مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة البقرة

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ف.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) الآيات المباركة - كما تقدمها - هي في بيان الأحكام و تشريعها حيث شرّع سبحانه و تعالى في هذه الآيات أهم الفرائض التي بني عليها الإسلام، أي: (الصوم) الذي هو مجمع الكمال الفردي و الاجتماعي و الروحي بل الجسماني أيضا.

ص: 5

التفسير

183 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ .

تقدم الكلام في مثل هذا الخطاب، و ذكرنا أنّه مدنيّ نزل بعد تشريع جملة من الشرايع الإلهيّة. و لذة النداء و تخصيصه بالمؤمنين مما يخفف من عناء هذا التكليف في الدنيا و يزيد الثواب في العقبى.

و فيه إشعار: بأنّ العبادة لا تصح إلا مع وصف الإيمان.

و مادة (كتب) تدل على مطلق الثبوت الأعم من الوجوب و الندب، و إنّما يستفاد أحدهما من القرائن، و في المقام يراد به الفرض و الوجوب لقرائن كثيرة كما هو واضح.

و مادة (ص و م) تدل على السكون، و الإمساك، و تستعمل في الجماد و الحيوان و الإنسان، يقال: صام الماء إذا سكن و ركد، و صامت الخيل إذا أمسكت عن السّير و الحركة و الاعتلاف، و منه قول النابغة:

خيل صيام و خيل غير صائمة *** تحت العجاج و أخرى تعلك اللجما

و صام زيد إذا أمسك عن الطعام أو الكلام، قال تعالى حكاية عن ابنة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم - 26] و مثل هذه المادة (ص م ت) إلا أنّها تختص بالجارحة اللسانية.

ص: 6

و بهذا المعنى اللغوي جعلت مورد الاستعمال الشرعي مع زيادة شروط و قيود، كما هو دأب الشارع في جميع موضوعات أحكامه - كالصلاة، و الزكاة، و الحج، و البيع و نحو ذلك. و بذلك لا يخرج عن المصداق اللغوي، و البحث مفصّل في علم (أصول الفقه) فراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

أي: كما ثبت على الأنبياء السابقين و أممهم، منهم من حكى اللّه تعالى في القرآن الكريم، كيحيى و زكريا و مريم، و منهم من لم يحك و لا يستفاد من ذلك تطابق الصوم في هذه الشريعة مع الصوم في الشرايع السابقة من حيث الحدود، و الوقت، و الكيفية، بل التشبيه إنّما هو لبيان أنّكم حضيتم بفضله كما حظي الذين من قبلكم به، و إلا فإنّ الآثار تدل على الاختلاف فيه،

فقد ورد عن الإمام الحسن (عليه السلام) عن جده رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّ الصوم على الأمم كان أكثر مما هو على المسلمين في شهر رمضان، و سيأتي في البحث الروائي مزيد بيان.

و يمكن أن يراد من قبلكم جميع الملل، فإنّ الثابت أنّ الصوم أمر محبوب في جميع الملل حتى الوثنية و هو مشروع فيهم، بل يمكن أن يقال:

إنّ الإمساك عن الطعام في الجملة من لوازم العبودية بالنسبة إلى كل معبود، فإنّ أول قدم الوصول إلى المحبة الحقيقية الإمساك عن جملة من الأمور المادية و التنزه عن المستلذات الجسمانية حتى يليق العبد بالمقامات العالية التي منها

قول اللّه عز و جل: «لخلوق فم الصائم أحب إليّ من ريح المسك»، نعم في هذا الإمساك اختلاف كبير بين الملل و سيأتي في البحث التاريخي تتمة الكلام.

و كيف كان ففي الآية إشارة إلى وحدة أصول المعارف في الأديان الإلهية.

و فيها التسلية للمؤمنين و تطييب أنفسهم لتحمّل هذا التكليف و الترغيب في الصوم.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .

تعليل لثبوت الصوم، و ذكر أهم غايات جعله أي: فرض عليكم الصوم لتتقوا.

ص: 7

و إنّما أبدلت بلعلّ لبيان أنّ التقوى أمر اختياري للإنسان، لأنّ الصيام إنّما يعدّ نفوس الصائمين لتقوى اللّه، و للإشعار بأنّ المرجو من هذا التكليف و سائر التكاليف الإلهية هو التقوى.

و فيه من البشارة بأنّ الصوم يوجب الوصول إلى مقام المتقين الذي هو من مقامات الصدّيقين، و هو من أقرب المقامات إلى حريم كبرياء ربّ العالمين.

و السر في ذلك واضح، فإنّ الصوم من أقوى الوسائل في كفّ النفس عن الشهوات، و البعد عن التشبه بالحيوان، و القرب إلى ذروة مقام الإنسان، و به يتهيّأ إلى القيام بالطاعات لا سيما إذا اقترن الإمساك الظاهري بإمساك القلب عما لا يليق بمقام الربّ، و لذلك كان

«الصوم نصف الصبر» كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و بالصبر و الاصطبار يستعد الإنسان لنيل الكمال و السعادة.

و ذكر كلمة «لعل» في المقام و نظائره - مع امتناع حقيقة الترجي بالنسبة إليه تعالى، لأنّه من صفات الممكن الناقص، و لا يعقل النقص بالنسبة إليه جلّ شأنه - إما لأجل حال المخاطبين، أو بداعي محبوبية التقوى لديه تعالى، أو لأجل بيان أنّها أمر اختياري، كما ذكرنا.

184 - قوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ .

مادة (ع د د) تأتي بمعني جمع الآحاد، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا [مريم - 94] و قال تعالى:

وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ [الإسراء - 12] و قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [النحل - 18].

و لفظتا «معدودات» و «معدودة» لم تستعملا في القرآن الكريم إلا صفة للأيام قال تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة - 203] و قال تعالى:

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ [آل عمران - 24] و قد ورد في قوله تعالى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف - 20] و لكنه كناية عن القلة.

و يمكن أن يراد بها في المقام القلّة أيضا أو عدم التغيير و التبديل إلى الأبد،

ص: 8

و قد بين العدد و محله في قوله تعالى بعد ذلك شَهْرُ رَمَضانَ [سورة البقرة - الآية 185].

و في الآية رد على ما وقع من التغيير و التبديل في صوم أهل الكتاب بواسطة رؤسائهم.

قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً .

المرض: هو الخروج عن الاعتدال سواء كان في الجسم، كما في قوله تعالى:

وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح - 17]. أو في القلب و الروح، كما في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب - 60]. و الأخير أشد من الأول بمراتب كثيرة، و ما بعث الأنبياء و لا أنزلت الكتب الإلهية إلا لمعالجة الأمراض النفسانية التي تكون في علاجها الحياة الأبدية.

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ .

عطف على قوله تعالى: مَرِيضاً و مادة (سفر) تأتي بمعنى الكشف في جميع استعمالاتها، و سمي السّفر سفرا، لأنّ فيه يكشف عن أخلاق القوم، أو يكشف عن خصوصيات الأمكنة.

و سميت الكتب العلمية أسفارا لأنّها تكشف عن الحقائق. و سميت الكرام البررة: سفرة، لأنّهم يكشفون أحكام اللّه تعالى،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «مثل الماهر بالقرآن مثل السّفرة» أي: المزاول للقرآن مثل الملائكة السّفرة فكما أنّها تبين الشيء كذلك الماهر يبين القرآن و يوضحه. و تسمى سفرة الطعام لأنّها تكشف عن الطعام و ألوانه.

و لم تذكر هيئة (سفر) في القرآن الكريم إلا في ضمن موارد جميعها مقرونة ب - (على)، و فيه إشارة إلى اعتبار التلبس الفعلي بالسفر.

و تستعمل لفظة السفر في الجواهر. و أما الأعراض فتستعمل فيها لفظة «أسفر» قال تعالى: وَ اَلصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر - 34]، و قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ [عبس - 38]. و مسافر مفرد جمعه سفر، كراكب و ركب أو صاحب و صحب

قال علي عليه السلام: «إنّما مثلكم و مثل الدنيا كسفر».

و المراد من السّفر في المقام ما بينته السنة المقدسة حدودا و شروطا و إلا فليس

ص: 9

كلّ سفر موجبا لسقوط الصوم.

قوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ .

عدّة بالرفع على أنّه خبر، و التقدير - كما يدل عليه سياق الآية - كتب عليه صوم عدة أيام أخر، و هذا هو الذي اصطلح عليه الشرع بالقضاء.

و عدّة فعلة من العد، و هي بمعنى المعدود أي: عليه أيام معدودات مكان الأيام المعدودة التي فاتته بسبب المرض أو السفر.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ .

مادة (طوق) تدل على ما يحيط بالعنق إما خلقة، كطوق الحمامة، أو صفة كالقلادة، و الطوق من الذهب، أو جزاء في الآخرة، كقوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [آل عمران - 180]. و تطلق على ما يعمله الإنسان بمشقة،

و في الحديث: «كل امرء مجاهد بطوقه» فيكون معنى قوله تعالى: يُطِيقُونَهُ :

و على الذين يصومون بمشقة، و يكون إتيانهم للصيام جهد طاقتهم، و قد فسر في الأحاديث بالشيوخ و الضعفاء و ذي العطاش، و يأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك.

و الآية المباركة ليست منسوخة بشيء كما نسب إلى جمع إذ لا دليل عليه إلا أن يراد من النسخ غير معناه الاصطلاحي كما هو كثير في كلام المتقدمين.

و مادة (فدي) تأتي بمعنى العوض و البدل فإن كان المبدل منه إنسانا يسمى (فداء) بكسر الفاء و المد، أو (فدى) بالفتح و القصر، و إن كان عبادة مركبة تسمى (فدية) مثل كفارة اليمين و الصوم، و كفارات الإحرام. و قد ورد الاستعمالان في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً [سورة محمد - 4]، و قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الحديد - 15]، و قال تعالى:

يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج - 11]، و قال جلّ شأنه:

وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات - 107].

و اصطلح في السنة المقدسة على بدل الصوم إذا ترك لعذر الفدية و إذا ترك عمدا و بلا عذر مقبول فالجزاء الكفارة، و عليه اصطلاح فقهاء الفريقين، و قد يطلق أحدهما على الآخر.

ص: 10

و يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ القدرة الحاصلة في التكاليف الشرعية على قسمين:

الأول: القدرة العرفية التي هي المناط في جميع التكاليف الإلهية المستفادة من قوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج - 78] و قوله تعالى:

يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [البقرة - 185]،

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «بعثت بالشريعة السهلة السمحاء»،

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «الدين يسر».

الثاني: القدرة العقلية التي تجتمع مع الحرج و المشقة بل حتى مع العذر أيضا، و هي ليست مناط التكاليف الإلهية الثابتة لعامة الناس.

و بناء على ذلك إنّ الصوم كتب على من يقدر عليه بالقدرة الشرعية مع عدم عسر و حرج، و أما من تمكن منه بالقدرة العقلية أي: مع المشقة و الجهد، فيتبدل تكليفه إلى الفدية.

و قرئ (يطوقونه) أي يتجشمونه و يتكلفونه، و رويت هذه القراءة عن جملة من الصحابة و التابعين.

قوله تعالى: طَعامُ مِسْكِينٍ .

بيان للفدية في اليوم، و قدّر في الروايات - كمية - بمد، و هو سبعمائة و خمسون غراما، و - كيفية - بكل ما يأكله الإنسان لإشباعه من الجوع.

و المسكين هنا مطلق الفقير، لما تعارف بين العلماء من أنّ الفقير و المسكين كالظرف و الجار و المجرور إذا اجتمعا افترقا، و إذا افترقا اجتمعا، و لم يجتمعا في القرآن الكريم إلا في مورد واحد و هو قوله تعالى: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة - 60].

قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ .

الظاهر أنّه راجع إلى كيفية الطعام و كميته زائدا على أصل الإطعام. و أما رجوعه إلى أصل الصوم و إثبات استحبابه بعد سقوط تشريعه بالنسبة إلى المسافر

ص: 11

و المريض، فإنّه يحتاج إلى دليل خاص و هو مفقود، بل الأدلة على خلافه، و يحتمل رجوعه إلى أصل الصيام لا الصيام الساقط عن المريض و المسافر إلاّ بعنوان القضاء و هو خارج عن مدلول اللفظ و داخل في قوله تعالى: أَيّامٍ أُخَرَ .

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

عدل إلى الفعل للترغيب في إتيانه، و للإعلام بصدوره من الفاعل، و الجملة مركبة من المبتدأ و الخبر أي: و الصيام خير لكم إن كنتم تعلمون بأنّ التكاليف الإلهية ألطاف من اللّه تعالى لعبيده، و أنّ الطاعة هي السبب في سعادة الإنسان، و أنّ الصوم فيه فضل كبير، و فوائد كثيرة للناس و أنّه لمصلحة المكلفين.

ص: 12

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ العامل في أياما هو «الصيام» الذي يكفي في العمل في الظرف من دون حاجة إلى التقدير، أو النصب لأجل التعظيم و التوقير، فإنّ النصب أعظم شأنا من غيره من الإعراب.

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ عطف على قوله تعالى «مريضا» و ما هو المشهور في العلوم الأدبية من أنّ الظرف لا يعطف على الاسم موهون - بأنّه على فرض تسليمه - إنّما هو فيما إذا لم يكن الظرف بمعنى الاسم و إلا فلا محذور فيه، و المقام من هذا القسم أي مريضا أو مسافرا، فعطف الاسم على الاسم.

قوله تعالى: فَعِدَّةٌ بالرفع على أنّه خبر لمحذوف أي كتب عليه صوم، أو فالواجب عليه صوم عدة أيام أخر.

و قرئ بالنصب بمعنى فليصم عدّة أيام أخر، و هذا على سبيل الرخصة.

و لكنه موهون بأنّ القراءة المتداولة و الموجود في المصاحف الشريفة: الرفع.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ جملة مركبة من المبتدأ - و هو المصدر المؤول من (أن تصوموا) - و الخبر، ذكر فيها الفعل للترغيب في إتيانه و للإعلام بصدوره من الفاعل كما مر.

و قرأ أهل المدينة و الشام «فدية طعام» مضافا إلى «مساكين» جمعا، و الباقون

ص: 13

فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ بالإفراد لبيان أنّ لكلّ يوم إطعاما واحدا.

ثم إنه قد ذكر الخليل و تبعه الأدباء أنّ لفظ «على» يأتي بمعنى الاستعلاء إما حقيقة أو اعتبارا، و لكن يستعمل في عدة معان أخر:

منها: الحال أو الحالة، نحو قوله تعالى: عَلى سَفَرٍ في جملة من الآيات الشريفة.

و منها: المصاحبة، كقوله تعالى: وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة - 37]. أي مع حبه، و قوله تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد - 6]. أي مع ظلمهم.

و منها: معنى الباء، كقوله تعالى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ [الأعراف - 105] إلى غير ذلك مما فصلوه و ظاهرهم جعل الكلمة من متعدد المعنى، و لها نظائر كثيرة في كلماتهم.

و لكنه ممنوع لأنّ هذه المعاني إنّما تستفاد من (على) بالقرائن الداخلية أو الخارجية، و إلا فهو مستعمل في جميع ذلك في ذات الاستعلاء و لو اعتبارا و ما ذكروه من المعاني يستفاد من جهات أخرى فيكون من باب تعدد الدال و المدلول لا من تعدد ذات المعنى.

ص: 14

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: قد تكرر التأكيد على الصوم بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، و قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ و قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و ذلك للترغيب في هذه العبادة أي الصوم لما فيه من الفضل العظيم و الثواب الجزيل - الذي عد منه أنّه

«جنّة من النار» - و الفوائد الجمة، و لما فيه من الإمساك عن الشهوات النفسانية فيحصل الشبه بين الصائم و الروحانيين و إنّه من أقوى الروابط بين العابد و المعبود.

الثاني: إنّ في قوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ من التلطّف و العناية، و إسقاط كلفة الصيام ما لا يخفى.

الثالث: إنّ في ترتب التقوى على الصوم بشارة عظيمة للصائمين، لأنّ التقوى من أقرب وسائل القرب إلى اللّه تعالى و أقوى الزواجر عن إطاعة الشيطان، و فيه من البشارة إلى الوصول إلى مقام المتقين الذي هو من مقامات الصدّيقين.

الرابع: تدل الآية الشريفة على أنّ المكلّفين بالنسبة إلى الصيام على حالات ثلاث:

ص: 15

الأولى: المقيم الصحيح القادر فيجب عليه الصوم و لا يجوز له تركه بوجه.

الثانية: المسافر أو المريض الذي لا يمكنه الصوم - إما لأجل أنّ الصوم يزيده ضررا أو يبطئ برءه - فيجب عليهما الإفطار مع وجوب القضاء بعد البرء و الحضر، إلا أنّ الفدية تختص بالمريض غير المتمكن من القضاء دون المسافر على تفصيل مذكور في الفقه.

الثالثة: الشخص الذي يقدر على الصوم مع المشقة و غاية الجهد كالشيخ و الشيخة و ذي العطاش و نحو ذلك يجب عليه الفدية عن كل يوم بمد على ما مر، و الأحكام مفصلة في الفقه.

الخامس: إنّ قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يدل على محبوبية الصيام و الترغيب إليه، و رفع الكلفة في الإمساك.

و قيل: إنّه يرجع إلى من رخص له بالفدية، فيكون تكليف من يطيق الصوم و يبلغه غاية جهده أنّ الصوم خير له من الفدية.

و يرد عليه: أنّ سياق الآية يدل على أنّ الجملة راجعة إلى من خوطب بأصل الصيام و من كتب عليه، و يؤكد ذلك أنّ الخطاب في من عليه الفدية إنّما هو بلفظ الغيبة، مضافا إلى ذلك أنّه لا يناسب التأكيد بقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مع أنّ التكليف بالنسبة إليه إنما هو الفدية بدلا عن الصوم فلا يصح إرجاع الجملة إلى ما ذكروه.

ص: 16

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة الأحكام الشرعية التالية:

الأول: وجوب الصوم في أيام معدودات، و هي: شهر رمضان كما ذكره تبارك و تعالى في الآية التالية، فالآية الشريفة من المبينات، و ليست هي منسوخة، و ما ذكر في ذلك واضح البطلان.

الثاني: المرض الموجب للإفطار ليس المراد منه كلّ مرض، كما هو ظاهر الإطلاق، بل سياق الآية المباركة يدل على أنّه المرض الذي يخاف فيه الشخص على نفسه من زيادته أو بطء برئه، كما فصّل في السنة المقدسة.

الثالث: تدل الآية المباركة على أنّ السفر موجب للإفطار و قد حددته السنة بحدود و شروط مذكورة في الفقه مفصّلا.

و قال بعض: إنّ قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ راجع إلى الصيام في السفر، فقالوا بأفضلية الصوم للمسافر.

و يرد عليه: ما ذكرناه آنفا مع منافاته للروايات الكثيرة الدالة على عدم الصوم في السفر،

فقد روى أحمد بن حنبل، و البخاري، و مسلم، و أبو داود، و النسائي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ليس من البر الصيام في السفر».

و رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر عنه (صلّى اللّه عليه و آله). و رواه

ص: 17

غيره عن كعب بن عاصم الأشعري عنه (صلّى اللّه عليه و آله).

و روى ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» و رواه النسائي عن عبد الرحمن موقوفا.

و روى عبد الرزاق في جامعه عن ابن عمر عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

«إنّ اللّه تصدّق بإفطار الصائم على مرضى أمتي و مسافريهم أ يحب أحدكم أن يتصدّق على أحد بصدقة ثم يظل يردها».

و رواه الديلمي في الفردوس، و بمضمونه ورد في أحاديثنا عن أئمتنا الهداة (عليهم السلام).

و روى مسلم و النسائي و الترمذي عن جابر قال: «خرج رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم (و هو واد أمام عسفان) و صام الناس معه، فقيل له: إنّ الناس قد شق عليهم الصيام، و إنّ الناس ينظرون في ما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب و الناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم و صام بعضهم، فبلغه أنّ أناسا صاموا، فقال (صلّى اللّه عليه و آله):

«أولئك العصاة». و روي ذلك في الكافي و الفقيه عن الصادق (عليه السلام) أيضا.

و أخرج أحمد و الأربعة و جماعة عن أنس الكعبي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): أنّه دعاه إلى الطعام فاعتذر بالصيام، فقال له (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة و الصيام». و أخرج قريبا منه النسائي عن عمر ابن أمية الضمري عنه (صلّى اللّه عليه و آله).

و روى البيهقي في المعرفة عن سعيد بن المسيب، و المتقي الهندي في كنز العمال عن الشافعي مرسلا عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة و أفطروا». و رواه في الكافي و الفقيه عن الباقر (عليه السلام).

ص: 18

و أما الروايات عند الإمامية في وجوب الإفطار في السفر، فهي متواترة، و عليه إجماعهم بل عدّ من ضروريات مذهبهم، و لأجل تلك الروايات ذهب كبار الصحابة إلى أنّ الصائم في السفر عليه الإعادة.

و مع ذلك ذهب قوم إلى التخيير و أنّ من صام في السفر فقد أدّى فرضه، و من أفطر وجب عليه القضاء، و بذلك مضت السنة العملية و استدلوا

بما رواه أحمد و مسلم و أبو داود عن عائشة أنّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ أصوم في السفر و كان كثير الصيام؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إن شئت فصم و إن شئت فأفطر».

و في مسلم أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) أجابه بقوله: «هي رخصة من اللّه فمن أخذ بها فحسن و من أحب أن يصوم فلا جناح عليه».

و الكل مردود إذ السنة العملية غير ثابتة، و الحديث ظاهر في الصوم المندوب لا الواجب، و على فرضه فهو معارض بالروايات المتقدمة و إجماع أهل البيت، مضافا إلى أنّ الروايات الدالة على التخيير أو الرخصة في الصوم في السفر - مع غض النظر عن الأسانيد - لا يعلم ورودها بعد نزول آية الصوم و تحريمه في السفر، و عليه فلا يبقى مجال للقول بأنّ الإفطار أفضل إن كان في الصوم مشقة و الصوم أفضل مع عدمها. و التفصيل بأكثر من ذلك يطلب من السنة.

الرابع: إطلاق الآية الشريفة يدل على أنّ السفر موجب للإفطار سواء كان السفر قصيرا أم طويلا، و سواء كان فيه المشقة أم لا إذا توفرت الشروط كما هو مفصّل في الفقه.

الخامس: تدل الآية الكريمة على أنّ من كان يقدر على الصوم مع الإطاقة و بلوغ الجهد - غير المسافر و المريض و الصحيح القادر على الصوم بدون مشقة - يجب عليه الإفطار و الفدية على تفصيل ذكرناه في الفقه.

السادس: الآية المباركة تدل على أنّ المسافر إذا حضر، و المريض إذا برىء يجب عليه القضاء.

السابع: ظاهر سياق الآية الشريفة هو السفر الاتفاقي، لا الدوام به فإنّه

ص: 19

حينئذ لا يوجب الترخيص في ترك الصوم كما هو مفصل في كتابنا [مهذب الأحكام].

الثامن: المراد من الطعام الوارد في الآية المباركة هو مطلق ما يطعم و يرفع جوع المسكين، و لا اختصاص له بالبرّ، كما عن بعض، و لو كان وجه اختصاص فهو من باب الغالب كما هو مذكور في محلّه.

ص: 20

بحث روائي

في العلل و المحاسن عن علي (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في جواب مسائل اليهودي قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب اللّه له سبع خصال: أولها - يذوب الحرام في جسده. و الثانية - يقرب من رحمة اللّه. و الثالثة - يكون قد كفّر خطيئة أبيه آدم.

و الرابعة - يهون عليه سكرات الموت. و الخامسة - أمان من الجوع و العطش يوم القيامة. و السادسة - دخول الجنة و براءة من النار. و السابعة - يطعمه من ثمرات الجنة».

أقول: في هذا السياق روايات كثيرة من الفريقين، و اقتضاء الصوم لهذه الأمور إذا كان للّه تعالى مع شرائطه المقررة في الشريعة مما لا ريب فيه، لأنّه رياضة نفسانية و يزيل الشهوات الحيوانية. و يمكن أن يكون ترتب هذه الأمور عليه في بعض النفوس من قبيل ترتب المعلول على العلّة التامة. و لا ريب في تحقق السنخية بين الصوم و هذه الأمور.

في الحديث القدسي قال اللّه تعالى: «الصوم لي و أنا أجزي به».

أقول: أما كون الصوم للّه تعالى فلأنّه أمر قلبي ليس من فعل الجوارح فلا يطّلع عليه غيره تعالى، فيكون الخلوص فيه أكثر من سائر العبادات.

و أما

قوله: «و أنا اجزي به» فهو كناية عن كمال الجزاء و عدم حصر له و عدم

ص: 21

اطلاع أحد عليه، فيكون المقام نظير قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة - 17]، هذا إذا قرئ بصيغة المعلوم. و أما إذا قرئ بصيغة المجهول - أي أنّه تعالى بذاته الأقدس يكون جزاء لهذا العمل - فيكون كناية عن قرب الصائم إلى ربه تعالى بحيث لا يمكن تحديده بحد.

في تفسير العياشي عن جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ - و يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ .

قال (عليه السلام): «هذه كلّها يجمع الضلاّل و المنافقين، و كل من أقر بالدعوة الظاهرة».

أقول: لا اختصاص لذلك بخصوص الصوم بل يشمل كل من جمع شرائط التكليف، كما في سائر التكاليف الإلهية.

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ قال: «هي للمؤمنين خاصة».

أقول: يمكن أن يحمل بحسب مراتب القبول لا بحسب أصل التكليف كما في سائر التكاليف الإلهية. إن كان المراد بالمؤمنين طائفة خاصة، و إلا فالحديث يكون مثل سابقه.

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ . قال: «أول ما فرض اللّه تعالى الصوم لم يفرضه في شهر رمضان على الأنبياء، و لم يفرضه على الأمم فلما بعث اللّه نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) خصه بفضل شهر رمضان هو و أمته، و كان الصوم قبل أن ينزل شهر رمضان يصوم الناس أياما».

أقول: قريب منه في الفقيه عن حفص بن غياث النخعي. و الحديثان بظاهرهما مخالفان للآية الشريفة. و مخالفان للروايات الدالة على أنّ الصيام كان مكتوبا على الأنبياء السابقين و أممهم، و أنّ الأنبياء كانوا يصومون شهر رمضان.

و يمكن حملهما على أنّ التفضيل بالنسبة إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) باعتبار

ص: 22

إيجابه في شهر رمضان خاصة دون سائر الأمم فإنّ صوم الأنبياء في هذا الشهر كان أعم من الإيجاب عليهم.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر. و يفطر حتى يقال: ما يصوم، ثم ترك ذلك و صام يوما و أفطر يوما، و هو صوم داوود، ثم ترك ذلك و صام الثلاثة الأيام الغر، ثم ترك ذلك و فرقها في كل عشرة خميسين بينهما أربعاء، فقبض (صلّى اللّه عليه و آله) و هو يعمل ذلك».

أقول: هذا وارد في صوم التطوّع.

في الكافي أيضا عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام): «فأما صوم السّفر و المرض فإنّ العامة قد اختلفت في ذلك، فقال قوم: يصوم، و قال آخرون: لا يصوم، و قال قوم: إن شاء صام و إن شاء أفطر. و أما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا، فإن صام في السّفر، أو في حال المرض فعليه القضاء فإنّ اللّه عز و جل يقول: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ».

أقول: تدل عليه روايات متواترة عندنا، و إجماع الإمامية و قد تقدم عدم صلاحية ما ذكروه لثبوت الصّوم في الحالتين أو التخيير فراجع.

العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لم يكن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يصوم في السّفر تطوّعا و لا فريضة يكذبون على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) نزلت هذه الآية فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ بكراع الغميم عند صلاة الفجر، فدعا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بإناء فشرب و أمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: قد توجه النهار و لو صمنا يومنا هذا، فسماهم رسول اللّه العصاة، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: وردت روايات أخرى قريبة منها عن طرق العامة أيضا.

و في تفسير العياشي أيضا عن الصباح بن سيابة عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ ابن أبي يعفور أمرني أن أسألك عن مسائل فقال (عليه السلام): و ما

ص: 23

هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان و أنا في منزلي أ لي أن أسافر؟ قال (عليه السلام): إنّ اللّه يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فمن دخل عليه شهر رمضان و هو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو طلب مال يخاف تلفه».

أقول: لا بد من حمله على الكراهة جمعا بينه و بين الأخبار الدالة على الجواز.

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار؟ كما يجب عليه في السّفر في قوله تعالى:

وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ . قال (عليه السلام): هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفا فليفطر و إن وجد قوة فليصم كان المريض على ما كان».

أقول: و يدل عليه روايات أخر شارحة لقوله تعالى: بَلِ اَلْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة - 14].

و في رواية أخرى عنه (عليه السلام): «ما حد المرض الذي يفطر فيه الرجل و يدع الصلاة من قيام؟ قال (عليه السلام): بل الإنسان على نفسه بصيرة و هو أعلم بما يطيقه».

أقول: يستفاد من مثل هذه الروايات أنّ موضوعات الأحكام موكولة إلى العرف ما لم يحدها الشارع بحد معين.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله اللّه عز و جل: وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال (عليه السلام): «الشيخ الكبير و الذي يأخذه العطاش».

في الفقيه عن ابن بكير قال: «سألته عن قول اللّه عز و جل: وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ . قال (عليه السلام): «الذين كانوا يطيقون الصوم، ثم أصابهم كبر، أو عطاش، أو شبه ذلك فعليهم لكل يوم مد».

أقول: هذه الروايات قرينة على ما ذكرنا سابقا من أنّ المراد بالقدرة على الصوم القدرة المتعارفة لا القدرة العقلية.

ص: 24

بحث تاريخي

تقدم أنّ الصوم من أهمّ الوسائل التي يلتمس بها العبد التقرب إلى خالقه، و أعظم السبل في تحلية النفس بالفضائل و تخليتها عن الرذائل و أنّه أول ما يمكن أن يصدر من الحبيب في لقاء حبيبه بالتنزه عما تشتهيه النفس من المستلذات، فهو من الخير الذي أمرنا اللّه تعالى بالاستباق إليه و لأجل ذلك و غيره مما هو كثير كتبه اللّه على الأمم السابقة، بل هو محبوب لدى جميع الأمم حتى الوثنية منها فلم يخل منه دين من الأديان سواء السماوية منها أم الوضعية، فقد يظهر من بعض الروايات أنّ المجوس كان لهم صوم، و أنّ الصيامية نحلة منهم تجردوا للعبادة و أمسكوا عن الطيبات من الرزق، و عن النكاح و الذبح على ما هو المقرر عندهم و توجهوا في عبادتهم للنيران.

و أما اليهود فالصوم عندهم هو الإمساك عن الأكل و الشرب و لم يفرض عليهم إلا صوم يوم واحد، كما ورد في عهد [اللاويين 29/16] و كان اليهود يصومون بعد ذلك أياما في مناسبات. و كانوا في ذلك اليوم يلبسون المسوح، و ينثرون الرماد على رؤوسهم، و يصرخون و يتضرعون و يتركون أيديهم غير مغسولة إلى غير ذلك من العقائد التي كانت عندهم في الصوم، و كان اليوم هو يوم التكفير أي: اليوم العاشر من الشهر السابع، كما في سفر اللاويين، و فيه يحاول اليهودي التشبه بالملاك، و هذا اليوم يسبق بتسعة أيام تسمى ب (أيام التوبة) حيث يطهرون خلالها تطهيرا يكفل لهم النقاء في خلال العام القادم، و الصوم عندهم يكون من

ص: 25

غروب الشمس إلى مساء اليوم التالي.

و في غير ذلك يصومون تذكارا للرزايا التي وردت عليهم فخصصوا أربعة أيام للصوم حزنا بعد خراب الهيكل الأول، و هي اليوم التاسع من الشهر الرابع من كل سنة، و هو يوم استيلاء الكلدان على القدس. و اليوم العاشر من الشهر الخامس، و هو يوم احتراق الهيكل و المدينة. و اليوم الثالث من الشهر السابع، و هو يوم استباحة نبوخذ نصّر لاورشليم قتلا و نهبا. و اليوم العاشر من الشهر العاشر، و هو يوم ابتداء حصار القدس.

و أما النصارى - على اختلاف مذاهبهم - فهم متفقون على وجوب الصوم في الجملة فقد ورد في إنجيل [متى 6 ر 16] «و متى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنّهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، الحق أقول لكم إنّهم قد استوفوا أجرهم، و أما أنت فمتى صمت فادهن رأسك و اغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما». و قد نسب إلى السيد المسيح أنّه صام أربعين يوما بلياليها.

و الصوم عندهم مفروض في أزمنة معينة خاصة و إن اختلفوا في قواعده فإنّه عند أكثرهم الانقطاع عن المأكل من نصف الليل إلى الظهر، فالكاثوليك منهم الصيام عندهم كثير و شديد، و هو عندهم: الإمساك عن الطعام و الشراب يومهم و ليلهم و لا يأكلون إلا قرب المساء، و إذا أفطروا لا يشربون خمرا، و لا يتأنقون في المأكل، و الفرض عندهم هو الصوم الكبير السابق لعيد الفصح و ما سواه فهو نفل، و هو كثير كصوم يوم الأربعاء تذكارا للحكم على السيد المسيح و يوم الجمعة يوم صلبه، و كذا صوم الأيام الأربعة السابقة للميلاد و عيد انتقال العذراء، و عيد جميع القديسين، هذا ما كان عليه الكاثوليك أول الأمر و لكن جرت تغييرات في فروض الصوم حتى صار صوم كثير من الأيام السابقة فرضا، و من ذلك وجوب الصوم و الانقطاع عن اللحم يوم الجمعة ما لم يقع يوم عيد، و أضيف إليه يوم السبت أيضا. و من ذلك صوم البارامون أي: صوم الاستعداد للاحتفال بالأعياد الكبرى.

و أما الروم الآثوذكس فأيام الصيام عندهم أكثر، و قوانينهم أشد، و أهمها

ص: 26

أربعة أولها: الصوم السابق لعيد الفصح. الثاني: من العنصرة إلى آخر حزيران.

الثالث: خمسة عشر يوما قبل انتقال العذراء. الرابع: أربعون يوما قبل الميلاد.

و أما الأرمن و القبط و النساطرة فهم أشد الملل النصرانية في الصوم و أكثرها صوما، و هو عندهم إجباري لا يجري فيه من التساهل ما يجري عند غيرهم، فإنّ الأرمن يصومون الأربعاء و الجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منهما بين الفصح و الصعود، و لهم أيضا عشرة أسابيع يصومونها كل سنة. و بالجملة إنّ الصّوم عندهم يذهب بنصف السنة.

و أما البروتستانت فالصوم عندهم سنة حسنة لا فرض واجب، و هو عندهم الإمساك عن الطعام مطلقا بخلاف سائر الطوائف المسيحية فإنّ الصوم عندهم الانقطاع عن بعض المآكل كما عرفت.

و الصوم عند المسلمين هو الإمساك عن الأكل و الشرب و غيرهما من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، و فيه من الشروط و الآداب و الأحكام ما لم يكن لغيرهم، و لذا يفسده عندهم ما لا يفسده عند غيرهم.

و أما الفرض عندهم هو شهر رمضان، و غيره نفل يعم السنة إلا ما كان محرما كصوم يومي العيدين، و له أحكام كثيرة عندهم فلتراجع الكتب الفقهية.

و أما الصوم عند غير الأديان الإلهية، فالمصريون القدماء كانوا يصومون تعبدا لا يزيس و اليونان لذيميتيز - آلهة الزراعة - و كذا إذا أراد أحدهم أن ينخرط في زمرة المطلعين على أسرار كيبلي استعد لذلك بصوم عشرة أيام.

و أما الرومان فقد كانوا أكثر صوما من اليونان، و لهم أيام معلومة يصومونها كل عام تعبدا لزفس و سيريس، و إن ألمّت بهم حادثة صاموا استعطافا لمعبوداتهم.

و أما الهنود فقد فاقوا جميع الأمم بالصيام حتى إنّهم يقضون أياما لا يأكلون و لا يشربون و يألفونه صغارا فلا يوهن قواهم كثرته كبارا.

ص: 27

شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.......

اشارة

شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الآيات مرتبطة بعضها مع بعض ذات نسق منظّم و أدب رفيع و أسلوب رائق في بيان حكم إلهيّ ألقاه عز و جل متدرّجا ليأنس به الطبع، فبيّن سبحانه مدّة الصيام و أنّها قليلة و لكنّها عظيمة بسبب نزول القرآن الفاصل بين الحق و الباطل فيها، و وضع الصيام عن المرضى و المسافرين و قد أخبر سبحانه و تعالى أنّه يريد اليسر للإنسان في تكاليفه و لم ينزّل الأحكام الشرعية لتعسيره ثم بيّن بعض الغايات لهذا التكليف العظيم.

ص: 28

التفسير

185 - قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ .

جملة مستأنفة. بيان للأيام المعدودات. مرفوعة على الابتداء، و الخبر «الذي أنزل».

و مادة (شهر) تأتي بمعنى الظهور، و سمي الشهر شهرا لظهوره، و هو جزء من اثني عشر جزء التي تحصل من دوران الأرض حول الشمس سواء عدت بالأهلة أو بغيرها، و جمعه في القلة أشهر، و في الكثرة: شهور.

و قد ورد في القرآن الكريم مفردا و جمعا في موارد كثيرة، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ [المائدة - 2] و قال تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة - 192]، و قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّهِ [التوبة - 36]. و تحديد الزمان بالأشهر قديم جدا يأتي في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ [البقرة - 189] البحث في ذلك.

و رمضان مأخوذ من [رمض] و هو شدة وقع الشمس على الرمل و غيره، و يقال رمض الصائم يرمض إذا حرّ جوفه من شدة العطش، و الرمضاء: الحجارة الحارة، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أي: وقت نافلة الظهر هو أن تحمى الرمضاء فتبرك الفصال من شدة

ص: 29

حرها و إحراقها أخفافها.

و عن جمع من اللغويين أنّ هيئة فعلان - بفتح الأول و الثاني - يراعى فيها الاضطراب و الحركة في الجملة، كالخفقان و اللّمعان، و السّيلان و نحوهما، و قد ادعى الكلية في ذلك.

سمي هذا الشهر بهذا الاسم، لأنّ حدوث هذه التسمية كان في شدة الحر، فإنّهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة عدوها بالأزمنة التي وقعت فيها، أو لأنّه يحرق الذنوب و يسقطها عن الصائمين

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنّما سمي رمضان لأنّه يرمض ذنوب عباد اللّه»، أو إنّه مأخوذ من الرمضاء - بسكون الميم - و هو مطر يأتي قبل الخريف يطهّر وجه الأرض عن الغبار، كما نقل عن الخليل، فكذلك شهر رمضان يطهّر قلوب هذه الأمة عن الخطايا و الرذائل.

و هو ممنوع من الصرف للتعريف، و النون الزائدة، و لم ترد هذه المادة في القرآن الكريم إلا في هذا المورد.

و في بعض الأخبار أنّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى

فعن أبي جعفر الباقر (عليهما السلام): «لا تقولوا جاء رمضان و ذهب رمضان، فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه»، و قد روي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) مثله كما في كنز العمال. و لعل الوجه فيه أنّه عز و جل يسقط ذنوب عباده و يغفر لمن يشاء، و يشهد له ما في بعض الآثار أنّه شهر اللّه تعالى، و لذا من الأدب أن لا يفرد في الكلام، بل يقال: شهر رمضان، و لكن وقع التعبير به مفردا في بعض الأخبار، لبيان أصل الجواز، و لم أظفر في الدعوات المأثورة أنّه اطلق عليه تعالى (رمضان) في ما تفحصت عاجلا.

قوله تعالى: اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ .

بيان لحكمة تخصيص هذا الشهر بالصوم. و القرآن يأتي بمعنى الجمع، و سمي كتاب اللّه به، لأنّه جمع فيه المعارف و الأحكام، و العلوم. و هو علم للكتاب المنزل على رسول اللّه خاتم النبيين محمد بن عبد اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 30

الذي جمع فيه المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية و العلوم المتعالية.

و قد ورد هذا اللفظ في القرآن فيما يزيد على خمسين موردا كلّها مقرونة بالتجليل و التعظيم، و له أسماء كثيرة للقاعدة المعروفة: كلما ازداد المعنى بهاء و كمالا ازدادت ألفاظه جمالا و جلالا. و هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، و المشتمل على أسرار يصعب على الأذهان فهمها، و لا يمكن الإحاطة بها إلا نزرا يسيرا ممن شملتهم عناية اللّه تعالى، فعلّمهم ما لم يمكن دركه بغير إفاضة منه عز و جل مع اعترافهم بالقصور، و التواضع أمام عظمته، فإنّ درك حقيقة الوحي يختص بالموحي، و أمين الوحي و الموحى إليه، و هي من الأسرار التي لا يتقدمهم فيها أحد.

و مادة (نزل) تدل على الانحطاط من العلوّ في جميع مشتقاتها سواء كان ذلك حقيقيا أو اعتباريا. و أما التنزيل فقد لوحظ فيه التفرق بخلاف الإنزال فإنّه أعم منه.

و للتنزيل و الإنزال مراتب مختلفة و غايات متعددة يتعددان بتعددهما و يختلفان باختلافهما:

فتارة: ينزل من مرتبة العلم الأزلي إلى مرتبة فعله تعالى.

و أخرى: ينزل جملة على أقدس قلب و أصفاه في الممكنات، و هو قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيكون كشهاب برق إلهي يبرق على شمس الحقيقة ليزيدها بهجة و جلالا، و لمعة و إجلالا.

و ثالثة: ينزل متفرقا ليقرأه على مكث، و سيأتي في المبحث الآتي ما يتعلق بنزول القرآن.

و الآية تدل على أنّ القرآن الكريم نزل في شهر رمضان إلا أنّها لم تعيّن في أيّ وقت منه، و لكن ورد في آية أخرى أنّه في ليلة مباركة، قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان - 3]. و في ثالثة: ذكر أنّها ليلة القدر، قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر - 1]. و الأخيرة تكون مبينة للآيات السابقة، فلا منافاة في البين.

ص: 31

و قد تشرف هذا الشهر بنزول القرآن فيه، و لذا اختص بالصيام و لا يعقل شرف فوق شرف كتاب اللّه عز و جل، و إن كان هذا الشهر مقدس من القديم و كان الصوم فيه عبادة قديمة، و قد ورد في الأخبار بأنّ الكتب السماوية من صحف إبراهيم، و التوراة، و زبور داوود، و الإنجيل، و القرآن نزلت في هذا الشهر. و فيه تقدر جميع الأمور بكليّاتها و جزئياتها، قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان - 4]. و فيه القضاء المبرم الذي لا تغيير فيه و لا تبديل، و يأتي في المحلّ المناسب تفصيل ذلك.

قوله تعالى: هُدىً لِلنّاسِ .

الهداية: هي الدلالة بلطف، و الهدية: الإعطاء، ففي الإعطاء و البذل تسمى هدية، و في الدلالة هداية، و قد ذكرت هذه المادة بجميع مشتقاتها في القرآن الكريم في ما يزيد على ثلاثمائة مورد، و في جميع استعمالاتها مقرونة بالشرف و التعظيم، إلا في مثل قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ [الصافات - 23]، و قوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ [البلد - 10]. و يمكن الاستعمال بداعي التهكم لا الحقيقة.

و المعروف بين الأدباء أنّ الهداية إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب، و إن تعدت (باللام أو إلى) كانت بمعنى إراءة الطريق، و هذا من إحدى القرائن التي يجدها المتتبع في الكلمات.

و الهداية: إن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب بالنسبة إلى اللّه عز و جل فهو غير متناه. لأنّ المطلوب لا حد له بوجه من الوجوه. نعم استعداد من يهدى له مراتب متناهية، لفرض إمكانه.

و إن كانت بمعنى إراءة الطريق فهي كثيرة، و للمجاهدات و الرياضات الشرعية دخل كثير في الهدايتين، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت - 69]. و تقدم ما يتعلق بهذه المادة في أول سورة البقرة فراجع.

و لفظ الناس قد ذكر في القرآن في ما يقرب من مأتين و خمسين آية،

ص: 32

و أصل معناه من الاضطراب. و هو اسم جنس له أنواع كثيرة تعرف بالقرائن المحفوفة بالكلام و مع عدمها يرجع إلى العموم.

و المعنى: إنّ القرآن أنزل في شهر رمضان لهداية الناس إلى الصراط المستقيم بحسب اختيارهم، و لا معنى للهداية الجبرية و إن كانت مقدورة للّه تعالى، قال عز و جل: أَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لَهَدَى اَلنّاسَ جَمِيعاً [الرعد - 31].

و لكن عنايته الأزلية اقتضت أن تكون اختيارية لأنّ الكمال في الهداية بالاختيار.

قوله تعالى: وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ البينات جمع البينة، و هي الدلالة الواضحة الكافية عقلا لإتمام الحجة، قال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال - 42].

و الفرقان: ما يفرق بين الحق و الباطل، و هو كثير مثل الكتب السماوية، قال تعالى: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ اَلْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة - 53].

و الزمان الذي يغلب فيه الحق على الباطل، قال تعالى: وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ [الأنفال - 41]. و المكان الذي يقضى فيه بالحق و يعمل فيه. و المعاجز الصادرة من الأنبياء فرقان، كما أنّ السنة المقدسة فرقان، و العقل الداعي إلى عبادة الرحمن و اكتساب الجنان فرقان، و العالم الذي يعمل بعلمه فرقان. و كلّ ما يضاف إليه تعالى فرقان مقابل ما يضاف إلى الشيطان.

و القرآن أجلى تلك المظاهر بل هي منطوية في القرآن فهو قرآن بوجوده الجمعي، و فرقان بوجوده التفصيلي، و لا يختص الفرقان بالتفرق الحسي و بحسب المدارك الظاهرية، بل يشمل التفرق بحسب جميع المدارك، قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان - 4]. فجميع التقديرات الإلهية و جميع مراتب قضائه عز و جل من الفرقان، و في الحديث: «إنّ الفرقان المحكم الواجب العمل، و القرآن جملة الكتاب» و هو من بيان بعض المراتب، و إلا فالقرآن بجميع آياته فرقان.

ص: 33

و قد ذكر سبحانه و تعالى في المقام ثلاث خصال للقرآن الكريم: و هي أنّه هدى للناس، و هذه خصلة من لوازم ذات القرآن، بل جميع الكتب السماوية، و اشتماله على البينات الواضحة لكل فرد، و الفرقان بين الحق و الباطل. فإنّ لكل حق حقيقة، و على كل حقيقة نور. و في مقابل كل حقيقة باطل، و شأن الكتب السماوية و الأنبياء و من يحذو حذوهم علما و عملا تمييز الحق عن الباطل، و عرضه على عقول الناس، كل ذلك على حسب التدرج و التأنّي، كما هو سنته تعالى في أصل الإيجاد، أو في جهات التشريع.

قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

الشهود بمعنى الحضور، سواء كان بالبصر أو البصيرة، أو الواقع فالكل شهود، و هو من الصفات ذات الإضافة، فكما أنّ الشاهد يشهد المشهود فهو أيضا حاضر لدى الشاهد.

و في المقام يمكن أن يكون المراد بالشهود الحضور مقابل الغيبة و السّفر، و يعضده قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ . أو يكون المراد الأعم منه و من استجماع شرائط صحة الصوم، و يعضده قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً .

قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ .

العدة: هي المعدودة، أي عليه صوم أيام أخر مثل الأيام التي فاتته من صوم شهر رمضان. و من التفصيل بين حكم الحاضر و حكم المسافر في شهر رمضان و إثبات وقتين لهما يستفاد أنّه لا رجحان لصوم المسافر في شهر رمضان، و يدل عليه ما يأتي من قوله تعالى، و إلا لما كان لهذا التأكيد و التمييز بين الموضوعين و الحكمين معنى.

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ .

الإرادة: هي من الوجدانيات لكل ذي شعور، لأنّ من لوازم الحياة التحرك بالإرادة، و اشتقاقها من ورد.

و عن جمع من المفسرين و غيرهم أنّها بمعنى الطلب، و لا كلية فيه كما

ص: 34

أثبتناه في (تهذيب الأصول). و الإرادة من اللّه جل شأنه فعله.

و المعنى: إنّ اللّه تعالى أراد في كلّ ما شرعه من الأحكام اليسر النوعي، و منه إفطار المريض و المسافر.

و في التعبير من التحريض و الترغيب ما لا يخفى، سواء في الترخيص أم في العزيمة، لأنّ «اللّه يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه»، و مثل الآية المباركة قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء - 28]، و قوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج - 78].

قوله تعالى: وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ .

تأكيد لما سبق. و العسر: خلاف اليسر.

و المعنى: إنّ اللّه تعالى لا يريد العسر في تشريعه الأحكام، و منها الصيام أداء و قضاء، و يستفاد منه أنّ الصوم في السفر غير مراد للّه تعالى.

قوله تعالى: وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ .

أي: و لتعظموا اللّه تعالى على هدايتكم إلى الدين و شرائعه المقدسة لا سيما الصيام، فإنّ فيه إصلاح النفوس و تكميلها، و هذه الغاية من أعلى الفضائل.

و قد وردت روايات تدل على أنّ هذا التكبير وارد في آداب ليلة الفطر إلى أربع صلوات بعدها. و هذا من ذكر بعض المصاديق لكلّ ما يكبّر العبد ربه العظيم، و إن كان ما يصدر من العبد لا يبلغ ما أنعم عليه ربه الرحيم، إذ لا وجه لنسبة المتناهي لغير المتناهي،

قال علي (عليه السلام): «و ما قدر أعمال أقابل بها نعمك و إنّي لأرجو أن تستغرق ذنوبي في كرمك كما أستغرق أعمالي في نعمك».

قوله تعالى: وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

أي: تشكرون اللّه على نعمه عليكم كلّها و منها الصيام، و في إتيان [لعل] دلالة على أنّ للأعمال و المجاهدات دخل في قوة اختيار العبد للشكر.

ص: 35

بحوث المقام

بحث أدبي

يجوز أن يكون «شهر رمضان» مرفوعا على الابتداء، و الخبر قوله تعالى:

اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ أو يكون خبرا لمبتدأ محذوف و الصلة صفة له، و التقدير: الواجب عليكم، و نحوه.

«و رمضان» غير منصرف لزيادة النون و العلمية. و «هدى» في موضع نصب على الحال من القرآن و «بيّنات» عطف عليه.

و اللام في «فليصمه» لام الأمر، و إذا أفردت كسرت، و أما إذا وصلت بشيء ففيها الوجهان: الجزم و الكسر. و ما يوصل بها ثلاثة أحرف: الفاء مثل قوله تعالى: فَلْيَصُمْهُ ، و قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا اَلْبَيْتِ [قريش - 3]. و الواو مثل قوله تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [سورة الحج - الآية 29]. و ثم مثل قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا [الحج - 29].

و الشهر منصوب على الظرفية أي حضر فيه.

و اللام في وَ لِتُكْمِلُوا للتعليل، و الجملة عطف على سياق الجملة السابقة، و قرئ «لتكمّلوا» بالتشديد.

ص: 36

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول: أنّها تدل على فضل شهر رمضان على سائر الشهور، و ذلك لنزول القرآن الذي هو أشرف الكتب السماوية - كما مر - و أعظم تجلّ إلهي أبدي في عالم الإمكان، و فرق بينه و بين تجليه تعالى لموسى بن عمران (عليه السلام) بوجوه:

الأول: أنّه تجلّ جزئي بالجزئية الوجودية - لا المفهومية - لفرد واحد من أفراد الإنسان اللائق، و القرآن تجلّ إلهي نوعي.

الثاني: أنّ الأول كان في محلّ خاص و هو الجبل، و هذا من قمة العرش الأعلى إلى قرار الأرض.

الثالث: أنّ في الأول كان التجلّي موجبا لصعق موسى (عليه السلام) و تجلّي القرآن موجب لارتقاء القلوب من حضيض الدنيا إلى عالم الغيب المحيط بها، فيصير المتجلّى له عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني.

الرابع: أنّ تجلّي القرآن على قلب نبينا الأقدس (صلّى اللّه عليه و آله) لم يوجب أن يخر صعقا بل بقي مستقيما باستقامة شروق النور المقدّس الأحدي، و بقي المتجلّي لهم ببقاء النور المحمدي المقتبس من النور الأقدس الأحدي.

ص: 37

الثاني: أنّ قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يدل - أي هذه الجملة المركبة من الشرط و الجزاء - على أنّ المناط هو ثبوت الشهر و حضوره حقيقة و ذلك برؤية الهلال، أو تقديرا فيما إذا لم يمكن ذلك. و هو لا يدل على أنّ من حضر شطرا من شهر رمضان لا بد له من الإتمام و لو كان مسافرا.

الثالث: أنّ قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ تأكيد لما ذكره عز و جل من سقوط الصوم عن المريض و المسافر دفعا للشكوك و الأوهام.

و إنّما ذكر السفر مع الظرف دون المرض، لأنّ الثاني من قبيل الوصف بحال الذات، و الأول من قبيل الوصف بحال المتعلق فيصح بذلك اختلاف التعبير بينهما.

الرابع: أنّ تكملة العدة في شهر رمضان تتحقق بالصيام بين الهلالين - أي هلال رمضان و هلال شوال - و مع الخفاء فثلاثين يوما

كما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصوم للرؤية و الفطر للرؤية»،

و عن عليّ (عليه السلام): «صم للرؤية و أفطر للرؤية، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين يوما».

الخامس: أنّ قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ يدل على أنّ الملاحظ اليسر و العسر النوعيان منهما لا الشخصيان فلا يرد عليه أنّنا نرى تخلّف ذلك في الصوم وجدانا، لأنّ الشخص المكلّف إنّما يستفيد من هذه العبادة روحا و جزاء أكثر مما يبذله من الجهد.

السادس: لم يذكر في القرآن الكريم قضاء عبادة إلا حكم قضاء شهر رمضان في قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ . و يستفاد منه فروع فقهية كثيرة مذكورة في الكتب الفقهية.

ص: 38

بحث علمي
اشارة

الآية الشريفة تدل على نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، و قد ذكر سبحانه في آيات أخر أنّه كان في ليلة القدر منه، و هي واحدة من الآيات الكثيرة الدالة على نزوله من اللّه تعالى على رسوله (صلّى اللّه عليه و آله) و جميعها تدل على عظمة المنزل و أهميته، قال تعالى: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء - 105]. و الكلام في نزول القرآن يقع من ناحيتين:

الأولى: في حقيقة النزول و للعلماء و الفلاسفة كلام فيها، و هو مورد البحث عندهم و قد أفردوا لمسألة الوحي كتبا مستقلة، و سيأتي البحث عنه في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الثانية: في كيفية النزول و أنّه هل نزل جملة واحدة أو نزل متفرّقا أو هما معا؟ و ما يتعلق به من حيث زمان النزول و مكانه و أول ما نزل. و الكلام في المقام في هذه الناحية يقع في أمور:

النزول و التنزيل:

الآيات التي وردت في إنزال القرآن الكريم على قسمين: قسم ورد فيه لفظ النزول الدال على الانحطاط من العلو - سواء كان ذلك حقيقيا أو اعتباريا - جملة واحدة من دون ملاحظة التفرق و التدرج فيه، قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان - 3]، و قال تعالى: وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام

ص: 39

- 6]، و قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر - 1]، و قال تعالى:

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص - 29] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قسم آخر ورد فيه لفظ التنزيل الدال على الانحطاط من العلو مع التفرق و التدريج قال تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً [الإسراء - 106]، و قال تعالى: نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً [الإنسان - 23] و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على نزول القرآن تدريجا في مجموع مدة بعثة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، و هي مدة دعوته البالغة عشرين سنة.

و قد استعملت هاتان المادتان بالنسبة إلى غير القرآن أيضا، كما ورد في نزول الملائكة قال تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون - 24]، و قال تعالى: وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً [الفرقان - 25]، و بالنسبة إلى المطر النازل من السماء، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً [النحل - 10]، و قال تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً [الأنفال - 11].

و يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنّه يلاحظ تارة المجموع فيستعمل النزول و الإنزال، و أخرى يلاحظ البعض و الأجزاء فيستعمل التنزيل.

تعدد النزول:

لا ريب في تعدد نزول القرآن حسب المستفاد من الآيات الشريفة و السنة المقدسة الواصلة إلينا و ما ذكره العلماء في ذلك الوجوه:

الأول: أنّه أنزل جملة في شهر رمضان إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم أنزل على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) متفرقا ليقرأه على الناس في مجموع مدة الدعوة و قد وردت في ذلك روايات ففي الكافي عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن قول اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ و إنّما أنزل في عشرين سنة بين أوله و آخره.

فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى

ص: 40

البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة». و روي قريب منه عن ابن عباس.

و قد ادعي الإجماع على ذلك. و البيت المعمور الوارد في هذه الرواية و السماء الدنيا في رواية أخرى شيء واحد كما يأتي في محله و إن صح الاختلاف بالاعتبار.

و أشكل عليه: بأنّ نزوله إلى السماء الدنيا لم يكن فيه أي منة علينا و لا معنى لاتصافه بالهداية و الفرقان و بقائه في السماء الدنيا مدة سنين و هذا مما ينفيه قوله تعالى: هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ .

و أجيب عنه: بأنّ اتصاف القرآن بالهداية و الفرقان اقتضائي أي: من شأنه أن يهدي من التمس الهداية منه، و أن يكون فرقانا إذا التبس الحق بالباطل.

و بعبارة أخرى: إنّ اتصافه بهما يكون بتتميم إنزاله إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و نوقش في ذلك بأنّه لا يمكن إنزاله جملة واحدة و لو إلى السماء الدنيا، لأنّ منه الناسخ و المنسوخ، و منه ما يكون جوابا لسؤال، أو إنكار قول، أو حدوث حادثة، و لا يتأتى ذلك إلا إذا نزل متفرقا.

و يمكن الجواب عنه: بأنّ الحوادث المتدرجة الزمانية المتقدمة بعضها على بعض أو المقارنة بعضها مع بعض إنّما تكون بالنسبة إلى سلسلة الزمان المتدرجة في الحوادث المحصورة في الزمان الذي لا ينفك عن التغير و الحدثان. و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى المحيط بما سواه بكل معنى الإحاطة و العالم بالجزئيات قبل حدوثها، فتكون جميع الحوادث المتعاقبة في الزمان عنده شيئا واحدا واقعا في آن واحد و الإشكال إنّما هو بالنسبة إلى الزماني لا بالنسبة إلى المنزّه عن الزمان.

الثاني: أنّ المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو ابتداء نزوله فيه ثم أنزل بعد ذلك متفرقا في أوقات مختلفة، و القرآن كما يطلق على المجموع يطلق على البعض أيضا.

و يرد عليه: أنّه مخالف لظاهر الآيات المباركة الدالة على نزول القرآن

ص: 41

بأجمعه في شهر رمضان و في الليلة المباركة منه كما مر، مضافا إلى أنّ بعثة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) كانت في غير شهر رمضان، و من المستبعد جدا أن لا ينزل في أول البعثة شيء من القرآن الكريم و تخلو مدة منه، مع أنّ المشهور أنّ أول سورة نزلت مصاحبة للبعثة إما سورة العلق، أو سورة المدثر، و فيهما شواهد على أنّهما نزلتا حين البعثة و أمر الرسول بالرسالة.

الثالث: أنّ المراد بنزول القرآن في ليلة القدر هو نزول سورة من سوره المشتملة على جلّ معارف القرآن كسورة الحمد، فكأنّ نزولها في ليلة القدر من شهر رمضان هو نزول القرآن بأجمعه، و يصح أن يقال نزل القرآن جملة، و بذلك يمكن الجمع بين نزول القرآن في أول بعثته (صلّى اللّه عليه و آله) و نزول القرآن في الليلة المباركة من شهر رمضان.

و يرد عليه ما أورد على سابقه من أنّه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي تدل على أنّ القرآن نزل جملة في ليلة القدر، مع أنّ هذا الوجه في نفسه بعيد جدا، كما لا يخفى.

الرابع: أنّ المراد بإنزال الكتاب جملة في الليلة المباركة هو حقيقة الكتاب التي وصفت بالمحكمة و المفصّلة و التي يأتي تأويلها في يوم القيامة، و التي لها وقع في الكتاب المكنون الذي لا يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ و إنّه في أمّ الكتاب أو في اللوح المحفوظ قبل التنزيل، كما دلت عليها الآيات المباركة، و هذه هي التي نزلت على قلب سيد المرسلين جملة ثم أنزل بعد ذلك بالتدريج حسب الوقايع و الحاجة، و لذا أمر بأن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه قال تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [ص - 114]. و هذا الكتاب المنزل تدريجا متكئ على تلك الحقيقة المتعالية المنزهة عن تلبيسات المبطلين و شكوك المعاندين، و قد أنزلها اللّه تعالى على رسوله فعلّمه تأويله و حقيقة ما يعنيه من الكتاب المبين.

و فيه: أنّه مخالف لسياق القرآن الذي نزل بلسان الأمة. نعم للقرآن حقيقة واحدة واقعية يحيط بها قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و لكن مورد الكلام في الأول دون الثاني.

ص: 42

و الحق أن يقال: إنّ القرآن يختلف عن سائر الكتب الإلهية من جهات كثيرة فهو آخرها، المهيمن عليها، و أنّه أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود - 1]، و أنّ فيه تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً [يوسف - 111]، و أنّه لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [يونس - 37]، و أنّه فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف - 4]، و يكفي في عظمة أمره قوله تعالى:

رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى - 52]. و لا ريب في أنّ مثل هذا الكتاب له من الجلال و العظمة و الكبرياء ما لا يمكن دركه بالعقول و إن بلغت ما بلغت، و حينئذ لا يمكن لنا أن نقول بنزوله مرة واحدة، سواء كان دفعة واحدة أم تدريجا من دون أن يعرف من أنزل عليه تأويله، و هو النبي العظيم حبيب ربّ العالمين و صاحب الشرع المبين، الذي هو سر من أسرار عالم الجبروت، و قد انطوى فيه العالم الأكبر، و هو بنفسه كتاب إلهي تكويني، و له المقام المحمود عند رب العالمين، و مع ذلك كلّه يكون غافلا عمّا ينزل عليه، و هذا بعيد جدا فلا بد و أن يكون عارفا به و بتأويله و حقيقته و جميع خصوصياته فأنزل جميعا على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). كما هو المتيقن من قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى . [سورة النجم - الآية - 10]، ثم بعد ذلك أنزل عليه تدريجا في مدة الدعوة و لا مانع من تعدد الوحي الذي هو سر إلهي بين الموحي و الموحى إليه، و فيه ابتهاج للمنزل عليه، و يدل على ذلك قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة - 19]، و قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [ص - 114]، و من المعلوم أنّه إن لم يكن عارفا به و عالما بخصوصياته لا معنى لتعجيل القرآن و إظهار بيانه فبالوحي يظهر ما في قلبه على ظاهر لسانه.

و لا ينافي ذلك أنّ القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، أو إلى البيت المعمور - أو بيت العز - حسب اختلاف التعبيرات في الروايات، أو أنّه ينزل ما يراد إنزاله في السنة في ليلة القدر، كما في بعض الروايات، أو له نزول آخر، فإنّ للنزول و التنزيل غايات متعددة و مراتب مختلفة يتعددان

ص: 43

بتعددها، فتارة ينزل من مرتبة العلم الأزلي و هو مرتبة الذات - لفرض أنّ علمه تعالى عين ذاته جل شأنه - إلى مرتبة فعله عز و جل، و أخرى ينزل جملة أو تفصيلا على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). و ثالثة ينزل لإبراز عالم الغيب في عالم الحس و العيان، أو بالعكس. و هذا ظاهر لكل من تأمل في المقام.

هذا إذا لوحظ النزول و الإنزال و ما يماثلهما من التعبيرات بالنسبة إلى ذات الكتاب العظيم و حقيقته. و أما إذا لوحظ من حيث إضافته إلى ذات المبدإ تبارك و تعالى فالنزول و الإنزال لا وجه لهما، لأنّهما من صفات الأجسام، و هو تعالى منزه عنها فإنّه جل شأنه محيط بجميع ما سواه بالإحاطة الحقيقية.

و من ذلك يظهر ما

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا» فلا بد من حمل هذه الرواية و أمثالها على نزول الرحمة و الألطاف الإلهية و قربها من العباد - كما ورد في عشية عرفة - و تخصيصها بالليل، و الثلث الأخير منه، لأنّه وقت التهجد و غفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة اللّه و الانقطاع إليه أشد و عند ذلك تكون النية خالصة و الرغبة إليه تعالى وافرة و ذلك مظنة القبول و الإجابة.

الغاية من تعدد النزول:

لا ريب في أنّ تعدد نزول القرآن يدل على عظمته، و تفخيم أمره، و إعلاء شأن من نزل عليه و الاعتناء به، و أنّه تكريم لبني آدم حيث نزل فيهم هذا الكتاب الكريم و إعلام للملائكة و سكان السّماوات بأهميته، و أنّه آخر الكتب السماوية، و إتمام الحجة على الخلايق، و لذا لم يكن كتاب إلهي غيره ينزل متعددا أو ينزل نجوما و قد خفي على المشركين و الكافرين عظمة هذا الكتاب حيث اعتبروه كسائر الكتب الإلهية على ما حكى عنهم عز و جل فقال:

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً فأجابهم عز و جل:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان - 32]. و يمكن أن يكون المراد بتثبيت الفؤاد عنايته تعالى بجهة ابتلائه مع الناس و شدة معاداتهم للوحي و الموحى إليه.

ص: 44

محل النزول و زمانه:

ذكرنا أنّ القرآن نزل تارة جملة، و أخرى نجوما، و عرفت أنّ نزوله الجمعي كان في الليلة المباركة من شهر رمضان بمقتضى الآيات الشريفة، و لكن نزوله التدريجي لم يكن له محلّ معيّن أو زمان كذلك فقد كان ينزل على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حسب المقتضيات إلا أنّ ابتداءه كان من حين بعثته (صلّى اللّه عليه و آله) و انتهاءه قبل رحيله (صلّى اللّه عليه و آله) و هو مدة دعوته البالغة عشرين سنة أو أكثر على اختلاف الروايات.

فقد نزل جملة من سور القرآن في مكة المكرمة مهبط الوحي المبين، و جملة منها في المدينة مهجر الرسول الأمين (صلّى اللّه عليه و آله)، و قد نزل عليه من القرآن في الحضر و في السفر و في النهار و في الليل، و بعض السور نزلت مكررة كسورة الحمد، و بعضها نزلت و قد شيعتها ملائكة السماء، كسورة الأنعام، و إنّ بعض السور مكي و البعض الآخر مدني كل ذلك معلوم مذكور في الكتب المؤلفة في علوم القرآن، و إن كان لهم اختلاف في بعض الجهات.

و قد ذكر العلماء وجوها للتمييز بين السور المكية و السور المدنية و أهمها هي:

الأول: أنّ السور المكية تمتاز بقوة نبرتها و أسلوبها التهكمي فإنّها نزلت في قوم عتاة جبابرة فاتخذت وجه التهديد و التعنيف لهم و الإنكار عليهم و لذا وردت السجدة فيها، بخلاف السور المدنية فإنّها نزلت في قوم ذوي ذلة و ضعف فاتخذت أسلوب اللين و العطف.

الثاني: أنّ السور المكية أكثرها تشير إلى إثبات الإله الواحد العزيز الجبار، و إثبات يوم القيامة و المعاد و أوصافه. و أما السور المدنية فتشير إلى صفات الإله و الحساب.

الثالث: أنّ السور المكية خالية تقريبا عن القصص و الأحكام و الفرائض و السنن، بخلاف السور المدنية.

ص: 45

الرابع: أنّ في السور المدنية ذكر المنافقين بخلاف السور المكية فإنّ فيها ذكر الأمم و القرون.

الخامس: أنّ السور المدنية أغلبها فيها جملة: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» ، بخلاف السور المكية فإنّ الأغلب فيها «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ» أو أولها حرف تهج غالبا.

عروج القرآن:

كما أنّ للقرآن نزولا حسب ما تقدم كذلك له صعود و تجليات أي:

ظهور في المظاهر اللايقة به.

منها: تجلياته في قلوب أولياء اللّه المخلصين و أحبائه العارفين، كما هو ظاهر عند أهله و إشراقاته المعنوية على النفوس المستعدة لها.

و منها: صعوده إليه جلّت عظمته فمنه المبدأ و إليه المنتهى، لقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ [الفاطر - 10].

و منها: صعوده إليه تعالى، و تجسّمه لأهل الحشر، لأن يشفع في من له أهلية الشفاعة، كما في كثير من الأحاديث و شكواه ممن ضيّعه.

و منها: صعوده إلى مقام الشهادة عند الميزان، كما هو الشأن بالنسبة إلى الأنبياء و المرسلين، و يدل عليه كثير من الآيات، كما يأتي.

بل يمكن أن يقال: إنّ جميع آثاره الباهرة الظاهرة منه من مراتب صعوده كشفائه للمرضى و حجبه عن الأرواح الشريرة إلى غير ذلك مما وضع له كتب مستقلة،

و عن عليّ (عليه السلام) في القرآن «لا تحصى عجائبه و لا تنقص غرائبه».

خلق القرآن:

وقع الكلام بين العلماء السابقين في قدم القرآن و خلقه و ذهب إلى كل واحد منهما فريق و أقام الدليل على مختاره و لا فائدة في هذا النزاع الذي أشغل بال المسلمين برهة من الزمن.

ص: 46

فالحق ان يقال: إنّ للقرآن اعتبارات فإذا لوحظ من حيث إنّه علم اللّه عز و جل فهو قديم واجب بالذات، لما ثبت بالأدلة العقلية و النقلية من أنّ علمه جلّت عظمته عين ذاته. و إذا لوحظ من حيث معارفه الحقيقية الواقعية، فهو الذي لا يزول و يبقى و يدوم و إن مرت الأمم و العوالم و تغايرت النشآت و المعالم، و بناء على ذلك فهو أزلي أبدي من حيث أنّ مبدأه من اللّه تعالى و منتهاه إليه عز و جل.

و إذا لوحظ من حيث إنّه فعل من أفعاله فهو حادث.

و يمكن الجمع بين من يقول بأنّه قديم و من يقول بأنّه حادث و رفع النزاع بينهم و إن كان هذا الجمع خلاف ظاهر الكلمات.

ص: 47

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لا تقولوا جاء رمضان، و ذهب رمضان، فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه و لكن قولوا شهر رمضان».

و روي قريب منه عن عليّ (عليه السلام) و كذلك في كنز العمال.

أقول: تقدم الكلام فيه، و قلنا إنّه محمول على نحو من التأدب.

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به».

و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) أيضا: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، و الكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء».

و مثله في تفسير القمي.

أقول: بحسب هذا الاصطلاح يكون الفرقان أخصّ من القرآن فلا يطلق الفرقان على المتشابهات، و إلا فقد قلنا إنّ الفرقان يصح إطلاقه على جميع القرآن باعتبار أنّه الفارق بين الحق و الباطل.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ما أبينها!! من شهد فليصمه و من سافر فلا يصمه».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) مثله.

ص: 48

أقول: هذا الحديث ظاهر في أنّ المراد من الشهود الحضور مقابل السفر كما هو ظاهر الآية الشريفة بقرينة المقابلة و لو أريد من لفظ «شهد» الشهادة بمعنى الرؤية يستفاد الحضور بالملازمة أيضا من ذيل الآية الشريفة.

في التهذيب عن الصادق (عليه السلام): «إذا دخل شهر رمضان فلله فيه شرط قال اللّه تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلا في حج أو عمرة، أو مال يخاف تلفه، أو أخ يخاف هلاكه. و ليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه، فإذا مضت ليلة ثلاث و عشرين فليخرج حيث شاء».

أقول: هذا محمول بالنسبة إلى أصل المسافرة في الشهر على المرجوحية بقرينة سائر الروايات و تتأكد الكراهة في العشرة الأخيرة فهو حكم أدبي.

في تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام) قلت له: «جعلت فداك ما يتحدث به عندنا أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) صام تسعة و عشرين أكثر مما صام ثلاثين أحق هذا؟ قال (عليه السلام): ما خلق اللّه من هذا حرفا، فما صام النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلا ثلاثين، لأنّ اللّه يقول: وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ فكان رسول اللّه ينقصه؟!».

أقول: في هذا الموضوع روايات كثيرة بعضها دالة على أنّ شهر رمضان تام لا ينقص و بعضها دال على أنّه قد يتم و قد ينقص، و لا بد من الأخذ بالقسم الأخير للوجدان و حمل القسم الأول على بعض المحامل، و قد فصّلنا القول في ذلك في الفقه.

في الكافي عن سعيد النقاش قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): أما إنّ في الفطر تكبيرا، و لكنّه مسنون قلت: و أين هو؟ قال (عليه السلام): في ليلة الفطر في المغرب و العشاء الآخرة، و في صلاة الفجر، و في صلاة العيد ثم يقطع، قلت: كيف أقول؟ قال (عليه السلام): تقول: اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، اللّه أكبر على ما هدانا. و هو قول اللّه: «وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ» يعني

ص: 49

الصّيام، «وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ» ، و التكبير أن تقول: اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، و للّه الحمد».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «إنّ في الفطر تكبيرا.

قلت: ما التكبير إلا في يوم النحر؟ قال: فيه تكبير، و لكنّه مسنون في المغرب و العشاء و الفجر، و الظهر، و العصر، و ركعتي العيد». و قريب منه ما أخرجه ابن جرير في التفسير بسنده عن زيد بن أسلم و ابن عباس.

أقول: التكبير مندوب و قد وردت في ذلك روايات كثيرة من الفريقين في كيفية التكبير و كميته مذكورتان في كتب الفقه، من شاء فليرجع إليها.

في محاسن البرقي عن بعض أصحابنا في قول اللّه تعالى: وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ . قال: «التكبير التعظيم للّه، و الهداية الولاية».

أقول: هذا من بيان بعض مصاديق التكبير، و الهداية، و لا منافاة بينه و بين ما تقدم.

ص: 50

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (18.......

اشارة

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) تحريض للدعاء بأسلوب بليغ يشعر بالعطف و الحنان و المحبة، و ترغيب الإنسان بالوصول إلى الفيض المطلق و غاية الكمال و هي الرشاد و في الآية الشريفة تلميح لبعض شروط الدعاء التي إذا توفرت تجعل الدعاء مستجابا، و في تعقيب شهر رمضان بهذا الخطاب فيه من الحث على الدعاء في هذا الشهر و أنّ له اختصاصا به و القبول فيه مما يخفف ثقل التكليف بالصوم فيه، و هذا مما دلت عليه السنة المقدسة

ففي بعض الأخبار: «من فاته الدعاء في شهر رمضان فلينتظر يوم عرفة، و من فاته الدعاء فيه فلينتظر شهر رمضان المقبل».

ص: 51

التفسير

186 - قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي .

السؤال: طلب معرفة شيء و استدعاؤها، أو طلب مال. و في الأول يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، و بحرف الجرّ أخرى، تقول: سألته كذا، و سألته عن كذا، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ [الأنفال - 1]، و قال تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ [البقرة - 189]، و قال تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج - 1]. و إذا كان لطلب المال يتعدى إليه بنفسه أيضا، و بمن أخرى، قال تعالى: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب - 53] و المعروف أنّ الطلب إذا كان من العالي إلى السافل، فهو أمر.

و إذا كان بالعكس فهو سؤال. و إذا كان من المساوي فهو استفهام، و قد ذكرنا في الأصول أنّه لا كلية في ذلك، و يختلف الدعاء عن السؤال في أنّ الأخير بمنزلة الغاية للأول.

و العبد، و العبودية، و العبادة: بمعنى التذلل و الخضوع، و تقدم في سورة الحمد ما يتعلق به. و للعبد في القرآن دلالات:

الأولى: في مقابل الحر، و هو الذي يباع و يشترى كسائر الأمتعة و له أحكام خاصة في الإسلام مذكورة في الكتب الفقهية، قال تعالى: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة - 178].

ص: 52

الثانية: عبد الإيجاد يعني خلقهم للعبودية و الخضوع له تعالى، كما في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ آتِي اَلرَّحْمنِ عَبْداً [مريم - 93].

الثالثة: المخلصون من عباده تعالى الذين لهم مع اللّه جل جلاله حالات، و له عز و جل معهم عنايات، و لهم في القرآن قصص و حكايات، و هم الذين استثناهم الشيطان عن غوايته فقال تعالى حكاية عنه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [ص - 83]، لأنّهم اتخذوا اللّه تعالى بذاته الأقدس معبودا لأنفسهم بتمام معنى العبودية الحقيقية، فاتخذهم اللّه تعالى عبادا لنفسه و مدحهم بأبلغ المدائح، و لعلّ أرقّها قوله تعالى: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان - 63].

الرابعة: عبد للّه تعالى و لكنّه يطيع الشيطان و يتبعه، قال تعالى حكاية عنه: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً [النساء - 118]، سواء كان مسبوقا بالكفر ثم آمن كذلك أم لم يكن، و الجميع عبيده عزّ و جلّ لكثرة رأفته و عنايته بخلقه، و يدل على ذلك قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [الحجر - 49] و قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء - 52] مع أنّهم كانوا من سحرة فرعون، فإنّ المنساق من هذه الآيات أنّ مجرد الإيمان باللّه جلت عظمته في مقابل الكفر به يكفي في شمولها له و هو مقتضى الرحمانية و الرحيمية المطلقة له عز و جل.

و في الكلام من العناية و اللطف ما لا يخفى.

قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ .

القرب معلوم. و القريب من أسماء اللّه الحسنى - و جميع أسمائه المقدسة حسنى، و إنّما التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيّا - و هو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة، قال تعالى: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود - 61]، و قال تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ - 50]، و يبيّن هذا المعنى قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد - 4]، و قد فصل ذلك في الفلسفة تفصيلا دقيقا لعلنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية.

ص: 53

القرب معلوم. و القريب من أسماء اللّه الحسنى - و جميع أسمائه المقدسة حسنى، و إنّما التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيّا - و هو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة، قال تعالى: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود - 61]، و قال تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ - 50]، و يبيّن هذا المعنى قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد - 4]، و قد فصل ذلك في الفلسفة تفصيلا دقيقا لعلنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية.

أو يلحظ بالنسبة إلى رحمته الواسعة، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [الأعراف - 56].

و يطلق القرب بالنسبة إلى المكان، كقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ [التوبة - 28]، و هو كثير في القرآن. و أخرى: بالنسبة إلى الزمان، قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ [الأنبياء - 1]. و ثالثة:

بالنسبة إلى الفعل كالتصرف و غيره، قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ [الإسراء - 34]، و قال عز و جل: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى [الإسراء - 32]، و قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ [الأنعام - 151]. و رابعة: بالنسبة إلى النسب، كقوله تعالى: أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى [النور - 22]، و قال تعالى:

وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى [النساء - 36].

كما يطلق و يراد به القرب المعنوي من طرف الخلق، قال تعالى: وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ [النساء - 172]، و قال تعالى: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [آل عمران - 45]، و قال تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ [المطففين - 28].

و القرب المعنوي: إما من اللّه تعالى بالنسبة إلى خلقه و يصح أن يعبّر عنه باللطف، و العناية، و الرعاية، و القدرة، و نحو ذلك. و إما من المخلوق بالنسبة إليه عز و جل و هو حالة انقطاع إلى اللّه تبارك و تعالى بحيث لا يعلم حقيقتها إلا المتقرّب إليه جلّت عظمته و العبد المتقرّب منه و لا يحيط بها إلاّ اللّه عز و جل، و لكلّ ما ذكرناه مراتب كثيرة.

و المراد بقربه تعالى - في المقام -: القرب باللطف و الرحمة و الإجابة الذي لا حد له و لا نهاية لا أن يكون قربا زمانيا أو مكانيا فإنّه تعالى يجلّ عنهما و هو محيط بهما بالإحاطة القيّومية الحقيقية.

و ربما يكون القرب فيه من قبيل قرب العلّة الحقيقية من المعلول المحتاج

ص: 54

إليها حدوثا و بقاء،

و قد ورد في بعض الدعوات المأثورة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام): «يا جاري اللصيق، يا ركني الوثيق»،

كما ورد في بعض مخاطبات اللّه تعالى مع موسى بن عمران: «يا موسى أنا بدّك اللازم».

و كيف كان و فيه الكناية اللطيفة فإنّ فيه تمثيلا لحاله في سهولة إجابة دعائه و سرعة إنجاح حاجة من سأله بحال من قرب مكانه.

قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ مادة [ج و ب] تأتي بمعنى القطع، و لها استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة، و الجواب يطلق غالبا في مقابل السؤال. و السؤال إن كان لطلب المقال فجوابه المقال، و إن كان لطلب المنال فيكون جوابه المنال. و من الأول قوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ [الأحقاف - 31]. و من الثاني قوله تعالى:

قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما [يونس - 89] أي أعطيت سؤلكما.

و الاستجابة: التحري و التهيؤ للجواب، يعبّر بهما عن الإجابة لعدم الانفكاك بينهما غالبا لا سيما بالنسبة إلى الغنيّ المطلق و الرحيم بعباده في جميع العوالم، فهذه المفاهيم الثلاثة أي: الدعاء، و الإجابة، و الاستجابة، من المفاهيم الإضافية بالنسبة إليه عز و جل، قال تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر - 60]، و قال تعالى: اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ [آل عمران - 172]، و قال تعالى:

لِلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى [الرعد - 18].

فالآية الشريفة في المقام تشتمل على علل الحكم أي: أنّ الداعين لكونهم عباد اللّه فإنّ اللّه قريب منهم و قربه إليهم موجب لإجابة دعواتهم، و ذلك أنّ عباده ملك له بالملكية الحقيقية، و هذه هي المقتضية لكونه قريبا منهم على الإطلاق و إلا فإنّ ما سواه تعالى فقير بحد ذاته و إنّما يملك بالملكية الاعتبارية بتمليك المالك الحقيقي للأشياء له و هو اللّه سبحانه و تعالى فلو لم يشأ الملكية لم يملك أحد، كما يظهر من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ [الفاطر - 15].

ثم ذكر سبحانه أنّ استجابة الدعاء منوطة بأمرين:

ص: 55

أحدهما: أن يكون الداعي داعيا بحسب الحقيقة كما يدل عليه قوله تعالى: إِذا دَعانِ فلا بد للداعي الذي يدعو لحاجته أن يكون عالما بحقيقة الدعاء صادقا عليه التوجه إلى اللّه جل شأنه، و متوجها إليه صادرا عن معرفة بحكمته و سعة رحمته دون ما يدور في اللسان مع الغفلة عنه تعالى، و ترشد إلى ذلك الآيات التي تدل على استجابة السؤال إذا كان عن فطرة مثل قوله تعالى:

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن - 29]، و ذلك لأنّ الاستحقاق كان بحسب الذات فالسؤال كان عن الفطرة، و من ذلك يظهر السر في إطلاق السؤال دون الدعاء على السؤال الصادر عن الفطرة و إن لم يكن للسان فيه عمل، و هذا بخلاف الدعاء.

و الأمر الثاني ما ذكره تعالى بعد ذلك:

قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي .

أي أنّهم إذا أرادوا الإجابة و الاستجابة، و إذا كان اللّه تعالى قريبا منهم لا يحول بينه و بين دعائهم شيء فلا بد لهم من الاستجابة فيما دعاهم إليه و العمل بما أمرهم من الإيمان و العبادات التي فيها صلاحهم و سعادتهم و رشدهم، و لا بد لهم من الإيمان بما يتصف به من الصفات الحسنى، و لا بد لهم من المعرفة بأنّه قريب يجيب دعوة الداع.

قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ .

الرشاد: ضد الغي. أي أنّ الأعمال و الدعاء إذا صدرت عن روح الإيمان يكون صاحبها راشدا مهتديا، و قد تقدم الوجه في إتيان كلمة [لعلّ] في أمثال المقام.

ص: 56

بحوث المقام

بحث أدبي

الآية الشريفة تشتمل على مضمون رفيع بأحسن بيان و أرق أسلوب و أبلغ خطاب يلقى إلى السامع و هو يشعر بالعطف و الحنان، و استقرار النفس بأنّ خالقها قريب منها يسمع دعاء من يدعوه بكل ما يدعوه، و هي تتضمن من الأنحاء الأدبية ما يلي:

الالتفات عن خطاب المؤمنين بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، و فيه من التذكير لهم بالدعاء و الطاعة و التنويه بشرف الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و عظمته.

إلقاء صيغة التكلم للدلالة على كمال العناية بالدعاء و المدعوّين.

دلالة قوله تعالى: عِبادِي على كمال الرأفة و الاعتناء بالخلق و الاهتمام بالأمر، و لو قال: [خلقي أو الإنسان] و ما أشبههما لما أفاد ذلك.

إتيان الصيغة المؤكدة في قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ دون الفعل للدلالة على ثبوتها و دوامها، كما أنّه حذف الواسطة و لم يقل: [فقل إنّي قريب] ليدل على أنّ الإجابة منحصرة فيه تعالى.

إتيان الفعل في قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ للدلالة على استمرار الإجابة و تجددها. و يأتي في البحث الدلالي وجه إتيان ضمير المتكلّم مفردا.

ص: 57

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: إتيان ضمير المتكلم المفرد في قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي للدلالة على مزيد العطف و العناية. و من سنته جل شأنه في القرآن الكريم أنّه إذا كان في مقام إظهار الاقتدار و الكبرياء و الهيمنة يأتي بضمير الجمع غالبا، مثل قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ [ق - 43]، و قوله جلّ شأنه: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا [يس - 12]، و قوله عز و جل: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ [الأحزاب - 72]، و قوله تعالى:

إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان - 3]، و قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر - 1]، و غير ذلك مما هو كثير.

و إذا كان في مقام الامتنان و الرأفة و التحنن و إظهار المعية يأتي بضمير المفرد قال تعالى: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [طه - 46]، و قال تعالى: إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا [طه - 14]، و في المقام قال تعالى:

فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ ، فهو مشعر بالتوجه و الإلفة و تهييج الشوق - كأنّه مما يشبه اختلاط المتكلم مع المخاطبين - ما لا يدركه الإعلام و يقصر دون بيانه الأعلام.

ص: 58

الثاني: الوجه في إلقاء الخطاب إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بقوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قائد الأمة و رأسها و رئيسها بل إنّ ذلك ثابت له بالنسبة إلى جميع الخليقة للإشارة إلى أنّ الدعاء لا بد من وروده من بابه و هو خاتم الأنبياء فإنّه الواسطة في الفيوضات الإلهية و خاتمة جميع المعارف الربوبية، فهو الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل.

و فيه نحو تعليم للناس في أن يسألوا أمهات الأمور الدينية من النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أو من يتبع طريقه علما و عملا، مع أنّ أسرار الحبيب لا يعرفها إلا الحبيب.

الثالث: إنّ شأن العبد بالنسبة إليه عز و جل هو الدعاء، و قد وعد تعالى الإجابة إن كان الدعاء جامعا للشرائط إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ [آل عمران - 9]. و أما السؤال عن كنهه و ذاته سبحانه و تعالى فهو مرغوب عنه إذ لا يدرك الممكن كثيره و لا ينفع قليله، بل ربما يضر، و لذا ورد النهي في السنة عن التعمق في ذاته تعالى، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ و لا معنى للسؤال عما هو قريب حاضر.

و من العجائب أن أكون مسائلا *** عن حاضر لا زلت أصحبه معي

الرابع: تكريم الداعي السائل بالاضافة التشريفية المعبودية في قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي و فيه من الأدب ما لا يخفى و تعليم للعلماء باحترام السائل عن الحق.

الخامس: تضمين الأمر بالدعاء معنى الإجابة في قوله تعالى:

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فإنّه بشارة باستجابة الدعاء ثم التأكيد بقوله تعالى:

وَ لْيُؤْمِنُوا بِي فإنّه سواء كان خاصا بخصوص هذه الآية أم عاما لجميع التشريعات فإنّه يدل على تحقق مفاد الآية و اتباع ذلك بقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ و هو تأكيد آخر، و لبيان أنّ الدعاء سبب الرشد الذي هو إصابة الحق و الخير، و إليه يشير

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ أعجز الناس من عجز عن الدعاء، و أبخل الناس من بخل عن السلام».

ص: 59

السادس: إنّ قوله تعالى: إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يدل على شروط استجابة الدعاء أحدها سيق لبيان الموضوع، و هو قوله تعالى: إِذا دَعانِ فإنّه معلوم مما قبله و لكنّه ذكر لأجل التنبيه على أنّه ليس كل من يدعو اللّه لحاجة هو داعيا للّه بحقيقة الدعاء لفقد الانقطاع و عدم التوجه إليه تعالى فلا يكون هناك مواطاة بين القلب و اللسان و لا يكون دعاء بل التبس الأمر على الداعي فيسأل ما يجهله أو ما لا يريده لو انكشف الأمر له، أو يكون سؤال لكن لا من اللّه تعالى وحده، و لذا ورد إنّ اللّه لا يستجيب دعاء من قلب لاه متعلق بالأسباب المادية أو الأمور الوهمية فلم يكن دعاؤه خالصا لوجه اللّه تعالى فلم يسأله بالحقيقة، و هذا هو المستفاد من مجموع الآيات الواردة في الدعاء و الأحاديث الشارحة لها.

السابع: إنّ إفراد الضمير في (عنّي) و (إنّي) و (أجيب) فيه إشارة إلى أنّ إجابة الدعاء منحصرة به تعالى و لا دخل لغيره فيها لأنّه تصرّف من عالم الملكوت الأعلى في عالم الملك الأسفل و لا يليق بذلك غيره عز و جل. نعم الاستشفاع و التوسل بعباد اللّه الصالحين الذين جعلهم اللّه تعالى واسطة الفيض لديه شيء آخر لا ربط له بإجابة الدعاء، كما لا يخفى.

مع أنّ الحنان و الرأفة و جذب الداعي إلى مقام القرب يقتضي توحيد الضمير لئلا يعرض على قلب الداعي هيبة العظمة فتشغله عمّا يحتاجه من قليل أو كثير.

كما أنّ في تكرار ضمير الإفراد في (عنّي) و (إنّي) إشارة إلى أنّ المسؤول عنه نفس القريب المجيب و عينه و لا فرق إلا بالاضافة الاعتبارية. فإنّه إذا أضيف إلى السائل يكون مسئولا عنه و إذا أضيف إلى نفسه الأقدس يكون قريبا مجيبا و إن كانت إضافته من صفات فعله لا من صفات ذاته، و في المقام سرّ آخر، لعله يظهر في الآيات المناسبة.

ص: 60

بحث روائي

في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الدعاء».

و في عدة الداعي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أفضل العبادة الدعاء و إذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد» أقول: الروايات في فضل الدعاء و آدابه و كيفيته كثيرة متواترة بين المسلمين يأتي التعرض لبعضها في البحوث الآتية.

في تفسير العياشي عن ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي قال (عليه السلام): «يعلمون أنّي أقدر على أن أعطيهم ما يسألون».

أقول: يريد (عليه السلام) أنّه ليس المراد بهذا الإيمان الإيمان بأصل التوحيد في مقابل الشرك، بل الإيمان باستجابة الدعاء.

و في المجمع عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لْيُؤْمِنُوا بِي أي: و ليتحققوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي:

«لعلهم يصيبون الحق أي يهتدون إليه».

ص: 61

أقول: يظهر وجهه مما سبق.

و عن ابن عباس: «قالت اليهود كيف يسمع ربّنا دعاءنا و أنت تزعم أنّ بيننا و بين السماء خمسمائة عام و غلظ كل سماء ذلك؟ فنزلت الآية: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ .

و روي أنّ قوما قالوا للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ قريب ربّنا فنناجيه أم بعيد ربنا فنناديه؟ فنزلت الآية المباركة».

و روي أنّ سبب نزولها: «أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) سمع المسلمين يدعون اللّه بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

أيّها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا إنّكم تدعون سميعا قريبا و هو معكم».

أقول: يمكن أن تكون جميع هذه الأخبار معتبرة كل بحسب طائفة و قوم فتختلف باختلاف الجهات.

أما الأول: فبحسب مزاعم اليهود حيث زعموا أنّ سمع اللّه يكون كسمعنا يحجب بالحجاب، و لكنّه باطل، لأنّ المراد بسمعه تبارك و تعالى: العلم بالمسموعات و الإحاطة بها كما في جملة من الروايات، و لذا لا يشغله سمع عن سمع لأنّ علمه الإحاطي يشتمل على جميع ما سواه.

أما الثاني: فيكشف عن جهلهم بالحقائق.

و أما الأخير: فهو ناش عن سوء أدبهم، فإنّ الآية المباركة ترشد إلى نبذ بعض العادات السيئة التي كانت سائدة عندهم فيكون مثل قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور - 63]، و قال تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ اَلْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات - 4].

ص: 62

بحث علمي
اشارة

الدعاء من أقوى الأسباب في نجح المطلوب و أعظمها في نيل المقصود و من أشد روابط القرب إلى المعبود و لا ينفك عنه الإنسان في جميع مراحله و أطواره، و جميع نشئاته سواء بلسان الاستعداد و الفطرة أم بلسان المقال، و لا يخلو كتاب إلهيّ من الحث عليه، و هو العبادة التي أمرنا بإتيانها و الراغب عنه عدّ من المستكبرين عن رحمة الرحمن قال تعالى: وَ قالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر - 60]،

و عن السجاد عليّ بن الحسين (عليهما السلام) في صحيفته الملكوتية بعد ذكر الآية المباركة: «فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكبارا و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين، فذكروك بمنّك و شكروك بفضلك، و دعوك بأمرك، و تصدقوا لك طلبا لمزيدك، و فيها كانت نجاتهم من غضبك و فوزهم برضاك» و البحث في الدعاء من جهات كثيرة نذكر في المقام الأهم منها، و يأتي المهم في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

فضل الدعاء:

للدعاء فضل كبير، و قد أمرنا به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و قد عبّر عنه بالعبادة في الآية الشريفة المتقدمة، و يكفي في فضلها قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [الفرقان - 77] فهو سبب اعتناء اللّه تعالى

ص: 63

بخلقه، و قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة - 186] فإنّه كفى فضلا في أنّه تعالى بنفسه الأقدس يجيب دعوة الداع من دون واسطة في البين، و قوله تعالى اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر - 60]، حيث رتب الاستجابة على الدعاء، و هذا من عظيم الفضل.

و أما السنة: فقد وردت روايات كثيرة متواترة من الفريقين في فضل الدعاء و استحبابه مطلقا:

فعن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فيما رواه الفريقان: «الدعاء سلاح المؤمن، و عمود الدّين و نور السماوات و الأرض».

و عن الصادق (عليه السّلام): «الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما».

و عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): «عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء و الطلب إلى اللّه عز و جل يرد البلاء و قد قدّر و قضي فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي اللّه و سئل صرف البلاء صرفه».

و عن الصادق (عليه السّلام): «إنّ الدعاء يرد القضاء المبرم و قد أبرم إبراما، فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كل رحمة و نجاح كل حاجة، و لا ينال ما عند اللّه إلا بالدعاء، فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه».

و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): «عليكم بالدعاء فإنّكم لا تتقربون بمثله، و لا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار».

و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه و لكنّه يحب أن تبث إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمّ حاجتك».

و في الكافي عن ميسر عن الصادق (عليه السلام): «يا ميسر أدع و لا تقل:

إنّ الأمر قد فرغ منه إنّ عند اللّه عز و جل منزلة لا تنال إلا بمسألة».

و عن الصادق (عليه السلام) أيضا في رواية ابن القداح: «الدعاء كهف

ص: 64

الإجابة، كما أنّ السحاب كهف المطر».

و عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «الدعاء هو العبادة التي قال اللّه: إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. أدع اللّه عز و جل و لا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه».

و عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدعاء ترس المؤمن و متى تكثر قرع الباب يفتح لك».

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رسالة طويلة إلى أصحابه: «أكثروا من أن تدعوا اللّه، فإنّ اللّه يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه، و قد وعد عباده المؤمنين الاستجابة، و إليه مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهم في الجنة».

و عن الباقر (عليه السلام): «و لا تمل من الدعاء فإنّه عند اللّه بمكان».

و عن علي (عليه السلام): «الدعاء مخ العبادة».

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أفضل العبادة الدعاء، و إذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».

و عن الرضا (عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال (عليه السلام): الدعاء».

و عن الصادق (عليه السلام): «الدعاء أنفذ من السنان».

و عن العبد الصالح (عليه السلام): «الدعاء جنّة منجية ترد البلاء و قد أبرم إبراما».

و عن علي (عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح و مقاليد الفلاح، و خير الدعاء ما صدر عن صدر نقي و قلب تقي، و في المناجاة سبب النجاة، و بالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع».

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم

ص: 65

من أعدائكم، و يدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى. قال: تدعون ربكم بالليل و النهار فإنّ سلاح المؤمن الدعاء».

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء» إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في كتب الفريقين.

حقيقة الدعاء:

الدعاء: هو الوسيلة بين العبد و خالقه، و اتصال من عالم الملك بعالم الملكوت الذي هو من أهم الأسباب الطبيعية الاختيارية الواقعية لنجح المطلوب و النيل إلى المقصود، فإنّه كما تترتب المسببات على الأسباب المقتضية لها، فإنّ قانون السببية الذي جعله اللّه تعالى وسيلة لتحقق المسببات الوجودية من دون أن يكون في البين فيض من الأسباب مستقلة من دون اللّه تعالى، كذلك فإنّ للإنسان شعورا باطنيا و حسا وجدانيا أنّ له ملجأ يأوي إليه في حوائجه ليقضيها، و أنّ له سببا معطيا لا ينضب معينه و هو مسبّب الأسباب، و هو ليس كالأسباب الظاهرية التي يمكن أن يتخلف عنها أثرها. و هذا الشعور الباطني يمكن أن يشتد عند فرد بحيث لا يرى للمسببات إلا سببا واحدا و ينقطع عن أي سبب دونه، فيعتصم به و لا يتخلّى عنه و يتوكل عليه في كلّ حوائجه، فتنكشف لديه الأشياء على حقائقها و يرى زيف الأسباب.

نعم، قد يعرض على هذا الشعور الباطني و الحسي الوجداني بعض الظلمات و الأوهام فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه تبعا لشدة ما يتخيله و ضعفه، فيتخيل خلاف ما هو المركوز في فطرته، و هذا لا يختص بهذا النور الفطري بل يشمل جميع ما يتعلق بالفطرة و الشعور الباطني، و لذا قد يرجع و يفيء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل و عدم نفع أي سبب في رفعها، كما ورد في قضية من ركب البحر فانكسرت به السفينة و أيقن بالهلاك فعند ذلك يدعو من ينجيه، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [يونس - 22].

ص: 66

نعم، قد يعرض على هذا الشعور الباطني و الحسي الوجداني بعض الظلمات و الأوهام فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه تبعا لشدة ما يتخيله و ضعفه، فيتخيل خلاف ما هو المركوز في فطرته، و هذا لا يختص بهذا النور الفطري بل يشمل جميع ما يتعلق بالفطرة و الشعور الباطني، و لذا قد يرجع و يفيء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل و عدم نفع أي سبب في رفعها، كما ورد في قضية من ركب البحر فانكسرت به السفينة و أيقن بالهلاك فعند ذلك يدعو من ينجيه، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [يونس - 22].

و لا يستفاد من ذلك أنّه حينئذ لا يمكن تخلف المدعو عن الدعاء إذا كان الأمر كذلك فإنّ أمر الدعاء و المسببات الظاهرية في ذلك سواء، فإنّه كثيرا ما كانت هناك عوامل تثبّط الأسباب و تمنعها عن الأثر، فكذلك في الدعاء فإنّ هناك موانع كثيرة عن تحقق المدعو به قد ندركها و قد لا ندركها بل الأمر في الدعاء أشد، لفرض أنّه ارتباط مع عالم الغيب غير المتناهي الخارج عن الحس، فلا بد أن تكون الأسباب الموصلة إليه أدقّ و أرقّ، و هذا محسوس في عالم الماديات أيضا، فإنّ كلّما كان الشيء ألطف و أدقّ كان السبب الموصل إليه كذلك.

فحقيقة الدعاء هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة و الارتباط بعالم لا مبدأ له و لا نهاية، و لا حدّ و لا غاية لسعة رحمته و قدرته و إحاطته بجميع ما سواه، فوق ما نتعقل من معنى السعة و الإحاطة و القدرة يقضي له حوائجه بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الدّاعي جميع وسائل نجح طلباته فيقع التجاذب بين الموجودات الخارجية و بين قلب هذا الداعي، فيصير موجدا و فاعلا لما يدعو به، فيتحد الداعي و الدعوة و المدعو به في بعض المراتب، و لا تحصل هذه المرتبة إلا لمن انسلخ عن ذاته بالكلية و فنى في مرضاة الواحدية الأحدية فلا يرى في الوجود سوى المدعو، سواء كان ذلك ملكة أم حالا، فيتحد العاقل و المعقول، كما أثبته بعض أكابر الفلاسفة، و لعله المراد من الاسم الذي هو غيب الغيوب و السّر المحجوب، فروح الدعاء هي ارتباط الداعي مع اللّه عز و جل بالشرائط المقررة المذكورة في محالها.

ما أورد على الدعاء:

بيّنا أنّ حقيقة الدعاء هي ارتباط خاص بين الإنسان و عالم لا مبدأ له و لا حد، و لكن أورد على الدعاء إيرادات كثيرة أهمها هي:

الأول: ما عن الماديين الذين ينكرون الغيب أي: ما وراء المادة من المبدإ الحي الأزلي و إنكار ربط الحوادث به و ارتباط العالم بالمادة فقط على

ص: 67

نحو العلية التامة و لذلك أنكروا الدعاء و التوسل إليه في نيل المطلوب و نجحه.

و يرده: ما أثبته جميع الفلاسفة من وجود مبدإ غيبي و أنّ الحوادث جميعها مستندة إليه، و أنّ الشرايع الإلهية قد أثبتت ذلك بألسنة مختلفة و تفصيل البحث موكول إلى الفلسفة الإلهية و علم الكلام. و أنّ المادة و الجهد من قبيل المقتضيات لا العلل التامة، و لذلك لا بد من التوسل إليه و الإفاضة منه بعد السّعي و الجد لتمهيد السبيل للنيل إلى المطلوب.

الثاني: أنّ المبدأ موجود و أنّه حيّ أزليّ و لكنّ الحوادث الجزئية الخاصة غير مستندة إليه بل أصل حدوث العالم و خلقه في الجملة ينتهي إليه بخلافها، و قد تشعب عن هذا الرأي مذاهب: منها: ما عن اليهود كما حكاه اللّه تعالى عنها: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة - 64]. و منها: ما نسب إلى بعض من أنّ مناط الحاجة الحدوث في الجملة فقط دون البقاء، حتى قال:

«لو جاز على الواجب العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم». و هناك مذاهب أخرى قد تعرضوا لها كلّ في محله، و لذلك أنكروا الدعاء و قالوا إنّه لا يسمن و لا يغني من جوع.

و يرده: ما أثبتوه بالأدلة العقلية من أنّ مناط الحاجة الإمكان و هو حليف ما سوى اللّه تعالى حدوثا و بقاء في جميع الأزمنة و الأمكنة، و إذا كان كذلك فلا بد من التوسل إليه و الإفاضة منه لفرض الافتقار إليه في ما سواه تعالى بلا فرق في تلك المذاهب.

الثالث: أنّ الحوادث معلومة عنده جلت عظمته و لا تغيّر في العلم، فلا تغيّر في الحوادث أيضا، فلا مجال للدعاء حينئذ في الحوادث بعد فرض تعلق علمه تعالى بها.

و يرده أولا: أنّ هذا مبنيّ على كون علمه تعالى علة تامة منحصرة لمعلوماته عز و جل، و هو باطل عقلا و نقلا كما ثبت في الفلسفة الإلهية و سنتعرض في الآية المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيا: العلم تعلق بها متغيّرا، فالتغير في المعلوم بالعرض لا في العلم

ص: 68

و المعلوم بالذات إذن لا إشكال في صحة التوسل إليه تعالى و الدعاء للنيل إلى ما هو الصالح.

الرابع: أنّ الحوادث التي ترد على عالمنا مقدّرة و مقضية أزلا و لا تغيّر و لا تبدل في القضاء و القدر فلا معنى للدعاء و التوسل بعد نزول الحادثة، و قد عبّر عن هذا الإيراد بتعابير مختلفة أخرى.

و يرده: أنّ القضاء و القدر من مراتب فعله جلّ شأنه و ليسا في مرتبة الذات، و فعله تعالى قابل للتغير مطلقا، و قد ورد في بعض الروايات أنّ الدعاء يرد القضاء و قد أبرم إبراما. فيصح التوسل إليه لأجل زوال الحادثة أو تغيير الحال.

الخامس: أنّ الدعاء من قبيل تحقق المعلول بلا علة، و هو محال كما ثبت في محله.

و يرده: أنّ الدعاء لا ينافي قانون العلية و المعلولية أو سائر نواميس الطبيعة بل إنّه يكون سببا لتحقق المسبب المستند إلى سببه الخاص.

السادس: أنّ الآيات الشريفة الدالة على الحث على العمل و نيل الأجر به تنافي سبل الدعاء، مثل قوله تعالى: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة - 105]، و قوله تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف - 30] و قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم - 40]، و غيرها من الآيات المباركة فإنّ ظاهرها حصر التأثير في العمل و أنّ الأجر منحصر فيه.

و يرده أولا: أنّه لا تنافي بين تلك الآيات المباركة و بين ما أمر بالدعاء مثل قوله تعالى: اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً [الأعراف - 53]، و قوله تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر - 60]، لأنّ الدعاء بلا عمل لا أثر له و إنّه مما لا يستجاب، كما يأتي في الروايات.

و ثانيا: أنّ الدعاء بنفسه عمل خاص و توجه إليه تعالى فلا تنافي بين ما دل على الترغيب بالعمل و بين أن يأمر بالدعاء.

ص: 69

و هناك دعاوى أخرى نسبت إلى من لم يعتقد بالدعاء أدلتها موهونة جدا أعرضنا عن ذكرها.

الدعاء ارتباط روحي:

ذكرنا أنّ حقيقة الدعاء هي الاتصال بمبدإ لا نهاية لعظمته و قدرته و مالكيته و قهّاريته، و التوسل إليه بالترابط الروحي بين الداعي و المدعو. يلتمس منه الداعي نجح مطلوبه و قضاء حاجته فيلهم اللّه تعالى الداعي ما يرشده إلى مطلوبه، فيكون الدعاء ضربا من التأثير الروحي، و ذلك يتوقف على معرفة اللّه جلّ شأنه رب الأرباب و له السلطان التام و أنّ جميع الأسباب راجعة إليه عز و جل، و الإذعان بأنّها الواسطة في التأثير فقط و أنّ المؤثر هو اللّه وحده، و إلى ذلك يشير

ما ورد عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «لو عرفتم اللّه حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال». و الوجه في ذلك واضح فإنّ الجهل بمقام الربوبية العظمى و الإعتقاد بقانون السببية التامة في الأسباب و المسببات الخارجية يوجب البعد عن ساحة الرحمن، و الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب العادية، و ينتهي إلى الغفلة عنه و يقابل ذلك التوجه إليه و معرفته تبارك و تعالى فإنّ مقتضى مالكيته جلّت عظمته لجميع ما سواه، و ربوبيته العظمى لها و استغناؤه عز و جل عن الكل و احتياج الكل إليه هو سؤال الكل منه عز و جل، و دعاؤه له بلسان الحال و الاستعداد، لأنّ مناط السؤال و الدعاء إنّما هو الحاجة، و هي من لوازم الإمكان. و كلّ ممكن، سواء كان من المجردات أم الماديات بجواهرها و أعراضها، جميعا داع له وسائل منه بلسان الافتقار إليه و الانقهار لديه و إن لم نفقه سؤال كثير من الممكنات. نعم السؤال، و الدعاء القصدي الاختياري و التوجه الفعلي من شؤون الإنسان فإنّ له شأنا و منزلة عنده تعالى يحب السماع إليه فيلتذ أولياء اللّه تعالى بالدعاء و المناجاة، و يبتهج اللّه جلّت عظمته بذلك ابتهاجا لا يحيط به غيره،

ففي الحديث: «إنّ اللّه يعلم حاجتك، و ما تريد و لكن يحب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسمّ حاجتك» و في أخبار كثيرة أنّ اللّه تعالى قد يؤخر إجابة دعاء عبد لأن يسمع صوته

ص: 70

و تضرّعه، و يعجّل إجابة بعض الدعوات لأنّه تعالى لا يحب سماع صوت داعيه و تضرعه.

و لكن ذلك لا يوجب إلغاء ناموس العلية و المعلولية بين الأشياء، بل قد أثبتنا في المباحث السابقة أنّ هذا القانون حق لا ريب فيه و أنّه

«أبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها» إلا أنّ الدليل العقلي أثبت الواسطة لها دون الانحصار و الدعاء داخل تحت هذا القانون و أنّه من طرق العلية للأشياء و التقريب بين الأسباب و المسببات واقعا و إن لم ندركه ظاهرا، و إليه يشير

ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام):

«ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته و استمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطنك إبطاء إجابته».

شروط الدعاء:

للدعاء شروط كثيرة جدا مذكورة في القرآن الكريم و السنة المقدسة و هي تنقسم إلى شروط الصحة فلا يصح الدعاء بدونها، و شروط كمال له. أما شروط الصحة فهي:

الأول: الإيمان باللّه تعالى قال عز و جل: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة - 186].

الثاني: الإخلاص في الدعاء و عقد القلب عليه، و حسن الظن بالإجابة، قال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ و قال تعالى: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظّالِمِينَ [يونس - 106].

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم، و لا يكون له رجاء إلا عند اللّه فإذا علم اللّه ذلك من قلبه لم يسأل اللّه شيئا إلا أعطاه»،

و عن الصادق (عليه

ص: 71

السلام): «إذا دعوت فأقبل بقلبك و ظنّ حاجتك بالباب»

و في وصية النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، لعلي (عليه السلام): «لا يقبل اللّه دعاء قلب ساه».

و في الكافي عن سليمان بن عمرو قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ اللّه عز و جل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة».

و في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «إنّ العطية على قدر النية».

و في عدة الدّاعي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه: «ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات و أسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه و إن دعاني لم أجبه. و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمّنت السموات و الأرض رزقه فإن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و إن استغفرني غفرت له»، و الحديث ظاهر في أنّ إجابة الدعاء منوطة بالإخلاص.

و في الحديث القدسي: «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظن بي إلا خيرا» و هو ظاهر في أنّ في التردد و اليأس لا تكون إجابة فلا بد من العزم على السؤال.

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ادعوا اللّه و أنتم موقنون بالإجابة» إلى غير ذلك من الأخبار، و قد تقدم الوجه في ذلك أيضا بأنّ في الإعراض و السهو و الغفلة لا تتحقق حقيقة الدعاء.

الثالث: اليأس من غير اللّه تعالى لأنّه ربّ السموات و الأرض عنده مفاتيح الغيب يعطي لمن يريد و يمنع عمن يريد، و العلم بأنّه تعالى إنّما يقضي الحوائج حسب المصلحة فإنّ الإنسان لا يعرف الحقائق و يجهلها و ربما يسأل ما هو شرّ و أنّ اللّه تعالى يبدّله إلى الخير، و ربما يسأل الخير فيؤخره إذ المصلحة في التأخير،

ففي نهج البلاغة عن عليّ (عليه السلام): «و ربما

ص: 72

أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، و أجزل لعطاء الآمل، و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله و ينفى عنك و باله، و المال لا يبقى لك و لا تبقى له».

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه عز و جل: من سألني و هو يعلم أنّي أضرّ و أنفع استجبت له»، و ذلك لأنّ إجابة دعاء الداعين لا بد أن تكون على طبق الحكمة البالغة و العناية التامة المحيطة بالحقائق كلياتها و جزئياتها لا على طبق مشتهيات الداعين و السائلين، قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة - 216]. فإنّ الإنسان كثيرا ما يهتم بشيء حتى إذا ما تحقق وجده ضارا أو يكره شيئا حتى ما إذا تحقق وجده نافعا، و هذا وجداني محسوس لدى كل فرد فالدعاء بما يتخيله الإنسان أنّه نافع شيء و ما هو الواقع الذي في علمه تعالى شيء آخر. فإنّ التسرّع في إجابة الدعاء و قضاء الحوائج بلا تأمل في اللوازم و الملزومات و الآثار نقض في الحكمة و هو محال بالنسبة إليه تعالى. نعم نفس الدعاء و المسألة من سنن العبودية و لا بد من تحققها من العبد، و أما الاستجابة فهي منوطة بالحكمة البالغة و العلم الأزلي.

الرابع: أن يكون المراد خيرا ممكنا بأن لا يكون من المحالات الذاتية أو العادية، و مما لا نفع له أو مما يضرّ بحال الآخرين، أو نهى عنه الشارع و نحو ذلك، فإنّ مثل هذا الدعاء مما لا يستجاب و ذلك لأنّ اللّه تعالى:

«أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها». و قد تقدم في أحد المباحث السابقة أنّ المستحيلات و إن كانت تحت قدرته تعالى و لكنّه عز و جل لم يفعلها لاستلزامه نقض الحكمة،

ففي الحديث عن علي (عليه السلام): «اثنوا على اللّه عز و جل و امدحوه قبل طلب الحوائج يا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يحل و لا يكون».

و في الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «لا تمل من الدعاء

ص: 73

فإنّه من اللّه بمكان، و عليك بالصبر و طلب الحلال، و صلة الرحم»، إلى غير ذلك من الروايات.

الخامس: طيب المكسب و العمل الصالح،

ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «من سرّه أن تستجاب دعوته فليطب مكسبه»،

و في وصية النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لأبي ذر: «يا أبا ذر يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح، يا أبا ذر مثل الذي يدعوه بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر، يا أبا ذر إنّ اللّه يصلح بصلاح العبد ولده و ولد ولده و يحفظه في دويرته و الدور حوله ما دام فيهم».

و عن زرارة عن الصادق (عليه السلام): «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر».

و في عدة الداعي: «إنّ اللّه أوحى إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني و السحت تحت أقدامكم، و الأصنام في بيوتكم، فإنّي آليت أن أجيب من دعاني، و إنّ إجابتي إياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا».

و في الحديث القدسي: «لا تحجب عنّي دعوة إلا دعوة آكل الحرام».

و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لرجل حين ما قال له: أحب أن يستجاب دعائي، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «طهّر مأكلك، و لا تدخل بطنك الحرام».

السادس: أداء مظالم الناس و حقوقهم،

فقد ورد عن الصادق (عليه السلام): قال اللّه عز و جل «و عزتي و جلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة، أو لأحد عنده مثل تلك المظلمة».

و في عدة الداعي: «أوحى اللّه إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل إنّي لا أستجيب لأحد منهم دعوة و لأحد من خلقي عندهم مظلمة» و تقدم في بحث التوبة ما يتعلق بالمقام.

ص: 74

شروط الكمال للدعاء:

تقدم أنّ من الشروط في الدعاء هي شروط الكمال له، و لا ريب في حسن مراعاتها في هذه الحالة التي يرغب الداعي استجابة دعواته و هي كثيرة.

الأول: الطهارة من الحدث و الخبث لقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة - 222].

الثاني: الدعاء بالمأثور عن المعصومين لأنّه تكلم مع اللّه عز و جل كما أنّ القرآن تكلم اللّه مع العبد فينبغي في الدعاء أن يكون مأثورا و مستندا إلى الشرع، قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ [فاطر - 10]، و قال عز و جل: وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ [الحج - 24].

و عن صدر المتألهين (قدس اللّه نفسه الشريفة): «فكما أنّ أجساد البشر تكرّم بكرامة الروح فكذلك أصوات الكلام تكرم و تشرف بشرافة الحكمة التي فيها» فلا بد للدعاء من نزوله من محل أمين و مهبط شريف و إرساله من نفوس زكية ذكية حتى يناسب الخطاب مع العظيم كما تدل عليه روايات كثيرة.

نعم، فرق بين الدعاء و المسألة فإنّ الأخيرة لا يشترط فيها ذلك بل يكفي بكل ما جرى على اللسان حتى يوجهه تعالى إلى الطريق الصحيح أو يقضي حوائجه و يحل مشاكله،

قال زرارة للصادق (عليه السلام): «علمني دعاء فقال (عليه السلام): إنّ أفضل الدعاء ما جرى على لسانك» و المراد به المسألة و طلب الحاجة.

الثالث: أن يكون الدعاء بالأسماء الحسنى و غيرها من أسماء اللّه تعالى،

فعن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) للّه عز و جل تسعة و تسعون اسما من دعا اللّه بها استجيب له و من أحصاها دخل الجنة، و قال اللّه عز و جل: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها .

و عن الصادق (عليه السلام): «و أكثر من أسماء اللّه عز و جل فإنّ أسماء اللّه كثيرة».

الرابع: تقديم تمجيد اللّه و الثناء عليه و الإقرار بالذنب و الاستغفار منه،

ص: 75

ففي الكافي عن الحارث بن المغيرة قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئا من حوائج الدنيا و الآخرة حتى يبدأ بالثناء على اللّه عز و جل، و المدح له، و الصلاة على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ثم يسأل اللّه حوائجه».

و عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضا: «إنّما هي المدحة ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب، ثم المسألة إنّه و اللّه ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار».

و عن علي (عليه السلام): «السؤال بعد المدح فامدحوا اللّه عز و جل ثم اسألوا الحوائج، أثنوا على اللّه عز و جل و امدحوه قبل طلب الحوائج». و المراد بالثناء و التمجيد مطلق ما يكون ثناء و تمجيدا.

الخامس: أن يشتمل على ذكر محمد و آل محمد، لأنّهم وسائط الفيض و وجهاء الخلق،

ففي الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «كل دعاء يدعى اللّه عز و جل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد و آل محمد»

و عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): «لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلّى على محمد و آل محمد».

و عن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضا: «كل دعاء يدعى اللّه عز و جل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد و آل محمد».

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم و زكاة لأعمالكم».

السادس: أن يكون الدعاء بعد الانقطاع إليه عز و جل و رقة القلب و البكاء،

ففي الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «إذا رقّ أحدكم فليدع، فإنّ القلب لا يرقّ حتى يخلص».

و عن الصادق (عليه السلام): «إذا اقشعر جلدك و دمعت عيناك فدونك دونك فقد قصد قصدك».

ص: 76

و عن سعد بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إنّي أتباكى في الدعاء و ليس لي بكاء قال (عليه السلام): نعم و لو مثل رأس الذباب».

و عن عنبسة العابد عن الصادق (عليه السلام): «إن لم تكن بكّاء فتباك».

و قد اعتبر بعض العلماء (رحمهم اللّه تعالى) أنّ بعض مراتب الانقطاع التام إليه عز و جل إذا كانت الحالة جامعة للشرائط من الاسم الأعظم و قد جربت ذلك في بعض أسفاري إلى بيت اللّه الحرام بعد انقطاع الرجاء إلا منه.

فكان ما كان مما لست أذكره *** فظنّ خيرا و لا تسأل عن الخبر

السابع: الدعاء في الأوقات المعينة، و هي كثيرة منها السحر و آخر الليل

فعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «خير وقت دعوتم اللّه الأسحار».

و عن الصادق (عليه السلام): «من قام من آخر الليل فذكر اللّه تناثرت عنه خطاياه، فإن قام من آخر الليل فتطهّر و صلّى ركعتين و حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لم يسأل اللّه شيئا إلا أعطاه إما أن يعطيه الذي يسأله بعينه و إما أن يدخر له ما هو خير له منه».

و منها: الصباح و المساء،

فعن الصادق (عليه السلام): «إنّ الدعاء قبل طلوع الشمس و قبل غروبها سنة واجبة مع طلوع الشمس و المغرب».

و منها: عند نزول المطر، و زوال الشمس، و هبوب الرياح، و قتل الشهيد، و قراءة القرآن، و الأذان، و ظهور الآيات،

ففي الكافي عن زيد الشحام قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «اطلبوا الدعاء في أربع ساعات: عند هبوب الرياح، و زوال الأفياء، و نزول المطر، و أول قطرة من دم القتيل المؤمن، فإنّ أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء».

و عن الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

«اغتنموا الدعاء عند أربع، عند قراءة القرآن، و عند الأذان، و عند نزول الغيث، و عند التقاء الصفين للشهادة».

ص: 77

و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «كان أبي إذا كانت له إلى اللّه حاجة طلبها في هذه الساعة يعني زوال الشمس».

و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من أدى للّه مكتوبة فله في إثرها دعوة مستجابة».

و منها: الأزمنة المتبركة مثل ليلة الجمعة، و ليالي القدر، و شهر رمضان، و شهر رجب، و ليلة النصف من شعبان، و ليلة عرفة و يومها، و العيدين و غيرها مما هو كثير كما في كتب الأدعية.

الثامن: الدعاء في الأمكنة المتبركة مثل الحرم الإلهي المقدس، و المسجد الحرام، و مسجد النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و عند الأئمة الكرام، أو المساجد الأربعة و غيرها من المساجد.

التاسع: الدعاء بعد تقديم الصدقة و شم الطيب،

فعن الصادق (عليه السلام): «كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند الزوال، فإذا أراد ذلك قدّم شيئا فتصدّق به و شمّ من طيب و راح إلى المسجد و دعا في حاجته بما شاء اللّه».

العاشر: مراعاة الأدب و تجنب اللحن في الدعاء،

ففي عدة الداعي عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) قال: «ما استوى رجلان في حسب و دين قط إلا كان أفضلهما عند اللّه عز و جل آدبهما قال: قلت جعلت فداك قد علمت فضله عند الناس في النادي و المجالس فما فضله عند اللّه عز و جل؟ قال: بقراءة القرآن كما أنزل، و دعائه اللّه عز و جل من حيث لا يلحن، و ذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى اللّه عز و جل».

و يمكن أن يستفاد ذلك من كراهة اختراع الدعاء من نفس الداعي فإنّ في الدعوات المأثورة عن نبينا الأعظم و الأئمة الهداة غنى و كفاية فهم أعرف بالأدب مع اللّه تعالى و كيفية التكلّم معه من سائر الرعية لأنّهم سدنة الملك و عيبة علم اللّه و خزان وحيه.

الحادي عشر: رفع اليدين حال الدعاء،

ففي عدة الداعي: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يرفع يديه إذا ابتهل و دعا كما يستطعم المسكين».

ص: 78

و عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: فَمَا اِسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ . قال (عليه السلام):

الاستكانة هي الخضوع و التضرّع رفع اليدين و التضرّع بهما».

و عن الباقر (عليه السلام): «ما بسط عبد يده إلى اللّه عز و جل إلا استحيى اللّه أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله و رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه و وجهه» و الروايات في رفع اليدين و التبصبص بالأصابع كثيرة مروية عن الفريقين. و كل ذلك من جهة حصول الخضوع و الخشوع للدّاعي و تقرّبه إلى المدعوّ لا لأجل أنّه تعالى يختص بمكان دون مكان و زمان دون آخر.

الثاني عشر: الدعاء سرّا،

ففي الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «دعوة العبد سرّا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية». و الوجه في ذلك لأنّه أحفظ في الإخلاص و أبعد عن شوائب الرياء.

الثالث عشر: العموم في الدعاء فإنّه آكد في الاستجابة،

ففي الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إذا دعا أحدكم فليعمّ فإنّه أوجب للدعاء».

و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من صلّى بقوم فاختص نفسه بالدعاء دونهم فقد خانهم»، و قد وردت روايات كثيرة على أنّ دعاء المؤمن لأخيه المؤمن مستجاب و أنّ للداعي مثل ما يدعو لأخيه و أكثره.

الرابع عشر: لبس الداعي خاتم عقيق أو فيروزج

فقد روى ابن بابويه عن الصادق (عليه السلام): «ما رفعت كفّ إلى اللّه أحبّ من كفّ فيها عقيق».

و في عدة الداعي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). قال اللّه عز و جل: إنّي لأستحيي من عبدي يرفع يده و فيها خاتم فيروزج فأردها خائبة».

الخامس عشر: أن يكون الدعاء لتكميل النفس و الحوائج الشرعية

ص: 79

و سؤال المغفرة و رضوان اللّه و نعم الجنة، أي يكون جامعا للدنيا و الآخرة بحيث يكون نفعه غير منقطع و أثره لا يضمحل، و في الدعوات المقدسة المأثورة من ذلك شيء كثير منها: ما يسمى بدعاء الفرج و هو مذكور في كتب الأدعية.

ثم إنّ الدعاء مطلوب لنفسه و محبوب لذاته و لا تختص محبوبيته بوقت دون وقت و لا مكان دون آخر و لا بلغة دون أخرى بل هو محبوب في جميع الأحوال و الأوقات و الأمكنة. نعم لبعض الأيام و الليالي و الأمكنة المقدسة دخل في مراتب فضله لا في أصل صحته و محبوبيته و إذا توفرت شروط صحة الدعاء و شروط كماله و وقع الدعاء مورد الاستجابة فإنّه قد يوجب التغيير في العالم مما يوجب تحيّر ذوي الألباب و لا ريب في ذلك كما مر فإنّ الدعاء عظيم أثره لأنّه حضور العبد الذليل لدى المولى الجليل، و توجه نحو التوحيد الفطري فلا تغفل عنه و لا تعرض بوجهك عنه فإنّ المحروم من حرم من الدعاء، و لا تجعل للشيطان على عقلك سبيلا بشبهاته فإنّه عدو للإنسان يحاول أن يجنب العبد عن الدعاء لأنّه من أعظم السبل في رده و اللّه الهادي و هو المولى و نعم النصير.

ص: 80

بحث عرفاني

لا ريب في أنّ أقوى مراتب سلوك السالكين إلى اللّه جلت عظمته و أهم مقامات سيرهم و سفرهم إنّما هو السفر من الخلق إلى الحق أي: التوجه التام بحيث ينقطع عما سواه تعالى و هو السير في الحق بالحق. و هذا السفر الروحاني يصح أن يعبّر عنه: بأنّه سفر من المحدود من كل جهة إلى غير المحدود من جميع الجهات، و عطف و حنان ممن لا حد لرحمته و حنانه و عنايته إلى ما هو المحتاج على الإطلاق و هذا السفر و هذه الرحمة و العطف يتحققان في حقيقة الدعاء مع الإيمان باللّه جلت عظمته و بما جاء به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنّ هذه الحقيقة مع ذلك عبارة عن تخلّي النفس عن جميع الرذائل و طهارة روحية عن جميع الصفات الذميمة و الأهواء الشريرة و ارتباط روحي مع عالم الغيب.

و إن قلت: إنّها تجلّي الرحمة الرحيمية و الرحمانية بالنسبة إلى الداعين.

أو قلت: إنّها عروج النفوس المستعدة عند الانقطاع عما سوى رب العالمين إلى أعلى الدرجات التي أعدت لها، و لذا قال تعالى: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [الفرقان - 77]،

و قال الصادق (عليه السلام) كما تقدم:

«الدعاء مخ العبادة» و لذا كان الأنبياء و الأوصياء و العلماء العارفون باللّه تعالى يواظبون عليه أشد المواظبة في جميع أحوالهم حالا و مقالا.

ص: 81

و هناك أمور أخرى مهمة مرتبطة بالدعاء نتعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بقي هنا أمران:

الأول: الفرق بين الدعاء و غيره من الأسباب المؤثرة مثل السحر و العين مثلا فإنّ الأول - أي الدعاء - تأثير غيبي في عالم الشهادة كما مر و لما سواه تأثيرات من هذا العالم و فيه و هي غير مرتبطة بعالم الغيب و الملكوت أصلا بل بعضها منهي عنه شرعا.

الثاني: أنّ الدعاء إنّما يؤثر بحسب معتقدات الداعي فربما يكون الدعاء الصادر من الذي لا يعتقد بالمبدإ يؤثر بحسب معتقده و هو خلاف الواقع قال تعالى: وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ [الرعد - 14]، و تدل عليه السنة المقدسة بل التجربة و يأتي التعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 82

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أ.......

اشارة

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى أنّ الصوم كتب على المؤمنين كما كتب على من قبلهم، و بيّن موارد الرخصة في الصوم و موارد عزيمته، ثم ذكر وقت الصوم و أنّه لا بد أن يكون في شهر رمضان.

ذكر في هذه الآية بعض أحكام الصوم فبيّن جواز غشيان النساء في الليل، و أنّ مدة الصيام من طلوع الفجر الصادق إلى الليل، و ذكر حرمة مباشرة النساء في المساجد مدة الاعتكاف، و بذلك كلّه امتاز صيام المسلمين عن غيرهم، و أخيرا بيّن أنّ جميع ذلك من حدود اللّه التي لا بد من مراعاتها لمن يريد التقوى و التقرب إليه عز و جل.

ص: 83

التفسير

187 - قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ .

الإحلال: الرخصة و الإباحة، من الحلّ مقابل المنع أو العقد.

و الرفث: بمعنى الكلام المستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد كنى به عن الجماع للتلازم بينهما كما هو أدب القرآن في استعمال الألفاظ الكنائية عما يستقبح ذكره من الوطي و الجماع كالمباشرة، و المس، و اللمس، و الدخول، و الفرج، و الغائط و نحو ذلك.

و يمكن أن يكون المراد من الرفث: الكلام الذي يقال عند حصول دواعي الجماع و هيجان الشهوة، كما تدل عليه الهيئة التركيبية لهذه الكلمة المركبة من الحروف الإخفاتية، فيستفاد منها أنّه القول الخفي الذي لا يسمعه إلا من به نواله، فأطلق على نفس الجماع من باب الملازمة و حيث إنّ مثل هذا الكلام غالبا يوجب الوصول إلى المقصود عدّي ب (إلى)، فضمن معنى الإفضاء.

و لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام، و الثاني آية الحج قال تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ [البقرة - 197]. و لعلّ السر في استعمالها في هذين الموردين أعني الصيام و الحج استهجانا لما كانوا عليه قبل الحكم بالاباحة في الصيام.

ص: 84

قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ .

جملة مستأنفة فيها من التعليل للحكم السابق أي: أنّ سبب الإحلال هو كثرة المخالطة و قلة الصبر عنهنّ.

و مادة: (ل - ب - س) تأتي بمعنى ستر ما يقبح إظهاره غالبا، و اللباس ما يستر به، و حيث أنّ كلّ واحد من الزوجين يستر الآخر من الوقوع في الحرام أو يستر قبائح الآخر سمي كل واحد منهما لباسا، كما أنّ التقوى تستر جميع القبائح عبّر عنها باللباس في قوله تعالى: وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف - 26]. و قد تأتي بمعنى مطلق الستر قال تعالى: وَ لا تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ [البقرة - 42]، و قال تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام - 83].

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تتعلق بالدنيا و الآخرة، قال تعالى في شأن أهل الجنة: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [فاطر - 33]، و قال تعالى: وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ [الكهف - 31]. و قد يستعمل لكل ساتر قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِباساً [النبأ - 10]، و لم يستعمل اللباس بالنسبة إلى أهل النار و إن استعمل لفظ الثياب قال تعالى: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [الحج - 19]، و ربما يكون الوجه في ذلك أنّ اللباس يدل على نحو اهتمام و عناية باللابس و لا يليق أهل النار بذلك.

و في الكلام من اللطف و الحسن ما لا يخفى، و فيه من الاستعارة لأعظم أمر اجتماعي و هي الحياة الزوجية، كما أنّ فيه من الترغيب إلى حسن المعاشرة و الملاطفة و الاعتناء بالحياة الزوجية كما يعتني الإنسان بلباسه و ثيابه فيصح التعبير عن الزوجة بلباس الزوج، كما يصح التعبير عنها بالفراش

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الولد للفراش» و قال تعالى: وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة - 34]، أي مرتفعة عن الأقذار.

قوله تعالى: عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ .

ص: 85

مادة - خ - و - ن) تدل على المخالفة و نقض العهد، و هي خلاف الأمانة. و النفاق أعم من الخيانة. و هيئة الاختنان تدل على ملازمة هذه الصفة و المداومة عليها كقوله تعالى: إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف - 53].

و الآية المباركة تدل على أنّ تلك الخيانة كانت سرّا بين المسلمين و أمرا مستمرا بينهم و كانت كثيرة عندهم.

يعني: علم اللّه - الذي هو العالم بالجزئيات كما هو عالم بالكليات يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور - بأنّكم كنتم تخونون أنفسكم و توقعونها في الحرام و هو مباشرة النساء.

و الآية تدل على وجود حكم تحريمي قبل نزولها و هو حرمة مباشرة النساء ليلة الصيام، فكان المسلمون أو بعضهم يعصون اللّه تعالى سرّا و لذا عقب سبحانه ذلك بالتوبة عليهم و العفو عنهم و إباحة المباشرة بالرخصة بعد المنع.

قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ .

أي: تاب عليكم فيما صدر منكم من المخالفة و ما ارتكبتموه من المحظور و عفا عن خيانتكم.

و التوبة: عبارة عن غفران ما فعلوا و ارتكبوا من المخالفة، و العفو:

عبارة عن رفع أصل الحكم و تبديله بحكم آخر سهل يسير.

قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ .

ترخيص للمباشرة من حين رفع الحرمة و المنع، و المباشرة إيصال البشرة إلى البشرة. كني بها عن الوقاع، لكونها من مقدماته، أو وقوع التلاصق بين البشرتين فيه.

و لعل الإتيان بها في المقام للدلالة على جواز استمتاع الزوج من زوجته بكلّ جزء من بدنه من كلّ جزء من بدنها ما لم يكن نهي شرعي في البين، و إن كان ظهور الآية في الجماع مما لا يستنكر.

ص: 86

و الابتغاء: هو الطلب، و المراد بما كتب اللّه هو النسل و الولد، فإنّ طلب الذرية هو مما كتبه اللّه في مباشرة النساء و الوقاع و إن لم يكن ملحوظا حين المباشرة إلا قضاء الحاجة و نيل اللذة و لكنّه مطلوب فطري و تسخير إلهي.

و يصح أن يكون المراد بما كتب اللّه هو الحلال من المباشرة، فإنّ اللّه تعالى «يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» و على هذا يصح أن تحمل الآية على مطلق الرجحان في الجملة أيضا.

و مجموع الآية الشريفة يدل على نسخ الحرمة بحلية الجماع ليلة الصيام كما هو ظاهر من موارد مختلفة منها. نعم، إنّ هذا الحكم يمكن أن يكون مما بينه الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ آيات الصيام لا تدل على حرمة المباشرة و الأكل و الشرب بعد النوم.

و قيل: إنّ الآية ليست ناسخة لحكم تحريمي شرعي، لعدم وجوده قبل نزول الآية الشريفة. نعم ذهب جماعة من الصحابة باجتهادهم إلى تحريم ما يحرم على الصائم في النهار في الليل أيضا بعد النوم، و لكنّهم خانوا أنفسهم، فكانوا عاصين بما فعلوا، فكانت الخيانة بحسب الزعم و الحسبان، فنزلت الآية تبيّن أنّ ذلك لم يكن حكما تحريميا عليهم. و قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ يدل على تحقق الحلية كما في قوله تعالى:

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ [المائدة - 96]، إذ لم يكن صيد البحر محرما قبل نزول الآية المباركة.

و يمكن المناقشة فيه بأنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة كما عرفت، و أنّ اشتمال الآية على حكم ليلة الصيام لا يدل على أنّ ذلك كان بحسب اجتهاد بعض الصحابة، بل يمكن أن يكون مما بينه الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فالآية تنسخ ما بينته السنة المقدسة.

إلا أن يقال: إنّ ترك المباشرة في الليل لم يكن بأمر من النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و إنّما كان من فعل الصحابة تجليلا لهم لشهر الصيام و لم ينههم

ص: 87

النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن ذلك فتوهموا من عدم النهي تقريرا منه (صلّى اللّه عليه و آله) فيكون التشريع من حيث التقرير، فمن يقول بالنسخ يلاحظ جهة التقرير و من لا يقول به يلاحظ أصل الفعل فيصير مجموع هذه الآيات المباركة من قبيل قوله تعالى: وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ اِبْتِغاءَ رِضْوانِ اَللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها [الحديد - 27] فإنّهم مع بنائهم على ترك المباشرة مع ذلك خانوا أنفسهم و باشروا النساء، و يستفاد ذلك من سياق الآية:

عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ .

قوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ .

ترخيص للأكل و الشرب في ليلة الصيام إلى أول طلوع الفجر الصادق الذي هو عبارة عن البياض المعترض في الأفق آخر الليل و يكون معترضا مستطيلا كالخيط الأبيض، و سمي بالصادق لصدقه في إخباره عن قدوم النهار، مقابل الفجر الكاذب الذي يشبه بذنب السرحان.

و من ذلك يظهر أنّ ليلة الصيام هي عبارة عما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، كما أنّ اليوم الصومي عبارة عما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس و اليوم العملي [الإيجاري] عبارة عما بين طلوع الشمس و غروبها لو لم يكن جعل آخر في البين.

و قوله تعالى: مِنَ اَلْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض أي: يتبيّن الخيط الأبيض من الفجر و ذلك بطلوع الفجر الصادق أي: نور الصبح من ظلمة الليل، و في الكلام تشبيه بليغ يشبّه الفجر بالخيط الأبيض و غبش الليل بالخيط الأسود، و العرب تشبه النور الممتد بالحبل أو الخيط،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في صفة القرآن: «كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض» يعني: نور هداه المؤمن من العذاب و الحيرة ممدود من السماء إلى الأرض و منه قوله تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا [آل عمران - 103].

ص: 88

و لعل وجه التشبيه أنّهم لم يعرفوا من قواعد الهيئة و الأفلاك العلوية شيئا و إنّما كان أنسهم بالأمور المادية، فشبّه الجليل جلّ و علا الفجر بالأمر المحسوس، لتقريبه إلى أذهانهم و لبعده عن الالتباس و سهولة معرفته.

و من تحديد الفجر بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود يستفاد أنّه يكون من أول حين طلوع الفجر، لأنّ ارتفاع الشعاع يوجب اضمحلال الخيطين و إبطالهما.

و هذه العلامة من العلامات العامة في الأوقات بلا اختصاص لها لبلد أو أفق معيّن، كغروب الشمس الذي هو علامة لدخول ليل كل بلد بحسب أفقه.

و ذلك لأنّ حدّ الظلمة في هذا العالم المتحرك الدوار ينتهي إلى النور، كما أنّ حد النور ينتهي إلى الظلمة لفرض تناهي كل واحد منهما في فلكهما المتحرك الدائر، فيحصل نحو اختلاط بين النور و الظلمة حتى يغلب النور على الظلمة، كما في الاختلاط الحاصل في الفجر، أو تغلب الظلمة على النور كما في الاختلاط الحاصل في الغروب، و الأول يسمى الفجر أو الخيط الأبيض و الخيط الأسود بالتعبير القرآني، و الثاني يسمى الشفق، و كلاهما مذكوران في القرآن الكريم أحدهما في المقام و الثاني في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الإنشقاق - 16]، و كل منهما لا ينعدمان آنا مّا من هذا العالم، لاختلاف الآفاق، ففي كل حين في هذا العالم غروب، و دلوك، و شفق، و فجر ذلك تقدير العزيز العليم الذي يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ [لقمان - 29]، هذا في العالم الذي نحن فيه، و أما في سائر العوالم أو سائر المجموعات الشمسية التي يكون عالمنا الذي نحن فيه كخردلة في فلاة، فليس للعقول الدراكة إلى ذلك من سبيل، و قد اعترف المتخصصون بالتحيّر و القصور.

قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ .

التمام: ضد النقصان، و يستعمل في انتهاء الشيء بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر خارج عنه.

ص: 89

لما حدد سبحانه ابتداء الصيام بالفجر ذكر هنا تحديد انتهائه بإتمامه إلى الليل - المعاقب للنهار - الذي يبدأ بغروب الشمس و ذهاب الحمرة المشرقية.

و ذكر بعض المفسرين أنّ في قوله تعالى: أَتِمُّوا دلالة على أنّ الصوم واحد بسيط و عبادة واحدة تامة لا أن يكون مركبا من أجزاء، و هذا هو الفرق بينه و بين الكمال حيث إنّه انتهاء وجود مّا لكلّ من أجزائه أثر مستقل وحده.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ الصوم كسائر العبادات يلحظ فيه جهة تمام وجهة كمال يمكن أن تكون الثانية بالنسبة إلى الشرائط الأعم من شرائط الصحة و الكمال، و تكون الأولى بالنسبة إلى الأجزاء هذا إذا لم تكن قرينة على الخلاف و إلا فهي المتبعة، و منه يعلم ما في المقام من ذكر التمام دون الكمال، و يأتي في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة - 3]، تتمة الكلام.

و حيث إنّ بين الشروع في نية الصيام و المضيّ فيه نحو فصل عرفي عطف سبحانه ب (ثم) للتنبيه إلى هذه الجهة.

قوله تعالى: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ .

استثناء من العموم الذي ربما يتوهم من قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ليشمل جواز المباشرة ليالي الاعتكاف في المسجد فنهى تعالى عن ذلك حالة الاعتكاف مطلقا.

و العكوف: هو الإقبال على الشيء و ملازمته على سبيل التعظيم. و في الشرع: ملازمة المسجد و المكث فيه على سبيل القربة للعبادة.

و تستعمل المادة في مطلق الحبس أيضا قال تعالى: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ [الحج - 25]، و قال تعالى: فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ [الشعراء - 71] و قال تعالى: فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف - 138] و قال تعالى: وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح - 25].

ص: 90

و حالة الاعتكاف في المسجد هي حالة القرب إلى اللّه تعالى بخلاف حالة الجنابة، فإنّها حالة البعد عنه عز و جل، فلا تجتمعان، و لذلك نهى الشارع عنها.

و المباشرة: الجماع كما تقدم و هو يبطل الاعتكاف، لما ذكرناه في الفقه.

و الاعتكاف: عبادة خاصة رغّب إليه الإسلام بشروط مقررة في الكتب الفقهية، و يدل على رجحانه و محبوبيته الكتاب و السنة و الإجماع فمن الكتاب قوله تعالى: طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ [البقرة - 125]، و أما السنة فهي متواترة بين الفريقين منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين و عمرتين»، و أما الإجماع فهو من المسلمين فتوى و عملا.

و يدل على حسنه العقل أيضا فإنّ اللبث في بيت المحبوب راجح و محبوب.

و يعتبر أن يكون في المسجد الجامع و أفضله المساجد الأربعة و هي:

المسجد الحرام، و مسجد النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و مسجد الكوفة، و مسجد البصرة. و له شروط، و آداب، و أحكام مذكورة في الكتب الفقهية راجع الصوم من كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام].

قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها .

الحد: يأتي بمعنى المنع، و حدود اللّه: هي شرائعه و أحكامه المحرمة التي قرنها بالعقوبة، و النهي عن الاقتراب إليها كناية عن مخالفتها عبّر عنها بالاقتراب لشدة الحيطة و مبالغة في التحذير، فإنّ من قرب من شيء أوشك أن يتعداه،

و قد ورد في الحديث «أنّ لكل ملك حمى و أنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

و هذا التعبير أبلغ في التحذير من قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة - 229]، و لهذا لم يستعمل مثل هذا التعبير إلا في موارد خاصة مثل قرب مال اليتيم، و الزنا و المقام.

ص: 91

و هذا التعبير أبلغ في التحذير من قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة - 229]، و لهذا لم يستعمل مثل هذا التعبير إلا في موارد خاصة مثل قرب مال اليتيم، و الزنا و المقام.

و المعنى: إنّ ما ذكر من الأحكام المشتملة على الإيجاب و التحريم هي حدود اللّه تعالى فلا تضيّعوها و لا تعصوا اللّه تعالى بتركها، فإنّ نقض الحد المحدود كنقض العهد المعهود مبغوض بالفطرة.

و الآية تشير إلى أمر فطري و هو الاهتمام بالقانون مطلقا - خالقيا كان أو خلقيا - و احترامه و تعظيمه ما لم ينه عنه الشرع، لأنّ في حفظ القانون حفظا لنظام النوع الإنساني، و تكميل المجتمع، و جلب السعادة للأفراد هذا في القوانين الوضعية الممضاة من قبل الشرع، فكيف بالقوانين الإلهية التي تنفع الإنسان في الدنيا و الآخرة كما تنفع الفرد و المجتمع سواء، و سيأتي في الآية اللاحقة ما يتعلق بالمقام.

و يستفاد من الآيات الشريفة كمال المذمة لعدم العلم و العمل بحدود اللّه تعالى قال سبحانه و تعالى: اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ [التوبة - 97].

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ .

أي: أنّ بهذا النحو من البيان في أحكام الصيام يبيّن اللّه آياته و دلائله للناس بما فيه الصلاح و السعادة ليتقوا اللّه عز و جل.

و قد ذكر تعالى [لعل] في المقام و غيره فيما يزيد على مائة موضعا و قد تقدم ما يرتبط بذلك. و فيه من الموعظة الحسنة بأحسن أسلوب و أرقه، و بلسان الألفة و الرحمة لتكميل الإنسان نفسه و إخراجها من الظلمات و الجهالة و الغرور إلى عالم النور، و يكون مفاد مثل هذا الخطاب أنّه قد آن زمان تطهير النفوس عن كلّ رذيلة و خسيسة، فسارعوا إلى التطهير و الكمال.

ص: 92

بحث روائي

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) قال: «كان الأكل و النكاح محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كلّ من صلّى العشاء و نام و لم يفطر ثم انتبه حرم عليه الإفطار، و كان النكاح حراما في الليل و النهار في شهر رمضان و كان رجل من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقال له خوات بن جبير الأنصاري أخو عبد اللّه بن جبير الذي كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) وكّله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه و بقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب و كان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا و كان صائما مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في الخندق فجاء إلى أهله حين أمسى فقال: عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر فلما انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فرقّ له، و كان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان فأنزل اللّه تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ - الآية - فأحل اللّه تبارك و تعالى النكاح بالليل في شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر بقوله تعالى: حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ قال هو بياض النهار من سواد الليل».

ص: 93

أقول: قريب منه ما رواه الكليني و العياشي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام). أيضا و من طرق العامة ما رواه في الدر المنثور بطرق متعددة.

و يستفاد منها أنّ الأكل و الشرب كان حلالا قبل النوم، و أما النكاح فكان محرّما في الليل و النهار من شهر رمضان، و يمكن استفادة ذلك من اختلاف التعبير في الآية الشريفة أيضا.

في الدر المنثور أخرج ابن جرير، و ابن المنذر عن ثابت عن ابن عباس: «أنّ المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلّوا العشاء حرم عليهم النساء و الطعام إلى مثلها من القابلة، ثم أنّ أناسا من المسلمين أصابوا الطعام و النساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ - إلى قوله تعالى - فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ يعني: انكحوهنّ.

أقول: و في بعض الروايات إنّ جمعا من الصحابة كانوا كذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ قال (عليه السلام): «بياض النهار من سواد الليل».

أقول: تقدم الوجه في ذلك.

في الدر المنثور: «أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: الفجر فجران، فأما الذي كأنّه ذنب السرحان فإنّه لا يحلّ شيئا و لا يحرّمه، و أمّا المستطيل الذي يأخذ الأفق فإنّه يحلّ الصلاة و يحرّم الطعام».

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بين الفريقين تعرضنا لبعضها في [مهذب الأحكام] في بحث الأوقات.

في صحيح البخاري و مسلم و الترمذي و أبي داود و ابن جرير و النسائي عن عمر قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا أقبل الليل من هاهنا و أدبر النهار من هاهنا و غربت الشمس فقد أفطر الصائم».

ص: 94

أقول: وردت روايات كثيرة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) أنّ الليل لا يدخل إلا بذهاب الحمرة المشرقية عن سمت الرأس و عليه إجماع الإمامية و لا تنافي بين الروايات فإنّ المتحصّل من مجموعها أنّ غروب الشمس له مراتب متفاوتة أدناها غيبوبة قرص الشمس و آخرها ذهاب الحمرة المشرقية و يعرف غروب الشمس بالأخيرة.

في الفقيه عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين و عمرتين».

أقول: الروايات في فضل الاعتكاف في شهر رمضان كثيرة تعرضنا لبعضها في الصوم من كتابنا (مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام).

ص: 95

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ.......

اشارة

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) تبيّن الآية الشريفة أهم الأحكام النظامية الاجتماعية التي تتحدد بها الحياة السعيدة الهنيئة، و لا تخلو الآية المباركة عن الارتباط بالآيات السابقة لكون جميعها في مقام سرد الأحكام الشرعية الإلهيّة التي شرعها اللّه تعالى، لتكميل الإنسان و جلب السعادة إليه.

ص: 96

التفسير

188 - قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .

الأكل معروف، و المراد به مطلق التصرّف، لكونه أقرب التصرّفات إلى الإنسان من بدء نشأته و أهم الغايات المتوخاة من سائر التصرّفات، و لأجل ذلك أطلق الأكل و أريد به مطلق التصرّف.

و المال: ما تميل إليه النفس، و المراد به ما تتعلق به الرغبة من الملك.

و الباطل: يأتي بمعنى الزوال و الفساد و الاضمحلال، و هو خلاف الحق في جميع أطوار استعمالاته، فإنّ للحق أطوارا من الظهور و للباطل أيضا في مقابله كذلك و هما يشملان الذات، و الاعتقاد، و العمل فيعمان أعمال الجوارح و الجوانح.

و الباطل: معروف بين الناس و الصّراع بينه و بين الحق قديم جدا ينتهي إلى ظهورهما من العدم إلى الوجود، فهما متخالفان في المفهوم و الذهن و الخارج، و الدنيا و الآخرة كما يأتي في الآيات المناسبة.

أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير حق.

و من إضافة الأموال إلى الناس يستفاد تقرير الشارع الملكية الظاهرية الدائرة بين الناس و عليه استقر المجتمع الإنساني، و تدل على ذلك جملة من

ص: 97

الآيات الشريفة كقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء - 29].

و في الآية إشارة إلى أصل من الأصول الاجتماعية التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني و هو أصالة احترام مال الغير فإنّ قوله تعالى: أَمْوالَكُمْ يدل على أنّ احترام مال الغير لا بد و أن يكون مثل احترام مال الشخص نفسه، و الخيانة فيه جناية على النوع و الاجتماع.

و لم يبيّن سبحانه و تعالى في هذه الآية وجوه الباطل و قد ذكر في مواضع أخرى بعضا منها قال تعالى: وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ [النساء - 161]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء - 10]، كما بينت السنة الشريفة البعض الآخر و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك.

قوله تعالى: وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ .

الإدلاء: الإرسال و الإلقاء من إدلاء الدلو في البئر لنزح الماء منها قال تعالى: وَ جاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ [يوسف - 19].

أي: لا ترسلوا أموالكم و تلقوها إلى الحكام رشوة لهم ليحكموا لكم كما تريدون.

و في اختيار لفظ الإدلاء دلالة على أنّ المراد مجرد جلب النفع بأي سبب حصل، و قد ذكر في هذه الجملة أحد وجوه الباطل و هو الرشوة، فنهى سبحانه عن التسبب لأن يأكل الحكام أموالهم بالباطل و إن رضي الطرفان به.

قوله تعالى: لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ .

الفريق: القطعة من الشيء أي: لا ترسلوا أموالكم إلى الحكام رشوة لهم ليحكم الحاكم بحكم باطل فيأخذ الراشي قطعة من أموال الناس مقابل ما يأخذه الحاكم من الراشي الرشوة.

ص: 98

و المراد بالإثم موجباته كاليمين الكاذبة و شهادة الزور، و الحكم بغير الحق و أمثال ذلك.

و الآية بوضوح حكمها تقطع اطماع الحكام في أموال الناس، و تجعل الناس أمام الحاكم سواء بلا تفاضل بينهم إلا في الحق و بالحق.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

أي: و أنتم جميعا تعلمون بأنّ ذلك باطل، و محرّم عليكم، و فيه من التوبيخ ما لا يخفى، لأنّ ارتكاب الإثم مع العلم بقبحه أقبح، و الجناية حينئذ أشنع.

ص: 99

بحوث المقام

بحث دلالي

الآية الشريفة تدل على تقرير ما عليه الناس في الملكية الدائرة بينهم كما ذكرنا، فإنّ قيام الإنسان في هذا العالم و تعميره و إيصاله من الاستعداد إلى ذروة الكمال إنّما يكون بالمال، و ثبوت الملك، و العقل يحكم برعايته و الاحتفاظ به عن التلف و السرف و مع عدمه يعد الشخص سفيها. و قد قررت الشرائع السماوية هذا الحكم العقلي، و يدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء - 5]، و قوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا [الأعراف - 31]، و أمثال ذلك مما هو كثير، و لم يختلف في هذا الحكم أحد من العقلاء.

إنّما وقع الخلاف في نواحي أخرى مثل كيفية الملكية و كميتها و قد وضعوا في ذلك نظريات متعددة مثل النظرية التي ترى الملكية الجماعية و تنكر الملكية الفردية، أو النظرية التي تثبت الملكية الفردية و كل واحدة من هذه النظريات ترمي الاخرى بالبطلان، و الفشل في ابتغاء السعادة للإنسان إلا أنّ جميعها متفقة على أصل الملكية و لم تنكرها، كما يأتي في البحث الاجتماعي.

ص: 100

و لكن المستفاد مما ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة في هذا الأمر أنّه اهتم بالموضوع من ناحيتين:

الأولى: أصل ثبوت الملكية عند الفرد، و اعتبر فيه أن يكون من الحلال ففتح أبواب حيازة المباحات، و أبواب المكاسب و التجارات و رغب إلى سائر الفنون و الصناعات و اهتم بالزراعة و حببها إلى الإنسان و جعل الزارع و الكاسب حبيبه تعالى في أرضه، و نظم ذلك بأحسن نظام و وضع حدودا محكمة متقنة مذكورة في الكتب الفقهية، و اعتبر أنّ كلّ ملكية تحصل من غير الوجه المقرّر شرعا ملغاة لا اعتبار بها فحرّم الغصب، و الابتزاز، و الغش، و الخيانة.

الثانية: صرف المال فاعتبر أن لا يكون في الباطل، و قد ذكر في القرآن الكريم وجوها منه، مثل الإسراف، و التبذير، و الرشوة، و وجوه الحرام، و غير ذلك مما هو مذكور في السنة الشريفة الشارحة للقرآن الكريم.

و أعظم آية في القرآن ترشد إلى هاتين الناحيتين قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ [النساء - 29]. فإنّها بمنزلة الشرح و البيان لجملة كثيرة من الآيات الشريفة الواردة في هذا الموضوع. و من توجيه الخطاب إلى المؤمنين يستفاد أنّ مراعاة الحدود التي حدّدها الشارع الأقدس في الملكية إنّما يمكن مع تحقق وصف الإيمان فبدونه يصعب على الإنسان ابتغاء الغاية المتوخاة من المال، و سيأتي مزيد بيان لذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ علم الحاكم أو المدعي بشيء لا يغير الواقع، فلو ادعى الخصمان في مال لدى الحاكم و يعلم المدعي أنّه باطل لا يجوز له أخذ ذلك المال، و إن حكم الحاكم بكونه له بحسب الظاهر، و يدل على ذلك

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في المتواتر عنه بين الفريقين: «إنّما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان إنّما أنا بشر و إنّكم تختصمون إليّ، و لعلّ بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا يأخذه فإنّما أقطع له قطعة

ص: 101

من النار» فلا يكون حكم الحاكم مغيّرا للواقع و إن تمت عنده موازين الحكم شرعا. فالمناط كلّه إحقاق الحق و إبطال الباطل بحسب الوظيفة الشرعية التي بيّنها سبحانه و تعالى في كتابه الكريم و شرحتها السنة الشريفة.

ص: 102

بحث روائي

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ قال: «أن يكون للمديون مال فينفقه على نفسه و لا يفي به دينه».

أقول: هذا من بيان ذكر بعض المصاديق و يشمل المسامحة في كلّ حق و إن لم يكن من الدّين المصطلح عليه.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام): «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عن ذلك».

و في المجمع عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الباطل: «أنّه أكل المال باليمين الكاذبة».

أقول: جميع ذلك من باب ذكر المصداق كما مر، و لا تنافي بين هذه الأخبار أصلا.

في الفقيه عن الصادق (عليه السلام): «الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلّغ به و عليه الدّين أ يطعمه عياله حتى يأتيه اللّه بميسرة، فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان و شدة المكاسبة أو يقبل الصدقة؟ فقال (عليه السلام): يقضي بما عنده دينه، و لا يأكل أموال الناس إلا و عنده ما

ص: 103

يؤدي إليهم إنّ اللّه عز و جل يقول: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ - الآية -».

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): «يتبلغ» أي يبلغ به حاجته. كما أنّ المراد من

قوله: «أو يستقرض على ظهره» أي: لأجل مصرف عياله.

و يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أنّه من يستقرض لا بد و أن يطمئن أنّ عنده ما يؤدي به دينه من كسب أو تجارة أو زراعة و نحوها، و إلا يدخل في قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ - الآية - كما ذكرنا في كتاب الدّين من [مهذب الأحكام].

في الكافي عن أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): قول اللّه في كتابه: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ قال:

يا أبا بصير إنّ اللّه عزّ و جل قد علم أنّ في الأمة حكاما يجورون، أما إنّه لم يعن حكام أهل العدل و لكنّه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت، و هو قول اللّه عز و جل: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ .

أقول: ذكرنا المراد من حكام الجور في كتاب القضاء من [مهذب الأحكام] و من شاء فليرجع إليه.

في التهذيب عن الرضا (عليه السلام): «الحكام القضاة و هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم».

أقول: لا تنافي بين هذه الرواية و بين ما تقدم، لأنّ جميعها من باب ذكر ذلك المصداق.

ص: 104

بحث فلسفي

قد ثبت في الفلسفة العملية أنّ جميع أنواع الممكنات - بجواهرها و أعراضها - لها سير تكويني و قانون طبيعي لا تتخلف عنهما بشيء أصلا و أبدا و إن كان ذلك يسيرا و لو تخلّف نوع منها - و لو قليلا - لبطل النظم و تعطل الانتظام، و حيث إنّ جملة من الأنواع يرتبط بعضها مع بعض يسري خلل النظم إلى سائر الأنواع المرتبطة أيضا فيوجب الفساد و يمنع عن الوصول إلى مرتبة الكمال المحدّد له، فيكون ذلك كالأمراض المعدية و لو بوسائط كثيرة.

و طرق معرفة ذلك بجميع المقتضيات و الموانع منحصرة بعلم الموهبة و الإفاضة الربوبية هذا في الحقائق و الأنواع التكوينية.

و كذلك في الاعتباريات و المجعولات السماوية التابعة للمصالح و المفاسد الواقعية التي لا نحيط بهما، بل القوانين الوضعية الجعلية فيكون لجميع ذلك طريق معيّن خاص لا يصح التعدي عنه إلا بتغيير القانون من الجاعل و إلا لاختل نظام الاجتماع و تعطلت الأمور التي توجب رقي المجتمع و ينهار، و يكون ذلك في المجتمع كالمرض المعدي لا يسلم أفراده منه.

و من أهم ذلك الرشوة التي هي ما يبذل للتوصل إلى الحكم له بالباطل، فإنّ القوانين السماوية المبنية على المجانية لأجل صلاح المجتمع و رقيه، كالقضاوة، و الولاية، و الحكومة، و الطبابة و غيرها أجلّ و أشرف من أن يبذل

ص: 105

بإزائها المال، فلو بذل بإزائها المال و ارتبطت بالمادة لاختل نظام المجتمع و عاق عن سيره التكاملي، كما في الطبيعيات، بل قد يكون ذلك في القوانين الوضعية الخلقية أيضا، فيشرف القانون على الفناء و الاضمحلال.

و لذا ورد في الشريعة المقدسة الإسلامية التأكيد البليغ في ذم الرشوة حتى فيما يبذل للقاضي لأجل التوصل إلى حق فيحرم عليه أخذها فكيف بما يبذل لأجل التوصل إلى الباطل كما ذكرنا في كتاب القضاء من [مهذب الأحكام].

و قد ورد اللعن على الراشي، و المرتشي، و الوسيط بينهما. و لم يرد مثل هذا التعبير في غالب المحرّمات، بل

قال الصادق (عليه السلام): «و أما الرشاء في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم» فتكون الآية المباركة إرشادا إلى أمر فطري غريزي، و ما هو السبيل في فناء الإنسان.

و لذا نرى أنّ العذاب و اللوم النفسي الواقعي و تأنيب الضمير موجود في دافع الرشوة و آخذها و الساعي بينهما.

و من ذلك يعلم أنّ هذا البحث كما هو مرتبط بالفلسفة العلمية يرتبط بالفلسفة العملية أيضا، فله الشأن في كلتا الفلسفتين.

ص: 106

بحث اجتماعي

لا ريب في أنّ غريزة جلب النفع و دفع الضرر ثابتة في جميع من له الحياة من الإنسان و الحيوان و النبات، كل حسب استعداده لأجل حفظ وجوده و كيانه. و هذه الغريزة توجب لوازم كثيرة فردية و اجتماعية منها البقاء في الحياة، و منها توليد النوع، و منها الاختصاص و الملكية إلى غير ذلك من اللوازم.

فأساس الملكية و المالكية يرجع إلى غريزة جلب النفع و دفع الضرر الحاكمة بها طبيعة كل حي ممكن.

فالمدافعة مع من يزيل الملكية و حق الاختصاص من لوازم الغريزة الحيوانية - كما نشاهدها في الحيوان لو زاحمه حيوان آخر في وكره أو طعامه - و هي التي قررتها الشرائع السماوية.

كما أنّ جلب النفع و تحصيل الملكية بأسبابها أيضا كذلك، و به يكون قيام الإنسان بفرده و مجتمعه كما مرّ، و هذا هو المراد من قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء - 5]، فإنّ الآية الشريفة تكشف عن قانون فطري غريزي كما عرفت، و المال يطلق على كلّ ما يميل إليه الشخص عينا كان، أو منفعة، أو انتفاعا.

و سلب هذه الملكية عن الفرد على الإطلاق بدون مبرر سماوي هدم

ص: 107

للفطرة و لذلك نرى أنّ الشرائع السماوية تقابل ذلك شديدا، و سيأتي في الآيات المناسبة البحث عن ذلك مفصلا.

ص: 108

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرّ.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) الآية الشريفة تبين حكما آخر من الأحكام الشرعية و الأمور الوضعية و تأمر الناس بالبرّ، و إتيان الأمور من طرقها المقررة لا من عند أنفسهم بكلّ ما شاؤا. و هي مرتبطة بآيات الصوم في شهر رمضان فناسب ذكر التوقيت و سائر التحديدات الشرعية المحدودة بأوقات خاصة. و من ذكر الحج فيها تكون كالمقدمة للآيات الآتية المرتبطة بالحج.

ص: 109

التفسير

189 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قد تكرر لفظ «يسألونك» في القرآن الكريم في ما يزيد على عشرة موارد، و غالبها السؤال عن الأحكام، و في بعضها السؤال عن الأمور التكوينية الطبيعية، كالمقام، و قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ [الإسراء - 85]، و قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّاعَةِ [الأعراف - 187]، و في جميعها وقع الجواب بغير الفاء إلا في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه - 105]، فإنّه كاشف عن عظمة المسؤول عنه، لأنّه من أشراط الساعة.

و الأهلة: جمع الهلال، سمي بذلك لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر حين رؤيته، من قولهم استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة و أهلّ القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية.

و للقمر أدوار من حين خروجه عن تحت شعاع الشمس إلى حين دخوله تحت الشعاع و هو المحاق كلّ دور ثلاث ليال فتسمى في الثلاث الأول - و قيل إلى أن يستدير بخطة دقيقة - هلالا، ثم قمرا، ثم بدرا، و العرب تسمي كلّ ثلاث ليال من الشهر باسم.

و قيل: إنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ السؤال كان عن السبب الغائي للأهلّة

ص: 110

و طلب الحكمة، و اختلافها، و فائدتها دون حقيقتها كما يقتضيه الجواب أيضا.

و لكن يمكن أن يقال: بأنّ الجواب منزّل على ما تدركه عقولهم من الحكمة، فالمناسب أن يكون السؤال عن الحقيقة و السبب الفاعلي أيضا.

فيكون الجواب تعريضا لهم.

و فيه من التنبيه إلى أنّ السؤال لا بد أن يكون محدودا بحدود خاصة بحيث تكون فيه الفائدة الدينية أو الدنيوية، و أنّ السؤال بغير ذلك يكون لغوا.

و يؤيد ذلك أنّ السؤال كان من تلقين اليهود الذين كانوا في مقام تعجيز المسلمين بأي وجه أمكنهم، فالمنساق من السؤال أن يكون عن السبب الفاعلي لذلك، و لكن عقولهم كانت قاصرة عن درك ذلك فأعرض سبحانه و تعالى عنه إلى جواب آخر يكون أنفع لهم، و هذا من جهات البلاغة و محاسنها فيجيب بمصلحة الوقت و حال السائل.

و كيف كان ففي السؤال و تلفيق الجواب من اللطف و الحنان ما لا يمكن أن ينطق باللسان كيف و فيه إعلام علاقة المعلّم بالمتعلّم و هي من أشد مراتب المحبة لأنّها سبب لرفع الجهل و موجبة لتكميل النفوس و تزويدها بنور العلم.

و من أسئلة أمة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) يعرف الفرق بينهم و بين سائر الأمم في الجملة، كأمة موسى (عليه السلام) حيث قالوا: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً [النساء - 153]، و هكذا بقية الأمم التي حكى اللّه تعالى عنها في كتابه الكريم، و هذا الفرق من مقتضيات قانون الارتقاء في نظام التكوين.

قوله تعالى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ مادة [و ق ت] تأتي في الأصل للزمان المفروض للفعل، و لها استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة، قال تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء - 103]، و قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان - 40]، لأنّه يوم عرض الأعمال على العظيم المتعال، و قال تعالى: وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ [المرسلات

ص: 111

11 و 12] لأنّ للرسل عملا مخصوصا في ذلك اليوم مما يتعلق باممهم من كيفية تبليغهم و إرشادهم و إتمام الحجة عليهم، و كيفية قبول الأمم دعوة الرسل.

و يطلق الوقت على المكان المعيّن لفعل، كمواقيت الإحرام بالملازمة إذ كل عمل في زمان مخصوص يستلزم المكان المعيّن لكون الزمان و المكان من الإضافات العامة لجميع الأجسام، فمواقيت الحج. كما أنّها زمانية هي مكانية أيضا وقّتها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لحجاج بيت اللّه الحرام، كما هو مفصّل في كتب الفقه، و إلا كان كل منهما مجعولا بجعل مستقل و تشريع خاص.

و يصح أن يطلق على جميع المساجد فإنّها مواقيت للّه تعالى أي: أمكنة التكلم معه و الخضوع لديه.

و المعنى: إنّ الأهلة هي مواقيت للناس بها يعرفون أوقاتهم في جميع أمورهم الدينية - كالصلاة و الصيام و المعاملات و العدد - و الدنيوية كالزراعة و الصناعة و الرعي بل و تربية الأولاد و تنظيم شؤونهم و نحو ذلك مما هو كثير، و تميز لهم ما يحتاجون إليه في المهمات بتوقيت مخصوص معروف لدى عامة الناس، و بها يمكن معرفة ساعات الليل و النهار. و بها يعرف مواقيت الحج الذي هو أشهر معلومات.

و من المعلوم أنّ لتقدير الزمان طرقا مختلفة ربما يصعب بعضها على عامة الناس و لا يمكن معرفته إلا بعد بلوغ الإنسان منزلة من العلم، و لذلك كان الطريق الأسهل لجميع الناس الذي يستفيد منه العالم و الجاهل و الحضري و البدوي إنّما هو التوقيت بالأهلة، و يكون الحساب بالشهور القمرية و هو قديم جدا بل هو أصل لجميع أقسام الحساب التي نشأت بعد ذلك بعدة قرون، و إليه ترجع سائر التقاويم كما ستعرف في البحث العلمي إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها .

تقدم ما يتعلق بالبر في آية 177، من هذه السورة.

ص: 112

و الإتيان هو المجيء بسهولة، و له استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة، و يستعمل بالنسبة إلى اللّه عز و جل، قال تعالى: فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ [النحل - 26]، و قال تعالى: أَتى أَمْرُ اَللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل - 1]، و في غيره سبحانه من الجواهر و الأعراض، قال تعالى: وَ لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى [التوبة - 54]، و قال تعالى: فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه - 60]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و البيت: مأوى الإنسان بالليل، يقال: بات، أي أقام بالليل، كما يقال ظلّ بالنهار، و غلب استعماله لمطلق السكن من غير اعتبار الليل، و جمعه بيوت و أبيات. و الأول في السكن أشهر، و الثاني في الشّعر.

و قد استعمل لفظ بيت، و بيوت في القرآن الكريم كثيرا، و لم يرد فيه لفظ أبيات.

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة» و يمكن حمله على الأعم من البيوت الظاهرية و القلب الحريص على الدنيا، فإنّ أشهر الصفات الرذيلة للكلب هي الحرص حتى يضرب بذلك المثل، و حمل الصورة على الأعم منها و من القلب الذي فيه العلاقة بغير اللّه تعالى، كما أنّ الملائكة لهم درجات كذلك لهبوطهم و دخولهم و الإشراق بواسطتهم.

و المراد بظهورها: الطرق غير المتعارفة للسلوك إلى البيوت دون بابها المعدّ له عادة.

و الآية تدل على ثبوت عادة سيئة كانت متعارفة في العصر الجاهلي و قد نهى سبحانه عن ذلك، فقد ورد أنّهم إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، كما سيأتي في البحث الروائي، فنفي البر عن هذا العمل يدل على أنّه لم يكن مرضيّا للّه تعالى.

و لكن الظاهر أنّ الآية الشريفة كناية عن مطلق التشريعات الحاصلة عن الجهل بالواقع، و الزعم بأنّها هي البر من غير اختصاص بقوم دون قوم، و لا عصر دون آخر، و ما ورد في شأن نزول الآية إنّما هو من ذكر أحد المصاديق.

ص: 113

فيكون المعنى: ليس البرّ و عمل الخير هو إتيان الأحكام و التشريعات غير المنزلة من قبل اللّه تعالى أو إتيان الأحكام الإلهية بغير الوجه الذي أنزله اللّه تعالى.

و يكون وجه الارتباط بصدر الآية واضحا فإنّ الأوقات المضروبة للأحكام الشرعية لا يجوز التعدي عنها و إتيانها في غير أوقاتها المضروبة إلا بترخيص من الشرع.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها .

بعد أن نفى البرّ عن أعمالهم السيئة و تشريعاتهم الباطلة أثبت سبحانه و تعالى البرّ في التقوى و إتيان الأمور من وجهها المطلوب، و من حيث أمر اللّه تعالى، و لا يتحقق ذلك إلا بالتخلّي عن المعصية و ارتكاب الرذائل و التحلي بالفضائل و اتباع الشرع، و التجلّي بمظاهر الحق، و قد ذكر سبحانه تفصيل البر في آية 107 من هذه السورة.

و الباب: هو الطريق المؤدي إلى المقصود و المطلوب، و لا يختص استعماله بالماديات و الجسمانيات، بل يستعمل في المعنويات أيضا، و منه استعمال الباب في غالب العلوم،

و قد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها و من أراد المدينة فليأت الباب».

و الآية تنطبق على ذلك أيضا بل هو المتيقّن من مفادها. فقلب النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عيبة علم اللّه تعالى، و منطقه من أدلة الرشاد، و لا ينطق إلا من وحي السماء، و فعله حجة على العباد، و الباب المؤدي إليه من كان حليف جميع حالاته، و ينبوع علمه و كمالاته، و هو الباب الذي فتحه اللّه تعالى على آدم (عليه السلام) و أبرار ذريته إلى أن وصل إلى خاتم الأنبياء و سيد المرسلين، ففتحه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لعليّ (عليه السلام) و أبرار ذريته،

و قد ورد عنه (عليه السلام) أنّه قال: «علمني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب» و قد اعترف فضلاء

ص: 114

الصحابة بمقامات عليّ (عليه السلام) العلمية و العملية و الكتب مشحونة بذلك، فهو معجزة الدّهر، كما هو مقتضى مقارنة أحد الثقلين بالكتاب العزيز في الحديث المتواتر عنه (صلّى اللّه عليه و آله) و يأتي في الموضع المناسب تتمة ذلك.

و تقدم الوجه في جعل (من) الموصولة خبرا للبر دون نفس التقوى، و ذكرنا أنّه إشارة إلى أنّ المطلوب هو الإنصاف بها دون مجرد المفهوم.

و الأمر في قوله تعالى: وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إرشاد إلى حكم العقل، سواء كان بالمعنى الحقيقي أم بالمعنى الكنائي.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

تقدم معنى التقوى في أول السورة.

و الفلاح: الظفر بالمطلوب و إدراك المقصود، و قد ورد لفظ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ في آيات كثيرة من القرآن العظيم كلّها من قبيل ترتب الجزاء على الشرط.

و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ التقوى هي الأساس لجميع الكمالات و هي الصفة التي تكون جامعة لمكارم الأخلاق، فهي الوسط الأخلاقي في القرآن الكريم.

و جميع الآيات التي ذكر فيها الفلاح مثبتا - مجرّدا عن حرف النفي - يستفاد منها البشارة بخلاف ما ذكر فيها حرف النفي مفردا أو جمعا.

و تقديم التقوى على الفلاح أينما ورد في القرآن الكريم من قبيل تقديم العلّة على المعلول، و يختلف ذلك حسب اختلاف النفوس و الاستعدادات.

ثم إنّ المراد بالفلاح في الآيات الكريمة الفلاح الأخروي الدائم الذي لا يزول فهو بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عز بلا ذل، و علم بلا جهل على ما يظهر من الآيات و الروايات دون الفلاح الدنيوي الذي هو عبارة عن الغنى و العز و البقاء الزائل فإنّه غير معتنى به عند أولياء اللّه تعالى فضلا عنه عز و جل.

ص: 115

و المستفاد من الكتاب العزيز و السنة الشريفة أنّ كلّ ما ينفع للآخرة فهو من فلاح الآخرة و لو كان في الدنيا، و كلّ ما لا ينفع لها يمكن أن يكون من فلاح الدنيا، و قد شرح ذلك عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة بما لا مزيد عليه. و نعم ما نسب إلى الخليل في المقام: «هو كلام يقال لكلّ من له عقل و حزم و تكاملت فيه خصال الخير».

و ذكر كلمة الترجي إنّما هو من باب ملاحظة كيفية التكلم مع المخاطب لا ملاحظة حال المتكلم، إذ لا يعقل الترجي بالنسبة إليه عز و جل، و إنّما أتى بها بلحاظ محبوبية الفلاح لديه تعالى، و قد تقدم ما يتعلق باستعمال هذه الكلمة فراجع.

ص: 116

بحث روائي

في الدر المنثور في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ هذا مما سأل عنه اليهود و اعترضوا به على النبي (صلّى اللّه عليه و آله). فقال معاذ: «يا رسول اللّه إنّ اليهود تغشانا و يكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي و يستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

و في الدر المنثور أيضا عن ابن عباس قال: «سأل الناس رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عن الأهلة فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ يعلمون بها أجل دينهم، و عدة نسائهم، و وقت حجهم».

أقول: وردت عدة روايات في هذا المعنى و سياقها السؤال عن اللوازم و الخصوصيات، لأنّ السؤال عن الذات في المحاورات مطلقا سؤال (بما) الحقيقية و ليس في تلك الروايات ما هو ظاهر في السؤال عن الحقيقة، و لو علم فرض إفادة بعضها للسؤال عنها، فجواب الحكيم لا بد أن يكون مطابقا لعقول المخاطبين و هو بيان الصفات و اللوازم، مع أنّه يمكن استكشاف الحقائق عن اللوازم و الخصوصيات بل لا تستكشف الحقائق إلا بها.

في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) في قوله عز و جل: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ . قال (عليه السلام): «لصومهم و فطرهم و حجهم».

ص: 117

أقول: هذا من باب المثال و ذكر بعض المصاديق.

روى البخاري و ابن جرير عن البراء: «كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل اللّه هذه الآية: وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ».

أقول: روى مثله في الدر المنثور عن وكيع، و أخرج ابن جرير عن الزهري في سبب ذلك أنّهم كانوا يتحرّجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب يحول بينهم و بين السماء. و لا ريب في أنّ ذلك كان من اختراعات الجاهلية و مبتدعاتهم.

في الدر المنثور أيضا عن ابن أبي حاتم: «كانت قريش تدعى الحمس و كانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام و كان نبينا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في بستان إذ خرج من بابه و خرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا: يا رسول اللّه إنّ قطبة بن عامر رجل فاجر و انه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال (صلّى اللّه عليه و آله): إنّي رجل أحمس. قال: فإنّ ديني دينك فأنزل اللّه تعالى: لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها .

أقول: إنّ ردعه (صلّى اللّه عليه و آله) لعامر كان نحو مداراة معهم، لا أن يكون تقريرا و تثبيتا لعادتهم السيئة حتى تكون الآية ناسخة لذلك، و مثل ذلك في بدء الإسلام و أوائله كثير.

قال ابن عباس في رواية أبي صالح: «كان الناس في الجاهلية و في أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج، فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل و منه يخرج، أو يضع سلّما فيصعد منه و ينحدر عليه، و إن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام إلا من كان من الحمس».

أقول: و روى في المجمع قريبا منه و الحمس: جمع أحمس و هم:

قريش، و كنانة، و خزاعة، و ثقيف، و جشم، و بنو عامر بن صعصعة، و بنو نضر

ص: 118

ابن معاوية و غيرهم من أهل الحرم، و سموا بذلك لتشديدهم في دينهم.

و الحماسة الشدة.

و الأحمس: هو الذي يهب نفسه أو يهبه أهله للآلهة فينصرف لشؤونها و خدمتها و هو نوع من الرهبنة و كانت الأمهات تتخذ هذه الصفة لأولادهنّ إن كتب لهنّ النجاح في حوائجهنّ كشفاء أمراض أولادهنّ و غيره.

و كانت للحمس صفات خاصة و طقوس معينة فيمتنعون عن أكل الطعام الذي يحملونه معهم إلى الحرم، و لو كانوا حرما لا يدخلون بيتا من شعر و لا يستظلون إلا في بيوت من جلد، و كانوا يتحرّجون من المرور في ظلّ أو الوقوف تحت سقف و هم حرم و لذلك صاروا يدخلون البيوت من أظهرها لئلا يظلّهم ظلّها أو يقفون تحتها. و قد حرم الإسلام هذه العادة فنزلت فيهم الآية المباركة و كانوا يطوفون حول البيت و هم عراة و يصفقون حين الطواف كما ورد في الآية الشريفة: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً [الأنفال - 35].

في تفسير العياشي و محاسن البرقي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها . قال (عليه السلام): «يعني أن يأتي الأمر من وجهه أيّ الأمور كان».

أقول: هذا هو معنى الآية الشريفة على نحو الكلّي، فيكون ما ورد في نزولها من باب ذكر بعض المصاديق.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «الأوصياء هم أبواب اللّه التي منها يؤتى، و لولاهم ما عرف اللّه عز و جل، و بهم احتج اللّه تبارك و تعالى على خلقه».

أقول: في سياق هذه الرواية روايات أخرى متواترة، و معناها واضح لكلّ من كان له بصيرة و لو في الجملة في المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية. و المراد من

قوله (عليه السلام): «و لولاهم ما عرف اللّه عز و جل» المعرفة الحقيقية لأنّهم الأدلاء على اللّه تعالى على نحو المطلوب لديه عز و جل.

ص: 119

بحث علمي

الآية الشريفة تدل على أنّ الحكمة في الأهلة هي معرفة الأوقات و تحديد الزمن بها، و قد ذكر سبحانه و تعالى ذلك في آية أخرى ببيان أوضح و أشمل، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ ما خَلَقَ اَللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس - 5]، و توقيت الزمان و الحساب من الأمور الضرورية للإنسان في جميع أموره و به يرتب شؤون حياته و نظام دينه، فإنّ أفعال الإنسان هي من الأمور الزمانية - أي: الواقعة في سلسلة الزمان - و ذلك يتطلب تحديد الأفعال و تنظيم جميع الشؤون تنظيما زمنيا دقيقا.

و من المعلوم أنّ العام و الشهر و اليوم هي وحدات فلكية لقياس الزمن، و أنّ أوجه القمر الأربعة (الهلال - الربع الأول - البدر - الربع الأخير) كان لها تأثير مباشر في تقسيم السنة إلى الشهور، و هي إلى وحدات زمنية معينة كالاسبوع و اليوم. فكان أقرب الطرق إلى الإنسان هو قياس الزمن بالقمر و دورته الشهرية، و يرجع ذلك إلى عدة أسباب طبيعية و اعتبارية و دينية.

و قد كان للجداول و التقاويم في جميع المراحل التاريخية شأن كبير لمعرفة الوحدات الفلكية، و هي و إن كانت مفيدة بل صارت من التراث، و لكنّها لا تخلو من فوضى لأنّ وضع أي تقويم لا بد و أن يكون مستندا إلى اعتبارات إما دينية أو سياسية، أو علمية.

ص: 120

و بالمراجعة إلى كتب التاريخ و الفلك نرى أنّ أقدم الطرق في معرفة الوقت و تحديد السنة و الشهر هو القمر، فقد كانت الأمم السابقة تستند استنادا أساسيا إلى التقويم القمري، و إن كان في عرض ذلك بعض التقاويم الأخرى كالتوقيت بطلوع نجم، أو موت إنسان عظيم، أو حادثة و نحو ذلك، و لكنّهم أساسا لم يحيدوا عن التقويم القمري، بل كان يساير سائر التقاويم حتى عصرنا الحاضر.

فالمصريون القدماء كانوا يحسبون الزمن بواسطة القمر قبل أن ينتقلوا إلى التقويم الشمسي و قد قسّموا السنة إلى اثني عشر شهرا، و كلّ شهر إلى ثلاث وحدات متساوية، و كانت السنة تبتدئ عندهم في أول يوم من شهر (توت) و هذا هو اليوم السادس عشر من شهر يوليه، و مجموع السنة عندهم 365 يوما.

و كذلك البابليون فقد كان تقويمهم الخاص هو التقويم القمري و اعتمدوا عليه أشد من غيرهم، و كان كلّ شهر عندهم مكوّنا من (29) يوما، و الشهور تعقب بعضها بعضا. و معدّل السنة عندهم 354 يوما قصيرا، و لكنّهم أضافوا شهرا ثالث عشر عند كلّ ثمان سنوات لاعتبارات، و قسموا الشهر إلى أسابيع و أيام، و لكن أسابيعهم لم تكن مثل أسابيعنا، بل كان يحتم عليه أن يكون اليوم الأول من كل شهر هو اليوم الأول من الأسبوع، و يعزى إليهم أنّهم قسموا اليوم إلى ساعات متساوية لكلّ من الليل و النهار، و إن كانت الصورة الكاملة لهذه الوحدات حدثت في عصر متأخر عنهم و لكن لهم الشأن الكبير في علم الفلك فقد وصفوا حركات الكواكب وصفا دقيقا و شرحوا ذلك في جداول حسابية.

و أما السومريون فقد تبعوا غيرهم في التقويم القمري إلا أنّهم اعتبروا السنة مكوّنة من (360) يوما، و قسّموا اليوم الكامل إلى ست ساعات أي: ثلاث ساعات لليوم، و ثلاث أخرى للّيل مع اختلاف طول كلّ ساعة عن الأخرى، و لكنّهم أعرضوا عن ذلك لدركهم بعدم صلاحية الساعات غير المتساوية.

و أما اليونانيون القدماء فكان تقويمهم تقويما قمريا صرفا مع شيء من التغيير في فصول السنة.

ص: 121

و أما الرومانيون فإنّ أقدم تقويم عندهم كان تقويما قمريا، و لهم في ذلك بعض المراسيم التي كانت تحت سلطنة الكهنة.

و أما العبريون فهم يتبعون التقويم القمري حتى عصرنا الحاضر، و إنّ أحد المهام الملقاة على عاتق الكهنة هو تعيين غرة الهلال، و وضع الأسماء للشهور.

و من هذه النبذة التاريخية يعلم بأنّ التقويم القمري هو الأصل في جميع الأدوار التاريخية التي مرت بها التقاويم الموضوعة لمعرفة قياس الزمن.

و لكن التقويم القمري مع ما فيه من المحاسن لا يخلو من مشاكل و متاعب، و لذلك عدل بعض الأقوام إلى تعيين السنة الشمسية و هذا التقويم الشمسي مر بأدوار مختلفة و لم يصل إلى ما وصل إليه الآن إلا بفضل جهود و متاعب، فقد كانت مشكلات التقويم في البلاد القديمة كثيرة خصوصا إذا أريد التوفيق بين تواريخ الأمم المختلفة فكان زمن التحويل من نظام إلى نظام آخر أمرا عسيرا.

فقد أخذ بعض الأقوام التقويم المختلط من التقويم القمري و التقويم الشمسي ثم عدلوا عن ذلك و اثروا استخدام التقويم الشمسي، و بقي هذا التقويم مع ما عليه من الاختلاط بين الأمم معمولا به إلى أن اقتضت الضرورة إلى إصلاح التقاويم و وضع التقويم اليوليوسي بأمر من يوليوس قيصر و تحت إشرافه في أول مارس، ثم عدل إلى أول يناير عام 153 قبل الميلاد، و ابتدأ العمل به عام 45، و سمي هذا التقويم باسم التقويم الميلادي و أصبحت السنة 365 و ربع يوما تكبس كل أربع سنوات بيوم واحد بعد 23 شباط [فبراير] و وضع أسماء خاصة لشهور هذه السنة و طرحت بقية التقاويم.

إلا أنّ هذا التقويم قد بان فيه الاختلاف فجرى إصلاحه على يد البابا جريجوري الثالث عشر في 4 أكتوبر عام 1582 و هو المعمول به في أغلب البلدان، و يسمى بالتقويم الجريجوري.

و أما عند المسلمين فهم يتبعون التقويم القمري المتكوّن من اثني عشر

ص: 122

شهرا لكلّ شهر اسم خاص به كان مشهورا عند العرب قبل الإسلام، و ابتداء السنة الجديدة من أول محرّم الحرام و يسمى بالسنة الهجرية تخليدا للحدث العظيم، و هو الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، و الهجرة و إن كانت في شهر ربيع الأول، لكنّهم آثروا أن يكون ابتداء السنة من أول محرّم الحرام.

و قد وضع هذا التقويم في زمن الخليفة الثاني بمشورة من عليّ (عليه السلام) و ذلك في سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة و وقع اختيارهم على أن يكون أول السنة شهر محرم منصرف الناس من حجهم و هو شهر حرام.

و لكن يستفاد من بعض الروايات أنّ جعل أصل التاريخ الهجري كان بوحي من السماء

فقد ورد في سند الصحيفة الملكوتية للسجاد (عليه السلام) عن عليّ (عليه السلام): «أتى جبريل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بهذه الآية: وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً [الإسراء - 60] قال: يا جبريل على عهدي يكونون و في زمني؟! قال: لا و لكن تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشرا ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس و ثلاثين من مهاجرك».

و مع ذلك فقد كانوا يعملون بالسنة الشمسية في كثير من الأمور المدنية و قد تصدّى بعض العلماء للتوفيق بين السنة الهجرية و السنة الشمسية فوضع تقويما هجريا شمسيا.

و لم يكن للعرب تاريخ يجمعهم بل كان كلّ طائفة منهم تؤرخ بما وقع من الحوادث المشهورة بينهم إلا أنّ قريشا كانت تؤرخ من عام الفيل و كان عليه العمل حتى أرخ بالهجرة.

و هناك تقاويم أخرى عفا عليها الزمن و أصبحت مهجورة، أو انحصر العمل بها عند أقوام معينين لا يتعداهم إلى غيرهم.

ثم إنّه تقدم أنّ الزمان عبارة من مجموع الشهر و الأسابيع و ساعات الليل

ص: 123

و النهار، و السنة وحدة كبيرة مؤلفة منها، و هي وحدات فلكية لقياس الزمن و لكن هذه الوحدات متدرجة في الكبر فالسنة وحدة كبيرة جدا ثم الشهر ثم الأسبوع ثم الساعات.

و قد دعت الحاجة إلى قياس الزمان بوحدات صغيرة فوقع اختيارهم على الأسبوع، و تقدم أنّ سير القمر في منازله و أوجهه الأربعة كان لها التأثير الكبير في تقسيم الشهر إلى أربعة أسابيع، و قد مرت أدوار كثيرة على هذه الوحدة الزمنية حتى صارت مثل ما عليها اليوم من الثبات و ربما يكون السبب الديني هو المهم في اختيار عامة الأقوام القديمة الأيام السبعة و إن كان وراء ذلك أسباب طبيعية و اعتبارية ثانوية اخرى، و يظهر ذلك جليّا بوجود يوم مقدّس عند الأديان الإلهية في الأسبوع و إن كانت أسماء الأيام ترجع إلى أصل طبيعي فلكي كما ستعرف.

و يذكر التاريخ أنّ من الشعوب القديمة كان البابليون و من بعدهم اليهود أول من فكر باسبوع يتألف من سبعة ايام.

فقد نشأت فكرة الأسبوع عن البابليين من الكواكب السبعة السيارة التي تشمل الشمس و القمر عندهم، و لذا خصص كلّ يوم من أيام الأسبوع لأحد الكواكب السبعة.

و أما عند اليهود فيرجع اختيارهم الأسبوع إلى الوحي، و قد ورد في سفر التكوين الإصحاح الأول و سفر الخروج الإصحاح الثاني عشر ذكر الأيام و يبتدئ الأسبوع من يوم الأحد و آخره يوم الراحة أو الشبات [أي السبت] بخلاف ما عليه النصارى فإنّ آخر يوم الأسبوع عندهم يوم الأحد.

و لم يكن عند المصريين الأسبوع بل كان الشهر عندهم مقسما إلى ثلاثة وحدات زمنية تسمى (بالديكاد).

و أما عند الرّومانيين فقد كان الأسبوع عندهم مؤلفا من ثمانية أيام و كان السبب في ذلك أنّهم اعتبروا الخير لهم أن يقسموا كذلك من دون أن يكون سببا دينيا أو فلكيا وراء ذلك.

فجعلوا: اسم الشمس على الأحد، و القمر على الاثنين، و المريخ على

ص: 124

الثلاثاء، و عطارد على الأربعاء، و المشتري على الخميس، و الزهرة على الجمعة، و زحل على السبت. و قد أقرت الكنائس المسيحية هذه الأسامي مع شيء من الحذر.

و لكن يبقى شيء هو أنّ ترتيب الكواكب السبعة غير ما هو عليه في التقويم و لم يعلم السبب لذلك.

و تستمر أيام الأسابيع طوال الشهر و السنة دون انقطاع و مع الاستمرار تامة.

و أما عند المسلمين فلم تختلف الحال عندهم عن غيرهم فالأسبوع عندهم مكوّن من سبعة أيام يبتدئ من يوم السبت و يكون اليوم الآخر هو يوم الجمعة.

و أما تقسيم اليوم إلى الساعات فهو أيضا قديم فقد قسم المصريون النهار إلى 12 ساعة و قسموا الليل كذلك لكن إن تزايد النهار تزايدت ساعاته أيضا و إن تناقص تناقصت، و قسم السومريون أولا الليل و النهار إلى ثلاث نوايات للنهار و ثلاثة أخرى للّيل كذلك و أخذ اليهود ذلك منهم كما ورد في سفر الخروج 14 و 24.

و لكنّهم بعد ذلك أعرضوا عن حساب الساعات غير المتساوية فقسموا اليوم بكامله إلى ساعات متساوية عددها اثنى عشر ساعة و كل ساعة إلى ثلاثين (جشا) و هكذا يتألف اليوم من 360 جشا، كما تألفت السنة عندهم من 360 يوما.

و بذلك فقد ورثنا تقسيم اليوم إلى أربع و عشرين ساعة من المصريين و فكرة الساعات المتساوية و تقسيم الساعة من السومريين.

ثم بعد ذلك قسم هيبارطوس النهار و الليل إلى أربع و عشرين ساعة اعتدالية و أما عند عامة الناس فقد قسم اليوم إلى ساعة موسمية غير متساوية. و هكذا الأمر عند الرومان مع شيء من التعديل.

هذا ما أردنا ذكره من التقويم بإيجاز في هذا البحث و إن كان مثل هذه الدراسة معقدة جدا لاختلاط الموضوع بالخرافات و العادات و التقاليد السائدة قد كان للعلماء شأن كبير في تهذيبه.

ص: 125

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (190) وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُ.......

اشارة

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (190) وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ اَلْكافِرِينَ (191) فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ (193) اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ (194) وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (195) الآيات الشريفة تتضمن حكما آخر من الأحكام الإلهية، و هو تشريع القتال مع المشركين، و لأهمية الحكم في نشر الحق، و إبطال الباطل، و لاستلزامه اعتراض المعترضين من المخالفين، فقد بيّن سبحانه جميع ما يتعلق به من حيث الحدود و الشروط، و المتعلق، و الزمان، و المكان، و الغرض و سائر اللوازم.

و هي تتضمن من القواعد التي يحكم بها العقل في النظام الأحسن: قتل المقاتل، و كونه بإذن اللّه و في سبيله، و ترك الاعتداء. و لذلك اعتبر أنّ القتال مع المشركين دفاع عن النفس، و مقابلة بالمثل.

ص: 126

و سياقها يدل على أنّها نازلة دفعة واحدة، لارتباط بعضها مع بعض في بيان غرض واحد، و اتفاقها في الأسلوب.

و يستفاد من مجموعها أنّها نزلت لبيان حكم جديد في هذا الموضوع، و تشريع للقتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإنّها نزلت بعد الهجرة و الإخراج عن مكة، و لم يشرع القتال قبلها.

و بذلك يكون الفرق بين هذه الآيات و بين آية الإذن في القتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ [الحج - 40]، فإنّ الثانية إذن عام من غير شرط، بخلاف الأولى، فإنّها محدودة و مشروطة.

و من ذلك كلّه يتبيّن عدم نسخ شيء من هذه الآية.

ص: 127

التفسير

190 - قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ .

القتال معروف، و هو محاولة قتل القاتل. و المعروف بين الأدباء و تبعهم المفسرون أنّ المفاعلة تتقوّم بطرفين في جميع استعمالاتها و لكن ذكرنا سابقا أنّ ذلك مخالف لجملة كثيرة من موارد استعمالها في القرآن الكريم، قال تعالى:

يُخادِعُونَ اَللّهَ [البقرة - 9]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ [النساء - 100]، و قال تعالى: شَاقُّوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [الأنفال - 13]، إلى غير ذلك من الآيات، فاضطروا إلى التكلف في مثل هذه الآيات و الاستعمالات الفصيحة.

و في المقام لو التزمنا بمقالتهم يلزم التكرار، لكفاية قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ عن قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ .

و الحق أن يقال: إنّ المفاعلة إنّما يؤتى بها لإنهاء المادة إلى الغير، سواء كان الغير متلبسا بها أم لا، و حينئذ لا بد في تلبس الغير من ملاحظة القرائن و يكفي في التلبس الشأنية القريبة مع وجود أمارات معتبرة تدل عليها، كما فصّل الفقهاء ذلك في المحارب، و المهاجم على النفس و العرض و المال، و تعرضنا له في كتابنا (مهذب الأحكام).

و المراد من سبيل اللّه مرضاته و دينه الحق، و ذكره في المقام لبيان أنّه

ص: 128

الغاية، بل غاية الغايات و أقصى الأغراض، فإنّ الإسلام إنّما جاء لحفظ إنسانية الإنسان و الدفاع عن الأنفس و الأموال و الأعراض، و لا بد في ذلك من ملاحظة سبيل اللّه تعالى و الإخلاص فيه و عدم التعدي عما حدّده اللّه تعالى، و أعظم ما يمكن نقله في المقام تأييدا لما ذكرناه ما نقل عن عليّ (عليه السلام) في بعض الغزوات أنّه ظفر على عدوّ له فلما أراد قتله أهان العدوّ في وجهه الكريم (بصق) فألقى عليّ (عليه السلام) سيفه من يده هنيئة ثم أخذه و قتله، و لما سئل عن السبب

قال: «لو قتلته في تلك الحالة لما كان خالصا لوجه اللّه تعالى». و هذا مثل إسلامي يدل على عظمة ما جاء به الإسلام، و سموه عن العواطف الشخصية، و الحزازات القبلية.

و يستفاد من قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللّهِ أنّ الجهاد عبادة لا بد و أن يقصد به وجه اللّه تعالى، و فيه إشارة إلى قطع جميع الإضافات، و القلع عن جميع الشهوات، و إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية و الهمجية من قتل الناس، و الاستيلاء على أموالهم، و هتك أعراضهم من غير سبب و لا غرض عقلائي، فضلا عن أن يكون في سبيل اللّه تعالى.

و المعنى: قاتلوا أيّها المؤمنون في سبيل اللّه و وجهه الكريم و نصرة دين الحق الذين يقاتلونكم و ينكثون عهدكم، و يريدون سفك دمائكم.

قوله تعالى: وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ .

الاعتداء و العدوان: المجاوزة عن الحد، سواء كان في القول أم الفعل أم المال أم غيره. و هو من أقبح الصفات المذمومة، و هي مكروهة عند اللّه تعالى، و قد استعمل عبارة لا يُحِبُّ بالنسبة إلى اللّه عز و جل في أكثر من عشرين موردا، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ [البقرة - 205]، و قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد - 23]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ [الأنفال - 28]، و قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ [آل عمران - 57]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و هي من الكنايات البليغة اللطيفة فإن أدب القرآن هو التعبير عن الملزوم

ص: 129

باللازم لمصالح في ذلك.

و يكون المراد من عدم محبته تعالى - الذي هو من أشد الخسران - الكراهة و السخط، و هما و الحب من صفات فعله عز و جل.

و الآية تأكيد لما سبق فإنّ قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللّهِ يدل على عدم مشروعية التجاوز و الاعتداء في الدفاع و القتال بالملازمة. و إنّما كرره صريحا لأهمية الموضوع، و لبيان علة النهي في قوله تعالى: لا تَعْتَدُوا ، كما علّل الإذن بالقتال بأنّه دفاع في سبيل اللّه تعالى.

و إطلاق الآية الشريفة يقتضي النّهي عن كلّ اعتداء صغيرا كان أو كبيرا، و سواء كان في الابتداء بالقتال أم في التجاوز في القتل أم في المكان، و سواء كان في النفس أم في المال أم في العرض أم في الأدب في الكلام أم في الفعل و غير ذلك مما ورد في السنة الشريفة.

و يختلف قبح الاعتداء باختلاف المعتدين، فمن كان في طريق الإرشاد و الدعوة إلى اللّه عز و جل يكون اعتداؤه أقبح و أبغض.

191 - قوله تعالى: وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ .

تستعمل «حيث» في المكان المبهم، كحين في الزمان المبهم و يرتفع الإبهام مما بعدهما في سياق الكلام، فيكون التعريف و التعيين من باب الوصف بحال المتعلق.

و يختص استعماله بالممكنات، و لا تستعمل فيه تبارك و تعالى،

و في الحديث: «هو الذي حيّث الحيث فلا حيث له و أيّن الأين فلا أين له». و هذا مبنيّ على قاعدة فلسفية أسسها الأئمة الهداة (عليهم السلام) و هي: «أنّ كل ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق»،

و عن عليّ (عليه السلام): «كيف أصفه بحيث و هو الذي حيّث الحيث حتى صار حيثا».

و هناك قاعدة أخرى

ذكرها عليّ (عليه السلام) في بعض خطبه المباركة:

ص: 130

«بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة». و القاعدتان موافقتان للأدلة العقلية، و الذوق العرفاني الذي لا ينال إلا بالانقطاع عن العلائق و التوجه التام إلى ربّ الخلائق.

و أصل مادة (ثقف) تدل على الحذق في إدراك الشيء و فعله أي سريع التعلم، ثم استعملت في مطلق إدراك الشيء.

و في حديث الهجرة عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «غلام شاب لقن ثقف» أي: ذو فطنة و ذكاء، ثابت المعرفة.

و المعنى: و اقتلوهم حيث أدركتموهم و وجدتموهم كما في آية أخرى:

فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة - 6]، إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الثقف هو الوجود على وجه الغلبة، و الوجدان أعم من ذلك، و التعميم بلحاظ الحل و الحرام.

قوله تعالى: وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ .

أي: و أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم، و هي مكة المكرمة، فإنّهم عدوا على المسلمين يقاتلونهم، لأنّهم أسلموا، و أخرجوهم من ديارهم، و لا يزالون يجهدون في الفتنة.

قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ .

أصل مادة (فتن) تأتي بمعنى إدخال الذهب في النار ليعلم جودته من ردائته، ثم استعملت في عدة معان تلازم ذلك بالعناية كمطلق الاختبار، و العذاب، و الهلاك، و الابتلاء، و الخلوص و غير ذلك مما يأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «المسلم أخو المسلم يتعاونان على الفتّان» أي يعاون المسلم أخاه على الذين يضلون الناس عن الحق أو الشريعة الإلهية كالشيطان لخلاصه منهم.

و الافتتان تارة: من اللّه تعالى بالنسبة إلى عباده. و أخرى: من عباده بعضهم لبعض.

ص: 131

و الأول: موافق للمصالح الواقعية المترتبة عليه كإتمام الحجة، أو إظهار مقام العبد و درجته عند غيره في الدنيا و الآخرة، أو اعتبار غيره به، أو تعويضه عن ذلك بعوض أحسن و أفضل في الدنيا أو الآخرة أو هما معا إلى غير ذلك من المصالح التي لا تبلغها العقول،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «المؤمن خلق مفتنا» أي ممتحنا يمتحنه اللّه تعالى بما يشاء له.

و الثاني: إنّما هو لإزالة الجهل و تحصيل العلم غالبا. و ربما يكون ممدوحا كما أنّه ربما يكون مذموما، و يختلف بحسب الجهات و الخصوصيات.

و المراد به هنا الشرك و صرف المسلمين عن دينهم بكلّ سبيل قتلا و تعذيبا و إغراء.

و هذه الآية قضية عقلية من مداليل الفحوى و الأولوية، يعني: إذا أرادوا قتلكم فاقتلوهم، كما أنّهم إذا كانوا في معرض الافتتان بالكفر و الشرك فاقتلوهم بالأولى، لأنّ في القتل انقطاع الحياة الدنيا، و في الفتنة انقطاع حياة الدنيا و الآخرة، و أنّ الضال المضل منشأ الفساد و الإفساد، فيوهن قوى المجتمع، و لذا أوعد اللّه تعالى عليه أشد العذاب فقال جل شأنه: إِنَّ اَلَّذِينَ فَتَنُوا اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ اَلْحَرِيقِ [البروج - 10].

كما أنّ في قتلهم إياكم إزالة حياة نفر منكم في الظاهر مع بقاء الحياة الأبدية، و أما الافتتان بالشرك و الكفر إزالة للحياة الأبدية الدائمة، فيكون أشد لا محالة. و لذلك نظائر كثيرة في المحاورات الفصيحة، مثل قول الشاعر:

جراحات السّنان لها التيام *** و لا يلتام ما جرح اللسان

و قولهم:

قتل بحدّ السيف أهون موقعا *** على النفس من قتل بحدّ فراق

و الآية بمجموعها تبيّن حكما من الأحكام النظامية الاجتماعية، فإنّ فيها قمع مادة الشرك و إزالة مناشئ الشرك و الكفر بعد الجحود و الإصرار عليهما.

و فيها أحكام ثلاثة: قتل المشركين، و الإخراج من ديارهم كما أخرجوا

ص: 132

المسلمين، و أنّ البقاء على الشرك أشدّ و أعظم من القتال مع المسلمين.

قوله تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ .

استثناء عن الأمر بالقتال في كلّ مكان، فنهى عنه عند المسجد الحرام، للزوم احترامه و تعظيمه إلا أن يقاتلوكم فيه و يهتكوا حرمته فلا حرمة لهم و لا أمان حينئذ.

و إنّما عبّر سبحانه بلفظ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ليشمل المسجد و الحرم الأقدس الإلهيّ المحيط به، فإنّه حرم منذ أن خلق اللّه تعالى الأرض و إلى أن يرثها و من عليها فتظهر وحدة المبدأ و المرجع، و تظهر حقيقة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف - 29].

و الضمير في «فيه» يرجع إلى الحرم و المكان المدلول عليه بقوله تعالى:

عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

قوله تعالى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ .

تأكيد للحكم السابق و تحذير لهم بأن لا يقدموا على قتلهم من غير ابتداء قتال منهم، و لا يهتكوا حرمة المسجد الحرام من غير سابق هتك منهم، فإذا قاتلوكم عند المسجد الحرام فاقتلوهم فإنّهم هتكوا حرمته و لا يمكن أن يكون الحرم حينئذ أمنا لهم فلا بد من عقابهم بعقوبة مماثلة.

و يمكن أن يكون التكرار لأجل بيان شناعة الذنب فلا بد من الشدّة في العقوبة.

قوله تعالى: كَذلِكَ جَزاءُ اَلْكافِرِينَ .

أي: أنّ جميع ما مر من القتل، و الإخراج، و القتل في المسجد الحرام عند هتكهم له جزاء الكافرين، و قد جرت سنته تعالى أن يجازي الكافرين بمثل هذا الجزاء، لأنّهم هتكوا حرمات اللّه تعالى و بدءوا بالعدوان، و تعرّضوا لعذاب اللّه تعالى و سخطه. و الآية المباركة تدل على قمع أصلهم و استئصال نسلهم.

ص: 133

192 - قوله تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

الانتهاء: الامتناع أي: إذا امتنعوا عن القتال، و كفّوا عنه عند المسجد الحرام فإنّ اللّه غفور رحيم أو فاقبلوا منهم توبتهم فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ كما في قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال - 61].

و الظاهر أنّ هذه الآية بالنسبة إلى انتهائهم عن قتال المسلمين، و الآية التالية في إغرائهم عن الشرك الذي هو أشد من الأولى فلا تكرار.

193 - قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ .

بيان لغاية القتال و أمده، كما أنّ الجملة الاولى بيان لمبدئه أي: قاتلوا المشركين حتى لا تكون فتنة و ضلال في البين.

و المراد بالفتنة هنا: الشرك فإنّه يسبب الضلال و الصرف عن الحق و يأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.

قوله تعالى: وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّهِ .

أي: يكون الدّين هو الدّين الحق المستقر على التوحيد الذي لا شرك فيه و لا ضلال. و نظير هذه الآية قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ [الأنفال - 39] إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الثانية إعلان للقتال مع جميع المشركين و لذا قيّد الدّين بقوله جل شأنه كُلُّهُ بخلاف الاولى فإنّها أمر بقتال مشركي مكة.

و المراد من الدّين هنا: معتقدات الناس،

و في الحديث أنّه (عليه الصلاة و السلام): «كان على دين قومه» أي: دين إبراهيم (عليه السلام) و معتقداته من الحج و سائر العبادات، و النكاح، و الميراث و غيرها من أحكام الإيمان، بل و مكارم الأخلاق.

و المراد بكونه للّه. صيرورة جميع تلك المعتقدات المختلفة اعتقادا واحدا محبوبا للّه تعالى، و هو الدين الذي جاء به القرآن على لسان نبينا الأعظم (صلّى اللّه

ص: 134

عليه و آله) و بيّنه بأحسن بيان و أفضله، و قال تعالى فيه: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [المائدة - 3].

قوله تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ .

أي: إذا كفوا عن القتال و الفتنة و آمنوا فلا عدوان إلا على الظالمين المعتدين.

و من جميع ذلك يعلم أنّ الآية الشريفة ليست منسوخة بشيء، و لا هي ناسخة لبعض قيودها إذ أنّ كل قيد إنّما هو في موضعه.

و المعنى: فإن انتهوا عن عدوانهم فلا تعتدوا عليهم بالقتل و الأسر، لأنّه يختص بالظالمين، و تسمية ذلك عدوانا مع أنّه حق من باب المجانسة الحسنة، لأنّهم إنّما يكونون في مقام الاعتداء فسمى جزاء الاعتداء اعتداء أخذا عليهم و إلزاما لهم بفعلهم أي: إنّ أصل العدوان إنّما وقع عليهم بفعلهم.

194 - قوله تعالى: اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ .

تقدم معنى الشهر عند قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ و أشهر الحرم أربعة:

ذو القعدة، و ذو الحجة، و محرّم، و رجب، سميت بذلك لحرمة القتال فيها حتى في الجاهلية فلو أنّ أحدا منهم لقي قاتل أبيه أو أخيه فيها لم يتعرّض له بسوء حتى ينقضي الشهر الحرام و لعل الأصل فيه شريعة إبراهيم (عليه السلام) و استمر العرب عليه و أمضاه الإسلام.

و المعنى: إنّ الشهر الحرام يقابل الشهر الحرام في الحرمة و الهتك فإذا هتك الشهر الحرام بالقتال فيه فلا محذور في قتالهم فيه و معاملتهم بالمثل، و ليس ذلك بهتك و إنّما هو إعلاء كلمة التوحيد و دفاع عن الدّين و قيمه.

و قد أذن سبحانه و تعالى للمسلمين بقتال المشركين في عمرة القضاء سنة سبع بعد أن صدهم المشركون من النسك عام الحديبية سنة ست و إن كرهوا قتالهم في الشهر الحرام، فبين سبحانه أن ذلك ليس بعدوان بل هو معاملة بالمثل و لم يكن

ص: 135

هتكا للشهر الحرام.

قوله تعالى: وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ .

الحرمات: جمع حرمة كظلمة و ظلمات و هي: ما يجب احترامه و تعظيمه و يحرم هتكه،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها» أي: لا يسألوني عن أمر خطب و مشكل يعظمون فيه حرمات اللّه إلا أجبتهم.

و القصاص من المقاصة و المقابلة أي: إنّ كلّ هتك لحرمة ما يجب احترامه و تعظيمه يقابل بالمثل، فلو هتكوا حرمة الشهر الحرام و البيت الحرام، و الحرم المقدّس الإلهي جاز للمؤمنين قتالهم فيه و لم تسقط الحرمات عن الحرمة بل هو نصرة الدّين الحق و نصرة التوحيد و سيد المرسلين.

و بذلك كسب المسلمون العزة و الاحترام و كسب المشركون الخزي و العار بهتك الحرمات و قتال المسلمين فيها.

و في الكلام الكريم جمع بين اللطف و العتاب، و أخذ الظالم بظلمه و فيه كمال العناية بحيث يجلب قلب الإنسان و خطاب مع الضمير، و مثل هذا له التأثير الكبير في النفس.

قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ .

خطاب عام بعد خاص أمر بالاعتداء مع أنّه لا يحب المعتدين، لأنّ المذموم منه ما كان ابتداء و أما إذا كان في مقابل اعتداء آخر فليس إلا دفع الاعتداء و قهر شوكة الظالم و التعالي عن الذل و الهوان.

و إنّما عبّر سبحانه و تعالى بالاعتداء من باب المجانسة اللفظية و الازدواج في الكلام و إلا فليس ذلك اعتداء، نظير ذلك

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تكلفوا من العمل ما تطيقون فإنّ اللّه لا يمل حتى تملوا» أي: إنّ اللّه لا يملّ أبدا مللتم أو لم تملّوا و لا يقطع عنكم فضله حتى تملّوا فسمى فعله سبحانه و تعالى مللا على طريق الازدواج في الكلام كما هو عادة العرب في كلامهم.

ص: 136

و فيه إيماء إلى أنّ الاعتداء ما إذا كان صادرا عن ابتداء، فأخذ عليهم و ألزمهم بفعلهم، أي أنّه وقع عليهم بفعلهم.

و المعنى: من اعتدى حدود الحق عليكم فاعتدوا عليه مجازاة و معاملة بالمثل بمقداره دون الزيادة.

و هذا حكم عقلي يجري في جميع شؤون حياة الإنسان النظامية و الاجتماعية.

و قد استدل فقهاء المسلمين بهذه الآية المباركة في مواضع متعددة في الفقه الإسلامي و أسسوا قاعدة المثلية في الضمانات طبقا لهذه الآية الشريفة، و هي قاعدة فطرية إلا أنّ التحديدات الواردة عليها إنّما هي شرعية كما هو الشأن في كثير من القواعد الفطرية.

و المراد بالمثلية المتعارفة منها في الكم و الكيف و سائر الجهات الفرعية المختلفة لأجلها الأغراض العقلائية، و من التحديد بالمثل يستفاد أنّ الزيادة عليه اعتداء لا بد و أن يقتص بها.

و ليس المراد بالمثلية العقلية منها فإنّها غير ممكنة بل هي مستحيلة إذ كيف يمكن تحصيلها مع ما يعتبر فيها من تحقق جميع النسب و الإضافات العامة كالزمان و المكان و نحو ذلك، و لذا لم تعتبر في الإسلام المبني على التيسير و التسهيل.

و إنّما أفرد الضمير في «عليه» باعتبار لفظ «من».

و يستفاد من الآية الشريفة العدل الإسلامي الجاري في القليل و الكثير و الضعيف و القوي. و الفقير و الغني و كان ذلك معيارا للتمييز بين الحق و الباطل.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ .

ترغيب إلى ملازمة الاحتياط مهما أمكن، فإنّ المقام مقام الشدة و البأس، و استيلاء القوة الغضبية الداعية إلى الانتقام و الطغيان و الانحراف عن الاعتدال أمرهم بملازمة التقوى و الاستقامة في الدّين و تحذير لهم بأن لا يتعدّوا عما رخصه اللّه تعالى، فاتقوا اللّه في جميع شؤونكم و في جميع حالاتكم، و اعلموا أنّ اللّه مع المتقين و ناصرهم، و هم محتاجون إلى نصرته و ولايته في مثل هذه الحالة.

ص: 137

و في الخطاب كمال العطف و العناية، و إعلام لهم بأنّ اللّه تعالى قادر على الانتقام من المعتدين ورد اعتدائهم عليهم و أنّ معية اللّه تعالى مع أهل التقوى في مثل هذه الحالة تزيل أثر الاعتداء.

قوله تعالى: وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

أمر بإنفاق المال في سبيل اللّه تعالى بعد الأمر بالجهاد و مقاتلة أعداء اللّه تعالى، لأنّ الجهاد يتقوّم بالمال و النفس، بل لا يكون الجهاد بالنفس إلا بالجهاد بالمال أيضا فهما متلازمان.

و الإنفاق: إخراج المال عن الملك لغرض صحيح، و هو إما أن يكون شرعيّا - واجبا كان أو مندوبا، أو مباحا - أو يكون فيه غرض صحيح عقلائي، و بدون ذلك يكون مذموما بل قد يكون حراما أو مكروها.

و سبيل اللّه كلّ ما يرجى فيه ثواب اللّه تعالى، و من أهم سبله تعالى الجهاد مع المشركين و إعلاء كلمة الدّين و إحقاق الحق و إبطال الباطل و قد تقدم الوجه في تقييد كون الإنفاق في سبيل اللّه.

قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ .

مادة (لقي) تأتي بمعنى مطلق الدرك في الجملة، سواء كان حسيا للمحسوس، كقوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا [البقرة - 76]، أو لغير المحسوس، كقوله تعالى: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران - 143]، و قوله تعالى: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً [طه - 39]، أو من عالم آخر غير عالم الدّنيا قال تعالى: وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء - 13]. أو من المعنى للمعنى الذي هو فوق جميع الممكنات كالآيات المشتملة على لقاء اللّه تعالى الذي له مراتب كثيرة و لا بد من حملها على مراتب كبريائه و عظمته على ما يأتي التفصيل في محلّه.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة و تستعمل في المتعارف في كلّ طرح، يقال: ألقيت إليك سلاما و كلاما، و مودة، قال

ص: 138

تعالى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ [الشعراء - 44]، و قال تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ [ق - 24]، و قال تعالى: فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسّاحِلِ [طه - 39]، و قال تعالى: أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً [يوسف - 96]، و هو المراد منه في المقام.

و كلمة «يد» تستعمل في الجارحة الخاصة، أصلها (يدي) بدليل جمعها على أيدي. و حيث إنّها أقوى الجوارح العاملة في الإنسان و أن أكثر أفعال النفس تظهر بها، يصح أن يكنّى بها عن ذات النفس، و عن كلّ ما يحصل منها بالاختيار.

و في مناجاة عليّ (عليه السلام) مع ربه: «إلهي هذه يداي و ما جنيت على نفسي»،

و في أخرى منه (عليه السلام): «إلهي مددت إليك يدا بالذنوب مملوءة و عينا بالرجاء ممدودة»،

و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«على اليد ما أخذت حتى تؤديه» الشامل لجميع الضمانات الحاصلة و لو بغير اليد.

و تصح الكناية بها عن مطلق الاقتدار، قال تعالى: اَلسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات - 47]، و هي تأتي لمعان كثيرة في الكتاب و السنة،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال في المسلمين: «هم يد واحدة على من سواهم».

كما ورد عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ما من صلاة يحضر وقتها نادى ملك بين يدي الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفؤها بصلاتكم».

و في جملة من الدّعوات المأثورة: «اللهم لا تجعل لفاجر عليّ يدا و لا منّه».

و الباء في بِأَيْدِيكُمْ للتأكيد و التزيين، و الاهتمام بالموضوع فإنّ لفظ الإلقاء متعدّ بنفسه قال تعالى: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء - 45].

و التهلكة: ما تصير عاقبته إلى الهلاك، و هو الفساد و الضياع، و تطلق على تبدل الصور بأنحاء الاستحالات أيضا، كما تطلق على الفناء المطلق أيضا، قال تعالى: كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص - 88].

و النهي عام يشمل كلّ ما يوجب الإلقاء إلى التهلكة كالبخل و التقتير،

ص: 139

و الإسراف، و التبذير في الإنفاق، و بذل جميع المال و ترك النفس و العيال عالة بحيث يؤدي إلى اضطراب الحال و انحطاط الحياة و بطلان المروة. فلا بد من الإحسان في كلّ شيء، و هو الطريق الوسط الممدوح عقلا و شرعا. و لذا عقّب سبحانه هذه الآية بالإحسان للاعلام بأنّه لا بد من إحراز الحسن و الإحسان و أن يتجنب عن مشكوك التهلكة فضلا عن مقطوعها و مظنونها.

و مما يوجب الهلاك و الضياع هو الإحجام عن الإنفاق في سبيل اللّه بكلّ ما يستطاع عند القتال و غيره فإنّ ذلك يوجب ذهاب القدرة و هلاك الأنفس و ظهور العدوّ فلا بد للمؤمنين من الاستعداد للجهاد و إلا فقد ألقوا أنفسهم في التهلكة و ضيّعوا الدّين.

و الآية تتضمن قاعدة عقلية قرّرها القرآن الكريم، و هي من القواعد التي تمسك بها الفقهاء في مواضع متعددة من الفقه، و هي تدل على أنّ كلّ تكليف يخاف منه على النفس، أو العرض، أو المال بحيث يصدق عليه الوقوع في الهلاك بحسب المتعارف يسقط أصل التكليف إن لم يكن له بدل و إلا فإلى البدل إن كان له أو إلى القضاء إن كان له قضاء.

قوله تعالى: وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

الإحسان معلوم عند كلّ أحد و فاعله محبوب عند اللّه تعالى، و قد ذكرت هذه الجملة في عدة مواضع من القرآن الكريم، و هي من أهم القواعد في تهذيب النفس و أعظم أنحاء التعليم الجامع للخير، و أصل من أصول التربية العمليّة،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في حديث الإيمان حيث سئل عنه: «فما الإحسان؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): أن تعبد اللّه كأنّك تراه» فأراد بالإحسان المراقبة و حسن الطاعة أي: الإخلاص. فإنّ من راقب اللّه أحسن عمله، لأنّه

«إن لم تكن تراه فإنّه يراك»،

و قد ورد أنّه «إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف اللّه عمله بكلّ حسنة سبعمائة و ذلك قول اللّه عز و جل: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب اللّه. فقيل: و ما الإحسان؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إذا صلّيت فأحسن ركوعك و سجودك، و إذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك و كل عمل تعمله للّه فليكن نقيا من الدنس».

ص: 140

و الآية تشير إلى أمر غريزي واضح غير خفي و إن التبس الأمر في موارد، و لكنّه واضح عند العقل و للإحسان مراتب بل إنّه من الأمور الإضافية.

ص: 141

بحوث المقام

بحث أدبي

لفظ «حيث» لا يستعمل إلا مضافا، و هو مبنيّ على الضم تشبيها له بالغايات مثل قبل، و بعد و نحوهما، لأنّها لا تستعمل إلا مضافا إلى جملة.

و لا يختص استعماله بالماديات المحضة فقط، بل يستعمل في غيرها أيضا، قال تعالى: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124] و مقتضى القاعدة استعماله في النشأة الآخرة أيضا، لأنّ فيها زمانا و مكانا، كما يصح استعمال (حين) فيها.

و يصح استعمال (حيث) في مطلق التحيّز و لو لم يكن من المكان بناء على أنّ الحيّز أعم من المكان.

ثم إنّ المعروف بين الأدباء أنّ فعولا و فعالا من أوزان المبالغة و قد ورد لفظ (غفور) في القرآن الكريم في ما يزيد على سبعين موردا غالبها مقرون بالرحيم، و لفظ (غفار) في موارد غالبها مقرونة بالعزيز قال تعالى: أَلا هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّارُ [الزمر - 5] كما ورد على وزن فعّال في القرآن أيضا، قال تعالى: ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج - 16]، و قال تعالى:

وَ أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ [التوبة - 78]، كما ورد كثيرا لفظ «وهاب».

ص: 142

و المبالغة بالنسبة إلى الذات الأقدس الربوبي - الذي هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى بالنسبة إلى الفوقية - لا يمكن تصورها و كذا جميع صفاته الجلالية و الجمالية لا سيما بالنسبة إلى العلم الذي هو عين الذات الأقدس، و كيف تتعقل المبالغة في ذاته المتعال، فلا بد من حمل المبالغة بالنسبة إليه عزّ و جلّ على أمور:

إما على غاية الكمال الذي لا حدّ له فإنّ المبالغة في المحاورات تكشف عن كمال الشخص فيما بولغ فيه، فكما أنّ معنى السمع فيه عزّ و جلّ عبارة عن أنّه لا تخفى عليه المسموعات - كما عن أئمة الهدى (عليهم السلام) - تكون المبالغة فيه أنّه لا حدّ لكماله، فتكون أوزان المبالغة فيه عزّ و جلّ عبارة عن أنّه لا حدّ لموردها، و لا يمكن للعقول أن تتصوّر لها حدّا.

أو تكون بمعنى الفاعل كما قال ابن مالك في منظومته النحوية:

فعال أو مفعال أو فعول *** في كثرة عن فاعل بديل

أو تكون باعتبار حال المخاطبين، و مراعاة كيفية المخاطبة معهم لقاعدة أنّ العاقل الحكيم لا بد و أن يلاحظ حال المخاطبين في خطاباته.

و غالب ورود أوزان المبالغة إنّما يكون في رحمته و غفرانه، و لم أظفر على ما يكون بالنسبة إلى غضبه تعالى و سخطه لا في القرآن الكريم و لا في الأسماء الحسنى، و لا في غيرها. نعم ورد لفظ «شديد العقاب» و «شديد العذاب» و «عذاب شديد» و «قهار» في عدة مواضع من القرآن الكريم و الدعوات المأثورة و لكن ذلك بيان لكيفية العذاب و العقاب و لا يفيد المبالغة فيه، و إنّ القهار أعم من أن يكون في غضبه و عذابه.

ثم إنّ المعروف بين علماء الأدب أنّ من محسّنات الفصاحة و البلاغة الازدواج و المزاوجة في الكلام، و هي إتيان لفظين متحدي المعنى في الجملة مع اتصاف أحدهما بالحسن و الآخر بالقبح في الواقع كما مرّ في قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فإنّ الاعتداء الأول قبيح و الثاني حسن لأنّه من دفع الظلم و العدوان و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى - 40]، فإنّ الثانية ليست من السيئة في الواقع بل هي دفع السيئة و قوله تعالى: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل - 126]، و تقدم قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و لذلك في كلمات الفصحاء و البلغاء أمثال و نظائر و هي من شؤون الفصاحة و البلاغة في الكلام.

ص: 143

ثم إنّ المعروف بين علماء الأدب أنّ من محسّنات الفصاحة و البلاغة الازدواج و المزاوجة في الكلام، و هي إتيان لفظين متحدي المعنى في الجملة مع اتصاف أحدهما بالحسن و الآخر بالقبح في الواقع كما مرّ في قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فإنّ الاعتداء الأول قبيح و الثاني حسن لأنّه من دفع الظلم و العدوان و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى - 40]، فإنّ الثانية ليست من السيئة في الواقع بل هي دفع السيئة و قوله تعالى: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل - 126]، و تقدم قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و لذلك في كلمات الفصحاء و البلغاء أمثال و نظائر و هي من شؤون الفصاحة و البلاغة في الكلام.

و أما لفظ «مع» الوارد في الآية المباركة وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ فإنّه يدلّ على المصاحبة في الجملة و تختلف استفادة أنحاء المصاحبة بحسب القرائن الداخلية أو الخارجية، فتارة: تكون زمانية. و أخرى: مكانية. و ثالثة:

رتبية. و رابعة: في سائر الإضافات و الجهات.

و قالوا: إنّه اسم بدليل حركة آخره و دخول التنوين عليه يقال: خرجنا من الدار معا. و دخلنا السوق معا، و معية اللّه تعالى مع خلقه معية قيومية ربوبية إحاطية فوق ما نتعقل من معنى المعية و الإحاطة و مع المؤمنين أو المتقين أو الصابرين، أو المحسنين عبارة عن النصرة، و الغلبة، إذ لا يعقل مغلوبية من كان اللّه معه و لو فرض ذلك برهة من الزمن فهي عنوان الشرف و وسام الغلبة الأبدية و المغلوبية مع التقوى في الدنيا عين الغلبة الحقيقية في الآخرة كما هو المشاهد و المحسوس، و قد تقدم في قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتٌ [البقرة - 154]، بعض الكلام فراجع.

ص: 144

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة المتقدمة على أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ يدل على أنّ الاعتداء من السيئات المبغوضة عند اللّه تعالى و إطلاقه يشمل الاعتداء بابتداء القتال، و الاعتداء في القتل بأن يقتلوا من يحرم قتله، و الاعتداء في كيفية القتل كالمثلة بالمقتول و أنواع التعذيب و الاعتداء بغير ذلك كالتخريب و قطع الأشجار، و منع الماء، و إلقاء السم فيه و استعماله و نحو ذلك، كلّ ذلك لعموم الفعل المنفي.

الثاني: أنّ قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ يدل على أنّ الفتنة و الافتتان في الدّين من أشد الأمور التي لا بد من علاجها فإنّ في الفتنة و هن القوى و انهيار المجتمع و إنّ فيها إشاعة الفساد و البقاء على الشرك فهي بؤرة الفساد، و إنّ فيها إذلال النفس و انحطاطها إلى أسفل السافلين بحيث لا تنفعه موعظة الواعظين، و في محوها إزالة مناشئ الشرك و الكفر بعد الجحود و الإصرار و في إزالتها قمع مصادر الشرّ و الفساد، و لذا كانت الفتنة أشد قبحا من القتل الذي هو أعظم من كلّ قبيح، و إنّها أكبر من كلّ جرأة.

الثالث: أنّ الآيات الواردة في جهاد المشركين و قتالهم و الإذن في مقابلة ما فعلوه تدل على الإذن في قلع مناشئ الشرك و استئصالهم

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» و الحكم

ص: 145

موافق للعقل فإنّ جحود المنعم الحقيقي من أقبح القبائح العقلية التي يوجب سلب الاحترام عنه، و من كان كذلك فقد ألقى احترام نفسه و أقدم على هتكها و إزالة حرمتها و بذلك قد أسقط جميع حرماته بنفسه عند نفسه قال تعالى: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل - 118]، و بذلك صحت القاعدة التي ذكروها: «إنّ كلّ ما ينبعث عن الذات يرجع أثره إليه» و لها شواهد كثيرة من الكتاب و السنة و العقل يأتي التعرض لها في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أنّ الانتهاء عن المعصية يكفي في التوبة و يدل عليه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة» و إطلاقه يشمل قبول التوبة عن الشرك و الكفر و القتال و نحو ذلك. و حينئذ لا بد من حمل قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء - 48]، على ما إذا أسلم ثم كفر و أشرك باللّه العظيم أي: لا يسقط الحكم المترتب على شركه ظاهرا بالتوبة. و أما بينه و بين اللّه تعالى فإنّ الحق - كما ذهب إليه المحقّقون - هو القبول و البحث محرّر في الفقه.

الخامس: إنّما لم يذكر الإضافة إلى الفاعل في قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تجليلا و تعظيما للغفران و الرحمة، و للإعلام بأنّهما عامّان لا يختصان بمورد دون آخر، و بشخص غير شخص بل هما من أوسع الصفات و أعمهما، و إنّما اسندا إلى اللّه تعالى لبيان عدم تناهيهما كعدم تناهي الذات.

السادس: إنّما كرر سبحانه و تعالى فَإِنِ اِنْتَهَوْا للترغيب إلى الكف عن القتال و أنّ الانتهاء يرفع القتل عمن ينتهي و يدخله في غفرانه و رحمته في المآل و يوجب محو ما سلف عنه.

السابع: إنّ قوله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ بيان لعلة الاعتداء عليهم أي: أنّهم إذا انتهوا عن عدوانهم فلا تعتدوا عليهم لأنّه يختص بالظالمين و المفروض انتهاؤهم عن الظلم.

الثامن: إنّ قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ من القواعد العقلية الجارية في جميع شؤون الحياة و في كلّ الحالات و هي من أهمّ القواعد

ص: 146

النظامية التي لا بد من النظر فيها و الاستفادة منها و يتفرّع عليها فروع كثيرة.

و لا تختص التهلكة بالدنيوية منها بل تشمل الأخروية، و هي تدل على ترك الإقدام على كلّ تكليف يخاف منه على النفس أو العرض أو المال. و يشمل كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط و تفريط دون ما يكون فيه الحسن و الإحسان الذي هو الطريق الوسط.

التاسع: إنّ في اختتام الآيات بالأمر بالإحسان و بيان أنّ اللّه يحبّ المحسنين، و قد بدأت بالنّهي عن الاعتداء فيه من روعة الأسلوب و حلاوة الكلام ما لا يخفى.

ص: 147

بحث فقهي

القتل و القتال من دون أي مجوّز إلهيّ من القبائح العقلية، فإنّ من الأصول المسلمة لدى جميع الأمم هي أصالة احترام النفس و العرض و المال و عليها تدور جملة كثيرة من القوانين الوضعية، و قد قرّرتها الشريعة المقدسة الإلهية و رتب عليها أحكاما كثيرة.

كما أنّ (قاعدة تقديم الأهم على المهم) من أمتن القواعد العقلية التي أمضاها الإسلام و جعلها محور فروع كثيرة. و لكن إحراز الأهم لا بد أن يكون عن طريق الوحي المبين أو بفطرة من العقل الكامل السليم.

و هذه الآيات و نظائرها الواردة في الجهاد مع المشركين تدور على هاتين القاعدتين العقليتين، و قد ذكر سبحانه في هذه الآيات جملة كثيرة من الأحكام أهمها:

الأول: الإذن في قتال المشركين و أنّه عام لا يختص بعصر دون آخر و حكمها باق إلى أن يظهر دين اللّه عز و جل و يكون الدّين كلّه للّه تعالى و تصير كلمته هي العليا، و لا بد أن يكون ذلك بمحضر من النبيّ الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و من يتلو تلوه في العلم و العمل و التدبير و التقوى و هم أئمة الدّين (عليهم السلام) أو من يحذو حذوهم من العلماء الجامعين للصفات القائمين مقامهم. هذا إذا كانت الفتنة الكفر و الشرك.

ص: 148

و أما إذا كانت غيرها مما يخاف على معتقدات الناس الحقة و هتك النفوس و الأعراض و الأموال المحترمة فلها حكم آخر فصّلناه في الفقه.

الثاني: إنّ إطلاق النّهي عن الاعتداء يشمل جميع أنحاء الاعتداء سواء كان على النفس أو في العرض أو في المال، و لكلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه.

و ذكرنا في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) أنّ الاعتداء في المال إن كانت العين موجودة عند المعتدي يجب عليه ردها إلى مالكها كما يجب رد قيمة المنافع المستوفاة منها بل و غير المستوفاة و يقتضيه

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».

و أما إذا كانت تالفة فإن كانت من المثليات بحسب المتعارف وجب عليه رد المثل، و إن كانت من القيميات كذلك وجب عليه رد القيمة، و إن كانت مرددة بينهما لا بد من التراضي مع صاحب المال.

و مقتضى ظواهر الأدلة الشرعية اعتبار المماثلة في كيفية الاعتداء و كميته و سائر الجهات،

و قد ورد في الحدود: «إنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّا و جعل لكلّ من تعدّى ذلك الحدّ حدّا» فلا بد من مراعاة إذن الشارع في جميع ذلك.

و ما قيل: من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال» فهو مردود لم يقم على إطلاقه دليل لا من العقل و لا من النقل هذا صفوة القول و من أراد التفصيل فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

الثالث: قد استدل الفقهاء بقوله تعالى: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ و نظائره من الآيات الدالة على لزوم المماثلة في الاعتداء بلزومها أيضا في الجنايات و الضمانات.

الرابع: إنّ قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ يدل على حرمة الإقدام على ما يخاف الإنسان على نفسه أو عرضه أو ماله. و أما المجاهدة مع أعداء الدّين فهي ليست من الإلقاء في التهلكة لما فيها من المصالح الواقعية

ص: 149

الكثيرة الراجعة إلى الإنسان، و لذا لو لم تكن في مقاتلة الأعداء مصلحة إما لأجل الخوف من غلبتهم على المسلمين، أو عدم القدرة لهم على المقاتلة و نحو ذلك يجب الصلح و إلا كان من إلقاء النفس في التهلكة و من ذلك صلح نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مع المشركين في عام الحديبية، و صلح عليّ (عليه السلام) في صفين، و صلح الحسن (عليه السلام) مع معاوية.

و أما نهضة الحسين (عليه السلام) مع علمه من قرائن الأحوال أنّه مقتول و مهتوك ظاهرا لا محالة، فاختار الشهادة تقديما للأهم على المهم. و من ذلك ما جاء

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «لو أنّ رجلا أنفق ما في يديه في سبيل اللّه ما كان أحسن و لا وفق أليس اللّه يقول: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ أي المقتصدين؟!!» فإنّ تفسيره (عليه السلام) المحسنين بالمقتصدين يوضح معنى التهلكة في بذل المال، و هو يدل على ما ذكرناه أيضا كما مر.

ص: 150

بحث روائي

في المجمع عن ربيع بن أنس و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية المباركة وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ : «هذه أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقاتل من قاتله و يكفّ عمن كفّ عنه حتى نزلت فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فنسخت هذه الآية».

أقول: تقدم عدم النسخ في مثل هذه الآيات بل سياق الجميع بعد رد بعضها إلى بعض ليس إلا من سنخ العام و الخاص إلا أن يراد من النسخ ذلك كما هو كثير في كلماتهم.

في المجمع أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ . الآية: «نزلت هذه الآية في صلح الحديبية و ذلك أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لما خرج هو و أصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة و كانوا ألفا و أربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدّهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه و يعود العام القابل و تخلى له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت و يفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي و أصحابه لعمرة القضاء، و خافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك و أن يصدّوهم عن البيت الحرام و يقاتلوهم،

ص: 151

و كره رسول اللّه قتالهم في الشهر الحرام فأنزل اللّه هذه الآية.

أقول: روي قريب منه في الدر المنثور عن ابن عباس و غيره و ما ورد في هذه الروايات يكون من ذكر مناشئ النزول و يصح أن تكون لآية واحدة مناشئ له.

و في المجمع في قوله تعالى: وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ - الآية - «نزلت في رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبيّن اللّه سبحانه أنّ الفتنة في الدّين - و هو الشرك - أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام و إن كان غير جائز».

أقول: تقدم الوجه في ذلك.

و في المجمع أيضا في قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ - الآية - قال: «أي الشرك» قال: و هو المروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).

أقول: الوجه في أنّ الشرك أعظم من القتل في المسجد الحرام معلوم لأنّ الأول بالنسبة إلى أصول الدّين و الثاني بالنسبة إلى فروعه و تقدم ما يرتبط بذلك.

العياشي في تفسيره في قوله تعالى: اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ عن العلاء بن الفضيل قال: «سألته عن المشركين أ يبتدئ بهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال (عليه السلام): إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلالهم، و رأى المسلمون أنّهم يظهرون عليهم فيه و ذلك قوله تعالى: اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ .

و في الدر المنثور عن جابر بن عبد اللّه قال: «لم يكن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، و يغزو فإذا حضر أقام حتى ينسلخ».

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ - الآية - عن قتادة قال: «و قاتلوا حتى لا تكون فتنة أي شرك و يكون الدّين للّه قال حتى يقال: لا إله إلا اللّه، عليها قاتل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و إليها دعا،

ص: 152

و ذكر لنا أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقول: إنّ اللّه أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين قال: و إنّ الظالم من أبى أن يقول لا إله إلا اللّه يقاتل حتى يقول، لا إله إلا اللّه».

أقول: ذيل الآية المباركة يدل على أنّ المراد بالفتنة الشرك و الحديث مأخوذ من نفس الآية الشريفة.

في الكافي عن معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا في الحلّ ثم دخل الحرم فقال (عليه السلام): لا يقتل، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يبايع و لا يؤوى، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد.

قلت: فما تقول: في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال (عليه السلام): يقام عليه الحد في الحرم صاغرا لأنّه لم ير للحرم حرمة، و قد قال اللّه عز و جل: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فقال (عليه السلام): هذا هو في الحرم فقال: لا عدوان إلا على الظالمين».

أقول: يستفاد من تمسكه (عليه السلام) بالآية الكريمة أنّ المراد هو المثلية المكانية إذا كان للمكان حرمة و احترام.

روى الصدوق عن ثابت بن أنس قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «طاعة السلطان واجبة و من ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة اللّه عز و جل و دخل في نهيه إنّ اللّه عز و جل يقول: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

أقول: إن كان المراد بالسلطان سلطان العدل فوجوب إطاعته معلوم لأنّه من إطاعة اللّه تبارك و تعالى و إن كان من غيره فهو تابع للعناوين الثانوية.

ص: 153

وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ م.......

اشارة

وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (196) اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ وَ اُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (202) وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

ص: 154

بعد أن ذكر سبحانه أنّ الأهلة هي لمعرفة الأوقات و الحج فكان ذلك تمهيدا لما يأتي من أحكام الحج فذكر هنا بعضا منها فبيّن أولا وجوب إتمام الحج و العمرة للّه، ثم ذكر أحكام المحصور و عدم جواز الحلق حتى يبلغ الهدي محلّه إلا من كان معذورا في ذلك يفدي فيحلق و إذا أمن الحاج و زال الخوف، فإنّه يجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج أن يذبح ما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج و سبعة عند الرجوع إلى الأهل.

ثم بيّن أنّ زمان الحج هو أشهر خاصة، فمن أوجب على نفسه الحج فيها يجب عليه ترك الرّفث و الفسوق و الجدال.

و قد ذكر أنّ خير الزاد الذي يتزود ليوم المعاد هو التقوى و أنّ الإنسان لا بد أن يتوخاها بما أوجبه اللّه تعالى عليه.

و بيّن أنّه يجب على الحجيج أن يفيضوا من عرفات إلى المشعر الحرام و يذكروا اللّه فيه كما هداهم و أمرهم بعد ذلك أن يفيضوا منه كما يفيض الناس.

كما أمرهم بملازمة ذكره تعالى في جميع حالاتهم و أنّ الأولى لهم أن يطلبوا من اللّه تعالى ما يرجع إليهم نفعه في الدنيا و الآخرة.

و قد أمرهم بالبقاء في منى في أيام معدودات، و أشار سبحانه و تعالى إلى أنّ جميع أعمال الحج إنّما هي صورة مصغّرة من الحشر إليه تعالى.

و هذه الآيات نزلت في حجة الوداع آخر حجة حجها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و فيها تشريع حج التمتع.

ص: 155

التفسير

196 - قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ .

مادة (ت م م) تدل على انتهاء الشيء إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه بخلاف النقص و الناقص.

و يطلق التمام على الجواهر و الأعراض و الأمور المعنوية، و يطلق التمام على الكمال مع إمكان التفرقة بينهما في الجملة، كما يأتي.

و الحج هو شعيرة من شعائر الإسلام بل هو أحد أركان الإسلام الخمسة، و قد شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان عليه العرب في الجاهلية و أقره الإسلام إلى يوم القيامة.

و هو على ثلاثة أقسام:

حج التمتع - و هو أفضل الأقسام.

و حج القرآن.

و حج الإفراد.

و واجباته: هي الإحرام، و الوقوف بعرفات، و الوقوف بالمشعر الحرام، ثم إتيان منى و رمي العقبة و التضحية بها، و رمي الجمرات الثلاث، و طواف الحج، و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة، و طواف النساء و صلاته.

ص: 156

و العمرة عبادة معروفة أيضا، و هي على قسمين:

عمرة مفردة.

و عمرة التمتع.

و واجباتها: هي الإحرام، و الطواف و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة.

و لكلّ واحد منهما أجزاء و شروط و آداب وردت في السنة الشريفة، و قد شرح أبو عبد اللّه جعفر الصادق (عليه السلام) خصوصيات هذين العملين بما لا مزيد عليه حتى نسب إلى أبي حنيفة أنّه قال: «لو لا جعفر بن محمد ما عرف الناس مناسك حجهم». و تضمنتها كتب الأحاديث و الفقه، و في الحج و العمرة اجتمعت أنحاء العبادات الروحية و البدنية و المالية، الفردية و الاجتماعية.

و المراد بإتمام الحج و العمرة: إتيانهما تامّين بأجزائهما و شرائطهما بحسب ما شرعه اللّه عز و جل، و شرحته السنة الشريفة.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ أنّهما عبادتان يعتبر فيهما قصد التقرب للّه تعالى، فلا يتمّان إلا لوجه اللّه عزّ و جل.

و ذكر بعض المفسرين أنّ المراد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ أي ائتوا بهما تامّين فيكون محض أمر بالإتمام بعد الشروع فيهما، ثم ذكر أنّ العمرة غير واجبة فيكون الأمر بالإتمام للوجوب و الندب، كما تقول: صم رمضان و ستة من شوال.

و يرد عليه أولا: أنّ العمرة واجبة بمقتضى الآية و الروايات، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.

و ثانيا: أنّ حمل الأمر على الوجوب و الندب باطل إلا بالعناية، و قد نبّه عليه هو في تفسير آية الوضوء أيضا، فقال بأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز و التعمية.

قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ .

ص: 157

مادة (حصر) تأتي بمعنى الضّيق و الحبس يقال: حصره العدو في منزله حبسه، و أحصره المرض منعه من السفر.

و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تناسب هذا المعنى،

و في الحديث «هلك المحاصير» أي المستعجلون، لأنّ الاستعجال في الشيء نحو تضييق في الجملة.

و قيل: إنّ الإحصار في المنع الظاهر عن الوصول إلى بيت اللّه تعالى، كالعدوّ، و الحصر، يقال في المنع الداخل كالمرض.

و لكن عن جمع من أهل اللغة أنّه لا فرق بين الإحصار و الحصر فإنّ كليهما يستعملان في الممنوعية عن الإتمام، سواء كان بسبب عدوّ أو مرض، إلا أنّه ورد في الأخبار المعتبرة عن الفريقين أنّ المحصور غير المصدود، فإنّ الأول هو المريض، و الثاني هو الذي يرده العدو.

و الاستيسار من اليسر يقال: يسر الأمر و استيسر، كما يقال صعب و استصعب، و هو السهولة أي: ما تيسّر كلّ فرد بحسب حاله.

و الهدي يصح أن يكون من الهدية و التحفة، و من السوق إلى الرشاد، و هو يرجع إلى الأول، لأنّ الهدية إلى اللّه عزّ و جل نحو سوق لفاعليها إلى الرشاد كلّ بحسبه، فهدايا العباد إلى اللّه جلّ جلاله سياق لهم إلى الرشاد لا سيّما إذا تشرّفت بالقبول.

و المراد به: ما يسوقه الناسك من النّعم للتضحية به في مكة أو في منى.

و المعنى: إن منعتم عن الإتمام بسبب مرض أو غيره فليرسل كلّ ناسك ما تيسّر له من الهدي كلّ بحسب حاله من الإبل و البقر و الغنم، و من موارد ما استيسر من ساق الهدي ثم أحصر فإنّه يكفيه ذلك كما هو المشهور عند الإمامية.

قوله تعالى: وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ .

الحلق: استيصال الشعر،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

ص: 158

«اللهم اغفر للمحلّقين - قالها ثلاثا -». و المراد بهم في الحج و العمرة، و إنّما قال (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك لأنّ أكثر من حج معه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يكن معهم هدي فلما حلق من كان معه هدي، و أمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من لم يكن معه هدي أن يحلق. و لكنّهم اثروا البقاء على إحرامهم، فتدارك النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك منهم بالدعاء لهم.

و الرأس: معروف و يكنّى به عن أعلى كلّ شيء، و عن الرئيس أيضا.

و المعنى: و لا تحلّوا بالحلق فإنّ الشارع جعل الحلق أول الإحلال حتى يبلغ الهدي محلّه المقرّر شرعا، و قد حددته السنة الشريفة بأنّه منى إن كان حاجا، و إن كان معتمرا فمحلّه مكة و فناء الكعبة أو حزورة.

و يستفاد من الآية المباركة: أنّ للهدي محلا معينا لا يصح أن يذبح في غيره، إلا أنّ السنة حدّدته بمنى أو مكة، كما عرفت.

قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ .

الأذى: ما يصل إلى الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته.

و كذا بالنسبة إلى مطلق الحيوان.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، فقد ورد استعمالها بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و رسوله أيضا، قال تعالى: يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [الأحزاب - 53]، و قال تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اَللّهُ [الأحزاب - 69].

و الفاء للتفريع على الحكم السابق الدّال على النهي عن حلق الرأس فيكون المراد بالمرض خصوص المرض في الرّأس الناشئ من ترك الشّعر و عدم الحلق، و من مقابلته للأذى يستفاد أنّ الأخير حاصل من غير المرض، كالهوام و غيره،

ففي الحديث: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). مر على كعب بن عجرة الأنصاري و القمل يتناثر من رأسه، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أ يؤذيك هوامك؟ قال: نعم - الحديث -».

ص: 159

و المعنى: فمن كان منكم في حال الإحرام مريضا يضرّه توفير الشّعر، أو بالرّأس ما يؤذيه كالقمل و نحوه من الهوام، فإنّه يجوز الحلق مع الفدية.

قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ .

الصدقة: ما يتطوّع به في سبيل اللّه واجبا كان أم غيره. و مادة «نسك» تأتي بمعنى العبادة، و الناسك العابد، و اختصت بأعمال الحج، كما أنّ النّسيكة تختص بالذبيحة.

أي: إنّ المحرم الذي جاز له الحلق حال الإحرام يفدى بواحدة من هذه الخصال الثلاث: إما الصيام، أو الصدقة، أو النسك. و لم تبيّن الآية حدود كلّ واحدة من هذه الخصال إلا أنّه ورد في السنة المقدّسة ما يبيّن ذلك، فالصيام بثلاثة أيام، و الصدقة إطعام ستة مساكين، و النسك ذبح شاة.

قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ .

الأمن: طمأنينة النفس، و زوال الخوف. و الأمن و الأمان، و الأمانة تستعمل مصدرا تارة، و اسما أخرى و يفرق بالقرائن.

و مادة (متع) تأتي بمعنى الارتفاع و الانتفاع، يقال: متع النهار و متع النبات إذا ارتفع. قال تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [البقرة - 36]، أي: انتفاع. و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و غالب استعمالاتها تشعر بالقلّة و الزوال و التحديد، و هو كذلك إذ لا نسبة بين المتناهي من كلّ جهة و غير المتناهي كذلك، و في الحديث: «لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».

و سمي حج التمتع تمتعا، لأنّ المحرم يحلّ من إحرامه بعد تمام العمرة، فينتفع بما حرّم عليه لأجل الإحرام حتى يهلّ للحج، فهو إحلال بين إحرامين.

و هذه الآية صريحة في تشريع حج التمتع لأنّ الجملة الخبرية أصرح في التشريع من الإنشائيات، و قد أثبتوا ذلك في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا

ص: 160

(تهذيب الأصول). و لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.

و الفاء في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ للتفريع على الإحصار. كما أنّ الباء للسببية.

أي: تمتع بسبب العمرة بأن ختمها و أحل منها، فإنّه يتمتع بما كان محرما عليه حال الإحرام حتى يهلّ بالحج.

و المعنى: فإذا أمنتم بارتفاع المانع من عدوّ، و مرض و نحوهما فمن كان متمتعا بالعمرة بأن أحلّ منها إلى وقت الإهلال بالحج فعليه ما استيسر من الهدي.

قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ .

أي: عليه ما استيسر من الهدي يذبحه في منى كلّ بحسب حاله من إبل أو بقر أو شاة.

و الظاهر من الآية المباركة أنّه دم نسك لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات، كما قال به الشافعي.

قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ .

أي: فمن لم يجد الهدي لعدم التمكن من المال لشرائه أو لعدم وجدانه، فعليه صيام ثلاثة أيام من الأيام التي من شأنها أن يقع فيها الإحرام بالحج.

و في جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاد زمانهما، و ذلك لأنّ الزمان الذي يعدّ عرفا من الحج هو من زمان الإحرام إلى الحج إلى الانتهاء عنه، فتكون أيام الصيام هي يوم التروية و ما قبله و ما بعده و من فاته في ذلك فعليه الصيام بعد أيام التشريق، و لا يصح الصيام فيها، و في ذلك وردت روايات كثيرة من السنة المقدّسة، و عليه الإجماع، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

ص: 161

قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ .

التفات من الغيبة إلى الحضور لبيان أنّ السبعة بعد الرجوع لا حينه.

أي: و سبعة بعد الرجوع إلى أهله و وطنه، فلا يكفي إرادة الرجوع، أو حينه.

قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ .

إجمال بعد تفصيل أي: أنّ تلك الأيام الثلاثة في أيام الحج، و السبعة بعد الرجوع إلى الأهل عشرة كاملة في النسك.

و يستفاد من هذه الآية أمور:

منها: أنّ تلك الأيام العشرة تعد نسكا واحدا عند اللّه تعالى لا يضرّ الفصل فيها و إن بلغ ما بلغ.

و منها: أنّه لا يضر إتيان السبعة في غير أيام الحج، بل في غير أشهره.

و منها: أنّه لا يفسدها الصوم في السفر.

و منها: أنّ كلّ واحدة من الثلاثة أو السبعة عمل خاص و تام في حدّ نفسه، و له حكمه و إنّما الأخيرة مكملة للأولى.

و منها: دفع توهم الإباحة و الاستغناء بإحديهما.

و منها: الاهتمام بالعشرة و التأكيد على إتيانها كاملة من دون نقص و لا إغفالها بوجه.

و منها: إفادة أنّ البدل يقع مقام المبدل منه كاملا و أنّه كامل ككمال الهدي و الاضحية.

قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

ذلك: إشارة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج، و الأهل يقال: لمن يختص بشيء، سواء كان ذلك الشيء إنسانا أم غيره. يقال: أهل الرجل، و أهل الدار، و أهل الذكر. و الآل لا يقال إلا فيما إذا كان للمختص به شرف، سواء كان دنيويا، كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذابِ [غافر - 46]، أم

ص: 162

معنويّا كآل موسى و هارون. أم هما معا كآل محمد (صلّى اللّه عليه و آله).

و حاضري من الحضر - بفتحتين - و الحضور خلاف البعد، و الغيبة، و البدو. و المراد به: المقيم عند المسجد الحرام، و ليس المراد منه مقابل السفر.

و المستفاد من الآية: أنّ المدار صدق الحضور عليه مقابل النائي فيدخل فيه من كان مقيما في الحرم، و قد حدّدته السنة الشريفة بما إذا كان بينه و بين المسجد الحرام بما يعادل أقل من ثمانية و ثمانين كيلو مترا و النائي من يكون أكثر من ذلك.

و حج التمتع وظيفة الآفاقي الذي يأتي من آفاق الأرض، و لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فقد أمر بالإهلال من المسجد الحرام أو غيره بعد الإحلال من إحرام العمرة و جواز التمتع بما كان محرما عليه بسبب الإحرام، ذلك تخفيف من ربّه عليه لتحمّله مشقة السفر و مقاساته لعنائه، و في العبارة من اللطف و العناية ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

أي: اتقوا اللّه بطاعته و امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يستفاد منه أنّ الحكمة في جعل الأحكام الإلهيّة إنّما هي التقوى، كما في قوله تعالى: لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ [الحج - 37].

كما يستفاد من الأمر بالتقوى في المقام أنّ هناك مخالفة تصدر و عصيان على هذا الحكم، فأمرهم بملازمة التقوى، و إتيان الأحكام الشرعية على وجهها المطلوب من دون تعيير و تبديل.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

حذرهم من المخالفة و هتك الحرمات، و أوعد عليها لما يعلمه تعالى من عبث الأهواء في هذا الأمر، فإنّ الحج من الأمور التي كانت سائدة عند العرب من عصر إبراهيم (عليه السلام) و قد دخلته عادات و تقاليد لم يمضها الإسلام، فلم يكن التغيير أمرا سهلا على نفوس اعتادت بعض الأمور، و لذا

ص: 163

فقد قابلوا الوضع الجديد بالإنكار و المخالفة فكان ذلك هو الموجب لهذا التشديد و التوعيد على المخالفة، و لذلك كلّه تعهّد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هذا التشريع الجديد بوجوه من الكلام في خطبته المباركة تضمّنت كثيرا من أحكام الحج. و أكّد عليه بأنحاء التأكيدات، فأمر (صلّى اللّه عليه و آله) بأنّه حكم أبدي لا يدخله أي تغيير و عام لا يستثنى منه أحد.

197 - قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ .

أي: إنّ زمان الحج أشهر معلومات معيّنات، و معروفات عند الناس، و هي: شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة، كما تدل عليه السنة المقدسة، فلا يقع شيء منه في غيرها و إن كان ذلك الإحرام لأنّه من أجزاء الحج، و كذلك عمرة التمتع لأنها من الحج، و يدل عليه

الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

فما ذكره بعض الفقهاء من أنّه يجوز تقديم الإحرام في غيرها لأنّه شرط للحج، كالطّهارة للصلاة فيجوز التقديم على وقت الأداء. غير صحيح كبرى و صغرى كما هو مذكور في كتب الفقه.

و المراد من الآية: أنّ مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من أفعال الحج فلا ينافي كون بعض الشهر هو زمان الحج فقط، كما لا ينافي اختصاص بعض أفعال الحج ببعض الأيام، لجريان العرف على عدّ جزء من الزّمان منزلة الكلّ، و عدّ جزء من العمل منزلة تمامه، يقال رأيته يوم الجمعة و إنّما رآه في بعضه دون الجميع و كذا اجتمعت معه سنة كذا، و غير ذلك.

و يستفاد من قوله تعالى: مَعْلُوماتٌ أنّه لا يجوز تأخيرها و إنساؤها إلى شهر آخر، كما كان المشركون يفعلونه.

قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ .

مادة (فرض) تأتي بمعنى قطع الشيء الصّلب، و التأثير فيه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء - 7]،

ص: 164

أي: مقطوعا معلوما، و تستعمل في فرائض اللّه تعالى لأنّها تقطع الأوهام و الشكوك و المحتملات بالنسبة إلى موردها.

و يطلق في اصطلاح الفقهاء على المواريث أيضا لأنّها تقطع و تقسم من مال الميت،

و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تعلموا الفرائض فإنّها نصف العلم».

و في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة».

و فرائض اللّه تعالى هي: الأحكام التي أوجبها على العباد، و الفرق بين الفرض و الوجوب من وجوه:

الأول: أنّ الفرض يختص بالنسبة إلى ما فرضه اللّه تعالى فقط بخلاف الوجوب فإنّه أعم، يقال: وجوب عقلي، و لا يقال: فريضة عقلية.

الثاني: الوجوب يطلق و لو على مرتبة الإنشاء، و الفرض لا يطلق إلا على مقام العمل.

الثالث: يطلق الفرض في الشريعة على ما ألزمه اللّه تعالى، بخلاف الوجوب فإنّه أعمّ من السنة و ما فرض اللّه جلّ شأنه.

و المعنى: فمن أوجب على نفسه الحج فيهنّ و ذلك بالشروع فيه بعقد الإحرام إمّا بالتلبية أو الإشعار بالهدي أو التقليد.

قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ .

نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة و هو يتضمن النّهي عنها، و هذا أبلغ.

أي: إنّ الحج بطبعه و الحكمة في تشريعه يأبى هذه الأمور كما يستفاد من تكرار لفظ «الحج» أيضا.

و تقدم الكلام في الرّفث في آية 187 من هذه السورة، و يراد به كلّ ما يستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد يكنّى به عن نفس الجماع، فالرّفث

ص: 165

بالفرج الجماع، و باللسان المواعدة عليه، و بالعين الغمز له.

و مادة (فسق) تأتي بمعنى الخروج، يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، و يستفاد من موارد استعمالاتها أنّ الفسق خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، و منه الفسق في الشرع و هو الخروج عن الطاعة، و هو أعم من الكفر، و العصيان أعم منهما، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فيما يقرب من أربعين موردا كلّها تشعر بالذّم، و في المتعارف يستعمل فيمن عرف بذلك. و يقال للفأرة: الفويسقة، لأنّها تخرج من بيتها مرة بعد أخرى،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اقتلوا الفويسقة فإنّها توهي السقاء و تضرم البيت على أهله»،

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «خمس فواسق تقتل في الحل و الحرم: الغراب، و الحداءة، و الكلب، و الحية، و الفأرة» و شرح هذا الحديث يطلب من كتب الفقه في مسائل تروك الإحرام.

و المراد بالفسوق هنا: مطلق ارتكاب المناهي، و ما يوجب الخروج عن طاعة اللّه عزّ و جل، و هو و إن كان حراما في غير الحج أيضا و لكن تكون حرمته في الحج أشدّ و آكد، فإنّ قصد الحاج السّفر إلى اللّه تعالى و الإقبال عليه عزّ و جلّ، و مع تلبسه بالفسوق يكون خارجا منه و بعيدا عنه تعالى، و لأنّ في الحج تكون حالة الارتباط و الاتصال بساحة ذي الجلال فما أقبح القطع و الانفصال في مثل هذا الحال.

و الجدال: المفاوضة على نحو المنازعة و المغالبة، و المراء بالكلام، و هو داخل في المصارعة لأنّها إمّا بالآلات الخارجية أو باليد، أو باللسان.

و الأخير يسمى جدالا، و ما كان منه لغير اللّه فهو قبيح، و ما كان لإظهار الحقّ فهو حسن، و ما كان لتثبيته و إيضاحه فهو أحسن.

و قد فسّر الجدال في الآية المباركة في السنة بقول: «لا و اللّه، و بلى و اللّه».

و الظاهر أنّ الآية المباركة تنهى عن أمور كانت متبعة عند العرب في

ص: 166

زيارتهم لبيت اللّه الحرام و حجهم له، فقد كانت الأسواق في الموسم تعقد للمفاخرة بين القبائل و كان يجري فيها، التنابز بالألقاب و الخصام و المراء، و غير ذلك من المناهي المتعلقة باللسان فناسب ذلك النهي عن هذه الأمور في الحج و إلا فهي محرّمة في جميع الأحوال، و لبيان أنّ الحج بطبعه لا يقبل هذه الأمور فإنّه السّفر إلى اللّه و الإقبال عليه لغرض أسمى، و لا تناسب بين ما كان كذلك و بين ما هو من شأنه البعد و الفرقة و الانفصال.

قوله تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ .

التفات من الغيبة إلى الخطاب و التكلّم لبيان كمال العطف و الاهتمام و الاقتراب إلى المتعبدين، و فيه من الترغيب إلى فعل الخير، كما أنّ في الآية من التذكير بأنّ أعمال العباد لا تغيب عنه عزّ و جل، فإنّ ما يفعله الإنسان من الخير سواء في الحج أو في غيره يعلمه اللّه و يجازي عليه، و هو الذي لا يضيع أجر المحسنين و لا يهمله عز و جل.

و ذكر الخير بالخصوص مع أنّه تعالى عالم بالخير و الشر، ظاهرهما و باطنهما كما في قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة - 284]، و قوله تعالى:

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ [النور - 29]، إنّما هو للترغيب إلى الخير و حث الناس عليه، فتكون إرشادا إلى مطلوبيته له تعالى، مع أنّ ظاهر الحال و المكان يقتضي ذكر الخير و لو فرض وجود شرّ من المعاصي في البين فهو مضمحل في جنب ذلك الخير العظيم لغلبته عليه في تلك المشاعر العظام.

و التصريح باسم الجلالة ليكون إثبات الشيء ببرهان.

و فيه من التنبيه إلى أنّ الإنسان لا بد أن لا يفقد روح العمل، و هي الحضور لديه عزّ و جلّ في جميع أفعاله، و أنّه لا بد من التطابق بين العلم و العمل فإنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له في نظر القرآن.

قوله تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى .

ص: 167

الزاد: ما يتهيّأ للسفر، و هو يختلف كمية و كيفية باختلاف حالات السفر، و السفر على قسمين: سفر في الدنيا، و سفر من الدنيا. و في كلّ منهما لا بد من الزاد و زاد الأول هو: الطعام و الشراب و المركب و نحوه، و زاد الثاني: هو معرفة اللّه تعالى و الطاعة، و الاستعداد للآخرة.

و قد بيّن سبحانه أنّ خير الزاد لهذا السفر هو التقوى، أي فعل الطاعات و ترك المعاصي، و ترك ما يوجب سخط اللّه تعالى، و التقوى هي الصراط المستقيم إلى الإنسانية الكاملة و الجنان العالية، و هي الارتباط الوثيق مع مالك الدنيا و الآخرة.

و ذكرها في المقام لبيان أنّ الحاج إذا كان في سفره القصير لا بد له من الزاد و إلا هلك، فكيف بالسفر الطويل البعيد المحفوف بالمخاطر العظام، فيكون احتياجه إلى الزاد أهم و أعظم.

و من تعريف الخبر (التقوى) يستفاد أنّ الأمر مقطوع به، و لا يدخله الشك، و أنّ الحكم على التحقيق كذلك.

و الآية تنحل إلى برهان قويم، و ترجع إلى قول: تزودوا بخير الزاد، و خير الزاد التقوى، فتزودوا بالتقوى، و الكبرى معلومة بالأدلة الأربعة.

ثم إنّ ظاهر الآية المباركة العموم بالنسبة إلى تمام الحالات و الأزمنة و الأمكنة و إنّما ذكر في المقام بالخصوص لاقتضاء الحالة بتزود التقوى لأنّه السفر إلى اللّه تعالى.

و أما ما عن ابن عباس أنّه قال: «كان أهل اليمن يحجون و لا يتزوّدون و يقولون نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت الآية المباركة» فهو من باب ذكر المصداق لا الحصر الحقيقي، و يمكن تعميم الأمر بالتزود في خصوص الحرم الإلهي حتى بالنسبة إلى ما تعارف بين الحجيج من حمل الهدايا معهم إلى بلادهم.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ .

ص: 168

اللب: هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام، خصّهم بالذكر لأنّهم المؤهّلون لذلك، فإنّهم يعرفون حاجتهم إلى التزوّد بالتقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.

و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.

و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و أنّه لا بد من قطع النظر عن كلّ شيء سواه، و هذا هو الذي يستشعره ذو اللب الخالص و العقل السليم.

و هذا الخطاب جذب لأولياء اللّه تعالى إلى عالم لا نهاية لعظمته و كبريائه و لا غاية لكماله و تقريب لهم إلى صور لا حدّ لجمالها و دلالها كيف فإنّ التقوى مفتاح بركات السماء و الأرض، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [الأعراف - 96]، و هي أساس الفلاح، قال تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة - 100]، و هي الوسيلة لجلب السعادة للإنسان.

و هذه الآيات تدل على الترغيب إلى اكتساب الفضائل و التجنب عن الرذائل، و التشبّه بربّ الأرباب جلّ شأنه، و استكمال الإنسان بجميع ما أعد له من الكمال، فيترتب عليه جميع ما أعد له من الجزاء الموعود في القرآن و الكتب السماوية ترتب المعلول على العلّة التامة المنحصرة.

198 - قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ .

مادة (ج ن ح) تستعمل في الإثم المائل عن الحق، و يسمّى كلّ إثم جناحا، و قد ورد لفظ جناح في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موردا منفيّا بليس، أو لا، و لكن لم يرد مثبتا فيه و إن ورد بهيئاته الأخرى، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال - 61].

و المراد به في المقام: نفي الحرج و الإثم، أي: لا بأس في ابتغاء الفضل من ربّكم، و المراد من ابتغاء الفضل هو طلب الرزق بالكسب و التجارة، نظير قوله تعالى: وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللّهِ [المزمل - 40]، و قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة

ص: 169

- 10]. و قد ورد في السنة الشريفة أنّ الابتغاء من الفضل هو الرزق، فالآية المباركة تدل على إباحة البيع و زيادة الرزق بالتجارة.

و عليه فتكون الآية المباركة في مقام الاستدراك عما يتوهّم و ينسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى، و من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى خلاف ما كان الأمر عليه في الجاهلية من الكسب و التجارة و عقد الأسواق في الموسم لها، و لأجل ذلك كان بعض المسلمين في أول الإسلام يتأثّمون من ذلك فأزال تعالى هذا الوهم، و أعلمنا بأنّه لا بأس بالكسب و التجارة و أنّ ذلك من فضل اللّه تعالى بل يستفاد من قوله تعالى: مِنْ رَبِّكُمْ أنّه داخل في العبادة،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الكاسب حبيب اللّه».

فتكون الآية المباركة صريحة في عدم المنافاة بين الحج و طلب المال.

و لكن يمكن أن نقول: إنّ المراد من الابتغاء بالفضل هو الأعم من طلب الرزق بالتجارة و من طلب المغفرة كما ورد في بعض الروايات فإنّها المطلوب الأهم للإنسان، فتكون ترغيبا إلى ازدياد الخير بعد الترغيب بالتقوى، و الحث عليها، و إشارة إلى عدم الاعتماد على مجرد التقوى بل الاعتماد كلّه على فضل اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ .

مادة (فيض) تأتي بمعنى سيلان الماء مع الكثرة، و تستعمل في كلّ دفع مع كثرة كما في المقام، و الاستفاضة هي الشيوع و الكثرة و الانتشار.

و عرفة هي بمعنى الإصابة يقال: عرفه أي أصاب عرفه - أي رائحته - أو خدّه. و عرفات علم للمكان المخصوص المعروف، و هي في معنى الجمع و ليس بجمع شيء، و ما

في بعض الأخبار: «الحج عرفة» إنّما هو باعتبار الزمان لا باعتبار كون عرفة مفرد عرفات، و تنوينه تنوين المقابلة لا تنوين التمكن.

و سمي الزمان و المكان بها لتحقق تعرف في البين إما لأجل أنّ خليل الرحمن (عليه السلام) عرف صدق رؤياه، أو لأجل أنّ جبرائيل عرفه مشاعر

ص: 170

الحرام في هذا المكان، أو لأنّ اللّه عز و جل يتجلّى لأهل عرفات، أو لأجل أنّ في هذا المكان يعرف العباد أنفسهم إلى اللّه تعالى بالدعاء و الثناء، أو لأجل أنّ الناس في هذا المكان يعرف بعضهم بعضا، أو لأجل ارتفاع المحلّ ارتفاعا ظاهريا أو معنويا من عرف الدّيك.

و الآية تدل على الوقوف في عرفات بالملازمة فإنّ الإفاضة من محلّ يستلزم الكون فيه لا محالة. مع أنّ الكون فيها كان معهودا في الجاهلية و قرره الإسلام، و إنّما يراد بيان بقية أعمال الحج، فالموضوع مفروض الوجود عند بيان اللواحق و الأحكام.

قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ .

و هو المزدلفة، و جمع. و سمي مشعرا لأنّه معلم لشعائر اللّه تعالى و عبادته، و هو المكان المعروف. و المراد بالذّكر هو الصلاة، و التهليل، و التسبيح، و الدّعاء، و هو ما يعلم الواجب و المستحب.

و الآية المباركة تدل على وجوب الوقوف بالمشعر الحرام و لو بالمسمّى الذي هو الكون لدلالة الذّكر عليه و إن كان بالملازمة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ .

تأكيد للجملة السابقة و ترغيب إلى ذكره تعالى و الحث على الإقبال إليه و إرشاد للإنسان إلى أنّه ينبغي أن يكون على ذكره تعالى دائما أي: و اذكروه بالثناء و الشكر على هدايته إيّاكم و أنّكم كنتم من قبل الهدى لمن الضالين.

و ال (واو) للحال و (ان) مخففة من الثقيلة لدلالة اللام عليه، و هي تفيد التأكيد.

و المستفاد من الآية الشريفة: أنّ ذكر المنعم و شكره لا بد أن يكون لأجل نعمته، و لا نعمة أولى و أحسن و أتم و أكمل من الهداية إلى الإيمان و ترك الكفر و الضلال.

199 - قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ .

ص: 171

حيث للمكان المبهم يفسره ما بعده، و يمكن أن يطلق على المكان المبهم باعتبار حالة من يحلّ فيه من الوقار و السكينة و الذكر و نحو ذلك.

و المراد من الناس من يصلح للاقتداء و الايتمام به و العالمين بحدود الحج و أحكامه العاملين بها، و هم منحصرون في خليل الرحمن و ذريته القائمين مقامه العاملين بشريعته، فهو (عليه السلام) أول هذه السلسلة و أئمة الحق من ذريته آخرها، و العلماء العاملون الذين يتلونهم علما و عملا حفظة هذه التشريعات.

و إنّما ذكر لفظ الناس ليشمل جميع من له دخل في تشريع هذه المشاعر حدوثا و بقاء و حفظا و إبقاء.

و معنى مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ أي على الحالة التي أفاض الناس المعهودون في هذا المكان. و يستفاد من قوله تعالى أمرهم بالإفاضة التي يريدها اللّه جلّ شأنه و نبذ الحركة الهمجية في هذه الحالة التي ينبغي فيها ملاحظة الخضوع و الخشوع للّه تعالى.

و ظاهر الآية الشريفة: أنّه إيجاب للإفاضة المعهودة بين الناس، و بعد ذكر الإفاضة من عرفات يستفاد أنّه إفاضة إلى منى بعد الوقوف في المزدلفة.

فيكون قد ذكر سبحانه الوقوفين أحدهما بالصراحة و هو الوقوف بعرفات و الإفاضة إلى المزدلفة بقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و الآخر بالملازمة و هو الوقوف في المشعر الحرام و الإفاضة منه إلى منى فتكون (ثم) على الحقيقة لوجود التراخي الزماني بين الإفاضتين.

و في ذلك خلاف ما كانت عليه قريش و حلفاؤها الذين هم (الحمس) فإنّهم كانوا لا يقفون بعرفات ترفعا بل بالمزدلفة، و كانوا يقولون نحن أهل حرم اللّه لا نفارق الحرم و كانوا يمنعون الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة، فأثبت سبحانه إفاضتين و وقوفين لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف و لو بمقدار الذكر، و يدل على ما ذكرنا بعض الأخبار كما يأتي في البحث الروائي.

و قيل - و عليه أكثر المفسرين - أنّ المراد الإفاضة من عرفات كما كان

ص: 172

عليه دأب الناس فأمر اللّه تعالى أولئك العرب الّذين كانوا لا يقفون مع غيرهم في عرفات. و بذلك يكون تشريعا للوقوف بعرفات و أنّ الكلام بمنزلة الاستدراك بعد قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و تكون (ثم) دالة على التراخي الرتبي و الخطاب مع قريش فقط.

و لكن فيه نظر فإنّه بناء على ذلك تكون الجملة تكرارا لمفاد الجملة الاولى و هو لا يليق بكلامه تعالى، فلا بد من حمل الإفاضة إمّا على الإفاضة من المشعر إلى منى كما ذكرنا أو حملها على كيفية الإفاضة في الإفاضتين بأن يكون المفيض على هدوء و وقار بلا تهجم، و للإعلام بأنّ الإفاضة المطلوبة هي الإفاضة المشروعة فإنّها هي من رحمة اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تحريض على طلب المغفرة و دعوة منه تعالى إلى الجنة لأجل أنّ الزمان و المكان من مبشرات ذلك فهما من أفضلهما، فكما أنّ الوقوف بعرفات و المشعر و أيام منى يوجب تخفيف الذنوب و التقرّب إلى المحبوب و أنّه تعالى يتجلّى لعباده في تلك المشاعر ليتجاوز عن المسيئين و يرفع درجات المخلصين، أمر تعالى بطلب الغفران لينطبق الحال مع المقال و يصير اللسان و المكان جميعا فيضان الرحمة و إفاضة النعمة، فكأنّه تعالى يريد أن يطهّر ضيوفه الواردين إليه عن دنس المآثم و يزيل عنهم شرّ الوسواس الخنّاس ثم يأذن لهم في الخروج عن حرمه و هذا هو أعظم أنواع الهدايا و أشرف أنحاء العطايا منه للعباد.

و في الآية إشارة إلى أنّ ذكر الآباء بمعزل عن هذه الهدية و لا أثر له في هذه العطية و لا ينافي ذلك استفادة العموم من جملة وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ لجميع الناس و في جميع الأمكنة كما تدل عليه العلة التامة الشاملة بقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي كثير الغفران و وسيع الرحمة.

و قد ذكر لفظ «الغفور» في عدة آيات كثيرة كلّها مقرونة بالتأكيد و التثبيت مثل لفظ «انّ» و «كان» و مقرون بالرّحيم و الحليم.

ص: 173

و في حال التلبس بأفعال الحج يشملهم استغفار الملائكة أيضا و النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لعظمة الموقف.

و قد كررت هذه الآية في [سورة المزمل - 20]، و قد رغّبت السنة المقدسة في التوبة و الاستغفار مما لا يمكن إحصاؤها و استقصاؤها و لعلّ هذا بعض معاني

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل».

200 - قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ .

مادة (قضى) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بالنسبة إلى الخالق، و الخلق، و القول، و الفعل، و الدنيا و الآخرة و إنّها بمعنى فصل الأمر قولا كان أو فعلا، و يلزمه الإتمام و الفراغ.

و المناسك جمع منسك مصدر نسك و هو: العبادة، و الناسك: العابد، و اختص بأعمال الحج. و تأتي اسم مكان و هي: مواقيت النسك و أعمالها، و النسيكة مختصة بالذبيحة المتقرب بها إلى اللّه تعالى.

و المعنى: إذا فرغتم من أفعال الحج.

قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً .

تحريض إلى ذكر اللّه تعالى و الإكثار منه و المبالغة فيه و عدم الغفلة عنه كما لا يغفل أحد عن ذكر آبائه لا كما اعتادوا عليه من ذكر الآباء و الاكتفاء بهم. و (أو) للإضراب. و (أشد) غير منصرف لوزن الفعل و الوصفية، و الشدة تأتي بمعنى الكثرة في الكيفية و الكثرة في الكمية. أي إنّ ذكركم للّه تعالى إمّا أن يكون كذكر آبائكم أو أشد و أكثر و أعلى.

و الذكر: هو حضور المذكور في القلب و اللسان. و تقدم ما يتعلق به في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [البقرة - 152]، و المراد به في المقام مطلق الذكر في تلك المواطن.

و في الخطاب كمال العناية و اللطف و التآلف حيث أمرهم بالذكر

ص: 174

كذكرهم لآبائهم لئلا ينزجروا عن طريقتهم التي كانوا عليها ثم قال: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لتقريب أنّ نعم اللّه عليهم و على ءابائهم أكثر و أجل و أعلى من كل نعمة فلا بد و أن يكون الذّكر بما يناسب جلال اللّه و نعمائه.

قوله تعالى: فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا .

تفريع على ما تقدّم. و هو بيان لبعض أحوال الناس المختلفة، فإنّهم بالنسبة إلى السؤال من اللّه تعالى على أقسام:

فمنهم: من يطلب منه تعالى الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.

و منهم: من يطلب الدنيا من حيث كونها طريقا لتحصيل الآخرة.

و منهم: من يطلبهما معا.

و منهم: من يطلب الآخرة فقط. و الثاني يرجع إلى الثالث في الواقع.

كما أنّ الأخير يرجع إليه أيضا لأنّ طلب الدنيا إذا كان للظفر بالآخرة يكون من طلب الآخرة و بقي قسمان قسم يدعو لدنياه فقط و هو الذي ذكره تعالى بأنّه ليس له في الآخرة من خلاق و قسم يدعو لدنياه و آخرته و هو الذي مدحه تعالى، و هذا التقسيم حقيقي واقعي.

و المراد من الناس: مطلق أفراد الإنسان الأعم من المؤمن و غيره فإنّه من يطلب الدنيا و لا يبغيها إلا لأجل المفاخرة.

كما أنّ المراد من القول الأعم من السؤال بالمقال و الطلب بلسان الحال.

و إنّما أجمل سبحانه و تعالى المتعلّق في قوله تعالى: آتِنا فِي اَلدُّنْيا لاختلاف مراد الناس و لأنّه كالمعلوم و لبيان أنّ الدنيا أكبر همه و هو يريدها بأي وجه كان.

و المعنى: إنّ من الناس من يطلب من اللّه تعالى الدنيا مع الغفلة عن الآخرة.

ص: 175

قوله تعالى: وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ .

مادة (خلق) تأتي بمعنى التقدير المستقيم سواء كان من شيء كقوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل - 4]، و قوله تعالى: خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن - 15]، أو من غير شيء و لا مادة بل إبداعا كقوله تعالى: اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [إبراهيم - 32]، بانضمام قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [البقرة - 117] و الثاني مختص به تعالى، بل الأول أيضا إذ لم يطلق في القرآن إلا بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام) قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [المائدة - 110]، و لكنّه مقيّد في جميع ذلك بكونه من إذنه تعالى.

و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى بالنسبة إلى الجواهر و الأعراض، و النبات و الحيوان و الإنسان و الدنيا و الآخرة.

و هيئة (خلاق) لم تستعمل في القرآن إلا في موارد ثلاثة كلّها مضافة إلى الآخرة أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة - 102]، و الثالث قوله تعالى: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ [آل عمران - 77]، و هو بمعنى النصيب و تقدير الخير، و يأتي بيان ما يتعلق بسائر هيئات هذه المادة في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و المعنى: إنّه ليس لهذه الطائفة الذين يطلبون من اللّه تعالى الدنيا فقط نصيب في الآخرة، لأنّهم أعرضوا عن الآخرة و لم يعملوا لها فقد استولى على قلوبهم حبّ الدنيا و لم يعملوا إلا لأجلها و حليت الدنيا في أعينهم فكانت هي الحسنة عندهم فقط دون غيرها فلم يرجوا غيرها و لم يدعوا اللّه تعالى إلا إيتاءها و لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها.

و في الخطاب كمال المعاتبة و التوبيخ في أنّهم سألوا ما هو المتفاني و الزائل و طلبوا أدون المطالب و أعرضوا عن الحياة الباقية و النعيم الدائم

ص: 176

و العيش الهنيء.

201 - قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً .

أي: و من الذاكرين من يطلب خير الدنيا و الآخرة جميعا. و المراد من الحسنة أنواعها و ليس المراد جنسها، إذ الجنس لا تحقق له بدون الأنواع، و حيث إنّها مختلفة بحسب اختلاف الدواعي و الأغراض في الدنيا و الآخرة، إذ الحسنات المطلوبة لأهل المعرفة الذين أفنوا جميع شؤونهم في اللّه تعالى فحازوا مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به جلّت عظمته غير الحسنات المطلوبة لغيرهم و لذلك أتى باللفظ مجملا ليشمل الجميع.

و إنّما أورد لفظ الحسنة في هذه الطائفة دون الطائفة الأولى، لأنّهم آمنوا بأنّ في الدنيا حسنة و سيئة و في الآخرة كذلك و لم يسألوا من اللّه تعالى إلا الحسنة.

قوله تعالى: وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ .

بالعفو و المغفرة و احفظنا مما يؤدّي إليها من الذنوب و المعاصي.

202 - قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا .

النصيب: الحظ المنصوب، أي المعنّى و قد ذكرت المادة في موارد من القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود - 109]، و قال تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا [القصص - 77].

و مادة (كسب) تستعمل فيما يجلب به نفع أو يدفع به مضرّة و ما يناله الإنسان من عمله و تستعمل في الأعم من الصالحات و السيئات فمن الأولى قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام - 158]، و المقام، و من الثانية قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام - 120]، و قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر - 45]، و يقال: فيما أخذه لنفسه أو لغيره، و لهذا قد يتعدى إلى مفعولين يقال: كسبت فلانا كذا.

ص: 177

و مادة (كسب) تستعمل فيما يجلب به نفع أو يدفع به مضرّة و ما يناله الإنسان من عمله و تستعمل في الأعم من الصالحات و السيئات فمن الأولى قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام - 158]، و المقام، و من الثانية قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام - 120]، و قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر - 45]، و يقال: فيما أخذه لنفسه أو لغيره، و لهذا قد يتعدى إلى مفعولين يقال: كسبت فلانا كذا.

و الاكتساب يختص بما أخذه لنفسه فكلّ اكتساب كسب و لا عكس، و يستفاد من قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّ الكسب يستعمل في الأمور التكوينية إذا كان بعض مباديها اختياريا

قال (صلّى اللّه عليه و آله):

«أطيب ما يأكله الرجل من كسبه و إنّ ولده من كسبه».

و المعنى: إنّ أولئك الذين يطلبون حسنة الدّارين لهم ما يريدون و يعطون ما يدعون. و سمي الدعاء كسبا لأنّه من الأعمال.

و يستفاد من هذه الآية مع مقابلتها للآية السابقة أنّ أعمال الطائفة الأولى باطلة لا وزن لها عند اللّه تعالى، قال عز و جل: يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ [الأحقاف - 20]، و نظير هذه الآيات المباركة قوله تعالى:

مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى - 20].

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ .

السرعة خلاف البطء، و تستعمل في الأجسام و الأفعال و فعل اللّه تعالى، و ترجع في فعله عزّ و جلّ إلى قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل - 40]

و في السنة المقدّسة: «إنّ حساب جميع العباد عنده تعالى على قدر حلب شاة» و هذا من باب ضيق التعبير و إلا فهو أقلّ من ذلك فإنّ جميع الزمان و الدّهر و السّرمد عنده تعالى أقلّ من آن و لمحة البصر و إنّ جميع الممكنات - بجواهرها و أعراضها و روحانيّاتها و مجرّداتها - أقلّ من ذرة ملقاة في فلاة لا حدّ لها فهو أسرع الحاسبين مع هذه الإحاطة و الاقتدار و القهارية.

و سريع الحساب من أسماء اللّه الحسنى، و هو من صفات فعله لرجوعه إلى إرادته التي هي من صفات فعله تعالى أيضا، فيصح تصوير سريع

ص: 178

الحساب في مرتبتي القضاء و القدر أيضا لأنّهما من صفات الفعل أيضا، و إن رجعا إلى العلم و الحكمة فيكونان من صفات الذات لكون العلم و الحكمة من صفات الذات، و لا بأس بأن تكون بعض الصفات برزخا بينهما باعتبار منشأ انتزاعهما.

و الأولى جعله من صفات الذات لكونه من أجلى مظاهر علمه التام الكامل جلّ شأنه، و يدل عليه ما عن بعض الأعاظم من المحدّثين و الفلاسفة بل نسب إلى الرواية أيضا: «من أنّ كلّ صفة لا يصح إطلاق خلافها عليه تكون من صفات الذات و ما صح إطلاق خلافها عليه عزّ و جل في الجملة فهي من صفات الفعل» و عليه لا يصح إطلاق خلاف سريع الحساب عليه فهو صفة الذات.

و قد ذكر ذلك في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ [آل عمران - 19]، و المراد به جميع ما يتعلق بيوم القيامة من الجزاء و مقدماته و هو يرجع إلى قهاريته.

و إطلاقه يشمل سرعة مجازاة العباد على أعمالهم في الدنيا و العقبى فهو تعالى يسرع في الحساب و يجازي الصنفين من عباده و لا اختصاص لحسابه بخصوص جزاء أعمال عباده بطائفة دون أخرى أو بعالم دون آخر، بل شؤون جميع الممكنات حدوثا و بقاء داخلة تحت تربيته العظمى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء بل عمّت قهّاريّته من أول حدوث العالم إلى آخر ما يتصوّر من الخلود و هذا هو مقتضى الملازمة بين المبدأ و المعاد.

و إنّما عبّر عن الجزاء بالحساب لأنّ الجزاء كفاء العمل فهو حساب له.

و لعلّ ذكره في المقام لأجل دفع ما يتوهّم من عدم إمكان الإحاطة بحوائج كلّ واحد من أهل هذا المجمع الذي هو الحشر الأصغر كما في بعض الروايات فأزال سبحانه و تعالى هذا الوهم بقوله جلّ شأنه إنّه سَرِيعُ اَلْحِسابِ يحيط بهم و بأعمالهم و يجازيهم على إيمانهم.

ص: 179

و في الآية تحريض على الدّعاء و ترغيب إليه، و طلب الحوائج في المواطن الشريفة، و ترهيب عن المعاصي و أنّه تعالى يحاسب العباد في أسرع ما يمكن و يجازيهم على ما كسبوا، و في عالمنا هذا كلّما كانت أجهزة الضبط و الحساب أدقّ كانت النتائج أسرع كما نراه و قد ثبت ذلك في العلم الحديث هذا بالنسبة إلى عالم الماديات فكيف بما إذا كان الحساب و الجزاء بنفس الإرادة أي من إذا قال لشيء كُنْ فَيَكُونُ [يس - 82].

203 - قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ .

مادة (عدد) تأتي بمعنى ترتب الآحاد أو آحاد مركبة. و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة في مواضع كثيرة يأتي التعرّض لها في محالّها.

و لفظ «معدودات» ورد في القرآن في موارد ثلاثة تقدم مورد منها في آية 184 البقرة و هذا هو الثاني. و يكنّى به عن القلّة - كما هو الشأن في الجمع بالألف و التاء غالبا - و هي في المقام أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر من ذي الحجة و تسمّى أيام النّحر أيضا و هو المستفاد من الآية الشريفة أيضا فإنّه تعالى بعد أن أمر بذكره جلّ شأنه في المشعر الحرام و أمر بذكره تعالى بعد تمام المناسك و أعمال الحج أمر بذكره جلّت عظمته بعد الفراغ من ذلك فيكون بعد العشرة الأولى من ذي الحجة في منى.

كما أنّ كونها ثلاثة يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ إذ التعجيل في يومين لا بد و أن يكون مع ثالث ينفر فيه و هي كانت معهودة في زمان الجاهلية. و على ذلك وردت روايات كثيرة من الفريقين.

و المراد بذكره تعالى: هو التكبير في أيام التشريق من بعد صلاة الظهر من النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و يأتي صورته و عدده في البحث الروائي، و الأمر محمول على الاستحباب لدلالة السنة عليه كما يأتي.

ص: 180

قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ .

العجلة: طلب الشيء و تحرّيه قبل أوانه، و هي مذمومة في عامة آيات القرآن الكريم، و لذا ورد: «إنّ العجلة من الشيطان و التأنّي من الرّحمن». نعم ورد مدحها في جملة من الموارد مذكورة في السنّة المقدّسة يأتي بيانها في محلّها إن شاء اللّه تعالى، و قوله عز و جل في شأن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة - 16]، يمكن أن يكون من العجلة الممدوحة، و مع ذلك أدّبه اللّه تعالى بأدب نفسه ترغيبا إلى التّأنّي مهما أمكن و يأتي الفرق بين العجلة و المسارعة في قوله تعالى: وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ [آل عمران - 114].

و الإثم و الآثام: اسم للأفعال المبعدة عن الثّواب و الخير، و يطلق على العقوبة أيضا، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و «لا» لنفي الجنس في الموضعين أي: لا إثم على الحاج و قد غفرت ذنوبه بما كان من حجته المبرورة.

و المعنى: فمن تعجّل النّفر من منى في يومين و هما يوم النفر و الذي بعده و من تأخر في النّفر إلى اليوم الثالث عشر لا إثم عليه في الحالتين لأنّه مغفور له سواء استعجل أو تأخر.

و الآية تبيّن أمرين:

الأول نفي الإثم مطلقا عن المتنسّك فإنّه قد غفرت ذنوبه.

و الثاني التخيير في النّفر فإنّ الاستعجال في النفر و التأخير سواء فهو مغفور له على أي حال، و ذلك لدفع توهّم أنّ في التعجيل إثما، فيكون الكلام من باب المزاوجة التي تعد من أنحاء الفصاحة و إلا فإنّ التأخير فضيلة. كما يقال: إن أعلنت الصدقة فحسن و إن أسررتها فحسن أيضا و إن كان الإسرار أحسن و أفضل و لذلك نظائر كثيرة في كلمات الفصحاء.

قوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى .

ص: 181

أي: لمن اتصف بصفة التّقوى التي هي من أجلّ المقامات فيكون بالنسبة إليه كلّ واحد من النفر الأول و الثاني على حدّ سواء، و يشمل ذلك التجنب عن محرّمات الإحرام كالصيد و نحوه فمقام المتقين أوجب التوسعة و التخيير لهم في النفر فيكون قوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى قيدا لتمام الجملة التي قبله، و يدل عليه بعض الأحاديث أيضا.

و قد يقال: إنّ المراد بقوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى الاجتناب عن المحرّمات في الإحرام و يكون على هذا قيدا لخصوص فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني أنّ من اجتنب المحرّمات في إحرامه لا بأس عليه أن ينفر في النفر الأول، و يشهد عليه سياق الآيات الواردة في الحج بعد ملاحظة مجموعها كما تدل عليه جملة من الأحاديث.

و يمكن إرجاع هذا الوجه إلى الأول بعد القول بأنّ إطلاق التّقوى نص في المورد.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .

أمر بالتّقوى بفعل الطّاعات و الاجتناب عن المعاصي، و الحث عليها و تذكير بالحشر و الحساب فإنّ أمر التّقوى لا يتمّ إلا مع ذكر الحشر و الحساب و الجزاء، فيكون ذلك داعيا إلى العمل و باعثا على ملازمة التّقوى قال تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ [ص - 26]، و قال جل شأنه: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر - 19]، و إطلاق هذه الآية المباركة يشمل نسيان المبدأ و المعاد فأنساهم أنفسهم.

و في الآية ترغيب إلى ملازمة التّقوى في جميع الحالات و إرشاد إلى عدم الاتكال على الطّاعات التي صدرت منه و عدم الاغترار بما فعل من الحسنات.

و من تكرار الأمر بالتّقوى و الذّكر يستفاد أنّه لا بد من ملازمتهما و تمكين النّفس منهما و عدم الغفلة عنهما بحال. و أنّ قبول الأعمال إنّما يكون بهما.

ص: 182

بحوث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآيات الكريمة على أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ يدل على ثبوت حج التمتع و أنّ قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ يدل على أنّه وظيفة الآفاقي دون الحاضر المقيم.

الثاني: أنّ الإتيان بضمير الجمع في قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يدل على أنّ المناط رجوع الأصحاب إلى الأهل فلو أقام بمكة يقدر له زمان رجوع أصحابه إلى بلده، فيجوز له حينئذ أن يصوم السبعة.

الثالث: أنّ قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ يدلّ على أنّ هذه العشرة كاملة في النّسك تقوم مقام المبدل عنه في الحكم، و قد تقدّم بعض الكلام في هذا التعبير فراجع.

الرابع: أنّ في قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ كمال اللطف و العناية. و فيه إشارة إلى حكمة هذا التشريع فإنّ الإنسان في السفر يحتاج إلى الأهل ليخفف عنه ما قاساه من أهوال السّفر و أتعابه فيطمئنّ إليهم و يستريح عندهم و الإحلال من إحرام العمرة و التمتع بما

ص: 183

حرّمه اللّه عليه بسبب إحرامه و عدم احتياج الإهلال بالحج إلى الذّهاب إلى الميقات مرة أخرى، فيهلّ بالحج من المسجد الحرام أو غيره من أرض مكة كلّ ذلك مما يخفّف عنه ثقل ذلك عن النائي إذ لم يكن له أهل عند المسجد الحرام و لذا عبّر عنه بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

الخامس: المنساق من قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أنّ الأيام في الثلاثة و في السبعة تكون متوالية.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنّ أشهر الحج كانت معلومة عند العرب في الجاهلية و معروفة قبل الإسلام و قد قرّرت الشريعة المقدّسة ذلك و لم تغيّرها.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ أنّ للحج تحريما و تحليلا فمن شرع فيه يجب عليه إتمامه و التحلّل منه.

الثامن: إنّما ذكر سبحانه: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ لأنه مع العلم يكون الإنسان أشد احترازا عن الوقوع فيما يوجب العقاب و العذاب، و لأنّ العالم لا يخالف أمر اللّه تعالى، لأنّ علمه يمنعه و يرجى مع العلم استصلاح الحال فيكون الإعلام بالعلم بشدة العقاب لطفا في التقوى للعالم به.

التاسع: من بلاغة القرآن أنّه تعالى صرّح في مقام الإضمار، فذكر الحج ثلاث مرات و المراد من الأول: زمان الحج، و الثاني: الحج نفسه، و الثالث: ما يعم زمانه و مكانه. و لأنّ اللّه تعالى أراد من ذكره بالخصوص لبيان أنّ عدمها ليس تكليفا محضا يختص بمن فرض فيهنّ الحج بل هو مطلوب للشارع بنفسه و أنّ الحج بطبعه ينافر ذلك فلو قال تعالى: وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ لأوهم أنّه تكليف لمن فرض فيه الحج كذلك، فيكون تكليفا خاصّا به لا من حيث طبيعة الحج.

العاشر: أنّ في قوله تعالى: وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ الاهتمام بنفي الجدال أشد من نفي الرّفث و الفسوق، لأنّ الجدال أهمّ و أعمّ، و لذلك اهتم الجليل به و ذكر الحج عقيبه.

ص: 184

الحادي عشر: أنّ في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ إشارة إلى تحقيق المساواة، و ترك التفاخر، و لزوم الجماعة، و للإعلام بأنّ الإفاضة شرع قديم و إرشاد إلى اختيار الإفاضة المشروعة المبنية على السكينة و الوقار دون غيرها.

الثاني عشر: يستفاد من تكرار الأمر بالذّكر خمس مرّات شدة عناية اللّه بخلقه، و ذلك بالحضّ و الترغيب بفعل الأصلح، و إرشادهم إلى القيام بما هو كثير الفائدة و الجزاء لهم فأمرهم بالذّكر في هذه المواطن الكريمة و الأزمنة الشريفة.

الثالث عشر: إنّما شبّه ذكره تبارك و تعالى بذكر الآباء، لأنّ أكثر الناس لا يغفلون عن ذكر الآباء و التفاخر بهم، بل لا يخلو اجتماع بين أفراد الإنسان من التفاخر بما يرونه من الكمال، و لم يكن جهة كمال في العصور الجاهلية إلا ذكر الآباء و الأنساب و التفاخر بها فأرشدهم سبحانه إلى الأحسن و الأصلح، و هو ذكره تعالى لما فيه من النفع العظيم و الأجر الجزيل. و الترديد إنّما هو بلحاظ اختلاف التّقوى و تفاوتها في مراتب الذّكر، فمنهم من يقنع بالذّكر كذكر الآباء، و منهم من يكون أشد.

الرابع عشر: أنّ في قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لطفا ظاهرا و إعلاما بأنّ اجتماع الحجيج في المواطن الشريفة و إفاضتهم منها إنّما هي حشر مصغر لا بد أن يتذكر منه الحشر الأكبر، و هو حشر الناس إلى اللّه تعالى.

ص: 185

بحث روائي
اشارة

في الكافي و التهذيب و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ قال: «هما مفروضان».

أقول: تمسك (عليه السلام) بظاهر الأمر الوارد في الآية المباركة بناء على أنّ وجوب الإتمام في هذا العمل يستلزم أصل الوجوب. و الوجوب بالنسبة إلى حجة الإسلام من ضروريات الدّين، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران - 97]، و أما بالنسبة إلى العمرة فإنّ العمرة التمتعية واجبة و يكفي في صدق الفرض ذات الطبيعة و لو في الجملة.

و في العلل عن الصادق (عليه السلام): «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع، لأنّ اللّه يقول: و أتمّوا الحج و العمرة للّه. قيل:

فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أ يجزي ذلك عنه؟ قال (عليه السلام): نعم».

أقول: تقدم بيانه و لا وجه للإعادة مرّة أخرى.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «العمرة واجبة بمنزلة الحج لأنّ اللّه يقول: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ هي واجبة مثل الحج، و من تمتّع أجزأته، و العمرة في أشهر الحج متعة».

أقول: صدر الرواية مرّ بيانه. و أما ذيلها فلأنّ الإحلال بعد الإحرام متعة

ص: 186

يتمتع بها المحلّ بما حرّم عليه بالإحرام.

في تفسير العياشي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ قالا: «فإنّ تمام الحج أن لا يرفث، و لا يفسق، و لا يجادل».

أقول: هذا بيان لأهم تروك الإحرام، و أنّ ذلك من باب ذكر بعض أفراد التروك لا الحصر، و قريب منه ما في الكافي و الخصال و العيون.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ قال (عليه السلام): «يعني بتمامهما أداؤهما و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما».

في الكافي أيضا عنه (عليه السلام) قال: «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه، و ذكر اللّه كثيرا و قلّة الكلام إلا بخير، فإنّ من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ .

أقول: هذا يبيّن ما قلناه في معنى الإتمام.

و في المجمع عن أمير المؤمنين و السجاد (عليهما السلام): «يعني أقيموهما إلى آخر ما فيهما».

أقول: هذه الرواية تبيّن ما سبق من الروايات، و تقدّم ما يدل على ذلك.

في الكافي و التهذيب عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) «المحصور غير المصدود، و قال (عليه السلام): المحصور هو المريض، و المصدود هو الذي يرده المشركون، كما ردوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أنّه ليس من مرض، و المصدود يحلّ له النساء و المحصور لا يحل له النساء».

أقول: نسب ذلك إلى المشهور بين الفقهاء أيضا.

ص: 187

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ قال: «يجزيه شاة و البدنة، و البقرة أفضل».

أقول: يكون المراد بالاستيسار الاستيسار بالنسبة إلى النّوع.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ قال (عليه السلام): «يعني شاة وضع على أدنى القوم قوة ليسع القويّ و الضعيف».

أقول: هذا بيان لبعض حكم التشريع.

في التهذيب عنه (عليه السلام): «في رجل أحصر في الحج قال (عليه السلام): فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه و محلّه أن يبلغ الهدي محلّه و محلّه منى يوم النحر إذا كان في الحج، و إن كان في عمرة نحر بمكة، و إنّما عليه أن يعدهم لذلك يوما فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى، و إن اختلفوا في الميعاد لم يضرّه إن شاء اللّه تعالى».

أقول: المسألة مذكورة في الفقه و من شاء فليراجع كتاب الحج من (مهذب الأحكام).

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أحصر الرجل بعث بهديه فإن أذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنّه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه، أو يصوم، أو يتصدّق، و الصّوم ثلاثة أيام، و الصّدقة على ستة مساكين نصف صاع لكلّ مسكين».

أقول: يصير مدّين أي: كيلو و نصف تقريبا من الطعام أو من كلّ ما يؤكل.

في التهذيب و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «مرّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) على كعب بن عجرة و القمل يتناثر من رأسه، و هو محرم فقال (صلّى اللّه عليه و آله) له: أ يؤذيك هوامك؟ فقال: نعم، فأنزلت الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فأمره رسول اللّه

ص: 188

(صلّى اللّه عليه و آله) أن يحلق رأسه، و جعل الصيام ثلاثة أيام و الصدقة على ستة مساكين، مدّين لكلّ مسكين. و النسك: شاة. قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) و كلّ شيء في القرآن أَوْ فصاحبه بالخيار يختار ما شاء، و كلّ شيء في القرآن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ كذا، فعليه كذا. فالأول بالخيار.

أقول: قوله (عليه السلام) مطابق للمحاورات العرفية، كما ذكرنا في علم الأصول.

و في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: «كعب بن عجرة فيّ أنزلت هذه الآية قال أتيته (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: أدنه فدنوت مرّتين أو ثلاثا. فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أ يؤذيك هوامك؟ - قال ابن عود و أظنه - قال نعم، فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسّر».

أقول: المراد بالتيسر أي كلّ ما أمكن.

أحاديث حج التمتع:

في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حين حج حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة فصلّى بها، ثم قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها و أهلّ بالحج و ساق مائة بدنة و أحرم الناس كلّهم بالحج لا ينوون عمرة و لا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مكة طاف بالبيت و طاف الناس معه ثم صلّى ركعتين عند المقام و استلم الحجر، ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله): أبدأ بما بدأ اللّه عز و جلّ به.

فأتى الصفا فبدأ بها، ثم طاف بين الصفا و المروة سبعا فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا و أمرهم أن يحلّوا و يجعلوها عمرة و هو شيء أمر اللّه عزّ و جلّ به فأحلّ الناس و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، و لم يكن يستطيع أن يحلّ من أجل الهدي الذي كان معه إنّ اللّه عز و جل يقول: لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ .

ص: 189

فقال سراقة بن جشعم الكناني: يا رسول اللّه علّمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم. أ رأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام؟ فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا بل للأبد، و إنّ رجلا قام فقال: يا رسول اللّه نخرج حجاجا و رؤوسنا تقطر!! فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّك لن تؤمن بهذا أبدا قال (صلّى اللّه عليه و آله): و أقبل عليّ (عليه السلام) من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلّت، و وجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مستفتيا، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يا علي بأيّ شيء أهللت؟ فقال (عليه السلام) أهللت بما أهلّ به النبيّ. فقال (صلّى اللّه عليه و آله): لا تحلّ أنت فأشركه في الهدي و جعل له سبعا و ثلاثين، و نحر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ثلاثا و ستين فنحرها بيده. ثم أخذ من كلّ بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد، ثم أمر به فطبخ فأكل منه و حسا من المرق، و قال (صلّى اللّه عليه و آله): قد أكلنا منها الآن جميعا، و المتعة خير من القارن السائق، و خير من الحاج المفرد. قال: و سألته (عليه السلام) أ ليلا أحرم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أم نهارا؟ فقال (عليه السلام): نهارا فقلت: أي ساعة؟ قال (عليه السلام): صلاة الظهر».

أقول: روي قريب من هذا المعنى في عدة روايات.

و في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لأنّ اللّه يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فليس لأحد إلا أن يتمتع، لأنّ اللّه أنزل ذلك في كتابه، و جرت به السنة من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: تقدّم ما يدل في الروايات السابقة.

و في الدر المنثور عن البخاري و مسلم عن ابن عمر قال: «تمتع رسول اللّه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج و أهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، و بدأ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج فتمتع الناس مع النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، و منهم من لم يهد، فلما قدم النبيّ (صلّى اللّه عليه

ص: 190

و آله) مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فليطف بالبيت، و بالصّفا و المروة، و ليقصّر و ليحلّ، ثم ليهلّ بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله».

أقول: قد كثرت الرّوايات في ذلك عن العامة بعدة طرق.

و في صحيح البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى قال: «قدمت على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو بالبطحاء - فقال (صلّى اللّه عليه و آله) أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال (صلّى اللّه عليه و آله) هل سقت من هدي؟ قلت: لا. قال (صلّى اللّه عليه و آله):

طف بالبيت و بالصفا و المروة، ثم حلّ، فطفت بالبيت و بالصفا و المروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي و غسلت رأسي، فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر و إمارة عمر، فإنّي لقائم بالموسم، إذ جاءني رجل، فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. فقلت: أيّها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليبتد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فأتموا فلما قدم، قلت: ماذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب اللّه فإنّ اللّه قال: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ و أن نأخذ بسنّة نبيّنا (صلّى اللّه عليه و آله) لم يحل حتى نحر الهدي».

و في مسند أحمد عن أبي موسى أنّ عمر قال: «هي سنة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) - يعني المتعة - و لكن أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثم يروحوا بهنّ حجاجا.

و في صحيح الترمذي و زاد المعاد: «سئل عبد اللّه بن عمر عن متعة الحج قال: هي حلال، فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال: أ رأيت إن كان أبي نهى و صنعها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أ أمر أبي تتبع، أم أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)؟!! فقال الرجل: بل أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: لقد صنعها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر قال: «قلت: إنّ

ص: 191

ابن الزبير ينهى عن المتعة و ابن عباس يأمر بها قال: على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و مع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هذا الرسول، و القرآن، هذا القرآن و إنّهما كانتا متعتين على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، و لا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل الا غيبته بالحجارة، و الأخرى متعة الحج».

أقول: الروايات في مضامين هذه الأخبار كثيرة مروية في صحاحهم تدلّ جميعها على تشريع المتعتين عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و عمل الصحابة بهما، فإن كان نهي الخليفة في مقابل النبي الأعظم و ردا له (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ أحدا من المسلمين لا يرتضي بذلك، و لذا اعترض بعض الصحابة في عصره عليه، و إن كان لأجل مصلحة الوقت التي رآها الخليفة باجتهاده فهو إنّما ينفع للوقت الخاص و للأشخاص المخصوصين كما أثبتوا ذلك في أصولهم و لا ينفع ذلك للحكم الأبدي.

مع أنّ الاستدلال عليه بأنّه يوجب التمتع بالنساء و الرّواح تحت الأراك و التعريس بهنّ فهو مجمل لا يمكن أن يكون سببا للتحريم بعد حلية النبي الأعظم له، و اجتهاد في مقابل النص الذي اتفق المسلمون على بطلانه.

مع أنّه يجري في من حج التمتع ابتداء الذي اتفق جميع الفقهاء على صحته، فيكون هذا القول مخالفا للنص و إجماع الفقهاء.

و في الدر المنثور أخرج مسلم عن عبد اللّه بن شفيق قال: «كان عثمان ينهى عن المتعة و كان عليّ يأمر بها، فقال: عثمان لعليّ كلمة. فقال عليّ (عليه السلام): لقد علمت أنّا تمتعنا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: أجل و لكنّا كنّا خائفين».

أقول: هذا أحد الإشكالات التي أوردوها على حج التمتع.

و فيه مضافا إلى قصور السند قصور الدلالة فإنّه كيف يمكن أن يكونوا خائفين مع كونهم مع النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و في منعة و قوة

ص: 192

عظيمة إذ أنّ تشريع حج التمتع إنّما كان في حجة الوداع و المسلمون في منعة و شوكة.

و إن أراد بذلك قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فهو مردود لأنّ الآية تبيّن كليّ الحكم لا أنّ أصحاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) في خوف في حجة الوداع، أو أنّه شرط في هذا الحكم.

و في الدر المنثور أخرج مسلم عن أبي ذر قال: «لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني: متعة النساء و متعة الحج».

أقول: هذا هو الإشكال الثاني.

و فيه أيضا أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي ذر: «كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) خاصة».

أقول: هذا مخالف للروايات الصحيحة الدالة على أنّهما مشروعان إلى الأبد، و لعلّ مراده «لنا خاصة» أي لمن يعلم خصوصيات الموردين فيعمّ كلّ مسلم عالم بالحكم و شرائطه.

و يأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بحج التمتع أيضا.

في الكافي و التهذيب في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ عن الصادق (عليه السلام): «شاة».

أقول: إنّه محمول على أقلّ ما يجزي بقرينة التفصيل التي تقدّمت في الروايات السابقة.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «في المتمتع لا يجد الهدي؟ قال: يصوم قبل يوم التروية بيوم، و يوم التروية، و يوم عرفة. قلت:

فإنّه قدم يوم التروية قال (عليه السلام): يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق قلت:

لم يقم عليه جماله؟ قال (عليه السلام) يصوم الحصبة و بعده يومين قلت و ما الحصبة؟ قال (عليه السلام): يوم نفره، قلت: يصوم و هو مسافر؟ قال (عليه السلام): نعم، أ ليس هو يوم عرفة مسافر إنا أهل بيت نقول ذلك لقول اللّه عز

ص: 193

و جل فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ نقول في ذي الحجة».

أقول: هذا تخصيص لما دلّ على عدم جواز الصوم للمسافر.

و في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: «كنت قائما أصلّي و أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قاعد قدامي، و أنا لا أعلم به فجاءه عباد البصري فسلّم عليه و جلس فقال له: يا أبا الحسن ما تقول في رجل تمتع و لم يكن له هدي؟ قال (عليه السلام): يصوم الأيام التي قال اللّه.

قال: فجعلت اصغي إليهما، فقال له عباد: و أيّ أيام هي؟ قال (عليه السلام): قبل التروية، و يوم التروية، و يوم عرفة، قال: فإن فاته ذلك؟ قال (عليه السلام): يصوم صبيحة الحصبة و يومين بعده. قال: أ فلا تقول كما قال عبد اللّه بن الحسن؟ قال (عليه السلام): و أيّ شيء قال؟ قال: يصوم أيام التشريق. قال (عليه السلام): إنّ جعفرا (عليه السلام) كان يقول: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أمر بلالا ينادي أنّ هذه أيام أكل و شرب فلا يصومنّ أحد. فقال: يا أبا الحسن إنّ اللّه قال: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ . قال (عليه السلام): كان جعفر (عليه السلام) يقول: ذو الحجة كلّه من أشهر الحج».

أقول: في سياقه وردت روايات كثيرة من الخاصة و العامة.

في الكافي عنهم (عليهم السلام) في قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ : «إن بدا له الإقامة بمكة نظر مقدم أهل بلاده فإذا ظنّ أنّهم قد دخلوا فليصم السبعة».

أقول: استفاد (عليه السلام) ذلك من قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ و قد مرّ في التفسير فراجع.

و في تفسير العياشي عن موسى بن جعفر (عليه السلام): «سألته عن صوم ثلاثة أيام في الحج و السبعة أ يصومها متوالية أم يفرّق بينها؟ قال (عليه السلام): يصوم الثلاثة و السبعة لا يفرّق بينها، و لا يجمع الثلاثة و السبعة جميعا».

ص: 194

أقول: يستفاد ذلك من ظاهر الآية المباركة.

و في التهذيب في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ قال الصادق (عليه السلام): «كمالها كمال الاضحية سواء أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية».

أقول: تقدم أنّه يستفاد من الآية ذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ قال: «من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها، و ثمانية عشر ميلا من خلفها، و ثمانية عشر ميلا عن يمينها، و ثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له مثل (مر) و أشباهها».

أقول: الروايات في التحديد مختلفة تجمعها هذه الرواية و أمثالها.

و مر: موضع بقرب مكة من جهة الشام على قدر مرحلة.

و في التهذيب عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى قال:

«يعني أهل مكة ليس عليهم متعة كلّ من كان أهله دون ثمانية و أربعين مثلا ذات عرق، و عسفان يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و كلّ من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة».

و في التهذيب أيضا عن الصادق (عليه السلام): «ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام و ليس لهم متعة».

أقول: لا بد و أن تحمل هذه الرواية على ما مرّ بعد رد بعضها إلى بعض.

و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال: «شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة ليس لأحد أن يحج فيما سواهن».

أقول: قد ورد في ذلك عدة روايات و في بعضها

«و من أحرم بالحج في

ص: 195

غير أشهر الحج فلا حج له».

و في الكافي و تفسير العياشي في قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ قال الصادق (عليه السلام): «و الفرض التلبية و الإشعار و التقليد فأيّ ذلك فعل فقد فرض فيهنّ الحج».

و في الكافي في قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ قال الصادق (عليه السلام): «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه و ذكر اللّه كثيرا، و قلّة الكلام إلا بخير، فإنّ من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال اللّه عز و جل: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ و الرّفث: الجماع، و الفسوق: الكذب و السباب، و الجدال: قول الرجل: لا و اللّه و بلى و اللّه - الحديث -».

أقول: يأتي ما يتعلق بهذه الرواية في البحث الفقهي إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ قال الصادق (عليه السلام): «يعني الرّزق فإذا أحلّ الرجل من إحرامه، و قضى نسكه فليشتر و ليبع في الموسم».

أقول: تدلّ عليه العمومات و الإطلاقات و أنّ الآية المباركة نزلت لرفع توهم الحظر كما يدل عليه الحديث الآتي.

و روى في المجمع عن جابر عن الباقر (عليه السلام): «ليس عليكم جناح أن تطلبوا المغفرة من ربكم».

أقول: لا منافاة بين هذه الرواية و ما تقدّم من الروايات لأنّ الرزق أعم من المعنوي و الظاهري.

و في الدر المنثور: «كان ذو المجاز و عكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنّهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حج النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ثم غدا و الناس معه - إلى أن قال - و كانت قريش تفيض من المزدلفة

ص: 196

- و هي جمع - و يمنعون الناس أن يفيضوا فأنزل اللّه عزّ و جل عليه ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ يعني إبراهيم، و إسماعيل، و إسحاق في إفاضتهم منها و من كان بعدهم».

أقول: يستفاد من الحديث أنّ المراد بالناس خصوص من كان ملتفتا إلى أحكام الإفاضة، كما يدلّ عليه الحديث الآتي.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ قال: «يعني إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و من بعدهم من أفاض من عرفات».

و في رواية عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ قريشا كانت تفيض من جمع، و مضر، و ربيعة من عرفات».

أقول: إنّ الآية المباركة نزلت في رفع هذه العادة السيئة.

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «كانت قريش و حلفاؤهم من الحمس لا يقفون مع الناس بعرفات، و لا يفيضون منها، و يقولون: نحن أهل حرم اللّه تعالى فلا نخرج من الحرم، فيقفون بالمشعر و يفيضون منه فأمرهم اللّه تعالى أن يقفوا بعرفات و يفيضوا منه».

أقول: قد روي قريب منه في الدر المنثور، و تقدم الكلام عن الحمس في البحث الروائي من آية 189.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً قال: «رضوان اللّه و الجنة في الآخرة، و المعاش، و حسن الخلق في الدنيا».

و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) أيضا: «رضوان اللّه و التوسعة في المعيشة، و حسن الصحبة، و في الآخرة الجنة».

و عن عليّ (عليه السلام): «في الدنيا المرأة الصالحة، و في الآخرة الحوراء، و عذاب النار المرأة السوء».

ص: 197

أقول: لا منافاة بينها لأنّ ذلك من بيان بعض المصاديق.

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ قال: «إنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة».

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله اللّه عز و جل:

وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «قال عليّ (عليه السلام): التكبير في أيام التشريق في دبر الصلوات».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و في الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات».

أقول: يأتي ما يتعلّق بذلك في البحث الفقهي.

في الفقيه في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ليس هو على أنّ ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنّه يرجع مغفورا له لا ذنب له».

أقول: قريب منه في تفسير العياشي و المراد منه أنّه ليس على التخيير مطلقا.

و في الفقيه أيضا في قوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى قال الصادق (عليه السلام): «يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى».

و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام): «لمن اتقى منهم الصيد، و اتقى الرّفث، و الفسوق، و الجدال، و ما حرّم اللّه عليه في إحرامه».

و عن الصادق (عليه السلام): «لمن اتقى الكبائر».

و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لمن اتقى اللّه عزّ و جل».

أقول: كلّ ذلك صحيح و لكنّ الظاهر المنساق من الآية اتقاء ما حرّم في الإحرام.

ص: 198

بحث فقهي

تضمنت الآيات الشريفة كثيرا من أحكام الحج و شرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا و قد ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية. و نحن نذكر المهمّ المستفاد من هذه الآيات في المقام و هي:

الأول: دلّت الآية الشريفة وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ . على أنّ الحج و العمرة من العبادات المتوقفة على قصد القربة، كما تدلّ على وجوب إتيانهما تامّين جامعين للأجزاء و الشرائط، و على وجوب إتمامهما بعد الشروع فلا يجوز الإحلال إلا بعد تمام أفعال الحج و العمرة، فمن أفسد حجه أو عمرته لجهة من الجهات لا يبطلان و يجب عليه المضي فيه و الإتمام ثم الإحلال، و حينئذ فإن كان فيه القضاء وجب و إلا فلا. و تفصيل ذلك يطلب من الفقه.

كما تدل على وجوب العمرة و أنّها بمنزلة الحج، و تدلّ عليه روايات كثيرة مروية من الفريقين ذكرنا بعضها في البحث الروائي.

و الآية المباركة لا تدل على أنّ الحج و العمرة واجبان فلا بد من إثبات الوجوب لهما من دليل آخر:

أما الحج: فقد دلّت الآية الشريفة وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران - 97] و النصوص المتواترة بين الفريقين بل الضرورة الدّينيّة على وجوب حجة الإسلام مع استجماع الشرائط.

ص: 199

و أما العمرة: فقد دلّت على وجوبها السنة كما ذكرناها في الفقه، و تكفي عمرة التمتع عن العمرة الواجبة و يكون كلّ منهما مندوبا بالذات و يجبان بالعارض من نذر و نحوه.

الثاني: أنّ قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يدل على أنّ مطلق المنع من إتمام الحج و الوصول إلى بيت اللّه الحرام لأداء المناسك سواء كان السّبب عدوّا أم مرضا أم غير ذلك يوجب تبدل الحكم بالنسبة إلى المحصور مطلقا و أنّ قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ لا تكون قرينة على أنّ المراد هو الحصر من العدوّ بل هو عام يشمل الأمن من رفع المانع، و لكن تكرّر في الروايات أنّ المحصور غير المصدود فالأول هو المريض و الثاني هو الذي يرده المشركون كما صدوا النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) عن الحج عام الحديبية.

و الظاهر: أنّ الحصر متعلّق بالحج و العمرة كليهما فلا اختصاص له بالأول فقط لأنّه ذكر عقيبهما فيرجع إليهما معا.

الثالث: يدل قوله تعالى: حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ أنّ للهدي محلاّ معيّنا لا يجوز ذبحه في غيره، و لكنّه تعالى أجمل ذلك و قد حدّدته السنة المقدّسة بمكة المكرمة أو منى، و نظيره قوله تعالى: هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح - 25].

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّه لا يجوز الحلق و التحلّل من الإحرام حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ سواء ذبح أم لا و يدلّ عليه

صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن رجل أحصر فبعث الهدي قال: يواعد أصحابه ميعادا إن كان في الحج فمحلّ الهدي يوم النّحر فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه و لا يجب عليه الحلق حتى تنقضي مناسكه و إن كان في عمرة فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكة و الساعة التي يعدهم فيها، فإذا كان تلك الساعة قصّر و أحلّ» و عليه فلو ظهر خلاف المواعدة و أنّ أصحابه لم يكونوا قد ذبحوا عنه أصلا أو ذبحوه بعد تحلّله فإنّه لا شيء عليه، و يدلّ على ذلك

صحيحة معاوية بن عمار أيضا عن الصادق (عليه السلام): «فإن

ص: 200

ردوا الدّراهم عليه و لم يجدوا هديا ينحرونه و قد أحلّ لم يكن عليه شيء و لكن يبعث من قابل و يمسك أيضا» أي يمسك عن النساء إذا بعث هذا في المحصور.

و أما المصدود: فإنّه يذبح في مكانه حلا كان أو حرما و قد نطقت بذلك جملة من الرّوايات، و قد نحر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هديه بعد أن صدّه المشركون في الحديبية و أحلّ من الإحرام و التفصيل يطلب من كتاب الحج من الفقه.

الرابع: أنّ قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ يدل على تشريع حج التمتع الذي هو أحد الأقسام الثلاثة في الحج و القسمان الآخران هما حج الإفراد، و حج القران. و الفرق بين الأول و الأخيرين هو:

1 - أنّ الأول وظيفة من لم يكن مقيما و حاضرا عند المسجد الحرام و يدل عليه قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ [البقرة - 196]، و هو الآفاقي الذي يبعد عن المسجد الحرام بما يعادل 88 كيلومترا كما حدّدته السنة الشريفة.

2 - أنّ الأول مركب من عملين: هما العمرة و الحج، و لا يقع الثاني بدون الأول، و أما الأخيران فلا يكونان كذلك بل هما عمل واحد و هو الحج إلا أنّ حج القران يساق فيه الهدي مع عقد الإحرام بخلاف حج الإفراد.

3 - أنّ وجوب الهدي يختص بالتمتع بخلاف القسمين الأخيرين و هناك فروق أخرى مذكورة في كتب الفقه.

و لا خلاف و لا إشكال في أصل تشريع حج التمتع بإجماع الأمة و أئمة الحق (عليهم السلام) و النصوص المتواترة بين الفريقين، و هو أفضل أنواع الحج مطلقا لنصوص معتبرة كثيرة منها:

ما ورد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لو حججت ألفا و ألفا لتمتّعت» و هو يتحقق على نحوين:

الأول: أن يحرم أولا بعمرة التمتع ثم بعد قضاء مناسكها و الانتهاء منها يحلّ و يحرم بالحج، و هذا مما لا نزاع في مشروعيته من أحد من المسلمين

ص: 201

و لا تختص مشروعيته بأصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و يدلّ عليه قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ و النصوص المتواترة بين الفريقين منها

ما عن أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

«دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»،

و روي عن جابر أنّ سراقة بن مالك قال: «يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به - يعني الإحلال بعد العمرة إلى الحج - لعامنا هذا أم إلى الأبد فقال (صلّى اللّه عليه و آله): بل إلى الأبد إلى يوم القيامة» و رواهما الجمهور في مجامعهم.

و أخرج البخاري و أحمد و النّسائي و غيرهم عن عليّ (عليه السلام) قال:

«إنّ المتعة سنّة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فلا يدعها لقول أحد من الناس»، و ادعى الإجماع على ذلك.

و لهذا القسم شروط مذكورة في كتب الفقه.

الثاني: أن يحرم بالحج حتّى إذا دخل مكة محرما بحج الإفراد يعدل عن حجه إلى عمرة التمتع و يتم حج التمتع، و قد وقع النزاع بين الفقهاء فيه.

أما عند الخاصة: فالمشهور جوازه حتى في فرض العين، و منهم من منعه في فرض العين و جوّزه في الندب و الفرض غير المتعين.

و أما عند العامة: فمنعه جمهورهم و هو الذي توعّد عليه الخليفة الثاني فقال: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أما أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحج». و قد وردت في صحته و مشروعيته الأخبار الكثيرة عن الفريقين:

ففي الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام): «لما فرغ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من سعيه بين الصفا و المروة أتاه جبرئيل عند فراغه من السعي فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلا من ساق الهدي. فأقبل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) على الناس بوجهه فقال: «أيّها الناس هذا جبرئيل، - و أشار بيده إلى خلفه - يأمرني عن اللّه عزّ و جل أن آمر الناس بأن يحلّوا إلا من ساق الهدي» فأمرهم بما

ص: 202

أمرهم اللّه تعالى.

فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه نخرج من منى و رؤوسنا تقطر من النساء؟! و قال آخرون: يأمرنا بشيء و يصنع هو غيره.

فقال: «أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنع الناس، و لكن سقت الهدي فلا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه». فقصّر الناس و أحلّوا و جعلوها عمرة.

و قام إليه سراقة بن مالك المدلجي فقال: يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «بل للأبد إلى يوم القيامة - و شبك بين أصابعه -» و أنزل اللّه بذلك قرآنا: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ .

و قريب منه: ما رواه مسلم، و أبو داود، و النسائي، و ابن ماجة في جوامعهم و أحمد في مسنده و غيرهم عن الصادق و عن الباقر عن جابر و قد ذكرت في مجامعهم روايات كثيرة بمضامين مختلفة.

قال القرطبي: «قد تواردت الآثار عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فيه - أي في مشروعية هذا القسم - أنّه أمر أصحابه في حجة من لم يكن معه هدي و لم يسقه و قد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة، و قد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يدفعوا شيئا منها إلا أنّهم اختلفوا في القول بها و العمل لعلل» ثم ذكر بعض تلك العلل و هي موهونة لمن تدبر فيها و لذلك لم يعمل بها كثير من علمائهم.

و أما قول الخليفة فهو مردود من جهات و قد ذكرت في الكتب الكلامية، و سيأتي في الموضع المناسب في هذا التفسير إثبات أنّ أحدا لا يقدر أن يدفع حكما إلهيّا نطق به القرآن الكريم أو جاء به الرّسول الأمين (صلّى اللّه عليه و آله).

الخامس: إطلاق قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ يقتضي إجزاء

ص: 203

ما صدق عليه الهدي من النّعم الثلاثة إلا أنّ الفقهاء قيّدوه و اشترطوا في الهدي شروطا كثيرة لأدلة خاصة و هي مذكورة في كتب الفقه فراجع.

كما أنّ ظاهر الآية الشريفة أنّه لا بد و أن يكون الهدي كاملا و عن واحد فلا يجزي بعض الهدي.

السادس: ظاهر قوله تعالى: ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ إجزاء الصيام في تمام ذي الحجة و أفضله السابع و الثامن و التاسع كما في روايات كثيرة منها ما

في صحيح رفاعة عن الصادق (عليه السلام) «عن المتمتع لا يجد الهدي قال: يصوم قبل التروية بيوم و يوم التروية و يوم عرفة، قلت: فإن قدّم يوم التروية قال (عليه السلام): يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق - الحديث -».

و لا يجوز له صوم أيام التشريق إذا فاته ذلك و تدل عليه روايات كثيرة و إجماع الإمامية منها ما في

صحيح ابن سنان: «أنّ الصادق (عليه السلام) استشهد بأنّ بديل بن ورقاء أمره رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بأن ينادي بمنى في الناس: أن لا يصوموا» و غيره من الأخبار المروية عن الفريقين.

السابع: الانتقال إلى الصّوم هو في زمان تعذر ثمن الهدي في محلّ وجوبه على تفصيل مذكور في كتاب الحج من (مهذب الأحكام).

الثامن: الظاهر من قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أن يكون الرجوع إلى الأهل كما تدل عليه الرّوايات و لكنّ الرّجوع على قسمين حقيقي و هو أن يرجع بنفسه إلى الأهل أو حكمي فيما إذا رجع أصحابه و أقام بمكة فإنّ عليه الانتظار مدّة وصول أصحابه إلى الأهل و ذكرنا أنّ ذلك ربما يستفاد من قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ .

التاسع: ذكرنا أنّ ظاهر قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أنّ الحضور مقابل النائي و هو من لم يكن من أهل مكة و قراها، و هو مطلق و لكنّ السنّة حدّدت الحضور و قيدته بما إذا كان بينه و بين مكة ما يساوي ثمانية و ثمانون كيلومترا، لأدلة خاصة ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام) قسم الحج منه.

ص: 204

العاشر: ظاهر قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنّها أشهر معلومة عند العرب و قد أقرّها الإسلام. و يستفاد منه أنّ ذا الحجة من أشهر الحج يصح إيقاع بعض الأعمال التي يعتبر أن تكون في الحج فيه كما في ثلاثة أيام الصّوم و يدل عليه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج.

كما يستفاد منه أنّه لا يجوز الإحرام بالحج في غير الأشهر الثلاثة كما لا يصح إحرام عمرة التمتع في غيرها لأنّها داخلة في الحج كما عرفت.

الحادي عشر: ظاهر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ أنّه يجوز إيقاع إحرام الحج في أيّ وقت من هذه الأشهر الثلاثة إذ أنّ فرض الحج يتحقق بالإحرام فيهنّ. كما أنّ ظاهر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ أنّه يجب إتمامه لأنّه جعله فرضا على نفسه.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ وجوب الوقوف فيها و أنّ له وقتا محدودا يجتمع الناس فيها و يفيضون فإنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد الكون كما يستفاد من قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ وجوب الوقوف و لو بقدر الذكر عند المشعر الحرام.

و المراد من الذكر: مطلق التسبيح و التهليل و الدعاء،

و قد ورد في رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «يكفيه اليسير من الدعاء».

الثالث عشر: المستفاد من سياق قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ أنّه الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى لأنّه تعالى ذكر الوقوف بعرفات و الإفاضة منها فيكون كلاما مستأنفا لا أن يكون تأكيدا للإفاضة من عرفات و التأسيس خير من التأكيد لكثرة الفوائد فيه.

الرابع عشر: إنّ قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ مطلق من حيث الكيفية و الكمية إلا أنّ السنة حدّدته بخمسة عشرة تكبيرة من بعد كلّ فريضة من صلاة الظهر يوم النّحر إلى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر.

و صورته المتفق عليها بين المسلمين: «اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلا اللّه، و اللّه أكبر اللّه أكبر و للّه الحمد». و قد زاد أصحابنا تبعا

للمأثور عن الأئمة الهداة

ص: 205

(عليهم السلام): «اللّه أكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أولانا و رزقنا من بهيمة الأنعام» و يدل على كلتي صورتيه عدة روايات من الخاصة و العامة.

الخامس عشر: المستفاد من سياق الآية الشريفة: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى أنّه راجع للعموم المستفاد من حكم ما قبله أي: الاتقاء عما يحرم على المحرم و قد فسرت في الروايات بخصوص الصيد و النساء و هذا هو المشهور عند الإمامية.

ثم إنّ أعمال الحج الواردة في القرآن الكريم المشروحة في السنة المقدّسة هي:

الأول - الإحرام: قال تعالى: وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة - 96]. و قال تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة - 95] و غيرهما.

الثاني - الطواف: قال تعالى: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ [الحج - 29]، و قال جل شأنه: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ .

الثالث - صلاة الطواف: قال تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة - 125].

الرابع - السعي بين الصفا و المروة: قال تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة - 158].

الخامس - الوقوف بعرفات: قال تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة - 200].

السادس - الوقوف بالمشعر الحرام: قال تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ [البقرة - 200].

السابع - الإفاضة إلى منى و الكون فيها: قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ [البقرة - 201].

ص: 206

الثامن - الهدي: قال جل شأنه: وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج - 38].

التاسع - الإحلال و التقصير: قال تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة - 2]، و قوله تعالى: وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة - 196].

العاشر - أيام منى: قال تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة - 205].

الحادي عشر - قضاء المناسك: قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [البقرة - 200]، و لم يذكر سبحانه في القرآن رمي الجمرات و لا العيد و لعلّ السرّ في ذلك أنّه بعد ذكر الرّجم الكبير المذكور في قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص - 77]، يكون جميع أنحاء الرّجم من المؤمنين قولا و عملا من صغريات ذلك الرّجم، و أما عدم ذكر العيد فيمكن أن يكون قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة - 201] إشارة إليه.

ص: 207

بحث عرفاني

تقدّم في أحد المباحث السابقة أنّ الطاعات و العبادات في الإسلام إنّما هي ألطاف إلهيّة لتكميل النّفوس المستعدّة و الوصول إلى الغاية المتوخاة من خلق الإنسان، فبالعبادة ينال الإنسان مقام العبودية التي هي مجمع الكمالات الإنسانية و بها يصل إلى درجة الخلّة الحقيقية، و بها يتقرب العبد إلى خالقه و يصل إلى ساحة قدسه، و بها تتخلّى النفس من الرّذائل و تتحلّى بالفضائل و تتخلّق بالأخلاق الإلهيّة لتتجلّى أنوار الغيب على القلوب و تفوز بالسعادة التي هي فوق كلّ مطلوب و بها ينال العبد مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به عزّ و جلّ. كلّ ذلك إذا أتى العبد بها على وجهها المطلوب.

و من العبادات في الإسلام الحج الذي هو السّفر إلى اللّه تعالى للوقوف بين يدي عظمته و الدخول في ضيافته في بيته و حرمه الذي جعله من أبواب رحمته فمن دخله كان من الآمنين.

و هو سفر يتضمّن كثيرا من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلا من خلع عن نفسه الأغيار و دخل في حريم كبرياء الجبار.

و هو السّفر الذي تتحقق فيه الأسفار الأربعة التي تكون للسّلاّك من العرفاء و لا ينال العبد ما في هذا السّفر و لا يصل إلى الوجه المطلوب إلا إذا كان ملتفتا إلى سفره: مبدئه و غايته، و متوجها إلى كلّ جليل و دقيق في

ص: 208

الحركات و الأفعال بل حتى الخطرات، فإنّ المقام جليل و المطلب خطير و لا يناله إلا من كان بانيا على التكميل، لأنّ أصل تشريع هذا السّفر إنّما هو لتحريك النفس الإنسانية إلى المشاعر الربوبية و الانتقال منها إلى المنازل المعنوية و التوجه فيها إلى المعارف الإلهية، و تحلّي النفس بأخلاق اللّه تعالى فتصير الدّنيا و الآخرة عنده كمرآتين متقابلتين تحكي إحداهما عن الاخرى على نحو النقص و التمام اللذين هما من خصوصيات الذات و الزمان لا من جهات أخرى.

و في هذا السّفر منازل و مقامات لا يمكن الوصول إليها إلا بعد طيّها و الخروج منها على الوجه المطلوب و نبذ ما هو المعتاد و المألوف فإنّ الشيطان حريص على الغواية و التضليل.

و أول تلك المنازل حمل الزاد و تهيئة المركب كما في سائر الأسفار الدنيوية فإنّ أول ما يفعله المسافر حمل الزاد و معرفة أمن الطريق و توثيق الصلة مع أرباب النّواحي و تثبيت الارتباط مع مدبّر كلّ بلد و مديره ليأمن كيدهم، و كلّ ما عظم السفر اشتدت الحاجة إلى الزاد.

و السّفر إلى الحج سفر إلى اللّه تعالى فلا بد من الاهتمام بما يأخذه من الزّاد و قد أخبرنا اللّه عزّ و جلّ أنّ التقوى هي خير الزاد فإنّها من أعظم السبل في توثيق الصلة و الارتباط مع مالك الملك و مدبّر الأمور و هي مالكية أزمة الآخرة و يتبعها مالكية أزمة الدنيا فإنّها تبع الآخرة فإنّ للدنيا جهتين: الأصالة.

لكونها محلّ العمل، فلو لا الدنيا لما كان عمل و لا عامل و لا تكليف و لا جزاء.

و جهة التبعية لكونها مزرعة الآخرة. فلو لا الآخرة لما خلقت الدّنيا، فبالتقوى ينال محبة اللّه تعالى و بها يمتطي ضهوة النّفس الأمارة و يأخذ لزمامها. و هي مفتاح كلّ خير و صلاح.

و من منازل هذا السّفر الخطير الإعراض عما سواه عزّ و جل و الابتعاد عن الأغيار، لأنّه السّفر إلى اللّه و السّير إلى حريم كبريائه عزّ و جل فلا بد أن يكون حجه و عمرته للّه ربّ العالمين.

ص: 209

و من منازله أيضا البناء و العزم على إتيان العمل جامعا للشرائط و أن لا يقدم عليه إلا و هو مطمئنّ النفس على إتمامها فإنّ قطع العمل و الرجوع عن السّير بعد التلبّس به مما لا يليق بمقام العبودية بل قد يوجب الحرمان كما هو معروف لدى أهل العرفان.

ثم يحرم عند الوصول إلى الميقات و هو أول المقامات فيحرم النفس عن المشتهيات و يوقفها عن كافة الشهوات و يطرح عنها كلّ مشتبه و حرام عند خلعه الثياب عن الأبدان.

و يتهيّأ للدخول في الحرم الإلهي و الورود في ضيافة الرّحمن و لا بدّ أن يلاحظ أنّه في المأمن الإلهي، و هو من أهمّ ما يبتغيه أهل السّير و السلوك في اللّه تعالى فيجب أن يكون السّعي و العمل متفقين مع الإرادة القلبية و كلاهما للّه تعالى فترتفع الأغيار و تزول الحجب و الأستار.

ثم الطواف بالبيت رمز العشق باللّه عزّ و جل و هو جذب روحي و إظهار للعبودية فلا بد و أن يكثر من ذلك كالمحب الذي تيّمه الحب و ذلله و هو يطوف حول بيت الحبيب و قد علا صوته بالبكاء و النحيب لعلّه يلقاه أو يجيب، و في الطّواف حكم و إشارات منها التردد في محالّ القدس و الإعلام بأنّ الطالب للحبيب لا بد له من الفناء فيه ليفوز بلقياه و نيل إفاضاته.

و الصلاة في المقام إشارة إلى التشبّه بخليل الرّحمن في تركه طاعة الشيطان.

و في السّعي بين الصّفا و المروة انقطاع إلى ربّ الخلائق و إبراز التحيّر في ذاته المقدّسة و اظهار العشق له و نبذ كلّ صنم و وثن و معبود سواه.

و الوقوف بالمشاعر العظام إنّما هو تذكير بالوقوف بين يدي اللّه تعالى في عرصات يوم القيامة و إبراز الخضوع و الخشوع لعظمته تعالى و إظهار التذلّل و العبودية لساحة قدسه فلا بد و أن يكون على سكينة و وقار طالبا مغفرته و رضوانه، فإنّ تلك المشاعر العظام ليست إلا من مظاهر التوحيد و إلقاء الشرك و الكفر. و الوقوف فيها مع ما فيها من الزحام إراءة نموذج ما يكون في طريق

ص: 210

المصير إليه تعالى و ظهور الحق و فناء التكثّرات فيه.

ص: 211

و كم من نفس تلوثت بالذنوب و الآثام تطهر عند إراقة الدّماء في منى!! و كم من ذنوب يحطّمها الرّبّ العظيم عند الحطيم!!.

و كم من خطايا يغفرها الرّبّ الغفور الرّحيم عند التعوّذ بالملتزم و المستجار!!.

و كم من نفس تصل إلى مناها عند الوصول إلى منى!!.

و كم من عناية و لطف تظهران لعبده عند استلام الرّكن الذي هو يمين اللّه في الأرض يصافح بها عباده!!.

ص: 212

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّ.......

اشارة

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ (205) وَ إِذا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللّهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ اَلْمِهادُ (206) وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) قسّم سبحانه و تعالى في الآيات السابقة الناس إلى المؤمنين الذين يطلبون الدّنيا و الآخرة و الكافرين الذين يطلبون الدّنيا لوحدها. و أتم الكلام بذكر التّقوى و ذكر هنا أحوال الناس من حيث الصفات و نتائج الأعمال، و أنّهم على صنفين:

المنافقون: الذين يراؤون في أعمالهم، يظهرون الإيمان و يسرّون الكفر، و قد ذكر سبحانه و تعالى بعض صفاتهم التي عرفوا بها و أوعدهم النار بسوء صنيعهم و ما عملته أيديهم من الذنوب و الآثام.

و الصنف الثاني: هم المخلصون في أعمالهم الذين يبتغون مرضاة اللّه في جميع أحوالهم و لا يريدون إلا وجهه تعالى ثم ختم كلامه عزّ و جل بذكر بعض الأسماء الحسنى حيث وعد عباده الخير و الإحسان و دفع الشر و الفساد.

ص: 213

التفسير

204 - قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

العجب و التعجب حالة تعرض على الإنسان عند الجهل بسبب الشيء و لذا لا يطلق على اللّه تعالى، لعدم إمكان تعقل الجهل بالنسبة إليه جلّت عظمته.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الجن - 1]، و قال جلّ شأنه: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد - 5]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و العجب - بضم الأول و سكون الثاني - من الصفات الرذيلة التي يجب الابتعاد عنها، و لذا

قال عليّ (عليه السلام): «إعجاب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله» و المراد به استكثار العمل و السّرور به من نفسه و لنفسه، و في الحديث:

«أوحى اللّه إلى داود فقال: يا داود بشر المذنبين و أنذر الصدّيقين! فقال داود:

يا ربّ كيف ذلك؟ فقال تعالى: بشر المذنبين أنّي أغفر ذنوبهم، و أنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم». و من المفسرين من لم يفرّق في بيان المعنى.

و متعلق الظرف في قوله تعالى: فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا هو يُعْجِبُكَ أي: إنّ التعجب في الدنيا يحصل من جميع جهاته، فيشمل القول أيضا

ص: 214

فيكون قَوْلُهُ بدل البعض عن الكلّ.

و قيل: إنّه متعلق ب قَوْلُهُ و هو صحيح أيضا، و على أي تقدير الآية تشير إلى التعجب من الظاهر المختلف مع الباطن الذي يكشفه اللّه تعالى بحسب ما شاء و أراد، و في المقام بقوله تعالى: يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ .

أي: و من الناس من يظهر الإيمان و يدّعي صفاء السّريرة و حسن الصّحبة و يوهم الزّهد عن الدّنيا و العزوف عن ملاذّها و يدّعي توافق ظاهره مع الباطن و أنّ ذلك في القلب و أنت تعجب من براعته في الكلام، و حسن أدائه.

قوله تعالى: وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ .

أي: يحلف باللّه و يجعله شاهدا على ما في قلبه من المحبة و الإيمان، و أنّ قلبه موافق لما يقوله، و هذا التعبير آكد من الحلف و اليمين، و من يقوله كاذبا ينسب الجهل إليه تعالى.

قوله تعالى: وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ .

اللّدد: شدة الخصومة، و الألدّ صفة مشبهة، و هي تدل على المبالغة أي:

شديد الخصام و المجادلة، و جمعه (لدّ) بالضم، قال تعالى: وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم - 97].

و الخصام مصدر يقال: خاصمته خصاما و مخاصمة، و قيل: إنّه جمع خصم كصعب و صعاب.

و المعنى: إنّه في نفسه من أشدّ الناس عداوة و مخاصمة للنبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و للمسلمين يضمر في قلبه كلّ عداوة للحق و لأهله.

205 - قوله تعالى: وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها .

التولّي إذا كان متعديا بنفسه يفيد معنى الإقبال و التوجه إلى شيء و إذا عدي ب (عن) لفظا أو تقديرا - كما في المقام - يكون بمعنى الإعراض

ص: 215

و الانحراف عنه، و قد استعمل هذا اللفظ في كلّ من التوجه و الإعراض في القرآن الكريم في موارد كثيرة.

و السعي يأتي بمعنى المشي السريع دون العدو، قال تعالى: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه - 66]، و يستعمل في الجد و الاجتهاد، و في كلّ من الخير و الشّر، قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم - 40].

و الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال و الاستقامة و هو خلاف الصّلاح.

و يشمل جميع الأنحاء، سواء كان قليلا أو كثيرا، في الجزء أو الكلّ أو فيهما.

و المعنى: إذا تولّى عنك بعد إظهار الإيمان و حسن القول كانت غيبته مخالفة لحضوره و إنّ سعيه يكون على ضدّ ما قاله، فهو يدّعي الصّلاح و يسعى في الأرض الفساد و الخراب، لسوء سريرته و فساد فطرته، و لا همّ له إلا التمتع في الدنيا و الكيد في الناس.

و يمكن أن يكون المراد أنّه إذا تولّى و صارت له الولاية في بلد من البلاد و تسلّط على الناس أظهر الظلم و الفساد فيحدث بسوء ظلمه في الرعية ظلمة البلاد فيهلك الحرث و النسل، و يدل عليه بعض الروايات كما يستفاد ذلك من سياق الآية أيضا.

قوله تعالى: وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ .

الهلاك: زوال الانتفاع المطلوب من الشيء و انتفاؤه، سواء كان بزوال موضوعه أو بنحو آخر.

و الحرث: إلقاء البذر في الأرض و تهيئته للزّرع، و يطلق بالعناية على الزّرع، و مطلق العمارة، قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا [الشورى - 20].

و أصل النسل: الانفصال عن الشيء، و الولد يسمى نسلا لانفصاله عن صلب والده فلا يختص بالإنسان، و يصح التعميم بالنّسبة إلى كلّ مفصول عن

ص: 216

شيء، فيكون كالفصيلة المصطلح عليها في الأعم من النباتات أيضا.

و المعنى: أنّهم يبالغون في فسادهم و ذلك بإفسادهم الحرث و النسل أي فساد الأرض و الناس بأنواع الظلم و الطغيان و أساليب الفتن و الخراب و ضروب الإيذاء.

و هلاك الحرث و النسل على قسمين:

قسم: يكون بسبب الاختلال في الأسباب الطبيعية من قتل و نهب و تعطيل أعمال الناس و أنحاء الظلم على ما هو المشاهد المحسوس عند وقوع هذه الأمور - كليّا أو جزئيا - فتهلك المزارع و تعطّل الصّنايع، و تظهر في الناس البطالة و تختل أمورهم على كلّ حالة.

و قسم آخر يكون بسبب كثرة المعاصي و إفشاء الظّلم فتمنع السّماء بركاتها و تحبس الأرض خيراتها و تنزل النقمات و البليّات و هي مذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [الروم - 41]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96]، و هذا القسم أهم و أعظم من الأول، بل يكون كالنتيجة لما يحصل من ظلم الناس و معاصيهم، و قد حذّرنا اللّه تعالى من ذلك في القرآن الكريم بأساليب متعددة، و سيأتي في الموضع المناسب بيان كيفية تأثير المعاصي في هذا العالم إن شاء اللّه تعالى.

و الآية في المقام تشمل كلا القسمين من الفساد، لإطلاقها و عدم تقييدها بقسم دون آخر.

و لا ريب في شمول الآية الكريمة للفساد المعنوي أيضا، و هو تحريف الشرايع الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى لإصلاح النفوس و تهذيبها بالأخلاق الفاضلة و اعتدال أحوالها، و سعادة الإنسان في الدّارين. فيكون عمل هذا الشخص المخالف ظاهره لباطنه تبديل الأحكام الإلهيّة و تغيير الكلم عن مواضعه، و التصرّف في المعارف الربوبية و إشاعة الفساد و سفاسف الأخلاق

ص: 217

فيوجب ذلك محو نور الفطرة و فساد الأخلاق و الفرقة و الاختلاف، و في ذلك هدم لصرح الإنسانية الشامخ و فناؤها و اضمحلال المجتمع الإنساني و إبادته، و فساد الدّنيا و اضطرابها. و أخيرا موت الدّين فتموت الإنسانية بموته فلم يكن الإنسان إلا من الهمج الرّعاع الذين هم أضلّ من الأنعام سبيلا.

و يدل على هذا المعنى ما ورد في بعض الروايات أنّ المراد بالحرث و النّسل هما الدّين و الإنسانية.

و في التاريخ كثير من هؤلاء في مختلف الأمم الذين غلبوا على البلاد و جلبوا الفتن و الاضطراب و تصرّفوا في الدّين و ما أنزله اللّه تعالى من الكتاب و أحيوا البدعة و أماتوا الحقّ و أبادوا أهله و انحرفوا عن جادة الصّواب و أعقبوا الدّمار و الوبال فكان من سعيهم أنّه شاع الفساد و أصبح الدّين ملعب كلّ لاعب يتصرّف فيه بما شاء و أراد، فقد أفنوا الإنسانية بسوء صنائعهم و أهلكوا الدّين بفساد الأخلاق و سيبقى الأمر كذلك حتى يغيّر الناس ما بأنفسهم، قال تعالى:

إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد - 11].

و من ذلك يعرف أنّ مورد نزول الآية و إن كان شخصا خاصّا - و هو الأخنس بن شريق الثقفي كما يأتي في البحث الروائي - و لكن حكمها عام يشمل الجميع، كما أنّها لا تختص بالمرائي كما قيل، بل هي عامة تشمل الجميع و في جميع الملل و القرون أي كلّ من خالف ظاهره باطنه، و أنّ المرائي أحد أفراده،

و قد ورد عن عليّ (عليه السلام): «يدعى المرائي بأربعة أسماء يوم القيامة: يا كافر، يا مشرك، يا فاسق، يا منافق» و إنّ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم، مع أنّ حكمها من القضايا العقلية.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ .

تقدّم معنى الفساد، و لا ريب أنّه مبغوض له تعالى و يعاقب عليه.

و إنّما عبّر سبحانه في المقام بأنّه لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ و قال تعالى في آية أخرى: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ [القصص - 77]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ [يونس - 81]، لأنّ فساد شيء و عدم محبته

ص: 218

يستلزم مبغوضيته عقلا، فبالدلالة العقلية تثبت المبغوضية و بالدلالة اللفظية يثبت عدم المحبة.

فيكون مثل هذا التعبير من الحكيم تعالى أوقع في نفوس أهل الإيمان في ترك الفساد من سائر التعبيرات و كذا في نظائر المقام.

و عباد اللّه المخلصين إنّما يتركون ما لا يحبّه اللّه تعالى فيزداد إيمانهم و تعلو درجاتهم. و مثل هذه التعبيرات نحو تمييز بينهم و بين غيرهم و بذلك تعرف درجات الإيمان و مراتب كماله.

ثم إنّ الفساد إما شخصي، أو نوعي، و الجميع إما في المعتقدات أو في العادات أو الملكات و الأخلاق أو في الأفعال، و الجميع إما أن يراه صاحبه حسنا أو يكون من الجهل المركب أو يعتقد قبحه و مع ذلك يرتكبه، و لجملة مما ذكر مراتب مختلفة حتى أنّ ارتكاب المكروهات قد يكون من الفساد سيّما في الأخلاقيات و الاجتماعيات.

و لأجل ذلك كرّر سبحانه و تعالى بتعبيرات مختلفة مذمّة الفساد و التحذير عنه و لعلّ أشمل التعبيرات لجميع هذه الخصلة السيئة قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ .

206 - قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللّهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ .

التقوى: عبارة عن إتيان أوامر اللّه تعالى و اجتناب نواهيه، أو الإصلاح و عدم الفساد.

و العزة: حالة تعرض للإنسان مانعة من أن يغلب، و أصلها القوة و العزيز هو الذي يغلب و لا يغلب، و أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي: حملته قوته التي يراها لنفسه على المخالفة، و قد اكتسب العزّة من الإثم و النفاق و التفاف المنافقين حوله، لأنّ كلّ منافق مغرور بقوّته و عزّته و هذه هي الحمية الجاهلية المذمومة، و كما هو شأن كلّ مغرور بما لديه من القوّة و الغلبة عند إرشاده إلى ما فيه صلاحه.

ص: 219

و ليست هي العزّة الحقيقية التي تكون للّه تعالى و لرسوله و للمؤمنين كما قال تعالى: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون - 8] بل هي ادعائية و إنّها حالة يراها لنفسه اكتسبها من الإثم كما حكى اللّه تعالى عن أصحاب فرعون: وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْغالِبُونَ [الشعراء - 44].

و المعنى: إذا أمر بالتّقوى و الإصلاح أخذته العزّة الظاهرة التي يراها لنفسه و التي اكتسبها من الإثم و اجتماع أتباعه حوله على الضّلال فيأنف لما قيل له. أو فتدعوه عزّته على زيادة الإثم و الفساد.

و الباء في قوله تعالى: بِالْإِثْمِ إما للتعدية متعلقة ب أَخَذَتْهُ أو للسببية أي العزّة بسبب الإثم الذي في قلبه من الكفر و النفاق و ما اكتسبه من الآثام.

قوله تعالى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ اَلْمِهادُ .

المهاد: المأوى من كلّ شيء، و جهنّم مهاد للمنافق أي مأوى له، و الأرض مهاد للمشي و الزرع و نحوهما. و مهد الصبيّ مأوى راحته.

و المعنى: إنّه تكفيه نار جهنم جزاء له على كفره و نفاقه و كبريائه، و هي مأوى له و لبئس المهاد الذي مهّده لنفسه بسبب سوء أعماله، و هذا الجزاء نتيجة حتمية على ما كان يفعله، فهو من القضايا العقلية التي يغني نفس تصوّرها عن إقامة البرهان كما أنّ كون الجنّة مهادا للمتقين كذلك، فالتّقوى توجب حصول نعم المهاد، و مخالفتها موجبة للورود في بئس المهاد.

207 - قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ .

هذا هو الصنف الذي يقابل الصنف الأول الذي يكون معتزّا بنفسه مضمرا للنفاق مكتسبا للآثام لا يرجى منه إلا الفساد و الإفساد و لقد مهّد لنفسه بسبب سوء أعماله جهنّم و لبئس المهاد، و هذا الصنف يقابله في جميع الصفات كما ستعرف.

و الشراء من الأضداد يقال: شراه إذا باعه، و شراه إذا اشتراه، و قد

ص: 220

استعمل في القرآن الكريم في كلّ منهما، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [التوبة - 111]، و قال تعالى:

وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف - 20].

و المراد به هنا الأول أي: باع نفسه للّه تعالى، و لا يبتغي إلا إرادته عزّ و جل و مرضاته و لا يهتم إلا بإصلاح الأمور و تشييد أركان الدّين و إحياء الحق و إماتة الباطل، و يسعى في سبيل الدّين و الإنسانية فلا يريد إلا ما أراده اللّه تعالى في الأرض و من عليها و ما يريده عزّ و جل هو الإصلاح، و قد نصب نفسه لتقويم ما أفسده المفسدون و من سنته تعالى في خلقه أنّه إذا ظهر رجال أظهروا في الأرض البغي و أشاعوا الفساد أعقبهم رجالا آخرين وهبوا أنفسهم للّه تعالى فيقيمون الحق و يميتون الباطل، فيصلح بهم أمر الدّنيا و الدّين، و بهم ينوّر اللّه الأرض و يتمّ بهم ما نقص، و إلا لما قام للدّين عمود و لا اخضرّ للإنسانية عود، و لم يكن للإنسان اجتماع، قال تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً [الحج - 40].

و يستفاد من سياق الآية الشريفة: تجدّد الشّراء و دوامه، و أنّ العوض ليس خصوص رضاء خاص من مراضيه تعالى، بل كلّ ما يرتضيه و جملة مرضاته، و لها مراتب لا نهاية لها.

و في التعبير بالشراء هنا، و في قوله عز و جل: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [التوبة - 111]، لطف و عناية و جذبة روحانية، و أدب قرآني، كما في قوله تعالى: وَ أَقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً [المزمل - 20]، و إلا كيف يعقل أن يشتري أو يستقرض المالك الحقيقي من المملوك الفقير من كلّ جهة. أو ليس ذات الإنسان و جميع شؤونه منه جلّت عظمته حدوثا و بقاء؟! و هل التوفيق و التأييد لمثل ذلك إلا منه عزّ و جل؟!! و قد شرح سبحانه و تعالى هذا الشراء في آيات أخرى، و سيأتي التعرّض لتفسيرها في محلّها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 221

قوله تعالى: وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ .

الرؤوف من أسماء اللّه الحسنى، و تقدم أنّ الرأفة أخص من الرحمة في آية 143 من هذه السورة. و كلّ ما ورد في القرآن الكريم جملة رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يؤتى بها من غير توصيف بالرّحيم مثل المقام، و قوله تعالى:

وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران - 30]، و في غيرهما يتبع بالرّحيم، و لعلّ السرّ في ذلك أنّ العبودية حيث إنّها أخص المقامات و الدّرجات تقتضي أخص الألطاف و العنايات.

و مما تقدم يستفاد الوجه في ذكر هذه الجملة المباركة في المقام فإنّ وجود مثل هذا الإنسان الكامل في الخلق - الذي قد اتصف بما وصفه اللّه تعالى من أهمّ مصاديق رأفة اللّه بعباده، و هو من مننه تعالى على خلقه، و من الخير العام لجميع عبيده.

و من ذلك يعلم أنّ الآية الشريفة و إن نزلت في شخص معيّن لكن حكمها عام، و قد ذكرنا مرارا أنّ المورد لا يخصّص عموم الوارد. نعم مثل هذا الشخص الذي وصفه تعالى بما وصفه و جعله منّة على خلقه لا يكون كلّ أحد بل هو المؤمن الخالص الذي باع نفسه لمرضاة اللّه تعالى، و قد نصبه سبحانه نورا يهتدى به و منارا يستضاء منه، و جعله سبيلا للرّشاد و مرجعا للعباد، و من أجلى أفراد هذا الصنف هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي ورد فيه

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) - قولا و عملا - على ما رواه الفريقان: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» و ما صدر عن عليّ (عليه السلام) بالنسبة إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) كذلك ما يبهر منه العقول و من سيرة عليّ (عليه السلام) و أعماله و أقواله التي ورد بعضها في كتاب نهج البلاغة و سائر جهاته التي تكفي أن يعدّ (عليه السلام) معجزة لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بعد القرآن العظيم. و من غير ذلك مما هو كثير يعلم علما قطعيا بأنّ هذه الآية الشريفة و ما في سياقها ينحصر مصداقها في عليّ (عليه السلام) و إن كان لجميع أصحاب الرّسول (صلّى اللّه عليه و آله) مقام رفيع و شأن منيع.

ص: 222

و من أراد مزيد الاطلاع فليراجع ما ضبطه العامة في شأن هذا الرّجل العظيم يعترف بصدق ما قلناه. و لنعم ما نسب إلى الخليل حيث قال: «أخفى أعاديه فضائله حسدا، و لم يبدها أحبّاؤه خوفا، و مع ذلك ظهرت كالنجم اللامع يشرق للكلّ».

و قد وردت عدة روايات بطرق مختلفة أنّ هذه الآية المباركة نزلت في عليّ (عليه السلام) حين بات على فراش النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) لما أرادت قريش قتله (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي في البحث الرّوائي بعضها.

و من تأمل في أحوال عظماء العالم و أكابره يرى أنّه لا قصور فيهم من وجه إلا عدم استعداد الظروف و قصورها عن إبراز مقاماتهم العلميّة و العمليّة و جهات فضائلهم، و مع ذلك فقد أفنوا جميع شؤونهم و حيثياتهم في سبيل اللّه تعالى و الإنسانية.

فكما أنّ الطبيعة تظهر بالتدريج أسرارها و كنوزها كذلك تكون كنوز الحقائق من أفراد البشر تظهر بالتدريج بل التسرّع في الظهور مع عدم ملائمة الظروف و عدم استعداد المظروف تضييع لها كما هو معلوم، و لذا ورد في علامات انبساط الحق و العدل الحقيقي أنّ اللّه تعالى يتمّ عقول العباد و يكمل أحلامهم لئلاّ يستهان بالحجة و يوضع من قدره، و ليس إرسال الرّسل و بعث الأنبياء في زمان سيطر فيه الجهل و الظلم إلا نورا في الظّلمات تنتفع به الأجيال اللاحقة، و للبحث تتمة تأتي إن شاء تعالى في الموضع المناسب.

ص: 223

بحوث المقام

بحث روائي

في الدر المنثور عن السدي في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة أقبل إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) في المدينة و قال: جئت أريد الإسلام، و يعلم اللّه إنّي لصادق فأعجب النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك منه، فذلك قوله تعالى: وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ ثم خرج من عند النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) فمرّ بزرع لقوم من المسلمين و حمر، فأحرق الزّرع و عقر الحمر، فأنزل اللّه: وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ .

أقول: نقله جمع من المفسرين. و الأخنس لقب لهذا الرّجل لأنّه خنس يوم بدر بثلثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). قيل و كان رجلا حلو المنظر و القول، و تقدم ما يتعلّق بالرواية في التفسير فراجع.

و في المجمع عن ابن عباس أنّ الآيات الثلاث نزلت في المرائي و المنافق، لأنّه يظهر خلاف ما يبطن. قال: «و هو المروي عن الصادق (عليه السلام)».

أقول: مرّ ما يتعلّق بذلك أيضا.

ص: 224

في تفسير العياشي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ قال (عليه السلام): «النسل هم الذرية و الحرث الزرع». و روي أنّ الحرث الذرية.

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «المراد من الحرث في هذا الموضع الدّين، و النّسل الناس (الإنسان)».

أقول: يصح إطلاق الحرث على الدّين أيضا لأنّه بمنزلة البذر الذي يبذر في الأرض ليستفاد منه، و لكنّه يبذر في القلوب.

في تفسير العياشي عن جابر عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قال:

«إنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) حين بات على فراش رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لما أرادت قريش قتله (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: تواترت الروايات أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) ليلة المبيت في فراش النبي (صلّى اللّه عليه و آله). فقد روى الشيخ في أماليه بأسانيده عن رجال أهل السنة و غيرهم عن زين العابدين و ابن عباس و أنس و أبي عمرو بن العلا، و عن عمّار عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). و روى في تفسير البرهان بخمسة طرق، و عن الثعلبي عن ابن عباس، و عن جابر عن الباقر (عليه السلام).

و رواه جمع غفير من العامة، فقد روى الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس، و أبو السعادات في فضائل العشر بأسانيده عن أبي اليقظان عمار. و رواه الحاكم في المستدرك، و الذهبي في تلخيص المستدرك و أخطب خوارزم في المناقب، و الجويني في فضائل الصحابة و فرائده بأسانيدهم عن زين العابدين. و رواه أحمد بن حنبل في مسنده. و مسلم عن أبي داوود الطيالسي و غيره. و النسائي في خصائصه صحيحا و رواه الغزالي في كتاب الإحياء باب الإيثار، و رواه القرطبي في تفسيره و غيرهم من علماء العامة و رواتهم.

و في الدر المنثور أنّها نزلت في صهيب: «أنّه أقبل مهاجرا إلى رسول اللّه

ص: 225

(صلّى اللّه عليه و آله) فاتبعه نفر من قريش و قالت له: يا صهيب قدمت إلينا و لا مال لك و تخرج أنت و مالك، و اللّه لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم: أ رأيتم إن دفعت لكم تخلّون عنّي؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي فخلّوا عنّي فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قال: ربح البيع صهيب مرّتين».

أقول: روي أيضا أنّها نزلت في أبي ذر بشرائه نفسه بأمواله و الآية لا تلائم شيئا منها، و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بمثل هذه الروايات. و العجب من السيوطي و غيره من المفسرين أنّهم ينقلون الأحاديث المتعلّقة بالآيات حتّى الشواذ و المناكير و لكنّهم لم يذكروا المستفيضة الواردة في نزول هذه الآية.

و في المجمع أنّها نزلت في الرجل يقتل على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر. و قيل: إنّها نزلت في من يقتحم القتال فيقتل.

أقول: إنّه من باب التطبيق، و لكن تطابقت نصوص الفريقين على أنّ الآية الشريفة نزلت في عليّ (عليه السلام) بل الشواهد العقلية دالة على ذلك كما ذكرنا. و لكن مقتضيات الظروف اقتضت تارة أن يقال إنّها نزلت في صهيب.

و أخرى: إنّ معاوية يرشي و يعطي لسمرة بن جندب مالا كثيرا حتى يفتعل و يقول إنّها نزلت في حق عبد الرحمن بن ملجم.

و لا عجب في ذلك من مثل معاوية الذي ليس له أيّ دافع ديني كما يعترف به المؤرخون من المسلمين و غيرهم و ما ضبطه التاريخ من حياته. و أما سمرة بن جندب فهو معروف عند الكلّ و هو الذي رد على

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في حديث «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» المعروف بين الفريقين و يكفينا فيهما

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لعن اللّه الراشي و المرتشي».

ص: 226

بحث فلسفي

سرّ التفدية و آثارها: لا شك في أنّ أكمل ما في الوجود و أجلّه و الساعي إليه جميع الموجودات إنّما هي السعادة الأبدية يطلبها بالفطرة كلّ ذي حياة و شعور، بل كلّ ممكن موجود، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء - 54] و هذه السعادة تختلف باختلاف الموجودات و كذلك الطرق المنتهية إليها، كما تقدّم في أحد المباحث السابقة.

و لكن لا يفوز أحد بالسعادة الحقيقية الأبدية، و لا يصل إليها إلا بالتقرّب إلى الحقّ جلّ و علا و إنّ طرق التقرب إليه متعددة، كما أنّ مراتب التقرب إليه كذلك بل إنّها غير متناهية.

و للمتقرّبين إليه درجات و منازل حسب تجلّيه عزّ و جلّ لهم و الإشراقات و الجذبات الحاصلة من الأحدية المطلقة لهم بلا فرق بين الأنبياء و الأولياء و المؤمنين، بل مطلق العباد إن كان لهم الاستعداد للاستكمال و ترقية النفس.

و أولو العزم من الأنبياء - و في مقدمتهم نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) - من أشرف المتقرّبين إليه تعالى، و إنّهم أول سلسلة التفدية الحقيقية و الفداء الخالص لخالق الأرض و السّماء، و لأجل ذلك حازوا آخر مقامات الفناء فيه جلّت عظمته، قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم - 10]،

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي

ص: 227

فيطعمني ربّي و يسقيني»، و قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم (عليه السلام):

وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء - 80].

و إنّ للّه جلّ جلاله بالنسبة إليهم عنايتان فبعناية يحبّهم و يجذبهم إلى نفسه و بعناية أخرى يحفظهم عن الطمس و المحق.

و من ذلك يظهر: أنّ أهم آثار التفدية و الفداء إنّما هو الفناء في المفدّى و هذا يختص بالأنبياء و أولياء اللّه تعالى العظام لما فيهم من الاستعداد الكامل لذلك من كلّ جهة، و هم اللائقون لذلك، كما يأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و هناك تفدية أخرى و هي و إن رجعت آخر الأمر إلى التفدية للخالق و الفناء فيه، و لكن بواسطة من تقرّب إليه تعالى، كتفدية الحواريين لعيسى (عليه السلام) قال تعالى حكاية عنه (عليه السلام): قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ [آل عمران - 52].

و تفدية عليّ (عليه السلام) لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى:

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [البقرة - 207].

و تفدية كل بحسب شأنه، و إنّها التفدية الواقعية لما عرفوا من الدّلائل و انكشفت لهم الحقائق و إنّ شأنها كشأن تفدية الأنبياء للخالق.

و من فروع ذلك تفدية المؤمنين بالنسبة إلى نبيّهم أو مشاعر دينهم فهي ترجع إلى الفداء للخالق لكن بحسب شأنهم و استعداداتهم.

و أما تفدية الناس بعضهم لبعض فإن رجعت إلى التفدية لأولياء اللّه تعالى كما مر و كانت مأذونا فيها من قبل الشرع فهي استكمال للنفس و موجبة للسعادة و إلا فهي فضيلة إن لم ينه الشرع عنها.

ثم إنّ التفدية تارة: غير اختيارية كما في تفدية التكوينيات كلّ ناقص لكامله و كلّ كامل لأكمله. و أخرى: اختيارية، و لكن قد يستلزم ذلك سلب

ص: 228

الاختيار في بعض الموارد حسب التجليات و الإشراقات، و غالب هذه المباحث حاليّ لا أن يكون مقاليّا.

و إذا تحققت التفدية الحقيقية يتحقق التجلّي بمرتبته الكاملة، مع أنّه علّة فاعلية للتفدية ببعض مراتبه كما أنّه العلّة الغائية حيث إنّها علة فاعلية بوجودها العلمي و غائية بوجودها الخارجي، فليس المبتدأ و المنتهى إلا شروق النور القدسي الإلهيّ الذي هو أصل الوجود و الحياة، فيكون الفداء للسعادة الأبدية غاية تجرّد النّفس و نهاية كمالها.

تفدي لحب جلال اللّه نفسك إن *** أردت تكشف سرّ العالمين معا

فإنّما النفس كالمرآة إن ظهرت أرتك فيها جمال الكلّ منطبعا

و الفرق بين التفدية و الحب - الذي هو ميل النفس مع العقل - بالشدة و الضعف، فالحب و القرب و الفداء مفاهيم مختلفة لحقيقة واحدة ذات مراتب متفاوتة تشكيكية و كذا العشق، و لا تختص تلك بالمعنويات الواقعية بل تجري في غيرها أيضا، بل ربما يفدي بعض الناس نفسه و إن لم يكن فيه غرض صحيح عقلي.

ص: 229

بحث عرفاني

قد ثبت في الفلسفة العملية و حققه العرفاء الشامخون أنّ أنس النفس بالكليّات يوجب ارتقاءها عن حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية الحقيقية مطلقا فضلا عمّا إذا كانت تلك الكليّات من العالم الغيبي الرّبوبي فتأنس النفس إلى عالم لا حدّ لأية جهة من جهاته لتباعدها حينئذ عن دار الغرور و اتصالها بمنبع النور الذي لا يمكن تحديد أشعته بأيّ حدّ من الحدود الإمكانية، و مرضاة اللّه تعالى لا تكون إلا من منبع النور، و تجرّدها بالكلية عن دار الغرور فتشرق على النفس حينئذ أنوار ذلك العالم فتبتهج بما لا تدرك و لا تعلم، هذا إذا لوحظ ذات تبديل النفس بمرضاة اللّه جلّت عظمته.

و أما إذا انطبق عليه عنوان آخر فيعظم ذلك بحسب عظم ذلك العنوان و كمال أهميته، فإذا كانت التفدية مثلا بإزاء حفظ نفس حبيب اللّه تعالى و صفيّه من خلقه، و هو مبدأ الإفاضات و غاية خلق المخلوقات، بل هو صورة إجمالية لنظامي التشريع و التكوين، فما أعظم هذه التفدية!! فإنّها وقعت بإزاء الجميع في الجميع، و لا تصل النفس إلى هذه المرتبة و لم تتصدّ لها إلا بعد لياقتها و استعدادها لمثل هذا الفداء، و إذا كان اللّه جلّت عظمته يقول في فداء إسماعيل: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات - 107]، فما ذا ينبغي أن يقول جلّ جلاله في مثل هذا الفداء، و منه يعلم عظم المفدّى - بالفتح - و المفدي - بالكسر -.

ص: 230

و من ذلك يظهر سرّ التعبير في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ .

و جميع ما في الكون من مستحسن *** فإليك نسبته و باسمك ينطق

من مات في دير الهوى بك صبوة نال الشهادة و هو حيّ يرزق

من لي سواك أحبّه أو أعشق و لك الملاحة و الجمال المطلق

هذا كلّه في الإنسان الكامل الذي ارتقى عن حضيض البهيمية إلى أوج الكمال و يقابله أنس النفس بالماديات و الرّجوع إلى أقصى درجات حضيض البهيمية، الذين قد وصفهم سبحانه و تعالى في هذه الآية بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ * وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ .

و من ذلك يعرف أنّه إذا لوحظ الإنسان من حيث الإضافة إلى اللّه جلّت عظمته لا يخلو عن أقسام:

الأول: من حيث كونه مخلوقا و مربوبا له تعالى، و هذه الإضافة تعمّ جميع الممكنات و لا تختص بالإنسان لأنّ الجميع مخلوق و مربوب له، و تحت قدرته تعالى و إحاطته، و تدلّ عليها الأدلة العقلية و جميع الكتب الإلهية.

الثاني: أن تحصل الإضافة من حيث التدبير الظاهري و الاقتصار عليه فقط من جهة قصور النفس عن درك ما وراء ذلك، فيكون مثل اعتضاد بعض الناس لبعضهم من جهة المنافع الدّنيوية فقط. فيطلب من اللّه تعالى حسنات الدنيا فقط، لقصور السائل عن إحاطة المسؤول عنه.

الثالث: ما إذا حصلت من جهة الاعتقاد بأنّه تعالى محيط بالدنيا و الآخرة إحاطة واقعية حقيقية، و هو جلّ شأنه فوق الكلّ فيطلب منه حسنات الدنيا و الآخرة و الوقاية عن عذاب النار.

الرابع: ما تكون الإضافة باللسان فقط، و يكون ظاهره خلاف باطنه بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و هو المنافق و المرائي الذي يرتكب كلّ إثم، و قد ذمه اللّه

ص: 231

تعالى في القرآن الكريم و أوعده الخزي في الدّنيا و أشد العذاب في الآخرة و هو الذي لا يقوّمه إلا السيف.

الخامس: أن تكون الإضافة حاصلة من بذل النفس و المال و الإرادة في مرضاة اللّه تعالى فلا يشاء إلا ما شاء اللّه تعالى، و لا يريد إلا ما أراده.

و قد ذكرت الأقسام الأربعة الأخيرة في هذه الآيات الشريفة، و ذكر القسم الأول في موارد كثيرة من القرآن بالنسبة إلى جميع المخلوقات لا سيما الإنسان.

ص: 232

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ اَلْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) الآيات الشريفة تشتمل على مضامين عالية، و معارف إلهية، و أحكام اجتماعية. و هي ترشد الإنسان إلى اتباع الحق، و تحذره عن الباطل، و تبيّن له طريق السعادة، و ترغّبه إلى الإنسانية الكاملة، و تأمره بالابتعاد عما يوجب الانحراف عنها.

و الآية الأولى مع إيجازها تتضمّن جميع المعارف الإسلامية، و الكمالات الإنسانية المقرّرة في الشرايع السماوية. و تنهى عن اتباع جميع القبائح العقلية و الشرعية.

و اشتملت الآيات على كلّ ما يوجب تثبيت ما ورد فيها من الأحكام و المعارف من الوعد و الوعيد، و الاعتبار من أحوال الماضين. و مضامينها من

ص: 233

المستقلات العقلية التي تحكم بها فطرة العقول. و لأجل ذكر فرق الناس و أصنافهم و اختلاف أحوالهم في الآيات السابقة أمرهم سبحانه و تعالى بأحكام اجتماعية ترشدهم إلى نبذ الاختلاف، و التفرّق و عدم تبديل نعم اللّه بما يوجب سخطه في هذه الآيات.

ص: 234

التفسير

208 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً .

الخطاب مدني - كما مرّ - و الإضافة تشريفية لا اختصاصية و التعبير - ب اُدْخُلُوا لكمال الأهمية كما يأتي.

و مادة (سلم) تأتي بمعنى التعرّي عن العيوب و الآفات، سواء كانت ظاهرية أم باطنية في الدّنيا أو الآخرة.

و هي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة و منها الإسلام، و السلام، و السلامة. و لعلّ أعذب استعمالاتها قوله تعالى في وصف المتقين: وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان - 63]، و قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال - 61].

و هذه المادة في جميع هيئاتها محبوبة عند الناس، قد أطلقها اللّه تعالى على ذاته الأقدس في جملة من أسمائه الحسنى، قال تعالى: هُوَ اَللّهُ اَلَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلامُ [الحشر - 23]، فهو تعالى سلام فوق ما نتعقله من معنى السلام، و سبيله تعالى سبيل السلام و عباده الصالحين سلام من سلام، و داره دار السلام الذي هو مظهر غيبي و صورة حقيقية لهذه الآية، فهما متحدتان في الذات و مختلفتان بالاعتبار، إحداهما جوهر قائم بالذات و هو عالم الآخرة و الأخرى عرض قائم بالغير.

ص: 235

تكون و تبدل العرض بالجوهر و بالعكس سهل في نظام التكوين فضلا عن قدرة العزيز الحكيم، و الجميع عبارة عن الصراط المستقيم الذي له أطوار من الظهور في عالم البقاء و دار الغرور، و لكنّ الحقيقة واحدة التي هي عبارة عن العبودية الواقعية، فهو من أعظم تجلّيات اللّه تعالى لبني آدم و أعظم عناياته على خلقه، لأن يخرجه من الظلمات إلى النور.

و كافّة هنا بمعنى الجمع و الجميع حال من ضمير الجمع في قوله تعالى اُدْخُلُوا جيء به ليشمل جميع الأفراد للإعلام بأنّ الأمر متعلّق بالأمة بقدر ما هو متعلّق بالأفراد، فإنّ الجهات الاجتماعية الإسلامية يتقوّم المجتمع بها كما ينتفع الفرد منها لا محالة، بقرينة ذكر فرق الناس قبل ذلك.

و يحتمل أن تكون كَافَّةً تأكيدا للسّلم فتشمل جميع التكاليف الفردية و الاجتماعية، و الكمال الفردي و النوعي.

و الأولى أن يكون قوله تعالى: كَافَّةً تأكيدا لجميع ما سبق ليشمل جميع ما ذكرناه، بل بينهما ملازمة في الجملة.

و الخطاب للمؤمنين - كما ذكرنا - لكونهم أفضل الأفراد، و أقرب إلى الرشاد، و لتكميل الإيمان باللّه تعالى بالتسليم له سبحانه و الإخلاص له عزّ و جل، و البقاء عليه، فيكون أمرا بالثبات و الدّوام كقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء - 136] فعبّر بالدخول للإشارة إلى أنّ المطلوب في الكمالات المعنوية و المعارف الإلهية إنّما هو الإدامة و البقاء لا مجرّد الحدوث فقط، بل كلّ فضل و كمال شأنه كذلك، فإنّ المطلوب فيه هو الاستقامة و الدّوام، لأنّ المعارف الإلهية الحاصلة للنفس بالاختيار إنّما تؤثر في ذات الإنسان بواسطة الملكات الحاصلة منها حتّى تصير النّفس بالمواظبة عليها و ممارستها شعاعا من أشعة عالم الغيب على النفس فتنبعث عن الذات الأفعال الخيرية، فتصبح الذات من الذوات المقدّسة.

فيكون المعنى: يا أيّها الّذين آمنوا اثبتوا على الطاعة و التسليم لأمر اللّه

ص: 236

تعالى و لا تختلفوا و تتفرّقوا و لا تتبعوا الهوى، فإنّ في ذلك هلاككم و ذهاب سعادتكم.

و مقتضى إطلاق الآية الشريفة خصوصا بعد التأكيد بقوله تعالى:

كَافَّةً بناء على كونه تأكيدا للسلم شمولها لجميع ما يتعلّق بالشريعة المقدّسة الإسلامية بأصولها و فروعها، فإنّ جميع ذلك سلم حقيقي للإنسان صدر عن سلام مهيمن على الكلّ.

و إرشاد إلى الدعوة إلى العقل المقرّر بالشريعة، و الشريعة المتممة للعقل، إذ لا فرق بينهما في الواقع.

و على هذا يشمل جميع ما ذكر في معنى الآية، فإنّ عنوان السّلم للحق الواقعي ينطبق على ذلك كلّه، كما ينطبق على الإنسانية الكاملة و القرآن، و الخلافة الإلهية لتلازمها مع السّلم للحق الواقعي.

و المراد بالسّلم: السّلم الواقعي لا الادعائي، و هو يتحقق بعد الإيمان باللّه تعالى و الاعتقاد بأصول الشريعة اعتقادا تاما و العمل بما اعتقده، و جميع ما ورد في الروايات في تفسير هذه الآية الكريمة و ما ذكره المفسرون ليس إلا من بيان التطبيق و المصداق، و عمومها يشمل السّلم الشخصي و النوعي، و الدّنيوي و الاخروي لانطواء الكلّ في السّلم الذي يدعو إليه عزّ و جلّ.

و تشمل الآية الحدوث و البقاء، و الثاني أشدّ من الأول بمراتب و يعلم من ذلك كلّه كثرة ما عليه الناس من المخالفة لمثل هذه الآية.

و مفهومها الالتزامي يدل على أنّ مخالفة السّلم للحق المطلق لا يكون إلا باطلا، فيكون ذيل الآية بيانا للمفهوم الالتزامي المستفاد من صدر الآية المباركة.

و إنّما عبرّ سبحانه و تعالى ب «السّلم» دون الإسلام لمحبوبية السّلم حتّى عند المنافقين أيضا، فيكون مفاد الآية نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ [النساء - 136].

ص: 237

و هذه الآية من الآيات التي تدل على ثبوت مراتب للإيمان، لأنّه عزّ و جلّ جعل موضوع الحكم اَلَّذِينَ آمَنُوا و أمرهم بالدّخول في السّلم.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ .

الخطوات جمع خطوة: و هي تتبع الأثر، و خطوات الشيطان عبارة عن جميع ما يدعو إلى الباطل و الضلال، و جميع مصائده و مكائده في سبيل الانحراف عن الصراط المستقيم، و ما يدعو إليه الرّب الرّحيم.

و ذكره في المقام بيان للمفهوم الالتزامي لصدر الآية الشريفة و قد تقدم ما يتعلق بهذه الآية في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة - 168].

قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .

بيان للسبب في النّهي عن اتباع خطوات الشيطان، و هذا التعليل علّة عقلية له، فإنّ العاقل، بل كلّ ذي شعور لا يتبع عدوّه المبين في العداوة، و قد ذكرت عداوة الشيطان للإنسان في آيات كثيرة من القرآن، قال تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف - 5]، و في بعض الآيات المباركة عدوّ مضل مبين قال تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص - 15]، و في بعضها: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر - 35]، و قد اهتم القرآن بل جميع الكتب السماوية ببيان عداوته بطرق مختلفة، لأنّه أساس أنحاء الكفر و النفاق، و الفساد، و سلب السعادة عن الإنسان، و قد أقسم بعزّة اللّه تعالى لإغواء العباد فقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص - 82].

و تنشأ هذه العداوة من أسباب عديدة:

أولا: إنّها ذاتية حيث قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف - 12]، و لا أثر للنار إلا إزالة الطّين و تفريقه.

و ثانيا: إنّها إرادية إذ لا إرادة له إلا الفساد و الضّلال بخلاف المؤمنين

ص: 238

فإنّهم لا يريدون إلا ما أراده الحق تعالى.

و ثالثا: دركه لكرامة الإنسان و فضيلته عليه، قال تعالى، وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء - 70]، و قال تعالى حكاية عن الشيطان: أَ رَأَيْتَكَ هذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً [الإسراء - 62].

و رابعا: طرده لخبث ذاته عن عالم النّور إلى مهوى الغرور، قال تعالى:

فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصّاغِرِينَ [الأعراف - 13].

و خامسا: شعوره بأنّه لا حظّ له في دار النّعيم بل انحطاطه إلى أسفل درك من الجحيم بخلاف الإنسان فإنّه يدرك في الجملة أنّ له مقامات عالية إن أطاع ربّه الكريم، قال تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [الدخان - 51].

و سادسا: اللعن و الطّرد و الرجم من اللّه تعالى و الإنسان في كلّ حين و آن، قال تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ [ص - 78]، و قال تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ [الحجر - 35].

و العجب من الإنسان مع أنّه يلعن الشيطان لا ينفك عن اقتفاء أثره و تتبع خطواته، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها أجلّ دعوة بأعذب لفظ و أحسن أسلوب للإنسانية الكاملة و التحذير عن المخالفة مع التضمّن للدّليل و البرهان، خصوصا بعد ملاحظة الآيات اللاحقة.

209 - قوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ اَلْبَيِّناتُ .

الزلة: هي العثرة و الاسترسال من غير تعمّد و قصد. أي: فإن أعرضتم عن الدخول في السّلم و اتبعتم خطوات الشيطان بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات من تشريعاته المباركة و أحكامه المقدّسة، و بعد ما تبيّن لكم عداوة الشيطان و شقاوته و ضلاله و إفساده فلا عذر لكم في الميل عن الحق و الإعراض عن الصراط المستقيم.

ص: 239

و التعبير بالزلة و هي ما يصدر من غير عمد و التفات، للإعلام بأنّ التعمد في التقصير بعد تمامية الحجة مفروض العدم. و فيها كناية عن أنّه لا ينبغي أن يصدر من العاقل ذلك، و الكناية أبلغ من التّصريح في المحاورات.

و لم يذكر عزّ و جلّ العقاب مع الزلة لأنّها كالعثرة تكون بلا قصد، فلا وجه لثبوت العقاب في ما لا قصد فيه و لا اختيار، نعم، توعدهم على ذلك.

قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

العزيز: القدير الذي لا يغلب و هو من أسمائه الحسنى، و قد اطلق عليه تعالى في القرآن الكريم فيما يقرب من ثمانين موردا مع تعقبه غالبا بالحكيم أو الرّحيم أو العليم أو الحميد أو الكريم و غيرها.

و لعل وجه إتباعه بهذه الأسماء الحسنى المقدّسة أنّه يطلق مجرّدا على غيره تعالى كقوله سبحانه: حكاية عن بني يعقوب يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ [يوسف - 90]، و قال تعالى حكاية عن أخوة يوسف: قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [يوسف - 80]، و قد استعمل في غيره تعالى موصوفا أيضا، كقوله عز و جل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ [الدخان - 49]، لكنّه للتهكم.

و الحكيم هو الذي يفعل بمقتضى الحكمة.

و المعنى: فإن زللتم عن السّلم و اتبعتم خطوات الشيطان فاعلموا أنّ اللّه تعالى مقتدر غير مغلوب في إنفاذ أمره يفعل فيكم بمقتضى حكمته المتعالية بلا إلجاء.

و في إتيان حكمته المطلقة المتعالية مع قدرته و عزته للإعلام بأنّ قدرته عزّته مقهورتان تحت حكمته التامة التي هي تنظيم الأشياء على وفق النظام الأحسن الرباني، و ليست هي مرسلة من كلّ جهة حتّى و لو حصل محذور في البين.

ص: 240

و فيه إرشاد للناس بأن لا يعملوا عزتهم و قدرتهم كيف ما شاؤا و أرادوا من دون فكر و روية، بل لا بد من تطبيقها على النظام العقلي و الشرعي، و إلا فقد يكون وبالا على العزيز القادر، و قد وردت في السنة الشريفة أحاديث كثيرة في ذلك.

و قد ذكر تبارك و تعالى العزة و الحكمة في المقام للإشارة إلى مكان العفو و الغفران، إذ القدرة على الانتقام شيء، و الانتقام الفعلي المنجز شيء آخر كما هو معلوم لكلّ من تدبر.

و من ذلك يعلم أنّ في الآية روعة الأسلوب في بيان المعنى المقصود و تقدم الوجه في أمثال قوله تعالى: فَاعْلَمُوا و ذكرنا أنّ هذا التعبير أشد في التذكير و العتاب.

210 - قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ .

بيان لقوله تعالى: أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ المتضمّن للتوعيد فيكون احتجاجا آخر لعلّ الناس يرتدعون به عن العناد و اللجاج و يتركون متابعة الشيطان، و يدخلون في الصّراط المستقيم بأحسن أسلوب في بيان الحجة.

و قد تغيّر فيه الخطاب من الناس إلى خطاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) كما أنّه اختلف فيه الأسلوب ففيه الالتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيهام بأنّ من يزل عن الصراط المستقيم غير لائق بالخطاب و للإعلام بأنّ الأمة قد يتغيّر حالهم و يزلّون عن الطريق المستقيم و يقع فيهم الاختلاف و التفرّق، فيشملهم ما أوعده اللّه تعالى في هذه الآية المباركة.

و الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

و مادة (نظر) تدل على الطلب لإدراك الشيء، و هو الجامع القريب بين جميع استعمالاتها الكثيرة، سواء كان بالبصر، أم البصيرة، أم كان بمعنى الانتظار و الإمهال، لأنّ فيهما يطلب وقوع الشيء بعد ذلك. نعم، إذا استعملت بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ كما في قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [آل عمران - 77]، فإنّه يكون بمعنى إنزال الرّحمة و رفع العذاب لأنّه من صفات فعله المقدّس.

ص: 241

و مادة (نظر) تدل على الطلب لإدراك الشيء، و هو الجامع القريب بين جميع استعمالاتها الكثيرة، سواء كان بالبصر، أم البصيرة، أم كان بمعنى الانتظار و الإمهال، لأنّ فيهما يطلب وقوع الشيء بعد ذلك. نعم، إذا استعملت بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ كما في قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [آل عمران - 77]، فإنّه يكون بمعنى إنزال الرّحمة و رفع العذاب لأنّه من صفات فعله المقدّس.

و في المقام يكون بمعنى الانتظار، أي ينتظرون هذا الأمر و قضاءه فيهم.

و الظّلل جمع ظلة: و هي ما يتستّر به، و سمي السحاب و الغمام بذلك.

و لم يرد لفظ «ظلل» في القرآن الكريم إلا في أربعة مواضع و جميعها كناية عن التهويل و العظمة، كما هو المستفاد في استعمال هذا اللفظ في المحاورات.

و الغمام: السحاب الأبيض الرّقيق سمّي به لأنّه يغمّ أي يستر، و المشهور بين المفسرين القول بالمجاز و الحذف في مثل الآية فإما أن يكون المحذوف (العذاب) بقرينة قوله تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ [يونس - 50]، و حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه كثير في المحاورات الفصيحة.

أو يكون أمره تعالى بقرينة قوله جل شأنه: أَتى أَمْرُ اَللّهِ [النحل - 1]، و قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل - 33]، و غير ذلك مما يصح إضماره، و لا بد من المصير إلى ذلك - كما هو كثير في القرآن الكريم - فيما لا تلائم نسبته إلى ذاته الأقدس. و الكلّ يرجع إلى إرادته المقدّسة.

و الملائكة عطف على اسم الجلالة أي: تأتي الملائكة الموكلة بقضائه.

و لعلّ الحذف و إسناد الفعل إلى الذات إنّما هو لأجل أن يعمّ الجميع و ليذهب المخاطب إلى أيّ مذهب ممكن و لزيادة التوعيد و التخويف.

و يمكن أن تكون الآية المباركة على المعنى الحقيقي من دون إضمار شيء في الموردين، أي يأتي اللّه تعالى و تأتي الملائكة. و يكون المراد من الظّلل من الغمام الحجب

كما ورد في الحديث: «إنّ للّه تعالى سبعين ألف حجاب من نور و سبعين ألف حجاب من ظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه كلّ ما انتهى إليه بصره» فيكون مفاد مثل هذه الآية المباركة عبارة عن

ص: 242

بعض أفراد التجلّي له جلّت عظمته. و لعلّ اللّه تعالى يوفقنا لبيان معنى الحجب و كشف بعض أسرارها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و لا يستفاد من قوله تعالى: يَأْتِيَهُمُ في المقام و غيره أنّه قد نسب إليه صفة من صفات الأجسام فإنّه تعالى منزّه عنها بالأدلة القطعية الضرورية، بل المراد به بعض مراتب التجلّي، أو الإحاطة أو غيرهما مما يليق بالذات الربوبي لا الإتيان الظاهري، و سيأتي في البحث الفلسفي ما يرتبط بالمقام.

و يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ ما يكون بمنزلة الجنود لبيان الأهمية، و إلا فإنّ جنود ربّك كثيرة، قال تعالى:

وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [الفتح - 7]، و قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب - 9].

و لعلّ إنزال القهر و العذاب في الغمام عند إرادة التعذيب و الانتقام يكون أشد، و القهارية أظهر، قال تعالى: فَلَمّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف - 24]، و هذه سنته تعالى في عباده فيبلي العصاة و الظالمين بما يراد فيه النفع، و ينتفع أولياؤه بما يئسوا من نفعه، و تنحصر هممهم في الانتفاع من النافع العظيم و الملك البار القديم.

و كيف كان فالآية الشريفة متضمنة لتوعيد آخر و فيها بيان لبعض آثار متابعة خطوات الشيطان.

يعني: ما ينتظر من يتبع خطوات الشيطان إلا نزول عذاب اللّه تعالى الذي له طرق كثيرة تختلف حسب اختلاف الجهات و الخصوصيات فقد ينزل العذاب على الإنسان و تحيط به النقمة، كإحاطة الغمام بالأرض فيسترها عن الشمس، كذلك يستره عن رحمة اللّه تعالى.

و هذه الجملة المباركة تشير إلى أمرين:

أحدهما: السّتر عن الحقائق الواقعية، و عدم الوصول إليها، و أنّ متابعة

ص: 243

خطوات الشيطان تستر شمس الحقيقة عن البصائر كما تستر الشمس عن الأبصار بالغمام.

الثاني: أنّه تحيط به المكاره و المتاعب كإحاطة ظلل الغمام بما أظلّت عليه، و إن كان الإنسان لا يدرك ذلك ما دام متابعا لخطوات الشيطان، و الوجه في ذلك معلوم فإنّ التابع إنّما يتبع المتبوع في ما يدعو إليه حتّى يصير مثله و تسري فيه غريزته و طبيعته، فإذا كان المتبوع من أهل الضّلال و الفساد تسري في التابع هذه الغرائز فيصير نسخة أخرى من المتبوع فإذا اشتدت و قويت هذه الغرائز في الناس و استفحل الأمر و لم تنفعه النصائح و النذر لا بد من نزول العذاب في ظلل كالغمام لتحسم به مادة الفساد و تنقلع أسباب الضلال.

و الحاصل: إنّ ما ورد في الآية الشريفة يبين الحكم الوضعي لمتابعة الشيطان و الزلل عن الدخول في السّلم، و يستفاد منها سنخية العذاب مع المعصية و ملائمته مع الإثم.

و فيها إشارة إلى بعض كيفيات عذاب الاستقبال و عذاب الآخرة فيرجع تحصّل معنى الآية الشريفة: هل ينتظر هؤلاء علامات قيام الساعة، و انقضاء الأمر بالنسبة إلى أهل الجنة و أهل النار و حينئذ فلا تنتفع كلّ نفس بإيمان لم تكن آمنت به من قبل.

ففي الآية تهويل عظيم و توعيد شديد لأمر متوقع الحصول في هذه الدنيا، فتكون مرآة لما يقع في الآخرة.

و من ذلك يعلم أنّ العذاب لا يختص بالدنيا فقط أو الآخرة كذلك بل تكون وعيدا لما سيقع في الدنيا و الآخرة.

قوله تعالى: وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ .

جملة حالية، أي: حضر زمان القضاء و فصل الأمر فيقضي بالحق و لا رادّ لقضائه، و حذف الفاعل المعلوم في المقام للتهويل و إظهار الكبرياء كما هو كثير في المحاورات الفصيحة.

ص: 244

قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ .

بيان لصدر الآية المباركة فإنّ من ترجع إليه الأمور بجميع جزئياتها و كليّاتها لا بد و أن يكون مبدأ لجميع تلك الأمور، لما أثبتناه سابقا من تلازم المبدأ و المرجع.

و في الآية الشريفة من التهديد و تهويل الأمر ما لا يخفى و إعلام بأنّ من كان يتوجه إليه في الجملة لا بد و أن يعدّ نفسه للرجوع إليه تعالى.

211 - قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ .

تثبيت و تأكيد لما ذكر في الآيات السابقة و قد أورد عزّ و جل من أحوال بني إسرائيل بعد ما ذكر من الوعيد للاعتبار من أحوال الماضين، و للإعلام بأنّه يجري في المخاطبين ما جرى في الأمم السابقة إن هم استمروا في العناد و اللجاج و أعرضوا عن الدّخول في السّلم و زلّوا عما جاءهم من البينات.

و الاعتبار بأحوال الماضين أمر تربوي له أهميته الكبرى في تهذيب النفوس و التأثير العظيم في إصلاحها. و قد اعتنى به عزّ و جل في القرآن الكريم بذكره تعالى أحوال الأمم السابقة و ما جرى عليهم و فيه من الفوائد الكثيرة، بل هو أمر فطري في الجملة حتى لقد ارتكز في النفوس: «أنّ التاريخ يعيد نفسه» و لعلّنا نتعرّض للبحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان ففي الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله). و إنّها تشير إلى أنّ الجحود و اللجاج طبيعة واحدة و إن تعددت مظاهرهما في الأمم المختلفة كقوم إبراهيم، و قوم لوط و قوم موسى، و مشركي العرب، و كلّ ذلك ينشأ من الصّراع بين الحق و الباطل الذي هو قديم، هو الصّراع بين العقل و الجهل.

و قد ذكر سبحانه بني إسرائيل لأنّهم كانوا وثيقوا الصلة بالعرب، و كانوا مجاورين لهم يعرفون من أخبارهم و يتتبعون آثارهم فهم بمرأى منهم و منظر.

ص: 245

و المعنى: إنّ هؤلاء بني إسرائيل قد آتاهم اللّه الآيات البينات التي تهديهم إلى الحق، و توضح لهم طريق السعادة، و ترشدهم إلى سبيل الرشاد.

فاسألهم أيّها الرسول الكريم كم آتيناهم من آية بينة فأنكروها و كذّبوها فعاقبهم اللّه تعالى أشد العقاب و عذّبهم بسوء العذاب، فاعتبروا بحالهم و ما آل إليه أمرهم من سوء العاقبة و ذهاب الملك و النبوة عنهم.

و في السؤال تقريع و توبيخ لهم بما صدر عنهم من الطغيان و الكفران بعد ما أنعم اللّه عليهم بأنواع النّعم و الإحسان.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

بيان لسنة اللّه تعالى في خلقه و تطبيق للكلّي أي و من يغيّر نعمة اللّه تعالى بالكفران و الجحود و يضعها غير موضعها بعد ما جاءته من الآيات البينات التي أرسلها اللّه لتكون سببا في سعادته فإنّ اللّه تعالى يعاقبه بأشد العذاب، و اللّه شديد العقاب، لأنّه يرجع إلى وجوب شكر المنعم الذي هو أصل جميع الكمالات الإنسانية و درك المعارف الربوبية، فشدة العقاب إنّما هي أمر وضعي يترتب على من رضي بالذّل و الهوان، و الهمّ و الخسران، و قد عاقب نفسه بنفسه فحصلت له الندامة العظمى، قال تعالى: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل - 118].

و في الآية الشريفة تهديد و توعيد لمن يتعدّى حدود ما أنزله اللّه تعالى، و بيان لسنته الجارية في خلقه، و تقدم في الآيات السابقة نظير هذه الآية.

و قد نسب سبحانه العقاب إلى نفسه في المقام و غيره مع أنّ الفعل منسوب إلى العبد بسبب سوء أعماله، و لكن نسبته إلى العبد بنسبة العلة الفاعلية، و أما جزاء الفعل فإنّه منسوب إليه بنسبة العلّة الغائية و ليس من اللّه تعالى إلا جعل القانون و بيان الجزاء على الموافقة و المخالفة و هو داخل في باب الإرشاد، و قد رجحنا في أصول الفقه تبعا للمحققين أنّ الأوامر و النّواهي في التشريعيات إنّما هي إرشاد إلى المصالح اللازمة الدرك أو المفاسد اللازمة

ص: 246

الدفع، و بعد ذلك يحكم العقل باللزوم.

فالآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام المستقلّة العقلية، و هو وجوب شكر المنعم، و قد ابتنى الفلاسفة جملة من المسائل العلمية عليه.

212 - قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا .

الزينة معروفة، و هي إما نفسانية كالعلوم و المعارف الحقة، أو بدنية كالجمال و نحوه. أو خارجية كالمال و الجاه و نحوهما. و القسم الأول إمّا دنيوية أو دنيوية و اخروية معا، كالمعارف الحقة و الاعتقادات الحسنة و الأخلاق الفاضلة. و بالجملة الزينة إما واقعية حقيقية، أو وهمية خيالية التي هي ما سوى ما ينفع في الآخرة.

ثم إنّ الزينة المستعملة في القرآن الكريم تارة: تنسب إلى اللّه تعالى قال سبحانه و تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات - 7]، و أخرى: إلى الشيطان قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام - 42]، و ثالثة: تستعمل من دون أن تنسب إلى أحد قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ [الرعد - 33].

و الآية في موضع التعليل لما تقدم في الآيات، و ذلك أنّ السبب في الزّلل و عدم الدّخول في السّلم و تغيير نعم اللّه تعالى و الجحود بآياته عزّ و جلّ إنّما هو تزيين الحياة الدّنيا و حبها هو الذي رأس كلّ خطيئة كما في الحديث و هذه قضية وجدانية، و ذلك لأنّ كلّ إنسان محفوف بالشهوات الكامنة فيه التي خلقها اللّه تعالى لحفظ النظام الأحسن فإذا كان معتقدا بالمبدأ و المعاد يكون مانعا من أن يتابع شهوات النفس و يعمل بها، و كلّ ما قوي هذا الاعتقاد يضعف المقتضي عن الفعلية حتّى يصل إلى مرتبة ينعدم الرادع و المانع فيصير المقتضي علّة تامة للغواية، و كذا بالعكس و حينئذ يكون حب الدنيا و زينتها سببا في صرف النفس عما يوجب كمالها، و الإعراض عما يؤثر في إصلاحها و تهذيبها فلا يعمل إلا ما ترتضيه نفسه و هواه و لا يكون همه إلا إعمال شهواته، و تكون الدنيا أكبر همّه فلا تنفع فيه النذر و الزواجر، و لا يؤثر فيه ما أنزله اللّه

ص: 247

من الآيات البينات.

و من ذلك يعلم أنّ الأمر لا يختص بالكافرين، بل يشمل كل من جرى فيه ما ذكرناه، فتشمل الآية الشريفة كل من بدّل النعيم الأبدي و السعادة الدائمة بالزخرف العاجل الفاني من المسلمين و غيرهم الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم بل ربما كان العقاب فيهم أشد لتمامية الحجة عليهم بعد الاعتقاد بالإسلام و معارفه.

و تزيين الدنيا إمّا أن يكون من الشيطان و ميل النفس الأمّارة إليها كما في قوله تعالى: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ اَلْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ [الأنفال - 48]، و قوله جل شأنه: فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النحل - 62]، و قوله تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل - 24]، أو يكون قد زينها اللّه تعالى للناس لأجل الامتحان و ابتلائهم كما في قوله تعالى: إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف - 7]، و في هذه الصورة إن وقعت الدّنيا و زينتها في طريق اكتساب المعارف الإلهية و الكمالات الإنسانية و تهذيب النفس و إصلاحها فهي ممدوحة من كلّ جهة، بل هي الآخرة بنفسها. و أما إذا لم تكن كذلك بل كانت صارفة عنها و مضيّعة لها فهي الدّنيا المذمومة، و بذلك يجمع ما ورد في السنة المقدّسة من ذم الدنيا و ما ورد في مدحها فتحمل الذامة على الثانية و المادحة على الأولى.

قوله تعالى: وَ يَسْخَرُونَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

مادة (سخر) تستعمل لإعمال الغرض المقصود قهرا فإن كان استخفافا بالطّرف و استهزاء بالنسبة إليه تسمّى سخرية، و إن كان لغرض آخر من الأغراض الصحيحة تسمّى تسخيرا. و لهذه المادة استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم، قال تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات

ص: 248

- 11]، و قال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف - 42]، و قال تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [الجاثية - 13].

و المعنى: و يسخر الكافرون من الذين آمنوا. و الأسباب لذلك كثيرة فإما أن يكون لأجل الزهد في الدنيا و الإعراض عن ملاذها و فقرهم فيها، أو لأجل تحملهم الشدائد و المصائب في جنب اللّه تعالى، أو لأجل إيمانهم، أو غير ذلك. و سخرية من زيّن له شيء و رآه حسنا ممن ليس على طريقته أمر فطري في الجملة فأهل الدنيا يسخرون من أهل الآخرة، قال تعالى: إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود - 38].

و سخرية أهل الباطل لأهل الحق من مظاهر الصراع القديم بين الحق و الباطل، و الآية في مقام ذم سخرية المؤمنين و قد أجمل سبحانه الذمّ كما أجمل مدح فوقية المتقين على الكافرين ليشمل جميع مراتب المدح و الذم، لأنّ لكلّ منهما مراتب بل مراتب الفوقية غير متناهية.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

بيان لحال المؤمنين في نعيم الآخرة و أنّهم فوق الكافرين يوم القيامة جزاء لاستعلاء الكافرين عليهم في الدنيا و السخرية منهم.

و لم يذكر سبحانه و تعالى جزاء سخرية الكفار في الدنيا و اكتفى جلّت عظمته بأنّهم فوقهم يوم القيامة لأجل تعليم أهل الإيمان بأنّ خسة الطرف تمنع عن مجازاة المؤمن له، بل ينبغي له أن يكون ممن مدحه اللّه تعالى بقوله جلّت عظمته: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان - 72]، و قوله تعالى: وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان - 63].

و إنّما عبّر سبحانه ب اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و أثبت الفوقية لهم دون سائر المؤمنين لبيان أنّ التقوى هي الأصل في الوصول إلى الدرجات العالية، و إشارة إلى أنّ المقصود من الإيمان إنّما هو التّقوى لا مجرّد القول باللسان بلا عمل من الجوارح و الأركان.

ص: 249

و يمكن أن يكون المراد من التّقوى في المقام الإيمان في مقابل الكفر، فيكون ذكر التّقوى للإشادة بفضلها و عظم منزلتها.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

أي: إنّه تعالى يرزق من يشاء من عباده كلاّ حسب الأهلية و الاستحقاق بغير حساب، لأنّ الذات و الفضل فيه جلّت عظمته غير متناهيين و اللّه ذو الفضل العظيم.

و إنّما ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذه الآية ليعلم الناس أنّ الدنيا أيضا بجميع جهاتها و شؤونها تحت إرادته الربوبية القيومية و أنّ لإرادته عزّ و جل دخلا في الأسباب الظاهرية التي يؤتى بها لتحصيل الرّزق، كما لها دخل في تنظيم النظام الأحسن الربوبي بل رزق مخلوقاته داخل في هذا النظام الربوبي فلا يدور رزق عبد مدار صلاحه أو عدم صلاحه فإنّا نرى كثيرا من الفجار أغنياء و كثيرا من الأبرار فقراء، بل الأمر يدور مدار الأمور التكوينية و المصالح الواقعية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى، و في الحديث: «إنّما وسع اللّه أرزاق الحمقى ليعتبر العقلاء أنّ الدنيا لا تنال بمكر و حيلة».

ص: 250

بحوث المقام

بحث دلالي

تقدّم أنّ المراد من قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ و ما في سياقه من الآيات المباركة هو التجلّي الأعظم لإقامة الحقّ في النّوع. و المستفاد من مجموع ما وصل من الكتاب المبين و السنة الشريفة أنّه ثلاثة:

الأول: ليلة إسراء نبينا الأعظم سيد الأنبياء و خاتمهم حيث به ختمت التشريعات السماوية، كما أنّ به فتحت أبواب العلوم الربانية فوضع فخر الكائنات الدنيا تحت قدميه، و شرّف العرش بغبار نعليه، فأوحى اللّه جلّت عظمته إلى عبده ما أوحى، و قد أخذ (صلّى اللّه عليه و آله) الحق من الحق بالحق، و هو يوم تشريع القوانين الإلهية،

و قد ورد في بعض الدّعوات المعتبرة في البعثة و الإسراء «اللهم إنّي أسئلك بالتجلّي الأعظم».

الثاني: يوم كمال عقل جميع الناس واقعا و عملا، و هو يوم ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه) و هو أعظم أيام التجلّي الربوبي، و قد أجمعت الأنبياء على أنّه سيأتي هذا اليوم، و أثبتته القواعد الفلسفية المتقنة،

و في الحديث «إذا ظهر الحجة وضع اللّه يده على رؤوس العباد فتمّت بها

ص: 251

عقولهم، و كملت بها أحلامهم»

و قد روى الفريقان بأسانيد متواترة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يظهر رجل من ولدي يملأ اللّه به الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا».

الثالث: يوم الجزاء الأكبر، و هو يوم الجزاء على القوانين السماوية، يوم ظهور الحق و العدل الإلهي. هذا ما يمكن القول في هذه الموضوعات الثلاثة بإيجاز، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل كلّ واحد منها.

و يصح أن يراد بهذه الآية المباركة جميع هذه الموارد الثلاثة، إذ الحقيقة واحدة و إن اختلفت بالاعتبار، و قد ورد تفسير الآية بكلّ واحد منها:

فعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ قال: «هو يوم القيامة».

و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية المباركة «ظهور المهدي (عليه السلام)» كما ورد تفسيرها بالرجعة، كما رواه الصّدوق عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).

هذه هي تجلّيات اللّه تعالى الكبرى، و هي أهم بمراتب كثيرة من تجلّيه لموسى بن عمران (عليه السلام) و الاختلاف بينهما بالكلية و الجزئية.

و من عجائب الأمر أنّ هذه التجلّيات الثلاثة غاية خلق العالم مع أنّها من مبادئه.

ص: 252

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً قال: «في ولايتنا».

و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله عز و جل: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً قال: «أمروا بمعرفتنا».

أقول: حيث إنّ معرفتهم و الدخول في ولايتهم يشتمل على معرفة اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة، فيكون من باب التطبيق لا محالة.

و في التوحيد و المعاني عن ابن فضال قال: «سألت الرضا (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ . قال (عليه السلام): «يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه بالملائكة في ظلل من الغمام و هكذا نزلت. و عن قول اللّه عز و جل: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا . فقال (عليه السلام): «إنّ اللّه لا يوصف بالمجيء و الذهاب، تعالى عن الانتقال و إنّما يعني بذلك: و جاء أمر ربّك و الملك صفّا صفّا».

أقول: ما ورد في الحديث بيان حسن جدّا للآية الشريفة كما هو شأنه (عليه السلام) في بيان الآيات المتشابهات. و المراد

بقوله (عليه السلام):

ص: 253

«هكذا نزلت» هو النزول البياني و التفسيري على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ قال: «ينزل في سبع قباب من نور لا يعلم في أيّها هو حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل».

أقول: المراد من قوله «ينزل» أي القائم بقرينة سائر الروايات الواردة في ظهور المهدي، مثل

ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا أبا حمزة كأنّي بقائم أهل بيتي - إلى أن قال - إنّه نازل في حباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة».

و في روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «أيام اللّه ثلاثة: يوم الظهور، و يوم الكرّة، و يوم القيامة». و في بعضها: «أيام اللّه ثلاثة: يوم الموت، و يوم الكرّة، و يوم القيامة».

أقول: المراد من الظهور التجلّي، كما مرّ. و إنّ الحصر فيهما إضافيّ و ليس حقيقيّا. و قد تقدّم في البحث الدّلالي ما يرتبط بهذه الرّوايات.

ص: 254

بحث فلسفي

لقد ثبت في علمي الفلسفة و الكلام بالأدلة القطعية أنّ اللّه تعالى منزّه عن الجسم و صفات الأجسام، و لذا ذكر العلماء أنّ ما ورد في الكتاب و السنة مما ينسب إليه تعالى صفة من صفات الأجسام لا بد من تأويله بما يليق بذاته المقدّسة.

و ذلك: لأنّ ما أثبته محققوا الفلاسفة قديما و حديثا في درك حقائق الأشياء إنّما هو كشف الآثار و الخواص بحسب القدرة و الطاقة. و أما كشف حقائقها و الوصول إلى كنهها فإنّه يصعب جدّا لو لم يكن مستحيلا، فمثلا أقرب الأشياء إلى الإنسان إنّما هو النفس الناطقة التي تحيط بالبدن كإحاطة المدبّر الآمر بالمأمور المطيع المنقاد، و قد اجتهد العلماء منذ القدم في الفوز بحقيقتها و كشف النقاب عن هذا السّر المكنون و لكنّهم لم يظفروا باللّقيا، و اعترفوا بالعجز و القصور و لم يصلوا إلى حقيقة هذا الغيب المحجوب هذا بالنسبة إلى الممكن المخلوق الضعيف و مثله كثير.

أما بالنسبة إلى الخالق العظيم اللطيف فلا يمكن الإحاطة بذاته و كنه صفاته، و لا حقيقة أفعاله، و مع ذلك هو داخل في مخلوقاته لا دخول صفة.

و خارج عنها لا خروج عزلة، فسبحان من لا يتناهى جلاله، و لا يدرك جماله، و لا يعلم أفعاله.

ص: 255

و في جملة من الدّعوات الشريفة المأثورة: «يا من لا يعلم ما هو و لا كيف هو و لا أين هو إلا هو» فإذا كانت الذات هكذا فكلّما ينسب إليها أيضا لا بد أن يكون كذلك.

و لم يقتصر وضع الألفاظ للمعاني بعالم خاص، بل هي موضوعة للمعاني العامة في جميع العوالم من مادياتها و مجرداتها و غيبها و شهودها فإنّ العلم مثلا بالنسبة إلى عالم عرض قائم بالموضوع، و في عالم جوهر في المحلّ، و في عالم ثالث عين ذات الواجب الأقدس، و مع ذلك العلم علم بمفهوم واحد لا يتعدّد و لا يتغيّر و لا يتبدّل.

و مثال آخر تقول: رأيت زيدا في المنام جاءني و قال لي كذا. مع أنّه ليس في الخارج من ذلك شيء. و يأتي ما ذكرناه في الألفاظ المنسوبة إليه عزّ و جل مثل المقام: إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ . و قوله تعالى:

وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر - 22]، و قوله تعالى: فَأَتاهُمُ اَللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر - 2]، و قوله جل شأنه: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ [الزمر - 42]، فإنّها مستعملة في المعنى الحقيقي، و لكنّ العوالم مختلفة لا أن يكون المعنى متعدّدا، فقولك: جاءني زيد يشمل مجيئه راجلا و راكبا على الدابة أو في المراكب الحديثة كالسيارة و الطائرة و غيرهما، و المجيء بالخلع و اللبس في عالم المعنى. و في الجميع يصدق مجيء زيد حقيقة، فيكون إتيان اللّه تعالى عبارة عن قربه إلى خلقه و الإحاطة به لا بمعنى فراغ مكان و إشغال مكان آخر. و سيأتي في نظائر المقام مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى.

ص: 256

كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلن.......

اشارة

كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) الآية المباركة تبيّن الحالة الاجتماعية التي كان الإنسان عليها و حاله من حيث ارتباطه باللّه تعالى و إظهار صفاته عزّ و جل في خلقه، و قد بينت أنّ الإنسان بطبعه يحب الاتحاد و الاجتماع و يطلب بفطرته التفوّق و حصول المزية في الحياة و أمر الدّنيا، و لقطع التنازع و التشاجر بين الأفراد بعد أن لم يكن العقل وحده كافيا و لذلك استدعى وضع القوانين المحكمة و إنزال المعارف الإلهية فبعث الأنبياء و المرسلين و معهم الكتاب ليحكم بين الناس.

ثم بيّن أنّ النبوة العامة هي لطف للناس تنير لهم الطريق، و تهديهم إلى الصراط المستقيم، و ترشدهم إلى السعادة و صلاح أمورهم الدنيوية و الاخروية.

و بيّن عزّ و جل حكما عاما في النبوة أنّها لا بد من اقترانها بالتبشير بالثواب و الإنذار بالعقاب ليتصف ما يأتي به الأنبياء بصفة الإلزام و الثبوت، و بذلك بيّن سبب إرسال المرسلين و بعث النبيين.

ص: 257

و ذكر سبحانه و تعالى أنّ الناس اختلفوا في أمر الدّين و معارفه فاختلّت بذلك الوحدة التي قصدها الأنبياء و المرسلون و وقع الاختلاف بعد التآلف و الاتحاد.

و أعلمنا أنّ الاختلاف في الدّين و ما جاء به الأنبياء إنّما يكون ممن أوتوا الكتاب بغيا و ظلما منهم بعد ما أتم اللّه الحجة عليهم، و هذا غير الاختلاف الذي هو فطريّ في أمر الدّنيا و وسائل الحياة بخلاف الاختلاف الذي هو افتعالي في أمر الدّين.

و في ذلك تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و المؤمنين.

ثم ذكر أنّ اللّه تعالى هدى المؤمنين إلى الحق بإذنه و اللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

و الآية مرتبطة بما سبقها من الآيات في أنّها جميعا تشير إلى ما يكون دخيلا في سعادة الإنسان و ما هو سبب في شقاوته، كما ذكرنا.

ص: 258

التفسير

213 - قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً .

مادة (الناس) مما اختلف فيها أهل اللغة في مبدأ اشتقاقها، فقيل إنّه أناس. و قال آخر: إنّه أنوس. و قال ثالث: إنّه إنسان. و كيف كان فهو معروف، و المراد به الأفراد المجتمعون من بني آدم. و قد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يقرب من مأتين و أربعين موردا، و جميع الكتب السماوية مشحونة به بلغات مختلفة، و هو محور حكايات ربّ السّماء، و مورد دعوة الأنبياء، لا حدّ لمقصده و مسعاه إذا كان للّه و إلى اللّه تعالى، كما لا غاية لمنتهاه لبقائه ببقاء اللّه تعالى.

و هذا القرآن المهيمن على كتب السّماء قد أشار إلى بعض أحواله و بيّن ما يجب عليه أن يكون من أقواله و أفعاله، و ذكر ما ينتهي إليه أمره في مآله، و يكفي في هداية الإنسان أن يتأمّل في نفسه و يعرف منزلته من أمته،

و في الحديث عن عليّ (عليه السلام) «رحم اللّه امرءا عرف من أين و في أين و إلى أين».

و الأمة كلّ جماعة يجمعهم جامع واحد، سواء كانوا من ذوي العقول أم لا، و سواء كان ذلك الجامع زمانا أو مكانا أو شيئا آخر، تسخيريا كان أو اختياريا.

ص: 259

و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران - 110]، و قال تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام - 28]، و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر - 24]، و قال تعالى: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [النمل - 82]، و قال تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء - 29]، و قال تعالى: وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنّاسِ يَسْقُونَ [القصص - 28].

و قد يطلق على الواحد قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [النحل - 120]، باعتبار أنّه سبب في اتحاد جماعة و اتفاق في الدّين.

و لم يبيّن سبحانه متعلّق الوحدة لإفادة العموم فكان الناس متحدين في جميع الشؤون لا تفرق بينهم في الشرائع و النّحل، و إنّ الاختلاف بينهم في أمور الدنيا و ما يتعلّق بشؤون حياتهم، لما كانوا عليه من السذاجة و البساطة فكانوا على الفطرة الأولية التي لا اختلاف فيها و لا تفرق و ليس لهم من العلوم إلا البديهيات و الفطريات.

و يمكن تحديد هذا الدور بدور الطفولة في الحياة الإنسانية فلم يكن يعرف من رموز الحياة و أسرار الطبيعة و لم يكن همه من العيش سوى نيل البقاء بالطرق الأولية، فكان يأوي إلى الكهوف و المغارات للعيش، و يتغذّى على النبات و ما يقع تحت يده من الصيد، و يدافع عن نفسه بأبسط وسائل الدفاع.

و بالجملة إنّ في هذا الدّور من تاريخ حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة لم يكن تعقيد في أيّ وسيلة من وسائل حياته، و هو على فطرته الأولية في جميع شؤونه العلمية و الاجتماعية و الدينية،

و قد ورد في الحديث: «كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلاّلا». فالوحدة هي الأصل ما لم يثبت التكثر و التعدد اللذين حصلا بعد قرون عديدة و لم يبق الإنسان

ص: 260

على هذه الحالة بل بمقتضى السّير التكاملي إنّه استقبل أمورا لم يكن يعرفها من قبل، و ازدادت معارفه و علومه بعد أن كانت مقتصرة على المحسوسات فقط، و تمكن من الاستيفاء من الحياة بأفضل مما كان عليه فاقتضى هذا الوضع أن يبعث اللّه النبيين مبشرين و منذرين و ينزل معهم الكتاب ليبين لهم طريق السعادة و تحفظ لهم الوحدة و يرفع الاختلاف و التزاحم بينهم، و يسهّل لهم الاستفادة من مزايا الحياة بعد أن لم يتمكن العقل الذي هو شرع داخلي لوحده أن يتصدّى لذلك بل لا بد من شرع خارجي يعضده كما ذكرنا مرارا.

و من ذلك يعلم أنّه لا يشترط أن يكون بعث الأنبياء (عليهم السلام) إلا بعد حصول الاختلاف بين أفراد الناس، كما ذكره بعض المفسرين.

و المشهور بين المفسرين أنّ المراد بالآية الشريفة أنّ الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، و الاختلاف إنّما نشأ بعد نزول الكتاب و بعث الأنبياء، فإن كان مرادهم من ذلك ما ذكرناه من أنّهم كانوا على الفطرة غير جاحدين للربوبية فلا إشكال، و إلا فإنّ الهداية إنّما تحصل من بعث الأنبياء (عليهم السلام) و إنزال الكتب و المعارف الإلهية.

ثم ما هو الدّاعي لزعزعة الوحدة ببعث الأنبياء الذين هم يبغونها و إشاعة الاختلاف و التنازع بين أفراد الإنسان؟!!.

و قيل: إنّ المراد بالاية المباركة أنّ الناس كانوا أمة على الضلالة بقرينة قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ لأنّ إرسال الرسل و إنزال الكتب إنّما يكونان لرفع الضلالة.

و لكن فساده واضح:

أما أولا: فلأنّ مصلحة إرسال الرسل و بعث الأنبياء لم تقتصر على ما ذكر، بل يمكن أن تكون لإتمام الحجة عليهم.

و ثانيا: إذا كانوا جميعا على الضلالة فما وجه نسبتها إلى البعض منهم و هم حملة الكتاب.

ص: 261

و قيل: إنّ المراد من الآية المباركة أنّ الناس أمة واحدة من حيث بعض الأمور الاجتماعية الفطرية فلا غنى لهم عن الاجتماع و التعاون و لا يمكن حصول الكمال إلا بهما بلا تحديد لذلك بوقت من الأوقات بل هو سنة جارية بعد أن كان الإنسان مدنيا بالطبع، و الاجتماع يؤدي إلى الاختلاف و التشاجر فلذلك بعث اللّه الأنبياء و المرسلين، فيكون الفعل الناقص في الآية المباركة (كان) منسلخا عن الزمان، و يدل على الثبوت.

و يشكل عليه: بأنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة، كما أنّ تفريع بعث الأنبياء و المرسلين على مجرّد كون الإنسان مدنيّا بالطبع و أنّ الاجتماع يوجب الاختلاف غير صحيح، بل ذكرنا أنّ بعث الأنبياء (عليهم السلام) لم يشترط فيه الاختلاف و التنازع بل هو لأجل بيان الصراط المستقيم، و جلب السعادة، و إتمام الحجة عليه و الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال و جلب السعادة و لا يتحقق ذلك إلا بإنزال الكتب الإلهية و المعارف الربوبية، كان هناك اختلاف أولا.

قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ .

البعث يأتي بمعنى توجيه الشيء و إثارته، و يختلف باختلاف المتعلّق و بعث الأنبياء إنّما هو لتوجيه الناس إلى المعارف الحقة و إثارة ما في عقولهم،

فعن عليّ (عليه السلام): «فبعث فيهم رسله و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول» فجميع المعارف الربوبية كانت موجودة في الفطرة الإنسانية على نحو الاقتضاء و الاستعداد، و لكن احتجبت بالحجب الظلمانية، و قد بعث اللّه الأنبياء لإزالة تلك الحجب. و هذا بحث نفيس من مباحث الروح، و قد أيدته نظريات علمية حديثة في مطلق علوم الإنسان، و يأتي في المحلّ المناسب الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و البشارة: هي الوعد برحمة اللّه و رضوانه و جنته.

و الإنذار: هو الوعيد بعذاب اللّه تعالى و عقابه، و هما من حكمة بعث

ص: 262

الأنبياء و إرسال الرسل، و بهما يتصف ما يأتيه الأنبياء بصفة الثبوت، و التمكين في نفوس أغلب أفراد الإنسان و إن كان بعض المؤمنين الصالحين يعبدون اللّه تعالى خالصا لوجهه الكريم من دون أن تتعلّق نفوسهم بغيره.

و تقديم البشارة على الإنذار لأجل أنّه تعالى سبقت رحمته غضبه فيكون ذلك بلحاظ الجاعل و المشرّع، أو لأنّ تلك الوحدة التي كانت بين الناس في الاعتماد على الأمور الفطرية مما اقتضى تقديم البشارة على الإنذار في المقام.

و في بعض الآيات الأخرى قدم سبحانه النذير على البشير، قال تعالى:

إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف - 188]، و قال تعالى: أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ [هود - 2]، و يكون ذلك بلحاظ حال العباد و المكلّفين حيث إنّ التوعيد أقوى لديهم على الحث على العمل من التبشير، فمجموع الآيات الواردة في هذا السّياق تجمع بين ما هو مقتضى شأنه تعالى و ما هو مقتضى حال العباد، فيكون الاختلاف باختلاف حالات الأمم و سائر الجهات.

و إنّما عبرّ سبحانه و تعالى بالبعث دون الإرسال، لأنّ حال الإنسان في هذا الدور من حياته على الأرض كانت حال خمود و خمول لا يقصد إلا البقاء و الاستفادة من وسائل الحياة البسيطة كما ذكرنا فكان الأنسب أن يبعث اللّه النبيين ليثيروا لهم الدّفائن التي أودعها اللّه تعالى في عقل الإنسان و ينبهه بما يمتاز به عن سائر مخلوقاته، و ما يؤول إليه أمره و ينير له طرق كماله و منازل سيره الاستكمالي، و هذا هو وظيفة النبي الذي يبعثه اللّه تعالى إلى خلقه.

و قد ذكر سبحانه النبيين دون المرسلين، لأنّ النبي أعم من الرّسول فيشمل من ليس له كتاب و شريعة مستقلة، فإنّه بنفسه يكفي في الحجية و الدّاعوية إلى اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ .

بيان لكون الأنبياء مبشرين و منذرين أي: إنّ تبشيرهم و إنذارهم لا

ص: 263

يكونان إلا من كتاب اللّه تعالى، و هو القانون الأتم الأكمل و النظام الرباني التشريعي.

و المراد به في المقام: هو الضم، سواء كان في الإرادة أو في اللفظ أو في الحروف، أو في الصحيفة، أو في الخارج، و كلّ شيء يراد فهو جمع في الإرادة، فإذا قيل فهو جمع في اللفظ، و إذا كتب فهو جمع في الصحيفة. و إن أنشئ خارجا فهو جمع في الاتحاد، و إذا عمل به فهو جمع في الخارج.

فالجامع في الجميع هو النظم و الجمع.

و قد استعمل الكتاب بتمام هذه الاستعمالات في القرآن الكريم، كما وردت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن العظيم، و في خصوص لفظ (الكتاب) في أكثر من مأتي مورد، و تستعمل في المعارف المعنوية و الشؤون الأخروية.

و الكتاب أخص من الصحيفة قال تعالى: صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة - 2]،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنزل اللّه مائة و أربعة كتب و أنزل منها على آدم (عليه السلام) عشر صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على أخنوخ - و هو إدريس - ثلاثين صحيفة، و هو أول من خطّ بالقلم. و على إبراهيم (عليه السلام) عشر صحف، و التوراة، و الإنجيل، و القرآن».

و المراد من الكتاب في المقام جنسه ليشمل الشرائع السماوية الخمسة المختصة بأولي العزم من الأنبياء: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام)، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى [الشورى - 13].

و يستفاد من هذه الآية المباركة بانضمام الآيات الأخرى أنّ نوحا أول من أتى بشريعة في كتاب سماوي متضمن لمنهاج إلهي يرشد إلى الصّلاح و يشمل من الأحكام و المعارف التي تهدي الإنسان إلى السعادة في الدّارين، كلّ شريعة بحسب ما يلائمها من الظروف و القابليات إلى أن انتهت إلى شريعة

ص: 264

خاتم الأنبياء الجامعة لجميع الشرائع الإلهية السابقة مع ما تختص بها من معارف ربوبية و أحكام إلهية.

و لا يستفاد من الآية أنّ لكلّ نبي كتابا مستقلا - كما عن بعض المفسرين - كما هو المعلوم من مثل هذا التعبير في المحاورات بل قصد منها أنّ النبيين يحكمون بالكتاب النازل من السّماء و لو كان نازلا على بعضهم، فيسمى من أنزل عليه الكتاب صاحب الشريعة و سائر الأنبياء إنّما يتبعون أحد هؤلاء، فإنّ النبوات السّماوية ذات مراتب متفاوتة، إما من جهة نفس النبيّ، و الأنبياء يختلفون في مرتبة الاستعداد الذاتي كاختلاف سائر أفراد الناس فيه، أو من جهة ما أمروا بالإنباء عنه فإنّه يختلف اختلافا كثيرا حسب المقتضيات و الظروف التي لا يحيط بها إلا اللّه عزّ و جل، أو من جهة الامة بعد اتفاق الجميع في الإنباء عن المبدأ و المعاد و بعض المستقلاّت العقلية. فالآية تشمل كلا القسمين من الأنبياء (عليهم السلام).

و قوله تعالى بِالْحَقِّ يصح تعلقه بالكتاب كما يصح تعلقه بالنزول للتلازم بين حقيقة النزول و حقيقة الكتاب، فإذا تعلّق بأحدهما يستلزم التعلق بالآخر.

و إنّما وصف سبحانه الكتاب بالحق لأجل إعلام الناس بأنّ الأنبياء إنّما بعثوا و أنزل معهم الكتاب لبيان الحقّ و الهدى، فالقيد توضيحي أتي به تجليلا و تعظيما للكتاب السّماوي لا أن يكون احترازيّا، و له نظائر في القرآن الكريم تأتي الإشارة إليها.

قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ .

أي ليحكم الكتاب المنزل من اللّه تعالى المتضمن للشرع الإلهي. أو ليحكم اللّه عزّ و جل المنزل للكتاب بين جميع الناس. و لا فرق بين الوجهين بعد اعتبار الحكم مطلقا عند العقلاء بحسب الفطرة ففي العرف يقال: حكم القانون، أو حكم الجاعل للقانون.

و هذه الآية و ما في سياقها بيان لإحدى حكم و فوائد إنزال الكتب

ص: 265

السّماوية، و يدل عليه البرهان العقلي بالقول: بأنّ الاختلاف وجداني بين الناس و يجب رفعه في تنظيم النظام، و رفعه منحصر بالحكم بالحق فيجب الحكم بالحق لرفع الاختلاف بين الناس، سواء كان في أمور الحياة أو في غيرها مما يكون منشأه الجهل و الأهواء الباطلة.

و الحكم بين الناس بالحق من أهم الأمور النظامية، و بزواله و اختلافه يختل النظام، و لذلك اهتم الإسلام به و حصر الحكم و الحاكم في أربعة:

الأول: أن يكون الحاكم و الحكم كلّ منهما بالحق، و الحاكم يعلم أنّ حكمه حق، و هذا مطلوب للرّحمن و يكون مصيره إلى الجنان.

الثاني: أن يكون الحاكم فاقدا للشرائط و كان حكمه حقّا، و هذا مبغوض للرّحمن و مصيره إلى النّيران.

الثالث: الصورة السابقة مع كون حكمه باطلا و هذا أيضا مثل السابق بالأولى.

الرابع: أن يكون الحاكم جامعا للشرائط، و حكمه حق، و هو لا يعلم أنّه حق، و هو أيضا مبغوض و مصيره إلى النّار، كلّ ذلك لكثرة أهمية الحكم بالحق الذي هو من صفات اللّه تعالى و أعظم منصب من مناصب الأنبياء فلا وجه لأن يدنّس بما لا ينبغي أن ينسب إليهم (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، و قد ذكرنا بعض ما يتعلّق بالمقام في كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .

الاختلاف: هو التغاير في الجملة، و المتخالفين أعم من الضدين و المتناقضين لإمكان ارتفاعهما و اجتماعهما، و الثاني لا يمكن اجتماعهما و إن أمكن ارتفاعهما، و الأخير لا يمكن فيه ارتفاعهما و لا اجتماعهما. و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة.

و الاختلاف إما تكويني، كاختلاف الليل و النّهار، و اختلاف الألوان و الألسنة؛ أو اختياري ينتهي إلى الإرادة و هي تنتهي إلى خصوصيات

ص: 266

الاستعدادات الذاتية فتنتهي أخيرا إلى الذات، و هو ينتهي إلى القدرة الأزلية، و أشير إلى ذلك في قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [الروم - 22].

و لو قلنا بأنّ الاختلاف بين الناس في المقاصد و الغايات و سائر الفطريات لهم في الجملة مقهورة تحت إرادة الحي القيوم على نحو الاقتضاء لا العلية التامة لكان حسنا، و يترتب على ذلك أهم أمور النظام الأحسن و أعظمها، و يأتي شرح هذه الجمل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و مادة (بغي) تأتي بمعنى تجاوز الاقتصاد في ما هو قابل للتجاوز سواء تجاوز أم لا. و هو على أقسام: فتارة من الحق إلى الحق. و أخرى من الباطل إلى الحق، و هما ممدوحان. و ثالثة من الحق إلى الباطل. و رابعة من الباطل إلى الباطل، و هما مذمومان.

و يمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى: يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فهو بالمفهوم يدل على ثبوت البغي بالحق.

و المراد به في المقام القسمان الأخيران من الأقسام.

و قد تستعمل بمعنى أصل الطلب، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة كلّها بالنسبة إلى الناس، و لم أجد استعمالها بالنسبة إلى اللّه تعالى، و لا بالنسبة إلى أهل الآخرة فيها، سواء كان في النعيم أو في الجحيم.

و المعنى: إنّ الاختلاف إنّما حصل من حملة الكتاب العالمين به بغيا منهم و تجاوزا فحرّفوا كتاب اللّه تعالى و ضيّعوه و تعدّوا حدوده.

و يستفاد من قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ أنّ الاختلاف الحاصل في الكتاب و الشريعة لا يكون إلا من حملة الكتاب الذين قد استبانت لهم الآيات، و هم الأصل في الاختلاف الواقع في الأديان الإلهيّة و أنّ غيرهم و إن كانوا على الخلاف، و لكنّهم منحرفون عن الصّراط و ليسوا بغاة، و يشهد لذلك

ص: 267

الاختلاف في كلّ علم فإنّه يكون من العالمين به دون غيرهم ممن لا علم له به.

كما يستفاد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ أنّ الكتاب إنّما نزل لرفع الاختلاف و التوفيق بين الناس و إسعادهم بما فيه من الحجج الواضحة و البراهين القويمة، و لكن يشوب الحق أهواء العالمين به و أغراضهم الفاسدة و زيغهم بتحريف الكتاب أو تأويله بما لا يرتضيه عزّ و جل، أو بتبديل آياته، أو الأخذ بمتشابهاته و الإعراض عن محكماته.

و من مجموع الآية المباركة يستفاد أنّ الدّين المنزل من اللّه تعالى لا اختلاف فيه، و هو موافق للفطرة التي لا تلبيس فيها، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها [الروم - 30]، و الاختلاف إنّما يكون من غيره عزّ و جل الحاصل بين علماء الكتاب و حملته من بعد علم، و لذا يكون من بغي و هو تعالى لا يعذر الباغي في الدّين، و أما غيره ممن انحرف عن الدّين فقد يعذره إن اشتبه عليه و لم يستطع حيلة، و على ذلك دلّت آيات كثيرة قال تعالى: إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الشورى - 42].

قوله تعالى: فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ .

مادة (أذن) تأتي بمعنى الإرادة و المشيئة، و قد استعملت فيهما في القرآن الكريم فيما يقرب من عشرين موردا. و يلزمهما العلم، و لا ريب في أنّ الإرادة و المشيئة أخص من العلم، قال تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ [البقرة - 102]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ [النساء - 64]، أي بإرادة اللّه و أمره. و قال تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّهِ [آل عمران - 49]، و قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ [البقرة - 339]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و الآية في مقام بيان الإيمان الحق الذي لا اختلاف فيه واقعا إلا اختلاف حصل من بغي حملة الكتاب.

ص: 268

و المعنى: إنّ اللّه تعالى هدى الّذين آمنوا في مورد اختلاف الناس في الحق الّذي هو الدّين و المعارف الإلهية بعلمه و إرادته، فالهداية الحقيقية التي هي أشرف المقامات الإنسانية و أجلّ المعارج العرفانيّة تنتهي إليه جلّت عظمته على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية التامة ليلزم الإلجاء و الجبر، فإنّ اللّه تعالى لا يجبر أحدا على الإيمان و الهداية و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

و يستفاد من الآية المباركة: أنّ للّه تعالى أفرادا من الناس في كلّ أمة لهم قابلية الهداية و الاهتداء إلى الحق و هم المؤمنون الذين لا يؤثر فيهم اختلاف الناس في الحق. بهم ينوّر اللّه السّبيل، و قد أفنوا حياتهم في سبيل اللّه تعالى، و هم في سكون و اطمئنان و سائر الناس في اختلاف و اضطراب، و بهم تتم الحجة على العباد.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

أي: يهدي و يوصل - على سبيل الاقتضاء - من أراد من عباده إلى الواقع الذي هو الصراط المستقيم كما مر.

ص: 269

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ الآية المباركة تدل على أنّ الفطرة الإنسانية و إن كانت سبب الاتحاد في برهة من الدّهر إلا أنّها غير كافية في رفع الاختلاف و التنافر بين الناس. و الدّين المنزل من اللّه تعالى المتضمن لمنهاج الأمة في الحياة.

و المتكفّل لجميع شؤون الإنسان في الدّارين هو السبب الوحيد لرفع الاختلاف و التنافر و الاضطراب، و أنّه يوجب سكون النفس و اطمينان القلب و الاستفادة مما أودعه اللّه تعالى في الإنسان من الفطرة و العقل، و في الأرض من الوسائل بأحسن وجه و هو الذي يوجب الاتحاد بين أفراد الناس.

الثاني: أنّ الأديان الإلهية التي جاءت في سبيل سعادة الإنسان في الدّارين تختلف في الكمالات حسب مقتضيات الظروف، فكلّ دين لا حق أكمل من سابقه إلى أن ينتهي إلى خاتم الأديان فإنّه يستوعب جميع احتياجات الإنسان و قوانينه أكمل القوانين. و لا كمال فوق ما جاء به خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله)، و لذا ختم سبحانه و تعالى النبوة بما جاء به (صلّى اللّه عليه و آله).

الثالث: يستفاد من الآية الشريفة أنّ حكمة إرسال الرسل و بعث الأنبياء

ص: 270

(عليهم السلام) إنّما هي تكميل الإنسان و بيان سبل السعادة له و رفع الاختلاف الذي هو من غرائز الإنسان بعد أن لم يتمكن العقل و الفطرة بانفرادهما بتوجيه الإنسان إلى ذلك، و قد خلق اللّه تعالى الإنسان و هو يحب الكمال و يسير نحو الاستكمال، و اللّه تعالى هو الذي اعتنى بهداية كلّ شيء إلى تمام خلقه و كماله المعدّ له، قال تعالى: رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه - 50]، و لا شيء أكمل من أن يهتدي الإنسان إلى سعادته و كماله في الدنيا و العقبى، فهو يرسل الرسل و الأنبياء لتكميل الإنسان و جلب السعادة له.

الرابع: تعلق المشيئة بهداية عبد من عباده غير معلوم لغيره تعالى، فلا يمكن أن يحيط بالخصوصيات غيره جلّت عظمته، و كذا بالنسبة إلى تعلق المشيئة بضلالة أحد من عباده.

الخامس: يستفاد من الاقتصار على الصّراط المستقيم في قوله تعالى:

وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أنّه هو الهداية الحقيقية الأبدية التي لا نفاد لها، و أنّه أعلى مراتب الهداية، بل هو الغاية القصوى لكلّ مؤمن، و هو أعظم و سام يمنحه اللّه عزّ و جل لمن يشاء من عباده يتعزّز به في الدنيا و يرفع به إلى الدّرجات العليا في العقبى، و قد ذكرنا ما يتعلّق به في سورة الحمد، فراجع.

و ذكر لفظ (من) الظاهر في ذوي العقول من باب التغليب لا الحصر.

السادس: الحكم نحو من الإيجاد و هو إما خارجي أو اعتباري و في قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ هو الثاني، و الإيجادي منه يختص باللّه جلّت عظمته، و هو يشمل جميع الموجودات بجواهرها و أعراضها و مجرداتها، فإن جميع مخلوقاته تحت حكمه الشامل للسّماوات و الأرض. و أما التشريعي ففي القرآن الكريم و السنة الشريفة منه شيء كثير.

ص: 271

بحث روائي

في تفسير العياشي عن يعقوب بن شعيب عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ . قال (عليه السلام): «كان هذا قبل نوح أمة واحدة فبدا للّه فأرسل الرسل قبل نوح. قلت: أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟ قال (عليه السلام):

بل كانوا ضلاّلا كانوا لا مؤمنين و لا كافرين و لا مشركين».

أقول: الظاهر أنّ في

قوله (عليه السلام): «فأرسل الرسل قبل نوح»، إجمالا لا سيّما بعد ملاحظة صدر الرّواية و ما يأتي من الرّوايات فإن أمكن حمله على محمل صحيح، و إلا يردّ علمه إلى أهله.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «فبدا للّه» هو إظهار المخفي، كما يأتي شرحه في قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [الرّعد - 39].

كما أنّ المراد من

قوله (عليه السلام): «بل كانوا ضلاّلا» أي عدم إعمال فطرتهم بما أراده اللّه تعالى لا الضّلالة في أصل الفطرة حتى يناسب

قوله (عليه السلام): «كانوا لا مؤمنين و لا كافرين و لا مشركين» و ما يأتي من الروايات.

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ . قال (عليه السلام):

ص: 272

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ . قال (عليه السلام):

«كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلاّلا فبعث اللّه النبيين».

أقول: هذا موافق للأمر التكويني لعدم تشعب الأفكار، بل كانوا على سذاجة الفطرة لا مهتدين بالهداية التشريعية، و لا ضلاّلا بضلالة الكفر، لعدم إتمام الحجة بالرسل و عدم حدوثها بعد فلما بعث اللّه الرسل و أتم الحجة بهم اختلفوا و تفرقوا.

و في تفسير العياشي عن مسعدة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ قال (عليه السلام): «كان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال (عليه السلام):

بل كانوا ضلاّلا، و ذلك أنّه لما انقرض آدم و صالح ذريته و بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين اللّه الذي كان عليه آدم و صالح ذريته. و ذلك أنّ قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل فسار فيهم بالتقية و الكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالا حتّى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، و لحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد اللّه، فبدا للّه تعالى أن يبعث الرسل، و لو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنّما هو شيء يحكم به اللّه في كلّ عام ثم قرأ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فيحكم اللّه تبارك و تعالى: ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك. قلت: أ فضلاّلا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال (عليه السلام): لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة اللّه التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق اللّه، و لم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم اللّه، أما تسمع لقول إبراهيم: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ أي ناسيا للميثاق».

أقول: هذه الرّواية تجمع بين ما دلّ على أنّهم كانوا قبل نوح ضلاّلا، و ما دلّ على أنّهم لم يكونوا كذلك، فيكون المراد بالضلال أي عدم فعلية دعوة الرسل الإلهية فيهم. و سيأتي شرح البداء و ما قيل من أنّه قد فرغ من الأمر في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 273

و في تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام): «كان ما بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمي من استعلن من الأنبياء - الحديث -».

أقول: إنّ الوجه في كونهم مستخفين عدم صلاحية الظروف لإظهار الدّعوة، كما عرفت في الرواية السابقة.

و في نهج البلاغة قال (عليه السلام) في خطبة له يذكر فيها خلق آدم (عليه السلام): «و أهبطه إلى دار البلية، و تناسل الذرية، و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم و على تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم، فجهلوا حقه، و اتخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول، و يروهم الآيات المقدّرة - الخطبة -».

أقول: إنّ هذه الخطبة تشتمل على حكمة بعث الأنبياء و إرسال الرسل (عليهم السلام) و أنّهم يدعون إلى الفطرة الإنسانية كما أنّ الفطرة تدعو إليهم أيضا، فهم مع الفطرة متلازمان في الواقع، و لكنّ الفطرة بوجودها الوجداني لا تكفي في نوع الإنسان للداعوية فلا بد من تكميلها بحجة خارجية، و هي الأنبياء و الرسل، كما ذكرناه في البحث الفلسفي.

و

قوله (عليه السلام): «و اجتالتهم الشياطين» أي استخفتهم فجالوا معهم في الضّلال.

و قوله (عليه السلام) «ليستأدوهم» أي يؤدّي لهم الأنبياء ميثاق الفطرة، و سيأتي إن شاء اللّه في الموضع المناسب شرح الخطبة الجليلة.

و في التوحيد عن هشام بن الحكم قال: «سأل الزنديق أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقال: فمن أين أثبتّ أنبياء و رسلا؟ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): إنّا لما أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، و لا أن يلامسه و لا يلامسهم، و لا يباشرهم

ص: 274

و لا يباشروه، و لا يحاجهم و لا يحاجوه فثبت أنّ له سفراء في خلقه و عباده يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما فيه بقاؤهم و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، و ثبت عند ذلك أنّ له معبّرين و هم الأنبياء و صفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم و على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة و الدّلائل و البراهين و الشواهد: من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص، فلا تخلو أرض اللّه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرّسول و وجوب عدالته».

أقول: حديث شريف يبيّن احتياج الناس إلى النبوة و وجوبها في الخلق و بيان ارتباط الخلق مع الخالق.

و يتضمّن الحديث ما يجب أن يتصف به الأنبياء، و لزوم كون الأنبياء مظهرين للمعجزة في الخلق ليكون ذلك علامة على أنّهم بعثوا من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة، و أنّه لا يمكن خلوّ الناس من أول خلقهم إلى آخر فنائهم عن حجة للّه تعالى عليهم إمّا ظاهرة أو مستورة خفية، لعدم استعداد الظروف لظهورها. و كل ما ورد في الحديث الشريف مطابق للآيات القرآنية و الشواهد العقلية، كما ستعرف في المحلّ المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 275

بحث فلسفي

إنّ موضوع النبوة مطلقا من الموضوعات العامة التي ترتبط بالإنسان من جميع جهاته من نشأته إلى مماته، و برزخه و خلوده، و من حيث حياته الفردية و الاجتماعية، و من حيث ارتباطه مع الخالق العظيم و مع الخلق، و من حيث سعادته و شقاوته، و بالجملة إنّ لها تأثيرا مباشرا في كمال الإنسان، و لها ارتباط وثيق بالنفس الإنسانية و قد بحث عنها في غير واحد من العلوم كعلمي الفلسفة و الكلام، و علوم الدّين.

و قد اعتنى اللّه تبارك و تعالى بها اعتناء بليغا، فأرسل الرسل و بعث الأنبياء و أنزل الكتب مع ما أودع في فطرة الإنسان من حب الكمال و السّعي إلى الصّلاح، و ما ألهمه من العقل الذي يدعوه إلى الاستكمال بالحق اعتقادا و عملا، و لكن كلّ ذلك لن يقدر على النّهوض إلا مع الانضمام بالنبوة، كما ستعرف.

و هي بالإضافة إلى أنّها تبليغ للأحكام الإلهية و المعارف الربوبية إنّها أهمّ وسيلة لتربية الإنسان وفق النظام الأحسن و أعظم سبيل لتثبيت تلك المعارف و الأحكام في النفس الإنسانية لأنّ لها ارتباطا قريبا بها من حيث إنّها توجب رسوخ تلك المعارف و العلوم في النفس فتحدث ملكات تصدر عنها أعمال ترتسم بموجبها في النفس صور فيكتسب بها كمالات تعيّن لها طريق

ص: 276

السعادة و القرب من اللّه تعالى.

و بالعكس لو كانت تلك الملكات هي مجموعة صور عن الأعمال الفاسدة و العلوم الباطلة فتوجب الشقاوة و البعد عن اللّه تعالى.

و لا ريب في أنّ تلك الملكات تحصل من الأفعال الاختيارية التي تصدر من شعور نفسي كامن في الإنسان أنّه يسعى إلى الكمال و أنّ له مبدءا فياضا يفيض عليه بما يليق به من الكمال لأنّ وصول ذلك الكمال إلى المرتبة الفعلية و تبديل القوة إلى الفعل بحسب اختياره فإن كانت تلك الملكات و الأعمال صحيحة و فاضلة توجب السعادة و إلا فالشقاوة و البوار، و لا يمكن أن يدفع هذا الشعور الباطني في الإنسان إلا اعتقاد الصلاح و الفساد الذي يكون منشأ للنبوة العامة.

فتكون سعادة السعداء و شقاوة الأشقياء دخيلتين في نظام العالم، لأنّ الإنسان أعظم المخلوقات و أفضل الموجودات، فهذا الموجود العجيب الذي خلق لأجله ما في البرّ و البحر، و سخّر اللّه له الليل و النّهار، فهو بوجوده النوعي غاية الخليقة، و لم يبارك اللّه جلّت عظمته على نفسه في جميع مخلوقاته بمثل ما بارك في خلق هذه الجوهرة الثمينة و الدّرّة اليتيمة، فهو مع ذلك كلّه معرض الكون و الفساد، و تزاحم الأضداد، و إهمال تربية مثل هذا الموجود العظيم يكون نقضا في النظام الأحسن. و هذا الأمر الفطري الوجداني هو منشأ التشريعات السّماوية، و إرسال الرّسل و بعث الأنبياء، و يمكن تسمية ذلك بقاعدة اللطف كما سماه أهل الفلسفة و الكلام. و لا بأس بذلك إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

هذه خلاصة الدّليل العقلي للنبوة العامة، و ينطبق على النبوة الخاصة أيضا.

قد يقال: إنّ في ذلك تعطيل العقل الذي أودعه اللّه تعالى في الإنسان و شرّفه به على جميع من عداه، فإنّ العقل بانفراده يكون كافيا للدّاعوية في السّير إلى الاستكمال، فلا يحتاج إلى النبوة و الخلافة الإلهية.

ص: 277

و لكنّه باطل: لأنّ العقل لو كان بمجرده من دون أن تشوبه الأفكار المادية و الإحساسات الناشئة من القوى الشهوية و الغضبية، لكان كافيا فإنّه نور إلهيّ. و لكن أنّى يكون مثل هذا. نعم، هو بالقوة أما الذي موجود بالفعل فهو مشوب بالأفكار المادية و الإحساسات الشهوية و الغضبية، فلا يمكن له النهوض مستقلا إلا بتأييد غيبي إلهي، و يدلنا على ذلك الأقوام الجاهلية الهمجية و البربرية فإنّهم من أفراد الإنسان و فيهم العقل، و مع ذلك هم أقرب إلى الحيوان في تصرفاتهم.

مع أنّه يمكن أن نقول بأنّ الاستكمالات إن كانت دنيوية فقط أمكن القول بالاكتفاء بالعقل، و أما الاستكمالات المعنوية التي توجب سعادة الدّارين فهي لا بد أن تكون من المبادئ السّماوية، و العقل بدونها لا يكفي.

فالكمال إما دنيوي أي للدنيا و في الدنيا، أو أخروي أي في الدنيا للآخرة، أو هما معا أي لهما في الدنيا. و لو فرض الاكتفاء بالعقل فإنّما هو في القسم الأول فقط، دون الأخيرين اللذين هما الكمال الحقيقي الذي يطلبه الإنسان بالفطرة، و هو لا يمكن طلبه إلا بتأييد إلهي. و أما الأول فهو كمال جسماني ناقص.

ثم إنّ النبوة العامة التي جاءت لتكميل الإنسان و هدايته، ليست على نحو العلية التامة بحيث يكون لها فعلية التأثير في الفرد و المجتمعات الإنسانية حتى يستشكل بأنّ النبوة ليست إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة، لكثرة ما نرى من الشقاء و الخلاف في أفراد الإنسان.

لأنّ النبوة كسائر ما يدعو الإنسان إلى الكمال هي من قبيل المقتضي إنّما تؤثر إذا رفعت الموانع و الحجب و وظيفة النبوة إنّما هي إراءة الطريق و إنزال المعارف و الأحكام التي لها تأثير مباشر في النفس الإنسانية و تثبت بالأعمال الصالحة و الأفعال المرضية صفات و ملكات راسخة تصدر عنها الأعمال و تورث مع الأجيال، فهي كاشفة عن أخلاق الفرد و صفاته هذا بالنسبة إلى الفرد.

ص: 278

و أما بالنسبة إلى المجتمع فهو إنّما يصلح بصلاح أفراده، و هذا مما لا يمكن إنكاره، و ما وصلت الإنسانية إلى ما نراه في الوقت الحاضر من الانحطاط و سوء الأخلاق و الشقاء إلا بإهمال الدّين و الأخلاق الفاضلة و المعارف الحقة.

هذا بالنسبة إلى أصل النبوة التي تقرن بالوحي الذي هو محاورة بين الموحي و الموحى إليه تتعلّق بما يريده اللّه تعالى من عباده.

و أما عدد الأنبياء و المرسلين فإنّ الوارد في القرآن الكريم أنّهم كثيرون مختلفون في الفضل قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة - 253]، و لم يذكر لهم عددا معينا، و لم يقصص القرآن عن جميعهم، و إنّما قص عن بعضهم قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [المؤمن - 78].

فقد عدّ اللّه تعالى في كتابه الكريم خمسة و عشرين منهم، و هم: آدم، و نوح، و إدريس، و هود، و صالح، و إبراهيم، و لوط، و إسماعيل، و اليسع، و ذو الكفل، و إلياس، و يونس، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و شعيب، و موسى، و هارون، و داود، و سليمان، و زكريا، و يحيى، و إسماعيل صادق الوعد، و عيسى، و محمد (صلوات اللّه عليهم أجمعين). و ذكر تعالى بعضهم بالكناية و التوصيف، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً [البقرة - 246]، و قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة - 259]، و قال تعالى: وَ اَلْأَسْباطِ [البقرة - 136]، و قال تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً [الكهف - 65]، و قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [يس - 14].

و أما الأحاديث الواردة في عددهم فهي مختلفة، و المشهور أنّ عددهم مائة و أربعة و عشرون ألف نبيّ،

ففي الحديث عن أبي ذر عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ الأنبياء مائة و أربعة و عشرون الف نبي، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر نبيا».

ص: 279

و أما أولو العزم منهم فهم خمسة - و هم سادات الأنبياء - نوح، و إبراهيم و موسى، و عيسى، و محمد (صلوات اللّه عليهم)، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [الأحقاف - 35]، و لكلّ واحد من هؤلاء شريعة، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى [الشورى - 13].

كما أنّ لكلّ واحد منهم كتابا، قال تعالى: إِنَّ هذا لَفِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى [الأعلى - 19]، و قال تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ [المائدة - 46].

و المراد باولي العزم: أولو الثبات و الاستقامة فيما عهد إليهم مما أمرهم اللّه تعالى به و نهاهم عنه، و تبليغ ذلك إلى الأمة، أي الاستقامة في الدّين بالدّين و للدّين بوحي سماوي، قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب - 7].

ص: 280

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِل.......

اشارة

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اَللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ (214) كلام في غاية البلاغة، و خطاب في منتهى الفصاحة، يقرع الأسماع بجواهر لفظه، و يشدّ القلوب بآثار وعظه، و أجلى بيان لشرح سنة اللّه تعالى الجارية في الأمم من أنّه لا يمكن الحصول على المقصود و لا الظفر بالمطلوب إلا بعد بذل غاية الجهد، و لا يتحقق الانتصار إلا بعد الصبر و الاصطبار، و مقاساة الهموم و الشدائد، و الآية مرتبطة بالآيات السابقة من حيث إنّها تثبت ما ورد فيها، فقد دلت على لطف اللّه تعالى بالناس أن بعث إليهم الأنبياء و المرسلين ليرشدوهم إلى الكمال و السعادة، و ذكر تعالى هنا أنّ ذلك لا يتم و لا ينال الفوز و الصّلاح إلا بعد الجهد و مقاساة الهموم و الشدائد و الثبات و المصابرة حتّى يأتيهم النصر.

ص: 281

التفسير

214 - قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ .

(أم) هنا منقطعة تفيد الإضراب بمعنى بل. و (الحسبان): مجرد الوهم بلا تصوّر لخصوصيات الموضوع حتى يؤخذ بالراجح منها.

و الخطاب لمن هداه اللّه تعالى إلى الإيمان، و هم المسلمون الذين أمرهم اللّه عزّ و جل بالدّخول في السّلم و عدم اتباع خطوات الشيطان فإنّ في ذلك سعادة الدّارين، كما أمرهم بالاعتبار من أحوال الماضين الذين بدّلوا ما أنعم اللّه عليهم كفرا فحلّ عليهم غضب من ربّهم.

و في الآية تثبيت لما ورد في الآيات السابقة، و بيان لها بأنّ ما ذكر فيها لا يتحقق و لا يمكن الوصول إلى ما يريده ربّ العالمين و الدّخول في الجنة التي وعد المؤمنين بها إلا بالثبات و المصابرة و التسليم و الرضا.

و هي تبيّن حكما فطريّا عقليّا بني عليه صلاح الفرد و النوع، و المجتمع - بل هو عادة الطبيعة أيضا - و هو أنّه لا يمكن الفوز بالمقصود و الوصول إلى المطلوب إلا بعد العمل و بذل الجهد، و أنّ الأجر على قدر المشقة، فكلّما عظم المقصود اشتد السعي و الجهود، و يستحيل في السنّة الطبيعية حصول الثمرة من دون غرس الشجرة، كما يستحيل الأخذ بالنتائج و الغايات إلا بعد تحصيل المقدمات.

ص: 282

و في الآية التفات من الغيبة إلى خطاب المؤمنين بعد ما نزّلوا منزلة الغيبة في أول الكلام، و العدول عنهم في أثنائه ثم الرجوع إليهم بالخطاب معهم، و ذلك لوجوه بلاغية.

قوله تعالى: وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ .

المثل - بكسر الميم و سكون الثاء، أو بفتحتين -، كالشّبه و الشّبه، و هو وصف الشيء و بيان نعوته التي توضحه، و تضرب الأمثال للامتحان و الابتلاء.

و مادة (خ ل و) تستعمل في المكان و الزمان. و إذا استعملت في الثاني تكون بمعنى المضيّ، و الذهاب، و الانقضاء، قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ [آل عمران - 144]، و قال تعالى: وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاتُ [الرعد - 6]، و قال تعالى: سُنَّتَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر - 85]، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و كذلك في السنة المقدّسة

ففي الحديث «إنّ اللّه تعالى خلو من خلقه، و خلقه خلو منه». و المراد به المباينة لا العزلة، كما فسر في أحاديث أخرى.

و المعنى: يا أيّها المؤمنون كيف تتوهمون و تطمعون أن تدخلوا الجنة و لما يجر عليكم ما جرى على الصالحين من قبلكم في شؤون دينهم و دنياهم، فإنّكم تبتلون و تمتحنون بمثل ما جرى على الغابرين فإنّ الطريق المسلوك واحد، فكلّما جرى على السالكين الواصلين إلى المطلوب يجري على اللاحقين لوحدة المبدأ، و الغاية، و السلوك.

و في الآية تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه مما كانوا يلاقونه من المشركين المعاندين من صروف البلاء و أنواع الأذى.

قوله تعالى: مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا .

بيان للمثل الذي ذكره سبحانه فيما تقدم.

و (المس): هو اللمس إلا أنّ الثاني أعم من الأول، لأنّه لا يقال في

ص: 283

المس إلا و الممسوس معه، بخلاف الثاني فإنّه يصح أن يقال: لمسته فما وجدته.

و التعبير به في المقام لبيان أنّ البأساء و الضرّاء لم يعرضا عليهم فقط بل أصابتاهم و مستا و ذاقوا شدائدهما فصبر المؤمنون و ثبتوا على دينهم و لم يهنوا.

و (البأساء): ضدّ النّعماء، و هي ما يصيب الإنسان في غير نفسه من أنحاء الأذى. و (الضرّاء): ضدّ السرّاء، و هي ما يصيب الإنسان في نفسه، كالقتل و الجرح و نحوهما. و (الزلزلة) هي الاضطراب الشديد، و تضاعف حروف لفظها يشهد على تضاعف معناها، و لم ترد هذه الهيئة في القرآن الكريم إلا في ستة مواضع كلّها تدل على الشدّة و الاضطراب العظيم، سواء أ كان في الدنيا أم في الآخرة، قال تعالى: هُنالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً [الأحزاب - 11]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ [الحج - 1].

قوله تعالى: حَتّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اَللّهِ .

أي: أنّ الرسول و المؤمنين مع ثباتهم و صبرهم على تحمل المكاره و الأذى، و إحاطة أعداء اللّه تعالى بهم و وقوعهم في الاضطراب و الهول الشديدين يفزعون إلى اللّه تعالى، يطلبون منه النصرة، و يستمدّون منه عزّ و جلّ العون، و يستنزلون رحمته.

و قوله تعالى: مَتى نَصْرُ اَللّهِ مقول قول المرتبطين مع اللّه تعالى من الرسول و المؤمنين دعاء منهم و استنصارا للحق، و رغبة منهم في إظهار دين اللّه عزّ و جلّ، و النصرة على الأعداء.

و يصح أن يكون مقول المؤمنين لرسولهم، أو يكون مقولهم للّه تعالى، و يجوز أن يكون بالاختلاف.

و في الآية إرشاد للمؤمنين إلى أن يكونوا مثلهم في الصّبر و تحمّل الأذى و الفزع إليه عزّ و جلّ.

ص: 284

قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ .

جملة مستأنفة لا تتمة لمقول الرسول و الذين آمنوا معه. و وعد من اللّه تعالى لهم بالبشرى بالنصر و قربه منهم، كما وعد عزّ و جلّ به في آيات أخرى، قال تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ [الصّافات - 171-172].

و لفظ (ألا) - بالفتح -: يفتتح به الكلام للتنبيه و الإعلام، يؤتى به للإشعار بعظمة الكلام و أهميته، و في المقام لا شيء أهم و أعظم من قرب نصر اللّه تعالى لأهل البلاء و المحن، كما في قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس - 62].

ص: 285

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: تدل الآية الشريفة على دوام الابتلاء و الامتحان في الأمم و جريانهما وفق السنة الإلهية، و لا يستثنى من ذلك قوم و لا أمة.

و تدل أيضا على تكرار الحوادث و ما جرى على الأمم الغابرة، و هو المعبّر عنه بعود التاريخ و تكراره.

الثاني: أنّ تمنّي الجنة بدون تحمّل متاعب التكليف و مشاقه في مرضاة اللّه من اللغو الباطل، و من جوامع

كلمات نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«حفّت الجنة بالمكاره». و يمكن أن يجعل ذلك من القواعد العقلية من باب ملازمة المعلول للعلة التامة، و عدم انفكاكه عنها.

الثالث: أنّ تمنّي النّصر من اللّه جلّت عظمته عند تناهي الشدّة لا يكون منافيا للشكر و التسليم، و الرضا بالقضاء، لفرض أنّ الجميع منه تعالى و إليه عزّ و جلّ. و من ذلك يعلم أنّه لا يضرّ بمقام الرسول لو طلب من اللّه تعالى النّصر مع علمه بوعده عزّ و جلّ له به، فإنّ الرسل يطلبون من اللّه تعالى دائما النّصر بلسان الحال أو المقال.

ص: 286

الرابع: يدل قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ على أنّ عند شدة البلاء يكون النّصر، و تدل عليه أحاديث من السنة الشريفة منها

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «عند تناهي الشدة يكون الفرج».

الخامس: لم يذكر سبحانه درجات الجنة و مقاماتها لعدم تناهيها و لأنّها تختلف باختلاف مراتب المبتلين بالبأساء و الضّرّاء.

و إذا كان هذا حال من أراد الوصول إلى الجنان فكيف حال من أراد الوصول إلى ساحة الرّحمن و ظهور تجلياته عزّ و جلّ فالطريق يكون أصعب، و الامتحان أشد، فلا بد من ترك ما سواه و التوجه إلى من لا يقصد الملأ الأعلى إلا إياه، و التفاني في حبّ اللّه تعالى، و مراقبة النفس في جميع الأحوال.

ألاحظه في كلّ شيء رأيته *** و أدعوه سرّا بالمنى فيجيب

ملأت به سمعي و قلبي و ناظري و كلّي و أجزائي فأين يغيب

السادس: إنّ قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ يتضمّن قاعدة عقلية عرفانية، و هي محبة الخالق لخلقه، و المعبود الحيّ القيوم لعباده، و استباق العلّة التامة لمعلولها، و تربيبه العظيم لجميع جهات العبد بذاته و أعراضه، و قد أثبت أهل الفلسفة العملية أنّ هذا الشوق تكويني، كما فصّلوا ذلك في مباحث النفس، و شرح المقام يأتي في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

ص: 287

بحث أدبي

ص: 288

الثاني: أنّ «لمّا» تنفي مع توقع الحصول، و «لم» لنفي المنقطع، و قد ذكروه في المقام.

الثالث: أنّ «لمّا» للنفي المستمر إلى الحال، و منفي «لم» يحتمل الاتصال.

الرابع: أنّ منفيّ «لمّا» لا يكون إلا قريبا من الحال و لا يشترط ذلك في منفيّ «لم».

الخامس: أنّ منفيّ «لمّا» جائز الحذف لدليل و لا يجوز ذلك في منفيّ «لم».

ص: 289

بحث روائي

ذكر الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ .

نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد و الشدّة و الحرّ (و الخوف) و البرد، و سوء العيش و أنواع الأذى، و كان كما قال اللّه تعالى:

وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَناجِرَ [الأحزاب - 10].

أقول: هذا من باب التطبيق و بيان بعض الصغريات و إلا فحكم الآية عامّ إلى قيام الساعة.

ص: 290

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) هذه الآية تبيّن حكما من الأحكام الاجتماعية النظامية التي يتقوّم بها نظام المعاش و المعاد، فقد بينت أصل الإنفاق و ما ينفق به، و من ينفق عليه. و هي مرتبطة بالآيات السابقة من حيث إنّها جميعا ترشد الإنسان إلى ما هو السبيل في سعادته، و توطئة لما يأتي من الآيات الواردة في الجهاد من حيث إنّ بذل المال كبذل النفس من علامات الإيمان، فمن وطّن نفسه على بذل المال هان عليه بذل النفس في سبيل اللّه تعالى.

ص: 291

التفسير

215 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ .

(الإنفاق) من المعاني المعروفة بين الناس. و أصله النقل و التبديل. سواء كان بالعوض - كما في المعاوضات - أو بدونه - كما في المجانيات لأغراض صحيحة أم فاسدة. في سبيل الدّنيا أم الآخرة. فالكل إنفاق إلا أنّ بعض المذكورات ممدوح و بعضها مذموم. و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات شتّى.

و السؤال يعرض لكلّ مؤمن يريد معرفة تكاليفه الشرعية، و منها أصل الإنفاق و جنسه، و من ينفق عليه، و سائر خصوصياته، لئلا يكون هدرا و باطلا.

و قد ورد مثل هذا السؤال في خمسة عشر موردا في القرآن العظيم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ [الأنفال - 1]، و قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ [البقرة - 219]، و في جميعها ترغيب للناس إلى السؤال عن الأحكام، و تحريض لهم بالاهتمام في رفع الجهل و إعلان بأنّ السؤال من الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) سؤال من اللّه تعالى، و إبلاغ بأنّ معلّم النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و مربيه هو اللّه عزّ و جلّ، و لذا عقّب سبحانه في جميع تلك الموارد بجملة قُلْ . و قد تقدم في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ [البقرة - 189] بعض ما ينفع المقام.

ص: 292

و السؤال و إن كان لمعرفة جنس ما ينفق و نوعه، فإنّ (ما) إنّما تكون لمعرفة حقيقة الشيء، سواء بالمعنى المنطقي أم بالمعنى العرفي الذي تنزّل عليه الخطابات القرآنية. و لكنّ الجواب عام يشمل جنس ما ينفق، و من ينفق عليه، لأنّ الخير يتضمن جميع جوانب الموضوع و خصوصياته زمانا و مكانا و صفة. فإنّ الخير ما كان محبوبا عقلا و شرعا. و الحرام و المشتبه لا يكونان كذلك، فقد ورد في السنة الشريفة أنّ الإنفاق منهما يكون إثما و زورا على المنفق، و هو مستفاد من هذه الآية الشريفة، فإنّ السنة شارحة للقرآن العظيم الذي هو الأصل لجميع المعارف الإلهية، و لو ظهر القرآن في صورة التكثرات فإنّه يظهر في السنة المقدّسة. و لو تجلّت السنة الشريفة في الصورة الوحدانية لتجلّت في الصورة القرآنية. و الجميع شروق غيبي على العقل الكلّي المجرّد، و تجلّ إلهي في عالمي الملك و الملكوت حصل لسعادة الإنسان و لتكميل العقول الناقصة.

و من ذلك يعلم: أنّ الجواب لم يكن تحويلا لجواب آخر، بل كان جوابا شاملا لما كان يقصد السائلون معرفته، و ما هو الأفضل لهم و هو من ينفق عليه، فأجمل سبحانه في الأول لشمول لفظ الخير للجميع من الأعيان و المنافع و الانتقاعات و غير ذلك. و فصّل في الثاني لأجل الاهتمام به.

و يظهر مما تقدم: أنّ ما ذكره المفسرون في المقام لا يخلو من مناقشة واضحة.

قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ .

(الخير) مقابل الشر، و هما يتصفان بالحقيقية و الإضافية، و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم. و يطلق على ذات المبدأ جلّت عظمته، و كلّ ما هو في صراطه و طريقه و مضاف إليه حتّى الخلود في الجنة، فهو من أعم الأشياء لفظا و معنى. كما أنّ الشر يطلق على ذات الشيطان، و كلّ ما في سبيله و يضاف إليه إلى الخلود في النار، و قد جمعهما

عليّ (عليه السلام) في كلمته المباركة: «ما خير بخير بعده النّار و ما شرّ بشرّ بعده الجنّة و كلّ نعيم دون الجنّة فهو محقور و كلّ بلاء دون النّار عافية».

ص: 293

و لم يعين سبحانه الخير هنا لأنّه يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الأمم، فكلّ ما هو خير عرفا داخل في هذه الآية ما لم يرد نهي شرعي في البين.

و المعنى: قل في جوابهم ما يظهر لهم خصوصيات الموضوع، فيعرفون ما ينفقونه و هو ما كان خيرا لوجه اللّه تعالى يرجع نفعه للمنفق و المنفق عليه، و يعرفون مواضعه حتى لا يكون الإنفاق في غير موضعه تضييعا للمال و تترتب عليه المفاسد.

قوله تعالى: فَلِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ .

(اليتم) في الإنسان: انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، و في الحيوان عن أمه، و كلّ متفرد في نوعه يتيم، يقال: درة يتيمة. و ابن السبيل المنقطع عن ماله. و المساكين الفقراء.

و قدّم سبحانه الوالدين لأنّهما أقرب الناس، و لما تحمّلا من المشاق في التربية، و قد تقدم في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ [البقرة - 177]، ما يتعلّق بالمقام فراجع.

ثم إنّ الإنفاق ينقسم حسب التكاليف الخمسة الشرعية، فهو إما واجب كالزكاة، و الخمس، و الكفارات، و الفدية. أو مندوب كالهدايا و العطيات و نحوهما مما هو كثير. أو مكروه، كالإنفاق على الأجنبي مع وجود ذي رحم محتاج، أو الإنفاق على البعيد مع احتياج الجار و فقره، و عدم المانع من الدفع إليهما في البين أو حرام، كالإنفاق بالأموال المحرّمة أو المشتبهة في ما إذا وجب الاحتياط و الاجتناب عن أطراف الشبهة، و هي كثيرة. أو مباح، كالإنفاق للتوسعة من غير الحقوق الواجبة على فقير عنده ما يكفيه لضروريات معاشه.

و التفصيل مذكور في كتب الأحاديث و الفقه.

قوله تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ .

وعد من اللّه تعالى بالجزاء على الخير الصادر من كلّ فاعل، و إعلام بأنّه لا يغيب عنه فهو محفوظ عنه لا يذهب هدرا باطلا بل يجازي عليه بالجزاء الأوفى.

ص: 294

و إنّما ذكر سبحانه الخير مع أنّه عالم بجميع ما يصدر عن الإنسان من خير و شر، قال تعالى: وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [التوبة - 16] للاهتمام به، و كثرة العناية به مطلقا.

و الآية مع إيجازها تشتمل على الخير، و ثمرته، و علم اللّه تعالى به، و جزائه عليه، و ذلك لأنّ الخير محبوب له، و هو عالم بصدوره و محبته لشيء تكون جزاء حسنا له.

و يستفاد من هذه الآية أمور:

الأول: ترغيب الناس في فعل الخير، و الاستكثار منه، لغرض أنّه في علم اللّه تعالى لا يغيب عنه.

الثاني: الإيماء إلى كون الإنفاق و فعل الخير ينبغي أن يكون بعيدا عن الرياء و الشرك، و المنة و جميع أنحاء الشر، فإنّ الإنسان إذا استحضر عند فعله الخير علم اللّه تعالى به خلص عمله.

الثالث: عدم احتقار اليسير من المال في الإنفاق، فإنّ المناط كله خيرية الإنفاق و محبوبيته عند اللّه تعالى و عند الناس قال تعالى: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ [آل عمران - 92]، و لذا استبدل عزّ و جل الإنفاق في صدر الآية و ذيلها بالخير و فعله.

الرابع: يستفاد من إطلاق هذه الآية و أمثالها أنّ ذات الخير محبوبة له عزّ و جل، سواء قصد في فعله القربة أم لا، نعم، لا بد أن يكون خالصا من أنحاء الشر، كما ذكرنا.

ص: 295

بحث روائي

في المجمع في الآية أنّها نزلت في عمرو بن الجموح، و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول اللّه بماذا أتصدّق؟ و على من أتصدّق؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

و في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان مثله.

أقول: السؤال و إن كان عن أصل الإنفاق و من ينفق عليه، و لكن لا وجه لتخصيص ظاهر الآية بذلك بعد صحة إرادة جميع خصوصيات الإنفاق، كما ذكرنا.

و في الدر المنثور عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ . فذلك النفقة في التطوع، و الزكاة سوى ذلك كلّه.

أقول: يجري فيه ما تقدّم في سابقه. و يأتي أنّ الآية شاملة لجميع أقسام الإنفاق واجبا كان أو غيره بحسب ما فسّرت في السنة فلا وجه للتخصيص، كما لا وجه للنسخ.

و في الدّر المنثور أيضا عن السدي قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن

ص: 296

زكاة، و هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، و الصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

أقول: لا نسبة بين هذه الآية و بين آية الزكاة، إلا أن يراد من النسخ شيء آخر.

ص: 297

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ.......

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّهِ وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) بعد أن ذكر سبحانه في الآية المتقدمة بذل المال في سبيل اللّه فكان توطئة لهذه الآيات الواردة في الجهاد في سبيل نصرة الدّين، و بذل النفس لإعلاء الحق، و قد ذكر عزّ و جل بعض الاعتراضات على هذا التكليف الجديد، و بيّن أنّ الفتنة في الدّين أكبر من القتل، و به أجاب عن اعتراض المعترضين، ثم ذكر أنّ صراع الحق مع الباطل قائم لا بد من إزالته، و أنّ الارتداد عن الدّين يوجب الحبط و الخلود في النار، كما أنّ الاستقامة في الدّين و الجهاد في سبيله يكون موجبا للدخول في رحمة اللّه و غفرانه.

ص: 298

التفسير

216 - قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .

الكتابة هنا: تأتي بمعنى المفرض و الوجوب، و الضمير يرجع إلى المسلمين سوى من خرج بالدّليل، كما يأتي.

و المراد بالقتال: الجهاد مع الكفار و قتالهم و محاربتهم.

و الكره: عدم الرغبة إلى الشيء في مقابل الرغبة إليه، و يصح اجتماعهما في شيء واحد باعتبارين فيقال: إنّي أرغب إلى هذا الشيء و أكرهه من حيث إنّ الشرع أو العقل ذمه. أو يقال: إنّي أكرهه و لا أرغب فيه من حيث الطبع، و أرغب إليه من حيث إنّ العقل أو الشرع مدحه، و المقام من قبيل ذلك فإنّه مكروه من حيث الطبع و مرغوب من حيث الشرع، و ذيل الآية الشريفة يبيّن ما قلناه.

و قيل: إنّ الكره - بالضم - ما كان فيه مشقة ذاتا، - و بالفتح - تحميل المشقة على الإنسان من الغير فالحقيقة واحدة و الفرق بالاعتبار قال تعالى:

لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً [النساء - 18]، و قال تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصّلت - 11]، و لا بأس بذلك، و هو من محسنات الكلام.

و قيل: إنّ الكره - بالضم و بالفتح - واحد حقيقة، كالضّعف و الضّعف.

ص: 299

ابن جحش أصحابه أن ينزلوا و يحلقوا رؤوسهم، فنزلوا فحلقوا رؤوسهم فقال ابن الحضرمي: هؤلاء قوم عبّاد ليس علينا منهم بأس فلما اطمأنوا و وضعوا السّلاح حمل عليهم عبد اللّه بن جحش، فقتل ابن الحضرمي و أفلت أصحابه و أخذوا العير بما فيها و ساقوها إلى المدينة و كان ذلك في أول يوم من رجب من أشهر الحرم، فعزلوا العير، و ما كان عليها فلم ينالوا منها شيئا، فكتبت قريش إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّك استحللت الشهر الحرام، و سفكت فيه الدم، و أخذت المال و أكثروا القول في هذه، و جاء أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقالوا: يا رسول اللّه أ يحلّ القتل في الشهر الحرام؟ فأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ - الآية. قال: القتال في الشهر الحرام عظيم و لكن الذي فعلت قريش بك يا محمد من الصدّ عن المسجد الحرام، و الكفر باللّه، و إخراجك منها هو أكبر عند اللّه، و الفتنة يعني الكفر باللّه أكبر من القتل».

أقول: روي في المجمع قريب منه، و الروايات في ذلك كثيرة.

و في الدر المنثور: أخرج ابن إسحاق. و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و البيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عبد اللّه بن جحش إلى نخلة، فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش و لم يأمره بقتال و ذلك في الشهر الحرام، و كتب له كتابا قبل أن يعمله أنّه يسير، فقال: أخرج أنت و أصحابك حتّى إذا سرت يومين فافتح كتابك و انظر فيه، فما أمرتك به فامض له، و لا تستكرهنّ أحدا من أصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم.

فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمع و طاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإنّي ماض لأمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و من كره ذلك منكم فليرجع، فإنّ رسول اللّه قد نهاني أن أستكره منكم أحدا، فمضى معه القوم حتّى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص، و عتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلّفا عليه يطلبانه، و مضى القوم حتى نزلوا

ص: 300

نخلة، فمرّ بهم عمرو بن الحضرمي و الحكم بن كيسان، و عثمان و المغيرة بن عبد اللّه معهم تجارة قد مرّوا بها من الطائف أدم و زيت، فلما رآهم القوم أشرف عليهم واقد بن عبد اللّه، و كان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم منه بأس، و ائتمر القوم بهم أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو آخر يوم من جمادى، فقالوا: لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم في الشهر الحرام و لئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعنّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد اللّه التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، و استأسر عثمان بن عبد اللّه، و الحكم بن كيسان و هرب المغيرة فأعجزهم، و استاقوا العير فقدموا بها على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال لهم: و اللّه ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول اللّه الأسيرين و العير فلم يأخذ منها شيئا، فلما قال لهم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما قال سقط في أيديهم، و ظنوا أن قد هلكوا و عنّفهم إخوانهم من المسلمين، و قالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمد الدم الحرام و أخذ المال، و أسر الرجال، و استحل الشهر الحرام، فأنزل اللّه في ذلك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ - الآية فلما نزل ذلك أخذ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) العير، و فدى الأسيرين.

فقال المسلمون: يا رسول اللّه أ تطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل اللّه:

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ . و كانوا ثمانية، و أميرهم التاسع عبد اللّه بن جحش.

أقول: الروايات في عدد السرية مختلفة ففي بعضها سبعة و أميرهم عبد اللّه بن جحش. كما أنّها مختلفة في السائلين، و قد ذكرنا أنّه يمكن أن يكون السؤال من المشركين و المسلمين، و يؤيده رواية تفسير القمي.

ص: 301

و قد ذكر في كون القتال كرها وجوه:

منها: أنّ القتل و القتال متضمن لفناء النفوس و التعرض للآلام، و ذهاب الأموال، و مفارقة الأهل و الأحبة، و ارتفاع الأمن و الرفاهية، و غير ذلك مما أوجب كراهية النفوس له و مشقته على الناس طبعا، و إن كان المؤمنون لا يرفضون ذلك من حيث إنّ اللّه تعالى أراد منهم ذلك و يشبه ذلك الدواء الذي يتناوله المريض فإنّه يرفضه بطبعه، و لكن من حيث إنّه يريد الصحة و الشفاء فإنّه يرغب إليه.

و منها: أنّ ذلك بالنسبة إلى بعض المؤمنين دون جميعهم، فإنّ اللّه تعالى مدح طائفة بالطاعة و الصدق و الاستقامة في الدّين، و عاتب طائفة أخرى بالتهاون و الزيغ و النفاق فنسب الكراهة إلى جميعهم باعتبار أنّ بعضهم كاره له، و هذا جار في معاتبة الأقوام و الأمم، كما هو ظاهر من الآيات القرآنية.

و منها: أنّ المؤمنين كانوا يكرهون القتال لأنّهم كانوا يخافون الغلبة للعدوّ الذي له من القوة و العدّة ما لم تكن للمسلمين، فلا يتم لصلاح الإسلام و المسلمين، فهم في الواقع يكرهون الاستعجال فيرون الأصلح فيه التأخير حتّى يتم لهم الاستعداد.

و منها: أنّ المؤمنين تربّوا بتربية القرآن و تخلّقوا بالأخلاق الفاضلة فامتازوا بالشفقة و الرحمة، فهم يكرهون القتال لكونه خلاف ذلك و الحق ما ذكرناه من أنّ القتال مع أعداء الدّين و المشركين من حيث كونه إزهاقا للروح و موجبا لتوارد الآلام و البعد عن الأوطان، و إفناء للأموال فهو مكروه للنفوس، و من حيث كونه مأمورا به و موجبا لإعلاء كلمة الحق و كون مآله الراحة الأبدية و إن اقترن بالهموم و الغموم الدنيوية، فهو محبوب للمؤمنين المخلصين في إيمانهم الراغبين في نصرة الإسلام و دين الحق. فحكم هذه الآية من الأحكام العقلية الواقعية.

قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ .

ص: 302

عسى في مثل هذه الآيات إنّما أتي بها بلحاظ حال المخاطب، فيصح الكلام حينئذ من دون عناية، كما يقول الأب الحكيم لولده: شاور في أمورك أهل النصيحة و الإخلاص عسى أن يكمل عقلك. و إن استعملت بلحاظ حال المتكلّم فلا بد أن تصرف عن معناها الحقيقي لاستحالة التمنّي و الترجي و الطمع بالنسبة إليه جلّت عظمته، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك فيما مرّ من الآيات.

و هذه الآية الكريمة و ما في سياقها تدل على أنّ ما وراء هذا العالم المادي الذي يدور مدار الأوهام و الخيال عالم آخر لا يكون فيه إلا الحقائق المتأصلة و الإدراك الصحيح المطابق للواقع، فربما يكون ما نزعمه خيرا في هذا العالم شرّا في ذلك العالم، و ربما يكون شرّا في هذا خيرا في ذاك، و قد ثبت ذلك بالأدلة العقلية أيضا، و أيدت بالتجارب الشخصية و النوعية، و لا معنى للاستكمال إلا ذلك.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

تأكيد لما تقدّم، و بيان لخطأ معتقدهم، فإنّه بعد أن ذكر ما تزلزل به جهلهم المركب و حصل لهم الشك في اعتقادهم و تصورهم أعقب سبحانه ذلك بأنّه عالم بحقائق الأمور و أثبت العلم المطلق و نفاه عنهم و أنّهم لا يعلمون إلا ما علّمهم اللّه تعالى، فلا بد من تسليم الأمر إليه.

و الآية تثبت العلم المطلق للّه عزّ و جل، و قد دلّت الأدلة العقلية و الشرعية عليه، فإنّ العلم الحقيقي إنّما هو فيما إذا كان علما بمبدإ الشيء، و غايته، و مادته، و صورته، و جميع عوارضه الشخصية. و تمام جهات استكماله و زمانه، و مكانه، و بقائه، و فنائه و ما يتعلق به، و ما يتفرّع عنه كلّ ذلك على نحو العلم الحضوري الفعلي الإحاطي و مثل ذلك محال بالنسبة إلى غيره جلّت عظمته، لأنّ الأشياء من أول حدوثها إلى آخر ما يتوارد عليها من الصور و الاستكمالات حاضرة لديه فعلا بلا تدرج وجودي، أو تخلل زمان في البين، فهي في هذا العالم كنقطة واحدة حاضرة لديه بلا تقدم و تأخر في البين.

ص: 303

و هذا هو الذي حيّر جميع الأفهام و زلت فيه الأقدام، مع كون العلم عين ذاته الأقدس فكيف يمكن أن يوجد مثل هذا العلم في غيره. مضافا إلى أنّ العلم الحضوري الحقيقي مختص به و علم ما سواه حصولي على مراتبه الكثيرة، مع أنّ غالب علوم ما سواه اعتقادي و هو أعم من الإحاطة الواقعية بحقيقة الشيء، و لذلك كلّه كان علمه عزّ و جل على الإطلاق، كما هو قوله عزّ و جلّ: «وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ،

و في بعض الدّعوات المأثورة:

«سبحانك تعلم وزن الظلمة و النور، سبحانك تعلم وزن الفيء و الهواء، سبحانك تعلم وزن الرّيح كم هي من مثقال ذرة، سبحانك تعلم عجيج الوحوش في الفلوات و معاصي العباد في الخلوات و أنين الحيتان في البحار الغامرات، سبحانك تعلم لمحات العيون و خطرات القلوب و خائنة الأعين و ما تخفي الصدور». و مبحث علمه عزّ و جل من المباحث الجليلة المهمة في علمي الفلسفة و الكلام، و سيأتي في الموضوع المناسب شرح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

217 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ .

جملة قتال فيه بدل اشتمال عن الشهر الحرام، لأنّ الزمان يشتمل على ما يقع فيه، و نظيره في المكان قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ اَلنّارِ ذاتِ اَلْوَقُودِ [البروج - 4].

و المعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام.

و إنّما وقع السؤال عن الشهر تعجبا من هتك حرمته، و إلا فإنّه كان لأجل القتال فيه.

و من مجموع السؤال و الجواب يستفاد أنّ حادثة وقعت في الشهر الحرام اقتضت هذا السؤال، و قد ورد في الروايات ما يبيّن تلك الحادثة، و يأتي في البحث الروائي ذكرها.

و السؤال يمكن أن يكون من المسلمين على سبيل الاستفهام، أو من المشركين على سبيل الإنكار.

ص: 304

قوله تعالى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ .

أي: قل في جوابهم إنّ القتال في الشهر الحرام كبير إثمه إن لم يعارضه ما هو أكبر منه، فإنّ ترك القتال في الشهر الحرام إنّما هو لأجل حرمة الشهر الحرام و احترام الناس له فإذا عارض ذلك ما هو أعظم و أكبر، كالفتنة من المشركين و الصد عن سبيل اللّه أو إذا ابتدأ المشركون بالقتال في الشهر الحرام فلا ريب في جواز قتالهم حينئذ. و كيف كان فالآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام.

قوله تعالى: وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّهِ .

هذه الآية وردت في ذم المشركين، و ذكر مطاعنهم و ما اقترفوه من الكبائر التي أوجب قتالهم، فذكر سبحانه أمورا أربعة:

الأول: الصدّ عن سبيل اللّه. و الصدّ يأتي بمعنى الصّرف و المنع، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ [النمل - 24]، و ربما يأتي بمعنى الانصراف أيضا، قال تعالى: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء - 61].

و غالب استعمال هذه الكلمة إنّما هو في الصّرف و المنع عن الحق و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و المراد من سبيل اللّه: عبادته و الدخول في دينه، و منه منع النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و من معه من المؤمنين عن دخول مكة المكرمة.

الثاني: الكفر باللّه جلّت عظمته.

الثالث: الصّد عن المسجد الحرام إذا كان عطف وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ على سبيل اللّه، فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام تأكيدا و تعظيما، و يصح العطف على الضمير في بِهِ ، أي كفر بالمسجد الحرام، لأنّ إلقاء احترام المسجد الحرام المجعول له كفر به شرعا.

ص: 305

الرابع: إخراج أهل المسجد منه، و هم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و المؤمنون. و هذه كلّها جرائم ارتكبها المشركون بحق النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و المؤمنين و الإسلام، و قد وصفها سبحانه بأنّها أكبر عند اللّه، يعني أنّه لو فرض أنّ قتال بعض أصحاب النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) للمشركين في الشهر الحرام وقع عن علم أو غير علم، فإنّ ما يصدر من المشركين من الجرائم و الجنايات أكبر عند اللّه تعالى.

و قوله عزّ و جل: أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّهِ خبر للمبتدءات الثلاثة في الجملة السابقة المعطوف بعضها على بعض.

قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ .

جملة مستأنفة تبيّن العلّة التي من أجلها شرع القتال مع المشركين.

يعني: إنّ ما أنتم عليه من الشرك الاعتقادي الموجب لكلّ فتنة و افتتان بين المسلمين أكبر و أعظم من القتل فلا يحق للمشركين الطعن في المؤمنين.

و لقد جاهد المشركون في افتتان المؤمنين عن دينهم بشتّى الأساليب من إلقاء الشبهات، و الدّعوة إلى الكفر، و التعذيب و غير ذلك.

قوله تعالى: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا .

بيان لحكم من أحكام الصراع بين الحق و الباطل الذي يظهر في كل عصر في مظاهر، و يتطوّر في كلّ دهر بأطوار، و هو من شعب معاداة الشيطان للرّحمن و الإنسان.

و فيه التفات إلى خطاب المسلمين لتحذيرهم و إرشادهم إلى عداوة المشركين لهم ما داموا على الإيمان. أي أنّ المشركين لا همّ لهم إلا أن يقاتلوكم ليردوكم عن دينكم، و هم يجهدون في ذلك غاية جهدهم و استطاعتهم.

و قوله عز و جل: إِنِ اِسْتَطاعُوا استبعاد لما يريدونه، و إيعاز إلى عدم

ص: 306

الوصول إلى غرضهم. و فيه إيماء إلى غاية جهدهم في ذلك. كما أنّ فيه البشرى بأنّهم لا يستطيعون مهما جهدوا في ذلك فإنّ الحق لا يزول فقد نزل من السّماء و له دولة، و إن كان للباطل جولة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الارتداد و الردة: الرجوع إلى الطريق الذي جاء منه، و الرّدّة في الدّين:

الرّجوع من الإيمان إلى الكفر.

و مادة (حبط) تأتي بمعنى الفساد و الهلاك و البطلان، و غالب استعمالاتها في القرآن إنّما هو بالنسبة إلى الآثار المترتبة على الأعمال في نظر الشرع، قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر - 65]، و قال تعالى:

أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ [آل عمران - 22].

و في الآية تهديد للمرتد، و من يرجع عن دينه إلى الكفر ببطلان أعماله في الدنيا من حيث الأحكام الظاهرية المترتبة على الإيمان، كحقن دمه و موالاة المؤمنين له، و غير ذلك. و في الآخرة باعتبار الجزاء و الثواب الأخروي لأنّه مشروط بالموافاة على الإيمان.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

تهديد آخر للمرتد بالخلود في النار لفرض تحقق الكفر، و الارتداد منه.

218 - قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا .

مادة (أمن) تأتي بمعنى الطمأنينة و زوال الخوف، و كذا الأمان و الأمانة، و قد تستعمل اسما، و الفارق القرائن. و هذه المادة في هذه الهيئة (آمنوا) استعملت في القرآن الكريم فيما يقرب من مأتين و ستين موردا غالبها مقرون بالمدح و الثناء لكثرة عناية اللّه تعالى بالمؤمنين.

و الهجرة تعني: مفارقة الإنسان غيره بالبدن أو اللسان، أو القلب و المهاجرة: متاركة الإنسان غيره، و لها درجات أعظمها المهاجرة من الباطل

ص: 307

إلى الحق، و من الشهوات إلى العقل، و من حضيض الحيوانية إلى الروح الإنسانية، و هي مورد دعوة الأنبياء، و ترغيب كتب السّماء،

و في الحديث «المهاجر من هجر المحرّمات» و يتصف بها حينئذ جميع الأنبياء و المرسلين و عباد اللّه الصالحين فإنّهم يهاجرون إلى ربّهم في جميع حالاتهم و شؤونهم.

و يكون مقصدهم من ذلك السّفر من الخلق إلى الحق، و غاية هذا السّفر هو التحلّي بأنوار الحق و التجلّي بنور العظمة على قلوبهم. و يدل على ذلك قوله تعالى حكاية عن نبيّه لوط (عليه السلام): إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ [العنكبوت - 26]، و هي من الهجرة إلى الجمال القدسي المطلق، و سرّ الكلّ مما تحقق و لم يتحقق.

و المراد به في المقام: الذين آمنوا و هاجروا من بلادهم لأجل إعلاء كلمة الحق، و القيام بنصرة الدّين.

و إنّما كرّر اَلَّذِينَ للعناية بالهجرة و الجهاد، و الاهتمام بهما.

قوله تعالى: وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

الجهاد و المجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، و هو على أقسام: مجاهدة العدو الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس الأمارة، و قد يعبّر عن الأخيرة بالجهاد الأكبر، كما ورد

في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال بعد الفراغ من بعض الغزوات: «فرغنا عن الجهاد الأصغر و عليكم بالجهاد الأكبر». و يتحقق باليد و اللسان،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «جاهدوا بألسنتكم كما تجاهدون بأيديكم».

و سبيل اللّه: كلّ ما أذن اللّه تعالى فيه، و يرجى ثوابه، و يبتغى رضوانه.

و الجهاد بمعناه العام - أي استفراغ الوسع في دفع الموانع عن الوصول إلى المقصود و المراد - من أعظم ما بني عليه نظام التكوين و من أهم أركان النظام الأحسن، فلو فرض عدم الجهاد و المجاهدة و المصابرة في سبيل المرام لاختل النظام و بطل الاستكمال بين الأنام مطلقا و لا يختص ذلك بالإنسان بل يعم الحيوان أيضا. فالوصول إلى المقامات العالية دنيوية كانت أو أخروية لا

ص: 308

يكون إلا بالمجاهدة، و قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم - 40]، و قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت - 69]، شرح لحقيقة ما عليه نظام العالم و بيان لواقع مصير بني آدم في النشأتين، و مرآة لما هو عليه في الحالتين، هذا في سلسلة الاستكمالات الاختيارية، و هكذا بالنسبة إلى سلسلة الاستكمالات التكوينية غير الاختيارية التي لا تتم إلا بالجهد الأكيد الشديد و لذا سمي هذا العالم بعالم التغيّر و الكون و الفساد، فالجهاد و المجاهدة داخلان في السلسلتين، و مصيرهما إلى اللّه تعالى: أَلا إِلَى اَللّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ و مبدؤهما هو اللّه عز و جل أيضا.

قوله تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ .

أولئك خبر للذين. أي إنّهم يطلبون رحمة اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و هي محيطة بهم بسبب أعمالهم الصالحة، فيكون طلبهم طلبا عمليّا لا مجرّد اعتقاد الرّجاء و الرّغبة إليه.

و يستفاد من هذه الآية أنّ رحمة اللّه لا تنال إلا بالعمل الصالح و المجاهدة في مرضاته.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تثبيت لرجائهم، و وعد منه عزّ و جل بتحقق رجائهم. أي: و اللّه يغفر لهم سيئاتهم السابقة، و رحيم بهم من حيث أعمالهم الصالحة.

ص: 309

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: لم يذكر الفاعل في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ لأنّ خفاءه أنسب صونا له من الهتك و الاستخفاف إذا نسب المكتوب الذي هو مورد الكراهة إليه.

الثاني: إنّما كرر عَسى في قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ لأجل أنّ القتال مورد كراهة المؤمنين، و السّلم مورد محبتهم. فأعلمهم سبحانه بأنّهم مخطئون في الموردين، و لو ذكره سبحانه مرّة واحدة لما أفاد ذلك.

الثالث: تدل هذه الآيات و ما في سياقها على أنّ معاشرة الكفار مع المسلمين قد توجب زوال أصل الدّين، فضلا عن المسامحة و التساهل في الالتزام بأحكام الإسلام.

الرابع: يدل قوله تعالى: فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ على أنّ الحبط مشروط بالموت على الكفر، فتكون الأقسام أربعة:

1 - إمّا أن يكون مؤمنا و يموت على إيمانه و لم يلبس إيمانه بظلم، فهو

ص: 310

من أهل الجنة و يستحق الثواب الدائم.

2 - و إمّا أن يكون كافرا و يموت على الكفر فهو من أهل النار.

3 - و إمّا أن يكون قد خلط عملا صالحا و آخر سيئا، فإن وفّق للتوبة يكون من أهل الجنة.

4 - و إن لم يوفق للتوبة فإمّا أن يستحق ثواب إيمانه أولا، و الثاني باطل بالأدلة الشرعية و العقلية، فيتعيّن الأول، و حينئذ فإمّا أن يثاب ثم يعاقب، و هو باطل إجماعا، أو يعاقب ثم يثاب بالجنة، و هو صحيح، للنصوص الدالة عليه.

فلا موضوع للإحباط و الموازنة الكليتين. نعم لا بأس بهما في الجملة.

هذا إجمال الكلام، و يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيهما.

الخامس: يدل قوله تعالى: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ أنّ الحبط إنّما يكون بالنسبة إلى الأعمال و آثارها، ففي الدنيا يحكم على المرتد بكفره و موته، و تبين منه زوجته، و تعتدّ عدة الوفاة، و تقسّم أمواله بين ورثته، و لا توبة له بالنسبة إلى هذه الأربعة، و أما بالنسبة إلى غيرها فالمحققون من الفقهاء على قبول توبته، و أما بالنسبة إلى الآخرة فلا ثواب له و مأواه النار، هذا حال المرتد الفطري. و أما الملّي فله أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ أنّ سبب القتال مع المشركين إنّما هو الفتنة و الافتتان في الدّين، و يرجع ذلك إلى تعاند الحق و الباطل الذي هو من الأمور العقلية، بل الفطرية و الشرعية. و المراد بالحق كلّ ما حققه اللّه جلّت عظمته، كما أنّ المراد بالباطل كلّ ما أبطله اللّه و هو تعالى عالم بهما و لا يخفى عليه شيء مما خلق. فلا بد من إحقاق الحق و إبطال الباطل، اللذين هما أساس النظام الأحسن، و يجب عقلا مراعاته، و يقبح إهماله، و هو محال بالنسبة إلى الحكيم جلّ جلاله لا سيّما إذا كان إحقاق الحق و إبطال الباطل بالنسبة إلى الحياة الأبدية للإنسان الذي هو أشرف

ص: 311

مخلوقاته عزّ و جل، و من أبرز مظاهر ذلك إزالة الشرك و الكفر و الجحود، التي هي من موجبات الفتنة في الدّين، و من أهم الموانع في إحقاق الحق، فيكون قتال المشركين من الواجبات العقلية النظامية.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ أنّ موضوع الرّجاء هو العمل الصالح، و إلا فلا أثر له بل يكون غرورا.

ص: 312

بحث روائي

في الدّر المنثور عن ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: يا ابن عباس ارض عن اللّه بما قدّر، و إن كان خلاف هواك، فإنّه متبت في كتاب اللّه، قلت: يا رسول اللّه فأين و قد قرأت القرآن؟! قال (صلّى اللّه عليه و آله): وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

أقول: الحديث مطابق لعموم الآية الشريفة و إطلاقها الشاملين للأمور الوضعية و التشريعية، و كلّ ما هو مقدّر. كما أنّ الحديث إرشاد إلى اختيار رضاء اللّه تعالى على رضى النّفس، فلا يستفاد منه أنّ عسى دالّة على الوجوب و الإلزام.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ - الآية -. «أنّه كان سبب نزولها أنّه لما هاجر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى المدينة بعث السرايا إلى الطرقات التي تدخل مكة تتعرّض لعير قريش، حتى بعث عبد اللّه بن جحش في نفر من أصحابه إلى نخلة، و هي بستان بني عامر ليأخذوا عير قريش حين أقبلت من الطائف عليها الزبيب و الأدم و الطعام، فوافوها و قد نزلت العير و فيهم عمرو بن عبد اللّه الحضرمي، و كان حليفا لعتبة بن ربيعة، فلما نظر الحضرمي إلى عبد اللّه بن جحش و أصحابه فزعوا و تهيّئوا للحرب، و قالوا: هؤلاء أصحاب محمد، فأمر عبد اللّه

ص: 313

بحث فقهي

ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدل على حرمة قتال المشركين في الشهر الحرام، و هو المشهور بين الإمامية، و يدل عليه مضافا إلى ما تقدم قوله تعالى: فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة - 5]، و بعض الروايات.

هذا هو الحكم الأولي، و لكن قد يعرض على ذلك ما يوجب رفع هذا الحكم و تبديله، لقاعدة تقديم الأهم على المهم، التي هي من القواعد العقلية المهمة، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ ، و لأجل ذلك قاتل الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) المشركين في ذي القعدة، لأنّ الذين قاتلهم الرسول ممن هتكوا حرمة الشهر و بدأوا بالقتال.

ثم إنّ الهجرة من الأمور الإضافية، و لها مراتب كثيرة كمية و كيفية، شدة و ضعفا، و قد ذكرنا أنواعها، و هي في اصطلاح الفقهاء الهجرة من بلاد الكفر، و قد بحثوا في وجوبها. و لكن ذكرنا في الفقه أنّ الهجرة عن المعصية أو للقيام بنصرة الدّين واجبة مطلقا.

و ما ورد من أنّه «لا هجرة بعد الفتح» إنّما هو بالنسبة إلى بعض أقسام الهجرة لا مطلقا.

كما أنّ الجهاد أيضا له مراتب كثيرة، فكلّ من ترك المعاصي و المشتبهات فهو مجاهد، و إلى ذلك يشير

ما ورد من أنّ «المؤمن مجاهد».

ص: 314

بحث فلسفي

تقدم أنّ قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ يشير إلى وجود عالم الحقائق التي لا تغيير فيها و لا تبديل، و هو بمعزل عن الأوهام و الخيالات النفسانية التي تتعلّق بما هو المحسوس و المأنوس من المادة و الماديات مع الغفلة عمّا وراء ذلك. فإذا تعلّق الحب و الكراهة بما هو قابل للتغيير و التبديل كانا متغيّرين فربّ شيء يكون خيرا في عالم المادة هو شرّ في عالم الواقع، و هكذا بالعكس. و على هذا يمكن تقسيم الحبّ و الكراهة في النفوس إلى أنواع:

الأول: ما إذا حصلا عن مباد وهمية خيالية، و في مثل ذلك لا يكونان إلا خيالا في خيال. و موطن هذا النوع إنّما هو الدّنيا بما هي دنيا، فتحصل المحبة و الكراهة في نفوس أهل الدّنيا بالوهم و الخيال من دون أن يكون لهما حقيقة و واقع، قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ [الحديد - 20].

كلّ ما في الكون و هم أو خيال *** أو عكوس في المرايا أو ظلال

و لو تأملت أحوال أهل الدنيا لا تجدها إلا كما ذكرناه.

ص: 315

الثاني: ما إذا حصلا من مباد عقلية اعتقادية لكنّها غير مبنية على كراهة اللّه عزّ و جل و رضائه، و يتحقق ذلك غالبا في العلوم النظرية، فإنّ المتأمل فيها يرى أنّ أحدهم يستدل على شيء بدليل عقلي، و يستدل الآخر بدليل عقلي آخر على نقيض الأول مع أنّ الواقع لا خلاف فيه و لا اختلاف، و أهل الشهود و العرفان يبطلون جميع ذلك و يجعلونه حجابا عن الوصول إلى الواقعيات.

إن قيل: على هذا لا وجه لاختلاف الفقهاء مع أنّ علمهم في الواقع و عن الواقع.

يقال: الاختلاف إنّما هو في كيفيات الاستظهار عن الواقع.

الثالث: ما إذا حصلا عن مباد عقلية مقررة بالشريعة الإلهية المحيطة بالجميع إحاطة واقعية، و هذا هو المناط فيما ينفع للآخرة بل الدنيا أيضا نفعا واقعيا لا وهميّا، و هذا النوع مبرّأ عن الاختلاف و التغيير.

و يمكن أن تكون الأمور تختلف باختلاف الأفراد بحسب ما ذكرنا، فإنّ بعضهم يعد القتال في سبيل اللّه تعالى سعادة ليست فوقها سعادة، و إنّ بعضهم يكرهونه لأجل أنّه فناء للنفوس و الأموال، كما ذكرنا.

ص: 316

بحث أخلاقي

الرجاء: فضيلة عالية، و له منزلة كريمة سامية، و من الأخلاق الفاضلة أمرنا بالتخلّق بها، و هو يورث المجاهدة بالأعمال و المواظبة على الطّاعات، و هو من دعائم الإيمان و ركائز الأعمال لا يليق إلا بمن كان مؤمنا مجاهدا، و قد اعتبره علماء الأخلاق و السلوك من جملة مقامات السّالكين و أحوال الطالبين.

بل هو من ملازمات الحياة التي لا ينفك عنها الإنسان، و بدونه لا يمكن الفوز بنعم الحياة، و لا الظفر بالعيش الهنيء. فهو و الرّغبة و الأمل من الأمور الدخيلة في نظام هذا العالم، فإنّ بالآمال يتقبل الإنسان المشكلات و يقتحم الصّعاب. و بالرغبات تقوم الأسواق و تتحقق أنواع التجارات، و بالأماني تقضى الحاجات و تقبل الطلبات، و بالرجاء يعمل الإنسان و يكافح في سبيل العيش و البقاء. و لنعم ما قيل:

أعلّل النّفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل

و بالجملة إنّ للرجاء أثرا كبيرا في حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية و له الأهمية الكبرى في الجانب التربوي و الدّيني له، مضافا إلى كونه من أركان الإيمان إذا كان متعلّقا باللّه تعالى. فإنّه يكشف عن عبودية صاحبه له عزّ و جل، و قوة معرفته به و خوفه منه، لأنّه يرجع إلى حسن الظن باللّه تعالى الذي هو مجمع جملة من الأخلاق الفاضلة، و لذا ورد الأمر به في كثير من الروايات.

فالرجاء يضاعف العزيمة، و يجعل صاحبه مثابرا على العمل بالصبر

ص: 317

و الثبات، و هو عامل من عوامل النصر و الغلبة، قال تعالى: وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء - 104].

و لقد ورد ذكر الرّجاء في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و اعتبره من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي للمؤمن أن يتحلّى بها، بل اعتبره من أجزاء الإيمان، قال تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف - 110]، و قد أدرجه الأنبياء و المرسلون (عليهم السلام) في جملة ما يدعون إليه، قال تعالى: وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت - 36]، و قد نوّه الجليل عزّ و جل بعظيم فضله حيث وعد المؤمنين الصالحين تحقيق رجائهم، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اَللّهِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر - 29]، و يعرف كمال أهميته أنّ الحرمان منه يعد عند اللّه تعالى استكبارا، قال تعالى: وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان - 21]، و قد أوعد من لا يرجو لقاء اللّه بعظيم العذاب، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اِطْمَأَنُّوا بِها وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يونس - 7]، كما أهمله عزّ و جل، قال تعالى: فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس - 11]، و لذلك كان اليأس - الذي هو ضد الرجاء - من المعاصي الكبيرة التي توجب البعد عن اللّه سبحانه، و الانحراف عن الصراط، قال تعالى: قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ * قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضّالُّونَ [الحجر - 55-56]، و قد ورد في السنة الشريفة أخبار كثيرة تبيّن فضله، يأتي ذكر بعضها في ضمن هذا البحث.

و لا تختص هذه الفضيلة بالإسلام بل يعتبر الرجاء ثانية الفضائل الثلاث عند المسيحيين، و هي الأمانة، و الرجاء، و المحبّة، و هو عندهم فضيلة عظمى

ص: 318

ينتظر بها أنواع النّعم في الدنيا، و السعادة في الآخرة.

ثم إنّ الرّجاء، و التمنّي، و الأمل و إن كانت مفاهيم مختلفة إلا أنّها في أصل الحقيقة واحدة، و الفرق بينها اعتباري فقط، فإنّ الأمل يطلق على رغبة ما هو مرضيّ و محمود، و التمنّي يطلق في المجهول المطلق و ما لم يعلم بحصول المتوقّع بل حتى مع استحالته أيضا بخلاف الرّجاء فإنّه يطلق في الأعم مما هو مرضيّ و محمود كما أنّه لا يطلق الا على انتظار المتوقع إذا حصل أكثر أسبابه، و لأجل ذلك كان الرّجاء ممدوحا و التمنّي مكروها،

ففي الحديث: «الأماني بضائع النّوكى» أي الحمقى.

فالرّجاء هو تعلّق النفس بما هو المحبوب عند تحقق أكثر أسبابه و لذا يرتاح القلب من انتظاره، لأنّ الإنسان يشتاق إلى حصول نتيجة عمله و ثمرة جهده.

قال الشاعر:

أمانيّ إن تحصل تكن غاية المنى *** و إلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

و قد اعتبر علماء الأخلاق الرجاء من العوامل الدّاعية إلى العمل، و يجعل صاحبه صبورا يتحمّل في سبيل تحقيق غرضه أنواع المشاق ذا عزيمة قوية، و الوجه في ذلك معلوم لأنّ العلم بالمراد تصوّرا و تصديقا من مقدّمات الإرادة، و بدونه لا يتحقق لها موضوع، كما ثبت في علم النفس، و لذا كان طلب المجهول المطلق محالا، و إذا حللنا ذلك بالدقة العقلية نرى أنّه ينحل إلى العلم بالمراد إجمالا، و التصديق بفائدته كذلك، و الرجاء بترتبها عليه و الخوف عما يوجب البعد عنه فيرغب إلى ارتفاعه و يرجو زواله، فيكون الرجاء و الخوف مأخوذين إجمالا في تحقيق الإرادة، بلا فرق في ذلك بين الأمور التشريعية و غيرها.

فيكون للرجاء و الخوف دخل في أصل الأعمال، و هما متلازمان و يتقابلان في الوجود و العدم، فإنّ الخوف عن عدمه يلزمه الرجاء و جودا، و اعتبرهما علماء الأخلاق جناحين يطير بهما المؤمنون إلى كلّ مقام محمود،

ص: 319

و مطيتين يقطع بهما العامل كلّ طريق مخوف حتى يصل إلى المطلوب. فهما جزءا إرادته، يكشفان عن شدة تعلّق صاحبهما بمتعلّقهما و محبته لهما، فكلّ حبّ مصحوب بالخوف و الرجاء، و على قدر تمكنه من قلب المحب يشتد خوفه و رجاؤه، فإنّ التطلع إلى رؤية المحبوب و رجاء ملاقاته يصحبهما توقع حدوث المكروه و لا أقلّ من احتمال صرفه عن رؤية المحبوب فيظلّ الإنسان دائما بين الخوف و الرّجاء، و هو يعيش بينهما امنا مطمئنّ النّفس إذا كانا متعلّقين باللّه تعالى، قال عزّ و جل: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء - 57]، و في الحديث «ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن - أي عند النزع - إلا أعطاه اللّه ما رجا و آمنه مما يخاف».

و مما ذكرنا يظهر أنّ حقيقة الرّجاء تتقوّم بأمور:

الأول: إنّه جزء من الإرادة في الإنسان التي بموجبها صارت أفعاله ذات قيمة أخلاقية.

الثاني: إنّه يتعلّق بما هو متوقع الحصول بعد ما مهد جميع أسبابه الاختيارية و لم يبق إلا الأسباب الخارجة عن الاختيار فيرجو تمهيدها و رفع الموانع عن تحقيق المرجو، و لأجل ذلك لا ينفك الرجاء عن العمل، و هذا مما أكد عليه القرآن الكريم في مواضع متعددة، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ [البقرة - 218]، أي إنّ الرجاء لا يليق إلا بهؤلاء فلا يستحقه غيرهم. و قال تعالى:

فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف - 110]، و لقد ذم الإسلام من يرجو الغفران بدون العمل و الإيمان، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا [الأعراف - 169]،

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «الأحمق من أتبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه الجنة».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قيل له: إنّ قوما من مواليك يلمّون بالمعاصي، و يقولون: نرجو، فقال (عليه السلام): «كذبوا ليسوا لنا بموال

ص: 320

أولئك قوم ترجحت بهم الأماني من رجا شيئا عمل له، و من خاف شيئا هرب منه»،

و عنه (عليه السلام) أيضا «لا يكون مؤمن مؤمنا حتّى يكون خائفا راجيا و لا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو».

فالرجاء لا بد أن يكون مقرونا بالعمل و مع فقده يكون غرورا، مثل من يلقي البذر في الأرض السبخة، و قد عزم على عدم تعهد الزرع بالسقي، و تنقية الأرض و هو يرجو جني الثمار من بذره، و هذا لا يكون إلا غرورا. بخلاف من ألقى البذر في أرض طيبة، و قد بنى على التعهد و التنقية و سوق الماء، و تحقيق كلّ ما هو داخل تحت اختياره في سبيل الحصول على الثمار من زرعه، ثم يرجو اللّه تعالى أن يدفع عن زرعه الحوادث و الصوارف فيكون رجاؤه محمودا، و كذا من يرجو اللّه تعالى و الدخول في رضوانه و رحمته لا بد له من الإيمان به، و متابعة أنبيائه، و تطهير القلب من الأخلاق الرذيلة و التحلّي بالأخلاق الفاضلة ثم التعهد بإتيان الطّاعات و ترك المعاصي و السيئات، فيرجو حسن الخاتمة و الثبات على الإيمان و المغفرة، و مثل هذا الرجاء يكون محمودا في نفسه و باعثا على القيام بما يقتضيه الإيمان و يوجب العزيمة في المؤمن و يجعله مثابرا على العمل.

الثالث: إنّ المرجو منه لا بد أن يكون أهلا لما يرجى منه و قادرا على الإجابة، و هو منحصر به عزّ و جل لأنّ غيره في معرض الزوال، و لأنّ عروض الحوادث و أسبابها الخفية غير معلومة لأحد إلا للّه تعالى.

نعم، حيث إنّ الدنيا دار الأسباب و لا تجري الأمور فيها إلا بأسبابها لا بد من تهيئة الأسباب الظاهرية و الجدّ و الاجتهاد فيها، و يرجى من اللّه رفع الموانع التي هي غير معلومة لنا، فانحصر الرجاء المطلق بالحيّ القيوم، لأنّ غيره يفنى و لا يدوم.

ثم إنّ للرجاء مراتب و درجات أعلاها ما إذا كان متعلّقا باللّه تعالى و بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و هذا هو الرجاء المحمود الذي مدحه القرآن الكريم و اعتبره أساس العمل الصالح و الإيمان الصحيح و موجبا للغفران و الارتقاء إلى الدّرجات العليا، بل ذكرنا أنّ الرجاء الحقيقي لا يكون إلا هذا و يكون

ص: 321

العمل مع هذا الرجاء أعلى من العمل مع الخوف، فإنّ مثل هذا الرجاء ينبئ عن عبودية صاحبه له عزّ و جل، و قوّة معرفته به، و خوفه منه، و يكشف عن محبة صاحبه للّه تعالى و على قدر قوّة المعرفة و شدّة الحب و الإخلاص تكون درجات الرّجاء و على ذلك يحمل ما ورد في القرآن الكريم من الاختلاف في ذكر المرجو، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب - 21]، و قال تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً [الكهف - 110]، و قال تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ [البقرة - 218]، و قال تعالى: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [العنكبوت - 36]، و قال تعالى: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر - 29].

ثم إنّ الرجاء - كسائر الفضائل - لا بد أن لا يخرج عما هو المطلوب و إلا كان مذموما، و هو الحد الوسط بين اليأس و القنوط و بين الرجاء بلا عمل.

و للرجاء فوائد و حكم ظاهرة في الدنيا و الآخرة، نذكر المهم منها:

منها: تمامية الإيمان و الخلوص و الإخلاص فيه و الحب للّه تعالى.

و منها: ظهور العبودية المحضة للّه تعالى على القلب و الجوارح، و إحساس الافتقار إليه عزّ و جل.

و منها: جعل صاحبه مثابرا على الجد و الاجتهاد.

و منها: حصول الاطمينان و السعادة، فإنّ الرجاء بالمبدأ القيوم الحيّ يؤثر في النفس و يبعد عنها القلق و الاضطراب، لأنّه يرى نفسه متعلّقة بالمبدأ القيوم الذي لا حدّ لقدرته و فضله، و لذا نرى أنّ المؤمنين الراجين أسعد الناس بالا و أبعدهم عن القلق و الاضطراب.

و منها: حصول المراقبة التي هي من أفضل مقامات الأولياء.

و منها: أنّه ارتباط معنوي و ذكر حالي للّه جلّت عظمته، في جميع الأحوال.

و منها: أنّه يرغب صاحبه على العمل و يحرّضه على الجهد و الاجتهاد

ص: 322

و يبعده عن التكاسل و التهاون.

و منها: أنّ العمل معه أقرب إلى القبول لأنّ اللّه يحب من عباده أن يرجوه و يسألوه من فضله، كما في الحديث.

و منها: محبوبية الرّاجين للّه تعالى عند الناس و توجه القلوب إليهم كما كان كذلك سيرة الأنبياء و الأولياء، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب - 21].

ص: 323

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض الأحكام الشرعية و التكاليف الإلهية التي لها دخل عظيم في تنظيم حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية كما أنّ لها تأثيرا كبيرا في تهذيب النفوس و إصلاح الأخلاق، فقد حرّم الخمر و الميسر اللذين يجلبان الشقاء و الدمار، ثم بيّن عزّ و جل أنّ الإنسان لا بد له أن يطلب في حياته العفو في جميع شؤونه. و أخيرا أمرهم بإصلاح أمر اليتامى الذين هم جزء من المجتمع الإنساني و الاعتناء بهم و تنظيم شؤونهم و المخالطة معهم و جعلهم إخوانهم فلا بد من مراعاة الأخوة معهم.

ص: 324

التفسير

219 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ .

تقدم الكلام في جملة يَسْئَلُونَكَ . و نزيد هنا أنّ هذه الجملة ذكرت في ستة مواضع متواليات ثلاث منها مع حرف العطف، و ثلاثة أخرى مفصولة بدونه.

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ التي مع العطف وقع السؤال فيها دفعة واحدة، و التي بدونه وقع السؤال فيها متفرّقا و في مجالس متعددة.

و مادة (خمر) تأتي بمعنى الستر، و سمي المسكر خمرا لأنّه يستر القوة العاقلة فلا تميّز بين الخير و الشر، و الحسن و القبيح. و منها الخمار لأنّه يستر رأس المرأة. و الخمرة هي السجادة الصغيرة سميت بذلك لأنّها تستر الوجه عن الأرض،

و في الحديث «كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يسجد على الخمرة».

و خمرت الإناء إذا غطيت رأسها. و الخمر: كلّ مايع مسكر، و يتخذ من أغلب الفواكه، و يختلف في درجات السكر.

و الميسر: هو القمار مشتق من اليسر، و هو وجوب الشيء لصاحبه أو من اليسر لسهولة اقتناء المال من غير مشقة، و يسمّى المقامر ياسرا. و أما كيفيته فإنّ له طرقا مختلفة في كلّ عصر بحسبه، و إن كان له عند العرب كيفية مشهورة.

و قد ذكر الخمر و الميسر في موارد متعددة من القرآن الكريم مقرونين بالشيطان و الإثم.

ص: 325

قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ .

الإثم و الأثام: هو العقاب، و ما يمنع عن الخير و الثواب، و لا يستعمل إلا فيما يوجب الشقاء و الحرمان، و يذهب السعادة و الإيمان.

و مادة (نفع) تأتي بمعنى ما يتوصل به إلى الخير، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و تستعمل في الدنيا و الآخرة قال تعالى:

لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ [النحل - 5]، و قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة - 119]، و إن كان ما يتوصل به شرّا فهو ضرّ، قال تعالى: وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً [الفرقان - 3]، و في العرف يستعمل النفع في المنافع المحرّمة أيضا، و كذا في اصطلاح الفقهاء، و هي ليست من الخير في شيء إلا أن يراد بالخير مطلق المنفعة و الانتفاع، كما هو الظاهر. فتتطابق اللغة و العرف و الاصطلاح.

و التنكير في الآية إشارة إلى هوان النفع و مجهوليته.

و قد ذكر العلماء مضار الخمر و الميسر و منافعهما، و صنفوا في ذلك كتبا كثيرة، و قد أثبتت التجارب صدق ما قاله القرآن الكريم في شأنهما.

قوله تعالى: وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما .

المراد من النفع: ما يقصده الناس و إن كان خياليا وهميا. و الآية تبيّن واقعهما بما لهما من الآثار في الدّنيا و الآخرة، لاشتمالهما على ما يضرّ الفرد و المجتمع، بل تأثيرهما في معيشة الإنسان و نسله في الدنيا و سوء العاقبة في الآخرة، فإذا كان الأمر كذلك فيهما فلا بد للمؤمن أن يترك الإثم الكبير فيهما.

و إنّما وصف سبحانه الإثم بالكبر دون الكثرة، لبيان عظمة الإثم و العقاب حتّى كأنّ النفع في مقابله يكون معدوما، و لذا أفرده عزّ و جل و لم يقل من منافعهما، لأنّ العدد لا تأثير له في الكبر.

و لم يصف سبحانه الإثم بالكبر إلا في الخمر و الميسر. نعم، وصف الشرك بالعظيم، قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء

ص: 326

- 48]، و لم يشك أحد في حرمة الشرك. و لعلّ ما ورد في السنة المستفيضة من جعل الخمر و الميسر من المعاصي الكبيرة مقتبس من هذه الآية الشريفة.

و من ذلك يعرف أنّ الآية الشريفة ظاهرة في التحريم، و لا ينبغي الشك في ذلك، و لو كان بضميمة قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ [الأعراف - 32]، فإنّ هذه الآية تدل على حرمة الإثم صريحا، و الخمر و الميسر من مصاديقه. و أما ما ذكره جمع من المفسرين من أنّ الآية لا تدل على حرمة الخمر صريحا، لأنّها تدل على أنّ فيهما الإثم و هو أعم من الحرمة، فلا يستفاد منها تشريع عام يطالب به جميع الأمة، و لذا كانت مورد اجتهاد الصحابة فترك الخمر بعضهم و لم يتركها آخرون، و كان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها حتّى نزل قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ [المائدة - 93]. فإنّ فساده واضح، لأنّ الآية نص في أنّ في الخمر و الميسر إثما، و الإثم بمعنى العقاب كما يظهر من موارد استعمالاته، قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء - 48]، و مجرد مقابلته للنفع في المقام لا يدل على كونه بمعنى الضرر، كما عرفت، فصرف الآية بالاجتهاد إلى غير ما هي نص فيه اجتهاد في مقابل النص، يضاف إلى ذلك أنّ آية المائدة التي نزلت بعد هذه الآية تدل على توبيخ شديد لمن هتك الحكم و استعمل الخمر و لا يكون ذلك إلا فيما هو محرّم مؤكد في الشريعة قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة - 92 - 93].

قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ .

مادة - (نفق) تأتي بمعنى المضيّ و النفاذ أي المضيّ من محل إلى محل آخر، و النفاذ من موضع و الوجدان في موضع آخر، و هي كثيرة الاستعمال في

ص: 327

القرآن الكريم بالنسبة إلى اللّه تعالى، و بالنسبة إلى العباد و تنقسم إلى الواجب و غيره، كما تعم المال و غيره، كالأخلاق الفاضلة و نحوها.

و مادة (عفو) في جميع استعمالاتها الكثيرة تتضمن معنى السهولة سواء كانت خالقيا أو خلقيا، و لعلّ من أعذبها قوله تعالى: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ [الأعراف - 199]، الذي هو مجمع الكمالات. و قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ [الشورى - 40]، و العفو من أسماء اللّه المقدّسة، لأن تدبير النظام الأحسن في الدنيا لا يتم إلا بذلك.

و المعنى: يسألونك عما يتعلّق بالإنفاق ذاتا و صفة، و صرفا، و مصرفا قل إنّه سهل عليكم، و منه الوسط لا الإفراط و لا التفريط و منه تقديم النّفس و ذوي القرابة، و منه نزاهة المنفق به عن الحرام و الشبهات، كما أن منه خلوص الإنفاق عن الرياء و المنة.

و من ذلك يعرف: أنّ جميع ما ذكره المفسرون من صغريات ما ذكرناه لا أن يكون من المعاني المتباينة، و كذا ما ورد في الأخبار على ما يأتي في البحث الروائي.

و ماذا من المبهمات، كما أثبته علماء الأدب تبعا للمحاورات، فيطلق على الذات، و الصّفات، و الحالات، و لا يختص بخصوص السؤال عن الذات لا سيّما بعد كون حسن الإنفاق بأصل الحال من الفطريات مع أنّ السائلين هم من العرب الذين تضرب بجود بعضهم الأمثال فيكون السؤال عن الجهات الخارجة عن الذات، و إنّما عبّر تعالى بهذا التعبير، لكونه أشمل و أجمع.

و قد كرر هذا السؤال في موردين أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ - الآية [البقرة - 215]، و قد بيّن سبحانه فيه المصرف. و لعلّ الوجه في ذلك بيان أهمية الإنفاق و الإيثار على النفس، فإن له التأثير الكبير في النظام الاجتماعي، و التكافل بين الأفراد و الاتحاد بينهم لا سيّما إذا كانوا محتاجين قد داهمهم الفقر و الحاجة، فيظهر أثر الإنفاق في وحدتهم و تماسكهم و عزّتهم، و كان ذلك ظاهرا في بدء الدّعوة

ص: 328

و أول الإسلام، و لأنّ الإنفاق يشوبه ما لا يرتضيه الرّب، و ما لا يليق بالإنفاق المحمود، فاقتضى ذلك تكراره و بيان الخصوصيات بكلمات جامعة تبيّن جميع جوانبه.

و في الآية روعة الأسلوب، و جمال في اللفظ و المعنى تؤثر في النفس فيرغب الإنسان عند سماعها إلى الإنفاق، و بذل المال، و اعتباره سهلا يسيرا و إن كان ما أنفق مالا كثيرا، و تحصل حالة انبساط للغني و الفقير، و الجواد و البخيل، و هي تدعو المنفق إلى إمعان النظر فيما ينفقه و المنفق عليه و أصل الإنفاق.

و سياق الآية مثل قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج - 78]، و قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [البقرة - 185].

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ .

الآيات جمع آية، و هي العلامة الظاهرة الملازمة لظهور شيء آخر، فإذا أدركت الآية أدرك ذلك الشيء أيضا. و بعبارة أخرى الآية دليل ظاهر لمدلول يظهر بها بعد إدراكها، كما هو شأن جميع العلل الإثباتية. و جميع ما في القرآن من الأحكام الإلهيّة و الآثار الوضعية علامات واضحة و أدلة قاطعة لمداليل تظهر بها بعد التأمل و التفكر. كما أنّ شعاع الشمس علامة لإثبات وجودها كذلك جميع الموجودات آيات كونية على وحدانية اللّه تعالى و حكمته و كماله.

و في كلّ شيء له آية *** تدل على أنّه واحد

و كتابه التشريعي مطابق لكتابه التكويني من هذه الجهة، فيكون جميع ما سواه من آيات جماله و جلاله و كبريائه، و العوالم في كتابه التكويني كسور القرآن في الكتاب التشريعي. و أما كتابه الأنفسي - أي الإنسان الكامل - الجامع بين كتابيه التكويني و التشريعي، ففيه من الآيات و الحكم ما لا يخفى.

ص: 329

و المعنى: بمثل هذا البيان و بهذا النحو من الحكمة يشرّع اللّه تعالى الأحكام و يبيّن الآيات التي تتعلّق بمصالح العباد و سعادتهم.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الظرف - في الدنيا و الآخرة - متعلق بقوله تعالى: تَتَفَكَّرُونَ . أي أنّ غاية تشريع الأحكام، و الحكمة في جعلها أنّها تجعلكم تستعملون عقولكم و تتفكرون في أمر الدّنيا و الآخرة و شؤونهما، و تعملون ما فيه صلاحكم في الدّارين.

و الفكر: قوة مودعة في الإنسان توجب العلم بما يراد، و بها امتاز عن سائر المخلوقات، و التفكر إعمال تلك القوة، و قد ورد في الكتاب العزيز و السنة الشريفة الاهتمام الكبير بإعمال هذه القوة التي هي من أعظم و ودائع اللّه جلّ جلاله في هذا العالم،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة». و سيأتي في الآيات المناسبة ما يتعلّق بذلك.

و في الآية حث للإنسان على البحث عن حقائق الموجودات و أسرار الطبيعة، و التفكر في أمور المبدأ و المعاد، و جميع ما هو مرتبط بمصالح الإنسان من حيث سعادته أو شقاوته و كشف المعارف و العلوم و ترغيب له في أن لا يأخذ شيئا إلا بعد التروّي و التفكر فيه.

ثم إنّه لم يرد في القرآن الكريم بالنسبة إلى الفكر المطلوب له تعالى إلا لفظ التفكر، و الغالب اقترانه بالآيات، و مثل هذا التأكيد لا ينبغي أن يكون مورده الزائل الفاني، و الحادث المتغيّر، بل يقصد القرآن من ذلك أن يستعمل الفكر فيما هو الأصلح و الأنفع للإنسان في الدنيا و الآخرة، و هو جميع العلوم و الأمور المرتبطة بالمبدأ و المعاد، فإنّ التفكر فيهما يدعو الإنسان إلى اختيار الطّريق المستقيم و ما هو سبب لنجاته من أهوال المعاد، كما يدعوه إلى اتباع رشده و الإيمان باللّه تعالى و ما أنزله على الأنبياء و المرسلين، و العمل بما هو الصّلاح له في الدّارين، و هذا هو التفكير الصحيح الذي تدعو إليه جميع

ص: 330

الكتب السّماوية و السنة الشريفة، و يأتي تفصيل هذا الإجمال بعد ذلك.

220 - قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ .

الآية تتضمن حكما من الأحكام الاجتماعية النظامية، و هو الاهتمام بشؤون اليتامى، فأمر سبحانه بالإصلاح لهم في جميع شؤونهم فإنّه من الخير المحبوب لدى الجميع، فيشمل إصلاح نفوسهم بالتربية و الأدب، و إصلاح أموالهم بالتنمية و التكثير، و إصلاح المعاشرة معهم، كلّ ذلك لإطلاق الآية الشريفة فإنّها تشمل جميع أنحاء الإصلاح في النفوس و الأموال و الأحوال.

و التنكير فيها يدل على أنّ هذا الإصلاح لا بد أن يكون واقعيا لا مجرّد الإصلاح الظاهري الادعائي فقط، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ .

و سياق الآية المتضمنة لنوع من التسهيل في أمر اليتامى حيث إنّها أجازت مخالطة اليتامى، و ذكر سبحانه في ذيلها: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يكشف عن أنّ الحكم في أمر اليتامى كان شديدا، و يدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء - 9]، و قوله تعالى: وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء - 2]، و من ذلك يظهر أنّ هذه الآية نزلت بعد تلك الآيات، و هذا مما يؤكده بعض الروايات كما سيأتي في البحث الروائي.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ .

عناية أخرى بأمر اليتامى حيث أمر الناس بالمخالطة معهم، و اعتبرها كمخالطة الأخ لأخيه، و ليس من شأن الأخوة ابتعاد بعضهم عن البعض.

و الآية تشير إلى أهم ركن من أركان الاجتماع الذي به تتحقق المساواة بين الأفراد، و هو الأخوة بينهم فإنّها إن تحقّقت في أي اجتماع جلبت الخير و السعادة لهم و الإخلاص بين أفراده مع الصفاء و حسن النيّة، و تجعل الفرد يشعر بأنّه يسعى إلى مصلحة المجتمع و هذه هي الأخوة الحقيقية التي نادى

ص: 331

بها الإسلام في قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات - 10]، و فيها تلغى الأنانية و ما يوجب فساد المجتمع من أنواع البغي و الظلم، كالاستعباد و الاستكبار و نحوهما، و بذلك تتحقق المعادلة بين جميع الأفراد و يعم الخير و السعادة بينهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ .

إعلام منه تعالى بأنّه لم يكل أمر اليتامى إلى الناس فقط بل جعل نفسه الأقدس مشرفا عليهم لعناية خاصة بهم، فقد بيّن عزّ و جل أنّه العالم بحقيقة الأمر و ما تضمره القلوب، و يميّز بين من قصد الإصلاح و من قصد الإفساد، فلا تفسدوا بالنسبة إلى اليتامى فإنّه يجازيكم على ذلك، و هذا من باب ذكر السبب و إرادة المسبب، و هذه الآية ترشد الناس إلى مراقبة النفس، و هي لا تتم إلا بمراقبة اللّه تعالى في الأعمال و النيات.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ .

مادة (عنت) تأتي بمعنى المشقة، و الهلاك، و الذلة، قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة - 128]، و قال تعالى:

وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ [طه - 111].

و المعنى: و لو شاء اللّه لأوقعكم في المشقة و الكلفة في أمر اليتامى و لكن ما جعل عليكم في الدّين من حرج، و هو يريد لعباده اليسر لا العسر، فلا يكلّفهم إلا بما يناسب حالهم فأباح مخالطتهم و المعاملة معهم معاملة الأخوة.

و هذه الآية تدل على أنّ في الحكم نوعا من التخفيف و التسهيل.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي إنّ اللّه قويّ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا راد لقضائه، حكيم في أفعاله يحكم وفق الحكمة، و يجري التكاليف على حكمة العدل و المصلحة.

و العزّة و الحكمة من صفات الذات و هي غير محدودة بحد أبدا، و هكذا الصفات الذاتية.

ص: 332

بحوث المقام

بحث روائي

في تفسير العياشي عن عامر بن السمط عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: «الخمر من ستة أشياء: التمر، و الزبيب، و الحنطة، و الشعير، و العسل، و الذرة».

أقول: الخمر: ما يخمر العقل و يصح إطلاقها بهذا المعنى على كلّ ما له هذا الأثر، فيكون الحصر في الحديث إضافيا و قد تقدّم أنّ الخمر تؤخذ من أغلب الفواكه.

في الكافي عن الباقر (عليه السلام): «ما بعث اللّه نبيا قط إلا و في علم اللّه تعالى أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر و لم تزل الخمر حراما و إنّما ينقلون من خصلة ثم خصلة و لو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين».

أقول: يستفاد منه أنّ تشريع القوانين إنّما هو بالتدرج و التأني بحسب مقتضيات الظروف و الاستعدادات. و أنّ الخمر حرام في جميع الأديان الإلهية بل حرمتها عقلية كما ذكرنا مرارا.

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال: «سأل المهدي أبا الحسن (عليه

ص: 333

السلام) عن الخمر قال: هل هي محرمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، فإنّ الناس إنّما يعرفون النّهي عنها و لا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن (عليه السلام): بل هي محرّمة في كتاب اللّه فقال: في أي موضع محرّمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ يا أبا الحسن؟ فقال (عليه السلام): قول اللّه عزّ و جل: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فأما قوله ما ظَهَرَ مِنْها : يعني الزنا المعلن، و نصب الرايات التي كانت تعرفها الفواجر للفواحش في الجاهلية.

و أما قوله تعالى: وَ ما بَطَنَ . يعني: ما نكح من الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إذا كان للرجل زوجة و مات منها تزوج بها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرّم اللّه عزّ و جل ذلك.

و أما الإثم فإنّها الخمر بعينها، و قد قال اللّه عزّ و جل في موضع آخر:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فأما الإثم في كتاب اللّه عزّ و جل فهي الخمرة و الميسر و إثمهما أكبر كما قال اللّه تعالى فقال المهدي: يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشمية فقلت له: صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين الحمد للّه الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال: فو اللّه ما صبر المهدي - الى أن قال لي -: صدقت يا رافضي».

أقول: هذه الرواية مطابقة لما قلناه.

و في الكافي أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ الخمر رأس كل إثم».

أقول: يشهد له الاعتبار و العقل و كنيتها بأم الخبائث كما في النصوص.

و في الكافي أيضا عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمول إليه، و بايعها، و مشتريها، و آكل ثمنها».

و في الخصال قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر».

ص: 334

أقول: إطلاقه يشمل ما إذا كان الخمر بصورته المتعارفة أو في ضمن شيء آخر.

و في الكافي عن إسماعيل قال: «أقبل أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إمام أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه ببعضكم فسأله فأتاه شاب منهم فقال: يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال (عليه السلام): شرب الخمر».

أقول: يمكن أن يكون المراد من قوله: «أكبر الكبائر» بالإضافة إلى سائر المحرّمات فإنّ الكبائر متفاوتة في الإثم و يستفاد من بعض الأخبار أنّ الشرك باللّه تعالى أكبر الكبائر فلا منافاة بين الرّوايات لأنّ الأكبرية من الأمور الإضافية شدّة و ضعفا و يأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.

و في الكافي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما نزل قول اللّه عزّ و جل على رسوله (صلّى اللّه عليه و آله): إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ قيل: يا رسول اللّه ما الميسر؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): كل ما تقامر به حتى الكعاب و الجوز».

أقول: الميسر موضوع للحكم باعتبار معناه اللغوي، فيشمل مطلق القمار.

و في تفسير العياشي عن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) عن قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فما المنفعة جعلت فداك؟ فكتب (عليه السلام): كل ما قومر به فهو الميسر، و كل مسكر حرام.

أقول: هذا إعراض عن تفصيل الجواب لمصلحة و تقدّم ما يدل على ذلك.

في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ قال (عليه السلام): «العفو: الكفاف».

ص: 335

و في رواية أخرى عن أبي بصير قال: «العفو القصد».

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «العفو ما فضل عن قوت السنة».

و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام)، «العفو الوسط من غير إسراف و لا إقتار».

أقول: كلّ ما ذكر من المعاني في العفو مطابق لما ذكرناه في التفسير و الروايات متقاربة في المعنى.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ عن ابن عباس: إنّ نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل اللّه أتوا النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فقالوا: لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل اللّه تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ و كان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به و لا مالا يأكل حتّى يتصدّق عليه».

أقول: روي قريب من ذلك في عدة روايات.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى - الآية - عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّه لما نزلت: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أخرج كل من كان عنده يتيم، و سألوا رسول اللّه في إخراجهم فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ .

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «لما نزلت: وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية».

أقول: يستفاد من الحديث أنّهم زعموا أنّ التجنب عن الأيتام من حسن المعاشرة معهم فنهى اللّه عن ذلك و أمر بالإصلاح.

و في الدر المنثور عن ابن عباس قال: «لما أنزل اللّه وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى - الآية - انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه:

ص: 336

و في الدر المنثور عن ابن عباس قال: «لما أنزل اللّه وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى - الآية - انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم بطعامهم و شرابهم بشرابهم».

أقول: الجسّ هو التتبع و مرّ ما يتعلق بالحديث.

ص: 337

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة أحكام شرعية و هي:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ حرمة الخمر و الميسر بل الحرمة فيهما من ضروريات الدّين و لا ينكرها أحد، و الخمر لا تختص بصنف خاص، بل كل مسكر خمر و كلّ خمر حرام بإجماع أئمة الحقّ و المسلمين و نصوص سيد المرسلين و أئمة الدّين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و منه الفقاع فإنّه خمر استصغره الناس كما في الحديث.

كما أنّه لا يختص الميسر بصنف خاص من القمار بل يشمل كلّ ما يسمّى قمارا و إن لم يكن مثل ما كان شايعا في عصر التنزيل.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ محبوبية الإنفاق و الصّدقات مطلقا و لا يختص بخصوص قسم خاص من الإنفاق بل يشمل جميع أقسام الإنفاق من الواجب و المندوب و لكن للإنفاق مطلقا آدابا و شروطا مذكورة في كتب الفقه.

الثالث: إنّ حفظ اليتيم و مراعاته و القيام بشؤونه من التكاليف النظامية و قد يصير تكليفا عينيا لأجل أمور كما هو مفصّل في الفقه و قد اهتم الشرع بهذا الموضوع و ورد في فضله روايات كثيرة

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيما رواه الفريقان: «أنا و كافل اليتيم كهاتين في

ص: 338

الجنة» و جمع بين إصبعيه السبابة و الوسطى، و يتضاعف الثواب لأجل عروض عناوين خاصة كما إذا انطبق عنوان القرابة و الرحمية كما يتضاعف إذا كان أنثى و نحو ذلك.

و اليتيم كل صبيّ انقطع عن أبيه و هو محجور عن التصرف في أمواله و يرتفع حجره إذا بلغ رشيدا و انقطع يتمه بعد بلوغه، لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في جوامع كلماته المباركة التي اختص بها: «لا يتم بعد احتلام، و لا رضاع بعد فطام».

و لا يجوز لأحد التصرّف في أموال اليتامى و نفوسهم إلا مع وجود المصلحة، و قيل يكفي عدم المفسدة، و قد ذكرنا التفصيل في الفقه في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

الرابع: لا يختص اليتيم بمن علم انتسابه إلى أب معلوم مات بعد ولادة اليتيم، بل يشمل اللقيط في بلاد الإسلام و علم بموت والده و لو بالقرائن.

الخامس: يجوز للمتصدي لأمور اليتيم بالوجه الشرعي أن يأخذ أجرة مثل عمله من مال اليتيم إذا لم يقصد المجانية، لأصالة احترام العمل إلا ما خرج بالدّليل، و لو لم يكن لليتيم مال يجرى عليه من بيت المال، و المتصدّي لذلك الحاكم الشرعي أو من يكون مأذونا من قبله.

السادس: أطلق سبحانه إصلاح اليتامى و لم يقيّده بقيد و هو من الأمور العرفية المختلفة باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، فالمناط كلّه عرف المتشرعة و لكن لا بد من الاهتمام بالتربية الدينية لهم لأنها أكبر إصلاح لهم و أهم، و من فقد العلم و الآداب فهو أشد يتما و إن كان في حياة والده و سيأتي في الآيات المناسبة ذكر بقية أحكام اليتامى.

ص: 339

بحث أخلاقي

من الأمور التي اهتم الإسلام بها و اعتنى بها اعتناء بليغا و شدّد النكير على ارتكابها. و نهى عنها بأساليب مختلفة و وصفها بأوصاف متعدّدة تنبئ عن أنّها من شرّ الرذائل و أخبث الأمور، الخمر و الميسر فقد ذكرهما في مواضع متعددة من القرآن الكريم و وصفهما بأنّهما من خطوات الشيطان الذي يريد أن يوقع بهما بين أفراد الإنسان العداوة و البغضاء، و أثبت فيهما الإثم الكبير، كما اعتبرهما من الرّجس الذي يجب الاجتناب عنه و أصرّ الإسلام على ذمهما و الاستهانة بهما ففي السنة الشريفة من ذلك الشيء الكثير، و يكفي في خستهما أنّهما من أفعال أهل الجاهلية فقد كانا منتشرين قبل الإسلام، و نزل القرآن ينهى عنهما على سبيل التدرج، فنزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فذكر فيه الإثم و المنفعة و رجح الإثم عليها و كان ذلك كافيا في الرّدع ثم نزل قوله تعالى في الخمر:

لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى [النساء - 43]، و أخيرا ورد الأمر بتركهما في قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة - 91].

و قد ذكر سبحانه كلمة جامعة تكشف عن جميع ما يتعلّق بهما و ما ينطوي فيهما من الأضرار و المخاطر، فقال عز و جل: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و إذا ألقي هذا الخطاب الكريم إلى

ص: 340

العاقل يستفيد أنّه تعالى نفى عنهما جميع المنافع لما أثبت الإثم الكبير فيهما، فإنّ المنافع إما دنيوية أو أخروية، و لا وجه لثبوت الأخيرة مع وجود الإثم الكبير بل لا يمكن اجتماعهما في مورد.

و أما المنافع الدنيوية فهي إنّما يرغب إليها الإنسان إذا جلبت له الخير أو دفعت عنه الضّرر و هما منفيان في الخمر و الميسر سوى ما يتخيل من المنفعة اليسيرة الوهمية و لا يقدم عليها عاقل. و من ذلك يستفاد أنّ الخمر و الميسر يخلوان من الخير مطلقا.

و قد تصدّى العلماء في مختلف العلوم لذكر أضرارهما و مفاسدهما الفردية و الاجتماعية، فذكر الأطباء تأثير الخمر على صحة الإنسان و ما تجلبه من الأسقام و الآلام، و اعتبر علماء النفس الخمر من أشد الأشياء تأثيرا على النفس لأنّها تسبب الأمراض النفسية التي تعاود صاحبها حتّى الممات، و قد بحث عنهما علماء الدّين من حيث تأثيرهما في سعادة الإنسان و شقاوته في الدنيا و الآخرة.

و أما أضرارهما الاقتصادية فهي غير خفية على أحد حتّى اعتبرهما علماء الاقتصاد من الأسباب التي تعيق الكمال الاقتصادي في المجتمعات و لا أظنّ أنّ موضوعا كان له هذه الأهمية و التأثير من جوانب متعددة في حياة الإنسان المادية و المعنوية و الصحية النفسية و العقلية الفردية و الاجتماعية، و لأجل ذلك

ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنّ الخمر رأس كلّ إثم».

و عن الباقر و الصّادق (عليهما السلام): «إنّ اللّه جعل المعصية بيتا ثم جعل للبيت بابا و جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا فمفتاح المعصية الخمر»،

و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ الخمر أم الخبائث و رأس كلّ شر».

و عن الباقر (عليه السلام): «أفاعيل الخمر تعلو على كلّ ذنب كما تعلو شجرتها على كلّ شجرة».

و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «إنّ اللّه جعل للشر أقفالا و جعل

ص: 341

مفاتيح تلك الأقفال الشراب».

و قد ألف العلماء في كلّ واحد من الخمر و الميسر كتبا مستقلة تشتمل على فوائد جليلة من شاء فليرجع إليها.

و تحريمهما لا يختص بهذه الشريعة بل حرّمتهما جميع الأديان الإلهية

ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «ما بعث اللّه نبيا قط إلا و في علم اللّه أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر و لم تزل الخمر حراما، إنّ الدّين إنّما يحوّل من خصلة إلى أخرى، فلو كان ذلك جملة قطع بهم (بالناس) دون الدّين».

و نحن نتكلّم في هذا البحث عن الجانب الخلقي للخمر و تأثيرها في الصفات الخلقية للإنسان إجمالا.

من المعلوم أنّه لم يخلق اللّه جلّ جلاله خلقا أعزّ و أشرف لديه من العقل الذي جعله مدار إنسانية الإنسان، و به امتاز عن سائر المخلوقات و فاق به عليها، و هو مناط التكليف، و عليه يدور الثواب و العقاب، كما أنّ به يقوم الجزاء في يوم الحساب. و تدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية و النقلية فكلّ ما يضاد العقل و ينافيه، أو يسلبه و يعاديه يكون من أبغض الأشياء لدى اللّه و جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة أجمعين، و الخمر لا أثر لها إلا ذلك، فهي أم الخبائث كما كنّاها به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و قد لعن شاربها:

فعن الصادق (عليه السلام): «من شرب جرعة من خمر لعنه اللّه و ملائكته و رسله و المؤمنون».

و من غير المعقول أن يرتكب عاقل ملتفت أم الخبائث، و ما يزيل النظم و الانتظام عما يصدر منه من أعمال جوارحيّة و أفكار جوانحيّة، فعدّ شرب الخمر من المقبّحات العقلية أولى من عدّه من المحرّمات الشرعية، مع أنّهما متلازمان كما ثبت في محلّه، و يدل على ذلك

قول الأئمة الهداة: «إنّ اللّه حرّم الخمر لفعلها و فسادها».

ص: 342

فمن الآثار الخلقية المترتبة على شرب الخمر: أنّها تسلب لبّ شاربها و تجعل زمام عقله بيد الأهواء و النفس الأمارة،

فعن الصادق (عليه السلام):

«السّكران زمامه بيد الشيطان إن أمره أن يسجد للأوثان سجد و ينقاد حيثما قاده».

و من الآثار أنها تذهب الإيمان،

ففي الحديث عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «يا يونس أبلغ عطيّة عنّي أنّه من شرب الخمر حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده، و ركّبت فيه روح سخيفة خبيثة ملعونة».

و في حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) أيضا قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): مدمن الخمر يلقى اللّه يوم يلقاه كافرا» و في كثير من الروايات: «أنّ مدمن الخمر يلقى اللّه كعابد وثن».

و من الآثار: أنّ الخمر تذهب بنور شاربها فتستولي على قلبه الحجب الظلمانية فلا يعرف ربّه فيكون في حيرة و ضلالة فيجسر على ارتكاب المحرّمات و تهون عليه المعاصي و الآثام،

فعن ابن يسار عن الصادق (عليه السلام): «إنّ شارب الخمر يصير في حال لا يعرف معها ربّه».

و عن الصادقين (عليهما السلام): «ما عصي اللّه بشيء أشدّ من شرب المسكر إنّ أحدهم يدع الصّلاة الفريضة و يثب على أمه و بنته و أخته و هو لا يعقل».

و في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قيل له: إنّك تزعم أنّ شرب الخمر أشدّ من الزنا و السرقة؟ قال (عليه السلام): نعم، إنّ صاحب الزنا لعلّه لا يعدو إلى غيره، و إنّ شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا، و سرق، و قتل النفس الّتي حرّم اللّه، و ترك الصلاة» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و من الآثار: أنّها تورث الندامة و تأنيب الضمير،

ففي الحديث عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «أنّه قال لأم خالد العبدية: لا تذوقي منه - النبيذ - قطرة، لا و اللّه لا آذن لك في قطرة منه، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك

ص: 343

هاهنا - و أومى بيده إلى منحره - يقولها ثلاثا».

و من الآثار: أنّه تجعل الإنسان مضطرب البال غير مستقرّ النفس تحدّثه نفسه بارتكاب الجناية، لم يكن للآخرين عنده منزلة و كرامة، فهو في عداوة دائمة مع غيره، قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ [المائدة - 91].

و من الآثار: أنّها توجب الصّد عن ذكر اللّه تعالى الذي هو أقوى رادع عن ارتكاب المعاصي، فلا يراقب اللّه في أقواله و أفعاله قال تعالى:

وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائد - 91].

و من الآثار: أنّها تورث سوء العاقبة،

فعن مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «يجيء مدمن الخمر المسكر يوم القيامة مزرقّة عيناه، مسودّا وجهه، مائلا شدقه، يسيل لعابه، مشدودا ناصيته إلى إبهام قدميه، خارجا يده من صلبه، فيفزع منه أهل الجمع إذا رأوه مقبلا إلى الحساب».

و عن الباقر (عليه السلام): «من شرب المسكر و مات و في جوفه منه شيء لم يتب منه بعث من قبره مخبّلا مائلا شدقه، سائلا لعابه، يدعو بالويل و الثبور» إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على سنخية العقاب مع المعصية و تناسب الجزاء مع العمل كما هو واضح.

إلى غير ذلك من الآثار التي تترتب على شرب الخمر و يشترك الميسر في كثير من تلك الآثار و هي وجدانية يعرفها كلّ مرتكب لهذه المعصية فجدير بالإنسان أن يترك هذا الإثم الكبير كما وصفه الجليل في كتابه الكريم.

ص: 344

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى .......

اشارة

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى أنّ حب الإنسان لشيء أو كرهه له لا يغيّر الواقع بل هو محفوظ في حدّ نفسه و لا يعلمه إلا اللّه تعالى و أنّ شأن الإنسان أن يبغي الصّلاح في أفعاله ذكر تعالى في هذه الآية المباركة من مصاديق تلك القاعدة نكاح المشركات و المشركين، و حكم بأنّه ليس من صلاح المؤمن نكاح المشركة و إن أعجبه هذا النكاح، بل لا بد للناس أن يذكروا اللّه تعالى و يختاروا ما يدعو إليه في الدنيا و الآخرة.

ص: 345

التفسير

221 - قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ .

النكاح: اسم للعقد الموجب لحلية الجماع. و قال بعضهم: إنّه محال أن يكون اسما للجماع، لأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات لاستقباح اسمه كاستقباح فعله، فيلزم من ذلك الخلف و هو محال.

و فيه: أنّه ليس من المحال الذاتي حتّى يقبح بالنسبة إليه تعالى بل هو تكلّم مع الناس على حسب اصطلاحهم كما في قوله تعالى: وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [التحريم - 12].

و قد اختلفوا في أسماء جميع العقود هل هي أسماء للأسباب، و تستعمل في المسببات مجازا أو بالعكس؟ و قد سرى هذا الاختلاف إلى الفقه و الفقهاء أيضا.

و الظاهر: أنّه لا معنى لهذا النزاع و سقوط هذا الاختلاف، لأنّ المراد بالأسباب الأسباب الجامعة للشرائط المعتبرة مطلقا و هي من الأسباب التوليدية لحصول مسبباتها و ظاهر الأدباء الاتفاق على أنّه لا فرق في الأسباب التوليدية بينها و بين مسبباتها في أنّ الاستعمال فيهما على كلّ تقدير يكون حقيقيّا، فلا فرق في المقام بين أن يقال النكاح اسم العقد الموجب لحلية الوطي. أو اسم للوطي الحاصل حليته من العقد، و قد استعمل في كلّ منهما بالقرائن.

ص: 346

و (لا تنكحوا) - بالفتح - من الثلاثي متعدّ بنفسه إلى مفعول واحد أي:

لا تزوّجوا الكافرات، فيكون الخطاب متوجها إلى الأزواج.

و المشركات جمع مشركة: من الإشراك و هو اتخاذ الشريك للّه سبحانه و تعالى، فيختص بالوثني و الوثنيّة و لا يشمل حينئذ سائر الكفار من أهل الكتاب المنكرين لنبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و استدل على ذلك بقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ [البينة - 1]، و العطف يقتضي المغايرة، و لأنّ المشرك في اصطلاح القرآن يطلق على ذلك و على هذا القول تكون الآية الشريفة مقتصرة على خصوص المشركين و المشركات من الوثنيين دون أهل الكتاب.

و لكن الحق أن يقال: إنّ الآية عامة تشمل مطلق الكافر من دون اختصاص بطائفة خاصة من الكفار، لعموم التعليل في الآية الشريفة الشامل للجميع، و قد ثبت في العلوم الأدبية - و تبعهم علماء الأصول - أنّ الخطاب المعلّل بعلّة يكون المدار في خصوص ذلك الخطاب أو عمومه على التعليل دون أصل الخطاب، فتفيد الآية عموم التحريم للكتابيات و الوثنيات معا و يدل عليه قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ [الممتحنة - 10]، فإنّه يشمل كلّ كافر بنبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) سواء كان كتابيا أو مشركا.

و ما ذكروه من أنّ العطف يقتضي المغايرة لا كلية فيه و لم يثبت ذلك بل هو في الآية المباركة من قبيل عطف العام على الخاص و هو كثير.

كما أنّه لم يثبت أنّ إطلاق المشرك على الوثني اصطلاح قرآني بل قد اطلق على الكافر أيضا قال تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [البقرة - 135]، و قال تعالى:

هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ [الصف - 9].

فالصحيح ما ذكرناه إلا إذا كان في البين دليل يدل على اختصاص

ص: 347

اللفظ بخصوص طائفة خاصة من الكفار.

و قد خرج عن عموم الآية المباركة خصوص الكتابيات لقوله تعالى اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة - 6]، و ليس ذلك من النسخ بشيء كما عن بعض المفسرين، و المسألة فقهية ذكرناها بفروعها في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع كتاب النكاح منه.

قوله تعالى: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ .

المراد من الأمة: المملوكة أي: إنّ الزّواج بالمملوكة المؤمنة خير من الزّواج بالمشركة و إن كانت حرّة لأنّ الإيمان باللّه تعالى من أعظم الصفات و أجلّها و أفضلها و هو باق و ما سواه من الصفات التي هي البواعث على النكاح التي هي خيرات دنيوية وهمية زائلة و لو كانت بحيث توجب الإعجاب.

و في الآية رد لعادة كانت متبعة عندهم من استذلال الإماء، و التعيير بالزّواج منهنّ، فنفى سبحانه ذلك بأنّ المؤمنة و لو كانت مملوكة خير من المشركة و لو كانت حرّة و إن أعجبتكم.

قوله تعالى: وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ .

وَ لا تَنْكِحُوا - بضم التاء - من باب الإفعال متعدّ إلى المفعول الثاني و الخطاب متوجه إلى من يتولّى النكاح.

يعني: لا تزوّجوا المؤمنات بالمشركين حتّى يؤمنوا فإنّ العبد المؤمن خير من حرّ مشرك و إن أعجبكم حسنه و ماله و شرفه. و الواو في قوله تعالى:

وَ لَوْ حالية، و (لو) بمعنى إن.

و الآية تدل على كراهة التزويج للأغراض الدنيوية الزائلة. و أنّ الكفؤ المعتبر في الزّواج إنّما يتحقق بالإيمان فقط.

ص: 348

قوله تعالى: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ .

بيان لحكمة هذا الحكم. و الإسلام في أُولئِكَ إشارة إلى المشركين و المشركات المذكورين آنفا.

يعني: أنّ المشركين من شأنهم الدّعوة إلى ما يوجب الدخول إلى النار لاعتقادهم الباطل و سلوكهم طريق الشرك و الضلال و قد رسخت فيهم رذائل الصفات، و تربّوا على سوء الأخلاق فعميت أبصارهم عن الحق و الحقيقة فهم يرشدون إلى الضّلال و يدعون إلى أسباب النار قولا و عملا فيجب الاجتناب عنهم و الحذر منهم لا سيّما في الحياة الزوجية التي هي من أقوى الأسباب في انتقال صفات أحد الزّوجين إلى الآخر فيكون له الأثر السيّئ على هذه المعاشرة و يوجب الشقاء و الدّمار و هذا على نقيض ما يرتجى من هذه المعاشرة.

و أما المؤمنون فهم على خلاف المشركين فإنّهم بسلوكهم مسلك الإيمان و اعتقادهم الصّحيح، و استكمالهم بمكارم الأخلاق، فهم يدعون إلى ما يوجب الدخول إلى المغفرة و الجنة قولا و عملا بإذن اللّه تعالى و هو الذي هداهم إلى الإيمان و إلى ما يوجب الدخول إلى الغفران و الجنان، فتكون دعوتهم و دعوة اللّه تعالى متطابقتين و كلتاهما توجبان المغفرة و الجنة.

و في الآية كمال العناية بالمؤمنين، و فيها دلالة على أنّ المؤمنين يرجعون في دعوتهم و في جميع شؤونهم إلى اللّه تعالى و لا يستقلّون في شيء.

أو لأنّ اللّه تعالى يدعو إلى المغفرة و الجنة بما يشرعه من الأحكام التي تكون لمصلحة الإنسان و تهديه إلى السعادة، فقد أمرهم بمخالطة من يتقرّب بهم إلى اللّه تعالى و ردع عن عشرة من يكون في عشرته البعد عن ساحة الرّحمن فهي دعوة منه عزّ و جل إلى المغفرة و الجنة و يشير إلى ذلك ذيل هذه الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .

ص: 349

بيان لحكمة أصل هذا التشريع، أي أنّه تعالى ينزل الأحكام و الأدلة و يوضحها للناس لأجل أن يتذكروا ما فطر اللّه في أنفسهم من قبول التوحيد و الحق و الحقيقة، و المعارف الواقعية. و لفظ «لعلّ» المستعمل في المقام و غيره، و كذا (عسى) و نحوهما إما بمعنى التعليل أي: (لكي، أو لأن) و نحوهما كما هو المعروف بين الأدباء. أو تستعمل في معانيها الحقيقية لكن بداعي أصل المحبوبية لا بداعي تحقق نفس تلك المعاني حتّى يستلزم النقص بالنسبة إليه جلّ جلاله.

ص: 350

بحوث المقام

بحث دلالي

الآية الشريفة تبيّن جانبا من الجوانب التي تبتني عليها الحياة الزوجية التي اهتم بها الإسلام و وضع لها قوانين و ضوابط و آدابا إذا روعيت حق المراعاة لتم الصّلح و الوئام بين الأفراد و خلص الإنسان من الشقاء و الدّمار و حظى بالحياة السعيدة الهنيئة.

فإنّ الآية تبيّن ما يجب مراعاته في تحقيق هذه العشرة، فإنّ كلّ واحد من الزوجين لباس للآخر و خليط معه، و من شأن كلّ خليط اكتساب صفات الآخر فأمر عزّ و جلّ بلزوم التحفظ على الجانب المعنوي و الرّوحاني في هذه الحياة بماله من الأثر التربوي و الاجتماعي و الفردي و عليه تستند قدسية الزّوج و هو ملاحظة الإيمان باللّه تعالى الذي هو فطري في الجملة لا سيّما في النفوس الضعيفة و مرحلة الشباب في الإنسان و قد دلت على ذلك الأدلة العقلية كما ثبت في الفلسفة القديمة و الحديثة و لعلّه لأجل ذلك قدّم سبحانه و تعالى هذا الأمر على ما يتعلّق بأحكام النّساء لما له الأهمية الكبرى بالنسبة إلى الحياة الزوجية بين الزوجين و لما له الأثر الكبير في نشوّ الأولاد و الصّلة بالاجتماع، بل الرضاع فإنّ اللبن يعدي كما ورد في عدة من الأخبار، فهذا الحكم له من الآثار ما لا يدركها أحد إلا اللّه تعالى و لذا أكد عليه بأنحاء

ص: 351

التأكيدات في القرآن الكريم و السنة الشريفة، ففي المقام نهى عن الزّواج بالمشركين و المشركات و بيّن عزّ و جل العلّة في ذلك بأنّهم يدعون إلى النار لما يقترفونه من المعاصي و الآثام و ليس لهم أيّ رادع نفساني يردعهم عن ذلك لعدم اعتقادهم باللّه تعالى، فليس لهم شأن إلا الدّعوة إلى النار مطلقا.

و على نقيض ذلك المؤمن فإنّه يدعو إلى المغفرة و الجنة و الإحسان و التحلّي بمكارم الأخلاق فهو يدعو إلى اللّه قولا و عملا، فالإيمان باللّه هو أساس كلّ خير و سعادة و له الأثر الكبير في نشوء الأولاد الصالحين بل و صلاح الاجتماع و تقدمه.

ثم إنّه لا فرق في الدّعوة إلى النار بين أن تكون قصدية كإيقاع الناس في المحرّمات و تسهيل أسبابها عليهم أو تكون انطباقية قهرية كمن يعمل منكر يعلم تقليد الناس له فيه فهو يدعوهم إلى النار و لو لم يكن من قصده ذلك.

كما لا فرق بين أن تكون بالمباشرة أو التسبيب قلّت الأسباب أم كثرت، و كذا لا فرق بين أن يكون موردها النفوس و الأعراض أو الأموال المحترمة و إن كان بينها تفاوت بالشدة و الضعف.

و تشمل الآية جميع الاعتقادات الباطلة و الآراء الفاسدة التي لا يرضى الشرع بها، بل إنّها تشمل الدّعوة إلى النار بالقول أو الفعل أو الكتابة و نحوها.

و تجري جميع هذه الأقسام بالنسبة إلى المغفرة و الجنة و لكن يشترط أن تكون بإذن اللّه تعالى و إمضائه و إلا كان من التشريع المحرّم.

و ما ذكره جمع من الفقهاء من تحقق الاستحباب الشرعي بأخبار قاصرة السند تمسكا بأخبار من بلغه ثواب عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فعمل به فله ذلك الثواب و إن كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يقله.

فهو مخدوش: لأنّ مجموع تلك الأخبار بعد رد بعضها إلى بعض لا يستفاد منها إلا المطلوبية النفسية الفعلية من كلّ جهة، و قد ذكرنا بعض الكلام في كتابنا (تهذيب الأصول) فراجعه هناك.

ص: 352

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أنّ إعجاب الناس لشيء و حكمهم بحسنه لا أثر له ما لم يكن ممضيا شرعا لأنّ الإعجاب و التحسين إنّما يكونا بالنسبة إلى الظاهر دون الحقيقة و الواقع فرب إعجاب في الظاهر يكون بخلافه في الواقع.

ص: 353

بحث روائي

في الكافي عن الحسن بن جهم عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «قال لي: يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوج نصرانية على مسلمة؟ قلت: جعلت فداك، و ما قولي بين يديك؟ قال (عليه السلام) لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي. قلت: لا يجوز تزويج النصرانيّة على مسلمة و لا غير مسلمة قال (عليه السلام): و لم؟ قلت: لقول اللّه عز و جل: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ قال (عليه السلام): فما تقول في هذه الآية: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قلت: فقوله:

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ نسخت هذه الآية فتبسم ثم سكت».

أقول: النسخ قد يطلق على التخصيص أيضا.

و في أسباب النزول عن مقاتل بن حيان قال: «نزلت في أبي مرثد الغنوي استأذن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في عناق أن يتزوجها و هي امرأة مسكينة من قريش، و كانت ذات حظّ من جمال و هي مشركة، و أبو مرثد مسلم. فقال: يا نبيّ اللّه إنّها لتعجبني فأنزل اللّه عزّ و جل: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ .

و في الدّر المنثور عن ابن عباس قال: «نزلت في عبد اللّه بن رواحة و كانت له أمة سوداء، و إنّه غضب عليها فلطمها، ثم إنّه فزع فأتى النبي (صلّى

ص: 354

اللّه عليه و آله) فأخبره خبرها فقال له النبي (صلّى اللّه عليه و آله): ما هي يا عبد اللّه؟ فقال: يا رسول اللّه هي تصوم و تصلّي، و تحسن الوضوء، و تشهد أن لا إله إلا اللّه و أنّك رسوله فقال (صلّى اللّه عليه و آله): يا عبد اللّه هذه مؤمنة.

فقال عبد اللّه: فو الذي بعثك بالحق (نبيا) لأعتقها و لأتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: نكح أمة و كانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين و ينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل اللّه تعالى فيهم: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ - الآية -.

و في المجمع إنّ الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول اللّه إلى مكة، ليخرج منها ناسا من المسلمين، و كان قويا شجاعا فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى و كانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت: هل لك أن تتزوج بي؟ فقال: حتّى أستأذن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فلما رجع استأذن في التزويج بها».

أقول: روى قريبا منه الواحدي في أسباب النزول و السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس. و يمكن أن يكون سبب النزول متعدّدا فلا تنافي بين الروايات.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ أنّه منسوخ بقوله: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و قوله تعالى: وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا على حاله لم ينسخ.

أقول: ذكرنا أنّ المراد من النسخ هو التخصيص، و يأتي الكلام في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 355

بحث فقهي

يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و ما في سياقه من الآيات الشريفة و الرّوايات أنّ المناط كلّه في رابطة الزواج الإيمان و الاعتقاد باللّه تعالى و الدّين، و قد صرّح بذلك في عدّة روايات

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إياكم و خضراء الدّمن قيل: يا رسول اللّه و ما خضراء الدّمن؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): المرأة الحسناء في المنبت السوء».

و في حديث آخر عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالط».

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «عليك بذات الدّين تربت يداك».

كما تدل الآية الشريفة على كراهة قصد الجمال و المال و الشرف و الحب فقط في النكاح، و تدل على ذلك روايات مستفيضة.

و صريح الآية الكريمة حرمة النكاح مع الكافر و الكافرة مطلقا لعموم العلة و هو المشهور بين الإمامية، و ليست هي منسوخة و لكنّها خصصت بقوله

ص: 356

تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ - إلى قوله تعالى - وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ [المائدة - 7]، و ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه و من شاء فليراجع كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

ص: 357

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوه.......

اشارة

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (223) ذكر سبحانه و تعالى حكما من الأحكام التي ترشد الإنسان إلى حفظ نوعه و بقائه و قد نبهه إلى ما يتحفظ به طهارته المعنوية و الظاهرية.

و ذكر بعض أحكام النساء من وجوب الاعتزال عنهنّ في زمان الحيض و أمر الإنسان بالسّعي إلى ما أمره اللّه تعالى حتى يعد عند اللّه مؤمنا متقيا و قد بشّره بعظيم الثواب.

ص: 358

التفسير

222 - قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً .

مادة (حيض) تأتي بمعنى السّيلان و سمّي هذا الدم المخصوص حيضا لسيلانه في الجملة، و إذا كان عين الفعل منه واوا فهو بمعنى الجمع و منه الحوض، و يصح إطلاقه في المقام أيضا، لأنّه لا يسيل الدم إلا إذا اجتمعت مادته في الرحم و لو في الجملة.

(و المحيض) مصدر ميمي و هو اسم للدم الخاص في وقت معين، و لم يستعمل في القرآن الكريم إلا بهذه الهيئة كما في قوله تعالى: وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ [الطلاق - 4]، و يأتي المحيض اسما لزمان الحيض و مكانه، و الفارق القرائن المعتبرة.

و الحيض من الأمور الطبيعية للنساء و هو منشأ تكوّن الجنين في الرحم، و له أحكام شرعية، كما أنّ له اثارا صحية و نفسية معروفة ذكرها علماء الطب و النفس.

و إنّما عبّر سبحانه بالمحيض دون الحيض، لأنّ للإضافة الحدوثية إلى الحائض دخلا في الجملة في أحكامه و لأجل ذلك صحح عود الضمير (هو) إليه.

و الأذى: ما يصيب الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة حتى استعملت بالنسبة إلى اللّه تعالى

ص: 359

قال سبحانه و تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ [الأحزاب - 57].

و كون الحيض أذى أمر معلوم فإنّه مستقذر ينفر عنه الطبع لكون هذا الدم خارجا عن مزاج الدم الطبيعي لفساده فلا يصلح لتغذية الجنين أو تهيئة اللبن للإرضاع فيرفضه الرحم إلى الخارج مصحوبا بآلام بدنية و نفسية فيكون أذى للنساء كما أنّ لهذا الدم أحكاما خاصة يصعب عليهنّ تحمّلها و هو أذى للزوج لأنّه يحرم عليه مدة الحيض أهم الاستمتاعات إذ الرّحم مشغول بتطهيره و تنقيته و الوقاع يضرّه بل هو أذى للنطفة إذا فرض انعقادها في زمان الحيض. و قد كشف العلم الحديث عن كثير مما يتعلّق بهذا الدم و يشمل جميع ذلك إطلاق هذه الكلمة الفصيحة بإيجازها قُلْ هُوَ أَذىً .

و قيل: إنّ المراد بالمحيض محلّ الحيض و مكانه و باعتبار الملازمة بين الحال و المحل عبّر تعالى بذلك، فيصح عود الضمير حينئذ بلا استخدام و هذا و إن كان صحيحا و لكنّه صرف لعموم الآية الشريفة إلى بعض المحتملات، فالصحيح ما ذكرناه.

قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ .

العزل و الاعتزال: التجنب سواء كان بالبدن فقط أو القلب أو بهما و المراد به هنا الأول أي: عدم المقاربة معهنّ في محلّ الحيض فقط بقرينة قوله تعالى:

وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ . و هو المراد أيضا إن أريد بالمحيض زمان الحيض لانسباقه إلى الذهن، و ليس المراد وجوب الاعتزال عن النساء مطلقا فإنّه مخالف لظاهر الآية الشريفة و للنصوص المتواترة و إجماع المسلمين. و بذلك أخذ الإسلام الطريق الوسط بين التشديد التام الذي عليه اليهود فإنّهم لا يساكنون النساء حال الحيض و لا يؤاكلوهنّ و لا يمسوهنّ و لا يضاجعوهنّ ففي التوراة كثير من الأحكام الشديدة بالنسبة إليهنّ فقد جاء في سفر اللاويين الفصل الخامس عشر «كل من مسّها - أي المرأة في أيام طمثها - يكون نجسا إلى المساء و كلّ ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا و كلّ ما تجلس عليه يكون نجسا، و كلّ من

ص: 360

مس فراشها يغسل ثيابه و يستحم بماء و يكون نجسا إلى المساء و كلّ من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه و يستحم بماء و يكون نجسا إلى المساء و إن كان على الفراش أو على المتاع الذي هي جالسة عليه عند ما يمسه يكون نجسا إلى المساء و إن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام كلّ فراش يضطجع عليه يكون نجسا» و قد أخذ العرب بعض الأحكام من اليهود فشدّدوا على الحائض فكانوا في الجاهلية لا يساكنونها و لا يؤاكلونها.

و بين الإهمال و التهاون كما عليه النصارى، فالإسلام أخذ الطريق الوسط و أوجب اعتزال النساء في محل الدم فقط و حرم إتيانه في وقت الحيض و أباح سائر الاستمتاعات و معاشرتهنّ و مخالطتهنّ.

و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ لأنّ المحيض الأول بالمعنى المصدري و يراد من الثاني مكان الحيض أو زمانه فهو غير المعنى الأول فلا يصح عود الضمير إليه.

ثم إنّه تعالى قدم قوله: قُلْ هُوَ أَذىً و هو كالعلة لما يأتي و يترتب عليه الحكم بوجوب الاعتزال عنهنّ و عدم المقاربة معهنّ في محل الدم.

قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ .

المراد من القرب: خصوص الوطي، و هو في مقابل البعد، لأنّ من أدب القرآن الكريم الكناية عما يستقبح ذكره بألفاظ أخرى حسنة كقوله تعالى: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ [البقرة - 187]، و هذا دليل على أنّ المراد من الاعتزال خصوص المجامعة في موضع الدم و إنّما جيء به تأكيدا للاعتزال و بيانا له.

و قوله تعالى: حَتّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف هي القراءة المعروفة بين المسلمين و هو المرسوم في المصاحف المتداولة و هو ظاهر في انقطاع الدم أي: حتى يخرجن من الحيض بانقطاع الدم عنهنّ.

و يكون الأمر بالاعتزال مقيّدا بحصول نقاء المحل، و الغاية في عدم القرب

ص: 361

هي انقطاع الدم و الطهر بعد الحيض و لو لم تغتسل المرأة، و يؤيد ذلك قوله تعالى: وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ و هو المناسب للتعليل في صدر الآية المباركة و هو المشهور بين المسلمين.

و قرئ بالتشديد أي: يطهّرن بالغسل بعد نقاء المحل من الدم و هو ظاهر في الاغتسال عن حدث الحيض و تكون الغاية حينئذ في وجوب الاعتزال الغسل و لا يكفي نقاء المحل فقط. و هذه القراءة شاذة لا عبرة بها مضافا إلى أنّ فيها تكلّفا زائدا لم يعلم ثبوته شرعا فيشمله

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«رفع عن أمتي ما لا يعلمون».

قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ .

أي: فإذا تطهّرن بالنقاء أو بالغسل فلا محذور لكم في مقاربتهنّ على النحو الذي أراده اللّه تعالى من النكاح، و قد كنّى سبحانه و تعالى عن الجماع بالإتيان كما يقتضيه الأدب القرآني.

و التفريع لأجل بيان إباحة الوطي بعد تحريمه حال الحيض و لا يكون تكرارا كما ذكره بعض المفسرين.

و الظاهر أنّ المراد من قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ مطلق ما كتبه اللّه في هذا الموضوع و هو ابتغاء النسل و الذرية و بقاء النوع لا مجرّد التلذذ من الزّواج و في سياقه قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ [البقرة - 187].

و يكون المعنى: فأتوهنّ من حيث الوظائف الشرعية التي جعلها اللّه تعالى لكم في هذا الأمر العظيم الذي هو منشأ حياتكم و بقاء نوعكم فإنّ للنكاح أهمية عظمى في الشريعة الإسلامية التي لم تدع جانبا من جوانبه و جهة من جهاته.

و لم يكن النّكاح في نظر الشرع مجرد لهو و نزوة كما ينزو حيوان على آخر و إعمالا للقوة الشهوية بل أراد ما هو أعظم و أنبل من ذلك و تكفي وصية نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) إلى عليّ (عليه السلام) المعروفة التي ذكر فيها بعض آداب النكاح و أحكامه و التي إذا روعيت كان لها الأثر العظيم في تنظيم

ص: 362

النسل و سعادة الحياة الزوجية و قد أيد كثيرا منها العلم الحديث و لعلّه يكشف عن سائر ما جاء به الإسلام في المستقبل.

و قد ذكر المفسرون و الفقهاء في تفسير هذه الآية وجوها بعيدة عن سياقها قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ .

الحب في المقام: بمعنى الأجر و الثواب و التأييد، و هو من صفات فعله تعالى. نعم، حبه تعالى لذاته بذاته هو عين ذاته، و قد تقدم الفرق بين صفات الفعل و صفات الذات في أحد مباحثنا السابقة.

و التوبة: هي الرجوع بعد الانحراف و البعد، و توبة العاصي هي الرجوع إلى اللّه تعالى بعد البعد عنه بفعل المعصية.

و المتطهّر: هو الآخذ بالطهارة و المتنزه عن القذارة و النجاسة، و إتيان الأحكام الإلهية بالايتمار بأوامره تعالى و الانتهاء عن نواهيه هو تطهر من المكلّف عن قذارة ارتكاب المنكرات و المخالفة، و توبة منه إلى اللّه تعالى و لأجل ذلك ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذا الحكم.

و إطلاق قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ يشمل جميع مراتب التوبة من صغائر الذنوب و كبائرها، و إنّ المبالغة تفيد مطلوبية الاستمرار و كثرتها مطلقا.

كما يشمل جميع مراتب التطهر و كثرته و من حيث العدد و النوع فيهما لمطلوبية التوبة و الطهارة ذاتا و هما من المحسّنات العقلية التي رغب الشرع إليهما، و اللّه يحب ما هو حسن ذاتا و ما هو محبوب الجميع.

و إنّما قدم سبحانه التوبة على الطهارة لتقديم تطهير الروح و الباطن على تنظيف الجسم و الظاهر بل الثاني طريق إلى الأول و الجمع بينهما لبيان أنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له فلا فائدة في التوبة إذا لم يراع فيها جهات الطهارة الظاهرية و كذا بالعكس.

223 - قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

ص: 363

الحرث: هو تهيئة الأرض للبذر و إلقاؤه فيها و زراعتها و يطلق الحرث على المحروث قال تعالى: أَنِ اُغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [القلم - 22]، و قال تعالى: وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ [البقرة - 205].

و لفظ أنّى من المبهمات سواء في الزّمان أو المكان و لكن استعماله في الزّمان أشهر. و قيل باستعماله في كلّ منهما في المقام أي أين شئتم، أو في أيّ محلّ شئتم، و لكن من إيكال الحكم إلى المشيئة - و هي غير محدودة بحد إلا ما نهى عنه الشرع - يستفاد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان و الزمان.

و ذكره بعد اية المحيض لأجل بيان خروج زمان الحيض فإنّه لا استعداد فيه للحرث و غشيان النساء لأنّه أذى لهنّ، و فيه من القذارة التي يحب اللّه التطهير منها. فنسبة هذه الآية نسبة الشرح للآية السابقة فتكون مطلقة من حيث الزمان و المكان إلا ما نهى عنه الشرع المبين.

فالآية واضحة في دلالتها على التوسعة، فلا وقع للبحث عن أنّ كلمة (أنّى) زمانية أم مكانية، بل هي بمعنى ما شاء لتشمل الجميع بقرينة عموم المشية و إطلاقها و عمومات الحلية و الإباحة، و لا نحتاج إلى أقوال اللغويين أو المفسرين و إعمال الترجيح بينها، و لا فرق بين ملك الانتفاع المطلق، و المنفعة المطلقة، و ملك الذات من هذه الجهة، و يدل عليه

قول جعفر بن محمد (عليهما السلام):

«لك أن تستمتع بكلّ جزء منك من كلّ جزء منها». نعم، هناك موارد استثناها القرآن الكريم، و السنة المقدسة، و الفقهاء و تعرضنا لها في الفقه بما لا مزيد عليه.

و من تعليق الأمر بإتيان النساء على مشية المكلّفين و اختيارهم يستفاد أنّ الأمر للإباحة دون الوجوب.

كما يستفاد من تشبيه المرأة بالحرث في الآية الكريمة أمور:

الأول: أنّ الإنسان يحتاج إلى الحرث لأنّه منشأ بقاء الحياة و حفظها، كذلك النساء فإنّهنّ منشأ بقاء النوع و دوامه ببقاء النسل، و لولاهما لنفذ النوع و زالت الحياة.

ص: 364

الثاني: أنّ الحارث لما كان يلاحظ خصوصيات الحرث من حيث زمانه و مكانه، إذ ليس كلّ أرض صالحة للحرث و الزرع، و ليس كلّ زمان صالحا للزراعة كذلك لا بد أن يلاحظ في النساء هذه الجهة و هي من أهم جهات الحياة الزوجية و بدونها لم يحصل التعاطف و لم تتحقق المودة و المحبة بين الزوجين، و قد حرص الإسلام على ملاحظة هذه الجهة، و العقل يقضي بذلك أيضا.

الثالث: لزوم مراعاة الجهات الخارجية في الحرث: من سقي الماء و التحفظ عن حوادث الجو و غير ذلك، كذلك لا بد من مراعاة أحوال النساء و ملاحظة الزوجة التي يريد أن يختارها لعشرته و المخالطة معها فلا تقتصر على خصوص أمور خارجة كالجمال و المال و نحو ذلك التي لا ترتبط بسعادة الحياة الزوجية و تنشئة الأولاد و تربيتهم.

الرابع: عدم تحميل الأرض ما يضرّها من كثرة الماء و زيادة البذر، فإنّه و إن أوجب الانتفاع بذلك عاجلا لكنّه يضرّ بها آجلا و هكذا حال المرأة في كلّ ما يتعلق بها من الاستمتاعات.

الخامس: مراعاة البذر في الحرث بالحفظ و التنمية كذلك لا بد من مراعاة المرأة و ما في رحمها من البذر الإنساني فإنّ احتياج المجتمع الإنساني إلى النساء لأجل بقاء النوع و دوام النسل كما يحتاج إلى الحرث في إبقاء البذور، و تحصيل الغذاء للإنسان لحفظ حياته فجعل اللّه تبارك و تعالى رحم المرأة منشأ تكوّن الإنسان كما جعل في الرجل المادة الأصلية، فكلّ واحد من الزوجين يكمّل الآخر و يستعين به في رفع الحاجات، و قد جعل اللّه بينهما مودة و رحمة يخدمان النوع خدمات شرعية.

السادس: أنّ الحارث مسلّط على الأرض بأنحاء التعمير و الاستفادة منها، لأنّ الحرث وسيلة لبقاء النّوع و هو غير مقيّد بوقت كذلك الزوج مسلّط على الانتفاع من الزوجة في أيّ وقت شاء بأيّ كيفية أراد بحسب الوظيفة الشرعية.

السابع: أنّ بهجة الأرض و خضرتها و زيادة زرعها مما يوجب انبساط الحارث و فرحه كذلك جمال الزوجة و نظافتها و نزاهتها الفاضلة من موجبات فرح

ص: 365

الزوج و انبساطه و رغبته على الحياة الزوجية. و غير ذلك مما هو منشأ لحسن هذا التشبيه و التنزيل.

ثم إنّ إعطاء هذه السلطة الانتفاعية المطلقة للزوج و تسليطه عليها يستلزم في جملة من النفوس التعدي عن الحقوق التي لا بد للزوج من مراعاتها بالنسبة إلى الزوجة، و لذلك أمرهم بالتقوى، و أنذرهم على المخالفة، و وعد المؤمنين بالبشارة.

قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

أي: عاملوا النساء معاملة إذا ظهرت يوم عرض الأعمال تكون زينا لكم و لا تكون شينا فتنتفعوا منها في الدنيا و الآخرة، فإنّ اللّه تعالى يراكم فعلا، و يوم ظهور الأعمال و سرائر النفوس تتمثل أمامكم أعمالكم، فإن أحسنتم لهنّ أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها.

و أكد سبحانه ذلك بقوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و بقوله جلّ و علا: وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ و في سياق ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [الحشر - 18].

و يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ هو التقديم في الدنيا بالاستيلاد و إنجاب الأولاد لبقاء المجتمع الإنساني الذي يكر على أفراده الفناء و الموت و ببقائه يبقى الدّين الإلهي و تتحقق عبادة اللّه تعالى و يظهر توحيده عزّ و جلّ، و ذلك يتطلب تنشئة الأولاد صالحين قد تربوا على دين الحق و الأخلاق الفاضلة، و يكون فيهم بقاء ذكر الآباء و بقاء للنسل الذي طلبه اللّه تعالى من الزواج، فيكون تقديم الأولاد الصّالحين من تقديم العمل الصالح الذي طلبه اللّه عزّ و جل، و الأمر بالتقوى لأجل عدم تعدّي حدود اللّه تعالى و انتهاك حرماته.

قوله تعالى وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ .

أي: لا بد أن يكون عملكم عمل من أيقن بملاقات اللّه تعالى و هو يجازيه على أعماله خيرا كان أو شرّا و كل من علم بأنّه يلاقي المحاسب المرتقب لا

ص: 366

يتساهل في تهيئة نفسه للحساب.

و في الآية المباركة إرشاد إلى مراقبة النفس، و التحفظ على الأعمال لئلا يصدر العمل عن غفلة، و فيها من التوعيد على المخالفة ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

وعد منه تعالى لأهل الإيمان الذين يراعون أحكام اللّه تعالى و يراقبونه في أعمالهم و فيه إرشاد إلى أنّ الخوف من اللّه تعالى و التقوى من لوازم الإيمان.

و هذه الآية تدل على أنّ لكلّ واحد من الزوجين حقّا على الآخر يحاسبه الرقيب، و هي أعظم اية في تشريع قانون الزواج و التأكيد في مراعاة حق الزوجة و في السنة الشريفة ما يفسر ذلك

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«أحبّكم عند اللّه أحسنكم إلى زوجته» و لا يعقل أن يكون قانون أضبط و أشمل لحقوق الزوجية من هذه الآية. و لم تصل الإنسانية في أمر الزواج إلى هذا المستوى من الانحطاط و لم يتحمل المجتمع الإنساني من الآلام و المتاعب في الحياة الزوجية إلا لأجل الإعراض عما أنزله اللّه تعالى فيها.

ص: 367

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً أنّه كان في الحيض عادة متبعة عندهم إما شديدة قاسية عليهم كما كانت اليهود تفعله بالنسبة إلى النساء عند عروض الحيض أو مهملة و بسيطة كما كانت تفعله النّصارى، أو بعض العرب من رجحان إتيان النساء في هذه الحال.

و في الجواب كان الحكم الشرعي الذي يعتبر وسطا بين تلك العادات.

الثاني: يدل قوله تعالى: قُلْ هُوَ أَذىً على جميع ما يتعلق بهذا الدم من الآثار الصحية و النفسية بالنسبة إلى الحائض و ما يتعلق بالنسبة إلى الزوج الذي يمنعه هذا الدم من أهم الاستمتاعات و ما يتعلق بالنطفة إن فرض انعقادها في هذه الحالة. فتشمل هذه الجملة الفصيحة الموجزة على كثير مما يذكره الأطباء و غيرهم في هذا الدم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ الأخذ بالاحتياط في هذا الأمر فإنّه و إن كان كناية عن إتيان النساء إلا أنّه يدل على شدة الاهتمام

ص: 368

لأنّه يصير الإنسان في حالة تغلب عليه الشهوة فلا يتوجه إلى فعله كما هو واضح.

الرابع: يدل قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ على أنّه وراء هذا الحكم الشرعي أمر مكتوب من عند اللّه جعله في الزواج الذي لا بد من ابتغائه في هذه الحياة لتسلم عن المشكلات و تبتعد عن الشقاء.

و إطلاقه يشمل ما أمره اللّه من حيث كيفية المعاشرة و المخالطة، و حسن الأخلاق، و ابتغاء النّسل الصّالح و غير ذلك مما له دخل في هذه الحياة التي أحبّ اللّه تعالى أن تكون هنيئة سعيدة.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ الجانب الخلقي في الأحكام الشرعية التي أنزلها اللّه تعالى من حيث إنّها جاءت لتكميل النفوس الناقصة بإتيان ما أمره اللّه تعالى و الانتهاء عن نواهيه و تطهيرها عن القذارات المعنوية بالابتعاد عن سفاسف الأمور و رذائل الأخلاق.

السادس: يستفاد من صيغة الجمع في التوابين و المتطهرين و المبالغة فيهما تعميم التوبة و التطهير بالنسبة إلى جميع الذنوب صغائرها و كبائرها و تكرارها و الإدامة عليها بالاستغفار أو بإتيان الوظائف الشرعية و حسن التطهير عن جميع القذارات الحسية و المعنوية كالأخلاق الرذيلة و العلوم الباطلة و الإدامة على الطهارة و تكرارها.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ حسن الثواب لمن يتبع أوامر اللّه تعالى و ينتهي بنواهيه لا سيّما في المقام الذي تهيج فيه القوى الشهوية و النزوات الشيطانية، و لذا ورد في بعض الأخبار أنّ المرأة إذا عملت بوظائفها حال الحيض يكون ثوابها كثواب الشهيد في سبيل اللّه تعالى.

الثامن إنّما كرّر سبحانه و تعالى «الحب» لبيان تعدد الموضوع و الاهتمام بهما، و هما قد يجتمعان و قد يفترقان. مع أنّ تكرار لفظ الحب محبوب في حد نفسه و أنّه يوجب زيادة الترغيب.

ص: 369

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ احتياج المجتمع الإنساني في بقاء النوع إلى النساء كاحتياجهم إلى الزرع، و أنّهنّ الجزء المكمّل لهذا المجتمع بل الأصل في مادته، و بالتآلف معهنّ تتم الحياة السعيدة و في هذا التعبير كمال العطف بهنّ و فيه من حسن الأسلوب و روعة البيان ما لا يخفى.

العاشر: يدل قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ الاهتمام بتربية الأولاد، لأنّهم أهمّ شيء يقدمه الإنسان لنفسه كما

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يستغفر له، و صدقة جارية، و مصحف يقرأ فيه» و في قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [البقرة - 110]، بيان و شرح لمثل هذه الآية.

الحادي عشر: إطلاق قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ يشمل جميع ما يصلح لأن يقدم للآخرة من الأعمال الصالحة أو الأخلاق الفاضلة أو المعتقدات الحقة كما يستفاد منه كمال الترغيب إلى ذلك و الاهتمام بالتقوى.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ نهاية الاهتمام بمراقبة النفس و التحذير و عن المعاصي كما يستفاد البشارة لمن عمل بذلك و أنّ مراقبة النفس و العمل بالأحكام الإلهية من مقوّمات الإيمان و تدل على ذلك آيات كثيرة.

ص: 370

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة ما يلي من الأحكام الفقهية:

الأول: الحيض دم يخرج من الرحم ذو أوصاف معلومة تختلف باختلاف الأمزجة و الأمكنة و الأزمنة و قد حددته الشريعة الإسلامية بحدود خاصة و قيود مخصوصة وردت في السنة المقدسة، و شرحها الفقهاء بما لا مزيد عليه تعرضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام).

و هو يختلف عن كلّ دم خارج عن الرّحم تراه المرأة كالنفاس و الاستحاضة و دم العذرة، و لا فرق في حصول الحيض بين أن يكون طبيعيا أو بالعلاج و المناط تحقق شرائطه المعتبرة شرعا.

و الحيض من الحدث الأكبر و هو ما يوجب الغسل كالجنابة، و النفاس، و كذا بعض أقسام الاستحاضة، فلا يرتفع حدث الحيض إلا بالغسل و لا يكفي تطهير المحل.

الثاني: الطهارة و النجاسة من الأمور الشايعة عند الناس بلا اختصاص لهما بقوم دون آخرين أو ملة دون أخرى.

و هما ناشئتان عن وجدان الأشياء ما يوجب تنفر الطبع و الرغبة عنها، أو ما يوجب الإقبال و الرغبة إليها، و هذا المنشأ و إن كان بادئ الأمر محسوسا و لكنّ الإسلام عمّهما بالنسبة إلى المحسوسات و المعقولات كالأخلاق و العقائد و الأقوال

ص: 371

و الأفعال و نحو ذلك.

و النجاسة: هي القذارة المحدودة شرعا. و الطهارة: صفة خاصة تنافي النجاسة و هي إما ظاهرية - التي تحصل من زوال النجاسة و التجنب عنها - أو معنوية و لها مراتب كثيرة قال تعالى: وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر - 5]، و قال تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب - 33]، و قال تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ [الواقعة - 79].

فكما أنّ ظاهر البدن و اللباس يستقذر بالقذارات الظاهرية فلا بد في تطهيرهما بالكيفية المقررة في الشريعة الإسلامية، كذلك تستقذر الروح بالمعاصي و الذنوب و الأخلاق الرذيلة و لا بد من تطهيرها بالإيمان و التوبة و الاجتناب عما يوجب التنفر و الكراهة و إلا حصل التباعد بينها و بين المبدأ الفياض فتبتعد عن محالّ القدس، و تخرج عن الصراط المستقيم و تهوي أخيرا إلى سواء الجحيم و قد اهتم الإسلام بكلّ منهما نهاية الاهتمام و كماله.

و الطهارة في جميع الكتب السماوية تكون على قسمين: إما طهارة حدثية، أو طهارة خبثية، و الأولى ترفع الأحداث و هي: الوضوء، و الغسل، على ما هو المقرّر في الشرع الإسلامي. و الثانية تزيل النجاسة الحاصلة بملاقاة إحدى الأعيان النجسة و هي في الشريعة الإسلامية إحدى عشرة: الدم، و البول، و الغائط، و المني من الإنسان و بعض الحيوانات، و الميتة، و الكلب، و الخنزير البريان، و المشرك، و المايع من المسكر على ما هو مفصّل في الفقه.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ أنّ المحرّم هو إتيان النساء في محلّ الحيض فقط، لاختصاص العلة التي ذكرها سبحانه في الآية الشريفة بهذا الموضع، فيحرم الجماع في الفرج لا مطلق التلذذ و التمتع و المعاشرة و يكون ذلك حدّا وسطا بين تحريم مطلق المعاشرة مع الحائض كما يفعله اليهود و بعض العرب و بين الإباحة المطلقة كما يفعله النّصارى أو بعض مشركي العرب الذين كانوا يستحبون المعاشرة معهنّ في هذا الوقت.

ص: 372

الرابع: ربما قيل بدلالة قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ على حرمة إتيان النساء من أدبارهنّ، و لكنّه فاسد، لأنّ الآية وردت لبيان حكم خاص في حالة مخصوصة و لا دلالة لها على شيء آخر إلا بضميمة مفهوم اللقب، أو أنّ الأمر يقتضي النّهي عن ضده. و قد أثبتنا بطلان كلّ منهما في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا (تهذيب الأصول).

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ التوسعة في إتيان النساء و جواز الاستمتاع من الزوجة من حيث المكان و الزمان إلا ما ورد النّهي عنه شرعا، و إطلاق الآية المباركة يشمل جواز إتيان الزوجة قبلا و دبرا و هو المشهور بين فقهاء الفريقين و المسألة مذكورة في كتب الفقه مفصّلة.

السادس: ربما قيل بأنّ إطلاق قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ يدل على جواز العزل عند الجماع.

و لكنّه موهون جدّا لأنّ الإطلاق إنّما يؤخذ به إذا كان في مقام البيان و مع العدم أو الشك في البيان لا يمكن التمسك به كما ثبت في علم الأصول.

السابع: يدل قوله تعالى: حَتّى يَطْهُرْنَ على كفاية نقاء المحل و لو بملاحظة مجموع الآية بصدرها و ذيلها بعد رد بعضها إلى بعض كما هو الشأن في استفادة حكم من الأحكام الشرعية من الأدلة.

ص: 373

بحث روائي

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ قال: «الذي سأل عن ذلك أبو الدحداح و هو ثابت بن الدحداح».

و في أسباب النزول للواحدي عن أنس: «أنّ اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت فلم يواكلوها، و لم يشاربوها و لم يجامعوها في البيت فسئل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عن ذلك فأنزل اللّه عزّ و جل:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ - الآية - فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): جامعوهنّ في البيوت و اصنعوا كلّ شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن خضير، و عباد بن بشر فقالا: يا رسول اللّه إنّ اليهود قالت كذا و كذا أ فلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفنا أنّه لم يجد عليهما».

أقول: روى مثله أحمد و الدارمي، و مسلم، و أبو داود، و الترمذي، و النسائي، و أبو يعلى، و ابن المنذر، و أبو حاتم، و النحاس في ناسخه، و أبو حيان، و البيهقي في سننه عن أنس. و تقدم في التفسير ما يدل على صحة ما

ص: 374

ورد في الرواية من التوراة.

في الكافي: «سئل الصادق (عليه السلام) ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال (عليه السلام): كلّ شيء ما عدا القبل بعينه».

و فيه أيضا عنه (عليه السلام): «فليأتها حيث شاء ما اتقى موضع الدم».

أقول: الروايات في هذا المعنى متواترة.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها قال (عليه السلام): «إذا أصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغتسل فرجها ثم يمسها إن شاء قبل أن تغتسل. و في رواية و الغسل أحبّ إليّ».

أقول: في سياقها روايات أخرى تدل على أنّ المراد بالتطهير انقطاع الحيض لا الاغتسال، و هي تؤيد قراءة يَطْهُرْنَ بالتخفيف.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن.

أقول: هذا محمول على الاستحباب جمعا بين الروايات فيجوز الوطي بعد النقاء و إن كان الأفضل أن يكون بعد الغسل.

و أما ما يقال من ظهور لفظ التطهر في الغسل لأنّه ظاهر في الأمر الاختياري. فهو مخدوش أولا لكونه أعم من ذلك كما لا يخفى.

و ثانيا: الروايات في شرح الآية الكريمة تكون قرينة على أنّ المراد هو النقاء من الحيض فلا وجه لتعيّن هذا الاستظهار بعد الجواز قبل الغسل و كون الغسل أحب كما ورد في الحديث السابق.

في التهذيب عن عبد اللّه بن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ قال (عليه السلام): «هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

ص: 375

أقول: الحديث يبيّن أنّه لا تنافي بين صدر الآية و ذيلها فإنّ طلب الولد على ما أمره اللّه تعالى شيء و التمتع بالزوجة شيء آخر.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ قال (عليه السلام): «كان الناس يستنجون بالكرسف و الأحجار ثم أحدث الوضوء، و هو خلق كريم فأمر به رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و صنعه و أنزل اللّه في كتابه: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ .

أقول: يستفاد من الحديث أنّ الاستنجاء بالكرسف و الأحجار مجز أيضا و لكن التطهر الحاصل من الماء مبالغة في الطهارة و هي مما يحبه اللّه تعالى.

و الروايات في هذا المعنى كثيرة.

و في الكافي أيضا عن محمد بن النعمان الأحول عن سلام بن المستنير قال: «كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل عليه حمران بن أعين و سأله عن أشياء فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام) أخبرك أطال اللّه تعالى بقاءك لنا و أمتعنا بك أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا و تسلو أنفسنا عن الدنيا و يهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس و التجار أحببنا الدّنيا قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنّما هي القلوب مرّة تصعب و مرّة تسهل، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) أما إنّ أصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) قالوا: يا رسول اللّه نخاف علينا النفاق فقال (صلّى اللّه عليه و آله): و لم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكّرتنا و رغّبتنا و جلنا و نسينا الدّنيا و زهدنا حتّى كأنا نعاين الآخرة، و الجنة و النار و نحن عندك، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك و حتّى كأنا لم نكن على شيء، أ فتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): كلاّ إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، و اللّه لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم

ص: 376

بها لصافحتكم الملائكة و مشيتم على الماء، و لو لا أنكم تذنبون فتستغفرون اللّه تعالى لخلق اللّه خلقا حتّى يذنبون فيستغفروا اللّه تعالى، فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتن تواب أما سمعت قول اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ و قال تعالى: اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ .

أقول: أطوار القلوب و حالاتها في قربها إلى اللّه تعالى و بعدها عن غيره تارة و التوجه إلى الدّنيا أخرى معلومة لمن كان له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد، و تدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية و النقلية.

و لا ريب في أنّ طهارة القلب بالتوجه إلى اللّه تعالى و الإعراض عن غيره نحو طهارة معنوية هي غاية استكمال الإنسان، و الطهارة الظاهرية من طرق حصولها و كلّ منهما محبوبة لدى اللّه تعالى.

و المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لو تدومون على هذه الحالة» أي: الانقطاع إلى اللّه تعالى و الانقلاع عن غيره و هي العبودية الخالصة التي لا يشوبها شيء، و قد تقدّم بعض الكلام فيها في قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً [البقرة - 124].

و

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا اللّه تعالى فيغفر لهم» إشارة إلى قاعدة أثبتها الفلاسفة الإلهيّون و العرفاء: أنّ جميع ما في هذا العالم مظهر من مظاهر أسمائه تعالى المقدّسة، فلو لم يتحقق الذنب لم يتحقق العفو و الغفران و التوبة بالنسبة إليه عزّ و جل، فمن لوازم هذه الأسماء المقدّسة تحقق الذنب مع أنّه بنفسه يوجب استكانة المذنب عند ربه و طلبه العفو و الغفران منه. و الحديث يشرح الطهارة المعنوية.

في تفسير العياشي و القمي في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ عن الصادق (عليه السلام): «أي متى شئتم في الفرج».

و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك و قال: إياكم و محاشي النساء

ص: 377

و قال إنّما يعني نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ : أيّ ساعة شئتم».

و في تفسير العياشي عن معمر بن خلاد في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّه قال:

«أي شيء تقولون في إتيان النساء في أعجازهنّ؟ قلت: بلغني أنّ أهل المدينة لا يرون به بأسا قال (عليه السلام): إنّ اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل اللّه تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ يعني: من خلف أو قدام خلافا لقول اليهود و لم يعن في أدبارهنّ».

أقول: يستفاد من مجموع الأخبار الواردة في هذه الآية أنّ كلمة أَنّى تستعمل في الأعم من الزمان و المكان و المحلّ و هو صحيح مطابق لعموم اللفظ. نعم، هناك بحث آخر مستقل أنّ إتيان النساء من أعجازهنّ هل يجوز أو يحرم أو يكره؟ و المسألة مذكورة في الفقه و المشهور بين الإمامية الجواز مع الكراهة خصوصا مع عدم رضاها بذلك.

في الدر المنثور عن الدارقطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال:

«قال لي ابن عمر: أمسك عليّ المصحف يا نافع: فقرأ حتّى أتى على:

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قال لي: تدري يا نافع في من نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك فأنزل اللّه: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قلت له: من دبرها في قبلها قال: «إلا في دبرها».

أقول: ذكر ابن عبد البر الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر معروفة عنه مشهورة.

و فيه أيضا: أخرج ابن راهويه و أبو يعلى و ابن جرير و الطحاوي في مشكل الآثار و ابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: «أنّ رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

ص: 378

و فيه أيضا: أخرج ابن راهويه و أبو يعلى و ابن جرير و الطحاوي في مشكل الآثار و ابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: «أنّ رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

أقول: تدل على إباحة الوطي من الدبر روايات كثيرة عن الجمهور بعدة طرق.

و فيه أيضا عن الطحاوي عن عبد اللّه بن القاسم قال: «ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّه حلال - يعني وطي المرأة في دبرها - ثم قرأ:

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ - الآية - ثم قال: فأيّ شيء أبين من هذا؟».

في الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه قال: «كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة، و كانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل فأخبر بذلك رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ أي قائما و قاعدا و مضطجعا بعد أن يكون في صمام واحد».

أقول: روي قريب من ذلك عن الصحابة بعدة طرق و المراد من الشرح: وطي المرأة نائمة على قفاها، و المراد من الصمام: الفرج.

في تفسير القرطبي عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو يخطب يقول:

إنّكم ملاقو اللّه حفاة عراة مشاة غرلا. ثم تلا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

و اتقوا اللّه و اعلموا أنّكم ملاقوه».

أقول: أخرج قريبا منه مسلم في صحيحه. و الغرل جمع أغرل: و هو الأغلف أي غير مختون. و الوجه في ذلك ثبوت المعاد الجسماني بجميع الأجزاء و الخصوصيات التي كان الجسم عليها.

ص: 379

بحث اجتماعي

ذكرنا أنّ الحيض في النساء من الأمور الطبيعية كسائر الأمور التكوينية المتعلقة بالإنسان - الرجال و النساء على حدّ سواء - كالتنفس و الصحة، و المرض و نحو ذلك إلا أنّها تختلف من حيث إنّ بعضها فيه نوع من الأذية و يتنفر الطبع منه، و البعض الآخر ليس كذلك و الإنسان مركب منهما و هذا معلوم لكلّ أحد.

و الحيض من القسم الأول فهو أذى للنساء كما نطقت به الآية الشريفة.

و لكن ذلك لا يوجب الحطّ من منزلة المرأة في المجتمع الإنساني، فإنّها و الرجل عضوان منه يشتركان في بقائه و تحقيق مقاصده و أغراضه، و يتحمل كل واحد منهما المسؤولية الملقاة على عاتقه فيه، و يسعيان في سعادته أو شقاوته.

مضافا إلى ذلك أنّ بالرجل و المرأة تقوم الحياة الزوجية التي هي أساس المجتمع الإنساني.

هذا هو نظر الإسلام إلى المرأة، لا كما تراه الأقوام البدائية التي لم تجعل لهنّ أي دور بارز في المجتمع، و ما عليه المدنية الحاضرة التي جعلت المرأة مبتذلة يخذها الرجل العوبة في تحقيق مآربه و أغراضه مما أوجب صرفها عن المسؤولية التي جعلها اللّه تعالى عليها.

و الآية المباركة التي تقدم تفسيرها تكشف عن جوانب متعددة مما يراه

ص: 380

الإسلام فيهنّ، فهي تدل على أنّ دم الحيض أمر طبيعيّ للنساء أذى لهنّ ينبغي مراعاتهنّ في هذه الحالة، و ليس هو نقص لهنّ يحط من منزلتهن ثم أعطت المنزلة السامية لهنّ عند ما اعتبرهنّ بمنزلة الحرث للرجال، و بذلك تتحمل مسئولية الحمل و الرضاع و نشأة الأولاد و قد أعدها اللّه تعالى لهذه المسؤولية إعدادا حسنا، فخلقها صابرة تتحمل الصعاب في هذا السبيل، عطوفة حساسة للأمور التي تحيط بها، شغوفة في حبّ الأولاد و تربيتهم و غير ذلك مما تتطلبه هذه المسؤولية.

و قد حذر سبحانه و تعالى الرّجل من استغلال هذه الصفات فيهنّ بالاستخفاف بهنّ أو استحقارهنّ في قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

و أما الرجل الذي هو الجزء الآخر من المجتمع الإنساني و على جانب من المسؤولية الاجتماعية و قد خلقه اللّه تعالى و حمّله مسئولية تربية الأولاد و معيشتهم فقد جعل عزّ و جل المادة الأساسية في الرجل، و جعل محل انعقادها رحم المرأة التي هي كالوعاء لنشوء الجنين و حفظه، و قد أعد اللّه سبحانه الرجل إعدادا جميلا يتحمل هذه المسؤولية فخلقه قويا يتحمل المكاره، مكافحا في سبيل عيشه و عيش أولاده، صعبا لا يخرج عن إرادته بسهولة. و غير ذلك مما لا بد منه في هذه المسؤولية و بمقتضى تغاير المسؤوليتين امتاز كلّ واحد منهما بصفات و أخلاق، و لكن ذلك لا يوجب الفرق بينهما بحسب النوع بحيث يعد أحدهما من أفراد الحيوان، بل هما متماثلان في الذات و الشعور و الحقوق... أو من قبيل الإنسان القليل الاستعداد و الكثير.

و قد أيدت ذلك التجارب العلمية الصحيحة، و الفت كتب خاصة فيما يمتاز به الرجل عن المرأة تكوينا.

و يدل على ذلك: أنّ الأحكام الشرعية الإلهية التي نزلت لتكميل الإنسان تعم الرجل و المرأة على حدّ سواء، و قد أسس الفقهاء «قاعدة الاشتراك» و المراد منها اشتراك النساء مع الرجال في جميع الأحكام الوضعية

ص: 381

و التكليفية إلا ما خرج بالدليل، و لكن اختص كلّ واحد منهما بجملة من الأحكام الشرعية بمقتضى وظيفة كلّ واحد منهما في المجتمع، و ليست تلك الأحكام التي تخص المرأة مما يدل على نقص المرأة عن الرجل، بل هي أحكام تتلائم مع مسئوليتها و تكوينها.

و يمكن تقسيم شؤون النساء إلى أقسام:

الأول: التكاليف الشرعية المجعولة لهنّ كما هي مجعولة للرجال.

الثاني: الفضائل و العلوم التي تعتبر من الكمالات التي يرغب إليها شرعا و عقلا فهي مطلوبة منهنّ ما لم يردع عنها الشارع أو تترتب عليها المفسدة و على ذلك يحمل ما ورد من النّهي عن تعليمهنّ بعض الأمور.

الثالث: الأمور الاجتماعية التي يفرضها الاجتماع الإنساني فلا بأس بممارسة المرأة لها مع التحفظ على ما يريده الشرع منها كالستر و العفاف.

الرابع: الأمور التي تنافي عفتها و توجب تبذلها و احتكاكها مع الأغيار و هذه لا تجوز عقلا و شرعا بل و عرفا.

هذا موجز الكلام في شأن النساء بحسب نظرة الإسلام و سنتابع البحث في الآيات الشريفة المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 382

وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ .......

اشارة

وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى بعض الأحكام الشرعية التي تهدي الإنسان إلى الكمال و توجب له الطهارة، و حذّره جل شأنه عن المخالفة و المعصية.

و أمره بالتقوى ذكر هنا بعض الأحكام العامة في الإيمان و بيّن أنّ من التقوى الاجتناب عن الحلف باسم اللّه تعالى في كلّ شيء فإنّه مانع عن البر و التّقوى و الإصلاح التي لا بد أن يبتغيها المؤمن في كلّ أعماله ثم بيّن سبحانه أنّه لا يؤاخذكم بالأيمان اللاغية التي لا يعقد العزم عليها فإنّه لا كفارة فيها و لا عقاب و إنّما يؤاخذ اللّه تعالى الإنسان بالنيات التي يعقد عليها الأعمال ثم بشره بالغفران.

ص: 383

التفسير

224 - قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ .

مادة (عرض) تأتي بمعنى الإظهار للغير لمصلحة فيه، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [الأحزاب - 72]، و قال تعالى: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ [الأحقاف - 34]، و قال تعالى: وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف - 100]، و لم تستعمل هيئة عُرْضَةً إلا في المقام فقط.

و الأيمان جمع يمين: و هي بمعنى الحلف و القسم، تذكّر و تؤنث، و هي فعيل من اليمن بمعنى البركة لأنّها تحفظ الحقوق، أو لأجل أنّ العرب كانت تضرب اليمين على اليمين عند الحلف فسمّي الحلف يمينا. و قد وردت جميع مشتقات اليمين و الحلف في القرآن الكريم.

و من عادة الناس الحلف بالعظماء و الأكابر و ما هو محترم لديهم على اختلاف مذاهبهم و مللهم.

و في القرآن الكريم حلف الخالق بالمخلوق، و المخلوق بالخالق، و لعل أحلى قسمه تعالى قوله عز و جل: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ

ص: 384

[الحجر - 72]، و من أشده و أعظمه قوله جل جلاله: «و عزتي و جلالي و علو قدري و ارتفاع مقامي لأقطعنّ أمل كلّ مؤمل أمل غيري».

و المعنى: لا تجعلوا اللّه تعالى في معرض حلفكم إذا أردتم أن تحلفوا، و هذا يشمل المرة الواحدة فضلا عن الزائد لأنّ عظمته تعالى غير متناهية و لا يمكن دركها بالعقول مطلقا فكيف يحلف بما لا يدرك إلا مفهوم لفظه.

قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ .

بيان لأيمانكم، أي: لا تجعلوا اللّه في معرض الحلف به في هذه الأمور الثلاثة التي هي مرضية له تعالى فضلا عما لا يكون مرضيا له، أو شككتم في أنّه مرضيّ له تعالى، فتشمل الآية الحلف على ترك البر و التّقوى و الإصلاح بين الناس بالأولى.

و إنّما ذكر سبحانه هذه الأمور لأنّ سائرها يرجع إليها، أو لأنّها أهم الأمور النظامية الاجتماعية، أو لأنّها مورد النذور و الأيمان بين الناس غالبا، فتشمل الآية غيرها بالأولى، و يؤيد هذا المعنى بعض الروايات كما يأتي.

و للمفسرين في تفسير هذه الآية الشريفة أقوال:

منها: أنّ هذه الآية غاية للحكم أي النّهي في لا تَجْعَلُوا أي: لا تحلفوا باللّه لأن تبروا و تتقوا و تصلحوا فتكون تعليلا لما تقدم.

و منها: أنّ قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا تقدير (أن لا تبروا) أي: لا تكثروا الحلف باللّه فإنّه يؤدي إلى أن لا تبروا و لا تتقوا و لا تصلحوا بين الناس، فإنّ من أكثر الحلف بشيء أدّى إلى استصغار ما أقسم به فلا يبالي الكذب و لا الحنث.

و منها: لا تجعلوا اللّه بواسطة الحلف به مانعا و حاجزا عما حلفتم على تركه، فإنّه لا يرضى أن يكون اسمه حاجبا عن الخير. و غير ذلك من الوجوه، و لكنّ الوجه الذي ذكرنا أنسب و أشمل و إن أمكن إرجاع بعض الوجوه المتقدمة إلى ما قلناه.

ص: 385

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه سميع لأيمانكم و جميع أقوالكم عليم بنياتكم و أحوالكم و لا يخفى عليه شيء في السّموات و الأرض، و في الآية نوع من التهديد و فيها إرشاد إلى مراقبة الإنسان لأقواله و نياته.

225 - قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ .

مادة (لغو) تأتي بمعنى ما لا فائدة فيه و لا نفع، و يطلق اللفظ على صوت الطّير و العصافير من هذه الجهة.

و المراد به في المقام: الحلف الخالي عن القصد الاستعمالي الجدي الذي تدور عليه المحاورات المتعارفة بين الناس فإنّه إذا لم يحرز ذلك لا يترتب الأثر على الكلام بلا فرق بين الإخباريات و الإنشائيات و الوضعيات و الأحكام مطلقا.

فيكون الأصل في بيان المراد و الظهور هو القصد الاستعمالي الجدي و عليه يبتني التفهيم و التفهّم و المؤاخذات و الكلام بدونه تكون لغوا بالنسبة إلى المعنى المطلوب لا فائدة فيه و لا يترتب عليه الأثر المقصود.

و الآية المباركة تبيّن أنّ الأيمان الخالية عن القصد الاستعمالي الجدي تكون لغوا لا يترتب عليها الأثر، فلا يؤاخذ اللّه تعالى الناس عليها. و تقع مثل هذه الأيمان في حشو الكلام و تجري على اللسان كثيرا من دون أن يعقد صاحبها على أنّها يمين و يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ [المائدة - 89].

و المراد بعدم المؤاخذة عدم الكفارة و عدم العقاب.

قوله تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .

المراد من كسب القلب في المقام: القصد الجدّي و النية و العزم أي:

و لكن يؤاخذكم بما نوت قلوبكم في الأيمان من المخالفة العمدية و الكذب و الحنث و ما يكسبه الإنسان من الإثم فيما عقد قلبه بالأيمان.

ص: 386

و الآية تدل على أنّ قسما خاصا من اليمين يكون مورد المؤاخذة و هو ما تصلح النية فيه، و في غيره لا مؤاخذة فيه، للقاعدة العقلية من انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع.

و يستفاد من الآية الكريمة كمال الأهمية للنيات، فإنّ عليها يدور صلاح الأعمال و فسادها و الثواب و العقاب، و ظاهر اللفظ إنّما يكون معتبرا لأجل كونه كاشفا عن النيات.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ .

الغفور و الحليم من أسماء اللّه تعالى الحسنى، و الأول مبالغة في التجاوز و الغفران عن الذنب بالشرائط المقرّرة في الشريعة، و الثاني عبارة عن الإمهال و ترك التعجيل في العقوبة.

و تعقيب هذه الآيات المباركة بهذين الاسمين الشريفين للإشارة و الترغيب إلى عدم اليأس من رحمة اللّه تعالى لو تحققت المخالفة لبعض تلك الأحكام أحيانا لإغواء الشيطان فيتوب إليه تعالى و يرغم أنف الشيطان، فذكر جل شأنه هذين الاسمين للإعلام بزيادة التوجه و التنبيه و المبالغة في عدم حصول اليأس عند صدور المعصية.

ص: 387

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ فيه وجوه من الإعراب:

الرفع: على أنّه مبتدأ و الخبر محذوف أي البر و التقوى و الإصلاح، أولى من اليمين باللّه تعالى.

و النصب: إما على تأويل لا تمنعكم اليمين باللّه تعالى البر و التقوى و الإصلاح.

أو على أنّه مفعول لأجله، أي: لأجل أن تبروا و تتقوا و تصلحوا.

أو على أنّه منصوب بنزع الخافض.

و قيل: إنّ التقدير: أن لا تبرّوا و لا تتقوا و لا تصلحوا. و حذف كلمة «لا» كثير، مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء - 176]، أي: أن لا تضلّوا.

و قال الخليل و الكسائي إنّه في موضع خفض و التقدير: في أن تبروا فأضمرت و خفضت بها.

ص: 388

بحث فلسفي

من الألفاظ الشايعة في القرآن الكريم و السنة المقدسة: القلب و هو من التقلّب، و الصرف و التصرّف، و له إطلاقان:

الأول: العضو المعروف في جسم الحيوان، أي: اللحم الصنوبري النابت في الطرف الأيسر من الحيوان و هو كمضخة للدم السائل في العروق.

الثاني: اللطيفة الربانية أو العقل العملي أو النفس الناطقة الإلهية في مقام فعليتها، أو النفس اللوامة الفعلية، أو الجميع بحسب مراتبها المختلفة شدة و ضعفا، لأنّه على أيّ تقدير من الحقائق التشكيكية، و إن كان الحق هو الأخير كما هو المستفاد من الأخبار الشريفة و كلمات العلماء.

و من هذا الإطلاق قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ [الشعراء - 194]، و مفهوم قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف - 179]، و قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ [ق - 37]،

و ما ورد في الحديث:

«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن»

و في القدسيات: «لا يسعني أرضي و لا سمائي و إنّما يسعني قلب عبدي المؤمن»

و ما ورد في الحديث:

«سأل موسى ربّه أين أجدك يا ربّ؟ قال عزّ و جل أنا عند المنكسرة قلوبهم».

ص: 389

و من أسمائه الحسنى المباركة: «يا مقلّب القلوب» إلى غير ذلك مما هو كثير.

و عن بعض أكابر الفلاسفة أنّ القلب بهذا المعنى من أبواب الجنة و به تصير ثمانية بخلاف النار فإنّ أبوابها سبعة، و ليس لها باب القلب و استظهر ذلك من الآيات المباركة منها قوله تعالى: نارُ اَللّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [سورة الهمزة - 9]، و قد تحير العلماء في ذلك.

و لعلّ إطلاق القلب و إرادة الرّوح أو النفس أو الإنسان نفسه في بعض الآيات كقوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة - 283]، و قوله تعالى: وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق - 33]، و قوله تعالى: يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة - 225]، لأجل أنّه مبدأ الروح و بتلفه يتلف الحيوان و لذا ينسب إليه عند العرف كلّ ما فيه شوب درك مثل الحب و البغض و نحوهما.

كما يطلق عندهم الصدر و يراد به القلب باعتبار الحال و المحل كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام - 125]، و قال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه - 25]، و غير ذلك من الآيات الشريفة.

ص: 390

بحث روائي

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قال: «هو قول الرّجل في كل حاله لا و اللّه و بلى و اللّه».

و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) أيضا في الآية المباركة قال (عليه السلام): «هو قول الرّجل لا و اللّه و بلى و اللّه».

أقول: إنّ إطلاق الرواية يشمل جميع ما ذكر في تفسير الآية الشريفة و لفظ الجلالة من باب المثال لكل اسم مختص به عزّ و جل.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قال: «إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل».

و في تفسير العياشي عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ يعني: «الرجل يحلف أن لا يكلّم أخاه و ما أشبه ذلك أو لا يكلّم أمه».

أقول: إنّ الرواية تدل على أنّ المعتبر في الحلف الرجحان أو التساوي فلا ينعقد في المرجوح فتكون بيانا لبعض معاني قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا .

ص: 391

و فيه أيضا قال (عليه السلام): «يا سدير من حلف باللّه كاذبا كفر و من حلف باللّه صادقا أثم إنّ اللّه عزّ و جل يقول: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قال (عليه السلام): «اللغو قول الرجل: لا و اللّه و بلى و اللّه و لا يعقد على شيء».

أقول: روى مثله العياشي عن أبي الصباح و المراد بذلك أن لا يكون له قصد استعمالي جدّي.

ص: 392

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة أحكام:

الأول: أنّ الأيمان على ما يستفاد من الآية الشريفة بضميمة ما ورد في شرحها من السنة المقدسة على أقسام ثلاثة:

الأول: يمين التأكيد و التثبيت كما إذا قال: و اللّه إنّ هذا اليوم يوم الجمعة، و هو كذلك.

الثاني: ما تقرن بالطلب و السؤال، و حث المسؤول على إنجاح المقصود، كقول الحالف: «أسألك باللّه أن تقضي لي حاجتي» و الدّعوات المأثورة مشحونة بذلك.

الثالث: ما تقع تأكيدا لما التزم به كقول القائل: «و اللّه لا أرضى - مثلا».

و لا يترتب شيء على القسم الأول سوى الإثم لو كان كاذبا في حلفه، و هي من المعاصي الكبيرة و تسمى باليمين الغموس لأنّها تغمس صاحبها في النار و

في بعض الأخبار: «إنّها تذر الدّيار بلاقع من أهلها».

و كذا لا أثر بالنسبة إلى القسم الثاني و لا كفارة أيضا على الحالف و لا على المحلوف عليه لو لم ينجح المقصود.

ص: 393

و أما القسم الأخير ففيه شرائط مذكورة في الفقه و يترتب على حنثه الإثم و الكفارة.

الثاني: لا أثر لليمين إلا إذا كانت باللّه عزّ و جل أو بأسمائه المقدسة المختصة به لفظا أو بالقرينة الظاهرية، فاليمين بغير ذلك لا أثر لها و لو كان عظيما.

الثالث: الأيمان الصادقة كلّها مكروهة، سواء كانت على الماضي أو المستقبل و تتأكد الكراهة في الأول،

فعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الموثق: «لا تحلفوا باللّه صادقين و لا كاذبين فإنّه عزّ و جل قال: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ .

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في موثق ابن سنان قال: «اجتمع الحواريون إلى عيسى (عليه السلام) فقالوا يا معلّم الخير أرشدنا فقال: إنّ موسى نبيّ اللّه (عليه السلام) أمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين و أنا آمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين و لا صادقين».

نعم، لو أراد بها دفع مظلمة عن نفسه أو عرضه أو غيرهما جاز بلا كراهة و التفصيل يطلب من الفقه.

الرابع: يتعلّق اليمين بكلّ مباح فيه غرض صحيح غير منهي عنه شرعا كما يتعلّق بترك كلّ حرام أو مكروه، و بفعل كلّ واجب أو مندوب و لا يتعلّق بغير ذلك بل يكون لغوا و باطلا.

ص: 394

بحث عرفاني

كل من أحب شيئا و عشقه لا يحلف بمحبوبه و معشوقه إلا نادرا بل لا يحلف به في الأمور المهملة و إذا حلف يبر بحلفه و لا يحنث و لو أدى إلى بذل النفس و النفيس و اللّه تعالى أحب الموجودات إلى خلقه و هو تعالى يطلب من خلقه أن يكونوا عبادا له عزّ و جل يأتمرون بأوامره و ينتهون عن نواهيه مطيعين له يراقبونه في جميع أمورهم و تنظيم نظام العبودية يقتضي أن لا يبادروا إلى الحلف به.

كما لا يحلف أحد بمحبوبه فإنّه تعالى المحبوب الحقيقي لكلّ موجود و لو حلفوا به فإنّ عبوديتهم له عزّ و جل تقتضي الوفاء به بكلّ ما أمكنهم.

ص: 395

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَل.......

اشارة

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى حكما عاما من أحكام الأيمان و اعتبر أنّ المناط فيها عقد النية و كسب القلب فيها و إلا كانت من اللغو الذي لا يؤاخذه اللّه تعالى به.

ذكر عزّ و جل في هاتين الآيتين حكم اليمين الخاصة و هي إيلاء الرّجل من الزوجة على ترك مباشرتها فأمر سبحانه يتربص أربعة أشهر بعد الرفع إلى الحاكم فإمّا أن يرجع الزّوج أو يطلق لأنّ اللّه تعالى لا يرضى بالظلم.

ص: 396

التفسير

226 - قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ .

مادة الإيلاء و الإلية تأتي بمعنى: الحلف المقتضي للتقصير فيما يحلف.

و شرعا: الحلف المانع عن مقاربة المرأة و مباشرتها، و له أحكام خاصة في السنة المقدسة، و قد وضع الفقهاء له كتابا مستقلا.

و هاتان الآيتان وردتا في تشريعه و بيان بعض أحكامه، و لم يرد في القرآن الكريم غيرهما في الإيلاء.

و المجرور الموصول لِلَّذِينَ في محلّ رفع على أنّه خبر مقدم لقوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .

و الإيلاء من شأنه أن يتعدّى ب (على) و لكنّه في المقام عدّي ب (من) لتضمنه معنى البعد و الابتعاد و لذلك يعتبر في الإيلاء أن يكون على قصد الإضرار بالزوجة.

قوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .

مادة (ر ب ص) تأتي بمعنى الانتظار لما يرجى حدوثه أو زواله و لهذه المادة هيئات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة - 52]، و قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ [الطور - 40]، و قال تعالى حكاية عن شأن المنافقين: يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ اِرْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اَللّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ [الحديد - 14]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و المراد به في المقام مطلق المكث و التأمل.

ص: 397

مادة (ر ب ص) تأتي بمعنى الانتظار لما يرجى حدوثه أو زواله و لهذه المادة هيئات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة - 52]، و قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ [الطور - 40]، و قال تعالى حكاية عن شأن المنافقين: يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ اِرْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اَللّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ [الحديد - 14]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و المراد به في المقام مطلق المكث و التأمل.

و لم يضف سبحانه و تعالى التربص إليهنّ كما في آية الطلاق:

وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة - 228]، و لا إليهم لعدم اختصاص ذلك بأحدهما بل هو شامل لكلّ واحد منهما و مشترك بينهما.

أي: أنّ هذه المدة حق ثابت لهما لا يطالب فيها الفيئة أو الطلاق بل هي أمد مضروب للمباشرة و المقاربة.

قوله تعالى: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة. أي: إن رجعوا عن حلفهم إلى احقاق حق المرأة و الوفاء بما أوجب اللّه تعالى عليهم من حقّها يغفر اللّه تعالى لهم لأنّ اللّه غفور رحيم.

و الحلف على ترك المباشرة و الوطي للإضرار بها مخالف لأمر اللّه تعالى، فيغفر اللّه عزّ و جل هذه المخالفة بواسطة رجوعه الذي يعتبر كالتوبة و لكن ذلك لا يوجب سقوط الكفارة لأنّها لتدارك المنقصة - الحاصلة من عمل غير المرغوب شرعا - سواء كانت ذنبا أو نحوه.

227 - قوله تعالى: وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

العزم و العزيمة: إرادة إيجاد الشيء جامعا للشرائط المعتبرة فيه، أي إن أوقعوا الطلاق فإنّ اللّه سميع لأقوالهم - و منها الإيلاء و الطلاق - عليم بأحوالهم و مكنون أسرارهم، و يستفاد من الآية المباركة تفضيل الفيئة و الرجوع على الطلاق حيث وعد لهم المغفرة و الرحمة إن فاؤا.

ص: 398

بحوث المقام

بحث دلالي

لعلّ وجه تعقيب الآية المباركة بقوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أنّها مشتملة على حكم من الأحكام الإلهية فيتناسب ذكر السمع و العلم و أما في قوله عز شأنه: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إنّه في معرض بيان فعل المكلف الذي يمكن أن يشتمل على الإثم فيناسب ذكر الغفران و الرّحمة و لذلك نظائر كثيرة في القرآن العظيم.

ثم إنّه جلّ شأنه جعل الحد الأقصى للإيلاء أربعة أشهر - و هي المدّة التي حدّدها الشارع الأقدس لمطلق المباشرة الجنسية للرجل - إما مراعيا جانب المرأة حتّى لا تقع في حرج أو فساد فتأوي إلى غير زوجها و تهين عفتها و تهتك ما حدّده اللّه تبارك و تعالى عليه لأجل رفع حاجتها الفطرية فحينئذ قرّر الشارع بعد الفترة المحدّدة إمّا برجوع زوجها أو طلاقها.

أو أنّ تلك المدّة كافية غالبا لاختبار الرّجل نفسه فإمّا أن يفيء - و يستأنف حياته الزّوجية - أو يظلّ في نفرته و في هذه الصورة لا بد من الطلاق حتى ترد إلى الزوجة حريتها التامة لاختيار حياة زوجية أخرى مع شخص آخر.

ص: 399

و على أية صورة إنّ الطبايع و إن كانت تختلف في كلّ منهما و لكنّ التربص في تلك المدة كاف لتهيئة الحياة الزوجية و في الأكثر منها ضرر بالنسبة إلى المرأة أو نفس الرّجل هذا مع قطع النظر عن جانب التعبد و الانقياد.

ص: 400

بحث روائي

في الكافي عن بريد بن معاوية العجلي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) أنّهما قالا: «إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول و لا حق في الأربعة الأشهر و لا إثم عليه في كفّه عنها في الأربعة الأشهر فإن مضت الأربعة الأشهر قبل أن يمسّها فسكتت و رضيت فهو في حلّ وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إما أن تفيء فتمسها و إما أن تطلق، و عزم الطلاق أن يخلّي عنها فإذا حاضت و طهرت طلّقها و هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الذي أنزل اللّه في كتابه و سنة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في التهذيب عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) «و الإيلاء أن يقول الرجل: و اللّه لا أجامعك كذا و كذا و يقول: «و اللّه لاغيظنّك ثم يغاضبها فيتربّص بها أربعة أشهر ثم يؤخذ بعد الأربعة أشهر فيوقف فإن فاء و هو أن يصالح أهله فإنّ اللّه غفور رحيم و إن لم يف جبر على أن يطلق و لا يقع طلاق فيها بينهما و لو كان بعد أربعة أشهر ما لم ترفعه إلى الإمام».

أقول: هذه الرواية تدل على ما تقدم و الروايات في أحكام الإيلاء كثيرة مذكورة في كتب الأحاديث و قد ذكر الفقهاء أحكامه في الكتب كما تعرّضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام) و المراد بقوله (عليه السلام): «حتى يوقف» أي يأمره الحاكم الشرعي بالطلاق.

ص: 401

بحث فقهي

ذكرنا أنّ الإيلاء على ما يستفاد من الآية الشريفة و السنة المقدسة هو:

الحلف على ترك مباشرة الزوجة المدخول بها أبدا - أي غير محدود - أو مدة تزيد على أربعة أشهر للإضرار بها فلا يتحقق الإيلاء بالحلف بغير اسم اللّه تعالى، كما لا يقع بالحلف على ترك وطي المملوكة و لا المتمتّع بها و لا غير المدخول بها، و لا مدة لا تزيد على الأربعة أشهر، و لا فيما إذا كان لغرض صحيح شرعي كمرض و نحوه فإنّ في جميع ذلك يتحقق الحلف و لكن لا يتحقق عنوان الإيلاء الذي له أحكام خاصة.

إذا الإيلاء يخالف سائر الأيمان من جهتين:

الأولى: أنّه يجوز فيه الحنث بل قد يجب و مع ذلك فيه الكفارة على كلّ حال.

الثانية: أنّ سائر الأيمان لا تنعقد مع مرجوحية متعلّقها بخلاف الإيلاء فإنّه ينعقد و لو مع مرجوحية المتعلّق.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ الإيلاء ليس محرّما ذاتيا بل الحرمة إنّما هي لأجل مراعاة حق المرأة فإذا رضيت بذلك و صبرت عليه فلا حرمة في البين، و إلا فلها المراجعة إلى الحاكم الشرعي فيحضر الزوج و ينظره أربعة أشهر فإن رجع في هذه المدة و إلا أجبره على أحد الأمرين: إمّا الرجوع، أو

ص: 402

الطلاق. و تفصيل هذه الأحكام يطلب من الفقه.

كما يستفاد من الآية الشريفة أيضا: أنّ المباشرة في أثناء الأربعة الأشهر موجبة لانحلال اليمين مع الكفارة فلا تتكرّر الكفارة بتكرّر الوطي للانحلال و لأنّ اللّه تعالى وعد بالمغفرة و الرحمة لمن فاء مطلقا إلا كفارة واحدة في المرة الأولى لأجل الدّليل الخاص.

و الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 403

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.