التنظيم الإجتماعي في فكر الإمام علي (عليه السلام)

هوية الکتاب

رقم الایداع في دار الکتب والوثائق العراقیة 2874 لسنة 2017 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنیف LC:

BP38.09 .I3 N8 2016.

المؤلف الشخصي: النعیمي: نضال عیسی کریف.

العنوان: التنظیم الاجتماعي في فکر الإمام علي (علیه السلام): دراسة تحلیلیة في ضوء نهج البلاغة.

بیان المسؤولیة: تألیف الدکتورة نضال عیسی کریف النعیمي، تقدیم السید نبیل قدوري الحسني.

بیانات الطبعة: الطبعة الأولی.

بیانات النشر: کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 245 صفحة.

سلسلة النشر: سلسلة الرسائل الجامعیة - 19 مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تبصرة عامة:

تبصرة: ببیلوغرافیة: الکتاب یتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 239 - 252).

تبصرة محتویات:

موضوع شخصي: الشریف الرضي، محمد بن الحسین بن موسی، 359 - 406 هجریا - نهج البلاغة - شرح.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - أحادیث.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - الدور الاجتماعی.

موضوع شخصي: علي أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - الدور السیاسي.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - الدور القضائي.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - الدور الاقتصادي.

موضوع جغرافي: البلاد الإسلامیة - تاریخ - علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول 36 - 40 هجریا.

مؤلف إضافي: الحسني، نبیل قدوري، 1965، مقدم.

مؤلف إضافي: الشریف الرضي، محمد بن الحسین بن موسی، 359 - 406 هجریا - نهج البلاغة - شرح عنوان إضافي: نهج البلاغة - شرح.

تمت الفهرسة قبل النشر في مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 1

اشارة

التنظيم الإجتماعي في فكر الإمام علي (عليه السلام)

ص: 2

سلسلة الرسائل الجامعیة - العراق

وحدة العلوم الاجتماعیة والنفسیة

التنظیم الاجتماعي في فیکن الإمام علی دراسة تحلیلیة في ضوء نهج البلاغة

تَألِیْفُ د. نضال عیسی النعیمي

إصْدَارْ مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

العراق: کربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاکبر (علیه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 07815016633

الموقع الالکتروني: www.inahj.org

الایمیل: Inahj.org@gmail.com

تنویة:

إن الأفکار والآراء الواردة في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»

صدق الله العلي العظيم

سورة الفتح / الآية 29

ص: 5

الإهداء:

إلى نور الله المتألق وضيائه المشرق، النور الثاقب وسليل الأطايب، جل مولده وكرُمَ محتده، والملائكة والله ناصره ومؤيده علي بن أبي طالب، باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحسبي قول ابن أبي الحديد المعتزلي:

يامن له في أرض قلبي منزلاً نِعم المكان الرحب والمتربعُ أهواك حتى في حشاشة مهجتي ناراً تشبُّ على هواك وتلذعُ وتكاد نفسي أن تذوب صبابةً خلقاً وطبعاً لا كمن يتطبعُ ومن بعد مقامه الشريف الى......

روح عمي الشيخ نجم نصر... رحمه الله تعالى الذي طالما شجعني وآزرني على المضي في تحصيل العلم والمعرفة، اسكنه الله فسيح جناته ورزقه شفاعة محمد وآله الأطهار.

والى والداي.. أطال الله في عمرهما اعترافاً بالفضل وطلباً للرضى وجزاء للإحسان.

وإلى زوجي ورفيق دربي أبا يقين رعاه الله وسدد خطاه وابنتي يقين وتهجد.

الباحثة

ص: 6

الإهداء

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤسسة الحمد لله على ما أنعم، وله الشّكر بما ألهم، والثّناء بما قدّم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، والصلاة والسلام على خیر النّعم وأفضلها محمد وآله الأخيار الأطهار.

أمّا بعد:

فإنّ من بین أهم الأولويات التي حدّدتها الشرائع الإلهية لعمل الأنبياء والمرسلين هي أولوية التنظيم الاجتماعي وأثره في بناء المجتمع.

وإنّ أبرز ما كان يواجهه الأنبياء (عليهم السلام) في تحقيق هذه البناءات الاجتماعية، هي تلك النخب الفوضوية التي لا تجد لقيامها في المجتمع وبین الناس إلا من خلال انعدام التنظيم وعموم الفوضى.

ولعلّ الرجوع إلى النص القرآني في خطابه لسيد الرسل (صلى الله عليه واله) في بيان جهد النبي من جهة، وبيان خطورة هذه النخب وتأثيرها في تغیر مسار الشريعة، وتحقيق أهدافها البنائية والإصلاحية والتنظيمية؛ ليغني اللبيب عن بقية الشواهد التي تظهر هذه الحقيقة.

قال تعالى: «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ(1)».

ص: 7


1- التوبة : 48

وإنّ أجلى مظاهر تقليب الأمور هي ضرب الأسس للتنظيم الإداري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الإسلامي في عهد النبوة وبعدها.

وما ظهور التنظيم الاجتماعي والاقتصادي وغیره من المنظومة الحياتية في الخلافة العلوية عام (36 – 40)ه إنّما لبيان أنّ الهدف في قيام الإمامة هو نفسه في قيام النبوة.

من هنا:

فإنّ الباحثة قد وُفِقت في بحثها الجامعي لنيل شهادة الدكتوراه، والموسوم ب(التنظيم الاجتماعي في فكر الإمام علي عليه السلام دراسة تحليلية في ضوء نهج البلاغة) إلى بيان أمرين مهمین:

الأول: كان في بيان تلك القواعد والأسس التنظيمية بشقيها (التشريعي - والتطبيقي) التي جرت في الخلافة العلوية ضمن الرؤية السيوسيولوجية المعاصرة.

والأمر الآخر: إنّ الحاجة الماسة إلى وجود الإمام علي (عليه السلام) على سدّة الخلافة هي حاجة لقيام الحياة الإنسانية وخروجها من نمط التوحش والغموض وبناء المجتمع ضمن تك المنظومة الإدارية للاجتاع والاقتصاد والسياسة وغیر ذلك.

ومن ثم فقيادة الأمة والخلافة هي بحاجة إلى علي عليه السلام وليس الإمام علي عليه السلام كان بحاجة إلى الخلافة.

فجزى الله الباحثة كل خير فقد بذلت جهدها وعلى الله أجرها السيد نبيل قدوري الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

يُعدّ موضوع التنظيم الاجتماعي من الموضوعات المهمة والرئيسة في علم الاجتماع لكونه يمثل حجر الزاوية الرئيس في إجراء وإحداث عمليات التغير الاجتماعي، وما يتبعها بالضرورة من بناء قواعد ومرجعيات تنظيمية اجتماعية متنوعة يرتكز عليها البناء الاجتماعي بشتى أنساقه. وهذا الأمر قد اتفق عليه معظم علماء الاجتماع والانثر وبولوجيا الذين تطرقوا لأهمية التنظيم الاجتماعي ودوره المباشر في البناءات الاجتماعية المختلفة في المجتمع.

وتأسيساً على ذلك فإن الفكر الإسلامي لا يستطيع إغفال أهمية صياغة تنظيمات اجتماعية متنوعة تدار بموجبها مؤسسات المجتمع الإسلامي، حيث كان يستوحي من القرآن الكريم والسنة النبوية قواعد ومرجعيات تلك التنظيمات التي ننظر إليها الآن وفقاً للرؤى السيولوجية تنظيراً وممارسة بوصفها تنظيمات اجتماعية إسلامية مقاربة في كثير من حيثياتها لأبرز التنظيرات السيولوجية التي عالجت موضوع التنظيم الاجتماعي Social Organization ، وبالتالي فإن اختيار الفكر الاجتماعي التنظيمي للإمام علي عليه السلام يمثل النموذج النقي Pure Ideal للتنظيمات الإسلامية بعد جهود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتنظيم المجتمع الإسلامي، وذلك لكونه يمثل المطابقة الفعلية للشريعة الإسلامية من ناحية التنظيرات والممارسات الإسلامية التي أقرها وأدارها ونظّم من خلالها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) المجتمع الإسلامي آنذاك خلال سني حكمه (خلافته).

ص: 9

ولقد حاولت الباحثة استخراج الفكر التنظيمي الإسلامي للإمام (عليه السلام) من خلال مراجعة أقواله ومآثره وحكمه ومواعظه ورسائله وخطبه، معتمدة في ذلك كله على الأطر النظرية السوسيولوجية الخاصة ب(التنظيم الاجتماعي) وذلك لإجراء عملية التفسير والتحليل لذلك الفكر التنظيمي.

علماً أن كتاب نهج البلاغة الذي ضم بين دفتيه ذلك الفكر التنظيمي الإسلامي الذي راجعته الباحثة كان بمثابة المادة الفكرية الرئيسة والوثيقة التاريخية المحورية التي تم الاعتماد عليها في دراستنا المتواضعة هذه وقد قال المفكر والفيلسوف المصري الراحل د. زكي نجيب محمود في هذا الكتاب بعد ان جال على بعض المختارات من أقوال الإمام «لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصف هذه الأقوال تحت رؤوس عامة تجمعها وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسة ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسة التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، الا وهي: الله، والعالم، والإنسان، إذن فالرجل - وإن لم يتعمدها - فيلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم ان يقيموا لفكرتهم نسقاً يحتويها على صورة مبدأ ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه»(1).

تلك الدواعي والظروف التي مثلت في بعض جوانبها الدوافع الرئيسة التي قادت الإمام ووجهته نحو اجراء عمليات التنظيم الاجتماعي المتنوعة وعلى كل المستويات، والتي حاول الإمام (عليه السلام) بموجبها إحداث عملية تغير اجتماعي واسع النطاق، لكنها في الوقت نفسه ترتكز وتسعى نحو بنى تنظيمية جديدة يستلهم من الشريعة الإسلامية منطلقاته وغاياته، على الرغم من الصعوبات والمعوقات التنظيمية التي حالت دون تحقيق عملية التنظيم الاجتماعي الأشمل الذي يسعى اليها الإمام (عليه السلام) والتي اضطرته في كثير من الأحيان إلى الاستعانة بالتنظيم العسكري لإمضاء شرعيته

ص: 10


1- د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، بيروت، 1969، ص 12

السياسية في الحكم وما يتبعها من تنظيمات وعمليات إدارية.

فضلاً عن أن هذا التنظيم العسكري كان يسعى الإمام (عليه السلام) من خلاله إلى تحقيق مشروعه التنظيمي - الإسلامي الكبير والممثل بمطابقة حال المجتمع الإسلامي وبكل ارتكازاته ونظمه وشرائحه وولاياته وأمصاره بحال المجتمع الإسلامي وتنظيماته إبان عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومما تجدر الإشارة اليه هو اننا وبتواضع جم لم ندخر وسعاً ولا جهداً إلا بذلناه في دراستنا هذه، فقد كان الطريق الذي سلكناه شاقاً وصعباً تقوم دون اجتيازه عوائق شتى أهمها طبيعة هذا الموضوع الواسع والمتفرع حتى أننا اقتصرنا في دراسة التنظيم الاجتماعي على المجال السياسي والعسكري، والاقتصادي والقضائي.

إذ إن دراستنا هذه قد ضمت ستة فصول، تضمن الفصل الأول عرضاً عاماً للدراسة عبر ثلاثة مباحث؛ تضمن الأول منها أسس الدراسة العلمية من حيث الموضوع والأهمية والاهداف والمنهجية والصعوبات التي واجهتها الدراسة، أما المبحث الثاني فتضمن تحديداً وتعريفاً لأهم المفاهيم والمصطلحات الواردة في الدراسة، اما المبحث الثالث فتضمن عرضاً عاماً لتساؤلات الدراسة، اما الفصل الثاني فضمَّ الدراسات السابقة التي أفادت منها الدراسة. في حين تضمن الفصل الثالث التنظيم السياسي في فكر الإمام علي (عليه السلام) مع رؤية تحليلية لمسألتي السلطة والقيادة.

وأما الفصل الرابع فتحدث عن التنظيم الاقتصادي في فكر الإمام (عليه السلام) عبر الموازنة بين الاحتياجات والموارد داخل المجتمع وعبر تقسيم العمل والسلوك التنظيمي في التنظيم الاقتصادي. اما الفصل الخامس فتضمن التنظيم القضائي في فكر الإمام (عليه السلام) وقسم على مبحثين، ضم المبحث الاول قواعد التنظيم القضائي لدى الإمام علي (عليه السلام) وضمَّ المبحث الثاني الممارسة القضائية التنظيمية وعملية

ص: 11

الضبط الاجتماعي لدى الإمام علي (عليه السلام).

اما الفصل السادس والاخير فقد تمت فيه الإجابة عن التساؤلات التي تم وضعها في مستهل الدراسة وبشيء من التفصيل، فضلاً عن ان هذا الفصل ضم أهم النتائج التي خرجت بها الدراسة. وحسبنا القول هنا أن تفسير وتحليل فكر الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) بما حواه من العبقرية والدقة العالية كان من الصعوبة بمكان الإلمام به والإحاطة التامة والشاملة والمتكاملة له واعتذارنا عن ذلك وعزاؤنا في الوقت نفسه قيام دراسات وبحوث لاحقة تدرك ما فاتنا أو أجهدنا تحصيله.

وختاماً نود القول إن فكر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فكرٌ تزدحم فيه التفاصيل والوقائع والأحداث ازدحاماً لا يؤذن بانتهاء حتى أني خشيت أن أزيغ عن نهجي في زحمة تلك الوقائع والأحداث التي تملأ كل مكان وزمان، لكني لم أكد أمضي في طريقي جاهدة حتى صادفني يسرٌ عجيب وتوفيق إلهي جعلني أهتف من أعماق نفسي شاكرة الله تعالى قائلة: السلام عليك يا علي بن أبي طالب يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً والسلام على فكرك المتجدد.

ص: 12

الفَصْلُ الأَوّل الإطار العام للدراسة

اشارة

ص: 13

ص: 14

تمهيد

يتضمن هذا الفصل عرضاً لأهم الخطوات العملية التي ستبنى عليها الدراسة، إذ يضمّ هذا الفصل ثلاثة مباحث، يتناول المبحث الأول الأسس العلمية للدراسة من حيث موضوع الدراسة وأهميتها وأهدافها ومنهجيتها فضلاً عن الصعوبات التي واجهتها الدراسة. أما المبحث الثاني فتناول أهم المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة بموضوع الدراسة، ويتضمن المبحث الثالث طرحاً لأهم التساؤلات الخاصة بموضوع الدراسة ،التي ستحاول الباحثة الإجابة عنها عبر البحث عن أبرز المضامين والطروحات الفكرية التي جاء بها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بخصوص التنظيم الاجتماعي الإسلامي الذي أرساه وأسسه أبان فترة خلافتهِ.

ص: 15

ص: 16

المبحث الأول: الأسس العلمية للدراسة

أولاً - موضوع الدراسة:

إن موضوع الدراسة يحاول معرفة طبيعة وآليات عملية التنظيم الاجتماعي في الإسلام، وذلك من خلال الاستناد الى طروحات الإمام علي (عليه السلام) الفكرية بوصفه صاحب الفكر الإسلامي المرتكز والمنبثق عن مضامين الشريعة الإسلامية (القرآن الكريم والسنة النبوية)، فضلاً عن كونه الفكر المعبر عن المنظومة الدينية والاجتماعية والعقلية بالوقت نفسه.

وقد تجلى ذلك الفكر الإسلامي التنظيمي للإمام علي (عليه السلام) عبر تجربته القيادية السياسية حينما تولى الخلافة، حيث تتضح خلال سني حكمه «خصوصاً» الملامح والقواعد التنظيمية التي باشر الإمام (عليه السلام) بتطبيقها وترسيخها في المجتمع الإسلامي آنذاك.

تلك القواعد والأسس التنظيمية بشقيها (التشريعي - والتطبيقي) ستكون مجال عمل الباحثة، إذ سنحاول الوقوف على أبرز القطاعات التنظيمية التي انشغل واشتغل

ص: 17

عليها الإمام في الوقت نفسه، وذلك من خلال البحث والاستقصاء التاريخي لأهم التنظيمات الإدارية التي عالجها الإمام (عليه السلام) وعالج من خلالها مؤسسات الدولة وقطاعاتها، فضلاً عن محاولته الدائمة تأمين الصلة بين الدولة والمجتمع عبر القنوات التنظيمية التي عدَّها الإمام (عليه السلام) بمثابة حجر الزاوية التنظيمي لاسيما مسألتي: الصلة بين «الاداري» و «الرعية» ووجوب التزام الطرفين بقواعد تنظيمية / إسلامية تحكم التواصل - والتبادل الاجتماعي بينها، والمسألة الاخرى العدالة القانونية والسياسية التي تقع على عاتق «الحاكم والإداريين» التي لها انعكاساتها على المجتمع من خلال تحقيق بُعد العدالة.

وقد تضمن موضوع الدراسة محاولة الباحثة المتواضعة الكشف والاستقصاء عن اهم وابرز الأسس والقواعد التنظيمية الاجتماعية «السوسيولوجية» التي يمكن أن تجد لها شواهد وممارسات واشتغالات تنظيمية في الفكر الإسلامي / التنظيمي للإمام (عليه السلام).

ثانياً - أهمية الدراسة:

تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها تتناول موضوعاً لم يكن محط اهتمام كافٍ أو تحليل وافٍ من الباحثين الاجتماعيين، إذ لم يتطرق الباحثون الاجتماعيون على نحو شامل أو برؤية متكاملة لموضوع الدراسة الخاص بالتنظيم الاجتماعي في الفكر الإسلامي للإمام علي (عليه السلام)، انما تناولوا بعض المسائل السياسية التاريخية لاسيما صلتها بالفكر الإسلامي للإمام (عليه السلام).

ولذلك يمكن تحديد أهمية الدراسة في أنها محاولة متواضعة لسد فراغ تعاني منه الدراسات الاجتماعية ومحاولة لإماطة اللثام عن التفسيرات والتحليلات الاجتماعية عن طبيعة التنظيم الاجتماعي وأبعاده في الفكر الإسلامي العام للإمام علي (عليه السلام).

ص: 18

ويمكن أن نوجز أهمية الدراسة بالنقاط الآتية: - 1. تتجلى أهمية الدراسة في محاولتها الوقوف على الجذور التاريخية الإسلامية للتنظيمات الاجتماعية - والإدارية التي أنشئت وصيغت في ظل الشريعة الإسلامية «القرآن الكريم والسنة النبوية».

2. تحاول الدراسة البحث في محتويات التنظيم الاجتماعي الإسلامي ومعطياته من خلال الوقوف على التنظيمات السياسية والعسكرية والاقتصادية والقضائية التي عالجها الفكر الإسلامي - التنظيمي للإمام (عليه السلام).

3. تتضح أهمية الدراسة عبر المعالجات والتحليلات السوسيولوجية لأبرز التنظيمات الإدارية التي مارسها الإمام (عليه السلام) خلال سني حكمه «زمن خلافته»، تلك المعالجات التي توخت المقاربة بين كل قاعدة تنظيمية جاء بها الإمام (عليه السلام) وبين التفسيرات السوسيولوجية التي نجد أنها تقترب منها وتشتمل عليها.

4. تمثل هذه الدراسة محاولة جديدة في تحليل النصوص التاريخية لاسيما تحليل «أقوال ومآثر وحكم ومواعظ ورسائل وخطب» الإمام علي (عليه السلام) بطريقة سوسيولوجية توخت فيها الباحثة تحليل المعنى اللغوي والوقوف على السياق التاريخي والاجتماعي الذي قيلت فيه والدلالة الفكرية / التنظيمية التي تضمنته «بعض تلك النصوص».

5. تتبين أهمية هذه الدراسة في أنها عالجت أخطر مرحلة تاريخية في تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي والديني خصوصاً، لأنه عصر ومرحلة الصراعات والصدامات بين المسلمين أنفسهم واتجاهاتهم ومشاربهم السياسية وحتى العقائدية المتباينة ومصالحهم المتضاربة، وبالتالي كانت التنظيمات التي جاء بها الإمام تتطلب تنظيماً عسكرياً لفرض الشرعية بآلية القوة بعد أن استنفد الإمام (عليه السلام) كل الوسائل

ص: 19

السلمية، فما كان أمامه إلا استخدام التنظيم العسكري المستمد من التشريع القرآني «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(1).

ثالثاً - أهداف الدراسة:

تتضمن أهداف الدراسة الآتي: - 1. تهدف الدراسة الى الكشف والاستقصاء عن الشكل التنظيمي للدولة الإسلامية أبان خلافة الإمام (عليه السلام) والتعرف على أبرز الجوانب التنظيمية والإدارية التي صاغها الإمام.

2. تهدف الدراسة الى تتبع وتحليل انواع التنظيمات الاجتماعية والإدارية التي استتبت لتنظيم وادارة المجتمع من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والقضائية خلال حكم الإمام (عليه السلام) لأجل استيعابها وفهمها.

3. تهدف الدراسة الى تقديم إضافة جديدة في علم الاجتماع الديني / الإسلامي من خلال الارتكاز على ما جاء في تراثنا العربي الإسلامي العريق الذي يتوجب علينا دراسته من الناحية الاجتماعية «السوسيولوجية».

4. تهدف الدراسة كذلك إلى الإجابة عن التساؤلات التي سيتم طرحها ودراستهاوتحليلها اجتماعياً لمحاولة جعل الدراسة متصفة بالعلمية بالشكل المناسب قدر المستطاع.

ص: 20


1- الحجرات: 9

رابعاً - منهجية الدراسة:

لابُدّ لاي دراسة علمية أن تعتمد على منهج يحدد آليات عملها ويسهم في توجيهها، فالمنهج هو الطريق الموصل إلى كشف أبعاد موضوع الدراسة، كما أنه يساعد الباحث على كشف واقعة او مشكلة او ظاهرة اجتماعية ما. فالمنهج اداة لكشف الحقائق وتحديد مضامين وابعاد الدراسة ومن ثم ادراج نتائجها. ونظراً لطبيعة موضوع دراستنا استخدمت الباحثة المناهج الآتية: - 1 - المنهج الوصفي التحليلي: - «يستهدف المنهج الوصفي تقرير خصائص ظاهرة معينة او موقف تغلب عليه صفة التحديد»، ويعتمد على جمع الحقائق وتحليلها وتفسيرها لاستخلاص دلالاتها وصولاً الى إصدار تعميمات بشأن الموقف أو الظاهرة التي يقوم الباحث بدراستها(1). یتضمن هذا المنهج قيام الباحث بتطوير وصف الظاهرة وكثيراً ما يتضمن الوصف تفسيراً للظاهرة أو اختباراً لصحة الفروض(2). وفي هذا المضمار يصنف هويتني «Whitney» البحوث الوصفية الى خمسة انماط او فئات ولا يخضع هذا التصنيف لقواعد المنطق وإنما يخضع للعوامل المؤثرة في البحث كالمجال المكاني والمجال الزماني وادوات جمع البيانات(3).

ويُعدّ البحث المكتبي أو الوثائقي Library and Documenteryres الأقرب الى موضوع دراستنا، الذي يمكن اعتماده ضمن الأنماط او الفئات الأخرى الخاصة بالمنهج الوصفي(4). وينتشر هذا اللون في الدراسات التاريخية حتى أنه اشتهر بين الكثيرين

ص: 21


1- د. عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، مكتبة وهبة، مصر، ط 14، 1977، ص 188
2- د. مصطفى عمر التیر، مقدمة في مبادىء وأسس البحث الاجتماعي، دار الجماهیر للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، ط 2، 1986، ص 59
3- د. عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، مصدر سابق، ص 188
4- علماً أن هذه الفئات الأخرى هي: البحث الوصفي، الوصف على المدى الطويل، بحث دراسة الحالة، تحليل العمل والنشاط، راجع د.عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، مصدر سابق، ص 204 - 205

بالمنهج التاريخي، ولكنه كأسلوب متميز يمكن تطبيقه في مجالات علمية كثيرة... ويتميز هذا التصميم في الدراسات الاجتماعية بكونه يتم في مكتبة ويستخدم الباحث بال ؉ضافة الى التقارير الرسمية الاحصائيات والوثائق والكتابات الشخصية كالرسائل والمذكرات الخاصة وتواريخ الحياة(1).

علماً ان الباحثة لديها وثيقة تاريخية مهمة ألا وهي «نهج البلاغة» التي ستتناولها بالتفصيل ضمن سياقات المنهج التاريخي الذي اعتمدت عليه، على الرغم من أن كلا المنهجين قد اعتمدا على مسألة «الوثيقة التاريخية» بوصفها مصدراً للمعلومات يبنى عليها التحليل الوصفي والتفسير التاريخي.

2 - المنهج التاريخي:

من خلال هذا المنهج يستطيع الباحث أن يتعامل مع ما هو ضمني وخفي ومهم في التاريخ الإنساني، فالبحث التاريخي يستهدف التوصل الى تفسير بعض الملامح المميزة للماضي(2). وإن استخدام هذا المنهج في البحوث والدراسات الاجتماعية إنما يقصد به الوصول إلى المبادئ والقوانين العامة عن طريق البحث في احداث التاريخ وتحليل الحقائق المتعلقة بالمشكلات والقضايا والظواهر الاجتماعية لاستجلاء الغموض في هذه الأمور من خلال الوقوف على جذورها وأساسياتها. لذلك فلابد للباحث من الرجوع الى الماضي لتعقب الظواهر منذ نشأتها والوقوف على عوامل تغيرها من حال

ص: 22


1- د. مصطفى عمر التير، مقدمة في مبادئ وأسس البحث الاجتماعي، مصدر سابق، ص 59 - 60
2- د. علي عبد الرزاق وآخرون، تصميم البحث الاجتماعي بن الاستراتيجية والتنفيذ، دار المعرفة

إلى آخر(1). وقد كان المصدر التاريخي الرئيس الذي استخدمته الباحثة ضمن سياقات اعتمادها على «المنهج التاريخي» هو الوثيقة التاريخية الأساسية التي ضمّت «أقوال ومآثر وحكم ومواعظ ورسائل وخطب» الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والمسماة ب «نهج البلاغة» وقبل الحديث عن هذه الوثيقة لابد لنا أولاً من تحديد التعريف العام للوثيقة كما تعارف عليه المؤرخون، إذ يقولون: أن الوثيقة هي الأصل الذي يبرهن على وقوع الحدث، فقد تكون مكتوبة أو آثاراً أو مسكوكات او غيرها، والوثيقة هي المرجع الأصلي للحدث التاريخي(2). والوثيقة كذلك هي مادة أساسية في ارجاع الحقائق الى مصادرها الرئيسة، وتقابل لفظ «Document» باللغة الانجليزية، وتعني بالنسبة للمؤرخ المرجع الذي يعتمد عليه في تدوين كتاباته التاريخية، والسند الذي استند إليه في نقل المعلومة أو الخبر(3).

أما بالنسبة للباحث السوسيولوجي فنعتقد أن الوثيقة التاريخية تعني بالنسبة له «المادة الفكرية» التي يُعمد الى وضعها في وعاءٍ سوسيولوجي، كما تتضح طبيعتها ومراميها المجتمعية التي تتوخاها على اعتبار أنها «وأياً كان موضوعها وعمرها» إنما تتحدث عن وقائع وحوادث وأنماط وأشكال «في الحياة الإنسانية» إما بالوصف أو التحليل أو الترميز «أي ترمز إلى شيء ما» كالمنحوتات والمسكوكات وغيرهما.

وتأسيساً على ذلك كله، فإن ما نتوخاه من تعريجنا على ذكر الوثيقة التي اعتمدناها «نهج البلاغة»، إنما للإجابة عن سؤال رئيسي وأساسي تبنى عليه دراستنا هذه، والذي نعتمد في صياغته على ما طرحه الدكتور عبد المالك خلف التميمي في مناقشته لموضوع

ص: 23


1- د. عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، مصدر سابق، ص 109
2- د. عبد المالك خلف التميمي، الشك في الوثائق الرسمية، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 36، العدد 3، يناير، 2008، ص 27
3- المصدر السابق نفسه، ص 28

«الشك في الوثائق الرسمية»، إذ يقول: هل الوثيقة مقدسة؟ بمعنى هل ينبغي أن نُسلِّم بمحتواها على أنها نقلت لنا الحقيقة لكونها وثيقة تاريخية؟ ثم يرى انه لا يعتد بالوثيقة أو تقدس إلا بعد أن تُفحص علمياً لتتأكد هويتها وأصالتها وصدقها، وينبغي الحذر الدائم إزاء الوثيقة مهما كثرت الفحوص ونتائجها، كما ينبغي الميل الى الشك فيها حتى يتم التأكد من صحة ما جاء بها(1).

وقبل الحديث عن صحة الوثيقة الأساسية التي اعتمدتها دراستنا، لابُدَّ من الإشارة الى أن الشريف الرضي هو الذي تولى عملية جمع وترتيب كل ما قاله الإمام علي (عليه السلام)، وأنهاها عام 400 ه ولجزالة وبلاغة وبراعة ما قاله الإمام علي (عليه السلام) أطلق عليها الرضي تسمية «نهج البلاغة» ولقد جمع الباحث الدكتور احمد الربيعي مصادر الشريف الرضي التي استسقى منها كل ما قاله الإمام (عليه السلام)، فاستخرجها وترجم أعلامها وفهرسها وسماها: «صوادح المرج بمصادر النهج»(2).

ولقد قام الدكتور الربيعي بعمل مماثل آخر وهو استخراج مصادر الشيخ العلامة ابن ابي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة أسماه: «العُذيق النضيد بمصادر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة»(3).

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع أنه قد تمت مناقشة صحة هذه الوثيقة التاريخية «نهج البلاغة» وصحة نسبها وما قيل فيها للإمام علي (عليه السلام) من الشيخ محمد حسن آل ياسين، داحضاً مختلف الآراء والشبهات التي تحاول نقض مصداقية عودة تلك الوثيقة إلى الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) ونسبتها إليه من خلال الرد على عشر

ص: 24


1- د. عبد المالك التميمي، الشك في الوثائق الرسمية، مصدر سابق، ص 27
2- د. أحمد الربيعي، العُذيق النضيد بمصادر ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة، مطبعة العاني، بغداد، 1987، المقدمة، ص 6
3- ينظر: المصدر السابق نفسه

شُبهات أحصاها «آل یاسین»(1).

خامساً - صعوبات الدراسة:

اكتنفت هذه الدراسة صعوبات عدة نذكرها على النحو الآتي: - 1. إن عملية التعامل مع فكر الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) كانت صعبة للغاية لاسيما في موضوع دراستنا هذه، إذ كان واجباً على الباحثة البحث والاستقصاء في «أقوال ومآثر وحكم ومواعظ ورسائل وخطب» الإمام (عليه السلام) عن أية شاردة او واردة تقترب معانيها ودلالاتها من التنظيم الاجتماعي، وكان هذا الامر شاقاً للغاية وذلك لصعوبة لغة الإمام (عليه السلام) حيناً، وتضميناتها الدينية الكثيرة حيناً آخر، فضلاً عن عدم وجود أعمال او كتابات مفهرسة «لنهج البلاغة» الذي كان بالنسبة لنا المصدر الرئيس في استقصاء المضامين التنظيمية التي احتوى عليها الفكر الإسلامي للإمام ولاسيما ما ورد فيه من عهد الإمام (عليه السلام) لواليه على مصر والذي يمثل أهم واكثر النصوص التي استندنا اليها والتي فيها معان تنظيمية كثيرة.

2. الصعوبة الأخرى هي كيفية التحليل والتفسير الاجتماعي / السوسيولوجي لطروحات الإمام (عليه السلام) التنظيمية، وما الرؤى أو التفسيرات السوسيولوجية الملائمة لذلك، وبالتالي حاولت الباحثة بعد الكتابة حيناً والتعديل والتهذيب حيناً آخر إيجاد الأطر التحليلية المناسبة والمداخل السوسيولوجية / التنظيمية الملائمة لذلك ولعلها حاولت ذلك جاهدةً، ولا تجزم بأن تحليلاتها او تفسيراتها السوسيولوجية تلك هي القول الفصل أو نهاية القول.

ص: 25


1- في تفاصيل تلك الشبهات والرد عليها أي دحضها، ينظر: الشيخ محمد حسن آل ياسن، نهج البلاغة لمن، مطبعة المعارف، بغداد، ط 3، 1976، ص 7 - 21

3. ومن الصعوبات التي واجهت الباحثة هي وجود الكم الهائل من الكتب والمراجع التاريخية والدينية التي تناولت شخصية الإمام علي (عليه السلام) مع الافتقار الشديد للكتب والمصادر السوسيولوجية التي حللت عصر الخلفاء عموماً وعصر الإمام علي (عليه السلام) خصوصاً، وبالتالي لم يكن أمامنا من خيار سوى الاستناد إلى بعض الكتب التاريخية والدينية لأجل استجلاء وكشف الغموض عن ابرز وأهم طروحات الإمام (عليه السلام) التنظيمية في المجال الاجتماعي.

4. لقد كان العصر التاريخي الذي حاولت الباحثة دراستهُ عصراً وعهداً معقداً جداً، إذ يثير الكثير من التساؤلات والاستفهامات والتحفظات عن كثير من القضايا الخطيرة التي كانت تدور قبل وفي زمن خلافة الإمام (عليه السلام) وبالتالي حاولت الباحثة الارتكاز على البعد الموضوعي قدر المستطاع في دراستنا السوسيولوجية لأجل تحليل بعض المواضيع السياسية والثقافية والدينية خصوصاً، التي أسهمت وأثرت في انبثاق التنظيمات الاجتماعية التي شرعها ومارسها الإمام (عليه السلام) مع التركيز الدائم على الشواهد والمعطيات التاريخية التي تدعم وتوثق أية معالجة سوسيولوجية وتاريخية لتلك المواضيع المذكورة آنفاً.

ص: 26

المبحث الثاني: مفاهيم الدراسة واصطلاحاتها

أولاً - التنظيم الاجتماعي Social Organization التنظيم لغةً: مأخوذ من الفعل نظم، نظمهُ، ينظمهُ نظاماً ونظماً، ونظمه فانتظم، ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك والتنظيم مثله، وتناظمت الصخور تلاصقت(1).وهذا المعنى يشير الى التنسيق والتجميع والترتيب للأشياء.

والتنظيم كما يراه سلز Sills، مفهوم واسع يظهر عندما يتأسس نهج واضح يجري من خلاله تنسيق الفعاليات الاجتماعية في جماعة معينة لغرض انجاز أهدافها(2). أما عالم الانثر وبولوجيا مالينوفسكي Malinovisky فيعرفه بأنه الطريقة التي ينظم بها أفراد المجتمع وزمره أنفسهم والبيئة المادية المحيطة بهم، في سبيل إشباع حاجاتهم النفسية والحيوية والاجتماعية(3).

ص: 27


1- ابن منظور، معجم لسان العرب، م 13، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، ط 3، 1956، ص 875
2- Sills, D.L.,International Encyclopedia of Social Sciences , Volume.11 , Crowell Macmillan , ing , London , 1968 , p.297
3- د. عبد الهادي الجوهري، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979، ص 430

والتنظيم الاجتماعي نمط مستقر من العلاقات الاجتماعية والأنشطة المختلفة داخل مجتمع او جماعة ويقوم على تساند الأدوار والمعايير والمفاهيم المشتركة التي تستهدف تنظيم الحياة الاجتماعية وتحقيق غايات المجتمع(1). كما يعرف أيضاً بأنه عملية دينامية تأخذ في اعتبارها سلوك الأفراد وضروب التفاعل بينهم من جهة والظواهر الثقافية كافة كالقيم والمعايير والتكنولوجيا التي تضفي معنى على الحياة الإنسانية من جهة أخرى(2). ويشير التنظيم كذلك إلى الأساليب التي تضمن انتظام السلوك بالشكل الذي يمكن ملاحظته وهو انتظام يتوقف على الظروف الاجتماعية التي يعيش في ظلها الأفراد. اما عناصر التنظيم وفق هذا المعنى فتشير الى توافر علاقات اجتماعية بين عدد كبير من الأفراد وتوافر معتقدات مشتركة توحد بينهم وتوجه سلوكهم(3).

ويرى (اتزيوني) أن التنظيم الاجتماعي لديه أهداف محددة وواضحة ترسم أبعاد نشاطاته وتنظم الغايات التي يصبو الى تحقيقها أفراد المجتمع(4).

وبشكل عام فإن للتنظيم في علم الاجتماع دلالتين، الأولى هي العمليات الاجتماعيةالتي يتمكن بفضلها المجتمع من تحديد حاجاته وأهدافه بحسب أولوياتها، والدلالة الثانية وموادها ذلك البناء العام الذي يحدد الهياكل الأساسية التي تقوم في المجتمع مرتكزاً على فلسفة الاستقرار الاجتماعي، ولذلك يعتبر التنظيم روح المجتمع ومحور تقدمه وثقافته(5).

ص: 28


1- د. معن خليل عمر، نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، دار الافاق الجديدة، بيروت، 1982، ص 132
2- د. محمد علي محمد، علم اجتماع التنظيم، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1986، ص 13
3- د. السيد محمد الحسيني، النظرية الاجتماعية ودراسة التنظيم، ط 1، دار المعارف بمصر، 1975، ص 9
4- Amiti uetzioni , Modern Organization , Prentice - Hall , Enyle wood Cliffs, New Jersey , 1964 , p.3
5- نخبة من الاساتذة المصرين والعرب، معجم العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص 575

ونجد من الضروري هنا الإشارة إلى أن علماء الاجتماع أنفسهم قاموا بتقديم تعاريف مختلفة قد تصل الى درجة التباين لعملية التنظيم الاجتماعي ذلك أن هناك بعض العلماء من فرّق بين التنظيم الاجتماعي بوصفه عملية process وبينه بوصفه كياناً او بناءًEntity (1). وبالتالي فإن للتنظيم الاجتماعي معنيين رئيسين بنظر علماء الاجتماع.

ومن أبرز علماء الاجتماع الذين قاموا بعملية التفريق تلك هو (مارفن اولسن) Marvin E. Olsen الذي قال: أحياناً ما يلتبس على دارس العلوم الاجتماعية الحقيقة التي تقول بأن مصطلح «التنظيم الاجتماعي » نفسه يستخدم ليشير الى كلٍ من العمليات التي بواسطتها تصبح العلاقات الاجتماعية منظمة، وأيضاً نتائج هذه العملية، ولكي نعطي امثلة للمنظمات الاجتماعية سنجد أمامنا الكثير من الكيانات التنظيمية مثل المسجد والكنيسة والمدرسة والمصنع والمتجر والحزب السياسي(2).

ولعل مرد او مرجع الخلط بين التنظيم الاجتماعي والمنظمات الاجتماعية هو ان ترجمة كلمة Organization إلى العربية تعني «منظمة» او «تنظيم» ولهذا يستخدم هذا المصطلح للدلالة على المنظمة والتنظيم الاجتماعي بمعناه الضيق(3).

ووفقاً للطرح المذكورة انفاً تتوضح أمامنا الحدود الفاصلة بين التنظيم الاجتماعي والمنظمات الاجتماعية وعلى هذا الأساس يتسع مفهوم التنظيم في علم الاجتماع ليشمل مستويات مختلفة فضلاً عن اتصافه بالطابع البنائي والدينامي، الأمر الذي يجعل له كيانه المميز الذي يفصله عن مجموعة كبيرة من المصطلحات وثيقة الصلة به مثل البير وقراطية

ص: 29


1- صبيح علي عبد الحسین، دور التنظيم الاجتماعي في بناء المجتمع / دراسة ميدانية في مدينة بغداد، اطروحة دكتوراه (غیر منشورة)، جامعة بغداد، كلية الآداب، قسم الاجتماع، 1996، ص 10
2- د. عبد الحليم رضا عبد العال وآخرون، تنظيم المجتمع / نظريات وقضايا، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1986، ص 41 - 42
3- المصدر السابق نفسه، ص 42

والنسق والمنظمة والمؤسسة(1).

واتساقاً مع موضوع دراستنا ستعتمد الباحثة على المعنى الخاص بالتنظيم الاجتماعي بوصفه عملية اجتماعية تعمد إلى التغير الاجتماعي عبر آليات تنظيمية عدة وذلك لأن هذا المعنى يمثل رؤية او قاعدة تفسيرية تستطيع الباحثة الاستناد إليها في تحليل الفكر الاجتماعي - التنظيمي للإمام علي (عليه السلام).

أما تعريف التنظيم من وجهة النظر الإسلامية فيشير الى مجموعة المناهج التي رسمها الإسلام لسلوك المسلم وسلوك الجماعة ليستقيم امر المجتمع(2). وهو يمتد ليستوعب الأنشطة الإنسانية كافة ولا يمكن أن يفهم التنظيم الإسلامي للمجتمع بمعزل عن الأدوار والمراكز الاجتماعية لكل ترتيب اجتماعي(3). وقد تبلور نوعان من التنظيم في الإسلام: النوع الأول تنظيم عقائدي - عباداتي، والثاني تنظيم تشريعي - معاملاتي، الأول يتعلق بجوانب المعتقدات والعبادات التي تنتظم من خلالها علاقة الفرد بربه وما يعتقده مباشرة، بينما يشير الآخر إلى تنظيم شؤون الناس أنفسهم(4).

أما تعريفنا الإجرائي للتنظيم الاجتماعي فهو العملية الاجتماعية التي استطاع الإمام علي (عليه السلام) بموجبها اجراء عمليات التغيير الاجتماعي واعادة بناء وتشكيل المجتمع بكل مؤسساته وتنظيماته الإدارية «السياسية، الاقتصادية، القضائية، العسكرية» وبما يتلائم مع القواعد والمرجعيات الإسلامية للتنظيم الممثلة بالقرآن الكريم

ص: 30


1- د. علي عبد الرزاق جلبي، علم اجتماع التنظيم النظرية والتطبيق، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1997، ص 10
2- د. محمد عبد الله العربي، نظام الحكم في الإسلام، دار الفكر، الخرطوم، 1968، ص 21
3- عقيل نوري محمد، أثر القرآن في الفعل الاجتماعي، رسالة ماجستير غر منشورة، جامعة بغداد، كلية الآداب، قسم الاجتماع، 1994، ص 103
4- د. حمود العودي، سوسيولوجيا العلاقة بین النص الشرعي والنص الوضعي في التاريخ والتراث العربي الإسلامي، مجلة دراسات يمنية، العدد 54، 1997، ص 140

والسنة النبوية واجتهادات الإمام (عليه السلام) في ذلك.

ثانياً - الإدارة Management:

يذهب كثير من الباحثين الى أن هناك علاقة وثيقة بين مفهوم التنظيم الاجتماعي والإدارة، بل يذهب بعضهم إلى أن الإدارة ضرب او نوع من التنظيم الاجتماعي(1). في حين يذهب د. قيس النوري الى الاعتقاد بأن التنظيم سبق في ظهوره العلوم الإدارية بعشرات السنين حينما كانت الجماعات الإنسانية تنظم حياتها وفقاً لتقاليدها ومعرفتها البدائية البسيطة(2).

والإدارة تعرّف بأنها «تنظيم وتوجيه ومتابعة مجموعة من الأفراد لتحقيق أهداف معينة»(3). وتعرف كذلك بأنها النشاط الإنساني المرتب والمستمر والذي يضطلع به أفراد ممن لهم قدرات ومهارات وخبرات متنوعة تمكنهم من تحقيق أهدافهم(4). وتتضح العلاقة بين التنظيم والإدارة في امتلاكهما أساليب وسبلاً لتحقيق أهداف اجتماعية عبر تنسيق وترتيب الفعاليات والسلوك الإنساني وبذلك نجد ان موضوع التنظيم أصبح أكثر التصاقاً بالعلوم الإدارية إلا أن العلوم الاجتماعية والسلوكية تبدي اهتماماً متزايداً ببحثه وتحليل مختلف جوانبه وانعكاساته على الحياة المعاصرة(5).

ص: 31


1- د. متعب مناف جاسم، التنظيم الاجتماعي ثقافة التنظيم وتطبيقات البير وقراطية، محاضرات ألقيت على طلبة الدكتوراه، قسم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2004 - 2005
2- د. قيس النوري، التنظيم الاجتماعي والمنظمات رؤى نظرية وسلوكية، جامعة بغداد، 2004، ص 164
3- د. فرج عبد القادر طه، علم النفس الصناعي والتنظيمي، دار المعارف، القاهرة، ط 7، 1992، ص 258
4- د. محمد علي شهيب، السلوك الإنساني في التنظيم، دراسات في الفكر الإداري الحديث، دار الكتاب العربي، بیروت، ط 3، 1978، ص 16
5- د. قيس النوري، المصدر السابق نفسه، ص 1

وبالتالي يتضح لنا بأن مفهوم الإدارة بوصفه أسلوباً أو نشاطاً إنسانياً يستهدف تنسيق وتنظيم الفعاليات والعلاقات وصولاً إلى تحقيق وإشباع الحاجات الاجتماعية يقترب من عملية التنظيم الاجتماعي نفسها بغض النظر عن استخدام مفهوم (الإدارة) وتوظيفه في المجال الاقتصادي والسياسي وفي مجال علم الإدارة بشكل عام(1).

كما تتضح العلاقة بين التنظيم كعملية اجتماعية والإدارة في ما ذهب اليه كل من «هانز وفورد» في تمييز هما بين مدخلين أساسيين للتنظيم: - المدخل الذي يتناول التنظيم من حيث كونه نشاطاً إداريا، ومن حيث كونه بناءً يقيم الرابطة بين أعضائه لإنجاز الأعمال الموكلة إليهم(2).

ومن ناحية أخرى فإن عملية الإدارة تسهم في تغير بعض معايير المجتمع وذلك تبعاً للقدرات الفعلية والإنجازية للأفراد القائمين عليها بما يخدم عملية التنظيم الاجتماعي(3).

وكذلك فإن الشخص القائم بالعملية الإدارية يكون أكثر معرفة وإدراكاً لا هداف المجتمع وحاجاته، كما انه من الطبيعي ان تكون لديه القدرة على السيطرة على الأفراد وبإمكانه التأثير عليهم(4).

وتنبغي الإشارة الى أن إدارة المجتمع بالمفهوم السوسيولوجي تعني وضع

ص: 32


1- عصمة محمد جاسم، الاصلاح الزراعي وأثره على التنظيم الاجتماعي في الريف، دراسة ميدانية لقرية الانتصار، رسالة ماجستير (غیر منشورة)، جامعة بغداد، كلية الاداب، قسم الاجتماع، 1982، ص 46
2- د. السيد علي شتا، التنظيم الاجتماعي وظاهرة الاغتراب، دار الإصلاح للطباعة والنشر، السعودية، 1984، ص 13
3- Dales Beach, Management People At Work , Eng , 1979 , P.13
4- Dales Beach , Op.Cit , p.33

السياسات والخطط والبرامج التي تهدف إلى إشباع حاجات اجتماعية ومتطلبات أفراد المجتمع وفق إدارة هادفة على أسس تعالج قضايا المجتمع وتحل مشكلاته الاجتماعية على أسس علمية وعملية تأخذ في اعتبارها كفاءة وفاعلية العمليات الإدارية من تنظيم وتخطيط وتنفيذ(1).

أما مفهوم الإدارة الإسلامية للمجتمع الإسلامي فإنه وجد في فترة إنشاء الدولة الإسلامية نفسها، فالإدارة العامة في الإسلام قائمة على أساس الكفاءة وفق أحكام الشريعة الإسلامية.

والتراث العربي الإسلامي زاخر بالمفاهيم والنماذج التي تبين بجلاء أصالة التجربة الإدارية ومدى فاعليتها من حيث تفاعلها مع العوامل البيئية المحيطة وظروف المجتمعات المختلفة(2).

ثالثاً - السلطة Authority:

وهي نوع من أنواع القوة تنظم جهود وواجبات الآخرين من خلال الأوامر التي تصدرها لهم، إذ تعد فعّالة لكونها صادرة عن أشخاص شرعيين حسب اعتقاد الأشخاص الخاضعين لمشيئتها(3).

ص: 33


1- محمد محمد شمس الشهاوي، تقويم الأداء الإداري اجتماعياً، دراسة ميدانية لمدينة بئر العبد بشمال سيناء بجمهورية مصر العربية، رسالة ماجستير غر منشورة، جامعة بغداد، كلية الاداب، قسم الاجتماع، 1993، ص 32
2- د. حسین الدوري و د. عاصم الاعرجي، مبادئ الإدارة العامة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الجامعة المستنصرية، د.ت، ص 37
3- دينكن ميشيل، معجم علم الاجتماع، ترجمة: د. احسان محمد الحسن، دار الرشيد للطباعة، بغداد، ط 1، 1982، ص 36

والسلطة عموماً تمتلك نوعين من القوة التي تمضي من خلالها مشيئتها السياسية (السلطوية) قوة على أساس الشرعية المقنعة جماهيرياً، والقوة على أساس القهر والإجبار كما في الأنظمة الشمولية والديكتاتورية(1).

إذ أن السلطة الشرعية هي السلطة القادرة على جعل قراراتها مقبولة لكونها قائمة على أساس صحيح، وانها بتعابير النشاط المتبادل والسلوك سلطة تكون توجيهاتها محلاً للإذعان او على الأقل موافقاً عليها، من قبل هؤلاء الذين توجه اليهم هذا الخضوع او ذاك القبول الحماسي فيسهمان في جعل السلطة التزاماً خلقياً وقانونياً يربط الخاضع بالمسيطر او بمن يملك السلطة(2).

هذا وتظهر العلاقات السلطوية عندما يكون ثمة مجال لتنسيق الفعاليات المتنوعة والمختلفة بالقوة، مثال ذلك نموذج تقسيم العمل لأداء مهمة مشتركة يفترض التخصص في المهام التي يندرج كل منها في موضعه المحدد له داخل سلسلة الوسائل اللازمة لتحقيق الهدف الجماعي(3).

بعبارة أخرى إن المجال السلطوي إنما يستند إلى مجموعة من الضوابط والمرجعيات القانونية التي لها قوة إمضاء وشرعية تحدد المسؤوليات في ظل هدف جماعي موحد يستند أصلاً إلى لائحة قانونية موجهة سلطوياً. ويمكن معالجة السلطة باعتبارها واقعة اجتماعية أولاً: فهي لا تقتصر على القوة الجسدية حتى لو شكل استعمالها احد شروط

ص: 34


1- John J. Macionis , Society the Basics , Fifth Edition , Printed in the Unit - ed States of America , 2000 , p.304
2- ر. بودون وف بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة: د. سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنر والتوزيع، بیروت، د.ت، ص 373
3- د. خليل احمد خليل، المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع، دار الطليعة لنشر والتوزيع، بیروت، د.ت، ص 123

ممارستها، فضلاً عن ذلك إنها اجتماعية في المعنى الثلاثي، لكونها تستند إلى توقعات واستراتيجيات، ولكونها تهدف الى تحقيق بعض الأغراض المشتركة، التي اشتهرت بأنها جيدة للجماعة المعنية بكاملها أو الجزء منها، وأخيراً لأنها تمارس وفقاً لأصول صريحة الى حدٍ ما قواعد اللعبة التنافسية أو التعاونية حتى في السلطة الأكثر فردية، مثل سلطة النبي الريادية التي تمارس خارج القواعد، والتي تقوم على ولاية فريدة(1).

واستناداً إلى ما تقدم يتبين لنا أن السلطة تحتاج إلى إطاراً تنظيمي لكي تأخذ مجالها او حيزها السلطوي داخل الجماعة وذلك من خلال وضع قواعد قانونية محددة ومقننة للسلوك والفعل الاجتماعي تحدد في ضوئها عملية تقسيم العمل ومن ثم تتحدد المراكز والأدوار التي تدار من خلال العملية التنظيمية أياً كانت التي تخضع للموجهات السلطوية أياً كانت.

ص: 35


1- ر. بودون وف بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، مصدر سابق، ص 376

رابعاً - القيادة Leadership:

تعني القيادة ملء مركز هام في المجتمع، والقيام بدور القيادة Leadership فعال في توجيه الجهود الجمعية المبذولة لتحقيق الأهداف والأغراض العامة للجماعة، ولابد أن تتوافر فيمن يتولى القيادة صفات يعدها المجتمع نموذجاً للسلوك الاجتماعي الأمثل (1).

والقيادة ظاهرة اجتماعية عامة لا يخلو منها أي مجتمع، فلا توجد جماعة دون أن يكون هناك نوع أو آخر من القيادة(2).

وهذا يعني أن للقيادة دوراً فاعلاً ورئيسياً في المجتمع من قبيل إدارة وتنظيم وتوازن واستقرار النظام الاجتماعي بشكل عام.

والقيادة كذلك شكل من أشكال التعامل الاجتماعي بين القائد والأتباع حيث تبرز سمة (القيادة - التبعية)، إذ أنها سلوك يقوم به القائد للمساعدة في بلوغ أهداف الجماعة وتحريكها نحو هذه الأهداف وتحسين التفاعل الاجتماعي بين الأعضاء والحفاظ على تماسك الجماعة وتيسير الموارد لها.

وهكذا يمكن النظر الى القيادة كدور اجتماعي او وظيفة اجتماعية وبالوقت نفسه فهي تفاعل نشط مؤثر وليست مجرد مركز ومكانة وقوة(3).

وتبعاً لذلك يُعرف القائد Leader بأنه الشخص الذي يؤثر في أعضاء الجماعة أكثر من أي عضو آخر، من حيث تحديد هدف الجماعة وتنفيذ هذا الهدف وتغيير سلوك

ص: 36


1- د. شاكر مصطفى سليم، قاموس الانثروبولوجيا، جامعة الكويت، ط 1، 1981، ص 555
2- د. محمد بهجت كشك، مدخل الى تنظيم المجتمع، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية، 1985، ص 253
3- د. نبيل محمد صادق، طريقة تنظيم المجتمع في الخدمة الاجتماعية / مدخل اسلامي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ط 2، 1996، ص 306

الأفراد وتوجيهه وضبطه بحكم مركزه في الجماعة او خبرته او سماته الشخصية(1).

ومن الواضح أن هنالك اختلافاتٍ جوهرية بين مفهومي السلطة والقيادة، إذ إن المفهوم الاول يشير الى مجموعة من القواعد والضوابط الاجتماعية / القانونية والمتفق عليها اجتماعياً، التي بموجبها يتولى فرد او أفراد سلطة معينة في إطار تنظيمي محدد، امامفهوم القيادة فإنه يشير الى الخصائص او الصفات الشخصية التي ينظر اليها اجتماعياً بوصفها الأمثل والأفضل، وبالتالي فإنها لا تكون ملزمة لبعض الأفراد او الجماعات داخل المجتمع، بقدر ما تكون السلطة اكثر إلزامية وقهرية وينصاع لها الجميع، إذ هي ليست مسألة اختيارية مثلما في القيادة(2).

فالقيادة هنا تعني ان الفرد الذي في المركز او الدور يتمتع بقبول ورضى من الجماعة التي يقودها، فالعلاقة هنا علاقة القبول والموافقة ودرجة معينة من تفضيل ذلك الشخص على غيره في ذلك الموقع، وهذا المعنى يميز (القيادة) عن (السلطة) التي تعني (الحق الرسمي) او العلاقة الرسمية بين صاحب الأمر ومن يتلقى الامر وينفذه(3). وبالوقت نفسه تختلف القيادة عن الرئاسة، وفي هذا السياق يذكر روبرت برستد (R. Bierstedt) الفارق بين القيادة والرئاسة، فالأولى تعتمد على الصفات الشخصية للقائد في طبيعة الموقف الذي يقوده، أما في حالة الرئاسة، فالقيادة تتوقف عن ان تكون شخصية، لذا فالتابع يجب أن يطيع الأوامر حتى عندما يكون غير مطلع على الشخص الذي يصدر تلك الأوامر(4).

ص: 37


1- د. محمد بهجت كشك، مدخل الى تنظيم المجتمع ، مصدر سابق، ص 207
2- احمد ماهر البقري، القيادة وفاعليتها في ضوء الإسلام، مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية، 1987، ص 25
3- د. بشیر محمد الخضرا، النمط النبوي - الخليفي / في القيادة السياسية العربية والديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت، ط 1، 2005، ص 79
4- Reihard bendix, max weber , an intellectual porviait , university paper backs , London , 1962, p.48

فالسلطة إذن هي صفة او خاصية من خصائص (التنظيم) وهي لا تمارس إلا ضمن إطار تنظيمي وضمن علاقة هرمية من المراتب او المكانات Status «علاقات المكانة»، حيث تستعمل سلطة المركز او المكانة على مركز او مكانة اخرى، وليس على شخص آخر. ويفترض ألا تدخل العوامل الشخصية او الفردية في تعريف السلطة، وتزداد درجة (الرسمية) وعدم الشخصية بازدياد حجم المنظمة. وبذلك يمكن تعريف «السلطة» بأنها «القيادة المؤسسية» او «مؤسسة القيادة»، أما القيادة بحسب التعريف السابق، فإن العنصر الشخصي فيها مؤثر(1). وتبعاً لذلك فالقيادة توجه وتقود الجهود وصولاً الى تنظيمها بما يخدم عملية التنظيم الاجتماعي نفسها.

خامساً - الدور الاجتماعي Social Role:

الدور الاجتماعي هو الممارسة الفعلية لمتطلبات المركز الاجتماعي ويمثل الوجه النفسي للتنظيم الاجتماعي الذي يشمل الوظيفة والتكيف الاجتماعي(2).

ووفقاً لوجهة النظر السوسيولوجية يتضمن كل تنظيم مجموعة ادوار متباينة نسبياً ويمكن تحديد هذه الأدوار بأنها منظومات إكراه معياري او عرفي يفترض بالفاعلين / الممثلين أن يتقيدوا بها، ومنظومات حقوق متلازمة مع هذه الإكراهات / الموجبات(3).

والأدوار مجموعة الأعمال التي يتوقع المجتمع من الشخص أن يقوم بها تجاه أشخاص آخرين لانه يحتل بالنسبة لهم منازل اجتماعية معينة(4). وتبعاً لذلك فإن الدور يعني

ص: 38


1- د. بشير محمد الخضرا، النمط النبوي - الخليفي، مصدر سابق، ص 79 - 80
2- دينكن ميشيل، معجم العلوم الاجتماعية، مصدر سابق، ص 253
3- د. خليل احمد خليل، المفاهيم الاساسية في علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 98
4- عصمة محمد جاسم، الاصلاح الزراعي وأثره على التنظيم الاجتماعي في الريف، مصدر سابق، ص 66

مجموعة من التوقعات الخاصة بالأفراد الذين يشغلون مركز او مكانة اجتماعية ما(1).

هذا وتسمى الحقوق والواجبات بالأدوار، وللشخص أكثر من دور واحد في الوقت عينه كما أن الدور يمثل الجانب الحركي للمنزلة(2). وبذلك يكون كل دور اجتماعي مرتبطاً بمجموعة واجبات وحقوق اجتماعية، فواجبات الدور هي مجموعةالتصرفات التي يقوم بها لاعب الدور الاجتماعي أثناء تصرفاته وعلاقاته بالآخرين، وحقوق الدور هي الامتيازات والمكافآت التي تقدم للدور بعد قيامه بالواجبات المتوقعة منه(3).

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع أن لمعرفة أفراد المجتمع أدوارهم الاجتماعية (وحتى عملية توزيع الأدوار كذلك) وقيام الأفراد بواجباتهم المنوطة بهم وتحصيل الحقوق الحاصلة من جراء ذلك يفضي بالضرورة إلى استجلاء واتضاح عملية التنظيم الاجتماعي نفسها.

سادساً - المركز الاجتماعي Status Social:

المركز الاجتماعي هو المنزلة التي يحتلها الفرد او الجماعة في نظام اجتماعي معين بالنسبة لمراكز الآخرين وبذلك يمكن القول أن اصطلاح المركز الاجتماعي ينطبق من ناحية المعنى مع اصطلاح المنزلة الاجتماعية ومع الدور الاجتماعي كذلك(4). والمركز الاجتماعي او المنزلة ترتيب اجتماعي للأفراد والجماعات في المجتمع الذي يجب أن يتم

ص: 39


1- Richard T. Schaefer , Sociology , Ninth Edition , McGraw - Hill Higher Education , 2005 , p.106
2- د. شاكر مصطفى سليم، قاموس الانثروبولوجيا، مصدر سابق، ص 920
3- دينكن ميشيل، معجم علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 254
4- المصدر السابق نفسه، ص 295

حتى يستطيع المجتمع أداء وظائفه بصورة منتظمة(1).

ويعرف المركز الاجتماعي كذلك بأنه المكانة التي يشغلها الشخص في جماعة معينة، او وضع الجماعة مع الجماعات الأخرى داخل التنظيم الاجتماعي، وهذا المركز تحدده متغيرات كثيرة منها المهنة والقوة والثروة ودرجة الاحترام الذي يناله الشخص(2).

ومن الجدير بالذكر أن المركز الاجتماعي ترتبط به مجموعة من القواعد والمعايير التي توجه الفعل الاجتماعي وتنبئ عن توقعات معينة، ذلك انه لا يمكن ان يدار التنظيم الاجتماعي من دون توافر درجة من الاتساق والتوافق من خلال وجود مجموعة من القواعد والمعايير المحددة لأنماط السلوك، بحيث يمكن للشخص ان يتوقع من الآخرين سلوكاً معيناً في موقف معين، لأن هذا السلوك تمليه تلك المعايير والقواعد المرتبطة بهذا المركز(3).

ومن الواضح أن التنظيم الاجتماعي الذي نحن بصدد دراسته يتطلب نسقاً من الأدوار والمراكز المتوافقة مع الأفراد والمرتبطة بالمعايير والقواعد الاجتماعية التي تضمن امتثال واتساق الفعل الاجتماعي بشكل عام.

ص: 40


1- د. حنفي محمود سلمان، السلوك التنظيمي والأداء، دار الجامعات المصرية، الاسكندرية، د.ت، ص 160
2- Richard T. Schaefer , Sociology , Op.Cit , p.112
3- فريدة جاسم دارة المندلاوي، البناء البيروقراطي والشخصية، دراسة ميدانية للمؤسسة الاقتصادية، اطروحة دكتوراه غر منشورة، جامعة بغداد، كلية الاداب، قسم الاجتماع، 2003، ص 69

المبحث الثالث: تساؤلات الدراسة

لأجل ان تحقق الدراسة أهدافها من جهة وتسير وفق مسارٍ علمي واضح من جهة أخرى ينبغي بنا أن نضع عدة تساؤلات خاصة بالدراسة مع محاولة الاجابة عليها في متون الدراسة، وهذه التساؤلات هي كالآتي: - التساؤل الأول: - ما المصادر الرئيسة التي استند اليها الإمام علي (عليه السلام) في فكرهِ التنظيمي والإداري للمجتمع الإسلامي آنذاك؟ التساؤل الثاني: - ما أبرز ملامح التنظيم السياسي الذي أرساه الإمام علي (عليه السلام) في إدارته للمجتمع الإسلامي؟ وكيف استطاع اكتساب شرعية سياسته التنظيمية التي كان يمثلها؟ التساؤل الثالث: - كيف استطاع الإمام علي (عليه السلام) الموازنة بين موارد المجتمع واحتياجاته؟

ص: 41

وما هي القواعد التنظيمية التي سعى بموجبها لتنظيم السلوك الاقتصادي في المجتمع آنذاك؟ التساؤل الرابع: - ما الوسائل والآليات التي اعتمد عليها الإمام (عليه السلام) لصيانة أمن المجتمع واستقراره؟ وكيف تمت عملية تنظيم حقوق الأفراد في المجتمع ونشر العدل الاجتماعي؟ التساؤل الخامس: - ما ابرز المشكلات والمعوقات التي أعاقت عملية التنظيم الاجتماعي الذي قام به الإمام (عليه السلام)؟ وما هي الآليات والسبل التي اعتمدها لتخطي هذه العقبات؟

ص: 42

الفَصْلُ الثَّاني دراسات سابقة

اشارة

ص: 43

ص: 44

تمهيد

تتجلى أهمية فصل الدراسات السابقة بالنسبة لأي بحث علمي في كونها تمكن الباحث من بلوغ المستوى العلمي المنشود وذلك من خلال إتاحتها للباحث التعرف على الأفكار العلمية المتنوعة في مجال بحثه واستقصاء الحقائق العلمية المتعلقة به، ومن جانب آخر فإن الدراسات السابقة تضيف الصفة التكميلية للبحوث والدراسات العلمية كافة، لكونها تمكن الباحث من الإفادة من الدراسات التي سبق لها البحث في الموضوع نفسه بما يسمح الابتداء من حيث ما انتهى اليه الباحثون السابقون في المجال نفسه. فضلاً عن إن هذه الدراسات تكشف عن المنهجية الملائمة والأساليب والأدوات العلمية التي يمكن للباحث تبنيها من خلال تعامله مع المواضيع المقاربة منها.

وسيتم في هذا الفصل عرض نماذج من الدراسات العراقية والعربية التي اهتمت بموضوع مماثل او مقارب لما نحن بصدده في هذه الدراسة وذلك لأجل الوقوف على أهدافها والمنهجية المعتمدة فيها والأدوات التي استعانت بها في معالجتها، فضلاً عن التعرف على النتائج التي أسفرت عنها، وبالتالي سيكشف ذلك كله عن مكامن الضعف والقصور العلمي والرصانة والتكامل، التي ستحاول الباحثة الإفادة منها في معالجتها لموضوع الدراسة كيما يتسنى لهذه الدراسة المتواضعة ان تتصف بالدقة والموضوعية.

ص: 45

ص: 46

المبحث الأول: الدراسات العراقية

1. دراسة الباحث محسن باقر القزويني ((خصائص الإدارة عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام))(1).

تناول الباحث محسن القزويني خصائص الفكر الإداري لدى الإمام علي (عليه السلام) بوصفه فكراً تنظيمياً مستنداً الى قواعد منطقية إنسانية، فالإنسان وفق هذه القواعد يختلف عن الآلة. والإمام علي (عليه السلام) عدَّ الإدارة جهازاً منظماً يضم مجموعة من القواعد وليس خليطاً من الفوضى، إذ نظر إلى الإدارة بأن لها هدفاً تنظيمياً سامياً يرنو إلى تحقيق أهداف اجتماعية في الحياة. واستنادا الى هذه الرؤية فإن الإدارة كيان حي يمتاز بأربع صفات أساسية هي:

1. الصفة الإنسانية: وهنا يستعرض الباحث رؤية الإمام علي (عليه السلام) عن الإنسان بشكل عام، فضلا عن صلته بالإدارة من المنظور الإسلامي؛ لكونها ليست أداة صماء بل إنها تقوم على أكتاف البشر الذين فيهم عوامل قوة وضعف، وبقدر تفعيل عوامل الخير وتحريك الطاقات الكامنة في الإنسان، تتقدم المشاريع والمؤسسات، وهي بأجمعها

ص: 47


1- د. محسن باقر القزويني، خصائص الإدارة عند الامام عي بن ابي طالب (عليه السلام)، مجلة أهل البيت، مجلة فصلية محكمة تصدر عن جامعة اهل البيت، كربلاء، السنة الأولى، 1425 ه، 2005 م

رهن الإدارة الجيدة، فالمدير الجيد مثلاً هو الذي يعرف طبيعة الناس الذين يتعامل معهم ويعلم ما يحركهم وما يثبط عزائمهم. فالنظرية المتكاملة في الإدارة برؤية الإمام هي التي تبدأ بالإنسان، ذلك لأنه برأيه رائد العملية الإدارية التي تنظم وتدير شؤون الناس؛ والصفة الإنسانية وفقا لذلك يتجاذبها كل من (العقل والهوى). وهنا يستعرض الباحث أقوال الإمام علي عن دور العقل الذي بغيابه تختل العملية الإدارية لأن غياب العقل يظهر الهوى؛ ومن هذه الأقوال: ((العقل فضيلة الإنسان))، ((إن أغنى الغنى العقل))، ((آفة العقل الهوى))، ((لا عقل مع الهوى))، ((مخالفة الهوى شفاء العقل)) و ((استرشد العقل وخالف الهوى تنج)).

وبالوقت نفسه يعد الإمام العقل مصدراً للفضائل ((القيم والمعايير الأخلاقية)) التي من خلالها يمكن تمرير العملية الإدارية بيسر وسهولة، وهنا يستعرض الباحث العديد من أقوال الإمام (عليه السلام) الخاصة بهذا الجانب ومنها على سبيل المثال ((الأدب في الإنسان كشجرة أصلها العقل)) و ((العقل ينبوع الخير)) و ((العقل فضيلة الإنسان)).

2. الصفة التنظيمية: - وهنا يستعرض الباحث رأي الإمام علي (عليه السلام) عن ((النظم والنظام)) الذي هو تنظيم الشؤون حتى أن الإمام - على حد رأي الباحث - لم ينس أن يوصي أولاده وأصحابه وجميع المسلمين في آخر كلمة له قبل أن يرحل الى الرفيق الأعلى، بذلك، إذ نجده يقول: ((أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم)) ثم يوصيهم بالقرآن الكريم ((ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم)).

وبعد ذلك يستطرد الباحث في تصنيف المجالات التي ورد فيها لفظ النظم وفق رؤية الإمام (عليه السلام) من خلال الانطلاق من الأسئلة الآتية:

ص: 48

- كيف ينشأ النظام، وكيف يقوى النظام وكيف ينهار النظام؟ فالنظام ينشأ وفق رؤية الإمام بالاستناد إلى العقل لأنه مصدر الفكر، والعقل هو مركز التخطيط، والعقل هو منبع البرامج، و (الفكرة والخطة والبرمجة) هي الف باء النظام. والعقل يضع بين أيدي البشر النظام قبل التطبيق، ويبقى المسؤول عن تطبيقه العلائق الحسنة التي تنمو في المجتمع، التي تقوم على أساس الحقوق المتبادلة وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام) ((الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها الله تعالى فجعلها نظاماً لألفتهم)).

أما كيف يقوى النظام؟ فيعرض الباحث أهم المبادئ التي يرى الإمام (عليه السلام) أن النظام يقوى بها وأهمها:

أولاً: (مبدأ العدل): وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام) ((العدل نظام الأمرة)) و ((حسن العدل نظام البرية)).

ثانياً: (مبدأ الحلم وعدم الانفعال): لأن عدم الانفعال من قواعد الإدارة والتنظيم الذي يقوم بين الأفراد الذين تربطهم علاقات اجتماعية. وأهم أسس هذه العلاقة سيادة الحكمة وعدم حدوث فعل انفعالي أثناء العمل.

ثالثاً: (مبدأ روح التعاون بين الأفراد): حيث ان تضامن الأفراد وتعاونهم مع بعضهم عبر الإحسان والمواساة يدعم عملية الإدارة والتنظيم للسلوك الإنساني. ويقول الإمام في ذلك ((نظام المروءة حسن الإخوة)) و ((نظام الدين خصلتان إنصافك من نفسك ومواساتك اخوانك)) فضلا عن وجود مبادئ أخرى تقوي وتعزز النظام الاجتماعي وهي ((مبدأ الدعوة إلى الطاعة)) أي طاعة الله وطاعة ولاة الأمر، و(مبدأ التواضع) و (مبدأ الأمانة).

وأخيرا يستعرض الباحث كيفية انهيار النظم وفق رؤية الإمام، تلك المتمثلة في ظهور

ص: 49

الخلافات والانقسامات داخلها، فالأنظمة تنهار عندما يتسلل إليها الخلاف والشقاق وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام): ((الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف)) وقوله أيضاً ((آفة الرعية مخالفة الطاعة)).

3. الصفة الجماعية: وتتضمن مجموعة من الناس تربطهم روابط قوية ومتينة تقوي من النظام الإداري المرتكز لديهم. وفي هذا يقول الإمام ((بحسن العشرة تدوم الصلة)) وقوله ((إلزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة)).

4. الصفة الهدفية: وتتضمن الهدف الذي وجدت من أجله الخلائق، فالحياة لم تخلق عبثاً. وهذا الهدف هو الذي يسبغ على النظام أهمية كبيرة، قال (عليه السلام): ((ما خلق الله السموات والأرض باطلاً))، ومن جهة أخرى فإن اللاهدفية وفق رؤية الإمام تقترن بالعبث الذي هو صنف من أصناف الباطل الذي نها عنه الإمام في نظريته الإدارية التنظيمية، قال (عليه السلام): ((اهجر اللهو فإنك لم تخلق عبثا فتلهو ولم تترك سدى فتغلو)).

ويرى الباحث القزويني أن فكر الإمام علي (عليه السلام) يركّز على اكتساب ثلاثة أمور تمثل هدف الإنسان في الحياة وهي: ((العقل - الحلم - العلم)).

فالعقل - وكما أسلفنا - يحتل مكانة مرموقة في فكر الإمام (عليه السلام) في الإدارة والتنظيم، لأنه السلطة التي يستخدمها الإنسان لتقويم الأمور الخاطئة، وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام): ((العقل سلاح كل امرئ)) و ((العقل أنك تقصد فلا تسرف وتعد فلا تخلف وإذا غضبت حلمت)).

- والحلم هو أيضاً سلطة لإرغام النفس على اتخاذ حالة الاعتدال، قال (عليه السلام):

((إنما الحلم كظم الغيظ وملك النفس)).

- وبالعلم يستطيع الإنسان أن يقود مسيرة حياته وأن يحسن معيشته قال (عليه السلام):

ص: 50

((اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة)) و ((العلم خير دليل)).

وبالتالي يضع الباحث هذه الترسيمة التي تنهض بالعملية الإدارية التنظيمية وفق تصورات الإمام:

[شكل رقم (1) يوضح العملية التنظيمية وفق تصور الإمام علي (علیه السلام)] فالعقل يؤدي الى العلم: والإثنان يؤديان الى الحلم. وهذه الصفات الأساسية للشخصية المتكاملة التي يسعى من أجلها كل إنسان، وهي بالتالي صفات يجب توفرها في المدير المناسب القادر على إدارة دفة الأمور.

ص: 51

أما الخلاصة التي خرج بها البحث فتتمثل بالآتي:

إن الإدارة عند الإمام علي (عليه السلام) ليست فعلاً ميكانيكياً بل مجموعة صفات وخصال تمتزج فيما بينها للحصول على المدير الجيد والإدارة الجيدة، وهذه الصفات هي:

أ. التنظيم: فلا إدارة بدون تنظيم ونظام، فإذا حل نقص في التنظيم حلت محله الفوضى.

ب. أما الصفة الثانية فهي الإنسانية: بمعنى أن الذي يتحرك ويفعّل الإدارة هو الإنسان وليس الآلة، فكان لابد من معرفة الإنسان والتعرف على نقاط قوته وضعفه، فالإدارة الجيدة هي التي تحاول أن تستثمر نقاط القوة في أعضائها وتعالج نقاط الضعف لديهم.

ج. والصفة الثالثة هي (الحالة الاجتماعية): التي تعني أن الإدارة تشكل بمجموعها مجتمعاً منظماً تنشأ فيه العلاقات الإنسانية وتنمو فيه روح الجماعة.

د. أما الصفة الرابعة فهي الهدفية: التي تعني أنه لا بُد ان يكون للإدارة هدف منسجم مع أهداف الإنسان في الحياة؛ وبالتالي يجب ان تكون هذه الأهداف متوجهة نحو بناء الإدارة القوية.

ص: 52

2. دراسة الباحث محمد احمد هربود العيساوي ((التنظيمات الإدارية في عصر الرسالة والراشدين))(1).

حاول الباحث في دراسته المذكورة انفاً تتبع أساسيات العملية الإدارية في الإسلام التي ساعدت برأيه على إدارة وتنظيم شؤون الدولة الإسلامية في عصر الرسالة والراشدين. وقد قامت الباحثة باختيار الفصل الخامس من هذه الدراسة الموسوم ب((التنظيمات الإدارية في عهد الخليفة علي بن ابي طالب (رضي الله عنه) وقد ناقشت هذه الدراسة الأمور الآتية:

أولاً: - الأثر الإداري في مواجهة الخلافة: - وهنا استعرض الباحث الأوضاع الإدارية والسياسية في الأمصار الإسلامية التي شهدت تلكؤاً واختلالاً وظيفياً وإدارياً في عهد الخليفة الثالث لذلك عمد الخليفة الرابع إلى استبدال ولاة الخليفة السابق الذي كان بعض الناس يأخذون عليه عدم محاسبتهم والتشدد عليهم. لذا أرسل الخليفة علي (رضي الله عنه) ولاة على الأقاليم الإسلامية المختلفة كأول إجراء إداري - تنظيمي بعد توليه الخلافة.

ولقد حاول الباحث عرض ردود الأفعال المختلفة ازاء إجراءات الخليفة الرابع من تغييره الولاة على الأمصار؛ ذلك انه فهم حقيقة الوضع الجديد فعمد الإمام الى خلق نوع من التوازن مع هذه الظروف المستجدة وإفساح المجال للرعية باختيار من يرونه مناسباً من دون تطاول على هيبة الخلافة والخليفة إذ يقول (عليه السلام): ((سأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي)). وعندما حاول المغيرة بن شعبة إقناع الإمام علي (عليه السلام) بإقرار الولاة السابقين على أمصارهم ردَّهُ قائلا: ((والله لا اداهن في ديني ولا أعطي الدني في أمري)). إذ إن الإمام كان مقتنعاً بضرورة إصلاح

ص: 53


1- محمد احمد هربود العيساوي، التنظيمات الإدارية في عصر الرسالة والراشدين، رسالة ماجستير (غر منشورة) مقدمة الى مجلس معهد التاريخ العربي والراث العلمي للدراسات العليا، بغداد، 1990

الوضع الإداري والسياسي للأقاليم والأمصار وكان يسعى نحو إيجاد ولاة يتمتعون بقدر كبير من الحزم والشدة والمعرفة وممن لهم تجربة وحكمة. وفي الوقت نفسه فقد أجهد الخليفة نفسه بمتابعة ولاته ومراقبتهم في سبيل خدمة الرعية والخوف من ان تغبن حقوقهم وهذا ما جاء في قوله للمنذر بن جارود عامله على اصطخر ((بلغني أنك تدع عملك كثيرا لاهيا متنزها متصيداً وأنك قد بسطت يدك في مال الله إن أتاك من أعراب قومك كأنه تراثك من أبيك وأمك... وأن اللعب واللهو لا يرضاهما الله وخيانة للمسلمين ومن كان كذلك فليس بأهل لأن يسد به الثغر ويجبى به الفيء ويؤتمن على مال المسلمين)).

ثانياً: - الإدارة العسكرية:

حاول الباحث في هذا الموضوع تتبع السياسية التنظيمية العسكرية للإمام علي (عليه السلام) خلال المعارك التي نشبت فترة حكمه، إذ كان الخليفة يقود تلك المعارك بنفسه، إذ جرت العادة أن ينوب الخليفة قائداً عسكرياً في الحروب. وللضرورة التي رآها الخليفة أخذ يقود الجيوش بنفسه عندما أخذ الروم والفرس يقومون بحركات تمردية في بلادهم الأمر الذي جعل الخليفة عليا (رضي الله عنه) لا يتساهل معهم. فالفرس بدأوا يعلنون رفضهم تقديم الخراج للدولة وتمرد بعضهم في فارس وكرمان فأخرجوا ولاة الخليفة.

فقام بإجراءات عسكرية أعادت السيطرة على تلك الأقاليم.

فضلاً عن ذلك فإنه (رضي الله عنه) حث على الجهاد ((كإجراء دفاعي وقائي)) وحذر من مغبة تركه قائلاً: ((أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة منه ألبسه الله ثوب الذلة وشمله البلاء والصغار الخسف ومنع النصف... فو الله ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا)).

ص: 54

ثالثاً: الأوضاع الإدارية ونتائجها الاقتصادية: - واستعرض الباحث في هذا الجانب إجراءات الخليفة الإدارية في المجال الاقتصادي التي قصد منها اعادة تنظيم النظام الاقتصادي الإسلامي، فقد انتزع الخليفة علي (رضي الله عنه) أملاكا كان الخليفة السابق اقطعها جماعة من المسلمين. ورفض التصرف في أرض الصوافي(1) وأرجعها للأمة وقال عن المال الذي جاء من واردها لصالح الاثرياء ((... والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته)).

كما وتتضح إجراءات الخليفة الإدارية في سياسته الاقتصادية في خط الزهد الذي طبقه على نفسه قبل الآخرين، ذلك انه دخل على بيت المال فسخر به ثم قال ((لا أمسي وفيك درهم)) كما انه قام بإعطاء العطاء ثلاث مرات في السنة ثم أتاه مال من اصفهان فقال: ((اعدوا إلي عطاء رابع أني لست لكم بخازن)) فضلاً عن ذلك فإنه أخضع عماله في هذا المجال الى رقابة شديدة وكان حريصاً على أموال المسلمين. وكان يستعين بكعب ابن مالك لرصد تلاعب العمال، وكان يعنى بعمارة الأرض والرفق بجباية الخراج وقد قال لعماله في ذلك ((لا تضربن رجلا سوطا في جباية درهم ولا تبعن لهم رزقا)).

ورغبةً من الخليفة الرابع في تنظيم الاقتصاد وسعياً إلى منع التلاعب بالأموال فقد كان يعين عاملا على المصر لتدبر شؤونه الإدارية على الخراج وبيت المال، فضلاً عن أنه أوصى بإصلاح الأنهار لأن ذلك أعظم فائدة في جباية الخراج واستقرار الأحوال الاقتصادية.

ص: 55


1- سيتم توضيح معنى الصوافي وما يتعلق بها في فصل التنظيم الاقتصادي عند الإمام علي (عليه السلام)

رابعاً: تعيين ولاة الأقاليم وعمال المدن والقضاة:

وفي هذا المجال يستعرض الباحث الولاة والعمال على الأمصار الذين قام الخليفة علي (عليه السلام) بإرسالهم إلى عموم أقاليم الدولة الإسلامية وفق جداول تبين اسم كل والٍ او عامل المصر او الإقليم الذي أرسل إليه.

أما ما يخص القضاء فقد وضح الباحث كيف زادت العناية به كمؤسسة إدارية في عهد الخليفة الرابع، مهمتها إعادة الحق إلى أهله، وقد برع الخليفة (عليه السلام) في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء بعده في القضاء حتى قال عنه الخليفة عمر:

((علي أقضانا)) وقال ((لأبي الحسن اقضى بين الناس)).

وقد كان الخليفة علي (رضي الله عنه) يختبر القضاة مدة خلافته في عملهم من حيث إقامة الحدود بالحق والعدل، إذ امتحن قاضياً فقال له: ((بمَ صلاح هذا الأمر، قال بالورع، قال (عليه السلام): فبم فساده قال بالطمع، قال (عليه السلام): حق لك ان تقضي)).

هذا فضلا عن تتبع الخليفة لأهم السمات والخصائص التي يجب أن يتحلى بها القاضي الذي ينظم شؤون الرعية بالحق والعدل من دون ظلم او غبن للرعیة.

ص: 56

وأخيرا يوجز الباحث خلاصة بحثه في النقاط الآتية:

1. شهد عهد الخليفة علي بن ابي طالب مجموعة واسعة من التنظيمات الإدارية للدولة الإسلامية، تجلى فيها انبعاث جديد للتنظيمات الإدارية التي أرساها الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

2. عُني الخليفة بإعادة التنظيم الإداري في الأمصار والأقاليم الإسلامية، من خلال قيامه بالتقسيمات الإدارية من قبيل تعيين ولاة الأقاليم وعمال المدن والخراج وتعيين القضاة ممن يتوسم فيهم جميعا الصلاح والحرص والإخلاص والعدل بين الرعية.

3. إن الأسس الإدارية التي رسخها الإمام علي (رضي الله عنه) في الدولة الإسلامية في عهده كانت محل أنظار المسؤولين في الدولتين الأموية والعباسية فيما بعد من ناحية العمل والأخذ بها وتطبيقها في الشؤون الإدارية التنظيمية تلك.

4. أفاد الفقهاء والقضاة عموما من الأسس والقواعد الإدارية والتنظيمية التي أقرّها الإمام واستحدثها، حيث وظفوها في اجتهاداتهم وتنظيماتهم للأمور القضائية في الدولة العربية الإسلامية فيما بعد.

ص: 57

3. دراسة الباحث ليث شاكر محمود العبيدي ((وصايا الخلفاء الراشدين السياسية والإدارية))(1).

اختص الفصل الخامس من هذه الدراسة بموضوع بحثنا والموسوم ((وصايا الخليفة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) السياسية والإدارية)). وقد بدأ الباحث دراسته بتعريف المعنى اللغوي والاصطلاحي للوصية بأنها الأوامر والتعاليم السياسية الصادرة عن الشخص الأول في الدولة العربية الإسلامية الى عامة الناس وموظفيه.

وترد الوصية في قول سياسي أو إداري وقد تكون في رواية او خطبة أو رسالة؛ وقد اكتسبت الوصية السياسية والإدارية الإسلامية شرعيتها من القرآن والسنة.

وقد قسم الباحث هذا الفصل إلى مبحثين، ضم المبحث الأول منه الوصايا السياسية في حين ضم المبحث الثاني الوصايا الإدارية. وقد تضمنت الوصايا السياسية: - 1. الوصايا المباشرة: وصنفها الباحث إلى:

أ. الوصايا السياسية المباشرة العامة: - وجه الإمام علي (عليه السلام) وصيته إلى أهل المدينة في خطبة الخلافة موضحاً فيها الخطوط العامة لسياسته ومن وصية الخليفة التي خاطب فيها المسلمين وصارحهم وبسط أمامهم الخطوط العامة لسياسته ((وإنه ليس لي أمر دونكم، إلا أن مفاتيح مالكم معي)) وهذا يعني أنه مؤتمن على مال المسلمين. كما حوت مجموع هذه الوصايا وصيته إلى أهل الكوفة قبيل حرب الجمل، إذ تشترك هذه الوصية مع وصيته إلى أهل المدينة بصفة العمومية حيث كانت الأولى موجهة إلى عامة أهل المدينة، أما الثانية فموجهة إلى عامة أهل الكوفة وكان الهدف من الوصيتين تحقيق أهداف سياسية في مقدمتها توطيد دعائم الدولة الإسلامية وضمان أمنها واستقرارها.

ص: 58


1- ليث شاكر محمود العبيدي، وصايا الخلفاء الراشدين السياسية والإدارية، رسالة ماجستير (غیر منشورة)، كلية الآداب، جامعة بغداد، قسم التاريخ، 1996

وبالوقت نفسه تضمنت هذه الوصايا وصيته إلى أهل مصر والتي شملت السياسة العامة، حيث أوصى رعيته بضرورة مؤازرة الوالي الجديد ومساعدته على إدارة شؤون مصر، كما تضمنت وصيته إلى النجرانيين، إذ أوصى لهم الخليفة الرابع بأن يكونوا آمنين في ديارهم وأن لا يضاموا ولا يظلموا ولا ينتقص حق من حقوقهم. وأخيراً تضمنت وصيته الى الخوارج ضرورة إطاعة أوامره في الالتحاق بركبه للقتال ضد مناوئيه.

ب. الوصايا المباشرة الخاصة: والتي تضمنت وصيته الى معاوية بن أبي سفيان مبيناًفيها عدم اشتراكه في قتل الخليفة الثالث وأوصاه بضرورة مبايعته والدخول في أمر الجماعة.

2. الوصايا غير المباشرة:

وشمل هذا النوع من الوصايا الخاصة بالخليفة الرابع وصاياه الموجهة إلى عماله في الأمصار وقادة جيوشه كما هو الحال بالنسبة لوصاياه إلى جرير بن عبد الله البجلي والاشعث بن قيس. إذ كان يحث ولاته في الأمصار على اتباع سياسة اللين مع الرعية سواء أكان ذلك مع المسلمين أم الذميين.

كما حوت وصاياه هذه على مفاهيم سياسية في كيفية معاملة أهالي الأمصار كما هو الحال في وصيته إلى الاشتر وكان يوصي عماله بأن يلبسوا لرعيتهم جلباباً من اللين تشوبه طرف من الشدة وضرورة إعطاء الناس حقوقهم فإنما هلك من قبلهم من كان يظلم حق الرعية كما في وصيته إلى أبي موسى الأشعري ومحمد بن أبي بكر.

ويذكر الباحث أهداف هذه الوصايا السياسية عموما، التي تنطلق من دوافع سياسية ودينية وأخلاقية تستهدف الالتزام بمبادئ الدين الحنيف، وفي الوقت نفسه ترسي أسس الدولة على قواعد متينة وتحقق مصلحة المسلمين.

ص: 59

أما المبحث الثاني فقد ضم الوصايا الإدارية في محورين أساسيين:

ا. الوصايا الإدارية العامة: - وضمت وصايا الإمام علي (عليه السلام) التي تخص أمور إدارة الدولة وتنظيم شؤونها الإدارية بشكل عام وفي مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية لتنظيم شؤون الرعية وشؤون البلاد.

2. الوصايا الإدارية الخاصة: التي تظهر مدى حرص الخليفة على أموال المسلمين إذ كان لا يفرط بها ولو بجزء يسير، كما كان يوصي عماله بأن يعملوا ما في وسعهم على صيانة وإدامة مشاريع الري لأن ذلك يؤدي إلى زيادة الانتاج وكثرة موارد بيت المال.

ومن أمثلة وصاياه (عليه السلام) الإدارية الخاصة، وصيته إلى مالك الاشتر التي جاء في مضمونها أن لا يدخل في مشورته بخيلاً، وضرورة استشارة اهل الورع والدين والإكثار من مدارسة العلماء وأوصاه بضرورة اختيار الموظفين من المقربين إلى نفسه وحذره من اختيار المساعدين له ممن عمل للوالي الذي سبقه، وضرورة تولية الموظفين بطريقة الاختيار لا المحاباة.

وأخيراً يذكر الباحث أن وصاياه (عليه السلام) الإدارية تمثل منهج عمل لإدارة شؤون أمصار الدولة العربية إبتداءً من اتخاذ الموظفين والمستشارين المقربين، مرورا بتنظيم الأمور العامة للمصر من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية انتهاءً بمراقبة العمال والموظفين، لكي لا يحيدوا عن جادة نهج الدولة القويم.

أما خلاصة دراسته فقد تضمنت النتائج الآتية:

1. إن الهدف من الوصايا السياسية للإمام علي (عليه السلام) كان تخفيف حالة التوتر كما هو الحال في وصيته إلى أهل المدينة في خطبة الخلافة، وقد تركزت هذه الوصايا السياسية إلى أهل الكوفة ومصر. فضلاً عن ان هذه الوصايا عكست مدى اعتماد الإمام علي (عليه السلام) على أهل الكوفة ومصر في مجابهة معاوية بن أبي سفيان فقد.

ص: 60

2. أكدت وصايا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) السياسية الى ولاته ضرورة معاملة الرعية باللين وحسن القول وطاعة اوامر الولاة ممثلي الخليفة، كذلك اكدت وصاياه الى ولاته ضرورة إرسال إمدادات عسكرية لمواجهة معاوية بن أبي سفيان وقد حث الخليفة بوصاياه الى قادة جيوشه ضرورة اتباع مبادئ الإسلام السمحة في الحرب.

3. كانت وصايا الإمام علي (عليه السلام) الإدارية تمثل منهج عمل لإدارة شؤون الأمصار ابتداءً من اتخاذ الموظفين والمستشارين المقربين للولاة مرورا بتنظيم الأمور العامة للإقليم وانتهاء بمراقبة العمال والموظفين.

4. إن عدد الوصايا السياسية للخليفة علي بن ابي طالب (عليه السلام) ، فاق عدد الوصايا الإدارية وذلك لظهور فتن داخلية، وقد كان لهذه الوصايا الإدارية مكانة كبرى في إدارة شؤون الدولة على الرغم من قلتها مقارنة بالوصايا السياسية.

ص: 61

ص: 62

المبحث الثاني: الدراسات العربية

1. دراسة الباحث محمد عمارة (الفكر الاجتماعي لعلي بن أبي طالب)(1).

ناقشت هذه الدراسة الفكر الاجتماعي للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ضوء الوضع الاجتماعي للإمام (عليه السلام) والمرتبط بوضع الهاشميين الاجتماعي بوصفهم احد البطون العشر التي تتكون منها قبيلة قريش. ذلك أن الأوضاع الاجتماعية لهذه البطون كانت ذات تأثير كبير في موقفها من دعوة الإسلام، بمحتواها الاجتماعي المتقدم والمتعاطف مع الفقراء والعبيد وضحايا الربا الفاحش، أي مع الجماهير التي أراد الإسلام لهم أن يكونوا هم الائمة وهم الوارثون، إذ كانت المواقف الاجتماعية لبطون قريش ذات تأثيرات مهمة في صراعات السلطة التي ظهرت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن منصب الخلافة والإمامة، ومن ثم كانت لها تأثيرات في موقف ممثلي هذه البطون من الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) بعد توليه منصب الخلافة وبعد مجموع سياساته الاجتماعية والاقتصادية ازاء الثروات التي حازها ممثلو هذه البطون والمناصب التي تولوها وما رافقها من تغيرات اجتماعية أحدثها الإمام عندما آلت إليه السلطة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

وقد تمكن الباحث من تحديد سمات الوضع الاجتماعي للعرب قبل الإسلام

ص: 63


1- محمد عارة وآخرون، عي بن ابي طالب نظرة عصرية جديدة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 1974

والتغيرات الاجتماعية التي حدثت بعد مجيء الإسلام ومكانة الإمام علي بالنسبة للإسلام ونبي الإسلام والمسلمين، تلك المكانة التي ظلت مرموقة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واختيار رؤسائها ابي بكر الصديق ومن بعده عمر بن الخطاب ومن بعده عهد رؤوس قريش بالأمر الى عثمان بن عفان - وهو من بطن أمية - ذي السلطان العالي في حكومة قريش الجاهلية.

ويعتقد الباحث ان الملأ من قريش الذين مالوا بالخلافة عن علي بن ابي طالب إنما كانوا يخشون من علي ان ينتهج نهجاً اجتماعياً ثورياً متقدماً وإنهم عجزوا عن ان يحققوا مطامحهم الاجتماعية والطبقية في زمن ابي بكر وعمر بن الخطاب ولكنهم حققوا مطامحهم الاجتماعية على حساب التعاليم الاجتماعية الثورية التي بشر بها الإسلام وعلى حساب جماهير الفقراء عندما تولى الخلافة عثمان بن عفان. فلقد حدثت التحولات الاجتماعية التي عارضها علي (عليه السلام) وأنصاره والتي أفاد منها أغنياء قريش القدامى. وهي التحولات التي ثار عليها الناس حتى بلغوا في ثورتهم حد قتل الخليفة عثمان، ثم فرضوا على بقايا رؤوس قريش مبايعة علي بالخلافة لكي يقوم بالتغيير لما وقع في ظل حكم عثمان بن عفان.

ثم عرج الباحث بعد ذلك الى سرد التحولات الاجتماعية المستحدثة والتي كشفت عن فكر علي بن ابي طالب (عليه السلام) الاجتماعي بصورته الحقيقية وذلك بعد عرضه سياسة الخليفتين الراشدين ابي بكر وعمر التي تحققت في ظلها عدالة ومساواة اجتماعية كبيرة انقطعت زمن الخليفة الثالث لتعود إلى الوجود على يد الخليفة الرابع علي بن ابي طالب.

وقد ارتكزت سياسة الإمام علي بن ابي طالب في التغير الاجتماعي بعد أن بايعه الناس بالخلافة بإعلانه الثورة الشاملة ضد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي كانت محل نقده ومعارضته زمن الخليفة السابق وفق الميادين الآتية: -

ص: 64

1. في ميدان السياسة: - أعلن عزل عمال عثمان وولاته على الأقاليم ولم يتراجع عن ذلك عندما نصحه الناصحون وهذا موقف شهير في كل كتب التاريخ لا يحتاج الى تقويم الأدلة عليه والبراهين.

2. في ميدان القطائع: - كانت هناك الأرض التي جعلها عمر ملكاً خالصا لبيت المال ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته وبصددها كان موقف علي حازماً وحاسماً، إذ قرر رد ملكية هذه الأرض الى ملكية الدولة وحوزة بيت المال ورفض ان يقر التغييرات ((والتصرفات العقارية)) التي حدثت في هذه الأرض.

ثم أعلن ان التمايز الطبقي الذي رفع من لا يستحق وخفض من لا يستحق قد جاء الوقت لتصفيته فقال: ((والذي بعث محمدا بالحق إه لابد أن يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا)).

3. في ميدان العطاء: - أحدث الإمام علي (عليه السلام) تغييرات ثورية تعد من أخطر التغيرات الثورية التي أقرها والتي أراد بها العودة بالمجتمع الى روح التجربة الثورية الإسلامية الأولى في ميدان العطاء - والعطاء هو قسمة الأموال العامة بين الناس، فكان قرار الإمام علي (عليه السلام) العدول عن تمييز الناس في العطاء والعودة إلى نظام المساواة والعدالة بينهم بعدما استفحل نظام التمايز الطبقي بشكل واضح وجلي زمن الخليفة الثالث والذي كان لا وجود له زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر.

ومن جانب آخر فقد قسم الباحث طبقات المجتمع ومكانها وفقا لرؤية الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وفكره الاجتماعي وهي كالآتي:

1. انقسام المجتمع إلى طبقات: وهو انقسام تحدث عنه الإمام علي وأوضح معالمه بالتفصيل، فمن طبقات المجتمع وفئاته: الجنود والكتاب والقضاة.. والعمال على

ص: 65

الأقاليم والقائمون على شؤون جهاز الدولة والفلاحون والتجار وأهل الصناعات ثم اهل الحاجة من المساكين الذين يسميهم الطبقة السفلى.

2. الذين يفلحون الأرض: إذ احتلت هذه الطبقة مكانة مهمة في الفكر الاجتماعي للإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لأن المجتمعات التي فتحت في العراق والشام ومصر مجتمعات زراعية بالدرجة الأولى وكان الخراج (ضريبة الأرض الزراعية) أهم مصدر من مصادر ثروة الدولة، وقد أولاهم رعاية وعناية كبير تين في وصاياه وأقواله.

3. طبقة التجار والصناع: إذ نبه الإمام علي عامله في مصر على أهمية دورهم ومكانهم في المجتمع فهم الذين يجلبون احتياجات الناس من مصادرها الى حيث يسيرونها لمحتاجيها، وهم الذين تقوم بهم وعليهم مرافق البلاد.

4. الطبقة السفلى: وهم الطبقة التي لا قدرة لها على الكسب والتكسب وتحظى بعناية ورعاية الإمام وفكره الاجتماعي لأن لهم حقوقاً مقدسة في بيت المال وهم أصحاب الأمراض والعاهات المزمنة، وكذلك اليتامى وكبار السن بالرغم من الذين يمنعهم الحياء عن سؤال الناس حاجتهم.

5. طبقة (الخاصة): وهي الطبقة التي واجهت موقفاً حاسماً وثورياً من الإمام ذلك انه كان يركز على العامة دون الخاصة لان العامة هم ((عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء)) بينما (الخاصة) لا هم لهم الا مصالحهم الذاتية الضيقة ومطالبهم الفردية.

ويختتم الباحث دراسته هذه في الفكر الاجتماعي المتقدم للإمام علي (عليه السلام) في موقفه من حق الحاكم وحريته ازاء المال العام الذي هو ملك لعامة المسلمين وحق من حقوقهم وهذا كله يضع أمام الأنظار صفحة فكرية مهمة من صفحات التراث الفكري متمثلا في الفكر الاجتماعي لعلي بن ابي طالب (عليه السلام).

ص: 66

2. دراسة الباحث فهمي خليفة الفهداوي:

((الإدارة في الإسلام المنهجية والتطبيق والقواعد))(1).

تناول الباحث في دراسته هذه عرضاً مفصلاً عن خصوصية المنهج الإسلامي في نظرته للإدارة وتدبير المصالح الشرعية، فضلا عن أهمية الإدارة ووظائفها في المجتمع الإسلامي المتمثلة بتأدية مهام الحكم بالحق والعدل بين الناس وتأدية مهمات الجهاد ومقاتلة الاعداء وعقد السلم وكذلك تأدية المهمات المالية وحماية حقوق الرعية وتأدية مهام التوظيف الإداري بحسب الجدارة.

وقد هدفت الدراسة إلى تعريف المعنيين والمختصين بأمور الإدارة بأهمية وشمولية الإدارة في الإسلام لتعزيز المعرفة الإدارية بطبيعة الإدارة والحكم لتدبير شؤون الرعية والمجتمع في الفكر الإسلامي، ذلك ان الإدارة في الإسلام ملآى بالمبادئ والتوجهات الخصبة والصافية وهي بحاجة الى تكثيف الجهود البحثية لاستخراج المقومات السليمة للإدارة والسلوك الإداري عبر التوقف عند مضامينها الإسلامية بما يفيد في عقد المقارنات والنظر في إمكانية التوظيف المعاصر لها.

وتضم هذه الدراسة ثمانية فصول تغطي بشكل عام موضوع نظام إدارة الدولة والحكم وتدبير مصالح الرعية قبل وبعد الإسلام حتى الوقت الحاضر.

وقد ناقشت الدراسة ابعاد الإدارة ووظائفها التنظيمية في مختلف مراحل الدولة الإسلامية بدءاً بالمرحلة النبوية ومرورا بمرحلة الخلافة الراشدة ثم الخلافة الأموية فالعباسية.

ص: 67


1- د. فهمي خليفة الفهداوي، الإدارة في الإسلام المنهجية والتطبيق والقواعد، دار الميسرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان، الاردن، ط 2، 2001

وبعدها عرج الباحث على عرض الآليات والوسائل العلمية المعتمدة لدراسة الحالات الإدارية بين الإدارة الإسلامية والإدارة المعاصرة. وقد تركز اهتمام الباحثة على الفصل الثالث من هذه الدراسة والموسوم ب((الإدارة في التطبيق النبوي والخلافة الراشدة)) ولقد تركز اهتمام الباحثة حصراً على موضوع الإدارة في تطبيقات الخلافة التي اطلق عليها الباحث ب((نمط الإدارة العقائدية)) وذلك لكون الإمام علي (عليه السلام) رابع الخلفاء، لذا حاولت الباحثة تتبع الخصائص المميزة لإدارة خلافة الإمام علي (عليه السلام) حصراً.

وقد اتضحت - وحسب طرح الباحث - السياسة الإدارية العامة للإمام علي (عليه السلام) من خلال خطبه الداعية الى إرساء الصدق في النوايا، والعمل بما يرضي الخالق تعالى. ثم السعي لإنصاف الرعية من ظلم العمال والولاة.

فعزل الولاة السابقين وعين جددا غيرهم وقد اعترضت الفتن والاضطرابات والانشقاقات مسيرته الإدارية والتي حالت دون عملية الإنماء والتطوير الإداري في عصره.

حيث نقل الإمام علي (عليه السلام) مقر إدارته وعاصمته من المدينة المنورة الى الكوفة في العراق من جراء تفاقم الصراع مع الخارجين على خلافته من اهل الشام، ومن الخوارج.

بما أثر في تقلص دور الإدارة وتضايق نفوذ الدولة.

وكذلك تميزت ادارة الإمام علي (عليه السلام) بطابعها الحربي، ومع ذلك فقد جسدت كثيرا من المبادئ الإدارية والضوابط المالية التي تعد بصدق من الاصول والثوابت التي يمكن الاستناد اليها.

ص: 68

قام الإمام علي (عليه السلام) بمراقبة العمال والولاة ومحاسبتهم وألزمهم بالتحلي بأخلاقيات القادة الإداريين (القدوة) وتبنى مبدأ ترقية الكفوئين، كما اعتمد على معطيات المشاورة، والصبر على المعضلات حتى قتل وبمقتله انطوت صفة الراشدية عن مسيرة الإدارة العربية الإسلامية ليبدأ عهد جديد ومختلف عنها هو عهد الإدارة الأموية.

وقام الباحث بتقديم جملة من الخصائص الرسمية للإدارة عند الخلفاء الأربعة بمن فيهم الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويمكن بيانها بالآتي:

1. التفرغ الكلي لممارسة العمل القيادي والإداري لغرض التمكن من أداء المتطلبات الواجبة.

2. الاستعانة بالأعوان والمستشارين وأهل الرأي عند تأدية المهمات واتخاذ القرارات.

3. التوثيق والتدوين الكتابي والإداري للأنشطة والمنجزات والمراسلات والمخاطبات.

4. استخدام المنبر موضعاً خاصاً بالقائد (الخليفة) في المسجد لإلقاء الخطب والبرامج والافصاح عن السياسة الإدارية والخطط والأوامر والتوجيهات امام الجمهور.

5. الاعتماد على الخطب كوثائق عمل تحدد أبعاد العمل القيادي الإداري الإسلامي.

6. استخدام الخاتم علامةً رسمية وقانونية تثبت وتشير الى مركز القائد الشرعي وإلى سلطته الرسمية عند إصدار الأوامر والمراسلات.

7. إنها ادارة تطبيقية وعملية، وقد منح القادة القائمين على الاجهزة الإدارية للدولة من ولاة وعاملين، مساراتٍ وسبلاً في تأدية المهمات وجعلوها تحت الرقابة لضمان حسن الانجاز الإداري المطلوب.

8. إنها ادارة اعتمدت على الكادر التخصصي في تنفيذ النشاطات فهناك السلطة للقائد العسكري وللقاضي وللقائم على بيت المال وللعامل على الديوان والجامع للأموال

ص: 69

وهناك امام الصلاة والكاتب والرقيب على السوق والمؤدي لواجبات الشرطة والمفتش العام الى جانب المجالس الشورية.

9. إنها إدارة وظفت الخريطة التنظيمية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأضافت إليها بعض المراكز والوحدات الجديدة.

ص: 70

3. دراسة الباحث محسن علي المعلم(1) ((علي بن أبي طالب إمام الدين والدولة)) احتوت هذه الدراسة على أربعة فصول أساسية تضمن الفصل الأول منها موضوع السيرة والتكوين لشخصية الإمام (عليه السلام) وأثر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام في بناء شخصيته القيادية فضلا عن امتلاكه ملكات ذهنية وفكرية وإدارية عالية المستوى.

أما الفصل الثاني فقد اختص بالحديث عن الممارسات او الأدوار او الأنشطة التي قام بها الإمام (عليه السلام) في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومواقفه الإرشادية والتوجيهية زمن الخلفاء الثلاثة حيث كان ينظر للإمام حينها مستشاراً يلجأون إليه عند الشدائد والمعضلات والمشكلات الاجتماعية طلبا لحلها وأخذ مشورته لإدارة الأزمات ولاسيما في مسائل الحروب والقضاء وغير هما من القضايا الاجتماعية المتنوعة.

في حين جاء الفصل الثالث ليلقي الضوء على سياسة الإمام عندما تولى السلطة ((الخلافة)) ولعل هذا الفصل يمثل بالنسبة لدراستنا المحور الأساس الذي يمكن تسليط الضوء عليه لأجل بيان وتوضيح ابرز مفاصل سياسة الإمام (عليه السلام) والتي تتضمن بالضرورة تنظيمات عدة أبرزها التنظيم السياسي والاقتصادي والقضائي.

إذ يرى الباحث ان الإمام (عليه السلام) يمتلك من المقومات السياسية الشيء الكثير والمتطابقة مع روح القرآن الكريم والسنة النبوية. وقد تمثلت هذه المقومات في مختلف أدوار حياة الإمام وأنماط سياسته ومرتكزاتها وأبعادها وما يرتبط بها من تنظيمات

ص: 71


1- الشيخ محسن علي المعلم، علي بن ابي طالب (عليه السلام) امام الدين والدولة، بحث مقدم الى الندوة العلمية التي عقدها مركز كرباء للبحوث والدراسات في لندن من 17 - 18 تموز، 1999 ، ج 1، ط 1، لندن، 2000

متنوعة، التي تتمحور عموما حول الآتي:

ا. إقامة الحق والعدل.

ب. الوضوح في المنهج والعمل.

ج. الإصرار على انه صاحب قيادة قرآنية (ينهل من القرآن في كل سياساته).

د. التسامح فيما يعود الى حقه والشدة فيما يتعلق بحق الأمة.

ه. سعة الأفق في تأسيس الدولة وإدارتها وتنظيمها.

ويذهب الباحث إلى ان هذه المقومات او المحاور تمتلك شعباً وقضايا وفيما يلي عرض نماذج من ذلك وشواهد على ما يحمله فكر الإمام وما يمتاز به في خلقه وقوله وفعله وكالآتي:

أولاً: مما قاله في الحق ((وأيم الله لأبقرنّ الباطل حتى أُخرج الحق من خاصرته)) ((وأعظم ما افترض الله تعالى من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إلى الرعية حقها عز الحق بينهم)).

ثانياً: الموضوعية والوضوح: وتلك سمة سياسته حيث لا خداع ولا شراء ضمائر وأصوات وإنما هي مقولة الحق ودعوة الصدق، وقد صدح بها قولا ومثلها عملا إذ قال (رضي الله عنه) وقد ازدحمت عليه الأمة بعد مقتل عثمان ((دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه والوان لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الافاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إذ أجبتكم ركبت بكم ما اعلم ولم أصغ الى قول القائل وعتب العاتب)).

ثالثاً: إمامة الأمة: لم يكن عليا يوما في لبسٍ من أمره بل كان على بينة من ربه وعلم بمقامه إذ كان يرى نفسه أميناً على مصالح الأمة أكثر من رؤيته نفسه بأنه حاكم على الرعية، بعبارة أخرى إنه كان يسحب علاقته الدينية بربه من خوف ورهبة، يسحبها إلى

ص: 72

علاقته السياسية بينه وبين المحكومين ((أفراد المجتمع))، فقد كان ينظر إليهم نظرة الخائف على مصالحهم ومعيشتهم الكريمة فضلا عن دفاعه الواضح عن حرياتهم الفكرية والسياسية لاسيما مع خصومه من الخوارج وغيرهم.

وبعد ذلك ينتقل الباحث للحديث عن الكيفية التي رعى بها الإمام الرعية وأسسها.

إذ يذكر الباحث أن الإمام (عليه السلام) كان يولي الرعية همه واهتمامه وينص على ذلك في دستور حكمّه وبنوده فيوصي الوالي من قبله: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)).

ويختتم الباحث دراسته بطرح سؤال مؤداه هل نجح الإمام في سياسته بإدارة الدولة؟ ويجيب بالنقاط الآتية:

أولاً: إن الإمام ينطلق في شؤونه الإدارية من مبادئ مقدسة وقواعد ثابتة لا يحيد عنها وهي المستندة الى الشريعة الإسلامية.

ثانياً: إن الإمام قد كشف عن منطلقاته التي لا تكسبه نجاحا ظاهرا مع منطلقات غيره التي حققت لهم ما يريدون كما في حديثه الآتي ((وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم! قاتلهم الله؟!)).

ثالثاً: إن الإمام (عليه السلام) ورث تركة ثقيلة جدا حيث تولى الحكم بعد حكام ثلاثة كانت لهم آراء ومشارب في الأحكام والأموال وقد حملوا الأمة عليها وارتاحت لذلك نفوس فلم ترغب عنها متحولا، ولا بسواها بدلاً ولا سيما زمن الخليفة الثالث.

رابعاً: تفاقم الأمر وتعاظمت الخطوب يوم رفع معاوية بن أبي سفيان رأسه وفعل

ص: 73

الافاعيل وغدر وفجر واحتال وقتل وشرى الضمائر فمالت الناس إلى دنياه ورغبوا عن دين علي وعدله وحقه الذي هو دين محمد (صلی الله علیه وآله).

ويرى الباحث أنه وإن كانت تلك الأساليب نقاط ضعف في سياسة الإمام علي (عليه السلام) كما يرى بعضهم، فهي نقاط القوة والعظمة في مقياس القرآن والسنة النبوية.

وأخيرا اختتم الباحث دراسته بالفصل الرابع الذي ضمَّ مآثر الإمام علي ومنزلته عند المسلمين وغير المسلمين من فلاسفة وحكماء وأدباء وغيرهم بما يؤكد عظيم دور هذه الشخصية الإسلامية في الفكر الإنساني عموما.

ص: 74

المبحث الثالث: مناقشة الدراسات السابقة

يتناول هذا المبحث مناقشة للدراسات السابقة وذلك بغية التعرف على مدى الاستفادة من هذه الدراسات التي ضمّت مجموعة من الأفكار الإدارية والتنظيمية في المجال الاجتماعي، بما يمهد لنا السبل لتقديم الاضافة العلمية الملائمة لدراستنا التنظيمية لتكون اوسع رؤية واكثر شمولاً.

وعلى الرغم من أن كل هذه الدراسات عالجت موضوع الإدارة والتنظيم من الواجهة الدينية والإدارية بينما ظلت الواجهة السوسيولوجية مغيبة إلا أن هذه الدراسات قدمت بعض الرؤى والمعالجات التاريخية المفيدة التي استعانت بها الباحثة فيما بعد بتحليلاتها السوسيولوجية التي اعتمدتها.

لقد كانت دراسة الباحث محسن القزويني المتضمنة دراسة الخصائص الإدارية في فكر الإمام علي (عليه السلام) منطلقة من القاعدة الإنسانية للحاجة إلى الإدارة والتنظيم، وتُعد هذه الدراسة من أكثر الدراسات قرباً لدراستنا لكونها تطرقت بشكل جزئي الى الحاجة الاجتماعية للتنظيم والإدارة وفقا لرؤية الإمام علي (عليه السلام).

وقد كانت دراسة شاملة لصفات الإدارة الإسلامية في فكر الإمام وهي ((الإنسانية - التنظيمية - الجماعية - الهدفية))، وقد أبدع الباحث في تتبعه لمعنى النظام في الإسلام

ص: 75

وكيف ينشأ ويتقوى واسباب انهياره داعماً آراءه وطروحاته بنصوص واقتباسات من أقوال وخطب ووصايا الإمام وبشكل علمي وموضوعي.

وهذا ما يجعل هذه الدراسة الأقرب الى موضوع دراستنا هذه، ومن جهة اخرى فقد تناولت هذه الدراسة دور العقل والعلم والحلم في عملية إدارة شؤون المجتمع وتنظيمه مما يجعل من عملية الإدارة التي جاءت مرادفة لعملية التنظيم ناجحة ومحققة للمصالح الاجتماعية بشكل عام.

أما دراسة الباحث محمد أحمد العيساوي ((التنظيمات الإدارية في عصر الرسالة والراشدين)) فقد تبنت المنهج التاريخي والاتجاه الديني في عرضها للتنظيمات الإدارية التي حدثت إبان عصر الرسالة وما بعدها واقتصرت معالجتها لموضوع الإدارة في زمن الخليفة الرابع على الإدارة السياسية والعسكرية والإدارة الاقتصادية.

وقد قام الباحث بتقديم عدد من الجداول والترسيمات التي توضح وتبين التنظيم الإداري السياسي والاقتصادي والعسكري الذي قاده الإمام في الأقاليم والأمصار داخل الدولة العربية الإسلامية، فضلا عن قائمة المصادر التاريخية التي توثق عمال وولاة الإمام في الأمصار المختلفة مما افاد الدراسة بالشيء الكثير لمعرفة الأسس التنظيمية للعمال والولاة الذين ترتكز عليهم عملية تنظيم المجتمع وإدارته سياسيا واقتصاديا.

في حين كانت دراسة الباحث ليث شاكر العبيدي ((وصايا الخلفاء الراشدين السياسية والإدارية)) مقتصرة على الوصايا التي عرفها الباحث بأنها الأوامر والتعاليم السياسية وهذا ما يجعل من الوصايا أداة إدارية وتنظيمية في المجتمع، علماً ان هذه الوصايا كانت موجهة بشكل مباشر وغير مباشر إلى عماله وولاته والقائمين بالعملية الإدارية والسياسية في الدولة الإسلامية.

وقد استخلصت هذه الدراسة الجانب السياسي والإداري التنظيمي لشؤون المجتمع

ص: 76

الإسلامي عبر وصايا الإمام الى قواده وعماله وولاته بشتى انحاء الدولة الإسلامية وعبرت عن الأسس العقائدية للإمام (عليه السلام) في محاسبة عماله وولاته المقصرين في اداء مهاتهم الوظيفية الإدارية والسياسية في المجتمع والتي تنظم شؤون الرعية والبلاد.

وتختص هذه الدراسة كسابقتها بالجانب الإداري والسياسي البحت للوصايا الخاصة بالإمام علي (عليه السلام) من دون التركيز على الجانب الاجتماعي للإدارة السياسية في فكر الإمام (عليه السلام).

ولكن يبقى لنا القول إن هذه الدراسة خدمت موضوع بحثنا من ناحية توضيحها الخطوط الإدارية والتنظيمية والسياسية الكامنة في وصايا الإمام الى ولاته وعماله وقادته الذين كانوا يعملون تحت أمرته. على الرغم من تركيزها المكثف على الجانب الديني والتاريخي لتلك الوصايا.

أما الدراسات العربية والتي منها دراسة الباحث محمد عمارة فقد جاءت كدراسة تاريخية واجتماعية ودينية لفكر الإمام علي بن ابي طالب وقد أفادت هذه الدراسة بحثنا من ناحية مناقشتها الوضع الاجتماعي الذي نشأ به الإمام ودوره وموقفه في الإسلام.

فضلا عن ذلك فإن الدراسة أفادت موضوع بحثنا في توضيحها التداعيات الاقتصادية والاجتماعية في زمن عثمان بن عفان والتي تركت الأثر السلبي الواضح في سياسة الإمام (عليه السلام) بوصفه الخليفة الرابع الذي ورث تركة العهد السابق.

وهذه الافكار الاجتماعية اوضحت لنا أهمية الظروف الاجتماعية والاوضاع السائدة في المجتمع وانعكاساتها على الجانب السياسي والحربي (العسكري) والاقتصادي زمن خلافة الإمام (عليه السلام).

كما افادت هذه الدراسة مما طرحه الباحث من اصطلاح الثورة الذي أفاد موضوع بحثنا ولاسيما أن الثورة غالباً ما تسبق وترافق أي تنظيم اجتماعي مزمع القيام به. وعلى

ص: 77

الرغم من ان هذه الدراسة لم تكشف عن شخصية الإمام القيادية بكل تفاصيلها ولم تتطرق الى آليات ووسائل التنظيم الاجتماعي في فكر الإمام بشكل واضح وجلي إلا أنها كشفت النقاب عن التفاوت الطبقي والتمايز بين الطبقات في المجتمع الإسلامي في الفترة السابقة لخلافة الإمام، فضلا عن ذلك فإن الباحث قدم تقسيما للطبقات ((الفئات)) التي يتكون منها المجتمع وفقا لتنظيم الإمام علي لها وتصنيفها وتحديد حقوقها وواجباتها بما مهد لنا السبيل لاقتفاء اثر هذا التصنيف وتحليله سوسيولوجياً وبشكل أشمل وأوسع.

والدراسة العربية الثانية كانت للباحث فهمي خليفة الفهداوي التي عالجت موضوع الإدارة في الإسلام من الناحية المنهجية والتطبيق والقواعد المؤسسة عليها؛ علما ان طرح الباحث للإدارة جاء مرادفاً للتنظيم السياسي والاجتماعي، وبالوقت نفسه فإن هذه الدراسة قد تبنت منظوراً دينياً محضاً في رؤيتها للإدارة في الإسلام وعلى وفق ما طرحه الباحث من مزاوجة بين مفهومي الإدارة في الإسلام وتدبير المصالح الشرعية التي جاءت معبرة عن بعض جوانب التنظيم الاجتماعي بحسب طرحنا له.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الدراسة تتفق مع توجهات دراستنا فيما يخص ما خلصت إليه من ناحية الخصائص المميزة لإدارة الإمام علي (عليه السلام) وذلك في خطبه الداعية الى إرساء المبادئ التنظيمية الممزوجة بالقيم الدينية والأخلاقية من ناحية طاعة الله تعالى والعمل بما يرضي ثم السعي لإنصاف الرعية من ظلم العمال والولاة، فضلا عن سياسته في عملية التغير الاجتماعي والسياسي التي قام بها الإمام أبان فترة خلافته.

وبالوقت نفسه فقد أفادت هذه الدراسة بحثنا عبر ما قدمه الباحث من خصائص رسمية للإدارة في فترة الخلافة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) التي يشكل الإمام أحد أعمدتها من ناحية العمل القيادي، وتأثره بشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القيادية واستخدام الخطط والبرامج السياسية لادارة وتنظيم شؤون الرعية

ص: 78

عبر الاعتماد على ملاك متخصص لتنفيذ النشاطات والمسؤوليات، مما أضاف رؤية جديدة أفادت وأثرت موضوع دراستنا لكونها أكدت أن إدارة وتنظيم شؤون المجتمع الإسلامي يتكون من أجزاء متساندة ومراحل متلاحقة وهو ما يتفق مع توجهات دراستنا.

بينما نرى أن دراسة الباحث محسن علي المعلم قد زاوجت بين المنظور الديني والمنظور السياسي في شخصية الإمام علي فهو رجل دين ودولة وبالتالي فإن إدارته المجتمع وتنظيمه شؤون المجتمع من نواحيه المختلفة قد سارت في اتجاهين: ديني وسياسي في آن واحد.

وهذا يخدم موضوع دراستنا لكون دراستنا سعت الى معرفة الأسس الدينية والسياسية التي اعتمدها الإمام عندما نهض بعملية التنظيم الاجتماعي الذي يرتبط بالناحيتين الدينية والسياسية بشكل واضح.

ومن جانب آخر فإن هذه الدراسة هدفت إلى تقصي مقومات سياسة الإمام في تنظيمه أمور الدين والدولة من ناحية إقامة الحق والعدل والوضوح في المنهج والعمل والدمج بين التسامح والشدة وسعة الأفق في تأسيس الدولة وتنظيم أمورها مما يجعل من الإمام شخصية قيادية ناجحة وكرزماتيكية وهو بالفعل ما ستحاول دراستنا التوجه نحوه واستقصاءها من ناحية وصف قيادة الإمام الكرزماتيكية للمجتمع وتأثر أتباعه به، فضلا عن ذلك فإن هذه الدراسة اقتربت من دراستنا في توضيحها لأثر الدين الإسلامي وأثر شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جعل علي بن ابي طالب قائداً إسلامياً قادراً على إدارة وتنظيم شؤون المجتمع الإسلامي من خلال استناده وارتكازه على مقررات وأوامر الدين الإسلامي قرآناً وسنة.

وبهذا فأن اغلب الدراسات السابقة أكدت أهمية الإدارة في الإسلام، الواردة على وفق منظور الإمام علي (عليه السلام) كمرادف لعملية التنظيم في الإسلام من ناحية، ومن ناحية أخرى أكدت هذه الدراسات ان التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي قام به الإمام منبثق عن قواعد وأسس الدين الإسلامي قرآناً وسنة شريفة مما يجعلها متميزة بطابع الاستمرارية والصلاحية لكل زمان ومكان.

ص: 79

ص: 80

الفَصْلُ الثَّالِث التنظيم السياسي في فكر الإمام علي (عليه السلام)، رؤية تحليلية لمسألتي السلطة والقيادة

اشارة

ص: 81

ص: 82

تمهيد

إن الحديث عن التنظيم السياسي الذي أداره ونظمه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتحليله سوسيولوجيا يتطلب الوقوف عند مسألتين مهمتين وهما:

أ. المرجعية الإسلامية للحكم التي يتبين من خلالها الأسس أو القواعد التي استندت بموجبها سلطة وقيادة الإمام (عليه السلام) وشرعيتها في إدارة الدولة الإسلامية.

ب. الظروف المجتمعية، التي نقصد بها طبيعة الحياة الاجتماعية بجوانبها ومناحيها كافة التي تصدى فيها الإمام (عليه السلام) لتولي السلطة والقيادة، وبعبارة اخرى بيان المعطيات الاجتماعية المتنوعة التي واجهها الإمام عند توليه الحكم آنذاك.

ولكي تتضح هاتان المسألتان المهمتان سنعمد الى الحديث عنهما بشكل منفصل وعلى النحو الآتي:

المسألة الأولى: المرجعية الإسلامية للحكم:

إن مسألة الحكم أو النظام السياسي (إدارة الدولة وقيادتها) شأنه شأن أية مسألة او نظام آخر في الإسلام (الأنظمة القضائية - الاجتماعية - الاقتصادية... الخ) انما تستند في أسسها وقواعدها من حيث النظرية والمسار والغاية الى ما اقره وشرعه الإسلام ونظمه.

إذ إن للدين أهمية كبرى في الحياة الاجتماعية نظرا لما يقوم به من وضع القواعد والقوانين التي تنظم علاقة الافراد بالمجتمع، والتي من دونها لا يقوم تضامن كامل او معاملة

ص: 83

فاصلة بين الأفراد(1).

وتحت عنوان فكرة الدولة في الإسلام يحاول الباحث توفيق السيف عرض مجموعة من العناصر او الأفكار التي يعدها موارد اهتمام شرعي فيما يتعلق بمسألة السلطة في الإسلام وذلك بعد استقرائه واستناده الى النصوص التشريعية والتجربة التاريخية الإسلامية، إذ هو يرى ان بعض هذه العناصر ثوابت عقلية قبل أن تكون شرعية. جاءت الشريعة الإسلامية فأقرتها بنفسها، أو مع بعض التعديلات، وبعضها مستحدث من جانب الشريعة، جرى تأكيدها في النص القرآني او النبوي، ويرجع القسم الثالث الى التجربة التاريخية التي بلورت مفاهيم لم تكن معروفة أو سائدة قبل الإسلام أو زمن الوحي وهذه العناصر برأيه هي: - الأول: - إن الهدف المركزي للشريعة هو بناء الأمة، وهي من حيث السعة والقيمة فوق السلطة.

الثاني: - أصالة النظام، وكون قيام السلطة مبرراً بضرورته، ولذلك فإن قدرتها على تجاوز حقوق الأفراد او مختصاتهم مشروطة بحاجات النظام الذي يعد مصلحة عامة كبرى يمكن تغليب مقتضياتها عندما تتعارض مع المصالح الفردية.

الثالث: - تقديم اعتماد الردع الداخلي / الردع النفسي ((الورع)) على الردع الخارجي ((القانون)) وحصر مجال عمل السلطة في حال خروج الفرد على النظام العام، وبالتالي فإن صلاحية السلطة محدودة في حال افتقار الفرد للردع الذاتي عن الاثم في نفسه (الفسق) ولكونه ممارسة متعارضة مع النظام العام.

الرابع: - كون السلطة ولاية، أي ان مشروعيتها نابعة من علاقة نشطة وتفاعلية بين صاحبها وموضوع العمل وهذا يستبعد فكرة الملك الناشئ عن حق أصلي أو خاص

ص: 84


1- د. احمد الخشاب، علم الاجتماع الديني، مكتبة القاهرة الحديثة، ط 3، 1970، ص 177

يستمد مشروعيته من المال أو الانتساب العائلي او الغلبة.

الخامس: - قيام السلطة على أساس التعاقد ((البيعة)) التي تتضمن حق الرفض والعزل وإمكانية المنافسة، وهذا الأصل محل الاختلاف في جانبه النظري وفي تطبيقاته، كما في تحديد الوصف القانوني للبيعة، ولكونها شرطاً او ركناً للمشروعية ومن ثمَّ في قيمة السلطة التي تقوم بناءً عليها او من دونها(1).

وتأسيساً على ما تقدم مع الالتفات لطبيعة التجربة الدينية والسياسية التي كان يعيشها المجتمع العربي الإسلامي والتي تمثلت بأن الإسلام بالنسبة له دين ودولة وان النبي محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بمثابة قائداً دينيٍّ وسياسيٍّ في الوقت نفسه(2).

لذلك فإن طبيعة المرجعية الإسلامية للحكم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما نشأت تحت ظروف واقعية حاولت الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الصبغة الدينية للسلطة.

وعلى العموم فإن الأمور او المسائل التي استندت إليها هذه المرجعية الإسلامية في بواكيرها السياسية إنما ترتكز في بنائها الرئيس حسب ما نراه في محاولتها الإجابة عن سؤالين رئيسيين هما: - السؤال الأول: - ما الشكل السياسي الجديد للحكم الذي يتولى إدارة الدولة الإسلامية بعد وفاة القائد الديني والسياسي لها (الرسول) (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ السؤال الثاني: - ما الشرعية التي يستند إليها الشكل السياسي الجديد في الحكم او

ص: 85


1- توفيق السيف، نظرية السلطة في الفقه الشيعي، المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2002، ص 25 - 26
2- ينظر: د. بشیر محمد الخضرا، النمط النبوي - الخليفي في القيادة السياسية العربية والديمقراطية، مصدر سابق، ص 128 - 132

يعتقد بأستنادها إليه؟ ان الإجابة عن السؤال الأول تكمن وبشكل واقعي في التجربة التاريخية السياسية ليسَ في تاريخ الإسلام فحسب بل في تاريخ العرب عموماً. اذ عكست هذه التجربة ارتباط العرب وتماهيهم مع جذورهم الجاهلية اكثر من الإسلامية، فضلا عن نزعتهم البدوية الموغلة فيهم وذلك من خلال ارتكازهم على الولاء القبلي في تحديد القيادة النائبة، وعلى حد قول احد الباحثين إن التجربة الأولى في القيادة بدأت بوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبل أن يدفن النبي اجتمع نفر من المسلمين في سقيفة بني ساعدة(1)ليبحثوا أمر الخلافة، خلافة الرسول. وقد تبلورت القضية بداية في الخلاف بشأن القبيلة التي يجب ان تحكم المسلمين فظهر في السقيفة فريقان، المهاجرون والانصار وقد تمت المداولة بينهما وانتهت الى - الاتفاق - على أن يتولى ابو بكر الخلافة وفي واقع الأمر كان هنالك فريق ثالث لم يظهر في السقيفة، وكان دوره خافتا في البداية ثم قوي مع الزمن وأصبح تياراً أساسياً وحزباً رئيساً من الأحزاب الإسلامية ذلك هو فريق او تيار التشيع لآل البيت الذي أصبح له دور كبير في ما بعد من حيث تطوير نظرية الإمامة التي يؤمن بها الشيعة(2).

والنتيجة التي تفرض نفسها في هذا الموضع هي ان الصحابة عالجوا مسألة الخلافة معالجة سياسية محضة، وقد كان المنطق السائد هو منطق ((القبيلة)) بمعنى انه لم يكن لا ل ((العقيدة)) ولا ل ((الغنيمة)) دور يستحق الذكر في ترجيح احدى وجهات النظر التي ادلي بها في سقيفة بني ساعدة(3).

ص: 86


1- في تفاصيل واقعة سقيفة بني ساعدة ينظر: ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدنيوري، الإمامة والسياسية، تحقيق: د. طه محمد الزيني، ج 1، دار الاندلس، د.ت، ص 12 - 15
2- د. بشير محمد الخضر، النمط النبوي - الخليفي في القيادة السياسية، مصدر سابق، ص 136 - 137
3- د. محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته، تجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 3، بیروت، 1995، ص 136

وهذا يعزز الطبيعة البدوية التي تعلي وترفع من دور القبيلة كعامل سياسي فعال لاختيار القائد او الخليفة وبالوقت نفسه تكشف بأن التنظيم القبلي اكثر المظاهر الاجتماعية بروزاً وهيمنة عند العرب(1).

وبشكل عام فإن ما آل إليه الأمر هو جعل أبي بكر القائد السياسي الجديد، ولما كانت الدولة الإسلامية قد أسست على يد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان قائدها الديني والسياسي، فقد نُظِر - اهل السقيفة - الى أبي بكر بوصفه النائب عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلف له، ولهذا اتفق المسلمون على تسمية الشكل السياسي الجديد للحكم ب((الخلافة)).

وفي هذا الموضع يشير احد الباحثين إلى ذلك قائلا: ((والخلافة، والإمامة العامة، وإمارة المؤمنين أنماط مترادفة بمعنى واحد، وإنْ كان لكل منهم نشأة وملابسات تاريخية يتكون منها مغزى معين، وقد عرف لقب (الخليفة - لأول مرة)(2)لدى اختيار أبي بكر عقب مبايعته ليخلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتسمية خليفة تعود إلى انه يخلف النبي في أمته ورئاسته لها وإدارة شؤونها))(3).

وفي السياق نفسه يرى ابن خلدون ان الخلافة تعني ((حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الاخروية والدنيوية الراجعة إليها، اذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في

ص: 87


1- د. حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت، ط 1، 2000، ص 191
2- وهذا لا يصح فقد عرف المسلمون وغيرهم أن لقب الخليفة له جذوره في القرآن والسنة فأما القرآن تحدّث عن خلق آدام وإنه خليفة الله في الأرض. وأما السنة فقد عرفوا بلقب الخليفة منذ انطلاقة الدعوة إلى التوحيد والنبوّة فحدد (صلى الله عليه وآله وسلم) الخليفة من بعده في دعوته لعشرته الأقربین وإنذارهم كما في حديث الدار، ينظر: (شرح نهج البلاغة للمعتزلي، ج 13، ص 344
3- محمد محمد جاهين، التنظيمات الإدارية في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984، ص 124

حراسة الدين وسياسة الدنيا به))(1).

إن ما نخلص اليه مما تقدم هو أن الشكل السياسي الجديد للحكم ((الخلافة)) كان الأنسب بنظر المسلمين آنذاك وبما يتلائم مع توجهاتهم عموما، وإن هذا الشكل بدأ بأخذ مدياته من حادثة السقيفة وبدأ يستقر في بناء الدولة الإسلامية اومن ناحية أخرى فان مفهوم الشرعية يعالج العلاقة بين ((الحق)) و ((القوة)) وبصورة موجزة فإنه يجيب على السؤال التالي: ((ما المبرر الذي يسمح لفرد او جماعة بإصدار الأمر والنهي والحكم على الآخرين؟ وما المبرر الذي يجعل المأمورين يقبلون ذلك الأمر وينصاعون اليه؟)) وبهذا المعنى فإن الشرعية عنوان لمنظومة من القيم والمفاهيم والتبريرات الثقافية المترسخة في ذهنية المجموعة الحاكمة والمجتمع المحكوم وتمثل مورد توافق بين الطرفين بحيث يمكن في إطارها وتبعا لمتطلباتها ممارسة السلطة من جانب الحاكمين بما فيها من امر ونهي وتجاوز لمختصات الأفراد، كما توفر للمجتمع المحكوم أساساً مناسبا لتبرير طاعته للسلطة وقبوله بتحديدها الخاص لحدود حركته وحريته، بحيث يعتبر التنازل عن هذه المختصات أمراً مستساغا ومقبولا(2).

وما كان لحادثة السقيفة التي افتتحت الشكل السياسي الجديد للحكم أن تمر دون ان تصوغ شرعية لها، فلهذا اعتمدت على ((البيعة)) كصيغة لإسناد السلطة للحاكم او كتفويض سياسي له بإدارة شؤون الدولة الإسلامية. وفي معنى البيعة يقول ابن خلدون ((اعلم ان البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على انه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا اذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد...(3).

ص: 88


1- عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار القلم، بيروت، ط 1، 1978، ص 191
2- توفيق السيف، نظرية السلطة في الفقه الشيعي، مصدر سابق، ص 41 - 42
3- ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، مصدر سابق، ص 209

ووفقا للشكل الأخير بويع أبو بكر(1).

المسألة الثانية: الظروف المجتمعية:

لم تكن عملية وصول الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى السلطة وتوليه القيادة (الخلافة) قد سارت بشكل تقليدي روتيني كالخلفاء الذين سبقوْ، إذ إن الإمام علياً (عليه السلام) قد بويع بالخلافة بعد ثورة جماهيرية واسعة قادتها قطاعات واسعة من المسلمين آنذاك، بعد ان مارست دور المعارضة ردحاً من الزمن. ولقد انتشرت هذه الثورة وعمليات التمرد على الولاة في معظم الأمصار والولايات الرئيسة وكانت هذه الثورة حصيلة مجموعة من الممارسات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية - غير التنظيمية - التي مارسها الخليفة الثالث عثمان بن عفان وبعض ولاته.

وقد مهدت هذه الممارسات عموما التي بدأت من سقيفة بني ساعدة التي بويع فيها بالخلافة لأبي بكر، ترسيخ وتكريس مبدأ - افضلية قريشي - على سائر القبائل العربية(2).

هذا التكريس جذر ل ((ايديولوجيا افضلية قرشي)) المبالغ فيها والتي تعززت اكثر بعد وصول عثمان بن عفان للسلطة بعد ما بويع له من رجال الشورى ((القرشيين)) الذين عينهم عمر بن الخطاب لاختيار الخليفة من بعده(3). وفي هذا الموضع يذكر الدكتور

ص: 89


1- ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أي كتاب؟ مصدر سابق، ص 16
2- د. محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، مصدر سابق، ص 129 - 136. وينظر كذلك الدينوري، الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ص 12 - 15
3- أوصى ابو بكر بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، أما عمر فلم يوص ولكنه أوجد نظام شورى مصغراً مكوناً من رجال ستة كلهم من قريش وهم علي بن ابي طالب، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن ابي وقاص، الزبیر بن العوام، عثمان بن عفان وطلحة بن عبد الله ولقد مالت الكفة لعثمان لأن عبدالرحمن بن عوف معه اذ أوصى عمر ان الجهة التي بها ابن عوف خیر من الأخرى فرجحت كفة عثمان الذي مالت اليه قلوب القرشيين بعدما اشتد عليهم عمر بحزمه وصرامته فمالوا له. ينظر: الدينوري، المصدر السابق نفسه، ص 28 - 31

الجابري أن وقائع الشورى قد ولدت صراعاً شديداً بين علي وأنصاره وعثمان وأهله مرة أخرى وبعبارة أخرى برز الصراع بين بني هاشم الممثل بعلي والأمويين الممثل بعثمان (1).

مما انعكس هذا الأمر بعد ذلك على سياسة عثمان بن عفان في تقريبه للقرشيين عموماً وأولاد عمومته ((الأمويين)) خصوصاً وتفضيلهم على سائر الصحابة من ذوي السابقة في الإسلام إيماناً وجهاداً، فقد أورد الدينوري في كتابه ((الإمامة والسياسة)) ابرز الممارسات التي وقع فيها عثمان بن عفان قائلا: ((وذكروا انه اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله(2)وسنة صاحبيه، وما كان من هبته خمس افريقيا لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين(3). وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها في المدينة: دارا لنائلة، ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته وبنيان مروان القصور بذي خشب ((بضم الخاء والشين / موضع بالمدينة)) وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل في الولايات في أهله وبني عمه من بني أمية(4).

ص: 90


1- د. محمد عابد الجابر، العقل السياسي العربي، مصدر سابق، ص 146
2- لقد احصى الدكتور طه حسین جملة من المخالفات الصريحة لسنة الرسول (؇). ينظر: طه حسین، الفتنة الكبرى عثمان، طبع دار المعارف بمصر، ط 9، 1976، ص 175 - 186
3- كما وهب أموال الصدقات المجموعة من قضاعة لابن عمه الحارث بن الحكم، ينظر: طه حسین، مصدر سابق، ص 194
4- فوالي البرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز ولّاه وعمره خمس وعشرون سنة، ينظر: طه حسین، مصدر سابق، ص 115، وولى أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد ابن ابي سرح على مصر بعد عمرو بن العاص، وابن سعد هذا كان يسخر من القرآن وقد اهدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دمه يوم الفتح، ولكن عثمان جاء به مسلماً الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ينظر: المصدر السابق نفسه، ص 124، اما ابن عمه معاوية بن ابي سفيان فكان واليه على الشام التي ضم إليها ولايات ((حمص وفلسطين والاردن)) وكان يرسل المعارضین له ليؤدبهم ويغیر أفكارهم: المصدر السابق نفسه، ص 112 - 119، اما الوليد بن عقبة واليه على الكوفة فكان أخوه من امه. ينظر: تفاصيل ذلك د. فاضل الأنصاري، قصة الاستبداد، أنظمة الغلبة في تاريخ المنطقة العربية، منشورات وزارة الثقافة السورية، 2004، ص 369

وكذلك ما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة اذ صلى بالناس الصبح وقت إمراته عليها وهوسكران أربع ركعات ثم قال لهم: ان شئتم ازيدكم صلاة زدتكم، وتعطيل إقامة الحد عليه، وتأخيره ذلك عنه، وتركه المهاجرين والأنصار لايستعملهم على شيء ولايستشيرهم، استغنى برأيه عن رأيهم، وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة، وما كان من إدارة القطائع والأرزاق والاعطيات على أقوام بالمدينة ليس لهم صحبة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يغزون ولا يذبون(1)في مثل ظروف اجتماعية كهذة كان من الطبيعي ان تفرز مشكلات اجتماعية عديدة منها انتشار ظاهرة الفساد الإداري تلك الظاهرة التي تجلت نتيجة العوامل الآتية:

أولاً: - إن معيار وأساس التعيين الوظيفي في أي منصب زمن الخليفة الثالث كان مرتكزا على مدى القرابة الدموية منه وليس معيار الكفاءة الإدارية والمقدرة التنظيمية.

ثانياً: - وما دامت الثوابت الدينية التي بُني عليها البناء التنظيمي الإسلامي قد عُطلت أوألغي العمل بها من قبيل السبق في الإسلام والدور الجهادي والمنزلة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أن هذه المنزلة تجسدت وانعكست في سلوك تربوي - أخلاقي مهم لاسيما وأن عنصر البناء التنظيمي في الإسلام هي مسألة التقوى، فضلا عن تأثره بقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإدارته الدولة، هذا من ناحية، ومن نواح أخرى الصفات الأخلاقية للمسلم الذي يتبوأ مركزاً او منصباً إدارياً، ما دامت هذه الثوابت قد عطلت او ألغي العمل ببعضها من زمن الخليفة عثمان فقد كانت المحصلة كالآتي: -

ص: 91


1- الدينوري، الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ص 35

ا. استثمار واسع للأموال العامة واستخدامها في مشاريع وأمور لا تخدم المصلحة العامة، وهذا يعكس بطبيعة الحال انعدام الرقابة المالية والإدارية.

ب. الثراء الفاحش من الأموال العامة ((للأقلية في المجتمع)) ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يصل الى التبجح بذلك والتسيد على الناس والاستعلاء عليهم كما فعل والي الخليفة الثالث على الكوفة سعيد بن العاص (1).

ج. الرد بقسوة تجاه أي صوت معارض يوضح او يَبّين المفاسد الإدارية والتنظيمية التي تسري في بناء الدولة حتى لو كان هذا المعارض صحابياً عظيم المنزلة في الإسلام إيماناً وجهاداً(2).

ولكنّ المشكلة الحقيقية والرئيسة التي وسّعت عدد المعارضين وفئاتهم واسهمت في احداث الثورة على الخليفة مطالبة بخلعه او عزله هي مسألة الفيء ((الأموال)). وعلى حد تعبير الكاتب جورج جرداق كانت سياسة عثمان المالية - والإدارية ومستلزماتها

ص: 92


1- وفي ذلك يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: وكانت قبائل البادية تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة وينظرون إليهم نظرتهم إلى القوي المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة، وهي حالة كان احجى بالولاة أن يخفوها ويتلطفوا في إصلاحها او تبديلها ما استطاعوا ولكنهم على نقيض ذلك كانوا يباهون بها ويجهرون بحديثها حتى قال سعيد بن العاص والي الكوفة: انما السواد بستان قريش. ينظر تفاصيل ذلك كتابه، عبقرية الإمام علي، طبع دار المعارف بمصر، ط 5، 1981، ص 54 وطه حسن، الفتنة الكبرى، مصدر سابق، ص 110 - 113
2- فقد نفي الصحابي ابو ذر الغفاري إلى الشام أولًا ثم إلى الربذة ((من نواحي المدينة)) ثانياً لأنه عاب السياسة المالية للخليفة وولاته: ينظر: طه حسین، المصدر السابق نفسه، ص 163 - 165. كما ضرب عمار بن ياسر حتى غشي عليه ينظر، طه حسین، المصدر السابق نفسه، ص 167. وينظر كذلك الدينوري، الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ص 36، وينظر كذلك عباس محمود العقاد، المصدر السابق، ص 66

تشطر الناس شطرين على ما لا عهد لهم به: الحكام والانسباء وحصتهم الثراء والطغيان، والعامة ونصيبها الحرمان واحتمال الجور، وقد تركزت هذه السياسة الرأسمالية الخالصة بعد اقتراح عثمان بنقل الفيء(1)الى الناس حيث أقاموا في بلاد العرب فكان الترف والتبطل من نصيب الأثرياء الذين أفادوا من هذا التدبير(2).

كانت لهذا القرار تداعياته الشديدة على مسألة التراتب الاجتماعي للمجتمع الإسلامي آنذاك، حيث ولد تفاوتاً طبقياً حاداً بين المالكين لتلك الأراضي والمعدمين وممن سواهم، وبرؤية تحليلية أوسع لطه حسين نجده يرى ان هذا النظام الذي استحدثه الخليفة الثالث عن رأيه هو أو عن رأي مشيريه، لم تكن له نتائجه السياسية وحدها من نشأة هذه الطبقة الغنية المسرفة في الغنى، التي استهوت الناس وفرقتهم أحزاباً وتنازعت السلطان فيما بينها بفضل هذه التفرقة، وإنما كانت له نتائجه الاجتماعية أيضاً، فقد بلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب فوجدت طبقة الأرستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع. ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون على مرافق هؤلاء السادة. ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة

ص: 93


1- ومعنى ذلك ان عثان عرض على أهل الحجاز أولًا ثم عم ذلك في بلاد العرب كلها فيما بعد، ان يستبدلوا بما كان لهم في العراق وفي الأقاليم من الأرض أرضا في الحجاز او في غيرها من بلاد العرب. فإذا فعلوا ذلك قاموا في بلادهم لم ينتقلوا عنها، وأقام معهم أهلهم وذوي أسبابهم، فخف الضغط على الأقاليم وقلت هجرة الإعراب إليها. وسيحتاج هؤلاء الذين يشترون ارض الحجاز وبلاد العرب مكان أرض الأقاليم، الى كثیر من الأيدي العاملة لاستصلاحها واستثمارها، فيكثر اجتلاب الرقيق والموالي الى بلاد العرب ويخفف الضغط على الأقاليم من هؤلاء الاسارى الذين كانوا يطرأون عى الأمصار في غیر انقطاع، ينظر: للاستزادة طه حسین، الفتنة الكبرى، مصدر سابق، ص 104 - 110
2- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، علي وعصره، ج 4، دار ومكتبة صعصعة، البحرين، ط 1، 2003، ص 125

متوسطة هي طبقة العامة من العرب، الذين كانوا يقيمون في الأمصار ويغيرون على العدو ويحمون الثغور، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء، وهذه الطبقة المتوسطة هي التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعاً وأحزاباً(1).

في ظل هذه المعطيات الاجتماعية المتردية من فساد إداري وسياسة اقتصادية خاطئة تولدت المعارضة في صفوف المسلمين من عامة الناس، واندفع أبرز الصحابة في مقدمتها كما نوهنا لذلك مسبقاً، ولما لم تنجح العهود والمواثيق المأخوذة على الخليفة في تغيير سياسته عموماً على الرغم من عزل بعض ولاته واعتذاره عن اخطائه وأخطائهم، فضلاً عن فشل سياسة التهدئة حيناً وسياسة القسوة والعنف حيناً آخر، اندفع المعارضون من مصريين أ ولا ومن تبعهم من أبناء الأمصار والولايات آنذاك، اندفعوا نحو ((المدينة)) لخلع او عزل الخليفة.

ولما فشلت هذه المسألة اتفق بعض منهم على قتله على الرغم من رفض كبار الصحابة ذلك الأمر، وفعلاً تم قتل الخليفة عثمان بعد ان أحدث تنظيماً اجتماعياً غريباً وغير مألوف لدى المسلمين لا في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا في عهد الخليفتين ابي بكر وعمر، هذا التنظيم الذي افرز - مجتمع الفتنة - في حينه و ((الحرب الأهلية)) في حينٍ اخر في عهد خلافة الإمام علي (عليه السلام) الذي تحمل وبعض الصحابة الاجلاء عملية إصلاح وتعديل أخطاء التنظيمات الإدارية التي جاء بها عثمان(2).

مما تقدم يتضح أمامنا ثقل المسؤولية الاجتماعية المنبثقة عن الظروف المجتمعية المتدهورة والأوضاع الاجتماعية المتردية التي كانت بحاجة ماسة الى عملية تغيير اجتماعي

ص: 94


1- طه حسين، الفتنة الكبرى عثمان، مصدر سابق، ص 109
2- في تفاصيل ذلك كله، ينظر: طه حسین، الفتنة الكبرى عثمان، مصدر سابق، ص 109 ، وعباس محمود العقاد، المصدر السابق، ص 54 - 77 . وجورج جرداق، مصدر سابق ص 121 - 175 . ومحمد عمارة وآخرون، علي بن ابي طالب نظرة عصرية جديدة مصدر سابق، ص 14 - 24

أولاً ثم عملية إعادة التنظيم ثانياً وهذا ما قام به وتحمله الإمام علي (عليه السلام) بعد ذلك.

وستحاول الباحثة في المباحث اللاحقة توضيح الأسس والقواعد الشرعية للسلطة والقيادة لدى الإمام علي (عليه السلام) التي من خلالها استطاع ادارة دفة التغيير الاجتماعي وبالتالي إحداث تنظيم اجتماعي وسياسي واقتصادي وقضائي مغاير لما سبقه.

ص: 95

ص: 96

المبحث الأول: السلطة والقيادة عند الإمام علي - عليه السلام -

اشارة

نستطيع أن نحدد الغاية من هذا المبحث من خلال الإجابة عن تساؤلين رئيسين، لا يبنى عليها هذا المبحث فحسب، بل سائر المباحث الأخرى، وهذان التساؤلان هما: - أولاً: - ما الأسس والقواعد الشرعية التي استندت إليها سلطة الإمام علي (عليه السلام) وقيادته؟ وما هو البعد التنظيمي في تلك الأسس والقواعد؟ ثانياً: - ما أسس ومرتكزات السياسة التنظيمية العامة التي مارسها الإمام علي (عليه السلام) في المجتمع الإسلامي آنذاك؟ وللإجابة عن التساؤل الأول ينبغي الانطلاق من نقطة غاية في الأهمية، الإ هي: إن رغبة المسلمين في تولي الإمام الخلافة بعد مقتل عثمان كانت مرتكزة على نظرتهم للإمام بوصفه قائداً دينياً وشعبياً لهم أولا قبل أن يكون حاكماً عليهم أو يبايعونه لأجل ذلك أي ((السلطة))، وهذه المسألة ترتكز على التفريق بين مدلولي ((القيادة)) و ((السلطة)) لدى الإمام، وكما يشير إلى ذلك التفريق المفاهيمي(٭)وعلى حد قول الباحثين: فالقيادة تعني ان الفرد الذي في المركز او الدور يتمتع بقبول ورضى من الجماعة التي يقودها، فالعلاقة هنا علاقة القبول والموافقة، مع درجة معينة من تفضل ذلك الشخص على غيره في ذلك الموقع، وهذا المعنى يميز القيادة عن السلطة التي تعني الحق الرسمي او العلاقة

ص: 97

الرسمية بين صاحب الأمر ومن يتلقى الأمر وينفذه ويميزها عن ((الرئاسة)) كذلك التي تعني وجود علاقة رئيس ومرؤوس من دون التضمين بوجود موافقة او قبول من عدمه(1).

فالثائرون على عثمان نظروا للإمام علي (عليه السلام) بوصفه قائدا لهم على الرغم من أنه كان رافضاً إراقة دم الخليفة، إلا أنه كان معهم في إصلاحه وتعديل وتنظيم ما كان خطأ. وعلى حد تعبير محمد عمارة... بل لانغالي اذا قلنا ان صوت معارضته ونقده كان أعلى هذه الأصوات... ومن ثم فإن حركة المعارضة والنقد ثم الثورة ضد هذه الأوضاع الجديدة قد اتخذت من علي رمزا لها، وقيادة تلتف من حولها، كي تمارس الضغط والنقد لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع التي طرأت على المجتمع في ذلك الحين، حدث ذلك قبل مقتل عثمان ومبايعة علي بالخلافة(2).

ولما كان دور القيادة الذي يمثله الإمام (عليه السلام) فهؤلاء الثائرون الذين استولوا على المدينة بعد مقتل عثمان لم يكن هذا الدور كافيا اجتمع رأيهم ورأي الكثير من الصحابة على توليته السلطة ((الخلافة)) (3). الا ان الإمام (عليه السلام) رفض ذلك مصرا على أهمية رأي المسلمين عامة ((جمهور المسلمين)) وفي ذلك يذكر الدينوري ((انه لما اجتمع المسلمون وأتوا عليا في داره، فقالوا نبايعك، فمد يدك، لابد من أمير، فأنت أحق بها، قال: ليس ذلك إليكم، إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر، فمن رضى به أهل الشورى واهل بدر فهو الخليفة، فنجتمع وننظر في هذا الأمر، فأبى أن يبايعهم، فانصرفوا عنه، وكلم بعضهم بعضا فقالوا: يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون

ص: 98


1- د. بشیر محمد الخضر، النمط النبوي - الخليفي في القيادة السياسة العربية والديمقراطية، مصدر سابق، ص 79
2- محمد عمارة وآخرون، علي بن ابي طالب، نظرة عصرية جديدة، مصدر سابق، ص 22 - 23
3- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت، ط 1، 2004، م 2، ص 246

بقتله ولا يسمعون انه بويع لأحد بعده، فيثور كل رجل منهم في ناحية، فلا نأمن ان يكون في ذلك الفساد، فارجعوا الى علي، فلا تتركوه حتى يبايع، فيسير مع قتل عثمان بيعة علي، فيطمئن الناس ويكنون فرجعوا إلى علي(1).

إلا إن الإمام (عليه السلام) رفض البيعة أول الأمر وفي ذلك يقول المعتزلي ((وسألوه بسط يده، فقبضها فتداكوا عليه ((ازدحموا)) تداك الابل الهيم على وردها، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا، فلما رأى منهم ما رأى، سألهم ان تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس وقال: إن كرهني رجل واحد من الناس لم ادخل في هذا الامر))(2).

وقال الإمام (عليه السلام) في وصف هذه البيعة، ((وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم (العطاش) على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس بيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج اليها الكبير ((مشى مشية الخفيف)) وتحامل نحوها العليل وحسرت اليها الكعاب (أي كشفت النساء عن وجهها متوجهة الى البيعة))(3).

في ظل هذه المعطيات كانت الشرعية تأخذ دلالاتها ومدياتها، بعد عملية البيعة الواسعة التي مكنت الإمام (عليه السلام) من الحصول على السلطة ((الخلافة)) التي تمثل حجر الزاوية في البناء التنظيمي للمجتمع، وفي الوقت نفسه فإن هذه المعطيات تكشف بجلاء عن حاجة الناس - المجتمع الإسلامي - الى اعادة التنظيم القديم بآخر يحل محله ويعالج الخلل الواضح واللا معيارية المهيمنة التي يكشف عنها ويبرزها هذا التوافد والتحاشد على الإمام لاختياره خليفة وقائداً يتمتع بسلطة شرعية لينهض بهذه المهمة.

ص: 99


1- ابو محمد عبد الله الدينوري، الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ص 47
2- ابن ابي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 246
3- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة للامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ج 2، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، 1984، ج 2، ص 222

وفي مقاربات سوسيولوجية لذلك الأمر ولمعرفة البعد التنظيمي لمسألتي السلطة والشرعية هنا، نجد أن نظرية فيبر في التنظيم تستند استنادا أساسياً إلى مفهوم السلطة Authority الذي قصد به عموماً احتمال ان تطيع جماعة معينة من الناس الأوامر المحددة التي تصدر عن مصدر معين. ولكنه سرعان ما أقام تفرقة بين هذا المفهوم وبعض المفاهيم الأخرى المرتبطة به مثل القوة (power) والتأثير (persuation)، موضحاً ان السلطة تتميز بأن صاحبها لديه الحق في ممارستها وإن من يخضع لها يرى ان من واجبه طاعتها، بعبارة اخرى فإن السلطة تفترض وجود ضرب من الشرعية (Legitimacy) يمنحها استقرار نسبي يحدد ابعادها فالجماعة هنا على استعداد للطاعة لان أعضاءها يؤمنون بالفعل بأن مصدر الضبط مصدر شرعي(1).

فالسلطة الشرعية هي سلطة القادر على فرض قراراتها بوصفها قرارات نافذة ومثبتة، وهي من جهة التفاعل والمسلك السلطة التي تكون توجيهاتها موضع تأييد واستحسان من جانب أولئك الذين تخاطبهم. وفي المقابل تعتبر الطاعة او التأييد المتحمس من عوامل الإسهام في جعل السلطة واجباً معنوياً او حقوقياً يربط بين المهيمن والمهمين عليه، او بين الحاكم والمحكوم(2).

واستنادا الى هذا الفهم حاول فيبر M. Weber تصنيف وتحديد أنماط السلطة في ضوء التوجه القيمي العام الذي يسندها، ذلك التوجه الذي يجد تعبيره المثالي في إيمان الناس بشرعية السلطة. فذهب الى ان هناك ثلاثة انماط للسلطة هي السلطة الروحية المستندة إلى الالهام charismatic والسلطة التقليدية Traditional والسلطة القانونية Legel(3).

ص: 100


1- د. السيد محمد الحسيني، النظرية الاجتماعية ودراسة التنظيم، مصدر سابق، ص 46 - 47
2- د. خليل احمد خليل، المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 122
3- د. السيد محمد الحسني، مصدر سابق، ص 47

فالسلطة الأخيرة تقوم على أسس معقولة او رشيدة تستند الى الاعتقاد في شرعية القواعد المعيارية وأحقية أولئك الذين ارتقوا الى مناصب السلطة في ظل هذه القواعد ليصدروا الأوامر، وتقوم السلطة التقليدية على أسس كلاسيكية تعتمد على اعتقاد قائم في قداسة الأعراف والتقاليد القديمة ومشروعية مكانة أولئك الذين يمارسون السلطة في ظلها، وترتكز السلطة الملهمة الى أسس - عظيمة - ترتكز على الولاء الى البطولة والقداسة الخاصة او الاستثنائية - او الشخصية المثالية لأحد الأفراد او الأنماط المعيارية او النظام الذي يفرضه او يرسم معالمه(1).

وحاول احد الباحثين استدماج أنواع السلطات الثلاث وشرعيتها المذكورة آنفاً مع السلطة وشرعيتها التي حاز عليها الإمام علي (عليه السلام) من الامة معتبراً ان السلطة الكرزماتيكية ((الملهمة)) قد حاز عليها من خلال قرابته الدموية والنسبية من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلا عن قربه الدائم منه وشجاعته الواضحة في بدايات الدعوة الإسلامية وحروب الإسلام(2).

اما السلطة التقليدية فقد تمثلت لديه بقداسة الموروث الديني عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أشار إلى أن ((الائمة من قريش)) (٭) أي ((الحكام)) وهذا الأمر لا يعدو الإمام (عليه السلام) بطبيعة الحال لأنه ينتمي لأحد بطون قريش ((بني هاشم)) اما الشرعية الأخيرة التي نالها الإمام (عليه السلام) فهي بنظر الباحث من

ص: 101


1- جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، مركز الانماء القومي، بيروت، د.ت، ص 111 - 114
2- واشار عباس محمود العقاد الى صفاته الجسمية وشجاعته التي تعد احدى سمات القائد الكرزماتيكي قائلاً: ((وتدل أخباره كما تدل صفاته على قوة جسمية بالغة في المكانة والصلابة والصبر على العوارض والآفات فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غیر جاهد ولا حافل، ويمسك بذراع الرجل فكأنه يمسك بنفسه فلا يستطيع ان يتنفس واشتهر عنه انه لم يصارع أحداً الا صرعه ولم يبارز احدا إلا قتله وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه رجال ويحمل الباب الكبیر يعيا بقلبه الأشداء ويصيح الصيحة فتخلع لها قلوب الشجعان)). عبقرية الإمام علي، مصدر سابق، ص 12

خلال عملية ((البيعة)) ((التي عرضنا تفاصيلها مسبقا)) اذ عدها الباحث هنا محورا للسلطة العقلانية - القانونية على اساس حدوث عملية تعاقد اجتماعي - حقيقي بين الحاكم والمحكوم عبر آلية البيعة(1).

وتأسيسا على ما تقدم فإن الذي نخلص اليه أن البعد التنظيمي لشرعية سلطة الإمام تتمثل بالآتي: - أولاً: - ان مصدر شرعية سلطة الإمام علي (عليه السلام) تمثل محوراً مهماً ارتكز عليه الإمام في أحداث سياسته التنظيمية على اساس انه مخول من الامة لإصلاح شؤونها الإدارية عموما لاسيما أنها مرت بظروف لم تألفها في زمن الخليفة السابق.

ثانياً: - ان أي معترض أو رافض لمقررات أو تشريعات الخليفة الإمام علي (عليه السلام) إنما يعد متجاوزا على إرادة الامة التي خولت الإمام بالسلطة لتتيح له وضع هذه التشريعات، ومن ثم فالراد على الإمام والمعارض له هو راد على الامة برمتها، ولاسيما أنه وصل الى سدة الحكم عن طريق عملية البيعة ذات القاعدة الجماهيرية الواسعة.

ثالثاً: - ان سلطة الإمام (عليه السلام) لا تعكس قيادته السياسية فحسب بوصفه شخصا مبايعا، بل تعكس خصائصه وسماته ((الشخصية)) التي نظر إليها آنذاك بوصفها إحدى مقومات سلطته وقيادته عموما.

وهذا ما يلتقي او يرتبط بمسألتين مهمتين هما السلطة الكرزماتيكية التي أشار إليها فيبر من جهة وما أشار إليها وبعض الباحثين في نظريات القيادة ألا وهي ((نظرية السمات

ص: 102


1- مصطفى جعفر وآخرون، الدين والسياسة، نظريات الحكم في الفكر السياسي الإسلامي، كتاب المنهاج، سلسلة بحوث ثقافية تصدرها مجلة المنهاج التابعة لمركز الغدير للدراسات الإسلامية، بیروت، 2003، ج 10، ص 879

traits theory))(1).

وقد تعزز هذا الأمر في شخص الإمام عبر عدّه بنظر المسلمين آنذاك الشخصية القيادية التي تحمل صفات اجتماعية عدة أبرزها انحداره من قريش / بني هاشم الذين كانوا يحظون باحترام المسلمين عموما. وفي الوقت نفسه تحمل صفات دينية - اجتماعية (قرابته من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) ومصاهرته له عبر زواجه من فاطمة الزهراء (عليها السلام)، واسلامه المبكر وتفقهه في الدين. وكذلك صفات سياسية (بصفته مستشارا لأغلب الخلفاء الذين سبقوه) وصفات جسمانية (قوته وشجاعته).

ويرتكز ذلك كله ببروزه في موقف تفاعلي - سياسي - اجتماعي - حرج ألا هو قضية الفتنة التي حدثت زمن الخليفة عثمان وموقفه من الثائرين ومن مقتله، هذا الموقف عموماً يرتبط بمدخلين رئيسين فسر في ضوئها مسألة القيادة الا وهما المدخل الموقفي / النظرية الموقفية ((situatioal Theory))، اذ يرى أصحاب هذه النظرية ان صفات الشخص (سماته) ليست المحدد الوحيد لظهوره قائداً، وان الموقف او البيئة ((المحيط والظروف الاجتماعية)) هي الأهم ،وتشدد هذه النظرية على اختلاف الظروف والأحوال الاجتماعية والتنظيمية لكل مجموعة بشرية وان أي شخص في جماعة ما يمكن ان يكون قائدا في موقف معين او ظرف معين(2).

وكذلك تستند هذه النظرية الى ما يتاح للقائد في مواقف وظروف معينة

ص: 103


1- يفسر اصحاب مدخل السمات ((نظرية السمات)) ظهور شخص ما كقائد واستمراره في القيادة على اساس توافر صفات شخصية معينة موجودة فيه شخصياً تجعل الآخرين يقبلون ان يقودهم، وتنطلق هذه النظرية كذلك من ان وجود القائد في أي مجتمع يعود الى جملة من الصفات والسمات والخصائص التي يتمتع بها، بعضها يتعلق بالجوانب النفسية واخرى تتعلق بالجوانب البدنية والاخرى تتعلق بالجوانب الحسية، ينظر: د. هوشيار معروف، القيادة والتنظيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1992، ص 51
2- د. بشير محمد الخضر، مصدر سابق نفسه، ص 89

تمهد لظهوره فيستخدم فيها مهارته لتحقيق مطامحه من خلال تفاعله بين الناس في تلك المواقف(1). والمدخل او النظرية الثانية هي النظرية التفاعلية Interactional Theory(()) التي تعبر ((القيادة)) فيها عن محصلة لشخصية الفرد وتفاعلها الحركي او الديناميكي مع المنظومة الاجتماعية(2).

وتبعا لذلك فإن هذا الموقف التفاعي هو الذي مهد للامام (عليه السلام) الوصول الى السلطة ((الخلافة)) مضافا اليه العوامل الاخرى التي ذكرناها انفا والتي تتضح من خال الترسيمة الآتية:

ص: 104


1- هوشيار معروف، القيادة والتنظيم، مصدر سابق نفسه، ص 51
2- د. بشير محمد الخضر، مصدر سابق، ص 90

صورة

[شكل رقم (2) يوضح المراحل التي مر بها الإمام وصولاً لتنظيم المجتمع]

ص: 105

اما الإجابة عن السؤال الثاني لمعرفة القواعد والمرتكزات التي استند اليها الإمام علي (عليه السلام) في سياسته التنظيمية فينبغي في البدء القول ان الإمام (عليه السلام) وبحكم دوره في المجتمع الإسلامي منذ بداية الدعوة الإسلامية مرورا بمشاركته او مساندته الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في اقامة الدولة الإسلامية وانتهاءً بمرحلة الخلفاء فضلا عن تأثره بمعطيات الدين الإسلامي الذي آمن به وساهم في نشره والدفاع عنه وتثبيته اجتماعيا وسياسيا (الدولة). وهذه الأمور برمتها تجلت في سياسته التنظيمية للدولة حينما تسلم السلطة والقيادة تلك السياسة التي تستند وحسب ما نعتقد إلى الأركان الثلاثة الآتية: -

الركن الأول:

- بحكم قربه من (الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى طوال حياته وبالتالي تأثره بكل شيء من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ضمن ذلك ((سياسته التنظيمية)) وقيادته المجتمع، التي بموجبها ادار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دولته الإسلامية وشكّل بنيتها التنظيمية. وقد عبر الإمام (عليه السلام) عن ذلك الاثر في الاقتداء بالرسول والتحلي بصفاته عبر خطبته المسماة ((القاصعة)) اذ يقول (عليه السلام) ((وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني الى صدره، ويكنفني الى فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل... وقد كنت أتبعه إتباع الفصيل ((ولد الناقة)) اثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به))(1). ولقد جعل الدكتورمحمد عبد الشفيع عيسى قرب الإمام (عليه السلام) وقرابته من الرسول (صلى الله عليه

ص: 106


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 2، ص 157

وآله وسلم) احد تأثيرات المجتمع في نشأة او تكوين شخصية الإمام (عليه السلام) القيادية(1).

الركن الثاني:

- كانت سياسته التنظيمية تعبر عن البنية الأساسية للمجتمع الإسلامي آنذاك، ذلك المجتمع الذي أسهم في بنائه وتوجيهه، والبنية او الأرضية للمجتمع الإسلامي مذهبه الاجتماعي تتكون بنظر المفكر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر من العناصر الآتية:

أولاً: - العقيدة: وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسة الى الكون بصورة عامة.

ثانياً: - المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء في ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

ثالثاً: - العواطف والأحاسيس التي تبنّى الإسلام بثها وتنميتها الى صف تلك المفاهيم لأن المفهوم - بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين يفجر في نفس المسلم شعورا خاصا تجاه ذلك الواقع ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه، فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الإسلامية بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية(2).

وبعد تبيان مجموع هذه العناصر يحاول ان يضرب على ذلك مثالاً اذ يقول ((ولنأخذ

ص: 107


1- د. محمد عبد الشفيع عيسى، علي بن ابي طالب قائدا سياسيا، مجلة المنار، ع 49 ، كانون الثاني، القاهرة، 1989، ص 137
2- السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مؤسسة بقية الله لنشر العلوم الإسلامية، النجف الاشرف، ط 1، 2003، ج 1، 294 - 295

لذلك مثلا من التقوى(1)ففي ظل عقيدة التوحيد نشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى القائل: إن التقوى هي ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الإنسان(2)وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة إلى التقي والمستيقن، وهي عاطفة الإجلال والاحترام))(3).

وفي الحقيقة ان ((التقوى)) هو جوهر العناصر المذكورة آنفاً التي أشار إليها السيد محمد باقر الصدر إذ إنها تمثل المبدأ الرئيس في الإسلام من ناحية ((العبادة)) و ((التفاعل الاجتماعي))، على حد سواء(4). فقد اشتهر علي بن ابي طالب بتقواه التي كانت علة الكثير من تصرفاته مع نفسه وذويه والناس وهي على كل حال شيء من روح التمرد على الفساد يريد محاربته من كل صوب، ثم على النفاق وروح الاستغلال والاقتتال من اجل المنافع الخاصة من هذا الجانب. وعلى المذلة والفقر والمسكنة والضعف من الجانب الآخر، ثم على سائر الصفات التي تميز بها عصره المضطرب القلق(5).

ولعل هذه المسألة هي التي دفعت احد الباحثين إلى جعل مسألة ((التقوى)) بدلالاتها ومسالكها وسالكيها لدى الإمام (عليه السلام) تكون بمثابة إحدى الخصائص الرئيسة للإدارة التي شرعها ومارسها الإمام (عليه السلام) في الوقت نفسه، وذلك على اساس ان ((تقوى الإنسان)) تمثل الركيزة الأساسية للإدارة الناجحة، وبالتالي فإن - التقوى - تمثل هنا إحدى المسائل المهمة التي تسهم إسهاماً رئيسياً في تقوية أي نظام إداري - تنظيمي

ص: 108


1- وأصلها وقي: وقاه الله وقيا ووقاية وواقية: صانه، وقوى واتقى بمعنى واحد، واتقيت الشيء: حذرته. ورجل تقي: معناه انه موق نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح، ينظر تفاصيل ذلك ابن منظور، معجم لسان العرب، مصدر سابق، ص 971 - 972
2- إشارة للآية الكريمة ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللِّهَّ أَتْقَاكُمْ)) الحجرات: آية 13
3- السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مصدر سابق، ص 295
4- د. محمد البستاني، علم الاجتماع في ضوء المنهج الإسلامي، ط 10، قم، 1335 ه.ش، ص 116 - 118
5- جورج جرداق،الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ج 1، ص 73 - 74

كان لأنها ((جوهر الأخلاق والفضيلة)) اذ يرى الباحث ان للمسائل الأخيرة دورا في إنشاء التنظيمات وتقويتها، لأن التنظيم بنظره عمل جماعي، ولما كان الهدف من الخلق الحميد برأيه هو الحد من طغيان الفردية فإنه السبيل الأقوى دائما لتأسيس التنظيمات الاجتماعية، إذ إن المجتمع الذي تنمو فيه الأخلاق - حسب رأيه - هو الأقدر على تنظيم نفسه وتشكيل أعضائه(1).

ولا نجد مصاديق لكل ما تقدم في سلوك الإمام (عليه السلام) الشخصي فحسب بل في سلوكه السياسي ك((خليفة)) نجد ذلك كله، ففي تضمينات خطبه الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية نجد التركيز على مسألة ((التقوى)) وحث المجتمع عليها، ويشمل ذلك وصاياه ورسائله السياسية الى ولاته وعماله على الامصار او الولايات وافتتح بهذا النهج خلافته قائلا في أول خطبة له ((عليه السلام)) بعد توليه الخلافة:

((ان الله تعالى سبحانه انزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشر فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر(2)تقصدوا. الفرائض الفرائض، ادوها الى الله تؤدكم الى الجنة. إن الله حرم حراما غير مجهول، وأحل حلالا غير مدخول، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده الا بالحق، ولا يحل أذى المسلم الا بما يجب. بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت(3)فإن الناس أمامكم(4)وان الساعة تحدوكم من خلفكم ،تخففوا(5)تلحقوا ،فإنما ينتظر بأولكم أخركم. اتقوا الله في عباده وبلاده،

ص: 109


1- د. محسن باقر القزويني، خصائص الادارة عند الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، مصدر سابق، ص 30 - 42
2- اصدفوا عن سمت الشر، أي اعرضوا عن طريقه
3- أمر بمبادرة الموت وسماه العامة لانه يعم الحيوان كله ثم ساه الخاصة (أحدكم) لأنه وإن كان عاما إلا إن له مع كل انسان بعينه خصوصية زائدة على ذلك العموم
4- أي ان الناس قد سبقوكم
5- أي اقتنعوا من الدنيا باليسير

فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا الله ولا تعصوه وإذا رأيتم الخير فخذوا، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه))(1).

الركن الثالث: - العلم والمعرفة:

وما دام أصلها بالنسبة للإمام (عليه السلام) العقيدة الإسلامية ((القرآن والسنة النبوية)) فإنهما كانا بمثابة القواعد الأساسية للاشتقاقات والبناءات العلمية والمعرفية الذي اشتهر باجادته لها وفي مجالات عدة ومتنوعة(2)ولعله من نافلة القول الإشارة هنا الى ان تلك القواعد الأساسية واشتقاقاتها كانت هي المسؤولة عن إجادة الإمام (عليه السلام) القضاء وشهرته به(3). وبالتالي صياغته للتنظيم القضائي المعروف، والذي أبدع به واتقنه.

وما يعنينا هنا هو ان الإمام عليه السلام قد حوّل علمه ومعارفه المتنوعة الى واقع عملي أي علم ومعرفة يُعمل بهما(4). وعلى حد قول احد الباحثين: ((كان علي بن ابي طالب يدعو الى اتحاد العلم بالناس، والناس بالعلم، سعيا من اجل بناء مجتمع متعلم، واع قادر على ادارة شؤونه بنفسه))(5).

وتأكيدا لما تقدم من ناحية ان العلم ايا كان نوعه ولاسيما ((العلم الإداري - التنظيمي للمجتمع)) فإنه بالنسبة للإمام (عليه السلام) يكون مستندا او مشتقا من القران الكريم والسنة وكما يشير إلى ذلك احد الباحثين الذي يركز في البدء على أهمية مسألة ((نظم

ص: 110


1- ابن أبي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، م 5، مصدر سابق، ص 190 - 191
2- رحيم محمد الساعدي، الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي (عليه السلام)، أطروحة دكتوراه (غیر منشورة)، كلية الآداب، جامعة بغداد، قسم الفلسفة، 2006، ص 193 - 223
3- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ج 1، ص 99
4- رحيم محمد الساعدي، مصدر سابق، ص 196
5- عزيز السيد جاسم، علي بن أبي طالب سلطة الحق، مؤسسة الانتشار العربي، بیروت، ط 1، 1997، ص 204

الأمور)) التي وردت في وصية الإمام (عليه السلام) لأولاده وأصحابه وسائر الناس والتي تأتي بعد مطالبته إياهم في البدء بتقوى الله اذ يقول في مطلع وصيته ((أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم)) ونظم الأمر في نظر الباحث اشتقت من القرآن الكريم وذلك لقول الإمام ((ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء لدائكم ونظم ما بينكم)) ويعلق الباحث حول ذلك قائلاً: ((ويشير امير المؤمنين (عليه السلام) في هذا النص إلى عظمة القرآن الكريم وإنها تتجلى في هذا الأمر بالذات في نظم أمر الناس وإدارة شؤونهم الحياتية. فالنظم هو احد أربعة أمور أوجدها القرآن الكريم في الأمة الإسلامية: 1. الحديث عن المستقبل 2. الحديث عن الماضي 3. معالجة المشكلات والمعوقات 4. تنظيم شؤون الناس. هذا هو التنظيم وهذا مقدار أهميته عند امير المؤمنين (عليه السلام)(1).

وبالتالي فإن المحصلة النهائية لسياسة الإمام التنظيمية المستندة إلى الأركان الثلاثة - المذكورة آنفاً - هي سعيه الدائم لإقامة العدل الاجتماعي وتطبيقه في شتى مناحي حياة المجتمع الإسلامي آنذاك، والذي عانت بعض فئاته الفقيرة والمحرومة الشيء الكثير من غياب العدالة التوزيعية Disitributire Justice للثروات والخدمات بسبب عدم كفاءة السياسات التوزيعية وانحيازها لصالح فئة دون أخرى زمن الخليفة السابق.

والعدل الاجتماعي يجسد الهدف المركزي والرئيس لسلطة الإمام (عليه السلام) حيث سعى لتحقيقه على الرغم من الكثير من المعوقات التي اكتنفت مسعاه(2).

وعدّ احد الباحثين مسألة تحديد أهداف الجماعة وتنسيق الجهود الاجتماعية للأفراد

ص: 111


1- د. محسن باقر القزويني،خصائص الإدارة عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مصدرسابق،ص 40 - 41
2- اذ برزت قوى معارضة للإمام (عليه السلام) بعد توليه الخلافة مباشرة دخل معها في حروب عدة، الا انه على الرغم من ذلك ظل مصرا على استمرار سياسته التنظيمية ذات الركائز الأخلاقية الدينية الواضحة

بمثابة احد العوامل الرئيسة التي تسهم في نجاح مساعي القائد في ذلك المجتمع، وذلك لان التنظيم برأيه ما هو إلا نظام للجهود المنسقة لمجموعة في الافراد يعملون بشكل متعاون لتحقيق هدف مشترك في ظل سلطة وقيادة محددة(1).

ولنا هنا ان نوضح ماهية القواعد والمرتكزات التنظيمية التي سار عليها الإمام في سياسته التنظيمية للمجتمع الإسلامي وفق هذه الترسيمة.

[شكل رقم (3) يوضح ماهية الأسس والقواعد التنظيمية لدى الإمام (علیه السلام)]

ص: 112


1- نعيم نصیر، المنظور الإسلامي لمبادئ التنظيم الإداري، مجلة ابحاث اليرموك سلسلة الأبحاث الإنسانية، جامعة اربد، الار علیه السلام دن، م (4)، ع (2)، 1988، ص

المبحث الثاني عملية تنظيم الدولة وإدارتها وفق رؤية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

اشارة

إن ما تم التطرق اليه في المبحث الأول حول قضية شرعية السلطة والأسس والمرتكزات التنظيمية لدى الإمام علي (عليه السلام) إنما تجد تطبيقاتها ومصداقيتها عبر ما ستتم معالجته وتحليله في هذا المبحث.

ذلك ان عملية إدارة الدولة وتنظيمها ترتكز على حلقة محورية ألا وهي القوة «power» إذ حولها تتحرك عملية التنظيم وكلما كانت تلك العملية قريبة منها كلما كانت أكثر امتلاكا لها(1). وذلك لكي تتم عملية فرض الضوابط والتشريعات الإدارية بالقسر والإجبار، وهذا الأمر يرتبط بالضرورة بوجود سلطة سياسية ممتلكة أساساً لشر عيتها.

وفي هذا المجال نظر عالم الاجتماعي الأمريكي برتراند Bertrand الى القوة والسلطة كأداة فعالة في التنظيم والضبط الاجتماعي عندما توضع بيد شخص معين. فالقوة لديه تتكون من عنصرين أساسيين هما: ((السلطة)) التي يتم اكتسابها عن طريق شغل مركز، ((والتأثير)) الذي يعتمد على المهارة والقدرة في جذب الناس واقناعهم، وتعد

ص: 113


1- د. متعب مناف جاسم، التنظيم الاجتماعي، ثقافة التنظيم وتطبيقاته البيروقراطية، مصدر سابق، ص 12

القوة الشرعية Legimate لديه اذا تمت ممارستها في الإطار العام لمعايير المجتمع، حتى اذا كانت هذه القوة قهرية في طبيعتها فهي إنما تسعى في جوهرها إلى تحقيق الاستقرار والتوازن الاجتماعي(1).

وتحت عنوان صيغة وطريقة ممارسة السلطة ينفي الباحث توفيق السيف وجود تصور لاعتماد السلطة على الإقناع، بل ان الشيء المنطقي والمعتاد في التجربة البشرية ((برأيه)) من أول تاريخها والى اليوم هو اعتماد السلطة على الجبر، أي الأمر المتضمن التهديد بالعقاب عند عدم الامتثال، ثم يركز على مسألة محورية فيقول: ولهذا فإن النقاش في ممارسة السلطة، لا ينصرف الى اصل استعمالها للجبر فالجبر هو مضمون العمل الدولي، فالنقاش يدور اذن حول مبررات الجبر والمدى الذي تذهب اليه السلطة في ممارسة الجبر، والأدوات التي تستعملها لتجسيد وجودها كقوة جابرة(2).

ثم ينتهي توفيق السيف بعد ذلك الى مسالة غاية في الأهمية فهو يرى انه يتأثر استعمال السلطة لما تملكه من قوة بعاملين، أولهما الغطاء الشرعي ((المشروعية)) الذي على أساس قيمه ومفاهيمه تقوم العلاقة بين المجتمع والدولة، ويتقرر موقع كل منها في مقابل الآخر.

اما الثاني فهو توازن القوة بين المجتمع والدولة، القوة التي تؤهل احد الطرفين لتقرير ما يريد والقوة التي تؤهل الآخر لإعاقة تنفيذ قرار الأول او تحديد مستوى نفاذه(3).

وسنحاول بموجب هذين العاملين أن نحدد الملامح العامة للممارسات التنظيمية للإمام علي (عليه السلام) المستندة إلى قوة شرعية لممارسة التنظيم السياسي عبر محورين هما: -

ص: 114


1- د. ابراهيم ابو الغار، علم الاجتماعي القانوني والضبط الاجتماعي، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة، 1984، ص 192
2- ينظر: توفيق السيف، نظرية السلطة في الفقه الشيعي، مصدر سابق، ص 45 - 46
3- المصدر السابق نفسه، ص 46

أ. المحور الأول

التنظيم السياسي والتغير الاجتماعي

غالبا ما يتزامن أي تنظيم ولاسيما التنظيم السياسي بحدوث تغيير في التنظيم السابق، إذ إن التنظيم الجديد يأتي بنظم جديدة تحل محل النظم القديمة او تقوَمها بطريقة او أخرى تلبية لمتطلبات ذلك التغير، بل يمثل التنظيم في معظم الأحيان جوهر عملية التغير الاجتماعي.

ويرى احد الباحثين ان العلاقة بين التنظيم والتغير الاجتماعي على مستوى المجتمع تأخذ بعدين أساسيين من منظور تأثير الأول على الثاني، فالبعد الأول دور التنظيم في إعاقة التغير الاجتماعي اذ يذهب الباحث الى ان هناك مؤشرات ما تدل على وجود مقاومة كبيرة من جانب التنظيمات للتغير الاجتماعي لأنها ذات طبيعة تقليدية -محافظة مقاومة للتغير او أي فكر يدعو للتجديد Innovation او الابداع Creativity، وذلك لتشبثها بمصالحها التي تم صياغتها وفق البناءات التنظيمية السابقة. أما البعد الثاني - بنظر الباحث - فهو التنظيم مصدر رئيس للتغير الاجتماعي ويتمثل الافتراض الرئيس الذي يقوم عليه البعد الثاني في انه كلما ازدادت الكثافة التنظيمية للمجتمع ازدادت سرعة وكثافة عملية التغير الاجتماعي. وان كل قرار مرغوب يتم اتخاذه من جانب التنظيم يؤدي الى برامج تؤثر بشكل واضح في المجتمع(1).

وفي الحقيقة ان التنظيم السياسي ((الخلافة)) الذي قاده الإمام علي (عليه السلام) قد

ص: 115


1- ينظر: اعتماد محمد علام، دراسات في علم الاجتماع التنظيمي، مكتبة الانجلو المصرية، ط 1، 1994، ص 27 - 28

واجه هذين البعدين معا، فقد كان التنظيم السياسي السابق قد ترسخ ليس عبر الآليات السياسية من ضوابط وقواعد تنظيمية معينة أسهمت في مقاومة التغير الاجتماعي الذي جاء به الإمام علي (عليه السلام) فحسب، بل تجاوز ذلك الى بعض الشرائح الاجتماعية ((الغنية - المستنفذة)) التي وجدت في النهج السياسي للتنظيم السابق ما يعزز ويضمن مصالحها وامتيازاتها.

فالتغير الاجتماعي الذي حاول الإمام علي (عليه السلام) إحداثه عبر آليات تنظيمية متنوعة على رأسها التنظيم السياسي لم يكن صراعا بين تنظيم سابق ولاحق فحسب، بل يعبر عن صراع بين المعتقد المهيمن والمعتقد الجديد الذي يؤمن بإمكانية تغيير العالم الاجتماعي لأن من مصلحته التغير والتخلص من المعتقد المهيمن الذي يمثل النظرية او المنهج السياسي في التنظيم(1).

ومن ثم فالمعتقد الجديد والنظرية التي أتى بها الإمام (عليه السلام) ((نظرية العدل الاجتماعي)) تمثل عملية ثورة على القيم والأفكار السابقة المنبثقة عن التنظيم السياسي السابق. ومن هنا فإن هذا الأمر برمته تمثَّل بمستويين رئيسين وفقا للآتي:

المستوى الأول: عزل الولاة السابقين:

باشر الإمام علي (عليه السلام) في الأيام الأولى لخلافته بعزل كل(2)عمال الخليفة السابق وولاته على الأقاليم(3).

مؤكدا في ذلك أهمية اختيار الكادر السياسي - التنظيمي الذي بموجبه يدير أقاليم

ص: 116


1- د. علي سالم، البناء على بيار بورديو، سوسيولوجيا الحقل السياسي، منشورات دار النضال، بیروت، ط 1، 1999، ص 77 - 78
2- عدا ابي موسى الاشعري
3- ينظر احمد اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1980، م 2، ص 179

الدولة وأمصارها.

ولقد سبَّب هذا القرار السياسي للإمام (عليه السلام) تبعات سياسية أبرزها امتناع والي الشام معاوية بن ابي سفيان عن تنفيذ القرار، فضلا عن تحالف الولاة الآخرين معه لإحداث حلف سياسي - معارض يحاول إسقاط التنظيم السياسي الجديد - عبر التشكيك بشرعيته استنادا الى ضرورة الاقتصاص من قتلة الخليفة السابق، ثم النظر بمن يخلف الخليفة المقتول(1).

وقد تزامن هذا كله مع تآمر الملَّك القدامى(2)الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله على الإمام علي والتشكيك بشرعية سلطته وخلافته على الرغم من بيعتهما له ولكنهما نكثا البيعة وتحججوا بدم الخليفة المقتول وبضرورة الاقتصاص من قاتليه ولقد التمسوا الشرعية لهما من خلال مساندة السيدة عائشة لهما(3).

ومن هنا فإن التنظيم السياسي الجديد ومشروعه التغييري قد واجه تحديات جسيمة، كانت تستدعي من الإمام علي ضرورة استخدام - القوة الشرعية - لإمضاء المشيئة السياسية التنظيمية الجديدة(4).

المستوى الثاني: تغيير السياسة المالية:

- أحدث الإمام تغييرات جذرية وشاملة في هذا الجانب(5)، فقد كانت هناك أراض جعلها الخليفة عمر ملكا خالصا لبيت المال، ثم جاء عثمان فاقتطعها لأوليائه وأعوانه

ص: 117


1- المصدر السابق نفسه، ص 184 - 187
2- في تفاصيل أملاكهم وثرواتهم الطائلة. ينظر: ابو الحسن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، بمصر، ط 4، 1964 ، م 2، ص 342
3- ينظر: المصدر السابق نفسه، ص 366 - 370
4- وقد تجسد ذلك في حروبه الداخلية التي خاضها الإمام لتثبيت التنظيم الاجتماعي الجديد
5- سيتم التطرق الى السياسة المالية والتوسع في هذا المستوى في الفصل القادم ((التنظيم الاقتصادي))

وولاته وأهل بيته وبصددها كان موقف علي حازما وحاسما(1). ولعل مصداق سياسته الجديدة متجسدة في قوله ((والذي بعث محمداً بالحق إنه لابد ان يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا))(2).

ب. المحور الثاني القوة الشرعية بين التنظيم السياسي والتنظيم العسكري

اشارة

لم يبدأ الإمام علي (عليه السلام) باستخدام القوة الشرعية التي يمتلكها بموجب سلطته الشرعية المبنية على بيعة الأمة لإحداث تنظيم سياسي جديد والمتمثل بقتال معارضيه الا بعد ان يئس من المحاورة مع خصومه ومعارضيه(3).

وذلك لردعهم عن مطالبهم غير الشرعية التي ترتكز على مبدأ - إسقاط شرعية الإمام السياسية فجاءت ((حرب الجمل - في البصرة مع الزبير والسيدة عائشة، والتي انتصر فيها الإمام علي ثم جاءت بعد اشهر ((حرب صفين)) مع معاوية بن أبي سفيان وأنصاره الأمويين وولاة الخليفة السابق المعزولين وفي أثناء تلك المعركة جاءت فتنة التحكيم وما تلاها من نشوء فئة معارضة جديدة الا هي ((الخوارج))(4)، التي ترتكز على منهج سياسي - تنظيمي جديد يعارض شرعية سلطة الإمام كذلك، فكانت معركة النهروان(5).

ص: 118


1- محمد عمارة وآخرون، علي بن ابي طالب، نظرة عصرية جديدة، مصدر سابق، ص 27
2- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، م 2، مصدر سابق، ص 353
3- ابو الحسن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مصدر سابق، ص 370
4- ينظر ابي الحسن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المصدر السابق، ص 405 - 407
5- المصدر السابق نفسه، ص 409

وقد حاول الإمام علي (عليه السلام) وفقاً لهذه التداعيات إمضاء القوة الشرعية على استكراه واضطرار شديدين فكانت الحرب بين الفئتين.

الا ان الجانب التنظيمي في هذا الموضع يكمن في الفضائل العسكرية والحربية التي تحلى بها الإمام (عليه السلام) بوصفه قائدا عسكريا - ميدانيا من جهة وبوصفه منظماً عسكرياً لجنوده وأتباعه من جهة أخرى.

وقد أشار احد المفكرين إلى أهمية الفضائل العسكرية التي تعد بمثابة المسائل الرئيسة المسؤولة عن تخفيف وطأة او شدة العنف والشرور الذي تمثله الحروب(1).

ومن ثمَّ تقودنا تلك الفضائل العسكرية الى بعض جوانب القوة الشرعية الممثلة ب(التنظيمي العسكري). وقد ركز عدد من الباحثين الذين أسهموا في تطبيقات علم الاجتماع التنظيم في المجال العسكري على أهمية عنصر القيادة وأثره في التنظيم العسكري ولاسيما من ناحية تفوق القادة بالمعرفة والقدرة الفنية على إدارة الشؤون العسكرية والمستند أساساً إلى خصائص معينة يتصف بها القائد ألا وهي العمر - التعليم - الخلفية الاجتماعية والاقتصادية هذا من جانب، ويؤكد الباحثون من جانب آخر أهمية العامل المشترك الذي يجمع القادة مع أعضاء جماعاتهم والممثلة بالاهتمامات المشتركة والخلفية الاجتماعية(2).

وهذه الأفكار قد طرحت بناءً على فكرة مؤداها أن القائد العسكري المسؤول عن تنظيم عسكري معين إنما هو مرتبط اصلا بتنظيم تراتبي أعلى منه هو (المؤسسة العسكرية) المرتبطة أصلاً بالمؤسسة السياسية، ومن ثم فالقرار العسكري - التنظيمي أيا كان مستند

ص: 119


1- ارنولد توينبي، الحرب والحضارة، ترجمة فؤاد ايوب، دار دمشق للطباعة والنر، د.ت، ص 22 - 23
2- د. علي عبد الرزاق جلبي، علم اجتماع التنظيم النظرية والتطبيق، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، مصر، 1997، ص 162 - 163

أساساً على قرار سياسي أعلى منه وذلك بحكم كون التنظيم العسكري برمته ضمن دائرة التنظيم الاجتماعي الشاملة المسؤولة عنها الدولة ولاسيما (تنظيمها السياسي).

اما الإمام علي (عليه السلام) فقد تولى بنفسه قيادة جيشه وهو امير المؤمنين ، فهو لم يتصرف وفق سياسة الفصل بين قيادة الدولة وقيادة الجيش، باعتبار قيادة الجيش داخلة ضمن تراتبية القيادات الواقعة تحت قيادة الخليفة. ولم تكن قيادة الخليفة نفسه للجيش في الحروب تقليدا ثابتا، وكان الغالب ان يوعز الخليفة الى قادته العسكريين بتولي المهمات الحربية غير ان علي بن ابي طالب (عليه السلام) المسترشد بقيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمترعرع تحت رايته كان قد تتلمذ على قيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه للغزوات العسكرية، فكان أن باشر القيادة المباشرة لجيشه في الحروب الكبرى(1).

ويمكن توضيح أبرز ملامح التنظيم العسكري لدى الإمام علي (عليه السلام) حسب المسائل الآتية: -

ص: 120


1- عزيز السيد جاسم، علي بن ابي طالب سلطة الحق، مصدر سابق، ص 113
المسألة الأولى: أهمية الموقع التراتبي للعسكر:

- انطلق الإمام علي (عليه السلام) من فكرة رئيسة للإدارة والتنظيم في الرسالة التي أرسلها الى مالك الاشتر واليه على مصر، التي جاء فيها ((واعلم أن الرعية طبقات(1) لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة))(2) وهذه الفكرة تعني انه يوجد بناء طبقي اجتماعي تتجلى أهميته في الصلات الضرورية القائمة بين هذه الطبقات ودور كل منها، فلا حياة لأي مجتمع بدون تنوع وتعاون هذه الطبقات وحسب دور وأهمية كل منها، فلهذا يأتي دور العسكر ((الجنود)) الذي يحدد وظيفتهم وأهميتها على النحو الآتي: (فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم)(3).

وحتى يؤدي الجنود وظائفهم على أكمل وجه لابد لهم من ميزانية اقتصادية لسد احتياجاتهم المعاشية كافة ((داخل الحرب وخارجها)) فضلا عن سد الاحتياجات العسكرية من عُدد وأدوات عسكرية يعتمدون عليها ويقوون بها على تأدية وظائفهم العسكرية كافة. وبهذا المجال يقول الإمام علي (عليه السلام): ((ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم))(4).

ص: 121


1- سيتم التوسع في تفصيل الطبقات ووظائفها في الفصل اللاحق في سياق الحديث عن تقسيم العمل
2- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 89
3- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 90
4- المصدر السابق نفسه، ص 90
المسألة الثانية: صفات المنتمين للتنظيم العسكري

- القادة خصوصاً: - حدد الإمام علي (عليه السلام) مجموعة من الصفات والخصائص الواجب على القادة العسكريين التحلي بها، وذلك كيما ينجح التنظيم العسكري ويؤدي وظائفه على أكمل وجه، تلك الخصائص او الصفات التي أمر واليه على مصر مالك الاشتر اعتمادها ويمكن تحديدها وفق الآتي: - 1. فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك ((الخليفة)).

2. وأتقاهم جيبا (نقي الجيب أي طاهر الصدر والقلب).

3. وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو (يشدّ ويعلو) على الأقوياء.

4. وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.

5. ثم الصق بذوي الاحساب (تبيّن للقبيلة التي يؤخذ منها الجند) وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة.

6. ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف (شعب بضم ففتح: جمع شعبة، والعرف المعروف)(1).

وبعد أن حدد الإمام تلك الصفات أمره بالرقابة الذاتية منه مباشرة (أي الوالي) لتفقد شؤون المنضوين تحت هذا التنظيم العسكري اذ يقول (عليه السلام): ((ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما))(2).

ص: 122


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 91
2- المصدر السابق نفسه، ص 91 - 92
المسألة الثالثة: - الضوابط الأخلاقية للقتال:

- تعد عملية القتال او الحرب عموما إحدى أهم الممارسات العسكرية للتنظيم العسكري وهي تمثل الوظيفة الاجتماعية الأولى ((للتنظيم العسكري)) وتستند مجمل الوصايا والضوابط التي صاغها الإمام علي (عليه السلام) لقادته وجنوده إلى الأركان التي استند إليها في سياسته التنظيمية عموما، التي أشرنا إليها مسبقا، ولقد أوجز احد الباحثين أهم الضوابط الأخلاقية الموجودة في رسائل الإمام ووصاياه للمقاتلين على النحو الآتي(1):

1. عدم المبادأة بالقتال لإثبات الحجة على الخصم مرتين، الأولى بإعلان الخصم الحرب (حرب الناكثين، وحرب القاسطين)، والثانية بابتداء القتال من الخصم نفسه.

2. انتهاج كل الأساليب الممكنة من أجل كسب بعض عناصر الخصم الى السلم.

3. التورع عن إحراز النصر بوسائل غير صحيحة، فلم يوافق على حبس الماء عن جيش معاوية على الرغم من ان معاوية كان أول من اتبع الأسلوب نفسه ضد جيش علي.

4. عدم إباحة أملاك الخصم ونسائه عند الانتصار والاقتصار على الغنائم الحربية الموجودة في ساحة المعركة.

5. عدم قتل الجريح ولا الأسير ولا المدبر ولا المفغور ((من أظهر عورته)) وعدم الإساءة إلى النساء وإن شتمن الأعراض.

ص: 123


1- عزيز السيد جاسم، علي بن ابي طالب، مصدر سابق، ص 112
المسألة الرابعة: الأسالیب التنظیمیة في القتال:
اشارة

- نلاحظ في الأساليب التنظيمية العسكرية للإمام (عليه السلام) انها تستند على قواعد علمية ومعرفية غاية في الدقة والمهارة، يمكن تصنيفها على النحو الآتي: -

أولاً: - الزمن العسكري - التنظيمي ((التحرك))

يحدد الإمام الزمن المناسب لتحرك الجيش والاستعداد للقتال، وذلك في وصية أوصى بها احد أصحابه حين أنفذه (أرسله) إلى الشام قائلا: ((اتق الله الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلن إلا من قاتلك، وسِ البردين (الغداة والعشي)، وغوّر بالناس (انزل بهم القائلة)، ورفّه في السير (أي دع الإبل ترد الماء متى شاءت)، ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنا، وقدره مقاما لاظعنا، فأرح فيه بدنك، وروح ظهرك، فاذا وقفت حين ينبطح السحر، او حين ينفجر الفجر فسر على بركة الله))(1).

ثانياً: - الجغرافية العسكرية - التنظيمية (الانتشار):

يضع الإمام (عليه السلام) الجغرافية العسكرية - التنظيمية التي بموجبها يتحدد موقع المعسكر ومواقع رجال العسكر (الجنود) حوله، اذ يقول في إحدى وصاياه: ((فإذا نزلتم بعدو او نزل بكم، فليكن معسكركم في قبل الأشراف (الأماكن العالية)، او سفاح الجبال (أسافلها)، او أثناء الأنهار (ما انعطف منها)، كيما يكون لكم ردءاً ((عونا))، ودونكم مرداً (حاجزا)... واجعلوا لكم رقباء في صياحي الجبال، (أعاليها)، ومناكب الهضاب (أعاليها كذلك) لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافةٍ او أمنٍ. واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، واذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة (أي اجعلوها مستديرة

ص: 124


1- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، م 8، ص 65

حولكم)، ولا تذوقوا النوم إلا غراراً او مضمضة (أي ما قل من النوم)(1).

كما حدد الإمام (عليه السلام) الجغرافية الموقعية للقائد في وصيته للقائد الذي أرسله إلى الشام قائلا له ((فاذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطا، ولا تدن من القوم دنوّ من يريد ان ينشب الحرب. ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس (الحرب)... ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم (أي قبل ان تدعوهم الى الطاعة، وتصيروا ذوي عذر في حربهم))(2).

ثالثاً: تنظيم طريقة القتال (المواجهة)

كانت لميدان القتال تنظيمات خاصة في فكر الإمام علي (عليه السلام)، فهو يحدد الآليات العسكرية - الرئيسة المسؤولة عن النصر في القتال. ففي كلام له (عليه السلام) في ساحة الحرب يوصي به أصحابه ((فقدموا الدارع (لابس الدرع وأخروا الحاسر (من لا درع له) وعضوا على النواجذ ((الاضراس)) فإنه أنبى للسيوف عن الهام (انبى:من نبا السيف اذا دفعته الصلابة عن موقعه فلم يقطع). والتووا في أطراف الرماح (أي انعطفوا وأميلوا جانبكم) فإنه أمْوَرُ للأسنة (أمور أي اشد فعلا للإمور وهو الاضطراب الموجب للانزلاق وعدم النفوذ). وغضوا الإبصار فإنه اربط للجأش وأسكنُ للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل. ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها الا بأيدي شجعانكم))(3).

ووفقا لما تقدم عرضه عن الأساليب التنظيمية العسكرية التي تكشفت لنا النصوص الخاصة بالإمام (عليه السلام) يتبين دور وفاعلية هذا النوع من التنظيم ((التنظيم

ص: 125


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 63
2- المصدر السابق نفسه، ص 65
3- المصدر السابق نفسه، ص 66

العسكري)) كنوع او فرع من التنظيم السياسي للمجتمع الإسلامي الذي يصب في نهاية الأمر في مجرى التنظيم الاجتماعي للمجتمع الإسلامي ككل وفق رؤية ومنظور الإمام علي (عليه السلام).

ص: 126

الفَصْلُ الرَّابِعْ التنظیم الاقتصادي عند الإمام (علیه السلام) رؤیة تحلیلیة لمسألتي الموازنة بین موارد المجتمع واحتیاجانة وتقسیم العمل

اشارة

ص: 127

ص: 128

تمهيد

عند الحديث عن طبيعة التنظيم الاقتصادي الذي أداره وصاغه الإمام علي (عليه السلام) في المجتمع إبان مدة خلافته ينبغي توضيح الملامح الاقتصادية التي كانت سائدة آنذاك في الجزيرة العربية قبل الإسلام عموما ومكة خصوصا ، هذا من جهة، مع تبيان طبيعة النظام الاقتصادي الذي صاغه الإسلام بعد ظهوره من جهة أخرى.

إذ أن تلك الملامح والمعطيات هي التي ستحاول الباحثة تسليط الضوء عليها في هذا الفصل، ذلك لأنها تمثل العناصر الاقتصادية الأساسية التي تعامل معها الإمام (عليه السلام) وبالتالي بنى عليها قواعده التنظيمية في تنظيم الاقتصاد وإدارته.

فمنذ القدم كانت الجزيرة العربية طريقاً عظيماً للتجارة، فطوراً تنقل غلاتها الى ممالك أخرى كالشام ومصر، وأهم هذه الغلات البخور الذي يكثر في الجنوب ولاسيما ظفار، وطوراً تنقل غلات بعض الممالك الى بعضها الأخر، ذلك لأن طريق البحر لم يكن طريقاً آمناً، فالتجأ التجار الى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلاً وخطراً، لذلك أحاطوه بشيء من العناية كأن تخرج التجارة قوافل وأن تسير القوافل في أزمنة محددة وفي طرق محددة(1)، وكان في جزيرة العرب طريقان عظيمان للتجارة بين الشام والمحيط الهندي: أحدهما يسير شمالا من حضر موت الى البحرين على الخليج الفارسي ومن ثم إلى صور، والثاني يبدأ من حضر موت أيضاً ويسير محاذياً للبحر الأحمر متجنبا صحراء نجد وهجيرها، ومتجنبا هضاب الشاطئ ووعورتها، وعلى هذا الطريق الأخير تقع مكة في

ص: 129


1- د. أحمد أمين، فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 10، 1969، ص 12

المنتصف تقريباً بين اليمن وبطرة(1).

وفي الوقت الذي كانت تتقاتل فيه الإمبراطوريات الخارجية، كالإمبراطورية الساسانية الفارسية والبيزنطية المسيحية على المملكة الحميرية القديمة مما أثر تأثيراً كبيراً في القاعدة الاقتصادية لجنوب الجزيرة، فإن تصدع سد مأرب أدى دوراً بارزاً ايضا في تحول الظروف الاجتماعية في الجزيرة ، إذ ان تصدعه للمرة الثالثة سنة (570 ق.م) أدى إلى فقدان أراضٍ شاسعة لخصوبتها فأصبحت غير صالحة للزراعة واقتطعتها القبائل البدوية من المجتمع الحضري المستقر(2).

وقد ساعد هذا الأمر على بروز مكة مركزاً تجارياً رئيساً ومهماً مما أسهم في انتقال مركزية إدارة التجارة وتبادلها من اليمن إلى عرب الحجاز. ويشير الباحث تيرنر إلى إن ما اسماه فون جربنهاوم أزمة - الردة البدوية - Rebeduin isationr كان يتضمن انتقال القوة من المجتمعات المحلية المستقرة الى أيدي البدو وكان عاملا آخر لظهور مكة مركزاً تجارياً وتبادلياً في الجزيرة العربية، حيث استطاعت مكة بذلك أن تستحوذ على ما تبقى من تجارة اليمن، وقد أدت الحروب الطويلة بين فارس وبيزنطة الى إضعاف اقتصاد البلدين وجعلت التجارة في الخليج والبحر الأحمر غير مأمونة(3).

وقد بلغ المكيون قبل الإسلام - عندما كان العداء بين فارس والروم بالغ منتهاه - الى درجة عظيمة في التجارة، وقد اعتاد الروم على تجارة مكة في كثير من شؤونهم، حتى فيما يترفهون به - كالحرير - وحتى استظهر بعض مؤرخي الافرنج انه كانت في مكة نفسها

ص: 130


1- المصدر السابق نفسه، ص 12
2- براين تيرنر، علم الاجتاع والإسام، دراسة نقدية لفكر ماكس فير، ترجمة د. أبو بكر باقادر، دار القلم، بروت، ط 1، 1987، ص 50
3- المصدر السابق نفسه، ص 51

بيوت تجارية رومانية يستخدمونها الرومانيون للشؤون التجارية والتجسس على أحوال العرب، كذلك كان فيها أحابيش ينظرون في مصالح قومهم التجارية(1).

ويؤكد الباحث الانكليزي مونتجمري وات أن مكة كانت أكثر من مجرد مركز تجاري، بل كانت مركزا ماليا، فمن الواضح وعلى حد قوله: ((إن عمليات مالية على درجة لا بأس بها من التعقيد كانت تتم في مكة، وكان زعماء مكة في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رجال مال قبل كل شيء، مهرة في إدارة شؤون المال، ذوي دهاء، وكانوا مهتمين بأي مجال لاستثمار مربح لأموالهم من عدن الى غزة او دمشق، ولم يكن أهل مكة وحدهم الذين وقفوا في الشبكة المالية التي نسجوها، ولكن أيضاً كثير من كبار رجال القبائل المحيطة بها(2).

في حين يرى باحث آخر انه يخطئ من يظن أن المكيين كانوا يتعاملون في التجارة فقط، فقد كانت لهم أراضٍ في الطائف تزرع فيها المحاصيل المختلفة وفي مقدمتها العنب حيث كان يُصدر منه كل عام ثلاث مئة راحلة من الزبيب، فضلا عن أنه كانت في الطائف صناعة مهمة جدا هي صناعة الجلود اشتهرت في كل مكان وكانت من الصادرات الأساسية الى الحبشة وفارس وبيزنطة(3). ويقول مونتجمري وات وفق هذا الإطار إنه كانت هناك صناعات محلية صغيرة في الحجاز غالبا ما كانت لإشباع حاجات البدو وسكان المدن، فقد سمعنا مثلا عن الجلود التي كانت تصدر من الطائف(4).

ص: 131


1- د. أحمد أمين، فجر الاسلام، مصدر سابق، ص 13
2- مونتجمري وات، محمد في مكة، ترجمة: د. عبد الرحمن الشيخ وآخرون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002، ص 52
3- احمد عباس صالح، اليمن واليسار في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بیروت، 1972، ص 19 - 20
4- مونتجمري وات، محمد في مكة، مصدر سابق، ص 53

في ظل ظروف أو حياة اقتصادية كهذه تسيطر عليها فئات محددة (التجار) كان من الطبيعي أن تكون هنالك تحولات سياسية وثقافية واجتماعية مستندة اساسا إلى طبيعة هذه الحياة(1). وفيما يتصل بالمسألة الاقتصادية يرى تيرنر أن تداعياتها تمثلت بأنه لم تعد الوحدات الوظيفية الحقيقية في المجتمع المكي هي العشائرية أو جماعة العشيرة المحلية ولكن جماعات التجار الأثرياء وأسرهم ومن يعتمدون عليهم. ويتكون مجموع السكان التابعون للتجار من مجموعات مختلفة وبذلك أصبحت الاختلافات في المراكز الاجتماعية التي لم تكن معروفة بين البدو الرعاة ذات أهمية قصوى في مكة. ومن جهة أخرى فهو يرى ان تزايد تقسيم العمل والاهتمام بالإنجاز فضلاً عن تدهور الأخلاق التقليدية ونمو الفردية ادى الى خلق أوضاع اجتماعية مهدت لظهور مشكلات فقدان المعايير Anomie في مكة(2).

وفي اثر كل تلك الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية ظهر الإسلام ليس بوصفه علاجا لظاهرة فقدان المعايير فحسب، بل بوصفه نظاماً اجتماعياً متكاملاً يحوي بنظمه وتشريعاته وتنظيماته سائر شؤون الحياة الإنسانية التي جاء الاقتصاد الإسلامي ليعبر عن شبكة من الصلات والاقترانات مع سائر عناصر الإسلام الأخرى وخصائصها(3). وفي ظل عقيدة جديدة تحمل تشريعات للأنظمة الاجتماعية كافة وبضمنها النظام الاقتصادي، كان من ابرز معالمها التي بدأت تأخذ حيزها وتفرض نفسها داخل النسيج الاجتماعي للمجتمع الإسلامي آنذاك هو بروز مفاهيم اقتصادية جديدة تمثل حجر الزاوية لأغلب (موارد) الدولة الإسلامية فيما بعد (نشوئها). ويرى أحد الباحثين ان المفاهيم الاقتصادية الجديدة تمثل أصلا من أصول الرؤية الإسلامية

ص: 132


1- في تفاصيل هذه التحولات، ينظر: احمد عباس صالح، اليمن واليسار في الإسام، مصدر سابق، ص 22 - 33
2- براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، مصدر سابق، ص 52
3- في تفاصيل ذلك ينظر: السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مصدر سابق، ص 296 - 301

للمجتمع، وانه من الطبيعي أن تتأثر هذه المفاهيم بالمعطيات الاقتصادية لمجتمع الجزيرة قبيل ظهور الدعوة(1) أو للاقاليم الجديدة قبيل الفتح، ولكنها تعد جديدة - في نظرنا - لأنها اصبحت تمثل اساسا راسخا من أسس نظرة شمولية متكاملة(2).

وتلك المفاهيم الاقتصادية الإسلامية ممثلة في الغنيمة(3)، الزكاة، الصدقة الخمس(4) ، العشر(5)، الفيء(6)، الجزية(7)، والخراج(8)، وأكثر هذه

ص: 133


1- أورد ذكر هذه الفكرة وبرؤية أوسع: هادي العلوي، فصول من تاريخ الإسام السياسي، دفاتر النهج، مركز الأبحاث والدراسات الاشراكية في العالم العربي - نيقوسيا - قبرص، ط 2، 1999، ص 385
2- د. الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسامي، الحياة الاقتصادية والاجتماعية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد سبتمبر ( 319) 2005، ص 17
3- الغنيمة: - هي كل ما أصاب المسلمون من جند العدو بالقتال وتشتمل عى أربعة أقسام: الاسرى، والسبي، والأرض، والأموال
4- الخمس: وهو الأموال المأخوذة من المكاسب التجارية أو غنائم الحرب أو الكنوز المستخرجة من سائر المسلمين
5- العشر: - مال يؤخذ من غلة الأرض التي اسلم أهلها بدون حرب، أو التي فتحت عنوة، فصارت غنيمة للمسلمين ثم صار تقسيمها للفاتحن وقد صار التقسيم زمن الخليفة عثان بن عفان، الإ أن الخليفة عمر بن الخطاب والإمام علياً (عليه السلام) رفضا تقسيمها للفاتحن واعتبراها لعامة المسلمين
6- الفيء: - وهو كل مال وصل من المشركن عفوا من غر قتال فهو كال الهدنة والجزية والخراج يذهب خمسه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد وفاته لمال المسلمين
7- الجزية: - مال يؤخذ من أهل الذمة وهنالك ((جزية الرأس)) أي الجزية التي تؤخذ على الأنفس حن يرفض الذمي المشاركة في القتال لجانب المسلمين و ((جزية الخراج)) التي تؤخذ على الأرض
8- الخراج: - مقدار معن من المال او الحاصات يفرض عى الأرض التي فتحها المسلمون عنوة إذا عدل الخليفة عن تقسيمها عى المحاربن ووقفها عى مصالح المسلمين بعدأن عوض المحاربن عن نصيبهم فيها. وكان يؤخذ الخراج أيضاً عن الأرض التي أفاء الله بها على المسلمين فملكوها وصالحوا أهلها

المفاهيم الإسلامية الاقتصادية نشأت تحت وطأة الظروف الاجتماعية والسياسية الجديدة والتي تمثلت بنشوء (الدولة الإسلامية) بقيادة الرسول (عليه الصلاة والسلام) مما استدعى وجود موارد اقتصادية متنوعة تسد احتياجات هذا العدد الضخم من المسلمين في المدينة المنورة، فجاءت تلك الصيغ الاقتصادية الجديدة لكي تستمر حياة الدولة الناشئة ورعاياها بيسر من حيث توفير أسباب العيش الملائم ولو ضمن حد الكفاف لاسيما في المراحل الأولى لنشوء الدولة(1).

وعلى العموم كانت تلك المفاهيم الاقتصادية الإسلامية الجديدة الممثلة ((لموارد)) الدولة تعكس الظروف البيئية الجديدة، اذ ارتبطت جملة من المفاهيم بظروف خاصة بها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى مثلت في الوقت نفسه تشريعات إسلامية اقتصادية خاصة بكل مرحلة. ويمكن توضيحها على النحو الآتي: - أولاً: - التشريعات الاقتصادية الخاصة بعامة المسلمين لاسيما أصحاب الثروات منهم، من تجار وأصحاب أراضٍ ومواشٍ، فقد فرض عليهم (الزكاة، الخمس، الصدقة).

ثانياً: - التشريعات الاقتصادية المرتبطة بأجواء الحرب، والقتال (الجهاد) والتي كانت حصيلتها مفاهيم (الجزية -الغنيمة - الفيء).

ثالثاً: - التشريعات الاقتصادية المرتبطة بتوسع الدعوة الإسلامية عبر الأراضي المفتوحة عنوة او مراضاة، والتي كانت حصيلتها المفاهيم الاقتصادية (العشر، الخراج).

وقد كانت حصيلة تلك الموارد الاقتصادية المنضوية تحت تلك المفاهيم المذكورة انفاً

ص: 134


1- في تفاصيل تلك المفاهيم، ينظر: قي الحسيني، موسوعة الحضارة العربية/العر الإسامي، دار ومكتبة الهال، بروت، ط 1، 2005، ج 2، ص 395. وكذلك هادي العلوي، فصول من تاريخ الإسام السياسي، مصدر سابق، ص 386 - 387، وكذلك د. احمد فتح الله، معجم الفاظ الفقه الجعفري، 1415 ه، ص 141

هو نشوء ما يسمى ب((بيت المال)) والذي كان يمثل القناة الرئيسية لتطبيق السياسة المالية الإسلامية وبالتالي كان يمثل وبعبارة معاصرة ((خزانة الدولة)) آنذاك. وقد وضع الرسول (عليه الصلاة والسلام) عمالا تابعين لهذا البيت يمارسون اعمالا مقسمة فيما بينهم وإن كانت على نحو بسيط جدا، فمنهم من كانت وظيفته قبض الجزية والفيء وجمع زكاة رمضان، ومنهم من كان عاملا على غنائم الخمس، وعاملاً على جمع أموال الصدقات.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل وصل الأمر إلى وضع عامل مراقب للأسواق لأجل ضبط عمليات البيع والشراء وهو ما يعرف بنظام (الحسبة في الإسلام)(1).

وإذا كانت تلك المفاهيم الاقتصادية الإسلامية تمثل مفاتيح النظام الاقتصادية الإسلامي آنذاك لأجل جمع الموارد (الثروات) لإشباع (الحاجات) عبر عملية تنظيم اجتماعي اقتصادي يتزعمها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن عملية التنظيم تلك كانت تتعامل مع أنشطة اقتصادية معينة تعتمد عليها في تطبيق تلك المفاهيم. وهذه الأنشطة الاقتصادية الأساسية في صدر الإسلام في الجزيرة العربية أوجزها الباحث الحبيب الجنحاني على النحو الآتي: - - نشاط المزارعين المستقرين في الواحات في الشمال والوسط مثل المدينة وخيبر وفدك ومدائن صالح وتبوك، أو في منطقة اليمن والمناطق الخصبة على سواحل البحر الأحمر وبحر عمان.

- النشاط الرعوي ويشمل تربية الماشية، والمساهمة أيضاً في نشاط قوافل النقل.

- تجارة القوافل - وكان القرشيون سادتها - وهي تجارة بعيدة المدى تربط بين التجارة البحرية في الموانئ الجنوبية للجزيرة والمناطق الساسانية والبيزنطية في الشمال، أي

ص: 135


1- د. فهمي خليفة الفهداوي، الإدارة في الإسام، المنهجية والتطبيق والقواعد، مصدر سابق، ص 99 - 100

بين منطقتين خطرتين من مناطق التجارة الدولية يومئذ: منطقة البحر الأبيض المتوسط، ومنطقة المحيط الهندي(1).

والذي يعنينا مما تقدم كله هو بيان مظاهر التحول الاقتصادي - الاجتماعي التي حدثت في الجزيرة العربية بدءاً من ظهور الإسلام وبناء الدولة الإسلامية وما رافق ذلك من تشريعات اقتصادية، مرورا بعد ذلك بتوسع حركة الفتوحات الإسلامية، والتي أحدثت نقلة اقتصادية، اجتماعية كبرى في حياة المسلمين عموما آنذاك، والتي بلغت ذروتها إبان عصر الخلافة الإسلامية ولاسيما زمن الخليفة عثمان بن عفان وما رافق ذلك من تحولات اقتصادية قوضت الكثير من البنى المادية والمعنوية التي أسسها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي أشرنا إليها سابقا. وأشار الباحث الجنحاني الى ما تقدم ولكن بعبارة مختلفة عبر مسألتين مهمتين وهما: - أولاً: - إن الإسلام - على الرغم من احترامه للملكية الفردية، وللنشاط التجاري الشرعي - قد حاول ان يضع حدا لمظاهر الثراء الفاحش، وأن يحافظ على وحدة المجتمع بالقضاء على عوامل الاضطراب والفتنة وفي طليعتها هوة الفروق الاجتماعية، وقد كانت هذه المحاولة حقيقة واضحة في عصر النبوة وفي عهد الخليفتين أبي بكر وعمر ثم في عهد الإمام علي (عليه السلام).

ثانياً:- وقد كان للتجارة - الى جانب ملكية الأراضي الواسعة - دور كبير في بروز فئة ((ارستقراطية)) اسلامية في العصر الراشدي وكانت لها علاقة بارزة في درب التحول الجذري الذي عاشه المجتمع العربي الإسلامي ابتداءً من خلافة عثمان(2).

وما يهمنا هنا هو أن قضية ممارسي الأنشطة الاقتصادية الرئيسة ألا وهي (التجارة)

ص: 136


1- د. الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص 16
2- د. الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص 33

المتجذرة في الجزيرة العربية قبل الإسلام، قد خلقت أزمات اجتماعية كبرى لم تقف عند التصدي للدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى لكونها تريد ((أي الدعوة)) إعادة إدارة وتنظيم تلك الأنشطة وبشكل جديد ومختلف، بل استمرت تلك الأزمات وعبر ممثليها (التجار القرشيين) تؤدي دورا رئيسا بالتأثير في مسار سياسة الدولة وبنائها بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدءا من حدث ((سقيفة بني ساعدة)) مرورا بعصر الخلفاء الأربعة، لاسيما زمن الخليفة عثمان بن عفان الذي فتح الباب على مصراعيه أمامها من خلال منحها مناصب سياسية حساسة بجانب أنشطتها الاقتصادية المتنوعة. وهذا الأمر برمته جعل من التنظيم الاقتصادي للإمام علي (عليه السلام) زمن خلافته يأخذ منحى المواجهة لأنماط التنظيم الاقتصادي السابق من جهة، وجعل من تنظيمه (عليه السلام) محاولة لإعادة إدارة الأنشطة الاقتصادية وتنظيمها وفق ما شرع الإسلام وما سنّه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما جعل الإمام أمام مسؤولية العودة بتنظيمات المجتمع الاقتصادية الى سيرتها الأولى والمستندة أساساً إلى القرآن والسنة النبوية فضلا عن ما يستجد ويستحدث من تنظيمات اقتصادية تحاكي وتنسجم مع الفترة الزمنية التي حكم فيها الإمام علي (عليه السلام). وللحديث عن طبيعة وأبعاد التنظيم الاقتصادي الذي صاغه الإمام (عليه السلام) سيكون موضحا في المبحثين الآتيين: -

ص: 137

ص: 138

المبحث الأول: السياسة الاقتصادية / الموازنة بين الموارد والاحتياجات:

إن السياسة الاقتصادية لا يمكن أن تأخذ حيزها ودورها من دون أن تكون قائمة على مسألة ((السلطة))، تلك السلطة التي حازها الإمام (عليه السلام) بوصفه خليفة شرعياً. ومن الواضح انه لا سلطة بدون قاعدة اقتصادية تستند إليها لا بوصفها سلطة راعية لاقتصاديات المجتمع فحسب، بل بوصف القاعدة الاقتصادية عماد السلطة نفسها وإحدى أدوات الدولة الرئيسة.

وبرؤية ذات صلة بما تقدم يحتمل الدكتور خليل احمد خليل للسلطة ثلاثة معان، أولهما أنه لا سلطة بلا موارد، وثانيها أنه لا سلطة بلا قدرة على استخدام هذه الموارد (خطة الاستخدام)، وأخيرها انه لا سلطة بلا تدبير استراتيجي، وبلا خطة احترابية. أو قدرتها الاحترابية بإزاء الآخر، قدرة تعبئة الموارد ودمجها(1). ومن ثم فالسلطة تتضمن بالضرورة عملية ادارة وتنظيم، وليس من شروط تلك العملية المنهج الصحيح أو الخاطئ في عملية الإدارة والتنظيم، فقد تكون هنالك عملية نهب منظم للموارد وتهميش للاحتياجات.

ولكن الذي يعنينا في ضوء رؤية الدكتور خليل احمد خليل هو ان السلطة تمثل قمة الهرم

ص: 139


1- د. خليل أحمد خليل، المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 121

الاجتماعي للمؤسسات او البنى الموجودة كافة، التي تقع في أولوياتها المؤسسة أو البنية الاقتصادية لأي مجتمع.

وفي ضوء هذا الإطار فالسلطة هي المسؤولة عن عملية التنظيم الاقتصادي، لأن تلك العملية تتطلب بالضرورة قوة قانونية تسهم في إمضاء مشيئة السلطة من قرارات أو أوامر او لوائح تنظيمية، وهذه القوة القانونية أو الشرعية لا تمتلكها غير السلطة بطبيعة الحال، ومن ثم تكتسب عملية التنظيم تلك مظلة شرعية تستطيع بموجبها مواجهة أو مقاومة مناهضي عملية التنظيم تلك.

وبناءً على ما تقدم فعملية التنظيم الاجتماعي بشكل عام والاقتصادي على وجه الخصوص، تحاول الموازنة بين موارد المجتمع التي تقع تحت إمرة (السلطة) والاحتياجات التي تسعى لسدها أو إشباعها بالنسبة لفئات المجتمع عموما. وفي هذا المجال يشخصالدكتور متعب مناف المعاني المذكورة آنفاً للتنظيم قائلا: ((يمكن ان يكون التنظيم هو الأداء الذي يتّبع للتوفيق بين موارد الناس وحاجاتهم وبالطرق المختلفة التي يسيرون وفقها))(1).

ولأجل فهم أكثر لأهمية وصلة العناصر المذكورة آنفاً بعضها ببعض أي ((السلطة والموارد والاحتياجات)) وعلاقتها بالتنظيم عموما والتنظيم الاقتصادي منه خصوصا، نجد أن نيل سملزر يرى إن النشاط الاجتماعي لأية عملية تنظيم يحتاج إلى مجموعة من العناصر التنظيمية الأساسية، تلك العناصر التي حصرها بالآتي:

ا. وجود نظرية واضحة عن الكيفية التي يمكن بها أن تكون الأنشطة منظمة لإنجاز الغرض من التنظيم.

ب. الموارد التي يمكن استخدامها في الأنشطة وتلك التي يمكن استخدامها لحث

ص: 140


1- د. متعب مناف جاسم،التنظيم الاجتماعي، ثقافة التنظيم وتطبيقاته البيروقراطية، مصدر سابق

الناس على تنفيذ تلك الأنشطة.

ج. نسق السلطة الذي يجعل أعضاء التنظيم موجهين ومنتظمين لتنفيذ تلك الأنشطة(1).

وتأسيسا على ما تقدم ولأجل استيعاب عملية التنظيم الاقتصادي التي قام بها الإمام علي (عليه السلام)، نجد أن مسألة (النظرية) بالنسبة لديه تتمثل ب(الشريعة الإسلامية) التي استسقى منها (عليه السلام) سياسته الاقتصادية من إدارة وتنظيم، أما مسألة الموارد فكانت بطبيعة الحال ممثلة للأنشطة الاقتصادية كافة الموجودة قبل الإسلام (التجارة / الزراعة / العمل الحرفي البسيط) وكذلك الأنشطة التي صاغها الإسلام بتشريعاته الممثلة بمفاهيم اقتصادية جديدة التي تناولناها سابقا أمثال (الغنيمة، الصدقة، الفيء، الجزية... الخ)، أما نسق السلطة فالذي يمثله شخص الإمام (عليه السلام) إذ يتجلىبدوره السياسي كخليفة (الحاكم) والذي كان عنصراً مهماً وأساسياً استطاع الإمام (عليه السلام) استخدامه وتوظيفه في شتى أنواع التنظيم الاجتماعي، التي بضمنها (التنظيم الاقتصادي).

ولبيان تلك العناصر المذكورة آنفاً وصلتها ببعضها بعضاً ضمن عملية التنظيم الاقتصادي التي أدارها الإمام (عليه السلام) (على سبيل المثال لا الحصر) نجد الإمام يوصي من يستعمله (يوظفه) لجمعِ الصدقات بالآتي: ((انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعنَّ مسلما ولا تجازن عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض اليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج (تبخل) بالتحية لهم، ثم تقول عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لاُخذ منكم حق الله في أموالكم ،فهل لله

ص: 141


1- د. السيد علي شتا، التنظيم الاجتماعي وظاهرة الاغتراب، مصدر سابق، ص 14

في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه...))(1).

ولأجل توضيح طبيعة السياسات الاقتصادية / التنظيمية التي اعتمدها الإمام (عليه السلام) لإحداث عملية الموازنة بين موارد المجتمع آنذاك واحتياجاته، سنحاول توضيح ذلك كله من خلال المحورين الآتيين: -

المحور الأول: - القواعد التنظيمية لسياسة الإمام الاقتصادية:

- لقد انطلقت تلك القواعد التنظيمية في البدء لمواجهة تطبيقات السياسة الاقتصادية التي سبقته من جهة،ومن جهة أخرى حاول الإمام (عليه السلام) جاهدا وضع قواعد تنظيمية جديدة تعتمد عليها التنظيمات الاقتصادية كافة لسائر الأقاليم والولايات آنذاك (قاعدة بيت المال). وكان (بيت المال) أهم ركيزة اقتصادية / مالية انطلق منها الإمام (عليه السلام) في سياسته الاقتصادية، فقد كانت وظيفة (بيت المال) جمع أموال المسلمين لتوزيعها، وليس لخزنها وكانت مسؤولية الإشراف عليها ترجع الى الخليفة نفسه. في عاصمة حكمه الجديدة (الكوفة) بعد (المدينة) ويشاركه في عملية الإشراف ولاة او عمال الأمصار آنذاك ولتعقّد مسؤولية ((بيت المال)) تم استحداث منصب عامل بيت المال، ومن الواضح أن بيت المال كان يقوم كذلك بعمليات القرض في حالات معينة.

أما موارد بيت المال فهي خمس الغنائم، وأنواع الضرائب المعروفة في النظام الجبائي الإسلامي، والمفروضة على المسلمين من صدقة وأعشار، أو على أهل الذمة من جزية وخراج، وقد ذكرنا فيما سبق المفاهيم الاقتصادية الجديدة التي تعكس الرؤية الاقتصادية للإسلام(2).

ص: 142


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب، مصدر سابق، ج 3، ص 23 - 24
2- ينظر: د. الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص 25 - 26

وبيت المال يكون حلقة الوصل بين ديوان الخراج وديوان الجند، فهو المسؤول عن تسلم الواردات ودفع النفقات، وتقوم أعماله على أساس النقود فقط، فلم تكن له اية علاقة بما كان يرد المصر من الحبوب، اذ ان هذه الحبوب كانت تخزن في دار الرزق التي تقع في الطرف الشرقي من المدينة ((قبل ان ينتقل الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة))(1)، على بعد غير قليل من موضع بيت المال ويشرف عليها موظف خاص مستقل(2).

ويعد الديوان أحد التنظيمات الأساسية التي وظفها الإمام (عليه السلام) في إدارة الشؤون الاجتماعية عموماً والاقتصادية منها خصوصاً لأن من خلاله استطاع تدوين واثبات الموارد الاقتصادية للدولة من جهة، وتدوين واثبات اسماء الرعية المحتاجين لهذه الموارد من جهة أخرى لأجل تسهيل بيت المال من ناحية المدخلات والمخرجات. والديوان: كلمة فارسية معناها ((السجل)) أو (الدفتر)) ويعرّفه البعض بأنه موضوع لحفظ ما يتعلق بحقوق أم السلطه من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال(3).

ومن الواضح أن الوظيفة الفعلية ((للديوان)) هي توزيع المال على أبناء المجتمع الإسلامي آنذاك وهذا هو الفهم التنظيمي للإمام (عليه السلام) بالنسبة للديوان، فقد روي أن عمر بن الخطاب استشار المسلمين في تدوين الديوان فقال له علي بن ابي طالب تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئا(4). ولم يكن الديوان في هذه المرحلة المبكرة يعني هيكلا إدارياً أو مالياً، كما تطور فيما بعد، بل يفهم من النصوص التاريخية أنه كان مجرد سجل يتضمن أسماء المسلمين الذين لهم الحق في العطاء. الذي

ص: 143


1- اشارة من الباحثة
2- د. صالح احمد العلي، التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البرة في القرن الأول الهجري، مطبعة المعارف، بغداد، 1953، ص 251
3- محمد محمد جاهين، التنظيمات الإدارية في الإسلام، مصدر سابق، ص 138 - 139
4- المصدر السابق نفسه، ص 139

يوزع عن طريق العرفاء والنقباء والأمناء بعد ان تمت عملية تعريف الناس، وقد تطور مفهوم العطاء وأسلوب توزيعه في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى عهد الخلفاء الراشدين وبقي محافظاً على سياقه زمن الخليفة الأول والثاني والرابع ، الا زمن الخليفة الثالث فقد اختلفت أساليب العطاء واتجه اتجاها فئويا دون سائر المسلمين آنذاك.

وكان الهدف الأساس للعطاء على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الثلاثة لم يتغير فهو:

أولاً: مال الله، يجب أن يوزع على المسلمين، فلكل مسلم الحق فيه، لذا يجب أن يصله وإن بقي في بيته، وثانياً: - فقد فرضت الأعطية والأرزاق لأهل المدينة وللقبائل التي هاجرت الى الأمصار الجديدة لئلا يشغل المسلمون بأي شيء عن الجهاد والقتالفي سبيل الدعوة الإسلامية(1). على الرغم من ان هنالك تمايزا وتفاوتا في سياسة الخليفة الأول والثاني في العطاء، إذ ان الخليفة الأول ساوى في العطاء بين المسلمين عموما، إلا أن الخليفة الثاني لم يساو الناس في العطاء، فالسابقون للإسلام كانت لهم الأولوية ثم قريش فالاقربون منها ثم يكون الترتيب التنازلي في هذا المجال. أما الإمام علي (عليه السلام) وانطلاقاً من إيمانه بالعدالة الاجتماعية وأن لا تمايز بين المسلمين ابدا، اتخذ قراره الاقتصادي التنظيمي الأبرز وهو مساواة المسلمين في العطاء. وفي هذا الإطار يعلق الباحث محمد عمارة على هذا القرار قائلا: ((ومن هنا كان قرار علي العدول عن تمييز الناس في العطاء والعودة الى نظام المساواة قراراً من أخطر قراراته الثورية، لأنه كان يعني انقلابا اجتماعيا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات.. كما كان رد فعل الأغنياء. وفي مقدمتهم ملأ قريش وابناؤهم - ضد علي وقراره وهذا بداية الثورة المضادة لحكمه))(2).

واذا كان هذا القرار يعني إحداث عملية تغير اجتماعي فإنه في الوقت نفسه كان يعني

ص: 144


1- د. الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص 20 - 21
2- محمد عمارة وآخرون، علي بن أبي طالب، نظرة عصرية جديدة، مصدر سابق، ص 29

قرارا تنظيمياً / اقتصادياً، وبالتالي تتضح لنا (كما أسلفنا في الفصل السابق) أهمية العلاقة بين عمليتي التنظيم والتغير الاجتماعي(1). وذلك من حيث انه كان للتنظيم السابق ((فترة خلافة عثمان بن عفان دور كبير في إعاقة التغير الاجتماعي لكون هذا التنظيم الاقتصادي خصوصاً أخذ استقراره وأصبح له مؤيدون كونه يخدم مصالحهم وبالتالي سيقاوم ذلك التنظيم عملية التغير الاجتماعي (وهذا ما حدث لعملية التغير الاجتماعي الذي أحدثه الإمام (عليه السلام) كما اشار إلى ذلك الباحث محمد عمارة وكما نوهنا عنه سابقاً).

ومن جهة أخرى فإن هذا القرار التنظيمي كان بمثابة مصدر لعملية التغير الاجتماعي التراتبي وبالفعل فقد كان هذا القرار التنظيمي ((المساواة في العطاء)) محفزا رئيسيا لإحداث تحولات وتغيرات اجتماعية واسعة النطاق، إذ كان من أبرز تداعياتها هو إعادة بناء التراتب الاجتماعي أو الفئوي الطبقي للمجتمع الإسلامي آنذاك من خلال إحلال المساواة الاجتماعية محل التمايزات والامتيازات وقد طلب بعض أصحاب الإمام علي (عليه السلام) منه ذات مرة أن يغير سياسته الاقتصادية تلك لأجل كسب ود من يخشى فراقه أو خلافه اثناء القتال مع معاوية بن أبي سفيان اذ أن الأخير كان يشتري ذمم الرجال وولاءهم له بكثرة الأموال والعطايا، فرفض الإمام ذلك مصرا على سياسته الاقتصادية قائلا (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير - أي ما أمر به ولا أقاربه مدى الدهر - وما أمَّ نجم في السماء نجما - أي ما قصد نجم نجما - ولو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله)(2).

ص: 145


1- في تفاصيل ذلك، ينظر: د. اعتاد محمد عبد السام، دراسات في علم الاجتماعي التنظيمي، مصدر سابق، ص 27 - 29
2- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 2، ص 6- 7

بل بلغ به إصراره على العدالة بين المسلمين ومساواته بينهم في العطاء أن عاقب أخاه (عقيلاً) لأنه طلب منه زيادة في العطاء إذ كان ذا عيال وحالته المعيشية سيئة للغاية. فقد طلب منه أن يزيده ((صاعا)) من العطاء عطاء البر (أي القمح) - حيث لم يكن وقفا على المال فحسب، فيقول الإمام علي (عليه السلام): ((والله لقد رأيت عقيلاً، وقد أملق حتى استماحني في بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم... وعاودني مؤكدا وكرر علي القول مرددا فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني واتبع قياده مفارقا طريقي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر... ثم يختم بقوله: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيالله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقةفي فم جرادة تقضمها))(1).

ولم يقف الأمر عند المساواة بين الناس في العطاء، بل إنه ساوى بين الناس في - الفيء - أي الأموال الواردة من المشركين من غير قتال والذي كان يذهب خمسه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ، وبعد وفاته (عليه الصلاة والسلام) تحول هذا الخمس الى بيت مال المسلمين، ولقد أشار الإمام إلى هذه المسألة من خلال خطبته التي ألقاها للرد على من أنكر عليه تسويته بين الناس في الفيء، اذ يشير قائلا: ((فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه على احد أثرة قد فرغ الله عز وجل من قسمه فهو مال الله وانتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله به أقررنا وعليه شهدنا وله اسلمنا وعهد نبينا بين اظهرنا فسلموا - رحمكم الله - فمن لم يرض بهذا فيلتول كيف شاء فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه))(2).

ص: 146


1- المصدر السابق نفسه، ص 217 - 218
2- الشيخ أبو محمد الحسن بن علي الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، منشورات المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، ط 1، 1963، ص 125 - 126

أما القاعدة التنظيمية الأخرى التي اقرها الإمام (عليه السلام) كسياسة اقتصادية جديدة فهي عملية رد قطائع الخليفة الثالث عثمان بن عفان الى بيت المال. والقطائع:

ما يقطعه الإمام لبعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج، ويسقط عنه خراجه ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج، وقد كان الخليفة الثالث اقطع كثيرا من بني أمية وغيرهم من أوليائه وأصحابه، قطائع من ارض الخراج على هذه الصورة(1).

وبعبارة أخرى وعلى حد تعبير الباحث محمد عمارة حول القطائع: كانت هناك الأرض التي جعلها عمر ملكا خالصا لبيت المال، ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته وبصددها كان موقف علي حازما وحاسما.. فقد ألغى إجراءات عثمان هذه، وقرر رد هذه الأرض إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال ورفض أن يعترف او يقر التغييرات و (التصرفات العقارية) التي حدثت في هذه الارض(2). وفي هذا المجال أكد الإمام قاعدته التنظيمية قائلا: ((إلا أن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال اعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفُرّق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق)).

وتدعيما لهذه القاعدة فان الإمام علياً يؤكد المسائل الآتية: - أولاً: - يأمر ولاته بعدم منح القطائع للمقربين منهم من خاصة وبطانة، فهو على سبيل المثال يوصي واليه على مصر ((مالك الاشتر)) قائلا: ((ثم أن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثاراً وتطاولاً، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة. ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم،

ص: 147


1- ابن ابي الحديد المعتزلي، مصدر سابق، ج 1، م 1، ص 201
2- محمد عمارة وآخرون، علي نظرهّ عصرية جديدة، مصدر سابق، ص 27

فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة))(1).

ثانياً: - يشدد على أهمية احترام أموال أو ثروات بيت مال المسلمين ويحذر ويهدد بالعقوبات الشديدة لمن يتجاوز عليها من خلال نهبها او الاستيلاء عليها بصورة تحايلية، ففي هذا المجال نجده يهدد زياد ابن ابيه خليفة عامله على البصرة عبد الله بن عباس (الذي كان آنذاك على كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها) فيرسل له كتابا يهدده فيه قائلا: ((وإني أقسم بالله قسما صادقا، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا او كبيرا، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر (أي أفقرك)، ثقيل الظهر (أي مسكين لاتقدر على مؤنة عيالك) ضئيل الأمر (أي حقير) والسلام))(2).

ومن ناحية أخرى فقد تصل العقوبة إلى طرد الولاة من مناصبهم حين يسرقون واردات المجتمع والممثلة ب((بيت المال))، فمن كتاب له (عليه السلام) الى بعض عماله وقد بلغه أنه أكل أموال المسلمين (أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك. بلغني انك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع الي حسابك، واعلم ان حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام)(3).

ومن الواضح أن القواعد التنظيمية التي وضعها الإمام علي لسياسته الاقتصادية لا يمكن لها أن تأخذ مكانها داخل المجتمع الإسلامي من ناحية التطبيق والممارسة آنذاك من دون أن يكون هنالك تفاعل واتصال وطاعة بين المركز السياسي / الإداري للقرار أيا كان لاسيما (القرارات او السياسات الاقتصادية) هنا الا وهو (عاصمة الدولة الإسلامية) المدينة - وفيما بعد - الكوفة، أي ان يكون هنالك تفاعل واتصال بين الخليفة

ص: 148


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 104 - 105
2- ابن ابي الحديد المعتزلي،مصدر سابق، م 8، ص 95
3- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، م 8، ص 313 - 314

(الحاكم السياسي) والإداريين وفي طليعتهم الولاة أو العمال المسؤولون عن الأقاليم من جهة، ومن جهة أخرى أن يكون بين الولاة والرعية تفاعل واتصال دائم بحيث يعرف كل طرف حق الطرف الآخر عليه وفي هذا الإطار نجد الإمام علياً يقول: ((ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض. وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية))(1).

وبهذا يضع الإمام (عليه السلام) موازنة اجتماعية بين الطرفين (الولاة والرعية)، اذا ما التزم كل طرف بواجباته وعرف حقوق الآخر، أما ما عدا ذلك فإن الحالة الاجتماعية ((العلائقية)) بينهما ستكون على نحو آخر، ويمكن توضيح ما قاله الإمام (عليه السلام) وفقاً للترسيمة الآتية: -

ص: 149


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 2، ص 198 - 199

صورة

[شكل رقم (4) يوضح تبادل الحقوق والواجبات بين الوالي والرعية]

ص: 150

ولأجل إعادة عملية التوازن الاجتماعي (العلاقاتي) بين (الوالي والرعية) يوصي الإمام (عليه السلام) بالآتي: ((فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحد وإن اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم))(1).

وتبعا لذلك فإن هذه العلاقة تتطلب قواعد أو لوائح تنظيمية يجب أن يلتزم الطرفان بها كيما تتحقق عملية تنظيم اجتماعي وبشتى مناحي الحياة، وبالتأكيد فإن التنظيم الاقتصادي من أولوياتها، ولكي يتحقق ذلك كله لابد من وجود قواعد تنظيمية معينةتمثل محور السياسة الاقتصادية للإمام (عليه السلام) ومن جملة هذه القواعد والتي لا تخص المسلمين فحسب، بل تشمل (المعاهدين) من أهل الكتاب وممن سواهم نجد الآتي: - أولاً: - إن للمشركين (المعاهدين) من الدهاقين(2) وممن سواهم حقوقا اقتصادية في المجتمع الإسلامي، ما دام أنهم يدفعون الجزية أو شيئا من مال (الفيء)، فلهذا وجب عدم القسوة في معاملتهم لأنهم يمثلون قوة اقتصادية(3). ويمكن الإفادة من هذه القوة الاقتصادية في هذا الإقليم او ذاك، فلهذا نجد الإمام علي (عليه السلام) يدعو الى سياسة معتدلة معهم، فمن كتاب له الى بعض عماله يقول فيه: ((أما بعد فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارا وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم،

ص: 151


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 2، ص 199
2- الدهاقن: - الزعاء أرباب الأماك بالسواد، واحدهم دهقان بكر الدال، ولفظه معرب: ينظر، ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، م 8، ص 95
3- في تفاصيل قوتهم الاقتصادية وما مثلوه من دور في الاقتصاد الإسامي آنذاك، ينظر: د. صالح احمد العي، التنظيات الاجتماعية والاقتصادية في البرة في القرن الأول الهجري، مصدر سابق، ص 256 - 259

ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وافرج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله))(1).

ثانياً: - أكد الإمام (عليه السلام) ضرورة التزام الولاة والعمال بالقاعدة الاقتصادية / التنظيمية التي وضعها، الأ وهي (المساواة بين المسلمين) في العطاء أي كل ياخذ حصة متساوية مع الآخر من (الموارد) الموجودة في (بيت المال)، وقد هدد الإمام كل من يخرق هذه القاعدة التنظيمية بعقوبة شديدة ومحاسبة لا هوادة فيها، وفي هذا المجال يقول (عليه السلام) لعامله على (أرد شيرخرة) مصقلة بن هبيرة الشيباني ، الذي ميز بين قومه في العطاء: ((بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك، انك تقسم فيء المسلمين - الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم - فيمن إعتامك (اختارك من بين الناس، أصله من العيمة بالكسر، وهي خيار المال، إعتام المصدق إذا أخذ العيمة) من أعراب قومك، فالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقا لتجدن لك علي هوانا ولتخفن عندي ميزانا، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الاضرين أعمالاً ألا وإن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يردون عندي عليه ويصدرون عنه(2).

ومن كتاب له أيضاً إلى المنذر بن الجارود العبدي وقد كان استعمله على بعض النواحي فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله فقال له: ((... فاذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك انقيادا، ولا تبقي لأخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، او ينفذ به أمر، او يعلى له قدر، أو

ص: 152


1- ابن ابي الحديد المعتزلي، مصدر سابق، ج 2، ص 94 - 95
2- المصدر السابق نفسه، ص 321

يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إلي حين يصل اليك كتابي هذا إن شاء الله))(1).

وكيما تتكامل سياسة الإمام الاقتصادية ولاسيما من ناحية التطبيق والممارسة داخل المجتمع الإسلامي آنذاك، فإن الإمام سار على ما سار عليه رسول الله (عليه الصلاة والسلام) وذلك من خلال اعتماد نظام (الحسبة) أي مراقبة الأسواق والعمليات التجارية والمالية والإشراف عليها للحد من الغش والاحتيال وسلب أموال الناس بالباطل والتلاعب بالأسعار او نحو ذلك، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل بالأصل قد أقيم هذا النظام للأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر، وعلى حد إشارة أحد الباحثين إلى أن الحسبة صورة من صور القضاء في الإسلام وهي ((أمر بالمعروف اذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر اذا ظهر فعله)). ويقوم المحتسب بهذه المهمة فرضا متعينا عليه لا نافلة يتطوع بها متى شاء، فليس له أن يتشاغل عن هذه الوظيفة بغيرها، وذلك بحكم الولاية وإن كان على غيره في فروض الكفاية،... وكان للحسبة دار خاصة بها يطلب المحتسب الباعة اليها في أوقات معينة ومعهم موازينهم ومكاييلهم، فيعايرها، فإن وجد فيها خللا صادرها وألزم صاحبها شراء غيرها أو إصلاحها(2).

وهنالك محتسبون في كل الأمصار والولايات زمن الإمام علي (عليه السلام) يباشرون عملهم استنادا إلى مجموعة من الضوابط والشروط التي يتحلون بها وهي أن يكون حرا، عدلا، ذا رأي، وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة(3).

ولقد باشر الإمام بنفسه دور المحتسب في عاصمة خلافته آنذاك (الكوفة) من حيث مراقبة الأسواق، وكان يقول: (اتقوا الله وأوفوا الكيل والميزان ولا تنفخوا في اللحم(4)،

ص: 153


1- المصدر السابق نفسه، ص 233 - 234
2- د. قصي الحسيني، موسوعة الحضارة العربية العصر الإسلامي، مصدر سابق، ص 243
3- المصدر السابق نفسه، ص 244
4- عبد العظيم عباس نصار، الحسبة في العر العباسي وقانون ادارة البلديات، دراسة مقارنة رسالة ماجستیر (غیر منشورة)، معهد التاریخ العربي والتراث العلمي للدراسات العلیا، بغداد، 2002، ص 42 - 43

مما يعني أنه كان على معرفة تامة بأحوال السوق وحركة الأسعار واعمال التجار وأخلاقهم وكان يقول للتجار: يا معشر التجار اجتنبوا خمسة أشياء: حمد البائع وذم المشتري واليمين على البيع وكمال العيب والربا يصح لكم الحلال وتخلصوا من الحرام. وكان يتخذ الإجراءات اللازمة من اجل تخفيف الأسعار ومكافحة الغلاء فيقول رزين ابن الاعرج: غلا علينا الزبيب بمكة فقال أن أرخصوه بالتمر(1).

وقد كان الإمام على علم ودراية بتلاعبات كل صاحب عمل او تجارة، فعلى سبيل المثال لا الحصر يروى: ان عليا (عليه السلام) ركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الشهباء بالكوفة، فأني سوقا سوقا، فأتى طاق اللحامين، وقال بأعلى صوته: يا معشر القصابين، لا تنخعوا، ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، وإياكم والنفخ في اللحم للبيع، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن ذلك، ثم أتى التمارين فقال: أظهروا رديء بيعكم ما تظهرون جيده، ثم أتى السماكين فقال: لا تبيعوا إلا طيبا وإياكم وما طغى، ثم اتى الكناسة (ناحية من نواحي الكوفة انذاك) فإذا فيها أنواع التجارة، من نحاس ومن مائع، ومن قحاط، ومن بائع أبر، ومن صيرفي، ومن حناط، ومن بزاز، فنادى بأعلى صوته: إن أسواقكم هذه يحضرها الإيمان، فشربوا إيمانكم بالصدقة، وكفوا عن الحلف، فإن الله عز وجل لا يقدس من حلف باسمه كاذبا))(2).

ص: 154


1- المصدر السابق نفسه، ص 43
2- ميسون محمد حسن، الفكر الابداعي في تراث الإمام علي (عليه السلام). نهج البلاغة نموذجا، اطروحة دكتوراه ((غیر منشورة)) معهد التاريخ العربي والراث العلمي للدراسات العليا، بغداد، 2005، بغداد، ص 95

المحور الثاني: - التنظيم الاقتصادي للإمام علي عبر الموازنة بین الموارد والاحتياجات

تتضح عملية الموازنة التي قام بها الإمام علي (عليه السلام) بين موارد المجتمع الإسلامي آنذاك واحتياجاته من خلال تحليلنا مضامين عهده لواليه على مصر الذي تحدث فيه الإمام عن مسألة تقسيم الرعية الى طبقات، تلك المسألة التي يمكن الإفادة منها من عدة زوايا ومضامين(1)، فمن جهة (الزاوية الحالية) يمكن أن يفهم كلام الإمام الآتي: ((وأعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة. ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه (نصيبه من الحق) ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عهده منه عندنا محفوظا))(2).

فيمكن ان نفهم مما تقدم أن طبقات الرعية تلك يمكن أن تقسم قسمين قسم للموارد وقسم الاحتياجات، وبعبارة أخرى إن هنالك قسماً من الرعية خاصين (بجمع الموارد والاشتغال عليها)، مثال ذلك أهل الجزية والخراج (جامعو الموارد) والتجار وأهل الصناعات (المشتغلون بالموارد من انتاج وتبادل (بيع وشراء) من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن قسم الاحتياجات تمثله طبقات المجتمع الأخرى بكل أنواعها مثل (القضاة، الجنود، الكتاب، فضلا عن الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة ، إذ ان طبقات الاحتياجات تعتاش اقتصاديا من خلال الارتكاز على طبقات الموارد، وعلى حد قول الإمام (عليه السلام): ((فالجنود باذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين،

ص: 155


1- إذ إن الباحثة تحاول في المبحث القادم تحليلها من خلال صلتها بمسألة تقسيم العمل
2- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 2، ص 89 - 90

وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال لما يحكمون من المعاقد (العقود في البيع والشراء) ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعونعليه من مرافقهم (أي المنافع التي يجتمعون لأجلها)، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم مالا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم))(1).

ص: 156


1- المصدر السابق نفسه، ج 3، ص 90 - 91

والترسيمة الآتية توضح طبقات الموارد والاحتياجات وفق الرؤية التنظيمية للإمام:

[شكل رقم (5) يوضح تصنيف طبقات الموارد والاحتياجات في المجتمع]

ص: 157

إن الحديث عن مسألة الموارد الاقتصادية التي خصصت لعمليات التنظيم الاقتصادي عند الإمام هو حديث في الوقت نفسه عن الجوانب البيئية الاقتصادية، بعبارة أخرى إن الموارد في الأصل تمثل الطبيعة أولاً واشتغالات الإنسان عليها فيما بعد من سيطرة وتطويع وتصنيع. وقد نوهنا في بداية هذا الفصل لطبيعة الأنشطة الاقتصادية الممارسة في المجتمع العربي الإسلامي زمن حكم الإمام (عليه السلام) ولكن الشيء الذي سيتم توضيحه هنا هو التفاصيل التنظيمية لجانبي الموارد والاحتياجات لمعرفة الكيفية التيتحقق فيها التنظيم الاقتصادي للمجتمع إبان خلافة الإمام (عليه السلام).

فعلى صعيد الجانب الأول ((الموارد)) نجد الإمام يقول في عهده لواليه على مصر ((وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله))(1).

ويرى أحد الباحثين أنه في ضوء ما تقدم يمكن مقارنة ما قاله الإمام بقاعدة مالية حديثة إذ نظر الإمام إلى هذا العنصر ((الخراج)) وهو أهم العناصر لإصلاح طبقات المجمع نظرة مالية اقتصادية بحتة جعل الخراج سبب كل إصلاح تريده الحكومة وهو أساس كل عمران وحضارة في الدنيا، وان في إصلاحه وصلاح أهله صلاحا للرعية لأن الناس كلهم عيال على الخراج ويمكننا أن نقارن هذه القاعدة بالقاعدة المالية الحديثة التي توصل إليها علماء علم أصول المال وهي: (اتخاذ التكاليف وسيلة لإصلاح الفاسد) وهذه القاعدة (برأيه) هي نتيجة صراع طويل بين علماء المالية وأصحاب المذاهب الاجتماعية والسياسية عن قضية استخدام التكاليف في حل المشكلات الاجتماعية مثل توزيع الثروة وتعديل النسبة بين طبقات الشعب ونجدة الصناع بحماية مصنوعاتهم وتثبيط العادات المضرة(2).

ص: 158


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 96
2- توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، شركة المعرفة للنر والتوزيع المحدودة، ط 3، بغداد، 1990، ص 179

وتأكيدا لأهمية صلاح وإصلاح الخراج فإن الإمام يوصي في الوقت نفسه بمراعاة الأرض وعمارتها، ويعطي الأمر أولوية على جمع الضرائب (الموارد)، اذ يقول: وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة(1).

و في الإطار نفسه يرى الباحث توفيق الفكيكي فيما جاء مقاربة اقتصادية اخرى قائلا: وهذه القاعدة عرفت عند علماء أصول علم المال في عصرنا بقاعدة (ليس للخراج أن يعرقل الإنتاج) وبقاعدة (الإنفاق العام منوط بالمصلحة العامة(، أما قاعدة ليس للخراج ان يعرقل الإنتاج فمعناها أن لا يجدر بالحكومة أن تضع ضريبة تحول دون السعي والإنتاج وتنقص ثمرات المساعي الشعبية بتخريب وإهمال الأراضي الزراعية، أما القاعدة الثانية فمعناها أنه لا يصح أن ينفق من أموال الدولة شيء في غير المصالح العامة ذات المنافع المشتركة ويتفرع عنه امتناع العطاء بدون عمل مقابل داخل في الخدمة العمومية او الإنفاق لمنفعة قوم دون آخرين(2).

ومن جانب آخر فالإمام يؤكد أهمية العلاقة المتوازنة بين الدولة والمجتمع من خلال اعتماده على سياسة المحافظة على موارد الدولة (الخراج) دون الضغط على الأفراد المأخوذة منهم (أصحاب الأراضي)، لهذا نجده يشدد على أهمية هذا الأمر قائلا: ((من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره الا قليلا)). ويرى الفكيكي في قول الإمام (عليه السلام) انه يضم قاعدة اقتصادية مالية وإدارية مهمة وتنطبق عليها القاعدة المالية الحديثة القائلة (الحكومة ليست تاجرا) ومعنى ذلك أن

ص: 159


1- الشيخ محمد عبده، مصدر سابق، ص 96
2- توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، مصدر سابق، ص 181

الحكومة لا تشتغل بالمشروعات بقصد الربح بل لأجل توطيد منفعة عامة(1).

كما أن الإمام (عليه السلام) ينظر للدولة ليست بوصفها مؤسسة (جباية) فحسب، بل بوصفها مسؤولة عن عمارة البلاد وإصلاحها بحيث يوجب الإمام على الدولة تخفيف الخراج في حالة أي نقص او ضعف يعتري ارض المالكين قائلا: ((فإن شَكَوا ثقلا او علة او انقطاع شرب أو بالة او إحالة ارض اعتمرها عرق او أجحف بها عطش(2) حففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنهم ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين عبادك))(3).

وقد احتلت الطبقة التي تفلح الأرض وتزرعها مكانا بارزا ومهماً في الفكر الاجتماعي لعلي بن ابي طالب، بل ان حديثه عنها ووصاياه بشأنها تجعلنا نرى ان فكره الاجتماعي قد جعل مكان هذه الطبقة أبرز مكان وأهمه بالقياس إلى باقي الطبقات، فقد كانت المجتمعات التي فتحت في العراق والشام ومصر مجتمعات زراعية بالدرجة الأولى، وكان الخراج - ضريبة الأرض الزراعية - أهم مصدر من مصادر ثروة الدولة، وكان المرتبطون بالأرض يمثلون الأغلبية العددية للسكان ومن هنا كان المكان المهم والبارز لهذه الطبقة في فكره الاجتماعي(4).

فضلا عن أن الإمام يضع العبء الأكبر والمباشر على الولاة الذين يقودون عملية

ص: 160


1- المصدر السابق نفسه، ص 182
2- فإن شكوا ثقلا: أي ثقل الخراج المروب عليهم، أو ثقل وطأة العامل (أو علة) نحو أن يصيب الغلة آفة كالجراد أو الرق أو الرد، (أو انقطاع الشرب): بأن ينقص الماء في النهر أو تتعلق أرض الرب عنه لفقدان الحفر، (أو بالة) يعني المطر، (أو إحالة أرض= اعتمرها عرق) يعني كون الأرض قد حالت. (أو أجحَفت به عطش) أي أتلفها العطش، ينظر: ابن ابي الحديد المعتزلي، المجلد التاسع، مصدر سابق، ص 52
3- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 97
4- محمد عمارة وآخرون، الإمام علي بن ابي طالب، نظرة عصرية جديدة، مصدر سابق، ص 37

التنظيم الاقتصادي ويوجهونها ، لهذا نجده يضع المسؤولية الإدارية والتنظيمية لخراب الأرض على عاتق الولاة اذ يقول: ((وانما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإ شراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر))(1).

وفي الشق الثاني من جانب الموارد نجد التجلي الواضح للأهمية الاقتصادية التي يعول عليها الإمام علي في عهده لواليه على مصر ((على التجار وذوي الصناعات)) الذين جمعهم بخطاب واحدٍ محددا أصنافهم ثم محددا بعدئذ علة او أسباب الاستيصاء بهم خيرا إذ نجده يقول: ((ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه(2). وقد قسم الإمام الموصى بهم ثلاثة اقسام: اثنان منها للتجار، وهما المقيم والمضطرب (يعني المسافر).

وواحد لأرباب الصناعات، وهو قوله ((والمترفق ببدنه))، وروي ((بيديه)) تثنية يد(3).

وعلة الاستيصاء بهم يحددها الإمام بقوله:

((فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق وجلاّبها من المباعد والمصارح، في برك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها، فهم يجلبونها من أمكنة بحيث لا يمكن التئام الناس واجتماعهم في مواضع تلك المرافق من تلك الامكنة))(4).

ومن الواضح ان أهميتهم الاقتصادية تتأتى من دورهم الاقتصادي الصعب الذي يتطلب: -

ص: 161


1- الشيخ محمد عبده، مصدر سابق، ج 3، ص 97
2- المصدر السابق نفسه ، ص 99
3- ابن ابي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، م 9، ص 61
4- الشيخ محمد عبده، المصدر السابق، ج 3، ص 99 - 100

1. الانتقال الدائم بين مناطق وأمكنة مختلفة لجلب البضائع والسلع.

2. القدرة على المواءمة بين احتياجات المجتمع المتنوعة من جهة وتقلبات السوق من أسعار وأجواء اقتصادية معينة من جهة أخرى.

لكن الأهمية الأساسية لهم في أنهم يمثلون الركيزة الاقتصادية الثانية للموارد بعد (الخراج) للمجتمع الإسلامي آنذاك. ومن الواضح أن الواردات الاقتصادية لهذه الفئة (التجار والصناع) آنذاك جعلت لديهم قوة شرائية عالية، مما جعل منهم طبقة أغنياءواسعة النفوذ والتأثير لاسيما ((القرشيين)) منهم لتوارثهم مهنة التجارة عبر الأجيال. مما دفع بالكثير منهم للوقوف عند الحاجات الأساسية للتجارة والاستهلاك مثل ((القمح والتمر))، فضلا عن ذلك استوعبت قوتهم الشرائية الحاجات المعدّة الرفاهية كالمنسوجات الحريرية التي كانت متركزة في ميسان والاهواز وفارس التي كانت مرتبطة بالبصرة اداريا وجغرافيا وكان لابد لهذه السلع من المرور بالبصرة في طريقها الى الحجاز(1).

وعلى الرغم من أهمية دورهم الاقتصادي إلا أن مطلبهم الدائم للربح الوفير يسهم في بعض الأحيان بإفساد عملية التنظيم الاقتصادي ذلك ان مطلبهم المذكور أنفاً سيؤثر في سلوكهم الشخصي الذي شخّصه الإمام لواليه في عهده: ((واعلم مع ذلك إن في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع منه، وليكن البيع بسيطا سمحا، بموازين عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن فارق حكره بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف))(2).

ص: 162


1- د. صالح أحمد العي، التنظيات الاجتماعية والاقتصادية في البرة في القرن الأول الهجري، مصدر سابق، ص 225 - 226
2- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 100

وتأكيداً لدور طبقتي (الخراج والتجار والصناع) في اسناد طبقات المجتمع اقتصاديا ودعمها معيشياً يقول الإمام بعد تحديد واجبات طبقة الجنود: ((ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم))(1). ثم يحدد الإمام ((بأن لا قوام لهذه الطبقات (الجنود - القضاة - العمال - الكتاب)، إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مالا يبلغه رفق غيرهم))(2). وبذلكيمثلون الجانب الثاني ((جانب او طبقة الاحتياجات في المجتمع آنذاك.

وفي هذا المجال سيتم التركيز على الطبقة السفلى - المعدمة ماديا - والتي تمثل أكثر طبقة للاحتياجات وفيها يقول الإمام (عليه السلام) لواليه على مصر: ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً (سائلاً) ومقترا (متعرضاً للعطاء بلا سؤال) واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت المال وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى)(3). وصوافي الإسلام جمع صافية وهي ارض الغنيمة وغلاتها وثمراتها. ووفق ما جاء يتضح مدى توجيه الدولة مواردها الاقتصادية المتنوعة لرعاية هذه الطبقة الفقيرة.

أما طبقة الاحتياجات الأخرى - عدا الطبقة السفلى - والمتمثلة في قوله (عليه السلام): ((فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلاًّ قد سمي الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله عهدا منه عندنا

ص: 163


1- المصدر السابق نفسه، ص 90
2- المصدر السابق نفسه، ص 90 - 91
3- المصدر السابق نفسه ، ص 100 - 101

محفوظا))(1).

وتأكيدا لأهمية مراعاة هذه الطبقة (الاحتياجات) وتنظيم شؤونها واحتياجاتها فإن الإمام يوصي واليه بأن يتحلى بمجموعة من الخصائص الأخلاقية أولاً وأن يضع قواعد عمل يتابعها بعض المختصين (الإداريين) من أهل التقوى والخشوع لمتابعة شؤون هذه الطبقة ثانيا، اذ يقول له الإمام: ((وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر (أي طغيان النعمة) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه (القليل) لإحكامك الكثير منهم، فلاتشخص همك عنهم (أي لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم) ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون (أي ممن تكره أن تنظر إليه احتقارا) وتحتقره الرجال، ففرغ لاولئك ثقتك، (أي اجعل للبحث عنهم أشخاصاً يتفرغون لمعرفة أحوالهم يكونون ممن تثق بهم) من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم... فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم،... وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه))(2).

وبناءً على ما تقدم فإن الفكرة الجوهرية التي نخلص إليها إن التنظيم الاقتصادي في فكر الإمام لاسيما تنظيمه موارد المجتمع واحتياجاته كان مرتكزاً على قضية أساسية مفادها: أن الشريعة الإسلامية بأركانها كافة هي معيار الإدارة الاقتصادية وتنظيماتها.

وإن البعد الإنساني في التنظيم عموما والتنظيم الاقتصادي خصوصا كان حاضرا لكون حياة أبناء المجتمع بفئاته كافة تشكل محور اهتمام الإسلام أولاً وليس تحقيق الربح المادي على حساب البعد الأخلاقي التنظيمي الذي اعتمده الإمام (عليه السلام) معياراً أساسياً في كافة تنظيماته الاجتماعية.

ص: 164


1- المصدر السابق نفسه، ص 89
2- المصدر السابق نفسه ، ص 101

المبحث الثاني: تقسيم العمل والسلوك التنظيمي في التنظيم الاقتصادي

يعد تقسيم العمل وتوزيع المسؤوليات والالتزامات ركيزة مهمة من ركائز التنظيم الاقتصادي، ذلك لأن أهم أجزاء وظيفة التنظيم هي كيفية تقسيم العمل الكلي الى أجزاء ليمكن او يسهل إدارتها للقائمين عليها(1).

وقد كان أميل دوركايم أول من استعمل اصطلاح تقسيم العمل في كتابه تقسيم العمل الذي نشره عام 1893 م. فقد ذكر في هذا الكتاب بأن تقسيم العمل يعتمد على الاختلافات الاجتماعية التي تظهر بين الأفراد ، ووضح أهمية هذه الظاهرة للتطور الاجتماعي، إذ اعتقد بأن المجتمعات الإنسانية تختلف فيما بينها من ناحية درجة استعمالها وإفادتها من تقسيم العمل، فقد كان التخصص في الأدوار في نظره وسيلة لتعزيز التضامن الاجتماعي داخل الجماعات ، فقد أصبح الناس بدلا من أن يعيشوا في وحدات منعزلة مكتفية ذاتيا، يترابطون فيما بينهم بالاعتماد المتبادل على بعضهم بعضاً ، ويؤدي هذا الترابط المتعدد برأيه في عمليات الإنتاج والتوزيع الى تعزيز التضامن(2).

ويرى دوركايم أن تقسيم العمل يختلف في كل من نمطي المجتمعات البسيطة

ص: 165


1- نعيم نصير، المنظور الإسلامي لمبادئ التنظيم الاداري، مصدر سابق، ص 71
2- ينظر دينكن ميشيل، معجم علم الاجتاع، مصدر سابق، ص 109. وانتوني غدنز، علم الاجتاع، ترجمة د. فايز الصباغ، مركز دراسات الوحدة العربية، بروت، ط 1، 2004، ص 441

والمركبة، فالمجتمعات البسيطة يضعف فيها نطاق التخصص وتقسيم العمل، وبذلك فإن التضامن الاجتماعي في هذه المجتمعات لا يرجع الى تقسيم العمل وإنما يرجع الى التماثل والتشابه بين افراد هذا المجتمع مما يخلق شعورا قويا يعمل على تضامن الجماعة وتماسكها، فالتضامن الاجتماعي فيها يعرف بالتضامن الآلي أي تضامن تلقائي وفي التضامن الآلي يصدر ((الكل الأخلاقي)) عن قيم يفرضها ((الضمير الجمعي)) Collection conscience ذلك الذي يحوي مجموع المعتقدات والمشاعر تلك التي تنظم السلوك الاستاتيكي في مجتمع يمكن التنبوء بسلوك أفراده مقدما(1).

وهو بصورة عامة نظام يقوم على اقتصاديات معيشة بسيطة متجانسة الأعمال والتخصص(2).

وبطبيعة الحال فإن تقسيم العمل كان بسيطا وغير معقد في المجتمع الإسلامي حقبة خلافة الإمام (عليه السلام)، ولأجل فهم واستيعاب و من ثم تحليل جوانب او مناحي تقسيم العمل في فكر الإمام (عليه السلام) يمكن الاعتماد على ما أوضحه الإمام (عليه السلام) في عهده لواليه على مصر ((مالك الاشتر)).

وقبل ذلك ينبغي توضيح صلة تقسيم العمل بمظاهر التنظيم الاجتماعي الأخرى، اذ ان هناك تشابكاً وانسجاماً واضحاً بين مظاهر التنظيم الاجتماعي الذي يعد فيه (تقسيم العمل والسلطة) أبرز محاوره ،حيث ان تقسيم العمل وتوزيع المهمات بين أعضاء التنظيم الاجتماعي والسياسي على حد سواء يفترض وجود - ادوار ومراكز - يشغلها الأفراد وتحدد وظائفهم المنوطة بهم(3).

ص: 166


1- د. قباري محمد إسماعيل، اميل دوركايم، دار المعارف، ط 1، الاسكندرية، 1976، ص 36
2- المصدر السابق نفسه، 1979، ص 180
3- د. محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979، ص 466

وهذا الأمر الأخير بدوره لا يتم إلا على أساس مجموعة معايير اجتماعية ( Social norms) التي تحكم عملهم هذا، الذي لا تتداخل مراكزه وأدواره إلا عن طريق عملية الاتصال Communiction الذي يسهم في تنسيق العلاقة فيما بينها، وهذا يسهم بالنتيجة في توليد سلطة ملزمة ((Imperative Authority)) تحافظ على ضوابط العمل واتساقه واستمراريته(1).

ووفقا لهذه الرؤية فإن تقسيم العمل كعملية اقتصادية تنظم وتنسق الجهود الاجتماعية تتطلب وجود سلطة تصدر الأوامر وتتطلب كذلك نسقاً من الاتصال والتفاعل بين الوحدات الاجتماعية عبر تفاعل الأدوار والمراكز، وهنا يمكننا القول ان تقسيم العمل عموما ينطبق على أي عمل كان سياسياً او اقتصادياً او ثقافيا على حد سواء.

ويرى أحد الباحثين أن للتنظيم خصائص قد تختلف من وجهة نظر الباحثين وهذه الخصائص يمكن إيجازها بالآتي(2).

1. تقسيم العمل، مراكز القوى، ومسؤوليات الاتصال داخل التنظيم الاجتماعي، وإن هذه التقسيمات غالبا ما تكون مخططة عن قصد لأنها تهدف إلى تمييز وتحديد أهداف التنظيم.

2. يتضمن التنظيم مراكز للقوى، ووظيفة هذه المراكز ضبط المجهودات المتفق عليها وكذلك فحص الإنجازات التنظيمية وإعادة بنائها عندما تكون هناك ضرورة لذلك لاسيما عندما يكون الهدف زيادة كفاءة التنظيم.

ص: 167


1- ينظر: د. إبراهيم ابو الغار، علم الاجتاع القانوني والضبط الاجتماعي، مصدر سابق، ص 193؛ ود. علي شتا، التنظيم الاجتماعي وظاهرة الاغراب، مصدر سابق، ص 12
2- د. صبيح عبد المنعم احمد، التنظيم الاجتماعي والبيروقراطية، مجلة البحوث الاقتصادية والادارية، المجلد الثامن، العدد 4، تشرين الأول، 1980، ص 116 - 117

3. ويتميز التنظيم بالتغيير للإفراد الذين يرفضهم وبصورة خاصة غير المقتنع بهم وتعيين آخرين بدلا منهم أكثر كفاءة منهم للقيام بالوظائف المنوطة بهم(1).

وبالتالي فإن عملية التنظيم الاقتصادي تستدعي بالضرورة وجود مجموعة من الخصائص المذكورة آنفاً التي يمكن توضيحها من خلال تحليل أبعاد التنظيم الاقتصادي في فكر الإمام (عليه السلام) حيث يمكن ان نتلمس كثيرآ من هذه المقاربات التنظيمية التي قام بها الإمام (عليه السلام).

فالمركز السياسي الذي عهد به الإمام بعهده (عليه السلام) لواليه منوط (بالوالي نفسه) الذي يمثل وفقا لصلته بتقسيم العمل أعلى سلطة سياسية بعد الإمام ، ويمارس دوره بوصفه رئيساً ومسؤولاً عن الإقليم أو الولاية المنوطة به إدارتها وتنظيمها إليه في شتى الشؤون، وبالتالي فهو أحد مراكز القوى التي تتطلبها عملية التنظيم الاقتصادي.

ووفقا لطبيعة هذا (العهد) نجد أن ادارة الدولة الإسلامية زمن الإمام كانت أقرب الى (الإدارة المركزية)(2) لأن الإمام في هذا العهد لا يرسم معالم السياسة الخاصة بتعامل الوالي مع الرعية فحسب، بل يشترط عليه كذلك تطبيق مجموعة من الخصائص والسمات الواجب على اصناف موظفي الإقليم التحلي بها لأجل اختيارهم لتلك المناصب اوالمراكز التي يشغلونها في عملية تقسيم العمل.

وقد وضع الإمام (عليه السلام) في بداية عهده لواليه مجموعة من المعايير والضوابط الأخلاقية الواجب التحلي بها وممارستها في عمله السياسي لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية للرعية ((الشعب)) ويمكن إيجازها على النحو الآتي(3).

ص: 168


1- هذا الاجراء قام به الإمام علي (عليه السلام) عند توليه الحكم بعد مقتل الخليفة عثان وقد تمت الاشارة إلى ذلك مسبقا
2- ينظر تفاصيل مسألة المركزية واللامركزية في إدارة الدولة الإسامية، محمد محمد جاهن، مصدر سابق، ص 120 - 124
3- ينظر تفاصيل العهد كاملا عند الشيخ محمد عبده في شرحه لنهج البلاغة، ج 3، ص 82 - 111

1. يأمره بتقوى الله واتباع كتابه وسننه وفرائضه لأن التقوى تمثل بالنسبة إليه -)وكما أوضحنا) - إحدى القواعد والأسس الرئيسة التي بنى عليها سياسته التنظيمية وتشمل التقوى لديه كذلك بأمره لواليه بحب الرعية والتلطف معهم وعدم إجراء الضغط الإداري التنظيمي معهم لأنهم معرضون للخطأ والزلل في عملهم ((أمره بتوقي الله وآثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه... ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك الى بلاد وقد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك...))(1).

2. يدعوه لعدم استغلال سلطته السياسية المنوطة به لأن ذلك خرق للتقوى وأصولها، إذ يقول: فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشُحّ بنفسك عما لا يحل لك... ولا تقولن إني مؤمّر أمر فأطاع(2).

3. يأمره على أن يكون على اتصال مباشر مع الرعية تحديدا لالتزاماته نحوهم وإنجازاً لوظيفته المنسوبة إليه ك((والي)) مطالب بطاعة الله والتواضع لله وللرعية إذ يقول: ((وتقرب من الغير، وإذا احدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر الىملك الله فوقك وقدرته منك...))(3).

4. يدعوه الى اعتماد الوسطية في إدارة شؤون الإقليم، فلا يميل لجانب معين على حساب آخر. بل عليه اعتماد الموازنة الإدارية لكل شيء، إذ يقول: ((وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة))(4).

ص: 169


1- المصدر السابق نفسه، ص 83
2- المصدر السابق نفسه، ص 83 - 84
3- المصدر السابق نفسه، ص 85
4- المصدر السابق، ج 3، ص 86

5. ينصحه بعدم تقريب من يسيئون للناس عبر الأكاذيب، وأن لا يدخل في مستشاريه من هو ليس بأهل للمشورة والنصيحة لأن ذلك بالتالي سيعيق عمل التنظيم فيقول:

))وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس... ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل.. ولا جبانا يضعفك عن الأمور ولا حريصا يزين لك الشره بالجور))(1).

6. يوصيه باعتماد نظام العقوبات ضمن عمله الإداري وكذلك المكافآت كل حسب استحقاقه إذ يقول: ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة والذم كلا فهم ما ألزم نفسه))(2).

7. يأمره باتباع اللوائح الإدارية الصحيحة ((السنن)) السابقة التي فيها خدمة لشؤون المجتمع ومن جهة أخرى يمنعه من وضع لوائح أو سنن إدارية خلافا لما تقدم إذ يقول: ((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثنّ سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن)).

8. يدعوه إلى الإفادة من ذوي الخبرة الإدارية والاستعانة بذوي التخصص والاعتماد على أفكارهم وخبرتهم في تطوير الإقليم أو المصر فيقول: ((وأكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء ))محادثتهم)) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك))(3).

أما في نهاية عهده (عليه السلام) لواليه، فقد أوصاه بمجموعة من الضوابط

ص: 170


1- المصدر السابق نفسه، ص 86 - 87
2- المصدر السابق نفسه، ص 88
3- المصدر السابق نفسه، ص 89

والموجهات الإدارية والتنظيمية التي من المفترض أن يلتزم بها في عمله ويلزم بها من يعملون تحت إمرته وسنوجز أبرزها على النحو الآتي:

أولاً: - ينبغي عليه منع خاصته وبطانته من أقاربه وأصحابه من استغلال سلطته والتعدي على الرعية، فضلا عن عدم منحهم الامتيازات الاقتصادية لأن ذلك إساءة لقواعد عمله الإداري - التنظيمي لكي يسيّر العملية التنظيمية بنجاح ((ثم أن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فأحسم مادة اولئك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعن لأحد من حاشيتك قطيعة ولا يطمعن منك في اعتقاد...))(1).

ثانياً: - يوصيه ببيان أخلاقيات عمله التنظيمي السليم أمام الرعية لاسيما اذا ظنوا به انه حاد او مال عن العدالة وذلك لكي يبين لهم ماهية القواعد الإدارية - التنظيمية التي يعمل وفقها ((وإن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، وأعدل عنك ظنونهم باصحارك ((ابرازك)) فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقا برعيتك))(2).

ثالثاً: - يحذره من سفك الدماء لأن ذلك يمثل تحطيما للبنى التنظيمية عموما ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمته ولا أعظم لتبعةٍ ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء))(3).

وقد قسم الإمام (عليه السلام) المجتمع الإسلامي الى طبقات(4) عدة، محددا ومقسماً

ص: 171


1- المصدر السابق نفسه، ص 104
2- المصدر السابق نفسه، ص 105
3- المصدر السابق نفسه، ص 107
4- يرى الباحث هادي العلوي إن استعمال هذا الاصطاح ((الطبقات)) من قبل الإمام في العهد ليس للتمييز بن الفئات الاجتماعية المختلفة عى أساس علاقتها بعملية الإنتاج وفقا للفلسفة الماركسية بل عى أساس الاختاف في المهنة والوضع الاجتماعي، للمزيد ينظر: فصول من تاريخ الإسلام السیاسي، مصدر سابق، ص 166

بالوقت نفسه وظيفة كل طبقة ودورها، ويتضح في ذلك تقسيما واضحا للعمل اذ يقول (عليه السلام): ((فالجنود بإذن الله حصون الرعية...... ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم))(1).

علما ان إدارة تقسيم العمل وتوزيع المهام والوظائف ملزمة ومنوطة ب((صاحب السلطة)) المخولة (الوالي) وفي ذلك يقول (عليه السلام): ((ولكلٍ على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل(2).

ووفقا لما جاء فإن ذلك يرجع بنا الى رأي دوركايم في أن الدولة تنجم عن تقسيم العمل الضروري، لذا فهي برأيه عبارة عن ((ظاهرة طبيعية تنبثق عن التقدم نفسه الذي يحرزه تقسيم العمل، لأنها تتحول بفعل ذلك التقسيم الى فريق من الموظفين (ولكنه من نوع خاص) مرتبطين بالسلطة والهرمية.

وقد حلل في الوقت نفسه حال كحال فيبر مسألة تشكيل جهاز ديواني مستقل يسمح بمأسسة Institutionnalisation الدولة اثبت فيه كيف ان على مأموريها التصرف وفقالمصلحة العامة، وكيف أن سلوكهم الشخصي يجب أن يكون محددا بوظيفتهم. وكيف ان على الموظف ان يعطي الأفضلية والأولوية بوصفه مأموراً للدولة على حساب صفته كمواطن(3).

ولعل مصداق ذلك متوافر وبشكل واضح وجلي في عهد الإمام (عليه السلام) الذي

ص: 172


1- تم توثيق المصدر سابقا وبشكل مفصل
2- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 90 - 91
3- ينظر: برتران بادي وبيار بيرنيوم، سوسيولوجيا الدولة، ترجمة: جوزيف عبد الله، مركز الاناء القومي، بروت، ط 1، د.ت، ص 13 - 15

عهد به لواليه على مصر والذي ذكرناه وتطرقنا له سابقا.

واستنادا الى ما تقدم يمكن وضع الشكل الآتي الذي يبين طبقات المجتمع من جهة وتقسيم العمل بينها من جهة أخرى.

[شكل رقم (6) يوضح هيكلية العمل الخاص بطبقات المجتمع]

وعودا على بدء فلم تكن تعليمات الإمام وضوابطه الإدارية التنظيمية محصورة بالوالي فحسب، بل شملت كذلك الطبقات الواقعة إدارتها مباشرة تحت يد الوالي والمتمثلين ب((القضاة، العمال، الكتاب))(1) ويمكن إيجاز ابرز تلك الضوابط والتعليمات على النحو الآتي: -

ص: 173


1- تم التطرق إلى وظائف وأعمال بقية الطبقات في الفصل السابق

أولاً: - أن يكون أعضاؤها ((العاملون بها)) من أفضل الناس ديناً - ونسبا وتنشئة وأن تكون الصفة الغالبة عليهم (الأمانة) و (الخبرة) و (الحياء) حتى يديروا أعمالهم بدقة ولا يظلمون أحداً أيا كان.

ثانياً: - أن يكونوا من المشهورين بالخبرة والحنكة والدقة في ادارة الشؤون وان يكونوا اصحاب فكر بحيث يجيدون ضبط مسؤولياتهم.

ثالثاً: - أن يكون ولاؤهم لعملهم فقط، وان يعملون وفق المقررات والضوابط الادارية - الشرعية - المنصوص عليها، ولا ينشغلون بمرضاة الناس وتحقيق مطالبهم الشخصية التي لا تحترم الضوابط الادارية العامة(1).

ولأجل أن يجيد القضاة أعمالهم فيما أنيط بهم فقد أوصى الإمام واليه بتوفير كافة احتياجاتهم المالية ورفع منزلتهم الاجتماعية حتى يكون ولاؤهم لعملهم فقط وفي ذلك يقول: ((وأفسح له ((القاضي)) في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصتك(2). وهذا الأمر شمل العمال كذلك حتى تسد احتياجاتهم المعيشية ويمنعهم من اختلاس أموال الدولة اذ يقول: ((ثم اسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك او ثلموا أمانتك))(3).

أما فيما يخص عمل الكتاب فنظرا لاتساع عملهم إذ أنهم موكلون بأعمال عدة منها ((العامة ك(المحاسبين - والمحررين في المعتاد من شؤون العامة كالخراج والمظالم)، والخاصة: أي المختصون ب((الحاكم أو الوالي)) يفضي إليهم بأسراره ويوليهم النظر فيما

ص: 174


1- في تفاصيل ذلك كله ينظر: الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، المصدر السابق نفسه، ص 94 - 98
2- المصدر السابق نفسه، ص 95
3- المصدر السابق نفسه، ص 95

يكتب لأوليائه وأعدائه وما يقرر في شؤون حربه وسلمه مثلا(1). ونظراً لذلك الاتساع أمر (عليه السلام) واليه بتوسيع عملية تقسيم العمل فيما بينهم وفي ذلك يقول: ((واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا عليه كثيرها أي لا يقهره عظيم تلك الأعمال ولا يخرج عن ضبطه كثيرها))(2).

ومن المظاهر الأخرى للتنظيم الاقتصادي التي نجد معطياتها في فكر صاحب العهد (عليه السلام) والتي لها صلة واضحة بعملية تقسيم العمل هما مظهرا الثوابات او المكافآت ((Rewerds)) والاتصال ((Communication))، إذ ان للثوابات والمكافآت أثراً واضحاً على السلوك التنظيمي لكونها تسهم في تحقيق مشاركة فعالة في العمل وبذلك يرتفع المستوى الانجازي للأفراد العاملين هذا من جهة ومن جهة اخرى تعزز السلطة عندما يضبط الموظفون الكبار ثوابات الأعضاء مما يعزز في النهاية التفاوت في إنجاز الأفراد ((العاملين)) مما يدعم عملية تقسيم العمل برمتها(3).

وهذه المسألة لاحظناها بوضوح لدى صاحب العهد حيث أوصى بها واليه - ((وكما أسلفنا)) - قائلا: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة(4) وقوله: ((ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم))(5). وقوله: ((افسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته))(6).

ص: 175


1- المصدر السابق نفسه، ((الهامش))، ص 89 - 90
2- المصدر السابق نفسه، ص 99
3- ينظر: د. متعب مناف، التنظيم الاجتماعي / السلطة والثوابات والتواصل / شكلية التنظيم وفاعلية الاتصال، محاضرات مطبوعة القيت عى طلبة الدكتوراه، مصدر سابق
4- الشيخ محمد عبده، المصدر السابق نفسه، ج 3، ص 88
5- المصدر السابق نفسه، ص 95
6- المصدر السابق نفسه، ج 3، ص 95

أما عملية الاتصال Communication فتتجلى أهميتها بكونها تمتلك قنوات معروفة لكل العاملين، يسهل على كل عضو منهم الوصول اليها. وللاتصال أهداف كثيرة أبرزها: - 1. تكريس القوة او الهيمنة داخل السلم الهرمي للنظام الإداري، لأنه يبين وجود سلطة عليا مسؤولة عن إصدار القرارات والأوامر.

2. انه يسمح بالمشاركة بالمعلومات لاسيما بين الذين يلتزمون باهداف ومسؤوليات مشتركة(1).

ويمكن لنا ان نجد مقاربة اجتماعية لعملية الاتصال او التواصل في نهي الإمام (عليه السلام) واليه عن (الاحتجاب)) عن الرعية، على اعتبار أنهم جوهر العملية السياسية والإدارية وغايتها، اِذ اُن الاحتجاب برأيه سيمنع الناس من المشاركة في المعلومات التي يبنى عليها القرارالسياسي والإداري - التنظيمي. ومن ثم ستكون احتياجات الناس ورغباتهم عند الوالي مجهولة، مما يعيق العمل التنظيمي عموما من جهة وبما يولد من بلبلة فكرية لدى الناس تتمثل بسوء ظنهم بالقوة السياسية الحاكمة ولا يدرون من يتبعون من أصحاب الوظائف الإدارية فتختلط عليهم المراتب والأدوار من جهة أخرى. وفيهذا المضمار يقول الإمام (عليه السلام): ((وأما بعد فلا تطولنّ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور))(2). وبذلك فإن فاعلية الاتصال هو العنصر الحاسم في عملية

ص: 176


1- ينظر: د. متعب مناف، التنظيم الاجتماعي / السلطة والثوابات والتواصل، مصدر سابق، ص 2 - 4
2- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 103 - 104

التنظيم وفاعليته(1).

وبذلك يتبين أن عملية تقسيم العمل عموما تجسد شكلاً من أشكال التنظيم الاقتصادي نظرا لما توفره من تجزئة وتصنيف للمهام والمسؤوليات والوظائف في أي مجتمع.

ص: 177


1- د. محمد حسن يس ود. مدني عبد القادر علامي، وظائف الإدارة، جدة، جامعة الملك عبد العزيز، ط 3، 1977، ص 352

ص: 178

الفَصْلُ الخَامِسْ التنظیم القضائي في فکر الإمام علي (علیه السلام) رؤیة تحلیلیة لمسألتي قواعد التنظیم القضائي وعملیة الضبط الاجتماعي

اشارة

ص: 179

ص: 180

تمهيد

عندما ظهر الإسلام لم تكن هنالك مؤسسة قضائية او نظام قضائي وتشريعات قضائية واضحة المعالم متفق عليها لدى العرب كافة، إذ كان لكل قبيلة من قبائل العرب تشريعاتها وأحكامها القضائية الخاصة بها، والتي تدير بموجبها منازعات الأفراد ومخاصماتهم وتعطي حقوقهم وتحدد واجباتهم.

وكان لكل قبيلة عرف وتقاليد، تشترك أحيانا في أمور وتختلف في أخرى تبعا لبعدها عن البداوة وقربها منها.

صوُكان للقبيلة حاكم يحكم بين من تنازع منهم حسب تقاليدهم وتجاربهم ، ولو تتبعنا كتب الأدب لرأينا فيها أن العرب كانوا تارة يتحاكمون إلى شيخ القبيلة، وتارة الى الكاهن، وتارة الى من عرف بجودة الرأي وأصالة الحكم ومن الصعب وضع حدود فاصلة لاختصاصه، بل مما نشك فيه كثيرا أنه كان هناك حدود فاصلة في الواقع(1).

واستناداً الى رأي الدكتور أحمد أمين فإننا نجده يستمر محللا جوانب معينة من قضايا التشريع التي هي مرتكز عمل القضاء عموما، مبيناً الأصول والقواعد التي استند إليها العرب قبل الإسلام في إصدار التشريعات وإمضاء القضاء قائلا: ((هؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدون، ولا قواعد معروفة، إنما يرجعون الى عرفهم وتقاليدهم التي كونتها تجاربهم أحياناً، أومعتقد انهم أحياناً، وما وصل إليهم عن طريق اليهودية أحيانا أخرى، ولم يكن لهذا القانون الجاهلي المؤسس على العرف والتقاليد جزاء، ولا ))) د. أحمد أمين، فجر الإسلام، مصدر سابق، ص 225 .182

ص: 181


1- د. أحمد أمين، فجر الإسلام، مصدر سابق، ص 225

المتخاصمون ملزمون بالتحاكم إليه والخضوع لحكمه، فإن تحاكموا إليه فبها وإلا لا، وإن صدر الحكم أطاعه إن شاء، وإن لم يطعه فلا شيء أكثر من أن يحل عليه غضب القبيلة))(1).

ولعل علة ما تقدم كله يرجع لعدم وجود دولة ((كيان سياسي)) للعرب قبل ظهور الإسلام تكون ضابطة ومشرعة او مقننة للأحكام التي بموجبها ((أي بموجب نظام سياسي كهذا)) ستحصل عملية تنظيم قضائي فعلي تتحدد بموجبها مرجعية القانون أو الحكم من جهة وتكتسب شرعيتها وإمضاء مشيئتها من جهة أخرى.

واستشعارا من قريش - زعيمة مكة ببطونها القبلية الكثيرة - لخطورة فقدان هيبة الحكم او القضاء الذي له تداعيات أمنية واقتصادية واجتماعية متنوعة وزعت فيما بينها مثلما وزعت وظائف أو مسؤوليات زعامية (قبلية) اخرى على بطونها لأجل إدارة (مكة) اقتصاديا بالدرجة الأولى، فوزعت وظيفة التحكيم ((القضاء)) على بطن من بطونها هو (سهم)(2). وذلك وفقا لما أراده الملأ والذي يمثل تجمعاً من شيوخ القبائل وزعمائها(3).

وعندما ظهر الإسلام تعرض للقانون الجاهلي، أو بعبارة أخرى لعرف العرب وتقاليدهم في الجاهلية، فأقر بعضا وأنكر بعضا وعدّل بعضا. إذ عدّل الإسلام على سبيل المثال بعض شريعة الجاهلية (التي يستندون اليها في أحكام قضائهم البسيط) مثل الزواج والطلاق والمهر والخلع والايلاء، وألغى نظام التبني المعروف، كما ألغى البيع بإلقاء الحجر والملامة والمنابذة، الى آخره من التغييرات التي أحدثها الإسلام في قواعد أو

ص: 182


1- المصدر السابق نفسه، ص 226. وينظر: د. عطية مصطفى مشرفة، القضاء في الإسام، شركة الرق الأوسط للطباعة، مصر، ط 1، 1966 م، ص 17
2- في تفاصيل ذلك، ينظر: أحمد عباس صالح، اليمن واليسار في الإسام، مصدر سابق، ص 28 - 33
3- مونتجمري وات، محمد في مكة، مصدر سابق، ص 59

مرجعيات الحكم (القضائي)(1).

والحديث عن الأحكام والقضاء في الإسلام يستدعي بالضرورة ركنين تنظيميين أساسيين: -

الرکن الأول: التشریع الإسلامي:

ویشیر إلی التشریعات والأحکام او المرجعيات الدينية (العقائدية) التي يستند إليها في إصدار الأحكام وإدارة شؤون القضاء وسائر الشؤون الاجتماعية الأخرى، والتشريع الإسلامي ممثل بالقرآن الكريم ونصوصه التشريعية المقدسة وبالسنة النبوية من أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقريراته وأقواله وسننه الحياتية التي وضعها للمجتمع الإسلامي آنذاك.

ولم تتكامل التشريعات الإسلامية الخاصة بشؤون الحياة العامة من بيع وإجارة ونحو ذلك والجنائية من قتل وسرقة، والأحوال الشخصية من زواج وطلاق إلا بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام الى المدينة وتأسيس الدولة الإسلامية فيها.

وعلى حد قول الدكتور أحمد أمين: إن أصول الدين التي جاء بها التشريع المكي مقدمة في الأهمية وفي المنطق على أصول الأحكام التي جاء بها التشريع المدني، وأيضاً فإن الأحكام هي اشبه ما تكون بقوانين الدولة، وهي إنما توضع بعد تكوّن الدولة وقرارها، ولم يكن الحال كذلك إلا في المدينة، أما في مكة فقد تقضّ زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) بها في دعوة الناس الى الدين الجديد، ولم يدخل فيه في السنوات الأولى إلا العدد القليل(2).

ص: 183


1- ينظر أحمد أمين، فجر الإسلام، مصدر سابق، ص 227
2- د. أحمد أمين، فجر الإسلام، مصدر سابق، ص 228

الركن الثاني: شخص القاضي نفسه:

حيث يشترط فيه ان يتصف بصفات عدة كيما يكون قاضيا شرعيا مسؤولاً عن تنفيذ احكام التشريع الإسلامي ومتابعتها داخل المجتمع عموما، والشروط الواجبة توافرها فيمن يتولى القضاء هي: - 1. أن يكون رجلاً، وهذا الشرط يجمع بين صفتين: أ. البلوغ ب. الذكورية.

2. أن يكون سليم العقل، ذكياً، يتوصل بذكائه الى إيضاح ما أشكل.

3. أن يكون حراً، لأن ولاية العبد لا تصح وكذلك من فيه بقية رق، ويجوز أن يقضي إذا اعتق.

4. أن يكون سليماً في السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق.

5. أن يكون مسلماً، فلا يجوز لغير المسلم أن يقضي على المسلمين وإنما يقضي بين أهله ودينه.

6. أن يكون عادلاً، صادقاً، أميناً، عفيفاً عن المحارم، مأموناً في الرضا والغضب.

7. أن يكون عالما بالأحكام الشرعية، أصولها وفروعها (الكتاب والسنة، واجتهاد السلف)(1).

علما أنه ومنذ ظهور الدعوة الإسلامية كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتولى الفصل في الخصومات، يتبين ذلك من الحلف الذي عقد بين المهاجرين وأهل المدينة من المسلمين واليهود، وغيرهم من المشركين، ونجد في الصحيفة التي كتب عليها بنود الاتفاق ((وإنه ما كان بين اهل هذه الصحيفة من حدث او شجار يخاف فساده، فإن مردّه

ص: 184


1- د. قصي الحسيني، موسوعة الحضارة العربية، مصدر سابق، ج 2، ص 454 و 455

الى الله عز وجل والى محمد رسول الله))(1).

وهكذا نلاحظ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصب نفسه في منصب القضاء.

ولم يكن للمسلمين في عهده قاض سواه في المدينة، وكان يحكم بما ينزله الله عليه من الوحي(2). فقد وقف الرسول (صلوات الله وسلامه عليه) من القضاء موقف الشارح البارع للقرآن الكريم، المطبق للفكر الإسلامي في هذا المجال المهم، والذي يتابع مواقف الرسول في مجال تربيته للقضاة يجد أن هذه المواقف شملت القضاء من جميع جوانبه ومراحله.

ولعل أول موقف يلحظه الباحث هو أن الرسول اتخذ من المسجد مكانا للقضاء، واتخاذ المسجد مكانا للقضاء يحمل معنى قدسية القضاء، فما دام القضاء يعقد في بيت الله فإن قدسيته تصبح واضحة، وإذا كان القضاء قد عقد بعد ذلك في أمكنة اخرى، واتخذت له قاعات خاصة فقد انسحبت القدسية الى كل مكان يقام فيه(3).

وكان الرسول يعد بنفسه (عليه الصلاة والسلام) قواعد وأصول العمل القضائي بشكل (تنظيمي) دقيق، فاذا جلس المتخاصمون في مجلس الحكم يساوي بينهم في مكان او محل الجلوس ثم يطلب منهم بعدئذ البنية او الدليل من شهود ونحو ذلك على مصداقية (شكواه او دفاعه)، ولقد نهى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القضاة عن قبول الهدايا لأنها تعد رشوة تحيد بالقاضي عن اقامة العدل، كما نهاهم عن أي سلوك يؤشر على الطعن في ذمة القاضي ونزاهته(4).

ولقد ادخل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على قواعد وأصول العمل القضائي

ص: 185


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، مكتبة المنار، الاردن، ط 1، 1988، ص 168
2- د. أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، ط 14، 1996، ج 1، ص 383
3- ينظر المصدر السابق نفسه، ص 384 - 386
4- المصدر السابق نفسه، ص 386

أي التشريع الإسلامي (القرآن والسنة) مسألة الاجتهاد أي عمل القاضي برأيه وقدرته او ملكته العقلية في حالة عدم وجود نص ديني في القرآن والسنة يتناول القضية القضائية المطروحة أمامه، ففي حديث معاذ بن جبل ان النبي (عليه السلام) لما أرسله الى اليمنقال له: كيف تصنع اذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنةّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال فإن لم يكن في سنةّ رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا ألو اقصر او أبطئ. قال معاذ: ((فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق أصحاب رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم))(1).

وبحكم قرب الإمام علي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان أكثر الصحابة استيعابا للرؤية القرآنية ولرؤية الرسول (عليه الصلاة والسلام) لمسألة ((القضاء))، وبالتالي كان الأبرز فيهم في هذا المجال لكونه أحاط بالرؤى السابقة، فضلا عن امتلاكه ملكة عقلية وذهنية عالية أهلته لأن يجتهد بأحكام عقلية - متوازنة كلما كانت القضية جديدة ولا سابق لها(2).

وأشار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الصحابة (رضوان الله عليهم) الى براعة ودقة الإمام (عليه السلام) في تولي القضاء واصدار احكام متناهية في الدقة وفي احتواء مسائل معقدة وجديدة لا سابق لها في المجال القضائي.

فقد اتفق كثير من الرواة والباحثين والمؤرخين والفقهاء على إشارة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمكن ودراية الإمام (عليه السلام) في القضاء، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبألفاظ مختلفة إشارته إلى ذلك: (أقضى أمتي علي، أقضاكم علي،

ص: 186


1- د. قصي الحسيني، موسوعة الحضارة العربية، مصدر سابق، ص 452
2- لمزيد من التفاصيل ينظر: محمد باقر جعفر، قضاء أمر المؤمنن (عليه السلام)، مطبعة الآداب، النجف الاشرف، 1970

أقضاهم علي)(1).

فضلا عن ذلك فإن الخلفاء الراشدين الذين سبقوه كانوا كثيرا ما يعتمدون عليه ويستشيرونه في المسائل القضائية المعقدة التي لا يجدون لها حلاً، فعلى سبيل المثال (لاللحصر) ما يروى انه حدث في خلافة عمر أن بعث إليه خالد بن الوليد قائد الجيش يشتكي إليه من أن الناس منهمكون في شرب الخمر، وإنهم قد استهانوا بالعقوبة (أي مجرد الضرب)، فاستشار عمر الصحابة فقال علي بن ابي طالب: ((إن الرجل اذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة)) فقال عمر: يجلد ثمانون جلدة كالمفتري)(2).

وبناءً على ما تقدم فإن الحديث في هذا الفصل عن التنظيم القضائي في فكر الإمام علي (عليه السلام) إنما سيكون حديثا عن التجربة الشخصية للإمام (عليه السلام) نفسه في هذا المجال في ممارسة القضاء، فضلا عن الحديث عن القواعد والأصول التنظيمية التي وضعها الإمام (عليه السلام) لمسألة التنظيم القضائي برمته ولاسيما بعد توليه الحكم ((الخلافة))، حيث نجد انه كان يمارس القضاء بنفسه حتى بعد توليه ارفع المناصب السياسية آنذاك. وذلك لحرصه الشديد على إقامة حقوق الناس وإقامة العدل في المجتمع وبالوسائل الممكنة.

وستحاول الباحثة تناول ذلك على وفق مبحثين رئيسيين هما: - 1. قواعد التنظيم القضائي لدى الإمام علي (عليه السلام).

2. الممارسة القضائية - التنظيمية - وعملية الضبط الاجتماعي في فكر الإمام (عليه السلام).

ص: 187


1- في تفاصيل ذلك، ينظر: ابو اسحاق الكوفي، قضايا أمیر المؤمنین (عليه السلام)، مؤسسة أمیر المؤمنین، النجف الاشرف، د. ت، ص 3 (الهامش)
2- د. محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بروت، ط 1، 1996، ص 50

ص: 188

المبحث الأول: قواعد التنظيم القضائي لدى الإمام (عليه السلام):

امتلك الإمام (عليه السلام) مؤهلات فكرية جمة استقاها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الإسلام والبيئة الاجتماعية التي نشأ وترعرع بها، ويعد نهج البلاغة الذي يحوي مجموع خطبه ورسائله ووصاياه وحكمه دليلاً لكل باحث في الاتجاهات الفكرية المتنوعة لدى الإمام (عليه السلام).

فقد أشار الباحث كامل حسن البصير إلى ان أول الاتجاهات الفكرية التي يمكن الوقوف على مضامينها وأبعادها هو اتجاهه في القضاء، وهو يرى أن هذا الاتجاه أمر طبيعي تحتمه صلته الوثيقة بمصدري القضاء في الإسلام وهما ((القرآن والسنة)) وتدفعه نحوه منزلته في الإسلام، وهو يجد في كتب السير وطبقات الصحابة إشارة دائمة له (عليه السلام) بوصفه ذا عقل قضائي فقد ولاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (قضاء اليمن)(1).

وكان (عليه السلام) المستشار الرئيس للقضايا والمسائل كافة التي تطرأ زمن حكم

ص: 189


1- كامل حسن البصر، رسائل الإمام عي (عليه السلام): أطروحة ماجستير في الأدب العربي، جامعة بغداد، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، )(غیر منشورة)، 1965، ص 79

الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه(1). ولما أصبح الإمام (خليفة) أصبح يمارس القضاء بنفسه فضلا عن اختيار بعض الأفراد الذين يرى فيهم المؤهلات الأساسية لتولي القضاء.

وهذا يكشف عن مدى اهتمام الإمام بعملية التنظيم القضائي الذي يعبر بشكل من الأشكال عن مضمون تنظيم الشؤون الاجتماعية للرعية في المجتمع إذ إن الدور البارز والمهم لهذا التنظيم هو إحداث الاستقرار والأمن الاجتماعي.

وأوضح الإمام في عهده لواليه على مصر أهم الخصائص والسمات الواجب توافرها والتحلي بها من القاضي فضلا عن تحديده علاقة القضاة والقضاء بالدولة الإسلامية (الوالي او سائر الأركان الأخرى)، وفي ضوء ذلك يمكن الحديث عن هذه الموضوعاتوغيرها عبر المحاور الآتية:

المحور الأول: شروط تولي القضاء

تعد عملية اختيار القضاة أحد أهم العمليات التنظيمية القضائية في أي مجتمع، وذلك لأن عملية الاختيار تلك تستند إلى مجموعة من الخصائص والصفات التنظيمية الواجب على من يتولى القضاء الالتزام بها، وأوصى الإمام (عليه السلام) واليه على مصر بعهده إليه مجموعة من الخصائص أو الصفات الواجب اتباعها لاختيار (القاضي) ويمكن توضيحها على النحو الآتي: - أولاً: - يدعو الإمام (عليه السلام) واليه أن لا يولي للحكم ((القضائي)) من لا يجيد التعامل مع المواقف القضائية الحرجة والدقيقة، فيوصيه بتولية: ((من لا تضيق به

ص: 190


1- ينظر: د. عطية مصطفى مشرفة، القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص 105، 106

الامور))(1).

ثانياً: - يشترط أن من يتولى القضاء شخص لا تمحكه الخصوم ((تجعله ماحكا، محك الرجل، أي لج))(2). أي أن لا يتحول بحكم ظروف كهذه الى عسر الخلق لشدة المطاولة والمناقشة أثناء جلسة المحاكمة او اطلاق الحكم بين القاضي من جهة والمتخاصمين من جهة أخرى فلهذا يوصي الإمام بتولية من (لا تمحكه الخصوم)(3).

ثالثاً: - يوصي الإمام (عليه السلام) واليه أن لا يكون المتصدي للقضاء مصرا على الخطأ في إصدار حكم ما، بل عليه التراجع في حال استشعار وجود خللٍ معين في حكم اصدره أوسيصدره، فضلا عن طريقة استجواب المتخاصمين التي قد يقع فيها بعض الخطأ او الزلل، فلهذا يدعوه أن ((لا يتمادى في الذلة))(4).

رابعاً: - ويركز الإمام (عليه السلام) على أهمية عدم الإصرار على الخطأ أيا كانت صيغته أو طبيعته الذي يصدر من قبل القاضي، فلهذا يوصي الإمام (عليه السلام) أن ((لايحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه))(5). ولا يحصر من الفيء هو المعنى الأول بعينه، والفيء: الرجوع إلى الحق، إلا أن ههنا زيادة، وهو أنه لا يحصر، أي لا يعيا في المنطق، لأن من الناس من اذا زل حصر عن أن يرجع وأصابه كالفهاهة والعي خجلا(6).

ويرى الباحث توفيق الفكيكي أن هذه الخصائص والسمات الواجب على القاضي الاتصاف بها هي مقاربة بشكل كبير لأصول المحاكمات الحقوقية المعاصرة، والتي

ص: 191


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، ج 3، مصدر سابق، ص 94
2- ابن أبي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، المجلد التاسع، ص 42
3- الشيخ محمد عبده، المصدر السابق نفسه، ص 94
4- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 94
5- المصدر السابق نفسه، ص 94
6- ابن ابي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 43

تحتم على القاضي مراعاتها والالتزام بها في إدارة المحاكمة(1).

خامساً: - يطالب الإمام (عليه السلام) أن لا يكون القاضي طماعا ويسعى للتكسب المادي وجلب المغانم والمنافع فلهذا يقول (عليه السلام) ((ولا تشرف نفسه على طمع))(2). والإشراف على الشيء أي الاطلاع عليه من فوق، فالطمع من سافلات الأمور من نظر إليه وهو في أعلى منزلة النزاهة لحقته وصمة النقيصة فما ظنك بمن هبط إليه وتناوله(3). وهذا الأمر يقترب من مسألة الرشوة او تقديم الهدايا او إقطاع ارضٍ معينة، الخ من الأمور المادية التي يبتغي من ورائها أصحابها استمالة القاضي لهم لكي يحكم لما فيه صالحهم.

سادساً: - يدعو الإمام (عليه السلام) القاضي الى التعمق في القضية المطروحة أمامه والتأمل فيها بعناية ودقة شديدة قبل إصدار حكم معين، وبعبارة أخرى هي دعوة الى عدم التسرع بإطلاق الحكم حالما يخطر بباله الحكم القضائي للشكل المطروح، ولهذا يقول (عليه السلام) ((ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه)(4).

سابعاً: - ويدعو الإمام (عليه السلام) القاضي إلى أن يتبصر في القضية المطروحة التي تضم تفاصيل كثيرة ومتنوعة بعناية شديدة ولا سيما اذا تعذر الوقوف على وجه الحق فيها من الباطل او الخطأ بسرعة لأنها شبهة بين الوجهين ولكنها أقرب الى الحق أو الجانب الصحيح، والشبهات مالا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي الوقوف على القضاء حتى يرد الحادثة إلى أصل صحيح(5). فلهذا يدعو (عليه السلام) القاضي

ص: 192


1- ينظر توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، مصدر سابق، ص 9 - 11
2- محمد عبده، مصدر سابق نفسه، ص 94
3- ابن ابي حديد المعتزلي، مصدر سابق ، ص 42
4- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 94
5- المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها

أن يكون ((وأوقفهم في الشبهات))(1) أي لا يستعجل في إصدار الحكم حتى يتبصر شؤون القضية بدقة وتركيز.

ولقد وصف الإمام (عليه السلام) معنى الشبهة في إحدى خطبه قائلا: ((وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى))(2).

ثامناً: - إن الإمام (عليه السلام) نظر إلى أي قضية بوصفها مسألة تقديم حجج وبراهين أو أدلة من كلا الطرفين ((المتهم والبريء)) أطراف القضية المطروحة امام القاضي، فلهذا يلزم الإمام (عليه السلام) القاضي بأخذ الحجج المطروحة أمامه ومن الطرفين حتى يبني عليها حكمه العادل، فلهذا يؤكد الإمام ان يكون القاضي آخذاً بالحجج ((وأخذهم بالحجج))(3).

تاسعاً: - لقد وضع الإمام (عليه السلام) مجموعة من الضوابط والشروط الواجب علىمن يتصدى لمسؤولية القضاء التحلي بها، ولعل الشروط الآتية تمثل مجموعة من القواعد المترابطة حالها حال بقية الشروط ولكن ما نحن بصدده من الممكن القول عنه أنه متداخل بشكل كبير جدا حيث يدعو الإمام (عليه السلام) الى: - أ. أن يكون القاضي بعيدا عن التبرم ((الضجر)) وهذه الخصلة من محاسن ما شرطه (عليه السلام)، فإن القلق والضجر والتبرم قبيح، وأقبح ما يكون من القاضي.

إذ أن من الضروري أن يكون صدر القاضي رحبا بحيث يكون صاحب صبر وأناة ويتحمل المتخاصمين في حضرته، وهذا ما أِشار إليه الإمام (عليه السلام) ((وأقلهم

ص: 193


1- المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها
2- ابن ابي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، المصدر السابق نفسه، ص 461 - 462
3- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، مصدر سابق، ص 43

تبرما بمراقبة الخصم))(1).

ب. ويوصي الإمام كذلك القاضي أن تكون إحدى صفاته ((وأصبرهم على تكشف الأمور))(2).

ج. وتأسيسا على الخصلتين المذكورتين آنفاً لابد من أن يكون القاضي صارما وقاطعا في التعامل مع الموقف مباشرة وحالما يترآى له الجانب الصحيح فيصدر حكمه المتلائم مع حيثيات القضية طلبا للعدل الاجتماعي، لذا يدعو الإمام (عليه السلام) إلى أن يتصف القضاة بالصرامة عند اتضاح الحكم(3).

وهذه الخصائص أو السمات الواجب توافرها في القاضي متصلة ومتداخلة فيما بينها لكونها تحدد الصفات النفسية لشخصية القاضي، فضلا عن أنها تمثل بمجموعها تصرفات سلوكية متتابعة يجب على القاضي اتباعها في أية قضية تطرح أمامه. وهذا بدوره يسهل ويمهد عملية التنظيم القضائي ويدعمه في المجتمع. عاشراً: - وآخر صفة أو خصيصة يدعو إليها الإمام (عليه السلام) فيمن يجب ان يتولى القضاء هي أن لا يؤثر فيه المديح والثناء والإطراء ولا يؤثِّر فيه الإغراء أي التحريض على مسألة ما او ركنٍ ما يحيد بالقاضي عن جادة الصواب والعدل، فلهذا يدعو الإمام (عليه السلام) إلى أن يكون القاضي ((ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء)).

ولقد رفض الإمام (عليه السلام) أن يختلف القضاة في الحكم، قائلا: ((ترد على

ص: 194


1- الشيخ محمد عبده، المصدر السابق نفسه، ص 94
2- المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها
3- المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها

احدهم القضية في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد))(1).

وبذلك فالإمام يؤكد جانباً اجتماعياً خطيراً يؤثر سلبا في عملية التنظيم القضائي ومن ثم في عملية العدل الاجتماعي ألا وهو الاختلاف وعدم الوحدة في تتبع أمر القضاء ونصه وعدم الرجوع الى منهله الأساس ((القرآن والسنة)) لأنهما معين ومصدر الحكم القضائي أيا كان، وحتى لو كان هنالك اجتهاد في قضية لا سابق لها فهو اجتهاد في ضوء التشريع الإلهي ليس إلا.

ثم يعقب الإمام (عليه السلام) قائلا ومستغربا من اختلافهم: ((أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه!، أم نهاهم عنه فعصوه! أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه! أم كانوا شركاء له فلهم ان يقولوا وعليه أن يرضى! أم أنزل الله سبحانه ديناً تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله) عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) الانعام / آية 38. وفيه تبيان لكل شيء. وذكر ان الكتابيصدق بعضه بعضا وانه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)) النساء / آية 82(2).

وتمثل مجموع هذه الوصايا والأوامر التي وضعها الإمام (عليه السلام) بشأن الخصائص والصفات الواجب توافرها بمن يتولى القضاء ما يصطلح عليها سوسيولوجيا ب المعايير الاجتماعية - Social norms - أو الضوابط الاجتماعية التنظيمية التي تنظم المجتمع عبر المؤسسة القضائية وذلك عبر ممارسة صاحب المركز الاجتماعي - القاضي -

ص: 195


1- ابن ابي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 212
2- ابن أبي حديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 213

لدوره في عملية التنظيم الاجتماعي عموماً(1).

وبعبارة أخرى فإن مجموع هذه الخصائص والسمات التي أوجب الإمام تواجدها فيمن يمارس القضاء بكونها تمثل أسس وقواعد العمل التنظيمي، حيث إن من يحمل هذه الخصائص بمجموعها يستحق ان يشغل هذا المنصب الإداري-التنظيمي الخطير الذي يجمع بين قواعد وأسس التنظيم الديني ((التشريع الإسلامي)) وقواعد وأسس التنظيم الاجتماعي من ناحية الحفاظ على المجتمع من أي خرق اجتماعي يصدر من أفراد المجتمع، بحيث يغدون متجاوزين على القانون (التشريع الإسلامي المتمثل بالقرآن والسنة النبوية).

ووفقا لذلك تكون هذه الشروط التي وضعها الإمام (عليه السلام) تصب في مجرى عملية تحديد القواعد السلوكية، وهذه القواعد السلوكية من وجهة النظر السوسيولوجية - Rules of behavior - تتعلق جميعها بحماية التنظيم، وذلك انها تحدد الطرق والوسائل اللازمة لتحقيق وبلوغ الأهداف(2).

المحور الثاني: الأسس الإدارية للتنظيم القضائي في فكر الإمام (عليه السلام)

وضع الإمام (عليه السلام) مجموعة من الأسس الإدارية للتنظيم القضائي التي يقصد بها هنا آليات التعامل والصلة بين المراكز الإدارية العليا (الوالي) على سبيل المثال كمركز أدنى (والخليفة) كأعلى مركز إداري بينه وبين (القاضي) المخول من الدولة (الدولة

ص: 196


1- د. ابراهيم ابو الغار، علم الاجتماع القانوني والضبط الاجتماعي، مصدر سابق، ص 193
2- د. قباري محمد إساعيل، علم الاجتاع الحري ومشكلات التهجر والتغر والتنمية، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1985، ص 256

الإسلامية) هنا بمزاولة عمله والترخيص له ليكون قاضيا ممثلا للقانون الاجتماعي - التشريعات الدينية - التي هي أصل ومعين قوانين كهذه بظل ((الدولة الإسلامية)) زمن خلافة الإمام (عليه السلام) والخلفاء الذين سبقوه، فضلا عن كونه ممثلا للسلطة السياسية الحاكمة بوصفه إحدى أدواتها السلطوية التي تعزز من خلاله هيبتها السياسية بحفظ أمن المجتمع وسلامته من الخارجين عليه.

وقد وضع الإمام (عليه السلام) في عهده لواليه على مصر ثلاثة أسس أو أركان تحكم العلاقة بين الحاكم السياسي (الوالي هنا) والقضاة، ويمكن للباحثة توضيح الأركان الثلاثة على النحو الآتي: -

الركن الأول: الرقابة:

- أكد الإمام (عليه السلام) أهمية متابعة ومراقبة عمل القضاة لأجل كشف مكامن الخلل أو القصور او الفتور في تطبيق أحكام الشريعة لاسيما تلك الخاصة بشؤون المعاملات اليومية لحياة الناس وما يرتبط بها من سائر الشؤون الأخرى، وبهذا المجال قال الإمام (عليه السلام): (ثم أكثر تعاهد قضائه)(1).

وتعاهد قضاء (القاضي) أي تتبعه بالاستكشاف والتعرف(2)، وهذا التعاهد يشير بشكل عام لمسألة (الرقابة) التي تمثل أحد أعمدة الإدارة او أية عملية تنظيمية معينة.

فالرقابة هي عملية قياس لأداء المرؤوسين وتصحيحه بهدف التأكد من ان أهدافالتنظيم الإداري أيا كان قد نفذت، والالتزام بقواعده ومراسيمه القانونية الموضوعة لصالح هذه الأهداف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الرقابة تعكس في الوقت

ص: 197


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 94
2- المصدر السابق نفسه، الهامش

نفسه شكلا تنظيميا يسعى للوصول الى كفاءته(1).

وقد رأى الإمام (عليه السلام) أن مصلحة القضاء ورعاية العدل تقتضي من ولي الأمر أن يكثر مراقبة اعمال وتصرفات القضاة او الحكام من حين إلى آخر وإن كانوا متصفين بالأوصاف السابقة(2)، وإنهم من أفضل الرعية علما وأخلاقا لأن محاسبة النفس وضبطها والشعور بالمسؤولية قد يكون ضئيل الأثر في نفوس المسؤولين فأراد الإمام (عليه السلام) أن يكون هذا الحق قويا وعميقا في نفوس الموظفين عامة والقضاة خاصة(3).

الركن الثاني: المكافآت أو الثوابات: - Rewards

في هذا الركن نجد أنه (عليه السلام) قد أوصى عامله بأهم ناحية من نواحي إصلاح القضاء وترقيته، وذلك بترقية حال الحاكم ((القاضي)) وتأمين متطلبات العيش له وذلك بأن يفرض له العطاء الواسع حتى يكون ما يأخذه كافيا لمعيشته وحفظ منزلته، وليملأ (الراتب) الكافي غلته ويتعفف به عن الرشوات(4).

وفي ضمن سياقات هذا الأمر طلب (عليه السلام) الى عامله قائلا: وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الى الناس(5).

ولأجل أن يسير النظام القضائي ويتم تنظيمه على أحسن وجه لابد أن يكون المستوى

ص: 198


1- هارولد كونتز وسريل أو دويل، مبادئ الإدارة، تحليل للوظائف والمهات الادارية، ترجمة محمود فتحي عمر، مكتبة لبنان، ط 1، 1982، ج 2، ص 307 - 309
2- ينظر النقاط التي ذكرت في المحور الأول من هذا المبحث
3- توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، مصدر سابق، ص 18
4- المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها
5- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 95

المعيشي للقاضي لائقا به وكافلاً وساداً لاحتياجاته كافة وأسرته، وذلك لأجل تحقيق توازن نفسي من خلال إشباع هذه الاحتياجات، فضلا عن درء المخاطر السلوكية او الانزلاقات الأخلاقية التي يمكن أن يقع فيها مما يدفعه الى قبض الرشاوى، مما ينتح عن ذلك حدوث فساد إداري خطير لأهم مفصل من مفاصل التنظيم الاجتماعي المتنوع.

وتتجلى أهمية المكافآت أو الثوابات في أنها تمارس أثرا واضحا في السلوك التنظيمي من حيث إسهامها في تحقيق مشاركة فعالة في العمل وبذلك يرتفع المستوى الانجازي للأفراد (أصحاب المناصب المختلفة) هذا من جهة، ويعزر السلطة عندما يضبط الموظفون الكبار مكافآت الأعضاء من جهة أخرى(1).

الركن الثالث: استقلال القضاء:

- لقد كانت السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، موحدة وغير منفصلة في زمن علي ، فإذا به يخطو خطوة مبدئية الى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، كي يكسب القضاة حصانة ويؤمنهم من عقاب السلطة(2). وفي هذا الصدد يكتب الإمام في عهده الى مالك الاشتر قائلا: وأعطه - أي القاضي - من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، وأنظر في ذاك نظرا بليغا...(3).

وتأسيسا على ذلك يذهب الباحث جورج جرداق للقول: وبهذا يكون علي قد قضى على السبب الأول من أسباب انحراف القضاة، اذ خطا هذه الخطوة المبدئية نحو فصل القضاء عن السلطة التنفيذية كي لا يتأثر القضاة بأصحابها ، وفصل القضاء عن السلطة

ص: 199


1- ينظر: د. متعب مناف، التنظيم الاجتماعي / السلطة والثوابات والتواصل، شكلية التنظيم وفاعلية الاتصال، مصدر سابق
2- جورج جرداق، الامام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ج 2، ص 261
3- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 95

التنفيذية هو من قوانين المدنيات الحديثة، لأن فيه سببا من أسباب التسوية بين البشر أمام قضاء يتولاه عالم ذو خلق كريم متمتع بالحصانة(1).

وعن الفكرة نفسها ولكن بعبارة أخرى يقول الباحث الفكيكي: ((أما الغرض المهم من استقلال المحاكم والذي توخاه الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لعامله هو التوثق من عدالة الأحكام وصيانة الحقوق لأن المحاكم لا تكون مرجعا موثوقا به عند الناس إلا إذا كانت مصونة من التأثير والنفوذ))(2).

وتعد مسألة استقلال القضاء ليس عملا تنظيميا للقضاء فحسب، بل هي عملية تنظيم سياسي في الوقت نفسه، لأنها تعد عملية مهمة لإعادة بناء أسس أو قواعد جديدة للصلات او التفاعلات التنظيمية بين السلطة (بممثليها كافة) والقانون الاجتماعي (وبصيغه وأشكاله وممثليه كافة)، هذه القواعد والأسس الجديدة مرتكزة على فكرة محورية رئيسية هي: عزل هيبة السلطة السياسية عن هيبة القانون-والقضاء لكي تبقى همزة الوصل بينهما تحقيق العدالة الاجتماعية لأبناء المجتمع كافة وبالتساوي لا فرق بين رئيس ومرؤوس.

ص: 200


1- جورج جرداق، مصدر سابق ، ص 261
2- توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، مصدر سابق، ص 22 - 23

المبحث الثاني: الممارسة القضائية (التنظيمية) وعملية الضبط الاجتماعي لدى الإمام (عليه السلام)

إن أية ممارسة قضائية هي عبارة عن ممارسة قانونية في الوقت نفسه، وأيا كان هذاالقانون - إلهياً ك((الشريعة الإسلامية)) أو وضعيا كسائر الأنظمة القانونية المعمول بها الآن في سائر المجتمعات، هذه الممارسة القضائية تستهدف أمرين متلازمين - ضروريين هما: الكشف عن الخرق أو التجاوز الواقع في المجتمع من قبل فرد أو أفراد معينين قاموا بخرق قانون أو قوانين معينة من جهة، ومن ثم سيتتبع الأمر الأول هذا القيام أو المباشرة بالأمر الثاني وهو: تفعيل القوانين الاجتماعية بحقهم لأجل الردع والتأديب وإرجاع الحقوق لمستحقيها أو للمجتمع عموماً تحت صيغة (الحق العام) من جهة أخرى.

وتتضح لنا الصلة بين الممارسة القضائية وعملية الضبط الاجتماعي Social Control من خلال القانون، حيث ينظر للقانون بوصفه أقوى مظاهر الضبط الاجتماعي وغايته صيانة التنظيم الاجتماعي والحرص على استقرار النظام وتقرير علاقات الأفراد حسب المصطلحات والنظم الموضوعة.

وهو يلزم بالقوة والحكم فيه للنصوص المشرعة ويمتاز جزاؤه بالتحديد الدقيق بما

ص: 201

تنطوي عليه النصوص من التزامات(1).

وقبل الوقوف على موضوع الجزاءات أو العقوبات القانونية التي تمثل أحدى أدوات القانون الرئيسة لابد من التعرف أو الوقوف على عملية الضبط الاجتماعي لأن القوانين أيا كانت وكيفما تنوعت تسعى عموماً نحو إحداث عملية الضبط الاجتماعي التي يقصد بها الطريقة التي يتطابق بها النظام الاجتماعي كله ويحفظ هيكله-ثم كيفية وقوعه بصفة عامة كعامل للموازنة في حالات التغير(2).

وينحصرالضبط الاجتماعي عند روس Ross(3) فيما يمارسه المجتمع للحفاظ على نظامه، وذلك عن طريق مختلف النظم والعلاقات الاجتماعية ؛ تلك النظم التي يثير الخروج عليها سخط الجماعة، ذلك السخط الذي يتدرج من مجرد السخرية والاحتقاروالاشمئزاز الى القطيعة والتجنب والنبذ، ثم إلى إنزال الضرر بالمخالف وإيذائه، وربما ينتهي الأمر الى جرحه أو قتله(4).

ص: 202


1- د. مصطفى الخشاب، دراسة المجتمع، مكتبة الانجلو المصرية، ط 2، 1970، ص 233
2- ر.م ماكيفر وشارلز بيدج، المجتمع، ترجمة: عي احمد عيسى، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، 1974، ج 1، ص 273
3- وقد كان روس (Ross) أول من استخدم مصطلح الضبط الاجتماعي «Social Control» ليميزه بوصفه ميدانا متخصصا بالدراسات الاجتماعية؛ وبهذا أسهم روس في سحب مصطلح الضبط الاجتماعي الى ميدان علم الاجتاع وبشكل مؤطر بعد أن كانت دراسته مشتتة ومبعثرة في مواضيع اجتماعية شتى، وأصدر كتابه المعنون: «الضبط الاجتماعي» عام 1901. ينظر: R. Lapiere , A Theory of Social Control , New York , Mc Graw Hill Book co , 1954 , pp. 3-10
4- د. غريب سيد أحمد وآخرون، المدخل الى علم الاجتاع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، ط 1، 1996، ص 236

إن الضبط الاجتماعي عند روس لديه نظام متكامل، ومع ذلك نستطيع أن نميز بين مجموعتين من وسائل الضبط: - - تتمثل المجموعة الأولى في: الرأي العام والإخاء الاجتماعي وبالمثُل الشخصية وديانة المجتمع والفن ثم التقييم الاجتماعي، وكل هذه إنما تستمد قوتها وهيأتها من تكوينها وفقا للشعور العام، وهذه المكونات - امتثالاًلنظم المجتمع - تضبط سلوك الإنسان في أشياء كثيرة وموضوعات شتى أملاً في الرفاهية والتعاون من اجل المجتمع.

- وتتمثل المجموعة الثانية في: القانون والمعتقدات والقيم، وان كانت المجموعة الأولى أكثر أخلاقية وروحية، فإن الثانية تمثل السياسة العامة للمجتمع، وبذلك يرى روس ان النظام order في المجتمع ليس سلوكاً غريزيا او تلقائيا ولكنه ناجم عن الضبط الاجتماعي ومتوقف عليه(1).

والممارسة القضائية التي قام الإمام (عليه السلام) بعملية إنشاء القواعد الشرعية والتطبيقية لها استنادا الى القرآن الكريم والسنة المطهرة إنما كانت تسعى بطبيعة الحال نحو تحقيق استقرار اجتماعي وضبط لسلوك الأفراد داخل المجتمع الإسلامي آنذاك، وهي بالتالي كانت غايتها تحقيق وإحداث ضبط اجتماعي شامل، مستندا في ذلك إلى (القانون الآلهي / التشريعات الإسلامية).

بعبارة أخرى كان الإمام (عليه السلام) حاله حال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان يعتمد على الدين الإسلامي / ممثلاً بتلك التشريعات الإسلامية لإحداث هذا الاستقرار الاجتماعي المرتكز على عملية الضبط الاجتماعي.

وما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن الإمام (عليه السلام) في سعيه لإحداث استقرار اجتماعي من خلال تفعيل عملية الضبط الاجتماعي المبنية لديه أصلاً على الدين الإسلامي

ص: 203


1- المصدر السابق نفسه، ص 237؛ 12 - R. Lopiere , Op. Cit , pp .10

وتشريعات لم يكن يسعى بالدرجة الأولى للحفاظ على هيبة الدولة التي يديرها بقدر ما كان يسعى الى الحفاظ على هيبة وخدمة وقدسية الشريعة الإسلامية التي يخرج عليها الخارجون بشتى التصرفات والافعال المنافية لحكم الشريعة، وهو (عليه السلام) يفعله هذا إنما يقدم الدين وضوابطه على السلطة والممارسة السلطوية.

وهذا لا يعني وجود تناقض في مسعى الإمام (عليه السلام) وخططه او طروحاته التنظيمية بصيغها كافة، بقدر ما هو (عليه السلام) يحاول أن يؤسس لتاريخ العرب السياسي مسألة تقديم أهمية وحرمة وقدسية (الشريعة الإسلامية) على متطلبات العمل السياسي السلطوي وما يرتبط بها من هيبة الدولة والحكم، بعبارة أخرى إنه حاول منع أن يكون الدين غطاءً أو مظلة للسلطة ، وهذا الأمر نوه عنه الإمام (عليه السلام) في قوله لواليه حين كان يوصيه بطريقة التعامل مع القضاة قائلا له: ((فإن هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا))(1).

وبهذه العبارة أنهى (عليه السلام) مجموعة الصفات الواجب على القاضي الاتصاف بها، فضلا عن مجموعة الاركان التي تخص العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة القضائية وكما بينها مسبقاً.

أما الفكرة الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها هنا هي أن الإمام (عليه السلام) لم يكن يحاول اقامة القضاء العادل (بتطبيق الشريعة وإعادة الحقوق المسلوبة) فحسب، بل حاول ربط هذا القضاء العادل بالعدل الاجتماعي لأجل التخلص او إضعاف مقومات او دوافع السلوك المنحرف أيا كان، تلك المقومات والدوافع التي ترتكز على مسألة فقدان العدالة السياسية وفقدان التوزيع العادل للثروة، فضلا عن فقدان الروح الأخلاقية والتربوية في نفوس بعض أفراد المجتمع، ولهذا حاول (عليه السلام) القيام

ص: 204


1- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، ج 3، مصدر سابق، ص 95

بعملية إصلاح اجتماعي عبر آليات تنظيمية عدة توخى منها القضاء على أصول الدافع الانحرافي أياً كان، ولهذه الفكرة أشار الباحث عزيز السيد جاسم قائلا ((لذلك يربط على ربط جدلي بين القضاء العادل والعدل الاجتماعي الذي يتصدى للمشكلات على نحو جذري، فالعدل الاجتماعي يعالج مسألة الحقوق والحريات، ومقومات الكرامة الإنسانية من أساسها.

أما القضاء العادل، فهو يعالج الآثار السلبية الناجمة عن الخلل العام في الميزان الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي. وبهذه الرؤية يؤدي القضاء دورا مهما لكنه لا يرقى الى مستوى عملية التغير الجذري العادل))(1).

وتؤكد أفكار علي بن ابي طالب القيمة الأساسية لعلاقة عدل القضاء، بقضاء العدل، أي القضاء المنطلق من العدل الاجتماعي، ومن الثورة الاجتماعية، وبدون هذه العلاقة يكون القضاء العادل مثله مثل آلة قطع الأعشاب الفاسدة، تقطع ما تستطيع قطعه، منالظاهر، لكن الجذور تدفع من تحت الى الخارج المزيد من الأعشاب الفاسدة(2).

وعودا على بدء، وعلى الرغم من أن الإمام (عليه السلام) كان يسعى للحفاظ على هيبة وقدسية وحرمة الدين الإسلامي وتشريعاته إزاء السلطة (لأجل عدم استغلاله) من الولاة أو الحكام الذين يتلون عهده (عليه السلام) وإزاء المجتمع (لأجل ان لا يخرج عليه الأفراد او الجماعات)، إلا أن الدين الإسلامي وتشريعاته بالنسبة إليه كان بمثابة حجر الزاوية في كل شيء لاسيما في عملية الضبط الاجتماعي والممارسات القضائية - التنظيمية؛ ويمكن النظر الى هذه المسألة من خلال الأدبيات السوسيولوجية التي أكدت أن الحقيقة الأساسية للدين ليست بوصفه ضرورة اجتماعية للضبط والتنظيم فحسب، بل إن القوة الالزامية التي يمتلكها الدين يمكن أن تستند الى ما يعرف ب((فوق اجتماعي)) كالخوف

ص: 205


1- عزيز السيد جاسم، علي بن أبي طالب، سلطة الحق، مصدر سابق، ص 267
2- المصدر السابق نفسه، ص 268 . 206

من غضب وانتقام الإله، فتصبح الضوابط الدينية قوة إلزامية(1).

فالدين بفضل ما يفرضه من أوامر إلهية ووصايا قدسية ترسي دعائم الاستقرار والتنظيم الاجتماعي، وتطبق قواعد العدل، وتهذب السلوك وتصحح قواعد المعاملات وترسي العلاقات على أسس من التعاون والتكافل الاجتماعي، وهو فضلا عن ذلك له وظيفة ايجابية أعمق أثراً في الحياة الاجتماعية، ذلك انها تربط بين قلوب معتنقيها برباط من المحبة والتودد والتواصل لا يدانيه رباط آخر من الجنس واللغة او الجوار والمصالح المشتركة، فرابطة الأخوة في العقيدة هي العصب الجامع لكل القيم الأخلاقية والمثل العليا التي تسير على هديها الجماعات وغني عن البيان أن الدين في المجتمع يحتل منزلة القلب من الجسد(2).

ومن هنا كانت قواعد العمل التنظيمي - القضائي لدى الإمام (عليه السلام) تسندإلى الدين الإسلامي وتشريعاته، فضلا عما سنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قواعد قضائية وهي:

قاعدة (على المدعي البيّنة وعلى المنكر اليمين) و (اليمين الغموس(3) / مرفوض شرعاً) و (شهادة الزور/ مرفوضة شرعاً) و (كتمان الشهادة/مرفوض شرعا)(4). وهذه القواعد الدينية من شأنها أن تحقق عملية ضبط واستقرار وأمن اجتماعي. أما بالنسبة للإجراءات القضائية من إدارة وتنظيم لأية قضية تطرح أمام القضاء الإسلامي آنذاك،

ص: 206


1- Georges Gurvitch , Sociology of Law , London , 1953 , p.90
2- د. مصطفى الخشاب، دراسة المجتمع، مصدر سابق، ص 232
3- الكاذبة وغير صحيحة (باطلة)
4- ينظر: كتاب علي (عليه السلام) الجامعة، كتاب أماه رسول الله (صى الله عليه وآله وسلم) وخطه علي بن ابي طالب (عليه السام)، جمع وتحقيق: الشيخ محمود قانصو العامي، الناشر: ذوي القربى، النجف الاشرف، ط 1، 1427 ه، ص 328 - 330

فقد صاغ الإمام (عليه السلام) إجراءات جديدة تمثلت بركنين جديدين هما: - 1. فصل الشهود عن بعضهم بعضاً عند أخذ شهادتهم.

2. تدوين شهادتهم على انفراد.

ولعل الذي دعاه لهذه الإجراءات - كما يبدو - قصور بعض القضاة عن كشف الحقائق وإحقاق الحق، اذ شكا إليه شاب نفرا، فقال: ((ان هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر، فعادوا ولم يعد ابي، فسألتهم عنه، فقالوا مات، فسألتهم عن ماله، فقالوا ما ترك شيئا! وكان معه مال كثير فترافعنا إلى شريح (القاضي) فاستحلفهم وخلى سبيلهم! فدعا علي بالشرط (الشرطة) فوكل بكل رجل رجلين، وأوصاهم أن لا يمكنوا بعضهم أن يدنوا من بعض، ولا يسمحوا لأحد أن يكلمهم ودعا كاتبه ودعا أحدهم، فقال: أخبرني عن أبي هذا الفتى، أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم؟ وكيف كان سيركم؟ وبأي علة مات؟ وكيف أصيب بماله؟ وسأله عمن غسله ودفنه ومن تولى الصلاة عليه وأين دفن؟ ونحو ذلك والكاتب يكتب، ثم دعا الآخر بعد أن غيّب الأول عن مجلسه، فسأله كما سأل صاحبه، ثم الآخر هكذا حتى عرف ما عند الجميع، فوجد كل واحد منهم يخبر بغير ما أخبر به صاحبه فضيّق عليهم فأقروا بالقصة، فأغرمهم المال وأفاد منهم بالقتل(1).

وما تقدم ذكره يقودنا بالضرورة إلى التعرف على أهم ركن من أركان العمل القضائي - التنظيمي وعملية الضبط الاجتماعي على حد سواء، ألا هو مسألة العقوبات او الجزاء؛ التي تسمى بالإسلام ب((الحدود)).

إذ إن تشريع العقوبات في الإسلام ينطلق اساسا من أن السلوك الاجتماعي للأفراد لا يسير وفقا لامتثال روتيني - رتيب منظم وطاعة تامة، فكانت العقوبات سببا في صيانة المجتمع قبل وبعد الانتهاك والتعدي، وتحت قوة تنفيذ العقوبات وقسوتها يضطر الفرد ((المنتهك)) الى مسايرة النظام والخضوع لقواعده ومقرراته، علما أن بعض العقوبات

ص: 207


1- د. عطية مصطفى مشرفة، القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص 107 - 108

الإسلامية التي تتضح فيها معالم الحزم والشدة التي نفذت إبان عصر الإمام (عليه السلام) كالرجم وقطع اليد والنفي... الخ، إنما كان الهدف من ورائها تحقيق وظيفة اجتماعية نابعة عنها تتمثل بقطع دابر الجريمة والانحراف والتصدي لكل اعتداء بحق المجتمع وأفراده من خلال قوة العقوبات الإسلامية.

وفي هذا الصدد يشير كارل منهايم K. Mannheim الى أن القوة ضرورة اجتماعية، وقد قسمها الى قوة وظيفية وقوة تعسفية، والقوة الوظيفية هي القوة الهادفة التي يقصد بها ممارسة السلطة في المجتمع من خلال الصلاحيات الممنوحة للقائم عليها، أما القوة التعسفية فتتمثل باستخدام البطش والاستبداد(1).

وعلى العموم فإن تقرير الجزاء لا يتنافى مع الإخلاص للنظام الاجتماعي والثقة في تحقيق أهدافه، فهو اصطلاح اجتماعي نافع ويؤدي وظيفة اجتماعية لأنه يترجم عن ظاهرة القهر والإرغام الذي يمارسه المجتمع إزاء العابثين بنظمه والخارجين على قواعده بفعل القانون(2).

وهنا نقصد بطبيعة الحال القانون الإسلامي / التشريع الآلهي السنة النبوية، وفي الإسلام مجموعة الحدود/الجزاءات أو العقوبات التي وضعت لكل مخالفة سلوكية او أخلاقية معينة تمس حدود الشريعة بالتجاوز والعصيان، ومن ثم تواجه بالردع الملائم لها لأجل حفظ المجتمع وحرمته من كل خرق أو عبث.

والحدود بشكل عام في الإسلام تقع على جسد ((المنتهك أو المعتدي))؛ والذي يجاوره في القانون الإسلامي مسألة (الديات) أي التغريمات التي تؤخذ من هذا الفرد المعتدي في حال لم تصل عملية الضبط الاجتماعي إلى مراحلها العليا من الاقتصاص من

ص: 208


1- د. إبراهيم ابو الغار، علم الاجتماع القانوني والضبط الاجتماعي، مصدر سابق، ص 294
2- د. مصطفى الخشاب، دراسة المجتمع، مصدر سابق، ص 234

الجسد، فيقضى من أموال المعتدي وبحسب نوع الاعتداء الواقع على جسد (الضحية أو المعتدى عليه).

وفي هذا المجال يروى انه ((كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضرب بالسوط، ونصف السوط، وثلث السوط، وببعضه في الحدود، وإذا أتي بغلام أو جارية لم يدركا - حده - ولم يبطل حدا من حدود الله))(1). ومعنى نصف السوط وربعه وثلثه إنه كان يأخذ السوط بيده في نصفه وثلثه وربعه على قدر أسنانهم(2).

وكذلك يروى عنه (عليه السلام) أنه قضى في رجل سرق ولم يقدر عليه حتى سرق مرة أخرى فأخذ فجاء الشهود فشهدوا عليه بالسرقة الأولى والثانية فقال: تقطع يده بالسرقة الأولى لا تقطع رجله بالسرقة الأخيرة، وذلك لأن الشهود شهدوا عليه في مقامواحد بالسرقتين، وقال (عليه السلام): ((لو أنكما شهدتما عليه بالسرقة الأولى وسكتما حتى تقطع يده، ثم شهدتما عليه بالسرقة الثانية لقطعت رجله))(3).

ووفقا لما جاء تتضح معالم الشدة والصرامة في تطبيق العقوبة التي غالبا ما يكون الهدف من ورائها تحقيق ضبط اجتماعي يسود المجتمع، لا سيما وأنه (عليه السلام) غالبا ما ينفذ العقوبة الصارمة بنفسه، هذا مع مراعاة انه (عليه السلام) يمثل أعلى سلطة في المجتمع فضلا عن أنه ممثل الدولة الإسلامية - خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ما يرجع بنا إلى ما طرحه دوركايم عندما تصدى لدراسة الضبط الاجتماعي الملازم لمجتمع التضامن الميكانيكي حيث تطبق العقوبة فيه من السلطة المركزية وبشكل حازم وصارم، اذ انه ركز على دور الدولة المستقل بوصفه عاملاً في تطور العقوبات ، فشدة العقوبة

ص: 209


1- أبو اسحاق الكوفي، قضايا أمير المؤمنين، مصدر سابق، ص 101
2- المصدر السابق نفسه، ص 102
3- المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها

وقسوتها تصبح أكثر فاعلية وتأثيراً كلما كانت السلطة المركزية في صورة أقوى(1). وهذا يتجسد في تولي الإمام (عليه السلام) السلطة في المجتمع وتنفيذه العقوبات الإسلامية بشكل صارم وحازم. وفي الاتجاه نفسه يشير الدكتور محمد عاطف غيث إلى هذه المسألة، إذ يرى أن القانون المنطوي على العقاب يكون عاملاً كافاً عن الإنحراف وله فاعلية إذا ما توافرت له الشروط الأربعة وهي كالآتي:(2) 1. أن يكون العقاب قاسياً بدرجة كافية ليعيد التوازن بهدف الوصول إلى الامتثال.

2. أن يكون مباشرا بدرجة كافية ليربط بالأذهان العلاقة الوثيقة بين العقاب والانحراف.

3. أن يكون واحداً نسبياً بمعنى أن ينطبق على جميع الأشخاص الذين يرتكبون انحرافا معينا.

4. أن يكون مؤكدا وموثوقاً به لتصبح للشروط الأخرى فاعلية محققة.

ولعل هذه الشروط الأربعة متوافرة في العقوبات الإسلامية التي عبرت عنها الوقائع القضائية التي قضى فيها الإمام (عليه السلام).

ومن الأمور الملاحظة في القانون الإسلامي كذلك ،التي سعى الإمام (عليه السلام) إلى تنفيذها هي أن مسألتي الحدود والديات على حدٍ سواء لها أصولها الخاصة أيضاً بحد الذمي (اليهودي - والنصراني) وديّتها اذا وقع عليهما أو منهما الأذى والاعتداء يشابهما في هذه المسألة (العبد) أي الشخص المملوك لفرد ما، فقد ورد على سبيل المثال عن الاصبغ ابن نباته قال: ((حضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا، فأمر أن يقام على كل رجل منهم الحد، وكان قد حضر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال له: يا عمر ليس

ص: 210


1- د. إبراهيم ابو الغار، علم الاجتماعي القانوني والضبط الاجتماعي، مصدر سابق، ص 161
2- د. محمد عاطف غيث، المشاكل الاجتماعية والسلوك المنحرف، دار المعارف، الاسكندرية، 1967، ص 198

هكذا حكمهم.

فقال له عمر: ((فأقم الحكم عليهم. قال فقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) واحداً منهم فساره، ثم ضرب عنقه، وقدم الثاني فساره، ثم رجمه، وقدم الثالث فساره، ثم ضربه الحد كاملا، وقدم الرابع فساره، ثم ضربه نصف الحد، وقدم الخامس فساره، ثم عزرّه وأطلقه فعجب الناس لذلك وتحير عمر وقال يا أبا الحسن، في قضية واحدة أقمت عليهم خمسة أحكام مختلفة؟ فقال (عليه السلام): نعم، أما الأول فذمي، فالحكم فيه السيف، والآخر محصن زنى فرجمناه، والاخر غير محصن زنى، فحددناه، والآخر عبد زنى، فضربناه نصف الحد، والآخر مجنون مغلوب على عقله عزرناه))(1).

وهذه الرواية تكشف بوضوح عن القسوة الكامنة في العقوبة من جانب، وتناسب العقوبة مع الموقف ومع مركز ودور الفرد المقبل على الجريمة والانحراف، وكل حسب موقعه وحجم خطئه؛ ولا سيما الفئات المحددة بالمجتمع كما في الذميين والعبيد.ومن قبيل ذلك ما قاله (عليه السلام) في ديات أهل الذمة، إذ قال: ودياّت أعضاء أهل الذمة من ديات انفسهم [كدياّت أعضاء المسلمين من ديات أنفسهم] فمن قطع من المسلمين يد الذمي فأسلم الذمي، ثم مات فيها فلا قصاص، وعلى الجاني المسلم دية مسلم، فكذلك إن قطع مسلم يد ذمي فلم تبرأ حتى أسلم، ثم مات منها فعلى الجاني دية مسلم ولا قصاص))(2).

وكذلك ما قاله (عليه السلام) في جنايات العبيد: ((ودية جرح العبيد من قيمته كدية جرح الحر من ديته؛ ففي عينه نصف الدية، وفي اصبعه عشر قيمته، ومن أعتق بعضه

ص: 211


1- أبو اسحاق الكوفي، قضايا أمير المؤمنين، مصدر سابق، ص 116
2- أبو اسحاق الكوفي، قضايا أمير المؤمنين، مصدر سابق، ص 223

فجنايته عليه بحساب ما أعتق منه جناية حر وما بقي منه في الرق جناية عبد))(1).

وفي توصيف لما تقدم ذكره من قواعد القضاء وإجراءاته ومسألتي العقوبات (الحدود) والتغريمات (الديات) نورد الترسيمة الآتية(2):

ص: 212


1- المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها
2- في تفاصيل ذلك كله، ينظر: كتاب قضايا أمر المؤمنن، ابو اسحاق الكوفي، مصدر سابق، ص 220 - 227، وكذلك كتاب عي (عليه السام) الجامعة، مصدر سابق، ص 328 - 345

صورة

[ترسیمة رقم (7) توضح شکل التنظیم القضائي في الإسلام ووفقا لرؤیة الإمام علي (علیه السلام) لها]

ص: 213

وفي نهاية هذا الفصل نخلص الى القول أن التنظيم القضائي في فكر الإمام (عليه السلام) إنما كان يؤشر عليه أو يلحظ عليه ثلاث ملاحظات رئيسة يمكن إيجازها على النحو الآتي: - أولاً: - إن التشريعات الإسلامية (من قرآن كريم وسنة نبوية) وجدت مكانتها الحقيقيةفي المجتمع الإسلامي آنذاك ليس من خلال الممارسة القضائية-التنظيمية الدقيقة التي طبقها الإمام (عليه السلام) من اجل إيجاد قضاء عادل وإحقاق الحق ودفع الإفساد والفساد الذي يقوض كل التنظيمات والبناءات الاجتماعية فحسب بل حاول ايجاد عدالة اجتماعية يقضي بموجبها على مبررات او دوافع السلوك المنحرف.

ثانياً: - على الرغم من أن سائر الأدبيات السوسيولوجية التنظيمية الخاصة بالضبط الاجتماعي تتحدث عن أهمية تعزيز هيبة القانون داخل المجتمع لأجل تعزيز هيبة الدولة في نهاية الأمر، لأن القانون جزء من الدولة ومن استقرار تنظيماتها الاجتماعية بسائر أنواعها، إلا أن الإمام (عليه السلام) سعى لإحلال هيبة القانون الإسلامي بالدرجة الأولى قبل سعيه لإحلال هيبة الدولة، إذ إن مدار التنظيم القضائي للإمام (عليه السلام) كان مرتكزا على ان سلطة الشريعة وقوانينها هي الأولى بالتعزيز قبل هيبة الدولة لأنه (عليه السلام) كان ينظر إلى ديمومة القانون الإسلامي وسلطته دون ديمومة السلطة وأشكالها وهذا الأمر يوحي لنا على أن الإمام (عليه السلام) كان يقدم المجتمع ومصالحه المرتبطة بالقوانين الإلهية على مصالح الدولة التي ترتبط في كثير من الأحيان بمصالح الحاكم.

ثالثاً: - من الملاحظ على الممارسة القضائية التي أتبعها الإمام (عليه السلام) في متابعة شؤون الوقائع الميدانية التي تمس أمن المجتمع وسلامته أنه كان حريصا على استيعاب او إدراك القضايا كافة التي تطرح أمامه، بعبارة أخرى حاول أن يعيد الحق الى نصابه وبشكل دقيق وشرعي فلهذا وجدناه يبتكر في كل حين من وحي القرآن

ص: 214

والسنة؛ طرق جديدة في استقصاء القضية المطروحة وإدراك كنهها، محاولا تدعيم التنظيم القضائي كلما أعوزه الدقة أو الشدة في الحكم، وبالتالي كانت لإسهاماته الشخصية دور مباشر في إعطاء تاريخ التنظيم القضائي في عصره خصوصية كبيرةيعرج عليها كل باحث او مستقصٍ عن تاريخ التنظيم القضائي في الإسلام.

ص: 215

ص: 216

الفَصْلُ السَّادِسْ مناقشة تساؤلات الدراسة وعرض لأهم نتائجها

اشارة

ص: 217

ص: 218

أولاً: مناقشة تساؤلات الدراسة:

اشارة

ستحاول الباحثة مناقشة تساؤلات الدراسة الخمسة كلاً على حدا من خلال الاستناد إلى ما جاء في متون الدراسة وعلى النحو الآتي:

1. التساؤل الأول:

ما المصادر الرئيسة التي استند إليها الإمام علي (عليه السلام) في فكره التنظيمي والإداري للمجتمع الإسلامي آنذاك؟ هناك عدة مصادر للقواعد التي استند إليها الإمام علي (عليه السلام) في تنظيمه للمجتمع الإسلامي وهي كالآتي:

أولاً: استند الإمام علي (عليه السلام) إلى عناصر وسمات سياسته التنظيمية التي صاغ بموجبها مجموع تنظيماته الاجتماعية والإدارية (فيما بعد) من الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلم) وذلك لقرابته من الرسول التي جعلت الإمام يستقي أمرين رئيسين من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهما:

ا. إن اعتناق الإمام للإسلام على يد الرسول عليه الصلاة والسلام إذ كان من اوائل المؤمنين بالدعوة الإسلامية منحه القدرة على التشبع والاستيعاب للكثير من

ص: 219

المبادئ القرآنية والسنن النبوية اللتين تعدان مصادر أساسية لأي تنظيم (اجتماعي / إسلامي)، إذ كان الإمام مدركا تلك الركائز التنظيمية الإسلامية عبر درايته واطلاعه لعلة أي حكم او تشريع يصدر عن القرآن والسنّة ويسهم في تحقيق تنظيم اجتماعي، مما مهد له القدرة على بناء منظومة نظرية متكاملة حاول جاهداً ان يطبقها على نفسه وعلى المجتمع.

ب. إن تلك المنظومة النظرية - التي أشرنا إليها آنفاً - تكاملت نظرياً وميدانياً لدى الإمام من خلال تحويلها الى ممارسة تنظيمية على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أسس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وأرسى أولى القواعد التنظيمية فيها وهي بناء أول مؤسسة تنظيمية في المدينة عبر بناء المسجد، والمؤاخاة، ووثيقة المدينة)، وبطبيعة الحال كان الإمام على اطلاع تام بكيفية تحويل الحكم الشرعي في أية قضية اجتماعية او سياسية او اقتصادية الى ممارسة تنظيمية كان يدير بموجبها الرسول (صلى الله عليه وسلم) دولته الإسلامية الحديثة، وبعبارة أخرى إن الإمام كان قريباً من أولى الممارسات التنظيمية في الإسلام عبر تأثره بالتجربة النبوية مما أمدته بالخبرات التنظيمية التي حاول إحياءها وممارستها زمن حكمه لأنه نظر الى هذه الممارسة التنظيمية بوصفها المعين الأصلي والأصلح والأقدر على تنظيم المجتمع الإسلامي.

ثانياً: كان الإسلام - بعناصره الرئيسة الثلاث(1) - العقيدة (المنظومة الفكرية للتوجيه)،والمفاهيم (الرؤى التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء)، والعواطف (أي تحويل العنصرين السابقين الى شعور وجداني يأخذ مداه في التطبيق الفردي قبل التطبيق المجتمعي)، مرتكزاً رئيسياً بالنسبة للإمام، وهي التي دفعته الى قولبة الكثير من قواعده التنظيمية ولاسيما (عقيدة التقوى) التي كانت بالنسبة إليه مفهوماً وعاطفة تحولت بعد

ص: 220


1- ينظر تفاصيل ذلك في الفصل الثالث من الدراسة

ذلك الى موجه رئيس لسلوكه التنظيمي أولاً، ولسلوك الولاة والإداريين الذين كان يشرع لهم الكثير من اللوائح التنظيمية التي يلزمهم باتباعها.

ولهذا نجد أن التوجه الديني - التنظيمي للإمام كان يصبغ كل توجهاته التنظيمية، بعبارة أخرى كان يحاول تأسيس سلوك تنظيمي لسائر الولاة والإداريين يجعلهم يسيرون وفقه، ومبدأه الرئيس في ذلك هو الخشية من الله تعالى حفاظاً على مصلحة الجماعة والمجتمع.

ثالثاً: كان الإمام (عليه السلام) يمتلك القدرة على استنباط الأحكام الإسلامية من مصادرها الشرعية (القرآن - السنة( وهذه القدرة هي التي جعلته يمتلك معارف وعلوماً شتى مما جعل اجتهاده العلمي يؤهله أن يؤسس ويولد قواعد تنظيمية مختلفة، وهذا ما لمسناه في تنظيمه القضائي على وجه الخصوص وباقي التنظيمات عموماً.

وبمعنى آخر إن للعلم والمعرفة التي يمتلكها الإمام بوصفه قريباً من منابع التشريع أثر في إثراء قدرته الاجتهادية والفكرية مما جعله ينهل من ذلك آليات للعمل التنظيمي الاجتماعي آنذاك.

ص: 221

2. التساؤل الثاني:

ما هي أبرز ملامح التنظيم السياسي الذي أرساه الإمام علي (عليه السلام) في إدارته للمجتمع الإسلامي؟ وكيف استطاع اكتساب شرعية سياسته التنظيمية التي كان يمثلها؟ إن هذا التساؤل يفترض في الإجابة عنه أن تكون على شطرين، الشطر الأول، ما هي أبرز ملامح التنظيم السياسي الذي أرساه الإمام لإدارة وتنظيم المجتمع الإسلامي سياسياً، تكون إجابته على النحو الآتي:

أولاً: القيام بعملية تغير اجتماعي / سياسي، ذلك ان وصول الإمام الى سدة الحكم بحد ذاته يعد تغييراً وتبدلاً لقواعد التنظيم السياسي برمته، فلقد تثبتت واغتنت مراكز قوى اجتماعية عديدة في المجتمع الإسلامي قبل ذلك والتي كانت تتمتع بامتيازات سياسية ومادية تراوحت بين إمساك مصدر القرار السياسي / القرب من الخليفة السابق، او مصدر القرار الإداري / توليهم إدارة الأمصار، فكان التنظيم السياسي الذي جاء به الإمام يطولهم جميعا وعبر الإجراءات الآتية:

ا. عزل الولاة والإداريين - المفسدين - كخطوة تنظيمية أولى بعد تولي السلطة (الخلافة)، اذ باشر الإمام بطرد وعزل كل من ثبت عليه الفساد الإداري والتنظيمي من قبيل نهب أموال الدولة واستغلال النفوذ السياسي لأغراض شخصية والإجحاف والظلم بالناس أو إصدار قرارات جائرة تضر أفراد المجتمع، وقد كانت هذه الخطوة بمثابة أولى مراحل التغير الاجتماعي والتنظيم السياسي في آن واحد.

ب. ارجاع املاك الدولة (وثرواتها): ترافقت الخطوة التنظيمية الأولى المتضمنة طرد وعزل الإداريين المفسدين مع إرجاع الأموال والثروات العديدة الى (بيت المال)، تلك الأموال التي كانت بحوزة هؤلاء المتنفذين (أصحاب مراكز القوى).

ص: 222

ثانياً: صياغة وإقرار قواعد ولوائح إدارية وتنظيمية جديدة تحل محل اللوائح السابقة التي أبلغها الإمام (عليه السلام) لسائر ولاته وعماله وقد تضمنت عدة أمور يمكنإيجازها على النحو الآتي:

ا. تقديم الصفات الأخلاقية والدينية لاختيار أي شخص يتولى منصباً إدارياً أيا كان، مشددا على عنصر التقوى والخصال الحميدة وذلك لاعتقاده (عليه السلام) بأن من تحلى واتصف بذلك إنما سيكون الأجدر والاكفأ في الحفاظ على حقوق المجتمع وتأدية الواجب الإداري - التنظيمي المنوط به على أكمل وجه من دون أن يلتفت لمسائل القرابة والنسب (المنسوبية) بينه وبين ابناء المجتمع في اختيار الإداريين.

ب. المحاسبة المستمرة والدائمة لعماله وولاته وإدارييه وهذا الامر كان مدعاة بالنسبة للإمام لمعرفة السلوك التنظيمي السياسي الممارس من قبلهم، وهل هم ملتزمون باللوائح التنظيمية التي وضعها لهم، وقد كان من نتائج هذه القاعدة التنظيمية السياسية استبدال ولاة وعمالاً بغيرهم ، لوضع الأشخاص المناسبين في مكانهم الصحيح بما يدعم فكرته التنظيمية السياسية ويثبتها.

- أما الإجابة على الشطر الثاني من السؤال والمتضمن «كيف استطاع الإمام اكتساب الشرعية السياسية لتنظيمه السياسي الذي أجراه» فيمكن الإجابة عن ذلك وفقاً للآتي:

ا. اكتسب الإمام شرعيته السياسية التي أهلته للقيادة عبر مسألة - البيعة - التي أقرها معظم أبناء المجتمع آنذاك، معلنين رغبتهم في توليه منصب الخلافة مع طاعتهم وولائهم له، وقد كانت تلك البيعة الصيغة الشرعية الرئيسة التي جعلته يدير دفة الحكم، فضلاً عن ان تلك البيعة وأجواءها الشرعية لم تتم إلا تحت ضغط اجتماعي كبير لاختياره لهذا المنصب، ذلك الضغط الذي تولد من جراء انهيار التنظيم السياسي السابق في ظل أجواء عصيبة جعلت المجتمع يعيش حالة من تلاشي التنظيم بكل

ص: 223

أصنافه.

ب. إن عملية انهيار التنظيم السياسي السابق لم تنته دون أن تترك رموزاً تنظيمية سابقةتقاطعت مصالحهم وامتيازاتهم مع الأجواء الشرعية التنظيمية الجديدة الممثلة ببيعة الإمام خليفة للمسلمين، وقد عملت تلك الرموز على التشكيك بشرعية سلطة الإمام ومحاولة اقصائه عن الحكم، فما كان من الإمام (عليه السلام) إلا أن يعمد الى إجراء تنظيم عسكري حاول من خلاله فرض شرعيته السياسية وفرض النظام في آن واحد من أجل درء المفاسد التنظيمية التي يمثلها أقطاب المعارضة السياسية لحكمة آنذاك، وهذا ما جعله يخوض حروباً ثلاثاً على مضض وإكراه (الجمل - صفين - النهروان).

3. التساؤل الثالث:

كيف استطاع الإمام علي (عليه السلام) الموازنة بين موارد المجتمع واحتياجاته؟ وما هي القواعد التنظيمية التي سعى بموجبها لتنظيم السلوك الاقتصادي في المجتمع آنذاك؟ للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي الوقوف عند شطره الأول للإجابة عنه ثم الانتقال الى شطره الثاني، فالشطر الأول المتضمن “كيف استطاع الإمام علي الموازنة بين موارد المجتمع واحتياجاته” فإجابته تتضمن الآتي:

حاول الإمام تحقيق موازنة بين موارد المجتمع وحاجاته عبر فهمه واستيعابه لمسألة - الطبقات - طبقات المجتمع، إذ أن الإمام ارتكز على رؤية محورية واضحة تتمثل في تقسيمه طبقات المجتمع قسمين الأول يمثل الموارد والآخر يمثل الاحتياجات، بعبارة أخرى انه قسم الرعية الى من يختص بجمع الموارد والاشتغال عليها من أمثال اهل الجزية والخراج (جامعي الموارد)، والتجار وأرباب الصناعات (المشتغلين بالموارد بيعاً وشراءً)

ص: 224

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن قسم الاحتياجات تمثل بالنسبة له طبقات المجتمع الأخرى بكل أنواعها (قضاة - جنود - كتاب - فضلا عن الطبقة السفلى من ذوي الحاجةوالمسكنة).

فالقاعدة الاقتصادية التنظيمية للموازنة التي اشتغل عليها الإمام تتمثل في اقامة عملية التبادل المنفعي او المعيشي المتحرك في خطين اقتصاديين متوازيين، خط المنتجين وخط المستهلكين ، فقد حاول تشخيص الممارسة الاقتصادية ابتداءً من خلال تحييد الجانبين (الموارد - الاحتياجات) عن بعضهما بعضاً، ثم إعادة تأطير العلاقة بينهما في ضوء عملية المساندة الاقتصادية لبعضهما، فقد كان (عليه السلام) مدركاً أهمية ان يكون أبناء المجتمع متعاونين فيما بينهم لأجل دفع عملية التنظيم الاقتصادي قدماً، وذلك عبر عملية ((التخصص وتقسيم العمل)) الذي بموجبه تتوزع المهمات الاقتصادية وبالتالي يتحقق الآتي:

ا. توزيع الوظائف وفق الكفاءات والقدرات، وبالتالي تتضح مكانة ودور كل فرد ضمن العملية الاقتصادية التنظيمية وفقاً لكفاءته وقدراته.

ب. تنوع الاختصاصات نتيجة لتنوع الكفاءات، وهذا ما التفت إليه الإمام (عليه السلام) من خلال استيعابه تنوع طبقات المجتمع (طبقات موارد-طبقات احتياجات).

ج. إعادة توزيع الثروة الناجمة عن الكفاءة والتخصص وتوزيع الأدوار بين الأفراد، لان كفاءة العامل وتخصصه سيولد ويسهم في مسألة تراكم الثروة.

اما الشطر الثاني للسؤال والمتضمن «ما هيّة القواعد التنظيمية التي سعى الإمام بموجبها لتنظيم السلوك الاقتصادي في المجتمع آنذاك» فالإجابة تتضمن الآتي:

1. قاعدة مساواة المسلمين في العطاء: كقرار تنظيمي أبرز انتهجه الإمام لتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع الإسلامي عموماً، فبيت المال (المؤسسة الاقتصادية)

ص: 225

آنذاك كان مفتوحاً أمام جميع أفراد المجتمع سواسية من دون تمييز أو اجحاف لحقوقهم المالية المودعة فيه.

2. قاعدة رد قطائع الخليفة السابق: كإجراء اقتصادي الهدف من ورائه إرجاع الحقوق إلى مستحقيها من أصحاب الأراضي التي اقتطعت لصالح ولاة الخليفة السابق، وقد ألغيت هذه الإجراءات من الإمام علي (عليه السلام) وأعاد ملكية تلك الأراضي الى الدولة.

علما ان هذه القاعدة التنظيمية الثانية قد أُدعمت من الإمام عبر الآتي:

ا. أمر الإمام (عليه السلام) ولاته بعدم منح القطائع للمقربين منهم من خاصة وبطانة.

ب. شدد على أهمية احترام أموال وثروات بيت مال المسلمين بعده المؤسسة الاقتصادية الكبيرة والمسؤولة عن تزويد أفراد المجتمع بحقوقهم المالية المقابلة لواجباتهم في المجتمع، وقد هدد الإمام (عليه السلام) بالعقوبات الشديدة لمن يتجاوز على هذه المؤسسة عن طريق الاستيلاء والسرقة لمدخولاتها.

وممّاتجدر الإشارة إليه إن القواعد الاقتصادية التنظيمية الممارسة من قبل الإمام (عليه السلام) كانت تتخللها عملية اتصال وتفاعل بين المركز السياسي / الإداري للقرار (الخليفة) وبين الإداريين (الولاة-العمال المسؤولين عن الأقاليم)، وبالوقت نفسه كان هناك تفاعل بين الولاة والرعية، وذلك بغية معرفة مستحقات كل طرف وواجباته وبغية تحقيق موازنة اجتماعية بينهما.

وكيما تأخذ القاعدتان الاقتصاديتان التنظيميتان استقرارهما في المجتمع انذاك اعتمد الإمام (عليه السلام) نظام الحسبة الذي سار عليه الرسول (عليه الصلاة والسلام) في مراقبة الأسواق والعمليات التجارية والمالية، والإشراف عليها للحد من ظواهر الغش والاحتيال والتلاعب بالأسعار وغير ذلك من الأساليب والظواهر التي تضر النظام

ص: 226

الاقتصادي وبالتالي تعيق وتعرقل قيام تنظيم اقتصادي في المجتمع.

4. التساؤل الرابع:

اشارة

ما الوسائل والآليات التي اعتمد عليها الإمام علي (عليه السلام) لصيانة أمن المجتمع واستقراره؟ وكيف تمت عملية حفظ حقوق الأفراد ونشر العدل الاجتماعي؟ للإجابة عن شطر السؤال الأول «ما الوسائل والآليات التي اعتمدها الإمام لصيانة امن المجتمع» نورد الآتي:

لقد كان الإمام (عليه السلام) يرى في المؤسسة القضائية الوظيفة الاجتماعية الرئيسة لتحقيق امن واستقرار المجتمع، وقد سعى (عليه السلام) لتطوير هذه المؤسسة وتحسين أداء عملها لكونه يرى أن مهمة هذه المؤسسة هي تنظيم شؤون الأمن وسلامة المجتمع من الخروقات ومن الخارجين على القانون، فلهذا عمد الإمام (عليه السلام) الى التركيز على نقطتين رئيسيتين فيها وهما:

أولاً: إصلاح قواعد عملها التنظيمي من الداخل بوصفها مؤسسة تنظيمية من خلال:

أ. وضع الشروط والمواصفات الواجب على المسؤول الرئيس فيها - ألا وهو (القاضي) - التحلي بها.

ب. وضع الأسس والقواعد التنظيمية التي تنظم عملها الذي يستدعي الصلات والاتصالات مع مؤسسات الدولة الأخرى.

ثانياً: إصلاح قواعد عملها التنظيمي من الخارج من خلال أدائها المباشر في المجتمع وذلك من خلال:

ص: 227

ا. ممارسة عملية الضبط الاجتماعي للسلوك المنحرف.

ب. تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق البحث عن جذور وأصول البواعث السلوكية السيئة.

ويمكن توضيح ذلك كله من خلال الركنين الآتيين:

- الركن الأول: الإصلاح الداخلي:

المسألة الأولى: خصائص أو صفات القاضي: وضع الإمام (عليه السلام) مجموعة من الخصائص الواجب على القاضي التحلي بها، وذلك لأنه عدها الآليات المناسبة التي ستسهم في تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي، وذلك لأن صلاح القاضي المسؤول عن هذا العمل التنظيمي سيكون مسؤولا عن صلاح المجتمع عموماً، ويمكن توضيح ابرز الخصائص والسمات التي وضعها الإمام (عليه السلام) لمن يتولى القضاء وفقاً للآتي:

1. لأجل التعامل مع القضايا المعقدة والصعبة أكد الإمام ضرورة:

أ. أن يكون المتولي للقضاء مجيداً للتعامل مع المواقف القضائية الحرجة والدقيقة، بحيث لا تضيق به الأمور ولا يجد مخرجاً للبت في الشأن المطروح أمامه، فعليه أن يكون صبوراً.

ب. يجب على المتولي للقضاء أن يراجع نفسه ولا يصر على الخطأ إذا شعر بوقوعه في حكم قضائي معين، وأن يتبصر بذمة متناهية ولا يستعجل في اتخاذ القرار إزاء الشبهات في القضايا (أي التي تشبه الحق).

2. لأجل إحراز الحكم الصائب الموالي للقانون (الشريعة) يوصي الإمام (عليه السلام)

ص: 228

بالآتي:

أ. أن لا يكون القاضي طامعاً او يسعى للتكسب المالي وجلب المغانم والمنافع المادية من وراء حكم ما.

ب. أن يكون حازماً في البت في القضايا والأحكام وصارماً في تنفيذ الحكم ومتابعته.

ج. أن يكون مع البراهين والأدلة المقنعة المدعمة بقرائن وشواهد متنوعة تكشف بواطن المسألة المطروحة للحكم.

د. أكد الإمام أهمية تشابه (الفتيا) بين الولاة بحيث يكونون متشابهين في الحكم، لأنمصدر التحاكم في أية قضية برأيه هو واحد، فلا بد أن تكون الفتيا واحدة تبعاً لذلك.

وبشكل عام فإن هذه القواعد السلوكية التي صاغها الإمام (عليه السلام) تمثل محاولة منه لحماية التنظيم القضائي من الخطأ، ولاسيما في ركنه الأساس ألا وهو مسؤول التنظيم القضائي «القاضي» وذلك بغية إيجاد مناخ تنظيمي / قضائي تدرأ بموجبه المخاطر والخروقات ويتحقق أمن وسلامة المجتمع.

المسألة الثانية: - الصلات التنظيمية بين المؤسسة القضائية وسائر مؤسسات الدولة.

وضع الإمام (عليه السلام) مجموعة من الصلات التنظيمية التي تحكم العلاقة بين الحاكم السياسي و (الوالي / والولاة) أي بين المؤسسة السياسية والمؤسسة القضائية، وذلك سعياً نحو ثلاثة أمور:

أولاً: - للاشراف المباشر على عمل القضاة، ومراقبة أعمالهم وتنظيماتهم القضائية ونجاحهم وفشلهم بذلك. وهذه المراقبة تسعى بالضرورة إلى التأكد من سيرورة العمل التنظيمي - القضائي بشكله الصحيح بما يخدم مسألة تحقيق الأمن والاستقرار

ص: 229

الاجتماعي عبر التطبيق الصحيح والدقيق للنص القانوني (الشريعة الإسلامية)، فضلا عن استكشاف مدى محافظة القضاة على الصفات والخصائص التنظيمية الواجب التحلي بها.

ثانياً: - ما كان للمؤسسة القضائية أن تؤدي دورها بشكل صحيح من دون الخضوع لضغوطات اقتصادية أو معيشية معينة يعانيها مسؤول التنظيم القضائي (القاضي)، وذلك استدعى إشراف المؤسسة السياسية والاقتصادية على توفير مناخ اقتصادي ملائم له من مكافآت او مثوبات Rewerds، فضلا عن أن هذا الأمر سيسهم في منع حدوث فساد إداري يكون ضحيته في نهاية الأمر أمن المجتمع وسلامته.

ثالثاً: - وكيما تبقى المسافة السلطوية في مجالات محددة لكل منها بحيث لا يحصل خرق في السلطة السياسية (التنفيذية)، ولا السلطة التشريعية والمشرفين على القانون الإسلامي، ولا السلطة القضائية على بعضها بعضاً، دعا الإمام (عليه السلام) الى ضرورة استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وأن تقتصر العلاقة ضمن إطار عملية التبادل الاجتماعي التنظيمي - المؤسساتي فحسب، لأجل أن تظل للسلطة القضائية هيبة اجتماعية تستطيع بموجبها إمضاء مشيئة القانون على أبناء المجتمع كافة (الراعي والرعية).

ص: 230

- الركن الثاني: الإصلاح الخارجي:

إن الغاية الفعلية التي سعى الإمام (عليه السلام) إليها من خلال الإصلاح الخارجي هي تفعيل قنوات الضبط الاجتماعي ولاسيما ((القانون الإسلامي)) وإنزاله من محل القواعد الشرعية إلى محل القواعد التطبيقية - الميدانية، وبعبارة أخرى إن ما حاول الإمام (عليه السلام) القيام به في تنظيمه القضائي للمجتمع هو تحويل التنظيم القضائي من مكانه الرئيسي ((الدولة)) بوصفه مؤسسة قضائية الى ((المجتمع)) بوصفه مجال التطبيق التنظيمي، وتجلى ذلك عبر المحاور الآتية:

أولاً: - تفعيل عملية الضبط الاجتماعي بوصفها العملية التي تجسد القانون وتحاول تعزيزه وتطبيقه، وهذا الأمر سعى إليه الإمام (عليه السلام) من خلال إنزال الأحكام الشرعية القانون الإسلامي، من (قرآن كريم وسنة نبوية) إلى ميدان (المجتمع)، مؤكدا أهمية إحلال هيبة القانون الإلهي محل أية هيبة أخرى، وذلك سعيا إلى وضع قاعدة تنظيمية أساسية تسهم في الضبط الاجتماعي وهي ((هيبة المقدس)) مقابل هيبة البشري الزائل (الكيان السياسي) الدولة(1)، التي تدول وتنتقل من يد الى أخرى.

ثانياً: - تزامناً مع المسعى الأول الذي تحرك نحوه الإمام (عليه السلام) كان يتحرك نحو مسعى آخر عبر عمليات الضبط الاجتماعي وإقامة (الحدود) المتنوعة، ألا وهو السعي نحو البحث عن بواعث او أصول السلوك المنحرف والخارج عن القانون الإلهي لتحقيق عدالة اجتماعية على أساس أن منشأ هذه الانحرافات والخروقات هو عدم وجود عدالة اجتماعية تتمثل بالتوزيع العادل للثروة وللممارسة السياسية (أي توزيع المناصب والأدوار الوظيفية) داخل مؤسسات الدولة، والتي تسهم برمتها في

ص: 231


1- مفهوم الدولة عند العرب من التداول أي الانتقال لا الثبات state كما هو في الغرب

إيجاد أفراد ناقمين على المجتمع، وبالتالي يفقد المجتمع استقراره الاجتماعي.

ثالثاً: - وكيما تتحقق المسألتان المذكورتان آنفاً حاول الإمام (عليه السلام) إيجاد فضاءات قانونية شرعية مستوحاة من القرآن والسنة والعقل فضلا عن حاجة المجتمع، لتحقيق عملية الضبط الاجتماعي بشكل دقيق وبالتالي تحقيق العدل الاجتماعي في نهاية المطاف القانوني - التنظيمي هذا، وهو ما تجلى واتضح في قواعد قانونية جديدة واجتهادات شخصية ابتكرها الإمام (عليه السلام) لتطوير التنظيم القضائي.

5. التساؤل الخامس:

ما أبرز المشكلات والمعوقات التي أعاقت التنظيم الاجتماعي الذي قام به الإمام (عليه السلام)؟ وما هي الآليات والسبل التي اعتمدها لتخطي هذه العقبات؟ إن الإجابة عن شطر السؤال الأول المتضمن ((ما أبرز المشكلات والمعوقات التي أعاقت عملية التنظيم الاجتماعي الذي قام به الإمام)) تتضمن الآتي: - أولاً: - ترسخ الأسس التنظيمية السابقة التي اعتمدت خلال الخلافة السابقة في المجتمع الإسلامي، بحيث استحكمت وأوجدت لها أتباعاً ومؤيدين كثر ولاسيما أن معاييرها تنتهج الآتي:- أ. القرابة والتزلف للخليفة ((الحاكم)).

ب. توزيع المناصب الإدارية التي استندت الى أسس غير موضوعية ولا تعتمد مبدأ الكفاءة والقدرة على الإنجاز.

ج. ابتداع طرق وقنوات إدارية-تنظيمية جديدة ليست لها علاقة بما وضعه الرسول )صلى الله عليه وآله وسلم( والخليفتان اللذان اتبعا عهده.

ص: 232

ثانياً: - تحول المعايير التنظيمية (المذكورة آنفاً) إلى ثوابت أساسية ليس في اختيار الأفراد (الإداريين فحسب) بل في عملية إدارة مؤسسات الدولة مما تولد إثر ذلك الآتي: - أ. مراكز قوى اجتماعية-سياسية لبعض الأفراد والعوائل تتحكم في موارد الدولة الاقتصادية.

ب. بناء شبكة تنظيمية قائمة على أسس غير قانونية غايتها الرئيسة هي استمرار الوضع الإداري - التنظيمي كما هو من دون تغيير.

ج. ضياع مسألة العدالة الاجتماعية، ليس على صعيد توزيع الثروات بالتساوي فحسب، بل على صعيد توزيع المناصب الإدارية فضلا عن عدم تفعيل مؤسسات الضبط الاجتماعي بشكل دقيق وعادل.

ثالثاً: - المعارك والحروب التي شنها المستفيدون من التنظيمات الإدارية السابقة ضد التنظيمات الجديدة التي جاء بها الإمام (عليه السلام) بعد ما سلبت الكثير من امتيازاتهم.

فحاولوا عبر الحروب والمعارك تقويض التنظيم الاجتماعي الجديد عبر التشكيك بشرعية السلطة السياسية الحاكمة ((خلافة الإمام)) وإعادة الأمور والسياقات التنظيمية الى سابق عهدها تحت مسميات ودعاوى متنوعة.

أما الإجابة عن الشطر الثاني للسؤال المتضمن ((الآليات والوسائل التي اعتمدها الإمام (عليه السلام) لتخطي تلك العقبات)) فيمكن توضيحها على النحو الآتي:- أولاً: - حاول الإمام (عليه السلام) بيان شرعيته السياسية في تولي الحكم التي تمت عبر (البيعة)، فضلا عن تبيان شرعيته التنظيمية القائمة على أسس دينية، من خلال تأكيده الدائم أن تشريعاته - التنظيمية إنما كانت تعتمد على القرآن الكريم أولاً والسنة النبوية ثانياً، وبالتالي فإن المعترض او المعارض لتنظيماته إنما هو يعبر عن معارضته للإسلام برمته.

ص: 233

ثانياً: - إحداث عملية تغيير شامل وكلي شمل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة على حد سواء فعلى سبيل المثال قام الإمام (عليه السلام) بالإجراء الآتي:

أ عزل الولاة والإداريين المنتمين للتنظيم السابق كافة، الذين ثبت عليهم الفساد الإداري.

ب. اعتماد مبدأ الكفاءة الإدارية-التنظيمية في اختيار الولاة والإداريين فضلا عن اعتماد مبادئ دينية تتمثل في (الثقات والتقات).

ج. إرجاع الامتيازات المالية التي حصل عليها واستحوذ عليها الإداريون والولاة السابقون الى بيت مال المسلمين.

د. وضع قواعد وأسس أخلاقية يتعامل بموجبها كل فرد من الاداريين أيا كان عنوانه الوظيفي.

ه. تنظيم البناء الطبقي للمجتمع بحيث تعتمد كل طبقة على الأخرى وبما يضمن المستوى الاقتصادي الملائم لكل طبقة اجتماعية وكذلك الإسهام في إيجاد جو من العلاقات الاجتماعية - الاقتصادية المناسبة ليس بين الدولة وهذه الطبقات، بل فيما بين بعضها بالبعض الآخر، وبما يكفل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لجميع هذه الطبقات.

و. وضع موازنة اقتصادية دقيقة بين موارد المجتمع واحتياجاته وذلك سعيا منه (عليهالسلام) لتحقيق تنظيم يسهم في تحقيق اكتفاء اقتصادي، فضلا عن القضاء على أي مظهر من مظاهر الأزمات الاقتصادية.

ثالثاً: - لما عجزت الوسائل السلمية والطرق التنظيمية الجديدة في احتواء الخارجين على التنظيم السياسي (الشرعي) للإمام (عليه السلام) لم يكن أمامه سوى القتال أو

ص: 234

(التنظيم العسكري) كآلية او وسيلة للتصدي لكل ما يعرقل العملية التنظيمية برمتها لأجل تحقيق الآتي: - أ. القضاء على الثقافة التنظيمية السابقة (اللاقانونية) وإيقاف مؤيدي التنظيمات السابقة والمستفيدين منها.

ب. تثبيت حدود الشرع المقدس إزاء الخارقين لقنوات الضبط الاجتماعي كافة.

ج. الدفاع عن تنظيمات الرسول (صلى الله عليه وسلم) بوجه العائدين بهذه التنظيمات إلى العصر الجاهلي وتنظيماته القبلية ((القرابية)).

د. تثبيت شرعية وهيبة الدولة وتنظيماتها كوسيلة فاعلة لها سلطة إقرار الأمن والنظام في المجتمع.

ثانياً: نتائج الدراسة:

خرجت الدراسة بجملة من النتائج يمكن إيجازها على النحو الآتي: - 1. استند الفكر التنظيمي للإمام علي (عليه السلام) إلى القواعد والمرجعيات الإسلامية الأساسية وهي القرآن الكريم والسنة النبوية، مما جعل طروحاته التنظيمية كافة ذات توجهات إسلامية بحتة.

2. اتسمت طروحات الإمام (عليه السلام) التنظيمية والإدارية ومنذ الأيام الأولى لتوليه السلطة، بالتركيز على دمج المشروع التنظيمي-الإداري الشامل بمشروع التغير الاجتماعي للبنى والنظم الاجتماعية القائمة آنذاك كافة.

3. لقد كان الفكر التنظيمي للإمام (عليه السلام) يرتكز على جانبين أو بعدين، نظري (تشريعي) وعملي (تطبيقي)، اذ حاول من خلالهما أن يصوغ قواعد وأسساً تنظيمية

ص: 235

متكاملة الأبعاد، لا تقف عند الحدود الفكرية فقط بل تتجاوز ذلك لتحقيق ما سعى إليه الإمام (عليه السلام) من ترسيخ العدالة الاجتماعية على صعيد الممارسة والتطبيق.

4. كان التنظيم الاجتماعي في فكر الإمام مستندا إلى مبدأ تقسيم العمل، حيث خصص لكل طبقة في المجتمع مهمة تؤديها ضمن سياقاتها الخاصة بها، وألزم الطبقات كافة بضرورة التعاون والتبادل المنفعي كيما تنتظم شؤون المجتمع وعلى الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقضائية كافة.

5. اعترضت مسيرة الإمام (عليه السلام) التنظيمية الاجتماعية والسياسية بعض الفتن والاضطرابات والانشقاقات التي حاولت عرقلة سعيه لتطوير الإدارة التنظيمية للمجتمع الإسلامي مما ادى بالإمام (عليه السلام) إلى القيام ب((تنظيم عسكري)) لإعادة النظم الاجتماعية الى صيغتها التنظيمية التي كانت سائدة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

6. وضع الإمام (عليه السلام) مجموعة من الضوابط والقواعد التنظيمية الاقتصادية وذلك لأجل تحقيق الآتي: - أ. التوزيع العادل للثروة بما يكفل تحسين الوضع المعيشي لأبناء المجتمع.

ب. اعتماد الموازنة الاقتصادية بين موارد المجتمع واحتياجاته لأجل تقنين العملية الاقتصادية برمتها فيما بعد.

ج. تنظيم العلاقة بين طبقات المجتمع وفئاته بحيث تقوم بينها علاقة تبادلية لأجل استيعاب الشؤون والروابط الاقتصادية كافة بينها.

د. تنظيم الأساليب او طرق التعامل بين المسؤولين الإداريين وأفراد المجتمع مع

ص: 236

التركيز على البعد الإنساني في آلية التعامل والتواصل الإداري.

7. كانت للإمام (عليه السلام) ريادة تنظيمية واضحة المعالم في الشأن القضائي، ويمكن توضيح ذلك من خلال الجوانب الآتية: - أ. تأكيد أهمية الخصائص والسمات الواجب توافرها فيمن يتولى مسؤولية القضاء، ذلك التأكيد الذي يبلغ ذروته في أن يباشر الإمام تلك المسؤولية بنفسه بغية تحقيق أعلى درجات العدالة.

ب. تطويره الأدوات التحقيقية في كشف الحوادث والوقائع القانونية لأجل صيانة التنظيم القضائي من أي خلل أو تلكؤ يمكن أن يعتريه وبما يحفظ حقوق الأفراد في الوقت نفسه.

ج. محاولاته المستمرة في الوقوف على جذور وبواعث ودوافع السلوك المنحرف الذي يخل بالأمن الاجتماعي وينتهك القانون الإسلامي، وفي هذا الامر نجده يربط مسألة العدالة الاجتماعية (التوزيع العادل للثروات والسلطات على أبناء المجتمع) ومسألة العدالة القانونية (صيانة المجتمع والدولة من الممعنين في الفساد بشتى أنواعه).

8. من الواضح أن المجتمع الإسلامي آنذاك لم يكن يمتلك القدرة على استيعاب طروحات الإمام التنظيمية وذلك: - - لأسباب قبلية (صراع بني هاشم مع سائر قبائل قريش وحسدهم لهم لنيل النبوة لأحد ابنائهم - الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - والخلافة للإمام علي (عليه السلام) فيما بعد.

- ولأسباب عقائدية-دينية (وذلك لعدم دخول بعض الزعامات القبلية في الإسلام بشكل حقيقي وبوقت متأخر).

ص: 237

- ولأسباب اقتصادية وسياسية لبعض الفئات المتنفذة مالياً وسياسياً لاسيما في عهد الخليفة عثمان 9. إن الإمام علياً (عليه السلام) لم يخفق او يفشل في إيجاد تنظيم اجتماعي إسلامي حاول جاهدا تمريره للمجتمع كما أشار لذلك بعض الباحثين(1) ولكن المجتمع(2) نفسه فشل في استيعاب وتطبيق طروحات الإمام التنظيمية.

ص: 238


1- في تفاصيل ذلك، ينظر: د. محمد عبد الشفيع عيسى، عي بن أبي طالب قائداً سياسياً، الذي يرى ان الإمام فشل في تنظيم المجتمع
2- وفي هذا الصدد يذكر الدكتور عي الوردي ((ولهذا وجدنا علياً في أواخر ايامه متألما الى ابعد حدود الألم، إذ كان يريد من الناس شيئا ويريد الناس منه شيئا آخر، فقد التف الناس حوله في بدء الثورة ثم انفضوا عنه وأخذوا يشنعون عليه اخیراً)). ويقول في نص آخر ((إن عليا كان يدعو الى مبدأ المساواة بن الناس جميعا لا فرق بن شريف ومروف أو بن عربي ومولى. فلا قاد ثورة العرب وأخذ يطبق هذا المبدأ فيهم كرهوه)) يراجع د. عي الوردي، وعاظ الساطين، دار كوفان، لندن، ط 2، 1995، ص 206

المصادر والمراجع

القرآن الكريم أولاً: الكتب:

1. إبراهيم ابو الغار (الدكتور)، علم الاجتماع القانوني والضبط الاجتماعي، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة، 1984.

2. ابن أبي الحديد المعتزلي،شرح نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمي ، بيروت، ط 1، 2004.

3. ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، مكتبة المنار، الأردن، ط 1 - 1988.

4. أبو اسحاق الكوفي، قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام)، مؤسسة أمير المؤمنين، النجف الأشرف، د، ت.

5. أبو الحسن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المجلد (2)، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط 4، 1964.

6. ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، تحقيق د. طه محمد الزيني، ج 1، دار الأندلس، د، ت.

7. أحمد أمين، (الدكتور)، فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 10، 1996.

ص: 239

8. أحمد بن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، مجلد (2) دار بيروت للطباعة والنشر، 1980.

9. أحمد الخشاب (الدكتور)، علم الاجتماع الديني، مكتبة القاهرة الحديثة، ط 3، 1970.

10. أحمد الربيعي (الدكتور)، العذيق النضيد بمصادر ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة، مطبعة العاني، بغداد، 1987.

11. أحمد شلبي (الدكتور)، موسوعة التاريخ الإسلامي، ج 1، مكتبة النهضة المصرية، ط 14 ، 1996.

12. أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات النشر، بيروت، 1972.

13. أحمد ماهر البقري، القيادة وفاعليتها في ضوء الإسلام، مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية، 1987.

14. ارنولد توينبي، الحرب والحضارة، ترجمة، فؤاد أيوب، دار دمشق للطباعة والنشر، د.ت.

15. اعتماد محمد علام (الدكتور) دراسات في علم الاجتماع التنظيمي، مكتبة الانجلو المصرية، ط 1، 1994.

16. الحبيب الجنحاني (الدكتور)، المجتمع العربي الإسلامي، الحياة الاقتصادية والاجتماعية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد سبتمبر (319)، 2005.

17. انتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة: د. فايز الصباغ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2004.

ص: 240

18. براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر، ترجمة:

د. ابو بكر باقادر، دار القلم، بيروت، ط 1، 1987.

19. برتران بادي وبيار بيرنيوم، سوسيولوجيا الدولة، ترجمة: جوزيف عبد الله، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط 1، د. ت.

20. بشير محمد الخضرا، النمط النبوي - الخليفي في القيادة السياسية العربية والديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2005.

21. توفيق السيف، نظرية السلطة في الفقه الشيعي، المركز الثقافي، الدار البيضاء،المغرب، ط 1، 2002.

22. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، شركة المعرفة للنشر والتوزيع المحدودة، بغداد، ط 3، 1990.

23. جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج 4، علي وعصره، دار مكتبة صعصعة، البحرين، ط 1، 2003.

24. جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، مركز الإنماء القومي، بيروت، د.

ت.

25. حسين الدوري وعاصم الاعرجي، مبادئ الإدارة العامة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الجامعة المستنصرية، د. ت.

26. حليم بركات (الدكتور)، المجتمع العربي في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2000.

27. حنفي محمود سلمان (الدكتور)، السلوك التنظيمي والأداء، دار الجامعات المصرية، الاسكندرية، د. ت.

ص: 241

28. خليل أحمد خليل (الدكتور)، المفاهيم الاساسية في علم الاجتماع، دار الطليعة للنشر والتوزيع، بيروت، د. ت.

29. ر.م. ما كيفر وشارلز بيدج، المجتمع، ج 1، ترجمة: علي أحمد عيسى، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، 1974.

30. زكي نجيب محمود (الدكتور)، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، دار الشروق، بيروت، د. ت..

31. السيد علي شتا (الدكتور)، التنظيم الاجتماعي وظاهرة الاغتراب، دار صلاح للطباعة والنشر، السعودية، 1984 32. السيد محمد الحسيني (الدكتور)، النظرية الاجتماعية ودراسة التنظيم، دار المعارف بمصر، ط 5، 1985.

33. السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، الجزء الأول، مؤسسة بقية الله لنشر العلوم الإسلامية، النجف الاشرف، ط 1، 2003.

34. الشيخ ابو محمد الحسن بن علي الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، منشورات المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، ط 1، 1963.

35. الشيخ محمد حسن آل ياسين، نهج البلاغة لمن؟، مطبعة المعارف، بغداد، ط 3، 1976.

36. الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، 1984.

37. الشيخ محمود قانصو العاملي، كتاب علي (عليه السلام)، الجامعة، نشر ذوي القربى، النجف الاشرف، ط 1، 1427 ه.

ص: 242

38. صالح أحمد العلي (الدكتور)، التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري مطبعة المعارف، بغداد، 1953.

39. طه حسين (الدكتور)، الفتنة الكبرى عثمان، طبع دار المعارف بمصر، ط 9، 1976.

40. عباس محمود العقاد، عبقرية الإمام علي، طبع دار المعارف بمصر، ط 5، 1981.

41. عبد الباسط محمد حسن (الدكتور)، اصول البحث الاجتماعي، مكتبة وهبة، مصر، ط 2، 1977.

42. عبد الحليم رضا عبد العال وآخرون، تنظيم المجتمع، نظريات وقضايا، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1986.

43. عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت، دار القلم، ط 1، 1978.

44. عزيز السيد جاسم، علي بن ابي طالب سلطة الحق،مؤسسة الانتشار العربي،بيروت، ط 1، 1997.

45. عطية مصطفى مشرفة (الدكتور)، القضاء في الإسلام، شركة الشرق الأوسط للطباعة، مصر، ط 1، 1966.

46. علي سالم (الدكتور)، البناء على بيار بورديو، سوسيولوجيا الحقل السياسي، منشورات دار النضال، بيروت، ط 1، 1999.

47. علي عبد الرزاق جلبي (الدكتور)، علم اجتماع التنظيم النظرية والتطبيق، دار المعرفة الجامعية، مصر، الاسكندرية، 1997.

ص: 243

48. علي عبد الرزاق (الدكتور) وآخرون، تصميم البحث الاجتماعي بين الاستراتيجية والتنفيذ، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1983.

49. غريب السيد احمد (الدكتور) وآخرون، المدخل الى علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، ط 1، 1996.

50. فاضل الانصاري (الدكتور)، قصة الاستبداد، أنظمة الغلبة في تاريخ المنطقة العربية، منشورات وزارة الثقافة السورية، سوريا، 2004.

51. فرج عبد القادر طه (الدكتور)، علم النفس الصناعي والتنظيمي، دار المعارف، القاهرة، ط 7، 1992.

52. فهمي خليفة الفهداوي (الدكتور)، الإدارة في الإسلام المنهجية والتطبيق والقواعد، دار الميسرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان، الأردن، ط 2، 2001.

53. قباري محمد اسماعيل (الدكتور)، اميل دوركايم، دار المعارف بمصر، ط 1، الاسكندرية، 1976.

54. ، علم الاجتماع الحضري ومشكلات التهجير والتغير والتنمية،منشأة المعارف، الاسكندرية، 1985.

55. ، علم الاجتماع الفرنسي، دار الكتب الجامعية، الاسكندرية، ط 1، 1979.

56. قصي الحسيني (الدكتور)، موسوعة الحضارة العربية، العصر الإسلامي، ج 2، دار مكتبة الهلال، بيروت، ط 1، 2005.

57 . قيس النوري (الدكتور)، التنظيم الاجتماعي والمنظمات رؤى نظرية وسلوكية، جامعة بغداد، 2004.

ص: 244

58. متعب مناف جاسم (الدكتور)، التنظيم الاجتماعي، ثقافة التنظيم وتطبيقاته البيروقراطية، محاضرات ألقيت على طلبة الدكتوراه، قسم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2004 - 2005.

59. -، التنظيم الاجتماعي، السلطة والثوابات والتواصل شكلية التنظيم وفاعلية الاتصال، محاضرات ألقيت على طلبة الدكتوراه، قسم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2004 - 2005.

60. محمد البستاني (الدكتور)، علم الاجتماع في ضوء المنهج الإسلامي، قم، ط 10، 1335 ه. ش.

61. محمد باقر جعفر، قضاء أمير المؤمنين، مطبعة الآداب، النجف الاشرف، 1970.

62. محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، تقديم فضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الجيل، بيروت، د. ت.

63 . محمد بهجت كشك (الدكتور)، مدخل الى تنظيم المجتمع، المكتب الجامعيالحديث، الاسكندرية، 1985.

64. محمد حسن يس ومدني عبد القادر علامي (الدكتوران)، وظائف الادارة، جدة،جامعة الملك عبد العزيز، ط 3، 1977.

65. محمد عابد الجابري (الدكتور)، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1996.

66. ، العقل السياسي العربي، محدداته، تجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 3، 1995.

ص: 245

67. محمد عاطف غيث (الدكتور)، المشاكل الاجتماعية والسلوك المنحرف، دار المعارف، الاسكندرية، 1967.

68. محمد عبد الله العربي (الدكتور)، نظام الحكم في الإسلام، دار الفكر الخرطوم، 1986.

69. محمد علي شهيب (الدكتور)، السلوك الإنساني في التنظيم،دراسات في الفكر الإداري الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1978.

70. محمد علي محمد، علم اجتماع التنظيم، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1986.

71. محمد عمارة، الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، دراسة ووثائق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 1972.

72. محمد عمارة وآخرون، علي بن أبي طالب، نظرة عصرية جديدة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 1974.

73. محمد محمد جاهين، التنظيمات الإدارية في الإسلام، الهيئة المصرية العامةللكتاب، 1984.

74. محمد مهنا العلي، الوجيز في الإدارة العامة، دار السعودية للنشر والتوزيع السعودية، ط 1، 1984.

75. مصطفى الخشاب (الدكتور)، دراسة المجتمع، مكتبة الانجلو المصرية، ط 2، 1972.

76. مصطفى عمر التير، مقدمة في مبادئ وأسس البحث الاجتماعي، دار الجماهير للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، ط 2، 1986.

ص: 246

77. معن خليل عمر (الدكتور)، نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1982.

78. مونتجمري وات، محمد في مكة، ترجمة: د. عبد الرحمن الشيخ وآخرون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002.

79. نبيل محمد صادق (الدكتور)، طريقة تنظيم المجتمع في الخدمة الاجتماعية، مدخل اسلامي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ط 2، 1996.

80 هادي العلوي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، دفاتر النهج ، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، نيقوسيا، قبرص، ط 2، 1999.

81 . هارولد كونتز وسيريل ودويل، مبادئ الإدارة، تحليل للوظائف والمهمات الإدارية، ترجمة: محمود فتحي عمر، ج 2، مكتبة لبنان، ط 1، 1982.

82. هوشيار معروف (الدكتور)، القيادة والتنظيم، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 1، 1992.

ثانياً: القواميس والمعاجم:

1.ابن منظور، لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، ط 3، 1956.

2. احمد فتح الله (الدكتور)، معجم الفاظ الفقه الجعفري، 1405 ه، د. م.

3. دينكن ميشيل، معجم علم الاجتماع، ترجمة د: احسان محمد الحسن، دار الرشيد للطباعة، بغداد. ط 1، 1982.

ص: 247

4. ر. بودون. وف. بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة: د. سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، د. ت.

5. شاكر مصطفى سليم (الدكتور)، قاموس الانثروبولوجيا، جامعة الكويت، ط 1، 1981.

6. عبد الهادي الجوهري (الدكتور)، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979.

7. محمد عاطف غيث (الدكتور)، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1979.

8. نخبة من الأساتذة المصريين والعرب، معجم العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975.

ثالثاً: الاطاريح والرسائل الجامعية:

1. رحيم محمد الساعدي، الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي (عليه السلام)، اطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة بغداد، كلية الآداب، قسم الفلسفة، 2006.

2. صبيح علي عبد الحسين،، دور التنظيم الاجتماعي في بناء المجتمع، دراسة ميدانية في مدينة بغداد، اطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة بغداد، كلية الآداب، قسم الاجتماع، 1996.

3. عبد العظيم عباس نصار، الحسبة في العصر العباسي وقانون ادارة البلديات، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير غير منشورة، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا. بغداد، 2002.

ص: 248

4. عصمة محمد جاسم، الإصلاح الزراعي وأثره على التنظيم الاجتماعي في الريف، دراسة ميدانية لقرية الانتصار، رسالة ماجستير (غير منشورة) جامعة بغداد / كلية الآداب، قسم الاجتماع، 1982.

5. عقيل نوري محمد، أثر القرآن في الفعل الاجتماعي، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة بغداد/كلية الآداب، قسم الاجتماع، 1994.

6. فريدة جاسم داره المندلاوي، البناء البيروقراطي والشخصية، دراسة ميدانية للمؤسسة الاقتصادية، اطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة بغداد / كلية الآداب، قسم الاجتماع، 2003.

7. كامل حسن البصير، رسائل الإمام علي (عليه السلام)، رسالة ماجستير في الأدب العربي، (غير منشورة)، جامعة بغداد / كلية الآداب، قسم اللغة العربية، 1965.

8. ليث شاكر محمود العبيدي، وصايا الخلفاء الراشدين السياسية والإدارية، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة بغداد / كلية الآداب، قسم التاريخ 1996.

9. محمد احمد هربود العيساوي، التنظيمات الإدارية في عصر الرسالة والراشدين، رسالة ماجستير (غير منشورة)، معهد التاريخ العربي والتراث العلميللدراسات العليا. بغداد، 1990.

10. محمد محمد شمس الشهاوي، تقويم الآداء الإداري اجتماعياً، دراسة ميدانية لمدينة بئر العبد بشمال سيناء بجمهورية مصر العربية، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة بغداد / كلية الآداب، قسم الاجتماع، 1993.

11 . ميسون محمد الحسين،الفكر الإبداعي في تراث الإمام علي (عليه السلام) نهج البلاغة أنموذجاً، اطروحة دكتوراه (غير منشورة)، معهد التاريخ العربي

ص: 249

والتراث العلمي للدراسات العليا ، بغداد، 2005.

رابعاً: المجلات والدوريات:

1. حمود العودي (الدكتور)، سوسيولوجيا العلاقة بين النص الشرعي والنص الوضعي في التاريخ والتراث العربي الإسلامي، مجلة دراسات يمنية، العدد (54)، 1997.

2. الشيخ محسن علي المعلم، علي بن أبي طالب إمام الدين والدولة، بحث مقدم الى الندوة العلمية التي عقدها مركز كربلاء للبحوث والدراسات في لندن من 17 - 18 تموز، 1999، ج 1، ط 1، لندن، 2000.

3. صبيح عبد المنعم أحمد (الدكتور)، التنظيم الاجتماعي والبيروقراطية، مجلة البحوث الاقتصادية والإدارية، المجلد الثامن، العدد (4)، تشرين الأول، بغداد، 1980.

4. عبد المالك خلف التميمي، الشك في الوثائق الرسمية، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد (36)، العدد (3)، يناير، 2008.

5. محسن باقر القزويني (الدكتور)، خصائص الإدارة عند الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، مجلة أهل البيت، جامعة أهل البيت، كربلاء، السنة الأولى، 1425 ه 2005 م.

6. محمد عبد الشفيع عيسى (الدكتور)، علي بن أبي طالب قائداً سياسياً، مجلة المنار، العدد (49)، كانون الثاني، القاهرة، 1989.

7. مصطفى جعفر وآخرون، الدين والسياسة / نظريات الحكم في الفكر السياسي الإسلامي، كتاب المنهاج، سلسلة بحوث ثقافية تصدرها مجلة المنهاج التابعة

ص: 250

لمركز الغدير للدراسات الإسلامية، بيروت، ج 10، 2003.

8. نعيم نصير، المنظور الإسلامي لمبادئ التنظيم الإداري، مجلة أبحاث اليرموك، سلسلة الأبحاث الإنسانية والاجتماعية، جامعة اليرموك، أربد، الأردن، المجلد الرابع، العدد (2)، 1988.

ص: 251

المصادر الأجنبية 1- Amiti uetzioni , modern organization , prentice Hall , Engle wood cliffs , New jersey , 1964 2- Dales Beach , Management people At work , Eng ,1779 3- Georges Gurvitch , Sociology of law , London , 1953 4- John J. Macionis , Society the Basics , fifth Edition , printed in the united states of America , 2000.

5- Reihard Bendix , Max Weber , An intellectual portriait , London , 1962 6- Richard T. Schaefer , sociology , ninth Edition , MC Graw Hill , higher Education , 2005.

7- R.Lapiere,Atheory of social control , Newyork،Mc c-raw ,, Hill Book co,1954.

8- Sills، DL, international, Encyclopedia. of societl, scinces, volume ,11, Crowell acmillan , lng , London ، 1968.

ص: 252

المحتويات

الإهداء...7

المقدمة...9

الفصل الاول: الإطار العام للدراسة تمهيد...15

المبحث الأول: الأسس العلمية للدراسة...17

المبحث الثاني: مفاهيم الدراسة واصطلاحاتها...27

المبحث الثالث: تساؤلات الدراسة...41

الفصل الثاني: دراسات سابقة تمهيد...45

المبحث الأول: الدراسات العراقية...47

المبحث الثاني: الدراسات العربية...63

المبحث الثالث: مناقشة الدراسات السابقة...75

الفصل الثالث: التنظيم السياسي في فكر الإمام علي (عليه السلام)، رؤية تحليلية لمسألتي السلطة والقيادة

المبحث الأول: السلطة والقيادة عند الإمام علي - عليه السلام - ...97

المبحث الثاني: عملية تنظيم الدولة وإدارتها وفق رؤية

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)...113

ص: 253

الفصل الرابع: التنظيم الاقتصادي عند الإمام (عليه السلام) رؤية تحليلية لمسألتي الموازنة بين موارد المجتمع واحتياجاته وتقسيم العمل

المبحث الأول: السياسة الاقتصادية / الموازنة بين الموارد والاحتياجات:..139

المبحث الثاني: تقسيم العمل والسلوك التنظيمي في التنظيم الاقتصادي:.165

الفصل الخامس: التنظيم القضائي في فكر الإمام علي (عليه السلام)، رؤية تحليلية لمسألتي قواعد التنظيم القضائي وعملية الضبط الاجتماعي

المبحث الأول: قواعد التنظيم القضائي لدى الإمام (عليه السلام):...189

المبحث الثاني: الممارسة القضائية (التنظيمية) وعملية الضبط الاجتماعي لدى الإمام (عليه السلام)...201

الفصل السادس: مناقشة تساؤلات الدراسة وعرض لأهم نتائجها

أولاً: مناقشة تساؤلات الدراسة:...219

1. التساؤل الأول:...219

3. التساؤل الثالث:...224

4. التساؤل الرابع:...227

5. التساؤل الخامس:...232

ثانياً: نتائج الدراسة:...235

ص: 254

أعلن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام أصحابه قائلاً:

«.... من أراد أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، فليتولى علي بن أبي طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة» المصدر: حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني؛ فرائد السمطين، الحمويني .

ص: 255

بحمدتم الله

ص: 256

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.