم .
قال : فحدِّثنی به .
قال : فحدَّثته الحدیث ، فقال : یا إسحاق ، إنّی کنت أُکلِّمُک وأنا أظنّک غیر معاند للحقّ ، فأمّا الآن فقد بانَ لی عنادک ؛ إنّک تُوقن أنّ هذا الحدیث صحیح ؟
قلت : نعم ، رواه مَن لا یمکننی ردّه(2) .
قال : أفرأیتَ مَن أیقن أنّ هذا الحدیث صحیح ، ثمّ زعم أنّ أحداً أفضل من علیّ ، لا یخلو من إحدی ثلاثة : من أن تکون دعوةُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنده مَردودةً علیه ، أو أن یقول عرف الفاضلَ من خلقه وکان المفضول أحبَّ إلیه ، أو أن یقول إنّ اللّه
ص: 126
عزّ وجلّ لم یعرف الفاضل من المفضول ؛ فأیّ الثلاثة أحبّ إلیک أن تقول ؟
فأطرقت .
ثمّ قال : یا إسحاق ، لا تقل منها شیئاً ؛ فإنّک إن قلت منها شیئاً استنبْتُک(1) ، وإن کان للحدیث عندک تأویلٌ غیرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله .
قلت : لا أعلم ، وإنّ لأبی بکر فضلاً .
قال : أجل ، لولا أنّ له فضلاً لما قیل إنّ علیّاً أفضل منه ، فما فضلُه الذی قصدتَ له الساعة ؟
قلت : قول اللّه عزّ وجلّ : « ثَانِیَ اثْنَیْنِ إِذْ هُمَا فِی الْغَارِ إِذْ یَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا »(2) ، فنسبه إلی صحبته .
قال : یا إسحاق ، أما إنّی لا أحملک علی الوَعْرِ من طریقک ، إنّی وجدتُ اللّه تعالی نسبَ إلی صحبة مَن رضیَه ورضی عنه کافراً(3) ، وهو قوله : « قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ یُحَاوِرُهُ أَکَفَرْتَ بِالَّذِی خَلَقَکَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاکَ رَجُلاً * لکِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّی وَلاَ أُشْرِکُ بِرَبِّی أَحَداً »(4) .
قلت : إنّ ذلک صاحبٌ کان کافراً ، وأبو بکر مؤمن .
قال : فإذا جازَ أن یَنسب إلی صحبة مَن رضیه کافراً ، جاز أن یَنسب إلی صحبة نبیّه مؤمناً ، ولیس بأفضل المؤمنین ولا الثانیَ ولا الثالث(5) .
ص: 127
قلت : یا أمیرالمؤمنین ، إنّ قَدْرَ الآیة عظیم ، إنّ اللّه یقول : « ثَانِیَ اثْنَیْنِ إِذْ هُمَا فِی الْغَارِ إِذْ یَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا » .
قال : یا إسحاق ، تأبی الآن إلاّ أن أخرج إلی الاستقصاء علیک !
أخبِرْنی عن حُزْنِ أبی بکر : أکان رضاً أم سخطاً ؟
قلت : إنّ أبا بکر إنّما حزن من أجل رسول اللّه صلی الله علیه و آله خوفاً علیه وغمّاً أن یصل إلی رسول اللّه شیء من المکروه .
قال : لیس هذا جوابی ، إنّما کان جوابی أن تقول : رضاً ، أم سخط .
قلت : بل کان رضاً للّه .
قال : فکأنّ اللّه جلّ ذِکْرُه بعث إلینا رسولاً ینهی عن رضا اللّه عزّ وجلّ وعن طاعته !
قلت : أعوذُ باللّه ِ !
قال : أوَلیس قد زعمتَ أنّ حزْنَ أبی بکر رضاً للّه ؟
قلت : بلی .
قال : أوَلَم تجد أنّ القرآنَ یشهدُ أنّ رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله قال : « لاَ تَحْزَنْ » ، نهیاً عن الحُزْنِ ؟
قلت : أعوذُ باللّه !
قال : یا إسحاق ، إنّ مذهبی الرِّفقُ بک ، لعلّ اللّه یردّک إلی الحقّ ویعدل بک عن الباطل ، لکثرةِ ما تستعیذ به . وحدِّثنی عن قول اللّه : « فَأَنْزَلَ اللّهُ سَکِینَتَهُ عَلَیْهِ »(1) ، مَن عنی بذلک ، رسولَ اللّه أم أبا بکر ؟
قلت : بل رسول اللّه .
ص: 128
قال : صدقت . قال : حدّثنی عن قول اللّه عزّ وجلّ : « وَیَوْمَ حُنَیْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتُکُمْ »(1) إلی قوله : « ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَکِینَتَهُ عَلَی رَسُولِهِ وَعَلَی الْمُؤْمِنِینَ »(2) أتعلم مَن دالمؤمنون الذی أراد اللّه فی هذا الموضوع(3) ؟
قلت : لا أدری یا أمیرالمؤمنین .
قال : الناس جمیعاً انهزموا یومَ حُنَین ، فلم یَبقَ مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلاّ سبعةُ نَفَر من بنی هاشم : علیّ یضرب بسیفه بین یدَی رسول اللّه ، والعبّاس آخذٌ بلجام بغلة رسول اللّه ، والخمسة مُحدِقون به خوفاً من أن یناله من جِراح القوم شیء ، حتّی أعطی اللّه ُ لرسولِه الظَّفَر ، فالمؤمنون فی هذا الموضع علیّ خاصّة ، ثمّ مَن حضره من بنی هاشم . قال : فمَن أفضَلُ : مَنْ کان مع رسولِ اللّه صلی الله علیه و آله فی ذلک الوقت ، أم مَن انهزم عنه ولم یَره اللّه ُ موضعاً لیُنزلها - أی السکینة - علیه ؟
قلت : بل مَن أُنزلت علیه السکینة .
قال : یا إسحاق ، مَن أفضل : مَن کان معه فی الغار ، أم مَن نام علی فراشه ووقاه بنفسِه ، حتّی تمّ لرسولِ اللّه صلی الله علیه و آله ما أراد من الهجرة ؟ إنّ اللّه تبارک وتعالی أمر رسولَه أن یأمر علیّاً بالنومِ علی فراشه ، وأن یَقِیَ رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله بنفسه ؛ فأمره رسول اللّه بذلک ، فبکی علیٌّ ، فقال له رسول اللّه : ما یُبکیک یا علیّ ، أجزعاً من الموت ؟ قال : لا ، والذی بعثک بالحقِّ یا رسول اللّه ، ولکن خوفاً علیک ! أفتَسلَم یا رسول اللّه ؟ قال : نعم . قال : سمعاً وطاعة وطیّبةٌ نفسی بالفداءِ لک یا رسول اللّه ! ثمّ أتی مضْجَعه واضطجع ، وتسجّی بثوبه(4) ، وجاء المشرکون من قریش فحفُّوا به لا یشکّون أنّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وقد أجمعوا أن یضربه من کلّ بَطن من بُطون قریش رجلٌ ضربةً
ص: 129
بالسیف ، لئلاّ یطلب الهاشمیّون من البطون بطناً بدمه ؛ وعلیٌّ یسمع ما القومُ فیه من إتلاف نفسه ، ولم یَدْعُه ذلک إلی الجزع کما جزع صاحبه فی الغار . ولم یزل علیّ صابراً محتسباً ، فبعث اللّه ملائکته فمَنَعته من مشرکین قریش حتّی أصبح ، فلمّا أصبح قام فنظر القوم إلیه فقالوا : أین محمّد ؟ قال : وما عِلمی بمحمّد أین هو ؟ قالوا : فلا نراک إلاّ مُغرِّراً بنفسک منذ لیلتنا ، فلم یَزَل علی أفضل ما بدأ به ، یزید ولا ینقص ، حتّی قبضه اللّه إلیه(1) .
یا إسحاق ، هل تروی حدیث الولایة ؟
قلت : نعم یا أمیرالمؤمنین .
قال : اروِه ، ففعلتُ ، قال : یا إسحاق ، أرأیتَ هذا الحدیث هل أوْجبَ علی أبی بکر وعمر ما لم یُوجب لهما علیه ؟
قلت : إنّ الناس ذکروا أنّ الحدیث إنّما کان بسبب زید بن حارثة لشیء جری بینه وبین علیّ ، وأنکر ولاءَ علیّ ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «مَن کنت مولاه فعلیٌّ مولاه ؛ اللّهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه» .
قال : فی أیّ موضعٍ قال هذا ، ألیس بعد مُنصَرَفه من حجّة الوداع ؟
قلت : أجل .
قال : فإنّ قَتْلَ زید بن حارثة قبلَ الغدیر(2) ؛ کیف رضیت لنفسک بهذا ؟! أخبِرْنی : لو رأیتَ ابناً لک قد أتَتْ علیه خمس عشرة سنة یقول : مولای مولَی ابن عمّی ، أیّها
ص: 130
الناس فاعلموا ذلک، أکنتَ منکراً ذلک علیه: تعریفَه الناسَ ما لایُنکرون ولا یجهلون؟
فقلت : اللّهمّ نعم .
قال : یا إسحاق ، أفتُنزِّه ابنَک عمّا لا تُنزِّه عنه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ ویْحَکم ! لا تجعلوا فقهاءکم أربابکم ، إنّ اللّه جلّ ذِکرُه قال فی کتابه : « اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّه »(1) . ولم یصلُّوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنّهم أرباب ، ولکن أمَروهم فأطاعوهم . یا إسحاق ، أتروی حدیث : «أنت منّی بمنزلة هارون من موسی» ؟
قلت : نعم یا أمیرالمؤمنین ، قد سمعتُه وسمعتُ مَن صَحَّحه وجَحَده !
قال : فمَن أوثقُ عندک : مَن سمعتَ منه فصحَّحه ، أو مَن جَحَده ؟
قلت : مَن صحَّحه .
قال : فهل یمکن أن یکون الرسول صلی الله علیه و آله مَزَح بهذا القول ؟
قلتُ : أعوذ باللّه !
قال : فقال - أی النبیّ - قولاً لا معنیً له ، فلا یُوقَف علیه ؟
قلت : أعوذ باللّه !
قال : أفما تعلم أنّ هارون کان أخا موسی لأبیه وأُمّه ؟
قلت : بلی .
قال : فعلیٌّ أخو رسولِ اللّه لأبیه وأُمِّه ؟
قلت : لا .
قال : أوَلیسَ هارون کان نبیّاً وعلیٌّ غیرُ نبیّ ؟
قلت : بلی .
قال : فهذان الحالان معدومان فی علیّ وقد کانا فی هارون ؛ فما معنی قوله : «أنت
ص: 131
منّی بمنزلة هارون من موسی»(1) ؟
قلتُ : إنّما أراد أن یُطیِّب بذلک نفْسَ علیّ لمّا قال المنافقون إنّه خلّفه استثقالاً له !
قال : فأراد أن یُطیِّب نفسه بقولٍ لا معنیً له ؟
قال : فأطرقت .
قال : یا إسحاق ، له معنی فی کتاب اللّه بَیِّن .
قلت : وما هو یا أمیرالمؤمنین ؟
قال : قوله عزّ وجلّ حکایةً عن موسی أنّة قال لأخیه هارون : « اخْلُفْنِی فِی قَوْمِی وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِیلَ الْمُفْسِدِینَ »(2) .
قلت : یا أمیرالمؤمنین ، إنّ موسی خلّف هارونَ فی قَوْمِه وهو حیٌّ ، ومضی إلی ربِّه ، وإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله خلّف علیّاً کذلک حین خرج إلی غزاته .
قال : کلاّ ! لیس کما قلت ؛ أخبِرْنی عن موسی حین خلّف هارون : هل کان معه حین ذهب إلی ربِّه أحدٌ من أصحابه أو أحدٌ من بنی إسرائیل ؟
قلت : لا .
قال : أولیس استخلفه علی جماعتهم ؟
قلت : نعم(3) .
قال : فأخبِرنی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین خرج إلی غزاته : هل خلّف إلاّ الضعفاءَ والنِّساءَ والصِّبیانَ ، فأنّی یکون مثل ذلک ؟ وله عندی تأویل آخر من کتاب اللّه یدلّ
ص: 132
علی استخلافه إیّاه ، لا یقدر أحد أن یحتجّ فیه ، ولا أعلم أحداً احتجّ به ، وأرجو أن یکون توفیقاً من اللّه .
قلت : وما هو یا أمیرالمؤمنین ؟
قال : قوله عزّ وجلّ حین حکی عن موسی قوله : « وَاجْعَل لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی * هَارُونَ أَخِی * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِی * وَأَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی * کَیْ نُسَبِّحَکَ کَثِیراً * وَنَذْکُرَکَ کَثِیراً * إِنَّکَ کُنتَ بِنَا بَصِیراً »(1) «فأنت منّی یا علیّ بمنزلة هارون من موسی : وزیری من أهلی ، وأخی ، شَدَّ اللّه به أزْری ، وأشْرَکه فی أمرِی ، کی نُسبّح اللّه کثیراً ، ونذکرَه کثیراً» ، فهل یقدر أحد أن یُدخل فی هذا شیئاً غیر هذا ولم یکن لیبطل قولَ النبیّ صلی الله علیه و آله ، وأن یکون لا معنی له ؟
قال : فطال المجلس وارتفع النهار ، فقال یحیی بن أکثم القاضی : یا أمیرالمؤمنین ، قد أوضحتَ الحقّ ل-مَن أراد اللّه به الخیرَ ، وأثْبَتَّ ما لا یقدر أحد أن یدفعه .
قال إسحاق : فأقبَل علینا وقال : ما تقولون ؟
فقلنا : کلُّنا نقول بقولِ أمیرالمؤمنین أعزّه اللّه .
فقال : واللّه ِ ، لولا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : اقبَلوا القولَ من الناس ، ما کنتُ لأقبلَ منکم القولَ . اللّهمّ قد نصحتُ لهم القولَ ، اللّهمّ إنّی قد أخرجتُ الأمرَ من عنقی ، اللّهمّ إنّی أَدینُک بالتقرّبِ إلیک بحبِّ علیٍّ وولایته(2) !
عَوانة بن الحکم قال : حجّ محمّد بن هشام ، ونزلتْ رِفْقة ، فإذا فیها شیخ کبیر قد
ص: 133
احتَوَشَه(1) الناسُ وهو یأمر وینهی ، فقال محمّد بن هشام لمَن حوله : تجدون الشیخ عراقیّاً فاسقاً !
فقال له بعض أصحابه : وکوفیّاً منافقاً(2) !
فقال محمّد : علَیّ به . فأُتی بالشیخ ، فقال له : أعراقیّ أنت ؟
قال : نعم عراقیّ .
قال : وکوفیّ ؟
قال : وکوفیّ .
قال : وترابیّ ؟
قال : وتُرابیّ ، من التراب خُلقت ، وإلیه أصیر .
قال : أنت ممّن یهوی أبا تراب ؟
قال : ومَن أبو تراب ؟
قال : علیّ بن أبی طالب .
قال : أتعنی ابن عمّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وزوج فاطمة ابنته ، وأبا الحسن والحسین ؟
قال : نعم ، فما قَولُک فیه ؟
قال : قد رأیت مَن یقول خیراً ویَحمُد ، ورأیت مَن یقول شرّاً ویَذُمّ .
قال : فأیّهما أفضل عندک : أهو أم عثمان ؟
قال : وما أنا وذاک ؟ واللّه لو أنّ علیّاً جاء بوزنِ الجبال حسناتٍ ما نَفَعَنی ، ولو جاء بوزنها سیّئات ما ضَرَّنی ، وعثمان مثل ذلک .
ص: 134
قال : فاشتم أبا تراب(1) !
قال : أوما ترضی منّی بما رَضِی به مَن هو خیر منک ممّن هو خیر منّی فیمَن هو شرّ من علیّ ؟
قال : وما ذاک ؟
قال : رضی اللّه وهو خیر منک ، من عیسی وهو خیر منّی ، فی النصاری وهم شرّ من علیّ ، إذ قال : « إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُکَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّکَ أَنتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ »(2) .(3)
قال الریاشیّ : انتَقَص ابنٌ لحمزة بن عبد اللّه بن الزبیر علیّاً ، فقال له أبوه : یا بُنیّ ؛ إنّه واللّه ما بَنَتِ الدنیا شیئاً إلاّ هَدَمه الدّین ، وما بنی الدین شیئاً فهدمته الدنیا ؛ أما تری علیّاً وما یُظهر بعض الناس من بُغضه ولعنه علی المنابر فکأنّما واللّه یأخذون
بناصیته رفعاً إلی السماء ، وما تری بنی مروان وما یندبون به موتاهم من المدح بین الناس ؛ فکأنّما یکشفون عن الجِیَف(4) .
عن ربیعة السعدیّ قال : لمّا اختلف الناس فی التفضیل ، رَحَلتُ راحلتی وأخَذتُ زادی وخرجتُ حتّی دخلت المدینة ، فدخلت علی حذیفة بن الیمان ، فقال لی : مَن الرجل ؟
ص: 135
قلت : من أهل العراق .
فقال لی : من أیّ العراق ؟
قلت : من أهل الکوفة .
قال : مرحباً بکم یا أهل الکوفة .
قلت : اختلف الناس علینا فی التفضیل ، فجئت لأسألک عن ذلک .
فقال لی : علی الخبیر سقطت . أما إنّی لا أُحدِّثک إلاّ بما سمِعتْ أُذنای ووعاه قلبی وأبصرَتْهُ عینای : خرج علینا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، کأنّی أنظر إلیه کما أنظر إلیک الساعة ، حامل الحسین بن علیّ علی عاتقه . کأنّی أنظر إلی کفّه الطیّبة واضعها علی قدمه یلصقها بصدره ، فقال : «یا أیّها الناس ، لأعرفنّ ما اختلفتم فی الخیار بعدی ! هذا الحسین بن علیّ خیر الناس جَدّاً ، وخیرُ الناسِ جَدّة ؛ جدُّه محمّد رسولُ اللّه سیّدالنبیّین ، وجدّتُه خدیجةُ بنتُ خُویلد سابقةُ نساءِ العالمین إلی الإیمان باللّه ِ ورسوله ، هذا الحسین بن علیّ خیرُ الناس أباً وخیرُ الناس أُمّاً ؛ أبوهُ علیُّ بن أبی طالب أخو رسول اللّه ووزیرُه وابنُ عمِّه وسابقُ رجالِ العالمین إلی الإیمان باللّه ورسوله ، وأُمُّه فاطمة بنتُ محمّد سیّدةُ نساءِ العالمین . هذا الحسینُ بن علیّ خیرُ الناس عمّاً ، وخیرُ الناس
عمّةً ؛ عمُّه جعفرُ بن أبی طالب المزیَّن بالجناحیْن یطیر بهما فی الجنّة حیثُ یشاء ، وعمّتُه أُمّ هانئ بنت أبی طالب . هذا الحسینُ بن علیّ خیرُ الناسِ خالاً ، وخیرُ الناس خالة ؛ خالُه القاسمُ بن محمّد رسول اللّه ، وخالته زینب بنت محمّد رسول اللّه» ثمّ وضعه عن عاتقه ، فدَرج بین یدیه وحَبَا .
ثمّ قال : «یا أیّها الناس ، هذا الحسینُ بن علیّ : جدُّه وجدّتُه فی الجنّة ، وأبوه وأُمُّه فی الجنّة ، وعمُّه وعمّتُه فی الجنّة ، وخالُه وخالتُه فی الجنّة ، وهو وأخوه فی الجنّة ؛ إنّه لم یُؤتَ أحدٌ من ذُرّیّة النبیّین ما أُوتی الحسین بن علیّ ما خَلا یوسف بن یعقوب(1) .
ص: 136
صَعِد عبید اللّه بن زیاد المنبر فی المسجد الأعظم بالکوفة ، فقال : الحمد للّه الذی أظهر الحقّ وأهله ونصر أمیرالمؤمنین یزید بن معاویة وحزبه ، وقتل الکذّاب ابن الکذّاب(1) الحسین بن علیّ وشیعته !
فلم یفرغ ابن زیاد من مقالته حتّی وَثَب إلیه عبد اللّه بن عفیف الأزدیّ ثمّ الغامدیّ ، وکان من خیار الشیعة ، وکانت عینه الیسری قد ذهبت یوم الجَمَل مع علیّ علیه السلام ، وذهبت الأخری یوم صِفّین ، وکان لا یفارق المسجد الأعظم یصلّی فیه إلی اللیل ، ثمّ ینصرف إلی منزله ؛ فلمّا سمع مقالة ابن زیاد وَثَب قائماً ثمّ قال : یا ابن مرجانة ! إنّ الکذّاب ابن الکذّاب أنت وأبوک ومَنْ استعملک وأبوه . یا عدوّ اللّه ، أتقتلون أبناء النبیّین وتتکلّمون بهذا الکلام علی منابر المؤمنین ؟
فغضب ابن زیاد ثمّ قال : مَن المتکلّم ؟
فقال : أنا المتکلّم یا عدوّ اللّه ! أتقتل الذرّیّة الطّاهرة التی قد أذهب اللّه عنها الرِّجس فی کتابه وتزعم أنّک علی دین الإسلام ؟! أین أولادُ المهاجرین والأنصار ینتقمون من طاغیتک اللّعین ابن اللّعین علی لسان محمّد نبیّ ربّ العالمین .
فازداد غضباً عدوّ اللّه حتّی انتفخت أوداجه ، ثمّ قال : علَیّ به ، فتبادرت إلیه الجلاوزة من کلّ ناحیة لیأخذوه ، فقامت الأشراف من الأزد من بنی عمّه فخلّصوه وانطلقوا به إلی منزله .
ثمّ أرسل إلیه مَن اقتحم علیه بیته فقاتلهم حتّی أخذوه وأتَوا بهِ ابنَ زیاد ، فقال : الحمد للّه الذی أخزاک .
ص: 137
فقال له عبد اللّه بن عفیف : یا عدوّ اللّه ، بماذا أخزانی ؟ واللّه ِ لو فَرَج اللّه ُ عن بصری لَضاق علیک مَوردی ومَصدری .
فقال ابن زیاد : یا عدوّ نفسه ! ما تقول فی عثمان بن عفّان ؟
فقال : یا ابن عبد بنی علاج ، یا ابن مرجانة وسُمیّة ، ما أنت وعثمان بن عفّان ؟ عثمان أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد ، واللّه تبارک وتعالی ولیُّ خلقه یقضی بین خلقه وبین عثمان بالعدل والحقّ . ولکن سَلْنی عن أبیک ، وعن یزید وأبیه .
فقال ابن زیاد : واللّه لا سألتک عن شیء أو تذوق الموت .
فقال ابن عفیف : الحمد للّه ربّ العالمین ، أما إنّی کنت أسأل ربّی عزّ وجلّ أن یرزقنی الشهادة والآن فالحمد للّه الذی رزقنی إیّاها بعد الإیاس منها وعرّفنی الإجابة منه لی فی قدیم دعائی .
فقال ابن زیاد : اضربوا عنقه ، فضُرِبت وصُلِب رحمة اللّه علیه(1) .
بعد أن تمکّن ابن زیاد من عبد اللّه بن عفیف الأزدیّ وقتله ، دعا بِجُندَب بن عبد اللّه الأزدیّ فقال : یا عدوَّ اللّه ! ألستَ صاحب علیّ بن أبی طالب فی یوم صفّین ؟
فقال : بلی واللّه یا ابن زیاد ، أنا صاحبُ علیّ بن أبی طالب ولا زلتُ له ولیّاً ، ولا أبرأ إلیک من ذلک .
فقال ابن زیاد : أظنّ أنّی أتقرّب إلی اللّه تعالی بدمِک !
فقال جُندَب : واللّه ما یقرّبک دمی من اللّه ولکنّه یباعدک منه ، وبعد فإنّه لم یَبقَ من عمری إلاّ أقلّه ، وما أکره أن یُکرمنی اللّه بهوانِک .
ص: 138
فقال ابن زیاد : أخرجوه عنّی ؛ فإنّه شیخ قد خَرِف وذهب عقلُه !
فأُخرج عنه وخُلّی سبیله(1) .
قال عبید اللّه بن زیاد بن أبیه ، لحارثة بن بدر الغُدانیّ(2) : ما تقول فیّ وفی الحسین یوم القیامة ؟
قال : یشفع له أبوه وجدّه صلی الله علیه و آله ، ویشفع لک أبوک وجدّک ، فاعرف مِن هاهنا ما ترید(3) !
کان القاسم بن محمّد بن یحیی بن طلحة بن عبید اللّه التیمیّ یلقّب أبا بعرة ، وَلِیَ شُرطة الکوفة لعیسی بن موسی بن محمّد بن علیّ بن عبد اللّه بن العبّاس ، کلّم إسماعیل بن جعفر بن محمّد علیه السلام بکلام خرجا فیه إلی المنافرة(4) ، فقال القاسم بن محمّد : لم یَزَل فضلُنا وإحسانُنا سابغاً علیکم یا بنی هاشم وعلی بنی عبد مَناف کافّة !
فقال إسماعیل : أیّ فضلٍ وإحسانٍ أسدَیْتموه إلی بنی عبد مَناف ؟ أغْضَبَ أبوک جدّی بقولِه : لیموتَنّ محمّد ! ولنجولَنّ بین خَلاخیل نسائه کما جال بین خلاخیل نسائنا ! فأنزل اللّه تعالی مُراغمةً لأبیک : « وَمَا کَانَ لَکُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن
ص: 139
تَنکِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً »(1) .
ومنع ابن عمّک(2) أمّی(3) حقّها من فَدَک وغیرها من میراث أبیها .
وأجلَبَ أبوک علی عثمان وحَصَره حتّی قُتِل ، ونکث بیعة علیّ وشام السیفَ(4) فی وجهه ، وأفسد قلوب المسلمین علیه ، فإنْ کان لبنی عبد مَناف قوم غیر هؤلاء أسدَیتم إلیهم إحساناً ، فعرِّفنی مَن هم جُعِلتُ فِداک(5) !
كان عبد اللَّه بن الزبير يُبغض عليّاً عليه السلام ويتنقّصه : روى عمر بن شبّة(6) وابن الكلبيّ والواقديّ وغيرهم ، أنّه مكثَ أيّامَ ادّعائهِ الخلافةَ أربعين جمعة لا يصلّي فيها على النبيّ صلى الله عليه وآله ! وقال : لا يَمنَعني من ذِكره إلّا أن تَشْمخَ رجالٌ بآنافِها .
وفي رواية محمّد بن حبيب ، وأبي عُبيدة معمر بن المثنّى : أن له أُهَيْلَ سَوء يُنغِضون(7) رؤوسهم عند ذِكره(8) .
ص: 140
قال سعيد بن جُبير : إنّ عبد اللَّه بن الزبير قال لعبد اللَّه بن عبّاس : إنّي لَأكتم بُغضَكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة !
وروى عمر بن شبّة أيضاً عن سعيد بن جبير ، قال : خطب عبد اللَّه بن الزبير فنال من عليّ عليه السلام ، فبلغ ذلك محمّد بن الحنفيّة ، فجاء إليه وهو يخطُب ، فوُضِع له كرسيّ ، فقطع عليه خطبته ، وقال : يا معشر العرب ، شاهَت(1) الوجوه ! أيُنتَقَص عليّ وأنتم حضور ؟! إنّ عليّاً كان يدَ اللَّه على أعداءِ اللَّه ، وصاعقةً من أمره أرسله على الكافرين والجاحدين لحقّه ، فقتلهم بكفرهم فشَنَؤوه وأبغَضُوه ، وأضمروا له الشَّنَف(2) والحسد ، وابنُ عمّه صلى الله عليه وآله حيّ بَعدُ لم يَمُت ، فلمّا نقله اللَّه إلى جواره وأحبّ له ما عنده ، أظهرت رجال أحقادَها ، وشَفَت أضغانها ، فمنهم مَن ابتزّ حقّه ، ومنهم من ائتمر به ليقتله ، ومنهم مَن شَتَمه وقَذَفه بالأباطيل ، فإن يكن لذرّيّته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم ، وتحفِر على أجسادهم ، والأبدانُ منهم يومئذٍ بالية ، بعد أن تقتل الأحياء منهم ، وتذلّ رقابهم ، فيكون اللَّه عزّ اسمه قد عذّبهم بأيدينا وأخزاهم ونصَرنا عليهم وشفا صدورَنا منهم ؛ إنّه واللَّه ما يشتم عليّاً إلّا كافرٌ يُسِرّ شَتْمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(3) ،
ص: 141
ويخاف أن يبوح به ! فيُكنّي بشَتْمِ عليّ عليه السلام عنه . أما إنّه قد تخطّت المنيّة منكم مَن امتدّ عمره ، وسمع رسول اللَّه يقول فيه - أي في عليّ - : «لا يُحبّك إلّا مؤمن ولا يُبغضك إلّا منافق»(1) وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقَلبٍ ينقلبون .
فعاد ابنُ الزبير إلى خُطبته وقال : عذَرتُ بني الفَواطِم(2) يتكلّمون ، فما بالُ ابن
ص: 142
أُمّ حَنِيفة(1) !
فقال محمّد : يا ابن أُمّ رومان(2) ! وما لي لا أتكلّم ! وهل فاتَني من الفواطم إلّا
ص: 143
واحدة(1) ولم يَفُتْني فخرُها ؛ لأنّها أُمّ أخَوَيّ . أنا ابن فاطمة بنت عِمران بن عائذ بن مخزوم(2) ، جدّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله . وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم(3) ، كافلة رسول
ص: 144
اللَّه صلى الله عليه وآله ، والقائمة مقامَ أُمّه . أما واللَّهِ لولا خديجة بنت خُوَيلد(1) ما تركتُ في بني أسد ابن عبد العُزّى عظماً إلّا هَشَمتُه ! ثمّ قام فانصرف(2) .
كان عبد اللَّه بن الزبير يرى نفسه أكثر من قدرها ويضعها في غير موضعها ، ممّا جعله في حرج من أمره لا يدري ماذا يجيب في أكثر مِن مَوطن . وهو الذي نَعَتَ أباه بالجُبن يومَ الجَمَل ، وذلك أنّ أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام واقَفَ الزبير يومئذٍ وحاججه مذكّراً إيّاه بقولِ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله للزبير : «إنّك ستقاتل عليّاً وأنت ظالم له» ، فأظهر الزبير الندم .
من تلك المواطن التي عرّض ابن الزبير نفسه فيها للحرج : تزوّج عبد اللَّه بن الزبير أُمَّ عمرو ابنة منظور بن زبّان الفَزاريّة ، فلمّا دخل بها قال لها : أتدرين مَن معكِ في حَجَلتك(3) ؟
قالت : نعم ، عبد اللَّه بن الزبير بن العوّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزّى .
قال : ليس غير هذا(4) ؟!
ص: 145
قالت : فما الذي تريد ؟
قال : معكِ مَن أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجَسد ، لا بل بمنزلة العينين من الرأس !
قالت : أما واللَّهِ لو أنّ بعض بني عبد مَناف حَضَرك لَقال لك خلاف قولك .
فغضب وقال : الطعام والشراب عليَّ حرام حتّى أحضرَكِ الهاشميّين وغيرهم من بني عبد مَناف ، فلا يستطيعون لذلك إنكاراً !
قالت : إنْ أطعتَني لم تفعل ، وأنت أعلم وشأنك .
فخرج إلى المسجد فرأى حَلْقةً فيها قوم من قريش ، منهم عبد اللَّه بن العبّاس وعبد اللَّه بن الحصين بن الحارث بن عبد المطّلب بن عبد مَناف ، فقال لهم ابنُ الزبير : أُحِبّ أن تنطلقوا معي إلى منزلي . فقام القوم بأجمعهم حتّى وقفوا على باب بيته ، فقال ابنُ الزبير : يا هذه ، اطْرَحي عليكِ سترَكِ ، فلمّا أخذوا مجالسَهم دعا بالمائدة ، فتغدّى القوم ، فلمّا فرغوا قال لهم : إنّما جَمَعتُكم لحديثٍ رَدَّتْه عَليَّ صاحبةُ الستر ، وزعَمَت أنّه لو كان بعض بني عبد مَناف حَضَرني لَما أقرّ لي بما قلت ، وقد حضرتم جميعاً . وأنت يا ابن عبّاس ، ما تقول ؟ إنّي أخبرتُها أنّ معها في خِدْرها مَن أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد ، بل بمنزلة العينين من الرأس ! فرَدّت علَيّ مقالتي .
فقال ابن عبّاس : أراك قصدتَ قَصْدي ، فإن شئتَ أن أقول قلتُ ، وإن شئتَ أن أكفّ كفَفت .
قال : بل قُل ، وما عسى أن تقول ؟! ألستَ تعلم أنّي ابن الزبير حَواريّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وأنّ أُمّي أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق ذات النِّطاقَين ، وأنّ عمّتي خديجة سيّدة نساء العالمين ، وأنّ صفيّة عمّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله جدّتي ، وأنّ عائشة أمّ المؤمنين خالتي ؟! فهل تستطيع لهذا إنكاراً !
قال ابن عبّاس : لقد ذكرت شَرَفاً شريفاً ، وفخراً فاخراً ، غير أنّك تُفاخر مَن
ص: 146
بفخره فَخَرتَ ، وبفضله سَمَوتَ .
قال : وكيف ذلك ؟
قال : لأنّك لم تذكر فخراً إلّا برسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وأنا أولى به منك(1) .
بهذا الجواب قَطَع ابنُ عبّاس ابنَ الزبير ، إذ لم يَدَع له سبباً يتوصّل به ويفخر ، سواء أكان ابن الزبير صادقاً فيما قال أم لم يكن ! إلّا وقد ردّ جميع ذلك إلى شرف العلاقة برسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وابن عبّاس أولى بهذه العلاقة وأقرب من ابن الزبير إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .
وليت ابن الزبير وقف عند هذا ولم يجلب على نفسه ما هو عنه غنيّ ! إذ انتقل من فخر الإسلام ومجده إلى التفاخر بأمجاد الجاهليّة كما سيأتي في مجرى الحوار ، ممّا يذكّرنا بنظائر ذلك من محاورات معاوية وعمرو بن العاص لشيعة أميرالمؤمنين عليه السلام .
قال ابن الزبير : لو شئتُ لَفَخرتُ عليك بما كان قبل النبوّة !
قال ابن عبّاس :
قَدْ أَنْصَفَ القَارَةَ مَن راماها(2)
ص: 147
نشدتكم اللَّه أيّها الحاضرون ! أعبد المطّلب أشرف أم خُوَيلد في قريش ؟
قالوا : عبد المطّلب .
قال : أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد ؟
قالوا : بل هاشم .
قال : أفعبد مَناف أشرف أم عبد العُزّى ؟
قالوا : عبد مَناف .
فقال ابن عبّاس :
تُنافِرُني يا ابنَ الزُّبيرِ وقد قَضى * عليكَ رسولُ اللَّهِ لا قولَ هازلِ
ولو غَيرُنا يا ابنَ الزُّبيرِ فَخَرتَهُ * ولكنّما سامَيتَ شمسَ الأصائلِ
قضى لنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله بالفَضلِ في قوله : «ما افترقت فرقتان إلّا كنتُ في خَيرِهما»(1) ، فقد فارقناك من بعد قصيِّ بن كلاب ، أفنحنُ في فِرقة الخَيْر أم لا ؟ إنْ
ص: 148
قلتَ : نعم خُصِمتَ(1) ، وإن قلتَ : لا كَفَرتَ !
فضحك بعض القوم ، فقال ابن الزبير : أما واللَّه لولا تَحَرُّمُك بطعامنا يا ابنَ عبّاس لَأعرَقتُ جبينك قبل أن تقوم من مجلسك !
فقال ابن عبّاس : ولِمَ ؟ أبباطل ، فالباطل لا يغلب الحقّ ، أم بحقّ ؟ فالحقّ لا يخشى من الباطل !
فقالت المرأة من وراء السِّتر : إنّي واللَّهِ لقد نَهَيْتُه عن هذا المجلس ، فأبى إلّا ما تَرَون .
فقال ابن عبّاس : مَهْ أيّتها المرأة ! اقنعي ببعلِك ، فما أعظمَ الخطرَ ، وما أكرمَ الخبرَ ! فأخذ القومُ بيدِ ابن عبّاس - وكان قد عَمِي - فقالوا : انهَضْ أيّها الرجل ؛ فقد أفحمتَه غيرَ مرّة ، فنهض وقال :
ألَا يا قَومَنا ارتَحِلُوا وسِيروا * فلو تُرِكَ القَطا لَغَفا وناما
فقال ابنُ الزّبير : يا صاحبَ القَطا ، أَقبِلْ عليَّ ، فما كنتَ لِتدَعني حتّى أقول . وأيمُ اللَّه ! لقد عرف الأقوامُ أنّي سابقٌ غيرُ مسبوق ، وابنُ حواريّ وصِدّيق ، مُتبَجّح(2) في الشرف الأنيق ، خيرٌ من طليق(3) .
ص: 149
فقال ابن عبّاس : دَسَعْتَ(1) بجِرّتك فلم تُبقِ شيئاً ! هذا الكلام مردود من امرئٍ حسود ؛ فإن كنتَ سابقاً فإلى مَن سَبَقْت ؟! وإن كنتَ فاخراً فبِمَنْ فَخَرت ؟ فإن كنتَ أدركتَ هذا الفَخْرَ بأُسرتِك دون أُسرتِنا فالفخرُ لك علينا ، وإنْ كنتَ إنّما أدركته بأسرتنا فالفخرُ لنا عليك ، والكَثْكَثُ(2) في فمك ويديك ! وأمّا ما ذكرتَ من الطَّليق ، فواللَّهِ لقد ابتُلِيَ فصبر ، وأُنعِم عليه فشكر(3) ؛ وإنْ كان واللَّهِ لَوفيّاً كريماً غيرَ ناقضٍ بيعةً بعد توكيدها(4) ، ولا مُسْلِمٍ كتيبةً بعد التأمّر عليها(5) .
قال ابنُ الزّبير : أتُعيّر الزّبير بالجُبنِ(6) ! واللَّهِ إنّك لَتعلم منه خلافَ ذلك .
قال ابنُ عبّاس : واللَّهِ إنّي لا أعلم إلّا أنّه فَرّ وما كرّ ، وحارب فما صبر ، وبايع فما أتمم ، وقطع الرّحم ، وأنكر الفَضْل ، ورامَ ما ليس له بأهل .
فقال ابن الزّبير : لم يَبقَ يا بني هاشم غيرُ المُشاتَمة والمُضارَبة(7) .
ص: 150
عن الشعبيّ عن ابن عبّاس أنّه دخل المسجدَ وقد سار الحسين بن عليّ إلى العراق ، فإذا هو بابن الزبير في جماعة من قريش قد استعلاهم بالكلام ، فجاء ابن عبّاس حتّى ضرب بين عضُدَي ابن الزبير وقال : أصبحتَ واللَّه كما قال الأوّل :
يا لَكِ مِن حُمَّرَةٍ بِمَعْمَرِ * خَلا لَكِ الجَوُّ فَبِيضي واصفِرِي
ونَقِّري ما شِئْتِ أنْ تُنَقّري * قد رُفِعَ الفَخُّ فماذا تَحْذَرِي ؟!
خَلَت الحجاز من الحسين بن عليّ وأقبَلتَ تَهدِر في جوانبها .
فغضب ابن الزبير وقال : واللَّهِ إنّك لَترى أنّك أحقّ بهذا الأمر من غيرك !
فقال ابن عبّاس : إنّما يرى مَن كان في حال شكّ ، وأنا من ذاك على يقين .
قال : وبأيّ شي ء ، تحقّقَ عندك أنّك أحقّ بهذا الأمر منّي ؟
قال ابن عبّاس : لَأنّا أحقّ ممّن يُدِلّ بحقّه ، وبأيّ شي ء تحقّق عندك أنّك أحقّ بها من سائر العرب إلّا بنا ؟
فقال ابن الزبير : تحقّق عندي أنّي أحقّ بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً !
فقال : أنت أشرف أم مَن قد شَرُفتَ به ؟
فقال : إنّ مَن شَرُفتُ به زادني شرفاً إلى شرف قد كان لي قديماً وحديثاً .
قال : أفَمِنّي الزيادة أم منك ؟
قال : بل منك(1) .
فتبسّم ابن عبّاس ، فقال : يا ابن عبّاس ، دَعني من لسانك هذا الذي تقلّبه كيف
ص: 151
شئت ، واللَّهِ لا تحبّوننا يا بني هاشم أبداً !
قال ابن عبّاس : صدقتَ ، نحن أهل بيت مع اللَّه عزّ وجلّ ، لا نُحبّ مَن أبغضه اللَّه تعالى .
فقال : يا ابن عبّاس ، ما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة !
قال : إنّما أصفح عمّن أقرّ وأمّا عمّن هرّ(1) فلا ، والفضل لأهل الفضل .
قال ابن الزبير : فأين الفضل ؟
قال : عندنا أهل البيت ، لا تَصرِفْه عن أهله فتَظلِم ، ولا تَضَعه في غير أهله فتَندَم .
قال ابن الزبير : أفلستُ من أهله ؟
قال : بلى إن نَبَذتَ الحسد ولَزِمتَ الجَدَد(2) .
وانقضى حديثهما ، وقام القوم فتفرّقوا(3) .
لمّا كان من أمر عبد اللَّه بن الزبير وحمله محمّد بن الحنفيّة على مبايعته ، وخروج ابن الحنفيّة بأصحابه إلى الطائف ، قام عبد اللَّه بن عبّاس فدخل على ابن الزبير فقال له : ما ينقضي عجبي من تَنَزِّيك على بني عبد المطّلب ؛ تُخرجهم من حرم اللَّه وهم واللَّه أولى به وأعظم نصيباً فيه منك ، إنّ عواقب الظلم لَتُرَدّ إلى وَبال .
فقال ابن الزبير : ما منك أعجب ! ولكن من نفسي حين أدعك تنطق عندي مل ء فيك .
فقال ابن عبّاس : واللَّه ما نطقتُ عند أحد من الولاة أخسّ منك ، قد واللَّه نطقتُ
ص: 152
غلاماً عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وأبي بكر ، ونطقتُ رجلاً عند عمر وعثمان وعليّ ، يروني أحقّ مَن نَطَق ، فيُستَمع لرأيي ، وتُقبَل مشورتي ، وكلّ هؤلاء خير منك ومن أبيك .
فقال : واللَّه لئن كنتَ لي ولأهل بيتي مبغضاً ، لقد كتمتُ بغضَك وبغض أهل بيك مذ أربعين سنة(1) .
فقال ابن عبّاس : ذلك واللَّه أبلَغ إلى جاعِرِتَيك(2) ، بغضي واللَّه ضرّك وإثمك إذ دعاك إلى ترك الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله في خُطَبِك ، فإذا عُوتبت على ذلك قلت : إنّ له أُهَيْل سَوء ؛ فإذا صلّيتُ عليه تطاولت أعناقهم وسَمَت رؤوسهم !
فقال ابن الزبير : اخرج عنّي فلا تَقْرَبني .
قال : أنا أزهد فيك من أن أقربك ، ولأخرجنّ عنك خروجَ من يذمُّك ويَقليك . فلحق بالطائف فلم يلبث إلّا يسيراً حتّى تُوفّي فصلّى عليه ابن الحنفيّة ، فكبّر عليه أربعاً وضرب على قبره فُسطاطاً(3) .
عن أبي مخنف ، قال : لمّا نزل ابن عبّاس الطائفَ حين نافَرَه ابن الزبير ، كان صُلَحاء الطائف يجتمعون إليه ، ويأتيه أبناء السبيل يسألونه ويستفتونه ، فكان يتكلّم في كلّ يوم بكلام لا يَدَعُه وهو : الحمد للّه الذي هدانا للإسلام ، وعلّمنا القرآن ، وأكرمنا بمحمّد عليه السلام ، فانتاشنا به من الهَلَكة ، وأنقذنا من الضلالة ، فأفضل الأئمّة أحسنُها لسُنّته اتّباعاً ، وأعلمها بما في كتابه احتساباً ، وقد عمل بكتاب اللَّه وسُنّة نبيِّكم قوم صالحون على اللَّه جزاؤهم ، وهلكوا فلم يَدَعوا بعدهم مثلهم ولا مُوازياً
ص: 153
لهم ، وبقي قوم يُريغون(1) الدنيا بعمل الآخرة ، يلبسون جلود الضأن لتحسبوهم من الزاهدين ، يُرضُونكم بظاهرهم ويُسخِطون اللَّه بسرائرهم ؛ إذا عاهدوا لم يُوفوا وإذا حكموا لم يعدلوا ، يرون الغدر حزماً ونقض العهد مكيدة ، ويمنعون الحقوق أهلها ، فنسأل اللَّه أن يُهلك شرار هذه الأُمّة ، ويولّي أُمورها خيارها وأبرارها .
فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إليه : بلغني أنّك تجلس العَصْرَين فتُفتي بالجهلِ ، وتعيب أهلَ البرّ والفضل ! وأظنّ حلمي عنك واستدامتي إيّاك جرّأكَ عليَّ ؛ فاكفُفْ عنّي من غَرْبك(2) ، واربَعْ على ظَلْعك(3) ، وأرْعِ(4) على نفسك .
فكتب إليه ابن عبّاس : فهمتُ كتابك ، وإنّما يُفتي بالجهل مَن لم يؤت من العلم شيئاً ، وقد آتاني اللَّه منه ما لم يُؤْتِه إيّاك ، وزعمتَ أنّ حلمك عنّي جرّأني عليك ! فهذه أحاديثُ الضَّبعِ اسْتَها»(5) فمتى كنتُ لعُرامك(6) هائباً وعن حدّك(7) ناكلاً ؟! ثمّ تقول : إنّي إن لم أنتهِ وجدتُ جانبك خشناً ، ووجدتك إلى مكروهي عجلاً ، فما أكثر ما طرتَ إليَّ بشُقّة من الجهل ، وتَعَمَّدْتني بفاقرة(8) من المكروه ، فلم تَضرُرْ إلّا نفسك ؛ فلا أبقى اللَّه عليك إن أبقيت ، ولا أرعى عليك(9) إن أرعيت ، فواللَّه لا انتهيتُ عن إرضاء اللَّه بإسخاطك(10) .
ص: 154
استأذن عَدِيُّ بن حاتِم على معاوية وعنده عبد اللَّه بن الزبير ، فقال له عبد اللَّه : بَلَغني يا أميرالمؤمنين أنّ عند هذا الأعور جواباً ، فلو شِئتَ هِجْتَه !
فقال : أمّا أنا فلا أفعل ، ولكن دُونَكاهُ إنْ بَدا لك .
فلمّا دخل عَديّ قال له عبد اللَّه بن الزبير : في أيّ يومٍ فُقئت عينُك يا أبا طريف ؟
فقال له : في اليوم الذي قُتل فيه أبوك ، وكُشفَتْ فيه اسْتُك ، ولَطَم فيه عليٌّ قفاك وأنت منهزم ، يعني ابن الزبير(1) .
وزاد في آخر بمعناه : فضحك معاوية وقال له : ما فَعَلتِ الطَّرَفاتُ(2) يا أبا طريف ؟
قال : قُتلوا .
قال : ما أنصفك ابنُ أبي طالب أنْ قُتل بنوك معه وبقي له بنوه !
قال : إن كان ذاك ، لقد قُتِل وبَقِيتُ أنا من بعده .
قال له معاوية : أليسَ زعمتَ أنّه لا تَحبِق(3) في قتل عثمان عَنْز ؟
قال : قد واللَّه حَبقَ فيه التَّيسُ الأكبر(4) .
قال معاوية : إلّا أنّه قد بقي من دمه قطرة ولابدّ من أن أتتبَّعها .
قال عديّ : لا أبا لك شِمِ(5) السيف ، فإنّ سَلَّ السيف يَسُلّ السيف .
فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة فقال : اجعلها في كِنانتك ؛ فإنّها حكمة(6) .
ص: 155
فقال : أمّا أُمّ المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك ، وبنا سُمِّيت أمّ المؤمنين(1)وكنّا لها
ص: 157
خيرَ بنين ، فتجاوزَ اللَّه عنها . وقاتلتَ أنت وأبوك عليّاً ، فإن كان عليّ مؤمناً فقد ضللتم بقتال المؤمنين ، وإن كان كافراً فقد بُؤتم بسخط من اللَّه لفراركم من الزحف . وأمّا المتعة فقد بلغني أنّ رسول اللَّه رخّص فيها ، وأنّ أوّل مِجْمَر سطع في المُتعة لَمِجمَر في آل الزبير(1) .
قال : حدّثني عبّاس بن هشام الكلبيّ عن أبيه عن جدّه ، وعن أبي مخنف وعَوانة(2)، قالوا : قال عبد اللَّه بن الزبير يوماً وهو على منبر مكّة وابن عبّاس حاضر : إنّ هاهنا رجلاً أعمى اللَّه قلبَه كما أعمى بَصَره ! يزعم أنّ مُتعة النساء حلال من اللَّه ورسوله ، يُفتي في القملة والنملة وقد حمل ما في بيت مال البصرة وترك أهلها يرضخون النَّوى ؛ وكيف يُلام على ذلك وقد قاتل أُمَّ المؤمنين وحواريَّ رسول اللَّه ومَن وقاه بيده ، يعني طلحة !
فقال ابن عبّاس لقائده سعيد بن جبير : استَقبِلْ بي ابنَ الزبير ، ثمّ حَسَر عن ذراعيه فقال : يا ابن الزبير :
إنّا إذا ما فِئةٌ نَلقاها * نَردُّ أُولاها على أُخراها
حتّى يصيرَ ضرعا دعواها * قد أنصفَ القارةَ من راماها(3)
ص: 158
يا ابن الزبير ، أمّا العمى فإنّ اللَّه يقول : « لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ »(1) .
وأمّا فُتياي في القملة والنملة فإنّ فيهما حُكمين لا تعلمهما أنت ولا أصحابُك .
وأمّا حمل مال البصرة فإنّه كان مالاً جبيناه ثمّ أعطينا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، وبَقِيَت منه بقيّة هي دون حقّنا في كتاب اللَّه وسهامه ، فأخذناه بحقّنا .
وأمّا المتعة فإنّ أوّل مِجْمَر سطع في المُتعة مِجْمَر في آل الزبير ، فسَلْ أمّك عن بُرْدَي عَوسَجة .
وأمّا قتال أُمّ المؤمنين فبِنا سُمِّيت أُمّ المؤمنين لا بك ولا بآبائك ، وانطلق أبوك وخالك - يعني طلحة - فعمدا إلى حجاب مدّه اللَّه عليها فهتكاه عنها ، ثمّ اتّخذاها فئةً يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، فواللَّهِ ما أنصفا اللَّهَ ولا محمّداً في ذلك .
وأمّا قتالنا إيّاكم فإن كنّا لقيناكم زحفاً ونحن كفّار فقد كفرتم بفراركم من الزحف ، وإن كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيّانا .
وأيْمُ اللَّه لولا مكانُ خديجة فينا وصفيّة فيكم ما تركتُ لك عظماً مهموزاً(2) إلّا كسرته(3) .
ص: 159
فلمّا نزل ابن الزبير سأل أُمّه عن بُردَي عَوسَجة(1) ، فقالت : ألَم أنهَكَ عن ابن عبّاس وبني هاشم ؟! فإنّهم كُعُم الجواب إذا بُدِهوا(2) . قال : بلى فعَصَيتُك .
قالت : فاتَّقِه ؛ فإنّ عنده فضائح قريش ! فقال في ذلك أيمن بن خُرَيم بن فاتك الأسديّ(3) :
يا ابنَ الزبيرِ لقد لاقَيتَ بائقةً(4) * مِن البَوائقِ فالطُفْ لُطفَ مُحتالِ
لَقِيتَهُ هاشميّاً طابَ مَغْرِسُهُ * في مَنبتَيهِ كريمَ العَمِّ والخالِ
ما زالَ يَقرعُ منكَ العظمَ مُقتدراً * على الجوابِ بصوتٍ مُسمِعٍ عالِ
حتّى رأيتُكَ مِثلَ الكلبِ مُنجَحِراً(5) * خلفَ الغَبيطِ(6) ، وكنتَ البادئَ الغالي
إنّ ابن عبّاسٍ المحمول حكمته * حَبرُ الأنامِ له حالٌ من الحالِ
عَيّرتَهُ ا لمُتعةَ المَتبوعَ سُنّتُها * وبالقتالِ وقد عَيَّرتَ بالمالِ
لمّا رماكَ على رَسلٍ(7) بأسهُمِه * جرى عليك كسوفُ الحالِ والبالِ
فاعلَمْ بأنّكَ إن حاولتَ نقصتَهُ * عادَت عليكَ مَخازٍ ذات أذيالِ(8)
ص: 160
وذكرت بعض المصادر تلك المجالدة الكلاميّة بين ابن عبّاس وابن الزبير وفيها لفظ صريح بكون ابن الزبير ابن متعة ، وفي بعضها تصديق في أسماء لذلك :
ذكر المسعوديّ بسنده قال : خطب ابن الزبير فقال : ما بالُ أقوامٍ يُفْتون في المتعة ، وينتقصون حواريّ الرسول وأُمّ المؤمنين عائشة ؟! ما بالُهم أعمى اللَّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم ؟! يُعرّض بابن عبّاس !
فقال ابن عبّاس : يا غلام ، اصمدني صَمْدَه(1) ، فقال : يا ابن الزبير : قد أنصف القارةَ مَن راماها ... . أمّا قولك في المتعة فسَلْ أمّك تخبرك ؛ فإنّ أوّل متعة سطع مِجمَرُها لَِمجمَر سطع بين أُمّك وأبيك .
وأمّا قولك «أمّ المؤمنين» فبنا سُمِّيت أُمُّ المؤمنين وبنا ضُرب عليه الحجاب .
وأمّا قولك «حواريّ رسول اللَّه» فقد لقيتُ أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى ، فإن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا ، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه منّا
ص: 161
فانقطع ابن الزبير ودخل على أُمّه أسماء فأخبرها فقالت : صَدَقَ(1) .
وذكره ابن أعثم ، وفيه : «كان يجب أن لا تذكر المتعة ، فإنّك إنّما وُلِدتَ من مُتعة ! فإذا نزلت عن منبرك هذا فصِرْ إلى أمّك فسَلْها عن بُردَي عَوسجة .
فقال له ابن الزبير : اخرج عنّي ، لا تجاورني !
ثمّ خرج ابن عبّاس من مكّة إلى الطائف ومحمّد بن الحنفيّة في أصحابه معه(2) .
وذكر الراغب الإصبهانيّ في «جواز المتعة» : عيّر عبدُ اللَّه بن الزبير عبدَ اللَّه بن عبّاس بتحليله المتعة ، فقال له : سَلْ أُمّك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك ؟ فسألها ، فقالت : ما ولدتُك إلّا في المتعة .
وسُئل عن المتعة ، فقال : الذئبُ يكنّى أبا حيدة ، أي ذلك حسن الاسم قبيح الفعل(3) .
مناظرة بين أبي سعيد بن عقيل وابن الزبير
دخل الحسن بن عليّ عليهما السلام على معاوية وعنده ابن الزبير وأبو سعيد بن عقيل بن
ص: 162
أبي طالب ، فلمّا جلس الحسن قال معاوية : يا أبا محمّد ، أيّهما أكبر : عليّ أم الزبير ؟
فقال : ما أقربَ ما بينَهما ، عليّ كان أسَنّ من الزبير ، رحم اللَّه عليّاً .
فقال ابن الزبير : رحم اللَّه الزبير !
فتبسّم الحسن .
فقال أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب : دَع عنك عليّاً والزبير ؛ إنّ عليّاً دعا إلى أمر فاتُّبِع وكان فيه رأساً ، ودعا الزبير إلى أمر كان فيه الرأس امرأة ، فلمّا تراءت الفئتان والتقى الجمعان نكص الزبير على عَقِبَيه وأدبر منهزماً قبل أن يظهر الحقّ فيأخذه ، أو يدحض الباطل فيتركه ، فأدركه رجل لو قِيس ببعض أعضائه لكان أصغر ، فضرب عنقه وأخذ سلبه وجاء برأسه ، ومضى عليّ قُدُماً كعادته مع ابن عمّه ونبيّه صلى الله عليه وآله ؛ فرحم اللَّه عليّاً ولا رحم الزبير !
فقال ابن الزبير : أما واللَّه لو أنّ غيرك تكلّم بهذا يا أبا سعيد لَعَلِم ...(1) .
قال : إنّ الذي تعرّض به(2) يرغب عنك .
وأُخبِرت عائشة بمقالتهما ، فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئاً ؛ فقال : إنّ الشيطان لَيراك من حيث لا تراه !
فضحكت عائشة وقالت : للَّهِ أبوك ! ما أخبَثَ لسانَك(3) !
عن الكلبيّ ، قال : قَدِم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين ، فذكروا من ملوكهم وبلادهم . فافتخر النعمان بالعرب وفضّلهم على جميع
ص: 163
الأمم ، لا يستثني فارسَ ولا غيرها ، فقال كسرى وأخَذَته عِزّةُ الملك : يا نعمان ، لقد فكّرتُ في أمر العرب وغيرهم من الأُمم (وكلامه طويل تنقّص فيه العرب ورفع من شأن الروم والهند والصين والتُّرك ؛ نعرفه من جواب النعمان له) .
قال النعمان : أصلح اللَّه المَلِكَ ، حقّ لأُمّةٍ المَلِكُ منها أن يسمو فضلُها ، ويعظم خطبُها ، وتعلو درجتها . إلّا أنّ عندي جواباً في كلّ ما نطق به الملك ، في غير ردٍّ عليه ولا تكذيب له ، فإن أمّنني من غضبه نطقتُ به .
قال كسرى : قُل فأنت آمِن .
قال النعمان : الأُمم التي ذكرتَ ، فأيّ أمّة تَقرِنها بالعرب إلّا فَضَلَتْها .
قال كسرى : بماذا ؟
قال النّعمان : بعزّها ومنعتها ، وحُسن وجوهها ، وبأسها وسخائها ، وحكمة ألسنتها ، وشدّة عقولها ، وأنَفَتها ووفائها :
فأمّا عِزّها ومَنَعتها فإنّها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوّخوا البلاد ، ووطّدوا الملك ، وقادوا الجند ،لم(1) يطمع فيهم طامع ، ولم ينلهم نائل ، حصونُهم ظهورُ خيلهم ، ومِهادُهم الأرض ، وسقوفهم السماء ، وجُنّتهم(2) السيوف ، وعُدّتهم الصبر إذ غيرُها من الأُمم إنّما عزّها الحجارة والطين وجزائر البحور .
وأمّا حُسنُ وجوهها وألوانها فقد يُعرف فضلُهم في ذلك على غيرهم من الهند ، والصين المُنْحَفة ، والتُرك المُشوَّهة ، والرُوم المقشّرة .
وأمّا أنسابُها وأحسابُها ، فليست أُمّة من الأُمم إلّا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أوّلها ، حتّى أنّ أحدهم لَيُسألُ عمّن وراء أبيه دُنْيا(3) فلا يَنْسُبه ولا يعرفه .
ص: 164
وليس أحد من العرب إلّا يُسمِّي آباءه أباً فأباً ، حاطوا بذلك أحسابَهم وحفظوا به أنسابهم ، فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يُدعى إلى غير أبيه .
وأمّا سخاؤها فإنّ أدناهم رجلاً الذي تكون عنده البَكرة(1) والناب(2) عليها بلاغُه(3) في حُموله وشِبعه ورِيِّه ، فيطرقه الطارق(4) الذي يكتفي بالفِلْذة(5) ويجتزئ بالشَّربة فيَعقِرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلّها فيما يُكسِبه حُسنَ الأحدوثة وطيبَ الذِّكر .
وأمّا حكمة ألسنتهم فإنّ اللَّه تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحُسنه ووزنه وقوافيه ، مع معرفتهم بالأشياء وضَربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشي ء من ألسنة الأجناس . ثمّ خَيلُهم أفضل الخيل ، ونساؤهم أعفّ النساء ، ولباسهم أفضل اللباس ، ومعادنهم الذهب والفضّة ، وحجارة جبالهم الجَزْع(6) ، ومطاياهم التي لا يُبلَغ على مثلها سفر ، ولا يُقطَع بمثلها بلدٌ قَفر .
وأمّا دينُها وشريعتها فإنّهم متمسّكون به ، حتّى يبلغ أحدُهم من نُسكه بدينه أنّ لهم أشهراً حُرُماً ، وبلداً مُحرَّماً ، وبيتاً مَحجوجاً يَنسكون فيه مَناسِكَهم ، ويذبحون فيه ذبائحهم ، فيلقى الرجلُ قاتلَ أبيه أو أخيه ، وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغبته منه ، فيَحجزه كرمه ويمنعه دِينه عن تناوله بأذى .
وأمّا وفاؤها فإنّ أحدهم يلحظ اللحظة ويُومئ الإيماءة فهي وَلَثٌ(7) وعُقدة لا يحلّها إلّا خروج نَفْسِه ! وإنّ أحدهم لَيرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدَيْنه
ص: 165
فلا يغْلَق رَهنُه ولا تُخْفَر(1) ذِمّته ، وإنّ أحدهم لَيبلُغه أنّ رجلاً استجار به ، وعسى أن يكون نائياً عن داره ، فيُصاب فلا يَرضى حتّى يُفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلتُه لِما خُفِر(2) من جُواره . وإنّه لَيلجأ إليهم المجرم الُمحدِث من غير معرفة ولا قرابة ، فتكون أنفُسهم دون نفسه ، وأموالُهم دون ماله .
وأمّا قولُك أيّها الملك : يَئدون أولادهم ، فإنّما يفعله من يفعله منهم بالإناث ؛ أنفةً من العار وغَيرةً من الأزواج(3) .
أمّا قولك : إنّ أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفتَ منها ، فما تركوا ما دونها إلّا احتقاراً له ، فعمدوا إلى أفضلها وأجلّها ، فكانت مراكبَهم وطعامَهم مع أنّها أكثر البهائم شحوماً ، وأطيبها لحوماً ، وأرقّها ألباناً ، وأقلّها غائلة ، وأحلاها مَضغة ، وإنّه لا شي ء من اللّحمان يعالج ما يعالج به لحمُها إلّا استبان فضلها عليه .
وأمّا تحارُبهم وأكلُ بعضِهم بعضاً ، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم ، فإنّما يفعلُ ذلك مَن يفعله من الأُمم إذا أنِسَت من نفسها ضَعفاً وتخوّفت نُهوضَ عدوّها إليها بالزحف ، وإنّه إنّما يكون في المملكة العظيمة أهلُ بيت واحد يُعرَف فضلهم على سائر غيرهم ، فيُلقون إليهم أمورهم ، وينقادون لهم بأزمّتهم(4) . وأمّا العرب فإنّ ذلك
ص: 166
كثير فيهم ، حتّى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين ، مع أنَفَتهم من أداء الخَراج والوَطَف بالعَسْف(1) .
وأمّا اليمن التي وصفها الملك فإنّما أتى جدَّ الملك وليُّها(2) الذي أتاه عند غلَبة الحَبَش له على مُلكٍ متّسق ، وأمرٍ مجتمع ، فأتاه مسلوباً طريداً مستصرخاً ، وقد تقاصر عن إيوائه ، وصغُر في عينه ما شيّد من بنائه . ولولا ما وَتَرَ به مَن يَليه من العرب لَمالَ إلى مجال ، ولوَجد مَن يُجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار .
قال : فعجب كسرى لِما أجابه النعمان به . وقال : إنّك لأهلٌ لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل . ثمّ كساه من كسوته ، وسرّحه إلى موضعه من الحيرة(3) .
ص: 167
اهتمّ العرب بالأنساب كلّ اهتمام ، ووضعوا في ذلك كتباً تتبّعوا فيها أُصول القبائل العربيّة ، وفرّقوا بين الأصيل والدخيل ، ولعلّ أشهر تلك التآليف : «جَمْهرة النّسب» للكلبيّ ، وكتاب «نَسبُ قريش» لمصعب الزبيريّ ، و«جَمْهَرةُ نَسَب قريش وأخبارها» للزّبير بن بكّار ، وكتاب «النسب» لأبي عُبيد القاسم بن سلام ، و«جَمْهرة أنساب العرب» لابن حزم .
واشتهر أفراد منهم بإحاطتهم بأنساب العرب قبائل وأفراداً ، وضربوا بالقِدْح المُعلّى في ذلك ، حتّى باتوا حجّة يُركن إليهم ويُعوَّل على قولهم ؛ فهم قطب الرَّحى لمن رام النسب في قبائل العرب ، وفي طليعتهم وعلى رأسهم : عقيل بن أبي طالب ، وسعيد ابن المُسيّب ، وحُوَيْطب بن عبد العُزّى ، وأبو جَهْم بن حُذَيفة ، وجُبَير بن مطعم ، ومَخْرمة بن نَوفَل ، ودَغْفَل بن حَنْظَلة(1) .
ص: 168
وكان أبو بكر يُعدّ من النسّابة . روى المدائنيّ عن المفضّل(1) الضبّيّ ، قال : إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لمّا خرج عن مكّة يَعرِض نفسه على القبائل ، خرج إلى ربيعة ومعه عليّ بن أبي طالب ، وأبو بكر . فدفعوا الى مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة ، فتقدّم أبو بكر وسلّم عليهم ، فردّوا عليه السلام ، فقال : ممّن القوم ؟ قالوا : من ربيعة .
ص: 169
قال : أمِنْ هامتها العُظمى أم من لَهَازِمها(1) ؟ قالوا : من هامتها العُظمى . فقال : من أيّ هامتها العُظمى أنتم ؟ قالوا : ذُهْل . قال : أذُهْل الأكبر أم ذُهْل الأصغر ؟ قالوا : بل ذُهْل الأكبر . قال : أَمِنْكُم عوف الذي يقال له : «لا حُرّ بوادي عَوفٍ»(2) ؟ قالوا : لا .
قال : أفَمِنكم بِسْطام(3) بن قيس ذو اللِّواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا .
قال : أفَمِنْكم جَسّاس بن مرّة(4) حامي الذِّمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا .
ص: 170
قال : أفَمِنْكم الحَوْفَزان(1) قاتل الملوك وسالبها أنفُسَها ؟ قالوا : لا .
قال : أفَمِنْكُم المُزدَلِفُ صاحبُ العمامة الفَرْدة ؟ قالوا : لا .
قال : أفَأَنْتُم أخوالُ الملوك من كِنْدة ؟ قالوا : لا .
قال : أصهارُ الملوك من لَخْم ؟ قالوا : لا .
فقال أبو بكر : فلَستُم إذن ذُهلاً الأكبر ، أنتم ذُهْل الأصغر .
فقام إليه غلام أعرابيّ حسَنٌ بَقَل(2) وجهُه ، اسمُه دَغْفَل ، فأخذَ بزمامِ ناقتِه ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله على ناقته يسمع مخاطبته ، فقال :
إنّ على سائِلِنا أنْ نَسْأَلَهْ * والعِبْ ء لا تعرِفهُ أو تَحمِلَهْ
يا هذا ، إنّك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئاً ، فمِمّن الرجُل ؟
قال : من قريش .
فقال : بَخٍ بَخٍ ، أهلُ الشَّرف والرِّياسة ، فمِن أيّ قريش أنت ؟
قال : من تَيم بن مُرّة .
ص: 171
فقال له دغفل : أمكنتَ واللَّهِ الرامي من الثُّغرة(1) ! أفَمِنكم قُصَيّ(2) بن كِلاَب الذي جمع القبائل من فِهْر ، فكان يُدعى : مُجَمِّعاً ؟ قال : لا .
قال : أفَمِنكم هاشِم(3)الذي هَشَم الثَّرِيد لقومه ورجال مكّة مُسْنِتُون عِجاف ؟
ص: 172
قال أبو بكر : لا .
قال : أفَمِنْكم شَيبة(1) الحَمد الذي كان وجهه قمراً يضي ء ليلة الظُّلْمة الداجية مُطعِم طير السماء ؟ قال : لا .
قال : أفَمِن المُفِيضين(2) بالناس أنتَ ؟ قال : لا .
قال : أفَمِن أهْلِ النَّدوَة(3) أنتَ ؟ قال : لا .
ص: 173
قال : أفَمِن أهل الرِّفادة(1) أنت ؟
قال : لا .
قال : أفَمِن أهل الحِجَابة(2) أنت ؟
قال : لا .
قال : أفَمِن أهل السِّقاية(3) أنت ؟
قال : لا .
فقال دَغْفَل : أما واللَّهِ لو شِئتَ لَأخبرتُك أنّك لستَ من أشراف قُريش .
فاجتذب أبو بكر زمام ناقته منه كهيئة المُغضَب ، فقال دَغْفَل : أما واللَّهِ لو ثَبَتَّ لَأخبرتُك أنّك من زَمَعات قريش(4) ، ثمّ قال :
صادَفَ دَرْءَ السَّيلِ(5) دَرْءٌ يَصْدَعُهْ * في هَضْبَةٍ تَرفَعُهُ وتَضَعُهْ
فتبسّم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وقال عليّ لأبي بكر : لقد وقعتَ يا أبا بكر من الغلام على باقِعَةٍ(6) ؛ قال : أجل ، إنّ لكلّ طامّة طامّة ، والبلاء مُوَكَّل بالمنْطِقِ(7) .
ص: 174
ومن نمط تلك المحاورات التي تعتمد الأنساب ومن الأُصول اللُّباب ، ما ذكره ابن الكلبيّ .
قال : خرجَ يَزيدُ بن شَيْبان بن عَلْقَمَة بن زُرَارَةَ حاجّاً على ناقة له يقالُ لَها ثَمْرة ، فلمّا قضى حجّه انصرفَ قبلَ أهْلِه ، فسار ليلةً وليلتين ثمّ لحقَ نفَراً من مَهْرَة(1) فَنَسَبَهُمْ ، فلمّا انتسبوا صَدَّ عنهم ، فقالوا : ما لَكَ نَسَبْتَنا ثمّ صَدَدت عنّا ؟!
قال : قلت : رأيتُ قوماً لا أُراهُم يعرفون نسبي ، ولا أراني عارفاً نسبهم .
فقال شيخٌ منهم : لَعَمْري لَئِن كنتَ مِنْ جِذْمِ(2) العرب لأعرِفَنَّك !
قال : فقلت : أنا واللَّهِ مِنْ جِذْمِ(3) العرب .
قال : فإنّ العرب على أربع(4) فِرَقٍ : رَبِيعة ، ومُضَر ، وقُضَاعة ، والَيمَن ؛ فَمِن أيّهم أنت ؟
قلت : أنا امرؤ من مُضَر .
قال : أفَمِن الفُرسانِ أمْ من الأرْحَاء(5) ، فعرفتُ أنّ الفُرسان قَيْس ، والأَرْحَاء خِنْدِف .
قلت : لا بلْ من الأَرْحاء .
قال : فأنت إذاً من خِنْدِف .
ص: 175
قلتُ : نعم .
قال : أفَمِن الأَزْمَة ، أم من الجُمْجُمَة(1) ؟
فعرفتُ أنّ الأزْمَةَ مُدرِكَة ، وأنّ الجُمْجُمة طابِخَة . قلتُ : لا ، بل من الجُمْجُمة .
قال : فأنت إذاً من طابِخَة ؟
قلت : نعم .
قال : أفمِن الصَّمِيم أم من الوَشِيظ(2) ؟ فعرفت أنّ الصَّميم : تميم ، وأنّ الوَشِيظ : الرِّباب ، وحُمَيس ، ومُزَينة . قلت : لا بل من الصَمِيمِ .
قال : فأنتَ إذاً من تميم ؟
قلت : نعمْ .
قال : أَفَمِن الأكثَرينَ ، أمْ من الأقلِّينَ ، أم من الأحْزَمِين(3) ؟
قال : فعرفتُ أنّ الأكثرين زيدُ مَناةَ ، وأنّ الأقلِّين بنو الحارث بن تميم ، وأنّ الأحزَمين عمرو بن تميم . قلت : لا بل من الأكثرين .
قال : فأنت إذاً من زيد مَناة ؟
قلت : نعم .
قال : أَفَمِن الجُدُود ، أم من البُحور ، أم من الثِّماد(4) ؟
ص: 176
قال : فعرفتُ أنّ الجُدود سَعدُ بن زَيْد مَناةَ ، وأنّ البُحُورَ مالك بن زَيْد مَناة .
قلت : لا بل من البُحور .
قال : فأنتَ إذاً من بَني مالك بن زيد مَنَاة ؟
قلت : نعم .
قال : أفَمِن الذُّرى أم من الجَراثيم(1) ؟
قال : فعرفتُ أنّ الذُّرى حَنظلة بن مالِك ، وأنّ الجَراثيم رَبيعةُ ومُعاوية وقيس بن مالك بن زَيْد مناة . قلت : لا بَل من الذُّرى .
قال : فأنتَ إذاً من بني حنظلةَ ؟
قلت : نعم .
قال : أفَمِن البُدور ، أم من الفُرسان ، أم من الجَراثيم ؟
قال : فعرفت أنّ البُدور مالك بن حَنْظَلَةَ ، وأنّ الفرسان يربوع بن حنظلة ، وأنّ الجراثيم البَرَاجِم . قلت : لا بَلْ من البُدور .
قال : فأنت إذاً من مالك بن حنظلة ؟
قلت : نعم .
قال : أفمن الأرنَبة ، أمْ من اللَّحْيَيْن ، أم من القَفا(2) ؟
قال : فعرفت أنّ الأرنبة دارِم ، وأنّ اللَّحْيَين طُهَيّة والعَدَويّة ، وأنّ القفا ربيعة بن
ص: 177
مالك(1) ؛ فقلت : لا بل من الأرنَبة .
قال : فأنت إذاً من دارم ؟
قلت : نعم .
قال : أفَمِن اللُّباب أم من الشِّهاب ، أم من الهِضاب ؟
قال : فعرفت أنّ اللُّباب عبد اللَّه ، وأنّ الشهاب نَهشَل ، وأنّ الهِضاب مُجاشِع . قلت : لا بل من اللُّباب(2) .
قال : فأنت إذاً من بني عبد اللَّه بن دارم ؟
قلت : نعم .
قال : أفَمِن البيت أم من الزَّوافِر ؟
قال : فعرفت أنّ البيت عُدُس بن زيد بن عبد اللَّه(3) ، وأنّ الزَّوافِر(4) الأحلاف من بني زيد بن عبد اللَّه غير عُدُس بن زيد ، فقلت : لا بل من البيت .
قال : فأنت إذاً من بني زُرارة ؟
قلت : نعم .
قال : فإنّ زُرارة ولَدَ عشرة : حاجِباً ، ولَقيطاً ، ومَعْبداً ، وعلقمة ، وخُزيمة ، وعبد الحارث ، ولَبِيداً ، وعَمْراً ، وعبد مَناة ، ومالكاً ؛ فمِن أيِّهم أنت ؟
قلت : من بني علقمة .
قال : فإنّ علقمة ولَدَ رَجُلَين : شَيبان ، والمَأْموم ، فمِن أيّهما أنت ؟
قلت : من بني شَيبان .
ص: 178
قال : فإنّ شيبان تزوّج بثلاث نسوة : مَهْدَد بنت حُمْران ، فولدتْ له يَزِيد ، وتزوّج عِكْرِشةَ بنت حاجِب ، فولدت له المأموم ، وعُمَيْرة بنت بِشْر بن عمرو بن عُدُس ، فوَلَدَت له المُقْعَد ؛ فلأيّهنّ أنت ؟
قلت : لمِهْدَد .
قال : واللَّه يا ابن أخي ، ما افتَرَقَت فِرقتان مُذ قام الإسلام إلّا كنتَ في أفضلهما ، إلّا كِنانة بن خُزيمة ، حتّى زَحَمَكَ أخَواكَ ؛ فإنّ أُمَّيْهما أحبُّ إليّ أَنْ تَلِدانِي من أُمّكَ(1) .
تُنبئ هذه المحاورة عن تضلّع الرجُلَين بأمرين : نسب العرب أُصولها وفروعها ، وما لكلّ واحد منها من المكارم . ولذا فإنّ الرجل المَهْريّ وهو يتحيّن بالشَّيباني قد وجده يطير من غُصن كريم إلى آخر حتّى نفذ إليه من النساء ؛ فكانت الثغرة التي سدّد إليه منها سهمه .
مرّ عمر بن الخطّاب بشابّ فاستسقاه ، فخاضَ له عسلاً فلم يشربه وقال : إنّي سمعتُ رسول اللَّه تعالى يقول : « أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا » .
فقال الفتى : إنّها واللَّهِ ليست لك ؛ إقرأ ما قبلها « وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ » أفنحن منهم ؟ فشربها وقال : كلّ الناس أفقه من عمر(2) !
أراد عمر أن يلقّن الفتى درساً في الزهد بالدنيا والترفّع عن ملاذّها وإن تكُ حلالاً مباحاً ، فجاء بدليل من القرآن يطيب له خاطر الشابّ ، إلّا أنّه لم ينظر تمام النصّ فأخذ بعضه ، وكان الشابّ من النباهة وحضور الخاطر فذكّر عمرَ أنّ الآية في حقّ
ص: 179
الكافرين ، فأخبَتَ عمر وشرب العسل . والآية : « وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ »(1) الآية .
خطب عمر بن الخطّاب فقال : لا يبلغَنِّي أنّ امرأة تجاوزتْ بصَداقها صداقَ النبيّ إلّا ارتجعتُ منها . فقامت امرأةٌ فقالت : ما جعل اللَّه ذلكَ لكَ يا ابن الخطّاب ؛ إنّ اللَّه تعالى يقول : « وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً »(2) فقال عمر : لا تعجبوا من إمامٍ أخطأَ وامرأةٍ أصابتْ ، ناضَلَتْ إمامَكم فَنَضَلَتْهُ(3) .
ويرد الخبر في مصادر كثيرة وبصور متعدّدة لا تبعد عمّا ذكرناه إلّا يسيراً . من ذلك : قام عمر خطيباً فقال : أيّها الناس ، لا تُغالوا في صَداق النساء ، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوًى عند اللَّه لكانَ أولاكم بها رسول اللَّه ، ما أَصدَق امرأة من نسائه أكثر اثني عشر أوقية . فقامت إليه امرأة ، فقالت له : يا أميرالمؤمنين ! لِمَ تمنعنا حقّاً جعله اللَّه لنا ؟ واللَّهُ يقول : « وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً » ؟! فقال عمر : كلّ أحدٍ أعلمُ من عمر . ثمّ قال لأصحابه : تسمعونني أقول مثل القول فلا تنكرونه عليّ حتّى تردّ عليّ امرأة ليست من أعلم النساء(4) !
ص: 180
قال ثور بن يزيد : كان عمر بن الخطّاب يَعُسّ بالمدينة في الليل ، فسمع صوت رجلٍ في بيت ، فارتابَ بالحالِ ، فتَسَوَّرَ ، فوجد رجلاً عنده امرأة وخمر ، فقال : يا عدوّ اللَّه ، أكنتَ ترى أنّ اللَّه يستُرك وأنت على معصيةٍ ؟!
فقال الرجل : لا تَعجَلْ علَيَّ يا أمير المؤمنين ، إن كنتُ قد عصيتُ اللَّه في واحدةٍ فقد عصيتَه في ثلاث ؛ قال اللَّه تعالى : « وَلَا تَجَسَّسُوا »(1) وقد تَجَسَّسْتَ ، وقال : « وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا »(2) وقد تَسَوَّرت ، وقال : « فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا »(3) وما سلّمتَ !
فقال له عمر : فهل عندك من خيرٍ إنْ عفوتُ عنكَ ؟ قال : بلى يا أمير المؤمنين ، واللَّهِ لئنْ عفوتَ عنّي لا أعودُ لمثلِها أبداً . فعفا عنه(4) .
لقد كان عمر غنيّاً أن يُقحِم نفسَه في مثل هذا الموقف الحرج فهو المتشدّد في قبول شهادة الشهود في قضيّة زنا المغيرة بن شعبة حتّى جلدهم إذ لم يشهدوا أنّهم رأوا الميل في المكحلة ، فلماذا تنصّت لمّا سمع صوتاً قد رابَه ؟ وأشدّ منه تسوّره بيت الرجل من غير استئذان ، فكيف سيكون حاله لو لم يجد محرّماً ؟!
وهذا يخالف موقفه من شرحبيل بن السِّمْط . ومن خبره :
كان شُرَحْبِيل بن السِّمْط(5) على جيش لعمر بن الخطّاب ، فقال : إنّكم قد نزلتُمْ
ص: 181
أرضاً فيها نساءٌ وشرابٌ ، فمَن أصابَ منكم حدّاً فلْيَأْتِنا حتّى نُطَهِّره ، فبلغ ذلك عمر ، فقال : لا أُمّ لكَ ، تأمر قوماً سَتَرَ اللَّه عليهم أن يهتكوا سِتْرَ اللَّه عليهم(1) !
فشتّان بين من أغلق عليه داره وبين مَن خرج بعنوان الجهاد وارتكب المعصية !
لمّا أُتي عمر بن الخطاب بالهُرمزان أسيراً ، دعاه إلى الإسلام ، فأبى عليه . فأمر بقتله ، فلمّا عُرض عليه السيف قال : لو أمرتَ لي بشَربة من ماء ، فهو خير من قتلي على الظمأ . فأمر له بها . فلمّا صار الإناء بيده قال : أنا آمِن حتّى أشرب(2) ؟ قال : نعم . فألقى الإناء من يده وقال : الوفاءُ نورٌ أبلَج . قال : لك التوقّف حتّى أنظر في أمرك ، ارفَعا عنه السيف . فلمّا رُفع عنه قال : الآن أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله . فقال له عمر : ويحك ! أسلمتَ خير إسلام ، فما أخّرَك ؟
قال : خَشِيتُ أن يقال إنّ إسلامي إنّما كان جزعاً من الموت . فقال عمر : إنّ لِفارسَ حُلوماً بها استحَقَّت ما كانت فيه من المُلك . ثمّ كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه(3) .
عن الشعبيّ أنّ عمرو بن معدي كرب الزَّبيديّ وَفَد على عمر بن الخطّاب بعد فتح
ص: 182
القادسيّة ، فسأله عن سعد(1) وعن رضا الناس عنه ، فقال : تركتُه يجمع لهم جمع الذرّة ، ويشفق عليهم شفق الأُمّ البَرّة ، أعرابيّ في نَمِرته(2) ، نَبطيّ في جبايته ، يقسم بالسويّة ويعدل في القضيّة ويبعد بالسَريّة(3) . فقال عمر : كأنّكما تقارضتما الثناء ، وكان سعد كتب يَثني على عمرو ! فقال عمرو : كلّا ، ولكنّي أثنَيتُ بما أعلم .
قال : يا عمرو ، أخبِرْني عن الحرب . قال : مُرَّةُ المَذاق إذا قامت على ساق ، مَن صَبَر فيها عرف ، ومَن ضَعُف عنها تَلف .
قال : فأخبرني عن السلاح ، قال : سلْ عمّ شئت منه .
قال : الرُّمح ؟ قال : أخوك وربّما خانَك .
قال : فالسّهام ؟ قال : رُسُل المنايا تُخطئ وتُصيب .
قال : فالترس ؟ قال : ذلك الِمجَنّ(4) وعليه تدور الدوائر .
قال : فالدِّرع ؟ قال : مَشغلة للفارس مَتعبةٌ للراجل ، وإنّها لَحصنٌ حصين .
قال : فالسَّيف ؟ قال : هناك ثكلتك أُمُّك !
قال عمر : بل ثكلتك أُمُّك ! فقال عمرو : الحِمى أضرَعَتني(5) إليك(6) .
محمّد بن سيرين عن أبي هريرة ، قال : استعملني عمر بن الخطّاب على البحرين ،
ص: 183
فاجتمع لي اثنا عشر ألفاً ، فلمّا قَدِمت عليه ، قال : يا عدوّ اللَّه وعدوّ المسلمين ! - أو قال : وعدوّ كتابه - سَرقتَ مال اللَّه ؟ قال : قلت : لستُ بعدوٍّ للّه ، ولا للمسلمين - أو قال : ولا كتابه - ولكنّي عدوّ مَن عاداهما ، ولكنْ خيلٌ تَناتَجَت وسِهام اجتمعت . قال : فأخذ منّي اثنا عشر ألفاً .
قال : وكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضل من ذلك ، حتّى إذا كان بَعدُ قال : ألا تعمل يا أبا هريرة ؟ قلت : لا ، قال : قد عمل مَن هو خير منك ؛ يوسف عليه السلام : « قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ »(1) .
قلت : يوسف نبيّ ابن نبيّ ، وأنا أبو هريرة بن أُمَيمة(2) ، وأخاف منكم ثلاثاً ، واثنين . قال : فهلّا قلت : خمساً ! قلت : أخشى أن تضربوا ظهري ، وتشتموا عِرضي ! وتأخذوا مالي ، وأكره أن أقول بغير حلم ، وأحكم بغير علم(3) .
استكتب أبو موسى الأشعريّ - وهو يومئذٍ والي عمر بن الخطّاب على الكوفة - نصرانيّاً ، فكتب إليه عمر : اعزِلْه واستعمل حنيفيّاً . فكتب إليه أبو موسى : إنّ من غَنائه وخَبَره كَيتَ وكيت . فكتب إليه عمر : ليس لنا أن نأتَمِنهم وقد خوَّنَهم اللَّه ، ولا أن نرفعهم وقد وضعهم اللَّه ، ولا أن نستنصِحهم في الأمر وهم يَرونَ الإسلامَ قدْ وَتَرَهم ، ويُعطونَ الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغِرُون . فكتب إليه أبو موسى : إنّ البلد لا يصلُح إلّا به ! فكتب إليه عمر : مات النصرانيّ ، والسلام(4) .
فلم يجد عمر أبلغ في قطع لجاجة الأشعريّ إلّا القول القاطع .
ص: 184
بعث عمر بن الخطّاب ، عُمَيْر بن سعد(1) ، أميراً على حِمْص ، فأقام بها حولاً لا يأتيه خبرُه ، فقال عمر لكاتِبه : اكتب إلى عمير ، فواللَّهِ ما أراه إلّا قد خاننا ! فأرسل إليه عمر وكتب إليه : قد كنّا ولّيناك شيئاً من أمر المسلمين ، فلا أدري ما صنعتَ ، أوَفَيت بعهدنا ، أم خُنْتنا(2) ، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمِلْ إلينا ما قِبَلك من فَي ء المسلمين ، ثمّ أقبِل .
فأقبل عُمير ماشياً من حمص ، وبيده عُكّازة ، وإداوة ، وقَصعة ، وجراب ؛ شاحباً كثير الشعر ، فقال له عمر : يا عمير ! ما هذا الذي أرى من سوء حالك ، أكانت البلاد بلاد سوء ، أم هذه منك خديعة(3) ؟
قال عمير : يا عمر بن الخطّاب ! ألم يَنْهَك اللَّه عن التجسّس وسوء الظنّ ؟ ألستَ تراني ظاهرَ الدم ، صحيح البدن ومعي الدنيا بقرابها .
قال عمر : وما معك من الدنيا ؟ فظنّ عمر أنّه قد جاءه بمالٍ كثير .
قال : مِزوَدي أجعل فيه طعامي ، وقَصْعة آكل فيها ، ومعي عُكّازتي هذه أتوكّأ
ص: 185
عليها وأُجاهد بها عدوّاً إن لَقِيتُه ، وأقتل بها حيّة إن لَقِيتُها ، فما بقي من الدنيا ؟!
قال : صدقت ، فأخبِرْني ما حال مَن خلّفت المسلمين ؟ قال : يصلّون ويوحّدون ، وقد نهى اللَّه أن نسأله عمّا وراء ذلك(1) .
قال : وما صنع أهل العهد ؟ قال عمير : أخذنا منهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون .
قال : فما صنعتَ بما أخذت منهم ؟ قال : وما أنت وذاك يا عمر ! أرسلتَني أميناً ، فقَدِمتُ الشام فدَعَوت المسلمين وأمرتُهم بما حقّ لهم علَيّ فيما افترض اللَّه تعالى عليهم ، ودعوتُ أهلَ العهد ، فجعلت عليهم مَن يَجْبيهم فأخذناه منهم ، ثمّ رَدَدناه على فُقَرائهم ومَجهوديهم ، ولم يَنَلكَ من ذلك شي ء ، فلو نالك بلّغناك إيّاه .
قال عمر : سبحان اللَّه ! ما كان فيهم رجل يتبرّع عليك بخير ويحملك على دابّة ، جئتَ تمشي ! بئس المعاهدون فارَقْتَ(2) !
قال عمير : وَيْلَك يا عمر ! تفرح بسفك دمائهم وانتهاك محارمهم ؟!
قال : وبئس المسلمون خرجتَ من عندهم !
فقال له عمير : اتَّقِ اللَّه يا عمر ! قد نهاك اللَّه عن الغِيبة ، وقد رأيتُهم يصلّون صلاةَ الغداة .
قال : جدّدوا لعمير عهداً . قال : إنّ ذلك لَشي ء ! لا عملتُ لك ولا لأحد بعدك ، واللَّه ما سلمتُ بل لم أسلم(3) ، وإنّ أشقى أيّامي يوم خُلقتُ معك(4) .
لمّا سيّر عثمان بن عفّان قُرّاء الكوفة إلى الشام ، لسخطهم سيرةَ سعيد بن العاص
ص: 186
واليه على الكوفة ، كتب إليه جماعة يلومونه على ما صنع ، ولم يُسمِّ أحدٌ منهم نفسَه خوفاً من غضبه . وكتب إليه كعب بن عَبْدة(1) في ذلك وسمّى نفسه ، فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص في إشخاصه إليه ، فأشخصه مع رجل أعرابيّ من أعراب بني أسد ، فلمّا رأى الأعرابيّ صلاته وعرف نُسكه وفضله قال :
ليت حظّي من مسيري بِكَعْبِ * عَفوُهُ عنّي وغفرانُ ذنبي
فلمّا قَدِم به على عثمان قال عثمان : لأن تسمَع بالمُعَيديّ خيرٌ من أن تراه ؛ وكان شابّاً حديث السنّ نحيفاً . ثمّ أقبل عليه فقال : أأنت تعلّمني الحقّ وقد قرأتُ كتابَ اللَّه وأنت في صُلْب رجلٍ مشرك ؟! فقال له كعب : إنّ إمارة المؤمنين إنّما كانت لك بما أوجَبَتْه الشورى حين عاهدتَ اللَّه على نفسك لتَسيرنّ بسيرة نبيّه لا تقصّر عنها ، وإن يُشاورونا فيك ثانيةً نقلناها عنك . يا عثمان ! إنّ كتاب اللَّه لِمَن بلغه وقرأه ، وقد شركناك في قراءته ، ومتى لم يعمل القارئ بما فيه كان حُجّةً عليه .
فقال عثمان : واللَّهِ ، ما أظنّك تدري أين ربّك !
فقال : هو بالمِرْصاد .
فقال مروان : حِلْمُك أغرى مثل هذا بك وجرّأه عليك ! فأمر عثمان بكعب فجُرِّد وضُرب عشرين سوطاً وسيّره إلى دُباوَنْد .
فلمّا ورد على سعيد حمله مع بُكير بن حُمْران الأحمَريّ ، فقال الدُهقان الذي ورد عليه : لِمَ فُعِل بهذا الرجل ما أرى ؟ قال بُكير : لأنّه شرّير ، فقال : إنّ قوماً هذا من شرارهم لَخيارٌ !
ثمّ إنّ طلحة والزبير وبّخا عثمان في أمر كعب وغيره ، وقال طلحة : عند غِبّ الصَّدَر
ص: 187
تُحمَد عاقبة الوِرْد ، فكتب في ردّ كعب رضي اللَّه تعالى عنه وحَمْله إليه . فلمّا قدم عليه نزع ثوبه وقال : يا كعب اقْتَصّ ، فعفا(1) .
ذكر الزهريّ من أخبار عثمان وما نقمه عليه الناس ، قال : وأَطْلَعَتْ عائشة شَعراً من شَعر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، ونَعله وثياباً من ثيابه ، ثمّ قالت : ما أسرعَ ما تركتم سُنّة نبيّكم ! وقال عمرو بن العاص : هذا منبر نبيّكم وهذه ثيابه وهذا شَعرُه لم يَبْلَ فيكم وقد بدّلتم وغيّرتم .
فغضب عثمان حتّى لم يَدرِ ما يقول ، والتجّ(2) المسجد . واغتنمها عمرو بن العاص - وقد كان عثمان قال لعمرو قبل ذلك وقد عزله عن مصر : إنّ اللِّقاح(3) بمصر قد دَرّت بعدك ألبانُها ، فقال : لأنّكم أعجَفتم(4) أولادَها ، فقال له عثمان : قَمِلَت جُبّتُك مذ عُزلتَ عن مصر - فقال : يا عثمان ! إنّك قد ركبت بالناس نَهابِيرَ(5) وركبوها بك ، فإمّا أن تَعدِل وإمّا أن تعتزل ، فقال : يا ابنَ النابغة ! وأنت أيضاً تتكلّم بهذا لأنّي عزلتك عن مصر ؟! وتوعّده(6) .
ص: 188
أبو مالك ، قُتل في الردّة وكان يقال له : فسل الكلب ؛ نزلَ بقومٍ فنبحَ عليه كلبهم ، فقتل الكلبُ فقُتل به(1) .
ذكر خُبَيْب بن يَساف(2) قال : أتيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وهو يريد غزواً(3) أنا ورجل من قومي ولم نُسلِم فقلنا : إنّا نستحيي أن يشهد قومُنا مشهداً لا نشهده معهم . قال : وأسلمتما ؟ قلنا : لا . قال : فإنّا لا نستعين بالمشركين على المشركين . قال : فأسلمنا وشهدنا معه ، فقتلتُ رجلاً وضربني ضربةً فتزوّجتُ ابنته بعد ذلك ، فكانت تقول لي : لا عُدِمتَ رجلاً وشّحك هذا الوِشاح ، فأقول لها : لا عُدِمتِ رجلاً عجّل أباكِ إلى النار(4) .
لمّا نزل سعد بن أبي وقّاص القادسيّة وكانت بوّابةَ مملكة الفُرس ، فندب العجم رستم في ثلاثين ألف مقاتل لمواجهة جيش سعد الذي لم يَزِد عددُ أفراده على ثمانية آلاف .
وتردّدت الرسل بين رستم وسعد ، فكان البَدَويّ يأتي رسولاً من قِبَل سعد إلى باب رستم وهو جالس على سرير الذهب ، وقد طُرحت له الوسائد المنسوجة بالذهب ، فيجي ء البدويّ وفي يده رمحُه وهو متقلّدٌ سيفَه وقد تنكّب قوسه ، فيربط فرسه قريباً من سرير رستم ، فيصيح العجم عليه ويهمّون بمنعه فيمنعهم رستم .
وكان سعد يبعث في كلّ مرّة رسولاً ، فقال رستم لبعض مَن أرسل إليه : لِمَ لَمْ يبعثوا
ص: 190
إلينا صاحبنا بالأمس ؟ قال : لأنّ أميرنا يعدل بيننا في الشدّة والرخاء(1) .
وقال يوماً آخر : ما هذا المِغْزَل الذي في يدِك ؟ يعني رمحه ، فقال : إنّ الجمرة لا يَضرّها قِصَرُها(2) .
وقال مرّة أُخرى لآخر : ما بالُ سيفك أراه رَثّاً ؟ فقال : إنّه خَلَقُ المغْمَد حديدُ المِضْرَب(3) .
فراعَ رستم ما رأى من أمثال هؤلاء وقال لأصحابه : انظروا ، فإنّ أمر هؤلاء لا يخلو أمرُهم من أن يكون صدقاً أو كذباً ، فإن كانوا كاذبين ، فإنّ قوماً يحفظون أسرارهم هذا الحفظ ، ولا يختلفون في شي ء ، وقد تعاهدوا سرّهم هذا التعاقد ، بحيث لا يظهر أحد منهم سرّهم ، لَقَوْمٌ في غاية الشدّة والقوّة ، وإن كانوا صادقين فهؤلاء لا يقف حذاءهم أحد . فصاحوا حوله ، وقالوا : اللَّهَ ، اللَّهَ أن تترك ما أنت عليه لشي ء رأيته من هؤلاء الكلاب ، بل صمّم على حربهم . فقال رستم : هو ما أقول لكم ولكنّي معكم على ما تريدون . ثمّ اقتتلوا أيّاماً كان في آخرها انعكاس الريح عليهم حتّى أعماهم الغبار ، فقُتل رستم وانفَلّ الجيش وغُنِمَت أموالهم وأجفَلَ الفُرْسُ يطلبون مخاضات دجلة(4) .
لقد كانت أجوبة رسل سعد مُسكتة لرستم الذي كان ينظر إليهم بالعين القاصرة من خلال مظاهرهم البسيطة ، ولما عليه هو وعسكره من آثار العظمة المادّيّة ، فتوهّمهم لا يُحسنون منطقاً وأنّ ما هو عليه من القوّة والسلاح والرجال يُلجلج ألسنتهم فيرجعون على أعقابهم ناكصين مرعوبين ، لينقلوا إلى أميرهم ما أدهشهم ،
ص: 191
إلّا أنّه وجد في أجوبتهم من سرعة البديهة وحضور الخاطر مع قوّة في الدلالة ، ما جعله يُسلّم أنّهم الغالبون ! فلمّا ركب جنده متن العناد كانوا الأخسرين ، وتمزّقت جموعهم ، فكان ذلك الردّ العمليّ والجواب المسكت لغرورهم .
ذكر ابن سعد في طبقاته : قالوا : وقَدِم وفد حَضرَمَوت مع وفد كِندة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقدم وائل بن حُجر الحَضرَميّ وافداً على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقال : جئت راغباً في الإسلام والهجرة ، فدعا له ومسح رأسه .
وأمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان أن يُنزِله ، فمشى معه معاوية ووائل راكب ، فقال له معاوية : ألقِ إليَّ نَعْلَك ، قال : لا ، إنّي لم أكن لِألبسَها وقد لبستَها . قال : فأردِفْني . قال : لستَ من أرادف الملوك . قال : إنّ الرمضاء قد أحرقت قدمي . قال : امشِ في ظلّ ناقتي ، كفاك به شرفاً(1) .
وبلفظ قريب منه : عن علقمة بن وائل قال : وفد وائل بن حُجر بن سعد الحَضرَميّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فمسح وجهه ودعا له ورفّله على قومه . ثمّ خطب الناسَ فقال : أيّها الناس ، هذا وائل بن حُجر أتاكم من حَضرَمَوت ، ومدّ بها صوته ، راغباً في الإسلام .
ثمّ قال لمعاوية : انطلِقْ به فأنزِلْه منزلاً بالحَرّة . قال معاوية : فانطلقتُ به وقد أحرقَتْ رِجلي الرَّمْضاءُ ، فقلتُ : أردِفْني ، قال : لستَ من أرادف الملوك . قلتُ : فأعطِني نَعلَيك أتوقّى بهما من الحرّ . قال : لا يبلغ أهلَ اليمن أنّ سُوقةً لبس نعلَ مَلِك ، ولكن إن شئت قصّرتُ عليك ناقتي فسرتَ في ظلّها(2) .
ص: 192
قَدِم وفدُ العِرَاقَيْن على معاوية ، فقدم في وفد أهل الكوفة عَدِيّ بن حاتم الطائيّ ، وفي وفد أهل البصرة الأحنف بن قَيْس وصَعْصَعة بن صَوحان ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : هؤلاء رجال الدنيا ! وهم شيعة عليّ الذين قاتلوا معه يوم الجَمَل ويوم صِفّين ، فكن منهم على حذر . فأمر لكلّ رجل منهم بمجلس سَريّ واستقبل القومَ بالكرامة ، فلمّا دخلوا عليه قال لهم : أهلاً وسهلاً ، قَدِمتُمُ الأرضَ المقدّسة ، أرضَ الأنبياء والرُّسُل والحَشر والنَّشر !
فتكلّم صَعصَعة ، وكان من أحضر الناس جواباً ، فقال : يا معاوية ! أمّا قولك (الأرض المقدّسة) فإنّ الأرض لا تُقدِّس أهلها وإنّما تُقدِّسهم الأعمالُ الصالحة . وأمّا قولُك (أرض الأنبياء والرُّسل) ، فمَن بها مِن أهل الشرك والنفاق والفراعنة والجبابرة أكثرُ من الأنبياء والرُّسل . وأمّا قولك : (أرض الحَشر والنَّشر) ، فإنّ المؤمن لا يَضرُّه بُعد الحَشْر ؛ والمنافق لا ينفعه قُربُه .
فقال معاوية : لو أنّ الناس كلّهم أولَدَهم أبو سفيان لَما كان فيهم إلّا كيّساً رشيداً ! فقال صعصعة : قد أولَدَ الناسَ مَن هو خير من أبي سفيان ، فأولد الأحمقَ والمنافقَ والفاجر والفاسق والمعتوه والمجنون ؛ آدمُ أبو البشر ، فخجل معاوية(1) .
عن الحارث بن مسمار البهرانيّ ، قال : حبسَ معاويةُ صَعْصَعةَ بن صُوحان العبديّ
ص: 193
وعبد اللَّه(1) بن الكوّاء اليَشكُريّ ورجالاً من أصحاب عليّ مع رجال من قريش ، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال : نَشَدتكم باللَّه إلّا ما قُلتم حقّاً وصدقاً ، أيَّ الخلفاء رأيتموني ؟! فقال ابن الكوّاء : لولا أنّك عزمتَ علينا ما قلنا ؛ لأنّك جبّار عنيد لا تراقب اللَّه في قتل الأخيار ، ولكنّا نقول : إنّك ما علمنا واسعُ الدنيا ضيّقُ الآخرة ، قريب الثَّرى ، بعيد المَرعى ، تجعل الظلمات نوراً ، والنور ظلمات . فقال معاوية : إنّ اللَّه أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابّين عن بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم اللَّه ، والُمحلِّين ما حرّم اللَّه ، والُمحرِّمين ما أحلّ اللَّه ! فقال عبد اللَّه بن الكوّاء : يا ابن أبي سفيان ، إنّ لكلّ كلام جواباً ، ونحن نخاف جَبَروتك ، فإن كنتَ تُطلِق ألسنتنا ذَبَبْنا عن أهل العراق بألسنةٍ حِداد لا تأخذها في اللَّه لومةُ لائم ، وإلّا فإنّا صابرون حتّى يحكم اللَّه ويضعنا على فرَجه . قال : واللَّه لا يُطلَق لك لسان !
ثمّ تكلّم صَعصَعة ، فقال : تكلّمتَ يا ابن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تُقصر عمّا أردت ، وليس الأمر على ما ذكرت ، أنّى يكون الخليفة مَن مَلَك الناس قهراً ، ودانهم كِبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً ؟! أما واللَّهِ ما لَك في يوم بدر مَضرَب ولا مَرْمى ، وما كنتَ فيه إلّا كما قال القائل : «لا حِلّي ولا سِيري»(2) . ولقد كنت أنت وأبوك في العِير والنَّفير ممّن أجلَب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإنّما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنّى تصلح الخلافة لطليق ؟! فقال معاوية : لولا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول :
قابَلتُ جَهلهمُ حِلماً ومغفرةً * والعفوُ عن قدرةٍ ضربٌ من الكرمِ
ص: 194
لقتلتكم(1) !
قال معاوية يوماً وعنده صَعْصَعة ، وكان قَدِم عليه بكتاب عليّ عليه السلام ، وعنده وجوه الناس : الأرض للّه ، وأنا خليفة اللَّه ، فما آخذ من مال اللَّه فهو لي ، وما تركت منه كان جائزاً لي . فقال صعصعة :
تُمَنّيكَ نفسُكَ ما لا يكو * ن جَهلاً مُعاوي لا تأثمِ
فقال معاوية : يا صعصعة ، تعلّمتَ الكلام ! قال : العلم بالتعلّم ، ومن لا يعلم يجهل ! قال معاوية : ما أحوجك إلى أن أُذيقك وَبالَ أمرك !
قال : ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخّر نفساً إذا جاء أجلُها .
قال : ومن يحول بيني وبينك ؟ قال : الذي يحول بين المرء وقلبه .
قال معاوية : اتّسع بطنُك للكلام كما اتّسع بطن البعير للشعير !
قال : اتّسع بطنَ مَن لا يشبع ، ودعا عليه بطن من لا يجمع(2) .
دخل صَعصَعة بن صُوحان على معاوية ، فقال له : يا ابن صوحان ، أنت ذو معرفة بالعرب وبحالِها ، فأخبِرْني عن أهل البصرة ، وإيّاك والحملَ على قومٍ لقومٍ .
قال : البصرة واسطة العرب ، ومُنتهى الشرف والسؤدد ، وهم أهل الخطط في أوّل الدهر وآخره ، وقد دارت بهم سَرَوات العرب كدوران الرَّحى على قُطبها . قال : فأخبِرْني عن أهل الكوفة .
ص: 195
قال : قبّة الإسلام ، وذروة الكلام ، ومظانّ ذوي الأعلام ، إلّا أنّ بها أجلافاً تمنع ذوي الأمر الطاعة ، وتُخرجهم عن الجماعة ، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة . قال : فأخبِرْني عن أهل الحجاز .
قال : أسرع الناس إلى فتنة ، وأضعفهم عنها ، وأقلّهم غَناء فيها ، غير أنّ لهم ثباتاً في الدِّين ، وتمسّكاً بعروة اليقين ، يتّبعون الأئمّة الأبرار ، ويخلعون الفسقة الفجّار . فقال له معاوية : مَن البَرَرة والفَسَقة ؟ فقال : يا ابن أبي سفيان ، تَرَك الخداع مَن كَشَف القناع ، عليّ وأصحابه من الأئمّة الأبرار ، وأنت وأصحابك من أولئك .
ثمّ أحبّ معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب ، فقال : أخبِرْني عن القبّة الحمراء في ديار مُضَر(1) .
قال : أسد مضر بُسلانٌ بين غيلَين ، إذا أرسلتها افتَرَست ، وإذا تركتها احتَرَست . قال معاوية : هنالك يا ابن صُوحان العِزّ الراسي ، فهل في قومك مثل هذا ؟ قال : هذا لأهلِه دونك يا ابن أبي سفيان ، ومن أحبّ قوماً حُشر معهم .
قال : فأخبِرْني عن ديار ربيعة ، ولا يستخفّنّك الجهل وسابقة الحميّة بالتعصّب لقومك .
قال : واللَّه ما أنا عنهم براضٍ ، ولكنّي أقول فيهم وعليهم : هم واللَّه أعلام الليل ، وأذناب في الدين والميل لن تغلب رايتها إذا رسخت ، خوارج الدين ، برازخ اليقين ، من نصروه فَلَج ومن خذلوه زَلَج . قال : فأخبرني عن مُضَر .
قال : كِنانة العرب ، ومَعدِن العزّ والحسَب ، يقذف البحر بها آذيَّه ، والبرّ رديَّه .
ثمّ أمسك معاوية ، فقال له صعصعة : سَلْ يا معاوية وإلّا أخبرتك بما تَحِيدُ عنه ! قال : وما ذاك يا ابن صوحان ؟ قال : أهل الشام . قال : فأخبِرْني عنهم .
ص: 196
قال : أطوَع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق ! عُصاة الجبّار ، وخلفة الأشرار ، فعليهم الدمار ، ولهم سوء الدار . فقال معاوية : واللَّهِ يا ابن صُوحان إنّك لحاملٌ مُدْيَتَك منذ أزمان ، إلّا أنّ حِلم ابن أبي سفيان يردّ عنك ! فقال صعصعة : بل أمرُ اللَّه وقُدرتُه ، إنّ أمرَ اللَّه كان قَدَراً مَقْدوراً(1) .
حمل صَعْصَعة بن صُوحان كتاباً من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، إلى معاوية ، فأساء له بنو أُميّة ممّن كان بباب معاوية ، وكَثُرَت الجَلَبة واللَّغْط ، فسأل معاويةُ عن ذلك فقيل له : رجل من العرب يقال له صعصعة بن صُوحان معه كتاب من عليّ ، فقال : واللَّهِ فقد بَلَغني أمرُه ، هذا أحدُ سهام عليّ وخُطباء العرب ، وقد كنتُ إلى لقائه شَيِّقاً . وأذِن له فدخل عليه ، فقال : السلام عليك يا ابن أبي سفيان ، هذا كتاب أمير المؤمنين ، فقال معاوية : أمَا إنّه لو كانت الرُّسُل تُقتل في جاهليّة أو إسلام لَقتلتك !
ثمّ اعترضه معاوية في الكلام ، وأراد أن يستخرجه ليعرف قريحته أطبعاً أم تكلّفاً ، فقال : ممّن الرجل(2) ؟ قال : من نِزار . قال : وما كان نِزار ؟ قال : كان إذا غزا نَكَس ، وإذا لقي افتَرَس ، وإذا انصرف احتَرَس . قال : فمن أيّ أولاده أنت ؟ قال : من ربيعة . قال : وما كان ربيعة ؟ قال : كان يُطيل النِّجاد(3) ، ويَعُول العباد ، ويضرب ببقاع الأرض العماد . قال : فمن أيّ أولاده أنت ؟ قال : من جَديلة قال : وما كان جَديلة ؟ قال : كان في الحرب سيفاً قاطعاً ، وفي المَكرُمات غيثاً نافعاً ، وفي اللقاء لهباً ساطعاً .
ص: 197
قال : فمن أيّ أولاده أنت ؟ قال : من عبد القيس . قال : وما كان عبد القيس ؟ قال : كان خصيباً حضرماً أبيضَ وهّاباً لضيفه ما يجد ، ولايسأله عمّا فقد ، كثير المَرَق ، طيب العِرق ، يقوم للناس مقام الغيث من السماء . قال : ويحك يا ابن صُوحان ! فما تركت لهذا الحيّ من قُريش مجداً ولا فخراً .
قال : بلى واللَّه يا ابن أبي سفيان ، تركت لهم ما لا يصلح إلّا بهم ، ولهم تركت الأبيض والأحمر ، والأصفر والأشقر ، والسرير والمنبر ، والملك إلى المحشر ، وأنّى لا يكون ذلك كذلك وهم مَنارُ اللَّه في الأرض ونجومه في السماء ؟ ففرح معاوية وظنّ أنّ كلامه يشتمل على قريش كلّها ، فقال : صدقتَ يا ابن صُوحان ، إنّ ذلك لكذلك . فعرف صعصعة ما أراد ، فقال : ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد ، بعدتم عن أُنُف المرعى وعلوتم عن عذب الماء . قال : فلِمَ ذلك ويلك يا ابن صُوحان ؟! قال : الويل لأهل النار ، ذلك لبني هاشم(1) . قال : قم ، فأخرجوه ، فقال صعصعة : الصدق ينبئ عنك لا الوعيد ، من أراد المشاجرة قبل المحاورة ، فقال معاوية : لشي ء ما سَوّدَه قومُه ، وددتُ واللَّهِ أنّي من صُلبه ! ثمّ التفت إلى بني أُميّة فقال : هكذا فلتكن الرجال(2) !
وَفَد عقيلُ بن أبي طالب على معاوية منتجعاً وزائراً ، فرحّب به معاوية وأوسعه حلماً واحتمالاً ، فقال له : يا أبا يزيد ، كيف تركتَ عليّاً ؟ فقال : تركتُه على ما يُحبّ اللَّهُ ورسولُه ، وألفيتُك على ما يكره اللَّهُ ورسولُه . فقال له معاوية : لولا أنّك زائرٌ مُنتَجِع
ص: 198
جنابَنا لَرَدَدتُ عليك أبا يزيد جواباً تألم منه(1) !
ثمّ أحبّ معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشي ء يخفضه ، فوثب عن مجلسه ، وأمر له بِنُزل ، وحمل إليه مالاً عظيماً . فلمّا كان من غدٍ جلس وأرسل إليه فأتاه ، فقال له : يا أبا يزيد ، كيف تركتَ عليّاً أخاك(2) ؟ قال : تركتُه خيراً لنفسه منك ، وأنت خير لي منه . فقال له معاوية : أنت واللَّه كما قال الشاعر :
وإذا عَدَدْتَ فخارَ آلِ مُحرِّقٍ * فالمجدُ منهم في بني عَتّابِ
فمحلّ المجد من بني هاشم مَنُوط فيك يا أبا يزيد ، ما تغيّرك الأيّام والليالي(3) . فقال عقيل :
اصبِرْ لحربٍ أنت جانيها * لا بدّ أن تَصلى بحاميها
وأنت واللَّه يا ابن أبي سفيان كما قال الآخر :
وإذا هَوازِنُ أقبلَت بفَخارِها * يوماً فَخَرْتُهُم بآلِ مُجَاشِعِ
بالحاملينَ على الموالي غُرْمَهُم * والضاربينَ الهامَ يومَ الفازعِ
ولكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو أُميّة ، فبمَن تفتخر ؟! فقال معاوية : عزمت عليك أبا يزيد لما أمسكت ؛ فإنّي لم أجلس لهذا ، وإنّما أردتُ أن أسألك عن أصحاب عليّ فإنّك ذو معرفة بهم . فقال عقيل : سَلْ عمّا بدا لك ، فقال : ميّز لي أصحاب عليّ ، وابدأ بآل صُوحان ؛ فإنّهم مخاريق(4) الكلام !
ص: 199
قال : أما صعصعة فعظيم الشأن ، عَضْبُ(1) اللسان ، قائد فُرسان ، قاتلُ أقران ، يَرتُق ما فَتَق ، ويَفتُق ما رَتَق ، قليل النظير . وأمّا زيد وعبد اللَّه فإنّهما نهران جاريان يصبّ فيهما الخُلجان ، ويُغاث بهما البلدان ، رَجُلا جِدٍّ لا لعبَ معه ، وبنو صُوحان كما قال الشاعر :
إذا نزلَ العدوّ فإنّ عندي * أُسوداً تَخْلِسُ الأُسْدَ النُّفوسا(2)
قال المسعوديّ : لِصَعْصَعةَ بن صوحان أخبارٌ حِسان ، وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والإيضاح عن المعاني ، على إيجاز واختصار .
من ذلك : عن مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ ، قال : سمعت صَعْصَعة بن صُوحان وقد سأله ابن عبّاس : ما السُؤْدد فيكم ؟ فقال : إطعامُ الطعام ، ولِينُ الكلام ، وبَذْلُ النَّوال ، وكفّ المرءِ نفسَه عن السؤال ، والتودّد للصغير والكبير ، وأن يكون الناس عندك شرعاً .
قال : فما المروءة ؟ قال : أخَوان اجتمعا فإن لَقِيا قَهَرا ، حارسُهما قليل ، وصاحبُهما جليل ، يحتاجان إلى صيانةٍ مع نزاهةٍ ودين . قال : فهل تحفظ في ذلك شعراً ؟ قال : نعم ، أما سمعتَ قول مُرّة ابن ذُهْل بن شَيبان(3) حيث يقول :
إنّ السيادةَ والمروءةَ عُلِّقا * حيثُ السماءُ من السِّماكِ الأعزَل
وإذا تقابلَ مُجريانِ لِغايةٍ * عَثرَ الهَجينُ وأسلَمَته الأرجل
وَيَجي الصريحُ مع العِتاقِ معوّداً * قرب الجيادِ فلم يَجئه الأفكل
ص: 200
فقال له ابن عبّاس : لو أنّ رجلاً ضرب آباط إبله مشرقاً ومغرباً لفائدة هذه الأبيات ما عَنَفتُه ، إنّا منك يا ابن صُوحان لَعلى علم وحكم واستنباط ما قد عفا من أخبار العرب ، فمَن الحكيم فيكم ؟
قال : مَن ملكَ غضبَه فلم يَعجَل ، وسُعي إليه بحقّ أو باطل فلم يقبل ، ووجد قاتل أبيه وأخيه فصفح ولم يَقتُل ، ذلك الحكيم يا ابن عبّاس . قال : فهل تجد ذلك فيكم كثيراً ؟ قال : ولا قليلاً ، وإنّما وصفتُ لك أقواماً لا تجدهم إلّا خاشعين راهبين للّه مُريدين يُنيلون ولا ينالون . فأمّا الآخرون فإنّهم سبق جهلُهم حلمَهم ، ولا يُبالي أحدُهم إذا ظفر ببُغيته حين الحفيظة ما كان ، بعد أن يدرك زعمه ويقضي بغيته ، ولو وَتَره أبوه لقتلَ أباه ، أو أخوه لقتل أخاه ؛ أما سمعت إلى قول زَبّان بن عمرو بن زَبّان ، وذلك أنّ عَمراً أباه قتله مالك بن كومة ، فأقام زَبّان زماناً ، ثمّ غزا مالكاً ، فأتاه في مائتي فارس صباحاً وهو في أربعين بيتاً فقتله وقتل أصحابه وقتل عمّه فيمن قتل ، ويقال : بل كان أخاه ، وذلك أنّه كان جاوَرَهم ، فقيل لزَبّان في ذلك : قتلت صاحبَنا ، فقال :
فلو أُمّي ثَقَفْتُ بحيث كانوا * لَبلَّ ثيابَها عَلَقٌ صَبِيبُ
ولو كانت مَيّةٌ أخت عمرو * بهذا الماء ظلَّ لها نحيبُ
شَهَرتُ السيفَ في الأدْنَين منّي * ولم تَعطِف أواصرَنا قلوبُ
فقال له ابن عبّاس : فمَن الفارس فيكم ؟ حُدَّ لي حدّاً أسمعه منك ؛ فإنّك تضع الأشياء مواضعها(1) يا ابن صُوحان . قال : الفارس مَن قَصّر أجلَه في نفسه ، وضغم على أمله(2) بضرسه ، وكانت الحرب أهون عليه من أمسه ، ذلك الفارس إذا وَقَدَت الحروب ، واشتدّت بالأنفس الكروب ، وتداعَوا للنِّزال وتزاحفوا للقتال ، وتخالسوا
ص: 201
المهج(1) ، واقتحموا بالسيوف اللُّجج . قال : أحسنت واللَّه يا ابن صُوحان ، إنّك لَسليلُ أقوام كرام خُطَباء فُصَحاء ، ما وَرِثتَ هذا عن كَلالة ، زدني .
قال: نَعَم ، الفارس كثير الحذر ، مُدير النظر ، يلتفت بقلبه ، ولا يُدير خَرَزات صُلبه .
قال : أحسنت واللَّه يا ابن صوحان الوصف ، فهل في مثل هذه الصفة من شعر ؟
قال : نعم ، لزهير بن جَنَاب الكلبيّ يرثي ابنه عَمراً حيث يقول :
فارسٌ تكلأُ الصحابةُ مِنهُ * بحسامٍ يَمُرُّ مَرَّ الحَريقِ
لا تَراهُ لدى الوغى في مَجالٍ * يغفلُ الطرفَ ، لا ، ولا في مضيقِ
مَن يَراهُ يخَلْهُ في الحربِ يوماً * أنّه أخرَقٌ مُضِلُّ الطريقِ !
فقال له ابن عبّاس : فأين أخَواك منك يا ابن صُوحان ؟ صِفهُما لأعرف وزنكم . قال : أمّا زيد فكما قال أخو غَنّي :
فتًى لا يُبالي أن يكونَ بوجههِ * إذا سَدّ خلّاتِ الكرامِ شُحوبُ
إذا ما تَراآهُ الرجالُ تَحفَّظوا * فلَم يَنطِقوا العَوْراءَ وهو قريبُ
حَليفُ النَّدى يَدعو النَّدى فيُجيبهُ * إليه ، ويَدعوهُ النَّدى فيجيبُ
يَبيتُ النَّدى يا أمَّ عمرٍو ضَجِيعَهُ * إذا لم يكن في المُنْقِياتِ حَلوبُ
كأنّ بيوتَ الحيِّ ما لم يكن بها * بَسابِسُ(2) ما يُلْفى بهنّ عَريبُ(3)
كان واللَّه يا ابن عبّاس عظيم المروءة ، شريف الأخوّة ، جليل الخطر ، بعيد الأثر ، كَميش العُروة ، ألِيف البَدْوة(4) ، سليم جَوانحِ(5) الصدر ، قليل وساوس الدهر ، ذاكر اللَّه
ص: 202
طرفَيِ النهار وزُلَفاً من الليل . الجوع والشبع عنده سِيّان ، لا ينافس في الدنيا ، وأقلّ أصحابه مَن ينافس فيها . يطيل السكوت ، ويحفظ الكلام ، وإن نطق نطق بمُقام، يهرب منه الدُّعّار والأشرار ، ويألَفُه الأخيار والأحرار . فقال ابن عبّاس : ما ظنّك برجل من أهل الجنّة ، رحم اللَّه زيداً ، فأين كان منه عبد اللَّه ؟
قال : كان عبد اللَّه سيّداً شجاعاً ، مألفاً مطاعاً ، خيرُه وَساع(1) ، وشرّه دِفاع ، قُلْبيّ النَّحيرة(2) ، أحوَزيّ(3) الغريزة ، لا يُنَهنِهه(4) مُنَهنِهٌ عمّا أراده ، ولا يركب من الأمر إلّا عتاده(5) ، سِمام عَدِي(6) ، وباذل قري ، صعب المَقادة(7) ، جَزْل الرِّفادة(8) ، أخو إخوان ، وفتى فِتيان ، وهو كما قال البرجميّ عامر بن سِنان :
سِمامُ عَدِي بالنبلِ يَقتل مَن رمى * وبالسيفِ والرُّمحِ الرُّدَينيّ مِشْغَبُ
مَهيبٌ مفيدٌ للنَّوالِ مُعَوَّدٌ * بفعلِ النَّدى والمَكرُمات مُجرَّبُ
فقال له ابن عبّاس : أنت يا ابن صُوحان باقرُ علم العرب(9) .
لا يكون لك في ذلك حِلّ ولا تَرحال . فقال صَعْصَعة : لو أجد غرضاً(1) منك لَرَميتُ ، بل أرى شبحاً ولا أرى مِثالاً إلّا « كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً »(2) . أما لو كنتَ كفؤاً لَرميتُ حَصائلك بأذْرَبَ من ذلك السِّنان ، ولَرَشقتُك بنبالٍ تَردَعُك عن النِّضال ، ولَخَطمتُك بخِطام يَخْزِم منك موضعَ الزمام(3) . فاتّصل الكلام بابن عبّاس فاستضحك من الفَزاريّ وقال : أما لو كلّف أخو فَزَارة نفسَه نقلَ الصخور من جبال شمام إلى الهضام ، لكان أهون عليه من منازعة أخي عبد القَيْس ، خاب أبوه ، ما أجهلَه ! يستجهل أخا عبد القيس وقواه المريرة ، ثمّ تمثّل :
صُبَّتْ عليكَ ولمْ تَنصبَّ مِنْ أمَمٍ * إِنَّ الشقاءَ على الأَشْقَيْن مَصبوبُ(4)
عن ابن شهاب ، قال : وفد أبو أيّوب الأنصاريّ على معاوية فقضى حوائجه ، ثمّ قال له أبو أيّوب : لي مال ولا غِلمان فيه يقومون به ، فأعطِني مالاً أشتري به غِلماناً ، فقال : ألَم أُعطِك لوفادتِك وأقضِ حوائجَك في خاصّتك وعامّتك ؟ قال : بلى . قال : فما لَك عندي شي ء سوى ذلك . فقال أبو أيّوب : ألا تفعل يا معاوية ، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال لنا : «إنّكم ستَلقَون بعدي أثَرَة يا معاشر الأنصار ، فاصبروا حتّى تَلقَوني» ؟ قال : فاصبِرْ يا أبا أيّوب ! قال : أقُلتَها يا معاوية ؟! واللَّه لا أسألك بعدها شيئاً أبداً(5) .
ذكر ابن أعثم : بعد مقتل عليّ عليه السلام ، دخل عَدِيُّ بن حاتم الطائيّ على معاوية وعنده
ص: 204
عمرو بن العاص ، ورجل من بني الوحيد ، فسلّم عَدِيّ ، فردّوا عليه السلام ، فقال له معاوية : أبا طَريف ، ما الذي أبقى لك الدهرُ من ذِكر عليّ بن أبي طالب ؟ فقال عديّ : وهل يتركني الدهر أن لا أذكره ؟! قال : فما الذي بقي في قلبك من حبّه ؟ قال عديّ : كلّه ، وإذا ذُكِر ازداد !
فقال معاوية : ما أُريد بذلك إلّا إخلاقَ(1) ذِكره !
فقال عديّ : قلوبُنا ليست بيدك يا معاوية . فضحك معاوية ، ثمّ قال : يا معشرَ طيّ ء ! إنّكم ما زلتم تُشرّفون الحاجّ ولا تُعظّمون الحَرَم ، فقال عديّ : إنّا كنّا نفعل ذلك ونحن لا نعرف حلالاً ولا نُنكر حراماً ، فلمّا جاء اللَّه عزّ وجلّ بالإسلام غَلَبناك وأباك على الحلال والحرام ، وكنّا للبيت أشدّ تعظيماً منكم له .
وخرج عديّ مُغضَباً ، فأرسل إليه معاوية بجائزةٍ سَنِيّة وترضّاه(2) .
روى المدائنيّ قال : وَفَد عبدُ اللَّه بن عبّاس على معاوية مرّةً ، فقال معاوية لابنه يزيد ، ولزياد بن سُميّة ، وعُتْبة بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، والمُغِيرة بن شُعبة ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن أُمِّ الحَكَم : إنّه قد طالَ العهدُ بعبد اللَّه بن عبّاس ، وما كان شَجَر بيننا وبينه وبين ابن عمِّه ، ولقد كان نَصَبه للتحكيم فدُفع عنه ، فحرِّكوه على الكلام لنبلُغَ حقيقة صفته ، ونقِفَ على كُنْه معرفته ، ونعرف ما صُرِف عنّا من شَبَا(3) حَدّه ، وزُويَ(4) عنّا من دهاء رأيه ، فربّما وُصِف المرء بغيرِ ما هو فيه ، وأُعطِيَ من النَّعت والاسم ما لا يستحقّه .
ص: 205
ثمّ أرسل إلى عبد اللَّه بن عبّاس ، فلمّا دخل واستقرّ به المجلس ، ابتدأه ابنُ أبي سفيان فقال : يا ابن عبّاس ، ما مَنعَ عليّاً أن يُوجِّه بك حَكَماً ؟ فقال : أما واللَّه لو فَعَل لَقَرَن عمْراً بصَعْبةٍ من الإبل ، يُوجِع كفَّه مِراسُها ، ولَأذهَلتُ عقلَه ، وأجرَضتُه بِرِيقه(1) ، وقَدَحتُ في سُوَيداء قلبه ، فلم يُبرمْ أمراً(2) ، ولم يَنفض تراباً إلّا كنتُ منه بمرأىً ومَسمَع ، فإن أنكَأْه(3) أدمَيتُ قواه ، وإن أُدْمِه فصَمتُ عُراه ، بغَرْبِ مِقْوَل(4) لا يُفَلّ حَدُّه ، وأصالةِ رأي كمُتاحِ الأجَل لا وَزَر منه ، أصدَعُ به أديمَه ، وأفُلُّ به شَبا حَدّه ، وأشحَذُ به عزائم المتّقين ، وأُزيح به شُبَه الشاكّين .
فقال عمرو بن العاص : هذا واللَّهِ يا أمير المؤمنين نُجومُ أوّلِ الشرّ(5) وأُفولُ آخرِ الخَير ، وفي حَسْمِه قَطعُ مادّته ، فبادِرْه بالحملة ، وانتهِزْ منه الفُرصة ، واردَعْ بالتنكيل به غيرَه ، وشرِّدْ به مَن خَلْفه .
فقال ابن عبّاس : يا ابن النابغة ؛ ضَلَّ واللَّهِ عقلُك ، وسَفِه حِلمُك ، ونَطَق الشيطان على لسانك ؛ هلّا تَوَلَّيتَ ذلك بنفسك يومَ صِفّين حين دُعيتَ نَزالِ ، وتَكَافَحَ الأبطال ، وكَثُرَت الجراح ، وتَقَصَّفَتِ الرِّماح ، وبَرَزتَ إلى أمير المؤمنين مُصاوِلاً ، فانكفَأ نحوك بالسيف حاملاً ، فلمّا رأيتَ الكَواشِرَ من الموت أعدَدتَ حيلةَ السلامة قبل لقائه ، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه ، فمنحتَه - رجاءَ النجاة - عَورَتَك ، وكَشَفتَ له خوفَ بأسه سَوأتَك ، حَذراً أن يَصطَلِمك بِسَطوَته ، ويَلتَهِمَك بحملته ، ثمّ أشَرتَ على معاوية كالناصحِ له بمبارزته ، وحَسَّنتَ له التعرُّض لمكافحته ، رجاءَ أن تكتفي مؤنته ، وتعدم صورته ، فَعَلِم غِلَّ صدرك ، وما انحَنَت عليه من النفاق أضلُعُك ، وعرَفَ مَقرَّ سهمِك
ص: 206
في غَرَضك ، فَاكفُفْ غَرْبَ لسانِك ، واقْمَع عَوْراءَ لفظِك ، فإنّك لمن أسدٍ خادِرٍ(1) وبحر زاخر ، إن تَبَرَّزت للأسد افتَرَسَك ، وإن عُمْتَ في البحر غَمَسَك .
فقال مروان بن الحكم : يا ابنَ عبّاس ، إنّك لتصرف أنيابَك ، وتُوري نارك ، كأنّك ترجو الغَلَبة وتؤمّل العافية ، ولولا حلمُ أمير المؤمنين عنكم لَتناولكم بأقصَرِ أنامله ، فأوردَكم مَنهلاً بعيداً صَدَرُه ، ولَعَمري لئن سَطا بكم لَيأخُذَنّ بعضَ حقِّه منكم ، ولئن عفا عن جرائركم فقديماً ما نُسب إلى ذلك .
فقال ابن عبّاس : وإنّك لَتقول ذلك يا عدوّ اللَّه ، وطريد رسول اللَّه ، والمُباح دمُه ، والداخل بين عثمان ورعيّته بما حَمَلهم على قطْع أوداجه ، وركوب أثباجه ! أما واللَّهِ لو طلب معاويةُ ثأره لأخَذَك به ، ولو نظر في أمر عثمان لَوَجَدك أوّله وآخره .
وأمّا قولُك لي : إنّك لَتصرِف أنيابك ، وتُوري نارك ؛ فسَلْ معاوية وعَمراً يُخبراك ليلة الهَرير ، كيف ثَباتُنا للمَثُلات ، واستخفافُنا بالمُعْضِلات ، وصدقُ جِلادنا عند المُصاوَلَة ، وصَبرُنا على اللَّأْواء والمُطاوَلَة ، ومُصافحتنا بجباهنا السيوفَ المُرهَفة ، ومُباشرتُنا بنُحورنا حَدَّ الأسِنّة ، هل خِمْنا(2) عن كرائم تلك المواقف ؟ أم لم نبذل مُهَجنا للمَتالِف ؟ وليس لك إذ ذاك فيها مقامٌ محمودٌ ، ولا يومٌ مشهودٌ ، ولا أثرٌ معدودٌ ، وإنّهما شَهِدا ما لو شهدتَ لأقْلَقك ؛ فاربَعْ على ظَلْعِك ، ولا تتعرّض لما ليس لك ؛ فإنّك كالمغروز في صَفَدٍ ، لا يَهبِط برِجل ، ولا يَرقى بيد .
فقال زياد : يا ابن عبّاس ، إنّي لأعلَم ما مَنعَ حَسَناً وحُسَيناً من الوفود معك على أمير المؤمنين إلّا ما سَوَّلَتْ لهما أنفسُهما ، وغَرّهما به مَن هو عند البأساء سُلَّمُهُما ، وأيم اللَّه ، لو وَليتُهما لأدْأَبا في الرِّحلة إلى أمير المؤمنين أنفسَهما ، ولقلّ بمكانهما لبثهما !
فقال ابن عبّاس : إذن واللَّهِ يَقصُر دونهما باعُك ، ويَضيق بهما ذِراعُك ، ولو رُمتَ
ص: 207
ذلك لَوَجدتَ من دونهما صُدُقاً صُبُراً على البلاء لا يَخِيمون عن اللقاء ، فلَعَرَكُوك بكَلاكلهم ، ووَطِئوك بِمَناسِمهم ، وأوْجَرُوك مُشْقَ رماحهم وشِفارَ سيوفهم ووَخْزَ أسنّتهم ، حتّى تشهد بسوءِ ما أتيتَ ، وتَتبيَّن ضياع الحَزْم فيما جَنيتَ ، فحَذارِ حَذارِ من سوء النيّة فتُكافأ بردّ الأُمنيّة ، وتكون سبباً لفسادِ هذين الحيَّيْن بعد صلاحهما ، وسعياً في اختلافهما بعد ائتلافهما ، حيث لا يضرّهما إبْساسُك ولا يُغني عنهما إيناسُك .
فقال عبد الرحمن بن أمّ الحَكَم : للّهِ دَرُّ ابنِ مُلجَم ! فقد بلغ الأمل ، وأمِن الوَجَل ، وأحدَّ الشَّفرة وألانَ المُهرةَ ، وأدرك الثأر ، ونفَى العار ، وفاز بالمنزلة العليا ، ورقَى الدرجة القصوى !
فقال ابن عبّاس : أما واللَّهِ ، لقد كَرَع كأسَ حَتْفِه بيده ، وعَجَّل اللَّه إلى النار بروحه ، ولو أبدى لأميرِالمؤمنين صَفحَته لَخالَطه الفَحْلُ القَطِم والسيف الخَذِم ولألْعَقهُ صاباً(1) ، وسقاه سمّاً ، وألحقه بالوليد وعُتبة وحنظلة ؛ فكلُّهم كان أشدّ منه شَكيمة ، وأمضى عزيمة ، ففرَى السيفُ هامَهُم ورَمَّلَهم بدمائهم ، وقرَى الذئابَ أشلاءهم ، وفرّق بينهم وبين أحبّائهم أُولئك حصب جهنّم هم لها واردون(2) ، فهل « تُحِسُّ مِنْهُم مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً »(3) ، ولا غَرْوَ إنْ خُتِل ، ولا وَصمَة إن قُتل ، فإنّا لَكَما قال دُرَيد بن الصِّمَّة :
فإنّا لَلُحْمُ السيفِ غيرَ مُكَرَّهٍ * ونَلحَمُهُ طوراً وليس بذِي نُكرِ
يُغارُ علينا واتِرِينَ فيُشتفَى * بنا إن أُصِبنا ، أو نُغيرُ على وِتْرِ
فقال المغيرة بن شعبة : أما واللَّهِ لقد أشَرتُ على عليٍّ بالنصيحة فآثرَ رأيه ، ومضى على غُلَوائه ، فكانت العاقبة عليه لا لَه ، وإنّي لأحسِب أنّ خَلَفه يَقتَدون بمنهجه .
ص: 208
فقال ابن عبّاس : كان واللَّهِ أمير المؤمنين عليه السلام أعلَمَ بوجوه الرأي ، ومعاقِد الحَزْم ، وتصريف الأُمور ، من أن يَقبَل مشورتَك فيما نهى اللَّه عنه ، وعَنّفَ عليه ، قال سبحانه : « لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ »(1) ولقد وَقَفك على ذِكْرٍ مبينٍ ؛ وآية مَتْلُوّة قوله تعالى : « وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً »(2) ، وهل كان يسوغ له أن يُحكّم في دماء المسلمين وفَيْ ء المؤمنين مَن ليس بمأمونٍ عنده ، ولا مَوثوقٍ به في نفسه ؟! هَيهات هَيهات ! هو أعلَم بفَرض اللَّه وسُنّة رسوله أن يُبطِن خِلافَ ما يُظهِر إلّا للتقيّة ، ولاتَ حين تقيّة مع وضوح الحقّ ، وثُبوت الجَنان ، وكثرة الأنصار ، يمضي كالسيفِ المُصلَت في أمر اللَّه ، مُؤثِراً لطاعةِ ربّه والتقوى على آراء أهل الدنيا .
فقال يزيد بن معاوية : يا ابن عبّاس ، إنّك لَتَنطِق بلسانٍ طَلْق تُنبئ عن مكنون قلب قد حُرِق ، فاطْوِ ما أنت عليه كَشْحاً ، فقد محا ضوءُ حقِّنا ظُلمةَ باطلكم !
فقال ابن عبّاس : مَهْلاً يزيد ، فواللَّهِ ما صَفَتْ القلوبُ لكم منذ تَكدَّرت بالعداوة عليكم ، ولا دَنَتْ بالمحبّة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم ، ولا رَضِيَت اليومَ منكم ما سَخِطَت الأمس من أفعالكم ، وإن تَدُلِ(3) نَستَقضِ ما سُدّ عنّا ، ونَستَرجِع ما ابتُزَّ منّا ، كَيلاً بكَيل ، ووَزْناً بوزن ، وإن تكن الأخرى فكفى باللَّه وليّاً لنا ، ووكيلاً على المعتدين علينا .
فقال معاوية : إنّ في نفسي منكم لَحَزازاتٍ يا بني هاشم ! وإنّي لَخليقٌ أن أُدرِك فيكم الثار وأنفي العار ؛ فإنّ دماءنا قِبَلكم ، وظُلامَتنا فيكم .
فقال ابن عبّاس : واللَّهِ إن رُمْتَ ذلك يا معاوية لَتُثيرنَّ عليك أُسْداً مُخدِرة ، وأفاعيَ
ص: 209
مُطرِقة ، لا يَفثَؤها كثرةُ السلاح ، ولا يَعَضُّها نِكايةُ الجراح ، يَضَعون أسيافَهم على عَواتقهم ، يضربون قُدُماً قُدُماً مَن ناوأهم ، يَهُون عليهم نُباح الكلاب وعُواء الذئاب ، لا يُفاتُون بوِتْرٍ(1) ، ولا يُسبَقون إلى كريمِ ذِكْر ، قد وَطَّنوا على الموت أنفسهم ، وسَمَت بهم إلى العلياء هِمَمُهم ، كما قالت الأزديّة :
قومٌ إذا شَهِدوا الهَياجَ فلا * ضَربٌ يُنَهنِهُهُم ولا زَجْرُ
وكأنّهم آسادُ غِينَةَ قَد * غَرِثَتْ وبَلَّ مُتونَها القَطْرُ
فلتَكونَنَّ منهم بحيث أعدَدتَ ليلةَ الهرير للهربِ فَرَسَك ، وكان أكبر همّك سلامة حُشاشة نفسك ، ولولا طغامٌ من أهل الشام وقَوْكَ بأنفسهم ، وبَذَلوا دونك مُهَجَهم ، حتّى إذا ذاقوا وَخْز الشِّفار ، وأيقنوا بحُلولِ الدمار ، رفعوا المصاحف مُستجيرين بها ، وعائذين بعِصْمَتِها لكنتَ شِلْواً مطروحاً بالعَراء ، تَسْفِي عليك رياحُها ، ويَعتَوِرُكَ ذُبابُها .
وما أقول هذا أريد صرفَك عن عزيمتك ، ولا إزالتَك عن معقود نيّتك ، لكنّ الرَّحِم التي تَعطِف عليك ، والأوامر التي توجب صرْفَ النصيحة إليك .
فقال معاوية : للّه دَرُّك يا ابنَ عبّاس ! ما تكشف الأيّام منك إلّا عن سيفٍ صقيل ، ورأيٍ أصيل ، وباللَّهِ لو لم يَلِدْ هاشمٌ غيرَك لَما نقص عددُهم ، ولو لم يكن لأهلك سواك لكان اللَّه قد كثّرهم . ثمّ نهض ، فقام ابن عبّاس وانصرف(2) .
خرج معاوية من الشام فنزل المدينة وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابن عمر ، وابن الزبير، فأُخبر أنّهم قد مَضَوا إلى مكّه ، فسكت ساعةً يُفكِّر في أمرهم ، ثمّ
ص: 210
أرسل إلى عبد اللَّه بن عبّاس فدعاه ، فلمّا دخل عليه قرّب مجلسه ، ثمّ قال : يا ابنَ عبّاس ، أنتم بنو هاشم وأنتم أحقّ الناس بنا وأوْلاهم بمودّتنا لأنّنا بنو عبد مناف ، وإنّما باعَدَ بيننا وبينكم هذا المُلك ، وقد كان هذا الأمر في تَيْم وعَدِيّ ، فلم يَعتَرضوا عليهم ولم يُظهروا لهم من المُباعَدَة ، ثمّ قُتل عثمان بين أظهُركم فلم تُغَيِّروا . ثمّ وُلِّيتُ هذا الأمر ، فواللَّهِ لقد قَرَّبتُكم وأعطيتُكم ورفعتُ مقدارَكم ، فما تزدادونَ منّي إلّا بُعداً ! وهذا الحسين بن عليّ قد بلغني عنه هَنَاتٌ غيرُها خيرٌ له منها ، فاذكروا عليَّ بن أبي طالب ومحاربته إيّاي ومعه المهاجرون والأنصار ، فأبى اللَّه تبارك وتعالى إلّا ما قد علمتم ، أفتَرجُون بعد عليّ مِثلَه؟ أم بعد الحسن مثله(1)؟ فقطع عليه ابن عبّاس الكلام، ثمّ قال :
ص: 211
صدقتَ يا معاوية ، نحن بنو عبد مَناف ، أنتم أحقّ الناس بمودّتنا وأولاهم بنا ، وقد مضى أوّل الأمر بما فيه ، فأصلِحْ آخِره ، فإنّك صائرٌ إلى ما تُريد .
وأمّا ما ذكرتَ من عطيّتك إيّانا ، فلَعَمْري ما عليك في جُودٍ من عيب .
وأمّا قولك : ذهب عليّ أفترجون مثله ؟ فمَهْلاً يا معاوية رُوَيداً لا تَعجَل ، فهذا الحسين بن عليّ حيّ وهو ابنُ أبيه ، واحذَرْ أن تُؤذيه يا معاوية فيؤذيَكَ أهلُ الأرض ، فليس على ظهرها اليوم ابن بنت نبيّ سواه . فقال معاوية : إنّي قد قبلتُ منك يا ابنَ عبّاس(1) .
أبو عثمان الحزاميّ ، قال : اجتمعت بنو هاشم عند معاوية ، فأقبل عليهم فقال : يا بني هاشم ، واللَّهِ إنّ خيري لكم لَممنوح ، وإنّ بابي لكم لَمفتوح ؛ فلا يقطع عنكم خيري عِلّة ولا يوصد بابي دونكم مسألة . ولمّا نظرت في أمري وأمركم رأيت أمراً مختلفاً : إنّكم لَترون أنّكم أحقّ بما في يدي منّي ، وإذا أعطيتكم عطيّة فيها قضاءُ حقّكم قلتم : أعطانا دون حقّنا ، وقصّر بنا عن قَدْرنا ، فصرتُ كالمسلوبِ ، والمسلوبُ لا حمدَ له ، وهذا مع إنصاف قائلكم ، وإسعاف سائلكم .
قال : فأقبل عليه ابن عبّاس فقال : واللَّهِ ما منحتنا شيئاً حتّى سألناه ، ولا فتحت لنا باباً حتّى قَرَعْناه ، ولئن قطعتَ عنّا خيرَك لَلّهُ أوسعُ منك ، ولئن أغلقتَ دوننا بابك لَنَكُفَّنّ أنفُسَنا عنك . وأمّا هذا المالُ فليس لك منه إلّا ما لرجلٍ من المسلمين . ولنا في كتاب اللَّه حقّان : حقّ في الغنيمة(2) ، وحقّ في الفي ء(3) ؛ فالغنيمة ما غَلَبنا عليه ، والفي ء
ص: 212
ما اجتَبَيناه ، ولولا حقّنا في هذا المال لم يأتِك منّا زائر يحمله خُفّ ولا حافر . كفاك أم أزيدك ؟ قال : كفاني ، فإنّك تُهرّ(1) ولا تُنبح(2) .
وقال معاوية يوماً وعنده ابن عبّاس : إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها ، وجاءت بنو أُميّة بأحلامها وسياستها ، وبنو أسد بن عبد العُزّى برفادتها ودياتها ، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها ، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها ، وبنو تَيْم بصدّيقها وجَوادها ، وبنو عَديّ بفاروقها ومتفكِّرها ، وبنو سَهْم بآرائها ودهائها ، وبنو جُمَح بشرفها وأُنوفها ، وبنو عامر بن لُؤيّ بفارسها وقَريعها ؛ فمَن ذا يُجلّي في مضمارها ويجري إلى غايتها ؟ ما تقول يا ابن عبّاس ؟
قال : أقول : ليس حيّ يفخرون بأمر إلّا وإلى جنبهم مَن يَشرَكُهم إلّا قريشاً ؛ فإنّهم يفخرون بالنبوّة التي لا يُشارَكون فيها ولا يُساوَون بها ولا يُدفعون عنها ، وأشهد أنّ اللَّه لم يجعل محمّداً من قريش إلّا وقريش خير البريّة ، ولم يجعله في بني عبد المطّلب إلّا وهم خير من بني هاشم ، يريد أن يفخر عليكم إلّا بما تفخرون به ؛ إنّ بنا فُتح الأمر وبنا يُختم ، ولك مُلك مُعجَّل ولنا ملك مؤجَّل ، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك ؛ لأنّا أهل العاقبة ، والعاقبة للمتّقين(3) .
قال أبو مخنف : حجّ عمرو بن العاص فمرّ بعبد اللَّه بن عبّاس ، فحسده مكانَه وما
ص: 213
رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم ، فقال له : يا ابن عبّاس ، ما لَك إذا رأيتني ولّيتني القَصَرة(1) ، وكان بين عينيك دَبَرة ، وإذا كنت في ملأ من الناس كنت الهَوْهاةَ(2) الهُمزَة ؟! فقال ابن عبّاس : لأنّك من اللئام الفَجَرة ! وقريش الكرام البَرَرة ، لا ينطقون بباطل جهلوه ، ولا يكتمون حقّاً علموه ، وهم أعظم الناس أحلاماً ، وأرفع الناس أعلاما ؛ دخلتَ في قريش ولستَ منها ! فأنت الساقط بين فِراشَين ؛ لا في بني هاشم رَحْلُك ، ولا في بني عبد شمس راحلتُك ، فأنت الأثيم الزنيم(3) ، الضالّ المُضِلّ ، حملك معاوية على رقاب الناس ، فأنت تسطو بذلك .
فقال عمرو : أما واللَّه إنّي لَمسرورٌ بك ، فهل ينفعني عندك ؟ قال ابن عبّاس : حيث مالَ الحقّ مِلنا ، وحيث سلك قصدنا(4) .
مرَّ معاوية بقومٍ من قريش ، فلمّا رأوه قاموا غير عبد اللَّه بن عبّاس ، فقال : يا ابنَ عبّاس ! ما منعك من القيام كما قام أصحابُك ؟! ما ذاك إلّا لمَوْجِدةِ(5) أنّي قاتلتُكم بصِفِّين ، فلا تَجِدْ ؛ فإِنَّ عثمان ابنَ عمّي قُتل مظلوماً .
قال ابن عبّاس : فعمرُ بنُ الخطّاب قُتل مظلوماً !
قال : إنّ عمرَ قتلَه كافر .
قال ابن عبّاس : فمَن قتل عثمان ؟
قال : المسلمون .
ص: 214
قال ابنُ عبّاس : فذاك أَدْحَضُ لحجّتِكَ(1) .
قال معاوية لابن عبّاس : أَخْبِرني عن بني هاشم وبني أُميّة .
قال : أنت أعلَمُ بهِم .
قال : أقسَمتُ عليك لتخبرَنّي .
قال : نحن أصبَحُ وأفصَحُ وأسمَحُ ؛ وأنتم أنكَرُ وأمكَرُ وأغدَرُ(2) .
ما أغنى معاوية عن مساجلة هذا البحر الطامي ! وإلّا فهو يعلم أنّ هاشماً لها ذروة السنام من قريش ، قبل الإسلام وبعده ، بل هم عَصَبه وعموده الذي قرع خراطيم المشركين وصرّع صناديدهم ، ولم تكن أُميّة غير أَمَةٍ حسدتْ سيِّدها هاشم . وأوجز ابن عبّاس معيار الموازنة بين بني هاشم وبني أُميّة بثلاث خصال لقومه ، بأزائها ثلاث لقوم معاوية .
وقال ابن عبّاس لمعاوية منكراً عليه سُنَّته البغيضة في سبّ عليّ عليه السلام على منابر المسلمين ، ومذكّراً إيّاه على نحو الكناية سَوق عليّ لمعاوية وقومه إلى حوزة الإسلام : «أيُشتم عليّ على منبر الإسلام وهو بناه بسيفه ؟!»(3)
قام عمرو بن العاص بالموسم ، فأطرى معاوية وبني أُميّة ، وتناول(4) من بني هاشم !! وذكر مشاهِدَه بصفّين ! فقال له ابن عبّاس : يا عمرو ؛ إنّك بِعتَ دِينَك من
ص: 215
معاوية فأعطيتَه ما في يدِك ، ومَنّاكَ ما في يَدِ غَيرِه ، وكان الذي أخذَ منكَ فوقَ الذي أعطاكَ ، وكان الذي أخذْتَ مِنهُ دونَ الذي أعطيتَه ، وكلٌّ راضٍ بما أخذ وأعطى ، فلمّا صارتْ مصرُ بيدِك تَتَبّعك فيها بالعَزْل والتَّنَقّص حتّى لو أنّ نفسَك فيها ألقيتَها إليه .
وذكرتَ مشاهدَك بصِفّين ، فما ثَقُلَتْ علينا وَطْأتُك ، ولا نَكَأَتْنا فيها حربُك ، وإنْ كنتَ فيها لَطويلَ اللِّسان قصِيرَ السِّنان ، آخرَ الحربِ إذا أَقْبَلَتْ ، وأَوَّلَها إذا أدْبَرَتْ ، لكَ يَدان : يدٌ لا تَبسطْها إلى خيرٍ ، ويدٌ لا تَقبِضها عن شرّ ، ووجهان : وجه مُؤنس ، ووجه مُوحش . ولعمري إنّ مَن باع دِينَه بدنيا غيرِه لَحرِيٌّ أن يطول حزنه على ما باع واشترى ، لك بيان وفيك خَطَل(1) ، ولك رأي وفيك نَكَل(2) ، ولك قدرة وفيك حسَدٌ ؛ فأصغرُ عيْبٍ فيك أعظمُ عيبِ غيرِك !
فقال عمرو : أما واللَّهِ ما في قريشٍ أثقل وَطأةً منك ، ولا لأحدٍ من قريش عندي مثلُ قَدْرِك(3) .
للّهِ درُّ ابن عبّاس ، تُصرع في ميدانه الأقران ، ولا غَرْوَ ولا عَجَب ! إذ هو يصدرمن مدرسة أُستاذه عليّ عليه السلام ، فما بالُ ابن النابغة يدلي بدلوٍ فارغٍ بين رجال فيهم ابن عبّاس ! ولَم يَعْتَبِر من مساجلات ربِّ نعمته «معاوية» معه ، فما جنى إلّا خسارةً وفضيحة ، فراح كالمَسلُوس يفخر ببني أُميّة ؛ وقد قيل للبغل : مَن أبوك ؟ فقال : خالي الفَرَس ! وإلّا بمَن ، وبماذا يفخر ! بالعاص أبيه أحدَ زنادقةِ قريش المستهزئين برسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وقد مات العاص كافراً(4) أم يفخر بالنابغة أُمِّه ، وهي واحدة من عُقد النقص
ص: 216
فيه ، مثلما كانت سُميّة لزياد بن أبيه ! وقد قال لرجلٍ لمّا سأله عن أُمّه ، فقال : سلمى بنت حَرمَلة ، تُلقَّب النابغة من بني عَنَزة ، أصابتها رماحُ العربِ ، فبيعت بعكاظ ، فاشتراها الفاكِهُ بن المُغيرة ، ثمّ اشتراها منه عبدُ اللَّه بن جُدْعان ، ثمّ صارتْ إلى العاص بن وائل ، فولدت له ، فأنجبت ، فإنْ كان جُعِل لكَ شي ء فخذه(1) .
ص: 217
عن سعيد بن جُبير ، قال : قال لي ابن عبّاس : ممّن أنت ؟ قلت : من بني أسد . قال : من عَربهم أو من مَواليهم ؟ قلت : لا ، بل من مواليهم .
قال : فقل : أنا ممّن أنعمَ اللَّه عليه من بني أسد(1) .
وقال مجاهد : قال ابن عبّاس لسعيد بن جُبير : حدِّثْ ، فقال : أُحدِّث وأنت هاهنا ؟! فقال : أوَليس من نعم اللَّه عليك أن تتحدّث وأنا شاهد ، فإن أصبتَ فذاك وإن أخطأتَ علّمتُك(2) .
قال ابن عبّاس : قدِمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع أصحابه ، ووفودُ العرب عنده ، فدخلت فسلّمت وقعدت ، فقال : مَن الناس يا ابن عبّاس ؟ فقلت : نحن . قال : فإذا غبتم ؟ قلت : فلا أحد . قال : ترى أنّي قعدتُ هذا المقعد بكم ؟ قلت : نعم ، فبمَن قعدت ؟ قال : بمَن كان مثل حرب بن أُميّة .
قلت : مَن أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه . قال : فغضب وقال : وارِ شخصك منّي
ص: 218
شهراً فقد أمرتُ لك بصِلَتك وأضعفتها لك . فلمّا خرج ابن عبّاس قال لخاصّته : ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية ؟ إنّه(1) لم يلتقِ أحد من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق مع قوم إلّا لم يتقدّمه أحد حتّى يجوزه ، فالتقى حرب بن أُميّة مع رجل من بني تميم في عَقَبةٍ فتقدّمه التميميّ ، فقال حرب : أنا حرب بن أُميّة ، فلم يلتفت إليه التميميّ وجازه ، فقال : موعدك مكّة . فبقي التميميّ دهراً ، ثمّ أراد دخول مكّة فقال : مَن يُجيرني من حرب بن أُميّة ؟ فقالوا : عبد المطّلب . قال : عبد المطّلب أجَلّ قدراً من أن يُجير على حرب ! فأتى ليلاً دارَ الزبير بن عبد المطّلب فدقّ عليه ، فقال الزبير للغَيْداق(2) : قد جاءنا رجلٌ إمّا طال بحاجة وإمّا طالب قِرىً وإمّا مستجيرٌ ، وقد أعطيناه ما أراد .
قال : فخرج إليه الزبير ، فقال التميميّ :
لاقَيْتُ حَرْباً في الثَّنِيَّةِ مُقْبِلاً * والصبحُ أبْلَجَ ضَوءُهُ للساري(3)
فدَعَا بصوتٍ واكتَنَى لِيَرُوعَني(4) * ودَعا بِدَعْوتِه يُريدُ فَخاري
فتركتُه كالكلبِ يَنبَحُ وحدَهُ * وأتَيتُ أهلَ معالمٍ وفَخارِ
لَيثاً هِزَبراً يُستجارُ بقُربهِ * رَحْبَ المَباءةِ مُكرِماً للجارِ(5)
ولقد حَلَفتُ بزمزمٍ وبمكّةٍ * والبيت ذي الأحجارِ والأستارِ
إنّ الزبيرَ لَمانِعي من خَوفِه * ما كبَّر الحُجّاجُ في الأمصارِ
قال : تقدّم فإنّا لا نتقدّم من نُجيره . فتقدّم التميميّ فدخل المسجد ، فرآه حرب فقام إليه فلطمه ، فحمل عليه الزبير بالسيف فعدا حتّى دخل دار عبد المطّلب ، فقال :
ص: 219
أجرني من الزبير ، فأكفأ عليه جَفْنةً كان عبد المطّلب يطعم فيها الناس ، فبقي هناك ساعةً ثمّ قال له : اخرُجْ . فقال : كيف أخرج وتسعة من ولدك قد احتَبَوا بسيوفهم(1) على الباب ؟! فألقى عليه رداء كان كساه إيّاه سيف بن ذي يَزن ، له طُرّتان خضراوان ، فخرج عليهم فعلموا أنّه قد أجاره ، فتفرّقوا عنه(2) .
قال جُوَيرية بن أسماء : إنّ عَمراً بن العاص قال لابن عبّاس : يا بني هاشم ، أما واللَّهِ لقد تقلّدتم لقتلِ عثمان قَرَم الإماء العَوارك(3) ، أطعتم فُسّاقَ أهل العراق في عَتبه ، وأجزرتموه مُرّاقَ أهلِ مصر وآويتم قَتَلَته .
فقال ابن عبّاس : إنّما تكلّم لمعاوية ، وإنّما تكلّم عن رأيك ، وإنّ أحقّ الناس أن لا يتكلّم في أمر عثمان لأنتما ؛ أمّا أنت يا معاوية فزيّنت له ما كان يصنع ، حتّى إذا حُصِر طلب منك نَصْرَك ، فأبطأت عنه وأحببت قتلَه وتربّصت به ، وأمّا أنت يا عمرو فأضرمتَ المدينة عليه ، وهربت إلى فلسطين تسأل عن أنبائه ، فلمّا أتاك قتلُه أضافَتك عداوةُ عليّ أن لَحِقتَ بمعاوية ، فبِعتَ دِينَك منه بمصر . فقال معاوية : حَسْبُك اللَّه يرحمك اللَّه ، عَرَّضني لك عمرو ، وعرّض نفسه(4) .
المدائنيّ ، عن عيسى بن يزيد ، قال :
لمّا قامت الحرب بين عليّ ومعاوية بصِفّين فتحاربوا أيّاماً ، قال معاوية لعمرو بن
ص: 220
العاص في بعض أيّامهم : إنّ رأس الناس مع عليّ عبد اللَّه بن عبّاس ، فلو ألقيتَ إليه كتاباً تَعطِفه به ؛ فإنّه إن قال قولاً لم يخرج منه عليّ ، وقد أكلتْنا هذه الحرب ! فقال عمرو : إنّ ابن عبّاس أرِيبٌ لا يُخدَع ، ولو طمعت فيه لطمعت في عليّ . قال : صدقتَ ، إنّه لَأريب ، ولكن اكتب إليه على ذلك . فكتب إليه :
من عمرو بن العاص إلى عبد اللَّه بن العبّاس .
أمّا بعد ، فإنّ الذي نحن وأنتم فيه ليس بأوّل أمر قاده البلاء ، وساقه سَفَهُ العاقبة ، وأنت رأس هذا الأمر بعد عليّ ، فانظر فيما بقي بغير ما مضى ، فواللَّهِ ما أبقتْ هذه الحرب لنا ولا لكم حيلة . واعلَم أنّ الشام لا يُملَك إلّا بهلاك العراق ، وأنّ العراق لا يُملك إلّا بهلاك الشام ؛ فما خيرنا بعد إسراعنا فيكم ؟! وما خيركم بعد إسراعكم فينا ؟! ولست أقول : ليت الحرب عادت ! ولكن أقول : ليتها لم تكن ! وإنّ فينا من يكره اللقاء ، كما أنّ فيكم من يكرهه ، وإنّما هو أمير مُطاع ، أو مأمور مطيع ، أو مشاور مأمون وهو أنت ؛ فأمّا السفيه فليس بأهلٍ أن يُعدّ من ثقات أهل الشورى ولا خواصّ أهل النَّجوى . وكتب في آخر كتابه :
طالَ البلاءُ فما يُرجى له آسِ * بعدَ الإِلهِ سوى رِفْقِ ابنِ عبّاسِ !
في شعرٍ طويل .
فلمّا قرأ ابن عبّاس الكتاب والشعر أقرأهما عليّاً ، فقال عليّ : قاتَلَ اللَّهُ ابنَ العاص ما أغرّه بك ! يا ابن عبّاس أجِبْه ولْيَردَّ عليه شِعرَه فضل بن عبّاس بن أبي لهب . فكتب إليه عبد اللَّه بن عبّاس :
أمّا بعد ، فإنّي لا أعلَم رجلاً من العرب أقلّ حياءً منك ، إنّه مالَ بك إلى معاوية الهوى وبِعتَه دِينَك بالثمن اليسير ، ثمّ خَبَطتَ للناس في عَشْواء طَخْيَاء طمعاً في هذا المُلك ، فلمّا لم تَرَ شيئاً أعظمت الدماء إعظام أهل الدِّين ، وأظهرت فيها زهادة أهل الورع ، ولا تريد بذلك إلّا تهييب الحرب وكسر أهل العراق ، فإن كنتَ أردتَ اللَّهَ
ص: 221
بذلك ، فدع مصر وارجع إلى بيتك(1) ؛ فإنّ هذه حرب ليس معاوية فيها كعليّ ، بدأها عليّ بالحقّ وانتهى فيها إلى العذر ، وابتدأها معاوية بالبغي فانتهى منها إلى السَّرَف . وليس أهل الشام فيها كأهلِ العراق ؛ بايع عليّاً أهلُ العراق وهو خير منهم ، وبايع أهلُ الشام معاويةَ وهم خير منه ، ولستَ وأنا فيها سواء ؛ أردتُ اللَّه ، وأردتَ مصر ، فإن تُرِدْ شرّاً لا يفُتنا ، وإن تُردِ خيراً لا تَسبِقنا .
ثمّ دعا الفضلَ بن العبّاس بن عُتبة ، فقال : يا ابن عمّ ، أجِبْ عمرو بن العاص ، فقال :
يا عمرو حسبُكَ من خدعٍ ووَسْواسِ * فاذهَبْ فما لَكَ في تَركِ الهدى آسِ
لا باركَ اللَّهُ في مصرَ ، فقد جلبْتَ * شرّاً وحظُّكَ منها حَسْوَةُ الحاسي
فلمّا قرأ معاوية الكتاب قال : ما كان أغنانا عن هذا(2) .
قال أبو مخنف : مَنَع مروانُ من دفن الحسن عليه السلام مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، حتّى كاد يكون بينه وبين الحسين عليه السلام قتال . واجتمع بنو هاشم وبنو المطّلب ومواليهم إلى الحسين ، وقال أبو سعيد الخُدْريّ وأبو هريرة لمروان : تمنع الحسن من أن يُدفن مع جدّه ، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»(3) ؟!
ص: 222
فقال مروان : لقد ضاع حديث رسول اللَّه إن كان لا يَرويه إلّا مِثلك ومثل أبي هريرة ، فدُفن بالبقيع(1) .
وعن هشام بن عُروة عن أبيه ، قال : قال الحسن حين حَضَرته الوفاة : ادفنوني عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، إلّا أن تخافوا أن يكون في ذلك شرّ ؛ فإن خفتم الشرّ فادفنوني عند أُمّي .
وتُوفّي ، فلمّا أرادوا دفنَه أبى ذلك مروان ، وقال : لا يُدفن عثمان في حُِشّ كَوكَب(2) ويُدفن الحسن هاهنا . فاجتمع بنو هاشم وبنو أُميّة ، فأعان هؤلاء قومٌ وهؤلاء قوم ، وجاؤوا بالسلاح فقال أبو هريرة لمروان : يا مروان ، أتمنع الحسن أن يُدفن في هذا الموضع وقد سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول له ولأخيه الحسين : «هما سيّدا شباب أهل الجنّة»(3) ؟! فقال مروان : دَعنا عنك ، لقد ضاع حديث رسول اللَّه إن كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدريّ ! إنّما أسلمتَ أيّام خيبر . قال : صدقتَ ، أسلَمتُ أيّام خيبر ، إنّما لَزِمتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وآله فلم أكن أُفارقه ، وكنتُ أسأله وعَنِيتُ بذلك حتّى علمت وعرفت مَن أحبّ ومن أبغض ومن قَرّب ومن أبعد ، ومن أقَرّ ومن نفى ، ومن دعا له ومن لعنه(4) .
ص: 223
فلمّا رأت عائشة السلاح والرجال ، وخافت أن يعظم الشرّ بينهم وتُسفَك الدماء ، قالت : البيت بيتي ، ولا آذَن أن يُدفَن فيه أحد(1) !
أوصى الحسن بن عليّ عليهما السلام إلى أخيه الحسين عليه السلام أن يدفنه جنب جدّه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فإذا خاصموه ومنعوه - وقد سمّى له مَن سيمنعه - فعليه أن يحمله إلى البقيع ويدفنه إلى جانب قبر إبراهيم ابن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله .
فلمّا حضرته الوفاة أخذ الحسين عليه السلام في جهازه وصلّى عليه ، وحمله فصار به إلى قبر جدّه صلى الله عليه وآله ، ووافى مروانُ بن الحكم - طريدُ رسول اللَّه وابن طريده - إلى عائشة ، فقال لها : يا أُمّ المؤمنين ! تتركين الحسين يَدفن أخاه مع جدّه ؟! واللَّه يا عائشة لئن دُفن الحسن مع جدّه محمّد لَيذهبنّ فخرُ أبيك وفخر عمر إلى يوم القيامة ! هذه بغلتي فاركبيها والحقي بالقوم فامنعيهم من الدخول إليه ولو جُزّت ناصيتُك ! فركبت عائشة البغلة ولحقت القوم وقد وصلوا حرم النبيّ ، فرمت بنفسها عن البغلة وأخذت بناصيتها ووقفت بينهم وبين القبر ، وقالت : واللَّهِ لا يُدفن الحسن مع جدّه أو تُجزّ ناصيتي هذه .
فأراد بنو هاشم الكلام فقال الحسين : اللَّه اللَّه لا تُضيعوا وصيّة أخي ، واعدِلوا به إلى البقيع ، فإنّه أقسم علَيّ إن مُنعت من دفنه مع جدّه رسول اللَّه لا أُخاصم أحداً ، وأن أدفنه في البقيع ، فعدلوا به إليه فدفنوه فيه .
فقال عبد اللَّه بن العبّاس : كم لنا منكم يا حُمَيراء ! يومٌ على جمل ويوم على زرافة !
ص: 224
فقالت : يا ابن العبّاس ! ليس قتالي لعليّ بعجيب ، وقد رويتم أنّ صفراء بنت شُعيب زوجة موسى بن عمران قاتَلَت بعده وصيّه(1) يوشع بن نون على زرافة ! فقال لها ابن العبّاس : هي واللَّهِ صفراء وأنت حُميراء ، إلّا أنّها بنت شُعيب وأنت بنت عَتيق(2) بن عبد العُزّى . قالت : إنّ لنا عندك يا ابن العبّاس ثأراً بثأر ، والمعاد لا تقول به . فقال لها : واللَّهِ أنتِ ومَن أنتِ منه وحزبُكم الضالّون(3) .
عن تميم بن حذيم الناجيّ قال : لمّا استقام لمعاوية أمرُه لم يكن شي ء أحبَّ إليه من لقاء عامر بن واثلة(4) ، فلم يَزَل يُكاتبه ويَلْطُف حتّى أتاه ، فلمّا قَدِم ساءله عن عرب الجاهليّة . قال : ودخل عمرو ابن العاص ، ونفرٌ معه ، فقال لهم معاوية : أتعرفون هذا ؟ هذا فارسُ صفّين وشاعرها ، هذا خليل أبي الحسن . ثمّ قال : يا أبا الطُّفيل ، ما بلغ من حبّك عليّاً ؟ قال : حبّ أُمِّ موسى لموسى . قال : فما بلغ من بكائك عليك ؟ قال : بكاء العجوز المِقْلات(5) ، والشيخ الرَّقُوب(6) . إلى اللَّه أشكو تقصيري ! فقال معاوية : ولكنّ أصحابي هؤلاء لو سُئلوا عنّي ما قالوا فيّ ما قلتَ في صاحبك ! قال : إنّا واللَّهِ لا نقول
ص: 225
الباطل . فقال لهم معاوية : لا واللَّهِ ولا الحقَّ(1) . ثمّ قال معاوية : هو الذي يقول :
إلى رَجَبِ السَّبعينَ تعترفونني * مع السَّيفِ في خيلٍ وأحمي عَديدَها
وقال معاوية : يا أبا الطفيل ، أجِزْها(2) ، فقال أبو الطفيل :
زَحُوفٌ كرُكنِ الطَّودِ ، كلُّ كتيبةٍ * إذا استَمكنَت منها يُفَلُّ شَديدُها
شِعارُهُمُ سِيما النبيِّ ، ورايةٌ * بها يَنصرُ الرحمنُ ممّن يَكيدُها
لها سَرَعانٌ(3) من رجالٍ كأنّها * دَواهي السِّباعِ نُمْرُها وأُسودُها
يَمورونَ(4) مَوْرَ المَوجِ ثمّ ادّعاؤهُم * إلى ذات أندادٍ كثيرٍ عَديدُها
إذا نهضتْ مدّتْ جَناحينِ منهمُ * على الخيلِ فُرسانٌ قليلٌ صُدودُها
كُهولٌ وشُبّانٌ يَرونَ دماءَكُم * طَهوراً وثاراتٍ لها تَستقيدُها(5)
كأنّي أَراكُم حين تختلِفُ القَنا * وزالتْ بأكفالِ(6) الرجالِ لُبودُها(7)
ونحنُ نَكُرّ الخيلَ كرّاً عليكُم * كخَطفِ عِتاقِ الطَّيْرِ طيراً تَصيدُها
إذا نُعِيَتْ مَوتى عليكم كثيرةٌ * وعَيّتْ أمورٌ غابَ عنكم رشيدُها
فلا تَجزَعوا إنْ أعقبَ الدَّهْرُ دَولةً * وأصبحَ مَنآكُمْ قريباً بَعيدُها
فقالوا : نعم قد عرفناه ، هذا أفحشُ شاعر ، وألْأم جليس ! فقال معاوية : يا أبا الطفيل ، أتعرف هؤلاء ؟ قال : ما أعرفُهم بخيرٍ ولا أُبعدهم من شرٍّ(8) .
ص: 226
دخل أبو الطفيل عامر بن واثلة الصحابيّ على معاوية بن أبي سفيان ، فقال له معاوية : ألستَ من قَتَلةِ عثمان ؟! قال : لا ، ولكنّي ممّن حضَره فلم يَنصُره . قال : وما منعك من نصره ؟ قال : لم تنصره المهاجرون والأنصار . فقال معاوية : أمَا لقد كان حقّه واجباً أن ينصروه ! قال : فما منعك من نصره ومعك أهل الشام ؟ فقال معاوية : أمَا طلبي بدمه نصرة له ؟! فضحك أبو الطفيل ، ثمّ قال : أنت وعثمان كما قال الشاعر :
لا ألْفِيَنَّكَ بعدَ المَوتِ تَندُبُني
وفي حياتيَ ما زَوَّدتَني زادي !
فقال له معاوية : يا أبا الطفيل ، ما أبقى لك الدهر من ثكلك عليّاً ؟ قال : ثكل العجوز المِقْلات ، والشيخ الرَقوب ، ثمّ ولّى .
قال : فكيف حبّك له ؟ قال : حبّ أُمّ موسى لموسى ، وإلى اللَّه أشكو التقصير .
المِقلات : التي لا يعيش لها ولد ، والرَّقوب : الرجل الذي قد يئس أن يُولَد له(1) .
كان النجاشيّ واسمه قيس بن عمرو من بني الحارث بن كعب ، شاعرَ أهل العراق بصفّين . ثمّ إنّه ارتكب إثماً إذ شرب الخمر بالكوفة في شهر رمضان ، فحَدَّه أميرالمؤمنين عليه السلام ، فغضبت له اليمانيّة . وكان أخصّهم بالنجاشيّ طارق بن عبد اللَّه بن كعب النهديّ ، فدخل هذا على عليّ عليه السلام ، فقال : يا أميرالمؤمنين ، ما كنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سِيّان في الجزاء ، حتّى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث ، فأوغرتَ صدورنا ، وشَتّتَ أُمورنا وحَمَلتَنا على الجادّة التي كنّا نرى أنّ سَبيل من ركبها النار !
ص: 227
فقال عليّ عليه السلام : « وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ »(1) . يا أخا نَهد ، وهل هو إلّا رجل من المسلمين انتَهَك حُرمةً من حُرَم اللَّه ، فأَقَمْنا عليه حدّاً كان كفّارته ؟! إنّ اللَّه تعالى يقول : « وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى »(2) .
فلمّا أسكته عليّ عليه السلام بما هو حقّ ، ولم يجد في ساحته ليناً ولا مداهنة يمّم هو والنجاشيّ صوب معاوية - وكذلك كان يصنع الذين لم يُطيقوا الحقَّ مع عليّ - فهَمَسا(3) ليلاً ، وقَدِما على معاوية وعنده وجوه أهل الشام ، فلمّا دخلا نظر إلى طارق وقال : مرحباً بالمُورِق غُصنُه ، والمُعرِق أصلُه ، المُسوّد غير المَسود ؛ من رجُلٍ كانت منه هَفْوة ونَبوة باتّباعه صاحبَ الفتنة ورأس الضلالة والشبهة الذي اغترز في ركاب الفتنة حتّى استوى على رَجْلها ، ثمّ أوجف في عَشوةِ ظُلْمتها وتيهِ ضلالتها ، واتّبعه رجرجة من الناس ، وأُشابة من الحُثالة لا أفئدة لهم(4) .
فقام طارق ، فقال : يا معاوية ، إنّي متكلّم فلا يسخطك . ثمّ قال وهو متّكئ على سيفه : إنّ المحمود على كلّ حال ربٌّ علا فوق عباده ، فهم منه بمنظر ومسمع ، بعث فيهم رسولاً منهم يتلو كتاباً لم يكن من قِبَله ولا يخطّه بيمينه ، إذاً لارتاب المبطلون ؛ فعليه السلام من رسولٍ كان بالمؤمنين بَرّاً رحيماً .
أمّا بعد ، فإنّ ما كنّا نُوضِع فيما أوضَعنا فيه بين يدي إمامٍ تقيّ عادل ، مع رجال من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أتقياء مرشدين ، ما زالوا مناراً للهدى ، ومعالم للدين ، خَلَفاً عن سَلَف مهتدين ، أهل دين لا دنيا ، كلّ الخير فيهم ، واتّبعهم من الناس ملوك
ص: 228
وأقيال(1) ، وأهل بيوتات وشرف ، ليسوا بناكثين ولا قاسطين(2) ؛ فلم يكن رغبةُ مَن رغب عنهم وعن صحبتهم إلّا لمرارة الحقّ حيث جُرِّعُوها ، ولِوُعورته حيث سلكوها ؛ وغَلَبَت عليهم دنياً مُؤْثَرَة ، وهوًى مُتّبَع ، وكان أمر اللَّه قَدَراً مَقْدوراً . وقد فارق الإسلام قبلنا جَبَلةُ بن الأَيْهَم(3) فراراً من الضيم ، وأنَفاً من الذِّلّة ، فلا تَفخرنّ يا معاوية إن شَدَدْنا نحوك الرِّحال ، وأوضَعْنا إليك الركاب . أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه العظيم لي ولجميع المسلمين .
فعَظُم على معاوية ما سمعه وغَضِب ، لكنّه أمْسَك وقال : يا عبد اللَّه ، إنّا لم نُرِد بما قلناه أن نُورِدَك مَشرَع ظمأ ، ولا أن نُصدِرك عن مَكْرَع رِيّ ؛ ولكنّ القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل .
ثمّ أجلسه معه على سريره ، ودعا له بمقطّعات وبُرود فصبّها عليه ، وأقبل نحوه بوجهه يحدّثه حتّى قام(4) .
بعد الذي حصل في مجلس معاوية ، قام طارق وقام معه عمرو بن مُرّة وعمرو بن صيفيّ الجُهَنيّان ، فأقبلا عليه يعاتبانه ويَلومانه على مواجهته لمعاوية .
فقال طارق : واللَّهِ ما قمتُ بما سمعتماه حتّى خُيِّل لي أنّ بطن الأرض خيرٌ لي من
ص: 229
ظهرها عند سماعي ما أظهرَ من العيب والنقص لمن هو خيرمنه في الدنيا والآخرة ، وما زهَتْ به نفسُه ، ومَلَكَه عُجْبُه ، وعاب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله واستنقَصهم ، فقمتُ مقاماً أوجبَ اللَّهُ عليَّ فيه ألّا أقول إلّا حقّاً ؛ وأيّ خير فيمَن لا ينظر ما يصير إليه غداً(1) ؟!
ذكر أبو عمر أنّ معاوية قال لضرار الصدائيّ : يا ضرار ، صِفْ لي عليّاً ! قال : اعفِني . قال : لَتَصِفَنّه . قال : أمّا إذا لابدّ من وصفه فكان واللَّهِ بعيدَ المَدى ، شديدَ القُوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، ويستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته . وكان غزير العَبرة ، طويل الفِكرة ، يُعجبه من اللباس ما قَصُر ، ومن الطعام ما خَشُن(2) . وكان فينا كأحدنا ؛ يُجيبنا إذا سألناه ، ويُنبئنا إذا استنبأناه ، ونحن واللَّهِ مع تقريبه إيّانا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هَيْبةً له . يُعظّم أهل الدِّين ، ويقرّب المساكين . لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله . وأشهدُ لقد رأيتُه في بعض مواقفه وقد أرخَى الليلُ سُدوله وغارت نجومه قابضاً على لحيته ، يَتَمَلمل تَمَلمُل السليم(3) ، ويبكي بكاء الحزين ويقول : يا دنيا غُرّي غيري ، إليّ تَعَرَّضتِ أم إِلَيّ تَشَوَّقتِ ؟! هيهاتَ هيهاتَ ، قد بايَنتُكِ ثلاثاً لا رجعة فيها ؛ فعمرك قصير ، وخطرك حقير . آه ! مِن قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق !
ص: 230
فبكى معاوية وقال : رحم اللَّه أبا الحسن ، كان واللَّهِ كذلك . فكيف حزنُك عليه يا ضرار ؟! قال : حُزنُ من ذُبِح ولدُها في حِجْرها(1) .
قدِمَ جاريةُ(2)
بن قُدامة السَّعديّ على معاوية ، ومع معاوية على سريره الأحنف
ص: 231
ابن قيس والحُتات الُمجاشِعيّ ، فقال له معاوية : مَن أنت ؟ قال : جاريةُ بن قُدامة . قال : وما عَسَيتَ أن تكون ؟! هل أنت إلّا نَحْلة ؟! قال : لا تفعل ؛ فقد شبّهتني بها حامية اللَّسعة حلوة البساق . واللَّهِ ما معاوية إلّا كلبةٌ تُعاوي الكلاب ، وما أُميّة إلّا تصغير أمَة . قال معاوية : لا تفعل . قال : إنّك فعلت ! قال : إذاً فاجلِسْ معي على السرير . قال : لا . قال : لِمَ ؟ قال : رأيتُ هذين قد أماطاني عن مجلسك فلم أكن لأشركهما(1) .
وقال الفضل بن سُويد : وَفَد الأحنف بن قيس ، وجارية بن قُدَامة ، والحُتات بن يزيد المجاشعيّ على معاوية ، فقال لجارية : أنت الساعي مع عليّ بن أبي طالب والمُوقِد النار في شُعَلك ، تجوس قُرًى عربيّة بسفكِ دمائهم ! قال جارية : دَعْ عنك عليّاً ؛ فما أبْغَضْنا عليّاً منذ أحببناه ، ولا غَشَشناه منذ نَصَحناه . قال : وَيْحك يا جارية ، ما كان أهونك على أهلك إذ سَمَّوك جارية ! قال : أنت يا معاوية كنتَ أهوَن على أهلك إذ سَمَّوْكَ معاوية ! قال : لا أُمّ لك . قال : أُمّ ما ولدتني ، إنّ قوائم السيوف التي لَقِيناك بها بصفّين في أيدينا ! قال : إنّك لَتُهدِّدُني ؟! قال : إنّك لم تملكنا قَسْرةً ولم تفتتحنا عَنْوةً ، ولكن أعطيتنا عُهوداً ومواثيق ، فإن وَفَيت لنا وَفَينا لك ، وإن نزعتَ إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالاً مَداداً ، وأذرُعاً شِداداً وأسِنّةً حِداداً ؛ فإن بَسَطتَ إلينا فِتراً مِن غَدر ، دَلَفْنا إليك بباعٍ من خَتْر ! قال معاوية : لا كثّر اللَّه في الناس أمثالك ! قال : قُلْ
ص: 232
معروفاً ، فقد بَلَونا قريشاً فوجدناك أوراها زنداً فأرعنا رُويداً ، فإنّ شرّ الرعاء الحُطَمَة(1) .
كان قيس بن سعد بن عُبادة عاملاً لعليّ على مصر ، فكتب إليه معاوية : أمّا بعد ، فإنّك يهوديّ ابن يهوديّ ، إنْ ظَفَر أحبُّ الفريقين إليك عزلكَ واستبدلَ بك ، وإن ظَفَر أبغضهما إليك نَكَّل بك وقتلك . وقد كان أبوك أوْتر قوسَه ، ورمى غرضَه ، فأكثر الحزّ وأخطأ المفصل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، ثمّ مات بحوران طريداً .
فكتب إليه قيس بن سعد : أمّا بعد ، فإنّما أنت وثن ابن وثن ، دخلتَ في الإسلام كرهاً ، وخرجت منه طوعاً ، لم يَقدُم إيمانك ، ولم يَحدُث نفاقك ، وقد كان أبي أوترَ قوسَه ، ورمى غرضَه ، فشَغَب به من لم يبلغ عقبه ، ولا شقّ غُباره ، ونحن أنصار الدين الذي منه خرجتَ ، وأعداء الدين الذي فيه دخلتَ(2) .
دخل قيس بن سعد ، بعد وفاة عليّ ووقوع الصّلح في جماعة من الأنصار ، على معاوية ، فقال لهم معاوية : يا معشر الأنصار ، بِمَ تطلبون ما قِبَلي ؟ فواللَّه لقد كنتم قليلاً معي كثيراً عليَّ ، ولَفَلَلتم حدِّي يوم صفّين حتّى رأيت المنايا تلظّى في أسنّتكم ، وهجوتموني في أسلافي بأشدّ من وَقْعِ الأسِنّة ، حتّى إذا أقام اللَّه ما حاولتم مَيْلَه قلتم : ارْعَ فينا وصيّةَ رسول اللَّه ، هيهات يأبَى الحقين العذرة ! فقال قيس : نطلب ما قِبَلك بالإسلام الكافي به اللَّه ، لا بما تَمتُّ به إليك الأحزاب . وأمّا عداوتنا لك فلو شئتَ
ص: 233
كَفَفتَها عنك . وأمّا هجاؤنا فقولٌ يزول باطلُه ويَثبُت حقُّه . وأمّا استقامة الأمر فعلى كرهٍ كان منّا . وأمّا فَلُّنا حدَّك يوم صفّين فإنّا كنّا مع رجلٍ نرى طاعته للّه طاعة . وأمّا وصيّة رسول اللَّه بنا فمَن آمن به رعاه بعده . وأمّا قولك : يأبَى الحقين العذرة فليس دون اللَّه يد تحجزك منّا يا معاوية . فقال معاوية : ارفعوا حوائجكم(1) .
لمّا مرض معاوية بن أبي سفيان مرَضَ موتِه واشتدّت عِلّته وحصل اليأسُ منه ، دخل عليه بعض أولاد عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه يعوده ، فوجده قد استند جالساً يتجلّد له لئلّا يشتفي به ! فضَعُف عن القعود فاضطجع وأنشد :
وتَجَلُّدي للشامِتينَ أُريهُمُ * أنّي لِرَيبِ الدهرِ لا أتَضَعضَعُ
فقام العَلَويّ من عنده ، وهو يُنشد :
وإذا المَنيّةُ أنشبَتْ أظفارَها * ألفَيتَ كلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ
فعجب الحاضرون من جوابه(2) .
ليس في دنيا العقلاء ما يُشمَت به إلّا نَقص الدِّين وقُبح السِّيرة ، إذ كلّ ما فيها يزول مع زوالها ، ومتى دامت بصفوها أو كدرها لملك أو مملوك ؟! بل هي متقلّبة بأهلها من حال إلى حال ، تسير بصاحبها إلى زوال ؛ فهي رحلة يصير أنيسُها إلى حفرة لا جليس له فيها إلّا ما عمله من خير أو شرّ ، فما ألأمَ مَن يَشمت بموتِ أحد
ص: 234
وإن كان ليعلم أنّه عند ربِّه مَرْضِيّاً !
دخل ابن عبّاس على معاوية - وذلك بعد وفاة الحسن بن عليّ عليهما السلام - فقال له : ألا أُنبِّئك ؟ مات الحسن بن عليّ ! فقال ابن عبّاس : إذاً لا يُدفَن في قبرك ، ولا يزيد موته في عُمرك ، وقبله ما فُجعنا بخيرٍ منه ، فجَبَر اللَّهُ وأحسَن(1) .
عبد اللَّه بن أبي عبيدة بن محمّد بن ياسر عن أبيه عبيدة ، قال : قال عبد اللَّه بن عبّاس : خرجتُ مع عبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح(2) في غزوة أفريقية ، فلمّا دنا من
ص: 235
جُرْجير - ملك المغرب - وهو رجل من الروم نصرانيّ ، وكان يُذكر بعقل ، قلتُ لعبد اللَّه بن سعد : لو بعثتَ اليه مَن يكلّمه ، فبعثني وبعث عبد اللَّه ابن الزبير ، ومروان بن الحكم ، وعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة(1) .
قال عبد اللَّه بن عبّاس : وأنا أسَنّ القوم ، فلمّا جئنا وضِعت لنا وسائد ، وإذا الصُّلُب حولها ، فجاء القوم وليس هنالك جُرجير ، فجلسوا دون الصُلُب وأبَوا أن يجلسوا وهي حولهم، فجئتُ وجلست على تلك الوسائد والصُلُب حولي ، وجُرجير ينظر إلينا من منظر لا نراه . فمكثنا ساعةً ثمّ أذِن لنا جماعة ، فجعلوا يزاحموني على المدخل فتأخّرتُ عنهم ، حتّى كنت وراءهم . فلمّا دخلنا عليه ولي جَمال ليس لهم ، نظر إليَّ فرماني بطرفه فلم يبرح يتطرّح بنظره إليَّ حين جلست دونَهم وهم أقربُ إليه ، فرأوه نظره ، فرابهم بذلك في أمره ، فانتحى ابن الزبير فبدأ بالكلام ، وجرجير يفهم من ذلك
ص: 236
كثيراً ، وهو على ذلك ينظر إليّ ويرمقني . فلمّا فرغ ابن الزبير تكلّم مروان بن الحكم ، ثمّ أقبل عليَّ عبدُ اللَّه بن عامر فقال : أأتكلّم ؟ فقلت : تكلّمْ ما بدا لك . فتكلّم ثمّ أقبل عَليَّ الترجمان فقال : ما تقول أنت يا عربيّ ؟
قلت : ما أقولُ إلّا ما قالوا ، فليُجب صاحبُك ما بدا له . فقال : أخبِروني عن هذا الرجل الذي أراه أسنّكم وأجملكم ، وأراكم تقدّمونه ، أمولاكم هو ؟ قالوا : لا واللَّه ، بل هو منّا من أنفسنا . قال : فضعيفٌ هو فلا تثقون بعقله ؟ فلِمَ أرسله ملِكُكم ؟ قالوا : لا واللَّه بل هو عاقل . قال : فما أنتم بحلماء ، هو أحدكم وله عقل مثل عقولكم ، وهو أجملكم وأسنّكم ، ومَلِككم الذي أرسلكم أضعف منكم ، وهو يعرف هذا منكم ! فسكتوا ، فقلت للترجمان : قل لصاحبك : أجِبْنا بما تريد فنحن أعلَمُ بأمرنا ، وبما نصنع بيننا . قال : يقول الملك : حِلمُك هذا يزيدني بصيرةً في حُمق أصحابك . ثمّ أقبل علينا الترجمان فقال : الملك يقول : ما يمنعني من جوابكم إلّا أنّا لا نضع جوابنا إلّا في موضعه ، أخبِروني : أيّكم أقرب بالملك الأكبر ؟
قالوا : هذا ، لمروان . قال : ثمّ مَن ؟ قالوا : هذا ، لابن الزبير .
قال : فأيّكم أقرب بنبيّكم وأسنّكم وأجملكم ؟ قالوا : هذا .
قال : يقول الملك : هو أقربكم بنبيّكم وأسنّكم وأجملكم وجلستم فوقه ، وتقدّمتم قبله ! لا تلبثون إلّا قليلاً حتّى يتفرّق أمركم ، لا أراجعكم بشي ء حتّى يتقدّم إلَيّ ويتكلّم وتتكلّمون بعده .
فقال لي القوم : تقدّم يا أبا العبّاس ، وتكلّم حتّى ننظر ما يرجع إلينا ويقول لنا . فقلت للترجمان : أجب صاحبَك أنّي لا أقوم من مجلسي ، ولا أعيه كلامي ، ولا أبتدي أصحابي . قال : فهل أنت يا رجل معتزلي(1) قال : قلت : ما يَحِلُّ لي أن أعتزلك . قال :
ص: 237
أتقبل كرامتي من بينهم ؟ قال : قلت : لا ، إلّا أن تكرمهم مثلي . قال : هل أحدٌ أقرب بنبيّك منك ؟ قلت : نعم . ففرح بذلك وقال : مَن ؟ قلت : أبي . قال : وحيٌّ هو أبوك ؟ قلت : نعم .
قال : ما هو من نبيّكم ؟ قلت : عمّه . ففسّر له الترجمان كيف العمّ ومَن ابنُه .
قال : فما شأن الملِكُ غيرُه ؟ قلت : كان هذا الملِك واللذان قبله خرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله حين خرج من أرضه ، ولم يخرج أبي . ونحن نرى لذلك فضل وتقدّم مَن كان كذلك .
قال : بئسما صنعتم ، ولا يصحّ أمركم أبداً حتّى يخرج إلى أهل بيت النبيّ(1) ، قوموا ولا أُراجعكم بكلمة ممّا تريدون ، إلّا أن تُخبرني ما شأنك جلستَ بين الصُّلُب من بين أصحابك وأنت عدوّ لها ، واجتنبها أصحابُك ؟
قلت : لم يُسيئوا بما صنعوا ، ولم أُسئ أيضاً ، أمّا هم فتأذّوا بها ، وأمّا أنا فعلمتُ مجلسي لا يضرُّ دِيني ، ولستُ منها ، وليستْ منّي .
قال : ما ينبغي إلّا أن تكون حِبْر(2) العرب . فسُمّي عبد اللَّه بن عبّاس من ذلك اليوم الحبر(3) .
عن أبي نُجَيْح ، قال : لمّا حجّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقّاص ، فلمّا فرغ انصرف معاوية إلى دار النَّدوة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع معاوية في عليّ وشرع في سبّه(4) ! فزحف سعد ، ثمّ قال : أجلسْتني معك على سريرك ثمّ شرعتَ في
ص: 238
سبّ عليّ ! واللَّهِ لئن يكون فيّ خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس . واللَّهِ لئن أكون صهراً لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأنّ لي من الولد ما لعليّ أحبّ إلَيّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس . واللَّهِ لئن يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال لي يوم خَيبر : «لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يُحبّه اللَّه ورسولُه ، ويُحبّ اللَّه ورسولَه ، ليس بفرّار يفتح اللَّه على يديه» أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس . واللَّهِ لئن يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قال له في غزوة تبوك : «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» أحبّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس . وأيم اللَّه لا دخلتُ لك داراً ما بقيت ، ثمّ نهض(1) .
قال المسعودي : ووجدتُ في وجه آخر من الروايات ، وذلك في كتاب عليّ بن محمّد بن سليمان النَّوفَلي في الأخبار ، عن ابن عائشة(2) وغيره أنّ سعداً لمّا قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضَرَط(3) له معاوية ! وقال له : اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت ، ما كنتَ عندي أَلأمَ منك الآن ، فهلّا نصرتَه ، ولِمَ قعدت عن بيعته ؟ فإنّي لو سمعتُ من النبيّ مثل الذي سمعتَ فيه لَكنتُ خادماً لعليّ ما عشت . فقال سعد : واللَّهِ إنّي لأحقّ بموضعك منك ، فقال معاوية : يأبى عليك ذلك بنو عُذْرة(4) . قال النوفلي : وفي ذلك يقول السيّد الحِمْيَريّ :
سائلْ قريشاً بها إن كنتَ ذا عَمَهٍ * مَن كان أثبَتَها في الدِّينِ أوتادا ؟
ص: 239
مَن كان أقدمَها سِلماً ، وأكثرَها * عِلماً ، وأطهَرَها أهلاً وأولادا ؟
مَن وحَّد اللَّهَ إذ كانت مُكذِّبةً * تَدعو مع اللَّهِ أوثاناً وأندادا ؟
مَن كان يُقدِمُ في الهيجاءِ إن نَكَلوا * عنها ، وإن بَخِلوا في أزمةٍ جادا ؟
مَن كانَ أعدَلَها حُكماً ، وأقسَطَها * حِلماً ، وأصدَقَها وَعْداً وإيعادا ؟
إن يَصدُقُوكَ فلَم يَعْدُوا أبا حسنٍ * إن أنتَ لم تَلقَ للأبرارِ حُسّادا
إن أنتَ لم تَلقَ مِن تيمٍ أخا صَلَفٍ * ومِن عَدِيٍّ لحقِّ اللَّهِ جُحّادا
أو مِن بني عامرٍ أو من بني أسدٍ * رَهطِ العبيد ذوي جهلٍ وأوغادا
أو رهطِ سعدٍ وسعدٌ كان قد عَلِموا * عن مستقيم صراطِ اللَّه صُدّادا
قَومٌ تَداعَوا زَنيماً ثمّ سادَهُمُ * لولا خمولُ بني زهرٍ لَما سادا(1)
قام شَدّاد بن أَوْس(2) ، وقد أمره معاوية بتنقُّص عليّ ، فقال : الحمد للّه الذي افترض طاعته على عباده ، وجعل رضاه عند أهل التقوى آثَر من رضا خَلقه ، على ذلك مضى أوّلهم ، وعليه يمضي آخرهم . أيّها الناس ، إنّ الآخرة وعدٌ صادق ، يحكم فيها ملِكٌ قادر ، وإنّ الدنيا عَرَض حاضر ، يأكل منه البَرّ والفاجر ، وإنّ السامع المطيع للّه لا حجّة عليه ، وإنّ السامع العاصي لا حجّة له ، وإنّ اللَّه إذا أراد بالعباد صلاحاً
ص: 240
عَمِلَ عليهم صلحاؤُهم ، وقضى بينهم فقهاؤهم ، وملكَ المالَ سَماؤهم . وإذا أراد بهم شرّاً عَمِل عليهم سفهاؤهم(1) ، وقضى بينهم جهلاؤهم ، ومَلَك المالَ بخلاؤهم . وإنّ من صلاح الولاة أن يصلح قرناؤهم(2) . ونَصَحَ لك يا معاويةُ مَن أسخطك بالحقّ ، وغشّك مَن أرضاك بالباطل .
قال : اجلس رحمك اللَّه ، قد أمرنا لك بمال ! قال : إن كان من مالك الذي تعهّدتَ جمعَه مخافةَ تَبِعته ، فأصبتَه حلالاً وأنفقته إفضالاً فَنَعَم ، وإن كان ممّا شاركك فيه المسلمون فاحتَجَنتَه(3) دونهم ، فأصبتَه اقترافاً(4) ، وأنفقتَه إسرافاً ، فإنّ اللَّه يقول في كتابه : « إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ »(5) .(6)
أُتيَ معاوية يومَ صِفّين بأسير من أهل العراق ، فقال : الحمد للّه الذي أمكَنَني منك ! قال : لا تقُلْ ذلك يا معاوية ، فإنّها مصيبة !
قال : وأيّ نعمة أعظم من أن أمكنني اللَّه من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة ؟ اضرِب عنقه يا غلام . فقال الأسير : اللّهمّ اشهد أنّ معاوية لم يَقتُلْني فيك ، ولا لأنّك ترضى بقتلي ، وإنّما يقتلني في الغَلَبة على حُطام هذه الدنيا ؛ فإن فعل فافعَلْ به ما هو أهله ، وإن لم يفعل فافعلْ به ما أنت أهله .
قال له : ويحك ! لقد سَبَبتَ فأبلَغتَ(7) ، ودَعَوتَ فأحسَنتَ ، خَلِّيا عنه(8) .
ص: 241
عن محارب بن ساعدة الإياديّ ، قال : كنتُ عند معاوية بن أبي سفيان وعنده أهل الشام ليس فيهم غيرهم ، إذ قال : يا أهل الشام ، قد علمتم حبّي لكم وسيرتي فيكم ، وقد بلغكم صَنيعُ عليّ بالعراق وتسويته بين الشريف وبين مَن لا يُعرَف قدره ، فقال رجلٌ منهم : لا يهدّ(1) اللَّه رُكنَك ، ولا يهيض(2) جَناحَك ، ولا يعدمك ولدَك ، ولا يُرينا فقْدَك ! فقال : فما تقولون في أبي تراب(3) ؟ فقال كلّ رجل منهم ما أراد ، ومعاوية ساكت وعنده عَمرو بن العاص ومروان بن الحكَم ، فتذاكرا عليّاً عليه السلام بغير الحقّ .
فوثب رجل من آخر المجلس من أهل الكوفة ، وكان قد دخل مع القوم فقال : يا معاوية ! تسأل أقواماً في طغيانهم يَعْمَهون ، اختاروا الدنيا على الآخرة ، واللَّهِ لو سألتَهم عن السُّنّة ما أقاموها(4) ، فكيف يعرفون عليّاً وفضله ؟! أقْبِل عليَّ أُخبرك ثمّ لا تَقدِر أن تُنكر أنت ولا مَن عن يمينك ، يعني عَمْراً : هو واللَّهِ الرفيعُ(5) جارُه ، الطويل عِمادُه(6) ، دمّر اللَّه به الفساد ، وأبار به الشرك ، وضعضَع به الجور ، وأظهر به العدل ، وأنطق زعيم الدين ، وأطاب المورد ، وأضحى الداجي ، وانتصر به المظلوم ، وهدم به بنيان النفاق ، وانتقم به من الظالمين ، وأعزّ به المسلمين . العَلَم المرفوع والكهف للعوّاذ(7) ، ربيع الروح ، وكنف(8) المستطيل ، وليّ الهارب ، كريحِ رحمة أثارت سحاباً متفرّقاً بعضها إلى بعض حتّى التَحَم واستحكم فاستغلظ فاستوى(9) . ثمّ تجاوبتْ
ص: 242
نَواتِقهُ ، وتلألأتْ بَوارِقُه ، واستَرعَد خريرُ مائِه فأسقى وأروى عطشانه ، وتداعتْ جنانه ، واستقلّت به أركانه ، واستكثرت وابله ، ودام رَذاذه ، وتتابع مهطوله ، فرَوِيت البلاد واخضرّتْ وأَزهرتْ . ذلك عليّ بن أبي طالب ، سيّد العرب ، إمام الأُمّة وأفضلها وأعلمها وأكملها وأحكمها . أوضَح للناس سيرة الهدى بعد السعي في الردى ، فهو واللَّهِ إذا اشتَبَهت الأُمور ، وهاب الجَسور ، واحمرّت الحَدَق ، وانبعث القَلَق ، وأبرَقَت البَواتر ، استَرْبَط عند ذلك جأشه ، وعرف بأسه ولاذَ به الجبان الهَلوع ؛ فنفّس كربتَه وحمى حمايتَه ، عند الخيول النكراء والداهية الدهياء ، مُستغنٍ برأيه عن مشورة ذوي الألباب برأيٍ صَليب وحلمٍ أريب ، مجيبٌ للصواب مصيب .
فأمسكت القوم جميعاً ، وأمر معاوية بإخراجه ، فأُخرج وهو يقول : قد جاء الحقّ وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زَهوقاً(1) .
عن عَوانة بن الحكم ، قال : دخل عقيل بن أبي طالب على معاوية والناس عنده وهم سُكوت ، فقال : تكلَّمُنّ أيّها الناس ، فإنّما معاوية رجل منكم . فقال معاوية : يا أبا يزيد ، أخبِرْني عن الحسن بن عليّ ؟ فقال : أصبَحُ قريش وَجهاً ، وأكرمُها حَسَباً .
قال : فابن الزبير ؟ قال : لسانُ قريش وسِنانُها إن لم يُفسِد نفسه .
قال : فابن عمر ؟ قال : تَرَك الدنيا مُقبلةً وخلّاكم وإيّاها ، وأقبل على الآخرة .
قال : فمروان ؟ قال : أوه ! ذلك رجل لو أدرك أوائل قريش فأخذوا برأيه صَلُحت لهم دنياهم .
ص: 243
قال : فابن عبّاس ؟ قال : أخذ من العلم ما شاء .
وسكت معاوية فقال عقيل : يا معاوية ، أأُخبر عنك ، فإنّي بك عالِم ؟!
قال : أقسمتُ عليك يا أبا يزيد لَما سَكَتَّ(1) !
عبّاس بن هشام الكلبيّ عن أبيه ، قال : دخل عقيل على معاوية فقال له : يا أبا يزيد ، أيّ جدّاتكم في الجاهليّة شرّ ؟ قال : حمامة ، فوجم معاوية !
قال هشام : وحمامة جدّة أبي سفيان ، وهي من ذوات الرايات في الجاهليّة(2) .
عن عبد الصمد البارقيّ أنّ عقيلاً لمّا ارتحل إلى الشام وسمع به معاوية ، نصب كراسيّه وأجلس جُلَساءه ، فوَرَد عليه فأمر له بمائة ألف درهم فقبضها ، فقال له معاوية : أخبِرْني عن العسكرَين ، فقال : مررتُ بعسكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ؛ فإذا ليلٌ كليلِ النبيّ صلى الله عليه وآله ، ونهارٌ كنهار النبيّ صلى الله عليه وآله ، إلّا أنّ رسول اللَّه ليس في القوم . ومررتُ بعسكرِك ، فاستقبلني قومٌ من المنافقين ممّن نفّر برسولِ اللَّه ليلةَ العَقَبة .
ثمّ قال : مَن هذا الذي عن يمينك يا معاوية ؟ قال : هذا عمرو بن العاص . قال : هذا الذي اختصم فيه ستّةُ نَفَر فغلب عليه جَزّارُها ، فمَن الآخَر ؟ قال : الضحّاك بن قيس الفِهْريّ . قال : أمَا واللَّهِ ، لقد كان أبوه جيّد الأخْذ لعسب التّيس(3) ! فمن هذا الآخر ؟
ص: 244
قال : أبو موسى الأشعريّ . قال : هذا ابن المَرّاقة(1) .
فلمّا رأى معاوية أنّه قد أغضب جُلَساءَه ، قال : يا أبا يزيد ، ما تقول فيّ ؟ قال : دَعْ عنك . قال : لَتقولَنّ . قال : أتعرف حمامة ؟! قال : ومَن حمامة ؟ قال : أخبرتُك .
ومضى عقيل ، فأرسل معاوية إلى النَّسّابة ، فقال : أخبِرْني مَن حمامة ؟ قال : أعطِني الأمان على نفسي وأهلي ! فأعطاه ، قال : هي جدّتُك وكانت بغيّةً في الجاهليّة ، لها راية تُؤتى . قال أبو بكر بن زبين : هي أُمّ أُمّ أبي سفيان(2) .
وأضاف في شرح نهج البلاغة : فقال معاوية : قد ساوَيتُكم وزدتُ عليكم ، فلا تَغضَبوا(3) !
وذكر الزبير بن بكّار ، قال : حدّثني عمّي مصعب بن عبد اللَّه عن جدّي عبد اللَّه بن مصعب ، قال : بلغني أنّ معاوية قال لعمرو بن العاص : إنّ الناس قد رفعوا أعينهم ، ومدُّوا أعناقهم إلى بني عبد المطّلب ، فلو نظرنا إلى رجل منهم فيه لُوثة فاستَمَلناه ، فقال عمرو : عندك عقيل بن أبي طالب .
فلمّا أصبح واجتمع الناس ، دخل عليه عقيل ، فقال له : يا أبا يزيد ، أنا خير لك أم عليّ ؟ قال : أنت خير لنا من عليّ ، وعليّ خير لنفسه منك . فضحك معاوية ، فضحك عقيل ، فقال له : ما يضحكك يا أبا يزيد ؟ قال : أضحك أنّي كنت أنظر إلى أصحاب
ص: 245
عليّ يوم أتيتُه ، فلم أرَ معه إلّا المهاجرين والأنصار وأبناءهم ، والتفتُّ الساعة فلم أرَ إلّا أبناء الطلقاء وبقايا الأحزاب .
فقال معاوية : يا أهل الشام ، هل تدرون مَن هذا ؟ قالوا : لا .
قال : أسمعتم قولَ اللَّه عزّ وجلّ : « تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ »(1) ؟ قالوا : نعم .
قال : فإنّه عمّ هذا . قال عقيل : صَدَق ، فهل قرأتم في كتاب اللَّه تعالى : « وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ »(2) ؟ فهي عمّة معاوية .
فقال له معاوية : إلحَقْ بأهلك ، حسبُنا ما لَقِينا من أخيك ! قال له عقيل : أمَا واللَّهِ لقد تركتُ مع عليّ الدينَ والسابقة ، وأقبلتُ إلى دنياك ، فما أصَبتُ دينَه ولا نِلتُ من دنياك طائلاً . فأعطاه وأكثرَ له . قال : فدعا معاوية عمرو بن العاص ، فقال : ويحك يا عمرو ! هذا الذي زعمتَ أنّه أهوَجُ بني عبد المطّلب ؟!
قال : ما ذنبي ؟ ما علمتُ منه إلّا ما تعلم . فقال معاوية في ذلك :
ألا يا عمرو عمرو قَبيلِ سَهمٍ * لقد أخطأتَ رأيَكَ في عقيلِ
بُليتَ بحيّةٍ صمّاءَ بانَت * ونابٍ غيرِ موصولٍ كَليلِ
وقد كانت ترجّمه قريش * على عمياءَ مِن قالٍ وقيل
ألا للّهِ دَرُّ أبي يزيدٍ * لِهَرْجِ الأمرِ والخَطبِ الجليلِ
فما خاصَمتُ مِثلَكَ مِن خَصيمٍ * ولا حاوَلتُ مِثلَك مِن حَويلِ
أتاني زائراً ورأى عليّاً * قليلَ المالِ مُنقطعَ الخليلِ
فأجزَلتُ العطاءَ له ودبّت * عَقارِبُه لسالفةِ الدخولِ
فلَم يرضَ الكثيرَ وقد أراهُ * سَخوطاً للكثيرِ وللقليلِ
فرجع عقيل إلى عليّ فأخبره الخبر ، فقال : كان في نفس معاوية شي ء فما أحبّ
ص: 246
أنّك لم تأتِه ، فقد انقطع ظهرٌ من بني عبد المطّلب(1) .
ذكر ابن عساكر أنّ عقيلاً لمّا أتى معاوية ، قال له : كيف أنت أبا يزيد ؟ كيف تركت عليّاً وأصحابه ؟ قال : كأنّهم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يوم بدر ، إلّا أنّي لم أرَ رسول اللَّه فيهم ، وكأنّك وأصحابك أبو سفيان يوم أُحُد ، إلّا أنّي لم أرَ أبا سفيان معكم . فكره معاوية أن يراجعه ، فيأتي بأشدّ ممّا جاء به !
فلمّا كان الغد قعد معاوية على سريره ، وأمر بكرسيّ يوضع إلى جنب السرير ، ثمّ أذِن للناس فدخلوا ، وأجلس الضحّاك بن قيس معه ، ثمّ أذِن لعقيل فدخل عليه ، فقال : يا معاوية ، مَن هذا معك ؟ قال : هذا الضحّاك بن قيس . فقال : الحمد للّه الذي رفع الخسيسة وتمّم النقيصة ، هذا الذي كان أبوه يُخْصي بُهُمَنا بالأَبْطَح ، لقد كان بِخِصائها رفيقاً ! ثمّ قال : ومَن هذا الشيخ ؟ فقال : أبو موسى الأشعريّ ، قال : ابن المرّاقة ، فقال له معاوية : أبا يزيد ، على رَسْلك ! فقد علمنا مقصدك ومرادك . فأمر له بخمسين ألف درهم ، وقال له : كيف رأيتَني من أخيك ؟ قال : أخي خيرٌ لنفسه منك ، وأنت خير لي منك لنفسك . فأخذها ورجع إلى أخيه(2) .
وعن حميد بن هلال : أنّ عقيلاً أتى معاوية فأعطاه مائة ألف ، ثمّ قال : اصعد المنبر فاذكرْ ما أَوْلاك به عليّ وما أولَيتُك . فصعد فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّي أخبركم أنّي أردتُ عليّاً على دينه فاختار دِينه ، وإنّي أردتُ معاوية على دِينه فاختارني على دينه(3) .
ص: 247
وقال معاوية لعقيل : أنت معنا يا أبا يزيد ؟ قال : نعم ، وقد كنتُ معكم يومَ بَدْر(1) .
وقال معاوية لعقيل : ما أبيَنَ الشَّبَقَ(2) في رجالكم يا بني هاشم !
قال : لكنّه في نسائكم يا بني أُميّة أبيَن(3) !
قال معاوية لعقيل وقد ابتُلي به : إنّ فيكم يا بني هاشم لِيناً . قال : أجل ، إنّ فينا ليناً من غير ضَعف ، وعزّاً من غير عُنف ، وإنّ لِينكم يا معاوية غدر وسِلمكم كفر . فقال معاوية : ولا كلّ هذا يا أبا يزيد(4) !
وذكر أبو عمرو بن العلاء(5) ، قال : قال معاوية يوماً وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل : لأُضحكنّك من عقيل ! فلمّا سلّم قال له معاوية : مرحباً برجلٍ عَمُّه
ص: 248
أبو لهب . فقال له عقيل : أهلاً برجلٍ عمّتُه حَمّالةُ الحَطَب في جِيدها حَبلٌ من مَسَد . وهي عمّة معاوية ، وهي أُمّ جميل بنت حرب ابن أُميّة ، امرأة أبي لهب .
قال معاوية : يا أبا يزيد ، ما ظنّك بأبي لهب ؟ قال : يا معاوية ، إذا دخلتَ النار فخذ على يسارك تجده مفترِشاً عمّتك حمّالة الحَطَب ، أفناكحٌ في النار خير أم منكوح ؟! قال : كلاهما سواءٌ شرٌّ واللَّه(1) .
ونظير جواب عقيل لمعاوية ، جوابه لامرأته : قالت زوجة عقيل وهي ابنة عُتبة بن ربيعة(2) له : يا بني هاشم ! لا يُحبّكم قلبي أبداً ، أين عمّي(3) ؟ أين أخي(4) ؟ كأنّ أعناقهم أباريق الفضّة ، ترِدُ آنافُهم الماءَ قبل شفاههم ! قال : إذا دخلتِ جهنّمَ فخُذي على شمالك(5) .
وفي أنساب الأشراف : قالت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لعقيل يوماً : يا بني هاشم ! أين شيبة ؟ أين الوليد بن عتبة ؟ فقال : إذا دخلتِ النارَ فاطلبيهم يَسْرةً . فغضِبتْ ونشزَتْ عليه ، فبعث عمرُ عبدَ اللَّه بن عبّاس ومعاوية بن أبي سفيان حَكَمين من أهله وأهلها . فقال عبد اللَّه بن عبّاس : لأحرصنّ على أن أُفرّق بينهما ، فلمّا أن دخلا الدارَ قالتْ : واللَّه ما أُريد بأبي يزيد بدلاً ، فانصرفا(6) .
ص: 249
ومن أخبار عقيل الطريفة مع معاوية ، والتي يمكن إدراجها في حقل الأجوبة المسكتة لأنّها جاءت على البديهة ، ولتحقّق بعض جواب عقيل بعد ذلك ، ما رواه المدائنيّ .
قال : قال معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب : هل من حاجة فأقضيَها لك ؟ قال : نعم ، جارية عُرِضت علَيّ وأبى أصحابها أن يبيعوها إلّا بأربعين ألفاً ، فأحَبّ معاوية أن يمازحه ، فقال : وما تصنع بجاريةٍ قيمتُها أربعون ألفاً وأنت أعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهماً ؟! قال : أرجو أن أطأها فتلد لي غلاماً إذا أغضبتَه يضرب عنقكَ بالسيف ! فضحك معاوية وقال : مازَحْناك يا أبا يزيد ! وأمر فابتيعَتْ له الجارية التي أولد منها مُسلِماً(1) ، فلمّا أتت على مسلم ثماني عشرة سنة - وقد مات عقيل أبوه - قال لمعاوية : إنّ لي أرضاً بمكانِ كذا من المدينة ، وإنّي أُعطيتُ بها مائة ألف ، وقد أحببتُ أن أبيعك إيّاها ، فادفع إليّ ثمنها ، فأمر معاوية بقبض الأرض ، ودفع الثمن إليه .
فبلغ ذلك الحسين عليه السلام ، فكتب إلى معاوية : أما بعد ، فإنّك غَرَرتَ غلاماً من بني هاشم ، فابتَعتَ منه أرضاً لا يملكها ، فاقبِضْ من الغلام ما دفعتَه إليه ، واردُدْ إلينا أرضَنا .
فبعث معاوية إلى مسلم ، فأخبره ذلك ، وأقرأه كتاب الحسين عليه السلام ، وقال : اردُدْ علينا مالنا ، وخُذ أرضك ؛ فإنّك بعتَ ما لا تملك . فقال مسلم : أمّا دونَ أن أضرب رأسك بالسيف فلا ، فاستلقى معاوية ضاحكاً يضرب برِجلَيه ، فقال : يا بُنيَّ ، هذا واللَّهِ كلام قاله لي أبوك حين ابتَعتُ له أُمّك .
ص: 250
ثمّ كتب إلى الحسين : إنّي قد رددتُ عليكم الأرض ، وسَوَّغت مسلماً ما أخذ(1) .
في وقعة صفّين كانت مساجلات وجولات أشدّ رهبة من قعقعة السيف وصَوْلة الفارس ، تجلّى بها الحقّ لذي عينين ، فتحوّل من مصافّ القاسطين إلى جانب المؤمنين . وفي بعض تلك الجولات استبصر رجال فشكّلوا خطراً داهماً على معاوية ؛ للموقعِ القياديّ الذي يحتلّه أحدهم في عشيرته الكبيرة المقاتلة مع معاوية يومئذٍ .
مثال على ذلك : في أحد أيّام صفّين خرج ذو الكَلاع الحِميَريّ - من جند أهل الشام - فوقف قبال جيش أميرالمؤمنين عليه السلام ، ونادى : مَن دَلّ على الحِميريّ أبي نوح ؟ فخرج هذا إليه ، فقال له ذوالكَلاع : إنّما دعوتُك أُحدِّثك حديثاً حدَّثَناه عمرو بن العاص قديماً في إمارة عمر بن الخطّاب . قال أبو نوح : وما هو ؟ قال ذو الكَلاع : حدّثنا عمرو بن العاص أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : «يلتقي أهل الشام وأهل العراق ، وفي إحدى الكتيبتين الحقُّ وإمام الهدى ومعه عمّار بن ياسر» . قال أبو نوح : لَعَمْرُ اللَّه إنّه لفينا . قال : أجادٌّ هو في قتالنا ؟ قال أبو نوح : نعم وربِّ الكعبة ، لهو أشدّ على قتالكم منّي ، ولوَدِدتُ أنّكم خَلقٌ واحد فذبحتُه وبدأتُ بك قبلهم وأنت ابن عمّي . قال ذو الكلاع : وَيْلَك ! علامَ تتمنّى ذلك منّا ؟ واللَّهِ ما قطعتُك فيما بيني وبينك ، وإنّ رَحِمك لَقريبة ، وما يسرّني أن أقتلك .
قال أبو نوح : إنّ اللَّه قطع بالإسلام أرحاماً قريبة ، ووصل به أرحاماً متباعدة(2) ،
ص: 251
وإنّي لَقاتلك أنت وأصحابك ، ونحن على الحقّ وأنتم على الباطل مقيمون مع أئمّة الكفر ورؤوس الأحزاب . فقال له ذو الكلاع : فهل تستطيع أن تأتي معي في صفّ أهل الشام ، فأنا جارٌ لك ألّا تُقتَل ولا تُسلَبَ ، ولا تُكرَهَ على بيعةٍ ولا تُحبَس عن جندك ، وإنّما هي كلمةٌ تُبلِّغُها عمرَو بنَ العاص ، لعلّ اللَّه أن يُصلح بذلك بين هذين الجندين ، ويضع الحربَ والسِّلاح .
فقال أبو نوح : إنّي أخاف غَدَراتك وغَدَراتِ أصحابك ، فقال ذو الكلاع : أنا لك بما قلتُ زعيم . فقال أبو نوح : اللهمَّ إنّك ترى ما أعطاني ذو الكَلاع ، وأنت تعلم ما في نفسي ؛ فاعصِمْني واخْتَر لي وانصرني وادفع عنّي .
ثمّ سار حتّى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس ، وعبد اللَّه بن عمرٍو يُحرّض الناس على الحرب ، فلمّا وقفا على القوم قال ذو الكَلاع لعمرو : يا أبا عبد اللَّه ، هل لك في رجُلٍ ناصحٍ لبيب شفيق يُخبرك عن عمّار بن ياسر ، لا يكذبك ؟ قال عمرو : ومَن هو ؟ قال : ابن عمّي هذا ، وهو من أهل الكوفة . فقال عمرو : إنّي لأرى عليك سِيما أبي تُراب ! قال أبو نوح : عليَّ سِيما محمّد صلى الله عليه وآله وأصحابه ، وعليك سِيما أبي جَهْل وسِيما فرعون .
فقام أبو الأعور فسَلّ سيفه ، ثمّ قال : لا أرى هذا الكذّاب اللئيم يُشاتِمنا بين أظْهُرنا وعليه سِيما أبي تراب(1) . فقال ذو الكلاع : اُقسم باللَّه لئن بسطتَ يدك إليه لأخْطِمنّ أنفَك بالسيف ؛ ابنُ عمّي وجاري عقدتُ له بذمّتي وجئتُ به إليكما ليخبركما عمّا تَمارَيتم فيه .
قال عمرو بن العاص : أُذكِّرك باللَّه يا أبا نوح إلّا ما صَدَقتَنا ولم تَكذِبنا ، أفيكم
ص: 252
عمّار بن ياسر ؟ فقال له أبو نوح : ما أنا بمخبرك عنه حتّى تخبرني لِمَ تسألني عنه ؟ فإنّ معنا مِن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عِدّة غيره ، وكلّهم جادّون على قتالكم .
قال عمرو : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول : «إنّ عمّاراً تقتله الفئةُ الباغيةُ ، وإنّه ليس ينبغي لعمّار أن يفارق الحقّ ، ولن تأكل النار منه شيئاً» ! فقال أبو نوح : لا إله إلّا اللَّه واللَّه أكبر ! واللَّه إنّه لَفِينا ، جادٌّ على قتالكم . فقال عمرو : واللَّه إنّه لَجادّ على قتالنا ؟
قال : نعم واللَّهِ الذي لا إله إلّا هو ، ولقد حدّثني يومَ الجَمَل ، أنّا سنَظهَر عليهم ، ولقد حدّثني أمس أنْ لو ضربتمونا حتّى تَبلُغوا بنا سَعَفاتِ هَجَر(1) ، لعلمنا أنّا على حقّ وأنّهم على باطل ، ولكانت قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار(2) .
فقال له عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينَه ؟ قال : نعم ، فركب معه ابناه ، وعُتبة بن أبي سفيان ، وذو الكَلاع ، وأبو الأعور السلميّ ، وحَوْشَب ، والوليد بن عُقْبة بن أبي مُعَيْط . وسار أبو نوح إلى عمّار ، فأخبره بما كان منه وأنّ عمرو بن العاص يريد لقاءه ، فخرج عمّار معه عدّة من الفرسان ، فلمّا التقَوا تشهّد عمرو بن العاص ، فقال له عمّار : اسكتْ ! فقد تركتها في حياة محمّد صلى الله عليه وآله وبعد موته ، ونحن أحقّ بها منك ، فإن شئتَ كانت خصومة فيَدفع حقُّنا باطلَك ، وإن شئتَ كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئتَ أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفّرك قبل القيام ، وتشهد بها على نفسك ، ولا تستطيع أن تكذِّبني فيها !
قال عمرو يا أبا اليقظان ! ليس لهذا جئتُ ، إنّما جئتُ لأنّي رأيتُك أطوَعَ أهل هذا العسكر فيهم ، أُذكِّرك اللَّه إلّا كفَفتَ سلاحَهم وحَقَنتَ دماءهم ، وحَرّضتَ على ذلك ،
ص: 253
فعلامَ تقاتلُنا ؟ أوَلسنا نعبد إلهاً واحداً ، ونصلِّي إلى قِبلتكم ، وندعو دعوتَكم ، ونقرأ كتابكم ، ونؤمن برسولكم ؟
قال عمّار : الحمدُ للّه الذي أخرجها من فيك ، إنّها لي ولأصحابي : القِبلةُ ، والدِّينُ ، وعبادةُ الرّحمنِ ، والنبيُّ صلى الله عليه وآله ، والكتابُ ؛ من دونك ودون أصحابك . الحمد للّه الذي قرّر لنا بذلك دونك ودون أصحابك(1) ، وجعلك ضالّاً مُضِلّاً ، لا تعلم هادٍ أنت أم ضالّ ، وجعلك أعمى . وسأُخبرك علامَ قاتَلتُك عليه أنت وأصحابك ؛ أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن أُقاتل الناكثين أصحاب الجمل وقد فعلتُ ، وأمرني أن أُقاتل القاسطين ، فأنتم هم . وأمّا المارقون فما أدري أدركهم أم لا ؟ أيُّها الأبتر ، ألستَ تعلم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال لعليّ : «مَن كنت مولاهُ فعليّ مولاه ، اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه» ؟ وأنا مَوْلى اللَّه ورسوله وعليّ بعده ، وليس لك مولًى .
قال له عمرو : لِمَ تَشتمُني يا أبا اليقظان ، ولستُ أشتمُك ؟! قال عمّار : وبِمَ تشتمني ؟! أتستطيع أن تقول : إنّي عصيتُ اللَّه ورسوله يوماً قطّ ؟ قال له عمرو : إنّ فيك لَمسبّات سوى ذلك . فقال عمّار : إنّ الكريم مَن أكرمه اللَّه ، كنتُ وضيعاً فرفعني اللَّه ، ومملوكاً فأعتقني اللَّه ، وضعيفاً فقوّاني اللَّه ، وفقيراً فأغناني اللَّه(2) .
فسكت الأبتر ولم يَبقَ له ما يقوله ، فعاد بمن معه إلى مصافّ أهل الشام . ولمّا نظر عمّار إلى راية عمرو بن العاص ، قال : إنّ هذه الراية قاتلتُها ثلاثَ عركات وما هذه بأرشدهنّ ! ثمّ قال :
ص: 254
نحن ضَرَبناكم على تنزيلهِ * فاليومَ نَضرِبكم على تأويلهِ
ضرباً يُزيلُ الهامَ عن مَقيلِه * ويُذهِل الخليلَ عن خليلهِ * أو يَرجعَ الحقُّ إلى سبيلهِ
فقُتل عمّار رضى الله عنه شهيداً . ولمّا أُصيب استسقى وقد اشتدّ ظمؤه فأتَتْه امرأة بضَيَاح من لبن ، فقال حين شرب :
الجنّة تحت الأسِنّة * اليومَ ألقَى الأحِبَّه * محمّداً وحِزْبَه
وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لعمّار بن ياسر : «تقتلك الفئةُ الباغية ، وآخر شَرْبةٍ تشربها ضَيَاحٌ من لبن» . فقال ذو الكلاع لعمرو : وَيْحَك ، ما هذا ؟! فقال : إنّه سيرجع إلينا ويفارق أبا تراب ، وذلك قبل أن يصاب عمّار . فأُصيب عمّار مع عليّ عليه السلام ، وأُصيب ذو الكَلاع مع معاوية ، فقال عمرو : واللَّهِ يا معاوية ما أدري بقتْلِ أيِّهما أنا أشدّ فرَحاً ! واللَّهِ لو بقي ذو الكَلاع حتّى يُقتَل عمّار لمال بعامّة قومِه إلى عليّ ، ولأفسَد علينا جندنا(1) .
وهذا أيضاً من الأجوبة المسكتة للذين يدافعون عن الشجرة الملعونة من بني أُميّة وبطانتهم بطانة السوء .
نادى عُتبة بن أبي سفيان ، يومَ صفّين ، على جَعْدة(2) بن هُبَيرة ، فخرج إليه فقال
ص: 255
عتبة : يا جَعْدة ، إنّه واللَّهِ ما أخرَجَك علينا(1) إلّا حبّ خالك وعمّك ابن أبي سَلَمة عامل البحرين ، وإنّا واللَّه ما نزعم أنّ معاوية أحقّ بالخلافة(2) من عليّ لولا أمره في عثمان ، ولكنّ معاوية أحقّ بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها ، فواللَّهِ ما بالشام رجل به طِرْقٌ(3) إلّا وهو أجَدّ من معاوية في القتال ، ولا بالعراق مَن له مِثلُ جِدّ عليّ(4) . ونحن أطوَعُ لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبحَ بعليّ أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس(5) ، حتّى إذا أصاب سلطاناً أفنى العرب !
فقال جَعْدة : أمّا حبّي لخالي ، فواللَّه أن لو كان لك خالٌ مِثْلُه لنسيتَ أباك ! وأمّا ابن أبي سَلَمة فلم يُصب أعظم من قَدْره ، والجهاد أحبّ إليّ من العمل . وأمّا فضلُ عليّ على معاوية فهذا ما لا يُختلف فيه . وأمّا رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس . وأمّا قولك إنّه ليس بالشام من رجل إلّا وهو أجَدُّ من معاوية وليس بالعراق لرجل مثل جدّ عليّ ، فهكذا ينبغي أن يكون ؛ مضى بعليّ يقينُه ، وقصّر بمعاوية شكُّه ، وقَصْدُ أهل الحقّ خيرٌ من جُهد أهل الباطل . وأمّا قولك : نحن أطوَعُ لمعاوية منكم
ص: 256
لعليّ عليه السلام ، فواللَّه ما نسأله إنْ سكت ، ولا نَرُدّ عليه إن قال . وأمّا قتلُ العرب فإنّ اللَّه كتب القتال ، فمن قتله الحقّ فإلى اللَّه .
فغضب عُتبة وفَحش على جعدة ! فلم يُجِبْه وأعرض عنه ، وانصرفا جميعاً مُغضَبين . فلمّا انصرف عُتبة جمع خيلَه ، وتهيّأ جعدة فالتقيا ، وصبر القوم جميعاً ، وجَزِع عتبة فأسلَم خيلَه وأسرع هارباً إلى معاوية ، فقال له : فَضَحَك جَعْدة ، وهَزْمَتُك لا تغسل رأسَك منها أبداً . قال عُتبة : لا واللَّهِ لا أعود إلى مثلها أبداً ! ولقد أعذَرتُ وما كان على أصحابي من عتب ، ولكن اللَّه أبى أن يُديلَنا(1) منهم ، فما أصنع ؛ فحَظِيَ بها جَعْدة عند عليّ .
فقال النجاشيّ فيما كان من شتم عتبة لجَعْدة شعراً :
إنّ شَتْمَ الكريمِ يا عُتْبَ خَطْبٌ * فاعلَمَنْهُ من الخطوبِ عظيمُ
أُمُّهُ أُمُّ هانئٍ وأبوهُ * من مَعَدٍّ ومن لُؤيٍّ صَميمُ
ذاكَ منها هُبيرةُ بن أبي وهْ * -بٍ أقرّتْ بفضلِه مَخْزومُ
كان في حربِكم يُعدُّ بألفٍ * حين تَلقى بها القُرومَ القُرومُ
وابنُه جَعْدةُ الخليفةُ منه* *هكذا يَخلُفُ الفروعَ الأرومُ
كلُّ شي ءٍ تريدُه فهو فيهِ * حَسَبٌ ثاقبٌ ودِينٌ قَويمُ
وخطيبٌ إذا تَمعَّرتِ الأو * جُهُ يَشجى به الألَدُّ الخَصيمُ
وحليمٌ إذا الحُبَى حَلَّها الجه * -لُ وخَفّتْ من الرِّجالِ الحُلُومُ
وشَكيمُ الحروبِ قد عَلِمَ النا * سُ إذا حُلَّ في الحروبِ الشَّكيمُ
وصحيحُ الأديمِ من نَغَلِ العَيْ * -بِ إذا كان لا يَصِحُّ الأديمُ
حاملٌ للعظيمِ في طلبِ الحم * -دِ إذا أعظَمَ الصَّغيرَ اللئيمُ
ص: 257
ما عسى أن تقولَ للذَّهبِ الأح * -مرِ عَيباً ، هيهاتَ مِنكَ النُّجومُ
كلُّ هذا بحمدِ ربِّكَ فيهِ * وسِوى ذاك كان وهو فَطيمُ(1)
قال معاوية بن أبي سفيان للهيثم بن الأسود أبي العُريان - وكان عثمانيّاً ، وكانت امرأته عَلَويّةَ الرأي تكتب بأخبار معاوية في أعنّة الخَيل وتدفَعَها إلى عسكر عليّ عليه السلام بصِفِّين فيدفعونها إليه - فقال معاوية بعد التحكيم : يا هيثم ، أهل العراق كانوا أنْصحَ لعليّ في صِفِّين أم أهلُ الشام لي ؟ فقال : أهل العراق قبلَ أنْ يُضرَبوا بالبلاء(2) كانوا أنْصَح لصاحبهم . قال : كيف قلتَ هذا ؟ قال : لأنّ القوم ناصَحُوه على الدِّين ، وناصَحَك أهلُ الشام على الدنيا ، وأهلُ الدّين أصبرُ وهم أهلُ بصيرة ، وإنّما أهلُ الدنيا أهلُ طَمعٍ(3) . ثمّ واللَّهِ ما لبث أهل العراق أن نَبذُوا الدّين وراء ظهورهم ، ونظروا إلى الدنيا فالتحقوا بك .
فقال معاوية : فما الذي يمنع الأشعث - ابن قيس - أن يَقدِم علينا ، فيطلب ما قِبَلنا ؟ قال : إنّ الأشعث يُكرِم نفسَه أن يكون رأساً في الحرب ، وذَنَباً في الطمع(4) .
قال عمرُ بن عبد العزيز : كنتُ غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عُتبة بن مسعود ،
ص: 258
فمرّ بي يوماً وأنا ألعب مع الصِبيان ، ونحن نلعنُ عليّاً ، فكَرِه ذلك ودخل المسجد ، فتركتُ الصِبيان وجئتُ إليه لأدرسَ عليه وِرْدي . فلمّا رآني قام فصلّى وأطال في الصلاة ، شِبهَ المُعْرِض عنّي ، حتّى أحسست منه ذلك ، فلمّا انفتل من صلاته كَلَح(1) في وجهي ، فقلت له : ما بالُ الشيخ ؟ فقال لي : يا بُنيّ ، أنت اللّاعن عليّاً منذ اليوم ؟ قلتُ : نعم . قال : فمتى علمتَ أنّ اللَّه سَخِطَ على أهل بَدْرٍ بعد أنْ رضي عنهم ؟! فقلتُ : يا أبتِ ، وهل كان عليّ من أهل بَدْر ؟! فقال : وَيْحَك ! وهل كانت بَدْر كلُّها إلّا لَهُ ! فقلت : لا أعود ، فقال : اللَّهَ أنّك لا تعود ! قلت : نعم ، فلم ألعنه بعدها .
ثمّ كنت أحضر تحت مِنْبر المدينة ، وأبي يخطب يومَ الجمعة ، وهو حينئذٍ أميرُ المدينة ، فكنت أسمع أبي يمرُّ في خُطَبه تَهدِرُ شَقَاشِقُه(2) ، حتّى يأتي إلى لَعْن عليّ عليه السلام فيُجَمْجِم(3) ويعرض له من الفَهاهَة والحَصَر(4) ما اللَّهُ عالم به ، فكنت أعجَب من ذلك ، فقلت له يوماً : يا أبتِ ، أنت أفصحُ الناس وأخطبُهم ، فما بالي أراك أفصحَ خطيب يوم حَفْلِك ، حتّى إذا مررتَ بلعن هذا الرجلِ ، صِرتَ ألكَن عليّاً(5) ؟! فقال : يا بُنيّ ، إنّ مَن ترى تحتَ منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد ! فوَقَرتْ(6) كلمتُه في صدري ، مع ما كان قاله لي معلّمي أيام صِغَري ، فأعطيتُ اللَّه عهداً لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأُغيّرنّه . فلمّا منّ اللَّه عليّ
ص: 259
بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه : « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ »(1) ، وكتب به إلى الآفاق فصار سنّة(2) .
ما أبينها من بيّنة وأسطعه من برهان ! إذ هي صادرة من لدن رجل ما زال ملتزماً بما سنّه معاوية من لعن أمير المؤمنين عليه السلام ، وما أشدّ التباين بين السُّنّتين : سنّة الكفر التي سنّها ابن حرب معاوية ، وسنّة الهدى التي سنّها عمر بن عبد العزيز ! قال الشريف الرضيّ :
يا ابنَ عبدِ العزيزِ لو بَكَتِ العينُ * فَتًى مِن أُميّةٍ لَبَكَيتُكْ
غَيرُ أنّي أقولُ قد طِبتَ* وإن لم يَطِبْ ولم يَزْكُ بيتُكْ
أنتَ نَزَّهتَنا عن السبِّ والقَذْفِ * فَلَو أمكنَ الجزاءُ جَزَيتُك
ولو أنّي رأيتُ قبرَكَ لَاستحييتُ * مِن أن أُرى وما حَيّيتُكْ
وقليلٌ أنْ لو بَذَلْتُ دماءَ البُدنِ * صِرفاً على الذُّرا وسَقَيْتُكْ
دَيْرَ سِمْعانَ(3) ، فيك مأوى أبي حَفْ * -صٍ بِوُدّي لو أنّني آوَيتُكْ
دَيْرَ سِمعانَ ، لا أغبَّكَ غيثٌ * خَيرُ مَيتٍ من آل مَروان مَيْتُكْ
أنت بالذِّكر بينَ عيني وقلبي * إن تَدانَيتُ منكَ أو إنْ نَأيتُكْ
وعجيبٌ أنّي قَلَيتُ بَني مَر * وان طُرّاً وأنّني ما قَلَيْتُكْ
قَرّبَ العدلُ منكَ لمّا نأى الجوْ * رُ بهم فاجتَويتُهم(4) واجتَبيتُكْ
فَلو أنّي مَلَكتُ دَفعاً لِما نا * بَكَ مِن طارِقِ الرَّدى لَفَدَيْتُكْ
وقال كثيّر بن عبد الرحمان يمدح عمر بن عبد العزيز على ذلك :
ص: 260
وَلِيتَ فلمْ تَشتِم عليّاً ، ولم تُخِفْ * بَريّاً ، ولم تَقبَلْ إساءَةَ مُجرِم
وكفَّرتَ بالعفوِ الذنوبَ مع الذي * أتيتَ فأضحى راضياً كلُّ مسلمِ
ألا إنّما يكفي الفتى بعد زَيْغِه * من الأوَدِ البادي ثقافُ المُقوِّمِ
وما زِلتَ تَوّاقاً إلى كلّ غايةٍ* َبلَغتَ بها أعلى العَلاءِ المُقَدَّمِ
فلمّا أتاكَ الأمرُ عَفْواً ولم يكنْ * لِطالب دُنيا بَعدَهُ من تَكلُّمِ
تركتَ الذي يَفْنى لأن كان بائداً * وآثَرْتَ ما يَبقى برأيٍ مُصمِّمِ(1)
عن عَوانة(2) عن أبيه قال : لمّا وَفَد مصعب على أخيه بعد قتل المختار ، قال لابن عمر : ما تقول في قومٍ خَلَعوا رِبْقَة الطاعة ، وسفكوا الدماء وقاتلوا فقوتلوا ، حتّى إذا غُلبوا دخلوا حصناً فسألوا الأمان على الحكم ، فأُعطُوا ذلك ثمّ أخرجوا فقُتلوا ؟ قال : وكم العدّة ؟ قال : خمسة آلاف ! قال : فسبّح(3) ابن عمر ، ثمّ قال : عمّرك اللَّه يا ابن الزبير ، لو أنّ رجلاً أتى ماشيةً لآلِ الزبير فذبح منها خمسة آلاف ، ألم تكن تراه مسرفاً ؟ قال : فسكت فلم يُجِبه ، فقال : ألم يكن فيهم مَن تُرجى له التوبة ؟! ألم يكن فيهم مُستكرَه(4) ؟!
ص: 261
وعن أبي مخنف ، وعن عَوانة قالا : لمّا قدم مصعب على أخيه بعد قتل المختار ، قال له ابن عمر : أأنت الذي قتلت ستّة آلاف من أهل القِبلة في غَداةٍ واحدة على دم ؟ فقال : إنّهم سَحَرة كَفَرة ! فقال له : واللَّهِ لو كان غَنَماً من تُراث آل الزبير لقد كان ما أتيتَ عظيماً(1) .
قال عبد الملك بن مروان لثابت بن عبد اللَّه بن الزبير : أبوك ما كان أعلم بك حيث كان يشتمك . قال : يا أمير المؤمنين ، إنّما كان يشتمني أنّي كنت أنهاه أن يقاتل بأهلِ المدينة وأهل مكّة ؛ فإنّ اللَّه لا ينصر بهما . أمّا أهل مكّة فأخرجوا النبيّ صلى الله عليه وآله وأخافوه ، ثمّ جاؤوا إلى المدينة فآذَوه حتّى سيّرهم - يعرِّض بالحَكَم بن أبي العاص طريد النبيّ صلى الله عليه وآله . وأمّا أهل المدينة فخذلوا عثمان حتّى قُتل بين أظهُرهم ولم يدفعوا عنه . قال له : عليك لعنة اللَّه(2) .
قدِم عبد اللَّه بن جعفر على عبد اللَّه بن مروان ، فقال له يحيى بن الحكم : ما فعلتْ خبيثة ؟! يعني المدينةَ المنوّرة ! فقال : سبحان اللَّه ! يُسمّيها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : طَيْبة وتُسمّيها خبيثة ؟! لقد اختلفتما في الدنيا وستختلفان في الآخرة ! قال يحيى : لئن أموت بالشام أحبُّ إليّ من أن أموت بها ! قال : اخترتَ جوار اليهود والنصارى على جوار رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ! قال يحيى : ما تقول في عليّ وعثمان ؟ قال : أقول ما قاله مَن هو خير
ص: 262
منّي فيمَن هو شرّ منهما : « إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »(1) .(2)
مَدَح نُصَيب بن رياح(3) عبدَاللَّه بن جعفر ، فأمر له بمال كثير وكسوة ورَواحل(4) . فقيل له : تفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود ؟! فقال : أما واللَّه لئن كان عبداً إنّ شِعره لَحُرّ ، وإن كان أسوَد إنّ ثناءه لأبيض . وإنّما أخذ مالاً يَفنى ، وثياباً تَبلى ، ورواحل تُنضى (5) ، وأعطى مديحاً يُروى ، وثناء يبقى(6) .
قال هشام بن عبد الملك لزيد بن عليّ : بَلَغني أنّك تَرَبَّص نفسُك للخلافة وتطمع فيها وأنت ابن أمَة ! قال له زيد : مهلاً يا هشام ! فلو أنّ اللَّه عَلِم في أولاد السَّرارِيّ(7) تقصيراً عن بلوغ غاية ، ما أعطى إسماعيلَ ما أعطاه . ثمّ خرج زيد وبعث إليه بهذه الأبيات :
مَهْلاً بني عمِّنا عن نَحتِ أثْلَتِنا(8) * سِيروا رُوَيداً كما كنتم تَسيرونا
ص: 263
لا تَجمعوا أن تُهِينُونا ونُكرِمَكُم * وأن نَكُفَّ الأذى عنكم وتُؤذونا
فاللَّهُ يَعلمُ أنّا لا نُحبّكُمُ * ولا نَلومُكُم ألّا تُحبُّونا
ثمّ إنّ زيداً أعطى اللَّه عهداً لا يلقى هشاماً إلّا في كتيبةٍ بيضاء أو حمراء ، فدخل الكوفة فطبع بها السيوف وكان من أمره ما كان حتّى قُتل رحمه الله(1) .
كان خالد بن عبد اللَّه(2) أقَرّ على زيد بن عليّ ، وداودَ بن عليّ(3) ، وأيّوب بن سَلَمة المخزوميّ ، وعلى محمّد بن عمر بن عليّ(4) ، وعلى سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عوف(5) ، فسأل هشام زيداً عن ذلك فقال : أحلِف لك . قال : وإذا حَلَفتَ أُصدّقك ؟ قال زيد : اتّقِ اللَّه . قال : أوَ مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى اللَّه ؟! قال زيد : لا أحد فوق أن يُوصى بتقوى اللَّه ، ولا دون أن يُوصي بتقوى اللَّه . قال هشام : بلغني أنّك تريد الخلافة ولا تصلح لها ؛ لأنّك ابن أمَة .
قال زيد : فقد كان إسماعيل بن إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم ابنَ أمَة ، وإسحاق عليه السلام ابن حُرّة ، فأخرج اللَّه من صُلب إسماعيل خيرَ ولد آدم محمّداً صلى الله عليه وآله . فعندها قال له :
ص: 264
قُمْ . قال : إذَن لا تراني إلّا حيث تكره ! ولمّا خرج من الدار قال : ما أحَبّ أحد الحياةَ قطّ إلّا ذَلّ . فقال له سالم مولى هشام : لا يَسمعَنّ هذا الكلامَ منك أحد(1) .
قال اليَقطُريّ : قيل لعبد اللَّه بن الحسن : ما تقول في المِراء ؟ قال : ما عسى أن أقول في شي ء يُفسد الصداقةَ القديمة ، ويَحلّ العقدةَ الوثيقة ؟! فإنّ أقلّ ما فيه أن يكون دُرْبة(2) للمُغالَبة ، والمغالبة من أمتَن أسباب الفتنة . إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لمّا أتاه السائب بن صَيفيّ(3) فقال : أتعرفني يا رسول اللَّه ؟ قال : «كيف لا أعرف شريكي الذي كان لا يُشاريني ولا يُماريني» ؟! قال : فتحوّلتُ إلى زيد بن عليّ فقلت له : الصمت خير أم الكلام ؟ قال : أخزى اللَّه المُساكَتة ، فما أفسَدَها للبيان ، وأجلَبَها للحَصَر ! واللَّه لَلمُماراةُ أسرَعُ في هدم العِيّ من النار في يَبِيس العَرفج ، ومن السيل في الحَدُور .
ص: 265
وقد عرف زيد أنّ المماراة مذمومة ، ولكنّه قال : المماراة على ما فيها أقلّ ضرراً من المُساكَتة التي تورث البُلْدة(1) ، وتحلّ العُقدة ، وتُفسد المُنّة ، وتورث عللاً ، وتُولّد أدواء أيسَرها العِيّ ، فإلى هذا المعنى ذهب زيد(2) .
عن محمّد بن الزبير قال : بعثني عمر بن عبد العزيز مع عَون بن عبد اللَّه بن مسعود إلى شَوذَب وأصحابه ، إذ خرجوا بالجزيرة ، وكتب معنا كتاباً إليهم . فدفعنا كتابه إليهم ، فبعثوا معنا رجلاً من بني شيبان فيه حُبْشيّة(3) يقال له شَوذَب ، فقدِمنا على عمر ، فقال لهما عمر : أخبِراني ، ما الذي أخرجكم عن حكمي هذا وما نقَمتُم ؟ فتكلّم الأسود منهما فقال : إنّا واللَّهِ ما نَقَمنا عليك في سِيرتك وتَحرِّيك العدلَ والإحسان إلى مَن وُلِّيت ، ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتَناه فنحن منك وأنت منّا ، وإن مَنَعتناه فلستَ منّا ولسنا منك . قال عمر : ما هو ؟ قال : رأيناك خالفتَ أهل بيتك وسمّيتَها مظالم ، وسلكت غير طريقهم ؛ فإن زعمتَ أنّك على هدًى وهم على ضلال فالعنْهُم وابرأ منهم ، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يُفرّق .
قال : أخبِراني عن أبي بكر وعمر ، ألَيسا من أسلافكما ومَن تتولّيان وتشهدان لهما بالنجاة ؟ قالا : اللهمّ ، نعم . قال : فهل علمتما أنّ أبا بكر قاتل العرب وسفك الدماء وأخذ الأموال وسبَى الذَّراري ؟ قالا : نعم .
قال : فهل علمتم أنّ عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السبايا إلى عشائرها ؟ قالا : نعم . قال : فهل برئ عمر من أبي بكر أو تَبرؤون أنتم من واحد منهما ؟ قالا : لا . قال :
ص: 266
فأخبِراني عن أهل النهروان ، أليسوا من صالحي أسلافكم وممّن تشهدون لهم بالنجاة ؟ قالا : نعم . قال : فهل تعلمون أنّ أهل الكوفة حين خرجوا كَفُّوا أيديهم ، فلم يسفكوا دماً ، ولم يُخيفوا أمناً ، ولم يأخذوا مالاً ؟ قالا : نعم . قال : فهل علمتم أنّ أهل البصرة حين خرجوا مع مِسْعَر بن فُدَيك استعرضوا الناس يقتلونهم ، ولَقُوا عبد اللَّه بن خبّاب بن الأرَتّ صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فقتلوه وقتلوا جاريته ، ثمّ قتلوا النساء والأطفال ، حتّى جعلوا يُلقونهم في قُدور الأقْط(1) وهي تفور ؟ قالا : قد كان ذلك . قال : فهل برئ أهل الكوفة من أهل البصرة ؟ قالا : لا . قال : فهل تبرؤون من إحدى الفئتين ؟ قالا : لا .
قال : أفرأيتم الدين ، أليس هو واحداً أم اثنان ؟ قالا : بل واحد . قال : فهل يسعكم منه شي ء يُعجِزني ؟ قالا : لا . قال : فكيف وَسِعَكم أن تولّيتم أبا بكر وعمر ، وتولّى كلّ واحد منهما صاحبه ، وتولّيتم أهل الكوفة والبصرة ، وتولّى بعضُهم بعضاً ؛ وقد اختلفوا في أعظم الأشياء : في الدماء والفروج والأموال ، ولا يسعني إلّا لعن أهل بيتي والتبرّؤ منهم ؟! أوَ رأيت لَعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابدّ منها ؛ فإن كان ذلك فمتى عهدك بلعن فرعون وقد قال : أنا ربُّكُم الأعلى ؟ قال : ما أذكر أنّي لعنتُه ! قال : وَيْحك ! أيسعك ألّا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق ، ولا يسعني إلّا أن ألعن أهل بيتي والبراءة منهم ؟ ويحكم ! إنّكم قوم جُهّال ، أردتم أمراً فأخطأتموه ، فأنتم تَرُدّون على الناس ما قَبِل منهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله . بعثه اللَّه إليهم وهم عَبَدة أوثان ، فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان ، وأن يشهدوا أن لا إله إلّا اللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، فمَن قال ذلك حَقَن بذلك دمه ، وأحرَز مالَه(2) ، ووجبت حُرمته ، وأمِن به عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ،
ص: 267
وكان أُسوةَ المسلمين ، وكان حسابه على اللَّه . أفلَستم تَلْقون مَن خلَع الأوثان ، ورفض الأديان ، وشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه ، تَستحِلّون مالَه ودمه ويُلعَن عندكم ، ومَن ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وأهل الأديان فتحرّمون دمَه ومالَه ويأمن عندكم ؟ فقال الأسود : ما سمعتُ كاليومِ أحداً أبْيَن حجّة ، ولا أقرب مأخذاً ، أما أنا فأشهد أنّك على الحقّ ، وأنّي بري ء ممّن برئ منك .
فقال عمر لصاحبه : يا أخا بني شيبان ، ما تقول أنت ؟ قال : ما أحسن ما قلت ووصفت ! غير أنّي لا أفتاتُ على الناس بأمر(1) حتّى ألقاهم بما ذكرتَ وأنظر ما حجّتهم . قال : أنت وذاك . فأقام الحبشيّ مع عمر وأمر له بالعطاء ، فلم يلبث أن مات ، ولحق الشيبانيّ بأصحابه فقُتل معهم بعد وفاة عمر(2) .
كتب المنصور إلى محمّد بن عبد اللَّه النفس الزكيّة(3) بعد ظهوره بالمدينة :
ص: 268
بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، من عبد اللَّه أمير المؤمنين إلى محمّد بن عبد اللَّه . أمّا بعد : « إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1) . ولك ذمّةُ اللَّه عزّ وجلّ وعهده وميثاقه ، وحقُّ نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله : إن تُبتَ من قبل أن أقدرَ عليك أن أُؤَمّنَك على نفسك وولدك وإخوتك ومَن تابعك وبايعك وجميع شيعتك ، وأن أُعطيَك ألفَ ألف درهم ، وأُنزلك من البلاد حيث شئتَ وأقضي لك ما شئت من الحاجات ، وأن أُطلِقَ مَن في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ، ثمّ لا أُتْبِع أحداًمنهم بمكروه ؛ فإنْ شئتَ أن تتوثَّق لنفسك ، فوجِّه إليَّ مَن يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت . والسلام(2) .
فكتب إليه محمّد رضى الله عنه :
من محمّد بن عبد اللَّه أمير المؤمنين إلى عبد اللَّه بن محمّد : « طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيى نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا
ص: 269
كَانُوا يَحْذَرُونَ »(1) . وأنا أعرِض عليك من الأمان مثلَ الذي أعطيتَني ، فقد تعلم أنّ الحقّ حقّنا ، وأنّكم إنّما طلبتموه بنا ، ونهضتم فيه بشيعتنا ، وخطبتموه بفضلنا ، وأنّ عليّاً عليه السلام كان الوصيّ والإمام ، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء ؟ وقد علمت أنّه ليس أحد من بني هاشم يَمُتّ بمثل فضلنا ، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ، ونسَبَنا وسَبَبنا ، وأنّا بنو أُمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : فاطمة بنت عَمرو(2) في الجاهليّة دونكم ، وبنو بنته فاطمة في الإسلام من بينكم . وأنا أوسَط بني هاشم نسباً ، وخيرهم أُمّاً وأباً ، لم تَلِدْني العجم(3) ، ولم تُعرِق(4) فيّ أُمّهات الأولاد . وإنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا ، فولدَني من النبيّين أفضلهم محمّد صلى الله عليه وآله ، ومن أصحابه أقدمهم إسلاماً ، وأوسعهم علماً ، وأكثرهم جهاداً عليّ بن أبي طالب ، ومن نسائه أفضلهنّ خديجة بنت خُويلد أوَّل مَن آمن باللَّه وصلّى القِبلة ، ومن بناته أفضلهنّ سيّدة نساء أهل الجنّة ، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة . ثمّ قد علمت أنّ هاشماً وَلَد عليّاً مرّتين ، وأنّ عبد المطّلب ولد الحسن مرّتين(5) ، وأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وَلَدني مرّتين من قِبَل جدَّي الحسن والحسين .
ولك عهدُ اللَّه ، إن دخلتَ في بيعتي ، أن أُؤمِّنك على نفسك وولدك وكلّ ما أصَبْته إلّا حدّاً من حدود اللَّه أو حقّاً لمسلم أو مُعاهِد . وقد علمت ما يلزمك في ذلك ، وأنا أوفى بالعهد منك ، وأنت أحرى بقبول الأمان منّي . فأمّا أمانك الذي عرضتَه ، فأيُّ
ص: 270
الأمانات هو ؟ أمانُ ابن هُبَيرة(1) ، أم أمان عبد اللَّه عمّك(2) ، أم أمان أبي مسلم(3) ؟ والسلام(4) .
ضرب المنصور موسى بن عبد اللَّه(5) خمسمائة سوط فصبر ، فقال المنصور لعيسى ابن عليّ : عَذَرتُ أهلَ الباطل في صبرهم ، ما بال هذا الغلام المنعّم الذي لم تَرَه الشمس ؟!
فقال موسى : إذا صبر أهل الباطل على باطلهم ، فأهل الحقّ أولى . فلمّا فرغوا من ضربه أخرجوه ، فقال له الربيع : يا فتى ، قد كان بلغني أنّك من نُجَباء أهلك ، وقد رأيتُ خلاف ما بلغني ! فقال له موسى : وما ذاك ؟ قال : رأيتك بين يدَي عدوّك تحبّ أن تبلغ في مكروهك وتزيد في مساءتك ، وأنت تماحكه في جَلْدك ، كأنّك تصبر على جَلد غيرك . فقال موسى :
إنّي مِن القوم الذين تَزيدُهُم * قَسواً وصَبراً شدّةُ الحَدَثَانِ(6)
دخل موسى بن عبد اللَّه بن الحسن المثنّى على هارون العبّاسيّ ، ثمّ خرج من عنده
ص: 271
فعثر بالبساط فسقط ، فضحك الخدم وضحك الجند ، فلمّا قام التفت إلى هارون ، فقال : يا أمير المؤمين ! إنّه ضَعفُ صَوم لا ضَعف سُكر(1) !
وهو من الأجوبة المسكتة ، فكأنّه أراد أن يقول : إنّ ما كان منّي هو بسبب الضعف الناتج من الصيام والعبادة ، وأمّا ضعفكم فهو بسبب حالكم القائم على معصيته تعالى من تناول المسكر الذي اشتهرتم به .
قال أبو محمّد اليزيديّ(2) : كنت أنا والكِسائيّ(3) عند العبّاس بن الحسين(4) ، فجاءه غلامه ، فقال : كنت عند فلان وهو يريد أن يموت . فضَحِكتُ أنا والكسائيّ ، فقال : مِمّ ضَحِكتُما ؟ قلنا : من قول الغلام ، وهل يريد الإنسانُ الموتَ ؟! فقال العبّاس : قد قال اللَّه عزّ وجلّ « فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُريدُ أَنْ يَنْقَضَّ »(5) ، فهل للجدار إرادة ؟ وإنّما هذا مكان «يكادُ» فنَبَّهنا واللَّهِ عليها(6) .
ص: 272
دخل أبو دُلَف العِجليّ(1) على الرشيد ، وهو في طارمة(2) على طُنْفَسة ، وعند باب الطارمة شيخ على طُنْفَسة مثلها . فقال الرشيد : يا قاسم ، ما خبر الجبل ؟ قال : خرابٌ يَباب ، اعتَوَره الأكراد والأعراب . قال : أنت سبب خرابه وفساده ، فإنْ ولَّيْتُك إيّاه ؟ قال : أعْمُرُه وأُصلِحُه . قال مَن حضر : أو غيرَ ذلك ؟ فقال أبو دُلَف : وكيف يكون غيرَ ذلك ؟ وأمير المؤمنين يزعم أنّي ملكتُه فأفسدتُه وهو علَيّ ، أفتَراني لا أقدِر على إصلاحه وهو معي(3) ؟ فقال الشيخ : إنّ همّته لَتَرْمي به وراء سِنِّه مَرْمًى بعيداً ، وأَخلِقْ(4) به أن يَزيدَ فعلُه على قوله . فقبل الرشيد وولّاه ، وأمر أن يُخلَع عليه . فلمّاخرج أبو دُلَف سأل عن الشيخ ، فقيل له : هو العبّاس بن الحسين العلويّ ، فحمل إليه عشرة آلاف دينار ، وشكر فعلَه ، فقال له العبّاس : ما أخذتُ على معروف أجراً قطّ . واضطرب أبو دُلَف فقال : إن رأيتَ أن تُكمل النعمةَ عندي ، وتُتِمّها علَيّ بقبولها ، فقال : أفعَل ، هي لي عندك ؛ فإذا لَزِمَتْني حقوق لقوم يَقصُر عنها مالي صَكَكْتُ(5) عليك بما تدفعه عليهم إلى أن أستَنفِدَها ، فقنع أبو دُلَف بذلك ، فما زال يصكُّ عليه للناس ، حتّى أفناها من غير أن يصل إلى العبّاس درهم منها(6) .
ص: 273
وقال له العبّاس بن محمّد بن عليّ بن عبد اللَّه بن عبّاس : أنت واللَّهِ يا أبا الفضل أشعَر بني هاشم ، فقال : لا أحبّ أن أكون بالشعر موصوفاً ؛ لأنّه أرفَعُ ما في الوضيع ، وأوضَعُ ما في الرفيع(1) .
كان المعتصم قد قرّر عند المأمون أنّ العبّاس يُبغضه ، فحطّه ذلك عنده . فلمّا ركب المأمون في الليل لقتل ابن عائشة(2) رأى العبّاسَ بن الحسين قد ركب مع أهله ومَواليه في السلاح ، فقال له المأمون : سُرِرتَ بالمخاض طمعاً في الوِلاد(3) ، فقال : معاذ اللَّه يا أمير المؤمنين أن أكون عليك مع عدوّ ، وما أعلم في بني أبي أحداً لو مَلَك كان لي مثلك .
قال : فما هذه العِدّة والعُدّة ؟ قال : اتّباع أمر اللَّه وقوله : « مَاكَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَسُولِ اللّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَفْسِهِ »(4) . قال : أنت المُصدَّق .
فلمّا قُتل ابن عائشة وانصرف ، قال له العبّاس : اللَّهَ اللَّهَ يا أمير المؤمنين في الدماء التي لا بقيّة معها ؛ ولا عقوبة بعدها ! والبَسْ رداء العفو الذي ألبَسك اللَّه إيّاه وجَمّلك به
ص: 274
وأسعدك باستعماله ، فإنّ المَلِك إذا قَتَلَ أُغريَ بالقتل حتّى يصير عادةً من عاداته ، ولذّة من لذّاته ! فقال : واللَّه يا أبا الفضل ، لو سمعتُ هذا منك قبل قتلي لابن عائشة ما قتلتُه. ولَطُفت حالُه عند المأمون بعد ذلك(1) .
وسأله المأمون عن رجل ، فقال : رأيتُ له حِلماً وأناةً ولم أرَ سَفَهاً ولا عَجَلةً ، ووجدت له بياناً وإصابة ولم أرَ لَحْناً ولا إحالَةً ؛ يجي ء بالحديث على مَطاويه ، ويُنشِد الشعر على مَعانيه ، ويَروي الأخبار المُتقَنة ، ويَرمي بالأمثال الُمحكَمة(2) .
ص: 275
بعد شهادة الحسين بن عليّ عليهما السلام ، حُمل رأسه الشريف وصِبيانه وأخواته ونساؤه إلى الكوفة ، فأُدخلوا على عبيد اللَّه بن زياد ، وقد تنكّرت زينب بنت عليّ عليها السلام ، فجلست ناحيةً ، فقال ابن زياد : مَن الجالسة ؟ فلم تكلّمه ، فقال ذلك ثلاثاً .. كلّ ذلك لا تكلّمه ! فقيل له : هذه زينب بنت عليّ(1) ، فقال ابن زياد : الحمد للّه الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم ! فقالت عليها السلام : الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه وآله ، وطهّرنا تطهيراً ، وإنّما يُفتَضَح الفاسق ويُكذَّب الفاجر . قال : كيف رأيتِ صُنعَ اللَّه بأخيك وأهل بيتك ؟
قالت : ما رأيتُ إلّا جميلاً ، كُتب عليهم القتال فبَرَزوا إلى مَضاجعِهم وسيجمع اللَّه بينك وبينهم يا ابن زياد ، فتُحاجُّون وتُخاصَمون ، فانظر لمن الفَلج يومئذٍ ، ثكلتك أُمُّك يا ابنَ مرجانة ! فغضب ابن زياد واستشاط ، فقال له عمرو بن حُرَيْث المخزوميّ : أصلح اللَّه الأمير ! إنّها امرأة وهل تُؤاخَذ المرأة بشي ءٍ من منطقها ؟ إنّها لا تُؤاخذ بقول ولا تُلام على خَطَل . فقال لها ابن زياد : لقد أشفى اللَّه نفسي من طاغيتك والمَرَدة من أهل بيتك ! فقالت : لَعَمري لقد قتلتَ كَهْلي وأبَرْتَ أهلي وقطعت فرعي واجتثثتَ
ص: 276
أصلي ، فإن يَشفِك هذا فقد اشتَفَيت . فقال ابن زياد : هذه شجاعة لا حَرج ، لَعَمري لقد كان أبوكِ شاعراً شجاعاً ، فقالت : ما للمرأة والشجاعة ؟ إنّ لي عن الشجاعة لشغلاً ولكنّي نَفْثى ما أقول(1) .
قالت فاطمة بنت عليّ : لمّا أُجلِسنا بين يدَي يزيد بن معاوية ، قام رجل من أهل الشام فقال : يا أمير المؤمنين ، هَبْ لي هذه - يعنيني ، فأرعدتُ وفرِقت وأخذت بثياب أختي زينب ، وكانت أختي زينب أكبرَ منّي وأعقل ، وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت : كذبتَ واللَّه ولؤمتَ ما ذلك لك وله ، فغضب يزيد فقال : كذبتِ واللَّه إنّ ذلك لي ، ولو شئتُ أن أفعله لفعلت ، قالت : كلّا واللَّه ما جعل اللَّه ذلك لك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتَدين بغير ديننا . قالت : فغضب يزيد واستطار ، ثمّ قال : إيّايَ تستقبلين بهذا ؟! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك ! فقالت زينب : بدينِ اللَّه ودين أبي ودين أخي وجدّي اهتديتَ أنت وأبوك وجدّك . قال : كذبتِ يا عدوّة اللَّه ! قالت : أنت أمير مسلّط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك . قالت : فواللَّهِ لَكأنّه استحيا فسكت . ثمّ عاد الشاميّ فقال : يا أمير المؤمنين ، هَب لي هذه الجارية ، قال : اعزُبْ ، وهَبَ اللَّه لك حتفاً قاضياً(2) !
سُئلت عائشة عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فقالت : وما عَسَيتُ أن
ص: 277
أقول فيه ، وهو أحبّ الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ؟ لقد رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد جمَع شَملتَه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين وقال : «هؤلاء أهل بيتي ، اللّهمّ أذهِبْ عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيراً» . قيل لها : فكيف سِرتِ إليه ؟ قالت : أنا نادمة ! وكان ذلك قَدراً مَقدوراً(1) .
ومن جنس كلام أُمّ المؤمنين السالف لمّا سألها جميع بن عُمير ، قال : قلت لعائشة : حدِّثيني عن عليّ رضى الله عنه . فقالت : تسألني عن رجل سالتْ نفسُ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في يده(2) ، ووَلِيَ غسْلَه وتغميضَه وإدخالَه قبرَه(3) ! قلت : فما حَمَلَكِ على ما كان منك ؟ فأرسلَتْ خِمارَها على وجهها وبكت ، وقالت : أمرٌ كان قُضي عليَّ(4) !
عن الشعبيّ وأبي حمزة قالا : لمّا قَدِمت أسماءُ بنت عُمَيس(5) من أرض الحبشة قال
ص: 278
لها عمر : يا حَبَشيّة ! سَبَقناكم بالهجرة ! فقالت : إي لَعَمري لقد صدقتَ ؛ كنتم مع رسول اللَّه يُطعِم جائعكم ويُعلِّم جاهلكم ، وكُنّا البُعَداءَ الطُّرَداء ، أمَا واللَّهِ لآتينّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فلأَذكرنّ ذلك له . فأتت النبيّ صلى الله عليه وآله ، فذكرت ذلك له ، فقال : «للناس هجرة واحدة ، ولكم هجرتان»(1) .
وعن عامر أيضاً قال : قالت أسماء بنت عُمَيس : يا رسول اللَّه ، إنّ رجالاً يفخرون علينا ويزعمون أنّا لسنا من المهاجرين الأوّلين ، فقال رسول اللَّه : «بل لكم هجرتان ؛ هاجرتم إلى أرض الحبشة ونحن مُرهَنون بمكّة ، ثمّ هاجرتم بعد ذلك»(2) .
وعن الأجلَح عن عامر قال : قالت أسماء بنت عميس : يا رسول اللَّه ، إنّ هؤلاء يزعمون أنّا لسنا من المهاجرين ، فقال : «كذب من يقول ذلك ! لكم الهجرة مرّتين ؛ هاجرتم إلى النجاشيّ ، وهاجرتم إليّ»(3) .
عن أنس بن مالك ، قال : دَخَلَت أروى بنت الحارث بن عبد المطّلب على معاوية ابن أبي سفيان بالموسم ، وهي عجوز كبيرة ، فلمّا رآها قال : مرحباً بكِ يا عمّة ، كيف كنتِ بعدنا ؟
قالت : كيف أنت ؟ لقد كفرتَ يدَ النعمة وأسأتَ لابنِ عمّك الصُّحبة ، وتَسَمّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقّك بغير بلاء كان منك ولا من آبائك في الإسلام(4) . ولقد
ص: 279
كفرتم بما جاء به محمّد صلى الله عليه وآله ، فأتعس اللَّه منكم الجُدودَ وأصعَرَ(1) منكم الخُدودَ حتّى ردّ اللَّه الحقَّ إلى أهله ، وكانت كلمة اللَّه هي العليا ، ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله هو المنصور على مَن ناواه ولو كره المشركون . فكنّا أهلَ البيت أعظمَ الناس في الدين حظّاً ونصيباً وقدراً ، حتّى قبض اللَّه نبيّه صلى الله عليه وآله مغفوراً ذنبُه مرفوعاً درجتُه شريفاً عند اللَّه مَرْضيّاً ، فصِرنا أهلَ البيت منكم بمنزلةِ قوم موسى من آل فرعون يُذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وصار ابنُ عمّ سيّد المرسلين فيكم بعد نبيّنا بمنزلة هارون من موسى(2) ، حيث يقول : يا ابنَ أُمّ ، إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُوني وكادُوا يقتلونني ، ولم يُجْمع بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لنا شملٌ ولم يُسهَّل لنا وَعْر ، وغايتُنا الجنّة ، وغايتكم النار .
قال عمرو بن العاص : أيّتها العجوز الضالّة ، أقصِري من قولك ، وغُضّي من طَرْفك . قالت : ومَن أنت لا أُمّ لك ؟! قال : عمرو بن العاص .
قالت : يا ابنَ اللَّخْناء النابغة(3) ، أتكلّمني ! إربَعْ على ظَلْعِك واعْنِ بشأنِ(4) نفسك ، فواللَّهِ ما أنت من قريش في اللُّباب من حَسَبها ولا كريم منصبها ، ولقد ادّعاك ستّة من قريش وكلُّهم يزعم أنّه أبوك ، ولقد رأيتُ أُمَّك أيّام مِنى بمكّة مع كلّ عبدٍ عاهر ، فأْتَمَّ بهم فإنّك بهم أشبَه(5) !
فقال مروان بن الحكم : أيّتها العجوز الضالّة ! سُلخ(6) بصركِ مع ذهاب عقلك ، فلا
ص: 280
يجوز شهادتك .
قالت : وأنت أيضاً يا ابن الزرقاء تتكلّم ؟! فواللَّهِ لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كِلدة أشبَه منك بالحَكَم ، وإنّك لشبهه في زُرقة عينيك وحُمرة شَعرك مع قِصَر قامتك وظاهر دَمامتك ، ولقد رأيتُ الحَكَم مادَّ القامة ، نثر الهامة ، سَبْط الشَّعر ، وما بينكما قرابة إلّا كقرابة الفَرَس الضامر من الأتان المُقرِب ، فاسأل أُمَّك عمّا ذكرتُ لك فإنّها تُخبرك بشأن أبيك إن صَدَقتْ ! ثمّ التفتت إلى معاوية ، فقالت : واللَّهِ ، ما عرّضني لهؤلاء غيرُك ، وإنّ أُمّك لَلقائلةُ في يوم أُحُد في قَتلِ حمزة رحمة اللَّه عليه :
نحن جَزَيناكُم بيومِ بَدْرِ * والحربُ بعدَ الحربِ ذاتُ سُعْرِ
ما كانَ عن عُتْبةَ لي مِن صَبْرِ * ولا أخي وعمِّه وبِكري(1)
شَفَيتُ نفسي وقَضَيتُ نَذْري * شَفَيتَ وَحشِيُّ غليلَ صدري(2)
فشُكرُ وحشيٍّ عليَّ عُمري * حتّى ترمَّ(3) أعظُمي في قبري
فأجبتُها(4) :
يا بِنتَ رَقّاعٍ(5) عظيمِ الكُفرِ * خَزيتِ في بدرٍ وغيرِ بدرِ
ص: 281
صَبّحكِ اللَّهُ قُبيلَ الفجرِ * بالهاشميّينَ الطُّوالِ الزُّهْرِ
بكلِّ قَطّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي * حمزةُ لَيْثي وعليٌّ صَقْري
إذ رامَ شَيبٌ(1) وأبوكِ غَدْري * أعطيتِ وحشيَّ ضميرَ الصَّدرِ(2)
هتَكَ وحشيُّ حجابَ السترِ * ما لِلبغايا بَعدَها من فَخرِ(3)
فقال معاوية(4) لمروان وعمرو : وَيْلَكما أنتما عرّضتماني لها ، وأسمعتُماني ما أكره . ثمّ قال لها : يا عمّة ، اقصدي قصْد حاجتك ودَعي عنكِ أساطيرَ النساء ! قالت : تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار وألفي دينار ، قال : ما تصنعين بألفي دينار ؟ قالت : أشتري بها عيناً خَرخارة في أرض خوّارة تكون لولد الحارث بن المطّلب . قال : نِعمَ الموضعُ وضَعْتِها . قال : فما تصنعين بألفي دينار ؟ قالت : أزوِّج فِتيانَ عبد المطّلب من أكفائهم . قال : نِعمَ الموضع وضعتِها . قال : فما تصنعين بألفي دينار ؟ قالت : أستعين بها على عُسْر المدينة وزيارة بيت اللَّه الحرام . قال : نِعمَ الموضع وضعتِها ، هي لك نُعْمٌ وكرامة . ثمّ قال : أما واللَّهِ لو كان عليٌّ ما أمرَ لكِ بها ! قالت : صدقت ، إنّ عليّاً أدّى الأمانة وعمل بأمر اللَّه وأخذ به ، وأنت ضيّعت أمانتك ، وخنت اللَّه في ماله ، فأعطيتَ مالَ اللَّه مَن لا يستحقّه ، وقد فرض اللَّه في كتابه الحقوق لأهلها وبيّنها فلم تأخذ بها ، ودعانا - أي عليّ عليه السلام - إلى أخذ حقّنا الذي فرض اللَّه لنا ، فشُغل بحربِك عن وضع الأمور مواضعَها ، وما سألتُك من مالك شيئاً فتَمُنّ به ! إنّما سألتك من حقّنا ، ولا نرى أخذ شي ء غير حقّنا . أتذكر عليّاً فَضّ اللَّهُ فاكَ وأجهد بلاءك ! ثمّ علا بكاؤها ، وقالت :
ص: 282
ألا يا عَينُ وَيْحَكِ أسعِدينا * ألَا وابكي أميرَ المؤمنينا
رُزِينا خيرَ مَن رَكِبَ المَطايا * وفارِسَها ومَن ركبَ السَّفينا
ومَن لَبِسَ النِّعالَ أو احتذاها * ومَن قرأ المثانيَ والمئينا
إذا استقبلتَ وجهَ أبي حسينٍ * رأيتَ البدرَ راعَ الناظِرينا
ولا واللَّهِ لا أنسى عليّاً * وحُسنَ صلاتِه في الراكعينا
أفي الشهرِ الحرامِ فَجَعتُمونا * بخيرِ الناسِ طُرّاً أجمعينا ؟!
قال : فأمر لها بستّة آلاف دينار ، وقال لها : يا عمّة ، أنفقي هذه فيما تُحبّين ، فإذا احتجتِ فاكتُبي إلى ابن أخيك يُحسن صَفَدكِ(1) ومعونتك إن شاء اللَّه(2) .
عامر الشعبيّ قال : وَفَدت سَودَة بنت عِمارة بن الأشتر الهَمْدانيّة على معاوية بن أبي سفيان ، فاستأذنت عليه فأذِن لها ، فلمّا دخلت عليه سلّمت ، فقال لها : كيف أنتِ يا ابنةَ الأشتر ؟ قالت : بخير . قال لها : أنت القائلة لأخيك :
شَمِّرْ كفِعلِ أبيكَ يا ابنَ عِمارةٍ * يومَ الطِّعانِ ومُلتقَى الأقرانِ
وانصُر عليّاً والحسينَ ورَهطَهُ * واقصِدْ لهندٍ وابنِها بِهَوانِ
إنّ الإمامَ أخا النبيِّ محمّدٍ * عَلَمُ الهُدى ومَنارةُ الإيمانِ
فَقُدِ الجيوشَ وسِرْ أمامَ لوائهِ * قُدُماً بأبيضَ صارمٍ وسِنانِ
قالت : لقد مات الرأس ، وبُتِر الذَّنَب ، فدَعْ عنك تَذكارَ ما قد نُسِي .
قال : هيهات ، ليس مِثلُ مقام أخيك يُنسى ! قالت : صدقتَ واللَّه ، ما كان أخي
ص: 283
خفيَّ المقام ، ذليلَ المكان ، ولكن كما قالت الخنساء :
وإنّ صَخْراً لَتأْتَمُّ الهُداةُ بهِ * كأنّه علَمٌ في رأسِه نارُ
وباللَّهِ أسألك إعفائي ممّا استعفيتُه . قال : قد فعلتُ ، فقولي حاجتَك . قالت : إنّك أصبحتَ للناس سيّداً ، ولأمورهم مقلَّداً ، واللَّهُ سائِلك عمّا افترض عليك من حقّنا ، ولا تزال تُقْدِم(1) علينا مَن ينهض بعزّك ، ويَبسط سلطانَك ، فيحصدنا حصادَ السُّنبل ، ويدوسنا دِياس البقر ، ويسومنا الخَسيسة ، ويسألنا الجليلة ؛ هذا ابن أرطاة(2) قدِم بلادي ، وقتلَ رجالي ، وأخذ مالي ، ولولا الطاعة لكان فينا عِزّ ومَنَعة ، فإمّا عزلتَه فشكرناك ، وإمّا لا فعَرَفناك !
فقال معاوية : إيّاي تُهدِّدين بقومك ؟! واللَّه لقد هممتُ أن أردَّك اليه على قَتَب(3) أشرسَ فينفِّذ حكمَه فيك ! فسكتت ، ثمّ قالت :
صَلَّى الإلهُ على رُوحٍ تَضَمَّنَه * قبرٌ فأصبحَ فيه العَدلُ مدفونا
قد حالفَ الحقَّ لا يَبغي به ثمناً * فصارَ بالحقِّ والإيمان مَقرونا
قال : ومَن ذاك ؟! قالت : عليّ بن أبي طالب ، رحمه اللَّه تعالى . قال : ما أرى عليك منه أثراً ! قالت : بلى ، أتيتُه يوماً في رجل ولّاه صدقاتنا ، فكان بيننا وبينه ما بين الغَثّ(4) والسمين ، فوجدتُه قائماً يصلّي ، فانفتل من صلاته ثمّ قال برأفة وتعطّف : ألكِ
ص: 284
حاجة ؟ فأخبرتُه خبرَ الرجل ، فبكى ، ثمّ رفع يديه إلى السماء ، فقال : اللّهمّ إنّي لم آمُرهم بظلم خلقك ، ولا تَرْك حقّك . ثمّ أخرج من جيبه قطعةً من جراب فكتب فيه : « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ(1) وَلَا تَعْثَوْا فِى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(2) » إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتّى يأتي من يقبضه منك . والسلام .
فعزله ؛ ما خَزَمَه(3) بخِزام ، ولا خَتَمَه بخِتام .
فقال معاوية : اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها . فقالت : ألِي خاصّة أم لقومي عامّة ؟ قال : وما أنتِ وغيرك ؟ قالت : هي واللَّه إذاً الفحشاء واللؤم ، إن لم يكن عدلاً شاملاً ، وإلّا يَسَعني ما يَسَع قومي ! قال : هيهات ! لَمّظَكُم(4) ابن أبي طالب الجرأة على السلطان ، فبطيئاً ما تُفْطَمون ، وغرّكم قوله :
فلو كنتُ بوّاباً على باب جنّةٍ * لَقلتُ لِهَمْدانَ : ادخُلوا بسَلامِ(5)
اكتبوا لها بحاجتها(6) .
بلغ غانمة بنت غانم سبُّ معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم فقالت لأهل مكّة : أيّها الناس ، إنّ قريشاً لم تَلِد من رَقم ولا رُقم ، سادت وجادت ومُلِّكت فملكت ،
ص: 285
وفُضّلت ففضَلت ، واصطُفِيَت فاصطَفَت ، ليس فيها كدرُ عيب ولا أفْنُ(1) ريب ، ولا حشروا طاغين ولا حادوا نادمين ، ولا المغضوب عليهم ولا الضّالّين . إنّ بني هاشم أطوَلُ الناس باعاً وأمجَدُ الناس أصلاً وأحلمُ الناس حلماً ، وأكثرُ الناس عطاءً . منّا عبد مَناف الذي يقول فيه الشاعر :
كانت قُريشُ بيضةً فتفلّقتْ * فالمُخُّ خالِصُها لعبدِ مَنافِ
وولده هاشم الذي هشَمَ الثَّريدَ لقومِه ، وفيه يقول الشاعر :
هشَمَ الثّريدَ لقومِه وأجارَهُم * ورجالُ مكّةَ مُسْنِتُون عِجافُ
ثمّ منّا عبد المطّلب الذي سُقِينا به الغَيث ، وفيه يقول الشاعر :
ونحنُ سِنيَّ المَحلِ قامَ شفيعُنا * بمكّةَ يَدعو والمِياهُ تَغورُ
وابنه أبو طالب عظيم قريش ، وفيه يقول الشاعر :
آتيتُه مَلِكاً فقام بحاجتي * وترى العُلَيّجَ خائباً مذموما
ومنّا العبّاس بن عبد المطّلب ، أردَفه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله فأعطاه ماله ، وفيه يقول الشاعر :
رَدِيفُ رسولِ اللَّه لم أرَ مثلَهُ * ولا مِثلُهُ حتّى القيامةِ يُوجَدُ
ومنّا حمزة سيّد الشهداء ، وفيه يقول الشاعر :
أبا يَعلى لكَ الأركانُ هُدّتْ * وأنت الماجدُ البَرُّ الوَصُولُ
ومنّا جعفر ذو الجناحين أحسنُ الناس وأكملهم كمالاً ، ليس بغدّار ولا ختّار ، بدّله اللَّه جلّ وعزّ بكلّ يد له جناحاً يطير به في الجنّة ، وفيه يقول الشاعر :
هاتُوا كجعفرِنا الطيّار أو كعلِيِّنا * ألَيسا أعزَّ الناسِ عندَ الخلائقِ ؟!
ومنّا أبو الحسن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، أفرس بني هاشم وأكرم مَن احتفى وتنعّل
ص: 286
بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، ومن فضائله ما قَصُر عنكم أنباؤها ، وفيه يقول الشاعر :
وهذا عليٌّ سيّدُ الناسِ فاتّقوا * عليّاً بإسلامٍ تقدّمَ من قَبلُ
ومنّا الحسن بن عليّ رضى الله عنه سِبط رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وفيه يقول الشاعر :
ومَن يَكُ جدُّهُ حقّاً نبيّاً * فإنّ لَهُ الفضيلةَ في الأنامِ
ومنّا الحسين بن عليّ رضوان اللَّه عليه ، حمله جبريل عليه السلام على عاتقه وكفى بذلك فخراً ، وفيه يقول الشاعر :
نَفى عنه عيبَ الآدَميّينَ ربُّهُ * ومِن مجدِه مجدُ الحسينِ المُطهَّرِ
ثمّ قالت : يا معشر قريش ! واللَّهِ ما معاوية بأمير المؤمنين ولا هو كما يزعم ، هو واللَّه شانئ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، إنّي آتيةٌ معاوية وقائلة له بما يعرق منه جَبينُه ويكثر منه عَويلُه .
فكتب عامل معاوية إليه بذلك ، فلمّا بلغه أنّ غانمة قد قرُبتْ منه أمر بدارِ ضيافةٍ فنُظّفت وأُلقي فيها فرش ، فلمّا قربت من المدينة استقبلها يزيدُ في حَشَمه ومماليكه ، فلمّا دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم ، فقال لها يزيد : إنّ أبا عبد الرحمن يأمركِ أن تصيري إلى دار ضيافته ، وكانت لا تعرفه ، فقالت : مَن أنت كَلأكَ اللَّه ؟ قال : يزيد بن معاوية . قالت : فلا رعاك اللَّه يا ناقص ! لستَ بزائد ، فتمعّر لونُ يزيد(1) ، فأتى أباه فأخبره ، فقال : هي أسَنّ قريش وأعظمهم . فلمّا قال يزيد : كم تعدّ لها ؟ قال : كانت تعدّ على عهد رسول اللَّه أربعمائة عام وهي من بقيّة الكرام .
فلمّا كان من الغد أتاها معاوية فسلّم عليها ، فقالت : على المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان ! ثمّ قالت : مَن منكم ابنُ العاص ؟ قال عمرو : ها أنا ذا . فقالت :
ص: 287
وأنت تَسُبّ قريشاً وبني هاشم وأنت أهل السبّ وفيك السبّ واليك يعود السبّ يا عمرو ! إنّي واللَّه عارفة بعيوبك وعيوب أُمِّك ، وإنّي أذكر لك ذلك عيباً عيباً ؛ وُلِدتَ من أَمَةٍ سوداء مجنونة حمقاء تبول من قيام ويعلوها اللّئام ، إذا لامَسَها الفحْلُ كانت نُطفتُها أنفذَ من نطفته ، ركبها في يومٍ واحد أربعون رجلاً ! وأمّا أنت ، فقد رأيتُك غاوياً غيرَ راشد ومفسداً غيرَ صالح ، ولقد رأيتُ فَحْلَ زوجتك على فراشك فما غِرتَ ولا أنكرت !
وأمّا أنت يا معاوية فما كنتَ في خير ولا رُبّيت في خير، فما لَكَ ولبني هاشم ؟ أنساءُ بني أُميّة كنسائِهم أم أُعطي أُميّة ما أُعطي هاشم في الجاهليّة والإسلام ؟ وكفى برسول اللَّه صلى الله عليه وآله .
فقال معاوية : أيّتها الكبيرة أنا كافٌّ عن بني هاشم . قالت : فإنّي أكتب عليك عهداً ، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله دعا ربّه أن يستجيب لي خمس دعوات ، فأجعلُ تلك الدعوات كلّها فيك . فخاف معاوية وحلف لها أن لا يسبّ بني هاشم أبداً(1) .
عن الزُهريّ ، وسهل بن أبي سهل التميميّ ، عن أبيه قالا : لمّا قُتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعث معاوية في طلب شيعته ، فكان في مَن طلب عمرو بن الحَمِق الخزاعيّ(2) ، فراغ منه فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشَّريد ، فحبسها في سجن دمشق
ص: 288
سنتين . ثمّ إنّ عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو ابن الحمق في بعض الجزيرة فقتله وبعث برأسه إلى معاوية ، وهو أوّل رأس حُمل في الإسلام . فلمّا أتى معاويةَ الرسولُ بالرأس بعث به إلى آمنة في السجن ، وقال للحَرَسيّ : احفظ ما تكلّم به حتّى تؤدّيه إلَيّ ، واطرح الرأس في حجرها ! ففعل هذا ، فارتاعت له ساعةً ثمّ وضعت يدها على رأسها وقالت : واحزناً لِصَغَره(1) في دار هوان وضيق من ضيمة سلطان ! نفيْتُموه عنّي طويلاً وأهديتموه إليَّ قتيلاً ، فأهلاً وسهلاً بمَن كنت له غير قالية وأنا له اليوم غير ناسية ، ارجع به أيها الرسول إلى معاوية فقل له ولا تَطوِه دونه(2) : أيتَمَ اللَّهُ ولدَك ، وأوحَشَ منك أهلك ، ولا غَفَرَ لك ذنبك ! فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت ، فأرسل إليها فأتَتْه وعنده نفرٌ فيهم إياس بن حِسْل أخو مالك بن حِسْل ، وكان في شِدقَيْه(3) نتوء عن فيه لِعظمٍ كان في لسانه وثقل إذا تكلّم ، فقال لها معاوية : أأنتِ يا عدوّة اللَّه صاحبة الكلام الذي بلغني ؟! قالت : نعم غيرُ نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له ، فلَعَمري لقد اجتهدتُ في الدُّعاء إنْ نَفَعَ الاجتهاد ، وإنّ الحقّ لَمِن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك وإنّ اللَّه بالنقمة من ورائك . فأعرض عنها معاوية ، فقال إياس : اقتُلْ هذه يا أمير المؤمنين ، فواللَّهِ ما كان زوجها بأحقّ بالقتل منها ! فالتفتت إليه فلمّا رأته ناتئ الشِدقَين ثقيل اللسان قالت : تبّاً لك ، ويلك بين لحيتيك(4)
ص: 289
كجثمان الضِفدع ! ثمّ أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس « إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ »(1) فضحك معاوية ، ثمّ قال : للّه دَرُّك ! اخرُجي ثمّ لا أسمع بك من شي ء في أرض الشام .
قالت : وأبي لأخرجنّ ثمّ لا تسمع لي في شي ء من الشام ، فما الشام لي بحبيب ، ولا أعرج فيها على حميم وما هي لي بوطنٍ ولا أحنّ فيها إلى سَكَن ، ولقد عَظُم فيها ديتي وما قرّت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ولا حيث كنتُ بحامدة ، فأشار إليها ببنانه : اخرجي ، فخرجت وهي تقول : واعَجَبي لمعاوية ! يكفّ عنّي لسانه ويشير إلى الخروج ببنانه ؛ أما واللَّه لَيعارضنّه عمرو بكلامٍ مؤيّد سديد أوجع من نوافذ الحديد ، أو ما أنا بابنةِ الشريد ، فخرجت . وتلقّاها الأسْوَد الهلاليّ ، وكان رجلاً أسودَ أصلعَ أسلع أصْعَل(2) ، فسمعها وهي تقول ما تقول ، فقال : لِمَن تعني هذه ، ألأمير المؤمنين تعني ؟! عليها لعنة اللَّه . فالتفتت إليه ، فلمّا رأته قالت : خزياً لك وجَدْعاً(3) ، أتلعنني واللعنة بين جنْبَيْك وما بين قَرنيك إلى قدميك ، اخسَأْ يا هامة الصَّعل ووجه الجُعَل(4) فأذلل بك نصيراً وافلل بك ظهيراً(5) ؛ فبُهِت الأسلع ينظر إليها . ثمّ سأل عنها فأُخبر ، فأقبل إليها معتذراً خوفاً من لسانها ! فقالت : قد قبلتُ عذرك وإن تَعُد أعُد ثمّ لا أستقيل ولا أُراقب فيك .
فبلغ ذلك معاوية ، فقال : زعمتَ يا أسلع أنّك لا تواقَف(6) مَن يغلبك . أما علمتَ
ص: 290
أنّ حرارة المتبول(1) ليست بمخالسة(2) نوافذ(3) الكلام عند مواقف الخِصام ؟ أفلا تركت كلامها قبل البَصبَصة(4) منها والاعتذار إليها ؟ قال : إي واللَّه يا أمير المؤمنين ، لم أكن أرَ شيئاً من النساء يبلغ من مَعاضيل(5) الكلام ما بلغت هذه المرأة ؛ جالستها فإذا هي تحمل قلباً شديداً ولساناً حديداً وجواباً عتيداً(6) ، وهالتْني رُعباً وأوسَعَتْني سبّاً . ثمّ التفت إلى عبيد بن أوس فقال : ابعث لها ما تقطع به عنّا لسانها وتقضي به ما ذكرت من دَينها وتخفّ به إلى بلادها ، وقال : اللّهمّ اكفني شرَّ لسانها ! فلمّا أتاها الرسول بما أمر به معاوية قالت : يا عَجَبي لمعاوية ، يقتل زوجي ويبعث إليّ بالجوائز !
فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة ، فمرّت بحِمص فقتلها الطاعون ، فبلغ ذلك الأسلع فأقبل إلى معاوية كالمبشّر له ، فقال له : افرخ روعك يا أميرالمؤمنين ، فقد استُجيبت دعوتك في ابنة الشَّريد ، وقد كُفيتَ شرّ لسانها . قال : وكيف ذلك ؟ قال : مرّت بحِمْص فقتلها الطاعون ، فقال له معاوية : فنفسَك فبشّر بما أحببت ؛ فإنّ موتها لم يكن على أحد أرْوَح منه عليك . ولَعَمري ما انتصفتَ منها حين أفرغَتْ عليك شُؤبوباً وَبيلاً ، فقال الأسلع : ما أصابني من حرارة لسانها شي ء إلّا وقد أصابك مثله أو أشدّ منه(7) .
حجّ معاوية في سنة من سنِيهِ ، فسأل عن امرأة يقال لها : الدارميّة الحجونيّة ، كانت
ص: 291
امرأة سوداءَ كثيرةَ اللّحم ، فأُخبِر بسلامتها فبعث إليها فجي ء بها فقال لها : كيف حالك يا ابنة حام ؟! قالت : بخيرٍ ، ولستُ لحام إنّما أنا امرأة من قُريش من بني كِنانة(1) ثمّت من بني أبيك . قال : صدقتِ ، هل تعلمين لم بعثت إليك ؟ قالت : لا ، يا سبحانَ اللَّه ! وأنّى لي بعلم ما لم أعلم ؟ قال : بعثتُ أن أسألك : علامَ أحبَبتِ عليّاً وأبغضتِني ، وعلامَ والَيْتِه وعادَيْتِني ؟ قالت : أوَ تعفيني من ذلك ؟ قال : لا أعفيك ، ولذلك دعوتك .
قالت : فأمّا إذا أبيتَ ، فإنّي أحبَبتُ عليّاً عليه السلام على عدله في الرعيّة وقَسْمه بالسويّة ، وأبغضتُك على قتالك مَن هو أولى بالأمر منك وطلبك ما ليس لك . ووالَيتُ عليّاً على ما عقد له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من الولاية(2) وحبّه المساكين ، وإعظامه لأهل الدِين ، وعادَيتُك على سفكك الدماء وشقّك العصا ، وجورك في القضاء ، وحكمك بالهوى .
قال : صدقتِ ! فلذلك انتَفَخَ بَطنُك وكَبُر ثَديُك وعَظُمت عَجيزتُك ! قالت : يا هذا ؛ بهندٍ(3) واللَّه يُضرب المثل لا أنا .
قال معاوية : يا هذه ، لا تغضبي فإنّا لم نَقُلْ إلّا خيراً ! إنّه إذا انتفخ بطن المرأة تمّ خَلق ولدها ، وإذا كبُر ثديُها حَسُن غذاءُ ولدِها ، وإذا عَظُمتْ عجيزتُها رَزُن مجلسُها . فرجَّعَت(4) المرأة ، فقال لها : هل رأيتِ عليّاً ؟ قالت : إي واللَّه لقد رأيته ، قال : كيف رأيتِه ؟ قالت : لم ينفخه المُلك ولم تشغله النعمة التي شغلتك . قال : فهل سمعتِ كلامه ؟ قالت : نعم . قال : فكيف سمعتِه ؟ قالت : كان واللَّه كلامه يجلو القلوبَ من العمى كما يجلو الزيتُ صداءَ الطَّسْت . قال : صدقتِ ! هل لك من حاجة ؟ قالت : وتفعل إذا
ص: 292
سألت ؟ قال : نعم . قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها . قال : ماذا تصنعين بها ؟ قالت : أغذو بألبانها الصِّغارَ ، وأستحني بها الكبارَ ، واكتسب بها المكارم ، وأُصلح بها بين عشائر العرب . قال : فإن أنا أعطيتك هذا فهل أحُلُّ منك محلّ عليّ ؟ قالت : يا سبحان اللَّه ! أوَ دُونَه أوَ دُونَه(1) . فقال معاوية :
إذا لم أجُد بالحلم منكم عليكمُ * فمَن ذا الذي بَعدي يُؤمَّلُ بالحِلمِ(2) ؟!
خُذيها هنيئاً واذكُري فعلَ ماجدٍ * حَباكِ(3) على حربِ العداوةِ بالسِّلمِ
أما واللَّه لو كان عليّاً ما أعطاك شيئاً ! قالت : إي واللَّه ولا وَبَرةً واحدةً من مال المسلمين يعطني ، ثمّ أمر لها بما سألت(4) .
عن عِكرمة قال : دخلتْ عكرشةُ بنت الأطرش بن رَواحة على معاوية مُتوكِّئة على عُكّازٍ لها ، فسلّمت عليه بالخلافة ثمّ جلست ، فقال لها معاوية : الآن يا عكرشة صِرتُ عندك أميرَالمؤمنين ؟! قالت : نعم ، إذ لا عليٌّ حيٌّ ! قال : ألستِ(5) المقلّدة حمائل السيوف بصِفِّين ، وأنتِ واقفة بين الصفَّين تقولين : أيّها الناس ، عليكم أنفسَكم لا يَضُرّكم مَن ضَلّ إذا اهتديتم ، إنّ الجنّه لا يرحل عنها مَن أُوطِنَها(6) ، ولا يَهرم(7) مَن
ص: 293
سكنها، ولا يموت من دخلها ؛ فابتاعوها بدارٍ لا يدوم نعيمُها ، ولا تنصرم همومها ، وكونوا قوماً مستبصرين في دينهم ، مستظهرين بالصبر على طلب حقّهم . إنّ معاوية دَلَفَ(1) إليكم بعُجم(2) العرب غُلفِ القلوب(3) ، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة ! إيّاكم والتواكلَ ؛ فإنّ ذلك ينقضُ عُرَى الإسلام ، ويطفئ نور الحقّ . هذه بَدرٌ الصغرى(4)، والعقبة الأُخرى(5) . يا معشر المهاجرين والأنصار ، امضُوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم ، فكأنّي بكم غداً ولقد لَقِيتم أهل الشام كالحُمُرِ الناهقة تصقَع(6) صَقْعَ البقر ، وتَرُوث رَوْثَ العِتاق .
فكأنّي أراكِ على عصاكِ هذه وقد انكفأ عليكِ العسكران يقولون : هذه عكرشة بنت الأطرش بن رَواحة . فإن كدتِ لَتقتلين أهلَ الشام لولا قدَرُ اللَّه(7) ! وكان أمرُ اللَّه قَدَراً مَقدوراً ، فما حَمَلَك على ذلك ؟ قالت : قال اللَّه تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ »(8) ، وإنّ اللبيب إذا كره أمراً لا يُحبّ إعادته . قال : صدقتِ ، فاذكري حاجتك .
قالت : إنّه كانت صدقاتنا تُؤخذ من أغنيائنا فتُرَدّ على فقرائنا ، وإنّا قد فقدنا ذلك ؛
ص: 294
فما يُجْبَر لنا كسير ، ولا يُنْعَش لنا فقير ؛ فإن كان ذلك عن رأيك فمثلُك تنبّه من الغفلة وراجع التوبة ! وإن كان عن غير رأيك فما مثلك استعان بالخونة ولا استعمل الظَّلَمة(1) .
قال معاوية : يا هذه ، إنّه ينوبُنا من أمور رعيّتنا أمور تَنبَثِق ، وبحور تَنفَهِق .
قالت : يا سبحان اللَّه ! واللَّهِ ما فرض اللَّهُ لنا حقّاً فجعل فيه ضرراً على غيرنا ، وهو علّام الغيوب .
قال معاوية : يا أهل العراق ، نبّهكم عليُّ بن أبي طالب فلن تُطاقوا(2) ! ثمّ أمر بردِّ صدقاتهم فيهم وإنصافهم(3) .
عن الشعبيّ ، قال : كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أُمّ الخير بنت الحُريش(4) بن سُراقة(5) البارقيّة ، وأعلَمَه أنّه مُجازيه بالخير خيراً وبالشرّ شرّاً بقولِها فيه .
فلمّا ورد عليه كتابُه ركب إليها فأقرأها كتابَه ، فقالت : أمّا أنا فغيرُ زائغة عن طاعة ولا مُعتلّة بكذب ، ولقد كنتُ أُحبّ لقاءه لأُمورٍ تختلِج في صدري ! فلمّا شيّعها وأراد
ص: 295
مفارقتها قال لها : يا أُمّ الخير ، إنّ أمير المؤمنين كتب إليَّ أنّه مجازيني بالخير خيراً وبالشرّ شرّاً ، فما لي عندك ؟ قالت : يا هذا لا يُطمِعْنك بِرُّك بي أن أسُرّك بباطل ، ولا تُؤيِسْك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحقّ ! فسارت خيرَ مسير حتّى قدمت على معاوية ، فأنزلها مع الحَرم ، ثمّ أدخلها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه ، فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال : وعليكِ السلام يا أُمّ الخير، بحقٍّ ما دعوتِني بهذا الاسم ! قالت : مَه ، فإنّ بديهة السلطان مَدْحضَة لما يُحب علمه(1) ، ولكلِّ أجلٍ كتاب . قال : صدقتِ ! فكيف حالُك يا خالة ؟ وكيف كنتِ في مسيرك ؟ قالت : لم أزَل في خير وعافية حتّى صِرتُ إليك . قال معاوية : بحُسنِ نيّتي ظفِرتُ بكم . قالت : يُعيذك اللَّه من دَحْض المقال(2) وما تُرْدي عاقبتُه . قال : ليس هذا أرَدنا . أخبِرينا كيف كان كلامُك إذ قُتل عمّار بن ياسر ؟
قالت : لم أكن زَوّرتُه قبل ، ولا روّيته بعد(3) ؛ وإنّما كانت كلمات نَفَثها(4) لساني عند الصَّدمة ، فإن أحببتَ أن أُحدِث لك مقالاً غير ذلك فعلتُ . فالتفت معاوية إلى جلسائه فقال : أبِكُم مَن يحفظ كلامَها ؟ فقال رجل منهم : أنا أحفظ بعض كلامها . قال : هات .
قال : كأنّي بها وعليها بُرد زَبيديّ كثيف بيّن النسيج ، وهي على جمَل أرمَك(5) وقد أُحيط حولها، وبيدها سَوْط منتشر الضَّفيرة وهي كالفحل يهدر في شِقْشِقته(6) ، تقول :
ص: 296
يا أيّها الناسُ ، اتّقُوا ربَّكُم إنّ زَلْزَلةَ الساعةِ شي ءٌ عظيم(1) ، إنّ اللَّه قد أوضح لكم الحقّ ، وأبانَ الدليل وبيَّن السبيلَ ، ورفع العَلَم ، ولم يَدَعْكُم في عَماء مُدْلَهِمّة ؛ فأين تريدون رحمكم اللَّه ؟ أفِراراً عن أمير المؤمنين ، أو فِراراً من الزحف ، أم رغبة عن الإسلام ، أم ارتداداً عن الحقّ(2) ؟ أمَا سمعتم اللَّه جلّ ثناؤه يقول : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى
ص: 297
نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ »(1) . ثمّ رفعت رأسها إلى السماء
ص: 298
وهي تقول : اللّهمّ قد عِيلَ الصبر ، وضَعُفَ اليقين ، وانتشرت الرعبة(1) ، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب ، فاجمع اللّهمّ بها الكلمة على التقوى ، وألِّف القلوب على الهدى ، واردد الحقّ إلى أهله . هَلُمُّوا رحمكم اللَّه إلى الإمام العادل والرضيّ التقيّ ، والصِّدّيق الأكبر ؛ إنّها اِحَنٌ بَدْريّة ، وأحقادٌ جاهليّة ، وضغائن أُحُديّة وَثَبَ بها واثِب(2) حين الغفلة ، ليدرك ثارات بني عبد شَمْس(3) .
ثمّ قالت : « فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ »(4) . صبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، قاتِلوا على بصيرة من ربّكم ، وثبات من دينكم ؛ فكأنّي بكم غداً وقد لقيتم أهلَ الشام كحُمُرٍ مُستَنفِرة ، فَرَّت من قَسْوَرة(5) ، لا تدري أين يُسلك بها من فِجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا البصيرة بالعمى وعمّا قليل ليُصْبِحُنّ نادمين ، حتّى تَحُلّ بهم الندامة ، فيطلبون الإقالة ولاتَ حينَ مَناص . إنّه مَن ضلّ واللَّهِ عن الحقّ وقع في الباطل ، ومَن لم يسكن الجنّة نزل النار . ألا إنّ أولياء اللَّه استصغروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستطابوا الآخرة فسَعَوا لها ، فاللَّهَ اللَّهَ أيّها الناس قبل أن تبطلَ الحقوق وتُعطَّل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان ؛ فإلى أين تريدون رحمكم اللَّه عن ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وصِهره وأبي سِبْطيه(6) ؟! خُلِق من طينته ، وتفرّع من نَبعَته(7) ،
ص: 299
وخصّه بسرّه وجعله باب مدينته(1) ، وأعلمَ بحبّه المسلمين ، وأبانَ ببُغضه
ص: 300
المنافقين(1) . ها هو مُفلِّق الهام ، ومُكسّر الأصنام ، صلّى والناس
ص: 301
مشركون(1) ، وأطاع والناس كارهون ، فلم يزل في ذلك حتّى قتل مُبارزي بدر ، وأفنى
ص: 302
أهل أُحد ، وهزم الأحزاب ، وقتل اللَّهُ به أهلَ خيبر ، وفرّق به جمع هَوازن ؛ فيالها من وقائع زرعتْ في قلوب قوم نفاقاً ورِدّة وشقاقاً ، وزادت المؤمنين إيماناً ، وقد اجتهدتُ في القول وبالغتُ في النصيحة ، وباللَّه التوفيق ، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته .
فقال معاوية : يا أُمّ الخير ، ما أردتِ بهذا الكلام إلّا قتلي ولو قتلتُك ما حَرِجتُ في ذلك ! قالت : واللَّه ما يسوؤني أن يجري قتلي على يدَي مَن يُسعِدني اللَّه بشقائه !
فلمّا رأى معاوية أنّه أُحرج لاطَفَ المرأة ووصَلَها وردّها(1) .
عن سعيد بن حُذافة ، قال : حَبَس مروان بن الحكم غلاماً من بني ليث في جناية جناها بالمدينة ، فأتته جدّة الغلام أُمّ أبيه وهي أُمّ سِنان بنت خَيثمة بن خرشة المَذحِجيّة ، فكلّمته في الغلام فأغلظ لها مروان ، فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسبت له ، فقال : مرحباً بك يا بنت خيثمة ، ما أقدَمَكِ أرضي وقد عهدتُكِ تشنئين
ص: 303
قُربي وتَحُضّين عليَّ عدويّ ؟! قالت : يا أمير المؤمنين ، إنّ لبني عبد مَناف أخلاقاً طاهرة وأعلاماً ظاهرة ، لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا يتعقّبون بعد عفو ، فأولى الناس باتّباع سنن آبائه لَأنتَ . قال : صدقتِ نحن كذلك ، فكيف قولك :
عَزبَ الرُّقادُ فمُقْلتي ما تَرقُدُ * والليلُ يُصدِرُ بالهمومِ ويُورِدُ
يا آلَ مَذحِجَ لا مُقامَ ، فشمِّروا * إنّ العدوّ لآلِ أحمدَ يُقصِدُ
هذا عليٌّ كالهلالِ يَحفُّهُ * وسطَ السماءِ في الكواكب أسعُدُ
خيرُ الخلائقِ وابنُ عمّ محمّدٍ * وكفى بِذاكَ لمَن شَناهُ تَهدُّدُ
ما زالَ مُذ عرفَ الحروبَ مُظفَّراً * والنصرُ فوقَ لوائه ما يُفقَدُ
قالت : كان ذلك يا أمير المؤمنين ، وإنّا لَنطمع بك خلَفاً ، فقال رجل من جلسائه : كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة أيضاً :
أما هلكتَ أبا الحسينِ فلَمْ تزلْ * بالحقِّ تُعرَفُ هادياً مَهديّا
فاذهَبْ عليكَ صلاةُ ربِّكَ ما دَعَتْ * فوقَ الغُصونِ حمامةٌ قُمرِيّا
قد كنتَ بعدَ محمّدٍ خَلَفاً لنا * أوصى إليكَ بنا فكنتَ وفيّا
فاليومَ لا خَلفٌ نؤمِّلُ بعدَهُ * هَيهاتَ نمدحُ بعدَهُ إنسيّا
قالت : يا أمير المؤمنين ، لسانٌ نَطَق وقولُ صَدَق ، ولئن تحقّق فيك ما ظننّا فحظّك أوفر . واللَّهِ ما أورثك الشناءة في قلوب المسلمين إلّا هؤلاء ، فأدْحِضْ(1) مقالتهم وأبعِدْ منزلتهم ؛ فإنّك إنْ فعلتَ ازددتَ بذلك من اللَّه تبارك وتعالى قرباً ومن المؤمنين حبّاً . قال : وإنّك لَتقولين ذلك !
قالت : يا سبحان اللَّه ، واللَّهِ ما مثلُك مَن مُدِح بباطل ولا اعتُذِر إليك بكذب ، وإنّك لَتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا . كان واللَّهِ عليّ عليه السلام أحبَّ إلينا من غيره إذ كنتَ
ص: 304
باقياً . قال : ممّن ؟ قالت : من مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص .
قال : وبِمَ استَحقَقتُ ذلك عليهم ؟ قالت : بحُسن حلمك وكريم عفوك .
قال : وإنّهما لَيطمعان فيّ ؟ قالت : هما واللَّهِ من الرأي على مثل ما كنتَ عليه لعثمان رحمه اللَّه . قال : واللَّهِ لقد قاربتِ ، فما حاجتك ؟
قالت : إنّ مروان بن الحكم تبَنَّكَ(1) بالمدينة تَبنُّكَ مَن لا يريد البَراح منها ، لا يحكم بعدل ولا يقضي بسُنّة ، يتتبّع عثرات المسلمين ويكشف عورات المؤمنين ، حبس ابنَ بُنَيّي فأتَيتُه ، فقال : كيت وكيت ، فألقَمتُه أخشَنَ من الحجر وألعقتُه أمرَّ من الصبر ، ثمّ رجعتُ إلى نفسي باللائمة ، فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون من أمري ناظراً وعليه مُعْدِياً .
قال : صدقتِ ، لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجّته ، اكتبوا لها بإخراجه . قالت : يا أمير المؤمنين ، وأنّى لي بالرجعة وقد نفد زادي وكَلَّت راحلتي ؟! فأمر لها براحلة مُوطّأة وخمسة آلاف درهم(2) .
عن حذافة الجُمَحيّ ، قال : دخَلَت بكارةُ الهلاليّة على معاوية بن أبي سفيان بعد أن كَبِرت سنّها ودَقّ عظمها ، ومعها خادمان لها ، وهي متّكئة عليهما وبيدها عُكّاز ، فسلّمت على معاوية بالخلافة فأحسن عليها الردّ وأذن لها في الجلوس .
وكان عنده مروان بن الحكم وعمرو بن العاص ، فابتدأ مروان فقال : أما تعرف هذه يا أمير المؤمنين ؟ قال : ومَن هي ؟ قال : هي التي كانت تُعِين علينا يومَ صِفّين ، وهي القائلة :
ص: 305
يا زيدُ دونَكَ فاستَثِرْ مِن دارِنا * سيفاً حُساماً في الترابِ دَفيناً
قد كانَ مَذخوراً لكلِّ عظيمةٍ * فاليومَ أبرَزَهُ الزمانُ مصُونا(1)
فقال عمرو بن العاص(2) : وهي القائلة يا أمير المؤمنين :
أتُرى ابنَ هندٍ للخلافةِ مالكاً * هَيهاتَ ذاك ، وما أرادَ بعيدُ
مَنَّتكَ نفسُكَ في الخلاءِ ضَلالةً * أغراكَ عمرٌو للشَّقا وسعيدُ
فارجِعْ بأنكدَ طائرٍ بنُحوسِها * لاقَت عليّاً أسعُدٌ وسُعودُ
فقال سعيد : يا أمير المؤمنين وهي القائلة :
قد كنتُ آملُ أن أموتَ ولا أرى * فوقَ المنابرِ من أُميّةَ خاطبا
فاللَّهُ أخَّرَ مُدّتي فتطاوَلَتْ * حتّى رأيتُ من الزمانِ عجائبا
في كلِّ يومٍ لا يزالُ خطيبُهم * وسطَ الجموع لآلِ أحمدَ عائبا
ثمّ سكت القوم ، فقالت بكارة : نَبَحتني كلابُك يا أمير المؤمنين واعتورتني ، فقَصُر محجني وكَثُر عجبي وعَشِي بصري ، وأنا واللَّهِ قائلة ما قالوا لا أدفع ذلك بتكذيب ، فامض لشأنك فلا خير في العيش بعد أمير المؤمين . فقال معاوية : إنّه لا يضعك شي ء ، فاذكري حاجتك تُقضى ، فقضى حوائجها وردّها إلى بلدها .
وعن الشعبيّ ، قال : استأذنت بكارة الهلاليّة على معاوية فأذن لها فدخلت ، وكانت امرأة قد أسنّت وعَشِي بصرها وضعفت قوّتها فهي ترعش بين خادمين لها ، فسلّمت ثمّ جلست ، فقال معاوية : كيف أنت يا خالة ؟
قالت : بخير يا أمير المؤمنين . قال : غيّرك الدهر . قالت : كذلك هو ذو غِيَر ، مَن عاشر كَبِر ، ومَن مات قُبِر . ثمّ ذكر الحديث على ما رواه سعد بن حذافة(3) .
ص: 306
عن الزهريّ ، قال : حدّثني جماعة من بني أُميّة ممّن كان يَسمُر مع معاوية ، وعن سعد بن حُذافة الجُمَحيّ ، قال : سَمَر معاويةُ ليلةً ، فذكر الزرقاء بنت عديّ بن غالب ابن قيس امرأةً كانت من أهل الكوفة وكانت ممّن تُعين عليّاً عليه السلام يوم صفّين ، فقال لأصحابه : أيّكم يحفظ كلام الزرقاء ؟ فقال القوم : كلّنا نحفظه يا أمير المؤمنين . قال : فما تشيرون علَيّ فيها ؟ قالوا : نشير عليك بقتلها . قال : بئس ما أشرتم عليّ به ، أيحسن بمثلي أن يتحدّث الناس أنّي قتلتُ امرأةً بعد ما ملكتُ وصار الأمر لي ؟! ثمّ دعا كاتبه في الليل ، فكتب إلى عامله في الكوفة أن أوفد إلى الزرقاء ابنة عديّ مع ثقة من محرمها وعدّة من فرسان قومها ، ومهّدها وطاء ليّناً واستُرها بسترٍ حَصيف(1) . فلمّا ورد عليه الكتاب ركب إليها فأقرأها الكتاب ، فقالت : أمّا أنا فغير زائغة عن طاعة ، وإن كان أمير المؤمنين جعل المشيئة إلَيّ لم أرم من بلدي هذا ، وإن كان حكم الأمر فالطاعة له أولى بي ؛ فحملها في هودج وجعل غشاءه حبراً مُبطّناً بعصب اليمن ، ثمّ أحسن صحبتها .
فلمّا قَدِمت على معاوية قال لها : مرحباً وأهلاً خير مقدم قَدِمه وافد ، كيف حالك يا خالة ؟ وكيف رأيت مسيرك ؟ قالت : خيرَ مسير ، كأنّي كنتُ ربيبةَ بيت أو طفلاً مُمَهّداً ! قال : بذلك أمَرتُهم ، فهل تعلمين لِمَ بعثتُ إليك ؟ قالت : سبحان اللَّه ! أنّى لي بعلم ما لم أعلم ، وهل يعلم ما في القلوب إلّا اللَّه تعالى !
قال : بعثت إليكِ أن أسألك : ألستِ راكبةَ الجمل الأحمر يوم صِفّين بين الصَّفين تُوقدين الحرب وتحضّين على القتال ، فما حَملكِ على ذلك ؟
ص: 307
قالت : يا أمير المؤمنين ، إنّه قد مات الرأس وبُتِر الذَّنَب(1) ، والدهر ذو غِيَر ، ومَن تفكّر أبصَر والأمر يحدث بعده الأمر . قال لها : صدقتِ ، فهل تحفظين كلامك يومَ صِفّين ؟ قالت : ما أحفظه . قال : ولكنّي واللَّهِ أحفظه . للّهِ أبوكِ ! لقد سمعتُكِ تقولين : أيّها الناس ، إنّكم في فتنة غشتكم جلابيب الظُّلَم وجارت بكم عن قصد المحجّة(2) ، فيالها من فتنة عمياء صمّاء يُسمع لقائلها ولا ينظار لسائقها . أيّها الناس ، إنّ المصباح لا يضي ء في الشمس ، وإنّ الكوكب لا يقد في القمر ، وإنّ البغل لا يسبق الفرس ، وإنّ الزَّفَّ(3) لا يوازن الحجر ، ولا يقطع الحديدَ إلّا الحديد ، ألَا مَن استرشَدَنا أرشَدْناه ، ومن استَخبَرَنا أخبرَناه . إنّ الحقّ كان يطلب ضالّته فأصابها ، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار فكأنْ قد اندملَ(4) شَعْب الشتات والتأمَت كلمة العدل وغَلب الحقّ باطله ، فلا يَعجَلَنّ أحد فيقول : كيف وأنّى ، ليقضيَ اللَّه أمراً كان مفعولاً . ألا إنّ خضاب النساء الحِنّاء وخضاب الرجال الدماء . والصبرُ خيرٌ في الأمور عواقباً . إيهاً(5) إلى الحرب قُدُماً غير ناكصين(6) ، فهذا يوم له ما بعده . ثمّ قال معاوية : واللَّهِ يا زرقاء ، لقد شركتِ عليّاً في كلّ دمٍ سفكه ! فقالت : أحسن اللَّه بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتَك ، مثلك مَن بشّر بخيرٍ وسرّ جليسَه . قال لها : وقد سَرَّكِ ذلك ؟ قالت : نعم واللَّهِ لقد سرّني قولُك فأنّى بتصديق الفعل ! فقال معاوية : واللَّهِ لَوفاؤكم له بعد موته أحبّ إلَيّ من حبّكم له في حياته ، أُذكري حاجتك . قالت : يا أمير المؤمنين ، إنّي قد آليتُ على نفسي أن لا أسأل أميراً أعَنتُ عليه شيئاً أبداً ، ومثلُك أعطى عن غير مسألة وجاد عن غير طلب . قال : صدقتِ ، فأقطعها ضَيعةً أغلّتها في أوّل سنة
ص: 308
عشرة آلاف درهم وأحسن صفدها ، وردّها والذين معها مكرمين(1) .
أذن معاوية للناس إذناً عامّاً فدخلوا عليه لمظالمهم وحوائجهم ، فدخلت امرأة كأنّها قَلعة ومعها جاريتان لها ، فحَدَرت اللِّثام(2) ثمّ قالت : الحمد للّه - يا معاوية - الذي خلق اللِّسان فجعل فيه البيان ، ودلّ به على النعم وأجرى به القلم فيما أبرم وحتم ، ودرأ وبرأ وحكم وقضى ، صرف الكلام باللغات المختلفة على المعاني المتفرّقة ، ألّفها بالتقديم والتأخير والأشباه والمناكر والموافقة والتزايد ، فأدّته الآذان إلى القلوب ، وأدّته القلوب إلى الألسن . بالبيان استُدلّ به على العلم ، وعُبد بهِ الربّ ، وأُبرِم به الأمر ، وعُرفت به الأقدار ، وتمّت به النّعم ؛ فكان من قضاء اللَّه وقدره : أن قرّبتَ زياداً وجعلتَ له بين آل أبي سفيان نسباً ، ثمّ وَلّيتَه أحكام العباد ، يسفك الدماء بغير حِلّها ولا حقّها ، ويهتك الحُرَم بلا مراقبة اللَّه فيها ؛ خَؤون غَشوم(3) كافر ظَلوم يتحيّر(4) من المعاصي أعظَمَها ، لا يرى للّه وَقاراً ولا يظنّ أنّ له معاداً ، وغداً يُعرض عمله في صحيفتك وتُوقَف على ما اجترم بين يدَي ربِّك ، ولك برسول اللَّه صلى الله عليه وآله أُسوة ، وبينك وبينه صِهْر(5) ؛ فلا الماضين من أئمّة الهدى اتَّبَعتَ ولا طريقتَهم سَلَكت ! جعلتَ عبدَ ثقيف على رقاب أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله يُدبّر أُمورهم ويسفك دماءَهم ، فماذا تقول لربِّك يا معاوية وقد مضى من أجَلِك أكثرُه وذهبَ خيرُه وبقي وِزرُه ؟! إنّي امرأة من بني ذَكوان(6) ، وثب زياد المُدعى إلى أبي سفيان على ضَيعَتي وَرِثتُها عن أبي وأُمّي ،
ص: 309
غَصَبَنيها وحال بيني وبينها وقَتَل مَن نازعه فيها من رجالي فأتيتُك مستصرخةً ؛ فإن أنصَفتَ وعَدَلت وإلّا وكَلْتُك وزيادَ إلى اللَّه عزّ وجلّ ، فلن تبطل ظُلامتي عندك ولا عنده ، والمُنصِف لي منكما حَكَمٌ عدلٌ .
فبُهت معاوية ينظر إليها متعجّباً من كلامها . ثمّ قال : ما لِزياد ؟! لعن اللَّه زياداً ! فإنّه لا يزال يبعث على مثالبه مَن ينشرها وعلى مساويه مَن يُثيرها . ثمّ أمر كاتبه بالكتاب إلى زياد يأمره بالخروج إليها من حقّها وإلّا صرفه مذموماً مدحوراً ، ثمّ أمر لها بعشرين ألف درهم وعجب معاوية وجميع مَن حضره من مقالتها وبلوغها حاجتَها(1).
احتَجَم معاوية بمكّة ، فلمّا أمسى أرِق أرَقاً شديداً ، فأرسل إلى جروة ابنة غالب التميميّة ، وكانت مجاورة بمكّة وهي من بني أسيد بن عمرو بن تميم ؛ فلمّا دخلت قال لها : مرحباً يا جروة ، أرَعْناكِ ! قالت : إي واللَّهِ يا أمير المؤمنين ، لقد طُرِقت في ساعة لا يُطرَق فيها الطير في وكره فأرَعتَ قلبي ورِيع صِبياني وأفزَعتَ عشيرتي وتركت بعضهم يموج في بعض ، يراجعون القول ويُديرون الكلام خشيةً منك وشفقةً علَيّ . فقال لها : لِيَسكُنْ روعك ولتَطِب نفسُك فإنّ الأمر على خلاف ما ظننتِ ؛ أنّي احتَجَمتُ فأعقَبَني ذلك أرَقاً ، فأرسلتُ إليكِ تخبريني عن قومك . قالت : عن أيّ قومي تسألني ؟ قال : عن بني تميم .
قالت : يا أمير المؤمنين ، هم أكثر الناس عدداً وأوسعه بلداً وأبعده أمداً ، هم الذهب الأحمر والحسب الأفخر . قال : صدقتِ ، فنزّليهم لي ، قالت : يا أمير المؤمنين ، أما بنو عمرو بن تميم فأصحاب بأس ونجدة وتحاشد وشدّة ، لا يتخاذلون عند اللقاء
ص: 310
ولا يطمع فيهم الأعداء ، سِلمهم فيهم وسيفهم على عدوّهم . قال : صدقتِ ونِعمَ القوم لأنفسهم .
قالت : وأمّا بنو سعد بن زيد مَناة ففي العدد الأكثَرون وفي النسب الأطيَبون ، يضرّون إن غَضِبوا ويُدرِكون إن طَلَبوا . أصحاب سيوف وجُحَف(1) ونزال وزُلَف ، على أنّ بأسهم فيهم وسيفهم عليهم . وأمّا حنظلة فالبيت الرفيع والحسَب البديع والعزّ المنيع المُكرِمون للجار والطالبون بالثار والناقضون للأوتار . قال : حنظلة شجرة تفرع .
قالت : صدقتَ ، وأمّا البراجم فأصابعُ مجتمعة وكفّ ممتنعة . وأمّا طهية فقومٌ هُوج(2) وقَرن لَجوج . وأمّا بنو ربيعة فصخرة صمّاء وحيّة رقشاء(3) ، يغزون غيرهم ويفخرون بقومهم . وأمّا بنو يربوع ففرسان الرماح وأُسود الصباح ، يعتنقون الأقران ويقتلون الفرسان . وأمّا بنو مالك فجمعٌ غير مفلول وعزّ غير مجهول ، ليوثٌ هرّارة(4) وخيول كرّارة . وأمّا بنو دارم فكرمٌ لا يُدانى ، وشرف لا يُسامى ، وعزّ لا يُوازى .
قال : أنتِ أعلم الناس بتميم ، فكيف علمك بقيس ؟ قالت : كعلمي بنفسي . قال : فخبّريني عنهم . قالت : أمّا غَطَفان فأكثَرُ سادة ، وأمنَع قادة . وأمّا فَزارة فبيتُها المشهور ، وحسبها المذكور . وأمّا ذُبْيان فخطباءٌ شعراء ، أعزّة أقوياء . وأمّا عَبْس فجمرة لا تطفأ ، وعقبة لا تُعلى وحيّة لا ترقى . وأمّا هَوازِن فحلمٌ ظاهر ، وعزّ قاهر . وأمّا سليم ففرسانُ الملاحم ، وأسودٌ ضَراغم . وأمّا نُمَير فشوكة مسمومة ، وهامة مذمومة ، وراية ملمومة . وأمّا هلال فاسمٌ فخم ، وعزّ قوم . وأمّا بنو كِلاب فعدد كثير ، وفخر أثير .
ص: 311
قال : للّه أنتِ ، فما قولك في قريش ؟ قالت : يا أمير المؤمنين ، هم ذروة السنام ، وسادة الأنام ، والحَسَب القَمقام . قال : فما قولك في عليّ ؟ قالت : جاز واللَّهِ الشرف حدّاً لا يُوصَف وغاية لا تُعرَف ، وباللَّهِ أسأل أمير المؤمنين أعفاني ممّا أتخوّف . قال : قد فعلتُ . وأمر لها بضَيعة نفيسة غلّتها عشرة آلاف درهم(1) .
عن جَعْدة بن هُبيرة المخزوميّ ، قال : استأذنَتْ أُمّ البَراء بنت صَفوان بن هلال على معاوية فأذِن لها ، فدخلتْ في ثلاثة دروع تسحبها قد كارت على رأسها كوراً كهيئة المنسف ، فسلّمت ثمّ جلست ، فقال : كيف أنت يا بنت صفوان ؟ قالت : بخير يا أمير المؤمنين . قال : فكيف حالك ؟ قالت : ضعفتُ بعد جَلَد ، وكسلتُ بعد نشاط . قال : سيّان بينك اليوم وحين تقولين :
يا عَمرو دونَكَ صارماً ذا رونقٍ * عَضْبَ المِهزّةِ ليس بالخَوّارِ
أسرِجْ جوادَكَ مُسرِعاً ومُشمّراً * للحرب غيرَ مُعرِّدٍ لِفرارِ
أجِبِ الإمامَ ودُبَّ تحتَ لوائهِ * وافْرِ العدوَّ بصارمٍ بتّارِ
يا ليتني أصبحتُ ليس بعَورةٍ * فأذُبَّ عنه عساكرَ الفُجّارِ
قالت: قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ، ومثلك عفا ، واللَّه تعالى يقول : « عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ »(2) . قال : هَيهات ! أما إنّه لو عاد لَعُدتِ ، ولكنّه اختُرِم دونَكِ ، فكيف قولُك حين قُتل ؟ قالت : نَسِيتُه ، فقال بعضُ جلسائه : هو واللَّه :
يا لَلرجال لِعِظمِ هَولِ مُصيبةٍ * فَدَحَت ، فليس مُصابُها بالهازِلِ
الشمسُ كاسفةٌ لفقدِ إمامِنا * خيرِ الخلائقِ والإمامِ العادلِ
ص: 312
يا خيرَ مَن ركبَ المَطيَّ ومَن مشى * فوق الترابِ لِمُحتَفٍ أو ناعلِ
حاشا النبيَّ لقد هَدَدتَ قُواءنا * فالحقُّ أصبحَ خاضِعاً للباطلِ
فقال معاوية : قاتَلكِ اللَّهُ يا بنتَ صَفوان ! ما تركتِ لِقائلٍ مقالاً ، اذكُري حاجتك . قالت : هيهات ! بعد هذا واللَّهِ لا سألتك شيئاً . ثمّ قامت فعثرت ، فقالت : تَعِس شانئُ عليّ ، فقال : يا بنت صفوان ، زعمتِ ألّا تعودي ! قالت : هو ما عَلِمت ، فلمّا كان من الغد بعث إليها بكسوة فاخرة ودراهم كثيرة(1) .
قال الفضل بن نَوفَل بن الحارث بن عبد المطّلب لرقيّة بنت مُعتّب بن عُتبة بن أبي لَهَب : الَتمِسي لي امرأة إن قامت أضعَفَتْ(2) ، وإن مَشَت رَفْرَفَتْ(3) ، تَرُوع(4) مِن بعيد وتفتن مِن قريب ، تَسُرّ مَن عاشَرَتْ ، وتُكرِم من جاوَرَتْ ، وتَبُذّ(5) مَن فاخرت ، وَدُوداً وَلُوداً قَعُوداً(6) لا تعرف إلّا أهلها ، ولا تهوى إلّا بَعْلَها . قالت : يا ابنَ عمّ ، أخطب هذه إلى ربّك في الجنّة بالعمل الصالح ؛ فأمّا الدنيا فما أحسبك تجدها فيها ، ولو كانت لَسُبِقتَ إليها(7) .
قال أبو عدنان : أنشَدَت عجوز من أعراب بني كلاب يقال لها أُمّ معروف بيتاً
ص: 313
أنشَدَنيه إسماعيل ابن الحكم عن أخيه عَوَانة بن الحكم(1) ، أنّ عبد الملك بن مروان مرّ بقبرٍ عليه عوسجة(2) قد نَبَتت منه ، فقال : ما هذا ؟ فقيل : قبر معاوية بن أبي سفيان ، فقال متمثّلاً :
هل الدهرُ والأيّامُ إلّا كما أرى * رَزيّةَ مالٍ أو فراقَ حبيبِ
وإن امرأً قد جَرّب الدهرَ لم يَخَفْ * تَقَلُّبَ عَصرَيهِ لَغيرُ لبيبِ
فلا تَيأسَنّ الدهرَ مِن ودِّ كاشحٍ(3) * ولا تأمَننَّ الدهرَ صرمَ حبيبِ
قال : فعارضتني فأنشدتني :
إذا جاء ما لا بدّ منه فمرحباً * به غير إثمٍ أو فراق حبيبِ
فقلت لها : من يقول هذا ؟ قالت : وما يدريني ما يجي ء به الشعراء ، إلّا أنّها رواية أرويها إذا سمعتها . قلت : فأنا أُخبرك من قال ما أنشَدتُك . قالت : أنت أروى منّي وأكرم وأشدّ تتبّعاً للأخبار والأشعار ، ولولا ذاك لم تكن معلّم هذه الأناشيد ولا هذه الأماثيل والأعاليب(4) ! فأيّ شي ء يكلّفك هذا وليس فيه إلّا العناء فقط ، ولا يُعنّيك(5) اللَّه ولا يُتعبك ؟ قلت : أنا متهوم بما تَرَين ، فقالت : لو كنت تصلّي الفتر وتصوم العشر كان أقرب لذات اللَّه عزّ وجلّ ، فاجعل مكان هذه الروايات ، الصلوات الطيّبات الزاكيات الطاهرات وقرآناً وذكراً لربّك ومسألة له خيراً من الدنيا مراراً ؛ فإنّها متاع تَعِلّة(6) ودار غرور .
ص: 314
قال أبو عدنان : فسألتها عن الفتر ، فقالت : أن يصلّي الإنسان العتمة ويتفتّر ساعة ، ثمّ يقوم فيصلّي(1) .
لَقِي سفيانُ الثوريّ رابعة ، وكانت رَزيّة الحال ، فقال لها : يا أُمّ عمرو ، أرى حالاً رثّةً فلو أتيتِ جارَك فلاناً لغيّر بعض ما أرى ، فقالت له : يا سفيان ، وما ترى من سوء حالي ؟ ألستُ على الإسلام ؟ فهو العزّ الذي لا ذلّ معه والغِنى الذي لا فقر معه والأنس الذي لا وحشة معه ، واللَّه إنّي لأستحيي أن أسأل الدنيا مَن يملكها ، فكيف أسألها مَن لا يملكها ؟! فقام سفيان وهو يقول : ما سمعتُ مثلَ هذا الكلام(2) .
فقالت : لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجّاج ! استشارهم في قتل موسى فقالوا : أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ، وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي ، فضحك الحجّاج وأمر بإطلاقها(1) .
قال الكلبيّ : أُخبر المغيرة حين دخل الكوفة بمكان هند بنت النعمان ، فصار إلى دَيْرها فقال لها : جئتك خاطباً .
قالت : لمَن ؟ قال : لكِ يا هند . قالت : ومَن الرجل ؟
قال : المغيرة بن شعبة صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وصاحب أميرالمؤمنين عمر بن الخطّاب . فأطرقت مَليّاً ، ثمّ رفعت رأسها فقالت : وجْهَ عروسٍ ترى ؟! واللَّهِ مالي مالٌ ترغب له فيّ ، ولا جَمال تقصد فيه إليَّ ، وما لك من حظّ إلّا أن تقول في مجالس العرب : عندي هند بنت النعمان بن المنذر ! والصليبِ لا يَجمع رأسي ورأسَك سقفٌ أبداً ، فأنشأ يقول :
ما نِلتُ ما مَنّيتُ نفسيَ خالياً * للّهِ دَرُّكِ يا ابنَةَ النعمانِ
إنّي لِحلفِكِ بالصَّليبِ مُصدِّقٌ * والصُّلْبُ أفضَلُ حلفةِ الرُّهبانِ
ولقد رَدَدتِ على المغيرةِ ذهنَهُ * إنّ الملوكَ ذكيّهُ الأذهانِ
يا هندُ إنّك قد صدَقتِ فأمسِكي * والصدقُ خيرُ مقالةِ الإنسانِ(2)
وذكره أبو الفرج على النحو التالي :
عن الشعبيّ ، قال : ركب المغيرة بن شعبة إلى هند بنت النعمان بن المنذر ، وهي بِدَيرِ هند مُتنصِّرة عمياء بنت تسعين سنة . فقالت له : مَن أنت ؟ قال : أنا المغيرة بن شعبة .
ص: 316
قالت : أنت عامل هذه المَدَرة ؟ تعني الكوفة . قال : نعم . قالت : فما حاجتك ؟ قال : جئتك خاطباً إليكِ نفسك . قالت : أما واللَّهِ لوكنتَ جئتَ تبغي جَمالاً أو دِيناً أو حسباً لَزوّجناك(1) ، ولكنّك أردتَ أن تجلس في موسم من مواسم العرب ، فتقول : تزوّجتُ بنتَ النعمان بن المنذر وهذا - والصليبِ - أمرٌ لا يكون أبداً ! أوَ ما يكفيك فخراً أن تكون في مُلك النعمان وبلاده تدبّرهما كما تريد ؟! وبكت .
فقال لها : أيّ العرب كان أحَبَّ إلى أبيك ؟ قالت : ربيعة . قال : فأين كان يَجعل قيساً(2) ؟ قالت : ما كان يستعتبهم من طاعة .
قال : فأين كان يجعل ثقيفاً ؟ قالت : رُوَيداً لا تعجل ؛ بينا أنا ذات يوم جالسة في خِدر لي إلى جنب أبي إذ دخل عليه رجلان من هَوازِن ، والآخر من بني مازن(3) ، كلّ واحد منهما يقول : إنّ ثقيفاً منّا ، فأنشأ أبي يقول :
إنّ ثقيفاً لم يكن هَوازنا * ولم يُناسِبْ عامراً ومازنا
إلّا قَريبا فانشُرِ المَحاسِنا
فخرج المغيرة وهو يقول :
أدركتِ ما مَنّيتُ نفسِيَ خالياً * للّهِ دَرُّكِ يا ابنةَ النعمانِ !
وذكر الأبيات التي مضت(4) .
ص: 317
قال شدّاد الحارثيّ ، ويُكنّى أبا عبد اللَّه : قلت لأمَةٍ سوداء بالبادية : لمَن أنتِ يا سوداء ؟ قالت : لسيّد الحَضَر يا أصلع . قال : قلت لها : أوَلستِ بسوداء ؟! قالت : أولستَ بأصلع ؟! قلت : ما أغضَبَكِ من الحقّ ؟ قالت : الحقُّ أغضبَك ! لا تَسْبُبْ حتّى تُرهَب ، ولأنْ تتركَه أمثَل(1) .
أمير المؤمنين ، نزل رجل من تَنُوخ(1) بحيّ من بني عامر ابن صَعصَعة ، فجعل لا يحطّ شيئاً من متاعه إلّا تمثّل بهذا البيت :
لَعَمرُك ما تَبلى سرائرُ عامرٍ * من اللؤمِ ما دامت عليها جُلودُها
فخرجت إليه جارية من الحيّ ، فحادثَته وآنَسَته ، وسألته حتّى أنِس بها ، ثمّ قالت : ممّن أنت مُتّعتُ بك ؟! قال : رجل من بني تميم ، فقالت : أتعرف الذي يقول :
تَميمٌ بطُرْقِ اللؤمِ أهْدى مِن القَطا * ولو سَلكتْ سُبْلَ المكارمِ ضَلَّتِ
ولو أنّ بُرغوثاً على ظهرِ قَملةٍ * يَكرُّ على جَمْعَي تميمٍ لَولَّتِ !
ذَبَحنا فسمَّينا فتَمَّ ذَبيحُنا * وما ذَبَحتْ يوماً تميمٌ فسَمَّتِ
أرى الليلَ يَجلوه النهارُ ولا أرى * عظامَ المخازي عن تميم تَجلّتِ
فقال : لا واللَّه ما أنا منهم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من عِجل . قالت : أتعرف الذي يقول :
أرى الناسَ يُعطُونَ الجزيلَ وإنّما * عطاءُ بني عِجلٍ ثلاثٌ وأربَعُ
إذا ماتَ عِجليٌّ بأرضٍ فإنّما * يُشَقُّ لَه مِنها ذِراعٌ وإصبَعُ
قال : لا واللَّه ما أنا من عجل . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني يَشكُر ، قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا يَشكريٌّ مَسَّ ثوبَك ثَوبُهُ * فلا تَذكُرَنَّ اللَّهَ حتّى تَطَهّرا
قال : لا واللَّه ما أنا من يَشكُر . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني عبد القيس . قالت : أتعرف الذي يقول :
رأيتُ عبدَ القيسِ لاقَت ذلّا * إذا أصابوا بَصَلاً وخَلّا
ومالحاً مُصنَّعاً قد طلّا * باتوا يَسلّون النساءَ سَلّا
سَلّ النَّبيطِ القَصَبَ المُبتلّا
ص: 319
قال : لا واللَّه ما أنا من عبد القيس . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من باهلة . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا ازدَحَمَ الكِرامُ على المعالي * تَنحَّى الباهليُّ عن الزِّحامِ
فلو كانَ الخليفةُ باهليّاً * لَقصَّرَ عن مُناوأةِ الكرامِ
وعِرضُ الباهليِّ وإن تَوَقّى * عليهِ مثلُ مِنديلِ الطعامِ
قال : لا واللَّه ما أنا من باهلة . قالت : فمِمّن أنت ؟ قال : رجل من بني فَزارة . قالت : أتعرف الذي يقول :
لا تأمَننَّ فَزاريّاً خَلَوتَ بهِ * على قَلوصِكَ(1) واكتُبها بأسيارِ
لا تأمَننَّ فَزاريّاً على حُمُرٍ(2) * بَعدَ الذي امتلَّ أيْر العيرِ في النارِ
قَومٌ إذا نَزَل الأضيافُ ساحَتَهُم * قالوا لأُمّهمُ : بُولي على النار !
قال : لا واللَّه ما أنا من فَزارة . قالت : فمِمّن أنت ؟ قال : أنا رجل من ثقيف . قالت : أتعرف الذي يقول :
أضَلَّ الناسبونَ أبا ثقيفٍ * فما لَهُمُ أبٌ إلّا الضّلالُ
فإن نُسِبَت أو انتَسَبت ثقيفٌ * إلى أحدٍ فذاك هو المحالُ
خنازيرُ الحُشوشِ فقَتِّلوها * فإنّ دماءها لكُمُ حلالُ
قال : لا واللَّه ما أنا من ثقيف . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني عَبْس . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا عَبْسيّةٌ وَلَدت غُلاماً * فبَشِّرها بلؤمٍ مُستفادِ
قال : لا واللَّه ما أنا من عبس . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من ثَعلبة . قالت : أتعرف الذي يقول :
ص: 320
وثَعلبةُ بنُ قيسٍ شرُّ قومٍ * وألأمُهُم وأغدَرُهُم بجارِ
قال : لا واللَّه ما أنا من ثعلبة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من غنيّ . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا غَنَويّةٌ وَلَدت غلاماً * فبشِّرْها بخيّاطٍ مجيدِ
قال : لا واللَّه ما أنا من غنيّ . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني مُرّة . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا مُرِّيَّة خُضِبت يداها * فزوِّجْها ولا تأمَنْ زِناها
قال : لا واللَّه ما أنا من بني مُرّة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني ضَبّة . قالت : أتعرف الذي يقول :
لقد زَرِقَت عيناكَ يا ابنَ مُكَعبَرٍ * كما كلُّ ضَبِّيٍّ مِن اللؤمِ أزرقُ
قال : لا واللَّه ما أنا من بني ضَبّة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بَجِيلة . قالت : أتعرف الذي يقول :
سألْنا عن بَجيلةَ حين حَلَّت * لِنخبرَ أين قَرَّبها القَرارُ ؟
فما تَدري بَجيلَةُ حينَ تُدعى * أقَحطانٌ أبوها أم نِزارُ ؟!
فقد وَقَعت بَجيلةُ بينَ بَينٍ * وقد خُلِعت كما خُلِع العذارُ
قال : لا واللَّه ما أنا من بجيلة . قالت : فممّن أنت ويحك ؟! قال : رجل من بني الأزد . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا أزْديّةٌ وَلَدت غُلاماً * فبَشِّرْها بِمَلّاحٍ مجيدِ
قال : لاواللَّه ما أنا من الأزد . قالت : فممّن أنت ويلك ؟! أما تستحي ؟! قُل الحقّ . قال : أنا رجل من خُزاعة . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا افتَخَرت خُزاعةُ في قديمٍ * وَجَدنا فَخرَها شُربَ الخُمورِ
وباعَت كعبةَ الرحمنِ جَهراً * بِزِقٍّ ، بئسَ مُفتَخَرُ الفَخورِ !
ص: 321
قال : لا واللَّه ما أنا من خُزاعة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني سُلَيم . قالت : أتعرف الذي يقول :
فما لِسُليم شَتَّتَ اللَّهُ أمرَها * ..........................(1)
قال : لا واللَّه ما أنا من سُلَيم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من لَقيط . قالت : أتعرف الذي يقول :
لَعَمرُكَ ما البِحارُ ولا الفَيافي * بأوسعَ مِن ..........(2)
لَقيطٌ شرُّ مَن رَكِبَ المَطايا * وأنذَلُ مَن يَدُبُّ على البَسيطِ
ألا لَعنَ الإلهُ بني لَقيطٍ * بقايا سبيةٍ مِن قومِ لوطِ
قال : لا واللَّه ما أنا من لقيط . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من كِندة . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا ما افتَخَرَ الكِنْ * -ديُّ ذو البهجةِ والطُّرَّهْ(3)
فبالنَّسجِ وبالخُفِ * وبالسدلِ وبالحفرَهْ
فدَعْ كِندةَ للنسجِ * فأعلى فَخرها عَرّهْ(4)
قال : لا واللَّه ما أنا من كِندة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من خَثعَم . قالت : أتعرف الذي يقول :
وخَثعَمُ لو صَفَرتَ بها صَفيراً * لَطارَتْ في البلادِ معَ الجَرادِ
قال : لا واللَّه ما أنا من خَثعَم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من طيّ ء . قالت : أتعرف الذي يقول :
وما طيّ ءٌ إلّا نَبِيطٌ(5) تَجَمَّعَتْ * فقالتْ طيانا كلمةٍ فاستَمرّتِ
ص: 322
ولو أنّ حُرقوصاً(1) يَمُدُّ جناحَهُ * على جبلَيْ طَيٍّ إذاً لَاستَظلَّتِ
قال : لا واللَّه ما أنا من طيّ ء . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من مُزَينة . قالت : أتعرف الذي يقول :
وهل مُزَينةُ إلّا من قُبَيِّلةٍ * لا يُرتجى كرمٌ فيها ولا دِينُ
قال : لا واللَّه ما أنا من مُزَينة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من النَّخَع . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذ النَّخَع اللِّئامُ غَدَوا جميعاً * تأذّى الناسُ مِن وَفر الزِّحامِ
وما تَسْمُو إلى مجدٍ كريمٍ * وما هم في الصميم من الكرامِ
قال : لا واللَّه ما أنا من النَّخَع . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من أوْد . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا نَزَلتَ بأوْدٍ في دِيارِهُمُ * فاعلَمْ بأنّكَ مِنهُم لَستَ بالناجي
لا تَركَنَنَّ إلى كهلٍ ولا حَدَثٍ * فليسَ في القومِ إلّا كلُّ عَفّاجِ(2)
قال : لا واللَّه ما أنا من أوْد . قالت : فممّن أنت ؟ قال : أنا رجل من لَخم . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا ما انتمى قَومٌ لفَخرِ قَديمِهم * تَباعَدَ فَخرُ القَومِ من لَخمَ أجمَعا
قال : لا واللَّه ما أنا من لَخم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : أنا رجل من جُذام . قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا كأسُ المُدامِ أُديرَ يوماً * لِمَكرُمَةٍ تَنحّى عن جُذامِ
قال : لا واللَّه ما أنا من جُذام ، قالت : فممّن أنت ويلك ؟! أماتستحي ؟ أكثَرتَ من الكذب ! قال : أنا رجل من تَنُوخ ، وهو الحقّ ، قالت : أتعرف الذي يقول :
ص: 323
إذا تَنُوخٌ قَطَعَت مَنْهلاً * في طلبِ الغاراتِ والثارِ
آبَت(1) بِخِزيٍ من إلهِ العُلى * وشُهرَةٍ في الأهلِ والجارِ
قال : لا واللَّه ما أنا من تَنوخ . قالت : فممّن أنت ثكِلَتكَ أُمُّك ؟ قال : أنا رجل من حِميَر ، قالت : أتعرف الذي يقول :
نُبِّئتُ حِمْيَرَ تَهجُوني ، فقلتُ لهم : * ما كنتُ أحسَبُهم كانوا ولا خُلِقوا
لأنّ حِمْيَرَ قومٌ لا نِصابَ لَهُم * كالعُودِ بالقاعِ لا ماءٌ ولا وَرَقُ !
لا يَكثُرونَ وإن طالَتْ حَياتُهمُ * ولو يَبُولُ علَيهِم ثَعلبٌ غَرِقُوا
قال : لا واللَّه ما أنا من حِميرَ . قالت : فممّن أنت ؟ قال : أنا رجل من يُحابر . قالت : أتعرف الذي يقول :
ولو صَرّ صَرّارٌ(2) بأرضِ يُحابرٍ * لَماتُوا وأضحَوا في الترابِ رَميما
قال : لا واللَّه ما أنا من يُحابر . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من قُشَير . قالت : أتعرف الذي يقول :
بَني قُشَيرٍ قَتَلتُ سيّدَكُم * فاليومَ لا فِديةٌ ولا قَوَدُ
قال : لا واللَّه ما أنا من قُشير . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني أُميّة . قالت : أتعرف الذي يقول :
وَهى من أُميّة بُنيانُها * فهانَ على اللَّه فِقدانُها
وكانت أُميّةُ فيما مضى * جري ء على اللَّهِ سُلطانُها
فلا آلُ حَربٍ أطاعوا الرسولَ * ولَم يَتّقِ اللَّهَ مَروانُها
قال : لا واللَّه ما أنا من بني أُميّة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني هاشم . قالت : أتعرف الذي يقول :
ص: 324
بَني هاشمٍ عُودوا إلى نَخْلاتِكُم * فقد صارَ هذا التمرُ صاعاً بِدِرهَمِ
فإنْ قُلتُمُ : رهطُ النبيِّ محمّدٍ ، * فإنّ النصارى رَهطُ عيسى بنِ مريمِ
قال : لا واللَّه ما أنا من بني هاشم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من هَمْدان ، قالت : أتعرف الذي يقول :
إذا هَمْدانُ دارتْ يومَ حربٍ * رَحاها فوقَ هاماتِ الرجالِ
رأيتَهُم يَحثُّونَ المَطايا * سِراعاً هاربينَ مِن القِتالِ
قال : لا واللَّه ما أنا من هَمدان . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من قُضاعة . قالت : أتعرف الذي يقول :
لا يَفخرَنَّ قُضاعيٌّ بأسرتهِ * فليس من يَمنٍ مَحضاً ولا مُضَرِ
مُذَبْذَبينَ فلا قَحطانُ والدهُمْ * ولا نِزارٌ ، فخَلُّوهُم إلى سَقَرِ !
قال : لا واللَّه ما أنا من قُضاعة . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من شَيبان ، قالت : أتعرف الذي يقول :
شَيبانُ قَومٌ لَهمُ عَديدٌ * فكلُّهُم مُقرِفٌ(1) لَئيمُ
ما فيهِمُ ماجدٌ حَسيبٌ * ولا نَجيبٌ ولا كريمُ
قال : لا واللَّه ما أنا من شيبان . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من بني نُمير . قالت : أتعرف الذي يقول :
فغُضَّ الطَّرْفَ إنّكَ من نُميرٍ * فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا
فلو وُضعتْ فِقاحُ بني نُميرٍ * على خَبثِ الحديدِ إذاً لَذابا !
قال : لا واللَّه ما أنا من نُمير . قالت : فممّن أنت ؟ قال : أنا رجل من تَغلِب . قالت : أتعرف الذي يقول :
ص: 325
لا تَطلُبنَّ خُؤولَةً في تَغلِبٍ * فالزَّنجُ أكرَمُ مِنهُمُ أخوالا
والتَّغلِبيُّ إذا تَنحنَحَ للقِرى (1) * حَكَ استَهُ وتَمثَّلَ الأمثالا
قال : لا واللَّه ما أنا من تَغْلب . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من مُجاشِع . قالت : أتعرف الذي يقول :
تبكي المُغِيبةُ(2) من بناتِ مُجاشِعٍ * وَلَهاً إذا سمِعتْ نهيقَ حمارِ
قال : لا واللَّه ما أنا من مجاشع . قالت : فممّن أنت ؟ قال : أنا رجل من تَيْم . قالت : أتعرف الذي يقول :
تَيميّةٌ مثلُ أنفِ الفيلِ مقبلُها * تهدي الرَّحا ببنانٍ غيرِ مَخدومِ
قال : لا واللَّه ما أنا من تَيْم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من جَرْم . قالت : أتعرف الذي يقول :
تُمنِّيني سويقَ الكرمِ جَرْمٌ * وما جَرمٌ وما ذاك السَّويقُ ؟
فما شَرِبوهُ لمّا كانَ حِلّاً * ولا غالَوْا به في يومِ سوق
فلمّا أُنزِلَ التحريمُ فيها * إذا الجَرميُّ منها لا يُفيقُ !
قال : لا واللَّه ما أنا من جَرْم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من سُليم . قالت : أتعرف الذي يقول :
وإذا ما سُلَيمٌ جئتَها لغدائها * رجعتَ كما قد جئتَ غَرثانَ(3) جائعا
قال : لا واللَّه ما أنا من سُلَيم . قالت : فممّن أنت ؟ قال : رجل من الموالي . قالت : أتعرف الذي يقول :
ألا مَن أرادَ الفُحشَ واللُّؤمَ والخَنا(4) * فعندَ الموالي الجيد والطَّرفانِ
ص: 326
قال : أخطأتُ نسبي وربِّ الكعبة ! أنا رجل من الخُوز . قالت : أتعرف الذي يقول :
لا باركَ اللَّهُ ربّي فيكمُ أبداً * يا مَعشرَ الخُوزِ ، إنّ الخُوزَ في النارِ
قال : لا واللَّه ما أنا من الخُوز . قالت : فممّن أنت ؟ قال : أنا رجل من أولاد حام . قالت : أتعرف الذي يقول :
فلا تُنكحَنْ أولاد حامٍ فإنّهم * مَشاوِيهُ خَلقِ اللَّه ، حاشا ابنَ أكوَعِ
قال : لا واللَّه ما أنا من ولد حام ، لكنّي من ولد الشيطان الرجيم ! قالت : فلعنك اللَّه ولعن أباك الشيطان معك ، أفتعرف الذي يقول :
ألا يا عبادَ اللَّهِ هذا عدوّكُم * وهذا عدوُّ اللَّهِ إبليسُ فاقتلوا
فقال لها : هذا مقامُ العائذ بك . قالت : قُمْ فارحَلْ خاسئاً مذموماً ، وإذا نزلتَ بقوم فلا تنشد فيهم شعراً حتّى تعرفَ مَن هم ، ولا تتعرّض للمباحث عن مساوئ الناس ؛ فلكلّ قوم إساءة وإحسان ، إلّا رسول ربّ العالمين ومَن اختاره اللَّه على عباده ، وعَصَمه عن عدوّه ، وأنت كما قال جرير للفرزدق :
وكنتَ إذا حَلَلتَ بدارِ قومٍ * رَحَلتَ بخزيةٍ وتركتَ عارا
فقال لها : واللَّه لا أنشدتُ بيت شعر أبداً . فقال السفّاح : لئن كنتَ عملتَ هذا الخبر ونظمتَ فيمَن ذكرت هذه الأشعار فلقد أحسنت ، وأنت سيّد الكاذبين ، وإن كان الخبر صدقاً وكنتَ فيما ذكرته مُحقّاً فإنّ هذه الجارية لَمِن أحضَر الناس جواباً ، وأبصرهم بمثالب العرب(1) .
ص: 327
ابن طَيفور ، أخبرنا الزبير بن بكّار ، قال : أخبرنا مسلم بن جُنْدُب الهُذَليّ(1) قال :
ص: 328
خرجتُ يوماً أنا وزياد نمشي إلى العَقِيق(1) فلقينا نسوةً فيهنّ جارية وضيئة حسانة العينين ، فقال لي زياد : شأنك بها يا ابن الكرام فسلّامة جاريتي حرّة إن لم يكن دم أبيك في ثيابها ، فلا تطلب أثراً بعد عين . قال : ثمّ أنشدني قولَ أبي :
ألا يا عبادَ اللَّهِ هذا أخوكُمُ * قتيلٌ ، فهلّا فيكم اليومَ ثائرُ
خذوا بدمي إن مِتُّ كلَّ خريدةٍ * مريضةِ جفنِ العين والطرفُ ساحرُ
فأقبلت عليَّ امرأة معها حسناء ، فقالت : أنت ابن جُنْدُب ؟! قلت : نعم . قالت : أما علمت أنّ قتيلنا لا يُودى وأسيرنا لايُفكّ ولا يُفدى ؟! اغتنِمْ نفسَك واحتسِبْ أباك(2)!
عن المعدل بن غَيْلان ، أنّ امرأة من بني تميم مرّت ومعها دِيك لها ، فأتبَعوها أبصارهم ، فقالت : لا نظرَ اللَّه إليكم برحمة ! فواللَّهِ ما أطعتم اللَّه فيما أمركم به من غضّ الأبصار إذ يقول اللَّه عزّ وجلّ : « قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ »(3) ، ولا أطعتم جريراً حيث يقول لكم :
فغُضَّ الطَّرفَ إِنَّكَ من نُمَيرٍ * فلا كَعباً بَلَغتَ ولا كِلابا
فقال لها رجل منهم : ما هذا الديك الذي معك ؟ فقالت :
ص: 329
هو البازي المُطِلُّ على نُميرٍ * أُتيح من السماءِ لها انصبابا
إذا عَلِقَت مَخالبُه بقَرنٍ * أصابَ القلبَ أو هَتَكَ الحجابا
قال : ثمّ مرّت مُسرعةً ، فصاح بها رجل منهم من خلفها عظيمُ البطن : ما أنتِ إلّا كما قال الشاعر :
كأنّ مشيتَها من بيتِ جارتِها * مَرُّ السّحائبِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ
قالت : وأنت واللَّهِ يا عظيم البطن ما أنت إلّا كما قال الشاعر :
مُهفْهَفٌ ضامِرُ الكَشْحينِ مُنْخَرِقٌ(1) * عنه القميصُ لسيرِ الليلِ مُحتَقر
تكفيه حزة(2) فِلذٍ إن ألَمَّ بها * من الشواءِ ويروي شربه الخمر(3)
قال محمّد بن يزيد المبرّد : دخلت بُثَينة على عبد الملك ، فأحدّ(4) النظر إليها ، ثمّ قال : يا بُثينة ، ما رأى فيك جميل حين قال ما قال ؟!
قالت : ما رأى الناس فيك حين ولَّوكَ الخلافة يا أميرالمؤمنين ؟! قال : فضحك عبد الملك حتّى بَدَتْ سِنٌّ له كان يخفيها ، فما ترك من حاجة إلّا قضاها(5) .
تزوّج عبدُ الملك لُبابةَ بنت عبد اللَّه بن جعفر ، فقالت له يوماً : لو استَكْتَ ! فقال :
ص: 330
أمّا منك فأستاك . وطلّقها فتزوّجها عليّ بن عبد اللَّه بن العبّاس ، وكان أقرَعَ لا يُفارقه قلنسوته . فبعث إليه عبدُ الملك جارية وهو جالس مع لُبابة ، فكشفت رأسه على غَفْلة لترى ما بِهِ . فقالت للجاريةِ : قولي له : هاشميّ أصلَع أحبّ إلينا من أُمويٍّ أَبْخَر(1) .
عُرضت عنان(2) جاريةُ الناطفيّ على الرشيد وهو يتبخّر ، فقال لها : أتحبّين أن أشتريك ؟ فقالت : ولِمَ لا يا أحسنَ الناس خَلقاً وخُلُقاً ؟ فقال : أمّا الخَلْق فقد رأيتِه ، فالخُلُق أنّى عَرَفتِه ؟ قالت : رأيتُ شرارةً طاحت من الِمجْمَرة في خدّك فما قطّبتَ لها ولا عاتبتَ أحداً(3) .
حدّث بعضهم قال : خرجتُ إلى ناحية الطُّفاوة(4)، فإذا أنا بامرأة لم أرَ أجملَ منها ، فقلت : أيّتها المرأة ، إن كان لكِ زوج فبارَكَ اللَّه له فيك ، وإلّا فأعلِميني . قال : فقالت : وما تصنع بي وفيّ شي ء لا أراك ترتضيه ؟! قلتُ : وما هو ؟ قالت : شَيبٌ في رأسي . قال : فَثَنَيتُ عِنانَ دابّتي راجعاً ، فصاحت بي : على رَسْلك ، أخبرك بشي ء . فوقفتُ وقلت : ما هو يرحمك اللَّه ؟ فقالت : واللَّه ما بلغتُ العشرين بعدُ ، وهذا رأسي
ص: 331
- فكشفت عن عناقيد كالحُمَم(1) - وما رأيتُ في رأسي بياضاً قطّ ، ولكن أحببت أن تعلم أنّا نكره مثلَ ما يُكْرَه منّا . وأنشدت :
أرى شَيبَ الرّجالِ من الغَواني * بموضِعِ شَيبهنَّ من الرِّجالِ
فرجعتُ خجلاً كاسفَ البال(2) .
عن الأصمعيّ عن أبان بن تَغلِب(3) ، قال : أتيتُ المقابر فإذا أنا بصبيّة قد كادت
ص: 332
تَخفى بين قبرين لطافةً ، وإذا هي تنظر بعينِ جُؤذَر فبينا هي كذلك إذ بَدَت لها كفّان كأنّهما لسانُ طائر بأطرافٍ كأنّها المَداري ، وخضاب كأنّه عَنَم . ثمّ هبّت الريح فرفعت عن برقعها ، فإذا بيضةُ نَعام تحت أُمِّ رِئال . ثمّ قالت : اللّهمّ إنّك لم تزل قبل كلّ شي ء وأنت بعد كلّ شي ء ، وقد خلقتَ والدَيّ قبلي وخلقتني بعدهما ، فآنَستَني بقربهما ما شئتَ ثمّ أوحشتني منهما إذ شئت . اللّهمّ فكن لي منهما مؤنساً ، وكن لي بعدهما حافظاً . قال فقلت : يا صبيّة ، أعيدي لفظك ، فلم تسمع ومرّت في كلامها . ثمّ أعَدتُ عليها فنظرت ثمّ قالت : يا شيخ ، واللَّهِ ما أنا لك بِمَحرم فتحادثني محادثةَ أهلِك ، أهلُك أولى بك . قال : فاستَخفَيتُ بين القبور ، مُستحياً ممّا قالت لي . ثمّ سألتُ عنها فإذا هي أيّم ، فأتيتُ صديقاً لي فقلت له : هل لك في أن يلمّ اللَّه شعثك ويقرّ عينك ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : فوصفت له الجارية وما رأيت من عقلها وسمعت من كلامها ، وقلت له : أبغِضْ(1) من مالك عشرة آلاف درهم ؛ فإنّي أرجو أن تكون أحمَدَ مالِك عاقبةً . قال : فقال : قد فعلت . فخرجنا جميعاً أنا وهو حتّى أتينا الخِباء ، فإذا نحن بعمّها فعرضنا عليه ذلك ، فقال : يا هؤلاء ، واللَّهِ ما لنا في أُمورنا ولا أنفسنا شي ء معها ، فكيف فيها ! ولكن اعرِضوا عليها ما وصفتم . ثمّ دخل الخِباء فقال : ها هي ذِه قد خرجت تسمع ما تقولون . قال : فجلسَتْ خلف سَجفٍ لها ، ثمّ قالت : اللّهمّ حَيِّ العصابةَ بالسلام وأجزِل لهم الثواب في دار المقام ، قل يا عمّ . فأقبل عليها عمّها فقال : أي مُفَدّاة ! هذا عمّك ونظيرُ أبيك وقد خطبك على ابن عمّك نظيرك ، وقد بذل لك من الصداق عشرة آلاف درهم . قال : فأقبلَتْ عليه فقالت : يا عمّ ، أضَرَّت بك الحاجة حتّى طمعت طمعاً أخلّ بمروءتك ؟! أتزوّجني غلاماً حَضَريّاً يغلبني بفطنته ويصول علَيّ بمقدرته
ص: 333
ويَمنُن علَيّ بتفضّله ويقول : يا هَنَة(1) بنت الهَنَة ؟! كلّا إنّ اللَّه واسع كريم . قال : فرجعنا مدحوضي الحجّة مردودين عن الحاجة(2) .
قال العتبيّ(3) : خرج الحارث بن عوف المُرّيّ خاطباً إلى حارثة بن أوس بن لام الطائيّ ، فقال لابنته : يا بُنيّة ، هذا سيّد قومه قد أتاني خاطباً لك ، فقالت : لا حاجة لي فيه ، إنّ في خُلقي ضيقاً صَبَر عليه القُرَباءُ ولا يصبرُ عليه البُعَداءُ . فقال للتي تليها : قد سمعتِ ما قالت أختك ، قالت : زَوِّجنيه ؛ فإنّي إنْ لم أصلح للبُعَداء لم أصلح للقُرَباء . قال : فزوّجه وضرب عليه قُبّة ونَحَر له الجُزر ، فمدّ يده إليها فقالت : ابنة أوس تُمدّ إليها اليد بحضرته ! قال : فتحمّل بها . فلمّا كان بالطريق مدّ يده إليها فقالت : ابنةُ أوس أردت أن تمتّع بها في سفرك ! فكفّ يده ، فلمّا حلّ في أهله وقد وقعت الحرب بين بني عَبْس وذُبيان فمدّ يده إليها فقالت : لقد أخطأ الذي سمّاك سعيداً ! تمدّ يدك إلى النساء والقوم يتناجزون ! قال : فما وضع يده عليها حتّى أصلح بين قومه وتحمّل دِياتهم ، ثمّ دخل بها فحَظِيَت عنده(4) .
ص: 334
حكى عبد اللَّه بن المبارك قال : خرجت حاجّاً إلى بيت اللَّه الحرام وزيارة نبيّه عليه الصلاة والسلام ، فبينا أنا في الطريق إذا أنا بسَوادٍ على الطريق ، فتميّزت ذاك فإذا هي عجوز عليها دِرْع من صوف وخمار من صوف ، فقلت : السلام عليكِ ورحمة اللَّه وبركاته ، فقالت : « سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيم »(1) .
قال : فقلت لها : رحِمك اللَّه ، ما تصنعين في هذا المكان ؟ قالت : « وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ »(2) ، فعلمتُ أنّها ضالّة عن الطريق .
فقلت لها : أين تريدين ؟ قالت : « سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى »(3) ، فعلمتُ أنّها قد قضت حَجَّها وهي تريد بيت المقدس .
فقلت لها : أنتِ منذ كم في هذا الموضع ؟ قالت : « ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً »(4) .
فقلت : ما أرى معكِ طعاماً تأكلين ؟ قالت : « هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ »(5) .
قلت : فبأيّ شي ء تتوضّئين ؟ قالت : « فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً »(6) .
فقلت لها : إنّ معي طعاماً فهل لكِ في الأكل ؟ قالت : « ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ »(7).
فقلت : قد أُبيحَ لنا الإفطارُ في السفَر ؟ قالت : « وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ »(8) .
فقلت : لِمَ لا تكلّميني مثلَ ما أُكَلِّمُكِ ؟ قالت : « مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ »(9) .
ص: 335
فقلت : فمِن أيّ الناسِ أنتِ ؟ قالت : « وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً »(1) .
فقلت : قد أخطأتُ فاجعليني في حِلٍّ ؛ قالت : « لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ »(2) .
فقلت : فهل لكِ أن أحملكِ على ناقتي فتُدركي القافلة ؟ قالت : « وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ »(3) .
قال : فأنختُ الناقةَ ، قالت : « قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ »(4) ، فغَضَضتُ بَصري عنها وقلت لها : اركبي ، فلمّا أرادت أن تركب نَفَرت الناقةُ فمزّقت ثيابَها ، فقالت : « وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ »(5) ، فقلت لها : اصبري ، قالت : « سُبْحَان الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ »(6) .
قال : فأخذتُ بزمامِ الناقة وجعلتُ أسعى وأصيح ، فقالت : « وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ »(7) ، فجعلتُ أمشي رويداً رويداً وأترنّم بالشِعر ، فقالت : « فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ »(8) .
فقلت لها : لقد أُوتيتِ خيراً كثيراً ، قالت : « وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَابِ »(9) ، فلمّا مشيت بها قليلاً قلت : ألكِ زَوج ؟ قالت : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ »(10) ؛ فسكتُّ ولم أُكلّمها حتّى أدركتُ بها القافلة فقلت لها : هذه
ص: 336
القافلة فمَن لكِ فيها ؟ فقالت : « المَالُ والْبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا »(1) ، فعلمتُ أنّ لها أولاداً .
فقلت : وما شأنُهم في الحجّ ؟ قالت : « وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ »(2) فعلمت أنّهم أدلّاء الرَّكْب ، فقَصَدتُ القِباب والعمارات ، فقلت : هذه القباب فمَن لكِ فيها ؟ قالت : « وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً »(3) ، « وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً »(4) ، « يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ »(5) ، فناديت : يا إبراهيم ، يا موسى ، يا يحيى ، فإذا أنا بشبّانٍ كأنهم الأقمار قد أقبلوا ، فلمّا استقرّ بهم الجلوس قالت : « فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِنْهُ »(6) فمضى أحدهم فاشترى طعاماً فقدّموه بين يديّ ، فقالت : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ »(7) ، فقلت : الآن طعامكم علَيّ حرام حتّى تُخبروني بأمرها ، فقالوا : هذه أُمّنا ، منذ أربعين سنة لم تتكلّم إلّا بالقرآن مخافةَ أن تزلّ فيسخط عليها الرحمن ، فسبحانَ القادر على ما يشاء! فقلت : « ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »(8) .(9)
نظر رجل إلى امرأتين يتلاعبان ، فقال : مُرّا لعنكما اللَّه ؛ فإنّكنّ صواحبات يوسف . فقالت إحداهما : يا عمّي ، فمَن رمى به في الجُبّ : نحن أو أنتم(10) ؟
ومرّت جارية بقوم ومعها طبق مُغطًّى فقال بعضهم : أيُّ شي ء معكِ على
ص: 337
الطبق ؟ قالت : فلِمَ غطّيناه(1) ؟!
مرّ رجل بامرأة من غاضرة(2) ، وإذا ابنٌ لها مسجّىً بين يديها ، وهي تقول : يرحمك اللَّه يا بنيّ . فواللَّهِ ما كان مالُك لبطنِك ، ولا أمرُك لعِرسِك ، ولا كنتَ إلّا ليّنَ العَطْفة ، يُرضيك أقلّ ممّا يُسخطك . قال : فقلت لها : يا أُمّة ، ألكِ منه خَلَف ؟ قالت : بلى ، ما هو خيرٌ منه ، ثواب اللَّه والصبر على المصيبة(3) .
قيل لامرأة أُصيبت بولدها : كيف أنت والجَزَع عليه ؟ قالت : لو رأيت فيه دَرَكاً ما اختَرتُ عليه ، ولو دام لي لدُمْتُ له(4) .
ولمّا قُتل الفضل بن سهل(5) دخل المأمون على أُمّه يعزّيها فيه ، وقال : يا أُمَّه ، لا تحزني على الفضل ؛ فإنّي خَلَفٌ لك منه !
فقالت : وكيف لا أحزن على ولدٍ عوّضني خَلَفاً مِثلَك ! فتعجّب المأمون من جوابها . وكان يقول : ما سمعتُ جواباً قطّ كان أحسن منه ولا أخلب للقلب(6) .
تكلّم ابن السمّاك يوماً وجارية له تسمع كلامه ، فلمّا دخل إليها قال : كيف رأيتِ كلامي ؟ قالت : ما أحسَنَه لولا أنّك تُكثر ترْدَاده ! قال : أُرَدِّده حتّى يَفْهمه مَن لم يَفهَمْه ، قالت : إلى أن يفهمه مَن لم يفهمه قد مَلّهُ مَن فَهِمه(7) !
ص: 338
كان ملك من ملوك فارس عظيمَ المملكة شديد النَّقمة ، وكان له صاحبُ مطبخ ، فلمّا قرَّب إليه طعامَه صاحبُ المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه ، فزوى(1) لها الملك وجهه ، وعلم صاحب المطبخ أنّه قاتِلُه ، فكفأ الصَّحفة(2) على يديه . فقال الملك : عليَّ به ، فلمّا أتاه قال له : قد علمت أنّ سقوط النقطة أخطأتْ بها يدُك ، فما عُذرك في الثانية ؟ قال : استحييتُ للملك أن يقتل مثلي في سنّي وقديم حُرمتي في نقطة ، فأردتُ أن أُعظِم ذنبي ليحسُن به قتلي ، فقال له الملك : لئن كان لطف الاعتذار يُنجيك من القتل ، ما هو بمنجيك من العقوبة ، اجلدوه مائة جلدة وخَلّوه(3) .
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، أنّ الإسكندر كان لا يدخل مدينةً إلّا هدمها وقتل أهلَها ، حتّى مرّ بمدينة كان مؤدِّبُه فيها ، فخرج إليه فألطَفه الإسكندرُ وأعظمَه وسأله حاجته ، فقال له : أيّها الملك ، إنّ أحقَّ مَن زيّن لك أمرَك وآتاك على كلّ ما
ص: 339
هَوِيت لأنا ، وإنّ أهل هذه المدينة قد طَمِعوا فيك لمكاني منك ، وأحبّ أن تشفّعَني فيهم وأن تُخالِفَني في كلّ ما سألتك لهم . فأعطاه الإسكندر من ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه . فلمّا توثّق منه قال : فإنّ حاجتي أن تدخلها وتخرِّبَها وتقتُل أهلها . فقال الإسكندر : ليس إلى ذلك سبيل ، ولابدّ من مخالفتك(1) .
قال خالد بن الوليد لأهل الحِيرة : أخرِجوا إليَّ رجلاً من عقلائكم أسألْه عن بعض الأمور . فأخرجوا له عبد المسيح(2) بن عمرو بن قيس بن حَيّان بن بُقَيلة(3) الغَسّانيّ ، وهو الذي بنى القصر(4) ، وهو يومئذٍ ابن خمسين وثلاثمائة سنة . فقال له خالد : من أين أقصى أثرِك ؟ قال : من صُلْب أبي . قال : فمن أين خرجت ؟ قال : من بطن أمّي . قال : فعلَامَ أنت ؟ قال : على الأرض . قال : ففيمَ أنت ؟ قال : في ثيابي . قال : ما سِنُّك ؟ قال : عَظمٌ . قال : أَتعقِل ، لا عَقلتَ ؟ قال : إي واللَّه ، وأُقيِّد(5) . قال : ابن كم أنت ؟ قال : ابن رجل واحد . قال : كم أتى عليك من الدهر؟ فقال : لو أتى عليَّ شي ء لَقتلني . قال : ما تزيدني مسألتك إلّا غُمّى(6) ؟ قال : ما أجبتُك إلّا عن مسألتك(7) .
ص: 340
قال : أعرَبٌ أنتم أم نَبْط ؟ قال : عربٌ استَنبَطنا ، ونَبْط استَعرَبنا . قال : فحربٌ أنتم أم سَلم ؟ قال : سَلم . قال : فما بالُ هذه الحصون ؟ قال : بنيناها للسَّفيه حتّى يأتي الحليمُ فينهاه . قال : كم أتت عليك سنة ؟ قال : خمسون وثلاثمائة . قال : فما أدركتَ ؟ قال : أدركتُ سفنَ البحر تُرفَأُ(1) إلينا في هذا الجُرف ، ورأيت المرأة من أهل الحِيرة تأخذ مِكتَلها(2) على رأسها ، ولا تتزوّدُ إلّا رغيفاً واحداً ، فلا تزال في قُرًى مُخْصِبة متواترة حتّى تَرِد الشام ، ثمّ قد أصبحتْ خراباً يَباباً ، وذلك دأْب اللَّه في العباد والبلاد(3) .
قال الحسن البصريّ : تقلّدتُ سيفي وذهبتُ لأنصر أُمّ المؤمنين ، فلقيني الأحنف فقال : إلى أين تريد ؟ فقلتُ : أنصر أُمّ المؤمنين ! فقال : واللَّهِ ما قاتلتَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله المشركينَ فكيف تقاتل معها المؤمنين ؟! قال : فرجعتُ إلى منزلي ووضعتُ سيفي(4) .
قال ابن أبي الحديد : كان معاوية بن أبي سفيان موصوفاً بالنَّهَم وكثرة الأكل ، وكان بطيناً يَقعُد بطنُه إذا جلس على فَخِذَيه وكان معاوية جواداً بالمال والصِّلات ، وبخيلاً على الطعام . يقال : إنّه مازح أعرابيّاًعلى طعامه ، وقد قُدِّم بين يديه خروف ، فأمعن الأعرابيّ في أكله ، فقال له : ما ذنبُه إليك ؟! أنطحك أبوه ؟! فقال الأعرابيّ : وما حُنُّوك عليه ؟! أأرضعتك أُمُّه(5) ؟!
ص: 341
وقال لأعرابيّ يأكل بين يديه ، وقد استعظم أكله : ألا أبغيك سِكّيناً ! فقال الأعرابيّ : كلّ امرئ سكّينُه في رأسه(1) .
ادّعى الحجّاجُ بن علاط السُّلميّ ، عبيدَ اللَّه بن رياح ، وذكر أنّه أتى أُمّه في الجاهليّة ، وكان رياح عبداً أسود لخالد بن الوليد بن المغيرة ، فخاصم فيه نصرُ بن الحجّاج عبدَ الرحمن بن خالد بن الوليد إلى معاوية ، فقضى معاوية به لبني مخزوم ، وناول نصراً حجراً ! فقال نصر : ما هذا ؟ فقال : قال رسول اللَّه : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر» . فقال نصر : فهلّا قضيتَ بهذه القضيّة في زياد(2) ؟!
قال معاوية لرجل من أهل سبأ : ما كان أجْهَلَ قومَك حين ملّكوا عليهم امرأة ! فقال : بل قومُك أجْهَل ! قالوا حين دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلى الحقّ وأراهم البيّنات : « اللَّهُمَّ إِن كَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ »(1) ، ألا قالوا : اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدِنا له(2) ؟!
لمّا بلغ معاويةَ وفاةُ الحسن بن عليّ رضي اللَّه تعالى عنهما ، دخل عليه ابنُ عبّاس ، فقال له معاوية : آجَرَك اللَّه أبا عبّاس في أبي محمّد الحسن بن عليّ ! ولم يُظهر حُزْناً ، فقال ابن عبّاس : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون . وغلبه البكاء ، فردّه ثمّ قال : لا يَسُدُّ واللَّهِ مكانَه جُفرتُك(3) ، ولا يزيد موتُه في أجلك . واللَّهِ لقد أُصِبنا بمن هو أعظمُ منه فقداً فما ضَيَّعنا اللَّهُ بعده ! فقال له معاوية : كم كانت سنُّه(4) ؟ قال : مولدُه أشهرُ من أن تُتعرَّف سِنُّه ! قال : أحسبه ترك أولاداً صغاراً ؟ قال : كلُّنا كان صغيراً فكبر ، ولئن اختار اللَّه لأبي محمّد ما عنده ، وقَبَضه إلى رحمته ، لقد أبقى اللَّه أبا عبد اللَّه ، وفي مثله الخلَف الصالح(5) .
ص: 343
اختُصِم إلى معاوية في غلامٍ ادُّعِي ، فقال : ائتوني غداً أقضِ بينكما .
فلمّا أتوه أخرج حَجَراً دفعه إلى المُدَّعي ؛ يعني بذلك قولَ النبيّ صلى الله عليه وآله : «الولدُ للفِراشِ وللعاهرِ الحَجَر» . فقال له الرجلُ : أنشدك باللَّهِ ، هلّا قضيتَ بقضائك في زياد(1) ؟! فقال معاوية : قضاء رسول اللَّه أَوْلى بأنْ يُتَّبع من قضائي(2) !
دخل عمرو بن سعيد الأشدق(3) بعد موت أبيه على معاوية ، وعمرو يومئذٍ غلام ، فقال له معاوية : إلى مَن أوصى بك أبوك ؟ قال : إنّ أبي أوصى إليَّ ولم يُوصِ بي . قال : وبأيّ شي ء أوصاك ؟ قال : أوصاني ألّا يفقد إخوانُه منه إلّا وجهَه . قال معاوية لأصحابه : إنّ ابن سعيد هذا لَأشدَق(4) .
ص: 344
حدّث الزبير بن بكّار ، عن رجاله قال : دخل محقن بن أبي محقن الضَّبيّ على معاوية فقال : يا أميرالمؤمنين ، جئتك من عند ألأم العرب وأبخلَ العرب وأعيا العرب وأجبنَ العرب ! قال : ومَن هو ، يا أخا بني تميم ؟ قال : عليّ بن أبي طالب . قال معاوية: اسمعوا يا أهل الشام ما يقول أخوكم العراقيّ ، فابتدروه أيّهم ينزل عليه ويكرمه.
فلمّا تصدّع الناس عنه قال : كيف قلت ؟ فأعاد عليه . فقال له : ويحك يا جاهل ، كيف يكون ألأمَ العرب وأبوه أبوطالب ، وجدّه عبد المطّلب ، وامرأته فاطمة بنت رسول اللَّه !
وأنّى يكون أبخل العرب ؟ فواللَّه لو كان له بيتان ؛ بيتُ تِبْن وبيتُ تِبْر(1) ، لأنْفدَ تِبْرَه قبل تِبْنه !
وأنّى يكون أجبن العرب ؟! فواللَّه ما التقتْ فئتان قطّ إلّا كان فارسهم غير مُدافَع !
وأنّى يكون أعيا العرب ! فواللَّه ما سَنَّ البلاغةَ لقريش غيرُه ! ولما قامت أُمُّ محقن عنه ألأمُ وأبخلُ وأجبنُ وأعيا لبَظَرِ أُمّه . فواللَّه ، لولا ما تعلم لَضَربتُ الذي فيه عيناك . فإيّاك عليك لعنة اللَّه والعودة إلى مثل ذلك .
قال : واللَّهِ ، أنت أظلمُ منّي ، على أيّ شي ء قاتلته وهذا محلّه ؟
قال : على خاتمي هذا ، حتّى يجوز به أمري .
قال : فحسبُكَ ذلك عوضاً من سخط اللَّه وأليم عذابه .
ص: 345
قال : لا ، يا ابنَ محقن ، ولكنّي أعرفُ من اللَّه ما جهلتَ حيث يقول : « وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ءٍ »(1) .(2)
ذكر أبو مخنف في أخبار صفّين ، عن أبي الأعز التيمي ، أنّ العبّاس بن ربيعة(3) بارزَ عَرار بن أدهم ، من أهل الشام ، فتمكّن منه العبّاس فقتله ، وتأسّف معاوية على عَرار وقال : متى ينطق فَحْلٌ بمثلِه ، أيُطَلّ دمُه ! ألا رجلٌ يشري نفسَه يطلب بدم عَرار ! فانتدب له رجلان من لَخم ، من أهل البأس ومن صناديد الشام ، فقال : اذهبا فأيّكما قتل العبّاس فله مائة أُوقيّة من التِبر ومثلها من اللُّجَين(4) وبعددهما من بُرود اليمن ، فأتياه فَدَعواه إلى البراز ... فقال عليّ : واللَّه لَوَدَّ معاوية أنّه ما بقي من بني هاشم نافخُ ضَرْمة إلّا طُعن في بطنه ، إطفاءً لنورِ اللَّه « وَيَأْبَى اللَّهُ إِلّا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ »(5) . ثمّ قال : يا عبّاس ، ناقِلْني سلاحَك بسلاحي ، فناقَلَه ووثب على فرس العبّاس وقصد اللَّخميّين ، فلم يشكّا أنّه العبّاس ، فبرز له أحدُهما فما أخطأه ، ثمّ برز له الآخر فألحقه بالأوّل . ونما الخبرُ إلى معاوية فقال : قبّح اللَّه اللّجاجَ إنّه لَعقورٌ ما رَكِبتُه قطّ إلّا خُذِلت ! فقال عمرو بن العاص : المخذول واللَّه اللَّخْميّان ، والمغرورُ من غرَرْتَه ، لا أنت المخذول . قال : اسكت أيّها الرجل ؛ فليس هذا من شأنك . قال : وإن لم يكن ، رحم اللَّه اللّخميَّيْن ، ولا أراه يفعل ! قال : ذلك واللَّه أضيَق لحجّتك وأخسَرُ لصَفقتك . قال : قد علمتُ ذلك ، ولولا مصرُ وولايتُها لَركبتُ المَنْجاة منها ؛ فإنّي أعلم
ص: 346
أنّ عليَّ ابن أبي طالب على الحقّ وأنت على ضدّه ! فقال معاوية : مصرُ واللَّهِ أعمَتْكَ ، ولولا مصر لألفيتُك بصيراً . ثمّ ضحك معاوية ضحكاً ذهب به كلَّ مذهب . قال عمرو : مِمّ تضحك ، أضحك اللَّه سنّك ؟ قال : أضحك من حضور ذهنك يومَ بارزتَ عليّاً وإبدائك سَوأتَك . أمَا واللَّه يا عمرو لقد واقعتَ المنايا ، ورأيتَ الموتَ عياناً ، ولو شاء لقتلك ، ولكن أبى أبنُ أبي طالب في قتلك إلّا تكرّماً . فقال عمرو : أمَا واللَّه إنّي لعَنْ يمينك حين دعاك إلى البراز فاحْوَلَّتْ عيناك وبدا سَحْرك وبدا منك ما أكره ذِكرَه لك ! فمن نفسك فاضْحَكْ أو دَعْ(1) .
اجتمع عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال معاوية له : مَن الناس ؟ قال : أنا ، وأنت ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد . قال : وكيف ذاك ؟ قال : أمّا أنت فلِلتأنّي ، وأمّا أنا فللبديهة ، وأمّا مغيرة فللمعضلات ، وأمّا زياد فللصغير والكبير !
قال : أمّا ذانك فقد غابا ، فهاتِ أنت بديهَتك . قال : وتريد ذلك ؟ قال : نعم ، قال : فأخرِجْ مَن عندك فأخرجهم ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! أُسارّك ! فأدنى منه رأسَه ، فقال : هذا من ذاك ، مَن معنا في البيت حتّى أُسارّك(2) ؟!
ذكر الواقديّ قال : دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية بعدما كَبِر ودَقّ ومعه مولاه وَرْدان ، فأخذا في الحديث ، وليس عندهما غير وردان ، فقال عمرو : يا أميرالمؤمنين ، ما بقي ممّا تستلذّه ؟ فقال : أمّا النساء فلا أربَ لي فيهنّ ، وأمّا الثياب فقد
ص: 347
لبست من ليّنها وجيّدها حتّى وهى بها جِلدي فما أدري أيّها أليَن ، وأمّا الطعام فقد أكلتُ من ليّنه وطيّبه حتّى ما أدري أيّها ألذّ وأطيب ، وأمّا الطيب فقد دخل خياشيمي منه حتّى ما أدري أيّه أطيب ؛ فما شي ء ألذّ عندي من شرابٍ باردٍ في يومٍ صائف ، ومن أن أنظر إلى بَنِيّ وبَني بَنيّ يدورون حولي ، فما بقي منك يا عمرو ؟ قال : مالٌ أغرسه فأصيب من ثمرته ومن غلّته . فالتفت معاوية إلى وَرْدانَ ، فقال : ما بقي منك يا وردان ؟ قال : صنيعةٌ كريمة سَنِيّة أُعلِّقها في أعناق قوم ذوي فضل وأخطار(1) لا يكافئونني بها حتّى ألقى اللَّه تعالى وتكون لعقبي في أعقابهم بعدي(2) . فقال معاوية : تبّاً لمجلسنا سائر هذا اليوم ، إنّ هذا العبد غلَبني وغلَبك(3) .
حبس عمرو بن العاص عن جنده العطاء ، فقام إليه رجل حِميَريّ فقال : أصلح اللَّه الأميرَ اتّخذ جُنداً من حجارة لا يأكلون ولا يشربون . قال : أُسكتْ يا كلب ! قال : إن كنتُ كذلك فأنت أمير الكلاب . فأطرق عمرو ، وأخرج أرزاقهم(4) .
البلاذريّ: حدّثني عمر بن بكير ، عن الهيثم بن عديّ ، حدّثني ابن عيّاش الهَمْدانيّ، قال : قال معاوية لعمرو : أتذكر إذ غَشِيَك ابنُ أبي طالب فاتّقيتَه بسوءتك ؟! فقال : إنّي رأيت الموت مُقبلاً إلَيّ معه فاتّقيتُه كما رأيت ، وكان ورعاً فصرفه عنّي حياؤه ، ولكنّي
ص: 348
أذكرك حين دعاك للمبارزة ، فقلصت شفتك ورعدت فرائصك وامتَقع لونُك(1) !
قدم سعيد بن العاصي على معاوية فقال : كيف تركت أبا عبد الملك(2) ؟ فقال : منفِّذاً لأمرِك ، ضابطاً لعملك . فقال معاوية : إنّما هو كصاحب الخُبزة كُفِيَ إنضاجَها فأكَلها . فقال سعيد : كلّا إنّه بين قومٍ يتهادَون فيما بينهم كلاماً كوَقْع النَّبل ، سهماً لك وسهماً عليك . قال : فما باعَدَ بينه وبينك ؟ فقال : خِفْتُه على شرفي ، وخافني على مثله . قال : فأيُّ شي ء كان له عندك في ذلك ؟ فقال : أسوءُه حاضراً وأسُرُّه غائباً . قال : يا أبا عثمان، تَركْتَنا في هذه الحروب ! قال : نعم ، تحمّلتُ الثِّقْل وكُفيتُ الحزمَ ، وكنتُ قريباً لو دُعيتُ لأجبتُ ، ولو أُمِرتُ لأطعت . قال معاوية : يا أهل الشام ، هؤلاء قومي وهذا كلامهم(3) .
ص: 349
قال عمرو بن العاص لمعاوية ذات يوم : قد أعياني أن أعلم أجبانٌ أنت أم شجاع ، لأنّي أراك تتقدّم حتّى أقول : أراد القتال ، ثمّ تتأخّر حتّى أقول : أراد الفرار ! فقال له معاوية : واللَّهِ ما أتقدّم حتّى أرى التقدّم غُنْماً ، ولا أتأخّر حتّى أرى التأخّرَ حَزماً ، كما قال القَطاميّ :
شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصة * وإلّا تكن لي فرصة فجبانُ(1)
عَزَل معاويةُ مروانَ بن الحَكَم عن إمرة المدينة والحجاز ، وولّى مكانه سعيد بن العاص ، فوجّه مروان أخاه عبدَالرحمن بن الحَكَم أمامه إلى معاوية ، وقال له : إلْقَه قبلي فعاتِبْه لي واستصلِحْه .
قال أبو الفرج : وقد رُوي أنّ عبد الرحمن كان بدمشق يومئذٍ ، فلمّا بَلَغَه خبرُ عَزْلِ مروان وقدومه إلى الشام ، خرج وتلقّاه وقال له : أقِمْ حتّى أدخُل إلى الرجل ، فإن كان عَزَلَك عن مَوْجِدة دخلتَ إليه منفرداً ، وإن كان عن غير مَوْجِدة دخلتَ إليه مع الناس . فأقام مروان ومضى عبد الرحمن ، فلمّا قَدِم على معاوية دخل إليه وهو يُعَشِّي الناس ، فأنشده :
أتَتْكَ العِيسُ تَنْفُخُ في بُراها * تَكشَّفُ عن مَناكِبها القُطُوعُ(2)
ص: 350
بأبيضَ مِن أُميّةَ مَضْرَحِيٍ * كأنّ جبينَهُ سيَفٌ صَنيعُ(1)
فقال له معاوية : أزائراً جِئْتَ أم مُفاخِراً مُكابراً ؟ فقال : أيّ ذلك شئت ! فقال : ما أشاء من ذلك شيئاً وأراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عَنّ له ، فقال له : على أيّ ظهرٍ جئتنا ؟ فقال : على فرسٍ ، قال : ما صِفَتُه ؟ قال : أجَشّ هَزِيم ، يُعرِّض بقولِ النَّجاشيّ في معاوية يوم صِفّين :
نَجَّى ابنَ حَربٍ سابِحٌ ذو عُلالَةٍ * أجَشُّ هزيمٌ والرِّماحُ دَوانِي(2)
إذا قلت أطرافُ الرِّماحِ تنالُهُ * مَرَتْ ُ له الساقانِ والقَدَمانِ
فغضب معاوية ، وقال : إلّا أنّه لا يَركبُه صاحبُه في الظُّلَم إلى الرِّيَب ، ولا هو ممّن يَتَسوّر على جاراتِه ، ولا يَتَوثّب بعد هَجْعة الناس على كنائنه(3) ! وكان عبدالرحمن يُتَّهم بذلك في امرأة أخيه فخجِلَ عبدالرحمن وقال : يا أميرالمؤمنين ، ما حَمَلَك على عَزل ابن عمِّك ، ألِخيانةٍ أوجَبَتْ ذلك ، أم لرأيٍ رأيتَه وتدبير استَصلَحتَه ؟ قال : بل لتدبيرٍ استصلحتُه . قال : فلا بأسَ بذلك ، فخرج من عنده فلَقِيَ أخاه مروان ، فأخبره بما دارَ بينه وبين معاوية ، فاستشاط غيظاً ، وقال لعبدالرحمن : قَبَّحك اللَّه ، ما أضعَفَك ! عَرَّضت للرجلِ أغضَبَه ، حتّى إذا انتصر منك أحجَمتَ عنه .
ثمّ لَبِس حُلّته ، ورَكِب فَرَسه ، وتقلّد سيفَه ، ودخل على معاوية ، فقال له حين رآه وتبيّن الغضبَ في وجهه : مرحباً بأبي عبدالملك ! لقد زُرتَنا عند اشتياقٍ منّا إليك ! فقال : لا ها اللَّهِ ! ما زُرتُك لذلك ولا قَدِمتُ عليك فألفيتُك إلّا عاقّاً قاطعاً ؛ واللَّهِ ما
ص: 351
أنصفتَنا ولا جَزّيتَنا جزاءنا ، لقد كانت السابقةُ من بني عبد شمس لآل أبي العاص ، والصِّهر عن رسول اللَّه لهم ، والخلافة فيهم ، فوصلوكم يا بني حرب وشرّفوكم وولَّوكم ، فما عَزلوكم ولا آثَروا عليكم ، حتّى إذا وُلِّيتم وأفضى الأمرُ إليكم أبيتم إلّا أثَرَةً وسُوءَ صنيعه وقُبحَ قطيعة فُرويداً رُويداً ! فقد بلغَ بنو الحَكَم وبنو بَنيه نَيّفاً وعشرين ، وإنّما هي أيّامٌ قلائل حتّى يَكمُلوا أربعين ، ثمّ يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذٍ ، ثمّ هم للجزاء بالحُسْنى والسوء بالمرصاد .
قال أبو الفرج : هذا رمزٌ إلى قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : «إذا بَلَغ بنُو أبي العاص أربعينَ رجُلاً ، اتَّخذوا مالَ اللَّه دُولً وعباد اللَّه خُوَلاً» ، فكان بنو أبي العاص يذكرون أنّهم سَيَلُون أمرَ هذه الأُمّة إذا بلغوا هذه العُدّة(1) .
فقال له معاوية : مهلاً أبا عبد الملك ، إنّي لم أعْزِلْك عن خيانة ، وإنّما عَزَلتُك لثلاثةٍ لو لم يكن منهنّ إلّا واحدةٌ لأوجَبَت عَزْلَك : إحداهُنّ أنّي أمّرتُك على عبد اللَّه بن عامر وبينكما ما بينكما ، فلن تستطيع أن تَشتَفِيَ منه ، والثانية كراهيتُك لإمرة زياد ، والثالثة أنّ ابنتي رَمْلَة استَعدتكَ على زوجها عمرو بن عثمان ، فلم تُعْدِها .
فقال : أمّا ابنُ عامر فإنّي لا أنتصر منه في سلطاني ، ولكن إذا تساوَت الأقدام عَلِم أين موقعُه . وأمّا كراهتي لإمرة زياد فإنّ سائر بني أُميّة كَرِهُوه ، وجعل اللَّهُ لنا في ذلك الكُرهِ خيراً كثيراً . وأمّا استعداءُ رَملة على عمرو فواللَّهِ إنّه لَتأتي علَيّ سنةٌ أو أكثرُ وعندي بنت عثمان ، فما أكشِفُ لها ثوباً ؛ يُعرِّض بأنّ رملة إنّما تستعدي على عمرو بن عثمان طلب النكاح ! فقال له معاوية : يا ابنَ الوَزَغ ، لستَ هناك ! فقال مروان : هو ما قلتُ لك ! وإنّي الآن لأبو عَشَرة ، وأخو عشرة ، وعمُّ عشرة ، وقد كادَ ولد أبي أن
ص: 352
يُكمِلوا العِدّة ، يعني أربعين ، ولو قد بَلَغوها لَعلمتَ أين تقع منّي !
فأخذ يد مروان وخضع وقال : لكَ العُتْبى ، وأنا رادُّك إلى عملك . فوثب مروان وقال : كلّا وعيشِك لا رأيتَني عائداً ! وخرج(1) .
روى الشَّعبيّ قال : دخل عمرو بن العاص على معاوية يسأله حاجةً ، وقد كان بلغ معاويةَ عنه ما كَرِهَه ، فكَرِه قضاءها وتشاغَل ، فقال عمرو : يا معاوية ! إنّ السخاء فِطنة واللُّؤمَ تغافُل ، والجفاء ليس من أخلاق المؤمنين . فقال معاوية : يا عمرو ، بماذا تستحقّ منّا قضاء الحوائج العِظام ؟ فغضب عمرو وقال : بأعظَمِ حقٍّ وأوْجَبِه ، إذ كنتَ في بحرٍ عَجّاج ، فلولا عمرو لَغرقتَ في أقلّ مائه وأرقِّه ، ولكنّي دَفَعتُك فيه دَفعةً فصِرتَ في وسطه ، ثمّ دَفَعتُك فيه أُخرى فصِرتَ في أعلى المواضع منه ، فمضى حُكمُك ، ونَفَذ أمرُك ، وانطلَق لسانُك بعد تَلَجلُجِه ، وأضاء وجهُك بعد ظُلمَته ، وطمستُ لك الشمسَ بالعِهْن المنفوش(2) ، وأظلمتُ لك القمرَ بالليلة المدلهمّة .
فتناومَ معاوية وأطبق جَفْنَيه مَلِيّاً ، فخرج عمرو ، فاستوى معاوية جالساً وقال لجُلسائه : أرأيتم ما خرج من فمِ ذلك الرجل ؟! ما عليه لو عَرَّض ؛ ففي التعريض ما يكفي ! ولكنّه جَبهني بكلامه ، ورماني بسموم سِهامه . فقال بعضُ جُلسائه : يا أميرالمؤمنين ، إنّ الحوائج لتُقَضى على ثلاث خِصال . إمّا أن يكون السائل لقضاء الحاجة مُستحقّاً فتُقضى له بحقّه ، وإمّا أن يكون السائل لئيماً فيصون الكريمُ نفسَه عن لسانه فيقضيَ حاجتَه ، وإمّا أن يكون المسؤول كريماً فيَقضيَها لكرمه ، صَغُرَت أو كَبُرَت .
ص: 353
فقال معاوية : للّه أبوك ! ما أحسَنَ ما نَطَقتَ به ، وبعث إلى عمرو فأخبره وقضى حاجته ووَصَلَه بصِلةٍ جليلة ، فلمّا أخذها ولّى منصرفاً . فقال معاوية : « فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ »(1) فسمعها عمرو فالتفت إليه مُغضَباً وقال : واللَّهِ يا معاوية ، لا أزالُ آخذ منك قَهْراً ، ولا أُطيع لك أمراً ، وأحفِر لك بئراً عميقاً ، إذا وقعتَ فيه لم تُدرَك إلّا رميماً . فضحك معاوية وقال : ما أُريدك يا أبا عبد اللَّه بالكلمة ، وإنّما كانت آية تَلَوتُها من كتاب اللَّه عَرَضَت بقلبي ، فاصنَعْ ما شئت(2) .
روى المدائنيّ قال : بينا معاوية يوماً جالساً عنده عمرو بن العاص ، إذ قال الآذِن : قد جاء عبدُ اللَّه ابن جعفر بن أبي طالب ، فقال عمرو : واللَّهِ لأسُوءنّه اليوم ! فقال معاوية : لا تفعل يا أبا عبد اللَّه ، فإنّك لا تنصف منه ، ولعلّك أن تُظهِر لنا من منقبته ما هو خفيّ عنّا ، وما لا نُحبّ أن نَعلمَه منه .
وغَشِيَهم عبدُ اللَّه بن جعفر، فأدناه معاوية وقرّبه ، فمال عمرو إلى بعض جُلساء معاوية ، فنال من عليٍّ عليه السلام جِهاراً غيرَ ساترٍ له ، وثَلَبَه ثلْباً قبيحاً .
فالَتمَع لونُ عبداللَّه بن جعفر واعتَراه أفْكَلٌ حتّى أُرْعِدَت خَصائلُه(3) ، ثمّ نزل عن السرير كالفَنِيق(4) ، فقال له عمرو : مَهْ يا أبا جعفر ! فقال له عبد اللَّه : مَهْ لا أُمَّ لك ! ثمّ قال :
أظُنُّ الحِلمَ دَلَّ علَيَّ قومي * وقد يَتَجَهَّلُ الرجلُ الحليمُ
ثمّ حَسَر عن ذِراعَيه ، وقال : يا معاوية ، حتَّامَ نَتَجَرّع غَيْظَك ؟! وإلى كم الصبرُ
ص: 354
على مكروهِ قولِك ، وسيّئ أدبك ، وذميم أخلاقك ؟! هَبِلَتْك الهَبُول(1) ! أما يَزجُرك ذِمامُ الُمجالسة عن القَذْع لجليسك ، إذا لم تكن لك حُرمة من دينك تنهاك عمّا لا يجوز لك ؟! أما واللَّهِ لو عَطَفَتكَ أواصِرُ الأرحام ، أو حامَيتَ على سهمك من الإسلام ، ما أرعَيتَ بني الإماء المُتْك(2) والعبيد الصُّكّ أعراضَ قومك . وما يجهل موضع الصِّفْوة(3) إلّا أهل الجَفْوة ، وإنّك لتعرف وَشائِظ(4) قُريش ، وصَبْوَة غرائزها ، فلا يَدعُونّك تصويبُ ما فَرَط من خطئك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أميرالمؤمنين ، إلى التمادي فيما قد وضح لك الصوابُ في خلافه ؛ فاقصِدْه لمنهج الحقّ ، فقد طال عَمَهُك(5) عن سبيل الرُّشد ، وخَبْطُك في بُحور ظُلْمة الغيّ . فإن أبيتَ ألّا تتابعنا في قُبح اختيارك لنفسِك ، فأعفِنا من سوء القالة فينا إذا ضَمَّنا وإيّاك النَّديّ ، وشأنك وما تُريد إذا خَلَوتَ ، واللَّه حسيبُك ، فواللَّهِ لولا ما جعلَ اللَّه لنا في يديك لَما أتيناك .
ثمّ قال :
إنّك إنْ كلّفتَني ما لم أُطِقْ * ساءك ما سَرَّك منّي من خُلقْ
فقال معاوية : يا أبا جعفر ، أقسَمتُ عليك لَتَجلِسنّ ، لعنَ اللَّه مَن أخرج ضَبَّ صدرِك من وِجاره(6) . محمولٌ لك ما قلتَ ، ولك عندنا ما أمّلت ، فلو لم يكن مَحْمَدُك ومنصبك لكان خُلُقك وخَلْقك شافِعَين لك إلينا ، وأنت ابنُ ذي الجَنَاحَين وسيّد بني هاشم .
ص: 355
فقال عبد اللَّه : كلّا ، بل سيّد بني هاشم حسن وحسين ، لا ينازعهما في ذلك أحد . فقال : أبا جعفر ، أقسمتُ عليك لَمَا ذكرتَ حاجةً لك إلّا قضيتُها كائنةً ما كانت ، ولو ذَهَبت بجميع ما أملِك ، فقال : أمّا في هذا المجلس فلا .
ثمّ انصرف ، فأتبَعَه معاوية بَصَرَه ، وقال : واللَّهِ لكأنّه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، مشيُه وخُلْقه وخَلْقه ، وإنّه لِمَن مِشكاتِه ، ولَوَدِدتُ أنّه أخي بنفيسِ ما أملِك . ثمّ التفتَ إلى عمرو ، فقال : يا أبا عبد اللَّه ، ما تراه مَنَعه من الكلام معك ؟ قال : ما لا خَفاء به عنك ، قال : أظنّك تقول إنّه هابَ جوابك ، لا واللَّهِ ، ولكنّه ازدراك واستحقرك ، ولَم يَرَك للكلامِ أهلاً ، أما رأيتَ إقبالَه علَيّ دونك ذاهباً بنفسه عنك ؟! فقال عمرو : فهل لك أن تَسمع ما أعدَدتُه لجوابِه ؟ قال معاوية : اذهَبْ ا إليك أبا عبد اللَّه ، فلاتَ حينَ جوابٍ سائرَ اليوم ! ونهض معاوية وتفرّق الناس(1) .
نافرَ لَهَبيّ رجلاً من ولد عمرو بن العاص ، فعابَه بسورة «إنّا أعطيناك» ، وعاب اللَّهَبيَّ بسورة «تَبَّتْ يدا أبي لَهَب» . فقال اللَّهبيّ : إنّك لو علمتَ ما لأولاد أبي لَهَب من الدرك في سورة تَبّت ، لم تَفُهْ بها ؛ لأنّ اللَّه صحّح نَسبَهم بقوله : « وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ » وأنّهم من نِكاحٍ لا من سِفاح، ونفى بني العاص بقوله: « عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ » والزَّنيم المُنتسِب إلى غير أبيه(2) .
ص: 356
شرب يزيد بن معاوية ذات يوم وعنده الأخطل ، فلمّا ثَمِلَ قال : يا أخطل ، اهجُنِي ولا تُفْحِشْ ، فأنشأ يقول :
ألا اسْلَمْ سَلِمتَ أبا خالدٍ * وحيّاكَ ربُّكَ بالعَنقَزِ
وروّى عظامَكَ بالخَندَرِي * -سِ(1) قبلَ المماتِ ولمْ تَعجِزِ
أكَلتَ الدجاجَ فأفنَيْتَها * فهل في الخَنانِيصِ(2) من مَغمَزِ
ودِينُكَ حقّاً كدينِ الحِما * رِ بَلْ أنتَ أكفَرُ من هُرمُزِ
فرفع يده ولطمه ، وقال : يا ابن اللَّخْناء ! ما بكلّ هذا أَمَرتُك(3) !
ذكر المدائنيّ عن سلمة ، قال : وفدَ الحجّاج بن يوسف على عبد الملك ، فدخل عليه وعنده خالد ابن يزيد بن معاوية . فقال له خالد : إلى كم هذا البسط ؟! إلى كم هذا القتل ؟! فقال الحجّاج : ما دام بالعراق رجل يزعم أنّ أباك كان يشرب الخمر ، فأسكَتَه(4) .
ص: 357
ذكر المدائنيّ أنّ عبد الملك حجّ فنزل بالمدينة دار مروان ، فمرّ الحجّاج بخالد بن يزيد بن معاوية وهو قاعدٌ في المسجد ، وعلى الحجّاج سيف مجلجل وهو يخطر ، فقال رجل لخالد : من هذا الخَطّار ؟ قال خالد : بَخٍ بَخٍ ، هذا عمرو بن العاص ! فقال الحجّاج : أقلتَ : هذا عمرو بن العاص ؟ ما يسرني أنّ العاص وَلَدَني ، ولكنّي إلى الأشياخ من ثقيف والعقائل من قريش ، وأنا الذي جمعت مائة ألف سيف بسيفي هذا ، وكلّهم يشهد أنّ أباك كان يشرب الخمر ويُضمر الكفر . ثمّ ولّى وهو يقول : بَخٍ بَخٍ ، هذا عمرو بن العاص(1) .
العُتبيّ ، قال : دخل جامع المحاربيّ(2) على الحجّاج ، وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان ، وهو الذي قال للحجّاج إذ بنى مدينة واسط : بَنَيْتَها في غير بلدك ، وتُورِثُها(3) غيرَ ولدِك . فجعل الحجّاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقُبحَ مذهبهم(4) . فقال له جامع : أمَا إنّه لو أحبُّوك لأطاعوك ، على أنّهم
ص: 358
ما شَنِئوك(1) لنَسَبك ، ولا لبلدِك ، ولا لذات نفسك ، فدع عنك ما يُبعدهم منك إلى ما يُقرِّبهم إليك ، والَتمِس العافيةَ ممّن دونك تُعطَها ممّن فوقك ، وليكن إيقاعُك بعد وعيدك ، ووعيدُك بعد وعدك .
قال الحجّاج : ما أرى أن أردّ بني اللَّكيعة(2) إلى طاعتي إلّا بالسيف . قال : أيّها الأمير ، إنّ السيف إذا لاقى السيفَ ذهبَ الخِيار . قال الحجّاج : الخيار يومئذٍ للّه . قال : أجل ، ولكنّك لا تدري لمَن يجعله اللَّه . فغضب وقال : يا هَناه(3) ، إنّك من مُحارب . فقال جامع :
وللحربِ سُمِّينا وكنّا مُحارباً * إذا ما القَنا أمسى من الطَّعنِ أحمَرا
فقال الحجّاج : واللَّهِ قد هممتُ بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك . قال جامع : إنْ صَدَقناك أغضَبناك ، وإن غَششناك أغْضَبنا اللَّه ، فغضبُ الأمير أهوَن علينا من غضب اللَّه . قال : أجَل .
وسَكَن وشُغِل الحجّاج ببعض الأمر ، فانسلّ جامع فمرّ بين الصفوف من أهل الشام حتّى جاوزها إلى صفوف أهل العراق ، فأبصر كَبكَبَةً(4) فيها جماعة من بَكر العراق ، وقيس العراق ، وتَميم العراق ، وأزْد العراق ؛ فلمّا رأوه اشرأبُّوا(5) إليه وقالوا له : ما عندَك ، دفع اللَّه عنك ؟ قال : وَيْحكم ! عُمُّوه(6) بالخَلع كما يَعُمّكم بالعداوة ، ودعُوا التعادي ما عاداكم ، فإذا ظَفِرتم تراجعتم وتعادَيتم(7) . أيّها التميميّ ، هو أعدى
ص: 359
لك من الأزديّ ، أيّها القَيسيّ هو أعدى لك من التَّغلِبيّ(1) . وهل ظفر بمَن ناوأه منكم إلّا بمَن بقي معه منكم ؟!
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام ، واستجار بزُفَر بن الحارث(2) فأجاره(3) .
الأمير ، أرْعِني سمعَك(1) ، واغضُض عنّي بصرَك ، واكفُف عنّي غَرْبك(2) ؛ فإن سمعتَ خطأ أو زللاً دونك والعقوبة . قال : قلْ . فقال : عصى عاصٍ من عُرض العشيرة ، فَحُلِّق على اسمي(3) ، وهُدِم منزلي ، وحُرِمتُ عطائي . قال : هيهات ! أوَ ما سمعت قول الشاعر :
جانِيكَ مَن يَجْني عليكَ ، وقد * تُعْدِي الصِّحاحَ مَبارِكُ الجُرْبِ
ولَرُبَّ مأخوذٍ بذَنْبِ عَشيرِه * ونَجا المُقارِفُ صاحبُ الذَّنْبِ
قال : أصلح اللَّه الأمير ، إنّي سمعتُ اللَّه عزّ وجلّ قال غير هذا . قال : وما ذاك ؟ قال : قال اللَّه تعالى : « قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَاْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ »(4) .
فقال الحجّاج : علَيّ بيزيد بن أبي مسلم ، فمَثُل بين يديه فقال : افكُكْ لهذا عن اسمه، واصْكُكْ له بعطائه ، وابنِ له منزلَه ، ومُرْ منادياً ينادي : صدق اللَّه وكذب الشاعر(5) .
ص: 361
قال ابن الكلبيّ : بلغ الحجّاج أنّ يحيى بن يَعْمَر(1) يقول : إنّ الحسن والحسين عليهما السلام
ص: 362
ص: 363
ابنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فكتب إلى قُتيبَة بن مُسلم أنْ وجِّهْ إلى يحيى بن يَعْمر ، فَدعاهُ قتيبة في الليل فقال له : إنّ الحجّاج كتب إليَّ أنْ أُوَجّهكَ إليه ، وقلّما كتب في رجل بمِثل هذا الكتاب إلّا قتلَه ، فإذا خرجتَ من عندي فلا أرَيَنّك .
قال : لا ، بَلْ احمِلْني إليه . قال قُتيبة : إنّه قاتِلُك إذاً . قال : احمِلْني إليه . فحَمَله على البريد ، فلمّا صار ببابِ الحجّاج ، أُخبِر الحجّاج أنّ يحيى بن يَعمُر بالباب ، فدعا بِمُصحف فوُضِع بين يديه ، ثمّ أدخَلَه ، فقال : أنت القائل إنّ الحسن والحسين ابنا رسول اللَّه ؟ قال : نعم . قال الحجّاج : لَتُخرِجَنَّه من هذا المصحف أو لأقتلنّك . قال : فصفّح يحيى بن يَعمر في المصحف حتّى بلغ « وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ »(1) .
قال : فأخبِرْني أليس جعل اللَّه عيسى ابنَه ولا أبَ له ، وإنّما هو ابنُ بِنت ؟ قال : صدقتَ ، إلْحَقْ بعملِك ، فردّه إلى خراسان(2) .
قال المدائنيّ : أُتي الحجّاج بأسيرين ممّن كان مع ابن الأشعث ، فأمر بضرب
ص: 364
أعناقهما . فقال أحدهما : أصلح اللَّه الأمير ، إنّ لي عندك يداً(1) . قال : ما هي ؟ قال : ذكر ابن الأشعث يوماً أُمّك بسوء فنهيتُه . قال : ومَن يعلم ذلك ؟ قال : هذا الأسير الآخر . فسأله فقال : قد كان ذلك . فقال له الحجّاج : لِمَ لم تفعل كما فعل ؟ قال : أينفعني الصدق عندك ؟ قال : نعم . قال : لبُغضِك وبُغضِ قومك ! قال الحجّاج : خَلُّوا عن هذا لصدقه(2) ، وعن هذا لفعله(3) .(4)
قال سعيد بن أبي عروبة : حجّ الحجّاج ، ونزل بعضَ المياه بين مكّة والمدينة ، ودعا بالغداء فقال لحاجبه : انظرْ مَن يتغدّى معي ، واسأله عن بعض الأمر ، فنظر نحو الجبل فإذا هو بأعرابيّ بين شَمْلَتين من شعْر ، نائم ، فضربه برِجله وقال : ائتِ الأمير ، فأتاه . فقال له الحجّاج : اغسلْ يدك وتغدَّ معي ، فقال : إنّه قد دعاني مَن هو خيرٌ منك فأجبتُه . قال : ومَن هو ؟ قال : اللَّه تبارك وتعالى ، دعاني إلى الصوم فصُمتُ . قال : في هذا الحرّ الشديد ؟ قال : نعم ، صمتُ ليوم هو أشدّ حرّاً من هذا اليوم . قال : فأفطِر ، وتصوم غداً . قال : إن ضمنتَ لي البقاء إلى غد ! قال : ليس ذلك إليَّ . قال : فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدِر عليه ؟! قال : إنّه طعام طيّب . قال : لم تُطيّبه أنت ولا الطبّاخ ، ولكن طيّبته العافية(5) .
قال حفص بن النّضر السلميّ : خطب الحجّاجُ الناسَ يوماً ، فقال : أيّها الناس ،
ص: 365
الصبر عن محارم اللَّه أشدّ من الصبر على عذاب اللَّه ! فقام إليه رجل فقال : يا حجّاج ، وَيْحَك ما أَصْفَقَ وجْهَك وأقلَّ حياءَك ! تفعلُ ما تفعل ثمّ تقول مثل هذا ؟! فأمر به فأُخِذ ، فلمّا نزل عن المنبر دعا به فقال له : لقد اجترأتَ علَيّ . فقال له : يا حجّاج ، أنت تجترئ على اللَّه فلا تنكره على نفسك ، وأجترئ أنا عليك فتُكثِره عليَّ ! فخلّى سبيله(1) .
قال الأجلَح للشعبيّ : أكان الحجّاج مؤمناً ؟ قال : مؤمناً بالطاغوت ، كافراً باللَّه(2) .
بعد هزيمة ابن الأشعث ، أمر الحجّاج أن تُقدَّم إليه الأسارى ، فأوّل مَن قُدِّم إليه منهم الفضل بن مروان مولى بني البكّاء(3) ، وكان شريفاً في الموالي ، فقال له الحجّاج : أفَضْلٌ ؟ قال : نعم ، قال الحجّاج : خبِّرْني عنك ، ألَم أستعملك ؟ قال الفضل : بلى استَعبدتَني ! قال الحجّاج : ألَم أُكرمك ؟ قال الفضل : بل أَهَنْتَني ! قال الحجّاج : واللَّه لأقتلنّك ! قال الفضل : واللَّهِ ، لأخاصمنّك في دمي إلى ربّي . قال الحجّاج : إذاً أخصِمُك(4) ! قال الفضل : الحُكم إلى غيرك ؛ فقال الحجّاج : اضربوا عنقَه(5) !
قال : ثمّ أُتي بالطُّفَيل بن حكيم الطائيّ ، فقال له الحجّاج : أطُفَيلٌ ؟ قال : نعم يا حجّاج ، طُفَيل ! قال : ألم تَقدِم العراق أعرابيّاً لا يُفرَض لمثلك ، ففرضتُ لك ؟ قال
ص: 366
طُفيل : بلى . قال الحجّاج : فما أخرَجَك عليَّ ؟ فقال : أبا محمّد ، إن رأيتَ أن تأذن لي حتّى ألحق بأهلي ! فقال الحجّاج : وأنت مشتاق إليهم ؟ فقال : نعم يا حجّاج ! فقال : ذهب واللَّهِ عقلُ الرجل ! سواء علَيّ قتلتُ هذا أو قتلت مجنوناً ، خلّوا عنه ! فكان ابن عيّاش يقول : واللَّهِ لقد كان طفيل بن حكيم من أعقل الناس وأدهاهم ، ولكنّه أَوْهَمَ الحجّاجَ أنّه قد ذهب عقله ، فأفلت من يده(1) .
كتب عبد الملك إلى الحجّاج في أسرى الجَماجم(2) أن يعرضهم على السيف : «فمَن أقرّ منهم بالكفر بخروجه علينا فخَلِّ سبيلَه ، ومَن زعم أنّه مؤمن فاضرب عنقه»(3) ، ففعل ، فلمّا عرضَهم أُتي بشيخ وشابّ ، فقال للشابّ : أمؤمن أنت أم كافر ؟ قال : بل كافر ، فقال الحجّاج : لكن الشيخ لا يرضى بالكفر ! فقال له الشيخ : أعن نفسي تُخادعني يا حجّاج ؟! واللَّه لو كان شي ء أعظم من الكفر لَرَضِيتُ به ! فضحك الحجّاج وخلّى سبيلهما(4) .
ثمّ قُدِّم إليه رجل ، فقال له : على دين مَن أنت ؟ قال : على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . فقال : اضربوا عنقه !
ص: 367
ثمّ قُدِّم آخر ، فقال له : على دين مَن أنت ؟ قال : على دين أبيك الشيخ يوسف ! فقال : أمَا واللَّهِ لقد كان صوّاماً قوّاماً ، خَلِّ عنه يا غلام ! فلمّا خُلِّي انصرف إليه ، فقال له : يا حجّاج ، سألتَ صاحبي : على دين مَن أنت ؟ فقال : على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ، فأمرتَ به فقُتل ، وسألتني : على دين مَن أنت ؟ فقلتُ : على دين أبيك الشيخ يوسف ، فقلتَ : أمَا واللَّهِ لقد كان صوّاماً قوّاماً . فأمرتَ بتخلية سبيلي ؛ واللَّه لو لم يكن لأبيك من السيّئات إلّا أنّه وَلَد مثلَك لَكفاه ! فأمر به فقُتل(1) .
ثمّ أُتيَ بعامر الشَّعبي(2) ، ومُطرِّف بن عبداللَّه الشِّخِّير(3) ، وسعيد بن جُبير وكان الشَّعْبيّ ومُطرِّف يَرَيان التقيّة(4) ، وكان سعيد(5) بن جُبير لا يراها ، فقال الحجّاج
ص: 368
ص: 369
للشَّعبي : وأنت مِمّن ألّبَ علينا مع ابن الأشعث ؟ اشهدْ على نفسك بالكفر . فقال : أصلح اللَّه الأمير ، نَبا(1) بِنا المنزل ، واستَحْلَسَنا(2) الخوف ، واكتَحَلنا السهر ، وخَبَطَتنا فتنةٌ لم نكن فيها بررة أتقياء ، ولا فجَرة أقوياء . قال : للّه أبوك ! لقد صدقت ! ما بَرَرتُم بخروجكم علينا ولا قَويتُم ، خَلُّوا سبيلَ الشيخ .
ثمّ قال للمُطرِّف : أتُقرّ على نفسك بالكفر ؟ قال : أصلح اللَّه الأمير ، إنّ مَن شقّ
ص: 370
العصا ، وسفك الدماء ، ونكث البيعة ، وفارق الجماعة ، وأخافَ المسلمين لجديرٌ بالكفر . فخلّى سبيله .
ثمّ قال لسعيد بن جبير : أتقرُّ على نفسك بالكفر ؟ قال : ما كفرتُ منذ آمنتُ باللَّه . فضرب عنقه(1) .
عن ابن عيّاش قال : قال الحجّاج لسعيد : أكفرتَ بخروجك ؟ قال : ما كفرتُ مذ آمنت . قال : اختَرْ أيَّ قتلة أقتلك ؟ قال : اخترْ أنت لنفسك أيَّ القِصاص شئت ؛ فإنّ القصاص أمامك . فقتله ، فما قتل أحداً بعده(2) .
وذكر ابن أعثم الحوار الذي جرى بين الحجّاج وسعيد بن جبير ، قال : فأُدخِل سعيد بن جبير على الحجّاج ، فلمّا نظر إليه قال : لا مرحباً بك يا رأس النفاق ! فقال سعيد : المنافق مَن كان من شيعة المنافقين(3) . قال الحجّاج : صدقتَ يا شقيّ(4) ! قال سعيد : بل أنا سعيد بن جبير . قال الحجّاج : بل أنت شقيّ بن كُسَير . قال سعيد : أمّي كانت أعرفُ بي منك(5) .
وبعد خَطب بينهما قال الحجّاج : واللَّه لأُذيقنّك حياضَ الموت ولأُبدلنّك بالدنيا ناراً
ص: 371
تلظّى . قال سعيد : لو علمتُ أنّ ذلك بيدك لاتّخذتُك إلهاً . قال الحجّاج : ما تقول في خلفاء بني أُميّة(1) ؟ قال : لستُ عليكم بوكيل ، ولا أقول ما لا أعلم . قال : فأيّ رجل أنا عندك ؟ قال : يوم القيامة تعلم ذلك ! قال : فأُحبّ أن تُعْلمني ، قال سعيد : أنا أهوَنُ على ربّي من أن يُطلعني على غيبه . قال الحجّاج : فإنّه لابدّ من أن تَصدُقني من نفسي . قال سعيد : لا أُحبّ أن أكذب ، وأنت عندي رجلُ سَوء . قال الحجّاج : خبِّرْني عنك ، ما بالك لا تضحك قطّ ؟
قال : إنّي لم أرَ شيئاً يُعجبني فأضحك منه ، وكيف يضحك مخلوق ولا يدري أتُمسيه المنيّة أم تُصبحه ، ثمّ لا يدري بعد ذلك إلى الجنّة يصير أم إلى النار(2) ! قال الحجّاج : أصدُقْني ، هل سمعتَ لَهْواً قطّ ؟ قال : لا ولا رأيته . فدعا الحجّاج بالعود والناي ، فضُرب بالعود ونُفخ في الناي ، فبكى سعيد بكاءً شديداً ، فقال له الحجّاج : ما يُبكيك ؟ فقال : إذاً أُخبرك يا حجّاج ! أمّا هذه النفاخة - النفخ - فإنّها ذكّرتني نفخةَ إسرافيل - فذكّرني يوماً عظيماً يوم يُنفخ في الصُّور - إذا نفخ في الصُّور . وأمّا هذه الأخشاب والأوتار فإنّها قُطِعت وفُتِلت من هذه المَصارين لمعصية اللَّه ، واللَّهُ سائِلُك عنها يا حجّاج ! فقال الحجّاج : ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟ قال : أقول إنّه في الجنّة . قال : فما تقول في بني مروان هم في الجنّة أم في النار ؟ قال : لو دخلتُ الجنّة وفيها أهلُها لَعلمتُ مَن فيها . فقال الحجّاج : كيف شهدتَ لغير بني مروان بالجنّة ؟ قال : شهدتُ لهم بشهادة رسول اللَّه أنّهم في الجنّة ، ولكن ما أنت يا حجّاج وما هؤلاء وما سؤالك عن المُغيّب وقد عَزُبَ عليك علمُه ؟! قال الحجّاج : الوَيْلُ
لك
ص: 372
يا سعيد(1) ! قال سعيد : بل الوَيْل لمَن زُحْزِحَ عن الجنّة وأُدخل النار . قال الحجّاج : خذوه . فبادَر إليه أعوان الحجّاج ، قال سعيد : « بِسْمِ اللَّهِ مَجْرئهَا وَمُرْسهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ »(2) ، ثمّ مَضَوا به ليُقتل ، قال الحجّاج : رُدُّوه ، وهو يضحك ، قال الحجّاج : وما يُضحكك وقد بلغني أنّك لم تضحك قطّ ؟ قال : عجبتُ من جرأتك على اللَّه وحلم اللَّه عنك ! قال الحجّاج : اذهبوا به فاقتلوه ! قال سعيد : « وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ »(3) . قال الحجّاج : اصرِفوا وجهَه عن القِبلة . قال سعيد : « فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ »(4) . قال الحجّاج : اضربوا وجهه بالأرض . قال سعيد : « مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى »(5) . قال الحجّاج : اضربوا عنقه ! فقُدِّم سعيد بن جُبير فضُرب عنقه ، رحمه اللَّه(6) .
أبو عَوانة عن عاصم بن أبي وائل ، قال : بعث إليَّ الحجّاج فقال لي : ما اسمُك ؟ قلت : ما أرسل إليَّ الأمير حتّى عرف اسمي ! قال : متى هَبطتَ هذا البلد ؟ قلت : حين هبط أهله . قال : ما تقرأ من القرآن ؟ قلت : أقرأ منه ما إذا تَبِعتُه كفاني . قال : إنّي أريد أن أستعين بك في عملي .
ص: 373
قلت : إن تستعين بي تستعِنْ بكبيرٍ أخْرَق(1) ، ضعيف يخاف أعوان السوء ، وإنْ تَدَعْني فهو أحَبُّ إليَّ ، وإن تُقحِمْني أتقحَّم . قال : إن لم أجد غيرَك أقحمتك ، وإن وجدتُ غيرك لم أُقحمك . قلت : وأخرى أكرم اللَّه الأمير ، أنّي ما علمتُ الناس هابوا أميراً قطّ هيبتَهم لك ، واللَّه إنّي لَأتعارُّ(2) من الليل فما يأتيني النوم من ذكرك حتّى أُصبح ، هذا ولستُ لك على عمل .
قال : هيه ! كيف قلتَ ؟ فأعَدتُ عليه ، فقال : إنّي واللَّه لا أعلم على وجه الأرض خَلْقاً هو أجرأ على دمٍ منّي ، انصرفْ . فقمت فعدلتُ عن الطريق كأنّي لا أُبصر ، فقال : أَرشِدوا الشيخ(3) .
أُتي الحجّاج بأسرى من الخوارج ، فأمر بضرب أعناقهم ، فقُدم فيهم شابّ فقال : واللَّه يا حجّاج لئن كُنّا أسأنا في الذنب فما أحسنتَ في العفو . فقال : أُفٍّ لهذه الجِيَف ! ما كان فيهم مَن يقول مثل هذا ؟ وأمسك عن القتل .
وأُتي الحجّاج بأسرى فأمر بقتلهم ، فقال له رجل منهم : لا جزاك اللَّه يا حجّاج عن السُنّة خيراً ؛ فإنّ اللَّه تعالى يقول : « فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً »(4) ، فهذا قول اللَّه في كتابه ، وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
وما نَقتُلُ الأسرى ، ولكنْ نَفُكُّهُمْ * إذا أَثْقلَ الأعناقَ حَمْلُ القَلائد
فقال الحجّاج : وَيْحكم ! أعَجِزتم أن تُخبروني بما أخبرني هذا المنافق ؟
ص: 374
وأمسك عمّن بقي(1) .
عن الشعبيّ ، قال : أُتِي الحجّاج برجُلَين من الخوارج ، فسألهما عن قولهما في أبي بكر وعمر وعثمان ، فأثنيَا على أبي بكر وعمر ، وقالا في عثمان : أحسن أوّلاً ثمّ أفسدَ إحسانَه . قال : فما تقولان في معاوية ؟ فقالا : كان طاغياً باغياً . قال : فيزيد ؟ قالا : كان حماراً نَهّاقاً . قال : فما تقولان فيَّ ؟ قالا : جعلت مع اللَّه إلهاً آخر(2) فأطعته وعصيتَ اللَّهَ . فتكلّم أهل الشام وقالوا : اسقِنا دماءهما ، فقالا : كان جُلَساء أخيك خيراً من جُلسائك ! قال : وأين أخي محمّد بن يوسف ؟ فقالا : يا فاسق إنّما عَنَينا فرعون حيث يقول جُلساؤه : « أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَاَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ »(3) وهؤلاء يأمرونك بقتلنا ، فأمر بهما فقُتِلا(4) .
ص: 375
قال الحجّاج لابن القِرَيّة(1) : اخطب لي هنداً بنت أسماء ، ولا تَزِد على ثلاث كلمات . فأتاهم فقال : جئتُ من عند مَن تعلمون ، والأمير يُعطيكم ما تسألون ، أفتُنكحون أم تَدَعون ؟ قالوا : أنكحَنا وغَنِمنا . فرجع إلى الحجّاج فأخبره ودعا له بالخير والبركة ، فتزوّجها الحجّاج ، ثمّ إنّه دخل ذات يوم وهي تقول :
وما هِندُ إلّا مُهْرةٌ عربيّةٌ * سَليلةُ أفراسٍ تَجلَّلها بَغْلُ
فإنْ نُتِجتْ مُهراً كريماً فبالْحَرى * وإنْ يَكُ أقرافٌ فما أنجبَ الفَحْلُ
فخرج من عندها مُغضَباً ، ودعا ابن القِرِّيّة فدفع إليه مائة ألف درهم وقال : ادخلْ إلى هند وطلّقها عنّي ، ولا تَزِدْ على كلمتين ، وادفع إليها المال . فحمل ابن القِرِّية المال ودخل عليها فقال : إنّ الأمير يقول : كُنتِ فبِنتِ ، وهذه المائة ألف صَداقك . فقالت : يا ابن القرِّيّة ما سُررتُ به إذ كان ، ولا جَزِعتُ عليه إذ بان ، وهذا المالُ بشارةٌ لك لِما جئتنا به ! فكان القول أشدّ على الحجّاج من فراقها(2) .
ص: 376
محمّد بن حَرب الهلاليّ قال : دخل زُفَرُ بن الحارث(1) على عبد الملك ، بعد الصلح فقال : ما بَقِيَ من حُبّك لِلضحّاك ؟ فقال : ما لا ينفعُني ولا يضُرّك . قال : شَدَّ ما أحببتُموه معاشر قيس ! قال : أحببناهُ ولم نُواسِه ، ولو كنّا آسيناهُ لقد كنّا أدركْنا ما فاتَنا منه . قال : فما منعَكَ من مواساته يومَ المَرْج ؟ قال : الذي منع أباكَ من مُواساة عثمان يوم الدّار(2) .
وستّين في الإسلام . فلمّا ولي مروان بن الحكم المدينة في عمله الأوّل ، دخل عليه حُوَيْطب يوماً فتحدّث عنده ، فقال له مروان : تأخّر إسلامُك أيّها الشيخ ، حتّى سبقك الأحداث ! فقال حويطب : اللَّه المستعان ، واللَّهِ لقد هَمَمتُ بالإسلام غيرَ مرّةٍ وكلّ ذلك يعوقني عنه أبوك وينهاني ويقول : تَضَعُ شرفَك وتَدَعُ دينَ آبائك لدين محمّد ، وتصير تابعاً ؟! فأُسكت مروان ، وندم على ما كان قال له .
ثمّ قال حويطب : أما كان أخبرك عثمان ما كان لقي من أبيك حين أسلم ؟! فازداد مروان غمّاً(1) .
نازعَ ابنُ الزبير مروانَ عند معاوية فقال ابن الزبير : يا معاوية : لا تَدَعْ مروانَ يرمي جماهير قريش بمَشاقِصه(2) ، ويضربُ صَفاهم(3) بمِعْوَلهِ ؛ فلولا مكانُك لكان أخفَّ على رقابنا من فَراشة ، وأقلّ في أنفسنا من خَشاشة(4) ولئن مُلِّك أعِنّة خيل تنقاد له لَيَركبَنّ منك طبقاً تخافه(5) . قال معاوية : إن يطلبْ هذا الأمرَ فقد يطمعُ فيه مَن هو دونه ، وإن يتركْه فإنّما يتركُه لمَن هو فوقه(6) . وما أراكم بمنتهين حتّى يبعثَ اللَّهُ إليكم مَن لا يعطِف عليكم بقرابة ، ولا يَذكُركم عند مُلمّة ، يسومُكم خَسْفاً ، ويُوردكم
ص: 378
تَلَفاً ! فقال ابن الزبير : إذاً واللَّهِ نُطلق عِقال الحرب بكتائب تَمُورُ كرجِل الجَراد(1) ، حافَتُها الأسَل(2) ، لها دَويّ كدوِيّ الريح ، تتبع غِطْريفاً(3) من قريش لم تكن أُمُّه براعيةِ ثَلّة(4) . فقال معاوية : أنا ابن هند(5) ، إنْ أطلقتُ عِقال الحرب أكلَتْ ذِرْوةَ السَّنام وشَربتْ عُنفُوان المَكْرع(6) ، وليس للآكلِ إلّا الفِلْذة ، ولا للشارب إلّا الرَّنْق(7) .(8)
أتى أعرابيّ مروانَ فقال : أفرض لي ، فقال : قد طوينا الدفتر وفرغنا . قال الأعرابيّ : أمَا إنّي الذي يقول :
إذا مُدِحَ الكريمُ يَزيدُ خيراً * وإنْ مُدِحَ اللئيمُ فلا يَزيدُ
وقد كان مدح مروان ثمّ هجاه، فقال: أنت هو؟! لا بدّ لك من فرض ، ففرض له(9).
المدائنيّ عن مسلمة قال : كان لمروان بأرضه بذي خُشُب(10) غلام يقال له جُرَيْج ، فقال له يوماً : يا جريج ، أَدْرَكَ شي ءٌ من غَلّاتنا ؟ قال : يوشك أن يدرك ، وكأنّك بها . فركب مروان إلى أرضه فتلقّته أحمالٌ ، فقال : من أين هذه ؟ قالوا : من ضيعتك بذي
ص: 379
خُشُب ، فأتى الأرض فقال : يا جُرَيْج ، إنّي أظنّك خائناً ! قال : وأنا واللَّه أظنّك أيّها الأمير عاجزاً ، اشتريتني وأنا في مِدرَعة صوف ثمّ أنا اليوم موسرٌ قد اتّخذتُ الخدم وابتنيت المنازل . واللَّهِ إنّي لَأخونك ، وإنّك لَتخون أميرالمؤمنين ، وإنّ أميرالمؤمنين لَيخون اللَّه ، فلعن اللَّه شرَّ الثلاثة(1) !
دخل الزهريّ على الوليد بن عبد الملك ، فقال له : ما حديث يحدِّثنا به أهل الشام ؟ قال : وما هو يا أميرالمؤمنين ؟ قال : يحدّثوننا أنّ اللَّه إذا استرعى عبداً رعيّةً كتب له الحسنات ولم يكتب له السيّئات. قال : باطلٌ يا أميرالمؤمنين ، أنبيٌّ خليفةٌ أكرمُ على اللَّه أم خليفةٌ غيرُ نبيّ ؟ قال : بل نبيّ خليفة . قال : فإنّ اللَّه يقول لنبيّه داود : « يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ »(2) فهذا وعيدٌ لنبيّ خليفة ، فما ظنّك بخليفة غير نبيّ ؟! قال : إنّ الناس ليُغْروننا عن ديننا(3) !
دخل الوليد بن يزيد على هشام بن عبد الملك ، وعلى الوليد عمامةُ وَشْي ، فقال له هشام : بكمْ أخذتَ عمامتك ؟ قال : بألفِ درهم . فقال هشام : عمامةٌ بألفٍ ! يستكثرُ
ص: 380
ذلك ، فقال الوليد : إنّها لِأكرم أطرافي يا أميرالمؤمنين ، وقد اشتريتَ جاريةً بعشرة آلاف درهم لأخسّ أطرافك(1) !
دخل يزيد بن أبي مسلم صاحب شرطة الحجّاج على سليمان بن عبد الملك بعد موت الحجّاج ، فقال له سليمان : قبّح اللَّه رجلاً أجّرك رَسَنَه وأوْلاك أمانته ! فقال : يا أميرالمؤمنين ، رأيتني والأمر لك وهو عنّي مُدبِر ، ولو رأيتني وهو عليَّ مُقبِل لاستكبرتَ منّي ما استصغرتَ واستعظمتَ منّي ما استصغرت !
فقال سليمان : أترى الحجّاج استقرّ في جهنّم ؟ فقال : باللَّه لا تقلْ ذلك ؛ فإنّ الحجّاج وطّأ لكم المنابر وأذلّ لكم الجبابرة ، وهو يجي ء يوم القيامة عن يمين أبيك وشمال أخيك ؛ فحيثما كانا كان(2)!
الزبير بن بكّار ، قال : حدّثني مبارك الطبريّ قال : سمعت رجلاً من أهل مكّة يقال له أبو الماهر يقول : قَدِم المنصور للحجّ ، فكان يخرج من دار النَّدوة إلى الطَّواف في آخر الليل مُستتراً من الناس ، فيطوف بالبيت ويصلّي ويدعو ،لا يُعرف موضعُه ، فإذا أضاء الفجر عاد إلى دار النَّدوَة ، وجاء المؤذّنون فسلّموا عليه ، وأُقيمت الصلاة ، فيخرج فيصلّي بالناس . فخرج ذات ليلة حين أسحَر ، فطاف بالبيت فسمع رجلاً في الملتَزَم(3) يقول : اللّهمّ إنّي أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يَحول بين
ص: 381
الحقِّ وأهله من الطمع(1) . قال : فاقتصد المنصور في مشيه حتّى ملأ مسامعه من قوله ، ثمّ خرج من الطواف فجلس ناحيةً من المسجد ، وأرسل إلى الرجل فقال له : أجبْ أميرالمؤمنين . فصلّى ركعتين واستلم الركن ، وأقبل مع الرسول ، فسلّم عليه فقال له المنصور : ما هذا الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحقّ وأهله من الطمع ؟ فواللَّه لقد حشوتَ مسامعي ما أرمضني(2) وأقلقني .
قال : يا أميرالمؤمنين ، إنْ أمِنتَني على نفسي أنبأتُك بالأمور من أصولها ، وإلّا احتجزتُ منك واقتصرت على نفسي ، ففيها شاغل عن سوى ذلك . قال المنصور : فأنت آمِنٌ على نفسك . فقال : يا أميرالمؤمنين ، إنّ الذي دخله الطمع حتّى حال بينه وبين الحقّ ، فأظهرَ طمعُه في الأرض الفساد والبغي لَأنتَ !
قال : وَيْحَك ، وكيف يدخلني الطمعُ والصفراء والبيضاء في قبضتي ، والحلو والحامض في يدي ! فقال : يا أميرالمؤمنين ، وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك ؟! إنّ اللَّه تبارك وتعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلتَ أمورهم ، واهتممتَ بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من جصٍّ وآجُرّ ، وأبواباً من حديد ، بعضها على إثْر بعض ، وحجَبةً عليها في أيديهم السلاح ، ثمّ سجنتَ نفسك فيها واحتجبتَ بها عنهم ، وبعثت عمّالك في جباية الأموال وجمْعِها وحَشْرِها إليك ، وقوّيتهم بالرجال والكراع ، وأمرت بألّا يدخل عليك من الناس إلّا فلاناً وفلاناً ، لنفرٍ يسير ، ونهيتهم أن يوصلوا إليك مظلوماً أو ملهوفاً أو جائعاً أو عارياً أو ضعيفاً فقيراً له في هذا المال الذي قِبَلك حقّ ، فجبى عمّالُك الأموال وجمعوها وحشروها إليك ، فأودعتها الخزائن بمدينتك ، ولم تُعطِها أهلَها . فلمّا رآك هؤلاء النَّفرُ الذين استخلفتهم
ص: 382
لنفسك ، وخَصَصتهم ببرّك ، وآثرتهم على رعيّتك ، تجمُّ(1) الأموال وتجمعها وتستأثر بها ، فلا تقسّمها على أهلها ، وتمنعهم حقوقَهم منها ، قالوا : هذا قد خانَ اللَّهَ ، فما لنا لا نخونه ؟! وقد سجن نفسه وأمكنتنا منه الفرصة ، واطّلعنا منه على العَورة ! فتوازَروا على أن لا يصل إليك من علم خبر الناس إلّا ما أحبّوا ، وأنْ لا تطّلع من أمورهم إلّا على ما أرادوا ، وأن لا يخرج لك عامل فيخالف أمورهم ويطرح رأيهم ، إلّا قصبوه(2) عندك واغتابوه حتّى تسقط منزلته ويسقط قدره ، فأجمع رأيهم وأمرهم على ذلك ، وانتشر لهم بذلك عند الخاصّة والعامّة من رعيّتك أنّهم يضرّون وينفعون عندك مَن شاؤوا ، وأنّك تقبل قولهم وتعمل برأيهم ، فأعظَمَهم مَن مِن وراء بابك وخافوهم ، فكان أوّل مَن صانَعَهم من الناس وداراهم عمّالُك ، فأرسلوا إليهم بالهدايا ليقووا بها على ظُلم رعيّتك ، فامتلأت الأرض من طمعك الحاجز بينك وبين الحقّ ، بغياً وفساداً ، وصار هؤلاء النَّفر الذين سجنتَ نفسك لهم بطمعك شركاءك في سلطانك ، يكسبون لك الآثام ، ويُطوّقونك الخطايا ، ويُحمّلونك الأوزار، وأنت غافل أو متغافل كأنّك لا تعلم أنّه إن ظَلَم أحدٌ من عمّالك أحداً من رعيّتك ، أو قويٌّ من جندك غصَب ضعيفاً من ذوي العَهد فجاءك متظلّماً ، إنّه يُحال بينك وبينه . وإنْ أراد أنْ يرفع إليك قِصّة(3) عند ظهورك ، وجدك قد نَهيتَ عن ذلك ، ووقفتَ للناس رجلاً ينظر في مظالمهم ؛ فإن أتى ذلك الرجل بمَظْلمةٍ لمسلمٍ أو مُعاهد ، وبلغ ذلك بِطانتك ، أتَوا الرجل فسألوه أن لا يرفع مظلمته ؛ فإنّ الذي يتظلّم منه له به حُرمة . وما حرمتُه إلّا قِدَم خيانته ! فأجابهم صاحبُ الظالم إلى ذلك ، واختلف المظلومُ أيّاماً يلوذُ به(4) ويشكو إليه ، فيعتلّ عليه ويدفعه ويمنِّيه ، فإذا ظهرتَ صرخَ بين يديك مستغيثاً ، فضُرب
ص: 383
وجُعل نكالاً لغيره ، وأنت تنظر إليه ، وتحتجُّ عليه بأنّك قد وقفتَ له رجلاً ينظر في ظُلامته ، فما بقاءُ الإسلام وأهله على هذا ؟!
يا أميرالمؤمنين ! قد كانت بنو أُميّة على ما كان فيهم(1) ، وكانت العرب بِطانتَها(2) لا تنهى مظلوماً عن رفعِ مَظلمةٍ ، ولقد كان يأتي المظلوم في عصر بني أُميّة من أقاصي الأرض حتّى إذا وصل إلى باب سلطانهم نادى : يا أهلَ الإسلام ! فيقولون : ما لَكَ ؟ ما لَكَ ؟ ليس في ذلك طلبُ ثوابٍ إلّا التماس مكارم الدنيا(3) . فيقول : أُخيَّ إليّ في الإسلام كذا وكذا ، فيبتدر بعضُهم بعضاً المنطقَ عند سلطانهم ، فيقولون : بالباب رجل يشكو كذا وكذا ، فيُنظَر في ظُلامته ويُنصَف . وقد كنتُ أُسافر إلى أرض الصين ، فقَدِمتُها في بعض أسفاري ، وقد أُصيب مَلِكهم بسمعه ، فبكى يوماً بين يدَي وزرائه ، فقالوا له : ما أبكاك أيّها الملك ، لا بكت عيناك ؟! قال : أمَا إنّي لستُ أبكي للبليّة التي نزلت بي ، ولكنّي أبكي لمظلومٍ يصرخ ولا أسمع صوته ! ثمّ قال : أما إذا ذهب سمعي فإنّ بصري لم يذهب ؛ نادوا في الناس : ألّا يلبس ثوباً أحمَر إلّا مظلوم ، ثمّ كان يركب الفيل طرفَي النهار وينظر هل يرى مظلوماً(4) .
يا أميرالمؤمنين ، هذا مشرك باللَّه ، قد غلبت رأفتُه بالمشركين شُحَّ نفسِه ، وأنت مؤمن باللَّه ، ثمّ أنت ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فلا يغلبنّك شحُّ نفسك فتَدَع الرأفةَ بالمسلمين ، فإنّك لا تجمع الأموال إلّا لواحد من ثلاث . إن قلتَ : أجمعه لولدي ؛ فقد
ص: 384
أراك اللَّه عِبَراً في الطفل الصغير ، يسقط من بطن أُمّه ما لَهُ من مال ، وما من مالٍ إلّا عليه يدٌ حاوية ، ودونه يدٌ شحيحة عليه ، فلا يزال اللَّه يَلطُف بذلك الطفل حتّى تَعظُم رغبةُ الناس إليه ؛ فلستَ الذي تُعطي بل اللَّه الذي يُعطي مَن يشاء ما يشاء . وإن قلتَ : إنّما أجمع الأموال لتشييد مُلكي ، فقد أراك اللَّه عِبَراً في بني أُميّة ؛ ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضّة ، وما استعدّوا من الخيل والرجال والكُراع حين أراد اللَّه بهم ما أراد ، وما ضَرَّكَ وولدَ أبيك من الضعف وقلّة الجدّ ، والخمول حين أراد اللَّه بكم ما أراد . وإن قلتَ : إنّما أجمعُ الأموالَ لطلبِ غايةٍ هي أَجْسَمُ من الغاية التي أنا فيها ، فواللَّه ما مِن غايات الدنيا غاية هي أَجْسَمُ من الغاية(1) التي أنت فيها ، ولا بعدها غاية هي أَجْسَمُ منها ؛ لا تنجو إلّا بما تعمل من العمل الصالح .
ثمّ قال : يا أميرالمؤمنين ، هل تُعاقب مَن عصاك من رعيّتك بأشدّ من القتل ؟ قال : لا . قال : فكيف تصنع بالمَلك الجبّار الذي خوّلك مُلك الدنيا وهو لايعاقب مَن عصاه بالقتل ، ولكن يعاقبهم بالخلود في العذاب الأليم(2) ؟! وقد رأى جلّ ثناؤه ما قد عقد عليه قلبك ، وأضمرَتْه جوارحك ، ونظر إليه بَصَرُك واجترَحَتْه يداك ، ومشت إليه رِجلاك ، وما حَمَلتَ على ظهرك ! فماذا تقول إذا انتزعَ المَلِك الجبّار مُلك الدنيا من يدك ، ودعاك إلى الحساب فيما خوّلك ؟! هل يُغني عنك ما شححتَ عليه من مُلكِ الدنيا ؟! فبكى المنصور ، وقال : ليتني لم أُخلَق في الدنيا ! ثمّ قال : كيف أحتال لنفسي ؟ فقال : يا أميرالمؤمنين ، إنّك أضرَرتَ بآخرتِك فنِلتَ من دنياك ، فاضرُرْ بدنياك تَنَلْ من آخرتك .
ص: 385
قال : فكيف أصنع فيما خُوّلتُ ولم أرَ من الناس إلّا خائناً(1) ؟ فقال : إنّ للناس أعلاماً يفزعون إليهم ، فاجعلهم بِطانتك يُرشدوك وشاوِرْهم في أُمورك يُسدّدوك .
قال المنصور : قد بعثتُ إليهم ، فهربوا منّي . قال : هربوا مخافةَ أن تحملهم على مثل ما ظهرمن فعلِ عمّالك - وفي لفظ : أن تحملهم على طريقتك - ولكن افتح الأبواب ، وسهِّل الحجاب ، وانتصرْ للمظلوم ، واقمَع الظالم ، وخُذ الفي ء والصدقات ممّا حلَّ وطاب ، واقسِمه بالعدل والحقّ ، وأنا الضّامن على الذين هربوا منك أن يأتوك ويشايعوك على صلاح أمرهم وأمرك وصلاح رعيّتك . فقال المنصور : اللّهمّ وفّقني لأن أعمل بما قال هذا الرجل .
وجاء المؤذّنون فسلّموا عليه ، وأقيمت الصلاة فصلّى بالناس ، ثمّ عاد إلى مجلسه من المسجد فطلب الرجلَ فلم يوجد ، فقال بعض الناس : نظنّه رجلاً من الأبدال ، وقال بعض الناس : نظنّه الخضر عليه السلام(2) .
عن الشّيبانيّ ، قال : كان أبو جعفر المنصور أيّام بني أُميّة إذا دخل البصرة دخل مُستتراً ، فكان يجلس في حلقة أزهر السمّان(3) المحدّث ، فلمّا أفضَت الخلافة إليه قَدِم
ص: 386
عليه أزهر ، فرحّب به وقرّبه ، وقال له : ما حاجتُك يا أزهر ؟ قال : داري متهدّمة ، وعلَيّ أربعة آلاف درهم ، وأريد لو أنّ ابني محمّداً بَنى(1) بعياله . فوصله باثني عشر ألفاً ، وقال : قد قضينا حاجتك يا أزهر ، فلا تأتِنا طالباً ! فأخذها وارتحل .
فلمّا كان بعد سنة أتاه ، فلمّا رآه أبو جعفر قال : ما جاء بك يا أزهر ؟ قال : جئتك مُسلّماً . قال : إنّه يقع في خَلَد أميرالمؤمين أنّك جئتَ طالباً . قال : ما جئتُ إلّا مسلّماً . قال : قد أمرنا لك باثنَي عشر ألفاً ، واذهب فلا تأتِنا طالباً ولا مسلّماً ! فأخذها ومضى . فلمّا كان بعد سنة أتاه ، فقال : ما جاء بك يا أزهر ؟ قال : أتيتُ عائداً . قال : إنّه يقع في خَلَدي أنّك جئت طالباً . قال : ما جئتُ إلّا عائداً . قال : قد أمرنا لك باثنَي عشر ألفاً ، واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلّماً ولا عائداً ، فأخذها وانصرف ، فلمّا مضت السنة أقبل ، فقال له : ما جاء بك يا أزهر ؟ قال : دعاءٌ كنتُ أسمعك تدعو به ، جئت لأكتبه ! فضحك وقال : إنّه دعاء غير مُستجاب ، وذلك أنّي قد دعوت اللَّه به ألّا أراك فلم يستجبْ لي ! وقد أمرنا لك باثنَي عشر ألفاً وتعال متى شئت ، فقد أعيتني فيك الحيلة(2) !
دخل شابّ من بني هاشم على المنصور وجعل يحدّثه ويقول : كان أبي رحمه اللَّه تعالى ، وكان وكان ، وأكثَرَ من الترحّم عليه ، فقال له الربيع : كم تذكر أباك وتترحّم
ص: 387
عليه بحضرة أميرالمؤمنين ؟ فقال الهاشميّ : يا ربيع ، أنت معذور في ذلك لأنّك لم تَذُق حلاوة الآباء - وفي لفظ : لأنّك لا تعرف مقدار الآباء - فخجل منه(1) .
ص: 388
لمّا خرج الرشيد إلى الحجّ وقرُب من المدينة ، استقبله الوجوه من أهلها يقدمهم موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام على بغلةٍ ، فقال الربيع : ما هذه الدابّة التي تلقّيتَ عليها أميرَالمؤمنين ، وأنت إن طَلبتَ عليها لم تُدْرِك ، وإن طُلبتَ عليها لم تَفُتْ ؟! فقال : إنّها تَطأطأتْ عن خُيَلاء الخَيل وارتفعتْ عن ذلّة العِير ، وخيرُ الأُمور أوساطُها(1) .
قال الهيثم والمدائنيّ : كان أبو فَرْوة من سبيّ عَيْن الّتمْر ، فابتاعه ناعم الأسديّ ، ثمّ ابتاعه منه عثمان بن عفّان فأعتقه وجعله يحفر القبور ، فلمّا وثب الناس بعفّان قال له : يا عُثمان ، رُدَّ المَظالم . فقال له عثمان : أنت أوّلها ، ابتعتُك من مال الصدقة لتحفر القبور فتركتَ ذلك(2) .
عن محمّد بن صبيح الأبيضيّ ، قال : كان يونس بن محمّد بن عبد اللَّه بن أبي فَروة يتيماً في حِجْر جدّته ، وكانت لجدّته جارية نفيسة ، فغَشِيَها يونس يوماً بغير علم جدّته فأحبَلَها ! فولدت الربيع أبا الفضل بن الربيع - وربيع هو صاحب المنصور - فجحَدَته جدّتُه وجحَدَه يونس . فلمّا شبّ باعته جدّتُه فاشتراه زياد بن عبيد اللَّه الحارثيّ عامل أبي العبّاس على المدينة وأهداه إلى أبي العبّاس ، ثمّ صار إلى المنصور ؛ فلمّا استحجَبَه(3) استمال بني أبي فروة وبَرَّهم وأَرْغَبهم ، فشهدوا أنّه ابنُ يونس وأنّه كان قد أقرّ به(4) .
وكان الفضلُ بن الربيع حاجب الرشيد ، وكان يدعوه العبّاسيّ(5) !
ص: 389
خرج المهديّ يوماً يتصيّد ، فلقيه الحسين بن مُطَير الأسديّ فأنشده :
أضحَتْ يمينُكَ من جُودٍ مصوّرةً * لا بل يمينُكَ منها صُوِّرَ الجُودُ
من حُسْنِ وجهِكَ تُضحي الأرضُ مشرقةً * ومن بَنانِكَ يجري الماءُ في العُود !
فقال المهديّ : كذبت يا فاسق ! وهل تركتَ في شعرك موضعاً لأحد مع قولك في معن بن زائدة :
ألِمّا بمَعْنٍ ثمّ قُولا(1) لقبرِه :
سَقَتكَ الغَوادي مُربِعاً ثمّ مُربِعا * فَيا قبرَ مَعْنٍ كنتَ أوّلَ حُفْرةٍ
من الأرضِ خُطَّت للمَكارمِ مَضجَعا(2)
ويا قبرَ مَعْنٍ كيف وارَيتَ جُودَهُ * وقد كانَ منه البَرُّ والبحرُ مُترَعا
ولكنْ حَوَيتَ الجودَ(3) ، والجودُ ميّتٌ * ولو كان حيّاً ضِقتَ حتّى تَصَدَّعا
وما كانَ إلّا الجود صورة وجههِ * فعاشَ ربيعاً ثمّ ولّى فوَدَّعا(4)
فلمّا مضى مَعنٌ مَضى الجودُ والنَّدى * وأصبحَ عِنينُ المكارمِ أجدَعا(5)
فأطرق الحسين ، ثمّ قال : يا أميرالمؤمنين ، وهل معن إلّا حسنة من حسناتك ! فرضي عنه وأمر له بألفَي دينار(6) .
ص: 390
رُوِيَ أنّ مَعن بن زائدة الشيبانيّ ، كان يُقدِّم ابنَ أخيه : يزيد بن مزيد الشيبانيّ(1) ، فعاتبته امرأتُه في ذلك وقالت له : كم تُقدّم يزيد ابن أخيك وتُؤخّر بَنيك ! ولو قدّمتهم لتقدّموا ولو رفعتهم لارتفعوا ! فقال لها : إنّ يزيد قريب منّي وله علَيّ حقّ الولد إذ كنتُ عمَّه ، وبعد فإنّ بَنيَّ ألوَطُ(2) بقلبي وأدنى من نفسي ، ولكنّي لا أجد عندهم من الغَناء ما عنده ، ولو كان ما يضطلع به يزيد في بعيد لصار قريباً أو عدوّ لصار حبيباً ، وسأريكِ في هذه الليلة ما تَبسُطين به عذري . يا غلام ، اذهب فادعُ جَسّاساً وزائدة وعبد اللَّه وفلاناً وفلاناً ، حتّى أتى على جميع أولاده ، فلم يلبثوا أن جاءوا بالغَلائل المُطيَّبة والنِّعال السِّنديّة ، وذلك بعد هَدْأةٍ من الليل ، فسلّموا وجلسوا . ثمّ قال معن : يا غلام، ادعُ يزيد ، فلم يلبث أن دخل عَجِلاً وعليه سلاحُه ، فوضع رمحه بباب المجلس ،
ص: 391
ثمّ دخل ، فقال له معن : ما هذه الهيئة يا أبا الزبير(1) ؟ فقال : جاءني رسول الأمير فسَبَق وَهْمي إلى أنّه يريدني لمهمّ ، فلبستُ سلاحي وقلت : إن كان الأمر كذلك مَضيتُ ولم أُعرِّج(2) ، وإن كان على غير ذلك فنَزْعُ هذه الآلة عنّي من أيسر شي ء ، فقال معن : انصرفوا في حفظ اللَّه . فلمّا خرجوا ، قالت زوجته : قد تبيّن لي عذرك ، فأنشد متمثّلاً :
نَفسُ عِصامٍ سَوَّدتْ عِصاما * وَعَلّمَتْهُ الكَرَّ والإقداما
وصَيَّرَتْهُ مَلِكاً هُماما(3)
قال بعضهم : كنت مع يزيد بن مِزْيد ، فإذا صائحٌ في الليل : يا يزيد بن مزيد ! فقال يزيد : عليَّ بهذا الصائح ، فلمّا جي ء به قال له : ما حَمَلَك على أن ناديت بهذا الاسم ؟ فقال : نَفَقتْ دابّتي ونَفِدتْ نفقتي ، وسمعتُ قول الشاعر فتمنّيتُ به ، فقال : وما قال الشاعر ؟ فأنشد :
إذا قيل : مَن للمجدِ والجودِ والنَّدى * فنادِ بصوتٍ : يا يزيدُ بنَ مزيد
فلمّا سمع يزيد مقالته هشّ له ، وقال له : أتعرف يزيد بن مزيد ؟ قال : لا واللَّه . قال : أنا هو ، وأمر له بفرس أَبْلَق كان مُعجباً به وبمائة دينار(4) .
بعد قتل يزيد بن مزيد الشيبانيّ الوليدَ بن طريف الشيبانيّ الخارجيّ دخل على
ص: 392
الرشيد فقدّمه ورفع مرتبته ، وقال له : يا يزيد ، ما أكثرَ أمراء المؤمنين في قومك(1) ؟ قال : نعم ! إلّا أنّ منابرهم الجذوع ، يعني الجذوع التي يُصلَبون عليها إذا قُتِلوا(2) .
الأصمعيّ قال : دخل أبو بكر الهَجَريّ على المنصور ، فقال : يا أميرالمؤمنين ، نَغَض فمي ، وأنتم أهل البيت بركة ، فلو أذِنتَ فقبّلتُ رأسَك ، لعلّ اللَّه يُمسِك عليَّ ما بقي من أسناني . قال : اختَرْ بينها وبين الجائزة . فقال : يا أميرالمؤمنين ، أيسَرُ عليَّ من ذهاب الجائزة ألّا تبقى في فمي حاكّة ! فضحك المنصور وأمر له بجائزة(3) .
قال موسى الهادي لهارون أخيه : كأنّي بك تُحدّثُ نفسك بتمام الرؤيا(4) ، وتؤمّل ما أنت عنه بعيد ، ومن دون ذلك خَرْطُ القَتَاد ! فقال له هارون : يا أميرالمؤمنين ، مَنْ تكبّر وُضع ، ومَن تواضع رُفِع ، ومن ظُلِم خُذِل ، وإنْ وصلَ الأمرُ إليَّ وصَلْتُ مَن قطعت ، وبَرَرتُ مَنْ حرَمْت ، وصيّرتُ أولادك أعلى من أولادي وزوّجتهم بناتي ، وقضيت بذلك حقّ الإمام المهديّ ؛ فانجلى عن موسى الغضب ، وبانَ السرور في
ص: 393
وجهه ، وقال : ذلك الظنّ بك يا أبا جعفر ! ادنُ منّي ، فقام هارون فقبّل يده ، ثمّ ذهب ليعود إلى مجلسه ، فقال موسى : والشيخ الجليل ، والملكِ النبيل ، لا جلستَ إلّا معي في صَدْر المجلس . ثمّ قال : يا خَزّاني ، احمل إلى أخي الساعة ألف ألف دينار ، فإذا فتح الخراج فاحمل إليه نصفَه . فلمّا أراد الانصراف قُدِّمت دابّته إلى البساط(1) .
دخل المأمون يوماً بيت الديوان ، فرأى غلاماً جميلاً على أذنه قلم ، فقال : مَن أنت يا غلام ؟ قال : أنا الناشئ في دولتك ، والمتقلِّبُ في نعمتك والمؤمِّلُ لخدمتِك ، الحسنُ بن رجاء(2) . قال المأمون : بالإحسان في البديهة تفاضَلت العقول ، ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته(3) .
ذكر أبو الفَرج الأصبهانيّ في مقاتله ، قال : ناظر هارونُ العبّاسيّ يحيى بن عبد اللَّه بن الحسَن ، وممّا قال له : أيُّنا أقرب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، أنا أو أنت ؟ فقال : يا أميرالمؤمنين ، لو عاش رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وخطب إليك ابنتك ، أكنتَ تُزوّجه ؟ قال : إي واللَّه ! قال : فلو عاش فخطب إليَّ أكان يحلّ لي أن أزوّجه ؟ قال : لا . قال : فهذا جوابُ ما سألتَ .
فغضب هارون وقام من مجلسه ، وخرج الفَضْلُ بن الرَّبيع وهو يقول : لَودِدتُ أنّي فَدَيتُ هذا المجلس بشطرِ ما أملكه(4) .
ص: 394
الأصمعيّ قال : كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصليّ فأنشده :
وآمِرةٍ بالبخلِ قلتُ لها : اقْصُري * فليس إلى ما تأمُرينَ سبيلُ
فِعالي فِعالُ المُكثِرينَ تَجمُّلاً * ومالي كما قد تَعلمينَ قليلُ
فكيف أخافُ الفقرَ أو أُحرَمُ الغِنى * ورأيُ أميرالمؤمنينَ جميلُ ؟!
فقال له الرشيد : للّهِ دَرُّ أبياتٍ تأتينا بها ! ما أحسنَ أُصولَها وأبْيَنَ فُصولَها ، وأقلّ فضولَها ! يا غلام أَعطِه عشرين ألفاً . قال : لا واللَّه ، لا أخذتُ منها درهماً واحداً ! قال : ولِمَ ؟ قال : لأنّ كلامك يا أميرالمؤمنين خيرٌ من شعري . قال : أعطُوه أربعين ألفاً .
قال الأصمعيّ : فعلمتُ واللَّه أنّه أصْيَدُ لدراهمِ الملوك منّي(1) .
قال الأصمعيّ : كنتُ عند الرشيد ، فأُتي بعبدِ الملك بن صالح(2) يَرفُل في قيوده ، فلمّا مَثُل بين يدَي الرشيد ، التفتَ الرشيد يحدّث يحيى بن خالد ، وتمثّل ببيت عمرو بن مَعْدِي كَرب :
ص: 395
أُريدُ حياتَهُ ويُريدُ قتلي * عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرادِ
ثمّ قال : أما واللَّه لكأنّي أنظر إلى شُؤبوبها قد هَمَع(1) ، وعارضِها(2) قد لَمَع ، وكأنّي بالوعيد قد وقع ، فأقلعَ ابن بَراجمَ(3) بلا مَعاصم ، وجماجم بلا غَلاصم(4) ، فمهلاً مهلاً ؛ فَبِي واللَّهِ يسهل لكم الوَعْر ، ويصفو لكم الكدر ، وألقَتْ إليكم الأُمورُ مقاليدَ أزمَّتِها ، فالتَّدارُكَ التّدارُكَ قبل حلول داهية خَبُوطٍ باليد لَبُوطٍ بالرِّجل .
قال عبد الملك : أتكلّم يا أميرالمؤمنين ؟ قال : قل .
قال : اتّقِ اللَّه في ذي رحمك وفي رعيّتك التي استرعاك ، ولا تجعل الكفر مكان الشكر ، ولا العقاب موضعَ الثواب ؛ فقد محضتُ لك النصيحة وأدّيت لك الطاعة ، وشددتُ لك أَوَاخي مُلكك بأثقل من رُكنَيْ يَلمْلَم(5) ، وتركت عدوَّك سبيلاً تتعاوره(6) الأقدام ، فاللَّهَ اللَّهَ في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصَلْتَه ؛ إنّ الكتاب لَنميمةُ واشٍ وبغيُ باغٍ ، ينهش اللحم ، ويَلِغ في الدم ، فكم ليل تمامٍ فيك كابَدْتُه ، ومَقام ضيق فرَّجْتُه ، وكنتُ كما قال الشاعر :
ومَقام ضيّق فرّجْتُهُ * بلساني ومَقامي وجَدَلْ
لو يقومُ الفيلُ أو فَيّالُهُ * زَلَّ عن مثلِ مقامي وزَحَلْ
فرضي عنه ورحّب به وقال : وَرِيتْ بك زنادي(7) .
ص: 396
قال شُعيب بن حَرْب(1) : بينا أنا في طريق مكّة إذ رأيت هارون الرشيد ، فلمّا دنا منّي صِحتُ : يا هارون ، قد أتعبتَ الأمّة وأتعبت البهائم ! فقال : خُذوه ، ثمّ أُدخِلت عليه وهو على كرسيّ وبيده عمود يلعب به ، فقال : ممّن الرجل ؟ قلت : من أَفْناءِ النّاس ، فقال : ممّن ثكلتك أُمُّك ؟! قلت : من الأبناء . قال : ما حمَلَكَ على أن تدعوني باسمي ؟ فقلت : أنا أدعو اللَّه باسمِه فأقول : يا اللَّه ، يا رحمن ، ولا أدعوك باسمِك ؟! وما تُنكر من دعائي باسمِك ، وقد رأيتُ اللَّه تعالى سمّى في كتابه أحبَّ الخلق إليه محمّداً ، وكنّى أبغضَ الخلق إليه أبالهب فقال : « تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ »(2) . فقال : أخرِجوه ، فأخرَجوني(3) .
قال المأمون لأبي عليّ المِنقريّ : بلغني أنّك أُمّيٌّ ، وأنّك لا تُقيم الشِّعر ، وأنّك تَلْحَن في كلامك . فقال : يا أمير المؤمنين ، أمّا اللحن فربّما سبقني لساني بالشي ء منه ، وأمّا الأُمّيّة وكسر الشعر فقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله أُمّيّاً ، وكان لا يُنشد الشِّعر . قال المأمون : سألتُك عن ثلاث عيوب فيك فزدتني عيباً رابعاً ، وهو الجهل ! يا جاهل ، إنّ ذلك في
ص: 397
النبيّ صلى الله عليه وآله فضيلة ، وفيك وفي أمثالك نقيصة ، وإنّما مُنع النبيّ ذلك لنفي الظِّنّة عنه ، لا لعيب في الشعر والكتاب ، وقد قال تبارك وتعالى : « وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ »(1) .(2)
قال المأمون لرجلٍ قد جنى جناية : واللَّهِ لأقتلنّك . فقال الرجلُ : يا أميرَالمؤمنين ، تأنَّ عليَّ ؛ فإنّ الرِّفْقَ نصفُ العَفْو . قال : وكيف وقد حلفتُ لأقتلنّك ؟ قال : يا أميرَالمؤمنين ، لَأنْ تلقى اللَّه حانثاً خيرٌ لك من أن تلقاه قاتلاً ، فخلّى سبيله(3) .
ويبدو أنّ جناية الرَجُل ليست من تلكم الجنايات التي تستحقّ إقامة حدّ القتل ، ولكي يتخلّص الرجل من هذا العقاب استفاد من ذكائه فسدّ باب الذريعة بوجه المأمون وفتح باباً آخر ، إذ كفّارة الحنث باليمين ليست مثل كفّارة القَتْلِ .
حدّث أبو عبّاد الكاتب(4) - وكان خاصّاً بالمأمون - قال : قال لي المأمون : ما
ص: 398
أعياني إلّا جواب ثلاثة أنفُس : صِرتُ إلى أُمّ ذي الرياستين(1) أُعزّيها عنه فقلتُ : لا تأسي عليه ولا تحزني لفقده ؛ فإنّ اللَّه قد أخلف عليكِ منّي ولداً يقوم لكِ مقامه ، فمهما كنتِ تنبسطين إليه فلا تنقبضي عنّي منه ، فبكت ثمّ قالت : يا أميرالمؤمنين ، وكيف لا أحزن على ولدٍ أكسَبَني وَلَداً مثلك ؟!
ص: 399
وأُتيتُ برجل قد تنبّأ فقلت له : مَن أنت ؟ قال : موسى بن عمران عليه السلام ، فقلت : وَيْحك ! إنّ موسى ابن عمران عليه السلام كانت له آياتٌ ودلالاتٌ بانَ بها أمرُه ، منها أنّه ألقى عصاه فابتلعت كيْدَ السَّحرة ، ومنها إخراجه يده من جيبه وهي بيضاء ، وجعلتُ أعدّد عليه ما أتى به موسى بن عمران عليه السلام ، من دلائل النبوّة ، وقلت له : لو أتيتني بشي ء واحد من علاماته أو آية من آياته كنتُ أوّل مَن آمن بك وإلّا قتلتك . فقال : صدقت ، إلّا أنّي أتيتُ بهذه العلامات لمّا قال فرعون : أنا ربُّكم الأعلى ، فإن قُلتَ أنت كذلك أتيتُك من العلامات بمثلِ ما أتيتُه به .
والثالثة : أنّ أهل الكوفة اجتمعوا يَشْكون عاملاً كنت أحمدُ مذهبه وأرتضي سيرته ، فوجّهت إليهم إنّي أعلم سيرة الرجل ، وأنا عازم على القعود لكم في غداة غدٍ ، فاختاروا رجلاً يتولّى المناظرة عنكم ، فأنا أعلم بكثرة كلامكم ، فقالوا : ما فينا مَن نرتضيه لمناظرة أميرالمؤمنين غير رجل أطروش(1) ، فإن صبر أميرالمؤمنين عليه تفضّل بذلك ، فوعدتهم الصبر عليه ، وحضروا من الغد ، فقلت للأطروش : ما تشكو من عاملكم ؟ فقال : هو شرُّ عامل في الأرض ، أما في السنة الأُولى من ولايته فإنّا بعنا أثاثَنا وعقارَنا ، وفي السنة الثانية بعنا ضياعنا وذخائرنا ، وفي السنة الثالثة خرجنا عن بلدنا ، فاستغثنا بأميرالمؤمنين ليرحم شكوانا ويتطوّلَ علينا بصرفه عنّا . فقلتُ له : كذبتَ لا أمان لك ، بل هو رجل أحمدتُ سيرتَه ومذهبَه وارتضيتُ دينَه وطريقته ، واخترتُه لكم لمعرفتي بكثرة سخطكم على عمّالكم . قال : يا أميرالمؤمنين ، صدقتَ وكذبتُ أنا ! ولكن هذا العامل الذي ارتضيت دينه وأمانته وعفّته وعدله وإنصافه، كيف خصصتنا به هذه السنين دون البلاد التي ألزمك اللَّه عزّ وجلّ من العناية بأُمورها مثلَ ما ألزمك من العناية بأمرنا ! فاستَعْمِله على هذه البلاد حتّى يشملهم من
ص: 400
إنصافه وعدله مثل الذي شملنا ! فقلت له : قُم في غير حفظ اللَّه ، فقد عزلته عنكم(1) !
قال المأمون لإسحاق بن العبّاس : لا تَحسبني أغفلتُ إجلابَك مع ابن المهلَّب وتأييدَك لرأيه وإيقادَك لناره .
قال : يا أميرالمؤمنين ! واللَّهِ لَإِجرامُ قريش إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أعظَمُ من جُرمي إليك ، ولَرَحِمي أمسُّ من أرحامهم ، وقد قال كما قال يوسف لإخوته : « لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »(2) ، وأنت يا أميرالمؤمنين أحقُّ وارثٍ لهذه المِنّة ومُمْتثل بها .
قال : هيهاتَ . تلك أجرامٌ جاهليّة عفا عنها الإسلام ، وجُرمُك جُرمٌ في إسلامك وفي دار خلافتك . قال : يا أميرالمؤمنين ، فواللَّه لَلمُسلمُ أحقُّ بإقالةِ العَثْرة وغُفران الزَّلّة من الكافر ، هذا كتابُ اللَّه بيني وبينك . يقول اللَّه تعالى : « وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّموَاتِ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ »(3) ، فهي للناس
ص: 401
سُنّةٌ دخل فيها المسلم والكافر ، والشريف والمشروف . قال : صدقت ، اجلس . ورِيَتْ(1) بك زِنادي ، فلا قدَح ناري من الغابرين(2) من أهلِك أمثالُك(3) .
دخل كُلثوم العتّابيّ على المأمون وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصليّ ، فأقبل المأمون على العتّابيّ يسأله عن أحواله وشأنه ، فيجيبه بلسانٍ ناطق ، فاستظرفه المأمون وأخذ في مداعبته ، فظنّ الشيخ أنّه قد استخفّ به ، فقال : يا أميرالمؤمنين ، الإيناس قبل الإبساس(4) ، فاشتبه عليه قوله فنظر إلى إسحاق فغمزه بعينه ، ثمّ قال : ألف دينار ، فأتى بها فوُضعت بين يدي العتّابيّ .
ثمّ دعا إلى المفاوضة ، وأغرى إسحاق بالعبث به ، فأقبل إسحاق يعارضه في كلّ باب يذكره ويزيد عليه ، فعجب منه وهو لا يعلم أنّه إسحاق . ثمّ قال : أيأذن أميرالمؤمنين في مسألة هذا الرجل عن اسمه ونسبه ؟ فقال : افعَلْ ، فقال له العتّابيّ : مَن أنت ؟ وما اسمك ؟ قال : أنا من الناس واسمي كُلْ بَصَل ! فقال له العتّابيّ : أمّا النسبة فقد عرفت ، وأمّا الاسم فمُنكَر ، وما كُلْ بَصَل من الأسماء ؟! فقال له إسحاق : ما أقلَّ إنصافَك ! أتُنكر أن يكون اسمي كُلْ بَصَل واسمُك كُلْ ثوم ؟! وما كلثوم من الأسماء ؟! أوَليسَ البصل أطيب من الثوم ؟! فقال له العتّابيّ : قاتَلَك اللَّه ! ما أملَحك ! ما رأيتُ كالرجلِ حلاوةً ، أفيأذن أميرالمؤمنين في صلته بما وصلني به فقد واللَّه غلَبني ؟ فقال له المأمون : بل ذلك مُوَفَّر عليك ونأمر له بمثله ، فقال له إسحاق : أما إذا أقررت بهذه
ص: 402
فتوهَّمْني(1) تَجدْني ، فقال له : ما أظنّك إلّا إسحاق الموصليّ الذي تناهى إلينا خبره ، فقال : أنا حيث ظننت ، فأقبل عليه بالتحيّة والسلام ، فقال المأمون : أما إذا اتّفقتما على المودّة فانصرِفا ، فانصرف العتّابيّ إلى منزل إسحاق فأقام عنده(2) .
كتب المأمون في إشخاص كُلثوم بن عَمرو العتّابيّ ، فلمّا دخل عليه قال له : يا كلثوم ، بلغتني وفاتُك فساءتني ، ثمّ بلغتني وِفادتُك فسَرّتْني ، فقال له العتّابيّ : يا أميرالمؤمنين ، لو قُسمت هاتانِ الكلمتان على أهل الأرض لَوسِعتاها فضلاً وإنعاماً ، وقد خَصَصتني منهما بما لا يتّسع له أُمنية ، ولا ينبسط لسواه أمل ؛ لأنّه لا دِين إلّا بك ، ولا دنيا إلّا معك . فقال له : سَلْني ، قال : يدك بالعطاء أطلَقُ من لساني بالمسألة ، فوصَلَه صِلاتٍ سنيّة ، وبلغ به من التقديم والإكرام أعلى محلّ(3) .
ومثل الذي جرى بين كلثوم العتّابيّ والمأمون ؛ جرى بينه وبين يحيى بن خالد : كلّم العتّابيُّ يحيى بن خالد في حاجةٍ بكلماتٍ قليلة ، فقال له يحيى : لقد نَدَر كلامُك اليومَ وقلّ . فقال : كيف لا يقلُّ وقد تكنَّفَني ذُلُّ المسألة ، وحَيرةُ الطّلب ، وخَوفُ الردّ؟! فقال : واللَّهِ لئن قلَّ كلامُك لقد كثُرت فوائدُه . وقضى حاجته(4) .
ص: 403
وقال العتّابيّ لرجلٍ اعتذر إليه : إنّي إن لم أقبل عُذرَك لكنتُ ألأم منك ، وقد قبلتُ عذرك ، فدُمْ على لَوْمِ نفسِك في جنايتك ، نَزِدْ في قبول عذرك ، والتَّجافي عن هفوتك(1) .
عن عثمان الورّاق ، قال : رأيت العتّابيّ يأكل خبزاً على الطريق بباب الشام ، فقلت له : ويحك ، أمَا تستحي ؟ فقال لي : أرأيت لو كنّا في دار فيها بقَر ، كنتَ تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك ؟ فقال : لا . قال : فاصبِرْ حتّى أُعلِمَك أنّهم بقَر . فقام فوعظ وقصّ ودعا ، حتّى كثر الزِّحام عليه ، ثمّ قال لهم : روى لنا غيرُ واحدٍ أنّه مَن بلغ لسانُه أرنبةَ أنفِه لم يدخل النار . فما بقي واحدٌ إلّا وأخرج لسانَه يومئ به نحو أرنبةِ أنفِه ، ويقدِّره حتّى يبلغها أم لا ، فلمّا تفرّقوا ، قال لي العتّابيّ : ألم أخبرك أنّهم بقر(2) ؟
لمّا ظفر المأمون بإبراهيم بن المهديّ(3) ، وهو الذي يُقال له ابنُ شِكْلة ، أمر بإدخاله عليه ، فلمّا مَثُل بين يديه قال : وليُّ الثأر مُحكَّم في القصاص ، والعفو أقرب للتقوى ، والقدرة تُذهب الحفيظة ، ومَن مَدَّ له الاعتذار في الأمل هجمت به الأناة على التلف ، وقد جعل اللَّه كلَّ ذنب دون عفوك فإن صفحتَ فبكرمك ، وإن أخذتَ فبحقِّك .
قال المأمون : إنّي شاورتُ أبا إسحاق والعبّاسَ في قتلك ، فأشارا عليَّ به . قال : أمّا
ص: 404
أن يكونا قد نَصَحاك في عِظَم قدْر المُلك ولِمَا جرت عليه عادةُ السياسة فقد فعلا ، ولكنّك أبيتَ أن تستجلب النّصر إلّا من حيث عوّدك اللَّه . ثمّ استعبر باكياً . قال له المأمون : ما يُبكيك ؟ قال : جَذَلاً ، إذ كان ذنبي إلى مَن هذه صفتُه ! ثمّ قال : يا أميرالمؤمنين ، إنّه إن كان جُرمي يبلغ سفكَ دمي ، فحلمُ أميرالمؤمنين وتفضُّله يُبلغاني عَفْوَه ، ولي بعدهما شفاعةُ الإقرار بالذنب ، وحُرمةُ الأبِ بعد الأب .
قال المأمون : لو لم يكن في حقِّ نسبك ما يُبلغ الصفح عن زلّتك ، لَبلّغك إليه حُسن توصّلك ، ولطفُ تنصّلك .
فكان تصويبُ إبراهيم لرأي أبي إسحاق والعبّاس ألطفَ في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما(1) .
دخل شريك بن الحارث بن عبد اللَّه الهَمْدانيّ الحارثيّ البصريّ المعروف بشريك بن الأَعوَر ، على معاوية . وكان شريك هذا من خيار الشيعة وكان سيّدَ قومِه ، فقال له : ما اسمُك ؟ قال : شريك . قال : ابن مَن ؟ قال : ابن الأعور . قال : إنّك شريك وما للّهِ شريك ، وإنّك لَابن الأعور والصحيح خير من الأعور ، وإنّك لدميم سيّئ الخلق فكيف سُدتَ قومَك ؟
فقال : وأنت واللَّهِ معاوية ، وما معاوية إلّا كلبةٌ عَوَتْ فاستَعوَتْ(2) فسُمّيت معاوية ، وإنّك لابنُ صَخْر والسّهلُ خيرٌ من الصَّخر ، وإنّك لابنُ حَرْبٍ والسِّلمُ خيرٌ من الحرب ، وإنّك لابنُ أُميّة وأُميّة أَمَة صغر بها ، فكيف سُمّيتَ أميرالمؤمنين ؟!
فقال معاوية : واحدةٌ بواحدةٍ والبادي أظلم ، فقال شريك :
ص: 405
أَيشتُمني معاويةُ بن حَرْبٍ * وسَيْفي صارمٌ ومعي لساني
وحولي من ذوي يَمَنٍ لُيوثٌ * ضَراغِمَةٌ(1) تهشُّ إلى الطِّعانِ ؟!
يُعيّرني الدَّمامةَ مِن سَفاهٍ * وربّاتُ الحِجالِ هي(2) الغَواني
فلا تَبْسُطْ لسانَك يا ابنَ حربٍ * فإنّك قد بلغتَ مدى الأماني
متى ما تَدعُ قومَك أدعُ قومي * وتختلفُ الأسنّةُ بالطِّعانِ
يُجيبني كلُّ غِطْرِيف(3) شجاع * كريم قد تَوشّحَ باليَماني
فإن تكُ مِن أميّةَ في ذُراها * فإنّي من بني عبدِ المُدانِ
وإنْ تكُ للشّقاءِ لنا أميراً * فإنّا لا نُقيمُ على الهوانِ
فقاسمه(4) معاوية أن يسكت ، وقرّبه وأدناه وأرضاه(5) .
ذكر المسعوديّ من أخبار عبد الملك بن صالح ، قال : وفي سنة سبع وتسعين ومائة مات بالرقّة عبد الملك بن صالح بن عليّ في أيّام الأمين ، وكان عبد الملك أفصح ولد العبّاس في عصره . يقال : إنّ الرشيد لمّا اجتاز ببلاد مَنْبِج من أرض الشام نظر إلى قصرٍ مَشيد ، وبستان مُعْتمّ بالأشجار كثير الثمار ، فقال لعبد الملك : لمن هذا القصر ؟
ص: 406
قال : هو لك ولي بك يا أميرالمؤمنين ! قال : دون منازلك وفوق منازل الناس . قال : فكيف مدينتك ؟ قال : عذبة الماء ، باردة الهواء ، صلبة الموطأ ، قليلة الأدواء . قال : كيف ليلها ؟ قال : سَحَرٌ كُلّه . وقال له : ما أحسنَ بلادكم ! قال : فكيف لاتكون كذلك وهي تربة حمراء ، وسُنبلة صفراء ، وشجرة خضراء ، فيافي فِيح ، وجبال وضيح ، بين قَيْصوم وشيح ؟! فالتفت الرشيد إلى الفضل بن الربيع فقال : ضَربُ السياط أهوَنُ عليَّ من هذا الكلام(1) .
مرّ ابنُ الحَمَامة بالحُطَيْئة(2) وهو جالس بفِناء بيته ، فقال : السلام عليكم ، فقال :
ص: 407
السلام عليكم ، فقال : قلتَ ما لا يُنكَر . قال : إنّي خرجتُ من عند أهلي بغير زادٍ ، فقال : ما ضمنتُ لأهلِك قِرَاكَ .
قال : أفتأذن لي أن آتيَ ظلَّ بيتِك فأتفيّأ به ؟ قال : دونك الجبلَ يفي ءُ عليك . قال : أنا ابنُ الحمامة . قال : انصرف وكن ابنَ أيّ طائرٍ شئت(1) .
وعن أبي عُبيدة والمدائنيّ قالا : أتى رجل الحُطيئة وهو في غنم له ، فقال له : يا صاحبَ الغنم ، فرفع الحُطيئة العصا وقال : إنّها عَجْراء من سَلَم . فقال الرجل : إنّي ضيف ، فقال : للضِّيفَانِ أعدَدتُها ، فانصرف عنه(2) .
ص: 408
عن أبي عُبيدةَ قال : بينا سعيد بن العاص يُعشّي الناسَ بالمدينة والناسُ يخرجون أوّلاً أوّلاً ، إذ نُظر على بساطه إلى رجلٍ قبيح المنظر رثِّ الهيئة ، جالسٍ مع أصحاب سَمَرهِ ، فذهب الشُّرَطُ يُقيمونه فأبى أن يقومَ ، وحانت من سعيد التفاتة فقال : دَعُوا الرجلَ ، فتركوه وخاضوا في أحاديث العرب وأشعارها مَلِيّاً ، فقال لهم الحُطَيئة : واللَّهِ ما أصبتم جيّدَ الشعرِ ، ولا شاعرَ العرب ، فقال له سعيد : أتعرفُ مِن ذلك شيئاً ؟ قال : نعم ، قال : فمَن أشعرُ العرب ؟ قال : الذي يقول :
لا أُعُدُّ الإقتارَ عُدْماً ولكن * فَقْدُ مَنْ رُزِئتُه الإعدامُ
وأنشدها حتّى أتى عليها ، فقال : مَن يقولها ؟ قال : أبو دُوادٍ الإياديّ . قال : ثمّ مَن ؟ قال : الذي يقول :
أَفْلِحْ بما شئتَ فقد يُدرَكُ بال * -جهلِ وقد يُخدَّعُ الأريبُ
ثمّ أنشدها حتّى فرغ منها . قال : ومَن يقولها ؟ قال : عبيد بن الأبرص . قال : ثمّ مَن ؟ قال : واللَّهِ لَحسْبُكَ بي عند رغبةٍ أو رهبةٍ إذا رَفَعتُ إحدى رجليَّ على الأُخرى ثمّ عويتُ في أثر القوافي عُواءَ الفَصيل الصّادِي ! قال : ومَن أنت ؟ قال : الحُطيئة ، فرحّب به سعيد ثمّ قال : أسأتَ بكتماننا نفسَك منذ الليلة ؛ ووصله وكساه .
ومضى لوجهه إلى عُتيبة بن النَّهّاس العِجْليّ فسأله ، فقال له : ما أنا على عملٍ فأعطيك من عَدَدِه ، ولا في مالي فضل عن قومي . قال له : فلا عليك ، وانصرف . فقال له بعض قومه : لقد عرّضتنا ونفسك للشرّ ! قال : وكيف ؟ قالوا : هذا الحُطيئة وهو هاجينا أخبثَ الهجاء ، فقال : رُدّوه ، فردّوه إليه فقال له : لِمَ كتمتنا نفسَك كأنّك كنت تطلب العِلَل علينا ! اجلس فلكَ عندنا ما يسرّك . فجلس فقال له : مَن أشعر الناس ؟ قال : الذي يقول :
ص: 409
ومَن يَجعلِ المعروفَ من دونِ عِرْضِه * يَفْرِهُ ومَن لا يَتَّقِ الشَّتمَ يُشْتَمِ
فقال له عتيبة : إنّ هذا من مقدّمات أفاعيك ! ثمّ قال لوكيله : اذهب معه إلى السُّوق فلا يطلب شيئاً إلّا اشتريتَه ، فجعل يعرض عليه الخزَّ ورقيقَ الثياب فلا يريدها ويُومئ إلى الكرابيس - الثياب القطنيّة - والأكسية الغِلاظ فيشتريها له ، حتّى قضى أربَه ثمّ مضى .
فلمّا جلس عُتيبة في نادي قومه أقبل الحُطيئة ، فلمّا رآه عتيبة قال : هذا مقامُ العائِذ بك يا أبا مُلَيكة من خيرك وشرّك ! قال : قد كنتُ قلتُ بيتين فاستمعهما ، ثمّ أنشأ يقول :
سُئِلتَ فلَمْ تبخَلْ ولم تُعْطِ طائلاً * فَسِيّانِ لا ذَمٌّ عليكَ ولا حَمْدُ
وأنت امرؤ لا الجودُ منكَ سَجِيّةٌ * فتُعطي ، ولا يُعدِي على النائلِ الوُجْدُ(1)
ثمّ رَكض فرسَه فذهب(2) .
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، قال : لَقِيتُ الحُطيئة بذات عِرْقٍ فقلت له : يا أبا مُلَيكة ، مَن أشعر الناس ؟ فأخرج لسانه كأنّه لسانُ حيّة ، ثمّ قال : هذا إذا طَمِع(3) !
لمّا مات المعتصم قال محمّد بن عبد الملك الزيّات يَرثيه :
قد قُلتُ إذ غَيّبوهُ وانصَرَفوا * في خيرِ قبرٍ لخيرِ مدفونِ
لن يَجبُرَ اللَّهُ أُمّةً فَقَدتْ * مِثلَكَ إلّا بمثلِ هارونِ !
ص: 410
فقال دِعبِل يعارضه :
قد قلتُ إذ غيّبوه وانصَرَفوا * في شرِّ قبرٍ لشرِّ مدفونِ
اذهَبْ إلى النارِ والعذابِ فما * خِلتُكَ إلّا من الشياطينِ
ما زلتَ حتّى عَقَدتَ بيعةَ مَن * أضَرَّ بالمسلمينَ والدينِ(1)
وكان المعتصم يُبغض دِعبِلاً لطولِ لسانه ، وبلغ دعبلاً أنّه يريد اغتيالَه وقَتْلَه ، فهرب إلى الجبل وقال يهجوه :
بَكى لِشتاتِ الدِّينِ مُكتئبٌ صَبٌ * وفاضَ بفَرْطِ الدَّمعِ مِن عَينهِ غَربُ(2)
وقامَ إمامٌ لَمْ يَكُنْ ذا هدايةٍ * فليسَ لَهُ دِينٌ ولَيسَ لَهُ لُبُ
وما كانَتِ الآباءُ تأتي بمثلِهِ * يُملَّكُ يوماً أو تَدينُ لَهُ العُرْبُ
ولكنْ كما قالَ الذينَ تَتابَعوا * مِن السَّلَفِ الماضينَ إذ عَظُمَ الخَطبُ
مُلوكُ بني العبّاسِ في الكُتْبِ سَبعةٌ(3) * ولَمْ تأتِنا عن ثامنٍ لَهُمُ كُتْبُ
كذلك أهلُ الكهفِ في الكهفِ سَبعةٌ * خيارٌ إذا عُدُّوا وثامِنُهم كَلبُ !
وإنّي لأُعلِي كلْبَهُم عنكَ رِفعةً * لأنّكَ ذو ذَنْبٍ ولَيسَ لَهُ ذَنْبُ
لقدْ ضاعَ مُلكُ الناسِ إذ ساسَ مُلكَهُم * وَصِيفٌ وأَشناسٌ(4) وقد عَظُمَ الكَرْبُ(5)
اجتمع أصحابُ المبرّد فاستأذنوا بالدخولِ عليه ، فلم يأذن لهم ، فانصرفوا وثبتَ
ص: 411
رجلٌ اسمُه عثمان فقال للآذِن : قلْ لأبي العبّاس : كُنيةُ المبرّد - : انصرَفَ القومُ كلُّهم إلّا عثمانَ فإنّه لا ينصرف . فعاد الآذِنُ إليه وأخبره،فقال له : إنّ عثمان إذا كان نكرةً انصرفَ ، ونحنُ لا نعرفك فانصرِفْ راشداً(1) .
كان الفضل بن يحيى في مجلسه ، فأتاه الحاجب فقال : إنّ بالباب رجلاً قد أكثر في طلب الإذن وزعم أنّ له يداً يَمُتّ(2) بها ، فقال : أدخِلْه . فدخل رجل جميل الوجه رثّ الهيئة ، فسلّم فأحسن . فأومأ إليه بالجلوس فجلس ، فقال له : ما حاجتُك ؟ قال له : قد أعربتْ بها رثاثةُ هيئتي ، وضعفُ طاقتي . قال : أجلْ ، فما الذي تَمُتُّ به ؟ قال : ولادةٌ تقرب من ولادتك ، وجِوارٌ يدنو من جوارِك ، واسمٌ مشتقّ من اسمِك ! قال : أمّا الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت ، وقد يُوافق الاسمُ الاسمَ ؛ ولكن ما عِلمُك بالولادة ؟ قال : أعلمتني أمّي أنّها لما وضَعَتْني قيل إنّه وُلد الليلةَ ليحيى بن خالد غُلام وسُمّي الفضل ، فسمّتني فُضَيلاً ، إعظاماً لاسمك أن تُلْحِقني بك ! فتبسّم الفضل وقال : كم أتى عليك من السنين ؟ قال : خمسٌ وثلاثون . قال : صدقت ، هذا المقدار الذي أتيتُ عليه . يا غلام ، أعطه لكلّ عام مضى من سِنيه ألفاً ، وأعطِه من كُسوتنا ومراكبنا ما يصلح له(3) .
ص: 412
قال سعيد بن سَلْم(1) : كنتُ والياً بأرمينيّة ، فغَبَر(2) أبو دُهمان الغَلّابيّ(3) على بابي أيّاماً ، فلمّا وصل إليَّ مثَلَ بين يديَّ قائماً بين السِّماطَين وقال : واللَّهِ إنّي لأعرف أقواماً لو علموا أنّ سَفَّ التُراب يقيم من أَوَد أصلابهم ، لجعلوه مُسْكةً لأرماقِهم(4) ؛ إيثاراً للتنزُّه عن عيشٍ رقيق الحواشي . أمَا واللَّه إنّي لَبعيدُ الوَثْبة ، بطي ءُ العَطفة . وإنّه واللَّه ما يَثْنيني عليك إلّا مِثلُ ما يصرِفُني عنك . ولَأنْ أكون مُقِلّاً مقرَّباً أحبّ إليَّ من أن أكون مُكثِراً مُبعَداً . واللَّهِ ما نسأل عملاً لا نضبطه ، ولا مالاً إلّا ونحن أكثر منه . وهذا الأمر الذي صار إليك وفي يديك ، قد كان في يدي غيرك ، فأمسَوا واللَّهِ حديثاً ، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرّاً فشرّ . فتحبّب إلى عباد اللَّه بحُسن البِشر ، ولِين الجانب ؛ فإنّ حبّ عباد اللَّه موصولٌ بحبّ اللَّه ، وبُغضَهم موصولٌ ببغض اللَّه ؛ لأنّهم شهداء اللَّه على خَلْقه ، ورُقباؤه على من عاج(5) عن سبيله(6) .
وقال سعيد بن سَلم للمأمون : لو لم أشكر اللَّه إلّا على حُسن ما أبلاني في أميرالمؤمنين ، من قصدِه إليَّ بحديثه ، إشارته إليَّ بطرفه ، لقد كان ذلك من أعظم ما تفرضُه الشريعة ، وتوجيه الحُرّيّة . فقال المأمون : لأنّ أميرالمؤمنين يجد عندك من
ص: 413
حسن الإفهام إذا حدّثت ، وحسن التفهّم إذا حُدِّثت ، ما لم يجده عند أحدٍ فيمن مضى ، ولا يظنُّ أنّه يجده فيمن بقي(1) .
وقال له مرّةً أخرى : واللَّه إنّك لتستقفي(2) حديثي ، وتقفُ عند مقاطع كلامي ، وتُخبر عنه بما كنتُ قد أغفلتُه(3) .
وساير سعيد بن سَلَم موسى أميرالمؤمنين ، والحربةُ في يد عبد اللَّه بن مالك(4) ، وكانت الريح تَسفي التراب الذي تثيره دابّة عبد اللَّه بن مالك في وجه موسى ، وعبد اللَّه لا يشعر بذلك ، وموسى يَحيد عن سَنَن التراب ، وعبد اللَّه فيما بين ذلك يلحظ موضعَ مسير موسى ، فيتكلّف أن يسير على محاذاته ، وإذا حاذاه ناله ذلك التراب ، فلمّا طال ذلك عليه أقبل على سعيد ، فقال : ألا ترى ما نلقى من هذا الحائن(5) في مسيرنا هذا ؟ قال : واللَّه يا أميرالمؤمنين ، ما قصّر في الاجتهاد ، ولكنّه حُرِم التوفيق(6) .
ذكروا أنّ جاراً لأبي دُلَف(7) ببغداد لزِمه كبيرُ دَين فادح ، حتّى احتاج إلى بيع
ص: 414
داره ، فساوموه بها ، فسألهم ألفي دينار ، فقالوا له : إنّ دارك تساوي خمسمائة . قال : وجِواري من أبي دُلَف بألف وخمسمائة ! فبلغ أبا دلف ، فأمر بقضاء دَينه وقال له : لا تَبِعْ دارَك ولا تنتقل من جوارنا(1) .
ومن أخباره : مرّ موكب المأمون فترجّل له أبو دُلَف ، فقال له المأمون : ما أخّرك عنّا ؟ قال : علّة عَرَضت لي ، فقال : شَفاك اللَّه وعافاك ، اركب ! فوثب من الأرض على الفرس ، فقال له المأمون : ما هذه وَثْبَةُ عليل ! فقال : بدعاءِ أميرالمؤمنين شفيت(2) .
وقال له المأمون يوماً وهو مقطّب : أأنت الذي يقول فيك الشاعر :
إنّما الدُّنيا أبو دُلَفٍ * بين مَغْزاهُ ومُحتَضَرِهْ
فإذا ولّى أبو دُلَفٍ * وَلّتِ الدُّنيا على أَثَرِهْ
فقال : شهادة زُور ، وقول غَرُور ، ومَلق مُعْتَفّ ، وطالب عُرْف . وأصدَقُ منه ابن أُختٍ لي حيث يقول :
دَعِيني أجوبُ الأرضَ ألتمسُ الغِنى * فما الكَرَجُ الدُّنيا ولا الناسُ قاسمُ(3)
فتبسّم المأمون(4) .
ومن أخباره : اجتمع على باب أبي دُلف جماعة من الشعراء ، فمدحوه وتعذّر عليهم
ص: 415
الوصول إليه ، وحجبَهم لضيقِ حاله ، فأرسل خادماً يعتذر إليهم ويقول : انصرفوا هذه السنة وعودوا في القابلة ، فإنّي أُضعِف لكم العطيّة وأُبلغكم الأمنية ، فكتبوا إليه :
أيُّهذا العزيزُ قد مَسَّنا الدَّه * -رُ بضُرٍّ وأهلُنا أشتاتُ
وأبونا شيخٌ كبيرٌ فقيرٌ * ولَدَينا بضاعةٌ مُزجاتُ
قَلَّ طُلّابُها فبارتْ علَينا * وبضاعاتُنا بها التُّرَّهاتُ
فاغتِنمْ شُكرَنا وأوفِ لنا الكَيلَ * وتصدّقْ علينا فإنّنا أمواتُ
فلمّا وصل إليه الشعر ضحك وقال : عليَّ بهم ، فلمّا دخلوا قال : أبيتم إلّا أن تضربوا وجهي بسورة يوسف ، وواللَّهِ إنّي لَمضيق ، ولكنّي أقول كما قال الشاعر :
لَقَد خُبِّرتُ أن عليكَ دَيناً * فزِدْ في دَينِكَ واقضِ دَيْني
يا غلام ، اقترِضْ لي عشرين ألفاً بأربعين وفرّقها فيهم(1) .
قيل : إنّ أبا الهُذَيْل(2) في حداثته بلَغَه أنّ رجُلاً يهوديّاً قَدِم البصرةَ ، وقطع جماعةً من متكلِّميها ، فقال لعمِّه : يا عمّ ، امضِ بي إلى هذا اليهوديّ حتّى أكلِّمَه ، فقال له
ص: 416
عمُّه : يا بُنيّ ، كيف تكلّمه(1) وقد عرفتَ خَبَره ، وأنّه قطع مشايخ المتكلِّمين ؟! فقال : لابدّ أنْ تمضيَ بي إليه ، فمضى به . قال : فوجدتُه يقرِّر الناس على نبوّة موسى عليه السلام ، فإذا اعترفوا له بها ، قال : نحنُ على ما اتّفقنا عليه إلى أن نُجْمِع على ما تدّعونه ، فتقدّمتُ إليه فقلتُ : أسألُك أم تسألني ؟ فقال : بل أسألُك ، فقلت : ذاك إليك ، فقال لي : أتعترف بأنّ موسى نبيّ صادقٌ ، أم تُنكر ذلك فتخالف صاحبَك ؟ فقلتُ له : إن كان موسى الّذي تسألني عنه هو الذي بَشّر بنبييّ عليه السلام ، وشهد بنُبوّته ، وصدَّقه فهو نبيٌّ صادق ، وإن كان غيرَ ما وصفتَ فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته(2) ، فورد عليه ما لم يكن في حسابه . ثمّ قال لي : إنّ التوراة حقّ ؟ فقلتُ : هذه المسألة تجري مجرى الأُولى ، إن كانت هذه التوراة التي تسألُني عنها هي التي تتضمّنُ البِشارَة بنبيّي عليه السلام فتلك حقّ ، وإن لم تكنْ كذلك فليست بحقّ ؛ ولا أقرُّ بها .
فبُهت وأُفحِم ولم يَدرِ ما يقول ، ثمّ قال لي : أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني وبينك ، فظننتُ أنّه يقول شيئاً من الخير ، فتقدّمتُ إليه فسارَّني(3) ، فقال لي : أمّك كذا وكذا(4) ، وأمّ مَنْ عَلَّمك - لا يُكنّي ، وقدّر أنّي أثِبُ بهِ ، فيقول : وثبوا بي ، وشغَّبوا عليَّ ، فأقبلتُ على مَن في المجلس فقلتُ : أعزّكم اللَّه ! ألستم قد وقفتم على سؤاله إيّايَ ، وعلى جوابي إيّاه ؟ قالوا : بلى ! قلتُ : أفليس عليه أنْ يَرُدَّ جوابي أيضاً ؟ قالوا : بلى . قلتُ لهم : فإنّه
ص: 417
لمّا سارّني شتمني بالشَّتم الذي يوجب له الحدَّ ، وشَتَم مَنْ علّمني ، وإنّما قدّر أنّني أثب عليه ، فيدّعي أنّنا واثبناه وشغَّبنا عليه ، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع فانصروني ، فأخذته الأيدي من كلّ جهة ، فخرج هارباً من البصرة(1) .
أضاف ابن الجَوزيّ : وقد كان له بها دَيْن كثير ، فتركه وخرج هارباً لِما لَحِقَه من الانقطاع(2) .
قال أبو الهُذَيْل : قلتُ لمجوسيّ : ما تقول في النار ؟ قال : بنتُ اللَّه ، قلت : فالبَقرُ ؟ قال : ملائكةُ اللَّه ؛ قَصَّ أجنحَتها وحطّها إلى الأرض يُحرَث عليها ، فقلتُ : فالماء ؟ قال : نُور اللَّه ؛ قلت : فما الجوعُ والعطش ؟ قال : فَقْرُ الشَيْطان وفَاقتُه ! قلتُ : فمَن يحمِلُ الأرضَ ؟ قال : بَهمن المَلَك !
قلت : فما في الدُّنيا شرٌّ من المجوس ؛ أخذوا ملائكة اللَّه فذبحوها ، ثمّ غسلوها بنورِ اللَّه ، ثمّ شَووْها ببنتِ اللَّه ، ثمّ دفعوها إلى فقر الشيطان وفاقته ، ثمّ سلَحُوها(3) على رأس بَهْمن المَلك أعزّ ملائكة اللَّه ! فانقطع المجوسيّ ، وخجِل ممّا لزمه(4) .
قيل : إنّه مات ابنٌ لصالح بن عبد القُدُّوس الذي يُرمى بالزندقة فجزع عليه ،
ص: 418
ووافاه أبو الهذيل العلّاف شيخُ المعتزلة كالمتوجّعِ له ، فرآه حزناً ، فقال أبو الهذيل : لا أعرف لحزنك وجهاً إذا كان الناس عندك كالزرعِ(1) ؟ فقال ابن عبد القُدُّوس : يا أبا الهذيل ، إنّما أتوجّع عليه لأنّه لم يقرأ كتاب الشكوك ! فقال له : وما هذا الكتاب يا صالح ؟ قال : هو كتاب وضعتُه ، مَن قرأه تشكّك فيما كان حتّى يتوهّم أنّه لم يكن ، وفيما لم يكن حتّى يتوهّم أنّه قد كان . قال له أبو الهذيل : فشُكّ أنت في موت ابنك واعمل على أنّه لم يمت وإن كان قد مات ، وشُكّ أيضاً في أنّه قد قرأ كتاب الشكوك وإن كان لم يقرأه(2) .
عن أبي مالك الأحمَسيّ ، قال : حدّثني مؤمن الطاق ، واسمُه محمّد بن عليّ بن النعمان أبو جعفر الأحوَل ، قال : كنت عند أبي عبد اللَّه ، فدخل زيد بن عليّ ، فقال لي : يا محمّد بن عليّ ، أنت الذي تزعم أنّ في آل محمّد إماماً مفترض الطاعة معروفاً بعينه ؟ قال : قلت : نعم ، كان أبوك أحدهم . قال : ويحك ! فما كان يمنعه من أن يقول لي ؟ فواللَّهِ لقد كان يؤتى بالطعام الحارّ فيُقعدني على فخذه ويتناول البَضِعة(3) فيبرّدها ثمّ يُلقمنيها ، أفتراه كان يشفق علَيّ من حرّ الطعام ولا يشفق علَيّ من حرّ النار ؟! قال : قلت : كَرِه أن يقول لك فتكفر فيجب من اللَّه عليك الوعيد ولا يكون له فيك شفاعة ، فتركك مُرجًى ، للّهِ فيك المشيّة وله فيك الشفاعة(4) .
ص: 419
عن أبي مالك الأحمَسيّ(1) ، قال : خرج الضحّاك الشاري بالكوفة ، فحكّم وتسمّى بإمرة المؤمنين ودعا الناس إلى نفسه ، فأتاه مؤمن الطاق ، فلمّا رأته الشَّراة وثبوا في وجهه ، فقال لهم : جانح(2) . قال : فأتي به صاحبهم ، فقال لهم مؤمن الطاق : أنا رجل على بصيرة من ديني وسَمِعتُك تصف العدلَ فأحببتُ الدخولَ معك ! فقال الضحّاك لأصحابه : إن دَخَل هذا معكم نَفَعكم . قال : ثمّ أقبل مؤمن الطاق على الضحّاك ، فقال له : لِمَ تبرّأتم من عليّ بن أبي طالب واستحللتم قَتْلَه وقتالَه ؟ قال : لأنّه حكّم في دين اللَّه . قال : وكلّ مَن حكّم في دين اللَّه استحللتم قتلَه وقتاله والبراءة منه ؟ قال : نعم ، قال : فأخبِرني عن الدِّين الذي جئت أناظرك عليه لأدخل معك فيه إنْ غلبتْ حجّتي حجّتَك أو حجّتُك حجّتي ، مَن يوقف الُمخطي على خطائه ويحكم للمُصيب بصوابه ؟ فلابدّ لنا من إنسان يحكم بيننا .
قال : فأشار الضحّاك إلى رجل من أصحابه ، فقال : هذا الحَكَمُ بيننا فهو عالم بالدِّين . قال : وقد حكّمت هذا في الدِّين الذي جئت أنا أناظرك فيه ؟ قال : نعم . فأَقبلَ مؤمنُ الطاق على أصحابه ، فقال : إنّ هذا صاحبكم قد حكّم في دين اللَّه ، فشأنَكُم به ! فضربوا الضحّاك بأسيافهم حتّى سكت(3) .
ص: 420
عن يونس بن يعقوب(1) ، قال : كان عند أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام جماعة من أصحابه ؛ فيهم حُمْران بن أعيَن(2) ، ومؤمن الطاق ، وهِشام بن سالم(3) ، وجماعة من أصحابه فيهم هِشام بن الحكَم(4) ، وهو شابّ . فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام : يا هِشام ! قال : لبّيك يا ابنَ رسول اللَّه . قال : ألا تُحدّثني كيف صَنَعتَ بعمرو بن عُبَيد وكيف سألته ؟ قال هِشام : جُعِلتُ فِداك يا ابنَ رسول اللَّه ، إنّي أُجِلُّك وأستحيك ولا يعمل لساني بين يَدَيك . فقال أبو عبد اللَّه : إذا أمَرتُكم بشي ء فافعَلوا .
قال هِشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عُبَيد وجلوسه في مسجد البصرة ، وعَظُم ذلك علَيّ ، فخرجتُ إليه ودخلت البصرة في يوم الجمعة ، فأتيتُ مسجد البصرة ، فإذا أنا بحَلقةٍ كبيرة ، وإذا أنا بعمرو بن عُبيد عليهِ شَمْلَة سوداء مُتَّزِر بها من صوف وشَملة مُرْتَدٍ بها ، فاستَفرَجتُ الناسَ فأفرَجوا ، ثمّ قَعَدتُ في آخر القوم على رُكبتي . ثمّ قلت :
ص: 421
أيّها العالِم ! أنا رجلٌ غريب تَأذَن لي فأسألك عن مسألة ؟ قال : نعم .
قال : قلت له : ألَكَ عَين ؟ قال : يا بُنيّ ، أيّ شي ء هذا السؤال ؟! فقلت : هكذا مسألتي . فقال : يا بُنيّ ، سَلْ وإن كانت مسألتك حَمقاء . قلت : أجِبْني فيها . قال : فقال لي : سَلْ . قلت : ألَكَ عَين ؟ قال : نعم . قلت : فما ترى بها ؟ قال : الألوان والأشخاص .
قال : قلت : أَلَك أنف ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أشمُّ به الرائحة . قال : قلت : ألَك لسان ؟ قال : نعم . قال : قلت : فما تصنع به ؟ قال : أتكلّم به . قال : قلت : ألَك أُذُن ؟ قال : نعم . قال : قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الأصوات . قال : قلت : أفَلَك يَدان ؟ قال : نعم . قال : قلت : فما تصنع بهما ؟ قال : أبطِش بهما وأعرف بهما اللَّيِّن من الخَشن . قال : قلت : ألَك رِجْلان ؟ قال : نعم . قال : قلت : فما تصنع بهما ؟ قال : أنتقل بهما من مكانٍ إلى مكان . قال : قلت : ألَك فم ؟ قال : نعم . قال : قلت : فما تصنع به ؟ قال : أعرف به المَطاعِم على اختلافها . قال : قلت : أفَلَك قلب ؟ قال : نعم ، قال : قلت : فما تصنع به ؟ قال : أُميّز به كلَّ ما ورد على هذه الجوارح .
قال : قلت : أفَلَيس في هذه الجوارح غِنًى عن القلب ؟ قال : لا . قال : قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة ؟ قال : يا بُنيَّ ، إنّ الجوارح إذا شَكَّت في شي ء شَمَّته أو رَأته أو ذاقَته رَدَّتْه إلى القلب فيُقِرّ به اليقين ويُبطِل الشكّ .
قال : قلت : فإنّما أقام اللَّهُ عزّ وجلّ القلبَ لشكِّ الجوارح ؟ قال : نعم . قال : قلت : يا أبا مروان ، إنّ اللَّه لم يَترُك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يُصحّح لها الصحيح ويَنفي ما شَكَّت فيه ، ويَترُك هذا الخَلقَ كلَّهم في حَيْرتهم وشكّهم واختلافهم لا يُقيم لهم إماماً يَرُدُّون إليه شكّهم وحَيْرَتهم ، ويُقيم لك إماماً لجوارحك تَرُدّ إليه شكّك وحَيرتَك ؟!
قال : فسكت ولم يَقُلْ شيئاً . قال : ثمّ التَفتَ إلَيّ فقال : أنت هِشام ؟ فقلتُ : لا . فقال : أجالَستَه ؟ فقلت : لا . قال : فمِن أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة . قال : فأنت إذاً هو . قال : ثمّ ضَمَّني إليه فأقعَدَني في مجلسه وما نَطَق حتّى قُمتُ .
ص: 422
فضحك أبو عبد اللَّه عليه السلام ثمّ قال : يا هِشام ، مَن عَلَّمك هذا ؟ قال : قلت : يا ابن رسول اللَّه ، جرى على لساني . قال : يا هِشام ، هذا واللَّهِ مكتوبٌ في صُحُف إبراهيم وموسى عليهما السلام(1) .
عن عبد العظيم بن عبد اللَّه(2) قال : قال هارون الرشيد لجعفر بن يحيى البرمكيّ : إنّي أُحبّ أن أسمع كلام المتكلّمين من حيث لا يعلمون بمكاني ، فيحتجّون عن بعض ما يُريدون .
فأمر جعفر المتكلّمين فأُحضِروا دارَه ، وصار هارون في مجلسٍ يسمع كلامهم ، وأرخى بينه وبين المتكلّمين سِتراً فاجتمع المتكلّمون ، وغَصّ المجلس بأهله ينتظرون هِشام بن الحَكَم ، فدخل عليهم وعليه قميصٌ إلى الرُّكبة وسراويلُ إلى نصف الساق ، فسلّم على الجميع ولم يَخُصّ جعفراً بشي ء .
فقال له رجل من القوم : لِمَ فَضَّلت عليّاً على أبي بكر ، واللَّه يقول : « ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا »(3) ؟ قال هشام : فأخبرني عن حُزنه في ذلك الوقت ، أكان للّه رضًى أم غير؟ فسكت . فقال هشام : إن زعمتَ أنّه كان للّهِ رضًى ، فلِمَ نهاهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله فقال : «لا تَحْزَن» ؟ أنَهاه عن طاعة اللَّه ورضاه ؟ وإن زعمتَ أنّه كان للّه غيرَ رضًى ، فلِمَ تفتخر بشي ء كان للّه غيرَ رضًى ، وقد علمت ما قال اللَّه تبارك وتعالى حين قال : « فَأَنْزَل اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ »(4) ؟!
ص: 423
ولأنّكم قُلتم وقلنا وقالت العامّة : «الجنّة تشتاق إلى أربعة نَفَرٍ : عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والمقداد بن الأسوَد ، وعمّار بن ياسر ، وأبي ذرّ الغفاريّ» فأرى صاحبَنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلّف عنها صاحبكم ، ففَضّلْنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة .
وقلتم وقلنا وقالت العامّة : «إنّ الذابّين عن الإسلام أربعةُ نَفَر : عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والزبير بن العوّام ، وأبو دُجانة الأنصاريّ ، وسلمان الفارسيّ» ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلّف عنها صاحبُكم ، ففَضَّلْنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة .
وقلتم وقلنا وقالت العامّة : «إنّ القُرّاء أربعةُ نَفَر : عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وعبد اللَّه بن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت» ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلّف عنها صاحبكم ، ففَضَّلْنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة .
وقلتم وقلنا وقالت العامّة : «إنّ المُطهَّرين من السماء أربعةُ نَفَر : عليّ بن أبي طالب ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم السلام»(1) ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلّف عنها صاحبكم ، ففَضَّلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة .
وقلتم وقلنا وقالت العامّة : «إنّ الأبرار أربعة : عليّ بن أبي طالب ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم السلام» ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلّف عنها صاحبكم ، ففَضّلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة .
وقلتم وقلنا وقالت العامّة : «إنّ الشُّهَداء أربعةُ نَفَر : عليّ بن أبي طالب ، وجعفر ، وحمزة ، وعُبيدة ابن الحارث بن عبد المطّلب» ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في
ص: 424
هذه الفضيلة ، وتخلّف عنها صاحبكم ، ففَضَّلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة .
قال : فحَرَّك هارونُ السِّتر ، وأمر جعفرٌ الناسَ بالخروج ، فخرجوا مرعوبين ، وخرج هارون إلى المجلس فقال : مَن هذا ابن الفاعلة ؟! فواللَّهِ لقد هَمَمتُ بقتله وإحراقه بالنار(1) !
قال أبو شاكر الدَّيصانيّ(2) لهِشام بن الحكَم : إنّ في القرآن آية هي قوّة لنا . فقال هشام : وما هي ؟ قال : « وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرْضِ إِلهٌ »(3) .
قال هشام : فلم أدرِ ما أُجيبه ، فحَجَجتُ فخَبَّرتُ أبا عبد اللَّه عليه السلام ، فقال : هذا كلامُ زنديقٍ خبيث ، إذا رَجَعتَ إليه ، فقُلْ له : ما اسمُكَ بالكوفة ؟ فإنّه يقول : فلان ، فقُل : ما اسمُك بالبصرة ؟ فإنّه يقول : فلان ، فقُل : كذلك اللَّه ربّنا في السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي كلّ مكان إله .
قال : فقَدِمتُ ، فأتيتُ أبا شاكر فأخبَرتُه ، فقال : هذه نُقِلت من الحجاز(4) !
أتى أبو شاكر الدَّيصانيّ هشامَ بن الحكم ، فقال له : ألَك ربّ ؟ فقال : بلى . قال : قادر ؟ قال : بلى قادرٌ قاهر . قال : يَقدر أن يُدخل الدنيا كلَّها في بَيضةٍ لا تَكبُر البيضةُ ولا تَصغُر الدنيا ؟ فقال هشام : النَّظْرَة . فقال له : قد أنظَرتُك حَولاً ، ثمّ خرج عنه .
ص: 425
فركب هشام إلى أبي عبد اللَّه عليه السلام فاستأذن عليه ، فأذِن . فقال : يا ابنَ رسول اللَّه ، أتاني عبد اللَّه الدَّيصانيّ بمسألةٍ ليس المُعوَّل فيها إلّا على اللَّه وعليك . فقال أبو عبد اللَّه : عمّاذا سألك ؟ فقال : قال لي : كَيْت وكَيت .
فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام : يا هشام ، كم حَواسُّك ؟ قال : خمس . فقال : أيُّها أصغَر ؟ فقال : الناظر ، قال : وكم قَدْر الناظر ؟ قال : مِثْلُ العَدَسة أو أقلّ منها . فقال : يا هشام ! فانظُرْ أمامك وفوقك وأخبِرْني بما ترى . فقال : أرى سماءً وأرضاً ودُوراً وقُصوراً وتراباً وأنهاراً .
فقال له أبو عبد اللَّه عليه السلام : إنّ الذي قَدَر أن يُدخِل الذي تراه في العَدَسة أو أقلَّ منها قادر أن يُدخل الدنيا كلّها البيضة ولا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة . فانكبّ هشام عليه وقبّل يَدَيه ورأسه ، وقال : حسبي يا ابن رسول اللَّه !
فانصرف إلى منزله وغدا عليه الدَّيصانيّ ، فقال له : يا هشام ، إنّي جئتك مسلّماً ولم أجئك مُتَقاضياً للجواب . فقال : إن كنتَ جئت مُتَقاضياً فهاك الجواب(1) .
قال رجل لبعض ولاة بني العبّاس : أنا أجعل هشام بن الحَكَم أن يقول في عليّ إنّه ظالم ! فقال : إنْ فعلتَ ذلك فلك كذا وكذا .
ثمّ أُحضر هشام ، فقال له : نَشدتُك اللَّهَ أبا محمّد ، أما تعلم أنّ عليّاً نازع العبّاس عند أبي بكر ؟ قال : نعم . قال : فمَن الظالمُ منهما ؟ فكرِه أن يقول العبّاس فيُواقع(2) سخط الخليفة ، أو يقول عليّ فينقص أصلَه ، فقال : ما منهما ظالم . قال : فكيف يتنازع اثنان في شي ء لا يكون أحدهما ظالماً ؟! قال : قد تنازع المَلكان عند داود عليه السلام وما
ص: 426
فيهما ظالم ، ولكن ليُنبِّها داود على الخطيئة ، وكذلك هذان أراد تنبيه أبي بكر من خطيئته ، فأسكت الرجل ، وأمر الخليفة لهشام بصِلة عظيمة(1) .
دخل المُوبَذُ على هشام بن الحكم ، والموبذ(2) هو عالم الفُرس ، فقال له : يا هشام ، حول الدنيا شي ء ؟ قال : لا . قال : فإذا أخرجت يدي فثَمّ شي ء يَردُّها ؟ قال هشام : ليس ثَمّ شي ء يردّها ولا شي ء تخرج يدك فيه .
قال : فكيف أعلم هذا ؟ قال له : يا موبذ ، أنا وأنت على طرف الدنيا ، فقلت لك : يا موبذ ، إنّي لا أرى شيئاً . فقلتَ لي : ولم لا ترى ؟ فقلتُ : ليس هاهنا ظلام يمنعني . فقلتَ لي أنت : يا هشام ، إنّي لا أرى شيئاً . فقلتُ لك : ولم لا ترى ؟ قلتَ : ليس ضياء أنظر به . فهل تكافأت الملَّتان في التناقض ؟ قال : نعم . قال : فإذا تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أنْ ليس شي ء ؟ فأشار الموبذ بيده أن أَصَبتَ(3) .
قال غَيْلان لعبد الرحمن : أنشدك اللَّهَ ، أترى اللَّهَ يُحبّ أن يُعصى ؟ فقال : أنشدك اللَّه ، أترى اللَّه يُعصى قَسْراً ؟ فكأنّ عبد الرحمن ألْقَم غَيْلانَ حجراً(4) .
ص: 427
لقي جَهْمٌ رجلاً من اليونانيّين ، فقال له : هل لك أن تكلّمني وأكلّمك عن معبودك هذا ، أرأيته قطّ ؟ قال : لا . قال : فلمستَه ؟ قال : لا . قال : فذُقتَه ؟ قال : لا . قال : فمِن أين عرفتَه وأنت لم تُدركه بحسٍّ من حواسِّك الخَمْس ، وإنّما عقلُك معبِّر عنها فلا يُدرك إلّا ما أوصَلَتْ إليه من جميع المعلومات ؟ فَتَلَجْلَج جَهْمٌ ساعةً ، ثمّ استدرك فعكس المسألة عليه فقال له : ما تُقرّ أنّ لك رُوحاً ؟ قال : نعم . قال : فهل رأيتَه أو ذُقتَه أو سمعتَه أو شَمَمتَه أو لمسته ؟ قال : لا . قال : فكيف علمتَ أنّ لك روحاً ؟ فأقرّ له اليونانيّ(1) .
ومناظرات اليهود للمسلمين كثيرة ، وذلك لِما عُرف عنهم من الإغراق في الجَدَل وكثرة اللّجاج ؛ للصَّفةِ المغروزة في نفوسهم والمتمثّلة في بغضهم الحقّ ، فدخلوا في حرب كلاميّة مع أنبيائهم وسفكوا دماء كثير منهم . وقد سجّل القرآن الكريم حالتهم هذه في قوله تعالى : « فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ »(2) . وطلبوا من نبيّهم موسى عليه السلام أن يُرِيَهُمْ اللَّهَ جَهْرةً ! وقد كادوا بالإسلام والمسلمين وبذلوا كلّ جهد لِلَفْتِ المسلم عن إسلامه ، ومن ذلك المناظرات الكلاميّة.
ذكر ابن الجوزي أنّ طراد بن محمّد ، قال : إنّ يهوديّاً ناظَرَ مسلماً ، فقال اليهوديّ : ماذا أقول في قوم سمّاهم اللَّه مُدْبِرين ، يعني النبيّ صلى الله عليه وآله وأصحابَه يومَ حُنَيْن ؟! فقال
ص: 428
المسلم : فإذاً كان موسى أدبرَ منهم ! قال له : كيف ؟ قال : لأنّ اللَّه تعالى قال : ولّى مُدْبِراً ولم يُعَقِّب ، وهؤلاء ما قال فيهم ولم يُعَقِّبوا ، فسكت(1) .
لقد ألزم اليهوديّ نفسَه الحجّةَ ، فألزمه المسلم بها ، إذ استدلّ بالقرآن الكريم ، وهذا يعني ضمناً أنّه قد اعترف بشريعة الإسلام ، ومعلوم أنّ الشريعة اللّاحقة ناسخةٌ للسابقة ، وما عليه إلّا الإقرار والإذعان . وإذا كان الطعن منه في المسلمين لهزيمتهم في الكرّة الأُولى يوم حُنَين ، فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله مع كوكبة من جنده البواسل وعلى رأسهم حامل لوائه عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، لم يفرّوا ، وإنّما ثبتوا فعاد الآخرون إليهم ، في حين أَدبرَ موسى ولم يرجع .
كان هارون الأعور يهوديّاً فأسلم وحَسُن إسلامُه وحفظ القرآن وضبط قواعد النَّحو . فناظره رجل يوماً في مسألةٍ فغلبه هارون ، فقال له المغلوب : كنتَ يهوديّاً فأسلمتَ ! فقال له هارون : أفَبِئسَ ما صنعتُ ؟ فلم يَحِرْ جواباً وسكت(2) .
قال رجلٌ من أهل الحجاز لرجلٍ : العلمُ خرج من عندنا . فقال له ابن شُبرمة : نعم ، إلّا أنّه لم يرجع إليكم(3) .
ص: 429
قال الجاحظ : ومن الخُطباء المشهورين في العوامّ ، والمقدَّمين في الخواصّ : خالد بن صفوان الأهتَميّ(1) ، زعموا جميعاً أنّه كان عند أبي العبّاس ، وكان من سُمّاره وأهل المنزلة عنده ، ففخر عليه ناسٌ من بَلْحارِث بن كعب ، وأكثروا في القول ، فقال
ص: 430
أبو العبّاس : لِمَ لا تتكلّم يا خالد ؟ فقال : أخوالُ أميرالمؤمنين وأهله(1) . قال : فأنتم أعمامُ أميرالمؤمنين وعصبَتُه(2) فقُلْ . قال خالد : وما عسى أن أقول لقومٍ كانوا بين ناسِجِ بُرْدٍ ، ودابغِ جِلد ، وسائسِ قرد ، وراكب عَرْد ؛ دلَّ عليهم هُدهدٌ ، وغرّقتهم فأرة ، وملكتهم امرأة(3) ؟!
قال الجاحظ : فلئن كان خالد قد فكّر وتدبّر هذا الكلام إنّه لَلرّاوية الحافظ . والمؤلِّف الُمجيد . ولئن كان هذا شيئاً حَضَره حين حُرِّك وبُسط ، فما له نظيرٌ في الدنيا(4) . فتأمّل هذا الكلام فإنّك ستجده مليحاً مقبولاً ، وعظيمَ القَدر جليلاً ، ولو خطب اليمانيُّ بلسان سُحبان وائل(5) حَولاً كَرِيتاً(6) ، ثمّ صُكّ بهذه الفَقرة ما قامت له قائمة . وكان أذكَرَ الناس لأوّل كلامه ، وأحفظَهم لكلّ شي ء سَلَف من منطقه(7) .
قال : وكان يعارض شَبيب بن شَيْبة ؛ لاجتماعهما على القرابة والمجاورة والصِّناعة ، فذُكر شبيبٌ مرّةً عنده فقال : ليس له صديق في السِّرِّ ، ولا عدوّ في العلانية(8) ، وهذا
ص: 431
كلام ليس يعرف قدْرَه إلّا الراسخون في هذه الصناعة .
ومن جواباته : كان خالد جميلاً ولم يكن بالطّويل ، فقالت له امرأته : إنّك لَجميلٌ يا أبا صفوان . قال : وكيف تقولين هذا وما فيَّ عمود الجمال ولا رداؤه ولا بُرنُسه . فقيل له : ما عمود الجَمال ؟ فقال : الطُّول ، ولست بطويل ؛ ورداؤه البياض ، ولست بأبيض ؛ وبرنسه سواد الشعر ، وأنا أشمط ؛ ولكن قولي : إنّك لَمليحٌ ظريف(1) .
قال رجل من قريش لخالد بن صَفوان : ما اسمُك ؟ قال : خالد بن صَفْوان بن الأهتم . قال : إنّ اسمك لَكذِب ! ما أنت بخالد ، وإنّ أباك لَصَفْوان وهو حجر ، وإنّ جدّك لأهتَم ، والصحيح خير من الأهتم(2) .
قال له خالد : من أيّ قريش أنت ؟ قال : من عبد الدار بن قُصيّ بن كلاب . قال : لقد هَشَمَتْك هاشم ، وأَمَتْك أُميّة ، وجَمَحَت بك جُمَح ، وخَزَمَتك مَخزوم ، وأَقْصَتك قُصَيّ فجَعَلَتك عبدَ دارها ، تَفتح إذا دَخلوا ، وتُغلِق إذا خرَجوا(3) .
قال الهيثم بن عَديّ(4) : خرج هشام بن عبد الملك ومعه مَسْلَمة أخوه إلى مصانع(5) قد هُيّئت له وزُيّنت بألوان النَبت . وتوافى إليه بها وفود أهل مكّة والمدينة ، وأهل الكوفة والبصرة . فقال : يا أهل مكّة ، أفيكم مثل هذه المَصانع ؟ قالوا : لا ، غير أنّ فينا بيت اللَّه المُستقبَل(6) . ثمّ التفت إلى أهل المدينة فسألهم ، فقالوا : لا ، غير أنّ فينا قبر
ص: 432
نبيّنا المُرسَل صلى الله عليه وآله . ثمّ سأل أهل الكوفة فقالوا : لا ، غير أنّ فينا تلاوة كتاب اللَّه المُنزَل(1) . ثمّ سأل أهل البصرة فقام إليه خالد بن صَفوان فقال : نعم ، أصف بلادي وقد رأيتُ بلادك فتقيسها ، فقال : هات .
فقال : (وكلامه طويل في وصف البصرة) فقال له هشام : للّهِ دَرّك يا ابن صفوان ! لقد أوتيتَ لساناً وعلماً وبياناً . فأكرمه وأحسن جائزته وقدّمه على أصحابه(2) !
قال الهيثم بن عَديّ : كان أبو العبّاس السفّاح يُعجبه السَّمَر ومنازعة الرجال ، فحضره ذات ليلة في سَمَره إبراهيم بن مخرمة الكِنديّ وناس من بني الحارث بن كعب - وهم أخواله - وخالد بن صفوان ، فخاضوا في الحديث وتذاكروا مُضَر واليمن ، وفخر إبراهيم باليمن فأطنب ، فقال له خالد بن صفوان : أعالم أنت بلغة قومك ؟ قال : نعم ، قال : فما اسم العين ؟ قال : الحجمة . قال : فما اسم السنّ ؟ قال : الميدن . قال : فما اسم الأُذن ؟ قال : الصنارة . قال : فما اسم الأصابع ؟ قال : الشناتر . قال : فما اسم اللحية ؟ قال : الزَبّ . قال : فما اسم الذئب ؟ قال : الكُتْع . قال : فقال له : أفمؤمن أنت بكتاب اللَّه ؟ قال : نعم . قال : فإنّ اللَّه عزّ وجلّ يقول : « إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرآناً عَرَبيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »(3) وقال : « بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ »(4) وقال : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ »(5) .
ص: 433
فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل ، أفلم تَر أنّ اللَّه عزّ وجلّ قال : « الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ »(1) ، ولم يَقُلْ : الحجمةُ بالحجمةِ ؟ وقال : « السِّنَّ بِالسِّنِّ »(2) ولم يقل : الميدن بالميدن ؟ وقال : « والأُذُنَ بِالأُذُنِ »(3) ولم يقل : الصنّارة بالصنّارة ؟ وقال : « يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فى آذانِهِمْ »(4) ولم يقل : شَناترهم في صنّاراتهم ؟ وقال : « لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى »(5) ولم يقل : لا تأخذ بزَبّي ؟ وقال : « فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ »(6) ولم يقل : فأكله الكُتْع ؟ ثمّ قال : أسألك عن أربع ، إن أقررت بهنّ قُهِرتَ ! وإن جحدتهنّ كفرت ! قال : وما هنّ ؟ قال : الرسول منّا أو منكم ؟ قال : منكم . قال : فالقرآن نزل علينا أو عليكم ؟ قال : عليكم . قال : فالبيت الحرام لنا أو لكم ؟ قال : لكم . قال : فالخلافة فينا أو فيكم ؟ قال : فيكم . قال خالد : فما كان بعد هذه فلكم(7) !
قيل لخالد بن صفوان : ما لَكَ لا تُنفق ، فإنّ مالك عريض ؟ فقال : الدهر أعرَضُ منه . فقيل : كأنّك تأمل أن تعيش الدهر كلَّه ، فقال : ولا أخاف أن أموت في أوّله(8) .
ص: 434
قال سليمان بن أبي شيخ : كان أبو سعيد الراني(1) يُماري(2) أهل الكوفة ويفضّل أهل المدينة ، فجاءه رجل من أهل الكوفة وسمّاه شِرشِيراً ، وقال : كلب في جهنّم يُسمّى شِرشِيراً ، ثمّ قال :
عندي مَسائلُ لا شِرشيرُ يَعرِفُها * إنْ سِيلَ عنها ، ولا أصحابُ شِرشيرِ
ولَيس يَعرِفُ هذا الدِّينَ معرفةً * إلّا حَنيفيّةٌ كوفيّةُ الدُّورِ
لا تَسألنَّ مَدينيّاً فتكْفرَهُ * إلّا عن البَمِّ والمَثْنى أو الزِّيرِ(3)
فكتب أبو سعيد إلى أهل المدينة : إنّكم قد هُجِيتم فرُدُّوا . فردّ عليه رجل من أهل المدينة يقول :
لقد عَجِبْتُ لِغاوٍ ساقَهُ قدَرُ * وكلُّ أمرٍ إذا ما حُمَّ مَقدورُ
قالوا : المدينةُ أرضٌ لا يكون بها * إلّا الغِناءُ وإلّا البَمُّ والزِّيرُ
لقد كذَبتَ لَعَمْر اللَّهِ ، إنّ بها * قبرَ النبيِّ وخير الناسِ مقبورُ
قالوا : فما انتصر ولا انتُصِر به ، فليته لم يقلْ شيئاً(4) !
ص: 435
ربيعة الرأي فقيه متكلّم ، أخذ الفقه عن أبي حنيفة . ذكره ابن النديم ، قال : هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، واسم أبي عبد الرحمن فرّوخ ، من موالي المُنكدِر التيميّين ، ويُكنّى أبا عثمان . وكان بليغاً خطيباً ، إذا أخذ في الكلام وصَلَه حتّى يمل ويضجر . قيل إنّه تكلّم يوماً وعنده أعرابيّ ، فقال له ربيعة : ما العِيّ ؟ قال له الأعرابيّ : ما أنت فيه منذ اليوم(1) !
عُرف عن العلّامة الحلّي رحمه الله وفرة العقل وحدّة الذكاء مع حضور الخاطر وسرعة البديهة وقوّة الحجّة ، وقد استفاد من هذه المَلَكات في خدمة دينه الحنيف ومذهبه المستقيم .
وللعلّامة الحلّيّ أخبار كثيرة تدخل في موضوعنا «الأجوبة المسكتة» منها : أنّ الملك خُدابَنده غضب يوماً على امرأته فقال لها : أنتِ طالق ثلاثاً ثمّ إنّه ندم ، وجمع العلماء فقالوا : لابدّ من الُمحلِّل . فقال : عندكم في كلّ مسألة أقاويل مختلفة ، أليسَ عندكم هنا اختلاف ؟ فقالوا : لا . فقال أحد وزرائِه : إنّ عالماً بالحلّة وهو يقول ببطلانِ هذا الطلاق . فبعث كتابه إلى العلّامة ، وأحضره . فلمّا بعث إليه قال علماء العامّة : إنّ له مذهباً باطلاً ، ولا عقل للروافضِ ، ولا يليق بالملك أن يبعث إلى طلب رجلٍ ضعيف العقل ! قال الملكُ : حتّى يحضر .
فلمّا حضر العلّامة بعث الملك إلى جميع علماء المذاهب الأربعة وجمعهم . فلمّا دخل العلّامة أخذ نعلَيه بيدِه ودخل المجلس ، وقال : السلام عليكم ، وجلس عند الملك .
ص: 436
فقالوا للملك : ألم نقُلْ لك إنّهم ضعفاء العقول ! قال الملك : اسألوا عنه في كلّ ما فعل . فقالوا له : لم ما سجدتَ للملكِ(1) وتركتَ الآداب ؟ فقال : إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان ملكاً وكان يُسلَّم عليه ، وقال اللَّه تعالى : « فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً »(2) ، ولا خلاف بيننا وبينكم أنّه لا يجوز السجود لغير اللَّه .
فقيل له : لم جلستَ عند الملك ؟ قال : لم يكن مكان غيره .
قالوا له : لأيّ شي ء أخذتَ نعلك معك ؟ وهذا ممّا لا يليق بعاقل ، بل إنسان ! قال : خِفتُ أنْ يسرقه الحنفيّةُ كما سرقَ أبو حنيفة نَعلَ رسول اللَّه ! فصاحت الحنفيّة : حاشا للّه ! متى كان أبو حنيفة في زمان رسول اللَّه ؟! بل كان تولُّده بعد المأة من وفاته صلى الله عليه وآله . فقال : نَسِيتُ ، فلعلّه كان السارق الشافعيّ ! فصاحت الشافعيّةُ كذلك ، وقالوا : كان تولّد الشافعيّ في يوم وفاة أبي حنيفة ، وكان نشؤه في المأتين من وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله . قال : لعلّه كان مالك ! فصاحت المالكيّةُ كالأوّلين . فقال : لعلّه كان أحمد بن حنبل ! ففعلت الحنبليّة كذلك .
فأقبل العلّامة إلى الملك وقال : أيّها الملك ! علمتَ أنّ رؤساء المذاهب الأربعة لم يكن أحدهم في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ولا الصحابة ، فهذا أحد بِدَعِهم أنّهم اختاروا من مجتهديهم هذه الأربعة ، ولو كان فيهم مَن كان أفضلَ منهم بمراتب لا يجوّزون أن يجتهد بخلافِ ما أفتى واحدٌ منهم .
فقال الملك : ما كان واحدٌ منهم في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، والصحابة ؟ فقال الجميعُ : لا .
فقال العلّامة : ونحنُ معاشرَ الشيعة تابعون لأميرالمؤمنين عليه السلام : نفس
ص: 437
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وأخيه وابن عمِّه ووصيّه ؛ وعلى أيّ حالٍ فالطّلاق الذي أوْقَعَهُ الملكُ باطلٌ لأنّه لم يتحقّق شروطه ، ومنها العَدْلان ، فهل قال الملكُ بمحضرِهما ؟ قال : لا .
ثمّ شرع في البحث مع العلماء حتّى ألزمهم جميعاً فتشيّع الملكُ وبعث إلى البلاد والأقاليم حتّى يخطبوا بالأئمّة الاثني عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، ويضربوا السكك على أسمائهم وينقشونها على أطراف المساجد والمشاهد منهم(1) .
أُتي مُصْعب بن الزُّبير برجلٍ من أصحاب المختار فأمر بضرب عنقه ، فقال : أيّها الأميرُ ، ما أقبحَ بك أن أقومَ يومَ القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ، ووجهِك هذا الذي يستضاءُ به ، فأتعلّق باطرافك وأقول : يا ربّ ، سَلْ مُصعَباً : لماذا قتلني ؟ فقال : أطلِقُوه . فقال : أيّها الأميرُ ، اجعل ما وهبت لي من حياتي في خَفْض عيش . قال : أعطوه مائة ألف درهم . قال : بأبي وأُمّي أشهد أنّي قد جعلتُ منها لابن قيس الرُقَيّات(2) خمسين ألفاً . قال : ولِمَ ؟ قال : لقوله فيك :
إنّما مُصعَبٌ شِهابٌ من اللَّهِ * تَجلَّتْ عن وجهِهِ الظَّلْماءُ
مُلْكُهُ مُلْكُ رحمةٍ ليس فيهِ * جَبَروتٌ يُخشى ولا كِبرياءُ
تَتّقي اللَّهَ في الأُمورِ وقد أفلَ * -حَ مَن كان همَّه الاتّقاءُ
ص: 438
فضحك مصعب وقال : أرى فيك موضعاً للصَّنيعة ، وأمره بلزومه وأحسن إليه ، فلم يزلْ معه حتّى قُتل(1) .
أسَرَ معاوية يوم صِفّين رجلاً من أصحاب عليّ صلوات اللَّه عليه ، فلمّا أقيم بين يدَيْه قال : الحمدُ للّه الذي أمكن منك ! قال : لا تقلْ ذلك ؛ فإنّها مصيبة . قال : وأيّة نعمة أعظَمُ من أن يكون اللَّه أظْفَرني برجلٍ قَتَل في ساعةٍ واحدة جماعةً من أصحابي ؟! إضرِبا عنقَه . فقال : اللهمّ اشهد أنّ معاوية لم يَقْتلْني فيك ولا لأنّك ترضى قتلي ، ولكن قتلني في الغلبة على حُطَام هذه الدنيا ، فإن فعلَ فافعَلْ به ما هو أهله ، وإن لم يفعلْ فافعلْ به ما أنت أهله . فقال : قاتلك اللَّه ! لقد سَبَبتَ فأوجعت في السبّ ودعوتَ فأبلغتَ في الدعاء ، خَلِّيا سبيله(2) .
قال عبد الملك بن الحجّاج : لو كان رجل من ذهب لَكُنتُه ! قال له رجل من قريش : وكيف ذلك ؟ قال : لم تلدني أَمَةٌ بيني وبين آدم ما خلا هاجَر . فقال له : لولا هاجَر لكنتَ كلباً من الكلاب(3) !
ص: 439
قال رجلٌ لعمرو بن عُبيد : إنّي لأرحمُك ممّا يقول الناس فيك ! قال : أَسمِعتَني أذكر شيئاً فيهم ؟ قال : لا ؛ قال : فإيّاهم ارحَمْ(1) .
مدح نُصَيبُ أبو الحجناء عبدَ اللَّه بن جعفر ، فأجْزَلَ له من كلّ صنف . فقيل له : أتصنعُ هذا بمثلِ هذا العبد الأسود ؟! فقال : أمَا واللَّهِ لئن كان جلدُه أسودَ إنّ ثناءَه لأبيض ، وإنّ شِعرَه لَعربيّ ، ولقد استحقّ بما قال أكثر ممّا نال ؛ وإنّما أخذ رواحل تُنضَى ، وثياباً تبلى ، ومالاً يفنى ؛ وأعطى مديحاً يُروى ، وثناءً يبقى(2) .
وقف أعرابيّ يسأل قوماً ، فقالوا له : عليك بالصَّيارفة ! فقال : هناك واللَّه قرَارةُ اللُّؤم(3) .
جرى ذِكرُ رجلٍ عند الأحنف فاغتابوه ، فقال : ما لَكُم وما لَه ؟ يأكل رزقَه ، ويَكفي قِرنَه ، وتحمل الأرض ثِقلَه(1) .
قال عمر بن الخطّاب لأبي مريم(2) الحَنفيّ : واللَّهِ لا أُحبُّك حتّى تُحبّ الأرضُ الدمَ المسفوح ! قال : فتمنعني لذلك حقّاً ؟ قال : لا . قال : فلا ضَيْر ! إنّما يأسَفُ على الحبّ النِّساء(3) .
وأُتي عبدُ الملك بن مروان برجلٍ فقال : زبيريٌّ عميريٌّ(4) ، واللَّهِ لا يحبّك قلبي أبداً . قال : يا أمير المؤمنين ! إنّما يبكي على الحبّ المرأة ، ولكن عدلٌ وإنصاف(5) .
دخل بقيّةُ بن الوليد الحِمصيّ على هارون الرشيد فحدّثه بأحاديث أعجبته ، فقال هارون : يا غلام ، ناوِلْني الدَّواةَ أكتُبها . وكان القيّمَ بأمره الفضلُ بن الربيع ، ومرتبتُه بعيدة ، فنادى : يا بقيّة ناوِلْ أميرالمؤمنين الدَّواةَ بجنبِك ، فقال بقيّة : ناوِلْهُ أنت يا هامان ! فقال : سمعتَ ما قال لي يا أميرالمؤمنين ؟! قال : اسكتْ ! فما كنتَ أنت عنده هامان حتّى كنتُ أنا عنده فرعون(6) !
ص: 441
قال همام بن مُنَبِّه : قَدِمتُ مكّةَ فجلستُ إلى ابن الزبير ، ومعه جماعةٌ من قريش . فقال رجلٌ من قريش : ممّن أنت ؟ قلت : من اليمن . قال : ما فعلت عجوزُكم ؟ قلت : أيُّ عجوز ؟ قال : بِلْقِيس . قلت له : عجوزُنا أسلَمَتْ مع سُليمانَ عليه السلام ، وعجوزُكم حمّالةُ الحطَب في جِيدها حَبْلٌ من مَسَد(1) .
قال المدائنيّ : أتى رجلٌ عبدَ الملك فقال له : إنّ لك عندي يا أميرالمؤمنين نصيحةً في فلان ، فقال له : نسمعها منك على أنّك إن كنت صادقاً مَقَتناك ، وإن كنت كاذباً عاقَبناك ، وإن أحببت أن نُقيلك أقَلناك ؟ قال : فأقِلْني ، قال : قد فعلتُ(2) .
بين بَبَّة(3) والضِبابيّ
البلاذريّ قال : حدّثني بعضُ النَوفَليّين من ولد عبد اللَّه بن الحارث بَبَّة ، قال : وقع
ص: 442
بين ببّة وبين عبد اللَّه بن الزبير كلام ، فعيّره بلقبه وقال : ألستَ بَبّة ، وما بَبَّة ؟! فقال له عبد اللَّه بن الحارث : ألستَ الضِبابيّ ؟! وكان ابن الزبير في صغره جلس على جُحْرِ ضَبٍّ فَفَسا حتّى خرج الضَّبّ ، فكان يُعيَّر بذلك ويقال له الضِبابيّ ، فترضّى ابنُ الزبير بَبَّةَ عندها وصالحه(1) .
عن محمّد بن نوفل بن عائذ الصَيْرفيّ(2) ، قال : كنتُ عند الهيثم بن حبيب الصَيْرفيّ(3) ، فدخل علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، فذَكَرنا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ودار بيننا كلام في غدير خمّ ، فقال أبو حنيفة : قد قلت لأصحابنا : لا تقرّوا لهم بحديث غدير خمّ فيخصموكم(4) ! فتغيّر وجه الهَيْثم بن حبيب الصَيْرفيّ ، وقال له : لِمَ لا يقرّون به ، أما هو عندك يا نعمان ؟ قال : بلى هو عندي وقد رويتُه ! قال : فلِمَ لا يقرّون به وقد حدّثنا حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، عن زيد بن أرقم أنّ عليّاً عليه السلام نَشَدَ اللَّهَ في الرَّحْبة مَن سمعه ؟! فقال أبو حنيفة : أفلا ترَوْن أنّه قد جرى في ذلك خَوْض حتّى نشد عليٌّ الناسَ لذلك ؟ فقال الهيثم : فنحن نكذّب عليّاً أو نردّ قولَه ؟ فقال أبو حنيفة : ما نكذّب عليّاً ولا نردّ قولاً قاله ، ولكنّك تعلم أنّ الناس قد غلا منهم قوم . فقال الهيثم : يقولُه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ويخطب به ونشفق نحن منه ونتّقيه بغلوِّ غالٍ أو قولِ قائلٍ ؟!
ص: 443
ثمّ جاء مَن قطع الكلام بمسألة سأل عنها ، ودار الحديث بالكوفة ، وكان معنا في السوق حبيب بن نزار بن حيّان ، فجاء إلى الهَيْثم فقال له : قد بلغني ما دار عنك في عليّ عليه السلام وقول من قال . وكان حبيب مولًى لبني هاشم ، فقال له الهيثم : النظر يمرّ فيه أكثر من هذا ، فخفّض الأمر ..(1) .
قال أبو دُهْمان الغَلّابيّ : كان أبو حنيفة الفقيه صديقاً لحمّاد بن عَجرد(2) ، فنَسَك
ص: 444
أبو حنيفة وطلب الفقه فبلَغ فيه ما بلغ ، ورفضَ حمّاداً وبسطَ لسانَه فيه ، فجعل حمّاد يلاطفه حتّى يكفَّ عن ذِكره ، وأبوحنيفة يذكره ، فكتب إليه حمّاد بهذه الأبيات :
إن كانَ نُسكُكَ لا يَتمُ * بغيرِ شَتمي وانتقاصي
أوَلَم تكن إلّا بهِ * تَرجُو النَّجاةَ من القِصاصِ
فاقعُدْ وقُم بي كيف شئ * -تَ مع الأداني والأقاصي
فلَطالَما زَكَّيْتَني * وأنا المقيمُ على المعاصي
أيّامَ تأخُذها وتُع * -طي في أباريقِ الرَّصاصِ
قال : فأمسك أبو حنيفة بعد ذلك عن ذكره خوفاً من لسانه(1) .
قال ابن أبي الحديد : حدّثني يحيى بن سعيد بن عليّ الحنبليّ المعروف بابن عالية ، من ساكني قَطُفْتا(2) بالجانب الغربيّ من بغداد ، وأحد الشهود المُعدّلين بها ، قال : كنتُ حاضر الفخر إسماعيل بن عليّ الحنبليّ المعروف بغلام ابن المنى . وكان الفخر إسماعيل ابن عليّ هذا مقدّم الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ، ويشتغل بشي ء في علم المنطق ، وكان حُلو العبارة ، وقد رأيتُه أنا وحضرت عنده ، وسمعت كلامه ، وتوفّي سنة عشر وستّمائة .
ص: 445
قال ابن عالية : ونحن عنده نتحدّث ؛ إذ دخل شخص من الحنابلة ، وقد كان له دَين على بعض أهل بغداد فانحدر إليه يطالبه به ، واتّفق أن حَضَرَت زيارةُ يوم الغدير ، والحنبليّ المذكور بالكوفة ، وهذه الزيارة هي الثامن عشر من ذي الحجّة ، ويجتمع بمشهد أميرالمؤمنين عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة تتجاوز حدّ الإحصاء .
قال ابن عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص : ما فعلتَ ؟ ما رأيتَ ؟ هل وصل مالُك إليك ؟ هل بقيَ لك منه بقيّة عند غريمك ؟ وذلك يجاوبه ؛ حتّى قال له : يا سيّدي ، لو شاهدتَ يومَ الزيارة يوم الغدير ، وما يجري عند قبر عليّ بن أبي طالب من الفضائح والأقوال الشنيعة وسبّ الصحابة جِهاراً بأصوات مرتفعة من غير مُراقَبة ولا خِيفة ! فقال إسماعيل : أيّ ذنب لهم ! واللَّه ما جرّأهم على ذلك ولا فتح هذا الباب إلّا صاحب ذلك القبر !
فقال ذلك الشخص : ومَن صاحب القبر ؟ قال : عليّ بن أبي طالب ! قال : يا سيّدي ، هو الذي سنّ لهم ذلك وعلّمهم إيّاه وطرّقهم إليه ؟! قال : نعم واللَّه . قال : يا سيّدي فإن كان مُحِقّاً فما لنا أن نتولّى فلاناً وفلاناً ؟! وإن كان مُبطِلاً فما لنا نتولّاه ؟! ينبغي أن نبرأ إمّا منه أو منهما .
قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعاً ، فلبس نَعلَيه ، وقال : لعن اللَّه إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة ، ودخل دار حرمه ، وقمنا نحن وانصرفنا(1) .
قال مُساوِر الورّاق يمدح إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة :
ص: 446
إذا ما الناسُ يوماً قايَسُونا * بآبِدَةٍ من الفُتيا(1) طَرِيفَه
أتَيناهُم بمِقياسٍ صحيحٍ * تِلادٍ(2) من طِراز أبي حَنيفَه
إذا سَمِعَ الفقيهُ بها وَعاها * وأثبَتها بحِبرٍ في صَحيفَه
فأجابه مُجيب من أصحاب الحديث :
إذا ذو الرأيِ خاصَمَ عن قياسٍ * وجاءَ ببدعةٍ هَنَةٍ سَخيفَه
أتَيناهُم بقولِ اللَّهِ فيها * وآثارِ مُبرّزةٍ شَريفَه
فكَم مِن فَرْجِ مُحصَنةٍ عفيفٍ * أُحِلَّ حرامُهُ بأبي حَنيفَه(3) !
ص: 447
قال العَتبيّ : كان بين شريك القاضي(1) والربيع حاجب المهديّ معارضة ، فكان الربيع يَحمِل عليه المهديَّ فلا يلتفت إليه ، حتّى رأى المهديّ في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه ، فلمّا استيقظ من نومه دعا الربيع وقصّ عليه رؤياه ، فقال : يا أميرالمؤمنين ، إنّ شريكاً مخالف لك ، وإنّه فاطميّ محض ! قال المهديّ : علَيّ به ، فلمّا دخل عليه قال له : يا شريك ، بلغني أنّك فاطميّ . قال له شريك : أُعيذك باللَّه يا أميرالمؤمنين أن تكون غير فاطميّ ، إلّا أن تعني فاطمة بنت كسرى(2) ! قال : ولكنّني أعني فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله . قال : افَتلعنها يا أميرالمؤمنين ؟ قال : معاذ اللَّه . قال : فما تقول فيمَن يلعنها ؟ قال : عليه لعنة اللَّه . قال : فالعَن هذا - يعني الربيع - فإنّه يلعنها ،
ص: 448
فعليه لعنة اللَّه . قال الربيع : لا واللَّه يا أميرالمؤمنين ، ما ألعنها . قال له شريك : يا ماجن ! ما ذِكرُك لسيّدة نساء العالمين وابنة سيّد المرسلين في مجالس الرجال ؟!
قال المهديّ : دَعْني من هذا ؛ فإنّي رأيتُك في منامي كأنّ وجهك مصروف عنّي ، وقَفاك إلَيّ ، وما ذلك إلّا بخلافك علَيّ . ورأيتُ في منامي كأنّي أقتل زنديقاً . قال شريك : إنّ رؤياك يا أميرالمؤمنين ليست برؤيا يوسف الصِّدِّيق صلوات اللَّه على محمّد وعليه، وإنّ الدماء لا تُستَحلّ بالأحلام ، وإنّ علامةَ الزندقة بيّنة . قال : وما هي ؟ قال: شرب الخمر ، والرِّشا(1) في الحُكم ، ومَهرُ البغيّ - أي ما تأخذه على زناها ، سمّاه مَهراً مجازاً - قال : صدقتَ واللَّه يا أبا عبد اللَّه ، أنت واللَّه خير من الذي حَمَلني عليك(2) .
ومن أخباره ما حدّث به الزبير بن بكّار ، قال : حدّثني عمّي(3) عن عمر بن الهياج بن سعيد ، قال : أتَته امرأة يوماً - يعني شريكاً - من ولد جرير بن عبد اللَّه البَجليّ صاحب النبيّ صلى الله عليه وآله ، وهو في مجلس الحكم ، فقالت : أنا باللَّهِ ثمّ بالقاضي ، امرأة من ولد جرير بن عبد اللَّه صاحب النبيّ صلى الله عليه وآله ، ورَدّدت الكلام ، فقال لها : إيهاً عنكِ الآن ، مَن ظلمكِ ؟
فقالت : الأمير موسى بن عيسى ، كان لي بستان على شاطئ الفرات لي فيه نخل وَرِثتُه عن آبائي وقاسَمتُ إخوتي ، وبَنيت بيني وبينهم حائطاً ، وجعلت فيه فارسيّاً في بيت يحفظ النخل ، ويقوم ببستاني ، فاشترى الأمير موسى بن عيسى من إخوتي جميعاً ، وساومني وأرغبني فلم أبِعْه ، فلمّا كان في هذه الليلة بعث بخمسمائة فاعل فاقتلعوا الحائط فأصبحتُ لا أعرف من نخلي شيئاً ، واختلط بنخل إخوتي ، فقال : يا غلام طَيِّنْه ، فختم ثمّ قال لها : امضي إلى بابه حتّى يحضر معك . فقال موسى لصاحب
ص: 449
الشرط : امضِ إلى شريك فقل يا سبحان اللَّه ! ما رأيتُ أعجب من أمرك ؛ امرأة ادّعت دعوًى لم تصحّ أعدَيْتَها علَيّ ! فقال له صاحب الشرط : إن رأى أميرالمؤمنين أن يعفيني فليفعلْ ، فقال : امضِ ويلك . فخرج فأمر غلمانه أن يتقدّموا إلى الحبس بفراش وغيره من آلة الحبس ، فلمّا جاء فوقف بين يدي شريك فأدّى الرسالة ، فأمر به شريك إلى الحبس ، فقال : قد واللَّهِ يا أبا عبد اللَّه عرفتُ أنّك تفعل بي هذا ، فقدّمت ما يصلحني إلى الحبس .
وبلغ الخبر موسى بن عيسى فوجّه الحاجب إليه ، فقال هذا من ذاك رسول ، فلمّا وقف بين يديه وأدّى الرسالة ألحقه بصاحبه فحُبس . فلمّا صلّى الأمير العصر بعث إلى جماعة من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك ، فقال : امضوا إليه وأبلغوه السلام ، وأعلموه أنّه قد استخفّ بي ، وأنّي لست كالعامّة . فمضوا وهو جالس في مسجده بعد العصر ، فدخلوا فأبلغوه الرسالة ، فلمّا انقضى كلامهم قال لهم : ما لي لا أراكم جئتم في غيره من الناس كلّمتموني ؟ مَن هاهنا مِن فتيان الحيّ ، فيأخذ كلّ واحد منكم بيدِ رجُل فيذهب به إلى الحبس ، لا يَنمْ واللَّهِ إلّا فيه ، قالوا : أجادٌّ أنت ؟ قال : حقّاً ، حتّى لا تعودوا برسالة ظالم ، فحبسهم ، وركب موسى بن عيسى في الليل إلى باب الحبس ، ففتح الباب وأخرجهم جميعاً ، فلمّا كان الغد وجلس شريك للقضاء ، جاء السجّان فأخبره فدعا بالقِمْطَر(1) فختمها ووجّه بها إلى منزله ، وقال لغلامه : الحقني بثقلي إلى بغداد ، واللَّهِ ما طلبنا هذا منهم ، ولكن أكرهونا عليه ، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذ تقلّدناه لهم . ومضوا نحو قنطرة الكوفة إلى بغداد ، وبلغ موسى بن عيسى الخبر ، فركب في موكبه فلحقه ، وجعل يناشده اللَّه ويقول : يا أبا عبد اللَّه تثبّت ، انظر إخوانك تحبسهم ، دَعْ أعواني . قال : نعم ؛ لأنّهم مَشَوا لك في أمرٍ لم يجب عليهم المشي فيه ،
ص: 450
ولستُ ببارحٍ حتّى يُرَدّوا جميعاً إلى الحبس ، وإلّا مضيتُ إلى أميرالمؤمنين فاستعفيتُه ممّا قلّدني . وأمر بردّهم جميعاً إلى الحبس وهو واللَّه واقف مكانه حتّى جاءه السجّان فقال : قد رجعوا إلى الحبس ، فقال لأعوانه : خذوا بلجامه ، قودوه - أي موسى بن عيسى - بين يدي جميعاً إلى مجلس الحكم ، فمروا به بين يديه حتّى أدخل المسجد وجلس مجلس القضاء ثمّ قال : الجُوَيرية المتظلّمة ، مَن هذا ؟ فجاءت فقال : هذا خصمكِ قد حضر ، وهو جالس معها بين يدَيه ، فقال موسى بن عيسى : أولئك يخرجون من الحبس قبل كلّ شي ء . قال : أمّا الآن فنعم ، أخرِجوهم .
قال : ما تقول فيما تدّعيه هذه ؟ قال : صَدَقَتْ ، قال : فرُدَّ جميع ما أُخِذ منها ، وتبني حائطاً في وقت واحد سريعاً كما هُدِم . قال : افعل ، بقي لك شي ء ؟ قال : تقول المرأة بيت الفارسيّ ومتاعه ، قال موسى بن عيسى : ويُردّ ذلك ، بقي لكِ شي ء تدّعينه ؟ قالت : لا ، وجزاك اللَّه خيراً . قال : قومي . وزَبَرها ، ثمّ وَثَب من مجلسه فأخذ بيد موسى بن عيسى فأجلسه في مجلسه ، ثمّ قال : السلام عليك أيّها الأمير ، تأمر بشي ء ؟ قال : أيّ شي ء آمر ؟ وضحك(1) .
عبد اللَّه بن إسحاق ، قال : كان شريك بن عبد اللَّه على قضاء الكوفة ، فحكم على وكيل عبد اللَّه بن مصعب بحكم لم يوافق هوى عبد اللَّه ، فالتقى شريك بن عبد اللَّه وعبد اللَّه بن مصعب ببغداد ، فقال عبد اللَّه بن مصعب لشريك : ما حكمتَ على وكيلي بالحقّ . قال : ومَن أنت ؟ قال : مَن لا تُنكِر ، قال : فقد نكرتك أشدّ النكير ! قال : أنا عبد اللَّه بن مصعب . قال : لا كثير ولا طيّب . قال : وكيف لا تقول هذا وأنت تُبغض
ص: 451
الشيخين ؟! قال : ومَن الشيخان ؟ قال : أبو بكر ، وعمر ، قال : واللَّه ما أبغضتُ أباك وهو دونهما ، فكيف أبغضهما(1) ؟
أزهر بن عُمير ، قال : استأذن شريك بن عبد اللَّه على يحيى بن خالد البرمكيّ ، وعنده رجل من ولد الزبير بن العوّام ، فقال الزبيريّ ليحيى بن خالد : أصلح اللَّه الأمير ، إيذن لي في كلام شريك بن عبد اللَّه ، فقال : إنّك لا تُطيقه . قال : إيذن لي في كلامه . قال : شأنك . فلمّا دخل شريك وجلس قال له الزبيريّ : يا أبا عبد اللَّه ، إنّ الناس يزعمون أنّك تسبّ أبا بكر وعمر ؟ قال : فأطرق مليّاً ثمّ رفع رأسه ، فقال : واللَّه ، ما استحللتُ ذاك من أبيك وكان أوّل مَن نكث(2) في الإسلام ، كيف أستحلّه من أبي بكر وعمر(3) ؟
ومن أخباره : جاء حمّاد بن أبي حنيفة إلى شريك ليشهد عنده شهادة . فقال له شريك : الصلاة من الإيمان ؟ قال حمّاد : لم نَجئ لهذا . قال له شريك . لكنّا نبدأ بهذا . قال : نعم هي من الإيمان ! قال : ثمّ تشهد الآن . فقال له أصحابه : تركتَ قولَك . قال : أفأتعرّض لهذا فيجبهني ، أنا أعلم أنّه لا يُجيز شهادتي ! ولكن يردّها ردّاً حسناً(4) .
وقال حمّاد بن أبي حنيفة : كنت أُجالس شريكاً ، فكنت أتحرّز منه ، فالتفت إلَيّ يوماً فقال : أظنّك تُجالسنا بأحسن ما عندك(5) .
ص: 452
دخل شريك على المهديّ فقال له : ما ينبغي أن تُقلَّد الحكم بين المسلمين ! قال : ولِم ؟ قال : لخلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة(1) . قال : أمّا قولك : بخلافك على الجماعة ، فعن الجماعة أخذتُ ديني ، فكيف أخالفهم وهم أصلي في ديني ؟! وأمّا قولك : وقولك بالإمامة ، فما أعرف إلّا كتاب اللَّه ، وسُنّة رسوله صلى الله عليه وآله .
وأمّا قولك : مثلُك ما يُقلَّد الحُكم بين المسلمين ، فهذا شي ء أنتم فَعَلتموه ، فإن كان خطأ فاستَغفِروا اللَّه منه ، وإن كان صواباً فأمسِكوا عليه .
قال : ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟ قال : ما قال فيه جدّك العبّاس ، وعبد اللَّه . قال : وما قالا فيه ؟ قال : فأمّا العبّاس فمات وعليٌّ عنده أفضَلُ الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتّى لحق باللَّه . وأمّا عبد اللَّه فإنّه كان يَضرِب بين يدَيه بسيفَين ، وكان في حروبه رأساً متّبَعاً وقائداً مُطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور كان أوّل مَن يقعد عنها أبوك ؛ لعلمه بدين اللَّه ، وفقهه في أحكام اللَّه . فسكت المهديّ وأطرق ، ولم يَمضِ بعد هذا المجلس إلّا قليل حتّى عُزل شريك(2) .
ص: 453
قَدِم هارون الكوفة يعزل شريكاً عن القضاء ، وكان موسى بن عيسى والياً على الكوفة . فقال موسى لشريك : ما صنع أميرالمؤمنين بأحدٍ ما صنع بك ؛ عزلك عن القضاء ! فقال له شريك : هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة ، ويخلعون ولاة العهود ، فلا يُعاب ذلك عليهم . فقال موسى : ما ظننتُ أنّه مجنون هكذا لا يُبالي ما تكلّم به ! وكان أبوه عيسى بن موسى وليّ العهد بعد أبي جعفر ، فخلعه بمالٍ أعطاه إيّاه ، وهو ابن عمّ أبي جعفر(1) .
حكى الحريريّ في كتاب «درّة الغوّاص» أنّه كان لشريك جليس من بني أُميّة ، فذكر شريك في بعض الأيّام فضائل عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فقال ذلك الأمويّ : نِعمَ الرجل عليّ ، فأغضبه ذلك وقال : ألعليّ يقال : نِعمَ الرجل ؟! فأمسك حتّى سكن غضبه ، ثمّ قال : يا أبا عبد اللَّه ، ألم يَقُل اللَّه تعالى في الإخبار عن نفسه : « فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ »(2) وقال في أيّوب : « إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ »(3) وقال في سليمان : « وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ »(4) ، أفلا ترضى لعليّ بما رضي اللَّه به لنفسه ولأنبيائه ؟ فتنبّه شريك عند ذلك ، وزادت مكانة ذلك الأمويّ من قلبه(5) .
ص: 454
قيل لشريك بن عبد اللَّه : كان معاوية حليماً . قال : لو كان حليماً ما سَفِه الحقّ ، ولا قاتلَ عليّاً ، ولو كان حليماً ما حمَل أبناء العبيد على حُرَمه ، ولَمَا أنكح إلّا الأكْفاء .
قال : وأصوَب من هذا قول الآخر ، قال : كان معاوية يتعرّض(1) ويحْلُم إذا أُسمِعَ . ومن تعرّض للسَّفيه فهو سفيه(2) .
قال : وقال الآخر : كان يُحبّ أن يُظهِرَ حلمَه ، وقد كان طار اسمه بذلك ، فكان يُحبّ أن يزداد في ذلك(3) .
دخل إياس بن معاوية(4) الشامَ وهو غلام ، فقدَّم خصماً له إلى قاضٍ لعبد الملك بن مروان ، وكان خصمه شيخاً صديقاً للقاضي ، فقال له القاضي : يا غلام ، أما تستحي ؟! أتُقدِّم شيخاً كبيراً ؟! قال إياس : الحقّ أكبَر منه . قال : اسكُتْ . قال : فمَن يَنطِق بحُجّتي إذا سكتُّ ؟ قال : ما أحسِبُك تقول حقّاً حتّى تقوم . قال : لا إله إلّا اللَّه . قال : ما أظنّك إلّا ظالماً له ! قال : ما على ظنّ القاضي خرجتُ من منزلي . فدخل القاضي على
ص: 455
عبد الملك فأخبره الخبر ، فقال له : اقضِ حاجته واصرفه عن الشام لا يفسد الناس علينا(1) .
قال إياس بن معاوية : كنت في مكتب بالشام ، وكنت صبيّاً ، فاجتمع النصارى يضحكون من المسلمين ، وقالوا : إنّهم يزعمون أنّه لا يكون تَفْل(2) للطعام في الجنّة . قال : قلت : يا معلّم ، أليس يزعم الناس أنّ أكثر الطعام يذهب في البدن ؟ فقال : بلى . قلت : فما تُنكر أن يكون الباقي يذهبه اللَّه في البدن كلّه ؟ فقال : أنت شيطان(3) !
قال سفيان بن حسين(4) : كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل تخوّفت إن قُمتُ من عنده أن يقع فيّ(5) ، فجلست حتّى قام ، فذكرتُه لإياس ، فجعل ينظر في وجهي ولا يقول شيئاً حتّى فرغت ، فقال لي : أغزَوتَ الدَّيلَم ؟ قلت : لا ، قال : غزوتَ السِند ؟ قلت : لا ، قال : فغزوت الهند ؟ قلت : لا ، قال : غزوت الروم ؟ قلت : لا . قال : فسلَمَ منك الديلم والسِند والهند والروم ، ولم يسلم منك أخوك هذا ! فلم يعد سفيان إلى ذلك(6) .
ص: 456
جاء دِهْقانٌ إياسَ بن معاوية ، فسأله عن المُسكِر ، أحرام هو أم حلال ؟ فقال : هو حرام . فقال : كيف يكون حراماً ؟ أخبِرْني عن التمر ، أحلال أم حرام ؟ قال : حلال . قال : فأخبِرني عن الكَشُوث(1) ، أحلال هو أم حرام ؟ قال : حلال . قال : فأخبِرني عن الماء . قال : حلال . قال : فما خالف ما بينهما ، وإنّما هو من التمر والكَشُوث والماء ، أن يكون هذا حلالاً وهذا حراماً ؟! فقال إياس للدِّهقان : لو أخذتُ كفّاً من تراب فضربتُك به ، أكان يُوجِعُك ؟ قال : لا . قال : فأخذتُ كفّاً من ماء فنضحتُه في وجهك ، أكان يُوجِعُك ؟ قال : لا . قال : فأخذتُ هذا التراب ، فعجنتُه بالتِّبْن والماء ، ثمّ جعلته كُتَلاً(2) حتّى يجفّ ، فضربتك به ، أكان يُوجعُك ؟ قال : نعم ، ويقتلني ! قال : فكذا هو التمر والماء والكَشُوث ، إذا جُمع ثمّ عُتِّق حَرُم ، كما يُجفّف هذا(3) .
ومن أجوبته القصار الحَسَنة : قال رجل لإياس بن معاوية : حتّى متى يتوالد الناس ويموتون ؟ فقال لجلسائه : أجيبوه . فلم يكن عندهم جواب ، فقال إياس : حتّى تتكامل العدّتان : عُدّة أهل النار ، وعدّة أهل الجنّة(4) .
قال الجاحظ : ورأيتُ ناساً يستحسنون جوابَ إياس بن معاوية ، حين قيل له : ما فيك عيب غير أنّك مُعجَب بقولك . قال : أفأعجَبَكم قولي ؟ قالوا : نعم . قال : فأنا أحقّ بأن أُعجَب بما أقول وبما يكون منّي(5) !
قال المدائنيّ : قيل لإياس بن معاوية : ما فيك عيب إلّا كثرة الكلام . قال :
ص: 457
أفتسمعون صواباً أو خطأ ؟ قالوا : لا ، بل صواباً . قال : فالزيادة من الخير خير .
قال : وما رُمي إياس بالعِيّ قطّ ، وإنّما عابوه بالإكثار(1) .
وقيل لإياس لمّا وَلِيَ القضاء : إنّك تَعجَل القضاء . فقال : كم بكفِّك من إصبع ؟ فقال : خمسة ، فقال له إياس : عجِلت بالجواب ، قال : لم يعجَل من استَيقن علماً ، فقال إياس : هذا جوابي(2) .
وقيل له : لولا خِصال فيك كنتَ أنت الرجل . قال : وما هي ؟ قال : تقضي قبل أن تَفهم ، ولا تبالي مَن جالستَ ، ولا تبالي ما لبست . قال : أمّا قولك : أقضي قبل أن أفهم ، فأيّهم أكثر : ثلاثة أو اثنان ؟ قال : بل ثلاثة . قال : ما أسرع ما فهمتَ ! قال : ومَن لا يفهم هذا ؟! قال : ذلك أنا ، لا أقضي حتّى أفهم . وأمّا قولك : إنّي لا أُبالي مع من جلست ، فإنّي أجلس مع من يرى لي أحبّ إليَّ من أن أجلس مع من أرى له . وأمّا قولك : إنّي لا أُبالي ما لبست ، فلأن ألبس ثوباً يَقِي نفسي أحبُّ إليّ من أن ألبس ثوباً أقِيه بنفسي(3) .
قال حُمَيد الطّويل : لمّا وَلِيَ إياس بن معاوية القضاء دخل عليه الحسن البصريّ ، وإياس يبكي ، فقال له : ما يُبكيك ؟ فذكر إياس الحديث : القُضاة ثلاثةٌ ، اثنان في
ص: 458
النّار ، وواحد في الجنّة . فقال الحسن : إنّ فيما قصّ اللَّه عليك من نبأ داود وسليمان ما يردُّ قولَ هؤلاء الناس ، ثمّ قرأ : « وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ »(1) إلى قوله : « فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً »(2) فحَمِدَ سليمانَ ولم يَذُمّ داود(3) .
وَلي يحيى بن أكثم قضاء البصرة وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، فاستزرى به الناسُ واستضعفوه فامتحنوه ، فقالوا : كم سِنّ القاضي ؟ قال : سِنُّ عتّاب بن أَسِيد حيث ولّاه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله مكّة(4) .
وذكر الخطيب أنّ يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنّه عشرون سنة ونحوها ، فاستصغره أهل البصرة ، فقال له أحدهم : كم سنّ القاضي ؟ فعلم أنّه قد استصغره ، فقال له : أنا أكبر من عتّاب بن أُسِيد الذي وجّه به النبيّ صلى الله عليه وآله قاضياً على أهل مكّة يوم الفتح ، وأكبر من مُعاذ بن جَبَل الذي وجّه به النبيّ صلى الله عليه وآله قاضياً على أهل اليمن ،
ص: 459
وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجّه به عمر بن الخطّاب قاضياً على أهل البصرة(1).
ومن أخباره ما ذكره أبو العبّاس أحمد بن يعقوب ، قال : كان يحيى بن أكثم يَحسد حسداً شديداً ، وكان مفتنّاً ، فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث ، فإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو ، فإذا رآه يعلّم النحو سأله عن الكلام ، ليقطعه ويُخجله ! فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكيّ حافظ ، فناظره فرآه مفتنّاً ، فقال له : نظرتَ في الحديث ؟ قال : نعم . قال : فما تحفظ من الأصول ؟ قال : أحفظ : شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أنّ عليّاً رجم لوطيّاً ، فأمسك فلم يكلّمه بشي ء(2) .
ص: 460
* كان لبعضهم ابنٌ دميمٌ فخطبَ إلى قوم ، فقال الابن لأبيه يوماً : بلغني أنّ العروس عَوراء . فقال الأب : يا بُنيّ ، بودِّي أنّها عمياء حتّى لا ترى سَماجَة وجهِك(1) !
* قيل لبعض ولد أبي لهب : إلعنْ معاوية . فقال : ما أشغلني «تَبَّتْ»(2) !
* كان لخازم بن خُزَيمة(3) كاتبٌ ظريف أديب ، وكان يتنادر عليه ، فقام يوماً بين يدَيه ، فقال له خزيمة : إلى أين يا هامان ؟ فقال : أبني لك صَرْحاً(4) .
ص: 461
* قيل لبعضهم : زوّجتَ أُمَّك ؟ فقال : نعم ، حلالاً طيّباً . فقال : أمّا حلالٌ فنعَم ، وأمّا طيّبٌ فلا(1) .
* وقفت امرأةٌ على عطّارٍ ماجِن ، فلمّا نظر إليها قال : « وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ »(2) ، فقالت : « وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ »(3) .(4)
* حَبَلت امرأةُ يزيد بن معاوية ، فقالت له ، وكان قبيح الصورة : الوَيل لك إنْ كان يُشبهك ! فقال لها : والويل لكِ إن لم يُشبهني(5) ! أي إن لم يشبهه فهو ابن سِفاح .
* شكا عبد اللَّه بن جعفر ضرسه ، فقال له عبد اللَّه بن صفوان : إنّ إبليس يقول : دواءُ الضرسِ قلعُه . فقال : إنّما يطيع إبليسَ أولياؤه(6) .
* دخل أبو العَمَيثَل على طاهر بن الحسين متمدّحاً ، وقبّل يده فقال : ما أخشنَ شاربَك يا أبا العَمَيثل ؟ فقال : أيّها الأمير ، إنّ شَوْك القُنفُذ لا يضرّ ببرثنِ الأسد ! فضحك وقال : إنّ هذه الكلمة أعجبُ إليَّ من كلّ شِعر ، فأعطاه للشعر ألف درهم ولكلمته هذه ثلاثة آلاف درهم(7) .
* ويحكى أنّ أبا العَمَيثل قال لأبي تمّام الطائيّ لمّا أنشد عبدَ اللَّه بن طاهر قصيدته البائيّة : يا أبا تمّام ، لِمَ لا تقول ما يُفهَم ؟ فقال : يا أبا العَمَيثل ، لِمَ لا تَفْهَمُ ما يُقال(8) ؟!
ص: 462
قالوا لأبي الإصبَع بن رِبعيّ : أمَا تسمع بالعدوِّ وما يصنعون في البحر ، فلِمَ لا تخرج إلى قتال العدوّ ؟ قال : أنا لا أعرفُهم ولا يعرفونني ، فكيف صاروا لي أعداء(1) .
كان بالرَّقّة رجل يحدِّث الناسَ عن بني إسرائيل ، وكان يكنّى أبا عَقيل ، فقال له الحجّاج بن حَنتَمة : ما كان اسمُ بقرةِ بني إسرائيل ؟ قال : حَنْتَمة ! فقال له رجلٌ من ولد أبي موسى الأشعريّ : في أيّ الكتب وجدتَ هذا ؟ قال : في كتاب عمرو بن العاص(2) !
كان ابن ضَحيانَ الأزديّ يقرأ : قُلْ يا أيّها الكافرين . فقيل له في ذلك فقال : قد عرفتُ القراءةَ في ذلك ، ولكنّي لا أُجِلُّ أمرَ الكفّار(3) .
قال عثمان الورّاق : رأيتُ العَتّابيّ يأكل خُبزاً على الطريق بباب الشام ، فقلت له : ويحَك ، أما تستحي ؟! فقال لي : أرأيتَ لو كنّا في دارٍ فيها بقَر ، كنتَ تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك ؟ فقال : لا . قال : فاصبرْ حتّى أُعْلِمَك أنّهم بقر . فقام فوعظ
ص: 463
وقصَّ ودعا ، حتّى كثر الزِّحام عليه ، ثمّ قال لهم : روى لنا غيرُ واحد أنّه مَن بلغ لسانُه أرنبةَ أنفِه لم يدخل النار . فما بقي واحدٌ إلّا وأخرج لسانَه يومئ به نحو أرنبةِ أنفِه ، ويقدِّره حتّى يبلغها أم لا ، فلمّا تفرّقوا ، قال لي العتّابيّ : ألم أخبرك أنّهم بقر(1) ؟!
الأصمعيّ قال : نظر زياد بن أبيه إلى رجل من ضَبّة يأكل أكلاً قبيحاً ، وهو أقبحُ الناس وجهاً ، فقال : يا أخا ضَبّة ، كم عِيالُك(2) ؟ قال : سبع بنات أنا أجملُ منهنّ وجهاً ، وهنّ آكَلُ منّي ! فضحك زياد وقال : للّهِ دَرّك ، ما ألطفَ سؤالك(3) ! افرضوا له ولكلِّ واحدة منهنّ مائة وخادماً ، وعجّلوا له ولهنّ بأرزاقهنّ(4) .
قال المدائنيّ : دعا عبدُ الملك عُبيدَ اللَّه بن زياد بن ظَبْيان أو غيره إلى الغداء فأكل معه ، فجعل يتناول ممّا بين يديْه ، فقال له عبد الملك : كُلْ ممّا بين يديْك ، فقال : أوَفي مائدة أميرالمؤمنين حِمًى ؟ فقال عبد الملك : لا ، كُلْ من أيّها شئت(1) .
وقال : حدّثني بعض الشاميّين ، قال : خطب عبد الملك بن مروان وأعرابيّ يسمع خطبته ، فقال له رجل من قريش : كيف ما تسمع ؟ فقال : لو كان كلامٌ يُؤتَدم به لَكان هذا(2) !
ومن البخلاء : هشام بن عبد الملك ؛ قال خالد(3) بن صفوان : دخلت على هشام بن عبد الملك فأطرفْتُه وحدّثته ، فقال : سَلْ حاجتك . فقلت : تزيد في عطائي عشرة دنانير . فأطرق حيناً وقال : فيمَ ؟ ولِمَ ؟ وبِمَ ؟ ألِعبادةٍ أحدثتَها ، أم لبلاءٍ حسَنٍ أبليتَه في أميرالمؤمنين ؟ ألا لا يا ابن صفوان ، ولو كان لَكثُرَ السؤال ولم يحتمله بيت المال ! فقلتُ : وفّقك اللَّه وسدّد ، فأنت واللَّه كما قال أخو خُزَاعة :
إذا المالُ لم يُوجِبْ عليك عطاءَهُ * صَنيعةُ قُربى أو صديقٌ تُوافِقُهْ
مَنعتَ ، وبعضُ المنعِ حَزْمٌ وقوّةٌ * ولمْ يَسْتَلِبْكَ المالَ إلّا حقائقُهْ
قيل لخالد بن صفوان : ما حملك على تزيين البخل له ؟ قال : أحببتُ أن يمنع غيري ، فيكثُر مَن يلومه(4) !
ص: 465
في وقت كان هشام بن عبد الملك ضَنيناً على ما في يده بخيلاً على الآخرين ، فإنّه طمع في ما عند غيره .
ذكر ابن عبد ربّه قال : خرج هشام بن عبد الملك ومعه الأبرش الكلبيّ ، فمرّ براهب في دَير ، فعدَلَ إليه ، فأدخله الراهب بستاناً له ، وجعل يجتني له أطايبَ الفاكهة ، فقال له هشام : يا راهب ، بِعْني بستانَك ! فسكت عنه الراهب ، ثمّ أعاد عليه ، فسكت عنه ، فقال له : ما لَكَ لا تُجيبني ؟ فقال : وَدِدتُ أنّ الناس كلّهم ماتُوا غيرَك ! قال : لماذا ويحك ؟! قال : لعلّك أن تشبع ! فالتفت هشام إلى الأبرش ، فقال : أما سمعتَ ما قال هذا ؟ قال : واللَّهِ إن لَقِيَك حرٌّ غيرُه(1) .
الحِرْمازيُّ عن جَهْمٍ السَليطيّ ، قال : دخل أعرابيّ على عبد الملك فسأله ، فقال : إنّ علينا في مالِنا حقوقاً هي أوْجبُ من حقّك ، فقال : واللَّه لو كنتُ مثلك ما منعتُ راغباً ، فقال : أعطُوه ، فأبى قبولَ عطيّته وخرج ، فقيل له : لِم امتنعت من قبول صلته ؟ فقال : إنّ يد البخيل ثقيلة(2) .
ومن البخلاء عبد اللَّه بن الزبير ، وكانت تكفيه أكلةٌ لأيّام ، ويقول : إنّما بطني شِبر في شِبر ، فما عسى أن تكفيه أكلة !
وقال فيه أبو وَجْرَة مولى الزبير :
ص: 466
لو كان بطنُكَ شِبراً قد شَبِعتَ وقد * أبقيتَ فضلاً كبيراً للمساكينِ
فإن تُصِبك من الأيّام جائحةٌ * لم نَبْكِ منكَ على دنيا ولا دينِ !
ما زلتَ في سُورة الأعرافِ تَدرُسَها * حتّى فؤادي كمِثلِ الخزِّ في اللِّينِ
إنّ امرأً كنتُ مولاهُ فضيَّعني * يَرجُو الفَلاحَ لَعبدٌ عينُ مغبونِ
وابن الزبير هو الذي قال : أكلتم تمري وعصيتم أمري ! فقال فيه الشاعر :
رأيتُ أبا بكرٍ ، وربُّكَ غالبٌ * على أمرِه ، يرجو الخلافةَ بالتَّمرِ !
وأقبل إليه أعرابيٌّ فقال : أعطِني وأُقاتل عنك أهلَ الشام . فقال له : اذهبْ فقاتل ، فإنْ أغنيتَ أعطيناك ! قال : أراك تجعلُ روحي نقداً ودراهمك نسيئة(1) ؟!
وأتاه أعرابيّ يسأله جَمَلاً ، ويذكر أنّ ناقته نُقِبت(2) ، فقال : أنْعِلها من النِعال السَبْتيّة ، واخصفها بهُلْب(3) ! قال له الأعرابيّ : إنّما أتيتُك مُستَوصِلاً ولم آتِكَ مُستَوصِفاً(4) ، فلا حَمَلتْ ناقةٌ حَمَلَتني إليك ! قال : إنّ وصاحبَها(5) .
قال المدائنيّ : كان للمُغيرة بن عبد اللَّه الثقفيّ - وهو والي الكوفة - جَديٌ يوضع على مائدته بعد الطعام ، لا يمسّه هو ولا أحد ممّن يحضر ، فحضر مائدتَه أعرابيّ ، فبسط يدَه وأسرع في الأكل ، فقال : يا أعرابيّ ، إنّك لَتأكل الجدي بحَرْدٍ(6) كأنّ أُمّه نطحتْك ! فقال له الأعرابيّ : أصلحك اللَّه ، وأنت تُشفِق عليه كأنّ أُمَّه أرضعتك !
ص: 467
ثمّ بسط الأعرابيّ يده إلى بيضة بين يده(1) ، فقال : خُذها فإنّها بيضة العُقْر ! فلم يحضر طعامه بعد ذلك(2) .
دخل أشعب على والي المدينة ، فحضر طعامه ، وكان له جَدْي على مائدته يتحاماه كلّ مَن حضر ، فبَدَر إليه أشعب فمزّقه ، فقال له : يا أشعب ، إنّ أهل السجن ليس لهم إمام يصلّي بهم ، فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلّي بهم ، فإنّ في ذلك أجراً لك ! فقال : واللَّه ما أحبّ هذا الأجر ، ولكن زوجتي طالق إن أكلت لحم جَدْيٍ عندك حتّى ألقى اللَّه(3) !
قال رجل لسهل بن هارون(4) : هَبْني ما لا مَرْزِئةَ(5) عليك فيه ، قال : وما ذاك يا ابن أخي ؟ قال : درهم واحد . قال : يا ابن أخي لقد هَوَّنتَ الدرهم ! وهو طائع اللَّه في أرضه الذي لا يُعصى ، والدرهم ويحك عُشر العشرة ، والعشرة عُشر المائة ، والمائة عُشر الألف ، والألف دِيةُ المسلم ! ألا ترى يا ابن أخي أين انتهاء الدرهم الذي هوَّنْتَه ؟! وهل بيوت المال إلّا درهم على درهم(6) ؟!
ص: 468
قال الجاحظ للحزاميّ : أترضى أن يُقال لك بخيل ؟ قال : لا أعدَمَني اللَّه هذا الاسم ؛ لأنّه لا يقال لي بخيل إلّا وأنا ذو مال ، فسَلِّمْ لي المالَ وسَمِّني بأيّ اسم شئت ! فقال : جمعَ اللَّهُ لاسم السخاء المالَ والحمدَ ، وجمع لاسم البخلِ المالَ والذمّ .
قال : بينهما فرق عجيب وبَوْن بعيد : إنّ في قولهم بخيل ، سبباً لمكثِ المال ، وفي قولهم سخيّ ، سبباً لخروج المال عن ملكي ، واسم البخيل فيه حفظ وذمّ ، واسم السخيّ فيه تضييع وحمد ، والمال ناضّ نافع ، ومكرم لأهله ، والحمد ريح وسخريّة ، ومسمعة وطَرمذة(1) . وما أقلَّ غَناءَ الحمد عنه إذا جاع بَطنُه ، وعَرِي ظهرُه ، وضاع عيالُه ، وشَمِت به عدوُّه(2) .
قال الأصمعيّ : جاء رجل من بني عُقيل إلى عمر بن هُبَيْرة ، فمتّ إليه بقرابة وسأله أن يُعطيَه ، فلم يُعطِه شيئاً . ثمّ عاد إليه بعد أيّام فقال : أنا العُقيليّ الذي سألتك منذ أيّام ! فقال له ابن هُبيْرة : وأنا الفَزاريّ الذي منعتك منذ أيّام ! فقال : معذرةً إليك ، إنّي سألتك وأنا أظنّك يزيد بن هُبيْرة الُمحاربيّ ! قال : ذلك أَلأَمُ لك عندي ، وأهوَنُ بك عليَّ ؛ نشأ في قومك مِثلي فلم تعرفه ، ومات مثل يزيد ولم تعلم به ! يا حَرَسيّ ، اسفَعْ(3) بيده(4) .
يحيى بن محمّد بن أبي قتيلة ، قال : غَذَا أشعبُ جَدْياً بلبن زوجته وغيرها حتّى بلغ
ص: 469
الغايةَ . ثمّ جاء به إلى إسماعيل بن جعفر بن محمّد ، فقال : باللَّهِ إنّه لَابني ، قد رضع بلبن زوجتي ، وقد حَبَوتُك به ، ولم أرَ أحداً يستأهله غيرك .
قال : فنظر إسماعيل إلى فتنة من الفتن فأمر به فذُبح وسُمِط(1) ، فأقبل عليه أشعب ، فقال : المكافأة ، فقال : ما عندي واللَّه اليوم شي ء ، ونحن مَن تعرف ، وذلك غير فائت لك ، فلمّا يئس منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر بن محمّد ، ثمّ اندفع يشهق حتّى التقَتْ أضلاعُه ، ثمّ قال : أخْلِني ، قال : ما معنا أحد يسمع ولا عينَ عليك ، فقال : وثب ابنُك إسماعيل على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه . قال : فارتاع جعفر وصاح : وَيْلك ! وفِيمَ ؟ وتريد ماذا ؟ قال : أمّا ما أُريد فواللَّه ما لي في إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامعٌ أبداً بعدك . فجزّاه خيراً وأدخله منزله وأخرج إليه مائتي دينار ، وقال له : خذ هذه ولك عندنا ما تُحبّ .
قال : وخرج إلى إسماعيل لا يُبصر ما يطأ عليه ، فإذا به مُتَرسِّل في مجلسه ، فلمّا رأى وجه أبيه نَكِره ، وقام إليه ، فقال : يا إسماعيل ، أوَ فَعَلْتَها بأشعب ؟ قتلتَ ولدَه ! قال : فاستضحك وقال : جاءني بجَدْي من صفته كذا ، وخَبَّره الخبَر ، فأخبره أبوه ما كان منه وصار إليه . قال : فكان جعفر يقول لأشعب : رَعَبْتَني رَعَبَك اللَّه ، فيقول : رَوعةُ ابنِك واللَّه إيّاي في الجَدْي أكبر من رَوْعتك أنت في المائتي دينار(2) .
قَدِم أشعب على يزيد بن حاتِم المهلّبيّ وهو بمصر ، فجلس في مجلسه ، ودعا بغلامه فسارّه . فقام أشعب فقبّل يده ، فقال له يزيد : لِمَ فعلت هذا ؟ فقال : إنّي رأيتُك تسارّ غلامَك فظننتُ أنّك قد أمرت لي بشي ء ، فضحك منه وقال : ما فعلتُ هذا ، ولكنّني
ص: 470
أفعل ، ووصَلَه وأحسن إليه(1) .
قال الواقديّ : كنتُ مع أشعب نريد المُصلّى ، فوجد ديناراً ، فقال لي : يا ابنَ واقد ، وجدتُ ديناراً فما أصنع به ؟ قال : قلت : عرِّفْه ، قال : أمّ العلاء إذاً طالق ! قال : قلت : فما تصنع به إذاً ؟ قال : أشتري به قَطيفة أُعرِّفها(2) !
قال مصعب الزبيريّ : خرج سالم بن عبد اللَّه بن عمر متنزّهاً إلى ناحية من نواحي المدينة ، هو وحُرَمُه وجَواريه ، فأخبر رجلٌ أشعبَ أنّ سالمَ قد ذهب إلى بستانِ فلان ومعه طعام كثير ، فبادر أشعب حتّى لحِقه ، فأغلق الغلامُ الباب دونه ، فتسوّر الحائط ، فصاح به سالم ، وَيْلك يا أشعب ، معي بناتي وحُرَمي ، فقال : « لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ »(3) ، فوجّه إليه سالم بالطعام وحَمل منه إلى منزله(4) .
المدائنيّ عن جَهْم بن خلف قال : حدّثني رجلٌ ، قال : قلتُ لأشعَب : لو تحدّثت عندي العَشيّة ؟ فقال : أكره أن يجي ء ثقيل . قال : قلت : ليس غيري وغيرُك . قال : فإذا صلّيتُ الظهرَ فأنا عندك . فصلّى وجاء ، فلمّا وضعتِ الجاريةُ الطعامَ إذا بصديقٍ لي يدقّ الباب ، فقال : ألا ترى قد صرتُ إلى ما أكره ؟ قال : قلت : إنّ عندي فيه عَشرَ خصال ، قال : فما هي ؟ قلت : أوّلها أنّه لا يأكل ولا يشرب ، فقال : التِّسعُ الخصال لك ، أدخِلْه(5) .
ص: 471
قال المدائنيّ : ذكر أشعَبُ بالمدينة رجلاً قبيح الاسم ، فقيل له : يا أبا العلاء ، أتعرف فلاناً ؟ قال : ليس هذا من الأسماء التي عُرِضت على آدم(1) عليه السلام .
والمدائنيّ أيضاً قال : سمع أشعبُ حُبّى المدينيّة تقول : اللّهمّ لا تُمِتْني حتّى تغفر لي ذنوبي ، فقال لها : يا فاسقة ، أنتِ لم تسألي اللَّه المغفرة ، إنّما سألتِه عُمْرَ الأبد ! يُريدُ أنّه لا يغفر لها أبداً(2) .
وقال : أُتيَ أشعبُ بفالُوذَجة عند بعض الولاة فأكل منها ، فقيل له : كيف تراها يا أشعب ؟ قال : امرأته طالق إن لم تكن عُمِلت قبل أن يوحي اللَّه عزّ وجلّ إلى النَّحْل ! أي ليس فيها من الحلاوة شي ء(3) !
قال الجاحظ : كنت في منزل ابن أبي كريمة ، وأصلُه من مَرْو . فرآني أتوضّأ من كُوزِ خَزَفٍ ، فقال : سبحان اللَّه ، تتوضّأ بالعَذْب ، والبئرُ لك مُعْرِضة ! قلت : ليس بعَذْب ، إنّما هو من ماء البئر . قال : فتُفسِدُ علينا كوزَنا بالمُلوحة ! فلم أدْرِ كيف أتخلّص منه(4) .
قال أحمد بن رَشيد : كنتُ عند شيخ من أهل مَرْو ، وصبيٌّ له صغير يلعب بين
ص: 472
يَدَيه ، فقلت له إمّا عابثاً أو مُمتَحِناً : أطْعِمني من خُبزكم . قال : لا تُريده ، هو مُرٌّ ! فقلت : فأسْقِني من مائكم . قال : لا تريده ، هو مالح ! قلت : هاتِ من كذا وكذا . قال : لا تُريده ، هو كذا وكذا ! إلى أن عدَدْتُ أصنافاً كثيرة . كلّ ذلك يَمنَعُنيه ويُبغّضُه إليَّ ، فضحك أبوه وقال : ما ذنْبُنا ؟ هذا من عِلْمه ما تَسمع ، يعني أنّ البُخْل طبعٌ فيهم(1) .
حضر أعرابيّ سفرةَ سليمان بن عبد الملك ، فلمّا أُتي بالفالُوذَج جعلَ يُسرع فيه ، فقال سليمان : أتدري ما تأكل يا أعرابيّ ؟ فقال : بلى يا أميرالمؤمنين ، إنّي لَأجدُ رِيقاً هنيئاً ، ومُزدَرَداً ليّناً ، وأظنّه الصراط المستقيم الذي ذكره اللَّه في كتابه ! فضحك سليمان وقال : أزيدك منه يا أعرابيّ ، فإنّهم يذكرون أنّه يزيد في الدماغ ، قال كَذَبُوك لو كان كذلك لكان رأسُك مثل رأس البغل(2) !
وحضر سُفرةَ سليمان أعرابيّ ، فنظر إلى شَعرةٍ في لُقمة الأعرابيّ ، فقال : أرى شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ ! قال : وإنّك لَتُراعيني مُراعاةَ مَن يُبصر الشعرةَ في لُقمتي ؟! واللَّه لا واكَلْتُك أبداً ! فقال : استُرْها يا أعرابيّ ، فإنّها زلّة ولا أعود إلى مثلها(3) .
لمّا تُوفّي أبو العبّاس السفّاح دخل أبو دُلامة على المنصور والنّاسُ عنده يُعزّونه ، فأنشأ أبو دُلامة يقول :
أمسيتَ بالأنبارِ يا ابنَ محمّدٍ * لم تَستَطِعْ عن عُقْرِها تَحويلا
ص: 473
وَيْلي عليكَ ووَيْلُ أهلي كلِّهم * وَيْلاً وعَوْلاً في الحياةِ طويلا
فَلْتَبكِيَنَّ لكَ النساءُ بِعَبْرةٍ * ولْيَبْكِيَنَّ لكَ الرجالُ عَويلا
ماتَ النَّذى إذ متَّ يا ابنَ محمّدٍ * فجعلتَهُ لك في الثَّراءِ(1) عَديلا
إنّي سألتُ الناسَ بعدَك كُلَّهم * فوَجدْتُ أسمحَ مَن سألتُ بخيلا
ألِشِقْوَتي أُخِّرتُ بعدَكَ للّتي * تَدَعُ العزيزَ من الرجال ذليلا ؟!
فلأحْلِفَنَّ يمينَ حقٍّ بَرّةً * باللَّهِ ما أُعطيتُ بَعدكَ سُولا(2)
قال : فأبكى الناسَ قولُه ، فغضب المنصور غضباً شديداً وقال : لئن سمعتُك تُنْشِدُ هذه القصيدة لأقطعنّ لسانَك ! فقال أبو دُلامة : يا أميرالمؤمنين ، إنّ أبا العبّاس أميرَالمؤمنين كان لي مُكْرماً وهو الذي جاء بي من البَدْو كما جاء اللَّه بإخوة يوسف إليه ، فقُل كما قال يوسف لإخوته : « لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »(3) . فسُرِّيَ عن المنصور وقال : قد أقَلْناك يا أبا دُلامة ، فسَلْ حاجتك . فقال : يا أميرالمؤمنين ، قد كان أبو العبّاس أمرَ لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً وهو مريض ولم أقبِضْها . فقال المنصور : ومَن يعرف هذا ؟ فقال : هؤلاء ، وأشار إلى جماعة ممّن حضر . فوثب سليمانُ بن مُجالِد وأبو الجَهْم فقالا : صدَقَ أبو دُلامة ، نحن نعلم ذلك . فقال المنصور لأبي أيّوب الخازن وهو مَغِيط : يا سليمانُ ، ادفعها إليه وسيِّره إلى هذا الطاغية (يعني عبد اللَّه بن عليّ ، وقد كان خرج بناحيه الشام وأظهر الخلاف) . فوثب أبو دُلامة فقال : يا أميرالمؤمنين ، إنّي أُعيذكَ باللَّه أن أخرج معهم ، فواللَّهِ إنّي لَمشؤوم ! فقال المنصور : إمضِ ؛ فإنّ يُمْني يَغلبُ شُؤمَك فاخرُجْ . فقال : واللَّه يا أميرالمؤمنين ما أُحبّ أن تجرِّب ذلك منّي مع هذا العسكر ؛ فإنّي لا أدري أيُّهما يَغلب :
ص: 474
أيُمنُك أم شُومي ، إلّا أنّي بنفسي أَوْثقُ وأعرفُ وأَطولُ تجربةً . قال : دَعْني من هذا ، فما لَك من الخروج بُدّ . فقال : إنّي أصدُقُك الآن ، شهِدتُ واللَّهِ تسعةَ عشرَ عسكراً كلُّها هُزِمتْ؛ وكنتُ سبَبها. فإن شئتَ الآن على بَصيرةٍ أن يكون عسكرُك العشرين فافعلْ . فاستغرب(1) المنصور ضحِكاً ، وأمره أن يتخلّف مع عيسى بن موسى بالكوفة(2) .
قال ابو دُلامة : أُتِي بي المنصورَ وأنا سكران ، فحلف لَيُخْرجنّي في بَعْثِ حرب ، فأخرَجَني مع رَوْح بن حاتم المُهلَّبيّ(3) لقتال الشُّراة . فلمّا التقى الجمعان قلتُ لرَوح : أما واللَّه لو أنّ تحتي فرسَكَ ومعي سلاحُك لأثّرتُ في عدوّك اليوم أثراً ترتضيه . فضحك وقال : واللَّهِ العظيم ، لأدفعنّ ذلك إليك ، ولآخذنّك بالوفاء بشرطك . ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إليَّ . فلمّا حصَل ذلك في يدي وزالت عنّي حلاوة الطمع ، قلت له : أيّها الأمير ، هذا مقام العائذ بك ، وقد قلت بيتين فاسمعهما . قال : هات ، فأنشدتُه :
إنّي استجرتُكَ أن أُقدَّم في الوَغى * لِتَطاعُنٍ وتَنازُلٍ وضِرابِ
فَهَبِ السُّيوفَ رأيتُها مشهورةً * فتَرَكتُها ومضيْتُ في الهُرّابِ
ماذا تقول لما يجي ء وما يُرى * من واردات الموتِ في النُّشَّابِ !
فقال : دَعْ عنك هذا وستعلم .
وبرز رجل في الخوارج يدعو للمبارزة ، فقال : اخرُجْ إليه يا أبا دُلامة . فقلتُ : أنْشُدك اللَّهَ أيّها الأمير في دمي . قال : واللَّهِ لَتخرجنّ . فقلت : أيّها الأمير ، فإنّه أوّل يوم
ص: 475
من الآخرة وآخرُ يوم من الدنيا ، وأنا واللَّه جائع ما شَبِعَتْ منّي جارحةٌ من الجوع ، فمُرْ لي بشي ء آكله ثمّ أخرُج . فأمر لي برغيفَيْن ودجاجة ، فأخذتُ ذلك وخرجت عن الصفّ . فلمّا رآني الشّاري أقبل نحوي عليه فَرْوٌ وقد أصابه المطر فابتلّ ، وأصابته الشمس فاقْفَعَلَّ(1) وعيناه تَقِدان ، فأسرع إليَّ ، فقلت له : على رَسْلِك يا هذا كما أنت ، فوقف . فقلتُ : أتقتل مَن لا يُقاتلك ؟ قال : لا . قلت : أتقتل رجلاً على دينك ؟ قال : لا . قلت : أفتستحلُّ ذلك قبل أن تدعو مَن تقاتله إلى دينك ؟ قال : لا ، فاذهب عنّي إلى لعنة اللَّه . قلت : لا أفعل أو تسمع منّي . قال : قُلْ . قلت : هل كانت بيننا قطُّ عداوةٌ أو تِرَةٌ ، أو تعرفني بحالٍ تُحفِظك عليَّ ، أو تعلم بين أهلي وأهلك وِتْراً ؟ قال : لا واللَّه . قلت : ولا أنا واللَّه لك إلّا جميل الرأي ، وإنّي لأهواك وأنتحلُ مذهبَك وأدينُ دينَك ، وأُريد السوءَ لمن أراده لك . قال : يا هذا ، جزاك اللَّه خيراً فانصرِفْ . قلت : إنّ معي زاداً أُحبّ أن آكله معك ، وأُحبّ مُواكلتَك لتتوكَّدَ المودّةُ بيننا ، ويرى أهلُ العسكر هوانَهم علينا . قال : فافعل . فتقدّمتُ إليه حتّى اختلفت أعناقُ دوابِّنا وجَمَعْنا أرجلَنا على مَعَارفها(2) والناس قد غُلِبوا ضَحِكاً . فلمّا استَوْفَينا ودّعَني ، ثمّ قلت له : إنّ هذا الجاهل ! إن أقمتَ على طلب المبارزة ندَبَني إليك فتُتعِبُني وتَتْعبُ ، فإن رأيتَ ألّا تبرز اليوم فافعلْ . قال : قد فعلتُ ، ثمّ انصرف وانصرفت . فقلت لرَوْح : أمّا أنا فقد كفيتُك قِرْني فقل لغيري أن يكفيك قِرْنَه كما كفيتُك ، فأمسَك .
وخرج آخر يدعو إلى البِراز ، فقال لي : اخرُجْ إليه . فقلت :
إنّي أعوذُ برَوْحٍ أن يُقدِّمني * إلى البِرازِ فتَخْزى بي بنو أسَدِ
إنّ البِرازَ إلى الأقرانِ أعلمُهُ * ممّا يُفرِّقُ بين الروحِ والجسدِ
ص: 476
قد خالَفتْكَ المنايا إذ صَمَدْتَ لها * وأصبَحَتْ لجميعِ الخلقِ بالرَّصَدِ
إنّ المُهلَّبَ حُبَّ الموتِ أورَثكُم * وما وَرِثتُ اختيارَ الموتِ عن أحدِ
لو أنّ لي مُهجَةً أُخرى لَجُدتُ بها * لكنّها خُلِقت فرْداً فلَمْ أجُدِ
فضحك وأعفاني(1) .
دخل ابو دُلامة على المنصور فأنشده :
رأيتُك في المنام كسوتَ جِلْدي * ثياباً جَمّةً وقضيتَ دَيْني
فكانَ بَنَفسجيُّ الخَزِّ فيها * وساجٌ ناعمٌ فأتِمَّ زَيْني
فصدِّقْ يا فَدَتْكَ النفسُ رؤياً * رأتْها في المنامِ كذاك عيني
فأمر له بذلك وقال له : لا تَعُدْ تتحلّم عليَّ ثانيةً ، فأجعلَ حُلمَك أضغاثاً ولا أُحقّقه . ثمّ خرج من عنده ومضى فشرب في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل . فلَقِيَه العَسَسُ فأخذوه ، وقيل له : مَن أنت وما دِينك ؟ فقال :
دِيني على دينِ بني العبّاس * ما خُتِمَ الطينُ على القِرْطاسِ
إنّي اصطَحَبْتُ أربعاً بالكاسِ * فقد أدارَ شُربُها براسي
فهل بما قلتُ لكم من باسِ ؟!
فأخذوه ومَضَوا وخرَقوا ثيابَه وساجَه وأُتي به المنصور ، فحبسه مع الدجاج في بيت . فلمّا أفاق جعل ينادي غلامَه مرّهً وجاريَته أُخرى فلا يجيبه أحد ، وهو في ذلك يسمع صوت الدجاج وزُقاء الدُّيوك . فلمّا أكثرَ قال له السجّان : ما شأنك ؟ قال : ويلك ، من أنت وأين أنا ؟ قال : في الحبس ، وأنا فلان السجّان . قال : ومَن حَبَسني ؟
ص: 477
قال : أميرالمؤمنين . قال : ومَن خَرق ثيابي ؟ قال : الحرس . فطلب منه أن يأتيه بدواةٍ وقِرْطاس ففعل ، فكتب إلى المنصور :
أميرَالمؤمنين فَدَتْكَ نفسي * عَلامَ حَبَستَني وخَرَقتَ ساجي ؟!
أمِن صفراءَ صافيةِ المزاجِ * كأنّ شُعاعَها لَهَبُ السِّراجِ
وقد طُبِخَتْ بنارِ اللَّهِ حتّى * لقد صارت من النُّطَفِ النِّضاجِ
تَهشُّ لها القلوبُ وتَشتَهيها * إذا بَرَزتْ تَرَقرَقُ في الزُّجاجِ
أُقادُ إلى السجونِ بغير جُرمٍ * كأنّي بعضُ عُمّالِ الخَراجِ
ولو معهم حُبِستُ لكانَ سهلاً * ولكنّي حُبِستُ مع الدجاجِ
وقد كانت تُخَبّرني ذنوبي * بأنّي من عقابِك غيرُ ناجي
على أنّي وإن لاقَيتُ شرّاً * لخيرِك بعد ذاك الشّرِّ راجي
فدعا به وقال : أين حُبِستَ يا أبا دُلامة ؟ قال : مع الدجاج . قال : فما كنتَ تصنع ؟ قال : أقَوْقي معهنّ حتّى أصبحتُ . فضحِك وخلّى سبيلَه وأمر له بجائزة . فلمّا خرج قال له الرَّبيع : إنّه شرِب الخمر يا أميرالمؤمنين . أمَا سمعتَ قوله : (وقد طُبختْ بنارِ اللَّه) يعني الشمس . فأمر بردّه ثمّ قال : يا خبيث ، شربتَ الخمْرَ ؟ قال : لا . قال : أفلَمْ تقلْ (طُبخت بنار اللَّه) تعني الشمس . قال : لا واللَّه ما عنيتُ إلّا نارَ اللَّه المُوقَدة التي تَطَّلِعُ على فؤاد الربيع . فضحك وقال : خُذْها يا ربيع ولا تُعاوِد التعرُّضَ(1) .
أمر المنصورُ أصحابَه بلُبْس السَّواد وقَلانِسَ طِوالٍ تُدْعَم بعِيدانٍ من داخلها ، وأن يُعلّقوا السيوفَ في الناطق ، ويكتبوا على ظهورهم : « فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
ص: 478
الْعَلِيمُ »(1) . فدخل عليه أبو دُلامة في هذا الزِّيّ . فقال له المنصور : ما حالُك ؟ قال : شرُّ حالٍ ، وجهي في نِصْفي(2) ، وسيفي في استي ، وكتابُ اللَّه وراءَ ظهري ، وقد صَبَغتُ بالسَّواد ثيابي . ثمّ أنشده :
وكنّا نُرجّي من إمامٍ زيادةً * فجادَ بطولٍ زادَهُ في القَلانِسِ
تَراها على هامِ الرجال كأنّها * دِنانُ يهودٍ جُلِّلَتْ بالبَرانِسِ
فضحك منه وأعفاه وحدَه من ذلك ، وقال له : إيّاك أن يَسمع هذا منك أحد(3) .
قال المدائنيّ : ماتَتْ ابنةٌ للمنصور ، فرأى المنصور أبا دُلامة عند قبرها ، فقال : ما أعدَدتَ لهذا المَضْجَع ؟ قال : التي حُفر لها يا أميرالمؤمنين ، فقال : وَيْلك ! ألَا قلت كما قال الفرزدق حين سأله البصريّ ، ورآه عند قبر النَّوارِ امرأتِه عن مثل ما سألتُك ، فقال : شهادة أن لا إله إلّا اللَّه مُذ ثمانين سنة ، فقال أبو دُلامة : إنّا لا نُحبّ المُعادَ من الكلام(4) !
وُلِد لأبي دُلامة ابنة ، فغدا على المنصور فقال له : يا أميرالمؤمنين ، إنّه وُلد لي الليلة ابنة . قال : فما سمّيتَها ؟ قال : أمّ دُلامة . قال : وأيّ شي ء تريد ؟ قال : أريد أن يُعينني عليها أميرالمؤمنين . ثمّ أنشده :
ص: 479
لو كان يَقعُدُ فوقَ الشّمسِ من كرمٍ * قومٌ لَقيلَ : اقعُدوا يا آلَ عبّاسِ
ثمّ ارتقُوا في شُعاعِ الشمسِ كلُّكُمُ * إلى السماءِ ، فأنتم أكرمُ(1) النّاسِ
وقدِّموا القائمَ المنصورَ رأسَكُمُ * فالعَينُ والأنفُ والأُذُنانِ في(2) الراسِ
فاستحسنها المنصور ، وقال له : هل قلت في ابنتك شيئاً ؟ قال : نعم ، قلت فيها :
فما وَلَدَتْكِ مريمُ أُمُّ عيسى * ولَمْ يَكفِلْكِ(3) لُقمانُ الحكيمُ
ولكنْ قد تَضُمُّكِ أُمُّ سَوءٍ * إلى لَبّاتِها وأبٌ لَئيمُ !
فضحك المنصور ، وقال : بأيّ شي ء تحبّ أن أُعينك على قُبح ابنتك هذه ؟ فأخرَجَ خريطةً(4) قد كان خاطها من الليل ، فقال : تملأ لي هذه دراهمَ ، فمُلئت فوَسِعَتْ أربعةَ آلاف درهم(5) .
المدائنيّ قال : دخل أبو دُلامة على المهديّ وعنده إسماعيل بن محمّد وعيسى بن موسى والعبّاس بن محمّد ومحمّد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم . فقال له : أنا أعطي اللَّهَ عهداً لئن لم تَهْجُ أحداً ممّن في البيت لأقطعنّ لسانَك ! فنظر إلى القوم .. فكلّما نظر إلى واحد منهم غمزه بأنّ عليه رِضاه . قال أبو دُلامة : فعلمتُ أنّي قد وقعتُ وأنّها عَزْمَهٌ من عَزَماته لابدّ منها ، فلم أرَ أحداً أحقّ بالهجاء منّي ، ولا أَدْعى إلى السلامة من هجاء نفسي ، فقلت :
ألَا أبْلِغْ إليكَ أبا دُلامَهْ * فلَيسَ من الكرامِ ولا كرامَهْ
إذا لَبِسَ العمامةَ كان قِرداً * وخِنزيراً إذا نَزَعَ العِمامَهْ !
ص: 480
جَمَعتَ دَمامةً وجَمَعتَ لُؤماً * كذاكَ اللُّؤمُ تَتْبَعُه الدَّمامَهْ
فإنْ تَكُ قد أَصَبتَ نعيمَ دُنياً * فلا تَفرحْ فقد دَنتِ القيامَهْ
فضحك القوم ، ولم يَبقَ منهم أحدٌ إلّا أجازه(1) .
دخل أبو دُلامة على المهديّ ، فأنشده أبياتاً أُعجِب بها ، فقال له : سَلْني أبا دُلامة ، واحتكِم وأفرِط ما شئت . فقال : كلبٌ يا أميرالمؤمنين أصطادُ به . قال : قد أمرنا لك بكلب ، وهاهنا بَلَغتْ همّتك ، وإلى هنا انتهت أُمنيتك ؟! قال : لا تعجَلْ عليَّ يا أميرالمؤمنين ، فإنّه بقي عليَّ . قال : وما بقي عليك ؟ قال : غلامٌ يقود الكلب . قال : وغلام يقود الكلب . قال : وخادم يَطبخ الصيدَ . قال : وخادم يطبخ الصيد . قال : ودار نَسكنها . قال : ودار تسكنها . قال : وجارية نأوي إليها . قال : وجارية تأوي إليها . قال : قد بقي الآن المعاش . قال : قد أقطعناك ألفَي جَريب عامرة وألفَي جريب غامرة . قال : وما الغامرة ؟ قال : التي لا تَعْمُر . قال : أنا أقطع أميرالمؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد ! قال : جعلتُها كلَّها لك عامرة(2) .
وذكر البلاذريّ فقال : وحدّثني أبو العالية البصريّ ، قال : أنشد المنصورَ أبو دلامة قولَه :
قالَتْ : تبغ لنا نَخْلاً ومَزْرَعَةً * كما لجيرانِنا نَخْلٌ ومُزدَرَعُ
خادِعْ خليفتَنا عن ذاكَ في لُطُفٍ * إنّ الخليفةَ للسّؤالِ ينخدعُ
ص: 481
فقال لعبد الملك بن حميد : أقطِعْه ألفَ جَريب نصفُها عامر ونصفُها غامر .
فقال : بأبي أنت ، وما الغامر ؟ قال : الذي لا يناله الماء إلّا بالكُلفة والنفقة . قال أبو دلامة : فإنّي قد أقطعت عبد الملك بن حميد باديةَ بني أسد وصحراءَ بريقيا وصحراءَ أنقُف ! فضحك المنصور ، وأمر ان تُجعل الألف جَريب عامرة كلّها ، فقال له : جعلني اللَّه يا أميرالمؤمنين فداك ، ايذَنْ لي في تقبيل رِجلك ، فقال : لستُ أفعل ، فقال : واللَّهِ - أصلحك اللَّه - ما منعتُ عيالي شيئاً أهوَن عليهم من هذا(1) .
جاء في ترجمته : البُهلول(2) المجنون هو : البُهلول بن عَمْرو ، أبو وُهَيْب ، الصَّيْرفيّ الكوفيّ . وُسْوِس في عقله ، وما أظنُّه اختلط ، أو قد كان يصحو في وقت فهو معدود في عُقلاء المجانين . له كلام حسَن وحكايات ، وقد حدّث عن عمرو بن دِينار ، وعاصم بن بَهْدَلَة ، وأيْمَن بن نائل ؛ وما تعرّضوا له بجَرحٍ ولا تعديل(3) . ومَن ينظر في سيرة البُهلول وأخباره ، يعجب من نعته بالجنون !
وعن سبب إظهاره الجنون : أنّ هارون الرشيد أراد أن يولّي أحداً قضاءَ بغداد ، فأشاروا عليه بالبُهلول ، فاستدعاه وأعلمه بذلك ، فقال البهلول : أنا لا أصلح لذلك . قال : أطبَقَ أهل بغداد على أنّك صالح لهذا العمل . فقال : يا سبحان اللَّه ! إنّي أعرَف بنفسي منهم . ثمّ إنّي في إخباري عن نفسي لا يخلو أمري من وجهين : إمّا أن أكون صادقاً ، فهو ما أقول . وإن كنت كاذباً ، فالكاذب لا يصلح لهذا العمل . فألحّوا عليه
ص: 482
وشدّدوا . قال : إن كان ولا بدّ فأمهِلوني الليلةَ حتّى أُفكّر في أمري ، فأمهلوه . فلمّا أصبح تجانَنَ وركب قصبةً ودخل السوق ، وهو يقول : طَرِّفوا خَلُّوا الطريقَ لا يَطأكم فَرَسي ! فقال الناس : جُنّ بهلول ، فقيل ذلك لهارون فقال : ما جُنّ ، ولكنْ فَرَّ بدينه منّا . وبقي على ذلك إلى أن مات ، وكان من عقلاء المجانين(1) .
ومن أخباره الدالّة على رجحان عقله : قالَ نعيم الخشّاب : كتب بهلول إلى الواثق : أمّا بعدُ ، فإنّ المراء قد لَعِبَ بِدِينك ، والأهواء قد أحاطت بك ، ومقالاتِ أهل البِدَع قد سَلَخَتْ عنك عقلَك ! وابن أبي دؤاد(2) قد بدّل عليك كلامَ ربّك ؛ اقرأ : « فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّك بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى »(3) ، إلى قوله : « فَاعْبُدْنى »(4) ، أيكون هذا الكلام مخلوقاً ؟! فرَماكَ اللَّه بحجارةٍ مِن سِجّيل « مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ »(5) ثمّ كتب عنوانه : من الخائف الذليل إلى المخالف لكلام ربّه تعالى(6) .
وممّا يدلّ على تضلّعه في الكلام ونبوغه فيه ، ما كتبه إلى ابن أبي دُواد : «أمّا بعد ، فإنّك قد ميّزتَ كلام اللَّه من اللَّه وزعمتَ أنّه مخلوقٌ ، فإن يك ما ذكرتَ باطلاً فرماك اللَّه بقارعةٍ من عنده ، ويْلَكَ أكنتَ معه حين كلّم موسى ؟ فإن كنتَ رادّاً عليه فاقرأ : « عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ »(7) ، ثمّ كتب عنوانه «من الصادق المتواضع إلى الكاذب المتجبّر»(8) .
ووُلد لبعض أُمراء الكوفة ابنة ، فساءه ذلك ، فاحتجبَ وامتنع من الطعام
ص: 483
والشراب ! فأتى بهلولُ حاجبَه فقال : إئذنْ لي على الأمير ، هذا وقتُ دخولي عليه . فلمّا وقف بين يدَيه قال : أيّها الأمير ، ما هذا الحزن ؟ أجزِعت لذاتٍ سوّى هيأتَه ربّ العالمين ؟ أيسرّك أنّ لك مكانها ابناً مِثلي ؟ قال : ويْحك فرّجتَ عنّي ! فدعا بالطعام وأذِن للناس(1) .
هل مثل هذه الأخبار تصدر عن مجنون ؟ حتّى يبلغ به الأمر أن يُفصح عن هويّته في خبره الأخير ، فهو يعلم أنّهم يرَون أنّه مجنون .
قال الحسين الصقلّيّ : نظرتُ وقد زار سعدونُ - من عُقلاء المجانين - بُهلولاً ورأيتهما ، فسمعتُ سعدون يقول لبهلول : أوْصِني وإلّا أوصيك ، فناداه بهلول : أوصِني يا أخي ، فقال سعدون : أوصيك بحفظ نفسك ومَكِّنها من حبّك ؛ فإنّ هذه الدنيا ليست لك بدار . قال بهلول : أنا أوصيك يا أخي : اجعل جوارحك مطيّتك ، واحملْ عليها زادَ معرفتك ، واسلُك بها طريقَ مَتْلَفِك ، فإن ذكّرتْك ثِقلَ الحمل فذكّرها عاقبةَ البُلوغ . فلم يزالا يبكيان حتّى خشِيتُ عليهما الفناء(2) .
وقيل لبهلول : أيّ شي ء أولى بك ؟ قال : العمل الصالح(3) .
وقال عبد الرحمان الكوفيّ : لقِيَني بهلول المجنون فقال لي : أسألك ؟ قلت : اسأل . قال : أيّ شي ءٍ السخاء ؟ قلت : البذْل والعطاء . قال : هذا السخاء في الدنيا ، فما السخاء في الدين ؟ قلت : المسارعة إلى طاعة اللَّه . قال : أفيريدون منه الجزاء ؟ قلت : نعم ، بالواحد عشرة . قال : ليس هذا سخاء ، هذه متاجَرة ومرابحة . قلت : فما هو عندك ؟ قال : لا يطّلع على قلبك وأنت تريد منه شيئاً بشي ء(4) .
ص: 484
قال محمّد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك : سمعتُ بهلولاً في بعض المقابر وقد دلّى رجلَه في قبرٍ وهو يلعبُ بالتراب ، فقلتُ له : ما تصنع هاهنا ؟ فقال : أُجالسُ أقواماً لا يُؤذوني ، وإن غِبتُ عنهم لا يغتابوني . فقلت : قد غلا السِّعر ، فهلّا تدعو اللَّه فيكشف ! فقال : واللَّه لا أُبالي ولو حبّة بدينار ! إنّ اللَّه تعالى أخذ علينا أن نعبده كما أمَرَنا ، وعليه أن يرزقنا كما وعَدنا ، ثمّ صفَق بيديه وأنشأ يقول :
يا مَن تمتّعَ بالدنيا وزينتِها * ولا تنامُ عن اللذّاتِ عَيناهُ
شَغلتَ نفسَكَ فيما لستَ تُدركُه * تقولُ للّهِ ماذا حينَ تَلْقاهُ(1) ؟!
عليّ بن ربيعة الكِنديّ ، قال : خرج الرشيد إلى الصيدِ ، فلمّا كان بظاهر الكوفة إذ بَصُر بهلولاً المجنون على قَصَبة وخلفَه الصبيان وهو يعدو ، فقال : مَن هذا ؟ قالوا : بهلول المجنون . قال : كنتُ أشتهي أن أراه ، فادعوه من غير ترويع، فقالوا له : أجبْ أميرالمؤمنين ، فعدا على قصبته ، فقال الرشيد : السلام عليك يا بهلول ، فقال : وعليك السلام يا أميرالمؤمنين . قال : كنتُ إليك بالأشواق . قال : لكنّي لم أشتقْ إليك(2) ! قال : عِظْني يا بهلول(3) ، قال : وبِمَ أعظُك ؟! هذه قصورُهم وهذه قبورُهم ! قال : زِدْني ، فقد أحسنت . قال : «مَن رزقه اللَّه مالاً وجمالاً فعفّ في جَماله وواسى في ماله كُتب في ديوان الأبرار» ، فظنّ الرشيد أنّه يريد شيئاً ، فقال : قد أمرنا لك أن تقضي دَينَك ،
ص: 485
فقال : لا يا أميرالمؤمنين ، لا يُقضى الدَّيْنُ بدَين ، أردُدِ الحقَّ على أهله واقضِ دَيْنَ نفسِك من نفسك ! قال : فإنّا قد أمرنا أن يُجرى عليك ، فقال : يا أميرالمؤمنين ، أترى اللَّه يُعطيك ويَنساني ؟ ثمّ ولّى هارباً(1) .
وروي بإسنادٍ آخر أنّه قال للرشيد : يا أميرالمؤمنين ، كيف لو أقامك اللَّهُ بين يديه فسألك عن النقير والفَتيل والقِطْمير(2) ؟ قال : فخنقته العَبرة ، فقال الحاجب : حَسبُك يا بهلول قد أوجعتَ أميرَالمؤمنين ، فقال الرشيد : دَعْهُ ، فقال بهلول : إنّما أفسده(3) أنت وأضرابُك ، فقال الرشيد : أريد أن أصِلَك بصِلة ، فقال بهلول : ردّها على مَن أُخِذت منه ، فقال الرشيد : فحاجَةٌ ، قال : أن لا تراني ولا أراك ! ثمّ قال : يا أميرالمؤمنين ، حدّثنا أيمن بن نائل عن قُدامة بن عبد اللَّه الكلابيّ ، قال : رأيت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وآله يرمي جَمْرة العَقبة على ناقةٍ له صَهباء لا ضرب ولا طرد ، ثمّ ولّى بقصبته وأنشأ يقول :
فعُدَّكَ قد ملأتَ الأرضَ طُرّاً * ودانَ لك العِبادُ ، فكانَ ماذا ؟!
ألستَ تموتُ في قبرٍ ، ويحوي * تُراثَكَ بَعدُ هذا ثمّ هذا(4) ؟!
بينما الخطيب يخطب يوم الجمعة في مسجد الكوفة ، إذ قام رجل به لَمَم(5) وجنون فقال : أيّها الناس ، إنّي رسولُ اللَّه إليكم جميعاً ، فقام بهلول فلطمه وقال : « وَلَا تَعْجَلْ
ص: 486
بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِى عِلْماً »(1) .(2)
سُئل بهلول عن رجل مات وخلّف ابناً وابنة وزوجة ، ولم يخلّف من المال شيئاً ، كيف تكون القسمة ؟ فقال : للإبنة الثُّكْل ، وللزوجة خرابُ البيت ، ، وما بقي من الهمّ فلِلْعُصْبة(3) !
حجّ الرشيد فذكر بهلولاً فأمر بإحضاره وقال : ألبسوه سواداً وضعوا على رأسه قَلَنسُوةً طويلة ، وأوْقفوه في مكان كذا ، ففعلوا به ذلك ، وقالوا : إذا جاء أميرالمؤمنين فادعُ له ، فلمّا حاذاه الرشيد رفع رأسه إليه وقال : يا أميرالمؤمنين ، أسأل اللَّه أن يرزقك ويوسّع عليك من فضله ، فضحك الرشيد وقال : آمين ، فلمّا جاوزه الرشيد دفعه صاحب الكوفة في قفاه وقال : أهكذا تدعو لأميرالمؤمنين يا مجنون ؟! قال بهلول : اُسكت وَيْلَك يا مجنون ! فما في الدنيا أحبّ إلى أميرالمؤمنين من الدراهم ! فبلغ ذلك الرشيد فضحك وقال : واللَّه ما كذب(4) .
قال الحسن بن سهل بن منصور : سمعتُ بهلولاً وقد رماه الصبيان بالحصى ، وقد أدمته حصاة فقال :
ص: 487
حسبيَ اللَّهُ توكّلتُ عليهِ * ونَواصي الخَلقِ طُرّاً بيدَيهِ
ليس للهاربِ في مَهرَبهِ * أبداً من رَوْحةٍ إلّا إلَيهِ
رُبَّ رامٍ لي بأحجارِ الأذى * لم أجِدْ بُدّاً من العطفِ علَيهِ
فقلت له : تَعطِف عليهم وهم يرمونك ! قال : اُسكتْ ، لعلّ اللَّه سبحانه وتعالى يطّلع على غمّي ووجعي وشدّة فرح هؤلاء ، فيَهب بعضَنا لبعض(1) !
وقريب من جوابه هذا : قال عمر بن جابر الكوفيّ : مرّ بهلول بصبيانٍ كبار ، فجعلوا يضربونه ، فدنوتُ منه فقلت : لِمَ لا تشكوهم لآبائهم ؟ فقال : اسكُت فلعلّي إذا مِتُّ يذكرون هذا الفرح فيقولون : رحم اللَّه ذلك المجنون(2) !
قال الأصمعيّ : خرجتُ من عند الرشيد ، فإذا بُهلول يأكل خَبِيصاً(3) ، فقلت : أطعِمْني . قال : ليس هو لي ! قلت : لِمَن هو ؟ قال : لحمدونة بنت الرشيد أعطَتْنِيهِ آكلُه لها(4) .
وعدَى البهلول يوماً بين أيدي الصِبيان . فدخل داراً وصعِد سطحها ، واطّلع عليهم وقال : من أين أبلاني اللَّه بكم ؟ فقال له رجل : ويلك ، تناول الحجارة وارجمهم بها وفرّقهم عنك . فقال : مُرَّ يا مجنون ! أنا إن فعلت شيئاً من هذا رجعوا إلى التُّيُوس آبائهم فقالوا لهم : هذا المجنون بدأ يُحرّك يديه فيجب أن يُغَلّ ويُقيَّد فإنّ في ذلك أجراً
ص: 488
عظيماً . أفلا يكفيني ما ألقاه منهم حتّى أُغَلّ وأقيَّد(1) ؟!
بعث الرشيد إلى بهلول فأحضره وأجلسه في صحن الدار ، وأُمّ جعفر تراه من حيث لا يراها ، وعيسى بن جعفر جالس ، فقال الرشيد : يا بهلول ، عدّ لنا المجانين . فقال : أنا أوّلهم . قال : هيه . قال : وهذه وأشار إلى موضع أُمّ جعفر . فقال له عيسى : يا ابن اللخْناء تقول هذا لأُختي . فقال بهلول : وأنت الثالث يا صاحب العَربَدة ! فقال الرشيد : أخرِجوه ، فقال البهلول : وأنت الرابع(2) !
وأُحضِر بهلول ، وعَيناوَة - ممّن رُمي بالجنون - عند موسى الهادي ، فقال موسى : لِمَ سُمّيت بهلول ؟ فقال : أنت لم سُمّيت موسى . فقال : يا ابن الفاعلة ! فالتفت إلى عيناوة ، وقال : كنّا اثنين فصرنا ثلاثة . ثمّ قال موسى لعيناوة : ما هذا السِتْر ؟ قال : أرمَنيّ . قال : وهذا المقعد ؟ قال : طَبريّ . فصفعه بهلول وقال : اسكت ، فإنّ الساعة يقول : هم أصحابُ أنماط(3) لا مجانين . فضحك موسى حتّى استلقى(4) .
قال الأصمعيّ : اجتزتُ في بعض سِكك الكوفة ، فإذا برجل قد خرج من حَبس على كتفه جرّة وهو ينشد :
وأُكرِمُ نفسي أنّني إنْ أهَنتُها * وحقِّكَ لم تَكرُمْ على أحدٍ بَعدي
ص: 489
فقلتُ له : تُكرِمها بمثلِ هذا ؟! فقال : نعم ، وأستَغني عن سفلةٍ مثلك ، إذا سألتُه يقول : صنعَ اللَّهُ لك !
فقلتُ : تراه عرفني ؟ فأسرعتُ فصاح بي : يا أصمعيّ ، فالتفتُّ إليه فقال :
لَنَقْلُ الصَّخرِ من قُلَلِ الجبالِ
أحَبُّ إلَيّ من مِنَنِ الرِّجالِ
يقولُ الناسُ : كسبٌ فيه عارٌ ،
وكلُّ العارِ في ذُلِّ السُّؤالِ(1)
أُتي عبد الملك بن مروان بأعرابيّ سرَق ، فأمر بقطعِ يده ، فأنشأ يقول :
يدي يا أميرَالمؤمنين أُعيذُها * بعفوِك أن تَلقى مكاناً يَشينُها
ولا خيرَ في الدنيا وكانت حبيبةً * إذا ما شمالي فارَقتْها يمينُها
فأبى إلّا قَطْعَه ، فقالت أُمّه : يا أميرالمؤمنين ، واحِدِي وكاسِبي ، قال : بئسَ الكاسبُ كان لكِ ، وهذا حدّ من حدود اللَّه . قالت : يا أميرالمؤمنين ، اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر اللَّه منها ! فعفا عنه(2) .
دخل أعرابيّ على سليمان بن عبد الملك(3) ، فقال : يا أميرالمؤمنين ! إنّي مُكلّمك
ص: 490
بكلام فاحتمِلْه إن كَرِهْتَه ، وراءه ما تُحبّ إن قبلْتَه . قال : هام(1) يا أعرابيّ . قال : إنّي سأُطلق لساني بما خَرَسَت عنه الألسُن من عِظَتك ، تأديةً لحقّ اللَّه تعالى وحقّ إمامتك . إنّه قد اكتنفك(2) رجالٌ أساءوا الاختيار لأنفسهم ، فابتاعوا دنياك بدينهم ، ورضاك بسخط ربّهم ؛ خافوك في اللَّه ولم يخافوا اللَّه فيك ، فهم حربُ الآخرة سِلْم للدنيا ، فلا تأمنهم على ما ائتمنك اللَّه عليه ، فإنّهم لا يألُونَك خَبالاً(3) ، والأمانةَ تضييعاً ، والأُمّةَ عَسْفاً وخَسْفاً(4) ، وأنت مسؤول عمّا اجترحوا(5) وليسوا مسؤولين عمّا اجترحتَ ؛ فلا تُصلح دنياهم بفسادِ آخرتك ، فإنّ أخسرَ الناس صفقةً يوم القيامة وأعظمَهم غَبناً ، من باع آخرته بدنيا غيره . قال سليمان : أما أنت يا أعرابيّ فقد سللتَ لسانك وهو أحدّ سيفيك . قال : أجل يا أميرالمؤمنين ! لك لا عليك(6) .
قدِم أعرابيّ البصرة فدخل المسجد الجامع وعليه خُلْقانٌ وعمامة قد كوّرها على رأسه ، فرمى بطرْفِه يمنةً ويسرةً ، فلم يرَ فِتيةً أحسن وجوهاً ولا أظهر زِيّاً من فتيةٍ حضروا حلْقةَ عتبة المخزوميّ ، فدنا منهم وفي الحلقة فُرجة فطبقها(7) ، فقال له عتبة : ممّن أنت يا أعرابيّ ؟ قال : من مَذْحِج . قال : من زيدها الأكرَمين ، أو من مُرادها الأطْيبين ؟ قال : لستُ من زيدها ولا من مرادها . قال : فمن أيّها ؟ قال : فإنّي من حُماة أعراضها ، وزهرة رياضها ، بني زَبيد . قال : فأفحَم عتبة حتّى وضع قلنسوته عن
ص: 491
رأسه ، وكان أصلع ؛ فقال له الأعرابيّ : فأنت يا أصلع ، ممّن أنت ؟ قال : أنا رجل من قُريش . قال : فمن بيت نُبُوّتها ، أو من بيت مملكتها ؟ قال : إنّي من ريحانتها بني مخزوم . قال : واللَّهِ لو تدري لمَ سُمِّيَت بنو مخزوم ريحانةَ قُريش ، ما فَخَرتَ بها أبداً ؛ إنّما سُمّيت ريحانة قريش لِخَوَر رجالها ولين نسائها ! قال عتبة : واللَّهِ ، لا نازعتُ أعرابيّاً بعدك أبداً(1) .
جاء جماعة من أصحابه مَزيَد إليه فقالوا : قُمْ بنا نتنزّه ، فإنّه يومٌ طيّب . فقال : هو يوم أربعاء . قالوا : فإنّ فيه وُلِد يونس بن متّى عليه السلام . فقال : بأبي وأُمّي ، صلّى اللَّه عليه ، لا جَرَم أنّه التَقَمَهُ الحوت ! قالوا : نُصِر فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله . قال : أجَل ، ولكن بعد إذ زاغتِ الأبصارُ وبَلَغتِ القلوبُ الحنَاجرَ وتظنّون باللَّه الظُّنونَ(2) .
عن عبد اللَّه بن أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر ، قال : صار أعرابيٌّ من الَّنمر بن قاسط إلى مَسْلَمة بن عبد الملك ، فأقام ببابِه حيناً لا يصلُ إليه . ثمّ دخل في العامّة يومَ الجمعة ، فأصاب من الطعام مع الناس ثمّ قام فسلّم على مسلمة ، فردّ مسلمةُ السلام . فقال الأعرابيّ : يا ابنَ الخليفة ، زُرتُك وأنت غُرّةُ مُضَر وحُسامُها حين يُذكر ، لأنّك تعطّفتْ عليك الأملاك ، فليس يخاف لديك ضيفٌ الهلاك ، وأنت في فَرعٍ من الفروع نُضار(3) ، ورثته عن الأكابر الكبار ... .
فقال مسلمة : واللَّهِ يا أعرابيّ إنّك لفصيحٌ ! قال : أجلْ وأنا مع ذلك صريح(4) . قال :
ص: 492
فما تكاد تجد أعرابيّاً عاقلاً ! قال : وما يُذهبُ عقلَه لو كان كاملاً ؟
قال : لأنّه قلّما يخالطُ الناس . قال : فذاك أكيَدُ له عند الناس . قال : وأنّى له بالبأس ، وهو لا يرى القتال ؟ قال : يكون غَمراً(1) فيجترئ على الأبطال . قال : وأنّى له الجراءة ولم يجترئ ؟ قال : أن يصمّم الحملة ثمّ يصبر . قال : وكيف يصبر على الطِعان ؟ قال : تراه فرضاً تفرضه الأقران . قال مَسلَمة : يا عجباً لهذا الأعرابيّ ! قال : وما يُعجبك منّي يا ابن الخليفة ، ومن صوابي ؟
قال مسلمة : وما جعلك بالصواب أوْلى من غيرك ؟ قال : إنّها سَجيّتي(2) ، وعليه رُكّبت طبيعتي ؛ فنفِّس كُربتي وأَجْزل عطيّتي ورُدَّني إلى بلدي . قال : وأين تسكن ؟ قال : سَراة الطائف . قال مَسلَمة : مَعدِن العِنَب والزَّبيب ؟ قال : نعم ، لسانٌ بدويّ ، وبلد عربيّ . قال : فاحتكم . قال : أحتكمُ عشرة جِلالٍ تمراً ، وعشرة أعنُز ، وقطيفةً للعيال وجَمَلاً نجعل عليه متاعنا ، وثلاثين درهماً . فأمر له بما طلب(3) .
أصاب الناسَ مجاعةٌ شديدة على عهد هشام بن عبد الملك ، فأذِن هشام للناس فدخل في غمارهم درواس بن دروان العِجليّ ، وعليه جُبّةُ صوفٍ ، متفضّلٌ عليها بشَملَةٍ ، فلمّا نظر إليه هشام أنكر دخولَه ! ثمّ نظر إلى حاجبه فقال : أتُدخِل عليَّ منَ شاء بغير إذن ؟!
فعرف درواس أنّه إنّما عَناه ، فقال : يا أميرالمؤمنين ، ما أخَلَّ بك دخولي عليك ولا وضع من قدرك ، ولكنّه شرّفني ورفع من قدري ، وقد رأيتُ الناس قد دخلوا لأمر
ص: 493
وأحجموا عنه ، فإنْ أذنتَ لي تكلّمتُ . فقال هشام : تكلّم ، فإنّي أظنّك صاحبَهم . قال : يا أميرالمؤمنين ، توالتْ علينا سنون ثلاثٌ ، فأمّا أولاهنّ فأذابت الشحمَ ، وأمّا الثانية فأكلت اللحمَ ، وأمّا الثالثة فهاضت(1) العظم ونقّت(2) المخَّ ، وعندك أموالٌ ، فإنْ تكنْ للّهِ فعُدْ بها على عباد اللَّه ، وإنْ تكنْ لعبادِ اللَّه فعلامَ تحبسونها عنهم ؟ وإنْ تكنْ لكم فتصدّق إنّ اللَّه يُحبّ المتصدّقين .
قال هشام : واللَّهِ ما تركتَ لنا واحدةً من ثلاثٍ ، وأمر بمائة ألف دينار ، فقُسّمت في الناس ، وأمرَ له بمائة ألف درهم . فقال : يا أميرالمؤمنين ، لكلّ رجلٍ منّا مثلُها ؟ قال : لا . فقال : لا حاجة لي فيما تبعث عليَّ مذمّةً ! فلمّا صار إلى منزله بعث إليه بالمائة الألف درهم ، ففرّق درواس في تسعة أبطُنٍ من بطون العرب ، عشرة آلاف عشرة آلاف ، وأخذ لنفسه عشرة آلاف .
فقال هشام : إنّ الصنيعة عند درواس لَتُضاعَف على الصانع(3) .
خرج الحجّاج حاجّاً ، فبينما هو في بعض الطريق إذا أعرابيّ يُلبّي . فلمّا فرغ من التلبية قال : كلامُك اللّهمّ لك ، مَن قال مخلوقٌ هلَك(4) ، وفي الجحيم قد سلَك ، والجارياتِ في الفَلَك ، على مَجاري مَن سَلَك ، قد اتّبعنا رُسُلَك ، ما خابَ عبدٌ أمَّلَك ، أنت له حيثُ سَلَك . فقال الحجّاج : تلبيةُ موحِّدٍ وربِّ الكعبة ، لا يفوتنّكم الرجل . فأَسرعُ ما أُتي بأعرابيّ على ناقةٍ بَرْحاء بَلْحاء(5) . فقال الحجّاج : من أين أقبلت يا أخا العرب ؟ وإلى أين تُريد ؟ قال : أقبلت من الفَجِّ العميق . قال : من أيّ الفِجاج أنت ؟ قال : من العراق وأرضها . قال : من أيّ العراق ؟ قال : من مدينة الحجّاج بن
ص: 494
يوسف . قال : فما سِيرتُه فيكم ؟ قال : سيرة فرعون في بني إسرائيل ، يُقتِّل أبناءَهم ويستحيي نساءَهم . قال : فهل خلّفته ظاعناً أو مقيماً ؟ قال : بل ظاعناً . قال : إلى أين ؟ قال : إلى الحجّ ولن يتقبّل اللَّه منه ! قال : وهل خلّف أحداً بعده ؟ قال : نعم أخاه محمّداً . قال : فما سِيرتُه فيكم ؟ قال : ظلومٌ غشوم ، واسع البُلعوم عاصٍ مشؤوم . قال له الحجّاج : فهل عرفتني ؟ قال الأعرابيّ : اللّهمّ لا . قال : أنا الحجّاج بن يوسف . قال الأعرابيّ : أشرّ واللَّه مِمّن أظلّت الخضراء وأقلّت الغبراء ، ويشرب من الماء ، بغيضٌ مبغوض لعينٌ ملعون في الدّنيا والآخرة . فقال الحجّاج : واللَّهِ يا أعرابيّ لأقتلنّك قتلةً لم أقتلها أحداً قبلك . قال الأعرابيّ : إنّ لي ربّاً يخلّصني وينجيني منك .
قال : يا أعرابي إنّي سائلُك . قال : إذاً واللَّهِ أُخبرك . فقال : أتُحسن من القرآن شيئاً ؟ قال : نعم . قال : فأسمِعْنا . فاستفتح وقال : بسم اللَّه الرحمن الرحيم إذا جاء نَصرُ اللَّهِ والفَتحُ ورأيتَ الناسَ يَخرُجونَ من دينِ اللَّهِ أفواجاً ! قال : ليس هكذا يا أعرابيّ . قال : وكيف ؟ قال : يَدْخُلون في دينِ اللَّهِ أفواجاً . فقال الأعرابيّ : قد كان ذلك قبل أن يتولّى الحجّاج ، فلمّا وُلّيَ جاؤوا يخرجون من دين اللَّه . فضحك الحجّاج حتّى استلقى على قفاه .
ثمّ قال : ما تقول في محمّد رسول اللَّه ؟ قال : وما عسى أن أقول في محمّد صلى الله عليه وآله ، صاحب القضيب والناقة والحوض والشفاعة وزمزم والسقاية ، ومَن قرنَ اللَّهُ اسمَه باسمِه ؛ يُدعى في كلّ يومٍ وليلة عشرَ مرّات في الأذان والإقامة . فقال الحجّاج : ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟ قال الأعرابيّ : وما عسى أن أقول في ابن عمِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، وزوج ابنته البتول ، ومَن قال له رسول اللَّه : «يا عليُّ إنّ اللَّه ألّفَ بين روحي وروحك ، وزوّجك فاطمة واختارك لها من قبل أن يخلق الدنيا بألفِ عام» . فقال الحجّاج : فما تقول في الحسن والحسين ؟ قال الأعرابيّ : وما عسى أن أقول فيمَن وَلَدَتهما البتول ، وربّاهما الرسول ، وراعاهما جبرائيل ، فهل لهما مِثل وعَديل ؟
ص: 495
فقال الحجّاج : ما تقول في يزيد بن معاوية ؟ قال الأعرابيّ : كما قال مَن هو خيرٌ منّي لمَن هو شرّ منك . قال الحجّاج : ومَن هو خيرٌ منك وشرٌّ منّي ؟ فقال الأعرابيّ : موسى عليه السلام خيرٌ منّي ، وفرعون شرٌّ منك . قال الحجّاج : فما قال فرعون لموسى ؟ قال : قال : « فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولى »(1) فقال موسى : « قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى فِى كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنْسى »(2) . فقال الحجّاج : فما تقول في عبد الملك ابن مروان ؟ قال : ذلك واللَّهِ أخطأ خطيئةً ملأت بين السماء والأرض . فقال الحجّاج : وكيف ذلك ؟ قال : ولّاكَ على أُمور المسلمين تحكم في أموالهم ودمائهم بجور وظلم . فعند ذلك همّ الحجّاج بقتله ، ثمّ عفا عنه(3) .
كان المُغيرة بن شُعبة ، والأشعث بن قيس ، وجرير بن عبد اللَّه ، مُتَواقِفِين بالكوفة بالكُنَاسة ، وكلُّهم كان أعوَر ، فطلع عليهم أعرابيّ ، فقال لهم المغيرة : دَعُوني أُحرّكه . قالوا : لا تفعل ، فإنّ للأعراب جواباً يُؤْثَر . قال : لابدّ . قالوا : فأنت أعلم . قال له : يا أعرابيّ ، هل تعرف المُغيرةَ بن شُعبة ؟ قال : نعم أعرفه أعورَ زانياً فوجَم ، ثمّ تجلّد فقال : هل تعرف الأشعث بن قيس ؟ قال : نعم ذاك رجل لا يَعرى قومُه . قال : وكيف ذاك ؟ قال : لأنّه حائك ابن حائك . قال : فهل تعرف جرير بن عبد اللَّه ؟ قال : وكيف لا أعرف رجلاً لولاه ما عُرفت عشيرتُه(4) ! قالوا له : قَبَحك اللَّه ، فإنّك شرُّ جليس ، فهل تُحب أن نُوقِر لك بعيرك هذا مالاً وتموت أكرمَ العرب ؟ قال : فَمَن يُبلغُه أهلي إذن ؟ فانصرفوا عنه وتركوه(5) .
ص: 496
عَوانة بن الحكم ، قال : خرج المُغيرة بن شُعبة وهو على الكوفة يومئذٍ ، ومعه الهيثم ابن الأسود النَّخعيّ ، بعد غِبِّ مطرٍ ، يسير بظهر الكوفة ، فلقي ابن لسان الحُمَّرة(1) ، أحد بني تيم اللَّه بن ثعلبة ، وهو لا يعرف المغيرة . فقال له المغيرة : من أين أقبلت يا أعرابيّ ؟ قال : من السَّماوة . قال : فكيف تركتَ الأرضَ خلفَك ؟ قال : عريضةٌ أريضة(2) . قال : وكيف كان المطر ؟ قال : عَفَّى الأثر ، وملأ الحُفَر . قال : ممّن أنت ؟ قال : من بكر بن وائل . قال : فكيف علمُك بهم ؟ قال : إن جهلتُهم لم أعرِف غيرهم ! قال : فما تقول في بني شَيْبان ؟ قال : سادتُنا وسادةُ غيرنا . قال : فما تقول في بني ذُهْل ؟ قال : سادة نَوْكَى(3) . قال : فبنو تيم اللَّه بن ثعلبة ؟ قال : رعاء البقر ، وعراقيب الكلاب . قال: فما تقول في بني يَشْكُر ؟ قال : صريح تحسبُه مولى(4) . قال : فقيس بن ثعلبة ؟ قال : إن جاورْتَهم سرَقوك ، وإن ائتمنْتَهم خانُوك . قال : فعِجْل ؟ قال : أحلاسُ الخيل(5) . قال : فحنيفة ؟ قال : يُطعمون الطعام ، ويضربون الهام . قال : فعَنزَة ؟ قال : لا تلتقي بهم الشفتان لُؤماً(6) .
قال : فضُبَيْعة أضْجَمَ(7) ؟ قال : جَدْعاً وعَقْراً(8) !
ص: 497
قال : فأخبِرْني عن النساء . قال : النساء أربع : ربيعٌ مُربِع ، وجميع تَجْمع ، وشيطانٌ سَمَعْمَع ، وغُلّ لا يُخلَع .
قال : فَسِّر . قال : أمّا الربيع المُربع فالتي إذا نظرتَ إليها سرّتك ، وإذا أقسمتَ عليها أبَرَّتك . وأمّا التي هي جميع تجمع ، فالمرأة تتزوّجها ولها نَشَب(1) ، فتجمع نَشَبك إلى نَشَبها . وأمّا الشيطان السَمَعْمَع ، فالكالحة في وجهك إذا دخلتَ ، والمُوَلوِلة في أثرك إذا خرجتَ ، وأمّا الغُلّ الذي لا يُخلَع ، فبنتُ عمِّك السوداء القصيرة ، الفَوهاء الدميمة ، التي قد نثرت لك بطنها ، إن طلّقتها ضاع ولدك ، وإن أمسكتها فعلى جَدْع أنفِك . فقال له المغيرة : بل أنفِك !
ثمّ قال له : ما تقول في أميرك المُغيرة بن شُعبة ؟ قال : أعوَرُ زَنّاء . فقال الهيثم : فضّ اللَّه فاك ! ويلك ، هذا الأمير المغيرة . فقال : إنّها كلمة واللَّهِ تُقال ! فانطلق به المغيرة إلى منزله ، وعنده يومئذٍ أربع نسوة ، وستّون أو سبعون أمَة . قال له : ويحك ! هل يزني الحرُّ وعنده مثل هؤلاء ؟ ثمّ قال لهنّ المغيرة : إرمِينَ إليه بِحُلاكنّ . ففعلن ، فخرج الأعرابيّ بمل ءِ كسائه ذهباً وفضّة(2) .
أقبل أعرابيّ إلى داود بن المهلَّب فقال له : إنّي مدحتُكَ فاستمع . قال : على رَسْلِك ، ثمّ دخل بيته وتقلّد سيفه وخرج ، فقال : قُلْ ، فإن أحسنتَ حكّمناك ، وإن أسأت قتلناك ! فأنشأ يقول :
أمِنْتُ بداودٍ وَجُودِ يمينهِ * مِن الحَدَثِ المخْشِيِّ والبُؤْسِ والفَقرِ
ص: 498
فأصبحتُ لا أخشى بداودَ نَبْوَةً(1) * من الحَدَثانِ إذ شَدَدتُ بهِ أَزْرِي
له حُكمُ لُقمانٍ وصورةُ يُوسفٍ * وحكمُ سُليمانٍ وعدلُ أبي بكرِ
فتًى تَفرَقُ(2) الأموالُ من جُودِ كفِّهِ * كما يَفرَقُ الشيطانُ من ليلة القَدْرِ !
فقال : قد حكّمناك ؛ فإن شئتَ على قدرك ، وإن شئت على قدري . قال : بل على قدري . فأعطاه خمسين ألفاً ، فقال له جلساؤه : هلّا احتكمت على قدر الأمير ؟ قال : لم يكُ في ماله ما يفي بقدْرِه ! قال له داود : أنت في هذه أشعرُ منك في شعرِك . وأمر له بمثل ما أعطاه(3) .
عن إسحاق النَّخَعيّ ، قال : كنتُ جالساً مع دِعبِل(4) بالبصرة ، وعلى رأسه غلامُه ثَقيف ، فمرّ به أعرابيّ يَرفُل في ثيابِ خَزٍّ ، فقال لغلامه : اُدعُ لي هذا الأعرابيّ ، فأوْمَأ الغلام إليه فجاء ، فقال له دِعبِل : مِمّن الرجل ؟ قال : من بني كِلاب . قال : من أيّ ولَد كلاب أنت ؟ قال : من ولد أبي بكر ، فقال دِعبِل : أتعرف القائل :
ونُبِّئْتُ كلباً من كلابٍ يَسُبُّني * ومحض كلاب يقطَعُ الصَّلواتِ
فإنْ أنا لم أُعْلِمْ كلاباً بأنّها * كلابٌ وأنّي باسلُ النِّقَماتِ
فكان إذاً من قيسِ عَيلانَ والدي * وكانت إذاً أُمّي من الحَبَطاتِ !
ص: 499
قال : وهذا الشعرُ لدِعبِل يقوله في عمرو بن عاصم الكلابيِّ ، فقال له الأعرابيّ : ممّن أنت ؟ فكرِه أن يقول إنّه من خُزاعة فيهجوَهم ، فقال : أنا أنتمي إلى القوم الذين يقولُ فيهم الشاعر :
أُناسٌ عليُّ الخيرِ مِنهُم وجعفرٌ * وحمزةُ والسَّجّادُ ذو الثَّفِناتِ(1)
إذا فَخَروا يوماً أتَوا بمحمّدٍ * وجبريلُ والفرقانِ والسُّوَراتِ
فوثب الأعرابيّ وهو يقول : مالي إلى محمّد وجبريلَ والفرقانِ والسورات مُرتقًى(2).
قال رجل من العمّال لأعرابيّ : ما أحسبك تعرف كم تصلّي في كلّ يومٍ وليلة ! فقال له : فإن عرفتُ أتجعل لي على نفسك مسألة ؟ قال : نعم . قال :
إنّ الصلاةَ أربَعٌ وأربَعُ * ثُمّ ثلاثٌ بَعدَهُنَّ أربَعُ
ثمّ صلاةُ الفَجْرِ لا تُضيَّعُ
قال : صدقت ، هات مسألتك . فقال له : كم فقارُ(3) ظهرِك ؟ قال : لا أدري . قال : فتحكم بين الناس وتجهل هذا من نفسك(4) ؟!
الشيبانيّ قال : خرج أبو العبّاس السفّاح متنزِّهاً بالأنبار ، فأمعن في نُزهَته وانتبذ من أصحابه ، فوافى خِباءً لأعرابيّ ، فقال له الأعرابيّ : ممّن الرجل ؟ قال : من كِنانة .
ص: 500
قال : من أيِّ كنانة ؟ قال : مِن أبغضِ كنانة إلى كنانة . قال : فأنت إذاً من قريش ؟ قال : نعم . قال : فمِن أيّ قريش ؟ قال : من أبغض قريش إلى قريش . قال : فأنت إذاً من ولد عبد المطّلب ؟ قال : نعم . قال : فمِن أيّ ولد عبد المطّلب أنت ؟ قال : من أبغض ولد عبد المطّلب إلى ولد عبد المطّلب . قال : فأنت إذاً أميرالمؤمنين ! السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة اللَّه وبركاته . فاستحسن ما رأى منه وأمر له بجائزة(1) .
وَلِيَ أعرابيّ اليمن ، فجمع اليهود والنصارى فقال : ما تقولان في عيسى ؟ قالوا : قَتَلناه وصَلَبناه . قال : لا تخرجوا من السجن حتّى تؤدّوا دِيَتَه(2) .
وسأل أعرابيّ رجلاً فاعتلّ عليه ، فقال : إن كنتَ كاذباً فجعلك اللَّه صادقاً(3) !
وسمع أعرابيّ إماماً يقرأ : « إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ » فأُرْتِج عليه ، فجعل يردّد الآية ، فقال الأعرابيّ : يا هذا ، إنْ لم يذهب نوحٌ فأرسِلْ غيرَه(4) !
ذُكر عند أعرابيّ رجلٌ بشدّةِ الاجتهاد ، وكثرة الصَّوم ، وطُول الصلاة ، فقال : هذا رجلُ سَوءٍ ! أوَ ما يظنُّ هذا أنّ اللَّه يَرحمُه حتّى يعذِّبَ نفسَه هذا التعذيب(5) !
سأل الحجّاجُ أعرابيّاً عن أخيه محمّد بن يوسف : كيف تركتَه ؟ فقال : تركتُه بَضّاً
ص: 501
عظيماً سَميناً . قال : لستُ عن هذا أسألُك . قال : تركتُه ظَلُوماً غَشُوماً . قال : أوَما علمت أنّه أخي ؟ قال : أتُراه بكَ أعزَّ منّي باللَّه(1) !
تكلّم ربيعةُ الرأي يوماً بكلام في العلم فأكثر ، فكأنّ العُجب داخَلَه ، فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه ، فقال : ما تَعُدُّون البلاغة يا أعرابيّ ؟ قال : قلّة الكلام وإيجاز الصواب . قال : فما تعدّون العِيَّ ؟ قال : ما كنتَ فيه منذ اليوم ، فكأنّما ألقَمَه حَجَراً(2) !
قال الأصمعيّ : دخل أعرابيّ على هشام بن عبد الملك ، فقال له : عِظْني يا أعرابيّ . فقال : كفى بالقرآن واعظاً ، أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم ، بسم اللَّه الرحمن الرحيم « وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ اُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ »(3) . ثمّ قال : يا أميرالمؤمنين ، هذا جزاءُ مَن يُطفِّف في الكيل والميزان ، فما ظنُّك بمَن أخَذَه كلَّه(4) ؟!
قيل لأعرابيّ : ما لكَ لا تشرب النبيذ ؟ قال : لثلاثِ خلال فيه : لأنّه مُتلِف للمال ، مُذهِب للعقل ، مُسقِط للمروءة(5) .
ص: 502
قَدِم أعرابيّ إلى السلطان ، فقال له : قُلِ الحقَّ وإلّا أوْجَعتُك ضرباً ! فقال : وأنت فاعمل به ، فواللَّه ما أوعَدَك اللَّهُ على تركه أعظمُ ممّا توعَدُني به(1) .
نظر عثمانُ إلى أعرابيّ في شَملَةٍ غائر العينين مُشرف الحاجبين ناتئ الجبهة ، فقال له : يا أعرابيّ ، أين ربُّك ؟ قال : بالمِرصاد(2) !
وقيل لأعرابيّ : إنّك لَحسَن الشارة . قال : ذلك عنوان نعمة اللَّه عندي(3) .
قال الأصمعيّ : رأيت أعرابيّاً أمامَه شاءٌ ، فقلت له : لمن هذه الشاء ؟ قال : هي للّه عندي(4) .
وقيل لأعرابيّ : كيف أنت في دِينك ؟ قال : أُخَرِّقُه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار(5) !
ونظر أعرابيّ إلى رجل يشكو ما هو فيه من الضِّيق والضُّرّ ، فقال : يا هذا ، أتشكو مَن يَرحَمُك إلى مَن لا يَرحَمُك(6) ؟!
ذُكر أهل السلطان عند أعرابيّ ، فقال : أما واللَّهِ لئن عَزُّوا في الدنيا بالجَور لقد ذَلُّوا في الآخرة بالعدل ، ولقد رَضُوا بقليلٍ فإنّ عِوضاً عن كثيرٍ باقٍ ؛ وإنّما تزلّ القدم حيث
ص: 503
لا ينفع الندم(1) .
قيل لأعرابيّ وقد مَرِض : إنّك تموت ! قال : وإذا متُّ فإلى أين يُذهَب بي ؟ قالوا : إلى اللَّه ! قال : فما كراهتي أن يُذهب بي إلى مَن لم أرَ الخيرَ إلّا منه(2) ؟!
دخل أعرابيّ على بعض الملوك في شَمْلَة شَعْر ، فقال له : إنّ الشَّملة لا تكلّمك ، وإنّما يكلّمك مَن هو فيها(3) .
قيل لأعرابيّ : كيف كتمانُك للسرّ ؟ قال : ما جَوفي له إلّا قبر(4) .
شهد أعرابيّ عند سوار القاضي بشهادة ، فقال له : يا أعرابيّ ، إنّ ميداننا لا يجري من العِتاق فيه إلّا الجِياد . قال : لئن كشفت لَتجدنِّي عَثُوراً ! فسأل عنه سوار فأُخبر بفضل وصلاح، فقال له: يا أعرابيّ ، أنت ممّن يجري في ميداننا . قال : ذلك بستر اللَّه(5).
مرّ أعرابيّان برجل صَلَبه بعض الخلفاء ، فقال أحدهما : أنبَتَتْه الطاعة وحَصَدتْه المعصية ! وقال الآخر : مَن طلّق الدنيا فالآخرةُ صاحبتُه ، ومَن فارق الحقَّ فالجِذعُ راحلتُه(6) .
ص: 504
سُئل أعرابيّ عن القَدَر ، فقال : الناظر في قَدَر اللَّه كالناظر في عين الشمس : يعرف ضوءها ولا يقف على حدودها(1) .
وسُئل آخر عن القدَر فقال : علمٌ اختَصَمتْ فيه العقول ، وتَقاوَل فيه المختلفون ، وحقّ علينا أن نردّ ما التبسَ علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه(2) .
سُئل أعرابيّ عن قومٍ ، فقال : كانوا إذا اصطفّوا سَفَرت(3) بينهم السِّهام ، وإذا تصافحوا بالسيوف فغَرَت المنايا أفواهَها ، فرُبّ يومٍ عارم قد أحسَنوا أدبَه ، وحرب عَبوس قد ضاحكتها أسنّتُهم ، إنّما قومي البحر ما ألقمتَه التقَم(4) .
وسُئل أعرابيّ عن قومٍ عُبّاد فقال : تركوا واللَّه النعيمَ ليتنعّموا ؛ لهم عَبرات متدافعة ، وزفرات متتابعة ، لا تراهم إلّا في وجهٍ وجيهٍ عند اللَّه(5) .
وآخر في قومٍ : ما رأيتُ أسرَع منهم إلى داعٍ بلَيلٍ على فَرَسٍ حسيب وجمَلٍ نجيب . ثمّ لا ينتظر الأوّلُ السابقُ الآخرَ اللاحق(6) .
ولآخر في رجلٍ وصفه ببراعة المنطق ، قال : كان واللَّه بارع المنطق ، جَزل الألفاظ ، عربيّ اللسان ، فصيح البيان ، رقيق حواشي الكلام ، بَلِيلَ الرِّيق ، قليل الحركات ، ساكن الإشارات(7) .
ص: 505
ومثله لغيره في رجل : يُفوِّق الكلمة على المعنى ، فتمرق مُروقَ السَّهم من الرمِيَّة ، فما أصاب قَتَل ، وما أخطأ أشوى(1) ، وما عظعظَ(2) له سهم منذ تحرّك لسانُه في فيه(3) .
ولآخر في رجل وقد نزّهه : كأنّ الألسن رِيضَت(4) فما تنعقد إلّا على ودِّه ، ولا تنطق إلّا بثنائه(5) .
ولآخر في تفضيل رجل : كان واللَّه للإخاء وَصولاً ، وللمال بَذولاً ، وكان الوفاء بهما عليه كفيلاً ، فمَن فاضَلَه كان مفضولاً(6) .
سُئل أعرابيّ عن رجل ، فقال : ما ظنّكم بسِكِّيرٍ لا يُفيق ، يتّهم الصديق ، ويعصي الشفيق ، لا يكون في موضع إلّا حرّمت فيه الصلاة ! ولو أفلتت كلمة سَوء لم تَصِر إلّا إليه ، ولو نزلت لعنة من السماء لم تقع إلّا عليه(7) ؟!
وسافر أعرابيّ إلى رجل فحَرَمه ، فقال لمّا سُئل عن سفره : ما ربحنا في سفرنا إلّا ما قَصَرنا من صلاتنا ، فأمّا الذي لَقِينا من الهَواجر ، ولَقِيَت منّا الأباعر ، فعقوبة لنا فيما أفسَدنا من حُسن ظنّنا(8) .
وسمع أعرابيّ رجلاً يَزعَق ، فقال : ويحك ! إنّما يُستجاب لمؤمن أو مظلوم ، ولستَ بواحد منهما ؛ وأراك يخفّ عليك ثقلُ الذنوب فيحسِّن عندك مقابحَ العيوب(9) .
ص: 506
قيل لأعرابيّ : ما لَك لا تُطيل الهجاء ؟ قال : يكفيك من القلادة ما أحاط بالعُنق(1) !
قيل لأعرابيّ : كيف ابنُك ؟ وكان به عاقّاً . قال : عذابٌ لا يقاومه الصبر ، وفائدة لا يجب فيها الشكر ، فليتني قد استَودَعتُه القبر(2) .
قيل لشريح القاضي : هل كلّمك أحدٌ قطّ فلم تُطِق له جواباً ؟ قال : ما أعلمه إلّا أن يكون أعرابيّاً خاصم عندي ويشير بيدَيه ، فقلت له : أمْسِك ، فإنّ لسانَك أطول من يدك ! قال : أسامريُّ أنتَ لا تُمَس(3) ؟!
روي أنّ أعرابيّاً حضر مجلس ابن عبّاس ، فسمع عنده قارئاً يقرأ : « وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا »(4) ؛ فقال الأعرابيّ : واللَّهِ ما أنقذكم منها وهو يُرجعكم إليها ! فقال ابن عبّاس : خذوها من غير فقيه(5) .
قيل لأعرابيّ : ما عندكم طبيب في البادية ؟ قال : حُمُرُ الوحش لا تحتاج إلى بَيْطار(6) .
ص: 507
الأصمعيّ قال : قلتُ لأعرابيّ : أتَهمِز(1) إسرائيل ؟ قال : إنّي إذاً لرجلُ سَوء ! قلت له : أفتجرّ فلسطين ؟ قال : إنّي إذاً لَقوِيّ(2) .
قال : ورأيت أعرابيّاً ومعه بُنَيٌّ له صغير مُمسِك بفمِ قِربة ، وقد خاف أن تغلبه القِربة ، فصاح : يا أبت ، أدرِك فاهاً ، غَلَبني فوها ، لا طاقة لي بِفِيها(3) !
قال : أصابت الأرض مجاعة ، فلَقِيتُ رجلاً منهم خارجاً من الصحراء كأنّه جِذعٌ محترق ، فقلت : أتقرأ في كتاب اللَّه شيئاً ؟ قال : لا . قلت : فأعلمك ؟ قال : ما شئت . قلت : اقرأ « قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ »(4) . قال : كُلْ يا أيّها الكافرون . قلت : قُل : « قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ » كما أقول لك . قال : ما أجد لساني ينطق بذلك(5) !
وسمع أعرابيّ إماماً يقرأ : ولا تَنكِحُوا المُشرِكينَ حتّى يُؤمِنُوا . قال : ولا إنْ آمنوا أيضاً ، لا ننكحهم . فقيل له : إنّه يلحن ، وليس هذا يُقرأ . فقال : أخِّروه قَبَّحَه اللَّه ولا تجعلوه إماماً ؛ فإنّه يُحلُّ ما حرّم اللَّه(6) .
وسمع أعرابيٌّ أبا المكنون النحويّ وهو يقول في دعائه يستسقي : اللّهمّ ربَّنا وإلهنا وسيّدنا ومولانا ، صلِّ على محمّد نبيّنا ؛ اللّهمّ ومَن أراد بنا سُوءاً فأحِط ذلك السوءَ به كإحاطةِ القلائد بأعناقِ الوَلائد ، ثمّ ارسَخْه على هامسته كرُسوخِ السِّجِّيل على هامِ أصحاب الفيل . اللّهمّ اسقِنا غَيثاً مريعاً مُجَلجِلاً مُسحَنفِراً هَزجاً سَحّاً سَفُوحاً طَبقاً غَدَقاً صَخِباً ... فقال الأعرابيّ : يا خليفةَ نوح ، هذا الطُّوفان وربِّ الكعبة ، دَعْني حتّى آوي إلى جبلٍ يعصمني من الماء(7) !
ص: 508
خرج الحجّاج مُتَصيّداً بالمدينة ، فوقف على أعرابيّ يرعى إبلاً له ، فقال له : يا أعرابيّ ، كيف رأيت سِيرَة أميركم الحجّاج ؟ قال له الأعرابيّ : غَشُوم ظَلُوم ، لا حيّاه اللَّه ! فقال : لِمَ لا شكوتموه إلى أميرالمؤمنين عبد الملك ؟ قال : فأظلَم وأغشَم ! فبينا هو كذلك إذ أحاطت به الخيل ، فأومأ الحجّاج إلى الأعرابيّ ، فأُخِذ وحُمل ، فلمّا صار معه قال : مَن هذا ؟ قالوا له : الحجّاج ! فحرّك دابّته حتّى صار بالقرب منه ، ثمّ ناداه : يا حجّاج ! قال : ما تشاء يا أعرابيّ ؟ قال : السرّ الذي بيني وبينك أُحبُّ أن يكون مكتوماً ! فضحك الحجّاج وأمر بتخلية سبيله(1) .
الأصمعيّ قال : ولّى يوسف بن عمر والي العراق أعرابيّاً على عمل له ، فأصاب عليه خيانةً فعزله ، فلمّا قَدِم عليه قال له : يا عدوّ اللَّه ، أكلتَ مال اللَّه ! قال الأعرابيّ : فمالَ مَن آكُل إذا لم آكُل مالَ اللَّه ؟ لقد راودتُ إبليس أنْ يعطيني فَلساً واحداً فما فعل ! فضحك منه وخلّى سبيلَه(2) .
نزل عبد اللَّه بن جعفر إلى خيمة أعرابيّة ولها دجاجة وقد دجنت عندها ، فذبحتها وجاءت بها إليه فقالت: يا أبا جعفر ، هذه دجاجة لي كنت أدجنها وأعلفها من قُوتي !
ص: 509
وألمسها في آناء الليل فكأنّما ألمس بنتي زلَّت عن كبدي ، فنَذَرتُ للّه أن أدفنها في أكرم بقعةٍ تكون ، فلم أجد تلك البقعة المباركة إلّا بطنَك ، فأردتُ أن أدفنها فيه ! فضحك وأمر لها بخمسمائة درهم(1) .
نظر أعرابيّ إلى رجلٍ سَمين فقال : أرى عليه قَطيفةً من نَسْجِ أضراسِك(2) .
الأصمعيّ ، قال : سمعتُ أعرابيّاً وهو يقول في الطَّواف : اللّهمّ اغفِر لأُمّي . فقلت له : ما لَكَ لا تذكر أباك ؟ فقال : أبي رجل يحتال لنفسه ، وأمّا أُمّي فبائسة ضعيفة(3) !
جي ء بأعرابيّ إلى السلطان ومعه كتاب قد كَتَب فيه قصّته وهو يقول : هاؤُم اقرؤوا كتابِيَهْ . فقيل له : يُقال هذا يومَ القيامة . قال : هذا واللَّهِ شرٌّ من يوم القيامة ، إنّ يومَ القيامة يؤتى بحسناتي وسيّئاتي ، وأنتم جئتم بسيّئاتي وتركتم حسناتي(4) !
قيل لأبي الِمخَشّ الأعرابيّ : أيسُرّك أنّك خليفة وأنّ أمَتك حرّة ؟ قال : لا واللَّه ما يسرّني . قيل له : ولِمَ ؟ قال : لأنّها كانت تذهب الأمَة وتضيع الأُمّة(5) !
ص: 510
أخذ الحجّاج أعرابيّاً لصّاً بالمدينة فأمر بضربه ، فلمّا قرعه بسوطٍ ، قال : يا ربِّ شكراً ! حتّى ضربه سبعمائة سوط ، فلقيه أشعَب فقال له : أتدري لِمَ ضربك الحجّاج سبعمائة سوط ؟ قال : لماذا ؟ قال : لكثرةِ شكرك ، إنّ اللَّه تعالى يقول : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ »(1) . قال : وهذا في القرآن ؟ قال : نعم ، فقال الأعرابيّ :
يا ربِّ لا شُكْرَ فلا تَزِدْني * أسأْتُ في شُكريَ فاعفُ عنّي
باعِدْ ثوابَ الشاكرينَ منّي(2) !
قيل لأعرابيّ : ما يمنعك أن تغزو ؟ قال : واللَّهِ إنّي لَأُبغض الموت على فراشي ، فكيف أن أمضي إليه ركضاً(3) ؟!
غزا أعرابيّ مع النيّ صلى الله عليه وآله ، فقيل له : ما رأيتَ مع رسول اللَّه في غزاتك هذه ؟ قال : وَضَع عنّا نصفَ الصلاة ، وأرجو في الغزاة الأُخرى أن يضع النصف الباقي(4) !
جلس أعرابيّ إلى مجلس أيّوب السِّختياني ، فقيل له : يا أعرابيّ ، لعلّك قَدَريّ ؟ قال : وما القَدَريّ ؟ فذُكِر له محاسن قولهم ، قال : أنا ذاك . ثمّ ذكر له ما يَعيب الناسُ
ص: 511
من قولهم ، فقال : لست بذاك . قال : فلعلّك مُثبِت ؟ قال : وما المُثبِت ؟ فذُكر محاسنهم ، فقال : أنا ذاك . ثمّ ذُكر ما يَعيب الناسُ منهم ، فقال : لستُ بذاك . قال أيّوب : هكذا يفعل العاقل ، يأخذ من كلّ شي ء أحسنَه(1) !
الأصمعيّ ، قال : خرج أعرابيّ إلى الحجّ مع أصحابٍ له ، فلمّا كان ببعض الطريق راجعاً يريد أهله لَقِيه ابنُ عمٍّ له ، فسأله عن أهله ومنزله ، فقال : اعلَمْ أنّك لمّا خرجتَ وكانت لك ثلاثةُ أيّام ، وقع في بيتك الحريق . فرفع الأعرابيّ يديه إلى السماء ، وقال : ما أحسنَ هذا يا رب ! تأمرنا بعمارةِ بيتك وتُخرب بيوتنا(2) !
خرج المهديّ(3) يتصيّد فغارَ به فرسه حتّى وقع في خِباء أعرابيّ فقال : يا أعرابيّ ، هل من قِرًى(4) ؟ فأخرج له قرص شعير فأكله ، ثمّ أخرج له فَضْلة من لبن فسقاه ، ثمّ أتاه بنبيذٍ في رَكْوة فسقاه ، فلمّا شرب قال : أتدري مَن أنا ؟ قال : لا ، قال : أنا من خدم أميرالمؤمنين الخاصّة ، قال : بارك اللَّه لك في موضعك . ثمّ سقاه مرّة أُخرى فشرب ، فقال : يا أعرابيّ ، أتدري مَن أنا ؟ قال : زعمتَ أنّك من خدم أميرالمؤمنين الخاصّة .
ص: 512
قال : لا ، أنا من قوّاد أميرالمؤمنين ، قال : رَحُبَت بلادُك وطاب مرادك . ثمّ سقاه الثالثة ، فلمّا فرغ قال : يا أعرابيّ ، أتدري من أنا ؟ قال : زعمتَ أنّك من قوّاد أميرالمؤمنين . قال : لا ، ولكنّي أميرالمؤمنين ؛ فأخذ الأعرابيّ الرَّكْوة فوَكَأها(1) وقال : إليك عنّي ، فواللَّهِ لو شربتَ الرابعة لادّعيتَ أنّك رسولُ اللَّه ! فضحك المهديّ حتّى غُشِي عليه(2) .
سرق أعرابيّ غاشِيَة(3) من على سَرْج ثمّ دخل المسجدَ يصلّي ! فقرأ الإمام : « هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ »(4) ، فقال : يا فقيه ، لا تدخل في الفضول . فلمّا قرأ : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ »(5) ، قال : خذوا غاشِيَتكُم ولا يخشع وجهي ، لا باركَ اللَّه لكم فيها ، ثمّ رماها من يده وخرج(6) .
صلّى أعرابيّ خلف إمام ، فقرأ الإمام : « أَلمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ »(1) ، وكان في الصفّ الأوّل فتأخّر إلى الصفّ الآخر ، فقرأ « ثُمّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ »(2) ، فتأخّر فقرأ : « كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ »(3) ، وكان اسم البدويّ مجرماً ، فترك الصلاة وخرج هارباً وهو يقول : واللَّهِ ما المطلوبُ غيري ! فوجده بعض الأعراب فقال له : ما لَك يا مجرم ؟ فقال : إنّ الإمام أهلكَ الأوّلين والآخرين وأراد أن يهلكني في الجملة ، واللَّهِ لا رأيته بعد اليوم(4) .
نظر رجل من الطُّفَيليّين إلى قوم من الزنادقة يُسار بهم إلى القتل ، فرأى لهم هيئةً حسنة وثياباً نقيّة ، فظنّهم يُدْعَون إلى وليمة ، فتلطّف حتّى دخل في لَفِيفهم وصار واحداً منهم ، فلمّا بلغ صاحبَ الشرطة قال : أصلحك اللَّه ، لستُ واللَّهِ منهم ، وإنّما أنا طُفيليّ ظننتُهم يُدعَون إلى صَنيعٍ فدخلتُ في جماعتهم ! فقال : ليس هذا ما يُنجيك منّي ! اضرِبوا عنقَه ! فقال : أصلحك اللَّه ، إن كنتَ ولا بُدّ فاعلاً فأْمُرِ السيّاف أن يضرب بطني بالسيف ، فإنّه هو الذي وَرَّطَني هذه الورطة ! فضحك صاحب الشرطة ، وكشف عنه ، فأخبروه أنّه طفيليّ معروف ، فخلّى سبيله(5) .
ص: 514
قال الجَمّاز(1) : سَلْم(2) الخاسر خالي(3) لَحّاً(4) ، فسئل : لِمَ لُقِّب الخاسر ؟ فضحك ثمّ قال : إنّه قد نَسَك مدّةً يسيرة ، ثمّ رجع إلى أقبح ما كان عليه ، وباع مُصحفاً له وَرِثه عن أبيه ، وكان لجدِّه قبلَه ، واشترى بثمنه طُنْبوراً . فشاع خبره وافتضح ، فكان يقال له : ويلك ، هل فعل أحد ما فعلتَ ؟ فقال : لم أجد شيئاً أتوسّل به إلى إبليس هو أقرُّ لعينه من هذا(5) !
قال عافية بن شبيب التميميّ : كنّا نُكثِر الحديث للمتوكّل عن الجَمّاز(6) ، وهو محمّد ابن عمرو بن حمّاد مولى بني تَيْم ، وسَلْم الخاسر خاله ، فأحبّ أن يراه فكتب في
ص: 515
حَمله ، فلمّا دخل عليه لم يقع الموقعَ الذي أردناه ، فتعصّبنا كلّنا له ، فقال له المتوكّل : تكلّم فإنّي أُريد أن أستبرئك ، فقال الجمّاز : بحَيْضةٍ أو حيضتين ؟ فضحك الجماعة منه ، فقال له الفَتْح بن خاقان : قد كلّمتُ أميرَالمؤمنين فيك حتّى ولّاك جزيرة القرود ! فقال الجمّاز : أفلستَ في السمع والطاعة ، أصلحك اللَّه ؟ فحُصِر الفتح وسكت . فأمر له المتوكّل بعشره آلاف درهم ، فأخذها وانحدر فمات فرحاً بها(1) .
ظهرت في العصرين الأُمويّ والعبّاسيّ طبقة واسعة من أدعياء النبوّة ومن المجانين ، وهي في العصر العبّاسيّ أوسع . ولعلّ السبب الأهمّ في هذه الظاهرة هو العَنَت والاضطهاد الذي كان تبديه السلطة ثمّ الفساد الذي اشتهر به حكّام الدولتين .
وكانت طبقة المجانين هي الأوسع ؛ فقد وجد بعض الناس في هذا الباب خير وسيلة يفرّون بها بدينهم ونجاةً من خدمة السلطان الظالم من وزارة وقضاء وغير ذلك ، وسبيلاً للتبليغ وفضح الحكّام وأتباعهم من ضمان الخلاص من عقوبة القتل .
ونجد في أجوبة مَن رُمي بالجنون حِكَماً منثورة وبياناتٍ بلاغيّة تُنبئ عن عقل وافر وحضورِ بديهة ، وحُكم بالجنون على مَن رماهم بالجنون !
ادّعى رجلٌ النبوّةَ في أيّام المهديّ ، فأُدخل عليه فقال له : أنت نبيّ ؟ قال : نعم . قال : ومتى نُبّئتَ ؟ قال : وما تصنع بالتاريخ ؟ قال : ففي أيّ المواضع جاءتك النبوّة ؟ قال : وَقَعْنا واللَّهِ في شُغل ! ليس هذا من مسائل الأنبياء ، إن كان رأيك أن تصدّقني في
ص: 516
كلّ ما قلتُ لك فاعمل بقولي ، وإن كنتَ عزمتَ على تكذيبي فدَعْني أذهب عنك . فقال المهديّ : هذا ما لا يجوز ؛ ففي ذلك فسادُ الدِّين .
قال : واعَجَباً لك ! تغضب لدينك لفساده ، ولا أغضبُ أنا لفساد نُبوّتي ؟ أنت واللَّه ما قويتَ علَيّ إلّا بمعن بن زائدة والحسن بن قُحطُبة وما أشبههما من قوّادك ، وعلى يمين المهديّ شريك القاضي ، فقال له المهديّ : ما تقول في هذا النبيّ يا شريك ؟ قال المتنبّي : شاورتَ هذا في أمري وتركتَ أن تُشاورني ! قال : هات ما عندك ، قال : أُحاكمك فيما جاء به مَن قبلي مِن الرُّسل . قال : رَضِيتُ . قال : أكافرٌ أنا عندك أم مؤمن ؟ قال : كافر . قال : فإنّ اللَّه يقول : « وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ »(1) ، فلا تُطِعني ولا تُؤذِني ! ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنّهم أتباع الأنبياء ، وأدع الملوك والجبابرة فإنّهم حطبُ جهنّم ! فضحك المهديّ وخلّى سبيله(2) .
أُخِذَ رجلٌ ادّعى النبوّةَ أيّام المهديّ ، فأُدخل عليه ، فقال له : أنت نبيّ ؟ قال : نعم ! قال : وإلى مَن بُعثت ؟ قال : أوَتركتموني أذهب إلى أحد ؟! ساعةَ بُعثتُ وضعتموني في الحبس ! فضحك منه المهديّ وخلّى سبيله(3) .
أُتي المأمون بإنسانٍ متنبّئ ، فقال له : ألكَ علامة ؟ قال : نعم ، علامتي أنّي أعلم ما في نفسك . قال : قَرّبتَ علَيّ ، ما في نفسي ؟ قال : في نفسك أنّي كذّاب ! قال : صَدَقت ! وأمر به إلى الحبس فأقام به أيّاماً ، ثمّ أخرجه ، فقال : أوحيَ إليك بشي ء ؟ قال : لا .
ص: 517
قال : ولِمَ ؟ قال : لأنّ الملائكة لا تدخل الحبس ! فضحك المأمون وأطلقه(1) .
قال ثُمامة بن أشرَس : شهِدتُ المأمون أُتِيَ برجلٍ ادّعى النبوّة وأنّه إبراهيم الخليل ، فقال المأمون : ما سمعتُ أجرأ على اللَّه من هذا ! قلتُ : أُكلِّمه ؟ قال : شأنكَ به . فقلت له : يا هذا ، إنّ إبراهيم كانت له براهين . قال : وما براهينُه ؟ قلت : أُضرِمت له نارٌ فأُلقي فيها فصارت بَرداً وسلاماً ، فنحن نضرم لك ناراً ونطرحك فيها ، فإن كانت عليك بَرداً كما كانت على إبراهيم آمنّا بك وصدّقناك . قال : هاتِ ما هو أليَنُ علَيّ من هذا . قلت : براهين موسى . قال : وما كانت براهين موسى ؟ قلت : عصاه التي ألقاها فصارت حيّة تسعى تَلقَف ما يأفِكون ، وضرب بها البحر فانفلق ، وبياض يده من غير سُوء . قال : هذا أصعب . قلت : براهين عيسى . قال : وما براهين عيسى ؟ قلت : كان يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمَه والأبرص . قال : في براهين عيسى جئت بالطامّة الكبرى ! قلت : لابدّ من برهان ، فقال : ما معي شي ء من هذا ، قد قلت لِجبريل : إنّكم تُوجِّهوني إلى شياطين ، فأعطوني حجّة أذهب بها إليهم وأحتجُّ عليهم ، فغضب وقال : بدأتَ أنت بالشرّ قبل كلّ شي ء ، اذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم . وقال : هذا من الأنبياء لا يصلح إلّا للحُمُر . فقلتُ : يا أميرالمؤمنين ، هذا هاجَ به مرار ، وأعلام ذلك فيه . قال : صدقت ، دَعْهُ(2) .
ادّعى رجلٌ النبوّةَ بالبصرة ، فأُتي به سليمانَ بن عليّ(3) مُقيّداً ، فقال له : أنت نبيّ
ص: 518
مرسل ؟ قال : أمّا الساعةَ فإنّي مُقيَّد ! قال : ويحك ، مَن بعثك ؟ قال : أبهذا يُخاطَب الأنبياء يا ضعيف ؟ واللَّهِ لولا أنّي مُقيَّد لأمرتُ جِبريل يُدَمدِمُها عليكم(1) ! قال : فالمقيَّد لا تُجاب له دعوة ؟ قال : نعم ، الأنبياء خاصّة إذا قُيّدت لم يرتفع دعاؤها ! فضحك سليمان وقال له : أنا أُطْلِقُك وأْمُر جبريل ، فإن أطاعك آمنّا بك وصدّقناك . قال : صدق اللَّه « فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ »(2) فضحك سليمان ، وسأل عنه فشُهِد عنده أنّه ممرور(3) ، فخلّى سبيله(4) .
قال ابن حازم : وإنّي لَقاعدٌ على مجلس عبد اللَّه بن حازم وهو على الجسر ببغداد ، فإذا بجماعة قد أحاطت برجلٍ ادّعى النبوّة ، فقُدِّم إلى عبد اللَّه ، فقال له : أنت نبيّ ؟ قال : نعم . قال : وإلى مَن بُعِثت ؟ قال : وما عليك ؟ بُعثت إلى الشيطان ! فضحك عبد اللَّه وقال : دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم(5) !
قال عبد الملك بن أبْجَر : لقيت عُلَيّان المجنون ، وكان اسمه عندي عَلْيان فقلت له : يا عَلْيان ، فقال : لا إله إلّا اللَّه ! قلْ خيراً يا ابن أبجَر ، وُلد لأبي مولود قبلي فسمّاه محمّداً ببركات رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ثمّ وُلدتُ فسمّاني عليّاً ، ببركات وصيّ رسول اللَّه ، فمَن صغّرني
ص: 519
فقد صغّر وصيَّ رسول اللَّه ، ومَن طُيّبتُ به للتصغير بي ، فما طُيّبتُ بك يا ابن أبجَر ! فجعلتُ لا أسمّيه إلّا عليّاً أو كنيته(1) .
قال أبو يوسف القاضي : كنتُ مارّاً في طُرُقات الكوفة ، وإذا أنا بعَلْيان المجنون ، فلمّا بَصُر بي سلّم علَيّ ، وقال لي : أيّها القاضي ، مسألة . قلت : هات . قال : أليس قال اللَّه تعالى في كتابه العزيز : « وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ »(2) ؟ قلت : بلى . قال : أليس قال اللَّه عزّ وجلّ : « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ »(3) ؟ قلت : بلى . قال : فما نذير الكلاب ؟ قلت : لا أدري ، فأخْبِرني . قال : لا واللَّه لا أقول إلّا بمَنِّ رِقاق من شواء ونصف من فالوذَج ، فأمرتُ مَنْ جاء بها ، ودخلت معه مسجداً فأكلها حتّى أتى على آخرها ، فقلتُ : هاتِ الجواب ، فأخرج من كُمّه حجراً وقال : هذا نذيرُ الكلاب !(4)
قال أبو الحسن المدائنيّ : كان بالبصرة ممرور يقال له عَلْيان بن أبي مالك ، وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه ، وكان راوية للشعر بصيراً بجيّده ، فذُكِر عن عبد اللَّه بن إدريس صاحب الحديث قال : أخرجه الصِّبيان مرّة حتّى هجم علينا في الدار ، فقال لي الخادم : هذا عَلْيان قد هجم علينا ، والصبيان في طلبه . فقلت : ادفع
ص: 520
الباب في وجوه الصبيان ، وأخرِجْ إليه طعاماً . فلمّا وضعه بين يديه حَمِد اللَّه وأثنى عليه وقال : هذا رحمةُ اللَّه ، وأشار إلى الطعام ، كما أنّ أولئك من عذاب اللَّه ، وأشار إلى الصبيان . ثمّ جعل يأكل والصبيان يرجمون الباب وهو يقول : « فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَهُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ »(1) .
قال ابن إدريس : فلمّا انقضى طعامُه قلت له : يا عَليان ، ما لَكَ تروي الشعر ولا تقوله ؟ قال : إنّي كالمِسنّ ؛ أشحَذُ ولا أقطَع . وكان بصيراً بالشعر ، فقلت : أيّ بيت تقوله العرب أشعَر ؟ قال : البيت الذي لا يُحجَب عن القلب . قلت : مثل ماذا ؟ قال : مثل قول جميل :
ألا أيُّها النُّوّامُ وَيْحكمُ هُبُّوا * أُسائلكُم : هل يَقتُلُ الرجلَ الحبُّ ؟
قال : فأنشد النصف الأوّل بصوتٍ ضعيف ، وأنشد النصف الآخر بصوتٍ رفيع ، ثمّ قال : ألا تَرى النصف الأوّل كيف استأذن على القلب فلم يأذن له ، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له ؟ قلت : وماذا ؟ قال : قول الشاعر :
ندمت على ما كان مُنذ فقدتني * كما نَدِم المغبُون حين يبيع
قال : ألا تستطيب قوله «فقدتني» باللَّهِ يا ابن إدريس ؟ قلت : بلى . فضرب بيده على فخذي وقال : قم يثبّت اللَّه لك قَرنك(2) .
قال : ومررتُ به في مُربَّعة كِندة ، وهو جالس على رَمادٍ وبيده قطعة من جَصّ وهو يخبط في الرماد ، فقلت له : ما تصنع هاهنا يا ابنَ أبي مالك ؟ قال : ما كان يصنع صاحبُنا . قلت : ومَن صاحبُك ؟ قال : مجنون بني عامر . قلت : وما كان يصنع ؟ قال : أما سمعته يقول :
عشِيَّةَ ما لي حِيلةٌ غيرَ أنّني * بلَقْطِ الحصى والجِصِّ في الدارِ مُولَعُ
ص: 521
قلت : ما سمعتُه ! فرفع رأسه إلَيّ متضاحكاً فقال : ما يقول اللَّه عزّ وجلّ : « أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً »(1) فأنت سمعتَه أو رأيتَه ! هذا كلامٌ من كلام العرب ولا علمَ لك به !
قلت : يا ابنَ أبي مالك ، متى تقوم القيامة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلَمَ من السائل ، غير أنّه مَن مات قامت قيامتُه .
قلت : فالمصلوبُ يُعذَّب عذابَ القبر ؟ قال : إن حَقَّت عليه كلمةُ العذاب يُعذَّب ، وما يُدريك لعلّ جسده في عذابٍ من عذابِ اللَّه لا تُدركه أبصارُنا ولا أسماعُنا ، فإنّ للّهِ لُطفاً لا يُدرَك(2) .
كان بالبصرة مجنونٌ يأوي إلى دُكّانِ خيّاط ، وفي يده قَصَبة قد جعل في رأسها أكرة(3) ولفّ عليها خِرقة ، لئلّا يؤذي بها الناس ، فكان إذا أحْرَدَه الصِّبيان ، التفتَ إلى الخيّاط وقال له : قد حَمِيَ الوَطيس وطاب اللقاء ، فما ترى ؟! فيقول : شأنُك بهم . فيشدّ عليهم ويقول :
أشُدُّ على الكتيبةِ لا أُبالي * أحَتفي كانَ فيها أم سِواها !
فإذا أدرك منهم صبيّاً رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى عَورتَه ، فيتركه وينصرف ويقول : عَورةُ المؤمن حِمًى ، ولولا ذلك لَتَلِفت نفسُ عمرو بن العاص يوم صِفّين(4) ! ثمّ يقول وينادي :
ص: 522
أنا الرجلُ الضَّرْبُ الذي يَعرفونَني * خَشاشٌ كرأسِ الحيّةِ المتوقّدِ
ثمّ يرجع إلى دكّان الخيّاط ويُلقي العصا من يده ، ويقول :
(1)فألقَتْ عصاها واستقرّت بها النَّوى
كما قَرَّ عَيناً بالإيابِ المسافرُ(2)
تقدّم جُعَيفرانُ(3) إلى أبي يوسفَ الأعور القاضي بِسُرَّ من رأى في حكومةٍ في شي ء كان في يده مِن وَقْفٍ له ، فدفعه عنه ، وقضى عليه ، فقال له : أراني اللَّهُ أيّها القاضي عينَيكَ سواء(4) ! فأمسَكَ عنه ، وأمر بردّه إلى داره .
فلمّا رجع أطعمه ووهب له دراهم ، ثمّ دعا بهِ فقال له : ماذا أردتَ بدعائك ؟ أردتَ أن يَرُدّ اللَّه على بصري ما ذهب ؟ فقال له : واللَّهِ لئن كنتَ وهبْتَ لي هذه الدراهم لأسخرَ منك ، لأنتَ المجنون لا أنا ! أَخبِرْني كم من أعورَ رأيتَه عَمِيَ ؟ قال : كثيراً . قال : فهل رأيتَ أعورَ صحّ قطُّ ؟ قال : لا . قال : فكيف توهّمتَ عليَّ الغلطَ ؟! فضحك وصَرَفه(5) .
ص: 523
ذكر عبد اللَّه بن عثمان الكاتب أنّ أباه عثمان بن محمّد حدّثه ، قال : كنتُ يوماً برُصافةِ مدينة السلام جالساً إذ جاءني جعيفران وهو مُغضَب ! فوقف عليَّ وقال :
* استوجَبَ العالَمُ منّي القتلا *
فقلتُ : ولِمَ يا أبا الفَضْل ؟ فنظر إليَّ نظرةً منكَرة خِفْتُ منها ، وقال :
* لمّا شَعَرتُ فرأَوني فَحْلا *
ثمّ سكت هُنَيهة ، وقال :
قالوا عليَّ كَذِباً وبُطْلا
أنّيَ مجنونٌ فَقدتُ العَقلا
قالوا المُحالَ كَذِبا وَجَهْلا
أقبِحْ بهذا الفِعلِ منهم فِعلا !
ثمّ ذهب لينصرف ، فخِفْتُ أن يُؤذيَه الصبيان ، فقلت : اصبِرْ فدَيتُك حتّى أقوم معك ؛ فإنّك مُغضَب وأكره أن تخرج على هذه الحال ، فرجع إليَّ وقال : سبحان اللَّه ! أتراني أنسبهم إلى الجهل والكذب وأستقبح فعلَهم ، وتتخوّف منّي مكافأتهم ؟! ثمّ إنّه ولّى وهو يقول :
لستُ بِراضٍ من جَهولٍ جَهلا
ولا مُجازِيهِ بفِعلٍ فِعلا
لكنْ أرى الصفحَ لنفسي فَضلا
مَن يُرِد الخيرَ يَجِدْه سَهلا(1)
عبد اللَّه بن عثمان ، عن أبيه ، قال : غاب عنّا جُعَيفران أيّاماً ، ثمّ جاءنا والصبيانُ يَشُدّون خلفَه وهو عُريانٌ ، وهم يصيحون به : يا جُعَيْفران ياخَرا في الدار ! فلمّا بلغ إليَّ وقف ، وتفرّقوا عنه فقال : يا أبا عبد اللَّه :
ص: 524
رأيتُ الناسَ يَدْعوني * بمجنونٍ على حالي
وما بي اليومَ من جِنٍ * ولا وَسواسِ بَلْبالِ
ولكنْ قَولُهم هذا * لإفلاسي وإقلالي
ولو كنتُ أخا وَفْرٍ * رَخيّاً ناعمَ البالِ
رأوني حَسَنَ العقلِ * أحُلَّ المنزلَ العالِ
وما ذاك على خُبرٍ * ولكنْ هَيبةُ المالِ
قال : فأدخلتُه منزلي فأكل وشرب ، ثمّ قلت له : تقدِر على أن تُغيِّر تلك القافية ؟ فقال : نعم . ثمّ قال بديهةً غيرَ مُفكّر ولا مُتوقّف :
رأيتُ الناسَ يَرمونِ * -يَ أحياناً بوَسواسِ
ومَن يَضبِطُ يا صاحِ * مقالَ الناسِ في الناسِ
فدَعْ ما قالَهُ الناسُ * ونازِعْ صفوةَ الكاسِ
فتًى حُرّاً صحيح الوُدِّ * ذا بِرٍّ وإيناسِ
فإنّ الخلْقَ مغرورٌ * بأمثالي وأجناسي
ولو كنتُ أخا مالٍ * أتَوني بينَ جُلّاسي
يُحِبّوني ويَحْبُوني * على العينَينِ والراسِ
ويَدعوني عزيزاً غي * -رَ أنّ الذلَّ إفلاسي
ثمّ قام يبول ، فقال بعض مَن حضر : أيُّ معنًى عِشرتنا هذا المجنون العريان ؟ واللَّهِ ما نَأْمَنُه وهو صاحٍ ، فكيف إذا سَكِر ؟ وفطِنَ جُعَيفران للمعنى ، فخرج إلينا وهو يقول :
ونَدامى أكَلوني * إذ تغيّبْتُ قليلاً
زَعَموا أنّيَ مَجنو * نٌ أرى العُرْي جَميلا
كيفَ لا أعرى وما أُب * -صِرُ في الناسِ مَثيلاً ؟!
ص: 525
إن يكن قد ساءكم قُر * بي فخلُّوا لي سبيلا
وأتِمّوا يَومَكُم ، * سَرَّكُمُ اللَّهُ طويلا !
قال : فرقَقْنا له واعتذرنا إليه ، وقلنا له : واللَّهِ ما نلتذّ إلّا بِقُربك . وأتيناه بثوب فلبسه ، وأتممنا يومنا ذلك معه(1) .
ذكر ابن حبيب : أنّ الحجّاج رمى بيتَ اللَّه بالعَذرة وقتل ابنَ الزبير ، فأقبل رجلٌ مُوَسوِسٌ مَعتُوه عليه عباءة قد شدّها إلى عُنقه ، فطاف بالبيت سبعاً ، ثمّ صعد إلى الحجر ، فتكلّم بصوتٍ جَهُوريّ فأسمعَ الناسَ وقال : أيّها الناس ، مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني نبّأتُه باسمي ، أنا ميمون ابو المبارك المجنون(2) ! فاسمعوا ما أقول لكم ؛ فإنّي متكلّم ناطق ، غيرُ هائب ولا خائف ، بل أقول بلسانِ صواب ، ولا أخاف العِقاب ، بل أرجو الثوابَ من ربّ الأرباب ، ذي المنِّ والإفضال . إيّاهُ قصدتُ ، وما عنده طلبتُ . ثمّ حَمِد اللَّه فأحسن ، ومجّدَ فأكثر . ثمّ دعى دعواتٍ وأعرب ، فقال : اللّهمّ لك سَجَدَتِ الجِباهُ ، ولك خَضَعتِ الأعناق ، ولك ذلّت الأرباب . وأنت خالقُ السماوات والأرض بلا تعبٍ ولا مشورة لذوي الألباب . لم يُعجزك ما أردتَ ولا يَفُتْك ما طلبتَ ... .
فأسألك يا مَن قصدَه العِبادُ من كلّ البلاد ، رجاءَ الثَّواب وخوفَ العقاب ، أسألك مسألةَ طالبٍ قد رجا الإجابة ، وأيقن بقضاء الحاجة ان تُهلك الحَجّاجَ المُتَوثِّب على بيتك برمي العَذَرة ، والقاتل لأصحابِ نبيّك صلى الله عليه وآله ، المطهَّرِ من كلّ ريبة . اللّهمّ ، إذا
ص: 526
ذكرتَ عبادك بالرحمة فاذكره بأشدِّ غَضَبٍ وأكملِ عَطَب ، إنّك أنت المستجيب للدعاء . اللّهمّ هذا البيت بيتُك ، وهذا الحَرَم حَرَمُك ، وهذا حجر إسماعيل نبيّك ، اللّهمّ أنت ذو الجلال والإكرام .
ثمّ أتى مِنًى والناس أجمَع ما كانوا ، فصلّى صلاة الفجر ، ثمّ قام قائماً ثمّ قال : أيّها الناس ! أليس إلى اللَّه قصدتم وما عنده طلبتم ؟ فإذا سألتموه فابتهلوا ، وإذا دعوتموه فاخضعوا ، والحَجّاجَ فالعنوا فإنّه نجس الولادة . اللّهمّ فلا تُنجِه من سخطك واحرمه رحمتك التي وسعت كلَّ شي ء ، إنّك ذوالجلال والإكرام .
فاجتمع الناس إليه ، وقالوا : أيّها الرجل : مِن أين أنت ؟ قال : من بلاد اللَّه . قالوا : فأين تأوي ؟ قال : إلى أرض اللَّه . قالوا : فما قصّتُك وقصّة الحجّاج ؟ أظلمك بشي ء ؟ قال : نعم . قالوا : ماذا ؟ قال : قصدَ بيتَ ربّي فنجّسه ، وقتل أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وأهان ، فوجبت اللعنةُ عليه ، واستوجب منّا العداوة ، ولم أعرف موضعاً أجَلَّ من هذه الثنيّة : موضع وُلد فيه محمّد صلى الله عليه وآله وأصحابُه ، فأحببتُ أن أُتعب نفسي من أجله وبالدعاء عليه .
ثمّ مرّ يسحب كِساءَه ، وقد تبيّن فيه أثرُ الجوع ، فاتّبعه رجل من التجّار ، فقال : السلام عليك يا أبا المبارك . قال : وعليك السلام يا وافدَ اللَّه ! قال : لي إليك حاجة . قال : وما هي ؟ قال : تأتي منزلي فتأكل كِسرَة خبزٍ وتشرب شربةً من سَويق . قال : على شرط . قال : وما شرطُك ؟ قال : ألّا تكون ظالماً ولا عَوناً لظالم ، فما عملُك ؟ قال : تاجر . قال : أفما علمتَ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : «يُحشر التجّار فُجّاراً إلّا مَن اتّقى وبَرَّ وصدق» . قال : فإنّي لا أمدح عند البيع ولا أذمّ عند الشرى . قال : منك يا أخي طاب القِرى ، فأتى إلى رَحْلِه فأكل رغيفاً وملحاً ، ولم يَزِد عليه .
فلمّا انقضى الموسم أقبل أصحابُ الحجّاج إلى الحجّاج وأخبروه بخبر ميمون ، وقالوا : ما مَنَعنا من أخذه إلّا العامّة وجَلَبتهم ، والغَوْغاء وضجّتهم . فدعا الحجّاج
ص: 527
بقائد من قُوّاده من خاصّة أصحابه ، وقال له : سِرْ في البلاد واطلب هذا الرجل ولك الجائزة . فدخل القائدُ الكوفةَ ، فإذا هو جالس على مَزْبلة والصِّبيانُ حوله ، وهو يقول لهم : إنّه لم تجرِ عليكم الأقلام ولم تُكتب عليكم الآثام ، فانظروا أن لا تُطيعوا إبليس عدوّكم فإنّه عدوّ أبيكم آدم عليه السلام من قبل ، وهو الذي أعانه بعد القضاء على الخروج من الجنّة . وعليكم بأخلاق الصالحين والاقتداء بالمؤمنين ، فإذا فعلتم ذلك كنتم مع الأولياء .
ثمّ جاء أصحاب الحجّاج فأخذوه ، فلمّا أشرف على بلد واسط قال له قائد الحجّاج : إذا دخلتَ على الأمير فسلّم عليه . قال : فإذا لم أُسلّم عليه ؟ قال : يقتلك ! قال : فإنْ أنا سلّمتُ عليه وساءلني فصدقتُه الجواب أيقتلني ؟ قال : نعم . قال : فما كنت أُسلّم على رجلٍ عاصٍ قتل أولياء اللَّه ، ووالى أعداءَ اللَّه ، فهو بغيضٌ للّه . ثمّ أُدخِل على الحجّاج ، فوقف صامتاً وعليه عباءة قد شدّها إلى عُنقه ، فاستحقره الحجّاج لِما رأى من نَحالة جسمه وسوء حاله ، فأنشأ ميمون قائلاً :
إيّاكَ أن تَزْدَري الرِّجالَ وما * يُدريكَ ماذا يَجنُّهُ الصَّدَفُ
نَفسُ الجَوادِ العَتيقِ باقيةٌ * فيهِ ، وإن مِن جسمِه العَجفُ(1)
فالحرُّ حرٌّ وإن ألَمَّ بهِ ال * -ضُرُّ ففيه الحَياءُ والأنَفُ
فلمّا سمع الحجّاج مقالته وشِعره علم أنّه حكيم ! فقال : مَن أنت ؟ ومِن أين أنت ؟ قال : عبد اللَّه وابن عبيدة . قال : فما منعك من السلام ؟ قال : ما كنتُ بالذي أُسلِّم ، ولو سلّمت خفتُ أن لا تردّ عليَّ . قال : ما اسمُك ؟ قال : أمّا اليوم فميمون ، وما أدري ما اسمي عند ربّي إذا دُعِيت ، بالسعادة أم بالشقاوة أُنادى ؟ قال : يا ميمون ! إنّي سائلُك عن مسائل ، فانظر أن يكون الجواب صواباً . فقال : يا حجّاج ! إنّما لساني بَضعةُ منّي ،
ص: 528
فإنْ أطلق مولاي الصوابَ نطق به اللسان . وما أنا وأمرٌ لا أُطيقه ولا أفعلُ إلّا بحركةٍ ولا حركةٌ إلّا بمُعينٍ . قال : وَيْحك ! وما اللسان ؟ قال : هو الذي يترجم عن الإنسان . قال : وإنسانٌ أنت ؟ قال : نعم . قال : ومن أين علمت أنّك إنسان ؟ قال : لأنّي أفهم وأعقل وأُطيع وأَعصي ، وآكل بيدي وأشرب تجرّعاً وأتغوّط خالياً(1) ؛ وليس هذا إلّا فعل الإنسان . وقد قال اللَّه عزّوجلّ : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا »(2) . فعرفتُ ما يضرّ ممّا ينفع . قال : فما خَلْقُك ؟ قال : من ماءٍ من عِوَج من بين لحم ودم ، فهو في وقت إزعاجه دمٌ أحمر ، وفي وقت نزوله ماءٌ أبيض ، فإذا استقرّ في مستقرِّ قرارِه صيّر مُضْغةً مُخلَّقةً ، ثمّ صيّر منه لحماً وعظماً وعروقاً وجِلداً ، فغشي العظم بالجلد وشبك بالعروق والعصب ، وغشّي بالجلد . وليس في بدن عِرقٌ ساكن إلّا وتحته ضارب ، ولا ضارب إلّا وتحته ساكن . فإذا سكن الضارب قَلِق البدن ، وإذا ضرب الساكن اضطرب ، فمَن قام بحقّها استوجب من اللَّه الثواب . ومَن لم يَقُم بحقّها استوجب من اللَّه الزوال ، فلا يخرج أحد من بطن أُمِّه حتّى يُكتب أجله ورزقه وعمله وشقيّ أو سعيد . قال : فما تعمل إذا كان قد فُرِغ من أمرك(3) ؟ قال : أعملُ لقولِ النبيّ صلى الله عليه وآله : «إعملوا ، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِق له» . ولمّا خلق اللَّه عزّ وجلّ آدمَ عليه السلام ضرب يدَه على صُلْبه ، فاستخرج ذُرّيَّته فأراهم إيّاه ، ثمّ قبض اليمينَ فقال هذه إلى الجنّة ، ثمّ قبض القبضة الأُخرى وقال : هذه إلى النار . ثمّ أنزل اللَّهُ على نبيّه في ذلك قرآناً « وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ »(4) . « وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ »(5) يعني أصحاب
ص: 529
القبضة الأُخرى ، فتقدر أن تُنكر هذا ؟ فقال الحجّاج : وَيْحك تُحسن مثلَ هذا وأنت تُدعى مجنوناً ؟! فقال : إنّ أهلَ البَطالةِ إذا نظروا إلى أهل محبّة اللَّه سَمَّوهم مجانين . ثمّ إنّ الحجّاج خلّى سبيله فمضى سالماً(1) .
حُكيَ أنّ محمّد بن سليمان ركب يوماً بالبصرة وسَوّار(2) القاضي يُسايره في جنازة ابنةِ عمّ له ، فاعترضه مجنونٌ كان بالبصرة يُعرف برأس النَّعْجة ، فقال له : يا محمّد ، أمِنَ العدلِ أن تكون نِحْلتُك في كلّ يوم مائة ألف درهم وأنا أطلب نصفَ درهم فلا أقدر عليه ؟! ثمّ التفت إلى سَوّار فقال : إنْ كان هذا عدلاً فأنا أكفر به ! فأسرع إليه غلمان محمّد ، فكفّهم عنه ، وأمر له بمائة درهم ، فلمّا انصرف محمّد وسوّار معه اعترضه رأس النعجة ، فقال له : لقد كرّم اللَّه منصبك ، وشرّف أُبوّتك وحسّن وجهك ، وعَظّم قدرك ، وأرجو أن يكون ذلك لخيرٍ يريده اللَّه بك ، ولأن يجمع اللَّه لك الدارين . فدنا منه سَوّار فقال : يا خبيث ، ما كان هذا قولك في البداءة ! فقال له : سألتك بحقّ اللَّه وبحقّ الأمير إلّا ما أخبرتني في أيّ سورة هذه الآية « فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ »(3) ؟ قال : في براءة . قال : صدقت ، فبرئ اللَّهُ ورسولُه منك ! فضحك محمّد بن سليمان حتّى كاد يسقط عن دابّته(4) .
ص: 530
قال أبو محمّد بن عجيف : مرّ بي مجنون فقلتُ له : يا مجنون ! قال : وأنت عاقل ؟! قلتُ : نعم . قال : كلّا يا مجنون ، ولكنّ جُنوني مكشوف وجنونك مستور . قلت : فَسِّرْ لي . قال : أنا أُخرِّق الثّياب وأَرجُم ، وأنت تُعمِّر داراً لا بقاء لها ، وتُطيل أملَك وما حياتُك بيدك ، وتعصي وليَّك وتُطيع عدوَّك(1) !
ادّعى رجلٌ النبوّةَ وزعم أنّه نوح النبيّ عليه السلام فصُلب ، فمرّ به مجنون فقال : يا نوح ، لَمْ تحصلْ من سفينتك إلّا على الدَّقَل(2) !
قال أبو زيد النحويّ : كنت أنا ورجل من قيس ، ومعه ابنٌ له نريد الجمعة ، وأبو علقمة(3) على باب المسجد جالس . فقال الغلام لأبيه : أُكلِّم أنا أبا علقمة ، فقال : لا ، فأعاد عليه الغلام ثلاثاً ، فقال له أبوه : أنت أعلَم ، فقال الغلام : يا أبا علقمة ! ما بالُ لِحى قيسٍ قليلة خفيفة المؤنة ، ولِحى اليمن كبيرة عريضة شديدة المؤنة ؟ قال : من قول اللَّه تعالى : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً »(4) ، مِثلُ لحية أبيك ! قال : فجَذَب القيسيّ يده من ابنه ودخل في غمار الناس حياءً وتستّراً(5) .
ص: 531
بَعَث هلال بن أبي بُردة إلى أبي عَلْقمة المجنون ، فلمّا أُتي به قال : تدري لِمَ أحضرتُك ؟ قال : لا ، قال : لأضحك منك ، فقال : لقد ضحك أحدُ الحَكَمين من صاحبه ، يُعرِّض بجدّه أبي موسى الأشعريّ إذ ضحك منه عمرو بن العاص يوم التحكيم بصِفّين(1) .
وكان في بني أسد مجنون ، فمرّ بقومٍ من بني تَيْم اللَّه ، فعبثوا به وعذّبوه ، فقال : يا بني تَيْم اللَّه ، ما أعلَمُ في الدّنيا قوماً خيراً منكم ! قالوا : وكيف ؟ قال : بنو أسد ليس فيهم مجنون غيري وقد قيّدوني وسَلْسَلوني ، وكلّكم مجانين ليس فيكم مُقيَّد(2) !
قال ثُمامة بن أَشْرَس : دخلتُ دَيْرَ هِرَقْل فرأيت فيه شابّاً مشدوداً إلى سارية . فقال لي : ما اسمُك ؟ قلت : ثُمامة ، قال : المتكلّم ؟ قلت : نعم . قال : يا ثُمامة ، هل للنّومِ لذّة ؟ قلت : نعم . قال : متى يجدها صاحبها ؟ إن قلتَ قبل النوم أحَلت ، وإن قلتَ مع النوم أخطأت لأنّه ذاهب العقل ، وإن قلت بعد النوم أخطأت لأنّه قد انقضى . قلت : وما تقول أنت ؟ قال : إنّ النُّعاس داءٌ يحلّ بالبدن ودواؤه النّوم(3) .
دخل الأمير سعيد مع وزيره دارَ المرضى فإذا شابّ مُسَلسَل ، فلمّا رأى الأميرَ قال : أيّها الأمير ، هذا وزيرك ؟ قال : نعم . قال : يزعم أنّه أقلّ الناس ، فإنْ سألتُه
ص: 532
مسألةً ! قال : سَلْهُ . قال : ما أكثَرُ الأشياء ؟ قال : ذواتُ الأربع . قال : ليس كذلك . قال : فما هو ؟ قال : لا أقولُ حتّى تقولَ بالعجز . قال : قد أقررتُ ، قال : أكثرُ الأشياء الهموم . قال : ولِمَ ؟ قال : لأنّ نصيبي منها أوْفرُ الأَنْصِباء . قال الأمير : سَلْ حاجتَك . قال : مُسْكَةُ(1) عقلٍ أعيش به وأنجو من هذا القَيْد . قال : ليس ذلك إليَّ . قال : فلا حاجة لي في سواه(2) .
قال سكين بن موسى : كنت مجاوراً بمكّة ، وكان بها مجنون ينطق بالحِكَم . فقلت له : أين تأوي بالليل ؟ فقال : دار الغُرباء . فقلت : ما أعرف بمكّة داراً يقال لها دار الغُرباء . قال : يا مسكين ! دارُ الغُرباء المقابر . فقلت : أمَا تستوحش في الليل وظُلْمته ؟ قال : إذا فكّرتُ في القبر ووحشته هان عليَّ الليل وظُلمته(3) .
قال زياد الُّنمَيْريّ : دخلت دار المجانين ، فإذا شابّ حسَن الوجه في زاوية مشدود إلى جدار . فقال لي : أتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم . قال : فاقرأ ، فقرأتُ : « اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ »(4) فقال : أخبِرْني ، ما معنى اللّطيف ؟ قلت : البارُّ الرفيق . قال : هذا في وصْفِ الناس . قلت : فما اللّطيف ؟ قال : الذي يُعرَفُ بلا كَيْف(5) .
ص: 533
قال محمّد بن المغيرة : مرّ صَبّاح بقوم فظنّ بهم خيراً ، فردّوه . وكانوا سبعة ، فسأل أحدَهُم فقال : ما اسمُك ؟ قال : غليظ ، وقال للثاني : ما اسمُك ؟ فقال : خَشْن ، فقال للثالث : وأنت ؟ فقال : وَعْر ، فقال للرابع : وأنت ؟ فقال : شدّاد ، فقال للخامس : وأنت ؟ فقال : ردّاد ، فقال للسادس : وأنت ؟ فقال : ظالم ، فقال للسابع : وأنت ؟ فقال : لاطِم . قال صَبّاح : وأين مالِك ؟ قالوا : ومَن مالك ، يا مجنون ! قال : ألستم خَزَنَة النار الغلاظ الشداد(1) ؟!
وممّا ينفي عن صبّاح أنّه موسوس ، ما ذُكر أنّ موسى بن أبي الرَّوْقاء(2) صاحب شرطة ابن أبي هُبَيْرة مرّ بصبّاح ،فناداه صبّاح : يا ابن أبي الرَّوقاء ! أسمَنْتَ بِرذَونَك ، وأهزلتَ دِينَك ، أما واللَّه إنّ أمامَك لَعَقبةً لا يُجاوزُها إلّا الُمخِفُّ . فحبس موسى بِرذَونَه وقال : مَن هذا ؟ فقيل له : هذا صَبّاح الموسوِس ، فقال : ما هو بموسوس ، هذا نذير(3) !
قال العُتبيّ : قال زياد بن أبيه : ما من كلام إلّا له عندي جواب ، فمرّ به مجنون فقال له : أَيَسُرُّك أنّك من الحُور العِين ؟! فتحيّر وبُهت ، ثمّ قال : إنّ من السكوت جواباً ، وإنّ جواب هذا الكلام السكوت(4) .
ص: 534
قيل لمجنون : أيسرّك أن تُصْلَب في صلاح هذه الأُمّة ؟ فقال : لا ، ولكن يسرّني أن تُصْلَب الأُمّة في صلاحي(1) !
هذا آخر ما يسّر اللَّه تعالى جمعه من (الجوابات الحاضرة) ولن يعدم القارئ أن يجد فيه ضالّته : من طريفة تسرّه ، وحوار يأنس له ويرفع سَأَمه .. مضافاً إلى تراجم رجال ونساء يحبّ أن يعرف شيئاً من سِيَرهم .
ونرجو اللَّه سبحانه أن نكون قد وُفّقنا في عملنا هذا . وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين .
حبيب الشمّريّ
ص: 535
ص: 536
صورة
ص: 537
صورة
ص: 538
صورة
ص: 539
صورة
ص: 540
صورة
ص: 541
صورة
ص: 542
صورة
ص: 543
صورة
ص: 544
صورة
ص: 545
صورة
ص: 546
صورة
ص: 547
صورة
ص: 548
صورة
ص: 549
صورة
ص: 550
صورة
ص: 551
صورة
ص: 552
صورة
ص: 553
صورة
ص: 554
صورة
ص: 555
صورة
ص: 556
صورة
ص: 557
صورة
ص: 558
صورة
ص: 559
صورة
ص: 560
صورة
ص: 561
صورة
ص: 562
صورة
ص: 563
صورة
ص: 564
صورة
ص: 565
صورة
ص: 566
صورة
ص: 567
صورة
ص: 568
صورة
ص: 569
صورة
ص: 570