شرح أصول الكافي
تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه
المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه
تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور
سنة الطبع :1929ه. 2008م
دار احياء التراث العربي
بيروت _ لبنان
ص: 1
جمیع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثّانیة
1929ه. 2008م
الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة
بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559
- فاکس: 850717
850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-
www.dartourath.com
Email:info@dartourath.com
ص: 2
المراد بمعاني الأسماء مفهوماتها اللغوية والعرفية.
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن ابن راشد عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) قال: الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم مجد الله. وروى بعضهم: الميم ملك الله، والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن عبد الله بن سنان، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) قال: الباء بهاء الله) البهاء في اللغة الحسن ولعل المراد به حسن معاملته مع عباده بالإيجاد والتقدير والألطاف والتدبير وإعطاء كل ما يليق به.
(والسين سناء الله) السناء بالمد: الرفعة، والسني: الرفيع وأسناه: رفعه، والمراد بسناء الله: رفعته وشرفه بالذات على جميع الممكنات.
(والميم مجد الله) المجد: الكرم، والمجيد: الكريم، وقد مجد الرجل بالضم فهو مجيد وماجد، إذا كان واسع الكرم كثير العطاء.
وكون هذه الحروف إشارة إلى هذه المعاني إما بوضع الواضع واعتباره إياها عند وضع بسم الله، أو بمجرد مناسبة بين هذه الحروف وتلك المعاني بحيث يفهم منها تلك المعاني عرفا وإن لم يقصدها الواضع (2).
ص:3
(وروى بعضهم: الميم ملك الله) بدل «مجد الله» والمراد بملك الله سلطانه على جميع الكائنات أو نفس رقاب جميع المخلوقات وأصناف جميع الكائنات (والله إله كل شيء) أي معبوده الذي يستحق العبادة وغاية الخضوع والخشوع منه (الرحمن بجميع خلقه) في الدنيا مؤمنا كان أو كافرا، برا كان أو فاجرا بالإحسان والإلطاف وإعطاء الرزق وغير ذلك مما يتم به نظامهم ويتوقف به بقاؤهم (والرحيم بالمؤمنين خاصة) في الآخرة لأنهم المستحقون للرحمة الأخروية بحسن استعدادهم في الحياة الدنيوية، وذلك لأن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.
2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها، الله مما هو مشتق؟ فقال: يا هشام! الله مشتق من إله، وإله يقتضي مألوها، والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟ قال:
قلت: زدني قال: الله تسعة وتسعون اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها، ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعداءنا المتخذين (1) مع الله عز وجل غيره، قلت نعم، فقال: نفعك الله (به) وثبتك يا هشام! قال: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.(2)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها; الله مما هو مشق) مر هذا الحديث بهذا السند بعينه في باب المعبود وشرحناه هناك على وجه الكمال فقال: (يا هشام الله مشتق من إله) المشتق مختص بالمعبود بخلاف المشتق منه (وإله يقتضي مألوها) أي متحيرا مدهوشا في أمره أو متعبدا له أو مطمئنا بذكره أو معبودا وهو الأنسب بقوله (والاسم غير المسمى) ذهب إليه المعتزلة والإمامية
ص:4
خلافا للأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى حقيقة (فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر) حيث جعل ما ليس بإله إلها (ولم يعبد شيئا) يستحق العبادة (ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك) حيث جعل معه إلها آخر مستحقا للعبادة (وعبد اثنين) باعتقاد أن كل واحد منهما أهل للعبادة (ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد) لصرف العبادة إليه وحده مجردا عما سواه (أفهمت يا هشام؟ قال: قلت: زدني) كأنه أراد الدليل على ما ذكر من أن الاسم غير المسمى (قال: لله تسعة وتسعون اسما) لا دلالة فيه على حصر أسمائه في هذا العدد فلا ينافي ما مر في الباب السابق من الزيادة عليه. وفي كتاب مسلم أيضا: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة». قال القرطبي: وقد اعتنى بعض العلماء فخرج ما منها في القرآن مضاف وغير مضاف مشتق وغير مشتق كقادر وقدير ومقتدر ومليك ومالك وعليم وعالم الغيب، فلم يبلغ هذا العدد. واعتنى غيره بذلك فحذف التكرار ولم يحذف الإضافات فوجدها تسعة وتسعين. واعتنى آخرون فجمعها مضافة وغير مضافة ومشتقة وغير مشتقة وما وقع منها في الأحاديث والروايات منثورا ومجموعا وما أجمع عليه أهل العلم على إطلاقها فبلغها أضعاف العدد المذكور في هذا الحديث.
وقال المازري نقل ابن العربي (1) عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم (فلو كان الاسم هو المسمى لكان لكل اسم منها إله) فيلزم تعدد الإله على قدر تعدد الأسماء إنه باطل. وفي بعض النسخ «لكان كل اسم منها إلها» وهو موافق لما مر آنفا (ولكن الله معنى) يعني ولكن المسمى بالله معنى قائم بنفسه موجود لذاته لا تعدد ولا تكثر فيه أصلا (يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره); لأن الدليل مغاير للمدلول قطعا.
ص:5
(يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق) (1) وهذه الأسماء مغايرة للمسميات فكذا الحال في أسمائه تعالى، ومن قال هذه الأسماء للخلق ولا نزاع في المغايرة فيها وإنما النزاع في أسماء الخالق ورد عليه أن الفرق تحكم، ومن ادعاه فعليه الإثبات (أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناقل به) قال الجوهري: النقل المناقلة في المنطق، ومنه قولهم: رجل نقل وهو الحاضر الجواب، وناقلت فلانا الحديث إذا حدثته وحدثك، وفي بعض النسخ: «وتناضل» بالضاد المعجمة وهو بمعنى: تدافع وتجادل وتخاصم (أعداءنا الملحدين) العادلين عن دين الحق ومنهج الصواب. متخذين (مع الله تعالى غيره) على تضمين معنى الأخذ، ولو كان بدل الملحدين المتخذين بالتاء المثناة الفوقانية والذال المعجمة كما في الاحتجاج لما احتيج إلى التضمين. (قلت: نعم فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام. قال هشام: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) في بعض النسخ: «حين» بدل «حتى» وهو الأظهر.
3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن معنى الله، فقال: استولى على ما دق وجل.(2)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن القاسم بن يحيى، عن جده
ص:6
الحسن بن راشد (1) عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن معنى الله قال استولى على ما دق وجل) (2) من المشهور عقلا ونقلا أن الله اسم للذات المقدسة التي بعينها عين جميع الصفات الذاتية الملحوظة في مرتبة الذات ومن أعظم تلك الصفات هو استيلاؤه على جميع
ص:7
ما سواه من الممكنات دقيقها وصغيرها، جليلها وكبيرها، عظيمها وحقيرها،; لأن هذه الصفة مستلزمة لجميع الصفات الكمالية كالعلم بالكليات والجزئيات والقدرة الشاملة لجميع الممكنات والرحمة الكاملة التي وسعت كل شيء. فلذلك فسر (عليه السلام) الله بذلك، تفسيرا له ببعض الوجوه الكامل الشامل.
4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله: (الله نور السماوات والأرض)(1). فقال: هاد لأهل السماء وهاد لأهل الأرض.
وفي رواية البرقي: هدى من في السماء وهدى من في الأرض.(2)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله (الله نور السماوات والأرض) فقال: هاد لأهل السماوات وهاد لأهل الأرض. وفي رواية البرقي: هدى من في السماء وهدى من في الأرض) النور وهو ينكشف به الأشياء يظهر وجودها عند الحس إما جسم كما ذهب إليه جماعة من المحققين أو عرض كما قيل وعلى التقديرين لابد من تأويل الآية إلا عند المجسمة والمصورة القائلين بأنه تعالى نور، تأويلها على وجوه منها ذكره (عليه السلام) وهو أن المراد بالنور الهداية لاشتراكهما في الإيصال إلى المطلوب، ومنها: الله خالق نورهما، ومنها: الله منور عقول من في السماء والأرض لرؤية الآثار الألوهية والحقائق الربوبية، ومنها: أن الله ذو البهجة والجمال، وهو يرجع إلى الثاني أي خالقهما (3).
5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن فضيل بن عثمان، عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل، (هو الأول والآخر) (4)وقلت: أما الأول فقد عرفناه وأما الآخر فبين لنا تفسيره، فقال: إنه ليس شيء إلا يبيد، أو يدخله التغير والزوال أو ينتقل من لون إلى لون ومن هيئة إلى هيئة ومن صفة إلى صفة ومن زيادة إلى نقصان
ص:8
ومن نقصان إلى زيادة إلا رب العالمين فإنه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة، هو الأول قبل كل شيء وهو الآخر على ما لم يزل (و) لا تختلف عليه الصفات والأسماء كما تختلف على غيره، مثل الإنسان الذي يكون ترابا مرة، ومرة لحما ودما، ومرة رفاتا ورميما. وكالبسر الذي يكون مرة بلحا ومرة بسرا ومرة رطبا، ومرة تمرا، فتتبدل عليه الأسماء والصفات والله عز وجل بخلاف ذلك.(1)
(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن فضيل بن عثمان، عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (هو الأول والآخر). قلت: أما الأول فقد عرفناه) وهو أنه قبل كل شيء لأنه مبدأ الجميع (أما الآخر فبين لنا تفسيره؟ فقال: إنه ليس شيء إلا يبيد) أي يهلك كالمركب الذي يفني بفناء بعض أجزائه أو جميعها (أو يتغير) من حال إلى حال كما أن النفس يتغير من جهل إلى علم ومن علم إلى جهل (أو يدخله التغير والزوال) وفي بعض النسخ الغير وهو - بالكسر - اسم من غيرت الشيء فتغير، وهذا قريب مما في الأصل، وقد يقال: هذه العبارة إشارة إلى العقول المقدسة العالية ودخول التغيرات فيها فإن صفاتها زايدة على ذواتها فقد دخلها التغير وزوال صفاتها عن مرتبة ذواتها (أو ينتقل من لون إلى لون ومن هيئة إلى هيئة، ومن صفة إلى صفة ومن زيادة إلى نقصان، ومن نقصان إلى زيادة) كل ذلك معلوم مشاهد في عالم الإمكان (إلا رب العالمين فإنه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة) لا يدخله الهلاك والزوال ولا التغير ولا الانتقال لا بحسب الذات والصفات ولا باعتبار الأمور الخارجة والإضافات; لأن تلك الأمور من لوازم النقصان ولواحق الإمكان وقدس الواجب بالذات متعال عن الاتصاف بتلك الحالات (هو الأول قبل كل شيء وهو الآخر على ما لم يزل) أي على نحو كان في الأزل يعني هويته التي هي وجوده الواجبي باعتبار كونه أولا قبل إيجاد الأشياء هي بعينها هويته باعتبار كونه آخرا بعد فناء الأشياء، ومن غير تغير وتبدل فيها بوجه من الوجوه (لا تختلف عليه الصفات والأسماء) (2) إذ لا يعرض له صفات متعاقبة متضادة يزول الأولى مع اسمها بعروض
ص:9
الأخرى مع اسمها (كما تختلف على غيره) أي كما تختلف الصفات والأسماء التي بإزائها على غيره لكون وضعه على الحدوث وبنائه على الانتقال والتغير (مثل الإنسان الذي يكون ترابا مرة ومرة لحما ودما ومرة رفاتا ورميما) الرفات الحطام وهو ما تكسر من اليبس والرميم العظم البالي وللإنسان صفات متعاقبة متكثرة وانتقالات متفاوتة متعددة، وله في كل مرتبة من المراتب رسم وفي كل مرحلة من المراحل اسم إلا أنه (عليه السلام) ذكر هنا ثلاث مراتب لاشتمالها على أمر غريب وصنع عجيب وهو الانتقال من الترابية إلى الحيوانية ومن الحيوانية إلى الجمادية وله في كل مرتبة من هذه المراتب وصف مخصوص واسم معلوم (وكالبسر الذي يكون مرة بلحا) البلح محركة بين الخلال والبسر والخلال (بفتح خاء نوعيست ازغوره خرما كذا في الكنز).
وقال الجوهري: البلح قبل البسر; لأن أول التمر طلع ثم خلال ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر (ومرة بسرا) وهو ما كان فيه شيء من الحموضة (ومرة رطبا) وهو ما فيه حلاوة خالصة من الحموضة (ومرة تمرا فتتبدل عليه الأسماء والصفات، والله بخلاف ذلك) المقصود بيان أن هو في الأبد هو هو في الأزل، إلا أن إثبات هذا لما كان متوقفا على عدم عروض التغير والتبدل له مطلقا تعرض له أولا مطلقا ثم أوضحه بأمثلة جزئية; تقريبا إلى الفهم.
6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن محمد بن حكيم، عن ميمون البان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد سئل عن الأول والآخر، فقال: الأول لاعن أول قبله، ولا عن بدء سبقه، والآخر لا عن نهاية كما يعقل من صفة المخلوقين ولكن قديم أول آخر، لم يزل ولا يزول بلا بدء ولا نهاية لا يقع عليه الحدوث ولا يحول من حال إلى حال، خالق كل شيء.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن محمد بن حكيم، عن ميمون، البان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد سئل عن الأول والآخر فقال: الأول لا عن أول
ص:10
قبله ولا عن بدء سبقه) البدء والبديء بالهمزة أخيرا وقد يشدد الياء على فعل وفعيل: السيد الأول في السادة يعني هو الأول لكل شيء الذي لم ينشأ وجوده عن أول قبله وعن موجد سبقه لأنه الموجد لجميع الكائنات وإليه ينتهي سلسلة جميع الموجودات فهو الأول المطلق الذي ليس قبله شيء ليس لأوليته ابتداء ينتهي وجوده إليه فإذن وجوده أزلي (والآخر لا عن نهاية) يعني هو الآخر بعد كل شيء الذي لا يلحق لآخريته نهاية ينتهي إليها وجوده ويقبل العدم عندها، فإذن وجوده أبدي، والحاصل أنه ليس لأوليته بداية ولا لآخريته نهاية (كما يعقل من صفة المخلوقين) إذ من صفاتهم لحوق البداية والنهاية لوجوداتهم، وهذه الصفة لازمة للكل لامتناع مشاركتهم مع الواجب جل شأنه في الأزلية والأبدية، ثم أكد ما ذكره بقوله: (ولكن قديم أول آخر) أول باعتبار أنه مبدأ كل شيء ومنه نشأ وجود الأشياء كلها على النظام الأكمل، وآخر باعتبار رجوع جميع الأشياء وبقائه بعد فنائها، فما هو أول فهو بعينه آخر من غير اختلاف وتغير في ذاته وصفاته وهو بريء عن لحوق الوقت والمكان ووجوده في الحين والزمان فأوليته وآخريته تعودان إلى ما تعتبره الأذهان عن حالة تقدمه على وجود الأشياء وحالة تأخره عنها بعد عدمها، فهما اعتباران ذهنيان له بالقياس إلى مخلوقاته وليس هناك أولية وآخرية لأنهما فرع الوقت والزمان ولا وقت ولا زمان في عالم القدس.
(لم يزل ولا يزول) الظاهر أن «لم يزل» متعلق بالأول «ولا يزول» متعلق بالآخرة فيفيد أنه الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء. ويحتمل أن يكون كل واحد متعلقا بكل واحد فيفيد أنه أول عند كونه آخرا وآخر عند كونه أولا من غير تقدم أحدهما وتأخر الآخر، ويرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): « الحمد الله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا» وسر ذلك أن القبلية والبعدية أمر يلحق الزمان لذاته والزمانيات بتوسط الزمان وقد ثبت أنه تعالى منزه عن الزمان فلا جرم لا يلحق ذاته المقدسة وما لها من صفات الكمال ونعوت الجلال شيء من لواحق الزمان فلا يجوز أن يقال مثلا: كونه أولا قبل كونه آخرا، وكونه ظاهرا قبل كونه باطنا، وكونه عالما قبل كونه قادرا، بل استحقاقه بالنظر إلى ذاته لما يصح أن يعتبر له استحقاق واحد دائما، فلا حال يفرض إلا وهو استحق فيه أن يعتبر له الأولية والآخرية معا استحقاقا أوليا ذاتيا لا على وجه الترتيب وإن تفاوتت الاعتبارات بالنظر إلى اعتبارنا، ويحتمل أيضا أن يكون كل واحد متعلقا بالقديم وهو ظاهر.
(بلا بدء ولا نهاية) الأول ناظر إلى قوله «لم يزل» والثاني إلى قوله «لا يزول». والوجه أن وجوب وجوده مستلزم لوجوده أزلا وأبدا وامتناع اتصافه ببداية ونهاية.
ص:11
(لا يقع عليه الحدوث) ناظر إلى ما قبله أو إلى قوله قديم; لأن الحدوث وهو الوجود بعد العدم ينافي القديم وعدم الابتداء والانتهاء.
(ولا يحول من حال إلى حال) أي لا يحول من صفة إلى صفة أخرى ولا من اسم إلى اسم آخر، وفيه إشارة إلى أن هويته الأبدية هي بعينها هويته الأزليه بلا تفاوت أصلا.
(خالق كل شيء) على تباين أو صافها وتضاد صورها وتخالف أشكالها، وهذا مما يشهد بإثباته العقل أيضا فإن العبد عند أخذ العناية الإلهية بضبعيه يعلم أن جميع الموجودات مستند إلى تدبير حكيم وتقدير عليم، والغرض من ذكره هو التأكيد والتعليل لجميع ما مر فإن كونه خالق كل شيء ينتهي إليه سلسلة الموجودات كلها ولو بوسائط يدل على أنه أول على الإطلاق وإلا لكان الأول الحقيقي غيره، فذلك الغير هو الذي ينتهي إليه سلسلة الإيجاد لا هو، هذا خلف، وقس عليه البواقي.
7 - محمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فسأله رجل فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه؟ وأسماؤه وصفاته هي هو؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن لهذا الكلام وجهين، إن كنت تقول: هي هو أي أنه ذو عدد وكثرة فتعالى الله عن ذلك وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل فإن (لم تزل) محتمل معنيين.
فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره، بل كان الله ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه وهي ذكره وكان الله ولا ذكر والمذكور بالذكر وهو الله القديم الذي لم يزل والأسماء والصفات مخلوقات والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف وإنما يختلف ويأتلف المتجزىء فلا يقال: الله مؤتلف ولا الله قليل ولا كثير ولكنه القديم في ذاته; لأن ما سوى الواحد متجزىء، والله واحد لا متجزىء ولا متوهم بالقلة والكثرة، وكل متجزىء أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له، فقولك: إن الله قدير خبرت أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز سواه، وكذلك قولك:
علم إنما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه وإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ولا يزال من لم يزل عالما.
فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعا؟
ص:12
فقال: لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ولا نصفه بالسمع المعقول في الرأس وكذلك سميناه بصيرا لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك ولم نصفه ببصر لحظة العين وكذلك سميناه لطيفا لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك وموضع النشوء منها والعقل والشهوة للسفاد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف وإنما الكيفية للمخلوق المكيف وكذلك سمينا ربنا قويا لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصا كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزا. فربنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا ببصار بصر. ومحرم على القلوب أن تمثله، وعلى الأوهام أن تحده وعلى الضمائر أن تكونه جل وعز عن أدات خلقه وسمات بريته، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.(1)
(محمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي هاشم الجعفري) هذا الحديث مذكور (2) في كتاب التوحيد للصدوق - رحمه الله - مسندا قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق - رحمه الله - قال:
حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي: حدثني محمد بن بشير، عن أبي هاشم الجعفري (قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فسأله رجل فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه) المراد بالأسماء ما دل على ذاته المقدسة مثل الله ولفظ «هو» الدال على الهوية المطلقة الصرفة الحقة وبالصفات ما دل على الذات الملحوظة معها صفة مخصوصة مثل الرحمن والرحيم والعالم والعليم والقادر والقدير وأمثال ذلك، ويحتمل أن يراد بالأسماء ما يحمل على الذات من المشتقات مثل العالم والقادر، وبالصفات المعنى المشتق منه مثل العلم والقدرة (وأسماؤه وصفاته هي هو) هذا هو الغرض من السؤال بقرينة المقام والجواب وليس الغرض من السؤال استعلام أن له أسماء وصفات في كتابه أيضا; لأن ذلك معلوم لكل من له مسكة من العقل ومتابعة للشرع (فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن لهذا الكلام وجهين) وعني أن له وجهين، ابتداء، ولا ينافي ذلك أن له ثلاثة أوجه باعتبار أن أحد الوجهين يحتمل أمرين وبيان احتماله لهذه الوجوه على
ص:13
سبيل الإجمال أن قوله: «أسماؤه وصفاته هي هو» دل بحسب المنطوق على اتحادها معه وبحسب المفهوم على أزليتها، ثم على تقدير أن يكون مراد السائل أزليتها يحتمل أن يكون مراده أزلية علمه تعالى بها وأن يكون مراده أزلية نفسها فأشار (عليه السلام) إلى بطلان الأول والثالث وصحة الثاني بقوله (ان كنت تقول هي هو أي أنه) (1) أي الله جل شأنه (ذو عدد وكثرة) وذلك بأن تقول تلك الأسماء والصفات هي المسمى بها فإن هذا القول مستلزم للقول بتعدد الإله لما مر من أن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم إلها (فتعالى الله عن ذلك) أي عن أن يكون ذا عدد وكثرة.
(وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل) يعني كانت في الأزل فإن لم تزل محتمل معنيين.
(فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها) في مرتبة ذاته الأحديه (فنعم); لأن علمه الأزلي محيط بجميع الأشياء قبل كونها كما هو محيط بها بعد كونها.
(وإن كنت تقول لم تزل تصويرها) بهذه الصور والهيئات (وهجاؤها) الهجاء - بكسر الهاء - مصدر; تقول: هجوت الحروف هجوا وهجاء وهجيته، وتهجيت كله بمعنى عددتها وتلفظت بها واحدا بعد واحد (وتقطيع حروفها) أي ذكر بعضها على أثر بعض من قولهم: جاء الخيل مقطوعات أي سراعا بعضها في أثر بعض، أو جعلها قطعة ثم تركيب بعضها مع بعض ومنه المقطعات من الثياب التي تقطع ثم تخاط.
(فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره) «معاذ الله» مثل «سبحان الله» منصوب على المصدر أي أعوذ بالله معاذا (بل كان الله ولا خلق) فكان الله ولا أسماء ولا صفات له (ثم خلقها) أي الأسماء
ص:14
والصفات (وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه) لئلا يجهلوه ولا يسموه من عند أنفسهم بما لا يليق به من الأسماء.
(وهي ذكرة) (1) بكسر الذال، والتاء أخيرا. قال الجوهري: الذكر: الذكرى نقيض النسيان وكذلك الذكرة ويحتمل أن يقرأ «ذكره» بالضمير الراجع إليه سبحانه، والحمل في الصورتين إما على سبيل المبالغة والتجوز في الإسناد أو على سبيل التجوز في الكلمة بأن يراد بالذكرة ما به الذكرى وهو آلتها.
(وكان الله ولا ذكر) إذ لم يكن في الأزل ذاكر، وإذا كان كذلك كان ما به الذكر وهو الأسماء والصفات حادثا وإن كان المذكور وهو الله جل شأنه قديما كما أشار إليه بقوله (والمذكور بالذكر هو الله (2) القديم الذي لم يزل والأسماء والصفات مخلوقات والمعاني) (3) الواو في قوله والمعاني بمعنى مع أو للعطف على الصفات أو على الأسماء يعني أن الأسماء والصفات ومعانيها اللغوية ومفهوماتها العرفية القائمة بالنفوس السافلة والعقول المقدسة العالية مخلوقة دالة على وجود الصانع القديم لأنك قد عرفت آنفا أن كل ما يتناوله اللسان أو يدركه الأوهام والأذهان فهو مخلوق. وفي بعض نسخ هذا الكتاب وفي كتاب التوحيد للصدوق رحمة الله «مخلوقات المعاني» بالإضافة وهو الأظهر.
(والمعني بها) أي المقصود بتلك الأسماء والصفات (هو الله) يعني هو المسمى بالله (الذي لا يليق به الاختلاف والايتلاف) أي لا يليق به الانفكاك والتحليل ولا الانضمام والتركيب، أو لا يليق به الاختلاف من حال إلى حال ولا ايتلاف حال بحال، أو لا يليق به اختلاف الأجزاء وتباينها ولا ايتلاف الأجزاء وتناسبها، أو لا يليق به كونه معروضا لشيء ولا كونه مركبا من شيء، وبالجملة فيه كناية عن نفي التركيب مطلقا; إذ كل مركب لا يخلو من هذين الأمرين كما أشار إليه بقوله (وإنما
ص:15
يختلف ويأتلف المتجزي) بأجزاء خارجية أو وهمية أو عقلية أو اعتبارية صرفه كتجزئة البسيط مثلا إلى ذات وإمكان ووجود وغير ذلك (فلا يقال الله مؤتلف) يوجد فيه الايتلاف والتعدد والكثرة وهذا متفرع على السابق; لأن عدم جواز القول بأنه مؤتلف بمنزلة النتيجة لعدم كون الاختلاف والايتلاف لايقا به (ولا الله قليل ولا كثير) الظاهر أنه عطف على قوله «الله مؤتلف» ومندرج تحت القول فهو متفرع على السابق أيضا.
فإن قلت: تفريع المعطوف عليه على السابق ظاهر، وأما تفريع المعطوف فغير ظاهر لعدم اشتمال السابق عليه.
قلت: من البين أن الاختلاف والايتلاف لا زمان للقلة والكثرة وإذا ثبت أن اللازم غير لايق به فقد ثبت أنه لا يجوز وصفه بالملزوم.
وقال سيد المحققين: إنه عطف على صدر الجملة السابقة لا على متعلق القول منها، وهذه الجملة كالتعليل للجملة السابقة أي الله سبحانه ليس داخلا في جنس القلة والكثرة والقليل والكثير، ومن البين أنه لا يصح أن يقال: مؤتلف إلا لما كان داخلا في جنس الموصوف بالقلة والكثرة.
(ولكنه القديم في ذاته) دون غيره وهذا تأكيد للسابق لأن قدمه يقتضي عدم اتصافه بالاختلاف والايتلاف والقلة والكثرة، وإنما قال «في ذاته» للإشعار بأنه ليس له صفات زائدة على ذاته.
(لأن ما سوى الواحد متجزي والله واحد لا متجزي ولا متوهم بالقلة والكثرة) حجة لقوله «لا يليق به الاختلاف» أو لقوله «فلا يقال الله مؤتلف» وما بعده، أو للحصر المستفاد من قوله: «ولكنه القديم» يعني أن ما سوى الواحد الحق متجزي بالمهية والوجود والعوارض والكيفيات، والله جل شأنه واحد من جميع الجهات لا يتجزي بحسب الذات والصفات ولا يتوهم اتصافه بالقلة والكثرة; لأن التجزية والاتصاف بالقلة والكثرة يستلزمان الحاجة والنقصان اللازمين لطبيعة الإمكان.
لا يقال: قوله «واحد» ينافي قوله «ولا متوهم بالقلة والكثرة»; لأن الواحد مبدأ للكثرة عاد لها فلا محالة تلحقها الكثرة الإضافية فإن كل واحد بهذا المعنى هو قليل بالنسبة إلى الكثرة التي يكون مبدأ لها.
لأنا نقول: ليس المراد بالواحد هنا ما هو مبدأ للكثرة تعد به ولو كان كذلك لكان من جملة
ص:16
الآحاد المعدودة وكان داخلا في الكم المنفصل تعالى الله عن ذلك، بل هو تعالى واحد بمعنى أنه لا ثاني له في الوجود وأنه لا كثرة في ذاته بوجه لا ذهنا ولا خارجا وأنه لم يفته شيء من كماله بل كل ما ينبغي له فهو له بالذات والفعل (وكل متجزي أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له; لأن كل متجزي ممكن مفتقر في وجوده ووجود أجزائه وانضمام بعضها إلى بعض إلى خالق وكذلك كل متصف بالقلة والكثرة فقد ثبت من هذه المقدمات (1) أن الله تعالى هو القديم وحده وأنه المبدأ لجميع الكائنات وأنه غير مختلف ولا مؤتلف ولا متجزي ولا متوهم بالقلة والكثرة.
(فقولك) الفاء للتفريع (إن الله قدير خبرت) أي خبرت به على حذف العائد. قال الجوهري:
أخبرته بكذا وخبرته بمعنى (أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة) أي بهذه الكلمة وهي «الله قدير» فاللام للعهد (العجز) على وجه العموم يعني أنه ليس عاجزا عن شيء من الأشياء فقدرته عبارة عن نفي العجز عنه مطلقا لا أنها صفة زائدة عليه قائمة به، بخلاف قدرة غيره فإنها صفة قائمة به وبينها وبين العجز نوع مصاحبة وملاءمة، فإن الممكن وإن كان ذا قدرة موصوف بالعجز قطعا (وجعلت العجز سواء) وزايدا عليه غير متطرق إليه أصلا.
ووجه ذلك التفريع أنه لما بين سابقا أن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء وأنه القديم وحده وأنه واحد لا يتجزى ولا يأتلف، ظهر أن صفاته كلها راجعة إلى سلب أضدادها عنه لا إلى إثبات أمر له; لأن ذلك ينافي جميع الأمور المذكورة، وهذا مذهب الحكماء وصرح به بهمنيار في التحصيل وذهب إليه الإمامية والمعتزلة. (2) وهو الحق الذي لا ريب فيه، وقالت الأشاعرة: صفاته أمور
ص:17
موجودة قديمة زائدة على ذاته تعالى قائمة بها. ويلزمهم مفاسد كثيرة في الزبر الحكمية والكتب الكلامية.
منها أنه يلزم خلوه عن الكمال واتصافه بالنقص في مرتبة ذاته الحقة وعليته المتقدمة. ومنها أنه يلزم أن يكون محلا لأعراض ينفعل عنها ويستكمل بها. ومنها أنه يلزم عليه الانتقال من حال إلى حال.
(وكذلك قولك عالم إنما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه) لا أنك أثبت له علما زايدا عليه وكذا الحال في سائر الصفات الكمالية إنما يقصد منها نفي ما يقابلها، ثم أوضح أن علمه وقدرته وغيرهما مما يليق به إنما هو بنفس ذاته لا بالأسماء والصفات بوجه آخر مقابل للوجه الأول وهو أن العلم باق لا يزال، وتلك الأسماء والصفات يطرأ عليها العدم والفناء. فقال: (وإذا أفنى الله الأشياء) (1) أي إذا تعلقت إرادته الكاملة بفناء الأشياء التي هي في حد ذاتها باطلة غير مستحقة للوجود (أفنى الصورة) أي الصورة اللفظية والمعنوية يعني أفنى اللفظ ومفهومه القائم بالنفوس السالفة والعقول العالية (والهجاء والتقطيع) فيصير بعد الوجود معدوما كما صار بعد العدم موجودا مثل سائر الممكنات (ولا يزال عالما من لم يزل عالما) يعني أن الحق بذاته عالم لا يزال كما أنه عالم لم يزل من غير انتهاء لعلمه ولا ابتداء، فعلم أن علمه ليس باعتبار هذا اللفظ أعني العالم ولا باعتبار مفهومه الذي يدركه الخلق وكذلك بواقي الأسماء (فقال الرجل) إذا كان الله ولم يكن معه غيره (فكيف سمينا ربنا سميعا؟) وكونه سميعا في الأزل يقتضي وجود المسموع فيه والحال أنه ليس معه في الأزل شيء.
ص:18
(فقال): سمينا ربنا سميعا (لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع) (1) من الأصوات يعني سمعه عبارة عن علمه الأزلي بأصوات خلقه ولغاتهم ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى أكبر منها أو أصغر (ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس) لامتناع احتياجه إلى الآلة، والسمع بهذا المعنى هو الذي يقتضي وجود المسموع ولا يتحقق بدونه.
ولما كان سؤال الرجل مشعرا بأنه حمل صفات الخالق على ما هو المعروف في الخلق حتى قال ما قال وأجاب (عليه السلام) وهمه بالجواب المذكور زاده إيضاحا بذكر شيء من صفاته الذاتية والسلبية على وجه لائق به تعالى تقويما وتثبيتا له على منهج الصواب، فقال:
(وكذلك سميناه بصيرا لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك) من المبصرات بالذات أو بالعرض يعني أن المراد بكونه بصيرا كونه عالما بتمام المبصرات جليها وخفيها حتى أنه لا يخفى عليه أثر الذرة الصماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء (ولم نصفه ببصر لحظة العين) لتنزهه عن الآلة البصارة التي هي من خواص الحيوان، والإبصار بهذه الآلة هو الذي لا يمكن تحققه بدون وجود المبصرات دون الإبصار بالمعنى المذكور.
وفي كتاب التوحيد للصدوق: «ولم نصفه بنظر لحظ العين».
(وكذلك سميناه لطيفا) قد يراد باللطيف رقيق القوام، وقد يراد به صغير الجسم، وقد يراد به عديم اللون من الأجسام، والله سبحانه منزه عن إطلاق اللطيف عليه بأحد هذه المعاني لاستلزامها الجسمية والإمكان فبقي أن يكون إطلاقه عليه باعتبار آخر وهو علمه بذوات الأشياء الصغيرة الحقيرة وصفاتها وأفعالها وحركاتها كما أشار إليه بقوله (لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك) (2) مما لا يكاد تستبينه العيون وتدركه الأبصار ويفرق بين الذكر والأنثى وبين الحديث المولود والقديم لكمال صغره (موضع النشء منها والعقل) (3) النشء بفتح النون وسكون
ص:19
الشين المعجمة والهمزة أخيرا بالضمتين وتخفيف الواو قبل الهمزة على وزن فعول وبالضمتين وتشديد الواو مثل النمو على القلب والإدغام مصدر «نشأ الغلام» إذا شب وارتفع من حد الصبا وقرب من الإدراك وقد يسمى به النسل أيضا فيقال هذا نشء سوء، وبكسر النون وسكون الشين والواو أخيرا بمعنى شم الريح جمع نشوة، ويؤيد هذا وقوع نشوة في بعض النسخ والمراد أنه يعلم موضع القريب من الإدراك وموضع الإدراك منها يعني يعلم حال هاتين أو يعلم زمانيهما أو يعلم موضع نسلها يعني آلة التناسل من الذكر والأنثى أو يعلم موضع شم الريح منها يعني شامتها (والشهوة للسفاد) عطف على الموضع أو على النشء (1) أي يعلم الشهوة منها المعدة للسفاد أو يعلم موضعها، والسفاد بالكسر نزو الذكر على الأنثى، وفي بعض النسخ للسفاد، وكأنه نشأ من تحريف السفاد على أن له أيضا معنى صحيحا; لأن الشهوة علة للسفاد.
(والحدب على نسلها) عطفه أيضا يحتمل الأمرين، والحدب - محركة -: التعطف، يقال: حدب عليه أي تعطف، يعني يعلم موضع تعطفها على نسلها أو يعلم تعطفها عليه.
(وإقام بعضها على بعض) الإقام مصدر أصله إقامة حذفت التاء المعوضة عن العين وأقيمت الإضافة مقامها كما في نحو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يعني يعلم موضع إقامة بعضها على بعض أو يعلم قيام ذكورها وأقويائها بأمور إناثها وضعفائها وحفظ نظامها وأحوالها على قدر الطاقة والجهد.
(ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار) «في الجبال» إما حال عن الأولاد أو متعلق بالنقل. والمفاوز جمع المفازة، قال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأنها مهلكة من فوز إذا هلك.
وقال الأصمعي: سميت بذلك تفاولا بالسلامة من الفوز وهو الظفر والنجاة. والأودية جمع الوادي على غير قياس; لأن الفاعل لا يجمع على الأفعلة قياسا وإنما يجمع عليها الفعيل فكأنها
ص:20
جمع ودي مثل سري وأسرية للنهر. والقفار جمع القفر وهو مفازة لا نبات فيها ولا ماء (فعلمنا أن خالقها لطيف) أي عالم بالأشياء اللطيفة الصغيرة والأمور الدقيقة الحقيرة لضرورة أن خلقها لا يتصور بدون العلم بها (بلا كيف) أي بلا علم زائد عليه (1) قائم به أو بلا كيف مطلقا لضرورة أن حصول الكيف له يوجب إمكانه ونقصانه والممكن الناقص في حد ذاته لا يصدر عنه مثل هذا الخلق العجيب والصنع الغريب (وإنما الكيفية للمخلوق المكيف) أي للمخلوق الذي بناه على اتصافه بالكيفيات والصفات الزايدة عن ذاته ولذلك كان في مرتبة ذاته خاليا عن جميع الكمالات مستعدا لها استعدادا قريبا أو بعيدا، وأما الخالق الكامل من جميع الجهات فليس له استعداد للصفات أصلا تعالى عن ذلك علوا كبيرا (وكذلك سمينا ربنا قويا لا بقوة البطش المعروف من المخلوق) وهو الأخذ الشديد عند ثوران الغضب والتناول عند الصولة.
وقيل: البطش قوة التعلق بالشيء وأخذه على الشدة، وإضافة القوة; على الأول لامية وعلى الثاني بيانية، وإنما قال: البطش المعروف من المخلوق; لأن البطش قد يطلق عليه سبحانه باعتبار معنى آخر وهو العذاب كما قال: (إن بطش ربك لشديد)(2).
(ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه) بينه وبين المخلوق في البطش بهذا المعنى وفيما يتوقف عليه البطش من القوى الجسمانية مثل القوة الغضبية والشهوية ولو احقهما (ولاحتمل الزيادة); لأن القوة الجسمانية قابلة للزيادة إلى حد معين قطعا، ولأن قوة بطش الرب وجب أن تكون زايدة على قوة بطش المخلوق (وما احتمل الزيادة احتمل النقصان) ضرورة أن نصفه وربعه أنقص منه، ولأن ما يحتمل الزيادة يندرج تحت الكم المتصل مثل المقادير أو المنفصل مثل العدد، وكل واحد منهما محتمل للنقصان كما هو محتمل للزيادة (وما كان ناقصا كان غير قديم) (3); لأن القديم كامل من جميع الجهات فما كان ناقصا في ذاته أو في وجوده أو في
ص:21
صفاته كان مفتقرا في استكماله إلى الغير وكل مفتقر ممكن وكل ممكن حادث (وما كان غير قديم كان عاجزا) وما كان عاجزا لا يصلح أن يكون مبدأ لجميع الموجودات، أما الثاني فظاهر.
وأما الأول فلأن كل ما كان غير قديم كان حادثا، وكل ما كان حادثا كان عاجزا مقهورا بين يدي من أحدثه، فقد ثبت من هذه المقدمات أن الرب المبدأ لجميع الخلق لا يجوز أن تقع المشابهة بينه وبينهم بوجه من الوجوه، كما أشار إليه بقوله: (فربنا تبارك وتعالى لا شبه له) يدل عليه أيضا أنه تعالى ليس بجنس فيعادله الأجناس، ولا بفصل فيشابهه الفصول، ولا بشبح فيضارعه الأشباح، ولا بعرض فيماثله الأعراض، ولا بمخلوق فيقع عليه الصفات ولا بمنعوت فيشاركه سائر الذوات.
(ولا ضد له) يدل عليه أيضا أن ربنا خالق الأضداد كلها فلو كان له ضد لكان هو ضدا لضده فيكون خالقا لنفسه ولضده وذلك محال، وأيضا المضادة من الأمور الإضافية التي تتوقف على وجود الغير فلو كان له ضد لكان وجوده تعالى متعلقا بوجود غيره (1) فلا يكون واجب الوجود، هذا خلف (ولا ند) الند - بالكسر - مثل الشيء في الحقيقة الذي يناده أي يخالفه في أموره من «ند البعير» إذا نفر واستعصى وذهب على وجهه شاردا (ولا كيف ولا نهاية) الكيفيات حالات وصفات عارضة لشيء ما، وقد عرفت مرارا أنه تعالى لا يحل فيه شيء ولا يتصف بصفات، والنهاية غاية لامتداد يقف عندها ولا امتداد فيه جل شأنه (ولا بصار بصر) لاستحالة أن يكون له قوة باصرة يبصر بها المبصرات، وفي بعض النسخ «ولا ببصار ببصر» بزيادة الباء على البصار والبصر، وفي بعضها «ولا تبصار بصر» على صيغة التفعال وإضافته إلى بصر (ومحرم على القلوب أن تمثله) مثله تمثيلا صوره حتى كأنه ينظر إليه، وكل من مثله فقد ألحد عنه إذ كل ما له مثل فليس هو الواجب لذاته; لأن المثلية إن تحققت من كل وجه فلا تعدد، وإن تحققت في تمام الحقيقة لزم تعدد الواجب، وإن تحققت في جزئها لزم تركيبه، وإن تحققت في عارض لزم حلول العرض فيه، وكل ذلك محال (وعلى الأوهام أن تحده) إذ ليس له ذاتيات ولا نهايات فلا يجري فيه الحد العرفي واللغوي أصلا.
(وعلى الضمائر أن تكونه) أي تتصور هويته وماهيته اللائقة به إذ تضل الضماير في أمواج تيار إدراك ذاته وتكل البصائر عن مشاهدة عظمة وجوده وصفاته (جل وعز عن أدات خلقه) لعل
ص:22
الأدات بفتح الهمزة وهي الآلة مثل السامعة والباصرة واللامسة وغيرها من القوى الحيوانية المشهورة وغير المشهورة.
فإن قلت: مد التاء في الأدات يمنع أن يراد منها الآلة; لأن الأداة بمعنى الآلة إنما هي بالتاء المدورة.
قلت: الأمر فيه هين سيما إذا كان المقصود رعاية المناسبة بينها وبين السمات.
وقال سيد المحققين الإدات هنا بكسر الهمزة بمعنى إثقال الخلق وإحماله وهي الصفات والهويات الزايدة والمهيات والأنيات الفاقرة والكميات والكيفيات الباطلة في حد ذواتها، أو بمعنى إثقال المخلوقات وإتعابها إياه في خلقها وإعطائها مؤن الوجود وكمالاتها، وهي جمع إدة بكسر الهمزة وتخفيف الدال المهملة المفتوحة، إما اسم الحاصل بالمصدر أو مصدر وأده يئده، والجمعية بحسب تكثر المضاف إليه، إذ المعنى المصدري يتكثر له حصص بتكثر ما يضاف إليه وإن لم يكن يتصور له حصص متكثرة بحسب نفسه لا من تلقاء الإضافة وأصلها الوأد وهو الثقل كما أن عدات جمع عدة وأصلها الوصف، أو هي بالكسر أيضا جمع الأدي بفتح الهمزة وكسر الدال المهملة وتشديد الياء المثناة من تحت بمعنى الأهبة، أو هي بالكسر لفظة مفردة معناها المعونة وهي في الأصل مصدر آديته إذا أعنته. هذا كلامه مع تغيير يسير فتأمل فيه (وسمات بريته) السمات جمع سمة وهي علامة يعرف بها، يعني أنه جل وعز عن علامات بريته وخواصها من الأين والأينيات والكيف والكيفيات والأشباح وسائر الصفات والحيثيات التابعة لطبيعة الإمكان والناشئة من القوى الجسمانية والتصرفات النفسانية في الحيوان (وتعالى عن ذلك علوا كبيرا) لاستحالة المماثلة بينه وبين خلقه في شيء من الأمور المذكورة وإلا لما كان بينه وبينهم فصل ولا له عليهم فضل فيستوي الصانع والمصنوع، وتكافي البديع والمبتدع، وهو باطل بالضرورة العقلية، والتنبيهات النقلية، والبراهين الشرعية.
8 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عمن ذكره، عن أبي
ص:23
عبد الله (عليه السلام) قال: قال رجل عنده: الله أكبر فقال: الله أكبر من أي شيء؟ فقال: من كل شيء، فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): حددته فقال: الرجل: كيف أقول؟ قال: قل: الله أكبر من أن يوصف.(1)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الرجل عنده: الله أكبر فقال: أكبر من أي شيء) الغرض استعلام حاله هل يعلم ذلك أم لا (فقال: من كل شيء) (2); لأن عظمته ذاتية مطلقة فإذا اعتبرت فيه الإضافة لحقته على الإطلاق غير مقيدة ببعض الأشياء دون بعضها (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): حددته) بالتخفيف من الحد وبالتشديد من التحديد يعني شرحت عظمته بوجه وجعلتها محدودة متعينة بنحو وهو أنه أكبر من كل شيء فإن فيه دلالة على أن في المفضل مثل ما في المفضل عليه من الكبر والعظمة مع زيادة وإن كانت تلك الزيادة هنا غير متناهية ولا شبهة في أن عظمة المفضل عليه محدودة متناهية، فإذا اعتبرتها في المفضل فقد حددته بأن له هذا المقدار من العظمة مع زيادة، وهذا نحو من تحديده وتوصيف عظمته والإحاطة بها (فقال الرجل: كيف أقول؟ قال: قل: الله أكبر من أن يوصف) بشيء من الأشياء وبنحو من الأنحاء حتى التوصيف بأنه أكبر من كل شيء. ففي هذه الكلمة الشريفة تنزيه كلي له بوصف من الأوصاف ونعت من النعوت وحد من الحدود.
وبالجملة تفسير السائل إشارة إلى أنا وجدنا عظمته فوق عظمة غيره على الإطلاق، وهذا لا يخلو من تحديد عظمته بوجه ما ولو بفرض العقل، وتفسيره (عليه السلام) إشارة إلى عجز العقل عن إدراك عظمته وغيرها من الصفات، وعن توصيفه بشيء منها وبينهما بون بعيد.
قال أبو عبد الله الآبي - وهو من أعاظم علماء العامة - في كتاب إكمال الإكمال: واختلف في «الله أكبر» فقيل: أن «أكبر» بمعنى كبير، وقيل: أنه على بابه والمعنى: أكبر من أن يدرك كنه عظمته.
9 - ورواه محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن جميع ابن
ص:24
عمير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أي شيء الله أكبر؟ فقلت: الله أكبر من كل شيء، فقال: وكان ثم شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت: وما هو؟ قال: الله أكبر من أن يوصف.(1)
(ورواه) أي روى مضمون الحديث المذكور (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن جميع بن عمير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) أي شيء الله أكبر؟) الغرض تنبيه المخاطب على الخطأ وإرشاده إلى الصواب (فقلت الله أكبر من كل شيء فقال) على سبيل الإنكار (وكان ثم) أي في مرتبة ذاته الحقة ورتبته السابقة، أو في الأزل أو في نفس الأمر (شيء فيكون أكبر منه).
والحاصل أن الله أكبر في مرتبة ذاته وفي الأزل وفي نفس الأمر، ولا يصح التفسير المذكور - أعني من كل شيء - بوجه من هذه الوجوه، أما على الأولين فلأنه لم يكن في مرتبة ذاته المقدسة ولا في الأزل شيء حتى يتصور قياسه به ويقع فيه معنى التفضيل، وأما على الآخر فلأنه - تعالى شأنه - هو الحق الثابت بذاته وفي نفس الأمر وكل ما سواه فهو باطل صرف وهالك محض بذاته، فلا ينبغي أن يقاس الحق الثابت على الباطل الصرف ويفضل عليه لانتفاء النسبة بينهما (فقلت فما هو) أي أي شيء الله أكبر (قال: الله أكبر من أن يوصف) لأنه محرم على نوازع ثاقبات الفطن توصيفه وعلى عوامق نافذات الفكر تكييفه، وعلى غوايص سابحات النظر تصويره، وعلى لطايف الأوهام أن تكنيه، وعلى ثواقب الأفهام أن تستغرقه، وعلى مشاعر الأذهان أن تمثله، قد يئست عن الإحاطة به طوامح العقول ونضت عن الإشارة إليه بحار العلوم.
10 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن هشام ابن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سبحان الله فقال: أنفة لله.(2)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سبحان الله فقال: أنفة لله) أنف من الشيء يأنف - من باب علم - أنفا وأنفة بفتح الهمزة والنون فيهما إذا استنكف عنه وكرهه وشرف نفسه عنه والمعنى استنكافه تعالى عما لا يليق به وتنزهه عما لا يجوز له وتقدسه عن كل ما يغاير ذاته وهو عبارة عن التنزيه المطلق.
11 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط، عن سليمان
ص:25
مولى طربال عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (سبحان الله) ما يعني، به؟ قال: تنزيهه.(1)
(أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط، عن سليمان مولى طربال، عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله سبحان الله ما يعني به، قال: تنزيهه) عن النقايص والمعايب وغيرهما مما لا يليق بجناب الحق وساحة القدس مثل الضد والند والشريك والنظير والتشابه بالخلق والاتصاف بالصفات والتكيف بالكيفيات، وإنما حذف متعلق التنزيه للدلالة على التعميم.
12 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد ابن محمد بن عيسى جميعا، عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني: (عليه السلام) ما معنى الواحد، فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالى: (لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله).(2)
(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني (عليهما السلام) ما معنى الواحد) سأل عن تفصيل معناه وتفسير مغزاه.
(فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانية) (3) أي تفرده بالإلهية ووجوب الوجود وسائر ما يختص
ص:26
به وإنما أجاب بالمشتق منه مع أن السؤال عن المشتق لأن المشتق لا يمكن معرفته إلا بمعرفة المشتق منه والمراد بإجماع الألسن المقالية على سبيل الاختيار والاضطرار أو إجماع الألسن الحالية بنطق العجز والافتقار (كقوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) انطباقه على الاحتمال الأول ظاهر; لأن الظاهر أنهم كانوا يقولون ذلك بلسان المقال على تقدير السؤال، وسر ذلك أن الله تعالى وهب كل نفس قسطا من معرفته حتى نفوس الجاحدين له فإنها أيضا معترفة بوجوده ووحدانيته وإيجاده لهم لشهادة أعلام وجوده وآيات صنعه في أنفسهم على ذلك بحيث تحكم صراحة عقولهم بالحاجة إلى صانع حكيم وخالق عليم وتقر باللسان عند الاضطرار والشدائد والكربات كما تشهد به التجربة والآيات والروايات وأما على الاحتمال الثاني فيحتاج إلى تأويل ذكره بعض المحققين وهو أنهم يقولون ذلك بألسنة مهياتهم وإنياتهم الشاهدة على أنفسهم بالليسية والبطلان، ولخالقهم بالقيومية والسلطان، وإن أنكرت ألسنة أفواههم وجحدت أفواه جثثهم.
ص:27
(إلا أن فيه زيادة وهو الفرق) تذكير الضمير باعتبار الخبر (ما بين المعاني التي تحت أسماء المخلوقين) ليرتفع الاشتراك المعنوي بينه وبينهم وينتفي التشابه بالكلية.
1 - علي بن إبراهيم عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: وهو اللطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ لكنه المنشئ فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا.
قلت: أجل جعلني الله فداك لكنك قلت: الأحد الصمد وقلت: لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت الوحدانية؟ قال: يا فتح أحلت ثبتك الله إنما التشبيه في المعاني، فأما في الأسماء فهي واحدة وهي دالة على المسمى وذلك أن الإنسان وإن قيل: واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين، والإنسان نفسه ليس بواحد; لأن أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن ألوانه مختلفة غير واحد وهو أجزاء مجزاة، ليس بسواء، دمه غير لحمه ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى والله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد.
قلت: جعلت فداك فرجت عني فرج الله عنك، فقولك: اللطيف الخبير فسره لي كما فسرت الواحد فإني أعلم أن لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل، غير أني أحب أن تشرح ذلك لي فقال:
ص:28
يا فتح إنما قلنا: اللطيف لخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف أو لا ترى وفقك الله وثبتك إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان - لصغره - الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم، فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنه ما لا يكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء.(1)
(علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله ابن الحسن العلوي جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام)) قال: العلامة: الفتح ابن يزيد الجرجاني صاحب المسائل لأبي الحسن (عليه السلام) واختلفوا فيه (2) أنه هو الرضا أو الثالث (عليهما السلام) والرجل مجهول، والإسناد إليه مدخول. وقيل: المراد به إما الرضا (عليه السلام) كما يلوح من كتاب التوحيد للصدوق، وإما الثالث (عليه السلام) كما يلوح من كشف الغمة.
أقول: وقد نقل الصدوق - رحمه الله - في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) هذا الحديث بهذا السند عن الرضا (عليه السلام) (قال: سمعته يقول: وهو اللطيف الخبير) يعني هو اللطيف بدقائق الأشياء والخبير بحقايقها (السميع البصير) يعني هو السميع للأصوات الخفية من الحيوان الصغار في لجج البحار وبطون القفار، والبصير للأشياء الدقيقة مما لا يكاد يدرك بلحظ العيون وطرف الأبصار (3) (الواحد الأحد الصمد) يعني هو الواحد المطلق الذي لا تعدد فيه ذاتا وصفة، والأحد المستنكف عن الشريك والنظير، والصمد الذي يلوذ به جميع الكائنات ويرجع إليه جميع
ص:29
الممكنات (لم يلد ولم يولد) يعني لم يكن له ولد وزوجة ولم يكن له والد وأم لتنزهه عن لواحق الشهوة وتوابع الجسم وخواص الإمكان ومعايب الافتقار وسمات الحدوث (ولم يكن له كفوا أحد) المقصود نفي إمكان وجود الكفؤ له لا بيان عدم وجوده مع إمكانه (ولو كان كما تقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ) إذ لو وقع التشابه بين الواجب والممكن فإن دخل الممكن في حد الواجب لزم أن يكون الممكن واجبا خالقا، وإن دخل الواجب في حد الممكن لزم أن يكون الواجب ممكنا مخلوقا، وعلى التقديرين يقع الاشتباه بين الخالق والمخلوق ولم يتميز أحدهما عن الآخر.
وفي كتابي التوحيد وعيون أخبار الرضا (عليهما السلام) للصدوق رضي الله عنه هكذا: «ولم يكن [له] كفوا أحد منشئ الأشياء ومجسم الأجسام ومصور الصور، لو كان كما تقول المشبهة» وفي العيون: «لو كان كما يقولون لم يعرف الخالق من المخلوق - إلى آخر الحديث» (لكنه المنشئ) وحده لا يشاركه في الإبداع والإنشاء أحد، وكل ما سواه منشأ مخلوق (فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه) أي فرق بين مجعولاته وميز بين مخلوقاته بأن جعل بعضها جسما وبعضها صورة وبعضها غير ذلك، وميز أيضا بين الأجسام والصور بحيث لا يشتبه شيء منها بما يماثله من نظايره (إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) «إذ» متعلق بفرق وظرف له يعني أن الفرق المذكور وقع في وقت لم يكن معه - عز شأنه - في ذلك الوقت شيء حتى يقع بينهما التشابه والتماثل، وإذا لم يكن التشابه واقعا في ذلك الوقت لا يجوز أن يقع في وقت من الأوقات، وإلا لزم النقص فيه جل وعز وأنه محال (قلت: أجل جعلني الله فداك) «أجل» بفتح الهمزة والجيم وسكون اللام: من حروف التصديق; لأن المخاطب يصدق بها ما يقوله المتكلم (لكنك قلت: الأحد الصمد وقلت: لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت الوحدانية؟) توهم من قلة التدبير أن كلامه (عليه السلام) مشتمل على التناقض، ثم الاستفهام إن كان على حقيقته فالأمر فيه سهل لأن الغرض منه استعلام مجهول، وإن كان للتقرير أو التوبيخ ففيه سوء أدب بل كفر (قال: يا فتح أحلت ثبتك الله) أي تكلمت بالمحال، أو هل تحولت وانتقلت عن عقيدتك -
ص:30
على أن تكون الهمزة للاستفهام - والدعاء بالتثبت يناسب كلا الاحتمالين (إنما التشبيه في المعاني) هذا الحصر مما اتفق عليه أرباب العربية وأصحاب اللسان سواء أريد بالمعاني طرفا التشبيه أو أريد بها الجامع بينهما (فأما في الأسماء فهي واحدة وهي دلالة على المسمى) في بعض النسخ «دالة» وفي بعضها «دليل».
ولا يرد أن اشتراك الأسماء يوجب الاشتراك والتشابه في المعنى فإن كون كل واحد منهما صاحب هذا الاسم ومسمى به معنى مشترك بينهما فيقع التشبيه بذلك المعنى; لأن هذا المعنى أمر اعتباري لا تحقق له بوجه، واعتباره وعدم اعتباره لا يوجب تغير الذات أصلا (وذلك) إشارة إلى ما علم سابقا وهو أنه لا تشبيه في المعنى (أن الإنسان وإن قيل واحد فإنه) (1) أي فإن القائل (يخبر) بقوله واحد (إنه جثة واحدة) الجثة شخص الإنسان (وليس باثنين) يعني أن الواحد إذا أطلق على الإنسان يراد به الواحد العددي الذي هو نصف الاثنين ومبدأ الكثرة وجزء لمراتب الأعداد الغير المتناهية، والمسمى به بهذا المعنى لا ينافيه التركيب والتأليف والتجزئة والايتلاف بمهية وإنية وصفة وكيفية وهيئة وأينية كما أشار إليه بقوله:
(والإنسان نفسه ليس بواحد) يعني اسمه واحد لا نفسه وشخصه (لأن اعضاء ه مختلفة) كالرأس واليد والرجل والأذن والأنف إلى غير ذلك (وألوانه مختلفة) كالبياض والسواد والحمرة والصفرة والكدرة إلى غير ذلك. (ومن ألوانه مختلفة غير واحد) في الكلام حذف بقرينة المقام أي ومن أعضاؤه وألوانه مختلفة ليس بواحد، كيف (وهو أجزاء مجزاة ليست بسواء، دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشرته، وسواده غير بياضه) إنما اقتصر على الأعضاء الظاهرة التي لا جواز لإنكارها لكون دلالتها على التركيب أظهر وإلا فالإنسان أيضا مهيته غير إنيته، ونفسه غير مهيته، وذاته غير صفاته، وقواه غير ذاته، وجنسه غير فصله، وفصله غير تشخصاته (وكذلك سائر جميع الخلق) ذكر السائر مع الجميع للمبالغة في جريان هذا الحكم في
ص:31
جميع المخلوقات بحيث لا يشذ منها شيء حتى البسايط فإنها أيضا مركبة من جنس وفصل ومن مهية وإنية وصفات وكيفية.
(فالانسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى) لما عرفت أنه مركب من الأمور المذكورة فهذا نتيجة للسابق (والله تعالى هو واحد لا واحد غيره); لأن الواحد إذا اطلق عليه سبحانه يراد به أنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه ولا تجزئة ولا تأليف من جنس وفصل ومهية وإنية وصفة وكيفية فهو الواحد الحقيقي الذي لا تكثر فيه أصلا لا في الذات ولا في مرتبة الذات ولا بعد الذات، وهو متفرد بالواحد بهذا المعنى لا يشاركه أحد من الممكنات إذ شيء منها لا يخلو من تعدد وتكثر، ومن ثم اشتهر أن عالم الإمكان عالم الكثرة، لا يوجد فيه معنى الوحدة أصلا.
(لا اختلاف فيه ولا تفاوت) أي لا اختلاف في ذاته لانتفاء التركيب ولا تفاوت بين ذاته وصفاته لانتفاء الزيادة (ولا زيادة ولا نقصان) لامتناع اتصافه بالجسمية والمقدار (فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد) الظاهر أن قوله «من أجزاء مختلفة» متعلق ب «المؤلف» وأن «المؤلف» خبر المبتدأ وهو الإنسان وأن «المخلوق المصنوع» صفة للانسان يعني أن الإنسان المخلوق المصنوع مؤلف من أجزاء مختلفة كما عرفت ومن جواهر شتى وهي الجنس والفصل وغيرهما فليس بواحد في الحقيقة وإنما صار باجتماع هذه الأجزاء شيئا واحدا عدديا، وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يكون متعلقا بالمصنوع ويكون المصنوع خبر المبتدأ، ويحتمل أيضا أن يكون خبر المبتدأ لكنه بعيد.
(قلت: جعلت فداك فرجت عني فرج الله عنك) (1) قال الجوهري: الفرج من الغم، تقول: فرج
ص:32
الله غمك تفريجا وكذلك فرج الله غمك يفرج بالكسر، فعلى هذا يجوز في فرجت وفرج الله التخفيف والتشديد، والمفعول محذوف للدلالة على التعميم (فقولك اللطيف الخبير فسره لي كما فسرت الواحد) (1) على وجه أزال الشبهة عني وانشرح بذلك صدري (فإني أعلم) على سبيل الإجمال (أن لطفه على خلاف لطف خلقه) الذي هو رقة القوام أو صغر الحجم أو عدم اللون أو التلطف في الأمر والرفق المستندين إلى لين الطبيعة (للفصل) بالصاد المهملة أي للفرق الظاهر بينه وبين خلقه فلا يجوز أن يكون لطفه كلطفهم، وفي بعض النسخ «للفضل» بالضاد المعجمة أي للفضل له سبحانه على خلقه (غير أني أحب أن تشرح ذلك لي، فقال: يا فتح إنما قلنا: اللطيف للخلق اللطيف) الخلق مصدر بمعنى الإيجاد، واللطيف صفة له، يعني إنما قلنا لله تعالى: إنه لطيف للإيجاد اللطيف، وإنما وصف
ص:33
الإيجاد باللطيف باعتبار تعلقه بشيء لطيف ولو لم يكن الخلق مصدرا بحرف التعريف وكان مضافا إلى اللطيف إضافة المصدر إلى المفعول كما وقع في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) حيث قال: «إنما قلنا اللطيف لخلق اللطيف» لكان أظهر في إفادة المقصود، ويحتمل أن يكون الخلق بمعنى المخلوق يعني إنما قلنا: إنه تعالى لطيف لمكان المخلوق اللطيف، ومحصل الاحتمالين أنه لطيف باعتبار أنه خلق خلقا لطيفا مع جميع ما يحتاج إليه في نشوئه وبقائه من القوة السامعة والباصرة واللامسة وغيرها من القوى الظاهرة والباطنة وأودع جميع ذلك فيه مع صغر حجمه بحيث لا تستبينه أحداق العيون ونواظر الأبصار (لعلمه بالشيء اللطيف) الظاهر أنه تعليل ثان لتسميته تعالى باللطيف، وفي بعض نسخ هذا الكتاب وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «ولعلمه» بالواو، وهو الأظهر، وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يكون تعليلا لتسميته تعالى بالخبير; لأن السائل سأله عن تفسير اللطيف الخبير جميعا، إلا أن هذا الاحتمال بعيد نظرا إلى ظاهر قوله (عليه السلام): «إنما قلنا اللطيف» حيث لم يذكر الخبير، اللهم إلا أن يقال: اكتفى بذكر اللطيف عن ذكر الخبير تعويلا على قرينة السؤال، ولما أشار بقول كلي على سبيل الإجمال (1) إلى أنه تعالى لطيف باعتبار خلقه خلقا لطيفا وعلمه بالخلق اللطيف، أراد أن ينبه على ذكر بعض مخلوقاته اللطيفة على سبيل التفصيل ويبين لطف صنعه في صغر ما خلقه وأحكم خلقه وأتقن تركيبه وفلق سمعه وبصره وسوى عظمه وبشره على غاية صغره فقال:
(أو لا ترى) بالواو في أكثر النسخ وفي بعضها ألا ترى بدونها (وفقك الله وثبتك) حذف متعلق الفعلين للدلالة على تعميمه وشموله للخيرات كلها (إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف) قد ذكرنا في المجلد الأول من جملة ذلك الأثر ما دل على كمال علمه تعالى سبحانه بالأشياء الدقيقة والأمور الخفية، ومن أراد الاطلاع عليه على وجه أكمل فليرجع إلى كتاب توحيد المفضل المنقول عن أبي عبد الله (عليه السلام).
(ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار) بالضم الصغير، قال الجوهري: صغر الشيء وصغير وصغار بالضم (ومن البعوض) البعوض البق والواحدة البعوضة (والجرجس) بكسر جيمين بينهما
ص:34
راء ساكنة لغة في القرقس وهو البعوض الصغار، فذكره بعد البعوض من باب ذكر الخاص بعد العام (وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون (1) بل لا يكاد يستبان لصغره) الموجب لخفاء الامتياز وتقارب الجثث (الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم) الحدث بالتحريك: الحادث وذلك لغاية صغر القديم بحيث يكون الحادث مثله في الجثة فلا يتميز عنه (فلما رأينا صغر ذلك في لطفه) أي فلما رأينا صغر جسمه مع لطف هيئته التي عليها صورته وصورة أعضائه، ف «في» بمعنى مع، ويحتمل الظرفية أيضا (واهتداءه) عطف على صغر ذلك أو على لطفه (للسفاد) أي نزو الذكر على الأنثى قضاء للشهوة وطلبا للذة (والهرب من الموت) وما ذلك إلا لأن له قوة مدركة للموت والحياة ومنافعهما ومضارهما ولا يعلم قدر تلك القوة وقدر محلها إلا هو.
(والجمع لما يصلحه) يجمع في الحر للبرد وفي الصيف للشتاء وفي أيام تمكنه من الحركة لأيام عجزه عنها، وهو عارف بقوانين معاشه ونظام أحواله وتدبير وجوده وتحصيل بقائه (وما في لجج البحار) عطف على ما يصلحه لبيانه وتفسيره، وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «مما في لجج البحار» وهو الأظهر في البيان وعطفه على صغر ذلك أيضا محتمل. (وما في لحاء الأشجار) اللحاء بالكسر والمد: قشر الشجر (والمفاوز والقفار) فكل وإن كان في غاية الصغر ونهاية الضعف وكمال دقة ما يقوم به شخصه من العظام والعصب والأوتار (2) والعروق والرباطات وغير ذلك من الأجزاء
ص:35
والأعضاء التي لا يعلم تشريحها إلا هو، يطلب رزقه وما يصلح به أمره بإعلام إلهي وإلهام رباني حيث هيأ له الصانع القدير وقدر له العليم الخبير (وإفهام بعضها عن بعض منطقها) (1) الإفهام إما بكسر الهمزة أو بفتحها، ولفظة «عن» وفهم بعض منطقها كما في كتاب العيون يرجح الثاني وضمير «منطقها» يعود على الأول إلى البعض الأول وعلى الثاني إلى البعض الثاني، والتأنيث باعتبار إرادة البعوضة أو الحيوانات، والمراد بمنطقها إما ما دل على مطالبها ومقاصدها من الحركات والإشارات والأصوات على سبيل الاستعارة، أو المراد به النطق الحقيقي المشتمل على الصوت والتقطيع، ويؤيد الثاني ظاهر قوله تعالى: (وإذ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) (2)(وما يفهم به أولادها عنها) من الحركات والرموز الخفية التي ألهمها الصانع الخبير (ونقلها الغذاء) بالمناقير والأفواه والأنياب (إليها) أي إلى أولادها قبل استكمالها تعطفا بها وتحننا عليها.
ص:36
(ثم تأليف ألوانها) عطف على صغر ذلك و «ثم» لمجرد التفاوت في الرتبة فإن تأليف الألوان وأشرابها وإظهار كل واحد منها مع كمال الاختلاط من أعظم الأدلة على كمال لطف الصانع وعلمه بدقائق الأشياء (حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة) حمرة بالجر بيان للألوان أي ثم تأليف حمرة مع صفرة، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى الألوان وما بعدها صفة لها، وفي كتاب العيون: «حمرة مع صفرة وبياضا مع خضرة» بنصب «بياضا» فوجب نصب «حمرة» أيضا بتقدير:
أعني، أو على أنها حال من الألوان (وأنه ما لا يكاد عيوننا تستبينه) وأنه بفتح الهمزة وتشديد النون عطف على «صغر ذلك».
وقال بعض الأفاضل: وأنه بسكون النون وفتح الهاء أمر من نهى ينهي، والموصول منصوب على المفعولية وعبارة عن الأجزاء والمعنى: اسكت عما لا تدركه عيوننا من أجزائها وتأليف بعضها مع بعض. شبه السكوت عن الشيء بالنهي عنه في عدم إجرائه على اللسان والأمر بالسكوت عنه لعدم إمكان تفصيله (لدمامة خلقها) الدمامة بفتح الدال المهملة: الحقارة، والدميم كأمير: الحقير، وتذكير ضمير الموصول تارة وتأنيثه أخرى باعتبار اللفظ والمعنى.
(لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا) لأن صغر الحجم وحقارة المقدار على وجه الكمال أخرجه من أن تدركه العين أو تناله اليد و «لا تراه» إما استيناف أو بمنزلة إضراب عن قوله «لا يكاد» ونصبه على الحال بعيد; لعدم ظهور عامل له (علمنا) جواب لما (أن خالق الخلق) الذي أقامه على قوائمه وبناه على دعائمه مع حقارة بنيته ولطافة هيئته وركب فيها من لطائف الصنعة وأودعها من طرائف الحكمة ما عرفت.
(لطيف لطف بخلق ما سميناه) أي رفق به ودقق خلقه وعلم دقائق مصالحه وأعطاه ما يليق بحاله من الحقير والنفير (بلا علاج) أي بلا مباشرة بالأعضاء والجوارح أو بلا تجربة ولا مزاولة ولا تدريج، تقول: عالجت الشيء معالجة وعلاجا إذا زاولته ومارسته (ولا أداة ولا آلة) العطف للتفسير. قال الجوهري: الأداة الآلة ويحتمل أن يراد بالأداة الأداة البدنية مثل القوى الجسمانية وبالآلة الآلة الخارجية كالمنشار والمنحت وغيرهما مما يحتاج إليه الصانع الزماني، ويحتمل أيضا أن يراد بالآلة المادة والمدة، وبالأداة الصفة الزايدة. وعدم استناد فعله تعالى إليهما على جميع التقادير ظاهر لأنهما من الأمور الحادثة المتعلقة بأمر حادث لا يتم فعله إلا بها ويفتقر في كماله
ص:37
إليها، والله جل شأنه قديم كامل في ذاته وفعله لا يفتقر إلى شيء أصلا (وإن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء) أشار بذلك إلى الفرق بين الصانع الحادث الناقص في حد ذاته وبين الصانع القديم الكامل في مرتبة ذاته الحقة القدوسية بأن الأول كما هو نفسه زماني ومادي ومدي وآلي كذلك فعله وصنعه زماني ومادي ومدي وآلي لاستحالة أن يفعل هو بلا علاج ولا مزاولة ولا أداة ولا آلة ولا مادة ولا مدة شيئا، وأما الثاني فكما أن ذاته الحقة منزهة عن جميع النقايص والافتقار كذلك صنعه للمجعولات المادية وفعله للمخلوقات المدية منزه عن النقص والافتقار (1) إلى العلاج والأداة والآلة والمادة والمدة، سبحان من إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون.
فإن قلت: عطف قوله «وإن كل صانع شيء» على جواب لما يشعر بأن هذا أيضا علمناه من السابق، وليس في السابق ما يدل عليه فما وجه ذلك؟ قلت: الوجه فيه أنا إذا علمنا من السابق أن الصانع الحق لطيف بالمعنى المذكور فقد علمنا أن كل صانع غيره ليس بلطيف بذلك المعنى; لاستحالة وقوع التشابه بينهما في أمر من الأمور، فقد دل السابق التزاما على أن كل صانع غيره تعالى فمن شيء صنع.
2 - علي بن محمد مرسلا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال: اعلم علمك الله الخير أن الله تبارك وتعالى قديم والقدم صفته التي دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميته فقد بان لنا بإقرار العامة معجزة الصفة أنه لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه، وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شيء، وذلك أنه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه، فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه. ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا وكان الأول أولى بأن يكون خالقا للأول، ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها فسمى نفسه سميعا، بصيرا، قادرا قائما، ناطقا، ظاهرا، باطنا، لطيفا، خبيرا قويا، عزيزا، حكيما عليما وما أشبه هذه الأسماء، فلما رأى ذلك من أسمائه القالون المكذبون وقد سمعونا نحدث عن الله أنه لا شيء مثله ولا شيء من
ص:38
الخلق في حاله قالوا: أخبرونا إذ زعمتم أنه لا مثل لله ولا شبه له، كيف شار كتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها؟ فإن في ذلك دليلا على أنكم مثله في حالاته كلها أو في بعضها دون بعض إذ جمعتم الأسماء الطيبة، قيل لهم: إن الله تبارك وتعالى ألزم العباد أسماء من أسمائه على اختلاف المعاني وذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين، والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشائع وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون ليكون عليهم حجة في تضييع ما ضيعوا فقد يقال للرجل: كلب وحمار، وثور، وسكرة، وعلقمة، وأسد كل ذلك على خلافه وحالاته لم تقع الأسامي على معانيها التي كانت بنيت عليه; لأن الإنسان ليس بأسد ولا كلب، فافهم ذلك رحمك الله، وإنما سمي الله تعالى بالعلم بغير علم حادث علم به الأشياء، استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره والروية فيما يخلق من خلقه ويفسد ما مضى مما أفنى من خلقه مما لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلا ضعيفا، كما أنا لو رأينا علماء الخلق إنما سموا بالعلم لعلم حادث إذ كانوا فيه جهلة وربما فارقهم العلم بالأشياء فعادوا إلى الجهل. وإنما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا.
فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم واختلف المعنى على ما رأيت، وسمي ربنا سميعا لابخرت فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به كما أن خرتنا الذي به نسمع لا نقوى به على البصر ولكنه أخبر أنه لا يخفى عليه شيء من الأصوات، ليس على حد ما سمينا نحن، فقد جمعنا الاسم بالسمع واختلف المعنى وهكذا البصر لا بخرت منه أبصر كما أنا نبصر بخرت منا لا ننتفع به في غيره ولكن الله بصير لا يحتمل شخصا منظورا إليه، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وهو قائم ليس على معنى اتتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء ولكن قائم يخبر أنه حافظ كقول الرجل القائم بأمرنا فلان. والله هو القائم على كل نفس بما كسبت. والقائم أيضا في كلام الناس: الباقي. والقائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك للرجل: قم بأمر بني فلان أي أكفهم.
والقائم منا قائم على ساق، فقد جمعنا الاسم ولم نجمع المعنى، وأما اللطيف فليس على قلة وقضافة وصغر ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك، كقولك للرجل: لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه وقوله يخبرك أنه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحد، أو يحد بوصف، واللطافة منا الصغر والقلة، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وأما الخبير فالذي لا يعزب
ص:39
عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء فعند التجربة والاعتبار علمان ولولاهما ما علم ; لأن من كان كذلك كان جاهلا والله لم يزل خبيرا بما يخلق، والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وأما الظاهر فليس من أجل أنه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها ولكن ذلك لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل: ظهرت على أعدائي وأظهرني الله على خصمي، يخبر عن الفلج والغلبة، فهكذا ظهور الله على الأشياء، ووجه آخر أنه الظاهر لمن أراده ولا يخفى عليه شيء وأنه مدبر لكل ما برأ، فأي ظاهر أظهر وأوضح من الله تبارك وتعالى، لأنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت وفيك من آثاره ما يغنيك، والظاهر منا البارز بنفسه والمعلوم بحده، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى، وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا، كقول القائل: أبطنته يعني خبرته وعلمت مكتوم سره، والباطن منا الغايب في الشيء المستتر وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وأما القاهر فليس على معنى علاج ونصب واحتيال ومداراة ومكر، كما يقهر العباد بعضهم بعضا، والمقهور منهم يعود قاهرا والقاهر يعود مقهورا، ولكن ذلك من الله تبارك وتعالى على أن جميع ما خلق ملبس به الذل لفاعله وقلة الامتناع لما أراد به لم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون، والقاهر منا على ما ذكرت ووصفت، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نستجمعها كلها فقد يكتفي الاعتبار بما ألقينا إليك. والله عونك وعوننا في إرشادنا وتوفيقنا.(1)
(علي بن محمد مرسلا، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)) هذا الحديث رواه الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) وفي كتاب التوحيد من طريق المصنف مسندا قال: حدثنا علي ابن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثنا علي بن محمد المعروف بعلان، عن محمد بن عيسى عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (قال: قال: اعلم علمك الله الخير) الخير مفهوم عام شامل لجميع القوانين الشرعية وجزئياتها سواء كانت متعلقة بنظام الدين أو بنظام الدنيا، وهذا الخطاب عام شامل للموجود والمعدوم ومن هو في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات (إن الله تعالى قديم) وجوده ذاتي (2) مستند إلى ذاته غير مسبوق بالعدم ولا معروض له
ص:40
(والقدم صفته التي دلت العاقل) إما بالاستقلال أو بملاحظة مقدمة مبرهنة متقررة في العقل مسلمة عند الكل وهي أنه تعالى مبدأ لجميع ما سواه (على أنه لا شيء قبله لا شئ معه في ديموميته) التي كانت له في مرتبة ذاته الحقة ومرتبة وجوده الذي هو نفس ذاته القدسية، وستعرف وجه دلالتها عليه (فقد بان لنا بإقرار العامة) أي بإقرار عامة الموجودات كلها بلسان الحال والإمكان وبعضها بلسان المقال والبيان والإقرار; إما من «أقر بالحق» إذا اعترف به، أو من «أقر الحق في مكانه» فاستقر هو. فقوله (معجزة الصفة) (1) على الأول منصوب بنزع الخافض وهو الباء وإن شذ نزعه في مثله، وعلى الثاني منصوب على المفعولية، والمعجزة اسم فاعل من «أعجزته»
ص:41
بمعنى: وجدته عاجزا، أو من «أعجزته» بمعنى:
جعلته عاجزا، أو من «أعجزه الشيء» بمعنى: فاته.
وإضافته إلى الصفة والمراد بها القدم من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. أي الصفة المعجزة وإنما وصفها بالإعجاز لأنها تجدهم، أو تجعلهم لنباهة شأنها عاجزين عن إدراكهم كنهها وحقيقتها أو عن اتصافهم بها أو عن إقرارهم بأنه تعالى قديم، أو لأنها تفوتهم وهم فاقدون لها، ويحتمل أن تكون المعجزة مصدر عجز عن الشيء عجزا ومعجزة بفتح الميم وكسر الجيم وفتحها للإضافة والانتساب وأدنى ملابسة أي إقرار العامة بعجزهم عن تلك الصفة وعدم قدرتهم على الاتصاف بها. هذا الذي ذكرناه في حل هذه العبارة هو ملخص ما ذكره جمع من المتأخرين منهم السيد الداماد والمحقق الشوشتري مع زيادات سنحت للخاطر، وقال بعض الأفاضل: متعلق الإقرار محذوف، والمعجزة اسم مفعول من أعجزه إذا فاته، وصفة للعامة ومضافة إلى الصفة، يعني بان لنا بإقرار العامة بفقدان تلك الصفة وفواتها فيهم بأنه تعالى قديم.
وفيه أن الأصل عدم الحذف وأن الإضافة اللفظية لا تفيد تعريف المضاف فلا تقع صفة للمعرفة.
وفي بعض نسخ لا يعتد به «بهذه الصفة» وهو أظهر. وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «مع هذه الصفة» والله أعلم.
(إنه لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه) (1) أزلا وأبدا جميعا، فلا ينافي ما تقرر من أن
ص:42
الإنسان باق أبدا لا يموت بعد البعث (وبطل قول من زعم أنه كان قبله) كالقائلين بأنه مركب فإن الجزء قبل الكل (أو كان معه شيء) كالقائلين بزيادة الوجود والصفات، و «شيء» مرفوع على سبيل التنازع (وذلك أنه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له) وإذا لم يكن خالقا لذلك الشيء لزم تعدد الواجب لذاته ولزم أيضا أن لا يكون جل شأنه مبدأ لجميع ما سواه وكلاهما باطل (لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه) في مرتبة ذاته ووجوده، والمخلوق يجب أن يكون بحسب الذات والوجود متأخرا عن الخالق القادر، وذلك; لأن وجوده تعالى عين ذاته، فلو كان وجود شيء ما مع وجوده غير متأخر عنه كان أيضا مع ذاته غير متأخر عنها أصلا. فلا تكون ذاته التي تفعل بالاختيار علة له لوجوب تقدمها على المعلول بحسب الرتبة والوجود، فقد ظهر أن القديم لا يجوز أن يكون معلولا (1) للقادر خلافا للمبتدعة (2) (ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا) الذي هو
ص:43
القبل على الإطلاق وهو المسمى بالله وكان الأول بحسب هذا الفرض (أولى بأن يكون خالقا للأول) الذي هو الخالق لجميع ما سواه وهذا خلاف المتقرر الثابت من وجهين: الأول أن لا يكون المبدء للجميع مبدأ للجميع، والثاني أن يكون القديم الواجب حادثا ممكنا لأن كونه بعد أن لم يكن وصف له بالحدوث اللازم للإمكان.
(ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء) أي سمى نفسه بها أو عرف نفسه، وإنما قال بأسماء ولم يقل بمعانيها للدلالة على أنه ليس له صفة زائدة (دعا الخلق) بالنصب على أنه مفعول له مثل «حذر الموت» يعني وصف نفسه بالأسماء لأجل دعائهم إياه بتلك الأسماء (إذ خلقهم وتعبدهم) يعني طلب منهم العبادة والتذلل وغاية الخضوع، وأراد أن يكونوا عبيدا له (وابتلاهم) بالخير والشر واختبرهم بالمصائب والنوائب وألجأهم (إلى أن يدعوه بها) أي بتلك الأسماء التي وصف بها نفسه (فسمى نفسه) الفاء لتفسير الوصف المذكور لا للتفريع (سميعا بصيرا قادرا قائما ناطقا ظاهرا باطنا لطيفا خبيرا قويا عزيزا حكيما عليما وما أشبه هذه الأسماء) من الأسماء المشتركة بينه وبين خلقه الدالة على الذات مع ملاحظة شيء من الصفات (فلما رأى ذلك من أسمائه الغالون المكذبون) الغالي المتجاوز عن الحد من غلا في الأمر يغلو غلوا إذا جاوز فيه الحد وهم قد جاوزوا الحد في أسمائه تعالى حيث جعلوا مبادي اشتقاقها موجودة خارجية زائدة عليه قائمة به ، وفي بعض النسخ «القالون» بالقاف من القلى وهو البغض (وقد سمعونا نحدث عن الله أنه لا شيء مثله) بحسب الذات (ولا شيء من الخلق في حاله) بحسب الصفات (قالوا أخبرونا إذا زعمتم أنه لا مثل لله ولا شبه له كيف شاركتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها) إذ هذه الأسماء وهي السميع والبصير إلى آخر ما ذكر تطلق عليكم أيضا (فإن في ذلك) أي في مشاركتكم في أسمائه (دليلا على أنكم مثله في حالاته) التي دلت عليها تلك الأسماء (كلها أو في بعضها دون بعض) الترديد إما لعدم تحقق المشاركة في جميع أسمائه تعالى أو لكون المشاركة في البعض كافيا في مقام المناظرة والإلزام (إذ جمعتم الأسماء الطيبة) وذلك دل على أنكم مثله في المعنى إذ الاشتراك في المشتق يقتضي الاشتراك في المشتق منه.
وفي كتاب التوحيد وكتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «إذ جمعتكم الأسماء الطيبة» ولما أشار إلى منشأ شبهتهم وتقريرها بأن مشاركتكم معه في الأسماء تقتضي مشابهتكم ومماثلتكم معه في المعنى لأن الاسم دليل على المعنى المشترك بينكما أشار إلى الجواب عنها وحاصله أن الاشتراك هنا من باب الاشتراك في اللفظ دون المعنى بقوله (قيل لهم: إن الله تعالى ألزم العباد أسماء من
ص:44
أسمائه على اختلاف المعاني) أي على سبيل الاشتراك في اللفظ دون المعنى (1) (وذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين) من جميع الوجوه مثل العين للباصرة والذهب ولا يقع بذلك التماثل والتشابه بينهما، هذا إذا كان ذلك للتمثيل أما لو كان للتشبيه كما يشعر به ظاهر الكاف وظاهر الدليل الآتي المبتني على الحقيقة والمجاز، فالمراد بالمعنيين المختلفين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي والمختلفان في بعض الوجوه المتشابهان أو المتناسبان بوجه آخر، والمقصود من التشبيه هنا هو جهة المغايرة والمخالفة دون المناسبة والمشابهة، فإن المعنى المجازي للحمار مثلا هو الإنسان مخالف لمعناه الحقيقي وإن كان إطلاق الحمار عليه باعتبار مناسبة خارجة عنه، فإذا شبهنا العين بالحمار باعتبار المعنى أو شبهنا معناها بمعناه فلا شبهة في أن المقصود هو إظهار المخالفة وبيان المغايرة بين معنييها كما هي بين معنيي الحمار، وأما المناسبة التي بين معنيي الحمار فأمر غير مقصود في هذا التشبيه أصلا، فاندفع بذلك ما عسى أن يقال: هذا التشبيه يفيد اعتبار المناسبة أو المشابهة بين علمه تعالى مثلا وعلم غيره، وهذا مؤيد للشبهة لا دافع لها (والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشايع) بالشين المعجمة والعين المهملة وفي كتاب العيون: «قول الناس الجايز عندهم السايغ» بالسين المهملة والغين المعجمة بمعنى الجايز، والمذكور هنا أصوب لخلوه عن التكرار (وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون ليكون عليهم حجة (2) في تضييع ما ضيعوا
ص:45
)من الإيمان والأحكام والأخلاق (1) (فقد يقال للرجل كلب وحمار وثور وسكرة) السكر - بضم السين المهملة وتشديد الكاف - فارسي معرب، الواحدة سكرة، وفي المغرب: السكر - بالتشديد -:
ضرب من الرطب مشبه بالسكر المعروف في الحلاوة (وعلقمة وأسد) العلقم شجر مر ويقال للحنظل ولكل شيء مر علقم (كل ذلك على خلافه وحالاته) أي على خلاف ما هو المقصود منه وضعا وخلاف حالاته وصفاته المطلوبة منه حقيقة. وحالاته عطف على الضمير المجرور بالإضافة بدون إعادة الجار كما في قوله تعالى (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) والدليل على امتناعه مدخول كما سنشير إليه في باب صلة الرحم إن شاء الله تعالى، ومن لم يجوز ذلك فليجعل الواو بمعنى «مع» أو ليقدر مضافا أي وخلاف حالاته.
وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «على خلافه» لأنه (لم يقع الأسامي على معانيها التي كانت
ص:46
بنيت عليه) هذا بيان وتوضيح لما قبله (لأن الإنسان ليس بأسد ولا كلب فافهم ذلك رحمك الله) أي ما يطلق عليه لفظ الإنسان حقيقة ليس ما يطلق عليه لفظ الأسد والكلب حقيقة. فقد تقرر مما ذكر أن معنى الأسماء في الواجب مخالف لمعناها في غيره كما أن المعنى الحقيقي للأسد مخالف لمعناه المجازي الذي هو الإنسان إلا أن الاسم فيما نحن فيه ليس في الواجب حقيقة وفي غيره مجازا بل في كليهما حقيقة من باب الاشتراك في اللفظ، فإن العالم مثلا موضوع تارة للعلم القديم الكامل بالذات لا بالغير، وتارة للعلم الحادث الناقص القابل للعدم سابقا ولاحقا القائم بالغير، ولا شبهة في أن هذا المعنى مخالف لذلك المعنى ولا اشتراك بينهما إلا في لفظ العلم. ولما نظر بعض المحققين إلى هذا الدليل ووجد الأسد ونحوه من الأسماء حقيقة في معانيها الأصلية ومجازا في الإنسان ظن أن الأسماء الكمالية أيضا كذلك فقال: معناه كما أن تلك الأسماء لا يستحقها حقيقة إلا معانيها الأصلية ولا تقع على الرجل حقيقة بل تقع عليه مجازا، كذلك الأسماء الكمالية لا يستحقها حقيقة إلا الذات القدسية ولا يقع على الكاملين من الخلق حقيقة بل تقع عليه مجازا من حيث إنهم مظاهر أسماء خالقهم، وفيه أنه إن أراد بالمجاز في قوله: «الأسماء الكمالية تقع على الخلق مجازا» الاستعارة ليوافق الأمثلة المذكورة في الدليل فإن الأسد ونحوه استعارة في الإنسان يرد عليه أن الاستعارة مبينة على التشبيه وقد مر مرارا أنه لا يجوز تشبيه شيء بالله سبحانه بوجه من الوجوه، وإن أراد مجازا مرسلا لعلاقة السببية والمسببية - كما يشعر به الظاهر - يرد عليه أنه على تقدير جواز ذلك، هنا فاتت المناسبة بين المقيس المقيس عليه فإن المقيس عليه استعارة، وإن اكتفى في المناسبة بمجرد التجوز وإن كان هذا نوعا منه وذاك نوعا آخر فليقل بالاشتراك اللفظي كما هو ظاهر سياق الحديث (1) وليكتف في المناسبة بما ذكرنا سابقا من مجرد الاختلاف بين المعنيين، ولما أشار إجمالا إلى اختلاف معاني الأسماء بين الخالق والخلق أراد أن يشير إلى تفصيل بعض ذلك
ص:47
وتوضيحه ليقاس عليه في البواقي فقال:
(وإنما سمى الله بالعلم) المراد بالعلم العالم بذكر المشتق منه مقام المشتق، أو المراد بالتسمية الوصف أو قال ذلك للتنبيه على أن العلم عين ذاته، وفي كتاب العيون: «وإنما تسمى بالعالم على صيغة المشتق» (لغير علم حادث علم به الأشياء) يعنى سمي بعلم قديم كامل من جميع الجهات هو عين ذاته الحقة التي هي العلم بالأشياء كلها كليها وجزئيها على نحو واحد لا بعلم حادث زائد عليه قائم به علم به الأشياء لاستحالة الجهل عليه في مرتبة ذاته وامتناع اتصافه بالحوادث (استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره) كالبشر فإنه يستعين بعلم حادث له بالكليات على حفظ تفاصيل جزئياتها الواردة عليه في مستقبل أحواله (والروية فيما يخلق من خلقه) «ما» مصدرية والروية عطف على الحفظ وفيه إشارة إلى أن علمه بالأشياء علما إجماليا يستعين به على الروية والفكر ليجد وجه المصلحة فيما يخلق من خلقه كما هو شأن أرباب الصنايع فإنهم يتصورون أولا أمرا مجملا ثم يخطر ببالهم في أثناء الصنع ما له مدخل في تمامه وكماله ويصنعونه تكميلا لصنايعهم وعطفها على علم حادث، أي إنما سمى الله بالعلم بغير الروية إلى آخره أيضا محتمل، والمتكلمون بعدما قالوا: إنه تعالى عالم بجميع أفعاله قبل الإيجاد لا من طريق أصلا لا من حس ولا من روية ونظر واستدلال، سألوا أنفسهم وقالوا:
لم زعمتم ذلك ولم لا يجوز أن يكون قد فعل أفعالا مضبوطة ثم أدركها فعلم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بالرؤية بعد اختلالها واضطرابها؟ ثم أجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون قبل ذلك عالما بمفردات بعضها فوجب أن يعلم كذلك بأسرها لعدم التخصيص.
ورد هذا الجواب بأنه لا يلزم العلم بمفردات الفعل العلم بالفعل، فقولكم «لا بد أن يكون عالما بمفرداتها قبل فعلها» مصادرة على المطلوب.
والجواب الحق: أنه لو علمها بعد أن لم يعلمها لزم الجهل وهو نقص لا يليق بجناب القدس ولكان علمه بها حادثا في ذاته فيلزم أن يكون جل شأنه محلا للحوادث وهو محال.
(ويفسد ما مضى مما أفنى من خلقه) «يفسد» من أفسدت الشيء لعدم كونه على وجه المصلحة، والمفسدة خلاف المصلحة وهو عطف على يخلق، وصح ذلك; لأن «ما» مصدرية كما أشرنا إليه ولو جعلت موصولة أو موصوفة لم يصح و «ما مضى» مفعوله و «مما أفنى» بيان لما مضى والمقصود - والله أعلم - أنه ليس له علم حادث استعان به على الروية والتفكر في الخلق والإيجاد
ص:48
والإفناء والإفساد فكما لا يتفكر في استصلاح ما يخلق كذلك لا يتفكر في استصلاح ما يفسد لعدم وقوعه على وجه المصلحة كما هو شأن الفاعل بالعلم الحادث الناقص الذي يستكمل في الصنايع بالتجربة وتكرر الأفاعيل، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «ومنشئهم بحكمه بلا اقتداء ولا تعليم، ولا احتذاء لمثال صانع حكيم، ولا إصابة خطأ» (1) ومعنى قوله (عليه السلام) «ولا إصابة خطأ» أنه يخلق أولا اتفاقا على سبيل الاضطراب والخطأ في المصلحة من غير علم منه على وجهها، ثم علمه بعد ذلك بالرؤية والتفكر فأفسد ما فعله واستدرك فعله على وجه المصلحة وأحكمه.
(مما لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلا ضعيفا). هذه الجملة إما في محل الجر على أنها صفة أخرى لعلم حادث أو في محل النصب على أنها حال عنه و «ما» في «مما» موصولة أو موصوفة، والعائد إليها اسم الإشارة، والضمير المنصوب في قوله «لم يحضره» راجع إليه سبحانه و «يغيبه» على صيغة المضارع بالغين المعجمة والباء الموحدة بعد الياء المثناة من تحت من الغيبة، والأصل يغيب عنه بالحذف والإيصال، وهو عطف على قوله «لم يحضره» وفي بعض النسخ «تغيب» على صيغة الماضي من باب التفعل، والأصل فيه تغيب عنه. وفي كتاب العيون «ويعنه» على صيغة المضارع المجزوم من الإعانة لكونه معطوفا على مدخول «لم» (كما أنا لو رأينا علماء الخلق إنما سموا بالعلم). في كتاب العيون أيضا «بالعلم» خلافا لما تقدم (لعلم حادث) قائم بذواتهم بعدما لم يكن (إذ كانوا فيه جهلة) بفتح الجيم والهاء جمع جاهل. وفي كتاب العيون «قبله» بدل «فيه» وكون علماء الخلق جاهلين أمر ظاهر فإن أكثرهم كانوا خالين عن العلم في بدء الفطرة ثم حصل لهم العلوم بالتجربة والممارسة، وبعضهم وإن لم يكن خاليا عنها كالنفوس الهيولانية العالية والعقول المجردة النورانية لكن في مرتبة ذاته الممكنة العارية عن حلية العلوم كان جاهلا، وإنما اتصف بالعلم بعد ملاحظة الذات وتكميلها فهو في مرتبة الذات كان جاهلا بخلاف الحق جل شأنه فإن علمه في مرتبة ذاته العالمة بكل شيء من كل جهة بالفعل لأنه عينها (وربما فارقهم العلم بالأشياء) لعروض النسيان والغفلة (فعادوا إلى الجهل) كما كانوا فيه أولا (وإنما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا) (2) لأنه بذاته الحقة القديمة عالم بجميع الأمور
ص:49
مستقبلها وماضيها كليها وجزئيها بحيث لا يتفكر ولا يتروى، ولا يزيد علمه ولا ينقص، ولا يتغير ولا يتبدل، ولا يجهل ولا ينسى، وبالجملة علمه هو الذات القدوسية الحقة وعلم غيره صفة فاقرة قائمة بذات فاقرة (فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم واختلف المعنى على ما رأيت) فإطلاق العالم على الخالق والمخلوق كإطلاق العين على الباصرة والذهب فالاشتراك بينهما إنما هو في الاسم دون المعنى (وسمي ربنا سميعا لا بخرت فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به) بل يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع وهو نفس ذاته المقدسة والخرت بفتح الخاء المعجمة وضمها وسكون الراء المهملة قبل التاء المثناة من فوق الثقب في الأذن وغيرها، وفي كتاب العيون «لا بجزء فيه» (كما أن خرتنا) في كتاب العيون: «كما أن جزءنا» (الذي به نسمع) الأصوات الداخلية فيه الواصلة إلى القوة المنبثة على العصب المفروش تحته، وهذا العصب محل لهذه القوة المدركة للصوت، والخرت طريق لوصول الصوت إليها (لا نقوى به على البصر) أي على إدراك المبصرات; لأن له خرتا آخر يختص به.
ولما أشار إلى أن سمعه للأصوات ليس بشق الأذن وخرته كما في الإنسان لتنزهه عن الجسمية وآلاتها أشار إلى ما هو المقصود منه بقوله (ولكنه أخبر) أي ولكن السميع أخبر، أو ولكن الله تعالى أخبر بإطلاق السميع عليه (أنه لا يخفى عليه شيء من الأصوات) حتى صوت الذرة في الفلاة وحسيس النملة على الصفاة (ليس على حد ما سمينا نحن) «سمينا» على صيغة المجهول و «نحن» تأكيد للضمير المرفوع المتصل يعني ليس تسميته تعلى بالسميع على حد تسميتنا به وعلى معناه (فقد جمعنا الاسم بالسميع) أي التسمية به. و «جمعنا» إما بسكون العين على صيغة المتكلم مع الغير أو بفتحها على صيغة الغائب المذكر، والاسم على الأول منصوب على المفعولية
ص:50
وعلى الثاني مرفوع على الفاعلية (واختلف المعنى); لأن السمع في الواجب هو العلم بالمسموعات بنفس الذات (1) لا بالأداة، وفينا إدراك المسموعات بالشقوق والأخرات، وهذا مخالف لذاك; لأن العلم بالمسموعات من جهة الآلات غير العلم بها لا من جهتها.
لا يقال: هذا إنما يثبت التخالف بين هذين المقيدين لا مطلقا; لوقوع التشابه بينه وبيننا في الجزء المشترك بينهما وهو العلم بالمسموعات.
لأنا نقول: قد عرفت آنفا أن علمه مخالف لعلمنا فلا نعيده.
(وهكذا البصر لابخرت منه أبصر) في كتاب العيون: «وهكذا البصير» على وزن فعيل «لالجزء به أبصر» يعني ليس إبصاره بالعين ولا إدراكه للمبصرات بحاسة البصر لتنزهه عن الحواس (كما أنا
ص:51
نبصر بخرت منا) في كتاب العيون: «بجزء منا» (لا ننتفع به في غيره) أي كما أنا نبصر المبصرات بخرت العين لا ننتفع بذلك الخرت في غير الإبصار لأنه طريق لإدراك المبصرات فقط (ولكن الله بصير لا يحتمل شخصا منظورا إليه) أي لا ينطبع صورة المنظورة إليه ومثاله في ناظره لعدم وجود الناظر له، فيه دلالة على أن الإبصار بالانطباع (1) ويمكن أن يراد بالشخص الآلة الباصرة التي يمكن النظر إليها، وقيل الاحتمال هنا بمعنى المشقة يقال: احتمله أي تكلف المشقة فيه يعني لا مشقة له في إبصار شخص منظور إليه، في بعض نسخ هذا الكتاب وفي كتاب العيون: «لا يجهل» من الجهل في موضع لا تحتمل، وهو الأظهر (فقد جمعنا الاسم) الفعل هنا أيضا يحتمل الوجهين (واختلف المعنى); لأن إبصارنا بالنواظر والأخرات، وإبصاره هو العلم بالمبصرات بنفس الذات، والحاصل أن البصر والبصير في الخلق نفس الذات، وفينا الآلة والنفس الفاقرة من جميع الجهات، فلا اشتراك هنا إلا في مجرد الاسم (وهو قائم ليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء) الكبد بفتح الكاف والباء: الشدة والمشقة. والساق ساق قدم، ويمكن أن يراد بها هنا السبب، أي ليس قيامه على معنى قيام على سبب يقيمه كسائر الأشياء الموجودة القائمة بأسبابها. ويؤيده بقاء الأشياء على عمومها عدم الاحتياج إلى تخصيصها بذوات السوق (ولكن قائم يخبر أنه حافظ) أي ولكن قولنا هو قائم يخبر أنه حافظ للمخلوقات وأحوالهم وأفعالهم وآثارهم ومتول لحفظها وإصلاحها ورعايتها وتدبيرها.
ولما كان هنا مظنة أن يقال: إطلاق القائم على الحافظ غير متعارف، أشار إلى أنه شايع في المحاورات بقوله: (كقول الرجل القائم بأمرنا فلان) أراد بالقائم الحافظ الضابط المدبر في أمورهم لا القائم بالساق ولو أريد هذا لكان المقصود منه على سبيل الكناية هو الحفظ.
(والله هو القائم) أي الحافظ (على كل نفس بما كسبت) من الخير والشر. والواو إما للحال أو للعطف على قوله «كقول الرجل» أو على مقول القول وهو القائم (والقائم أيضا في كلام الناس الباقي) أي الثابت الوجود أزلا وأبدا على امتناع أن يسبقه أو يلحقه عدم، ويقال للباقي بهذا المعنى: الأزلي الأبدي، ولا يستحق هذا الاسم إلا هو (والقائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك
ص:52
للرجل قم بأمر بني فلان أي أكفهم) مؤنتهم وسائر ما يحتاجون إليه والله سبحانه هو الكافي على الإطلاق لأنه يكفي بلا معاناة ولا آلة جميع ما يحتاج إليه، عالم الإمكان من الوجود والصفات والكمالات والأسباب والأرزاق وغيرها وإنما لم يذكره; لأن شهرته كفت مؤونة ذكره، وبالجملة القائم إذا أطلق عليه سبحانه يراد به الحفظ أو البقاء أو الكفاية لا القيام على ساق (والقائم منا قائم على ساق) أي على ساق القدم أو على سبب يقيمه، ولا يتحقق شيء من هذين المعنيين فيه جل شأنه لتنزهه عن الجسمية والقدم والساق والسبب.
فإن قلت: القائم قد يخبر في الخلق عن الحفظ والكفاية والبقاء، أما الأولان فقد صرح به (عليه السلام) وأما الأخير فلأن الباقي يصدق على الجنة والنار والنفوس المجردة والبدن بعد بعثه وغيرهما مما كان وجوده أبديا، بل يصدق على الموجود وإن كان منقطع الوجود في الطرفين، فصرف القيام عن ظاهره إلى هذه المعاني لا ينفع; لوقوع التماثل والتشابه فيها.
قلت: هذا مدفوع أما أولا فلأن هذه المعاني فينا تابعة للقيام على ساق لأنه قد يجعل كناية عنها، وفي الواجب غير تابعة له. وأما ثانيا فلأن هذه المعاني فينا صفات حادثة ناقصة قائمة بنا، مستندة إلى آلات وأسباب معتبرة في تحققها، وفي الواجب يعتبرها العقول على الوجه الأكمل لذاته المقدسة بذاته من غير اعتبار صفة زائدة قديمة أو حادثة تحل فيه لتعاليه عن التحديد والتوصيف فلا اشتراك فيها أيضا إلا بحسب الاسم (فقد جمعنا الاسم ولم نجمع المعنى) إن كان «جمعنا» بسكون العين كان «لم نجمع» بالنون وإن كان بفتحها كان لم يجمع بالياء المثناة من تحت، والتقدير: لم يجمعنا المعنى، والأخير وإن كان خلاف الظاهر لاحتياجه إلى الحذف ومخالفته لظاهر ما سبق لكن يؤيده ما نقله الصدوق في كتابي العيون والتوحد بقوله: «ولم يجمعنا المعنى».
(وأما اللطيف فليس على قلة) في الحجم (وقضف) في الجسم. والقضف - محركة كعنب - الدقيق والنحيف، وقد قضف بالضم قضافة فهو قضيف أي نحيف (وصغر) في المقدار; لأن كل ذلك من صفات الجسم والجسمانيات وقدس الحق منزه عنها (ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء) (1) أي ولكن الله لطيف على معنى نفاذ علمه وقدرته وحكمه في الأشياء الصغار والكبار،
ص:53
ألا ترى كيف نفذت في الذرة والبعوضة وما هو أصغر منهما وفي غيرهما من الحيوانات والنباتات والجمادات والمعادن والأرضين والسماوات وما فيهن وما بينهن مما يعجز عن إدراك قليل منها ومن منافعها وخواصها وآثارها أولو الألباب (والامتناع من أن يدرك) أي امتناعه من أن يدرك ذاته وصفاته من جهة العقل والحواس بحد ونهاية ورسم يحيط بها، وبالجملة لطفه عبارة عن نفوذ علمه وقدرته في الغير، وعدم نفوذ علم الغير وقدرته فيه، ثم أشار إلى أن إطلاق اللطيف على النفاذ غير بعيد لأنه مستعمل في محاورات الناس أيضا بقوله (كقولك للرجل) أي: لإعلامه وإخباره (لطف عني هذا الأمر) يعني لم ينفذ فيه فهمي ولم يبلغ إليه عقلي (ولطف فلان في مذهبه وقوله) إذا دق طريقهما وخفي مأخذهما ولم ينفذ فيهما العقل (يخبرك) في محل النصب على أنه حال عن مقول القول، أو في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذا القول يخبرك (أنه غمض فيه العقل وفات الطلب) غمض بفتح الميم أو ضمها غار، والغموض الغور، والغامض من الكلام خلاف الواضح، والطلب بفتح اللام مصدر بمعنى المفعول، يعني غار فيه العقل وفات مطلوبه ولم ينله لدقته، ولو كان غمض بتشديد الميم من تغميض العين وهو إطباق أجفانها كان في الكلام استعارة مكنية وتخييلية وهو مع ذلك كناية عن عدم إدراك المطلوب، وفي كتاب العيون والتوحيد للصدوق - رحمه الله -: «أنه غمص فبهر العقل» بهر على البناء للمفعول من البهر بالفتح وهو الغلبة، يقال: بهره إذا غلبه فهو مبهور أي مغلوب. يعني هذا القول يخبرك أن ذلك الأمر غامض له غور شديد فبهر العقل وغلب لانقطاع إدراكه وانسداد سبيله قبل الوصول إليه وهذا أظهر وأنسب بالمقام لإفادته صريحا ما هو علة لفوات الطلب أعني غور ذلك الأمر (وعاد متعمقا متلطفا) أي صار ذلك الأمر ذا عمق ودقة (لا يدركه الوهم) لبعد عمقه وغاية دقته وخفاء سبيله.
(فهكذا لطف الله تعالى) الظاهر أن «لطف» على صيغة الفعل دون المصدر.
(عن أن يدرك بحد أو يحد بوصف) أي عن أن يدرك شرح حقيقة ذاته أو ما له من كمال صفاته
ص:54
بالتحديد والتعيين، أما الأول فلأنه لا حد لحقيقته، وأما الثاني فلأنه ليس لما يعتبره العقول من كماله سبحانه نهاية يقف عندها فيكون العقل حادا له.
(واللطافة منا الصغر والقلة) المستلزمان لعسر إدراك المتصف بهما وصعوبة نفوذ العقل فيه، واللطافة في الواجب ليست بمعنى الصغر والقلة كما عرفت (فقد جمعنا الاسم) أي اسم اللطيف (واختلف المعنى; لأن اللطافة منا صفة حادثة قائمة بنا، وفيه جل شأنه علمه الذي هو نفس ذاته الحقة باعتبار نفوذه في جميع الأشياء، والاختلاف بينهما لا يشتبه على ذي عقل.
(وأما الخبير) إذا أريد سبحانه (فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء) يعني أنه تعالى خبير بمعنى أنه لا يبعد عنه شيء من الأشياء، ولا يغيب عنه أمر من الأمور، وليس خبره بالأشياء وعدم بعد شيء عنه مستندا إلى التجربة والتكرار ولا إلى النظر، والاعتبار هو العبور من علم إلى علم آخر، وفيه إشارة إلى أن علمه ليس بضروري ولا نظري (فعند التجربة والاعتبار علمان) أحدهما تجربي ضروري والآخر اعتباري نظري، وفي كتاب العيون: «فتفيد التجربة والاعتبار علما» وهو الأصوب والأظهر (ولولاها ما علم) أي لولا التجربة والاعتبار ما علم شيئا ضرورة أن انتفاء السبب يوجب انتفاء المسبب، والمراد بالتجربة ما عدا طريق الاكتساب فيشمل طرق الضرورة كلها.
ولما أشار إلى أن علمه ليس للتجربة والاعتبار بين ذلك وأثبته بقوله: (لأن من كان كذلك كان جاهلا) يعني من استفاد علمه بالتجربة والاعتبار كان جاهلا قبلهما بالضرورة (والله لم يزل) في مرتبة ذاته الحقة من كل جهة (خبيرا بما يخلق) غير المتصف بالجهل أصلا فليس علمه مستفادا منهما (والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم) (1) الاستخبار السؤال عن الخبر، ولعل المقصود أنه يعتبر في مفهوم الخبير إذا أطلق على الناس زيادة الاحتمال وهي الاتصاف بالخبر يعني العلم بعد الطلب والتعلم من الغير مع جهل سابق، ولا يبعد أن يكون الاستخبار إشارة إلى طلبه بالتجربة ونحوها، والتعلم إشارة إلى طلبه بالاعتبار، فيكون فيه إشارة إلى اعتبار مأخذ العلم وطريقه في هذا المفهوم
ص:55
(وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى) لما عرفت أن خبره تعالى في مرتبة الذات بل هو نفس الذات بلا استخبار ولا تعلم ولا جهل سابق، وخبرنا بعد مرتبة ذواتنا وبعد هذه الأمور فافترقا وتباينا ولا يبعد أن يكون الخبير أخص من العالم، أما في الواجب فلأنه عبارة عن العالم بدقائق الأشياء وحقائقها والعالم فيه أعم منه، وأما في غيره فلأنه عبارة عن العالم من جهة التجربة والاعتبار ومن جانب التعلم والاستخبار على أن يكون هذه الأمور معتبرة في مفهومه، والعالم في غيره أعم منه لعدم اعتبار هذه الأمور في مفهومه وإن كان لا يخلو عنها.
(وأما الظاهر) اعلم أن للظاهر ستة معان على ما يستفاد من سياق الحديث بعضها مختص بالخالق وبعضها مختص بالخلق، ومن هاهنا يظهر أن الاشتراك ليس إلا بحسب الاسم:
الأول: العالي المرتفع بمعنى الراكب فوق شيء، وهو من قولهم: ظهر فلان السطح، إذا علاه، وحقيقته صار على ظهره، كما صرح به في المغرب.
الثاني: البارز بنفسه المعلوم بحده وهو من قولهم: ظهر فلان إذا خرج وبرز، وهذان المعنيان مختصان بالخلق لاستحالة اتصاف الخالق بهما.
الثالث: الغالب على جميع الأشياء بالقهر والقدرة عليها من قولهم: ظهر فلان على عدوه إذا غلبه.
الرابع: البين وجوده بآثاره لكل أحد من قولهم: ظهر هذا الشيء إذا تبين وجوده بآثاره.
الخامس: العالم بجميع الأشياء بحيث لا يخفى عليه شيء منها.
السادس: المدبر لجميع الأشياء أو لكل ما يرى منها، وكأن هذين المعنيين مأخوذات من المعنى الثالث لاعتبار الغلبة فيهما بالعلم والتدبير وهذه الأربعة مختصة به سبحانه، وإلى هذا التفصيل أشار بقوله: (فليس من أجل أنه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها) سنام كل شيء أعلاه، ومنه: تسنمه إذا علاه، وأسنم الدخان إذا ارتفع، والذرى بضم الذال المعجمة وكسرها جمع الذروة كذلك وهي أعلى الشيء وفوقه.
(ولكن ذلك) أي كونه ظاهرا أو علوه على الأشياء (لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها) فمعنى الظاهر أنه العالي على جميع الأشياء بمعنى أنه قاهر غالب قادر عليها، فلا يعجزه ولا يفوته شيء ولا يغلبه ولا يسبقه أحد (كقول الرجل: ظهرت على أعدائي) أي غلبت عليهم (وأظهرني الله على خصمي) أي غلبني عليه تغليبا (يخبر عن الفلج والغلبة) الفلج بالفتح الظفر، وقد فلج
ص:56
الرجل على خصمه إذا غلب، وأفلجه الله عليه إذا جعله غالبا والاسم الفلج بالضم (فهكذا ظهور الله على الأشياء) فظهوره ليس ظهورا مكانيا حسيا بل هو قهره وغلبته جميع الأشياء واستيلاؤه عليها بالإيجاد والإبقاء والإفناء.
(ووجه آخر أنه الظاهر لمن أراده) أي الظاهر لكل من أراده بحججه الباهرة وبراهينه الظاهرة وشواهد أعلامه النيرة الدالة على وجوده وثبوت ربوبيته وصحة وحدانيته إذ لا موجود إلا وهو يشهد بوجوده، ولا مخترع إلا وهو يعرب عن توحيده.
(ولا يخفى عليه شيء) هذا وجه آخر غير ظهوره للغير وهو ظهور الغير له بنفس ذاته الحقة التي هي العلم بجميع الأشياء وقد عرفت أنه من توابع الغلبة إذ فيه غلبة على الأشياء بنفوذ علمه فيها وإحاطته بها.
(وأنه مدبر لكل ما برأ) على وفق الحكمة والمقتضية للنظام الأكمل، وهذا أيضا وجه آخر لظهوره غير ما ذكر وتابع للغلبة كما أشرنا إليه، وتخصيص المرئي بالذكر باعتبار أنه مناسب لوصفه تعالى بالظهور (فأي ظاهر أظهر وأوضح من الله تعالى) متفرع على الوجوه الأربعة أو تعليل لها (لأنك لا تعدم صنعته حيث ما توجهت) فهو الظاهر وجوده بعجائب تدبيره وغرائب تقديره للمتفكرين والواضح ثبوته وعلمه بإنشاء الأجرام العلوية، وإبداع الأجسام السفلية للناظرين.
(وفيك من آثاره ما يغنيك); لأن ما في الإنسان من ظرائف الصنع ولطائف التدبير يغنيه في معرفة صانعه عن سائر المبدعات العجيبة والمخترعات الغريبة.
(والظاهر منا البارز بنفسه) للناظرين وإنما قال بنفسه لأنه تعالى أيضا بارز لكن بروزه بحججه وآثاره (والمعلوم بحده) للحادين يعني المعلوم بشرح حقيقة ذاته وصفاته وبما له من أطرافه ونهاياته، والظاهر منا أيضا العالي على الشيء بالركوب عليه، ولم يذكره إما للاقتصار مع الإيماء إليه في صدر الكلام أو لأن البارز بنفسه يصدق عليه أيضا (فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى) للتغاير والتخالف بين معنييه في الموضعين; لأن ظهورنا حسي يحصل بمنشأ هذه العين أو بتحديد العقل وتعيين الوصف بخلاف ظهوره تعالى كما عرفت (وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها) كغور الغايص في الماء وغور بعض أجزاء الجسم في داخله على مقابل ما في ظاهره، وغور المتمكن ودخوله في مكانه، فلا يصح أن يقال: هو في كذا على الحقيقة (ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا) يعني أن الاستبطان منه تعالى محمول على استبطان كل واحد من علمه وحفظه وتدبيره للأشياء الجلية والخفية ودخوله فيها
ص:57
وتعلقه بباطنها كتعلقه بظاهرها فلا تفاوت بين التعلقين باعتبار كمون المتعلق وظهوره، إذ كل كامن بالقياس إلينا فهو ظاهر بالقياس إليه جل شأنه، ويقرب منه ما قيل من أن الباطن هو اللطيف; إذ المراد أنه يعلم بواطن الأمور وإن دقت ولطفت.
ولما أشار إلى أن الباطن بمعنى العالم بباطن الأشياء أشار إلى أن ذلك متعارف في اللغة والعرف دفعا لتوهم الإنكار بقوله: (كقول القائل أبطنته) على صيغة المتكلم وحده من باب الإفعال (يعني خبرته وعلمت مكتوم سره) يفهم منه شيئان أحدهما وهو ليس بمقصود هنا أن خبرته بمعنى علمته، قال الجوهري: تقول: من أين خبرت هذا الأمر؟ أي من أين علمت؟ والاسم الخبر بالضم وهو العلم بالشيء. والخبير العالم. الثاني وهو المقصود هنا ليكون دليلا على ما سبق من أن أبطنته بمعنى علمته ولما كان هذا الكلام من معدن الفصاحة والبلاغة لا يرد أنه لم يثبت في اللغة أن أبطنته بمعنى علمته وإنما الثابت أن بطنته على صيغة المجرد بمعنى علمته، ففي النهاية الأثيرية والصحاح: بطنت هذا الأمر: عرفت باطنه، ومنه الباطن في صفة الله تعالى، ولا حاجة إلى ما قيل من أن الصيغة من المجرد والهمزة للاستفهام والتاء ضمير الخطاب.
(والباطن منا الغايب في الشيء المستتر) المستتر خبر بعد خبر، أي المستتر بالشيء كاستتار الأجزاء الباطنة للجسم بالأجزاء الظاهرة، واستتار الجسم بالحجاب وأمثال ذلك (وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى) إذ البطون فينا من جهة الاستتار والاحتجاب وهو سبحانه منزه عنهما، وفيه سبحانه علمه بنفس ذاته المقدسة بباطن جميع الأشياء وإن دق وبعد عن الحواس ولا تتصف به (وأما القاهر فليس على معنى علاج) أي عمل ومزاولة ومدافعة (ونصب) النصب بالتحريك:
التعب من «نصب» بالكسر نصبا إذا تعب وأنصبه غيره، وبالفتح والسكون: «المعاداة» من: «نصبت لفلان» بفتح العين، إذا عاديته، وبالضم والسكون: الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى حكاية: (مسني الشيطان بنصب وعذاب).
(واحتيال ومداراة ومكر) في الصحاح: «مداراة الناس» تهمز ولا تهمز وهي المداجات والملاينة، وفي المغرب: المداراة المخالطة، وبالهمزة: مدافعة ذي الحق عن حقه. والاحتيال والمكر متقاربان، قال في الصحاح: المكر: الاحتيال والخديعة. ولا يبعد أن يقال: الاحتيال هو استعمال الرؤية وأخذ الحيلة لدفع ضرر الغير عن نفسه. والمكر استعمال الرؤية وارتكاب الخديعة لإيصال الضرر إلى الغير (كما يقهر العباد بعضهم بعضا); لأن القاهرية على المعاني المذكورة ليست من الصفات
ص:58
اللازمة لذات القاهر، بل هي من العوارض التي يجوز انفكاكها عن المعروض فيجوز أن يصير القاهر في وقت ما لوقوع تدبيره على وفق مدعاه، مقهورا في وقت آخر لعدم وقوع تدبيره على ذلك أو لوقوع تدبير المقهور على نحو إرادته وغلبته على تدبير القاهر كما يشاهد ذلك من تدبيرات السلاطين بل من تدبيرات أفراد الناس في مقاصدهم (ولكن ذلك) أي معنى القاهر (من الله تعالى على أن جميع ما خلق ملبس به الذل لفاعله) «ملبس» اسم مفعول من الإلباس، والذل فاعله، وفيه استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه الذل باللباس وإثبات الإلباس له، ولفظ فاعله وقع موقع الضمير للإشارة إلى ما هو سبب لذل الجميع (وقلة الامتناع لما أراد به) الظاهر: أنه عطف على «الذل» وعطفه على «أن» أيضا محتمل، وذل الخلائق لفاعلهم القديم القاهر يعود إلى دخولهم في ذل الإمكان تحت غلبته واحتياجهم في أسر الحاجة إلى كمال قدرته، وحيث لا يقدرون على الامتناع لما أراد من صفاتهم وذواتهم وهيئاتهم ومقاديرهم وكمالاتهم ونفعهم وضرهم وخيرهم وشرهم للزوم حاجتهم في الذوات والصفات وجميع الحالات إليه ورفعهم أيدي الإمكان والافتقار من جميع الجهات بين يديه، ولعل لفظ القلة إشارة إلى صدور الامتناع عن بعضهم قليلا فيما أراد منهم من أفعالهم الاختيارية ولكن ليس ذلك لقهرهم وغلبتهم عليه بل لأنه تركهم على حالهم ولم يجبرهم تحقيقا لمعنى التكليف والاختيار (ولم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون) الظاهر أنه حال عن فاعله أو عن فاعل «أراد» وضمير «منه» راجع إليه و «أن يقول» فاعل لم يخرج يعني لم يخرج منه سبحانه (1) في سلطانه على الخلق وقهره عليهم طرفة عين هذا الوصف أعني قوله «كن فيكون» وفيه إشارة إلى أنه القاهر الذي لا يعود مقهورا أبدا، بخلاف القاهر منا وإنما قلنا:
ص:59
الظاهر ذلك; لأنه يحتمل أن يكون حالا عما ذكر، ويكون فاعل «لم يخرج» ضميرا راجعا إليه، ويعود ضمير «منه» إلى «القاهر» ويجعل «أن يقول» بدلا عن ضمير «منه» يعني: لم يخرج الفاعل وهو الله تعالى من كونه قاهرا على الخلق ومن أن يقول «كن فيكون» طرفة عين، وفيه أيضا إشارة إلى ما ذكر.
ويحتمل أيضا أن يكون حالا عن ضمير «به» أو عن مفعول ما خلق وضمير «منه» حينئذ راجع إلى لباس الذل إلا أن في ربط «أن يقول» بما قبله خفاء يزول بالتقدير أي أن يقول له يعني: لم يخرج المخلوق من لباس الذل في حدوث ذاته وصفاته ووجوده وبقائه، ومن أن يقول الله تعالى له: كن فيكون طرفة عين، وفيه إشارة إلى أن الممكن في بقائه يحتاج إليه سبحانه، وسر ذلك ما أشار إليه جماعة من المحققين منهم بهمنيار في التحصيل من أن كل ممكن بالقياس إلى ذاته باطل وبه تعالى حق كما يرشد إليه قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) (1)فهو آنا فآنا يحتاج إلى أن يقول له الفاعل الحق:
كن، ويفيض عليه الوجود بحيث لو أمسك عنه هذا القول والإفاضة طرفة عين لعاد إلى البطلان الذاتي والزوال الأصلي كما أن ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضيء لعاد إلى ظلمته الأصلية (والقاهر منا، على ما ذكرت ووصفت فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى) كيف وقهرنا ينادي بالعجز والنقصان، وقهره ينادي بكمال الغلبة والسلطان، فسبحان من قهر الجبابرة بالموت والنكال وغلب القياصرة بدون السيف والنصال (وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نستجمعها كلها) مثل الرازق والباري والقدوس والقيوم وغير ذلك من الأسماء التي لم يقع التسمية بها في الخلق (فقد يكتفي بالاعتبار بما ألقينا إليك) فإن العاقل اللبيب يعرف في جميع أسمائه ما يليق به بالقياس إلى ما ذكر، ولو وقعت التسمية بها في الخلق لعرف الفرق بين المعنيين (والله عونك وعوننا) العون الظهير على الأمر والجمع الأعوان (في إرشادنا) إلى الحق (وتوفيقنا) لقبوله. وفي تقديم الدعاء للمخاطب أولا وضمه إلى أنفسهم القدسية ثانيا تعطف به وإيماء إلى كمال القرب بينهم وبين شيعتهم التابعين لأقوالهم وأعمالهم.
ص:60
لعل المراد بالتأويل هنا معنى التفسير (1) وهو كشف معناه لا المعنى المصطلح وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى ما هو أخفى منه.
1 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد ولقبه شباب الصيرفي، عن داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك ما الصمد؟ قال: السيد المصمود إليه في القليل والكثير.(2)
(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد ولقبه شباب الصيرفي عن داود بن القاسم الجعفري) من أولاد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) ثقة جليل القدر (قال:
قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) جعلت فداك ما الصمد؟ قال: السيد المصمود إليه في القليل والكثير).
سأل ب «ما» عن شرح اسم الصمد فلذلك أجاب (عليه السلام) به وأشار بذكر القلة والكثرة إلى أن المعتبر في مفهوم الصمد هو كونه مرجوعا إليه في الحوائج كلها قليلها وكثيرها، حقيرها وكبيرها للتنبيه على أن الأحق بهذا الاسم هو الحق الغني عن الغير من كل وجه وأن إطلاقه على غيره إنما هو على سبيل التجوز والإضافة; إذ كل سيد سواه فهو في ربقة الحاجة إلى الغير فليس مصمودا إليه في الجميع.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن بن السري، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من التوحيد. فقال: إن الله تباركت أسماؤه التي يدعى بها وتعالى في علو كنهه واحد توحد
ص:61
بالتوحيد في توحيده، ثم أجراه على خلقه فهو واحد، صمد، قدوس، يعبده كل شيء ويصمد إليه كل شيء ووسع كل شيء علما.
فهذا هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد، لاما ذهب إليه المشبهة: أن تأويل الصمد:
المصمت الذي لا جوف له، لأن ذلك لا يكون إلا من صفة الجسم; والله (جل ذكره) متعال عن ذلك، هو أعظم وأجل من أن تقع الأوهام على صفته أو تدرك كنه عظمته، ولو كان تأويل الصمد في صفة الله عز وجل المصمت، لكان مخالفا لقوله عز وجل: (ليس كمثله شيء)(1); لأن ذلك من صفة الأجسام المصمتة التي لا أجواف لها، مثل الحجر والحديد وسائر الأشياء المصمتة التي لا أجواف لها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فأما ما جاء في الأخبار من ذلك فالعالم (عليه السلام) أعلم بما قال، وهذا الذي قال (عليه السلام): إن الصمد هو السيد المصمود إليه هو معنى صحيح موافق لقول الله عز وجل: (ليس كمثله شيء) والمصمود إليه المقصود في اللغة، قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي (صلى الله عليه وآله) من شعره:
وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل يعني قصدوا نحوها، يرمونها بالجنادل يعني الحصا الصغار التي تسمى بالجمار، وقال بعض شعراء الجاهلية (شعرا):
ما كنت أحسب أن بيتا ظاهرا * لله في أكناف مكة يصمد يعني يقصد. وقال ابن الزبرقان: ولا رهيبة إلا سيد صمد (2) وقال شداد بن معاوية في حذيفة بن بدر:
علوته بحسام ثم قلت له: * خذها حذيف فأنت السيد الصمد ومثل هذا كثير، والله عز وجل هو السيد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والإنس إليه يصمدون في الحوائج وإليه يلجأون عند الشدائد ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء ليدفع عنهم الشدائد.(3)
عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن بن السري، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من التوحيد فقال: إن الله تباركت أسماؤه) أي تطهرت عن المعايب والنقائص، كذا فسره عياض،
ص:62
فقال القرطبي: تباركت أسماؤه معناه: كثرت صفات جلاله وعظمته (التي يدعى بها) أشار بهذا الوصف إلى فائدة وضع أسمائه تعالى وهي أن يدعوه الخلائق بها في حوائجهم كما مر (وتعالى في علو كنهه) أن يدركه أحد سواه، و كنه الشيء حقيقته التي هو بها هو هو (واحد) لا ثاني له في الوجود الذاتي ولا كثرة له في ذاته وصفاته فذاته ليست بمتجزية ووجوده وصفاته ليست بزائدة، ولم يفته شيء من كمالاته بل كلما ينبغي له فهو له بالفعل وفي مرتبة ذاته (توحد بالتوحيد في توحده) أي تفرد بتوحيده في حال تفرده بالوجود يعني أنه كان في الأزل قبل إيجاد الخلق يوحد نفسه بلا مشارك (ثم أجراه) أي توحيده (على خلقه) (1) بأن فطرهم عليه أو كلفهم به (فهو واحد) بالمعنى المذكور (صمد) يرجع إليه جميع الخلائق في جميع الحوائج (قدوس) طاهر من النقايص والعيوب ومتنزه عن الأولاد والأنداد غيرهما مما لا يليق به (يعبده كل شيء) ناظر إلى الواحد; لأن الوحدة المطلقة وعدم المشاركة في الوجود الذاتي يقتضيان عدم المشاركة في العبادة فكل شيء عابد له لا معبود (ويصمد إليه كل شيء) ناظر إلى الصمد، والصمد القصد، وفعله من باب طلب (ووسع كل شيء علما) ناظر إلى القدوس; لأن القدس يقتضي العلم بجميع الأشياء لئلا يلزم الجهل المنافي له.
(فهذا) أي ما ذكر من الصمد السيد المصمود إليه في القليل والكثير. والظاهر أن هذا كلام المصنف رضي الله عنه (هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد) (2) عرف المسند إليه بالإشارة لزيادة التميز والإيضاح وعرف المسند بلام التعريف لقصد الحصر وأتى بضمير الفصل لقصد المبالغة فيه; ولهذا أيضا صرح بالجزء السلبي فقال:
(لا ما ذهب إليه المشبهة أن تأويل الصمد المصمت الذي لا جوف له) هؤلاء لما رأوا أنه تعالى
ص:63
صمد وأن الصمد يطلق في اللغة على المصمت الذي لا جوف له أولوه به ومالوا إلى توصيفه بأنه مصمت وإلى تقديسه بأنه لا جوف له كإنسان ونحوه فلحقه التشبيه; لأن في الخلق ما هو بهذه الصفة.
فتأويل الصمد بهذا باطل لما أشار إليه بقوله: (لأن ذلك) أي تأويل الصمد بهذا (لا يكون إلا من صفة الجسم) الذي ليس له جوف وليس خالي الباطن (والله جل ذكره متعال عن ذلك) أي عن أن يكون صمدا بهذا المعنى ويتصف بصفة الجسم.
ثم بالغ في تعاليه عن ذلك بقوله (هو أعظم وأجل من أن تقع الأوهام على صفته); لأن غاية مراحل الأوهام هي أواخر عالم الأبدان، ونهاية منازل الأفهام هي أواخر عالم الإمكان، وصفة الواجب خارجة بالذات عن العالمين بمراحل غير معدودة ومنازل غير محصورة.
(أو تدرك كنه عظمته); لأن عظمته تعالى لا تتناهى قدرا وعرفانا، ولذلك كلما غاص العارف المتقرب إليه في البحر الزاخر من عظمته وعبر منزلا من منازلها ازدادت عظمته في نفسه وعلم منها فوق ما علمه أولا وهكذا حتى يكمل عقد يقينه بذلك ويبلغ إلى نهاية ما يتصور له من منازلها فينادي بالعجز عن معرفته ويقر بعلو عظمته كما نطق به لسان سيد الأنبياء وأشرف الأوصياء صلى الله عليهما وعلى أولادهما النجباء.
(ولو كان تأويل الصمد في صفة الله تعالى المصمت) الذي لا جوف له; فاللام للعهد (لكان مخالفا لقوله (1) تعالى ليس كمثله شيء) واللازم باطل فالملزوم مثله، وأشار إلى بيان الملازمة بقوله: (لأن ذلك من صفة الأجسام المصمتة التي لا أجواف لها مثل الحجر والحديد وسائر الأشياء المصمتة التي لا أجواف لها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا). قوله: «مثل الحجر» - إلى قوله: «لها» في بعض الكتب نسخة وفي بعضها أصل.
فإن قلت: لا شبهة في أنه تعالى شيء لا جوف له، وهو المراد بقول من قال: إنه المصمت الذي لا جوف له لا ما هو الظاهر منه أعني الجسم المصمت فإن المصمت ما لا جوف له، وهو يعم الجسم وغيره.
قلت: هذا التوجيه لا يصح من جانب المشبهة لأنهم صرحوا بأنه تعالى جسم نوري صمدي كما مر، على أن الظاهر المتبادر من المصمت في اللغة والعرف هو الجسم الذي لا جوف له، فلا يجوز
ص:64
وصفه تعالى به قطعا (فأما ما جاء في الأخبار من ذلك فالعالم (عليه السلام) أعلم بما قال) (1) لم يرد بذلك ما هو المتبادر من أنه جاء في الأخبار تأويل الصمد بالمصمت الذي لا جوف له لأنه خلاف الواقع، بل أراد به ما جاء فيها من تأويل الصمد بالشيء الذي لا جوف له، مثل ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بالسند الصحيح «عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما الصمد؟ قال: الذي ليس بمجوف» نقلنا بعض الحديث، وما رواه فيه أيضا بسنده «عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: الصمد الذي لا جوف له - الحديث» وما رواه فيه أيضا بسنده «عن الحسين بن علي (عليهما السلام) أنه قال: الصمد الذي لا جوف له».
وقوله رحمه الله: «فالعالم (عليه السلام) أعلم بما قال» يشعر بأن ظاهر التأويل ليس بصحيح وذلك إما لأ نه بزعمه يرجع إلى التأويل بالمصمت (2) الذي لا جوف له أو لأنه لا يوافق اللغة، أو لأنه لا يظهر المقصود منه ووجه صحته في نفسه، فإن أراد الأول فهو ظاهر البطلان لظهور الفرق بين المصمت الذي لا جوف له وبين الشيء الذي لا جوف له، والأول جسم قطعا دون الثاني فهو أيضا ظاهر البطلان; لأن هذا التأويل على تقدير أن لا يكون معنى حقيقيا للصمد في اللغة فلا جواز لإنكار أن يكون معنى مجازيا له. فهو يوافق اللغة قطعا، على أن الصمد قد فسره علي بن الحسين (عليهما السلام) بأنه
ص:65
الذي لا شريك له،ولا يؤوده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء، وأوله زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) بأنه الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وبأنه الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأشكالا وأزواجا، وتفرد بالوحدة بلا ضد ولاشكل ولامثل ولاند، وأوله ابن الحنفية بأنه القائم بنفسه، الغني عن غيره، وأوله غيره بأنه المتعالي عن الكون والفساد، وبأنه الذي لا يوصف بالتغاير، يظهر كل ذلك لمن نظر في كتاب التوحيد، ولم يقل أحد: هذه التأويلات ليست بصحيحة لأنها لا توافق اللغة (1)، وان أراد الثالث فأقول هذا التأويل له معنى صحيح ووجه ظاهر; إذ الجوف كما يطلق على فرجة في الباطن كذلك يطلق على الباطن وإن لم لكن له فرجة كما إذا قيل: هذا في جوف ذاك أي في تحته. فالجوف من الصفات اللازمة للجسم، فنفيه كناية عن نفي الجسمية عنه تعالى، بل لا يبعد أن يكون هذا التأويل تنزيها له تعالى عن التشبيه على الإطلاق وعن أن يكون له جزء ووجود وصفات زائدة وكمال بالقوة إذ كل ما كان له أحد هذه الأمور كان له فرجة عقلية وجوف معنوي يستقر فيه وجه التشبيه والأجزاء والوجود والصفات واستعداد الكمال، وبالجملة فيه إشارة إلى التوحيد المطلق ووجه نفي التشبيه بشيء من مخلوقاته أن كل مخلوق فهو ذو جوف وفرجة بماله من المهية والأجزاء (2) والوجود والاستعداد.
(وهذا الذي... قال (عليه السلام): «إن الصمد هو السيد المصمود إليه، هو معنى صحيح موافق لقول الله تعالى: ليس كمثله شيء) لأن تفسير الصمد بهذا المعنى لا يوجب تشبيهه بخلقه بخلاف تفسيره المصمت الذي لا جوف له، أو بالشيء الذي لا جوف له; فإنه يوجب تشبيهه بالأجسام المصمتة، وهو مخالف لما نطقت به الآية الكريمة، وأنت تعلم أن تفسيره بالمصمت يوجب ذلك دون تفسيره بالشيء الذي لا جوف له فإنه يوجب التوحيد المطلق والتنزيه التام.
(والمصمود إليه المقصود في اللغة) لا المصمت الذي لا جوف له. وفيه رفع لتوهم حمل المصمود إليه على المصمت. ثم استشهد لهذا بكلام البلغاء فقال:
قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي (صلى الله عليه وآله) (3) من شعره:
ص:66
وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل الجمرة بالفتح والسكون واحدة جمرات المناسك وهي ثلاث جمرات يرمين بالجمار، والقصوى مؤنث الأقصى من القصو وهو البعد يقال: قصى المكان يقصو قصوا أي بعد. ولعل المراد بها جمرة العقبة (يعني قصدوا نحوها) تفسير ل «صمدوا لها» (يرمونها بالجنادل) جمع الجندل بسكون النون وهي الحجارة (يعني الحصا الصغار التي تسمى بالجمار) الحصا بالفتح والقصر جمع الحصاة، والصغار بالكسر جمع الصغير، والجمار بالكسر هي الصغار من الأحجار جمع جمرة وبها سموا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات مجازا; لما بينهما من الملابسة، وقيل: لتجمع ما هنالك من الحصا من: تجمر القوم إذ تجمعوا، كذا في المغرب.
(وقال بعض شعراء الجاهلية) أي الفرق الجاهلية (ما كنت أحسب أن بيتا ظاهرا لله * في أكناف مكة يصمد. يعني يقصد) الكنف بفتحتين: الناحية، وأحسب (بمعنى أظن) من الحسبان بالكسر، تقول: حسبته صالحا أحسبه من باب (علم) إذا ظننته صالحا، أو بمعنى أعد من الحساب تقول:
حسبته أحسبه من باب (طلب) إذا عددته.
(وقال ابن الزبرقان) بكسر الزاي والراء بينهما باء موحدة ساكنة، قال الجوهري: زبرقت الثوب:
صفرته، والزبرقان: القمر، والزبرقان بن بدر الفزاري.
وقال أبو يوسف: سمي الزبرقان لصفرة عمامته وكان اسمه حصينا. وقال صاحب المغرب: الزبرقان لقب ابن بدر واسمه الحصين يعني بالتصغير أو حصن بكسر الحاء، والدرهم الزبرقاني درهم أسود كبير.
(ولا رهيبة إلا سيد صمد) أي مصمود إليه في الحوائج، ورهيبة على التصغير اسم رجل (1) (وقال شداد بن معاوية (2) في حذيفة بن بدر) عند ملاقاته في القتال: (وعلوته بحسام ثم قلت له * خذها حذيف فأنت السيد الصمد).
ص:67
علوته بحسام أي رفعت الحسام فوق رأسه، والحسام: السيف القاطع، وحسام السيف أيضا: طرفه الذي يضرب به، و «حذيف» منادى مرخم بحذف الأداة و «خذها» أمر على سبيل التهكم، وضمير التأنيث راجع إلى الحسام باعتبار الضربة ونحوها.
(ومثل هذا كثير) في كلام الفصحاء والبلغاء.
(والله تعالى هو السيد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والإنس) ذكرهما على سبيل الاقتصار أو شدة احتياجهما إليه سبحانه، وإلا فالملائكة المقربون والخلائق والروحانيون أيضا محتاجون إليه في وجودهم وكمالاتهم (إليه يصمدون في الحوائج وإليه يلجأون عند الشدايد ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء) أي النعماء الظاهرة والباطنة، وتقديم الظرف في المواضع الثلاثة لقصد الحصر (ليدفع عنهم الشدائد) الظاهر أنه تعليل وغاية لقوله «وإليه يلجأون في الشدائد» وكونه تعليلا للجميع بعيد، وما ذكره من «لجأ الجميع إليه مؤمنا» كان أو كافرا» أمر يشهد عليه العقول ويحكم به التجربة ويدل عليه الخبر والآية، أما المؤمن فظاهر، وأما الكافر فلأنه إذا وقع في بلية أو دخل في مصيبة ولم يجد ملجأ سواه لم يدع في رفعها إلا إياه، كما دل عليه حكاية فرعون وقوله تعالى (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه)(1).
ص:68
من مكان إلى مكان ومن وضع إلى وضع.
1 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل البرمكي، عن علي بن عباس الجراذيني، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا، فقال: إن الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد ولم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه وهو ذو الطول، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أما قول الواصفين: إنه ينزل تبارك وتعالى فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فمن ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين، (وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين).(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل البرمكي، عن علي بن عباس الجراذيني) بالراء المهملة بعد الجيم المضمومة وبالذال المعجمة بعد الألف قبل الياء المثناة من تحت وبالنون قبل الياء رازي ضعيف رمي بالغلو وغمز عليه (عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا) يعني يزعمون أن له تعالى مكانا أعلى الأمكنة وهو العرش وقد ينزل منه إلى هذه السماء طلبا لقربه من أهل الأرض وندائهم بما أراد.
نقل الآبي في كتاب إكمال الإكمال عن بعض غلاة المجسمة (2) أنه نزل عند الوعظ من أدراج
ص:69
المنبر وقال: هكذا ينزل تمثيلا لنزوله تعالى - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - (فقال: إن الله لا ينزل) من مكان إلى مكان لتنزهه عن المكان; لأن افتقاره إلى المكان مستلزم للنقصان اللازم للإمكان (ولا يحتاج) في إمضاء ما أراد (إلى أن ينزل) دفع لما توهموه من احتياجه في إمضاء إرادته إلى تحصيل القرب المكاني من العباد وعلل عدم احتياجه إلى ذلك بقوله: (إنما منظره) أي مراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة (في القرب والبعد سواء) (1) أي فيما يتصور فيه القرب والبعد بالنظر إلى
ص:70
عالم الحواس والأوهام. وفيه رد لما اخترعته أوهام المبتدعة من قرب بعض الأشياء إليه وبعد بعضها عنه حتى أنه يحتاج إلى النزول تحصيلا للقرب من البعيد، وبهذا التقرير يندفع ما عسى أن يقال من أن قربه إنما هو بحسب علمه الذي لا يعزب عنه شيء، وهو بهذا الاعتبار أقرب من كل قريب، فما الوجه لذكر البعد والحكم بالمساواة بينه وبين القرب (لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد) كما هو شأن الممكن المحتاج إلى المكان فإنه إذا انتقل من مكان إلى آخر يبعد منه ما كان قريبا منه في المكان الأول ويقرب منه ما كان بعيدا (ولم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه) فلم يحتج إلى المكان والنزول وتحصيل القرب من الغير واستعمال الحيلة في إمضاء المراد بل كل شيء يحتاج إليه من جميع الجهات (وهو ذو الطول) أي ذو المن والإعطاء (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ذكر هذه الأوصاف أعني الطول على الإطلاق والوحدة المطلقة والغلبة القاهرة والحكمة البالغة كالتأكيد والتعليل لعدم احتياجه إلى شيء من الأشياء بنحو من الأنحاء; لأن إعطاء وجود جميع الموجودات ولواحقه وتفرده بالإلهية واتصافه بالغلبة على جميع الكائنات وبالحكمة البالغة والعلم بجميع الأشياء يقتضي عدم احتياجه إلى شيء منها بالضرورة.
ولا يخفى أن ظاهر هذا الحديث الآتي بعد حديثين يدل على ما روي أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كذب وافتراء، ويدل عليه أيضا إنكار الرضا (عليه السلام) على ما روى عنه الصدوق في الفقيه وقد بالغ (عليه السلام) في الإنكار حتى قال: لعن الله المحرفين للكلم عن مواضعه، ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك إنما قال: «إن الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل الحديث» ولكن روى المصنف في باب فضل يوم الجمعة وليلته (1) من هذا الكتاب
ص:71
بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «فإن استطعت أن تحييها يعني ليلة الجمعة بالصلاة والدعاء فافعل فإن ربك ينزل في أول ليلة الجمعة إلى السماء الدنيا الحديث» وقد أخذنا منه موضع الحاجة وفي طرق العامة روايات متعددة مذكورة في كتاب مسلم «أنه تعالى ينزل في كل ليلة» إلا أن في الروايات أنه ينزل الثلث الأخير، وفي بعضها بعد انقضاء الثلث الأول، وفي بعضها بعد انقضاء الشطر الأول أو ثلثيه، وإذ قد ثبت بالعقل والنقل عندنا وعند أكثر العامة استحالة الجسمية والحركة والانتقال عنه تعالى وجب التأويل في هذه الأخبار (1) على تقدير صحتها وعدم تحريفها، وقد
ص:72
اختلف فيه، فقيل:
المضاف محذوف أي: فإن ملك ربك ينزل، وقيل: المفعول محذوف والتقدير: فإن ربك ينزل ملكا من الإنزال، وقيل: هو استعارة وتمثيل لتقريبه للداعين وإجابته دعاءهم وعبر بذلك لقصد إفهامهم القرب، وقيل: النزول بمعنى الإقبال على الشيء، فهو كناية عن إقباله تعالى على المؤمنين وفعله فعلا يظهر به لطفه بهم، والأخير مما ذهب إليه بعض العامة. وتجيء لهذا زيادة تحقيق إن شاء الله تعالى. ولما أشار إلى أنه تعالى لا يحتاج إلى ما توهموه من النزول أشار إلى ما يرد عليهم من المفاسد بقوله:
(أما قول الواصفين) له بصفات خلقه (إنه ينزل تبارك وتعالى فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة) لأن تلك الحركة إن كانت من صفات كماله ولم تكن له قبل وكانت بالقوة (1) لزم القول بالنقص فيه إذ لم يكن له بعض صفات كماله بالفعل، وان لم تكن من صفات كماله لزم القول بزيادة في صفاته زائدة على صفات كماله، وكلاهما محال.
وأيضا: الحركة الأينية من لوازم الجسم، وكل جسم قابل للزيادة والنقصان (وكل متحرك محتاج إلى من يحركه) إن كانت الحركة قسرية (أو يتحرك به) (2) إن كانت إرادية أو طبيعية. وفي العطف
ص:73
مناقشة يمكن دفعها بتقدير الموصول أي ما يتحرك به أو يجعل «من» شاملة لغير العاقل على سبيل التغليب (فمن ظن بالله الظنون) أي الأنواع من الظن (هلك) هلاكا أبديا، وفيه وعيد لمن تمسك في ذات الواجب وصفاته بظنه ورأيه، فإن ظنون العباد مختلفة وآراءهم متباينة، فربما يظنون بجناب الحق ما لا يليق به فيهلكون ويهلكون ألا ساء ما يظنون.
(فاحذروا) أي تحرزوا (في صفاته من أن تقفوا له على حد) يحجزكم عنه تعالى ويمنعكم من التقرب به والوصول إليه (تحدونه) استيناف لبيان الوقوف أو حال عن فاعل تقفوا (بنقص أو زيادة) في صفاته التي لا يلحقها التحديد ولا يعرضها التعيين (أو تحريك أو تحرك) أي بتحريك الغير له أو بتحركه بطبعه أو بإرادته (أو زوال) أي بعدم وفناء أو بتغير من وصف إلى وصف (أو استنزال) أي نزول من مكان إلى مكان أو طلبه أو إنزال الغير إياه (أو نهوض) عن مكان بقيامه على ساق كنهوضنا عن مكاننا وقيامنا فيه على سوق (أو قعود) في مكان مثل قعودنا في أمكنتنا (فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين) لتعليه عن مدارك الوهم والحواس وتباعده من منازل العقل والقياس فلا يجوز للوهم تعيين صفة من صفاته ولا للعقل تحديد شرح حقيقة ذاته، والصفة مصدر تقول: وصفت الشيء أصفه وصفا وصفة، والهاء عوض من الواو. والنعت مصدر بمعنى الصفة تقول: نعت الشيء إذا وصفته، فالعطف للتفسير والتأكيد، ويحتمل تخصيص الصفة بصفة الذات وتخصيص النعت بصفة الفعل.
(وتوكل على العزيز الرحيم) (1)أي توكل في الحذر عما لا ينبغي له أو في جميع الأمور على من يغلب الأشياء ويقهر الأعداء ويرحم الأولياء وينصر الأحباء (الذي يراك حين تقوم) (2)إلى التهجد أو إلى الخيرات أو إلى الأمور كلها، وفيه نوع من التحذير
ص:74
عما لا يليق به.
(وتقلبك في الساجدين) أي ترددك وحركاتك فيما بين المصلين بالقيام والقعود والركوع والسجود. وفي اقتباس الآية إشارة (1) إلى أن الهداية لا تنال إلا بالتوكل عليه والتمسك به والرجوع إليه وإلى الداعي إلى التوكل، وهو أنه عالم بجميع الأحوال، وقادر على جميع الأشياء، وناصر للأولياء، وإلى غاية التوكل عليه في المعرفة والهداية وهي القيام بطاعته والجد في عبادته.
2 - وعنه، رفعه عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) أنه قال: لا أقول:
إنه قائم فأزيله عن مكانه ولا أحده بمكان يكون فيه ولا أحده أن يتحرك في شيء من الأركان والجوارح، ولا أحده بلفظ شق فم ولكن كما قال (الله) تبارك وتعالى: (كن فيكون) بمشيئته من غير تردد في نفس، صمدا فردا، لم يحتج إلى شريك يذكر له ملكه، ولا يفتح له أبواب علمه.(2)
(وعنه رفعه، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) أنه قال: لا أقول: إنه قائم) بالمعنى المتعارف (3) من القيام على ساق (فأزيله عن مكانه) الظاهر من المكان معناه المعروف، ولما كان القول بقيامه على ساق مثل البشر مستلزم للقول بزواله عن مكانه، أشار بنفي اللازم إلى نفي الملزوم تنزيها له عن ذلك، وإنما قلنا: الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يراد بمكانه مكانته الحقة ومرتبته القدسية أي فأزيله عن مرتبته الحقة القدوسية الثابتة له; لأن القيام على ساق ينافي تلك المرتبة فالقول به مستلزم لإزالتها عنه تعالى، وفي بعض النسخ: «عن مكان» بدون الضمير وهو يؤيد الأول (ولا أحده بمكان يكون فيه) كما حده طائفة من المبتدعة
ص:75
حيث قالوا: هو جالس في العرش محدود به. وفي قوله «يكون فيه» إشارة إلى أنه حاضر في كل مكان لا بأن يكون مستقرا فيه بل بالعلم والإحاطة (ولا أحده أن يتحرك) أي بأن يتحرك - على حذف الجار وحذفه مع أن - وأن قياس (في شيء من الأركان والجوارح) بأن يتحرك رأسه أو عينه أو يده أو غيرها كما يشاهد مثل ذلك في الإنسان لقصد الإشارة وغيرها; وذلك لتنزهه تعالى عن الحركة والأركان والجوارح وغيرها من خواص الجسم والعطف للتفسير ويحتمل أن يراد بالأركان الأعضاء الباطنة وبالجوارح الأعضاء الظاهرة، ويحتمل أيضا أن يراد بالأركان النواحي والجوانب أي أصفه بأن يتحرك مثلا من السماء إلى الأرض وبالعكس، ومن المشرق إلى المغرب وبالعكس (ولا أحده بلفظ شق فم) الشق بالكسر : الناحية والمشقة ومنه قوله تعالى: (لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس)(1) وبالفتح: الفرجة والصدع مثل ما يوجد في اليد والرجل، يعني: لا أحده بلفظ خارج من ناحية الفم أو من مشقته أو من انفراجه وانفتاحه.
وتقييد اللفظ بذلك للتوضيح والتفسير; لأن اللفظ كما صرحوا به عبارة عن الكلمة الخارجة من آلة النطق، وهي الفم واللسان والشفة والحنجرة، ولهذا لم يأذن الشارع بإطلاقه عليه ولم يجوز أن يقال له اللافظ كما أذن في الكلام; لكون دلالته على الآلة المذكورة أقوى من دلالة الكلام عليها كما مر (ولكن كما قال تعالى: كن فيكون، بمشيته) أي ولكن أقول موافقا لما قال الله تعالى إذا أراد وجود شيء لما فيه من الحكمة والمصلحة يقول له: كن، فيكون ذلك الشيء بمجرد مشيته من غير لفظ ولا صوت (2) على نهاية سرعة لإجابة أمره، فقوله «كن» عبارة عن حكمه بالوجود وإرادته إياه،
ص:76
وقوله «فيكون» إشارة إلى وجوب ترتب الوجود من غير مهلة (من غير تردد فيه في نفس) أي من غير تفكر ونظر ليعلم وجه المصالح والمفاسد; لأن ذلك من توابع الجهل والنقص في العلم (صمدا فردا) في الوجود والوجوب والقدرة والإيجاد والحفظ (لم يحتج إلى شريك يذكر له) من التذكير أو الإذكار (ملكه) وهو حقايق الممكنات ووجوداتها وآثارها، يعني لم يحتج في أصل الإيجاد ولا في حفظ الموجودات إلى من يذكره وينبهه على النسيان والغفلة (ولا يفتح له أبواب علمه) يفتح عطف على يذكر و «لا» لتأكيد النفي يعني لم يحتج إلى شريك يفتح له أبواب العلم ويعلمه ما لم يعلم إذ لا يعرض لعلمه تغير وتجدد وزيادة ونقصان بل علمه كامل محيط بتفاصيل الأشياء أزلا وأبدا، وبالجملة الشركة بين الاثنين إما لعدم قدرة أحدهما على دفع الاخر أو لاحتياج كل واحد منهما إلى الاستعانة بالآخر في التدبير، وكلاهما على الله سبحانه محال.
وعنه، عن محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن داود بن عبد الله، عن عمرو بن محمد، عن عيسى بن يونس قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد الله (عليه السلام) في بعض ما كان يحاوره:
ذكرت الله فأحلت على غائب، فقال أبو عبد الله: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويرى أشخاصهم ويعلم أسرارهم، فقال ابن أبي العوجاء: أهو في كل مكان؟ أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟ وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما يحدث في المكان الذي كان فيه فأما الله العظيم الشأن الملك الديان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.(1)
(وعنه عن محمد بن أبي عبد الله) ليس للضمير مرجع ظاهر وقيل: هو إما راجع إلى محمد بن أبي عبد الله مثل السابق، وقوله عن محمد بن أبي عبد الله بدل لقوله «عنه» وبيان له، أو راجع إلى المصنف، والكلام من تلامذته
ص:77
(عن محمد بن إسماعيل عن داود بن عبد الله) لم يذكره العلامة في الخلاصة وقيل: هو أبو سليمان داود بن عبد الله الذي روى عن القاسم بن حمزة بن القاسم العلوي عن محمد بن إسماعيل البرمكي عنه (عن عمرو بن محمد) قيل: هو عمرو بن محمد الأسدي من رجال الكاظم (عليه السلام) (عن عيسى بن يونس) لم يذكره العلامة في الخلاصة، وقيل: هو عيسى بن يونس بن عيسى بن حميد الشاكري الكوفي من رجال الصادق (عليه السلام)، وفي بعض النسخ «عن عمرو عن محمد بن عيسى بن يونس» بلفظة «عن» بعد عمرو بدل «ابن» وبلفظ «ابن» بعد «محمد» بدل «عن». وعمرو هو عمرو بن عثمان الثقفي الخزاز (قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد الله (عليه السلام) في بعض ما كان يحاوره) المحاورة والتحاور التجاوب يقال كلمته فما أحار لي جوابا واستحاره أي استنطقه (ذكرت الله فأحلت على غائب) وتلك المحاورة ما نقله الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج أن ابن أبي العوجاء قدم مكة متمردا وإنكارا على من يحج فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فجلس إليه في جماعة من نظرائه فقال: يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل أفتأذن في الكلام؟ فقال: تكلم فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر؟ وتلوذون بهذا الحجر؟ وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر؟ وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر؟ إن من فكر هذا علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق ولم يشغل به وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثهم على تعظيمه وزيارته وجعله محل أوليائه وأنبيائه وقبلة للمصلين له فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه منصوبا على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما نهى عنه وزجر، الله المنشئ للأرواح والصور. فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت الله فأحلت على غائب (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد) أي حاضر مع خلقه (وإليهم أقرب من حبل الوريد) أي كيف يكون غائبا وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، وهذا مثال لكمال القرب ومعنى التفضيل ظاهر; لأن وريد كل شخص يكون قريبا ببعضه دون بعض، وقربه تعالى لما كان بالعلم والإحاطه كانت نسبته إلى الجميع على السواء، والحبل العرق والإضافة
ص:78
للبيان، والوريد عرق تزعم العرب أنه من الوتين (1) وهما وريدان غليظان مكتنفان صفحتي العنق مما يلي مقدمه، ينتفخان عند الغضب، يتصلان بالوتين يردان من الرأس (يسمع كلامهم) وإن كان خفيا فإنه يسمع من الكلام ما أظهره المتكلم وأبداه وما أسره وأخفاه (ويرى أشخاصهم) بذاته التي ينكشف بها كمال المبصرات ويظهر الأسرار والخفيات فهو يشاهد ويرى حتى لا يغيب عنه ما تحت الثرى (ويعلم أسرارهم) فإنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (فقال ابن أبي العوجاء أهو في كل مكان) (2) الاستفهام لإنكار ما دل عليه قوله (عليه السلام) هو مع خلقه شاهد فإنه دل على أنه حاضر في كل مكان (أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض) أي لا يكون في الأرض. أورد النفي بصورة الاستفهام مع الرمز إليه; لأن «كيف» هنا للإنكار لغرض من الأغراض كترك التصريح بما يخالف اعتقاد المخاطب (وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء) أي لا يكون في السماء، والاستفهام في قوله «أليس» إما لإنكار السلب أو لحمله (عليه السلام) على الإقرار بمضمون الشرطيتين وهو الإقرار بأنه إذا كان في السماء لا يكون في الأرض وإذا كان في الأرض لا يكون في السماء ليورد عليه أن هذا مناف لكلامك أولا (فقال أبو عبد الله (عليه السلام)) توضيحا للمقصود وتنبيها بضعف عقله وسوء تفكره في وصف الباري (إنما وصفت) بقولك هو إذا كان في مكان لا يكون في مكان آخر (المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان) كان مستقرا فيه بالحواية (اشتغل به مكان) آخر انتقل إليه (وخلا منه مكان) انتقل منه (فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما يحدث في المكان الذي كان فيه) لبعده عنه وقصور علمه بالوقايع والحوادث إلا بالحواس، والحواس لا تدرك إلا ما يحضرها (فأما الله العظيم الشأن) الشأن الأمر والحال، والمراد به هنا أوصافه الكاملة (الملك الديان) الملك أصناف الموجودات كلها والملك من أسمائه تعالى لأنه مالكها والدين الجزاء والديان من
ص:79
أسمائه تعالى لأنه يدين العباد أي يجزيهم بأعمالهم (فلا يخلو منه مكان) (1) لأنه لا يخلو مكان من علمه لتعلقه بجميع الأشياء وعلمه عين ذاته فلا يخلو منه تعالى مكان (ولا يشتغل به مكان) كإشغاله بالجسم المالئ له لا ستحالة الجسمية عنه ولأنه قبل حدوث المكان كان بلا مكان فهو أبدا كذلك لا متناع تغيره. وأيضا: عظمة شأنه على الإطلاق وافتقار جميع ما سواه إليه ينافي افتقاره إلى المكان (ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان) أي لا يكون هو بالقياس إلى مكان أقرب منه بالقياس إلى مكان آخر، والمقصود أن قربه من جميع الأمكنة سواء، إذ قربه بعلمه الذي لا يغيب عنه شيء فهو بعلمه قريب من الأمكنة كلها قربا متساويا لامتناع تحقق الاختلاف والزيادة والنقصان والشدة والضعف في علمه.
4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام): جعلني الله فداك يا سيدي! قد روي لنا: أن الله في موضع دون موضع على العرش استوى وأنه ينزل كل ليلة في النصف الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، وروي أنه ينزل عشية عرفة ثم يرجع إلى موضعه، فقال بعض مواليك في ذلك: إذا كان في موضع دون موضع فقد يلاقيه الهواء ويتكنف عليه والهواء جسم رقيق يتكنف على كل شيء بقدره، فكيف يتكنف عليه جل ثناؤه على هذا المثال؟ فوقع (عليه السلام): علم ذلك عنده وهو المقدر له بما هو أحسن تقديرا، واعلم أنه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش، والأشياء كلها له سواء علما وقدرة وملكا وإحاطة.
وعنه، عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى مثله.(2)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) جعلني الله فداك يا سيدي قد روي لنا أن الله في موضع دون موضع) ليس المراد أنه يسير في ملكه وأنه في كل آن الله في موضع منه، بل المراد أنه في موضع مخصوص لشرف ذلك الموضع وعلوه كما يرشد إليه قوله: (على العرش استوى) (3)فإنه بدل لقوله في موضع. والعرش محيط بجميع الأجسام مع ما يتعلق بها من النفوس العالية والسافلة
ص:80
والعقول المقدسة والأنوار المطهرة من أدناس عالم الطبيعة (وأنه ينزل كل ليلة في النصف الأخير من الليلة إلى السماء الدنيا) ليزداد قربه بالعالم السفلي لغرض من الأغراض.
(وروي أنه ينزل عشية عرفة) يعني إلى السماء الدنيا على الظاهر، ولعل المراد بعشية عرفة ما بعد الزوال إلى الغروب، ويحتمل أيضا وقت الغروب (ثم يرجع إلى موضعه) الأصلي وهو العرش.
(فقال بعض مواليك في ذلك) أي في إنكار ذلك المروي وتكذيبه (إذا كان في موضع دون موضع فقد يلاقيه الهواء ويتكنف عليه) تكنفه واكتنفه أي أحاط به ولعل التعدية بعلى لتضمين معنى الاحتواء (والهواء جسم رقيق) يتشكل بسهولة بشكل ظاهر ما يجاوره (يتكنف على كل شيء بقدره) أي بمقداره بلا زيادة ولا نقصان لاستحالة الخلأ والتداخل (فكيف يتكنف عليه جل ثناؤه على هذا المثال) الموجب لتحديده وتشبيهه بالخلق.
(فوقع (عليه السلام)) من غير تكذيب المروي بل مع الإشعار بتصديقه (علم ذلك عنده) (1) أي علم ذلك الذكور من الآية والرواية عنده تعالى لأنه من المتشابهات التي لا يستقل بتأويلها عقول البشر ولا يعلمها إلا الراسخون في العلم بتوفيق إلهي (وهو المقدر له بما هو أحسن تقديرا) والمفسر له بما هو أتقن تفسيرا والمعبر عنه بما هو أفضل تعبيرا بالوحي إلى الأنبياء والالهام للأوصياء أما الآية فسيجيء تأويلها في الأخبار الآتية، وأما الرواية فقد أولت بأن المراد أنه ينزل ملك بأمر ربه فأعطى الآمر حكم المأمور، ومثل هذا التأويل في الآيات والروايات غير قليل، ثم أشار إلى أنه تعالى ليس له موضع دون موضع ولا اختصاص له بمكان دون مكان لئلا يلاقيه الهواء ولا يحيط ولا يقع التشبيه كما ذكره بعض الموالي بقوله (واعلم أنه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش)
ص:81
نبه بذلك على نفي التحيز عنه وعدم الظرفية له إذ من كان نسبته إلى جميع الأمكنة سواء لا يكون له مكان لاستحالة ذلك في المتحيز.
(والأشياء كلها له سواء علما وقدرة وملكا وإحاطة) نبه بذلك على أن كونه فيهما ليس إلا المحيط بهما وجريان قدرته عليهما ونفاذ حكمه فيهما وإحاطة تصرفه بهما، وإن خطر ببالك شيء فانظر إلى عقلك اللطيف فإنه إذا لم يكن له مع تدنسه بغواشي الإمكان موضع معين تقول: هو هناك دون غيره من المواضع فجناب الحق المقدس عنها أولى بعدم الحاجة إلى مكان معين (وعنه عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى مثله) أي مثل هذا الحديث في السؤال والجواب بلا تفاوت. (في قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (وفي قوله) عطف على الحركة والانتقال فهو من كلام المصنف كسائر عنوان أبواب الكتاب أي باب الحركة والانتقال، وفي تفسير قوله تعالى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (1)-سورة المجادلة:7.(2) أي يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها والنجوى اسم من النجو وهو السر بين اثنين يقال
ص:82
نجوته نجوا أي ساررته قيل: إنما ذكر الثلاثة دون الاثنين مع أن الاثنين أقل عدد يقع فيه التناجي; لأن الله وتر يحب الوتر، والثلاثة أول الأوتار التي يقع فيه التناجي ولذلك قال بعده ولا خمسة إلا هو سادسهم ثم عمم لدفع توهم الاختصاص بقوله (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم).
5 - عنه، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن (عمر) ابن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) فقال: هو واحد وأحدي الذات، بائن من خلقه، وبذاك وصف نفسه وهو بكل شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة. لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات، لأن الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فإذا كان بالذات لزمها الحواية.(1)
(عنه، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن (عمر) ابن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله (وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) قيل لتوضيح الاستثناء: إن النجوى مؤول بالمتناجين، وثلاثة صفة لها، وقيل غير ذلك (فقال (عليه السلام): هو واحد واحدي الذات) ليس له شريك ولا نظير ولا جزء مادي ولا صوري (2) لا ذهنا ولا خارجا فليست وحدته وحدة عددية (3) بأن يكون - تعالى شأنه - مبدأ كثرة عادا لها معدودا من جملتها، فيزيد العدد بإضافته تعالى وينقص بإسقاطه منه وإلا لكان داخلا في الكم المنفصل موصوفا بالعرض.
(باين من خلقه (4)) ليس بينه وبينهم مشابهة بوجه من الوجوه ولا مشاركة في أمر من الأمور
ص:83
(وبذلك وصف نفسه) كما قال (ليس كمثله شيء) وقال: (ولم يكن له كفوا أحد) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على التنزيه والمباينة على الإطلاق (وهو بكل شيء محيط بالإشراف) لا بمقدار لتعاليه عنه، والمراد بالإشراف الاطلاع عليه على وجه الاستعلاء من قولهم أشرفنا عليه إذا اطلعوا عليه من فوق (والإحاطة والقدرة) أي بإحاطة علمه وقدرته بجميع الأشياء.
(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات يعني أن عدم بعد شيء من الأشياء عنه باعتبار إحاطة علمه لا باعتبار حصول ذاته في مكان قريب من مكانه (لأن الأماكن محدودة (1) تحويها حدود أربعة، فإذا كان بالذات لزمها الحواية) ضمير التأنيث في لزمها للذات، وفي كتاب التوحيد للصدوق «لزمه» بتذكير الضمير، يعني إذا كان عدم بعد شيء عنه باعتبار حصول ذاته تعالى في مكان قريب منه لزم احتواء المكان عليه وكونه فيما يحيط به حدود أربعة كل حد مقابل لنظيره وأنه محال، فقد دل هذا الحديث على أن قوله تعالى (إلا هو رابعهم) ليس معناه أنه رابع الثلاثة بالعدد ومصيرها أربعة بضم الواحد العددي الذي هو هو إليها كما هو المعتبر في مرتبة الأعداد باعتبار التصيير; لتقدسه عن أن يكون
ص:84
واحدا عدديا مبدأ لمراتب الأعداد، معدودا من جملة آحاد العدد بل معناه أنه تعالى رابع كل ثلاثة بمعية العلم والإحاطة الواحدة بالنسبة إلى جميع الأشياء المغايرة للمعية الذاتية التي هي المعية المكانية والزمانية.
(في قوله الرحمن على العرش استوى) (1) هذا مثل ما مر إلا أنه ترك العاطف هنا يعني هذا الباب أيضا في تفسير هذه الآية.
6 - علي بن محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن (موسى) الخشاب، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن قول الله عز وجل: (الرحمن على العرش استوى) فقال:
استوى على كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء.(2)
(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن الحسن موسى الخشاب عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن قول الله تعالى: الرحمن على العرش استوى فقال: استوى على كل شيء) أي استولى عليه بالقدرة والغلبة أو استوت نسبته إليه بالعلم والإحاطة، فإن الاستواء مشتمل على هذين المعنيين، فعلى الأول: ضمير «استوى» يعود إلى الرحمن والعرش، إما العلم أو الجسم المحيط بجميع الأشياء و «على» للاستعلاء، وكذا على الثاني مع احتمال عود الضمير إلى العرش إن أريد به العلم (فليس شيء أقرب إليه من شيء) (3) متفرع
ص:85
على السابق لضرورة أنه إذا تساوت نسبته إلى شيء بالعلم المحيط كان قرب كل شيء منه مثل قرب الآخر بلا تفاوت، وقد أول هذه الآية وأمثالها أيضا أكثر العامة، قال عياض: لم يختلف المسلمون إلا شرذمة قليلون في تأويل ما يوهم أنه تعالى في مكان أو في جهة مثل قوله تعالى (أأمنتم من في السماء) (1)وقوله تعالى:
(الرحمن على العرش استوى) فمنهم من أول في ب «على» وجعل «على» للاستيلاء، ومنهم من توقف في التأويل وفوض أمره إلى الله، والوقف في التأويل غير شك بالوجود ولا جهل بالموجود، فلا يقدح بالتوحيد بل هو حقيقته والتمسك بالآية على التنزيه الكلي وهي قوله تعالى (ليس كمثله شيء) عصمة لمن وفقه الله تعالى للرشاد والهداية.
7 - وبهذا الاسناد، عن سهر، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن مارد أن أبا عبد الله سئل عن قول الله عز وجل: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء.(2)
(بهذا الإسناد عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن مارد أن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن قول الله عز وجل: الرحمن على العرش استوى، فقال: استوى من كل شيء (3)
ص:86
فليس أقرب إليه من شيء إذ قربه باعتبار علمه الذي لا تفاوت فيه أصلا والأشياء كبيرها وصغيرها سواء في تعلق علمه بها، قال الصدوق - رحمه الله - في كتاب الاعتقادات: اعتقادنا في العرش أنه حملة جميع الخلق، والعرش في وجه آخر هو العلم. ونقل هذا الحديث بعينه، والظاهر أنه - رحمه الله - نقله استشهادا لتفسير العرش بالعلم. وقد صرح بذلك من تصدى لشرح كلامه حيث قال معنى قوله (عليه السلام) «استوى من كل شيء» أنه استوى نسبة العرش من كل شيء فليس شيء من الأشياء أقرب إلى عرشه من شيء آخر، ومن البين أن العرش على هذا التقدير عبارة عن علمه الكامل الذي نسبته إلى جميع الأشياء على السوية، لا عن الجسم المحيط بجميع الخلق، هذا نقل لكلامه بالمعنى; لأن كلامه فارسي.
أقول: هذا الاستشهاد إنما يتم لو رجع ضمير «استوى» إلى «العرش» وأما إن رجع إلى «الرحمن» ويكون «استوى» خبرا بعد خبر أو حالا عن فاعل الظرف بتقدير قد، فيجوز أن يراد بالعرش كلا
ص:87
المعنيين، وعلى التقديرين كلمة على للاستيلاء والاستعلاء، فلا يفيد الآية تشبيهه تعالى بالجسم واستقراره في المكان كما زعمه المجسمة.
8 - وعنه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى في كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء، لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب، استوى في كل شيء.(1)
(وعنه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (الرحمن على العرش استوى) فقال:
استوى في كل شيء) أي استوى نسبته إلى كل شيء علما وإنما ذكر لفظة في للأشعار بأن علمه نافذ في بواطن الأشياء كلها (فليس شيء أقرب إليه من شيء) نفي أقربية شيء من الأشياء يستلزم نفي أبعدية شيء من الأشياء أيضا فيلزم من ذلك تساوي جميع الأشياء بالنسبة إليه فقوله (لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب) تأكيد لما قبله ولذا ترك العاطف، ومعنى هذا القول نفي أن يكون شيء بعيدا منه وشئ قريبا منه، لأن نفي البعد عن البعيد والقرب عن القريب نفي البعيد والقريب، ضرورة أنه لو كان هناك قريب وبعيد لم يكن البعد والقرب منفيين (استوى في كل شيء) هذا من باب ذكر النتيجة بعد المقدمات إن كانت الفاء الداخلة على «ليس» للتعليل، ومن باب ختم الكلام مجملا بما يرجع إلى ما ذكر في السابق مفصلا إن كانت الفاء للتفريع أو للتفسير، وهذا من المحسنات البديعية عن علماء العربية.
9 - وعنه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر.
قلت: فسر لي؟ قال: أعني بالحواية من الشيء له أو بإمساك له أو من شيء سبقه.
وفي رواية أخرى: من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا، ومن زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا.(2)
ص:88
(وعنه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد عن النضر ابن سويد، عن عاصم بن حميد) بضم الحاء (عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شيء) أي من مادة أو من أجزاء بأن يزعم أنه ذو مادة أو ذو أجزاء أو من أصل له مدخل في وجوده كأبوين أو من مبدأ مفيض لوجوده كالفاعل (أو في شيء) كالصفة في الموصوف والصورة في المادة والعرض في الموضوع والجزء في الكل والجسم في الهواء المحيط به والمظروف في الظرف (أو على شيء) بالاستقرار فيه والاعتماد عليه كالملك على السرير والراكب على المركوب والسقف على الجدران والجسم على المكان أولا بالاستقرار والاعتماد عليه كالهواء على الماء والسماء على الهواء (فقد كفر) حيث وصفه بصفات المخلوقين وأنكر وجوده; لأن ما اعتقده ليس بإله العالمين.
(قلت فسر لي قال: أعني بالحواية من شيء له أو بإمساك أو من شيء سبقه) الأول ناظر إلى قوله «في شيء» والثاني إلى قوله «على شيء» والثالث إلى قوله «من شيء» فالنشر على غير ترتيب اللف وفيه كسر للأحكام الوهمية في وصف الباري; لأن الوهم لألفه بالمحسوسات وأنسه بالممكنات يتوهم أن كل شيء من شيء أو شيء أو على شيء فبين (عليه السلام) أن ذاته تعالت عن ذوات المخلوقات وصفاته تقدست عن صفات المحسوسات، وراء ما تجده هذه العقول المتلبسة بغواشي الأوهام وخلاف ما تستأنسه هذه النفوس والأفهام.
(وفي رواية أخرى من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا) (1); لأن كل من كان من شيء فقد افتقر وجوده إلى ذلك الشيء وكل من افتقر في وجوده إلى شيء فهو محدث مخلوق (ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا) بذلك الشيء ومحويا به فيكون له انقطاع وانتهاء وكل ذلك من لواحق الأمور الزمانية والمكانية والمادية وقد ثبت امتناع كونه تعالى زمانيا ومكانيا وماديا (ومن زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا) وكل محمول يفتقر إلى حامل يحمله، وكل مفتقر ممكن،
ص:89
ولا شيء من الممكن بواجب لذاته، وبالجملة هذه الأمور من سمات المخلوقات وصفات المصنوعات فمن وصفه تعالى بشيء منها فقد جعله مماثلا لخلقه تعالى الله الذي ليس كمثله شيء.
في قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله).
هذا أيضا مثل ما مر كلام المصنف كسائر العنوانات، والظرف متعلق بإله، والراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف أي هو إله في السماء، وإنما حذف لطول الصلة بمتعلق الخبر وبالعطف عليه، ولو جعل «إله» مبتدأ والظرف خبره بقي الموصول بلا عائد. كذا ذكره بعض المفسرين.
10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي قولنا: قلت: ما هي؟ فقال: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (1)فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل له: ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول: فلأن، فقل له: ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا في السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي القفار إله وفي كل مكان إله.
قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز.(2)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني) (3) اسمه عبد الله (إن في القرآن آية هي قولنا) من أن الإله اثنان (قلت: ما هي فقال:
(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) فهناك إلهان أحدهما في السماء وهو النور المعبر عنه بيزدان والآخر في الأرض وهو الظلمة المعبر عنها بأهرمن (فلم أدر بما أجيبه فحججت) - بفتح الحاء - أي فذهبت إلى مكة وفعلت أفعال الحج، ويجوز ضم الحاء على صيغة المجهول يعني صرت محجوجا مغلوبا لأبي شاكر (فخبرت) - بتشديد الباء - بمعنى أخبرت (أبا عبد الله (عليه السلام) فقال:
هذا كلام زنديق خبيث) هذا إخبار بالغيب إن كان هشام أخبره بمضمون الآية فقط، وتصديق قوله إن كان أخبره بمناظرة الديصاني (إذا رجعت إليه فقل له: ما اسمك بالكوفة فإنه يقول: فلان، فقل له: ما اسمك بالبصرة) يجوز حركات الباء والفتح أفصح وأشهر (فإنه يقول فلان) المقصود منه إرشاده إلى الجواب بأن تسمية شخص باسم في البلاد المتعددة والأماكن المختلفة لا يوجب
ص:90
تعدده فلذلك قال (فقل: كذلك الله تبارك وتعالى في السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي القفار إله وفي كل مكان إله) ولا يوجب ذلك تعدد الإله.
والجواب واضح الدلالة على المقصود; لأن كونه تعالى إلها أمر يحلقه بالنظر إلى إيجاد السماء والأرض وأهلهما واستعباده إياهم وجريان ألوهيته واستحقاق عبادته عليهم فقد أشار الرب العظيم بهذا الكلام الكريم إلى نفي الآلهة السماوية والأرضية التي يعتقدها المشركون بأن عبر عن ذاته المقدسة ب «هو» الدال على هويته المطلقة التي هي محض الوجود الحق الواجب، ولما لم يكن تعريف تلك الهوية إلا باعتبار أمر خارج عنها أشار إلى تعريفها بكونه مستحقا بالذات لاسم الإله والألوهية، والعبادة بالنسبة إلى السماء والأرض وأهلهما ولا يستحق شيئا منها غيره تعالى الله عما يقول الظالمون.
(قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال هذه) أي هذه المناظرة أو هذه الحيلة في الجواب (نقلت من الحجاز) وليست من عندك. الحجاز بكسر الحاء بلاد سميت بذلك لأنها حجزت أي فصلت بين الغور والنجد وقيل: بين الغور وبين البادية، وقيل احتجز بالجبال والحرار الخمس أي أحاطت بها منها حرة بني سليم وحرة وأقم، من «احتجز الرجل بإزار» إذا شده في وسطه، وعن الأصمعي: إذا عرضت لك الحرار بنجد فذلك الحجاز.
ص:91
ص:92
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي رفعه، قال: سأل الجاثليق أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال:
أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أم العرش يحمله؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) الله عز وجل حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وبينهما وذلك قول الله عز وجل: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا)(1)قال:فأخبرني عن قوله: (يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) (2)
فكيف قال ذلك؟ وقلت إنه يحمل العرش والسماوات والأرض؟ فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة:
نور أحمر منه احمرت الحمرة ونور أخضر منه اخضرت الخضرة ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ونور أبيض منه (ابيض) البياض وهو العلم الذي حمله وذلك نور من عظمته، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع بنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء، ونور كل شيء سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
قال له: فأخبرني عن الله عز وجل أين هو؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) (3)فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، وذلك قوله تعالى: (وسع
ص:93
كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم)(1) فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله (عليه السلام) فقال: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (2)وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته.(3)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي رفعه قال: سأل الجاثليق) بفتح الثاء رئيس النصارى (أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أم العرش يحمله؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الله عز وجل حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما) يعني حاملها بالقدرة الكاملة على ما يقتضيه الحكمة البالغة من وضع كل شيء في موضعه وتقديره بالقدر اللايق به وتحديده وتصويره بما يناسبه. وفيه تنبيه على حاجة الخلق إليه في أن يقيمهم (4) في الوجود بمساك قوته ويحفظهم في البقاء بكمال قدرته (وذلك قول الله: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) (5)أي يمسكهما كراهة أن تزولا بالعدم والبطلان اللازم لطبيعة الإمكان وبانطباق السماء على الأرض ورسوب الأرض على الماء أو يمنعهما أو يحفظهما أن تزولا فإن الإمساك متضمن للمنع والحفظ، وفيه دلالة على أن الممكن (6) في بقائه واستمرار وجوده
ص:94
ودوام هيئته يحتاج إلى حافظ (ولئن زالتا إن أمسكهما) أي ما أمسكهما (من أحد من بعده) أي من بعد الله أو من بعد الزوال. «من» الأولى زائدة للمبالغة في الاستغراق والثانية للابتداء (إنه كان حليما) لا يعاجل بالعقوبة على الغفلة والعصيان وسوء الأدب والجهالة (غفورا) يغفر لمن يشاء، والآية دلت على أنه أمسكهما مع كونهما جديرين، نظرا إلى ذواتهما الباطلة غير الثابتة ومع عصيان العباد، بأن تزولا وتهدا هدا كما قال: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض)(1) ولذلك ذكر هذين الوصفين أعني الحلم والغفران (قال: فأخبرني عن قوله: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) (2)فكيف قال ذاك وقلت: إنه يحمل العرش والسماوات والأرض) مراده أن ما قلت مناف لما دلت عليه هذه الآية من وجهين أحدهما أن حملة العرش ثمانية لا هو، وقلت: هو حامله. وثانيهما أن الثمانية إذا حملوا عرشه فقد حملوه أيضا لأنه على العرش، وقلت: إنه حامل جميع ما سواه (فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة نور أحمر منه احمرت الحمرة ونور أخضر منه اخضرت الخضرة ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ونور أبيض منه ابيض البياض وهو) أي العرش (العلم (3) الذي
ص:95
حمله الله الحملة) الحملة بالتحريك جمع الحامل وحملته شيئا تحميلا إذا كفلته حمله وكلفته بحمله.
أقول: هذا الحديث من الأسرار والذي يخطر بالبال على سبيل الاحتمال أن الموجود إما شر محض أو خير محض أو مشوب من الخير والشر، وهذا القسم إما الشر غالب أولا، فهذه أربعة أقسام، والعلم المسمى بالعرش لاستقرار الموجودات فيه وعلى وفقه متعلق بجميع هذه الأقسام، فمن حيث تعلقه بالأول يسمى بالنور الأحمر; لأن منه احمرت الحمرة أي الشرور إذ الشر يناسب وصفه بالحمرة لكونه محلا للغضب وكذا العلم المتعلق به لأدنى ملابسة ومن حيث تعلقه بالثاني يسمى بالنور الأبيض; لأن الخير من توابع الرحمة، والرحمة يناسب وصفها بالبياض، قال الله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) (1)ومن حيث تعلقه بالثالث يسمى بالنور الأخضر لغلبة سواد الشر، والسواد إذا غلب النور مال النور إلى الخضرة، ومن حيث تعلقه بالرابع يسمى بالنور الأصفر; لأن فيه شيئا من سواد الشر، والسواد إذا خالط النور وساواه أو نقص منه مال النور إلى الصفرة. ومن هاهنا ظهر أن العرش الذي هو علم الحملة بالكائنات مخلوق من أنوار أربعة وإنما قدم الأول لغلبة الشرور في عالم الطبايع الظلمانية والنفوس البشرية ولذا أيضا قدم الثاني على الثالث وأخر الرابع لقلة الخير المحض في عالم النفوس الهيولانية، وقد مر شرح هذا في باب النهي عن الصفة (2).
(وذلك نور من عظمته) (3) لعل المراد أن العرش الذي هو علم الحملة بالكاينات نور في صدورهم نشأ من عظمة الله تعالى ودليل عليها ولذلك أيضا سمي بالعرش لاستقرار العظمة فيه (فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين) إشارة إلى النور الأبيض; لأن أبصار قلوب المؤمنين مصداق له إذ به تنورت قلوبهم بالأسرار والمعارف وحقايق الإيمان حتى أبصرت الخيرات كلها
ص:96
(وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون) (1) إشارة إلى النور الأحمر إذ به عاداه الجاهلون الملحدون،; لأن معاداتهم مصداق له، وبه انخسفت قلوبهم وعميت عيون بصائرهم عن مشاهدة عظمة الحق وأسراره (وبعظمته ونوره ابتغى من في السماء والأرض من جميع خلايقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة) إشارة إلى النور الأخضر والأصفر إذ بهما طلب المخلوقات الوسيلة والتقرب على أنحاء مختلفة، وأرشد إلى أن هذا من مصداق هذين النورين بذكر الاخلاف والاشتباه، ويمكن أن يكون الإبصار ناظرا إلى النور الأبيض، والمعاداة إلى الأنوار الثلاثة الباقية، والإبتغاء إلى الجميع، وبالجملة ذكر فرقا أربعة في مقابلة أنوار أربعة على سبيل التوزيع بحيث يناسب حال كل فرقة بنور من تلك الأنوار وتعلقه بها كتعلق العلم بالكائن في نفس الأمر (فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته) أي فكل شيء من الكائنات صغيرا كان أو كبيرا خيرا كان أو شرا محمول يحمله الله تعالى بعلمه المحيط به وبعظمته التامة وقدرته العامة (لا يستطيع) شيء منها (لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا) إذ كل ما تعلق علمه وقدرته بوقوعه فهو يقع ولا يقع خلافه لما سيجيء من أنه لا يقع شيء إلا بعلمه وقدرته ومشيته ولا يلزم من ذلك جبر العباد على أفعالهم; لأن العلم تابع للمعلوم وسيجئ تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى (فكل شيء محمول) (2) يعني إذا كان كل شيء من الكائنات واقعا على وفق علمه فهو محمول يحمله الله
ص:97
تعالى والحمل هنا على سبيل التمثيل أو على تشبيه علمه بالعمود لقيام الممكنات به كقيام السقف بالعمود (والله تعالى الممسك لهما) أي للسموات والأرض (أن تزولا) الواو للعطف على «كل شيء محمول» والمجموع نتيجة للسابق.
(والمحيط بهما من شيء) يجوز جر المحيط بالعطف على ضمير لهما و «من» بيان له يعني الممسك للشيء المحيط بهما، أو متعلق بقوله «أن تزولا» يعني الممسك لهما وللمحيط بهما أن تزولا من الشيئية بالدخول في العدم الصرف، ويجوز رفعه بالعطف على الممسك و «من» بيان لضمير بهما لقصد زيادة التعميم أو بمعنى على، ومجئ «من» بمعناها ثابت كما صرح به الجوهري، يعني المحيط بهما على شيء حوتاه مما في عالم الكون والفساد أو بيان لمحذوف يعني المحيط بهما مع ما حوتاه من شيء (وهو حياة كل شيء) إذ به قيام جميع الأشياء وقوامه وكماله الذي هو عبارة عن الحياة، وذلك كما يقال: الماء حياة الأرض إذ به كمالها واهتزازها (ونور كل شيء) إذ به ظهور الأشياء من مكمن العدم والخفاء كما يظهر الأشياء المحتجبة بالظلمة بتوسط النور (سبحانه وتعالى عما يصفون) في بعض النسخ «عما يقولون» (علوا كبيرا)
ص:98
فيه تنزيه له عما يصفه الظالمون به من الصفات التي لا تليق بعز جنابه، وتنبيه على أنه وإن بالغ الواصفون في وصفه بما يليق به فهو أعلى من ذلك علوا كبيرا.
(قال له: فأخبرني عن الله أين هو) لما اعتقد الجاثليق أن لله تعالى مكانا وأن مكانه هو العرش وأجاب (عليه السلام) بأن العرش ليس مكانا له ولا حاملا إياه، سأل ثانيا بأن العرش إذا لم يكن مكانا له فأين هو من المواضع والأمكنة (فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا) إحاطة مغايرة لإحاطة نحو الهواء بالجسم والجسمانيات ومعية خارجة عن المعية التي بين الممكنات، بل إحاطة بالصنع والقدرة والتقدير، ومعية بالعلم والحفظ والتدبير كما قال: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) (1)فقد أشار (عليه السلام) إلى أنه لا يصح السؤال عنه بأين هو، لأن السؤال عن شيء بأين هو سؤال عن مكانه باعتبار حصوله فيه واختصاصه به وهو في حقه - تعالى شأنه - محال لأنه في جميع الأمكنة لا باعتبار الحصول فيها والافتقار إليها; لأن الحال في المكان لا يجوز أن يكون (2) في آن واحد في جميع الأمكنة بالضرورة بل بالاعتبار العلم والإحاطة، ومن هاهنا ظهر أنه لا مكان له فلا يصح أن يقال أين هو (وهو قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم) أي ولا أقل من ذلك المذكور كالواحد والاثنين ولا أكثر من ذلك كالأربعة والستة وما فوقها إلا هو معهم بالعلم والإحاطة (يعلم ما يسرون وما يعلنون) (أينما كانوا) سواء كانوا في مقام طاعة الله تعالى أو في مقام معصيته، وسواء كانوا في أمكنة متقاربة أو في أمكنة متباعدة، لأن قربه بالأشياء ليس قربا مكانيا، وعلمه بها ليس لقرب مكاني حتى يختلف باختلاف الأمكنة في القرب والبعد، ومن البين أن من كان كذلك يستحيل أن يكون في مكان بمعنى الاستقرار فيه وإلا لاختلفت نسبة الأمكنة وغيرها إليه (فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى) لما أشار إلى أن العرش هو العلم بالموجودات أشار هنا بالتفريع للتنبيه على المماثلة إلى أن الكرسي أيضا بمعناه وهو العلم بها دفعا لتوهم السائل فيه أيضا، وقد سئل الصادق (عليه السلام) عن قوله عز وجل (وسع كرسيه السماوات والأرض) (3)قال:
ص:99
علمه. (1) (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) من السر وهو حديث النفس، وفي اقتباس هذه الآية إشارة إلى أن المراد بالكرسي هو العلم المحيط بجميع الأشياء وأن العلم بجليات الأمور وخفياتها على السواء (وذلك قوله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض)) يريد أن الكرسي فيه بمعنى العلم ودل عليه أيضا الرواية المذكورة وما قبل هذه الآية ولذلك ذهب إليه بعض المفسرين، وينبغي أن يعلم أن كثيرا ما يطلق الكرسي على الجسم المحيط بالسماوات السبع وما بينهما ولعله الفلك المشهور بفلك البروج، ويطلق العرش على الجسم المحيط بالكرسي وما بينه ولعله الفلك الأعظم، فالعرش بهذا المعنى أعظم من الكرسي كما دل عليه ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج قال: «مما سأل الزنديق أبا عبد الله (عليه السلام) أن قال: فالكرسي أكبر أم العرش قال (عليه السلام): كل شيء خلقه الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي» (2).
وما رواه المصنف (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل قال: «والكرسي عن العرش كحلقة في فلاة قي وتلا هذه الآية (الرحمن على العرش استوى) وما روي من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع مع الكرسي إلا كحلقة في فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» (4) ولذلك قيل الكرسي جسم بين يدي العرش ومن أجل ذلك سمي كرسيا وهو في الأصل ما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، إذا عرفت هذا فقد عرفت أن لكل واحد من العرش والكرسي معنيين أحدهما العلم المحيط، وثانيهما الجسم المحيط، وقد صرح بذلك الصدوق - رحمه الله - في كتاب الاعتقادات أيضا.
(ولا يؤوده) أي لا يثقله، يقال: آدني الحمل يؤودني أي أثقلني وأنا مؤود مثال مقول (حفظهما) أي حفظ السماوات والأرض بإضافة المصدر إلى المفعول (وهو العلي العظيم) أي هو المتعالي عن أن يؤوده حفظ شيء أو يحيط به وصف واصف ومعرفة عارف أو يشبه شيئا أو يكون له شريك ونظير، والعظيم المطلق الذي لا أعظم منه ولا يساويه أحد، وتعريف الخبر للحصر (فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله تعالى علمه) لما أشار سابقا إلى أن العرش هو العلم أشار هنا إلى أن حملته الثمانية هم العلماء، قال الصدوق - رحمه الله -: أما العرش
ص:100
الذي هو العلم فحملته أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين فأما الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) وأما الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة (عليهم السلام) في العرش وحملته، وإنما صار هؤلاء حملة العرش الذي هو العلم; لأن الأنبياء الذين كانوا قبل نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) كانوا على شرايع الأربعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) ومن قبل هؤلاء الأربعة صارت العلوم إليهم وكذلك صار العلم بعد محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين إلى من بعد الحسين من الأئمة (عليهم السلام) وأما العرش الذي هو حامل الخلق ووعاؤه فحملته ثمانية من الملائكة (1) لكل واحد ثماني أعين كل عين طباق الدنيا، واحد منهم على صورة بني آدم يسترزق الله تعالى لبني آدم وواحد منهم على صورة الثور يسترزق الله تعالى للبهائم كلها وواحد منهم على صورة الأسد يسترزق الله تعالى للسباع وواحد منهم على صورة الديك يسترزق الله تعالى للطيور، فهم اليوم هؤلاء الأربعة فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية.
(وليس يخرج عن هذه الأربعة) أي عن هذه الأنوار الأربعة (شيء خلق الله في ملكوته) أي في ملكه والتاء للمبالغة في عظمته (وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله (عليه السلام)) فرأوا بعين البصر والبصيرة كل شيء على ما هو عليه من الذوات والصفات وسائر الحالات (فقال: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض)) الدال على كمال الربوبية والقدرة والتدبير، والمشتمل على عجائب الخلقة وغرائب الصنعة والتقدير.
(وليكون من الموقنين) أي ليستدل بذلك على كمال الصانع وليكون من الموقنين، أو وفعلنا ذلك ليكون من الموقنين.
ص:101
(وكيف يحمل حملة العرش الله) برفع «الحملة» على الفاعلية ونصب «الله» على المفعولية؟ وكيف للإنكار، وعلل الإنكار بقوله: (وبحياته حييت قلوبهم) الواو للحال (وبنوره) أي بهدايته وتوفيقه (اهتدوا إلى معرفته) توضيح ذلك أنه إذا كانت حياتهم ومعرفتهم بالله سبحانه كان الله في الأزل بلا حامل بالضرورة لعدم وجود الحامل فيه فيكون في الأبد أيضا كذلك; لأن كل ما كان له أزلا يكون له أبدا، وكلما لم يكن له أزلا لا يكون له أبدا لاستحالة التغير عليه (1) وفي نسخة السيد
ص:102
الداماد:«وكيف يحمل حملة الله» بدون العرش قبل «الله» فقال: حملة بالنصب على المفعول المطلق أي كيف يحمل العرش الله حمله الذي في طوقه بالنسبة إلى محمولاته، ثم قال وفي بعض النسخ بل في كثير منها: «وكيف يحمل حملة العرش الله» وليس بذاك إذ كان السؤال أن الله سبحانه حامل العرش أم العرش حامل إياه لا أن حملة العرش حامل إياه سبحانه انتهى.
شرح أصول الكافي: 4 أقول: فيه نظر أما أولا فلأنه ليس لضمير الجمع في قلوبهم واهتدوا على النسخة التي رجحها مرجع ظاهر بل ليس للجملة الحالية معنى محصل. وأما ثانيا فلأن قوله «وليس بذاك» غير تام وما ذكره لبيانه غير سديد إذ ليس قوله (عليه السلام) «وكيف» إنكارا للسؤال الأول بل هو إنكار لما تضمنه السؤال الثاني الذي أورده السائل لإثبات التناقض في كلامه (عليه السلام) وهو أن الثمانية إذا حملوا العرش كما دل عليه الآية فقد حملوه تعالى أيضا لزعمه أنه في العرش، ولما كان بناء هذا السؤال على أمرين أحدهما أن العرش جسم والثاني أنه تعالى جالس عليه، ويلزم منهما أن من حمل العرش فقد حمله تعالى أجاب (عليه السلام) أولا بأن العرش هو العلم.
وثانيا حيث قال: وكيف بأن كونه تعالى محمولا محال وفيه إيماء إلى أن العرش على تقدير كونه جسما لا يلزم كونه تعالى جالسا عليه كما زعمه السائل وإنما إضافته إليه للتشريف كإضافة البيت والمسجد ونحوهما، والله ولي التوفيق.
2 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته فأذن لي فدخل، فسأله عن الحلال والحرام ثم قال له: أفتقر أن الله محمول؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): كل محمول مفعول به، مضاف إلى غيره، محتاج، والمحمول اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل وهو في اللفظ مدحة وكذلك قول القائل فوق وتحت وأعلى وأسفل، وقد قال الله: (وله الأسماء الحسنى فادعوه بها) ولم يقل في كتبه: إنه المحمول بل قال: إنه الحامل في البر والبحر والممسك السماوات والأرض أن تزولا، والمحمول ما سوى الله ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه: يا محمول، قال أبو قرة: فإنه قال: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وقال: (الذين يحملون العرش) فقال أبو الحسن (عليه السلام): العرش ليس هو الله والعرش اسم علم وقدرة، وعرش فيه كل شيء، ثم أضاف
ص:103
الحمل إلى غيره: خلق من خلقه، لأنه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه وخلقا يسبحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه وملائكة يكتبون أعمال عباده، واستعبد أهل الأرض بالطواف حول بيته والله على العرش استوى كما قال، والعرش ومن يحمله ومن حول العرش، والله الحامل لهم، الحافظ لهم الممسك القائم على كل نفس وفوق كل شيء وعلى كل شيء ولا يقال محمول ولا أسفل، قولا مفردا لا يوصل بشيء فيفسد اللفظ والمعنى، قال أبو قرة فتكذب بالرواية التي جاءت أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم، فيخرون سجدا، فإذا ذهب الغضب خف ورجعوا إلى مواقفهم؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا هو غضبان عليه، فمتى رضي؟ وهو في صفتك لم يزل غضبان عليه وعلى أوليائه وعلى أتباعه كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغيير من حال إلى حال وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين، سبحانه وتعالى، لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيرين ولم يتبدل مع المتبدلين، ومن دونه في يده وتدبيره وكلهم إليه محتاج وهو غني عمن سواه.(1)
(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث) صاحب شبرمة وكان مذهبه أن الله تعالى جسم فوق السماء دون ما سواها (أن أدخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته فأذن لي فدخل فسأله عن الحلال والحرام) حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال له: من أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض قال (عليه السلام): إن كنت تقول بالشبر والذراع فإن الأشياء باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسلفه، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره من غير عناء ولا كلفة ولا مؤونة ولا مشاورة ولا نصب، وإن كنت تقول من أقرب إليه في الوسيلة فأطوعهم له وأنتم تروون «أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد» ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق وأحدهم من شرق الخلق وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: من عند الله أرسلني بكذا وكذا، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل (ثم قال له: أفتقر أن الله محمول؟) لما سمع الجواب عن الأول بأن شيئا من الأشياء ليس أقرب إليه بحسب المكان أراد بهذا السؤال حمله (عليه السلام) على الإقرار بأنه تعالى محمول ليورد عليه أن هذا الإقرار مناف لذلك
ص:104
الجواب لأنه إذا كان محمولا كان بعض الأشياء أقرب إليه من بعض بالضرورة (فقال أبو الحسن (عليه السلام)) إنكارا لذلك على سبيل الاستدلال (كل محمول مفعول به) لأنك إذا قلت حملت شيئا كان ذلك الشيء مفعولا به وكل مفعول به متأثر منفعل (مضاف إلى غيره) وهو الحامل للتأثر والانفعال منه (محتاج) (1) إلى ذلك الغير في الاتصاف بالتأثر والانفعالية والمحمولية، وكل ذلك على الله محال (والمحمول) عطف على قوله كل محمول وإشارة إلى دليل آخر (اسم نقص في اللفظ) بحسب ظاهر مفهومه وصريح منطوقه فهو ليس من الصفات الكمالية (والحامل فاعل وهو في اللفظ مدحة) أي ما يمدح به من الصفات الكمالية فلو أطلق المحمول على الله سبحانه لزم إطلاق أخس طرفي النقيض عليه، وإطلاق أشرف طرفيه على خلقه وهو ممتنع (وكذلك قول القائل: فوق وتحت وأعلى وأسفل) (2) فإن التحت والأسفل نقص في اللفظ، والفوق والأعلى مدحة فلا يجوز إطلاق التحت والأسفل عله لما مر، والحاصل أن كل أمرين إضافيين وكل معنيين متقابلين يكون أحدهما أخس من الآخر لا يجوز إطلاق لفظه عليه سبحانه أصلا لا تسمية ولا وصفا، فلا يجوز أن يقال: هو محمول وتحت وأسفل ومرحوم ومغفور وأمثال ذلك، وأما إطلاق لفظ الأشرف فإن وجد له معنى صحيح له تعالى وورد الإذن مثل الحامل والفوق والأعلى صح فإنه حامل جميع الأشياء بالحفظ والعلم والإيجاد وفوقها وأعلاها بالقدرة والاستيلاء (وقد قال الله تعالى) الظاهر أنه دليل ثالث (وله الأسماء الحسنى فادعوه بها) المراد بها ما ورد الاذن بالتسمية والوصف به لا مطلق أشرف المتقابلين فإن السخي والفاضل مثلا أشرف مما يقابلهما وليسا من
ص:105
أسمائه الحسنى.
(ولم يقل في كتبه إنه المحمول) فلا يجوز لأحد أن يطلق عليه هذا اللفظ لعدم الإذن مع اشتماله على النقص (بل قال: إنه الحامل في البر والبحر والممسك السماوات والأرض أن تزولا) ليس المراد بالحمل والإمساك المعنى المعروف فينا لتعاليه عنه، بل المراد بهما الحفظ بمجرد إرادته النافذة والإمساك بمساك قدرته الكاملة (والمحمول ما سوى الله) أي كل شيء سواه محمول لا هو أو كل محمول سواه (ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه: يا محمول) الظاهر أنه دليل رابع وفيه تعريض لمن قال: هو محمول، أنه ليس بمؤمن.
(قال أبو قرة فإنه قال: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وقال: (الذين يحملون العرش) تمسك بهاتين الآيتين على سبيل المعارضة لزعمه أن فيهما دلالة على أنه محمول باعتبار أن العرش جسم وهو جالس عليه فمن حمل العرش فقد حمله أيضا.
(فقال أبو الحسن (عليه السلام): العرش ليس هو الله، والعرش اسم علم وقدرة، وعرش فيه كل شيء) (1) يعني أن الآية لا تدل على أنه تعالى محمول وإنما تدل على أن العرش محمول، والعرش ليس هو الله بل العرش اسم علم محيط بجميع الأشياء واسم قدرة نافذة فيها واسم جسم فيه كل شيء وهو الفلك الأعظم، وعلى شيء من هذه المعاني لا يلزم أن يكون - تعالى شأنه - محمولا. أما على الأولين فظاهر وأما على الأخير فلأن إضافة العرش إليه سبحانه ليست لأجل افتقاره إليه وجلوسه عليه بل لأجل التعظيم والتشريف، وإنما نفى أن العرش هو الله مع أن المعارض لم يدع ذلك حسما لمادة النزاع بالكلية (ثم أضاف الحمل إلى غيره) أضاف إما بكسر الهمزة على أنه مصدر مبتدأ مضاف بحذف التاء لقيام المضاف إليه مقامها مع ثقل الإضافة كما في إقام الصلاة، أو بفتحها على أنه فعل فقوله (خلق من خلقه) على الأول مرفوع على أنه خبر، والخلق بمعنى التقدير، يعني إضافة حمل العرش إلى غيره تقدير من تقديراته، وعلى الثاني مجرور على أنه بدل لغيره والخلق بمعنى المخلوق يعني
ص:106
أضاف حمله إلى غيره الذي هو مخلوق من مخلوقاته (لأنه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه) ضمير الجمع يعود إلى خلقه لأنه جنس يصدق على الكثير يعني أن المراد بالعرش العلم وهم حملة علمه أحاطوا بإذن الله تعالى علما بما في السماوات والأرض وما بينهما وبكل شيء يليق به سبحانه (وخلقا يسبحون حول عرشه) خلقا عطف على «خلقه» يعني استعبد خلقا بأن يسبحوا حول عرشه كما قال (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم) (1)وقال: (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم)(2) أي يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الكمال ونعوت الجلال (وهم يعملون بعلمه) ضمير الجمع يعود إلى خلقه وخلقا جميعا أي حملة العرش ومن حوله يعملون بمقتضى علمه ولا يخالفونه طرفة عين (وملائكة يكتبون أعمال عباده) ملائكة بالنصب عطفا على خلقا أي: استعبد ملائكة يكتبون أعمال عباده كلها صغيرة كانت أو كبيرة خيرا كانت أو شرا ليكون شاهدا لهم وعليهم يوم القيامة (واستعبد أهل الأرض بالطواف حول بيته) كما استعبد خلقا يسبحون حول عرشه، وإنما ذكر الطواف وحده مع أن عليهم عبادات كثيرة، لأن الطواف من أعظم العبادات المالية والبدنية جميعا.
وفي هذا الكلام إشارة إلى أن تفويض حمل العرش إلى غيره لا يخرجه عن التصرف في ملكه بل هو تدبير من تدبيراته وتقدير من تقديراته لأنه تعالى خلق أنواعا من الخلق واستعبد كل نوع بما يليق به من العبادة وهو حافظ رقيب عليهم يساوي نسبته إلى الجميع ونسبة الجميع إليه كما أشار إليه بقوله (والله على العرش) أي مستول عليه بالقدرة والحفظ (استوى كما قال) أي استوى على كل شيء بحيث لا يكون شيء من الأشياء أقرب إليه من شيء آخر كما قال: (الرحمن على العرش استوى) وقال ذلك في مواضع عديدة من القرآن الكريم.
(والعرش ومن يحمله ومن حول العرش) أي سواء في نسبتهم إليه سبحانه ونسبته إليهم بالحفظ والمراقبة فقوله «والعرش» وما عطف عليه مبتدأ خبره محذوف وهو «سواء» بقرينة السابق واللاحق وعطفه على الأرض بمعنى استعبدهم أيضا محتمل (والله الحامل لهم) بالعلم والإحاطة (الحافظ لهم) من المهالك والمعاطب والجهالة بالنصر والتوفيق والإعانة.
(الممسك) لهم عن الفناء والزوال والرجوع إلى ما يناسب طبيعة الإمكان من الفساد والبطلان.
(القائم على كل نفس) بالتدبير لأحوالها والحفظ لأعمالها والرعاية لحركاتها وسكناتها والعلم بقصودها ونياتها (وفوق كل شيء وعلى كل شيء) فوقية عقلية لا حسية وعلوا على الإطلاق لا
ص:107
إضافيا، وذلك أن أعلى مراتب الكمال هو مرتبة العلية، ولما كانت - تعالى شأنه - مبدأ كل شيء حسي وعقلي وعلته التي لا يتصور النقصان فيها بوجه، لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية مطلقا، وله الفوق المطلق في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء دون شيء وعن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه أو في مرتبته ما يساويه، فهو المتفرد بالفوقية المطلقة والعلو المطلق ولا يلحقه غيره فيهما (ولا يقال: محمول ولا أسفل قولا مفردا لا يوصل بشيء) أي لا يوصل ذلك القول بشيء يكون قرينة صارفة له عن المعنى المعروف إلى معنى صحيح له تعالى فقوله: «لا يوصل» صفة مبينة لقوله «قولا مفردا».
(فيفسد اللفظ والمعنى) أما فساد اللفظ فلأن هذا اللفظ اسم نقص فالله بريء عن النقائص كلها لا يمدح به، وأما فساد المعنى فلأن معنى هذا اللفظ المجرد عن القرينة يوجب مفعوليته وتأثره عن الغير وافتقاره إليه وكون الشيء أعلى منه، وكل ذلك فاسد محال في حق الغني العالي على الإطلاق.
فإن قلت: هل يجوز ذلك القول عند القرينة كما يشعر به التقييد المذكور أم لا؟ قلت: لا، لبقاء الفساد اللفظي بحاله ففيه سوء أدب مع عدم ورود الإذن به، وهذا كما قالت طائفة من المبتدعة: هو جسم، وقالت طائفة أخرى: هو صورة، فلما أورد أهل الحق عليهم بأن هذا القول يوجب تماثله بخلقه وقد قال الله تعالى (ليس كمثله شيء) قالوا: جسم لا كسائر الأجسام وصورة لا كسائر الصور، وبهذا القيد يزول التشابه والتماثل بينه وبين خلقه، وهذا كما تقولون: هو شيء لا كسائر الأشياء، وأجاب المانعون بأن لفظ الجسم والصورة يشعر بالتركيب والحدوث، ففيه نقص لفظي لا يليق بجناب الحق بخلاف الشيء فإنه لا يشعر بشيء منهما، وقد ورد الإذن به مطلقا فكيف مقيدا فالقياس قياس مع الفارق.
فإن قلت: إذا لم يجز ذلك القول عند القرينة أيضا فلم قيد (عليه السلام) عدم جوازه بالإفراد وما فائدة هذا القيد؟ قلت: فائدته هي التنبيه على تحقق الفساد فيه من وجهين، والرد على السائل وإبطال مذهبه فإنه ذهب إلى جواز إطلاق المحمول عليه سبحانه مطلقا كما يشعر به صريح كلامه لا الإشارة إلى جوازه عند القرينة هذا، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يقال محمول ولا أسفل قولا واحدا لا خلاف فيه عند أهل الإيمان وحينئذ قوله «لا يوصل بشيء» استيناف كأنه قيل: هل يوصل ذلك اللفظ بشيء يكون قرينة لمعنى صحيح؟ فقال: لا يوصل بشيء يعني لا يجوز إطلاقه عليه سبحانه
ص:108
مع القرينة أيضا فحينئذ لا يرد السؤال المذكور إلا أن التفريع ينافي هذا الاحتمال نظر إلى الظاهر وإن أمكن دفعه بأن التفريع متعلق بالأول ويفهم منه عدم صحة الثاني أيضا لفساد اللفظ.
(قال أبو قرة) إنكارا لما ذكره (عليه السلام) تمسكا بالرواية المزخرفة عندهم (فتكذب) استفهام على سبيل الإنكار بحذف أداته (بالرواية التي جاءت أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه، أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم) الكاهل كصاحب الخلف أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق وهو الثلث الأعلى (فيخرون سجدا فإذا ذهب الغضب خف) أي خف الله وخف بخفته العرش (ورجعوا إلى مواقفهم) زعم أن العرش جسم كالسرير، وأن الله تعالى جالس فيه، وأنه يعرضه الغضب من جهة عصيان العباد فيوجب ثقله، وأنه تعالى ينتقل من الخفة إلى الثقل ومن الثقل إلى الخفة (فقال أبو الحسن (عليه السلام)) تعريضا بكذب تلك الرواية للتصريح بفساد مضمونها (أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا هو غضبان عليه فمتى رضي؟) وخف ورجع الحملة إلى مواقفهم، والاستفهام للإنكار (وهو في صفتك) الواو للحال أي والحال أنه تعالى في وصفك إياه (لم يزل غضبان عليه وعلى أوليائه وعلى أتباعه) وغضبه سبب لثقله كما زعمت، ووجود السبب مستلزم لوجود المسبب فيكون هو ثقيلا دائما (كيف تجترئ) (1) الاجتراء: الإقدام على الشيء من غير مبالاة، والاستفهام للتوبيخ (أن تصف ربك بالتغيير من حال إلى حال) مثل التغير من الخفة إلى الثقل ومن الثقل إلى الخفة (وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين) من الغضب والثقل والحركة التابعة لهما (سبحانه وتعالى لم يزل مع الزايلين ولم يتغير مع المتغيرين ولم يتبدل مع المتبدلين) أي لم يتصف بالزوال والفناء ليكون مع الزايلين ومن جنسهم ولا بالتغير من الكيفيات الجسمانية ليكون مع المتغيرين فيها ولا بالتبدل من الوصف اللائق به إلى آخر ليكون مع المتبدلين في الأوصاف بل هو باق لا يطرأ عليه الزوال والفناء وثابت لا يعرضه التغير والفناء، وحق لا يتصف بالتبدل والرجاء ف «مع» في المواضع الثلاثة مع مدخولها في محل النصب على أنه حال
ص:109
عن الفاعل وقيد للمنفي، ثم أشار إلى أن كونه على العرش عبارة عن جريان قدرته عليه ونفاد تدبيره فيه وإلى أنه لا يحتاج في نفاذ حكمه إلى الغضب بالمعنى المعروف وما يتبعه من الثقل والتغير والحركة; لأن ذلك من صفات الناقصين في القدرة والتدبير بقوله (ومن دونه في يده وتدبيره) (1) أي مقهورون في قدرته وتقديره ومغلوبون في إرادته وتدبيره، وتصرفه فيهم جار على حسب الحكمة، وأمره فيهم ماض على وفق المصلحة فإن شاء عذبهم وليس له دافع وإن شاء غفر لهم وليس له مانع، وذلك معنى غضبه ورحمته (وكلهم إليه محتاج) لاستناد جميع الآثار إليه، إذ كل أثر فهو عن مؤثره والكل منته في سلسلة الحاجة إليه، وإفراد الخبر باعتبار لفظ الكل (وهو غني عمن سواه) كما قال: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).
وفي كتاب الاحتجاج: «قال صفوان فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا حتى قام وخرج».
ص:110
3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جل وعز: (وسع كرسيه السماوات والأرض) فقال: يا فضيل كل شيء في الكرسي السماوات والأرض وكل شيء في الكرسي.(1)
(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) يعني سألت عن المراد منه (فقال: يا فضيل كل شيء في الكرسي) والكرسي محيط به (السماوات والأرض وكل شيء في الكرسي) السماوات وما عطف عليها مبتدأ، وقوله «في الكرسي» خبره، وهذه الجملة بيان أو تأكيد لقوله «كل شيء في الكرسي» ويفهم منه أن العرش أيضا في الكرسي، وهذا ينافي الروايات الدالة على أن العرش أعظم من الكرسي وقد ذكرنا بعضها آنفا.
والجواب أن الكرسي هنا تصوير لعظمته (2) تعالى وتخييل لها بتمثيل حسي، أو المراد به علمه المحيط بجميع الأشياء أو ملكه وسلطنته، والعرش بمعنى الجسم المحيط داخل في الكرسي بهذه المعاني وليس المراد به فلك البروج كما زعم، على أنه لو كان هذا لأمكن أن يقال المراد بالسماوات السبع وبكل شيء كل شيء فيها، فلا منافاة.
4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة [بن ميمون] عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جل وعز: (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أم الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: بل الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش وكل شيء وسع الكرسي.(3)
ص:111
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أم الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: بل الكرسي وسع السماوات والأرض) سأل زرارة عن ذلك لعدم علمه بأن كرسيه مرفوع على الفاعلية بناء على أن القرآن الذي رآه لم يكن معربا أو سأل عنه مع علمه بذلك طلبا لتصحيح رفعه في الواقع وميلا لمعرفة كونه فاعلا في نفس الأمر، إذ الاعراب لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما نشأ بعده فلعلهم أخطأوا في رفعه فأزال (عليه السلام) شبهته بأن رفعه صحيح وأنه فاعل في نفس الأمر.
وبما ذكرنا لا حاجة إلى ما قيل من أن سؤاله على قراءة إسماعيل (وسع كرسيه) بضم الواو وسكون السين من باب إضافة المصدر فكأنه قال: إضافته إلى الفاعل أو إلى المفعول وإلا فزرارة أرفع شأنا (1) وأجل قدرا من أن يسأل عن معنى الآية الكريمة على تقدير رفع كرسيه على الفاعلية، وقد نقل هذا التوجيه أيضا عن الشيخ العارف بهاء الملة والدين قال: إني لما قرأت هذا الخبر على والدي - قدس الله روحه - سألته أن زرارة مع علو شأنه وعلمه بمسائل النحو كيف يجوز عليه مثل هذا السؤال الذي لا يخفى على آحاد الطلبة إذ القراء اتفقوا على رفع كرسيه ونصب السماوات والأرض وحينئذ لا مجال لهذا السؤال، فأجاب رحمه الله: أن بناء السؤال على قراءة (وسع) بضم الواو وسكون السين مصدرا مضافا، وعلى هذا يتجه السؤال وإني تصفحت كتب التجويد فما ظفرت على هذه القراءة إلا في هذه الأيام رأيت كتابا في هذا العلم مكتوبا بالخط الكوفي هذه القراءة وكان نسخة الأصل.
(والعرش وكل شيء وسع الكرسي) الظاهر أن العرش منصوب عطفا على السماوات، و «كل شيء» مرفوع على الابتداء، والجملة الفعلية بعده خبره بحذف العائد المفعول أي كل شيء وسعه الكرسي، والسؤال بالمنافاة يجاب بمثل ما مر. وأما رفع العرش بالابتداء ونصب الكرسي بالمفعولية وعطف «كل شيء» على الكرسي وجعل الجملة الفعلية خبرا فبعيد جدا مع امتناع تقديم المعطوف على المعطوف عليه إلا في ضرورة الشعر كما بين في علم العربية، وكذا رفع
ص:112
العرش بالابتداء وعطف كل شيء بحذف العائد إليه ونصب الكرسي، وجعل الجملة خبرا يعني العرش وكل شيء منه مثل الأجزاء والدوائر الموهومة وسع الكرسي كما قيل بعيد أيضا مع أن السؤال لم يتعلق بالعرش وشموله.
5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: إن كل شيء في الكرسي.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: إن كل شيء في الكرسي (2)) العموم باق بحاله لما عرفت.
6 - محمد [بن يحيى]، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حملة العرش - والعرش العلم - ثمانية: أربعة منا وأربعة ممن شاء الله.(3)
(محمد، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حملة العرش، والعرش العلم، (4)
ص:113
ثمانية، أربعة منا) محمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين (وأربعة ممن شاء الله) من السابقين وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى على نبينا وآله وعليهم الصلاة والسلام.
هذا التفسير مما جاءت به الروايات وصرح به بعض الأصحاب، وقيل: المراد بالأربعة الأولى محمد وعلي والحسن والحسين أو علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، وبالأربعة الثانية سلمان والمقداد وعمار بن ياسر وأبو ذر - رضي الله عنهم - هذا كلامه ولم يذكر مستندا لذلك.
7 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن كثير، عن داود الرقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وكان عرشه على الماء) فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون: إن العرش كان على الماء والرب فوقه:
فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوق ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه.
قلت: بين لي جعلت فداك.
فقال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون أرض أو سماء أو جن أو أنس أو شمس أو قمر، فلما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم: من ربكم؟ فأول من نطق، رسول
ص:114
الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة صلوات الله عليهم فقالوا: أنت ربنا، فحملهم العلم والدين، ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون، ثم قال لبني آدم: أقروا لله بالربوبية ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة، فقالوا: نعم ربنا أقررنا، فقال الله للملائكة: اشهدوا، فقالت الملائكة: شهدنا على أن لا يقولوا غدا: إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون. يا داود، ولايتنا مؤكدة عليهم في الميثاق.(1)
(محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن كثير، عن داود البرقي:
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (وكان عرشه على الماء) (2) فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون: إن العرش كان على الماء) أي على متن الماء قبل الأرض والسماء، وقيل: معناه أنه كان فوق الماء محاذيا له لم يكن بينهما حائل لا أنه كان موضوعا على متنه، واستدلوا بذلك على أن الماء أول حادث من أجرام هذا العالم وقيل: كان الريح أول حادث وكان الماء على متنه، أقول: ما قالوا من أن الماء أول حادث دل عليه ما رواه المصنف في كتاب الروضة بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل قال: «ولكنه يعني الله تعالى كان إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، وخلق الريح من الماء» وهذا كما ترى دل أيضا على بطلان قول من
ص:115
قال: الريح أول حادث قبل الماء (والرب فوقه) كما أن الملك فوق عرشه، أقول: هذا مذهب طائفة من العامة وأما أكثرهم فقد حملوا العرش على المعنى المعروف ولكن نزهوه تعالى عن أن يكون فوقه جالسا عليه مفتقرا إليه وقالوا: إنما إضافته إليه كإضافة البيت ونحوه إليه (فقال كذبوا) على الله حيث فسروا كلامه بآرائهم وحملوه على خلاف ما أراد منه، ثم بين كذبهم بقوله (من زعم هذا فقد صير الله محمولا) يحمله عرشه (ووصفه بصفة المخلوق) المفتقر إلى محل يعتمد عليه (ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه) وإنما غير الأسلوب. وقال: لزمه، لأن ذلك ليس مذهبه وإنما لزمه من حيث لا يعلم لأنه إذا اعتقد أنه محمول لزمه بالضرورة أن يكون حامله أقوى منه (قلت بين لي) ما هو المقصود من الآية (جعلت فداك فقال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء) أي حمل الماء عبادته وطاعته أو سلطانه ومعرفته وعلمه بحقايق الأشياء وخواصها وآثارها وكمياتها ومقاديرها وكلياتها وجزئياتها على ما هي عليه في نفس الأمر (قبل أن يكون أرض أو سماء أو جن أو إنس أو شمس أو قمر) لا يبعد أن يقال: تحميل ذلك على الماء باعتبار أن فيه جزءا ماديا لمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، وقال بعض المحققين: المراد بالماء هنا العقل القدسي (1) الذي هو حامل عرش المعرفة (فلما أراد أن يخلق الخلق) لعل المراد بالخلق ذوو العقول الدراكة مثل الملائكة والجن والإنس، وحمله على العموم بحيث يشمل الناطق والصامت والمتحرك والجامد أيضا محتمل إذ كل صامت وجامد بحسب الظاهر فهو ناطق بحسب الباطن بلسان الحال بل بلسان المقال كما يرشد إليه قوله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) (2)وقوله تعالى (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) (3)ويرشد إليه أيضا نطق الكعبة والنملة والحصى وغير ذلك (نثرهم بين يديه) وذلك بأن قبض قبضة من تراب خلق منها آدم (عليه السلام) فصب عليها الماء العذب الفرات ونظر إليها بعين الرحمة أربعين صباحا ثم صب عليها الماء المالح الأجاج ونظر إليها بعين الغضب وقد سبقت رحمته غضبه فتركها أربعين صباحا فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه وشماله على صور ومثال وتحركوا بين يديه على هيئة شبح وظلال فأخذ منهم الميثاق ثم قال: كونوا طينا فصاروا طينا كما كانوا، ثم خلق منه آدم ومن ثم يخرج منه
ص:116
أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وقيل: المراد بنثرهم نثر ماهياتهم وحقايقهم وإنياتهم بين يدي علمه ونطقهم بعد السؤال الراجع إلى مجرد نفاذ القدرة وجريان الإرادة نطقهم بألسنة قابليات جواهرها واستعداد ذواتها (فقال لهم من ربكم فأول من نطق (1) رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) فقالوا أنت ربنا) فهم السابقون الأولون في الإيمان بالله. وقد سئل (صلى الله عليه وآله) بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ فكنت أول من قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل. والنطق محمول على الحقيقة على ما قلنا وعلى الاستعداد الفطري بلسان طباع الإمكان الذاتي على ما قيل.
وقال القاضي في تفسير قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست ربكم)(2): إنه أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم:
(ألست بربكم قالوا بلى) فنزل تمكينهم من العلم وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل، وعلى هذين القولين لم يكن هناك سؤال وجواب في الحقيقة والله أعلم.
(فحملهم العلم والدين) إما بانتقالهما من الماء إليهم أو بطريق تحميل المثل من غير انتقال والله أعلم.
(ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي) لا يزيدون ولا ينقصون ولا يفترون فيما يؤمرون ويحفظون نظام الخلائق وكمالهم وما به يتم أمر معاشهم ومعادهم. والغرض من هذا القول هو الإعلام بعلو منزلتهم والحث على تعظيمهم وتكريمهم والثناء عليهم (وهم المسؤولون) يوم القيامة عن أداء الأمانة وحفظها وطاعة الخلق وعصيانهم فيشهدون لهم وعليهم على وفق ما علموا وشاهدوا منهم.
(ثم قال) الظاهر بلا واسطة (لبني آدم أقروا لله بالربوبية ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة) جمع بين الإقرارين للتنبيه على أن بينهما تلازما وأن أحدهما لا ينفع بدون الآخر (فقالوا: نعم ربنا أقررنا) الظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان المقال لا بمجرد لسان الحال أجمعين، فيفيد عموم الإقرار ووجوده في جميع الخلق، وهذا ينافي ما يجيء في باب طينة المؤمن والكافر عن أبي جعفر (عليه السلام) «أن الله
ص:117
تعالى دعاهم عند أخذ الميثاق إلى الإقرار بالنبيين، فأقر بعضهم وأنكر بعضهم ثم دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها لله من أحب وأنكرها من أبغض» وقوله: (وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) «كان التكذيب ثم» ويمكن رفع المنافاة بحمل الإقرار هنا على التخصيص كما يقتضيه القاعدة الأصولية.
(فقال الله للملائكة اشهدوا) على إقرارهم، والإشهاد إنما هو لإجراء الأمور الأخروية على ما يقتضيه الحكمة الإلهية في الأمور الدنيوية من إثبات الحق بالشاهد وإلا فالله سبحانه كان شاهدا وكفى به شهيدا، وإنما أشهد الملائكة دون النبي والأئمة (عليهم السلام) لأن الحق كان لهم فلا بد لهم الشاهد من غيرهم.
(فقالت الملائكة شهدنا على أن لا يقولوا غدا) أي يوم القيامة عند مشاهدة سوء العاقبة ووخامة الإنكار (إنا كنا عن هذا غافلين) لم نسمعه ولم ينبهنا به أحد (أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) (1)فأتبعنا آثارهم واقتفينا أطوارهم، وفي بعض النسخ: «وكنا ذرية ضعفاء من بعدهم» (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) أي بما فعل آباؤنا وأسس كبراؤنا من قوانين الشرك والضلال وأتبعناهم تقليدا للظن بأنهم كانوا على الحق وفيه قطع لعذرهم وذم لتقليدهم فإنه - تعالى شأنه - إذا أخذ الميثاق منهم أولا وأعطاهم العقل الفارق بين الحق والباطل ثانيا، وأرسل إليهم الرسول ثالثا، ونصب لهم دلائل التوحيد رابعا، وذكرهم بالميثاق خامسا لم يبق لهم معذرة في الشرك تقليدا للآباء والكبراء ولا حجة في ترك التمسك بذيل الهداة والأمناء (يا داود ولايتنا مؤكدة عليهم في الميثاق) حين بعثهم في الظلال وأخرجهم على هيئة الصور والمثال ثم نسيها من نسيها لتوغله في ظلمة الطبائع البشرية، أو أنكرها من أنكرها لميله إلى الرياسة الظاهرة الفانية فأنكر العهد المأخوذ عليهم باطنا والنص النبوي المؤكد له ظاهرا.
ص:118
الغرض من هذا الباب هو بيان أن الروح ليس هو الله سبحانه كما زعمه طائفة من أهل الضلال.
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن الأحول قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الروح التي في آدم (عليه السلام) قوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) قال: هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن الأحول قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الروح التي في آدم (عليه السلام) قوله) قوله مجرور بدلا عن الروح أو عن آدم.
(فإذا سويته) أي أكملت خلقته وعدلت هيئته بحيث صار قابلا لنفخ الروح فيه (ونفخت فيه من روحي) الروح بالضم يذكر ويؤنث، والمطلوب من هذا السؤال (2) هو معرفة أن الروح قديم واجب كما زعم أو حادث غير واجب لا معرفة معنى الإضافة والنفخ فإن المتضمن لهما هو الأحاديث الآتية، ولا معرفة أن مفهومه ماذا فإنه مسكوت عنه في هذا الباب ولا بأس أن نشير إليه إجمالا ليحصل ذلك زيادة بصيرة فنقول: المراد بالروح هنا ما يشير الإنسان إليه بقوله أنا أعني النفس الناطقة المجردة المتعلقة بالبدن (3) تعلق التدبير والتصرف، والحياة عبارة عن هذا التعلق،
ص:119
والموت هو قطع هذا التعلق مع بقائها في ذاتها كما صرح به جم غفير من الخاصة والعامة، والروح بهذا المعنى هو المعروف في القرآن والأحاديث. وقد تحير العقلاء في حقيقته واعترف كثير منهم بالعجز عن معرفته حتى قال بعض الأكابر: إن قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «من عرف نفسه فقد عرف ربه» معناه أنه كما لا يمكن التوصل إلى معرفة النفس أعني الروح كذلك لا يمكن التوصل إلى معرفة الرب، وقوله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (1) مما يعضد ذلك وحمل الروح هنا على ما هو مبدأ للتأثير والحركة والحياة سواء كان مجردا عن الكثافة الجسمانية أو منطبعا في مادة جسمانية ليشمل الأقسام الخمسة التي يجيء ذكرها في كتاب الحجة أعني روح القدس الذي به يعرفون الأشياء، وروح الإيمان الذي به يخافون الله تعالى، وروح القوة الذي به يقدرون على طاعة الله تعالى، وروح الشهوة الذي به اشتهوا طاعته وكرهوا معصيته، وروح المدرج الذي به يذهبون ويجيئون وإن كان محتملا لكنه بعيد جدا.
(قال: هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة) ولا يتوهم من إضافتها إليه سبحانه أنها هو وأنها قديمة; لأن الإضافة للإيجاد والتشريف وقد سمعت عن بعض الثقات ما يناسب ذكره
ص:120
في هذا المقام وهو أن بعض النصارى حضر بلدا من بلاد الإسلام وحضر عنده جماعة من أهل العلم وكلموه فقال لهم: اصبروا حتى أشرب خمرا فلما شربها وظهر فيه مبادى النشاط قال لهم: نبيكم أشرف أم عيسى؟ فقالوا: نبينا فقال: ما تقولون فيما نزل في كتابكم حيث سمى عيسى روح الله ونبيكم رسول الله، وروح الله أشرف من رسول الله; لأن المرسل أشرف من الرسول. فلما سمعوا ذلك سكتوا ولم يقولوا شيئا بيد ما قال بعضهم هذه شبهة متوجهة بحسب الظاهر ولم يعلموا أن إضافة الروح إليه سبحانه لا يقتضي أن يكون الروح نفسه تعالى ولا جزءه، لا وضعا ولا عرفا كما يقال: هذا فرسي وهذا كتابي وهذا بيتي وأمثال ذلك، غاية ما في الباب إفادتها الاختصاص باعتبار أن خلقها وإيجادها ليس بتوسط الأب.
لا يقال: من كان بلا واسطة كان أشرف ممن كان بواسطة; لأن ذلك ممنوع إذ للشرافة أسباب وشرائط أخر كما لا يخفى على أولي الألباب.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة عن حمران قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وروح منه) قال: هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة عن حمران (2) قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى) في وصف عيسى (عليه السلام) (وروح منه) قال: هي روح الله مخلوقة خلقها في آدم وعيسى) على نبينا وآله وعليهما الصلاة والسلام لا بتوسط أب وما يجري
ص:121
مجرى الأصل والمادة كما هو المعروف في سائر الناس بل بمجرد إمضاء الإرادة ونفخ فم القدرة ولذلك نسبها إليه، وفي كتاب إكمال الإكمال للآبي سمع بعض عظماء النصارى قاريا يقرأ: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) فقال: هذا دين النصارى، يعني هذا يدل على أنه بعض منه، فأجابه الحسن بن علي الواقد صاحب كتاب النظائر بأن الله تعالى إنما أراد بروح منه أنه من إيجاده وخلقه وأراد بالحصر تعريضا بالنصارى فيما ادعت النبوة والتثليث وباليهود فيما قذفت به مريم (عليها السلام) وأنكرته من رسالته فأسلم النصراني.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن عروة، عن عبد الحميد الطائي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ونفخت فيه من روحي) كيف هذا النفخ؟ فقال: إن الروح متحرك كالريح وإنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح; لأن الأرواح مجانسة الريح وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت: بيتي، ولرسول من الرسل: خليلي، وأشباه ذلك، وكل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن عروة، عن عبد الحميد الطائي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (ونفخت فيه من روحي) كيف هذا النفخ) أي نفخ الروح والروح ليس بهواء قابلا للحركة والنفخ وإنما يتعلق بهواء; لأن صورته الحقيقة إخراج الهواء من فم النافخ إلى المنفوخ فيه ليشمل فيه النار مثلا وإنما حملنا السؤال على هذا إلا على أنه كيف نسب النفخ إليه سبحانه مع أنه في حقه ممتنع; لدلالة الجواب عليه.
وتحقيق نسبة النفخ إليه على أحد وجهين; أحدهما: أن النافخ جبرائيل (عليه السلام) أو ملك من الملائكة بأمره جل شأنه وإنما نسب إليه اتساعا باعتبار أنه الآمر، وثانيهما: أن النفخ على تقدير أن يكون النافخ هو الله سبحانه استعارة حسية لأنه لما امتنع تحقق صورته الحقيقية وهي الإخراج المذكور فيه وجب صرفه إلى ما يشبهها بأن يقال: لما كان اشتعال نور النفس (2) في فتيلة البدن عن الجود الإلهى المعطي لكل قابل ما يستحقه يشبه بحسب محاكاة خيالنا ما يشاهد من اشتعال النار
ص:122
في المحل القابل لها عن صورة النفخ فلا جرم حسن التجوز والتعبير بالنفخ عن إفاضة الجود الإلهي النفس على البدن لمكان المشابهة المتخيلة وإن كان الأمر أجل مما عندنا (فقال: إن الروح متحرك كالريح) يعني أن الروح متحرك سريعا في جميع أجزاء البدن (1) ويجري آثاره في تجاويف أعضائه فيصلح البدن ويحيى ما دام فيه كما أن الريح متحرك سريعا في أقطار العالم ويجري آثاره فيها فيصلح العالم بجريانه ويموت بفقدانه، فالروح بهذا الاعتبار يشابه
ص:123
الريح فيكون منفوخا كالريح.
فإن قلت: الاستعارة على ما ذكرت تمثيلية والاستعارة التمثيلية لا يعتبر فيها التشبيه في المفردات.
قلت: نعم ولكن لا بد من أن يكون للمفردات التي في طرف المشبه به نظائر في طرف المشبه بحيث يصح أن يقع بينهما التشبيه وبناء هذا السؤال والجواب على ذلك، ومما يناسب ذكره في هذا المقام.
ويوضح الجواب ما نقله الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج وهو أن الزنديق سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسائل كثيرة - إلى أن قال له - فهل يوصف الروح بخفة وثقل ووزن؟ قال (عليه السلام): الروح بمنزلة الريح في الزق إذا نفخت فيه امتلاء الزق منها فلا يزيد في وزن الزق (1) ولوجها فيه ولا ينقصها خروجها منه كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن. قال: فأخبرني ما جوهر الريح قال: الريح هواء إذا تحرك سمي ريحا فإذا سكن سمي هواء وبه قوام الدنيا ولو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن، وذلك أن الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه، فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير (تبارك الله أحسن الخالقين).
(وإنما سمي روحا) هذا توضيح للجواب المذكور يعني إنما سمي الروح الجاري آثاره وتصرفه في البدن روحا (لأنه اشتق اسمه من الريح) قال صاحب كتاب الإكمال: وإنما سمي الريح الخارج من نفخ جبرائيل (عليه السلام) الداخل في البدن روحا لأنه يخرج من الروح يعني جبرائيل (عليه السلام) فهذا وجه آخر للتسمية. ثم أشار إلى وجه الاشتقاق بقوله (وإنما أخرجه) أي إنما أخرج اسم الروح (عن لفظه الريح) أي على وفقه، وفي بعض النسخ «عن لفظ الريح» يعني إنما اشتق اسم الروح عن لفظ الريح (لأن الأرواح مجانسة) بحسب المعنى والتحرك والتصرف وإصلاح ما تمر عليه (الريح) وإذا تحققت المجانسة المصححة للاشتقاق صح الاشتقاق كما هو المقرر عن أهله (وإنما أضافه إلى نفسه) حيث قال (من روحي) (لأنه اصطفاه على سائر الأرواح) الحيوانية والنباتية لكونه مبدأ لآثار شريفة وأطوار عظيمة لا تترتب عليها، فالإضافة للاختصاص والتشريف والإيجاد بلا واسطة شيء لا لإفادة أنه سبحانه أو بعضه لامتناع ذلك واستحالة حلوله عز وجل في غيره عقلا
ص:124
ونقلا (كما قال لبيت من البيوت: بيتي ولرسول من الرسل: خليلي وأشباه ذلك) هذا الحديث بعينه رواه الشيخ في الاحتجاج مرسلا عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) إلا أن فيه كما اصطفى بيتا من البيوت فقال: بيتي، وقال لرسول من الرسل: خليلي (وكل ذلك) المذكور من الروح والبيت والرسول (مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر) خلقه وصنعه وأحدثه ورباه ودبره اللطيف الخبير على وفق الإدارة ومقتضى الحكمة.
4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بحر، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون أن الله خلق آدم على صورته، فقال: هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها الله واختارها على سائر الصور والمختلفة، فأضافها إلى نفسه، كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه. فقال: بيتي، (ونفخت فيه من روحي).(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بحر) كوفي ضعيف ولكن ضعفه لا يضر بصحة مضمون هذا الحديث لا عتضاده بالعقل والنقل (عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون) يعني العامة (أن الله تعالى خلق آدم على صورته فقال: هي صورة محدثة اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة) كما قال:
(وصوركم فأحسن صور كم) (فأضافها إلى نفسه) تشريفا وتكريما وإظهارا لاصطفائها (كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه فقال: بيتي، ونفخت فيه من روحي) تشريفا وتكريما وتبيينا; لأن المضاف مصطفاه ومختاره، وما يفيد هذا التشبيه من أن إضافة الروح إلى نفسه لأجل أنه اصطفاه واختاره على سائر الأرواح لا لأجل أنه هو الله عز شأنه هو المقصود بالإفادة في هذا الباب وقد روى الصدوق رحمه الله - في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن الحسين بن خالد وروى الشيخ الطبرسي رضي الله عنه في كتاب الاحتجاج مرسلا عن الحسين بن خالد أيضا قال:
قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله خلق آدم على صورته (2) فقال: قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر برجلين يتسابان فسمع
ص:125
أحدهما يقول لصاحبه «قبح الله وجهك ووجه من يشبهك» فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته» وفيما روياه دلالة واضحة على أن الرواية المذكورة كاذبة محرفة عن وجهها وأن الضمير المجرور في «صورته» يعود إلى الرجل المسبوب وإنما لم يجب الباقر (عليه السلام) بما أجاب به خلفه الطاهر الرضا وحكم بأن الضمير يعود إليه سبحانه وأن الإضافة للتشريف والاصطفاء للتنبيه على أن هذه الرواية على تقدير صحتها لا دلالة فيها على ما هو مطلوبهم من أن له تعالى صورة كصورة آدم، وبالجملة هم يستدلون بهذه الرواية على ذلك المطلوب ونحن ما نعون فنمنع أولا صحتها وثانيا دلالتها على ذلك المطلوب بإرشاد الأئمة (عليهم السلام) على أن لنا أيضا أن نقول يعود الضمير إلى آدم ولا يلزم خلوه عن الفائدة لما أشرنا إليه في باب
ص:126
النهي عن الصورة، ويؤيده ما رواه مسلم في آخر باب صفة الجنة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذارعا فلما خلقه قال: إذهب وسلم على أولئك وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهب فقال: السلام عليكم فقالوا:
السلام عليك ورحمة الله، قال فزادوه: ورحمة الله. قال: فكل من دخل على الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن».
قال عياض ذكر الطول هنا يرفع الإشكال ويوضح أن الضمير في صورته يعود إلى آدم نفسه وأن المراد على هيئته التي خلق عليها لم يتردد في الأرحام ولم ينتقل في النشأة بتنقل بنيته أو يكون المراد أن صورته في الأرض هي التي كان عليها في الجنة ولا تختلف صورته اختلاف صورة الملائكة (عليهم السلام) في أصل صورهم وفي الصورة التي يتراؤون فيها للخلق غالبا.
ص:127
يذكر فيه أنحاء من اعتبارات ثبوتية وسلبية للرد على الفرق المبتدعة منهم الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله وهم صنفان: الأول صنف طلبوا للعلم سببا فأحالوه على الطبع الذي هو صفة جسمانية مظلمة خالية عن المعرفة والإدراك.
الثاني: صنف لم يتفرغوا لذلك ولم يتنبهوا بطلب السبب بل اشتغلوا بأنفسهم وعاشوا عيش البهائم. ومنهم عبدة الأوثان وهم قد علموا أن لهم ربا وجب طاعته ولكن حجبوا بظلمة الحس وكدورات النفس عن أن يتجاوزوا العالم الجسماني المحسوس في إثباته فاتخذوا ربا من هذا العالم، وهم أصناف: الأول صنف اتخذوا من الجواهر كالذهب والفضة أشخاصا مصورة وجعلوها آلهة، الثاني صنف ترقوا عن ذلك وقالوا: هذه الصور منحوتة نحن نحتناها والرب أعز من ذلك وأجمل فإذا رأوا إنسانا في غاية الجمال أو فرسا أو بقرا أو شجرا لها نوع اعتبار وخصوصية عبدوه وقالوا: هو ربنا.
الثالث: صنف ترقوا عن ذلك وقالوا: ينبغي أن يكون الرب نورانيا فعبدوا النار إذ وجدوها بهذه الصفة.
الرابع: صنف ترقوا عن ذلك وقالوا: النار تطفأ وتقهر فلا تصلح أن تكون ربا والرب يجب أن يكون نورانيا موصوفا بالعلو، فعبدوا النجوم كالشمس والمشتري والشعرى وغيرها، ومنهم فصلوا فقالوا: إن في هذا العالم خيرات وشرورا والخير نور والشر ظلمة وبينهما منازعة فوجب أن يكون الخير مستندا إلى النور، والشر إلى الظلمة، فأحالوا العالم إليهما وهم الثنوية. ومنهم جاوزوا الحس وقالوا:
الرب أعز من أن يكون محسوسا ولكن لم يتجاوزوا مرتبة الوهم والخيال فعبدوا موجودا قاعدا على العرش، وأخسهم رتبة المجسمة، ثم أصناف الكرامية، وأرفعهم درجة من نفى الجسمية وجميع عوارضها إلا الجهة فخصصوه بجهة فوق وهم المشبهة. ومنهم من ترقوا عن ذلك فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا منزها عن الجهات لكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم، وربما صرح بعضهم فقال: كلامه صوت ككلامنا. وربما ترقى بعضهم فقال:
ص:128
لا بل هو كحديث أنفسنا ولا صوت ولا حرف ولذلك إذا حقق القول رجعوا إلى التشبيه في المعنى وإن أنكروه لفظا إذ لم يدركوا كيفية إطلاق هذه الألفاظ في حق الله تعالى. وكل هؤلاء مشتركون في أنهم يدعون مع الله إلها آخر (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) ووراء هذه المذاهب وغيرها من المذاهب الباطلة مذهب صحيح وهو أن الصانع موجود قديم أزلي أبدي، له نعوت جلالية وصفات كمالية غير زائدة ولا تشابه بينه وبين خلقة أصلا لا بحسب الذات ولا بحسب الصفات والمتمسكون به هم المتمسكون بذيل الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وهم الذين خرقوا بذلك حجب الطبايع الظلمانية والنفسانية، وتجاوزوا عن المقايسات الوهمية والخيالية، ووصلوا إلى عالم التوحيد المطلق وشاهدوا رتبة الحق وعظمته وكماله وجلاله وجماله بعين البصيرة وهم بعد ما خرقوا تلك الحجب في حجب من نور عظمته كما ورد «أن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه كل من أدرك بصره» قيل: سبحات وجهه جلاله وعظمته.
وقيل: أضواؤه. وقيل: محاسنه. وقيل: غير ذلك. وإن أردت زيادة فيها فارجع إلى النهاية الأثيرية.
1 - محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا رفعاه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية، فلما حشد الناس قام خطيبا فقال: الحمد الله الواحد الأحد الصمد المتفرد الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان، قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه فليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال، كل دون صفاته تحبير اللغات وضل هناك تصاريف الصفات وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور.
فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليست له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود، سبحان الذي ليس له أول مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى، سبحانه هو كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته، وحد الأشياء كلها عن خلقه، إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها لم يحلل فيها فيقال: هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن، ولم يخل منها فيقال له: أين؟ لكنه سبحانه أحاط بها علمه وأتقنها صنعه وأحصاها حفظه لم يعزب
ص:129
عنه خفيات غيوب الهواء ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ولا ما في السماوات العلى إلى الأرضين السفلى.
لكل شيء منها حافظ ورقيب، وكل شيء منها بشيء محيط، والمحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد الذي لا يغيره صروف الأزمان ولا يتكأده صنع شيء كان، إنما قال لما شاء: كن فكان، ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ولا تعب ولا نصب، وكل صانع شيء فمن شيء صنع، والله لا من شيء صنع ما خلق، وكل عالم فمن بعد جهل تعلم، والله لم يجهل ولم يتعلم، أحاط بالأشياء علما قبل كونها، فلم يزدد بكونها علما، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها، لم يكونها لتشديد سلطان ولا خوف من زوال ولا نقصان ولا استعانة على ضد مناو، ولا ند مكاثر، ولا شريك مكابر، لكن خلائق مربوبون وعباد داخرون.
فسبحان الذي لا يؤوده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما برأ ولا من عجز، ولا من فترة بما خلق اكتفى، علم ما خلق وخلق ما علم، لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق، لكن قضاء مبرم وعلم محكم وأمر متقن، توحد بالربوبية وخص نفسه بالوحدانية واستخلص بالمجد والثناء وتفرد بالتوحيد والمجد والسناء وتوحد بالتحميد وتمجد بالتمجيد وعلا عن اتخاذ الأبناء وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء، وعز وجل عن مجاورة الشركاء، فليس له فيما خلق ضد ولا له فيما ملك ند ولم يشركه في ملكه أحد، الواحد الأحد الصمد المبيد للأبد، والوارث للأمد، الذي لم يزل ولا يزال وحدانيا أزليا قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور، الذي لا يبيد ولا ينفد، بذلك أصف ربي فلا إله إلا الله، من عظيم ما أعظمه، ومن جليل ما أجله، ومن عزيز ما أعزه، وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، ومحمد بن يحيى جميعا رفعاه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام)) رواه الصدوق في كتاب التوحيد مسندا من طريقين عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) (استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية) النهوض القيام إلى أمر بسرعة ومنه نهض الطائر إذا نشر جناحيه ليطير واستنهضه أمره بالنهوض وحثه (فلما حشد الناس) أي اجتمعوا يقال حشدوا يحشدون من باب ضرب إذا اجتمعوا، وكذلك احتشدوا وتحشدوا جاء فلان حاشدا ومتحشدا أي مستعدا ومتأهبا وفي بعض النسخ: «فلما حشر الناس
ص:130
بالراء» يقال:
حشرت الناس أحشرهم من باب ضرب ونصر أي جمعتهم، فالناس في نسخة الأصل مرفوع على الفاعلية، وفي هذه النسخة إما منصوب على المفعولية إن كان الفعل مبنيا للفاعل أو مرفوع إن كان الفعل مبنيا للمفعول (قام خطيبا فقال: الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد) (1) أشار بذكر الله إلى الذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال، وبالواحد إلى تقدس ذاته عن التركيب والتجزية ذهنا وخارجا، وبالأحد إلى تنزه صفاته عن التكثر والاختلاف، وبالصمد وهو المرجع للجميع في جميع الحوائج إلى امتناع التجزية في ذاته والزيادة في صفاته لاستلزام ذلك افتقاره المنافي لكونه صمدا على الإطلاق، والمتفرد إلى نفي الشريك عنه في الذات والصفات واستحقاق الحمد من جميع الجهات (الذي لا من شيء كان) (2) فلا مادة له ولا أصل له ولا جزء له ولا موجد له كما كان ذلك للإنسان فإن له مادة هي التراب والمني وله أصل هو الأبوان وله أجزاء تأليفية وفاعل يوجده. وفي وصفه تعالى بالوجود رد على الصنف الثان من الملاحدة، وفي تنزيه وجوده عن الأمور المذكورة رد على جميع الفرق المبتدعة والمذاهب الباطلة فإنهم وإن لم يصرحوا بافتقار وجوده إلى الأمور المذكورة لكن يلزمهم ذلك من حيث لا يشعرون (3) (ولا من شيء خلق ما كان قدرة) (4) الظاهر أن «كان» تامة بمعنى وجد وقدرة بالنصب على التميز أو بنزع
ص:131
الخافض وإن كان شاذا في مثله.
وفي بعض نسخ هذا الكتاب وكتاب التوحيد للصدوق «بقدرة» وهو يؤيد الثاني أي لم يخلق ما وجد من الممكنات بقدرته الكاملة من مثال سابق يكون أصلا له ودليلا عليه ولا من مادة أزلية كما زعمت الفلاسفة من أن الأجسام لها أصل أزلي هي المادة (1) بل هو المخترع للمكنات بما فيها من المقادير والأشكال والنهايات والمبتدع للمخلوقات بما لها من الهيئات والآجال والغايات بمحض القدرة على وفق الإرادة والحكمة، ويحتمل أن يقرأ قدرة بالرفع (2) على الابتداء أي له قدرة (بان
ص:132
بها) أي بتلك القدرة الكاملة التي لا يتأبى منها شيء (من الأشياء (1) وبانت الأشياء منه) لتحقق تلك القدرة له لا ليغيره (فليست له صفة تنال) أي ليس مطلق ما يوصف به من صفات الكمال أمرا تدركه عقول العقلاء وفهم الأذكياء لكمال عظمته، أوليست له صفة زائدة حتى تنال كما تنال صفاتنا الزائدة على ذو اتنا لتنزهه عن الكثرة مطلقا، أو ليست له صورة وهيئة تنالها الأفهام إذ العرب المثبتون للصفات إنما يعرفون منها الصور والهيئات، فنفي الصفة مستلزم لنفيهما في عرفهم (ولا حد يضرب له فيه الأمثال) حد الشيء منتهاه (2) والأمثال جمع المثل، ومثل الشيء بكسر الميم وفتحها نظيره كشبهة وشبهه، ولعل المقصود أنه ليس لوجوده نهاية يطرأ عليه العدم، ولا لذاته طبيعة امتدادية ينتهي إلى حد ونهاية، ولا لصفاته نهاية في القوة والكمال تقف عندها، ولا لحقيقته حد حقيقي يتصور بالكنه وإلا لجرى فيه حكم المخلوقات; لأن الحد بالمعاني المذكورة من صفاتهم ولو أحقهم، وصح أن يقال: هو مثلهم وأنه على الواجب بالذات محال (كل دون صفاته تحبير اللغات) تحبير الصوت والخط والشعر وغيرها تحسينه تقول: حبرت الشيء تحبيرا إذا أحسنته. والكلال: العجز والأعياء، تقول: كل اللسان عن البيان إذا أعيى عن أداء حقه وإسناده إلى التحبير مجاز يعني أعيى قبل الوصول إلى ذكر صفاته تحبير اللسان وعجز قبل البلوغ إلى وصف عظمتها تحسين البيان فعجز كل قائل عن ذكر كنه صفاته وأعيى كل واصف عن نيل حقيقة جلاله وكمالاته.
(وضل هناك تصاريف الصفات) قد استوفينا شرحه في الخطبة، وظهر لي الآن وجهان آخران; أحدهما: أنه ليس لجناب الحق تصاريف الصفات (3); لأن صفاته عين ذاته فلا صفات هناك.
ص:133
وثانيهما: أنه ليس له تصاريف الصفات وتغيرها وتبدلها; لأن كل ما اعتبره العقل والنقل له من الصفات الكمالية فإنما هو أزلا وأبدا لا يتطرق إليه التغير والتبدل أصلا (وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير) الملكوت فعلوت من الملك كالرهبوت من الرهبة، وقد يخص الملكوت بعالم المجردات والروحانيات ويخص الملك بعالم الشهادة وعالم الماديات والجسمانيات والتعميم هنا أولى، والعميقات جمع العميقة وهي صفة لمحذوف وهو الأفكار، والتفكير: التأمل في الشيء ليجد غوره وأفكر في الشيء وفكر فيه وتفكر بمعنى، يعني حار في إدراك حقائق ملكوته وخواصها وآثارها وعظمتها وكيفية ترتيبها على النظام الأكمل وكيفية وقوعها عن القدرة القاهرة وغير ذلك مما هو محل التعجب والحيرة الأفكار العميقة الواقعة في مذاهب التفكير وطرقه الخفية والجلية، فسبحان من لا يكون لنا سبيل إلى إدراك ملكه وملكوته فكيف يكون لنا سبيل إلى إدراك عظمته وجبروته (وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير) الرسوخ: الثبوت، يقال: رسخ الشيء رسوخا إذا ثبت، وكل ثابت راسخ ومنه (الراسخون في العلم) (1)وعلمه هنا مصدر مضاف إلى المفعول والضمير عائد إليه سبحانه، والجوامع وصف للكمالات المحذوفة يعني انقطع قبل تحقق الرسوخ في العلم بذاته وصفاته وأسراره سبحانه الكلمات الجامعة لأنحاء التفسير والتبيين لظهور أن تلك الكلمات لها معان ومفهومات حاصلة في الذهن وليس شيء منها هو الله تعالى ولا صفاته وإنما طريق معرفته والرسوخ في العلم به طور العقل العاري عن شوائب الأوهام (2) بأن يتلقى تلك
ص:134
المفهومات لا على وجه شعوره بما يشعر به من تلك الكلمات بل على وجه أعلى وأشرف بتعقل صرف، بريء عن علائق المواد، مجرد عن إدراك الوهم والحواس وتوابع إدراكاتهما من الأين والوضع والمقدار والكيف وغير ذلك مما لا يليق بجناب الحق فإذا أطلق عليه شيئا من أسمائه الحسنى مثل: الله والموجود والعالم والقادر والحي وغيرها ينبغي أن يحمله على أشرف مما يتخيله وأعلى مما يتصوره، ويعتقد أن ذاته ووجوده وعلمه وقدرته وحياته ليست كذات سائر الموجودات ووجودهم وعلمهم وقدرتهم وحياتهم ليخرج بذلك عن حد التشبيه المتعالى قدس الحق عنه.
(وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب) المكنون المستور يقال: كننت الشيء فهو مكنون أي سترته فهو مستور. المراد بغيبه المكنون: الأسرار الربوبية والأنوار الإلهية والصفات الكمالية المستورة عن أبصار ذوي البصائر بحجب ظلمانية وأستار نورانية، أما الحجب الظلمانية فهي الهيئات البدنية والظلمات النفسانية الحاجبة للنفس عن مشاهدة أنوار جلال الله وأسراره بالكلية، وأما الحجب النورانية فهي أنور العظمة المانعة من مشاهدة ذاته وصفاته وجلاله وكماله كما هي لمن خرق تلك الهيئات وخلص من تلك الظلمات ونزل في ساحة العز والجلال وقد احتجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحجاب يتلألأ كما دل عليه حديث المعراج فكيف غيره.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف (تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور) التيه: التحير، والدنو: القرب، وأدنى:
اسم تفضيل والأداني: جمع الدني وهو القريب، وضمير التأنيث للحجب، والإضافة في طامحات العقول ولطيفات الأمور من باب الإضافة في جرد قطيفة. و «في» متعلق بالطامحات، والطامح الأمر المرتفع يقال: طمح بصره إلى شيء إذا ارتفع إليه وبالغ ليراه: يعني تحيرت في أول حجاب من تلك الحجب وأقرب من تلك الأستار العقول الطامحة في الأمور اللطيفة للمبالغة في إدراكها وإدراك أسرارها فكيف حال العقول الغير الطامحة أعني العقول الناقصة وكيف حال بواقي الحجب التي هي أرفع وأعظم من المذكور، وفيه تنبيه على أنه لا يجوز للبشر أن يعتمد في معرفة الصانع بعقله وإن كان ذكيا فهيما بل يجب عليه أن يرجع إلى صاحب الوحي (1) وأهل الذكر وبالله
ص:135
التوفيق.
(فتبارك الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن) تبارك: إما مشتقة من البروك المستلزم للبقاء والثبات في موضع واحد أو من البركة وهي الزيادة، فهو بالاعتبار الأول إشارة إلى عظمته باعتبار دوام بقائه واستحقاقه قدم الوجود لذاته وثبوت وجوده لا عن ابتداء ولا إلى انقطاع، وبالاعتبار الثاني إشارة إلى فضله وإحسانه ووجوه الثناء عليه. والنيل: الإصابة، والهمة: العزم الجازم يقال: فلان بعيد الهمة إذا كانت إرادته تتعلق بعليات الأمور دون محقراتها.
والغوص: الغور والحركة في عمق الماء. والفطن بفتح الفاء وكسر الطاء: الذكي المتوقد، وبالعكس جمع الفطنة وهي في اللغة: الفهم وعند العلماء: جودة الذهن المعدة لا كتساب المطالب العلية، ولما كانت صفات كماله ونعوت جلاله في عدم الوقوف على حقائقها وأغوارها تشبه البحر الخضم الذي لا يصل الغائص إلى قعره كانت الفطنة المتحركة فيها شبيهة بالغائص في البحر فاستعير الغوص لحركات الفطن في عميقات غيوب ملكوته وأسرار عالم الغيب العميقة طالبة لتصورها كما هي والبلوغ إلى كنهها، ويفهم منه استعارة البلوغ لحركات الهمم البعيدة إذ هو حقيقة في لحوق جسم وجسماني بجسم وجسماني آخر، وهاتان الإضافتان في معنى الصفة أي لا يبلغه الهمم البعيدة ولا يناله الفطن الغائصة، ووجه الحسن أن المقصود هو المبالغة في عدم إصابة ذاته وصفاته وأسراره تعالى بالهمة من حيث هي بعيدة وبالفطنة من حيث هي غائصة، فالحيثية مقصودة بالقصد الأول فلذا قدم، فسبحان الذي كل ذي همة بعيدة في أنوار كماله حريق، وكل ذي فطنة غائصة في بحار جلاله غريق (وتعالى الله الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود) أي ليس لو جوده زمان متناه ولا زمان غير متناه; لأن موجد الزمان (1) يمتنع تقدير وجوده بالزمان; لأن
ص:136
وجوده لو كان زمانيا لزم تقدم الزمان عليه وإذا لم يكن زمانيا كان غنيا في وجوده عنه (ولا نعت محدود) أي ليس له نعت محدود بحد لغوي وهو النهاية ولا بحد حقيقي وهو المشتمل على الذاتيات أما الأول فلأنه ليس لمطلق ما يعتبر عقولنا من الصفات الكمالية والصفات السلبية والإضافية نهاية معقولة تنتهي عندها، وأما الثاني فلأن نعته تعالى ليس مركبا من الجنس والفصل وإلا لكان حادثا فيلزم نقصه تعالى وكونه محلا للحوادث وكلاهما باطل، ويمكن أن يؤول هذا القول بما يؤول به قولهم «ليس بها ضب ينجحر» أي: ليس بها ضب فينجحر، فيكون المراد أنه ليس له نعت فيحد، وهذا على ما هو الحق من أنه تعالى منزه من كل جهة عن الكثرة بوجه ما، وقد حصل في هذه القرائن الثلاث السجع المتوازي مع نوع من التجنيس (سبحان الذي) ترك العاطف لأنه تأكيد للسابق وتقرير لمضمونه (ليس له أول مبتدأ) بالرفع والتنوين معا أو بالرفع فقط لأنهم اختلفوا في صرفه (ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى) لأنه أزلي وأبدي فليس له ابتداء ولا انتهاء ولا فناء، والنفي راجع إلى القيد وإلا فهو الأول المطلق الذي لا شيء قبله، والآخر المطلق الذي لا شيء بعده، والغاية لكل شيء باعتبار أن مصاير الخلائق وعواقب الأمور إليه، فهو غاية مطالب السائرين ونهاية مقاصد الطالبين وهو الباقي بعد كل شيء، في وجوده الحق وكماله المطلق (سبحانه هو كما وصف نفسه) في القرآن الكريم وحين كان ولم يكن معه شيء لا كما وصف الظالمون المكذبون (والواصفون لا يبلغون نعته) وإن بالغوا; لأن عقول المقربين ونفوس المقدسين عاجزة عن إدراك كنه ذاته وحقيقة صفاته:
سبحان من تحير في ذاته سواه * فهم خرد بكنه كمالش نبرده راه از ما قياس ساحت قدسش بود * جنانك مورى كند مساحت گردون زقعر چاه (وحد الأشياء كلها عند خلقه (1) إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها) لعل المراد أنه ميز الأشياء عند خلقه لها في الأصول والمقادير والصور والأشكال والهيئات والصفات والأمزجة
ص:137
والأخلاق وغيرها إبانة لها من أن تشبهه تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، وإبانة له تعالى من أن يشبهها في شيء من ذلك; لظهور أن جميع ذلك من فيض الوجود الحق وجعل الجاعل المطلق فلو وقع بينهما تشابه في شيء منه لزم افتقاره تعالى إلى جعل جاعل وإفاضة مفيض، وساحة قدسه منزهة عن ذلك، والمراد أنه جعل للأشياء حدودا ونهايات أو ذاتيات هي محدودة ومعلومة بها ليعلم أنه تعالى لا يشبهها في ذلك لأنه لا يحد ولا يجري عليه صفات المصنوعات المحدودة بأحد الوجهين والله أعلم (لم يحلل فيها) أصلا لا على الجزئية ولا على الوصفية ولا على التمكن والتحيز (فيقال هو فيها كائن) (1) هذا بمنزلة قياس استثنائي تقريره إن حل فيها جاز أن يقال هو فيها كائن والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بطلان التالي فلاستحالة افتقار الواجب إلى الغير وتعينه به وامتناع دخوله في معلوله وكونه جزءا منه (ولم ينأ) أي لم يبعد (عنها فيقال هو منها بائن) أي هاجر بعيد بتراخي مسافة لأنه تعالى أقرب إلى كل شيء من نفسه ويحتمل أن يكون المراد بهاتين الفقرتين أنه لما كان الكون في المحل والنأي عنه والمباينة له أمورا إنما يقال على ما يصح حلوله فيه كان هو الله تعالى منزها عن الحلول وجب أن يمتنع عليه إطلاق هذه الأمور وإذ ليس هو بحال في الأشياء فليس هو بكائن فيها، وإذ ليس بكائن فيها فليس بناء عنها ولا مبائن لها (ولم يخل منها فيقال له أين) لما كان عدم خلوه من شيء من الأشياء سببا لعدم حصوله في أين ودليلا على عدم تحيزه، بحيز إذ الحاصل في أين والكائن في حيز قريب من بعض الأشياء وبعيد خال عن بعض آخر بالضرورة كان خلوه من الأشياء سببا لحصوله في أين وتحيزه بحيز، ودليلا عليه; لأن انتفاء السبب دليل على انتفاء المسبب فصح التفريع على المنفي وبعبارة أخصر هو مع كل شيء ولم يخل من شيء ما حتى يقال: أين هو (لكنه سبحانه أحاط بها علمه) إشارة إلى أن عدم خلوه من الأشياء عبارة عن إحاطة علمه بكلياتها وجزئياتها ومستقبلها وماضيها ونفوذه في كل مستتر وغايب بحيث لا يستره ساتر ولا يحجبه حاجب حتى أنه يعلم ما دق من عقائد القلوب وأسرار
ص:138
الصدور وشخوص لحظة وصدور لفظة وانبساط خطوة وحسيس نملة في ليل داج وغسق ساج (وأتقنها صنعه) (1) على وفق الحكمة في أكمل نظام وأفضل قوام وأحسن أحوال وأزين أشكال بحيث يتحير فيه فحول الحكماء وعقول العلماء، سبحانه أعطى كل شيء خلقه وأحكم به أمره (وأحصاها حفظه) نبه بذلك على إحاطة حفظه بجميع الأشياء تفصيلا وشمول علمه بها كما وكيفا وإحصائه لها عددا كما قال: (لقد أحصاهم وعدهم عدا). وقال: (وأحصى كل شيء عددا) وفيه انجذاب للنفوس البشرية من مقتضيات الطبيعة الناسوتية إلى الطاعة والانقياد له والميل إليه والردع عن المشتهيات لظهور أن علم العصاة بأنه لا يشذ أحد منهم عن إحاطة علمه وإحصائه جذاب إلى تقواه وبالله التوفيق (لم يعزب عنه خفيات غيوب الهواء) وهو الفضاء ما بين الأرض والسماء. وإضافة الخفيات إلى الغيوب بيانية، وإضافة الغيوب إلى الهواء ظرفية بتقدير «في» والمراد بالخفيات: الذرات المبثوثة وغيرها، وجعل الإضافة الثانية من باب جرد قطيفة والإضافة الأولى ظرفية أي الخفيات التي في الهواء الغايب عن الأبصار يأباه جمع الغيوب على الظاهر وإن كان المعنى أحسن وأتقن.
(ولا غوامض مكنون ظلم الدجى) الغوامض: جمع الغامض وهو خلاف الواضح، والدجى بضم الدال والقصر جمع دجية بالضم والسكون، وهي: الظلمة عند جمهور أهل اللغة أو شيوع الظلمة وإلباسها كل شيء بحيث لا يصل إليه البصر ولا يدركه النظر، لا نفس الظلمة عند بعضهم، والإضافة الأولى بيانية أو بتقدير «في» والإضافة الثانية بتقدير «في»، والإضافة الثالثة بيانية يعني لم يعزب عنه الغوامض أي الخفيات والأسرار التي هي في الأمر المكنون المستور في الظلمة الشديدة المانعة لنفوذ شعاع البصر بالكلية وذلك لأنه - تعالى شأنه - يدرك بذاته المقدسة كل شيء بما هو عليه لا بالبصر (ولا ما في السماوات العلى) جمع العليا (إلى الأرضين السفلى) فلا يصرفه شخص عن شخص، ولا يلهيه صوت عن صوت ولا يحجزه شيء عن شيء ولا يمنعه أمر عن أمر، فيه تنزيه لعلمه تعالى عن أن يكون مثل علم المخلوقين إذ كانوا لإدراكهم بعض الأشياء الخفية وبعض
ص:139
الأجرام السماوية والأرضية إدراكا ناقصا محجوبين عن إدراك ما وراه، وأما علمه تعالى فهو المحيط بالكل على وجه الكمال بحيث لا يحجبه السواتر ولا يخفى عليه السرائر، وقد كرر (عليه السلام) بيان إحاطة علمه بجميع الأشياء دفعا للأحكام الفاسدة الوهمية، فإن بعض القاصرين توهموا أنه لا علم له (1) قبل الإيجاد وبعضهم توهموا أنه لا علم له بالجزئيات، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
(لكل شيء منها) أي من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما (حافظ ورقيب الحافظ والرقيب المنتظر، فالعطف على الأول للتفسير، وعلى الثاني للجمع، والتقسيم أي: لكل شيء منها حافظ يحفظه على مقداره وشكله وصورته وغير ذلك مما يناسبه من حاله ويليق به من كماله، ورقيب ينتظر آثاره المطلوبة منه. ولعل فيه إشارة إلى الملائكة المدبرات للعلويات والسفليات، فمنهم الموكلون على السماوات يدبرون أمرها بأمر ربهم، ومنهم الموكلون على الأرضين، ومنهم الموكلون على الجبال، ومنهم الموكلون على السحاب، ومنهم الموكلون على الرياح، ومنهم الموكلون على المياه، ومنهم الموكلون على النبات، ومنهم أمناء لوحيه يحفظونه ويبلغونه إلى رسله، ومنهم المترددون بقضائه وأمره مرة بعد أخرى، ومنهم الحفظة لعباده وأعمالهم، ومنهم الخزنة لأبواب جنانه ونيرانه إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده وأمره إلا هو (2).
(وكل شيء منها بشيء محيط) كما هو المعروف من نضد هذا العالم وتركيبه على وجه يحيط بعضه ببعض وهذا أغلبي لبطلان التسلسل ووجوب الانتهاء إلى محيط غير محاط بشيء، ويحتمل
ص:140
أن يراد بالمحيط الخواص والصفات وأن يراد به الحافظ والرقيب على أن يكون تأكيدا لما قبله (والمحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد) المحيط مبتدأ والواحد خبر يعني المحيط علما وحفظا بما أحاط من تلك الأشياء مع المحاط به هو الواحد الأحد الصمد وفي ذكر هذه الأوصاف إشعار بعلة هذا الحكم أعني كونه تعالى محيطا بالجميع لا غيره لأنه إذا كان هو موصوفا بالوحدة الحقيقية ونعت الصمدية لا غيره كان هو المحيط بالجميع دون غيره.
(الذي لا تغيره صروف الأزمان) أي حوادثها ونوايبها; لما عرفت مرارا أنه تعالى ليس بزماني يدخل تحت صروف الزمان حتى تغيره ولامتناع لحوق التغير به; لأن التغير من لواحق الأمور المادية (1) وهو سبحانه منزه عن المادة ولواحقها.
(ولا يتكأده صنع شيء كان إنما قال لما شاء: كن، فكان) تكأدني الشيء أو تكآدني أي شق علي على تفعل وتفاعل بمعنى لا يشق عليه ولا يعجزه صنع أي شيء كان; لأن ذلك إنما يعرض لذي القدرة الضعيفة الناقصة، وقدرته تعالى على غاية الكمال، منزهة عن الضعف والنقصان، وهو سبحانه إنما قال لما شاء كونه وأراد وجوده: كن، فيكون ذلك الشيء من غير مهلة وتراخي، والمراد بقوله للشيء «كن» حكمه وقضاؤه عليه بالوجود لا التلفظ بهذا اللفظ والنطق به.
(ابتدع ما خلق بلا مثال سبق) (2) يعني أنه اخترع الأشياء على ما لها من المقادير والأشكال والنهايات والآجال والصفات والكمال على وفق الحكمة بلا مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه من خالق كان قبله (ولا تعب ولا نصب) التعب والنصب الكلال والأعياء، فالعطف للتفسير والتأكيد، وحمل أحدهما على كلال القوة الآلية والآخر على كلال القوة المدركة النفسية ممكن، ولما كان شأن من فعل فعلا من سائر الفاعلين لا يخلو عن تعب وكلفة ومشقة نزه فعله تعالى عما يلزم غيره من الأمور المذكورة لأنها من توابع الانفعالات العارضة للآلات النفسانية والقوى الجسمانية وقدسه تعالى منزه عنها.
ص:141
(وكل صانع شيء فمن شيء صنع، والله لا من شيء صنع ما خلق) إشارة إلى الفرق بين الصنايع البشرية وصنع الله تعالى بأن صنعه تعالى على سبيل الابداع والاختراع (1) دون الصنايع البشرية; وذلك لأن الصنايع البشرية إنما تحصل بعد أن ترسم في الخيال صورة المصنوع وتصور وضعه وكيفيته أولا وتلك الصور والتصورات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع وتصور مقادير وكيفيات خارجية له يشاهدها الصانع ويحذو حذوها، وتارة تحصل بمحض الإلهام كما يفاض على ذهن بعض من الأذكياء صورة شكل لم يسبق إلى تصوره فيتصوره ويبرز صورته في الخارج وليس شيء من هذين الفعلين اختراعا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني مع أن الفاعل يسمى مخترعا في العرف فلأن التحقيق يشهد بأنه إنما فعل على وفق ما وجد في ذهنه من الشكل والهيئة والمقدار الفائضة من مفيض الحق فيكون في الحقيقة فاعلا عن مثال سبق من الغير فلا يكون مخترعا، وكيفية صنع الله تعالى للعالم وجزئياته منزهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين، أما الأول فلأن الله تعالى (2) كان ولم يكن معه شيء فلم يكن في مرتبة وجوده مثال ومقدار ولا ممثل ومقدر حتى يعمل هو جل شأنه بمثله ويحذو حذوه وأما الثاني فلاستحالة حصول الصور والمقادير في ذاته تعالى (3) ولامتناع استفاضتها من الغير، فكان صنعه لا كصنع الغير وكان فاعلا من غير مثال على أحد الوجهين، فإذن صنعه محض الإبداع وفعله مجرد الاختراع على أبعد ما يكون عن حذو مثال، بخلاف صنع المخلوقين تبارك الله رب العالمين، وإنما كرر (عليه السلام) إبداعه واختراعه تعالى للتأكيد والمبالغة في نفي الافتقار والعجز والحدوث عنه تعالى وفي نفي القدم عن العالم.
(وكل عالم فمن بعد جهل تعلم) أما الإنسان فظاهر لأنه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم، وإنما خلقت له هذه الآلات البدنية ليتصفح بها صور المحسوسات ومعانيها ويتنبه لمشاركات بينها
ص:142
ومباينات فتحصل له التجربة وسائر العلوم الضرورية والمكتسبة من المبدأ الفياض بلا واسطة معين ومرشد أو بواسطة، وعلى التقديرين فهو من بعد جهل تعلم من الغير، وأما العقول القادسة (1) فلأنهم في مرتبة ذواتهم لكون علومهم زائدة عليها جاهلون متعلمون من الفياض على الإطلاق، وبالجملة كل عالم سواه متعلم (والله لم يجهل ولم يتعلم) من الغير; لأن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل إنما هو لذاته المقدسة عن شوائب النقص والافتقار فهو العالم المطلق الذي لا يحتاج في علمه إلى غيره بوجه من الوجوه (أحاط بالأشياء) كما هي من حقائقها ولوازمها وعوارضها وخواصها وآثارها وأقدارها وجوانبها وأقطارها وغاياتها (علما قبل كونها) أي قبل وجودها من كتم العدم (فلم يزدد بكونها علما); لأن ذاته بذاته مناط لظهور الأشياء وانكشافها عند ذاته وعلم أزلي بجميعها من كل وجه فلا يتصور في علمه الزيادة والنقصان.
(علمه بها قبل أن يكونها كعلمه) بها (بعد تكوينها) ليس المقصود ما يستفاد من ظاهر التشبيه وهو تحقق المغايرة بين العلمين من وجه، وتحقق المشاركة من وجه آخر، بل المقصود أن علمه
ص:143
بالأشياء في الصورتين واحد لا تفاوت فيه بوجه ما، وهذا تأكيد للسابق وتقرير لمضمونه.
(لم يكونها لتشديد سلطان) لأنه إنما يحتاج إلى الناصر والمعين ذو النقصان العاجز عن التصرف في ملكه وإجراء حكمه عليه، ولما كان - تعالى شأنه - هو الغني المطلق عن كل شيء وكان كل ما عداه مقهورا تحت قدرته القاهرة بالإيجاد والإبقاء والإفناء لم يحتج في سلطانه إلى أحد من خلقه.
(ولا خوف من زوال ولا نقصان); لأن ذلك الخوف من توابع الانفعالات ولواحق الممكنات القابلة في حد الذات للزوال والنقصان، ولما ثبت تنزهه تعالى عن ذلك لم يتصور أن يكون الغرض من إيجاده رفع ذلك الخوف عن نفسه (ولا استعانة على ضد مناو) أي معاد، من «ناوأه» مهموز اللام:
إذا عاداه، قال الجوهري: ناوأت الرجل مناوءة ونواء عاديته يقال: إذا ناوأت الرجال فاصبر. وربما لهم يهمز وأصله الهمز. وفي بعض النسخ على ضد مثاور بالثاء المثلثة بعد الميم والراء المهملة بعد الواو أي مواثب من ثار به الناس إذا وثبوا عليه (ولا ند مكاثر) أي متعرض للغلبة عليه، يقال:
كاثرناهم فكثرناهم أي غلبناهم بالكثرة، والضد والند في اللغة بمعنى المثل والنظير، ولا يبعد أن يراد هنا بالأول أعم من المساوي والأدون بقرينة ذكر المعادة معه إذ المعاداة قد تكون من الأدون وبالثاني أعم من المساوي والأعلى بقرينة ذكر الغلبة معه إذ الغلبة تكون من الأعلى غالبا (ولا شريك مكابر) يطلب الكبر والعظمة عليه وكل ذلك لانتفاء مبدأ الاستعانة وهو العجز فيه; لأن العجز من تناهي القوة والقدرة وقدس الحق منزه عنه أيضا لا ضد ولا ند ولا شريك له حتى يحتاج في دفعهم إلى الاستعانة بغيره من مخلوقاته، وفيه تنزيه له تعالى عن صفات المخلوقين وخواص المحدثين.
ولما نفى أن يكون الغرض من الإيجاد ما ذكر، أشار إلى ما هو الغرض منه بقوله: (لكن خلايق مربوبون وعباد داخرون) الدخور: الصغار والذل، يعني: لكنهم خلايق مربوبون لهم رب قاهر وعباد ذليلون لهم معبود غالب. والحاصل أنه خلقهم ورباهم من حد النقص إلى حد الكمال لإظهار ربوبيته وإعلان قدرته وطلب منهم العبادة وحثهم على طاعته فقال: (يا عباد فاتقون) فيجب على الكل أن يرتبط بربقة الذلة والمسكنة والحاجة إليه، وينادي بلسان الحال والمقال بالثناء المطلق عليه، وفيه جذب للخلق بذكر جذب المربوبية والعبودية والدخور إلى ما خلقوا لأجله كما قال
ص:144
سبحانه: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)(1).
(فسبحان الذي لا يؤوده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما برأ) كما قال سبحانه: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن)(2) وذلك لأن إيجاده وتدبيره ليس بتحريك آلة جسمانية ولا استعمال روية نفسانية حتى يعرض له الثقل والكلال، إنما هو بمجرد العلم بالمصلحة (3) ومحض تعلق الإرادة والمشية وتدبيره يعود إلى تصريفه جميع الذوات والصفات وغيرها مما يناسب كل شيء ويليق به دائما تصريفا كليا وجزئيا على وفق حكمته وعنايته وإنما قال: ما ابتدأ ليكون سلب الثقل والأعياء عنه أبلغ; إذ ما ابتدئ من الأفعال يكون المشقة فيه أتم كما يرشد إليه قوله تعالى:
(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير).
(ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى) «من» علة ل «اكتفى»، وبما خلق متعلق بمدخولها أو ب «اكتفى»، والعجز والفترة متقاربان في المفهوم ولا يبعد أن يكون أحدهما لضعف القوة الفاعلية والآخر لضعف القوة الآلية أو يكون أحدهما لضعفهما والآخر لضعف العلم وقصوره عن تصور ما يريد العالم فعله، والحاصل أنه ليس الاقتصار على ما خلقه لعجزه عن الزائد وفتوره بسبب ما خلقه عن خلق ما سواه; لأن العجز والفتور من جهة تناهي القوة الجسمية وانفعالها وتأثرها مما يمانعها في التأثير، وهو منزه عن جميع ذلك (علم ما خلق وخلق ما علم) يعني علم في الأزل ما خلقه وخلق ما علمه في الأزل، والحاصل أن الاكتفاء بما خلق ليس لأجل العجز والفتور بل لأجل المصلحة واقتضاء الحكمة إذ كل ما قدره في الوجود من الممكنات فهو على طبق مصلحته ووفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار لاختل نظام الكل بل نظام كل واحد، فالاكتفاء بما خلق لوقوعه على وجه الحكمة والنظام الأتم الأكمل الذي ليس في الإمكان أن يكون على أتم منه وأحسن، ومن اعتبر القابلية والاستعداد في الإيجاد وإفاضة الوجود فهو يقول: الاكتفاء بما خلق
ص:145
دون الزايد عليه إنما هو لنقص في القابل لا لقصور في الفاعل لأنه مفيض الخير والجود والوجود من غير بخل ولا منع ولا تعويق على كل قابل بقدر ما يقبله ويستعد له، فكل ما أوجده أوجده لكونه قابلا مستعدا له. وكل ما لم يوجد لم يوجده لعدم كونه قابلا مستعدا له صالحا لإفاضة الوجود عليه.
(لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق) يعني خلق ما علم في الأزل وجه صلاحه لا بالرؤية والتفكر في تحصيل علم حادث أصاب جل شأنه بذلك العلم الحادث ما خلق وعلم وجه الصواب في خلقه لاستحالة أن يكون له علم حادث وإلا لكان جاهلا قبل حدوثه وإنه باطل، ولأن التفكر من لواحق النفوس البشرية بآلة بدنية وقد تنزه قدسه تعالى عن ذلك.
(ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق) وصار ذلك منشأ لعدم خلقه إياه بل عدم خلقه لعلمه بأنه لا مصلحة في وجوده. وفيه إشارة إلى كمال علمه وامتناع طريان الشبهة عليه. وسر ذلك أن الشبهة إنما تعرض العقل في الأمور المعقولة الصرفة الغير الضرورية; وذلك لأن الوهم لا يصدق حكمه إلا في المحسوسات (1) وأما الأمور المعقولة فحكمه فيها كاذب فالعقل حال استفصاله وجه الحق فيها يكون معارضا بالأحكام الوهمية، فإذا كان المطلوب غامضا فربما كان في الأحكام الوهمية ما يشبه بعض أسباب المطلوب فيتصوره النفس بصورة الحق ويعتقده مبدأ للمطلوب فينتج الباطل في صورة المطلوب وليس به، ولما كان - تعالى شأنه - منزها عن القوة البدنية والأحكام الوهمية وكان علمه الكامل الأزلي الفعلي من كل وجه لذاته المقدسة، لم يجز أن تعرض
ص:146
له شبهة أو يدخل عليه شك لكونهما من عوارضها.
(لكن قضاء مبرم) أي بل إيجاد ما أوجده بدون الزيادة ودخول الشبهة عليه قضاء محكم وحكم موثق لا يحتمل الزيادة والنقصان (وعلم محكم) أي بريء من فساد الشبهة والشك والغلط، وهو إشارة إلى قدره الذي هو العلم الأزلي بوجود الكائنات على مقاديرها ومنافعها وخواصها وآثارها على ما هي عليه في نفس الأمر، وهذا كالأساس لبناء القضاء أعني خلق الأشياء وإيجادها في الأعيان، فالقضاء تابع للقدر كما أن بناء الباني بيتا تابع لتقديره أولا ذلك البيت ووضعه وهيئته ومقداره في نفسه، إلا أن الباني لقصور علمه قد يسنح له في أثناء البناء تغيير بعض ما قدره أولا، والصانع الحق لكمال علمه يوجد ما قدره أزلا من غير تغيير وتبديل وزيادة ونقصان.
(وأمر متقن) أي محكم لا يرد، لكونه واقعا على وفق الحكمة والمصلحة.
(توحد بالربوبية) أي تفرد بالربوبية المطلقة والتدبير في نظام العالم لا يشاركه أحد; إذ كل رب ومالك سواه فإنما تثبت له هذه الصفة بالإضافة إلى بعض الأشياء وهو مربوب مملوك له تعالى شأنه.
(وخص نفسه بالوحدانية) إذ الوحدانية المطلقة إنما هي له وحده، وكل ما سواه ولو كان بسيطا فهو زوج تركيبي ومركب حقيقي إذ له ذات وإنية، وصفات وأينية، وسمات وكيفية، فهو متكثر من جهات متعددة.
(واستخلص بالمجد والثناء) المجد: الكرم، والمجد أيضا: الشرف، والثناء: المدح والتعظيم وذكر الخير وأسبابه. إذا عرفت هذا فنقول: له المجد على الإطلاق وله الثناء بالاستحقاق، لا يشاركه فيهما موافق رشيد، ولا ينازعه فيهما مخالف عنيد، أما الأول فلأن وجوده أشرف الوجودات وأفضلها وذاته أشرف الذوات وأكملها، وموائد كرمه مبسوطة على ساحة الإمكان، وعوائد نعمه منشورة على أهل المنع والإحسان، وليست هذه الكرامة لأحد سواه ولا يدعي هذه الشرافة أحد عداه، وأما الثاني فلأن الثناء إما بإزاء شرف الذات والصفات والوجود أو في مقابل المن والإعطاء والجود، وقد عرفت أن شيئا من ذلك لا يوجد في غيره جل شأنه ولا يتحقق لأحد سواه عظم برهانه. وكل من عداه وإن كان شريفا فهو ذليل وإن كان كريما فهو بخيل، وكل من سواه إن استحق الثناء في الجملة فلأن الله تعالى أولاه، ومن المعلوم أن العبد وما في يده لمولاه.
(وتفرد بالتوحيد والمجد والسناء) السناء بالقصر: الضوء، وبالمد: الرفعة، والسني: الرفيع، والأخير هو المراد هنا على الأظهر، أما تفرده بالتوحيد والمراد به التوحيد المطلق أعني التوحيد
ص:147
في عين الذات لانتفاء التركيب والأجزاء، والتوحيد في مرتبة الذات لانتفاء زيادة الوجود، والتوحيد بعد مرتبة الذات لانتفاء زيادة الصفات فظاهر; لأن غيره إما مركب أو بسيط، فإن كان مركبا انتفى عنه التوحيد بجميع أقسامه إذ له أجزاء ووجود وصفات زائدة عليه فهو متكثر من جميع الجهات، وإن كان بسيطا انتفى عنه التوحيد بالمعنيين الأخيرين. وأما تفرده بالمجد فقد عرفت وجهه ولا يبعد أن يراد بالمجد هنا الشرف والعز وفي السابق الكرم بقرينة ذكر الثناء معه; لأن الظاهر من الثناء أن يكون مقرونا بالكرم والإعطاء، وأما تفرده بالسناء أعني الرفعة والعلو على الإطلاق فلكونه أرفع وأعلى من غيره عموما بالرتبة والعلية إذ مصير جميع الخلائق في سلسلة الحاجة بذاوتهم ووجوداتهم وكمالاتهم إليه.
(وتوحد بالتحميد) أي بتحميده لنفسه كما هو أهله ولا يشاركه في تحميده كما هو حقه أحد حتى الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) كما يرشد إليه قوله (صلى الله عليه وآله) «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» أو بتحميد غيره له يعني لا يستحق أحد بتحميد الخلائق له هو، إلا هو. وأما تحميد غيره لنعمة أو كمال فيه فإنما هو تحميد له - تعالى شأنه - في الحقيقة كما بين في موضعه.
(وتمجد بالتمجيد) تمجيده يعني نسبته إلى المجد; يحتمل الأمرين مثل السابق (وعلا عن اتخاذ الأبناء) لأنه يمتنع لحوق مرتبته بمراتب الأجسام التي هي في معرض الزوال، ولأن مفهوم الابن هو الذي يتولد وينفصل عن آخر مثله في نوعه، وقدسه تعالى منزه عن المشابهة والمماثلة.
(وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء) لأنه يمتنع عليه الملامسة ولوازمها من الجسمية والشهوة والتركيب وطهارته تعود إلى تنزهه عن المواد وعلايقها من الملامسة والمماسة وغيرها.
(وعز وجل عن مجاورة الشركاء) المجاورة بالجيم على ما رأيناه من النسخ أو بالحاء على احتمال، ووجه ذلك أنه لو كان له شريك كان هو ناقصا في ذاته لافتقاره إلى ما به الامتياز، وفي فعله لعدم اقتداره على التصرف في ملكه إلا بإذن الشريك، والنقص عليه محال. وأيضا: لو كان له شريك يحاوره ويكالمه في خلقه ويستعين به في كيفية الإيجاد وحفظ نظام الموجودات حتى يكون إيجاده وحفظه أقرب إلى الصواب لكان محتاجا إلى معين وظهير، والحاجة يستلزم الإمكان المنزه قدس الواجب بالذات عنه.
(فليس له فيما خلق ضد) (1) يضاده في إمضاء إرادته ويمنعه من إجراء قدرته أو يرده عن الخطأ
ص:148
إلى الصواب ويهديه إلى الرأي الصحيح في كل باب لبراءة ذاته وقدرته وعلمه عن النقصان التابع للإمكان (ولا له فيما ملك ند) (1) أي مثل ونظير في ذاته وصفاته ويفعل مثل فعله (ولم يشركه في ملكه أحد) لتقدسه عن المشاركة وتنزهه عن صفات المخلوقين (الواحد الأحد الصمد المبيد للأبد) أي المهلك المفني للدهر والزمان والزمانيات (والوارث للأمد) أي للغاية ومنتهى المدة المضروبة للزمانيات، فالأبد والأمد والابتداء والانتهاء وجميع آثاره في عالم الأمر والخلق بأسرها تنتهي إليه انتهاء في أوليتها بالإيجاد وفي آخريتها بالإفناء، وهو أول كل شيء وآخره، ووارث كل شيء ومالكه وهو المستحق للأزلية والأبدية والبقاء وكل ما سواه مستحق للحدوث والعدم والفناء، وفيه رد على الدهرية وعلى من اعتقد قدم الزمان. وبالجملة كما أنه مبدأ الزمان والخلق فهو مرجعهما أيضا، ولما كان ذلك إشارة إلى أنه دائم متوحد موجود أزلا وأبدا، عقبه بقوله:
(الذي لم يزل ولا يزال وحدانيا) أي منسوبا إلى الوحدة المطلقة للمبالغة في وحدته (أزليا) أي منسوبا إلى الأزل حيث لم يكن لوجوده أول (قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور) البدء بفتح الباء وسكون الدال والهمزة أخيرا مصدر «بدأت الشيء»: فعلته ابتداء، والدهر: الزمان، وجمعه باعتبار أجزائه التي كل واحد منها زمان، والمراد بصروف الأمور إما إيجادها; لأن فيه صرفا لها من العدم إلى الوجود أو أعدامها; لأن فيه صرفا لها من الوجود إلى العدم، ولفظة قيل ظرف لقوله «لم يزل ولا يزال» أي لم يزل قبل بدء الدهور، ولا يزال بعد صروف الأمور أو لقوله «وحدانيا» أي هو واحد لا يشاركه أحد في ذاته ووجوده وصفاته وأفعاله وتدبيره قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور، ولما أشار بهذا إلى أنه باق أبدا أشار إلى سلب ما ينافي بقاءه للتأكيد والتقرير بقوله:
(الذي لا يبيد ولا ينفد) أي لا يهلك ولا ينفد وجوده; لأن الهلاك والنفاد من صفات الممكن الذي هو في مرتبة ذاته باعتبار اتصافه بوصف الإمكان موصوف بالعدم والبطلان، والحق الثابت بالذات بريء عن الاتصاف بأمثال هذه الصفات.
(بذلك أصف ربي) أي بما ذكرته من الثناء والتوحيد والتنزيه أصف ربي لا بما ذكره الواصفون المشبهون له بخلقة. ولما ظهر مما ذكر أنه المستحق للصفات الإلهية والمستجمع لها بحيث لا يوجد شيء منها في غيره أشار إلى التصريح بتفرده بها وتوحده بمقتضاها بقوله: (فلا إله إله الله) ثم وصفه بالعظمة والجلال، والغلبة على الإطلاق على سبيل التعجب بقوله: (من عظيم ما
ص:149
أعظمه،ومن جليل ما أجله، ومن عزيز ما أعزه) للتنبيه على أن أحدا لا يقدر على معرفة حقيقة هذه الصفات وجلالة قدرها، ولإشعار بأنه وجب الانقياد له والإيمان به والطاعة له، ولفظة «من» بيان وتفسير لقوله «الله» وترجمة عنه.
(وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا) تنزيه لجناب الحق عما ينشب إليه المبتدعة من التشبه والتجسم والتصور بصورة وغير ذلك من الأقاويل الكاذبة وهؤلاء متشاركون في إنكار الصانع مثل الملاحدة وإن لم يصرحوا بإنكاره; لأن الثابت بزعمهم ليس بصانع، والصانع الحق ليس بثابت عندهم.
وهذه الخطبة من مشهورات خطبه (عليه السلام) حتى لقد ابتذلها العامة وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فهم، فلو اجتمع ألسنة الجن والانس ليس فيها لسان نبي على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به - بأبي وأمي - ما قدروا عليه، ولو لا إبانته (عليه السلام) ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد. ألا ترون إلى قوله: «لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان» فنفى بقوله: «لا من شيء كان» معنى الحدوث وكيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال، نفيا لقول من قال: إن الأشياء كلها محدثة بعضها من بعض وإبطالا لقول الثنوية الذين زعموا أنه لا يحدث شيئا إلا من أصل ولا يدبر إلا باحتذاء مثال، فدفع (عليه السلام) بقوله: «لا من شيء خلق ما كان» جميع حجج الثنوية وشبههم،; لأن أكثر ما يعتمد الثنوية في حدوث العالم أن يقولوا: لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء، فقولهم «من شيء» خطأ، وقولهم: «من لا شيء» مناقضة وإحالة، لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه، فأخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة على أبلغ الالفاظ وأصحها فقال: «لا من شيء خلق ما كان» فنفى «من» إذ كانت توجب شيئا، ونفى الشيء إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا، لا من أصل أحدثه الخالق، كما قالت الثنوية: إنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثال.
ثم قوله (عليه السلام): ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه إلا مثال، كل دون صفاته تحبير اللغات فنفى (عليه السلام) أقاويل المشبهة حين شبهوه بالسبيكة والبلورة وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء وقولهم: «متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية ولم ترجع إلى إثبات هيئة لم تعقل شيئا فلم نثبت صانعا» ففسر أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه واحد بلا كيفية وأن القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة.
ص:150
ثم قوله (عليه السلام): الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ثم قوله (عليه السلام): لم يحلل - في الأشياء فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن فنفى (عليه السلام) بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة، ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة ومباينة الأجسام على تراخي المسافة.
ثم قال (عليه السلام): لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير وعلى غير ملامسة.(1)
(وهذه الخطبة من مشهورات خطبه (عليه السلام) حتى لقد ابتذلها العامة) أي عظموها وأشهروها فيما بينهم حتى اشتهرت وصارت مبتذلة، غير متروكة.
(و هي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها) لاشتمالها على ما لا مزيد عليه من أمر التوحيد المطلق والتنزيه المحقق وتضمنها على إشارات لطيفة واعتبارات صحيحة من الصفات الكمالية والصفات الإضافية والسلبية.
(فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس) (2) وتعاضدت قلوبهم واستظهر بعضهم من بعض (ليس فيها
ص:151
لسان نبي) حال عن الألسنة (على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتي به - بأبي وأمي) صلوات الله عليه (ما قدروا عليه) لظهور أن علم التوحيد من جهة الوحي، والعقل البشري عاجز عن إدراك ما في عالم القدس بالاستقلال. وقوله: «بأبي وأمي» كلمة معتادة للعرب يقال لمن يعز عليهم، ولا يختلج في وهمك أنه كيف يحسن التفدية هنا بعد الموت وهي غير ممكنة لأنه لا بشرط في إطلاقها في عرفهم إمكان الفدية وليس الغرض منها تحقيق الفدية بل تخييلها وإيهامها للاسترقاق وتخييل المقول له أنه عزيز في نفس القائل إلى غاية أنه أرجح من أبيه وأمه بحيث يفديه بهما، وظاهر أنه مما يفعل في الطبع ميلا من المقول له (ولولا إبانته (عليه السلام)) وتمييزه للحق عن الباطل في أمر التوحيد (ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد); لأن سبيل التوحيد دقيق وبحر معرفته عميق يعجز الغواصون قبل الوصول وإن بالغوا ويضل الوصافون قبل البلوغ وإن جاهدوا، وقد ضل جمع كثير من المتكلمين بأوهامهم وجم غفير من المعتمدين بأفهامهم في أول مرتبة من مراتب السلوك وأول ظلمة من ظلمات الشكوك.
(ألا ترون إلى قوله) في وصف ذات الواجب (لا من شيء كان) (1) وفي وصف فعله إيجاده (ولا من شيء خلق ما كان فنفى بقوله لامن شيء كان معنى الحدوث) عن ذاته تعالى إذ حدوث كل حادث يستلزم أن يكون وجوده من شيء (2) ونفي اللازم مستلزم لنفي الملزوم.
(وكيف أوقع) عطف على قوله «نفى» عطف الإنشاء على الإخبار، ومن لم يجوز ذلك فله أن يقول:
هذا الكلام وإن كان بحسب الظاهر إنشاء للتعجب عن الإيقاع لكنه في الحقيقة إخبار
ص:152
بحصول التعجب له، وهذا القدر كاف في صحة العطف.
(على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال، نفيا لقول من قال) من الدهرية والملاحدة و «نفيا» مفعول له لقوله أوقع.
(إن الأشياء) أي الأشياء الجزئية (كلها محدثة بعضها من بعض) (1) على سبيل التسلسل والتعاقب في الجزئيات الغير المتناهية والنوع منضبط تحتها، فإنهم يقولون: كل واحد من أفراد الإنسان مثلا محدث ونوعه قديم (2) وليس ثم إنسان أول وإنما هو إنسان من نطفة والنطفة من إنسان لا إلى النهاية ولهذا ينكرون وجود الصانع، تعالى عما يقولون (وإبطالا لقول الثنوية) (3) وهم الذين يثبتون إلها نورانيا وإلها ظلمانيا ينسبون إلى الأول الخيرات وإلى الثاني الشرور، ولعل المراد بالثنوية هنا القائلون بالمادة وأزليتها وأنه لا يحدث شيء إلا من مادة أزلية بحسب استعداداتها وسموا ثنوية لأنهم حكموا بسرمدية المادة وأزليتها (الذين زعموا
ص:153
أنه لا يحدث شيئا إلا من أصل ولا يدبر) شيئا (إلا باحتذاء مثال) يحذو حذوه وينظر إليه ويعمل مثله وهم أيضا يقولون بقدم الأنواع والأصول (1) مثل الملاحدة إلا أنهم يقرون بوجود الصانع المحدث لأ فرادها على وجه الاحتذاء، بخلاف الملاحدة فإنهم يسندون حدوث الأفراد إلى الطبايع.
(فدفع (عليه السلام) بقوله: لا من شيء خلق ما كان جميع حجج الثنوية وشبههم) العطف للتفسير والتنبيه على أن ما هو حجة بزعمهم فهو شبهة منسوجة من الباطل في الحقيقة (لأن أكثر ما يعتمد الثنوية) المراد بالأ كثرية الأ كثرية بحسب القوة والاستعمال في مقام الاحتجاج لا الأ كثرية بحسب العدد فلا يرد أن ما نقله منهم واحد فلا يصح وصفه بالأ كثرية (في حدوث العالم) أي في حدوث العالم من أصل ومثال كما هو مذهبهم أو في نفي حدوث العالم على سبيل الإبداع والاختراع كما هو الحق (أن يقولوا: لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء) أي من مثال سابق بالاقتداء به وإجراء مثل ما وقع فيه من التدبير على خلقه (أو من لا شيء) والثاني باطل إذ لا يجيء من لا شيء شيء بالضرورة فتعين الأول وهو المطلوب.
الجواب أن كل واحد من شقي الترديد باطل وأن الشق الثاني ليس نقيضا للشق الأول حتى يلزم من بطلان الثاني كما قالوا ثبوت الأول ومن بطلانهما كما قلنا ارتفاع النقيضين، وإنا نختار شقا ثالثا هو النقيض للأول وهو: أنه خلق لا من شيء. أما وجه بطلان شقي الترديد فأشار إليه المصنف بقوله (فقولهم من شيء خطأ) لأنه يستلزم عجز الواجب وسلب التدبير عنه وافتقاره إلى الغير في تنفيذ
ص:154
قدرته وثبوت قديم غيره وكل ذلك محال (وقولهم من لا شيء مناقضة وإحالة) المحال من الكلام بالضم ما عدل عن وجهه كالمستحيل وأحال وأتى بالمحال (لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه) يعني أن لفظة «من» الابتدائية توجب شيئا يقع الابتداء منه، ومدخولها وهو لفظة لا شيء ينفي ذلك الشيء ضرورة أن اللا شيء لا يصدق على شيء من الأشياء، فبين مفهوم «من» ومفهوم اللاشيء تناقض، فلا يصح قولهم «من لا شيء» أيضا، وإذا ثبت بطلان شقي الترديد كليهما ثبت أنه لا تناقض بينهما. وأما الشق الثالث فهو ما اختاره (عليه السلام) كما أشار إليه المصنف بقوله (فأخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة) أي هذه العبارة المشتملة على الترديد أو قولهم خلق الأشياء من لا شيء (على أبلغ الألفاظ وأصحها) من حيث اللفظ والمعنى (فقال (عليه السلام) لا من شيء خلق ما كان) فإنه رد عليهم بأن ترديدهم ليس بحاصر لعدم وقوعه بين النفي والإثبات فإن قولهم «من لا شيء» ليس رفعا ونقيضا لقولهم «من شيء» بل قولنا «لا من شيء» دفع ونقيض له فإن نقيض الابتداء من شيء سلب الابتداء من ذلك الشيء لما تقرر من أن نقيض كل شيء رفعه لا الابتداء من «لا شيء» إذ لا تناقض بين الموجبتين، وإن كان المحمول في إحداهما متضمنا للسلب، ولما لم يكون ترديدهم حاصرا اختار (عليه السلام) شقا ثالثا وهو أنه خلق الأشياء لا من شيء (فنفى من) بإدخال حرف النفي عليها وأنكر عليهم إدخال «من» على حرف النفي (إذ كانت) يعني «من» (توجب شيئا) (1) فلو دخلت على حرف النفي كما قالوا لزم التناقض في قولهم «من لا شيء» كما عرفت (ونفي الشيء) إشارة إلى أن النفي في قولنا «لا من شيء» راجع إلى مفهوم «من» الابتدائية، ومفهوم مدخولها وهو الشيء كليهما، لا إلى مفهوم من وحده حتى يلزم وجود شيء قبل خلقه للأشياء.
(إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا لا من أصل) تعليل لنفي «من» ونفي الشيء جميعا وهو في الحقيقة سند للمنع كما يظهر بالتأمل.
(أحدثه الخالق) (2) لا من أصل، وهذا تأكيد للسابق ومبالغة في أن خلقه بمحض الاختراع من
ص:155
ص:156
غيرأن يكون مأخوذا من شيء وكاينا على مثاله، والضمير المفعول في «أحدثه» يعود إلى كل شيء.
(كما قالت الثنوية) متعلق بالمنفي الذي في قوله «لا من أصل» (إنه خلق من أصل قديم) هو أصل للأشياء الحادثة ومادتها (فلا يكون تدبيرا لا باحتذاء مثال) صفة كاشفة لقوله «تدبيرا» إذ التدبير وهو رعاية كل ما له مدخل في نظام كل واحد من أجزاء العالم من الأمور الكلية والجزئية إنما يتحقق إذا لم يكن باحتذاء مثال وإلا فالتدبير لخالق المثال لا لمن تبعه. وفي بعض النسخ إلا بأداة الاستثناء وهو الأوفق بمذهبهم لأنهم يسمون رعاية المصالح على سبيل الاحتذاء تدبيرا كما يرشد إليه الكلام السابق.
(ثم قوله (عليه السلام)) «قوله» بالجر عطفا على قوله «لا من شيء كان» أي ألا تنظرون إلى قوله (عليه السلام).
(ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال، كل دون صفاته تحبير اللغات، فنفى (عليه السلام) أقاويل المشبهة) المتبعين لأوهامهم وأحكامها الفاسدة المحجوبين عن ربهم بظلمات نفوسهم (حين شبهوه بالسبيكة) أي بالفضة المذابة يقال: سبكت الفضة أسبكها سبكا أذبتها، والفضة سبيكه (والبلورة) البلور مثل التنور والسنور: جوهر معروف والجامع بينهما هو الصفاء واللون.
(وغير ذلك من أقاويلهم من الطول) قال بعضهم: طوله سبعة أشبار من شبر نفسه. وقال بعضهم غير ذلك (والاستواء) على العرش ونحوه حتى ذهب بعضهم إلى أنه قد ينزل عنه لأمر ما ثم يصعد إليه.
(وقولهم) بالنصب عطفا على الأقاويل أي فنفى (عليه السلام) قولهم.
(متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية) يكون هو عليها سواء كانت قارة أو غير قارة (ولم ترجع إلى إثبات هيئة) أي صفة قارة يكون هو عليها (لم تعقل شيئا فلم تثبت) أي العقول حينئذ (صانعا); لأن العقل لا يحكم بوجود شيء لا يدركه أصلا، وهم قالوا ذلك بحكم العادة في إدراك النفس للأمور المعقولة من الأمور الممكنة باستعانة الوهم والخيال، فإن النفس إذا توجهت إلى أمر معقول تستعين بالقوة الوهمية والخيالية على إثبات ذلك المعنى المعقول وضبطه وتتأبى عن الإشارة إليها إلا بمشاهدة الوهم والخيال واستثبات حد وكيفية وهيئة يكون هو عليها فظنوا أن عالم قدس الحق وعالم التوحيد مثل هذا العالم فأجروا فيه حكم هذا العالم واعتقدوا فيه بالمشابهة
ص:157
والمماثلة والكيفية والهيئة إلى غير ذلك من العقائد الباطلة الفاسدة (فعبر أمير المؤمنين (عليه السلام)) عبر من التعبير بالعين والباء الموحدة وفي بعض النسخ «ففسر» من التفسير بالفاء والياء والمثناة من تحت وهو الأظهر (أنه واحد بلا كيفية) من الكيفيات التي يثبتها المشبهة (وأن القلوب تعرفه بلا تصوير) من التصويرات التي يعقلها المبتدعة (ولا إحاطة) بكنه ذاته وصفاته.
فإن قلت: أين يفهم هذه الأمور من كلامه (عليه السلام).
قلت: يفهم من مجموع منطوق كلامه ومفهومه كما لا يخفى على المتأمل.
(ثم قوله (عليه السلام)) وهو أيضا عطف على قوله «لا من شيء كان» وكذا ما بعده («الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود» ثم قوله (عليه السلام) «لم يحلل في الأشياء (1) فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن» فنفى (عليه السلام) عنه بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام) والظاهر أن الكلمتين هما القولان ولكن الظاهر من سياق كلام المصنف فيما يذكره من الدليل أن نفي صفة الأعراض والأجسام بالقول الأخير وفي فهم هذا النفي من القول الأول خفاء يزول بالتأمل (لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة) أي تباعد بعضها عن بعض بحسب تباعد الأمكنة والمباينة بينها بتراخي مسافة وحيث لم يكن الله تعالى بعيدا عن شيء من الأشياء ولا مباينا له بهذا
ص:158
المعنى لم يكن جسما (ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة) إذ مماسة شيء أن يلاقي بعض من ذاك بعضا من هذا مع قيام كل واحد منهما بذاته، والعرض قائم بغيره فلا يتحقق المماسة بينه وبين الجسم (ومباينة الأجسام على تراخي المسافة) المباينة عطف على المماسة فإن العرض الحال في الأجسام غير مباين لها على تراخي مسافة بينهما وحيث لم يكن الله تعالى حالا في الأجسام لم يكن عرضا.
(ثم قال (عليه السلام): «لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه») بإفاضته على كل شيء ما يليق به وإنما غير الأسلوب; لأن هذا القول ليس من قبيل الأقوال السابقة إذ المقصود من هذا القول هو الإثبات دون النفي (أي هو في الأشياء بالإحاطة) (1) أي بإحاطة علمه بها ونفوذه في بواطنها بحيث لا يخفى عليه ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين وحركة الجفون وخيانة العيون وأسرار القلوب وموارد الغيوب ورجع الحنين وانقلاب الجنين (والتدبير على غير ملامسة) أي بتدبير الأشياء ورعاية مصالحها من غير مماسة بها وملامسة لها; لأن ذلك من صفات الأجسام وقدسه تعالى منزه عن الاتصاف بها.
ص:159
2 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك اسمه وتعالى ذكره وجل ثناؤه سبحانه وتقدس وتفرد وتوحد ولم يزل ولا يزال وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلا أول لأوليته، رفيعا في أعلى علوه شامخ الأركان رفيع البنيان، عظيم السلطان، منيف الآلاء، سني العلياء الذي عجز الواصفون عن كنه صفته ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته ولا يحدون حدوده لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه.(1)
(علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم) مشترك بين ثلاثة (2) إبراهيم الصيقل وإبراهيم الكرخي البغدادي وإبراهيم بن إسحق البصري (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك اسمه) أي اسمه ذو بركة عظيمة، أو ثابت غير متغير، أو برئ عن العيوب النقائص والجملة الفعلية في محل الرفع على أنها خبر «إن» (وتعالى ذكره) عن ذكر المخلوقين أو عن الوصول إليه والإتيان به كما هو حقه عقول البشر وألسنتهم (وجل ثناؤه) أي عظم ثناؤه كما هو حقه وخرج عن طوق البشر (سبحانه) جملة اعراضية لكونه مصدرا لفعل محذوف، وفي حذف المتعلق دلالة على عموم تنزيهه عن كل ما لا يليق به (وتقدس) أي تطهر عن النقائص كلها (وتفرد) بالإلهية والتدبير (وتوحد) بالربوبية والتقدير (ولم يزل ولا يزال) فلم ينقطع أزليته بعدم سابق ولا ينقطع أبديته بعدم لاحق (وهو الأول) للأشياء كلها فلا شيء قبله (والآخر) للأشياء كلها فلا شيء بعده، وقد عرفت أن الأولية والآخرية أمر إضافى يعتبره العقل له بالنسبة إلى خلقه وأنه الأول حين كونه آخر والآخر حين كونه أول من غير زمان وامتداد بينهما إذ لازمان هناك (والظاهر والباطن) أي الظاهر وجوده بعجايب تدبيره للمتفكرين والباطن كنه ذاته وصفاته عن توهم المتوهمين أو الظاهر العالي على كل شيء والغالب عليه من «ظهر عليه» إذا علاه وغلبه، والباطن العالم بباطن كل شيء.
ص:160
(فلا أول لأوليته) أي لاحد لكونه أولا للأشياء تقف عنده أوليته وتنتهي به وإلا لكان محدثا فكان ممكنا فلا يكون واجب الوجود، هذا خلف. وكذا لا آخر لآخريته وإنما لم يذكره لأنه يعلم من سياق الكلام بل من قوله «فلا أول لأوليته» لما تقرر من أن ما ثبت قدمه (1) امتنع عليه عدمه.
(رفيعا) لرفعة شرف ذاته وصفاته عن ذوات المخلوقين وصفاتهم، وهو حال عن فاعل الظاهر أو عن الضمير المجرور في أوليته (في أعلى علوه) بحسب الرتبة والعلية لأنه مبدأ كل موجود حسي وعقلي، وإليه ينتهي سلسلة العلية في الممكنات، فكل عال سواه سافل في حد ذاته وبالنسبة إلى ما فوقه، الله سبحانه فوق كل عال وله العلو المطلق الذي هو العلو الأعلى. وهذا أيضا حال عما ذكر أو عن فاعل «رفعا» (شامخ الأركان) الشامخ المرتفع، وقد شمخ الرجل فهو شامخ أي مرتفع، وركن الشيء: جانبه الأقوى ومنه أركان البيت وقد يعبر به عن العز والمنعة، يقال هو يأوي إلى ركن شديد أي إلى عز ومنعة، وهذا الكلام إما استعارة تمثيلية بتشبيه المعقول بالمحسوس إيضاحا لعلوه ورفعته أو استعارة تحقيقية بتشبيه صفاته الكمالية مثل العلم والقدرة وغيرهما بالأركان في أن بناء تدبيره في هذا العالم على هذه الصفات كما أن بناء البيت على الأركان، وذكر الشامخ حينئذ ترشيح والمراد بارتفاع هذه الصفات ارتفاعها عن أن تكون مطارح لعقول الأذكياء.
(رفيع البنيان) وهو الحائط وهذا الكلام أيضا استعارة على سبيل التمثيل لتنزيل علوه المعقول منزلة العلو المحسوس لزيادة الإيضاح.
(عظيم السلطان) وهو التسلط والقهر على ما عداه أو الحجة والبرهان والوجه لوصف تسلطه وقهره على ما عداه أو وصف براهين ربوبيته وشواهد ألوهيته بالعظمة ظاهر لذوي البصائر.
(منيف الآلاء) أي جزيل الآلاء وشريف النعماء، وشرافتها باعتبار كمالها في الكمية والكيفية وكونها على حسب المصالح.
(سني العلياء) السني: الرفيع. والعلياء بالضم والمد: كل مكان
ص:161
مشرف. وأيضا استعارة على سبيل التمثيل لقصد الإيضاح والإفصاح.
(الذي يعجز الواصفون) العارفون له بترقي عقولهم في معارج المعارف (عن كنه صفته) لأن العقول البشرية وأفكارها لا تقدر أن تحيط بحقيقة ما له من صفات الكمال ونعوت الجلال (ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته) إذ لو تجلت الحقيقة الإلهية والأنوار الربوبية لا نفطرت قلوبهم كما تنفطر البيضة على الصفا كيف والجبل الشامخ عجز أن يكون مظهرا لتجليها كما قال: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا)(1) (ولا يحدون حدوده) الضمير يعود إليه تعالى يعني لا يحد الواصفون حدود الرب; لأن تحديده يستلزم توصيفه بكيفية التناهي والتجزية والتحليل والتركيب إذ كان من شأن المحدود ذلك، ولما كانت هذه اللوازم باطلة في حقه تعالى كما أشار إليه بقوله (لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه) أي إلى حد كان ملزومها وهو وجدانهم بالتحديد باطلا أيضا.
وقال سيد المحققين: الضمير في «حدوده» يعود إلى الحمل، يعني لا يحدون حدود حمل معرفته إذ بالوصف لا يبلغ إلى مداه، وبالصفة لا يدرك منتهاه وبالكيفية لا يتناهى إلى حد.
علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن (عليه السلام) الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول: من اتقى الله يتقى، ومن أطاع الله يطاع، فتلطفت في الوصول إليه، فوصلت فسلمت عليه، فرد علي السلام ثم قال: يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحده، والأبصار عن الإحاطة به جل عما وصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيف الكيف فلا يقال:
كيف، وأين الأين فلا يقال: أين؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والأينونية.(2)
(علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن (عليه السلام)) هو أبو الحسن الثاني مولانا الرضا (عليه السلام) كما يظهر من كتاب العيون للصدوق - رحمه الله -.
ص:162
وقال بعض الأفاضل: المعلوم من كتاب كشف الغمة أنه أبو الحسن الثالث (عليه السلام).
(الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول: من اتقى الله) بالعدل في القول والعمل سرا وعلانية (يتقى) لكمال الارتباط بينه وبين الحق ولهذا كان المتقون يمرون على السباع غير مكترثين بها، وإقبال الأسد الذي كان جاثما في الطريق مع اللبوة وأشبالها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وتبصبصه له بذنبه ودنوه منه إلى أن مسح قدمه بوجهه وتكلمه معه بكلام ذلق فصيح وتسليمه، أمر مشهور في كتاب العدة وغيره مذكور، ومثله وقع للصادق (عليه السلام) قال: ذو الفاخر صاحب العدة: حدث أبو حازم عبد الغفار بن الحسن قال: قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة وأنا معه وذلك على عهد المنصور وقدمها أبو عبد الله جعفر بن محمد العلوي فخرج جعفر بن محمد صلوات الله عليهما يريد الرجوع إلى المدينة فشيعه العلماء وأهل الفضل من الكوفة وكان فيمن شيعه ثوري وإبراهيم بن أدهم فتقدم المشيعون له فإذا هم بأسد على الطريق فقال لهم إبراهيم بن أدهم: قفوا حتى يأتي جعفر فننظر ما يصنع فجاء جعفر صلوات الله عليه فذكروا له حال الأسد فأقبل أبو عبد الله (عليه السلام) حتى دنا من الأسد فأخذ بأذنه حتى نحاه عن الطريق، ثم أقبل عليهم فقال: «أما الناس لو أطاعوا الله حق طاعته لحملوا عليه أثقالهم» وبالجملة التقوى سبب لنيل الأمن في الدنيا والآخرة وعدم الخوف من ساير المخلوقات وعامة المؤذيات، ولهذا قيل: التقوى سبب للنجاة من مخاوف دنيوية كما هي سبب للنجاة من مهلكات أخروية.
(ومن أطاع الله) في أوامره ونواهيه وآدابه (يطاع) هذا تفسير لما قبله; إذ الطاعة من وثايق التقوى وأجزائها وإنما حذف فاعل «يطاع» للدلالة على التعميم; وذلك لأنه يطيعه الله تعالى أولا كما ورد «من كان لله كان الله له» وكما قال جل شأنه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) (1)فيسهل له الصعاب ويهيئ له الأسباب ويفيض عليه أنواع الكرامة، وينبت له رياض السلامة، ولباه إذا ناداه، ويجيبه إذا ناجاه، ويطيعه النفس الأمارة بالسوء والقوى الجسمانية والآلات النفسانية ثانيا لظهور أن ملكة الطاعة سبب لإطاعة النفس المطمئنة وإطاعة جموح الهوى في موارد الهلكة، ويطيعه جميع الخلائق وإن كانوا فجارا وكفارا ثالثا، لأنه لما ترك الدنيا وزهراتها واشتغل بالطاعة صار أبناء الدنيا الطالبون لها يحبونه ويطيعونه لإعراضه عن مطلوبهم، أو لأنه جبلت القلوب على حب المطيع لله، أو لأن كل شيء له رجوع إلى الله إذا اتصلت نفس المطيع بالله اتصالا معنويا حتى صار نطقه نطق
ص:163
الحق ولسانه لسان الحق وقدرته قدرة الحق وفعله فعل الحق صار كل شيء مطيعا له منقادا لأمره ومن هذا القبيل انشقاق القمر ونقل الشجر وتسبيح الحصى في كفه (صلى الله عليه وآله) إلى غير ذلك من المعجزات وخوارق العادات، وكان غرضه (عليه السلام) من هذا الكلام دفع ما خلد في قلب فتح بن يزيد من لحوق الضرر به (عليه السلام) من جانب الطاغي المأمون.
(فتلطفت في الوصول إليه) لطف بالضم: رفق، وتلطفوا: رفقوا (فوصلت وسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا فتح من أرضى الخالق) بالإتيان بما يوجب القرب منه ورضاه وإكرامه وإحسانه (لم يبال بسخط المخلوق) عليه وعدم رضاه عنه; لعلمه بأن المخلوق لا يضره مع رضا الخالق; لأن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن آثر محامد الله على محامد الناس كفاه الله مؤونة الناس، وعلى تقدير إضراره فإنما إضراره في هذه الحياة الدنيا ولا قدر لها بالنظر إلى البقاء الأخروي الأبدي كما قال سحرة فرعون عند وعيده بالقتل والصلب: (لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون) فلم يبالوا بوعيده وإضراره لعلمهم بأنهم عند الله في زمرة المقربين. وكأنه (عليه السلام) عرف أن الغرض من وصول الفتح إليه أن يعرف حقيقة قوله (عليه السلام) من اتقى الله فإن هذا الكلام في الحقيقة تفسير له.
(ومن أسخط الخالق) بفعل ما يوجب غضبه وعقابه (فقمن) في المغرب: هو قمن بكذا وقمين به أي خليق، والجمع قمنون وقمناء، وأما قمن بالفتح فيستوى فيه المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، وفي كتاب إكمال الاكمال قمن بكسر الميم صفة يثنى ويجمع ومعناه: خليق وجدير، وبفتحها مصدر لا يثنى ولا يجمع، وعلى هذا قول الجوهري: قمن أن يفعل كذا بالتحريك أي خليق وجدير، لا يخلو من شيء.
(أن يسلط الله عليه سخط المخلوق) ترتب استحقاق ذلك على إسخاط الخالق أمر ضروري وقد يكشف الله تعالى عن سره ظاهرا حتى يبغضه إليهم ويعرفهم أنه ممقوت عنده ليمقتوه أو يضربوه أو يقتلوه وقد يكشف عنه باطنا فيشاهدون حاله بمرآة قلوبهم فيمقتونه، ومن هذا القبيل ما روي أن رجلا من بني إسرائيل قال: لأعبدن الله عبادة أذكر بها، فمكث مدة مبالغا في الطاعات وجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا متصنع مرائي، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك وضيعت عمرك في لا شيء فينبغي أن تعمل لله سبحانه، فغير نيته وأخلص عمله لله فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا ورع تقي.
ثم أشار إلى بعض ما يسخط الخالق وهو وصفه بما لم يصف به نفسه بقوله: (وأن الخالق لا
ص:164
يوصف إلا بما وصف به نفسه) من الأسماء الحسنى والصفات العليا، ثم أشار إلى أن القوى المدركة الإنسانية عاجزة عن إدراك ما له سبحانه من الصفات كما هو حقه توضيحا لما ذكر بقوله: (وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه) لتعلق إدراكها بالأجسام وكيفياتها وتنزهه تعالى عن الجسمية ولواحقها (والأوهام أن تناله) لتعلق إدراك الوهم بالمعاني المتعلقة بالمادة ولا يترفع عن الأمور المربوطة بالمحسوسات (والخطرات أن تحده) لأن عظمة كماله في ذاته، وصفاته أجل وأرفع من أن تنالها الأفكار الدقيقة وتحدها بحد ونهاية (والأبصار عن الإحاطة به) لأن الإحاطة بالشيء فرع لانقطاعه وانتهائه وجانب الحق منزه عنهما (جل عما وصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون) لأن كل وصف اعتبروه وإن كان كمالا وكل نعت تخيلوه وإن كان جلالا فهو موصوف بالنقصان ومندرج تحت الإمكان، ومن البين أن رتبة الواجب بالذات أعظم من أن تتصف بالنقصان وأرفع من أن يعرض له الإمكان.
(نأى في قربه، وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد) نأيته ونأيت عنه أي بعدت، يعني بعد من الأشياء في حال قربه منها وقرب منها في حال بعده عنها، فهو في حال بعده قريب وفي حال قربه بعيد، وسر ذلك أن قربه وبعده ليسا بالالتصاق والافتراق; لأن ذلك من خواص الجسمانيات وهو منزه عنها بل قربه باعتبار علمه المحيط بكل شيء، وبعده باعتبار عدم كونه من جنس مخلوقاته وعدم بلوغ العقل والحواس إلى كنه ذاته وصفاته، وفيه تأكيد لرد الأحكام الوهمية بالاحكام العقلية فإن الوهم يحكم بأن ما كان بعيدا عن شيء لا يكون قريبا منه، وما كان قريبا من شيء لا يكون بعيدا عنه لكون حكمه مقصورا على المحسوسات، ونحن لما بينا أن قربه وبعده من الخلق ليسا قربا وبعدا مكانيين بل بمعنى آخر، لا جرم لم يكن بعده بذلك المعنى منافيا لقربه ولا قربه بذلك المعنى منافيا لبعده، بل كانا مجتمعين.
(كيف الكيف فلا يقال كيف (1) وأين الأين فلا يقال أين) يعني هو جعل الكيف كيفا والأين أينا ولم يكن قبل ذلك الجعل كيف ولا أين فلا يجوز أن يسأل عن كيفيته وأينيته (إذ هو منقطع الكيفوفية والأينونية) (2) قبل وجود الكيف والأين بالضرورة وإذا كان كذلك كان منقطعا عنهما بعد
ص:165
وجودهما أيضا لاستحالة انتقاله من حال إلى حال وامتناع اتصافه بوصف لم يكن له في وقت من الأوقات.
4 - محمد بن أبي عبد الله رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه يقال له ذعلب، ذو لسان بليغ في الخطب، شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين! هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذعلب! ما كنت أعبد ربا لم أره، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ويلك يا ذعلب، إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله وبعد كل شيء لا يقال: له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة في الأشياء كلها، غير متمازج بها، ولا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، ناء لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن ولا تضمنه الأوقات ولا تحده الصفات ولا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة واليبس بالبلل والخشن باللين والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها ومفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (1)ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه، كان ربا إذ لا مربوب، وإلها إذ لا مألوه، وعالما إذ لا معلوم، وسميعا إذ لا مسموع.(2)
(محمد بن أبي عبد الله رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا) قال الجوهري: «بينا» فعلى أشبعت الفتحة فصارت ألفا و «بينما» زيدت عليه «ما» والمعنى واحد تقول: بينا نحن نرقبه أتانا، أي أتانا بين
ص:166
أوقات رقبتنا إياه، والجملة مما يضاف إليها أسماء الزمان كقولك: أتيتك زمن الحجاج أمير، ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات وولي الظرف الذي هو «بين» الجملة التي أقيمت مقام المضاف كقوله تعالى (واسأل القرية) وكان الأصمعي يخفض ما بعد «بينا» إذا صلح في موضعه «بين» وغيره يرفع ما بعده بينا وبينما على الابتداء والخبر.
(أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب) ذعلب اليماني ضبطه الشهيد في قواعده بكسر الذال المعجمة وسكون العين المهملة وكسر اللام (ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب) كان المراد أنه كان ذكيا فهيما متفكرا في الأمور ويحتمل أيضا حمله على الظاهر (فقال يا أمير المؤمنين: هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره) أثبت رؤيته إزراء للسائل، والظاهر أن السؤال عن الرؤية العينية والجواب بالرؤية القلبية من باب حمل السؤال على غير ما يترقبه السائل للتنبيه على أن الواجب هو السؤال عنها وأما الرؤية العينية فلكونها محالا لا ينبغي للسائل أن يسأل عنها إلا أن المثبت لما كان هو الرؤية المطلقة وتوهم السائل أن المراد منها الرؤية العينية سأل عن كيفية وقوع هذه الرؤية (فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته) لا عن كيفية التي تعلقت بها الرؤية; لأن العاقل لا يعتقد أن له كيفية وإن كان السؤال عن كيفية الرؤية مستلزما لتجويز الكيفية له، والفرق بين اللازم من الشيء وبين اعتقاد ذلك اللازم صريحا ظاهر (قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار) إذ ليس بذي وضع وجهة، والرؤية البصرية إنما تتعلق به، والإبصار بكسر الهمزة أو فتحها، والإضافة على الأول بيانية وعلى الثاني لامية.
(ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان) المراد بالقلب: العقول القدسية، وبالإيمان: الإذعان الخالص، وبحقايق الإيمان: التصديقات اليقينية التي هي أركان الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر مثل التصديق بوجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه إلى غير ذلك من التصديقات الداخلة في حقيقة الإيمان، أو المراد بها الأنوار العقلية الناشية من الإيمان، فإن الإيمان إذا حصل واستقر في قلب متقدس طاهر حصل في القلب نور يشاهد به الرب كمشاهدة العيان، والباء للاستعانة أو للملابسة.
(ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة) تأكيد للطافته، ولطافته باعتبارين، أحدهما: تصرفه في ذوات الأشياء الدقيقة الخفية وصفاتها تصرفا بفعل الأسباب المعدة لوجوداتها وإفاضة كمالاتها، والثاني: جلالة ذاته وصفاته عن أن يدركها العقول والحواس ويتطرق إليه التحديد والقياس
ص:167
(لا يوصف باللطف) المعروف في الخلق وهو رقة القوام وصغر الحجم وعدم اللون والاشتمال على الصنع الغريب (عظيم العظمة) عظمته عبارة عن تسلطه وجريان حكمه على جميع ما عداه لكونه مبدأ شأن كل ذي شأن ومنتهى سلطان كل ذي سلطان، فلا سلطان أعظم من سلطانه ولا شأن أرفع من شأنه (لا يوصف بالعظم) المعروف في الخلق وهو كبر الحجم والمقدار التابع لزيادة الامتداد في الجهات (كبير الكبرياء) أي رفيع القدر على الإطلاق إذ لا قدر أرفع من قدره (لا يوصف بالكبر) المعروف في الخلق وهو العلو في السن والبسطة في الجسم والزيادة في المقدار (جليل الجلال) أي عظيم القدرة وشديد القوة لا مانع لنفاذ قدرته ولا دافع لإمضاء قوته (لا يوصف بالغلظ) لأن الغلظ من نعوت الجسم، والفظاظة من صفات النفس الحيوانية وجلال الحق منزه عنهما، ولما كانت لهذه الألفاظ أعني اللطيف ونظايره المذكورة معان صحيحة له تعالى غير معروفة أخرج (عليه السلام) هذه الألفاظ بالسلوب المذكورة عن المعاني المعروفة إلى غيرها بل عن حقيقتها إلى مجازها لتنزيه الحق عن الكيفيات الجسمانية وتنبيه السائل على عدم إمكان رؤيته بالعين; لأن المرئي بالعين لا ينفك عن هذه الكيفيات.
(قبل كل شيء) لأنك إذا لاحظت ترتيب الوجودات في سلسلة الحاجة إليه سبحانه وجدته تعالى بالإضافة إليها أنه قبلها إذ كان انتهاؤها في تلك السلسلة إلى عنايته ووجوده الحق فهو قبل بالعلية والذات والشرف.
(لا يقال شيء قبله) إذ لما لم يكن بذي مكان فالتقديم بالمكان منفي عنه والزمان يتأخر عنه إذ هو من لواحق الحركة المتأخرة عن الجسم المتأخر عن علته فلم يلحقه القبلية والزمانية ولا القبلية المكانية، فلم يكن شيء قبله مطلقا لا من الزمانيات ولا من غيرها.
(وبعد كل شيء) لأنه الباقي بعد فناء الأشياء وهو وارث كل شيء، وأيضا: إذا نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت مراتب السالكين في منازل عرفانه وجدته بعد كل شيء وآخره إذ هو آخر ما يرتقى إليه درجات العارفين ومعرفته هي الدرجة القصوى والمنزل الآخر.
(لا يقال له بعد) لامتناع فنائه وبقاء شيء بعده ولأنه ليس فوقه شيء حتى يرتقى إليه سير العارفين ويكون هو آخر مقاماتهم، وبالجملة هو القبل المطلق الذي لا شيء قبله والبعد المطلق الذي لا شيء بعده.
(شاء الأشياء لا بهمة) شاء: فعل ماض أو اسم فاعل مع التنوين، ونصب الأشياء على المفعولية
ص:168
يعني أراد وجود الأشياء ولواحق وجودها بمجرد ذاته لا بعزم وإرادة زائدة على ذاته ولا بهمة فكرية إذ هي من لواحق النفوس البشرية وفيه تنزيه لإرادته عن مثلية إرادتنا في سبق العزم والهمة لها (دارك لا بخديعة) الخديعة بالخاء المعجمة اسم من خدع الضب في جحره إذا دخل أو من خدعت العين إذا غارت يعني يدرك الأشياء كلها لا بصور داخلة فيه فليس إدراكه بالانطباع، أو من خدعه إذا ختله يعنى يدركها من غير استعمال الحيلة وإجالة الرأي; لأن ذلك من خواص خلقه.
وقال الفاضل الشوشتري: لا يبعد أن يكون بالجيم قال في الصحاح: المجادعة والتجادع المخاصمة فيكون المقصود أنه يدرك من غير تعب كما أنه يشاء من غير همة ولا يخفى بعده (في الأشياء كلها غير متمازج بها) (1) إذ كونه في الأشياء ليس عبارة عن كونه جزءا منها أو وصفا لها أو داخلا فيها ومعدودا من جملتها حتى يكون متمازجا بها بل عبارة عن إحاطة علمه بها ونفوذه في جميعها، فهذا السلب قرينة صارفة للظرفية عن حقيقتها إلى مجازها (ولا باين منها) أي ليس بعيدا من الأشياء بالمسافة لتنزهه عن المكان، أو ليس بعيدا منها بالعلم والإحاطة فيكون تأكيدا لما قبله.
وفيه كسر للأحكام الوهمية بتقديس ذاته عن صفات الممكنات (ظاهر لا بتأويل المباشرة) أي لا بمعناها كظهور الجسم والجسمانيات بمباشرة الحواس لها وتناولها إياها بل بمعنى ظهور وجوده وقدرته بمشاهدة عجائب خلقه وغرايب تدبيره وهذا السلب أيضا قرينة لصرف الظاهر عن ظاهره وكذا السلوب الآتية.
(متجل لا باستهلال رؤية) التجلي: الوضوح والانكشاف، والاستهلال: التبيين يقال: استهل الصبي إذا تبين. والاستهلال أيضا: الإبصار. قال في المغرب: أهل الهلال واستهل - مبنيا للمفعول فيهما - إذا أبصر، يعني: أنه تعالى متبين منكشف لخلقه لا بالتبين والانكشاف الحاصلين من جهة رؤيته، ولا بالإبصار الذي هو الرؤية لتنزهه عن ذلك بل لظهوره في قلوب عباده من ملاحظة مصنوعاته حتى أشبهت كل ذرة من مخلوقاته مرآة ظهر وتجلى لهم فيها وهم يشاهدونه على
ص:169
استعداد قلوبهم لمشاهدته وتتفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أشعة إبصار بصائرهم.
(ناء لا بمسافة أي بعيد من الأشياء لا بمسافة بينها وبينه; لأن ذلك من خواص المكانيات بل بذاته المقدسة المغائرة لذوات الممكنات المتصفة بعلو الشرف والرتبة; لأن رتبته فوق مراتب جميع الموجودات بالشرف والعلية فلا جرم رتبته بعيدة عن رتبتها.
(قريب لا بمداناة) أي قريب من كل شيء لا بالدنو في المسافة بل بالعلم والإحاطة ونفاذ قدرته وحكمه فيه; لأن كل شيء حاضر عند بذاته بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرة.
(لطيف لا بتجسم) أي لطيف لا باعتبار كونه جسما له قوام رقيق أو حجم صغير أو تركيب غريب وصنع عجيب، أو لا لون له; لأن كل ذلك من شأن اللطيف المخلوق، والله سبحانه خالق ليس بمخلوق بل باعتبار كونه خالقا للخلق اللطيف، أو باعتبار كونه عالما بالأشياء اللطيفة مثل البقة وقواها والذرة وهواها والنملة وصداها.
(موجود لا بعد عدم) (1) إذ لو كان وجوده بعد عدم كان حادثا ولو كان حادثا كان ممكنا ولو كان ممكنا لم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف (فاعل لا باضطرار) (2) أي لا باضطراره إلى فعله لأنه فاعل مختار لا موجب، أولا باضطراره في فعله إلى الآلة إذ فعله بمجرد الإرادة والمشية (مقدر لا بحركة) كما يفتقر غيره في تقدير أفعاله وصنايعه إلى الحركة الذهنية والبدنية ليعلم وجه صحتها وكمالها، وذلك لأن الحركة إنما تعرض الجسم والجسمانيات والله سبحانه منزه عن الجسمية وعوارضها.
(مريد لا بهمامة) أي مريد للأشياء لا بهمامة النفس وهي اهتمامها بالأمور وترديد عزمها عليها
ص:170
مع الهم والغم بسبب فوتها; مأخوذة من الهمهمة وهي ترديد الصوت الخفي وهو سبحانه منزه عنها.
(سميع لا بآلة) وهي الأذنان والصماخات والقوة الكاينة تحتهما; لتعاليه عن الالآت الجسمانية بل سمعه عبارة عن علمه بالمسموعات فهو نوع مخصوص من العلم باعتبار تعلقه بنوع من المعلوم.
(بصير لا بأداة) لظهور أن المفتقر إلى المعونة بالأداة ممكن فلا يكون واجب الوجود، ولأنه تعالى خالق الأداة فيمتنع عليه الحاجة إلى الاستعانة بها.
(لا تحويه الأماكن) لبراءته عن الجسمية ولواحقها، وكل ما كان كذلك فهو بريء عن المكان ولواحقه من الحواية وغيرها.
(ولا تضمنه الأوقات) لأن الأوقات أجزاء الزمان الذي هو من لواحق الحركة التي هي من لواحق الجسم المتأخر وجوده عن وجوده تعالى، فكان وجود الزمان والوقت متأخرا (1) عن وجوده تعالى بمراتب فلم يصدق تضمن الأوقات لوجوده تعالى ولم يصح كونها ظرفا له وإلا لكان مفتقرا إلى وجود الزمان فكان يمتنع استغناؤه عنه لكنه سابق فوجب استغناؤه عنه.
(ولا تحده الصفات) إذ ليس له صفات زائدة فيحده العقل بتحديدها وإحاطته بها، وكل ما اعتبره من صفاته فهو داخل تحت الإمكان لا سبيل له إلى ساحة ذاته.
(ولا تأخذه السنات) لأن السنة، وهي مبدأ النوم وفتور يتقدمه، حال يعرض الحيوان من أجل استرخاء أعصاب الدماغ بسبب تصاعد رطوبات الأبخرة، وهو سبحانه منزه عن ذلك.
(سبق الأوقات كونه) لأنه خالص الأوقات فوجب أن يتقدمها وجوده.
(والعدم وجوده) أي سبق وجوده عدم الممكنات; لأن عدمها لكونه ممكنا بالذات مستند إلى عدم الداعي إلى إيجادها المستند إلى وجوده تعالى سابقا على عدمها أو سبق وجوده على عدمه ; لأن وجوده لما كان واجبا لذاته كان عدمه ممتنعا لذاته فكان وجوده سابقا على عدمه لا لتحقق
ص:171
عدمه وسبق وجوده عليه بل لأن لحوق العدم له محال بالذات بخلاف سائر الموجودات، فإن كلها لما كانت محدثة كان عدمها سابقا على وجودها (1) ولو كان بعضها قديما (2) كما زعمه طائفة من المبتدعة، فلا شبهة في أنه قابل في مرتبة ذاته للوجود والعدم جميعا مستفيض للوجود من الموجد فيكون وجوده مسبوقا بعدمه اللاحق له في مرتبة ذاته.
(والابتداء أزله) أي سبق أزله الابتداء; وذلك لأن الأزل عبارة عن عدم الأولية والابتداء، وذلك أمر يلحق واجب الوجود لما هو بحسب الاعتبار العقلي وهو ينافي لحوق الابتداء والأولية لوجوده، فاستحال أن يكون له ابتداء لا متناع اجتماع النقيضين، بل سبق في الأزلية ابتداء ما كان له ابتداء وجود من الممكنات وهو مبدؤها ومصدرها.
(بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له) (3) وذلك لأنه تعالى لما خلق المشاعر وأوجدها ذوات شعور وإدراك وهو المراد بتشعره لها امتنع أن يكون له مشاعر وإلا لكان وجودها إما من غيره وهو محال أما أولا فلأنه مشعر المشاعر، وأما ثانيا فلأنه يلزم أن يكون في كماله وإدراكه محتاجا إلى غيره وهو محال، وإما منه وهذا أيضا محال لأ نها إن كانت من كمالاته كان موجدا لها من حيث إنه
ص:172
فاقد كمال فكان ناقصا بذاته وهو محال، وإن لم يكن من كمالاته كان إثباتها له نقصا; لأن الزيادة على كمال نقص فكان إيجادها له مستلزما لنقصانه وهو أيضا محال.
(وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له) أي بإيجاده المهيات الجوهرية وجعلها جواهر في الأعيان عرف أنه ليس بجوهر ولا مهية جوهرية إذ هي مهية إذا وجدت (1) في الخارج لم تفتقر في وجودها العيني إلى موضوع، ولا خفاء في أن وجودها زائد عليها، وليس وجود الواجب زائد عليه، بل هي عين ذاته الحقة الأحدية من كل جهة، فلا يكون له مهية جوهرية.
(وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له) يعني بجعله بعض الأشياء ضدا لبعض كالحرارة والبرودة (2) والرطوبة واليبوسة والسواد والبياض والنور والظلمة إلى غير ذلك مما لا يحصى، عرف أن لا ضد له تعالى لأنه الخالق للأضداد، فلو كان له ضد لكان خالقا لنفسه ولضده وهو محال ولأن الضدين هما الأمران اللذان يتعاقبان على محل واحد ويمتنع اجتماعهما فيه فلو كان بينه وبين غيره تضاد لكان محتاجا إلى محل يحل فيه وهو محال.
(وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له) (3) لأنه تعالى لما كان خالقا للمقارنات ومبدأ المقارنة بينها لم يجز أن يكون له قرين وإلا لكان خالقا لنفسه ولقرينه وأنه محال، ولأن المقارنة من باب الإضافة والمضاف من حيث هو مضاف كان وجوده متعلقا بوجود الغير، فلو كان للواجب قرين كان وجوده متعلقا بوجود قرينه، فلم يكن واجب الوجود، هذا خلف.
(ضاد النور بالظلمة) تأكيد لقوله «وبمضادته بين الأشياء» وتقرير له، وفي كونهما ضدين خلاف
ص:173
بين العلماء مبني على كون الظلمة أمرا وجوديا أو عدميا، والأقرب أنها أمر وجودي مضاد للنور على أنه لو كان أمرا عدميا فالظاهر أنها عدم الملكة لا عدم صرف، فجاز أن يطلق عليها أنها ضد للنور مجازا (1).
(واليبس بالبلل) اليبس بالضم مصدر وبالفتح اليابس، والثاني هنا أنسب بقرينة مقابلته مع البلل وهو بالتحريك: ما فيه الندى والرطوبة وهما متضادان باعتبار اتصافهما باليبوسة والرطوبة وقد يستعملان للكناية عن الشدة والرخاء، كما صرح به الزمخشري في الفايق، وبين هذين المعنيين أيضا تضاد.
(والخشن باللين) الخشن بفتح الخاء وكسر الشين واللين بالفتح والتشديد وقد يخفف متضادان باعتبار الخشونة واللين بالكسر والسكون.
(والصرد بالحرور) الصرد بالفتح والسكون البرد فارسي معرب والحرور بالفتح الريح الحارة وهي بالليل كالسموم بالنهار. وقال أبو عبيدة: الحرور بالليل وقد يكون بالنهار، والسموم بالنهار وقد يكون بالليل، وهما أيضا متضادان باعتبار اشتمالهما على البرودة والحرارة.
(مؤلف بين متعادياتها) مؤلف بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو مؤلف، وهو الموافق لما في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام). وفي بعض النسخ: مؤلفا بالنصب على أنه حال عن فاعل «ضاد» والمقصود أنه تعالى ألف بقدرته الكاملة بين العناصر الأربعة (2) فإن كيفياتها المتضادة
ص:174
يجتمع بقدرته وتنكسر سورة كل واحد منها بالآخر، فتحصل كيفية متوسطة هي المزاج، وبين الأرواح اللطيفة التي لا تحتاج في ذاتها إلى مادة أصلا، وبين الأبدان الكثيفة بإيجاد الربط والملائمة بينهما وبين القلوب المتعادية كما قال: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) (1)إلى غير ذلك مما لا يخفى على المعتبر.
(مفرق بين متدانياتها) «مفرق» أيضا بالرفع، وفي بعض النسخ بالنصب، يعني هو المفرق بين المتدانيات والمتناسبات كما فرق بين كل واحد من العناصر وبين جزئه المأخوذ لغرض التركيب مع التناسب بين الجزء والكل في الطبيعة والكيفية وبين الأرواح والأبدان وبين أجزاء الأبدان بعد تدانيها وتقاربها بالموت والإفناء وبين قلوب متدانية لأمر مشترك بينهما كما قال (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) وبين أشياء متدانية بالأجناس والأنواع والأشخاص والحدود والأقدار والغرايز والصفات والخواص والآثار إلى غير ذلك مما يظهر على المتأمل.
(دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها) دالة حال من المتدانيات المتفرقة والمتعاديات المتألفة يعني دلت تلك المتدانيات والمتعاديات بسبب التفريق والتأليف الواقعين فيها على وجود مفرقها ومؤلفها وصفاته مثل العلم والقدرة والحكمة (2) والتقدير والتدبير فإن تفريق
ص:175
أجزاء العناصر منها مع وجود الداعي إلى الاجتماع (1) والالتصاق، وتأليف تلك الأجزاء مع وجود الداعي إلى الافتراق من أعظم الدلايل الدالة على ما ذكر، وكذا تفريق الأشياء المتدانية بأجناسها وأنواعها وأشخاصها وحدودها وحقيقتها وأشكالها وصفاتها مقاديرها وغرايزها وأخلاقها كما هي في نظام الوجود دليل واضح على ذلك، وكذا تأليف الأرواح بالأبدان مع كمال المعاداة بينهما بحسب الذات والصفات واللطافة والكثافة وإحداث الملايمة بينهما وتخصيص كل نفس ببدن من الأبدان على وجه تشتغل بتدبيره وإصلاحه واستعماله فيما يعود إليه من المصالح والمنافع على النظام الأقصد والطريق الأرشد، ثم التفريق بينهما بقطع الملايمة وإزالة الارتباط دليل قاطع على ذلك وقس على ما ذكرنا سائر التفريقات والتأليفات الواقعة في هذا العالم (وذلك قوله تعالى (ومن كل شيء خلقنا زوجين (2) لعلكم تذكرون) (3)أي ذلك المعنى المذكور أعني وقوع التأليف والتفريق في الأشياء ودلالتهما على وجود المؤلف والمفرق الصانع لهذا العالم مفاد هذه الآية الشريفة ومضمونها أما أولا فلما ذكره بعض المفسرين من أن المقصود أنه تعالى خلق كل جنس من أجناس الموجودات نوعين وهما زوجان; لأن كل واحد منهما مزدوج بالآخر كالذكر والأنثى،
ص:176
والسواد والبياض (1) والنور والظلمة، والليل والنهار، والحار والبارد، والرطب واليابس، والسماء المرفوعة، والأرض الموضوعة، والشمس والقمر، والثوابت والسيارات، والسهل والجبل، والبر والبحر، والصيف والشتاء، والجن والإنس، والعلم والجهل، والشجاعة والجبن، والجود والبخل، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والحلاوة والمرارة، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والضحك والبكاء، والفرح والغم، والحياة والموت، إلى غير ذلك مما لا يحصى، وفايدة هذا التفريق دلالتهم على التذكر بأن لهذه الأشياء موجدا وأن موجده واحد إذ التعدد والانقسام والأزواج من خواص الممكنات.
وأما ثانيا فلأن كل شيء سواه زوج تركيبي من الذات والوجود الزايد عليها مثلا وانحلاله إليهما وكل واحد منهما مزدوج بالآخر وزوج لصاحبه وهما زوجان، والتفريق بينهما مع كونهما متقاربين في قبول الإمكان والمجعولية بجعل هذا شيئا وذاك شيئا آخر، ثم التأليف بينهما بجعل الثاني عارضا للأول تحصيلا لتحققه في الخارج مذكر واضح ودليل قاطع على وجود الصانع المفرق والمؤلف بينهما لضرورة أن الذات القابلة للوجود الزائد عليها ليس التفريق بينهما ولا انضمام الوجود إليهما بمستندين إليها; لأن المعدوم لا يوجد نفسه فوجب استنادها إلى الغير، وهو ما ذكرنا.
(ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل ولا بعد له) هذا مثال للتفريق بين المتدانيات فإن الله سبحانه فرق بين أجزاء الزمان وبين الزمانيات مع التداني بينها في كونها زمانا وزمانية بأن جعل بعضها قبلا وبعضها بعدا حتى أن لكل قبل منها بعدا ولكل بعد منها قبلا ليعلم أن لا قبل له تعالى
ص:177
ولا بعد له وإلا لكان هو مشابها بخلقه فيكون ممكنا، والتالي باطل (شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها) شاهدة عطف على دالة بحذف العاطف فهي أيضا حال عما ذكر. والغريزة الطبيعة التي طبع عليها الأشياء (1) كأنها غرزت فيها، وضمير التأنيث في مغرزها يرجع إلى ذي الحال أو إلى الغرائز، والمراد بتغريز تلك الغرائز إيجادها في الأشياء على سبيل الاستعارة التحقيقية للمشابهة بينها وبين العود الذي يركز في الأرض من جهة الغاية ومن جهة المبدأ، فكما أن العود يثمر ثمرا منتفعا بها كذلك الغرائز تثمر الآثار الموافقة لنظام العالم كقوة التعجب والضحك والإدراك للإنسان والشجاعة للأسد والجبن للأرنب والمكر للثعلب (2) إلى غير ذلك مما تعلم ولا يعلم من آثار طبايع
ص:178
هذا العالم وخواصها فدلت تلك الأشياء بسبب الغرائز المركوزه فيها والطبايع المغروزة فيها أن لا غريزة لمغرز تلك الغرائز وموجدها ضرورة أن ذات الخالق الواجب بالذات مغايرة لذوات المخلوقات غير مشابهة بغرايزها المخلوقة وإلا لكان هو ممكنا مخلوقا مثلهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها) (1) يعني أن الله تعالى قدر الأشياء بالعلم الأزلي وربط كل ذي وقت بوقته بحيث لا يتأخر المتقدم ولا يتقدم المتأخر فهي تخبر بسبب كونها موقتة أن لا وقت لموقتها لامتناع تشبيهه بخلقه وارتباط وجوده بوقت وافتقاره إلى الموقت، وسبق العدم على وجوده (حجب بعضها عن بعض) (2) أما تحقق الحجاب بين المحسوسات بعضها عن بعض وبين
ص:179
المحسوسات والحواس فظاهر، وأما تحققه بين المعقولات والعقل ويسمى ذلك الحجاب بالحجاب العقلي فلأن كثيرا من الأمور المعقولة لا يدركه العقل أصلا ولا يصدق بوجودها أبدا لعدم ارتباطها بما أدركه أو لبعد ارتباطها عنه أو لخفائها وغاية دقتها (ليعلم أن لا حجاب) أصلا (1) لا حسي ولا عقلي (بينه وبين خلقه) يمنعهم من مشاهدة
ص:180
وجوده والتصديق بثبوته وإلا لكان مشابها بخلقه في الاحتجاب وذلك باطل لامتناع المشابهة ولظهور نور وجوده في كل ذرة من الموجودات وارتباط إشراق جوده بكل معقول من المعقولات كما قال:
(وأشرقت الأرض بنور ربها) (1)وقال: (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) (2)ويحتمل أن يراد أنه حجب بعضها عن بعض بحجاب حسي ليعلم أنه ليس بينه وبين خلقه حجاب حسي وإلا لرفع التشبيه بالمحسوس في المحسوسية والوضع والجهة والجسمية، لأن الحجاب الحسي إنما يحجب من المحسوسات ذا الوضع والجهة والجسمية، والله سبحانه منزه عنها (كان ربا إذ لا مربوب) (3) إذ ظرفية على توهم الزمان أي كان ربا في الأزل ولم يكن شيء من المربوب موجودا فيه لأنه كان مالكا لأزمة الإمكان وتصريفه من العدم إلى الوجود ومن الوجود إلى العدم حيث شاء ومتى أراد.
(وإلها إذ لا مألوه) إذ كان في الأزل مستحقا للعبادة، ولا يتوقف هذا المعنى على وجود المألوه.
(وعالما إذ لا معلوم); لأن علمه بالأشياء عين ذاته وتقدم ذاته على معلولاته الحادثة ومعلوماته الكاينة ظاهر فظهر أنه كان عالما ولم يكن معلوم في الوجود سوى ذاته فهو كان في الأزل عالما ومعلوما وعلما ولم يكن معه شيء.
ص:181
(وسميعا إذ لا مسموع) لأن سمعه عبارة علمه بالمسموعات وهو سبحانه كان في الأول عالما بها قبل وجودها وليس سمعه بالقوة السامعة حتى يتوقف تحققه على وجود المسموعات.
5 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن شباب الصيرفي واسمه محمد بن الوليد، عن علي ابن سيف بن عميرة قال: حدثني إسماعيل بن قتيبة قال: دخلت أنا وعيسى شلقان على أبي عبد الله (عليه السلام) فابتدأنا فقال: عجبا لأقوام يدعون على أمير المؤمنين (عليه السلام) ما لم يتكلم به قط، خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بالكوفة فقال: الحمد لله الملهم عباده حمده وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه وبحدوث خلقه على أزله وباشتباههم على أن لا شبه له، المستشهد بآياته على قدرته، الممتنعة من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته، ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه، لا تشمله المشاعر، ولا تحجبه الحجب والحجاب بينه وبين خلقه إياهم لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ولإمكان مما يمتنع منه ولافتراق الصانع من المصنوع والحاد من المحدود والرب من المربوب، الواحد بلا تأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة، والبصير لا بأداة، والسميع لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسة، والباطن لا باجتنان، والظاهر البائن لا بتراخي مسافة، أزله نهيه لمجاول الأفكار، ودوامه ردع لطامحات العقول، قد حسر كنهه نوافذ الأبصار، وقمع وجوده جوائل الأوهام، فمن وصف الله فقد حده ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال أين؟ فقد غياه، ومن قال علام؟ فقد أخلا منه، ومن قال فيم؟ فقد ضمنه.(1)
(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن شباب الصيرفي واسمه محمد بن الوليد، عن علي بن سيف بن عميرة قال: حدثني إسماعيل بن قتيبة) عده العلامة من أصحاب الرضا (عليه السلام) وقتيبة بضم القاف وفتح التاء والياء بينهما ياء ساكنة مثناة من تحت وقال بعض المحققين: المظنون أن الذي في هذا السند إسماعيل بن حقيفة بالحاء المهملة والقاف ، وقال بعض الأفاضل إسماعيل بن جفينة بالجيم والفاء وهو رجل صالح من أصحاب الصادق (عليه السلام) (قال: دخلت أنا وعيسى شلقان) هو عيسى بن أبي منصور شلقان بفتح الشين واللام،
ص:182
واسم أبي منصور صبيح قال النجاشي عيسى بن صبيح العزرمي ثقة، وقال الكشي: سألت حمدويه بن نصير عن عيسى فقال: خير فاضل هو المعروف بشلقان وهو ابن أبي منصور واسم أبي منصور صبيح.
وقال الصادق (عليه السلام) في حق عيسى: إنه خيار في الدنيا وخيار في الآخرة، وقال فيه أيضا: من أحب أن يرى رجلا من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. والذي يظهر مما ذكرنا أن شلقان ليس اسما لأبيه.
وقال بعض المحققين: عيسى بن شلقان ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) ولعل ترك «ابن» في نسخ الكافي من تروك الناسخين والله أعلم.
(على أبي عبد الله (عليه السلام) فابتدأ) بالكلام من غير سؤال (فقال عجبا) نصبه على المصدر أي عجبت عجبا (لأقوام يدعون على أمير المؤمنين (عليه السلام)) في باب التوحيد (ما لم يتكلم به قط) (1) سبب التعجب عن ذلك أن ما نسبوه إليه (عليه السلام) كان السبب الباعث لهم على ذلك أمرا خفيا فصار ذلك محلا للتعجب ولذلك كلما كان الأمر أغرب وأسبابه أخفى كان أعجب، ولعل الغرض إظهار هذا التعجب تنفير الحاضرين عن مقالة هؤلاء الأقوام وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار لئلا يقعوا فيما وقع هؤلاء.
ثم أشار على سبيل الاستيناف إلى براءة ساحته (عليه السلام) عما نسبوه إليه مع الإيماء إلى ذمهم في ترك ما ينبغي أن يأخذوه منه بقوله (خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بالكوفة فقال: الحمد لله الملهم عباده حمده) حمد الله تعالى باعتبارات لا ينبغي إلا له: الأول: أنه ألهم عباده حمده على ذاته المنزهة عن لواحق الإمكان وصفاته المقدسة عن الزيادة والنقصان ونعمائه الفائضة على الإنس والجان، وآلائه المنثورة في عرصة الإمكان إذ لا يخلو أحد من نعمه في شيء من الأحوال، فلا يخلو من حمده بلسان الحال أو المقال كما قال جل شأنه (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) (2)(وفاطرهم على معرفة ربوبيته) (3) إذ العقول البشرية مفطورة على الاعتراف بربوبيته كما دل عليه قوله تعالى (ألست بربكم؟ قالوا! بلى) وذلك لأنه تعالى وهب كل نفس قسطا من معرفته
ص:183
وفطرها على استعداد قبول كمال إلهيته حتى نفوس الجاحدين له فإنها أيضا اعترفت بربوبيته لشهادة أعلام الوجود وآيات الصنع بصدورها عنه حتى حكم صريح بديهتها إذا لم ينخدع من الوهم بالحاجة إلى رب صانع حكيم (الدال على وجوده بخلقه) إشارة إلى طريق الطبيعيين وهو الاستدلال بالنظر في المخلوقات وطبايعها وإمكانها وتكونها وحدوثها وقبولها للتغير والانتقال والتركيب والتحليل على وجود المبدأ الأول، وإلى هذا الطريق أشار خليل الرحمن كما هو المذكور في القرآن، والمتكلمون فرعوا هذا الطريق إلى أربع طرق; لأن بعضهم استدلوا بحدوث هذه الذوات على إمكانها (1) وبإمكانها على حاجتها إلى موجد مؤثر، وبعضهم استدلوا بحدوث هذه الذوات فقط من غير نظر إلى الإمكان فقالوا:
الأجسام محدثة وكل محدث فله محدث والمقدمة الأولى استدلالية (2) والثانية بديهية،
ص:184
وبعضهم استدلوا بحدوث الصفات على وجود موجد لها، فقالوا: الأجسام كلها متماثلة، وقد اختص بعضها بصفات ليست للآخر، وذلك التخصيص ليس للجسمية ولا للوازمها لاشتراك الأجسام فيهما فوجب اشتراكها في الصفات ولا لعارض من عوارضها; لأن الكلام في تخصيص ذلك العارض (1) مثل الكلام في الأول ويلزم التسلسل ولا للطبيعة لأنها لا تفعل في المادة البسيطة كالنطفة (2) مثلا أفعالا مختلفة فبقي أن يكون ذلك التخصيص من مدبر حكيم، وبعضهم استدلوا
ص:185
بحدوث الصفات على وجود مدبر والمتكفل لبيان هذه الطرق وما لها وما عليها على وجه التمام هو علم الكلام.
(وبحدوث خلقه على أزله) إذ لو كان حادثا لكان مثلهم في الحدوث وليس كمثله شيء (1) وإذا بطل حدوثه ثبت أزله، وأيضا قد ثبت أن جميع المحدثات صادرة عن قدرته ومشيته متنهية إليه في سلسلة الحاجة، فلو كان - تعالى شأنه - محدثا لكان محدثا لنفسه وهو محال وباطل بالضرورة، وإذا لم يكن محدثا كان قديما أزليا.
(وباشتباههم على أن لا شبه له) (2) أي الدال باشتباه بعضهم ببعض ومشاركتهم في معنى
ص:186
الإمكان والحدوث والافتقار إلى المؤثر والتكيف بالكيفيات التابعة للإمكان أن لا شبه له من خلقه إذ لو كان له شبه لكان - تعالى شأنه - موصوفا بالأمور المذكورة، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبالجملة تحقق هذه الأمور بين كل شيئين متشابهين دليل قاطع على أنه لا شبه له وإلا لتحققت هذه الأمور فيه تعالى وأنه باطل.
وقيل: أراد اشتباههم في الجسمية والجنس والنوع والأشكال والمقادير والألوان ونحو ذلك وإذ ليس داخلا تحت جنس لبراءته عن التركيب المستلزم للإمكان ولا تحت نوع لافتقاره في التخصيص بالعوارض إلى غيره ولا بذي مادة لاستلزامه التركيب والحاجة إلى المركب فليس بذي شبه في شيء من الأمور المذكورة، وما ذكرنا أعم في نفي التشبيه.
(المستشهد بآياته على قدرته) عطف بحذف العاطف (1) على الدال أو على الملهم والاستشهاد الاستدلال. وآياته هي السماوات وما فيها من الثوابت والسيارات والأرضون وما عليها من العناصر والمركبات وغير ذلك من العقول والنفوس وساير المجردات، ودلالة هذه الآيات على قدرته القاهرة التي لا يستعصى عليها شيء من الأشياء أمر بين للأذكياء.
(الممتنعة من الصفات ذاته) لاستحالة اتصافه بصفة زائدة على ذاته عارضة لها وإلا لكان ناقصا بدونها ومفتقرا في كماله إليها ومشابها بخلقه ومحلا للحوادث إن كانت صفاته حادثة، وغير متفرد بالقدم إن كانت قديمة، وكل ذلك محال، وكل ما اعتبره العقل له من الصفات الكمالية فإنما يرجع إلى نفي ضده عنه كما مر (2).
(ومن الأبصار رؤيته) لأن الرؤية البصرية إنما تتعلق بالمبصرات التي هي نوع من المحسوسات والله سبحانه ليس بمحسوس.
(ومن الأوهام الإحاطة به) لما كان تعالى غير مركب لم يمكن للعقل الإحاطة به، فالوهم أولى بذلك لأن الوهم إنما يتعلق بالمعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات والمواد الجسمانية فلا يمكن له إدراك الواجب المنزه عنها فضلا أن يحيط به ويطلع على كنه حقيقته.
ص:187
(لا أمد لكونه) الأمد بالتحريك الغاية كالمدى يقال: ما أمده أي منتهى عمره، ولما كان الأمد هو الغاية ومنتهى المدة المضروبة لذي الزمان من زمانه، وثبت أنه تعالى ليس بذي زمان يعرض له الأمد، ثبت أنه دائم لا أمد لوجوده (ولا غاية لبقائه) لأنه منزه عن طريان العدم على وجوده، وهذا تأكيد للسابق ويحتمل أن يراد هنا بالأمد الأمر الممتد من الزمان وهو مدة العمر وهو يطلق على هذا المعنى أيضا كما صرح به الزمخشري في «الفائق» وهذا الاحتمال أولى; لأن التأسيس خير من التأكيد ومعناه حينئذ: لا زمان لوجوده لأنه منزه عن الزمان (1) ولأن وجوده قبل وجود الزمان.
(لا تشمله المشاعر) الظاهر أن المشاعر هي الحواس ويحتمل أن يراد بها المدارك مطلقا سواء كانت قوة مادية مدركة للحسيات والوهميات أو قوة عقلية مدركة للعقليات والفكريات إذ ليس للمدارك مطلقا إلى معرفة كنه ذاته سبيل ولا على الوصول إلى حقيقة صفاته دليل وإنما غاية كمالها هي الإيقان بوجوده بعد مشاهدة الآيات والبرهان منزها عن المشابهة بالخلق مجردا عن لواحق الإمكان.
(ولا تحجبه الحجب) لأن الحجب الجسمانية إنما تحجب الأجسام وعوارضها. وقد علمت أنه تعالى منزه عن ذلك، ولما أشار إلى أن المانع من رؤيته ليس هو الحجاب الجسماني، أشار إلى أن هناك نوعا آخر من الحجاب المانع بقوله: (والحجاب بينه وبين خلقه خلقه إياهم) أي الحجاب المانع من رؤيته تعالى هو أن خلقهم على صفات ليست من صفاته، ثم أشار إلى تعليل هذا المجمل بقوله: (لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ولإمكان مما يمتنع منه) قوله «ولإمكان» بالتنوين عوضا عن المضاف إليه أي لامتناع ذاته سبحانه من كل ما يمكن في ذواتهم من الصفات ولإمكان كل ما في ذواتهم مما يمتنع منه سبحانه، وهذا حجاب مانع من رؤيته بالبصر لأن كونهم بحيث يتعلق بهم رؤية البصر من صفاتهم الممكنة، ولهم باعتبار هذه الصفة صفات أخرى وهي الوضع والجهة واللون وغيرها من شرايط الرؤية، وإذا كانت هذه الأمور من صفاتهم وكانت ممتنعة في حقه تعالى علم أنه امتنع أن يكون جل شأنه محلا لنظر العيون ومرئيا مثلهم ووجب أن يكون محتجبا عن أبصارهم بهذا الحجاب الذي هو الامتناع الذاتي لا بالحجاب الجسماني.
ثم قال لتأكيد ذلك أو لتعميم المغايرة بينه وبينهم بحسب الذات والصفات كلها: (ولافتراق
ص:188
الصانع من المصنوع والحاد من المحدود والرب من المربوب); لأن لكل من الصانع والمصنوع صفات تخصه وتميزه وهي أليق به وهو بها يفارق الآخر وهذا هو الحجاب، فالإمكان الذاتي والوجود بالغير والمخلوقية والحدوث والاشتباه والمرئية والملموسية بالمشاعر والحجب بالسواتر من لواحق المصنوعات ومما ينبغي لها ويليق بها. والوجوب الذاتي والخالقية والأزلية والتنزه عن المشابهة والمرئية ولمس المشاعر وحجب السواتر من صفات الصانع الأول ومما ينبغي له ويليق به ويضاد ما سبق من صفات المصنوعات، فلو جرى فيه صفات المصنوعات وجرى في المصنوعات صفاته لوقع المساواة والمشابهة بينه وبينها فيكون مشاركا لها في الحدوث المستلزم للإمكان المستلزم للحاجة إلى الصانع، فلم يكن بينه وبينها فصل ولا له عليها فضل، وكل ذلك - أعني المساواة والمشابهة وعدم الفضل والفصل - ظاهر البطلان. وأراد بالحاد خالق الحدود والنهايات (1) وهو الصانع، واعتباره غير اعتبار الرب لدخول المالكية في مفهوم الرب دون الصانع.
(الواحد بلا تأويل عدد); لأن وحدته ليست بمعنى كونه مبدأ لكثرة تعد به ويكون معدودا من جملتها بأن يقال: هو واحد لا اثنان; لأن الإنسان أيضا واحد بهذا المعنى مع ما فيه من التركيب والتجزية، أو يقال: هو واحد آحاد الموجودات المتألفة من الوحدات، إذ لو كان واحد بمعنى أنه من جملة الآحاد المعدودة لكان من جنسها وكان داخلا في الكم المنفصل فكان موصوفا بالعرض بل بمعنى أنه لا ثاني له في الوجود (2) ولا كثرة في ذاته، لا في الذهن ولا في الخارج. ولا اختلاف
ص:189
في صفاته، ولا يشبهه شيء، ولم يفته شيء من كماله بل كل ما ينبغي له فهو له بالذات والفعل. قيل: نفي الوحدة العددية عنه (1) ينافي ما في بعض أدعية الصحيفة «لك يا إلهي وحدانية العدد»
ص:190
وأجيب بأنه إنما أريد بذلك نفي الوحدة العددية لا إثباتها له.
أقول: ويمكن الجواب عنه أيضا بأنه أريد بذلك أن لك وحدانية العدد بالخلق والإيجاد لها فإن الوحدة العددية من صنعه وفيض وجوده.
(والخالق لا بمعنى حركة); لأن الحركة من لوازم الجسم وتوابع الاستعداد والانفعال وهو منزه عنها وإنما هو خالق بمجرد الإرادة كما قال: (إنما إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (1)(والبصير لا بأداة) أي لا بقوة باصرة (والسميع لا بتفريق آلة) أي لا بتفريق القوة السامعة وتوزيعها على المسموعات وهو توجيهها تارة إلى هذا المسموع وتارة إلى ذلك كما يقال فلأن مفرق الخاطر إذا وزع فكره على حفظ أشياء متباينة ومراعاتها كالعلم وتحصيل المال، وتنزه إدراكه تعالى عن ذلك ظاهر لكونه من توابع الآلات الجسمية والنفوس البشرية.
(والشاهد لا بمماسة) أي الحاضر عند كل شيء لا بمماسة شيء من الأشياء; لأن حضوره ليس كحضور الجسم والجسمانيات المستلزم لتماسها وتقاربها في الأين والوضع بل حضوره عبارة عن إحاطة علمه بكل شيء (والباطن لا باجتنان). (2) في كنز اللغة: الاجتنان: «پنهان شدن ودفن كردن» أي الباطن الخفي بسبب أنه لا يدرك ذاته العقول والأفهام ولا ينال صفاته الحواس والأوهام لا بسبب استتاره في شيء أو احتجابه بحجاب.
ص:191
(والظاهر) أي الظاهر وجوده بالاشراقات العقلية والتجليات الذهنية والتدبيرات التي له في كل ذرة من الموجودات إذ كل شيء دليل على وجوده ومرآة لظهوره.
(الباين لا بتراخي مسافة) أي مباين للأشياء متباعد منها لا بتباعد أين ولا بتراخي مسافة وبينها; لأن ذلك من خواص الأينيات بل بذاته وصفاته حيث إن ذاته لا تماثل بذوات شيء من الموجودات وصفاته لا تشابه بصفات شيء من الممكنات (أزله نهية لمجاول الأفكار) النهية بضم النون وسكون الهاء وفتح الياء المثناة من تحت اسم من نهاه ضد أمره. وفي بعض النسخ «نهي» بدون التاء. والمجاول بالجيم جمع مجول بفتح الميم وهو مكان أو زمان من المحاولة وفي المصادر: المحاولة: «جستن وخواستن» يعني أزله ينهى ويمنع أن يتحقق محل لجولان الأفكار الطالبة لمعرفة ذاته وصفاته أو الطالبة لمعرفة أوله، أما على الأول فلأن غاية سير الأفكار هي أو اخر منازل الإمكان ولا محل لسيرها في الأزل حتى يعرف حقيقة الأزلي من حيث الذات والصفات، وأما على الثاني فلأن الأزل عبارة عن عدم الأولية ومن ليس لوجوده أول لم يكن للفكر محل يجول فيه لطلب أوله.
(ودوامه ردع لطامحات العقول) الردع: المنع والكف، والعقول الطامحة هي المرتفعة إلى أقصى مدارج كمالها وإدراكها، يعني دوامه الأبدي وبقاؤه السرمدي يمنع العقول الكاملة ويكفها عن الوصول إلى آخره لضرورة أن الشيء المعلوم الوقوع يمنع العاقل من طلب نقيضه.
(قد حسر كنهه نوافذ الأبصار) حسر البعير يحسر حسورا أعيى، وحسرته أنا يتعدى ولا يتعدى والأول هو المراد هنا; لأن كنهه فاعله ونوافذ الأبصار مفعوله يعني أعيى وأعجز كنهه الأبصار النافذة العقلية عن إدراكه فإن البصيرة العقلية وإن كانت قوية نافذة إنما تنفذ فيما يمكن نفوذها فيه مما هو في عالم الإمكان، وكنه الواجب خارج عن هذا العالم.
(وقمع وجوده جوايل الأوهام) القمع القلع والكسر. والجوائل جمع الجائل يقال: جال واجتال إذا ذهب وجاء، منه الجولان في الحرب، يعني: كسر وجوده الأوهام الجائلة في ميدان معرفة حقيقته لأنك قد عرفت مرارا أن الوهم إنما يدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات ووجوده تعالى لما لم يكن محسوسا ولا متعلقا به كان كاسرا لتعلق الأوهام (1) به وبحقيقته.
ص:192
(فمن وصف الله فقد حده) (1) أي من وصفه بكيفيات لائقة بمخلوقاته (2) وصفات زائدة على ذاته فقد حده بالكثرة، أو من وصفه بأنه معلوم له وزعم أنه وجد ذاته وأحاط بحقيقته فقد أوجب له حدا يقف الذهن عنده إذ الحقيقة إنما تعلم من جهة ما هي ويشير العقل إليها ويحيط بها إذا كانت مركبة وكل مركب محدود.
(ومن حده فقد عده) (3) لأن حده بأحد الوجهين المذكورين يستلزم تحقق الكثرة فيه، وكل ذي
ص:193
كثرة معدود من جملة المعدودات.
(ومن عدة فقد أبطل أزله) (1); لأن من عده من جنس من ذي الكثرة باعتبار الصفات أو باعتبار الذات فقد أدخله في الممكنات والمحدثات الغير المستحقة للأزلية بالذات فكان عده بأحد الاعتبارين مبطلا لأزله الذي يستحقه لذاته.
(ومن قال: أين فقد غياه) أي جعل له غايات وأطرافا ينتهي إليها; لأن ذلك من لوازم الأينيات كالجسم والجسمانيات.
(ومن قال على ما فقد أخلى منه) في بعض النسخ «على م» بحذف الألف أي ومن قال «على أي شيء هو؟» فقد أخلى منه ساير الأشياء; لأن من قال: هو فوق شيء بمعنى الاستقرار عليه فقد قال بقرب نسبته إلى ذلك الشيء وبعدها عن أشياء آخر أو فقد أخلى منه سائر الأمكنة لأن السؤال ب «على م» مستلزم لتجويز خلو بعض الجهات عنه واختصاصه بالجهة المعينة. وقيل: المراد أخلى منه ذلك الشيء الحامل لضرورة أن المحمول يكون خارجا عن حامله، وفيه نظر.
(ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه) أي فقد جعله في ضمن غيره سواء سأل عن حصوله في المكان كحصول الجسم فيه، أو عين حصوله في الموضوع كحصول العرض فيه، أو عن حصوله في الكل كحصول الجزء فيه، وجعله ضمن الغير باطل لأنه إن افتقر إلى ذلك الغير لزم الإمكان، وإن لم يفتقر إليه أصلا فهو غني عنه مطلقا، والغني المطلق يستحيل حلوله في شيء واتباعه له في الوجود، ولأن حصوله في ضمن الغير، إن كان من صفات كماله لزم اتصافه بالنقص قبل وجود ذلك الغير وإن لم يكن من صفات كماله كان حصوله فيه مستلزما لاتصافه بالنقص.
ص:194
6 - ورواه محمد بن الحسين، عن صالح بن حمزة، عن فتح بن عبد الله مولى بني هاشم قال: كتبت إلى أبي إبراهيم (عليه السلام) أسأله عن شيء من التوحيد. فكتب إلى بخطه: الحمد لله الملهم عباده حمده - وذكر مثل ما رواه سهل بن زياد إلى قوله - وقمع وجوده جوائل الأوهام - ثم زاد فيه -: أول الديانة به معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة وشهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل، فمن وصف الله فقد حده، ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال: كيف؟ فقد استوصفه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال على م؟ فقد جهله، ومن قال: أين؟ فقد أخلا منه، ومن قال: ما هو؟ فقد نعته، ومن قال: إلى م؟ فقد غاياه، عالم إذ لا معلوم، وخالق إذ لا مخلوق، ورب إذ لا مربوب، وكذلك يوصف ربنا وفوق ما يصفه الواصفون.(1)
(ورواه محمد بن الحسين، عن صالح بن حمزة، عن فتح بن عبد الله مولى بني هاشم قال: كتبت إلى أبي إبراهيم (عليه السلام) أسأله عن شيء من التوحيد فكتب إلي بخطه: الحمد لله الملهم عباده حمده - وذكر مثل ما رواه سهل بن زياد إ لي قوله - وقمع وجوده جوايل الأوهام - ثم زاد فيه - أول الديانة به معرفته) الديانة مصدر بمعنى الإطاعة والانقياد يقال: دان بكذا ديانة فهو متدين، والدين ما يتدين به الرجل والملة والورع، وشاع ذلك في الشرع إطلاقه على الشرايع الصادرة بواسطة الرسل (عليهم السلام)، واعلم أن معرفة الصانع على مراتب: الأولى وهي أدناها أن يعرف إن لهذا العالم صانعا ويصدق بوجوده، الثانية أن يترقى إلى توحيده وتنزيهه عن الشركاء، الثالثة أن يترقى إلى نفي الصفات التي يعتبرها العقل عنه وهي غاية العرفان ومنتهى قوة الإنسان. وكل واحدة من الأولين مبدأ لما بعدها، وكل واحدة من الأخيرتين كمال لما قبلها فلذا قال (عليه السلام):
(وكمال معرفته توحيده، وكمال نفي الصفات عنه) توضيح ذلك: أن التصديق بوجوده بدليل يقتضيه تصديق ناقص، تمامه توحيده والتصديق بأنه واحد لا شريك له، ثم هذا التوحيد والتصديق مع الجهل بنفي الصفات عنه ناقص. تمامه نفيها عنه ووجه نقصانه أنه يستلزم حدوثه ونفي الأزلية عنه كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله:
(بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة) وهي الشهادة بلسان
ص:195
الحال فإن حال الصفة تشهد بحاجتها إلى الموصوف وعدم قيامها بدونه وحال الموصوف تشهد بالاستغناء عن الصفة وقيامه بدونها فهما متغايران.
(وشهادتهما جميعا بالتثنية) (1) إذ هما تشهدان بلسان الحال عن اجتماعهما وتقارنهما بالتثنية والتعدد أعني الذات المعروضة للصفات والصفات العارضة لها.
(الممتنع منه الأزل) الممتنع صفة للتثنية والأزل فاعله، وضمير «منه» يعود إلى التثنية باعتبار أنه مصدر. وفي بعض النسخ: «منها».
وبيان ذلك الامتناع أن الواجب حينئذ ليس نفس الذات وحدها ولا نفس الصفة وحدها وإلا لزم افتقاره إلى الغير وأنه ينافي الوجوب الذاتي والغناء المطلق، بل هو المركب من مجموع الذات والصفة وكل مركب حادث (2) وكل حادث يمتنع منه الأزل الذي هو عبارة عن عدم الحدوث، على أن الواجب لو كان نفس الذات وحدها فلا شبهة في أن صفاته الزائدة عليه من كماله فهو ذو كثرة، وكل ذي الكثرة الذي كماله فيها ممكن لافتقاره إلى غيره، وكل ممكن حادث، وقد عرفت أن الأزل يمتنع من الحدوث وإذا ثبت المنافاة بين الأزل وزيادة الصفات ثبت أن من قال بزيادة الصفات فقد أبطل أزله، ولذلك فرع عليه قوله:
(فمن وصف الله فقد حده) أي وصف الله بصفات زائدة فقد حده بالتجزي والتكثر.
(ومن حده فقد عده) (3) من جملة المركبات والمعدودات المتكثرة التي ليست له وحدة حقيقة (ومن عده فقد أبطل أزله) للمنافاة بين أزله وتعديده على الوجه المذكور (4) وذلك الوصف ينشأ من الجهل بأمر التوحيد، ولا يبعد أن يجعل قوله «فمن وصف الله» ناظر إلى قوله «بشهادة كل
ص:196
صفة»، وقوله «من حده» ناظرا إلى قوله «وشهادتهما»، وقوله «من عده» ناظرا إلى قوله «الممتنع».
(ومن قال: كيف، فقد استوصفه) أي طلب وصفه; لأن «كيف» سؤال عن الكيفية والصفة (ومن قال: فيم، فقد ضمنه) بأحد الوجوه المذكورة (ومن قال على ما فقد جهله); لأن من قال: هو علا شيئا بركوب فوقه وقعود عليه، فقد أجرى عليه صفات الخلق، ومن أجرى عليه صفاتهم فهو جاهل به. وفي بعض النسخ «فقد حمله» بالحاء والميم.
(ومن قال: أين؟ فقد أخلى منه); لأن أين سؤال عن الحيز والجهة فمن قال: «أين» فقد جعله في حيز وجهة، ومن جعله فيهما فقد أخلى منه سائر الأحياز والجهات كما هو شأن الجسم والجسمانيات، وهو باطل لأنه تعالى في جميع الأحياز بالعلم والإحاطة، أو فقد أخلى منه صفات الإلهية والربوبية وهي التنزه عن كونه في الأين لأنه من لواحق الأجسام أو فقد برئ منه من قولهم فلان خلي منك أي بريء.
(ومن قال: ما هو، فقد نعته) بأنه محدود معروف بكنه حقيقته، لأن «ما هو» سؤال عن ذلك، وهو جهل به; إذ لا يعرف حقيقته إلا هو (ومن قال: إلى م، فقد غياه) أي جعل لوجوده غاية ينتهي فيها وينقطع بالوصول إليها وهذا محال على الوجود الحق بالذات (عالم إذ لا معلوم); لأن علمه بالأشياء بنفس ذاته التي هي مبدأ لانكشاف الأشياء عندها لا يتوقف على وجود الأشياء بل علمه بها قبل كونها كعلمه بها بعد كونها.
(وخالق إذ لا مخلوق) الخلق بمعنى التقدير وهو مقدر للأشياء في الأزل قبل وجودها، ولو أريد بالخلق معنى الإيجاد لورد أن الخالقية بهذا المعنى مع المخلوق لا قبله (1) وفي الأزل، اللهم إلا
ص:197
أن يقال: اتصافه تعالى بوصف الإيجاد قبل المخلوق; لأن إيجاد الشيء عبارة عن إعطاء الوجود إياه فهو مقدم بالذات على وجود ذلك الشيء لاستحالة إيجاد الموجود، ولكن فيه بعد من وجهين; الأول: أن هذا التوجيه يجعل الكلام قليل الفائدة لظهور أن إيجاد كل شيء قبل وجوده فلا فائدة في التعرض لبيانه. الثاني: أن المقصود بيان تحقق هذا الوصف أعني الخالقية له تعالى في الأزل وإفادة استحقاقه لاسم الخالق أزلا، وهذا التوجيه لا يفيد ذلك بل ينافيه.
(ورب إذ لا مربوب) قد علمت معنى ربوبيته ووجه تقدمها على المربوب آنفا.
(وكذلك يوصف ربنا وفوق ما يصفه الواصفون) «فوق» إما عطف على «يوصف» بتقدير يوصف أو حال عن «ربنا». وفيه إيماء إلى أن ما وصفه الواصفون ليس ربا، والرب فوقه بالربوبية والشرف والوصف اللايق به، وما وصفوه فهو مخلوق مصنوع مثلهم.
7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر وغيره، عمن ذكره، عن عمرو بن ثابت، عن رجل سماه، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته وما ذكره من تعظيم الله جل جلاله، قال أبو إسحاق: فقلت للحارث: أو ما حفظتها قال: قد كتبتها فأملاها علينا من كتابه: الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه، لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن، الذي لم يلد فيكون في العز مشاركا ولم يولد فيكون موروثا هالكا، ولم تقع عليه الأوهام فتقدره شبحا ماثلا ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا، الذي ليست في أوليته نهاية، ولا لآخريته حد ولا غاية، الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان، ولا يتعاوره زيادة ولا نقصان ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان، الذي بطن من خفيات الأمور وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير، الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض بل وصفته بفعاله ودلت عليه بآياته، لا تستطيع عقول المتفكرين جحده، لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع لهن فلا مدفع لقدرته، الذي نأى من الخلق فلا شيء كمثله، الذي
ص:198
خلق خلقه لعبادته وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم، وقطع عذرهم بالحجج، فعن بينة هلك من هلك وبمنه نجا من نجا، ولله الفضل مبدئا ومعيدا، ثم إن الله - له الحمد - افتتح الحمد لنفسه وختم أمر الدنيا ومحل الآخرة بالحمد لنفسه، فقال: وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسيد والمرتدي بالجلال بلا تمثيل، والمستوي على العرش بغير زوال، والمتعالي على الخلق بلا تباعد منهم ولا ملامسة منه لهم، ليس له حد ينتهى إلى حده، ولا له مثل فيعرف بمثله، ذل من تجبر غيره، وصغر من تكبر دونه، وتواضعت الأشياء لعظمته، وانقادت لسلطانه وعزته، وكلت عن إدراكه طروف العيون، وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق. الأول قبل كل شيء ولا قبل له، والآخر بعد كل شيء ولا بعد له، الظاهر على كل شيء بالقهر له، والمشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها، لا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة، هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم، أتقن ما أراد من خلقه من الأشباح كلها لا بمثال سبق إليه ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه، ابتدأ ما أراد ابتداءه وأنشأ ما أراد إنشاءه، على ما أراد من الثقلين الجن والانس، ليعرفوا بذلك ربوبيته وتمكن فيهم طاعته.
نحمده بجميع محامده كلها، على جميع نعمائه كلها ونستهديه لمراشد أمورنا ونعوذ به من سيئات أعمالنا ونستغفره للذنوب التي سبقت منا ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، بعثه بالحق نبيا دالا عليه وهاديا إليه، فهدى به من الضلالة واستنقذنا به من الجهالة، من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ونال ثوابا جزيلا ومن يعص الله ورسوله فقد خسر خسرانا مبينا، واستحق عذابا أليما، فابخعوا بما يحق عليكم من السمع والطاعة وإخلاص النصيحة وحسن المؤازرة وأعينوا على أنفسكم بلزوم الطريقة المستقيمة وهجر الأمور المكروهة، وتعاطوا الحق بينكم وتعاونوا به دوني وخذوا على يد الظالم السفيه ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعرفوا لذوي الفضل فضلهم، عصمنا الله وإياكم بالهدى وثبتنا وإياكم على التقوى وأستغفر الله لي ولكم.(1)
عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر وغيره عمن
ص:199
ذكره، عن عمرو بن ثابت) لعله عمرو بن أبي المقدام الممدوح من رجال السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) (عن رجل سماه عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور) هو الحارث بن قيس الأعور قال العلامة: روى الكشي في طريق فيه الشعبي أنه قال لعلي (عليه السلام): إني أحبك، ولا يثبت بهذا عندي عدالته بل ترجيح ما (1).
(قال خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) يوما خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته) أي من حسن وصفه للرب (وما ذكره من تعظيم الله تعالى. قال أبو إسحاق فقلت للحارث أو ما حفظتها) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على محذوف أي اسمتها وما حفظتها (قال: قد كتبتها (2) فأملاها علينا من كتابه:).
الحمد لله الذي لا يموت) وصف له بالدوام بسبب سلب الموت عنه; لأن الموت انقطاع تعلق الروح عن البدن ورجوع الخلق إلى الحق لزوال القوة المزاجية وكل ذلك عليه سبحانه محال، وإنما افتتح بالحمد لتعليم الخلق بلزوم الثناء على الملك الوهاب والاعتراف بنعمته عند الافتتاح بالخطاب لاستلزام ذلك ملاحظة حضرة الجلال والالتفات إليها عامة الأحوال، وابتدأ بعده بالصفات السلبية الدقيقة وهي أن التوحيد المطلق والإخلاص المحقق لا يتحققان إلا بنقض جميع ما عداه عن لوح النفس وطرحه عن درجة الاعتبار وما لا يتحقق الشيء إلا به (3) كان اعتباره مقدما
ص:200
على اعتبار ذلك الشيء، ولما كان (عليه السلام) معلما لكيفية السلوك إلى الحق وكانت العقول قاصرة عن إدراك حقيقته والأوهام حاكمة بمثليته تعالى لمدركاتها، بدأ بذكر السلب لأنه مستلزم لغسل درن الحكم الوهمي في حقه تعالى عن لوح الخيال حتى إذا ورد ذكره تعالى بما هو أهله ورد على ألواح صافية من كدر الباطل فانتقش كما قيل «فصادف قلبا خاليا فتمكنا».
(ولا تنقضي عجايبه) التي كلما تأملها الإنسان وأجال فيه البصر يجد من كمال قدرته وآثار حكمته فوق ما وجده في بادي النظر (لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن) الشأن: الأمر والحال وهو سبحانه في كل زمان من الأزمان يحدث في عالم الإمكان على وفق الحكمة والقضاء الأزلي ما هو محل العجب العجيب الذي يحار فيه أبصار البصاير من أفعال غريبة وأشخاص جديدة وأحوال بديعة لم يكن شيء منها قبل ذلك. قال القاضي: وفي الحديث من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا، انتهى. أقول: وهو أيضا رد على من ذهب أنه تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا ولم يتقدم خلق آدم (عليه السلام) على خلق أولاده والتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها لا في حدوثها (1) وهذا المذهب مأخوذ من (2) أصحاب الكمون والظهور من جملة الفلاسفة كما أشار إليه صاحب الملل والنحل.
(الذي لم يلد فيكون في العز مشاركا) يمكن إرجاعه إلى قياس استثنائي تقريره: لو كان له ولد
ص:201
كان في العز والجلال مشاركا معه، والتالي باطل إذ لا عزيز على الإطلاق سواه، فالمقدم مثله، بيان الملازمة أن ولد العزيز عزيز مثله وقد سلك (عليه السلام) في ذلك سبيل المعتاد الظاهر في بادي الرأي والاستقراء وهو أن كل ولد يلحق بأبيه في العز والذل وإن لم يجب ذلك في العقل والاستقراء مما يستعمل في الخطابة ويحتج به فيها إذ غايته الإقناع (ولم يولد فيكون موروثا هالكا) أي لو كان مولودا لكان موروثا هالكا يرثه من خلفه، وهو تنزيه له عن صفات البشر إذ العادة أن كل مولود من الإنسان يهلك فيرثه من خلفه والبرهان على استحالة كونه والدا ومولودا أن ذلك من لواحق الشهوة الحيوانية وتوابع القوة الجسمانية، وقدسه تعالى منزه عنها.
(ولم تقع عليه الأوهام فتقدره شبحا ماثلا) الماثل القائم والماثل أيضا المشابه يعني لم تدركه الأوهام فإنها إن أدركته قدرته شخصا منتصبا قائما وصورة شبيهة بصورة الجسم والجسمانيات; لأن الوهم إنما يدرك الأمور المتعلقة بالمادة وشأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيلة في تقديره بمقدار معين ووضح معين ويحكم بأن ذلك مبلغه ونهايته فلو أدركته الأوهام لقدرته شخصا معينا قايما على مقدار معين وصورته بصورة معينة في محل معين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حايلا) حال الشيء يحول إذا انقلب حاله وكل متغير حائل.
كذا في النهاية. يعني لا تدركه الأبصار فإنها إن أدركته كان بعد انتقال الأبصار عنه متغيرا ومنقلبا عن الحالة التي كانت له عند الإبصار وهي المقابلة والمحاذاة والوضع الخاص وغير ذلك من الأمور المعتبرة في الرؤية إلى حالة أخرى مغايرة للأولى فيوصف تارة بالمقابلة والمحاذاة مثلا وتارة باللامقابلة واللامحاذاة، وذلك لا يليق بقدس الحق; لأن نسبته إلى جميع الأشياء والأحياز والأوضاع والأشخاص والأوقات والأزمنة والأمكنة على السواء لا تتغير ولا تتبدل أصلا وأبدا، فنسبته إلى الشرق كنسبته إلى الغرب، ونسبته إلى السماء كنسبته إلى الأرض، ونسبته إلى زيد وإبصاره لشيء كنسبته إلى زيد وإبصاره لشيء آخر، ويحتمل أن يكون لفظة «بعد» بضم الباء ويكون اسم «يكون».
والحايل حينئذ بمعنى الحاجز، يعني لا تدركه الأبصار لأنها لو أدركته كان بعد انتقال الأبصار إليه مانعا من رؤيته; لأن من شرايط الرؤية هو القرب المتوسط واللازم باطل; لأن ذلك شأن ذوات الأحياز التي يتصور فيها القرب والبعد بحسب المسافة، وقدس الحق منزه عن ذلك (الذي ليست في أوليته نهاية ولا لآخريته حد ولا غاية) إذ العدم لا يسبق الوجود الأزلي ولا يلحقه.
ص:202
(الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان) الوقت جزء الزمان، ولما كان جل شأنه خالق الوقت والزمان وجب أن يتقدمهما فلا يتصور تقدمهما عليه.
(ولم يتعاوره) أي لم يأخذه على سبيل التبادل والتناوب (زيادة ولا نقصان) لأنهما من لوازم الكم والكميات (ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان) أي لا يوصف بالحصول في الأين ولعل المراد بالأين الجهة دون المكان لئلا يلزم التكرار، وصح إطلاق الأين على الجهة لكمال المناسبة بينهما في أنهما مقصد للمتحرك الأول باعتبار الحصول فيه والثاني باعتبار الوصول إليه والقرب منه، وكذا لا يوصف بما هو; لأن وصفه به يستلزم وصفه بأنه يمكن معرفة كنه حقيقته; لأن «ما هو» سؤال عن كنه الحقيقة، وكذا لا يوصف بالكون في المكان لاستحالة افتقاره إلى المكان.
(الذي بطن من خفيات الأمور) أي أدرك الباطن من خفيات الأمور يعني نفذ علمه في بواطنها لأنه عالم السر والخفيات، ويحتمل أن يكون المراد أنه باطن خفي داخل في جملة خفيات الأمور ولما كانت بواطنها أخفى من ظواهرها كان المفهوم من كونه بطن منها أنه أخفي منها عند العقول وغيرها من القوى المدركة، وذلك لأن الإدراك إما حسى وإما عقلي، ولما كان عز وجل مقدسا عن الجسمية منزها عن الوضع والجهة استحال أن يدركه شيء من الحواس الظاهرة والباطنة، ولما كان ذاته بريئة عن أنحاء التركيب استحال أن يكون للعقل اطلاع عليها بالكنه فخفاؤه إذن على جميع الإدراكات ظاهر وكونه أخفى الأمور الخفية واضح.
(وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير) إذ بآيات قدرته وتدبيره وعلامات صنعته وتقديره تجلت ذاته في عقول العارفين (1) وظهرت صفاته في صدور العالمين، وقد حث
ص:203
على التفكر فيها والنظر إليها للاستدلال بها على وجود الصانع وصفاته قوله تعالى: (أو لم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) (1)الآية وقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (2)وهذا الطريق هو طريق المليين وساير فرق المتكلمين فإنهم يستدلون أولا على حدوث الأجسام (3) والأعراض ثم يستدلون بحدوثها وتغييراتها على وجود الصانع، ثم يستدلون بالنظر في أحوال المخلوقات على صفاته واحدة واحدة، مثلا يستدلون بإحكامها وإتقانها على كون صانعها عالما حكيما قادرا وبتخصيصها بأمر ليس للآخر (4) على كونه
ص:204
مريدا وبلطافة خلق بعضها ودقته على كونه لطيفا، وكذلك الحكماء الطبيعيون يستدلون بوجود الحركة على محرك وبامتناع اتصال الحركات لا إلى أول على وجود محرك أول (1) غير متحرك، ثم يستدلون من ذلك على وجود مبدأ أول.
(الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض) لامتناعهما في حقه، أما الحد فلأنه ليس له حقيقة مركبة من الذاتيات ولا امتداد منته إلى النهايات، وأما البعض فلأنه ليس له أبعاض لاستحالة التجزية والتكثر على جناب القدس (بل وصفته بفعاله ودلت عليه بآياته) فإنهم أرشدوا العقول الناقصة إلى الشهادة بوجوده بالنظر في أفعاله العجيبة وآياته الغريبة والتأمل في آثار قدرته وأطوار صنعته والتفكر في لطايف تدبيره وطرائف تقديره وبينوا أن كل ما تصورته النفوس من
ص:205
الصور العقلية وأدركته الحواس من الصور الحسية وجب تنزيهه تعالى عنه، وأن الواجب هو الإذعان بوجوده إذعانا بريئا من المواد وعلايقها مجردا عن مدركات الحواس ولواحقها من الأين والوضع والجهة والمقدار وغير ذلك من لواحق الممكنات وخواص المصنوعات.
(لا يستطيع عقول المتفكرين جحده; لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع لهن فلا مدفع لقدرته); لأن هذه المصنوعات آيات ظاهرة على وجوده وحكمته وعلامات باهرة على علمه وقدرته لكن ظهورها للعقول يتفاوت بحسب تفاوت مراتب الاستعداد والتفكر على درجات متباعدة ومنازل متفاوتة ومن جحده فإنما جحده لعدم تفكره في ذواتها وسوء تدبره في صفاتها التي كلها شواهد صدق على وجوده ووحدته في الربوبية وتفرده في الإلهية وتنزهه عن صفات المخلوقين وتقدسه عن سمات المصنوعين مع إقرار العقل بدون معارضة الوهم بالتصديق له حتى إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله. ولذلك إذا وقعوا في مصيبة ودخلوا في بلية كالغرق ونحوه لم يجدوا ملجأ سواه ولم يدعوا إلا إياه.
(الذي نأى من الخلق) أي بعد منهم لعدم مشابهته بهم وعدم إدراكهم له (فلا شيء كمثله) في ذاته وصفاته إذ لا يتصف هو بصفات شيء من الأشياء ولا يتصف شيء من الأشياء بصفاته; لأن عالم الوجوب والغناء مغاير بالكلية لعالم الإمكان والفناء فلا يوجد ما يليق بأحدهما في الآخر (1)
ص:206
(الذي خلق خلقه لعبادته) ليجذبهم بها إلى جناب عزته ولم يخلقهم عبثا كما قال: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) (1)وقال: (ما خلقت السماوات والأرض وما بينهما لاعبين).
(وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم) من شرائط التكليف مثل العقل والقدرة وغيرهما فمنهم سماع أجابوه ومنهم صماء خالفوه.
(وقطع عذرهم بالحجج) أي بالحجج الباطنة وهي العقول والحجج الظاهرة وهي بعث الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب تنبيها للغافلين وتذكيرا للجاهلين فقطع عذرهم ودفع حجتهم لئلا يقولوا يوم القيامة لولا أرسلت إلينا رسولا يهدينا إلى معرفتك ويرشدنا إلى طاعتك (فعن بينة هلك من هلك وبمنه نجا من نجا) يعني من هلك بالكفر والضلال بعد بعث الأنبياء وإنزال الكتب وإرشاد الطريق وإكمال العقل فعن وضوح بينة هلك، ومن نجا عن العقوبة والنكال بالايمان والكمال فبمنه وإفضاله نجا (ولله الفضل مبدئا ومعيدا) أي ولله الفضل والجود والزيادة في الإحسان في حال إبداء الخلق وإيجادهم في الدنيا وفي حال إعادتهم وإرجاعهم بعد الفناء أما فضله في الإيجاد فظاهر لأنه بلا سبق استحقاق قطعا، وأما فضله في الإعادة وازدياد الإحسان في الآخرة فهو مختص بالمؤمنين المتقين كما قال: (وأزلفت الجنة للمتقين) إلى قوله (ولدينا مزيد).
ثم أشار إلى استحقاقه للحمد في البداية والنهاية فضل الحمد والحث عليه بقوله: (ثم إن الله وله الحمد) هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب وإنما لم يذكر متعلق الحمد لقصد التعميم أو للإشارة إلى أنه يستحقه لذاته و «ثم» لمجرد التفاوت في الرتب فإن حمده تعالى لنفسه أفضل وأكمل من حمد الغير له (افتتح الحمد لنفسه) في التنزيل أو عند خلق العالم كما قال (الحمد لله فاطر السماوات والأرض)(2) أو عند خلق الإنسان ونفخ الروح كما قال: (ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)(3) لأن الحمد هو الثناء الجميل ولا يجب أن يكون ذلك بلفظ الحمد.
(وختم أمر الدنيا) لعل المراد بأمر الدنيا ما يتعلق بها من سوء العاقبة وحسنها للعباد بحسب القضاء الإلهي (ومجل الآخرة بالحمد لنفسه) المجل بالتحريك أو سكون الجيم مصدر يقال مجلت يده مجلا بفتح الجيم فيهما ومجلت يده مجلا بكسر الجيم في الأول وسكونها في الثاني وهو أن يجتمع بين الجلد واللحم ماء من كثرة العمل وشدته ويحصل منه بثرة ويقال له بالفارسية «آبله» وضبطه بعضهم بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وهو الجدب وانقطاع المطر ويبس الأرض من
ص:207
الكلاء والمجادلة والكيد، والمراد به هنا على جميع هذه المعاني هو الشدة والمصيبة على سبيل الكناية يعني ختم أمر الدنيا وختم شدايد الآخرة وأهوالها بالحمد لنفسه على القضاء بالحق كما قال (وقضى بينهم بالحق) بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار.
(وقيل الحمد لله رب العالمين) على القضاء بالحق وإعطاء كل قوم ما يستحقونه من غير ظلم ولا جور، والظاهر من سياق هذا الحديث أن القائل هو الله تعالى وقيل هم المؤمنون والملائكة.
فإن قلت: ختم شدائد الآخرة بهذا القضاء وهذا القول ظاهر وأما ختم أمر الدنيا بهما فما الوجه فيه؟ قلت هما في الحقيقة مقارنان لختم أمر الدنيا لانقطاع العمل حينئذ وعند ذلك يتحقق حال كل شخص ويعلم أنه من أهل الجنة أو من النار، ولذلك قيل: «من مات قامت قيامته».
(الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسيد والمرتدي بالجلال بلا تمثيل) تشبيه الكبرياء والجلال أعني العظمة الرفعة باللباس والرداء في الإحاطة والشمول مكنية تعلق اللبس والارتداء بهما تخيلية، ولما كان المتبادر من الكبير والجليل في الأوهام أن يكون ذا جسد ومثال أشار إلى أن وصفه تعالى بهما من غير تجسيد بشخص جسداني وتمثيل بمثال جسماني للتنبيه على أن المراد منهما هو العظمة والرفعة بحسب القدر والرتبة.
(والمستوي على العرش بغير زوال) لما كان المتبادر من الاستواء في أفهام القاصرين هو الاستقرار أشار إلى نفي إرادة ذلك بسلب لازمه الذي هو الزوال من حال إلى حال والانتقال من وضع إلى وضع; لأن كل مستقر على شيء شأنه جواز اتصافه بذلك للتنبيه على أن المراد به معنى آخر يجوز في حقه تعالى وهو الاستعلاء والاستيلاء والغلبة، وإطلاقه على هذا المعنى أيضا شايع في العرف واللغة.
(والمتعالي عن الخلق) بالشرف والعلية والتنزه عن صفاتهم، ولما كان الوهم يتسارع إلى أن ما استعلى على الشيء كان فوقه إما بتباعد وتراخي مسافة بينهما كالفلك التاسع بالنسبة إلى الأرض أو بمماسة والتصاق بلا تراخي مسافة كالماء بالنسبة إليها أشار إلى دفع ذلك تأكيدا لرد الأحكام الوهمية بقوله (بلا تباعد منهم ولا ملامسة منه لهم); لأن علوه تعالى ليس علوا مكانيا بل علوا معنويا كما ذكرناه، والتباعد والتماس إنما يكونان في العلو المكاني فهذا قرينة لحمل التعالي على غير ما يتناوله الوهم (ليس له حد ينتهي إلى حده); لأن حد الشيء في اللغة منتهاه كحد الدار ونحوها وفي العرف ما يشرح حقيقة ذاته وما له من كمال صفاته وليس له سبحانه شيء منهما، أما
ص:208
الأول فلأنه من لواحق الامتداد وليس له سبحانه طبيعة امتدادية وأما الثاني فلأنه مؤلف من كثرة معتبرة في الحدود وهو سبحانه منزه عن الكثرة من جميع الوجوه (ولا له مثل فيعرف بمثله) لتقدسه عن المماثل وفيه تنزيه عن التشبيه والتنظير، ولعل السر في إيراد الفاء هنا دون السابق هو الإشعار بأن المثل منفي على الإطلاق دون الحد فإن له حدا بمعنى تميزه عن غيره بوصفه بما يليق به وعدم وصفه بما يليق بخلقه إلا أن جواز إطلاق الحد على ذلك محل كلام (ذل من تجبر غيره وصغر من تكبر دونه) غيره ودونه حالان عن فاعل تجبر وتكبر والضمير فيهما عايد إليه سبحانه يعني كل من تجبر وتكبر غير الله تعالى على خلقه بشيء ما مثل النسب والحسب والجاه والمال وحسن الهيئة والجمال أو لا بشيء فهو ذليل صغير حقير عنده تعالى وعند الصالحين من عباده بل عند الفاسقين أيضا في الدنيا والآخرة; لأن العظمة والكبرياء من أخص صفاته تعالى ومن نازعه في صفاته فهو بزعمه شريك له ولا شيء أذل وأصغر ممن يدعي أنه شريك الباري.
(وتواضعت الأشياء لعظمته); لأن كل شيء من الموجودات وكل ذرة من الممكنات متواضع لديه موضوع على بساط العجز والافتقار بين يديه وما ذلك إلا لملاحظة عظمته المطلقة التي عجزت العقول عن الإحاطة بها، ومن أنكرها بقلبه ولسانه فمع تواضع ساير جوارحه وأركانه يتواضع بهما عند نزول المصائب وظهور الموت وقيام الساعة التي هي محل الندامة ولكن لا ينفعه ذلك (وانقادت لسلطانه وعزته); لأن كل شيء من المصنوعات وكل نوع من المخلوقات منقاد لقضائه وقدرته وحكمه وتقديره ومنساق على نحو إيجاده وإبقائه وإفنائه وتدبيره فيجيء على نحو ما أراد له من الذوات والصفات وما قدر له من المقدار والكيفيات وما ذلك إلا لملاحظة سلطانه وعزته وغلبته على جميع الأشياء كما قال سبحانه (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) (1)(وكلت عن إدراكه طروف العيون) الطروف بضم الطاء والراء والفاء أخيرا: الطموح جمع طارف بمعنى طامح وفي الفايق طرفت عينه أي طمحت يعني حسرت عن إدراكه العيون الطامحة المرتفعة إلى الشيء ليراه كما هو، وهنا احتمالات أخر; الأول: أن يكون الطروف جمع الطرف بالتسكين وهو تحريك الجفن بالنظر كما في المغرب أو هو العين كما في الصحاح والإضافة حينئذ
ص:209
بيانية وفيه بعد; لأن الطرف بمعنى العين لا يثنى ولا يجمع لأنه في الأصل صرح به مصدر كما صرح به في الصحاح.
الثاني أن يكون الطروف جمع الطرف بالكسر والتسكين وهو الكريم من الخيل ويراد هنا الكريم مطلقا والمراد بالعيون الكريمة العيون الصحيحة الكاملة في إدراكها. الثالث أن يكون الطروف مصدرا بمعنى النظر يقال: طرفت عينه إذا نظرت وما ذكرناه أولا هو الأحسن والأتقن، وفي بعض النسخ طروق العين من الطرق بالقاف وهو الدق أي دق العيون أبواب مدركاتها حتى تدخل فيها (وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق) لما عرفت أن الوهم لا طريق له إلى قدس الحق، ويمكن أن يراد بالأوهام ما يتناول العقل أيضا لعدم استغنائه في الإدراك عن الاستعانة بالوهم غالبا ولأن العقل في باب معرفة الحق مثل الوهم في أن ما أدركه لا يوجد في عالم القدس.
(الأول قبل كل شيء ولا قبل له والآخر بعد كل شيء ولا بعد له) قد مر شرح ذلك مفصلا.
(الظاهر على كل شيء بالقهر له) على الإيجاد والإفناء وإجراء جميع ما أراد، فكل شيء مسخر مغلوب له عند حكمه وإرادته، عاجز مقهور تحت قهره وغلبته وليس ظهوره عليه بمعنى الركوب والتسنم لذراه كما مر (والمشاهد لجميع الأماكن) بالعلم والإحاطة (بلا انتقال إليها); لأن الانتقال من خواص الأجسام المنزه قدسه عنها وهذا قرينة لصرف شهوده لجميع الأماكن عن الحلول فيها إلى ما ذكرناه لاستحالة ذلك بدون الانتقال (لا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة) لأنه ليس من الكيفيات الملموسة والمحسوسة (هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) لاستحقاق العبادة والإلهية بالنسبة إلى أهل السماء وأهل الأرض جميعا وقد مر شرحه مفصلا.
(وهو الحكيم العليم) لإتقان أفعاله وآثاره بحيث لا يجوز أن يقال لو فعل هذا لكان أتقن ولو لم يفعل ذاك لكان أحسن وتعلق علمه بجميع الأشياء بحيث لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ولا حسيس نملة في الصخرة الملساء.
(أتقن ما أراد من خلقه من الأشباح كلها) «من» الأولى متعلقة بأراد، و «من» الثانية بيان ل «ما»، والمراد بالأشباح الأشخاص المتغايرة والصور المتباينة كصورة الإنسان وصورة الفيل وصورة البقة وصورة النملة وغيرها من الصور النوعية والصور الشخصية والصور الجمادية والصور النباتية والصور الفلكية والصور العنصرية.
ص:210
(لا بمثال سبق إليه) إن أريد بالمثال الصورة العلمية وإطلاقه عليها شايع كان «سبق» بالباء الموحدة مبنيا للفاعل وضمير فاعله يعود إليه والضمير المجرور إلى الله سبحانه أي خلق ما أراد لا بصورة علمية زايدة سبقت إليه; لأن ذاته بذاته علم بجميع الموجودات. وإن أريد به مثال الموجودات كما هو الظاهر كان «سبق» مبنيا للمفعول والضمير المستتر له تعالى والضمير المجرور للمثال، والمقصود أنه خلق ما أراد لا بمثال سبقه تعالى غيره إلى إيجاد ذلك المثال أو مبنيا للفاعل ومرجع الضمير بحاله يعني خلق بلا مثال سبق الله تعالى غيره إلى ذلك المثال في إيجاد مثله بناء على أن المثال قديم لا موجد له أو على أن السبق إضافي ويحتمل أن يكون «إلى» بمعنى «على»، وإطلاق حروف الجر بعضها على بعض شايع، ويحتمل أن يكون «سيق» بالياء المثناة من تحت وحكم الضمير فيهما عكس ما والمقصود في هذه الصورة أنه خالق ما أراد بلا مثال سابق لاستحالة افتقاره ونقصانه في العلم والقدرة والفعل وامتناع وجود خالق غيره.
(ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه) أي عند الخلق والإيجاد أو عنده تعالى بلا مثال، وهو على الأول متعلق بدخل وعلى الثاني بخلق، واللغوب: التعب، وفيه تنزيه له تعالى عن الأحوال البشرية والعوارض البدنية واللواحق الحيوانية من الضعف والأعياء والتعب وكلال الأعضاء عند كثرة الاشتغال.
(ابتدأ ما أراد ابتداءه وأنشأ ما أراد إنشاءه على ما أراد من الثقلين الجن والانس) تأكيد لما مر ومبالغة في أنه البديع المخترع للموجودات وحدودها وهي ما لها من المقادير والأشكال والنهايات والآجال والكمالات على وفق إرادته الكاملة وحكمته البالغة ليس له معين ناصر ولا دافع زاجر يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون. والفرق بين الابتداء والإنشاء خفي ذكرناه سابقا.
(ليعرفوا بذلك ربوبيته) (1); لأن ما فيهم من التقديرات والتدبيرات ودقايق الصنع كاف لهم في
ص:211
معرفته ومعرفة ربوبيته (وتمكن فيهم طاعته) بإيجاد القوة والقدرة عليها، و «تمكن» إما من التمكن تحذف إحدى التاءين «وطاعته» على الأول مفعول والفاعل هو الله تعالى وعلى الثاني فاعل.
(نحمده بجميع محامده كلها على جميع نعمائه كلها) المحامد جمع المحمدة وهي ما يحمد به من صفات الكمال ونعوت الجلال، وفيه تعميم لحمده على وجه الاجمال من جهة المحمود به ومن جهة المحمود عليه، وذلك يتصور على وجهين: الأول أن يكون بإزاء فرد من الثاني فرد من الأول، وثانيهما أن يكون بإزاء كل فرد من الثاني جميع الأفراد من الأول، ولا ريب في أن حمده تعالى بأحد هذين الوجهين على سبيل التفصيل متعذر لنا، وإنما المقدور لنا هو حمده كذلك على سبيل الإجمال. ثم إنه يحتمل أن من حمده كذلك كان له ثواب من حمده على سبيل التفصيل وبه يشعر ظاهر كلام بعض العامة.
وقال بعضهم: إنه يثاب بأكثر من ثواب من حمده على بعض نعمائه، ولا يبعد أن يكون له ثواب بكل فرد فرد إلى آخر الأفراد، ولكن ثوابه دون من أتى به على التفصيل وإلا لم يكن للتفصيل فائدة (ونستهديه لمراشد أمورنا) أي لمقاصد الطرق التي توصلنا إلى الأمور المطلوبة عنا من المعارف والأحكام والأخلاق.
(ونعوذ به من سيئات أعمالنا ونستغفره للذنوب التي سبقت منا) (1) في هذه الفقرات الثلاث
ص:212
إشارة إلى ما يجب على السالك مراعاته ليتم سلوكه وسيره إلى الله تعالى فإنه يجب عليه أولا أن يعلم الطريق الموصل له إلى المطلوب، وثانيا أن يجتنب ما يخرجه عن هذا الطريق ويدخله في طريق الضلال وهو الأعمال السيئة، وثالثا أن يرفع عنه الأغلال المانعة من السير وهي الذنوب السابقة، ولما كان تحصيل هذه الأمور لا يمكن بدون الهداية من الله والاستعانة به طلب الهداية منه أولا وعاذ من شرور النفس وسيئات الأعمال التي من مقتضياتها ثانيا، وطلب غفران الذنوب ورفع الأغلال ثالثا، والله ولي التوفيق.
(ونشهد أن لا إله الله وأن محمد عبده ورسوله بعثه بالحق) أي أرسله بدين الحق الذي لا يعتريه الباطل (نبيا دالا عليه) أي على الله أو على الحق الذي هو دينه (وهاديا إليه فهدى به) أي فهدانا الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) أو هدانا محمد بدين الحق (من الضلالة) والوجهان يأتيان في قوله (واستنقذنا به من الجهالة) قد مر أنه بعث في زمان شاع فيه الضلالة والجهالة ولم يكن فيه إمام عدل يهتدى به ولا قانون حق يقتدى به (من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) أي ظفر بالخير ظفرا عظيما لا يبلغ عقل البشر إلى كنه حقيقته وكمال وصفه (ونال ثوابا جزيلا) لكون سيرته القصد وطريقته الرشد وقوله الفضل وأمره العدل وفعله الحق ونيته الصدق، وكل من كان كذلك فله الأجر الجميل والثواب الجزيل (ومن يعص الله ورسوله) وضع الظاهر موضع الضمير إذ ظاهر المقام ومن يعصهما للدلالة على تعظيم الله سبحانه إذ الضمير يوهم التسوية ولعل هذه علة الذم فيما رواه مسلم عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى» فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «بئس الخطيب أنت! قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى».
(فقد خسر خسرانا مبينا واستحق عذابا أليما) إنما قال «استحق عذابا» ولم يقل «نال عذابا» كما قال «نال ثوابا» للطيفة لا تخفى على ذوي البصاير، وينبغي أن يعلم أن فائدة القضية الأولى أعني قوله «ومن يطع الله» الجذب إلى اتباع دين الحق وسلوك الصراط المستقيم، وفايدة القضية الثانية أعني قوله «من يعص الله» التنبيه على النظر في عواقب الأمور; إذ لا عذر للمخاطبين في جهالاتهم بعد وضوح الحق (فابخعوا) البخع بالباء الموحدة ثم الخاء المعجمة: المبالغة في الشيء والإقرار به والخضوع له. قال في الفائق في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله): أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا (1)
ص:213
وألين أفئدة وأبخع طاعة أي أبلغ طاعة من بخع الذبيحة إذا بالغ في ذبحها وهو أن يقطع عظم رقبتها ويبلغ بالذبح البخاع، والبخاع بالباء العرق الذي في الصلب، هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في كل مبالغة فقيل: بخعت له نصحي وجهدي وطاعتي وقال ابن الأثير: في الحديث «أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وأبخع طاعة» أي أبلغ وأنصح في الطاعة من غيرهم كأنهم بالغوا في بخع أنفسهم أي قهرها وإذلالها.
وقال الجوهري: بخع نفسه بخعا أي قتلها غما، ومنه قوله تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) وبخع بالحق بخوعا: أقر به وخضع له، وكذلك بخع بالكسر بخوعا وبخاعة (1).
(بما يحق عليكم) أي بما يثبت عليكم ثبوتا لازما أو غير لازم كالعقائد العقلية والأحكام الشرعية والآداب الخلقية.
(من السمع والطاعة) أي من سمعكم قول الله وقول الرسول وقول أولي الأمر وطاعتكم لهذه الأقوال والإذعان به والاتباع له (وإخلاص النصيحة) أي تصفيتها من الغش وهي اسم من النصح وهو الخلوص وكل شيء خلص فقد نصح، وهذه من الكلمات الجامعة إذ يندرج فيها النصيحة لله والنصيحة لكتابه والنصيحة لرسوله والنصيحة للأئمة (عليهم السلام) والنصيحة لعامة المسلمين، والأولى عبارة عن صحة الاعتقاد بوحدانيته وإخلاص النية في عبادته والثانية عبارة عن التصديق بالكتاب والعمل بما فيه والثالثة عبارة عن التصديق برسالة الرسول والانقياد له بما أمر به وما نهى عنه والرابعة عبارة عن إطاعة الأئمة في كل ما يقررون في الشرع وكل ما ينكرون فيه وعدم تجويز رد قولهم ومخالفتهم بوجه والخامسة عبارة عن إرشاد المسلمين إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية.
(وحسن المؤازرة) أي حمل بعضكم ثقل بعض بلا من ولا ضجر، والوزر: الثقل، والوزير: الموازر كالوكيل المواكل لأنه يحمل عن الأمير ثقله.
(وأعينوا على أنفسكم) تقريبا لها إلى كمالاتها وتبعيدا لها عن مشتهياتها (بلزوم الطريقة
ص:214
المستقيمة) وهي الطريقة النبوية والقوانين الشرعية التي يوجب التمسك بها استعداد النفس لقبول الألطاف الإلهية والأسرار الربانية والانجذاب عما يدعو إليه النفس الأمارة من الشهوات الدنيوية والزهرات الدنية الفانية فإنه إذا حصل هذا الاستعداد أمكن الترقي إلى أقصى ما هو المطلوب من الحقيقة الإنسانية (وهجر الأمور المكروهة) وهي التي نهى عنها الشارع، نهي تحريم أو نهي تنزيه فإن الاجتناب عن الأمور التنزيهية أيضا معد للنفس في تحصيل كمالاتها (وتعاطوا الحق بينكم) أي تناولوه بأن يأخذه بعضكم من بعض ليظهر ولا يضيع، وفيه ترغيب لكل أحد في إعلان الحق وعدم الاستنكاف عن أخذه ممن هو دونه في الفضل والكمال (وتعاونوا به) أي بالحق أو بالتعاطي (دوني) حال كون التعاون متجاوزا عني لأنه (عليه السلام) عيبة علمه تعالى ومعدن أسراره لا يحتاج إلى التعاون بأحد من الأمة في معرفة الحق أو حال كون الحق عندي وفيه حينئذ تحريض لهم على أخذ الحق منه (عليه السلام) كما يقال للإغراء بالشيء: دونك.
(وخذوا على يد الظالم السفيه) أي خذوا للفقير الملهوف والمستغيث المظلوم على يد السفيه الظالم لنفسه ولغيره، والسفيه هو الذي يحركه الهوى النفسانية إلى مشتهياتها وتميله القوى الشهوانية إلى مقتضياتها، وفي لفظة «على» إشعار بلزوم الأخذ وإن بلغ حد الضرب والجدال وغير ذلك من أنواع التهتك والتشدد.
(ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر) باللسان واليد وإن لم يمكن ذلك فبالقلب بالتباغض والتباين، وهذا أضعف المراتب. والمعروف قيل: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع، والمنكر بخلافه ولكن الأمر بالمندوبات والنهي عن المكروهات مستحبان غالبا.
(واعرافوا لذوي الفضل فضلهم) (1) أمر بتقديم ذوي الفضل وتوقيرهم والرجوع إليهم في
ص:215
الأعمال والعقائد; لأن نظام الدين والدنيا ونظام الحقيقة الإنسانية وكمالها إنما يحصل بالفضل والعلم، وتفاوت أقدار الرجال إنما هو بحسب تفاوت مراتبهم في الفضل والكمال.
(عصمنا الله وإياكم) عن سبيل الباطل والفساد (بالهدى) إلى سبيل الحق والرشاد، هذا دعاء شامل لمن تبعه من العباد إلى يوم المعاد (وثبتنا وإياكم على التقوى) وهي الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات تابعة للخوف الحاصل من مشاهدة آيات الوعيد وما صرحت به الدنيا من انصرام لذاتها وانقطاع شهواتها وما كشفت عنه عبرها من العقوبات النازلة على من خالف فيها ربه وأوقف عليها همه وحصر فيها قصده فإن من حبس قلبه على تلك المشاهدة أفاض الله تعالى عليه صورة خشيته وهي مستلزمة للتقوى ومن ثم قيل: المتقي هو الذي يجعل بينه وبين عذاب الله وعقوباته العاجلة والآجلة وقاية من الطاعات وترك المنهيات.
(وأستغفر الله لي ولكم) ختم بالاستغفار للتنبيه على أنه الأصل العظيم للسالك في رفع الموانع وقطع العلائق المانعة من السلوك على وجه الكمال; لأن السالك وإن اجتهد في السير وبالغ في التقوى فهو بعد في مقام التقصير، والتقصير مانع عظيم، والرافع له هو الاستغفار، وأيضا للسالك مقامات كثيرة (1) بعضها فوق بعض إلى أن يبلغ أعلاها وهو مقام الفناء في الله، ولا ريب في أن كل
ص:216
مقام سابق نقص بالنسبة إلى المقام اللاحق وكل مقام لاحق كمال بالنسبة إلى المقام السابق ومن هنا يظهر سر قولهم: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فلا ريب في أن السالك ما دام سالكا ولم ينته سلوكه إلى أرفع المقامات أو انتهى إليه ورجع إلى ما دونه لإعانة سائر السالكين فهو في مقام نقص، والنقص تقصير، والتقصير يوجب الاستغفار، ومن هنا ظهر وجه استغفار المعصوم لنفسه والله ولي التوفيق.
ص:217
محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن سيف بن عميرة عمن ذكره، عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه» فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون يهلك كل شيء إلا وجه الله، فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما: إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي النعمان، عن سيف بن عميرة: عمن ذكره، عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) فقال: ما يقولون فيه؟) الغرض من هذا السؤال تخطئتهم وتنزيهه تعالى عما يقولون وتطهير قلب المخاطب عن ذلك ليستعد لقبول الحق; لأن التخلية مقدم على التحلية (قلت: يقولون: يهلك كل شيء إلا وجه الله) أرادوا به الوجه المعروف فلذلك نزهه (عليه السلام) عن ذلك (فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما) حيث شبهوه بخلقه وجعلوه ذا وجه معروف (إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه) أي يؤتى الله من ذلك الوجه وهو الرسول وأوصياؤه (عليهم السلام) لأنهم طرق إلهية وأنوار ربوبية (2) بهم يتنور أذهان الخلائق لقبول فيض الحق
ص:218
ويستعد قلوبهم لسلوك سبيله، وقد روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: «من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم وهم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته وقال الله تعالى (كل من عليها فان ويبقي وجه ربك) وقال عز وجل: (كل شيء هالك إلا وجهه) وإطلاق الوجه على هذا المعنى شايع، قال في المغرب: (فثم وجه الله) أي جهته التي أمر بها ورضيها. وينبغي أن يعلم أن الحصر المستفاد من «إنما» إنما هو بالنظر إلى ما قالوه أو بالنظر إلى كون المراد بالوجه ما ذكره (عليه السلام) هو المقصود الأصلي من هذه الآية وتنزيلها فلا ينافيه أن يكون للوجه تأويل آخر وهو ذاته تعالى كما ذكره بعض المفسرين ومعناه أن كل شيء في مرتبة ذاته هالك إلا ذاته الحقة بذاته، وقد أو ضحنا ذلك سابقا.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي» نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «كل شيء هالك إلا وجهه» قال: من أتى الله بما أمر به من طاعة محمد (صلى الله عليه وآله) فهو الوجه الذي لا يهلك وكذلك قال: «ومن يطع الرسول فقد أطاع الله.(1)
عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) (2)قال من أتى الله بما أمر به من طاعة محمد (صلى الله عليه وآله) فهو الوجه الذي لا يهلك) هذا القول تفسير للوجه وضمير هو يعود إلى الموصول والمعنى أن كل شيء هالك في الدنيا والآخرة إلا من أطاع محمدا (صلى الله عليه وآله) ولا ريب في أن الأئمة الطاهرين أفضل وأشرف من أطاعه فهم المقصودون بهذا الوجه أولا وبالذات، ثم يندرج فيه كل من تبعهم إلى يوم القيامة الحمد الله رب العالمين (وكذلك قال: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) في بعض النسخ «ولذلك» باللام ويمكن أن
ص:219
يكون هذا الكلام استدلالا على المطلوب; تقريره من أطاع الرسول فقد أطاع الله ومن أطاع الله فهو وجه الله الذي يؤتى منه، ينتج من أطاع الرسول فهو وجه الله.
3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي سلام النخاس، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم ونحن عين الله في خلقه ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا. وإمامة المتقين.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي سلام النخاس، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نحن المثاني التي أعطاها الله محمد (صلى الله عليه وآله)) المثاني جمع مثنى أو مثناة من التثنية بمعنى التكرار وإنما سموا مثاني لاقترانهم بالقرآن وفي كتاب التوحيد:
«معناه» نحن الذين قرننا النبي (صلى الله عليه وآله) إلى القرآن وأوصى بالتمسك بالقرآن وبنا وأخبر أمته بأنهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض» انتهى، ويبعد أن يراد بالمثاني القرآن ويكون حملها على نحن باعتبار أنهم (عليهم السلام) مظاهر القرآن والسنة أو باعتبار أن القرآن صار مثاني باقترانه بهم; لأن كل ذلك خلاف المتبادر من الحمل (ونحن وجه الله) إذ بهم يتوجه الخلائق إلى المعارف الإلهية والملة النبوية والكمالات النفسانية (نتقلب في الأرض بين أظهركم) بفتح الهمزة وضم الهاء جمع الظهر أي نتقلب بينكم لشيوع استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى أعني الإقامة بين قوم مطلقا أو نتقلب بينكم في أيام معدودة لما نقل عن بعض أهل اللغة أن قولهم لقيتهم بين الظهرانين معناه في اليومين أو في الأيام أو نتقلب بين ظهوركم وخلفكم لا بين قد أمكم فيكون كناية عن إعراض الخلق عنهم وشكاية عن عدم التفاتهم إليهم وجعلهم وراء ظهورهم (ونحن عين الله في خلقه) فلان عين من عيون الله أي خاصة من خواصه وولي من أوليائه، كما صرح به في النهاية، فالمعنى نحن خواصه وأولياؤه وحفظة دينه فيما بين خلقه لئلا يكون لهم على الله حجة (ويده) أي نعمته (المبسوطة بالرحمة على عباده) في الدنيا والآخرة، فاليد مجاز عن النعمة
ص:220
من باب إطلاق اسم السبب على المسبب لتقدسه تعالى عن الجارحة وكون اليد مبدأ للنعمة ظاهر.
والبسط يعني النشر وإن كان حقيقة في الأجسام إلا أنه من الاستعارات الشايعة التي قاربت الحقيقة (عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا) أي عرفنا في الدنيا والآخرة من عرفنا واعتقد بحقية ولايتنا وإمامتنا وأنكرنا من أنكرنا ولم يعتقد بها، وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده لا يدخل الحجة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه» (وإمامة المتقين) يحتمل رفع الإمامة وهو مصدر أممت القوم إمامة على الابتداء بحذف الخبر أي ولنا إمامة المتقين ويحتمل نصبها للعطف على ضمير المتكلم في جهلنا والإضافة بتقدير اللام أي جهلنا من جهل إمامة المتقين التي جعلها الله تعالى حقا لهم. وفي كتاب التوحيد: «فأمامه اليقين» الأمام بالفتح نقيض الخلف والضمير عايد إلى «من» والفاء للتعقيب، وفي الإتيان بالفاء دون ثم إشعار بقرب ذلك والمراد باليقين إما الموت وإما العلم االقطعي الذي يحصل لهم في النشأة الآخرة وعند الموت بحقية إمامة الأئمة (عليهم السلام) وفيه تهديد ووعيد لهم وإخبار بما يحصل لهم في ذلك الوقت من الحسرة والندامة.
4 - الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى جميعا، عن أحمد بن إسحاق عن سعدان ابن مسلم، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفته.(1)
الحسين بن محمد الأشعري، ومحمد بن يحيى جميعا عن أحمد بن إسحاق عن سعدان بن مسلم عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا) يحتمل أن يراد بالأسماء الحسنى أسماؤهم (عليهم السلام) وإنما نسبها الله إليه لأنه سماهم بها قبل خلقهم كما دل عليه بعض الروايات ويحتمل أن يراد بها ذواتهم; لأن الاسم في اللغة العلامة وذواتهم القدسية علامات ظاهرة لوجود ذاته وصفاته، وصفاتهم النورية بينات واضحة لتمام أفعاله وكمالاته وإنما وصفهم بالحسنى مع أن غيرهم من الموجودات أيضا علامات وبينات; لما وجد فيهم من الفضل والكمال ولمع منهم من الشرف والجلال ما لا يقدر على وصفه لسان العقول ولا
ص:221
يبلغ إلى كنهه أنظار الفحول،فهم مظاهر الحق وأسماؤه الحسنى وآياته الكبرى فلذلك أمر سبحانه عباده أن يدعوه ويعبدوه بالتوسل بهم والتمسك بذيلهم ليخرجوا بإرشادهم عن تيه الضلالة والفساد ويسلكوا بهدايتهم سبيل الحق والرشاد.
5 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن الهيثم بن عبد الله، عن مروان بن صباح قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده. ولسانه الناطق في خلقه. ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله.(1)
(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن الهيثم بن عبد الله، عن مروان بن صباح قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلقنا فأحسن خلقنا) بفتح الحاء أو ضمها والأول أنسب لفظا والثاني أحسن معنى (وصورنا فأحسن صورنا) أي صورنا الظاهرة والباطنة التي هي الإنسان في الحقيقة، والمراد بإحسانها خلقها وتصويرها على وجه الكمال من الإحكام والإتقان والتزيين بالكمالات الصورية والمعنوية والتحلية بالأخلاق النفسانية (وجعلنا عينه في عباده) أي «ديدبانه» فيما بين عباده فنراهم في حركاتهم وسكناتهم وأعمالهم ثم نشهد لهم وعليهم يوم القيامة (ولسانه الناطق في خلقه) لأنهم ينطقون بمراد الله تعالى من أسراره وأحكامه وشرايعه ومحكمه ومتشابهه ومجمله ومأوله وغير ذلك مما له مدخل في نظام الخلق وكمالهم في الدارين ولفظ اللسان استعارة (ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة) قد مر تفسيره وسنح لي الآن وجه آخر وهو أن هذا الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية بتشبيه رأفتهم ورحمتهم بعباد الله برحمة الرحماء بالأيتام وإمرار أيديهم على رؤوسهم فإن عباد الله في هذه الدار بمنزلة الأيتام كما دل عليه بعض الروايات، وهم (عليهم السلام) أرحم بهم من الأب الرحيم (ووجهه الذي يؤتى منه) لأنهم واقفون على سواء سبيل الحق ومزال الأقدام فوجب على السالك اقتفاء آثارهم والرجوع إلى أشعة أنوارهم لينتهي سيره إلى الله (وبابه الذي يدل عليه) المراد بالباب باب علمه الذي يدل سبحانه على ذلك الباب بقوله
ص:222
(وأتوا البيوت من أبوابها) (1)أو يدل بذلك الباب عليه سبحانه فإن العلم هو الدليل على الله وعلى الخشية منه والانقياد له كما قال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (2)وفيه إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلى بابها» أو المراد به باب جنته ولفظ الباب على التقديرين مستعار ووجه المشابهة أن من أراد أن يكتسب علما ويدخل الجنة وجب أن يأتيهم أولا كما أن من أراد أن يدخل بيتا وجب أن يأتي بابها أولا.
(وخزانه في سمائه وأرضه) أي جعلنا فيما بين أهل سمائه وأهل أرضه خزان علمه وأسرار غيبه المشار إليها بقوله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول) (3)أو خزان جنته على معنى أن من جاء يوم القيامة بولايتنا دخل الجنة وإلا فلا، أو خزان أمره على الإطلاق ولفظ الخزان على التقادير استعارة ووجه المشابهة تصرفهم بمنع العلم وإعطائه أو بمنع الجنة وإعطائها أو بمنع نزول المنافع من السماء وخروج الكامنات من الأرض والإذن بها مثلا كما أن شأن الخازن للشيء كذلك (بنا أثمرت الأشجار) أي بوجودنا وبركتنا أو بأمرنا صارت الأشجار مثمرة أما الأول فلأن وجودهم سبب لبقاء نظام العالم فلو لم يكن وجودهم لم يكن عالم ولا نظام ولا أشجار ولا أثمار، وأما الثاني فلأنهم المدبرون في هذا العالم بإذن ربهم (4).
ص:223
(وأينعت الثمار وجرت الأنهار) ينع الثمر بتقديم الياء على النون وأينع إذا أدرك ونضج، والينيع واليانع مثل النضيج والناضج لفظا ومعنى (وبنا ينزل غيث السماء ونبت عشب الأرض) (1) في بعض النسخ «ينبت» على صيغة المضارع والعشب بضم العين وسكون الشين المعجمة الكلاء الرطب ولا يقال له حشيش حتى يهيج (وبعبادتنا عبد الله) أصل العبادة الخضوع والذل والطاعة والانقياد، ولا ريب في أن العبادة لهم هي العبادة لله تعالى، ولذلك قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
ص:224
الأمر منكم) (1)وقال (من يطع الرسول فقد أطاع الله) فطاعتهم طاعة الله تعالى وطاعته طاعتهم، فمن لم يطعهم وظن أنه أطاع الله فهو من (الأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).
(ولولا نحن ما عبد الله) أصلا; لأن وجودهم سبب لوجود عالم الأمر وعالم الخلق أعني عالم الروحانيات وعالم الجسمانيات، فلو لم يكن وجودهم لم يكن وجود في عالم الإمكان فلم يكن عابد لله أصلا، أو المراد ما عبد الله في هذه الأمة; لأن العبادة لا يمكن إلا باتباع الشريعة والالتزام لأحكامها ولا يمكن ذلك إلا بمعرفتها ومعرفة كيفية العمل بها ولا يمكن ذلك إلا ببيان صاحب الشريعة والقائم بها وإرشاده وتعليمه، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة الإمام وحقية إمامته والتصديق بولايته ليقتدى به; لأن علمهم بالشرايع على أفضل المراتب وأكملها.
6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة ابن بزيع (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فلما آسفونا انتقمنا منهم) فقال: إن الله عز وجل لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه، لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه. فلذلك صاروا كذلك وليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه، لكن هذا معنى ما قال من ذلك وقد قال:
«من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها» وقال: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)(3) فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر وهو الذي خلقهما وأنشأهما (4) لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما، لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغير، وإذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه، فافهم إن شاء الله تعالى.(5)
ص:225
(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة بن بزيع عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: فلما آسفونا) أي أغضبونا وأحزنونا حزنا شديدا يقال:
أسف عليه أسفا أي غضب وأسفه أي أغضبه والأسف. أشد الحزن (انتقمنا منهم) بإهلاكهم واستيصالهم(فقال: إن الله تعالى لا يأسف كأسفنا); لأن الأسف من تغير المزاج وثوران القوة الغضبية وانفعال النفس عن المكاره الواردة عليها وكل ذلك على الله محال (ولكنه خلق أولياء لنفسه) يحبهم ويحبونه ويذكرونه في جميع الحالات ولا يغفلون عنه في وقت من الأوقات (يأسفون ويرضون) أي يغضبون على من خالف حبيبهم ويحزنون به أشد الحزن ويرضون عمن أطاعه ويتبع مرضاته (وهم مخلوقون مربوبون) خلقهم الله على أحسن الصور والهيئات ورباهم إلى ما قدر لهم من الحالات والكمالات (فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه) لكمال القرب والاتصال بينه وبينهم حتى يظن الجهلة والغلاة أنهم هو، وليس كذلك لوجوب المغايرة بين الخالق والمخلوق والرب والمربوب.
(لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه) يدعون عباد الله بعد خوضهم في بحار الفتن والآفات وتوغلهم فيما اكتسبوه من الآثام والسيئات إلى الإقرار بوجوده ووحدانيته في الإلهية وتفرده في الربوبية وتوحده باستحقاق الطاعة والعبادة، ويدلونهم على ذلك بالحجج البالغة والدلائل القاطعة والبراهين الواضحة (فلذلك صاروا كذلك) أي فلذلك المذكور من كونهم أولياء الله والدعاة إليه والأدلاء عليه صاروا بحيث يكون رضاهم رضاه وسخطهم سخطه حتى نسب سبحانه أسفهم بقوله (فلما آسفونا) إلى ذاته المقدسة عن الاتصاف به.
(وليس أن ذلك) أي ليس المقصود أن الأسف (يصل إلى الله تعالى كما يصل إلى خلقه); لأن ذلك محال كما ستعرفه (لكن هذا) أي نسبة أسف الأولياء إلى نفسه في هذه الآية.
(معنى ما قال من ذلك) القبيل.
(وقد قال: من أهان لي وليا) أي من استحقر وليا لي واستخف به وأذله (فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها) مبارزة الرجل ظهوره من الصف طلبا للمقاتل، فقد نسب سبحانه المحاربة التي من شأنها أن تكون وصفا للولي لتعلق الإهانة به إلى نفسه المقدسة تعظيما لوليه وتوقيرا له حتى كان محاربته محاربة ذاته المقدسة (وقال: (ومن يطع الرسول فقط أطاع الله) وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)) جعل الله سبحانه إطاعة الرسول وبيعته ويده إطاعة
ص:226
الله وبيعته ويده (فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك) من أنه تعالى جعل ما للأولياء وعليهم لذاته المقدسة وعليها. وهذا شايع بين المحب والمحبوب إذا كانت المحبة في غاية الكمال.
(وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك) في كونه وصفا له تعالى مجازا باعتبار أنه وصف لوليه حقيقة، ولما أشار إلى أن نسبة الأسف إليه تعالى مثل نسبة الطاعة ونظايرها في الآيات المذكورة إليه وبذلك لا يثبت امتناع اتصافه بالأسف، أشار إلى البرهان عليه تحقيقا لقوله وليس أن ذلك يصل إلى الله تعالى كما يصل إلى خلقه بقوله:.
(ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر) الضجر - محركة -: الغلق من الغم.
(وهو الذي خلقهما وأشباههما) الواو الأولى للحال والثانية للعطف على الأسف أو على مفعول خلقهما، والمراد بأشباههما نظايرهما التي نسبت إليه سبحانه (لجاز لقائل هذا) أي هذا القول وهو أن الأسف والضجر يصل إلى الله (أن يقول أن الخالق) للأشياء الواجب لذاته (يبيد) أي يهلك وينقطع وجوده (يوما ما) وفي وقت من الأوقات (لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغير); لأن الغضب هو ثوران القوة والتغير على الغير لقصد الانتقام والتشفي. والضجر اضطراب النفس وتغيرها خوفا من فوات المقصود أو لحوق الضرر (وإذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادة) أي إهلاك التغير إياه; لأن التغير المفرط كثيرا ما يهلك صاحبه دفعة وقد يورث أمراضا أخر مهلكة ولو بعد حين، وفناء الواجب بالذات وإبادته ممتنع (ثم لم يعرف المكون من المكون ولا القادر من المقدور عليه ولا الخالق من المخلوق) لوقوع التشابه بينهما باعتبار اتصاف كل منهما بصفات الآخر ولاشتراكهما في معنى الإمكان والحدوث; لأن كل متغير ممكن حادث، والظاهر أن هذا دليل آخر على المطلوب (تعالى الله عن هذا القول) المستلزم لتجويز الفناء على الخالق وعدم الفرق بينه وبين المخلوق (علوا كبيرا) في وصف العلو بالكبير إشعار بأنه لا يبلغ أحد كنه علوه تعالى (بل هو الخالق للأشياء) كلها في سلسلة نظام الوجود (1) (لا لحاجة) إلى شيء منها لأنه الغني
ص:227
المطلق ولأن الاحتجاج نقص والنقص من لواحق الإمكان.
(فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه) يعني استحال تحديده وتعيينه بأنه شيء فيه صفات معلومة وكيفيات مخلوقة مثل الغضب والضجر و أمثال ذلك وإلا لزم احتياجه في تمام كماله إلى تلك الصفات والكيفيات هذا خلف (فافهم إن شاء الله تعالى) (1) ما أشرنا إليه وأوضحنا لك والله ولي التوفيق.
7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن محمد بن حمران، عن أسود ابن سعيد قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأشأ يقول ابتداء منه من غير أن أسأله: «نحن حجة الله، ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله، ونحن عين الله في خلقه، ونحن ولاة أمر الله في
ص:228
عباده».(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن محمد بن حمران، عن أسود ابن سعيد قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأنشأ يقول - ابتداء منه من غير أن أسأله -: نحن حجة الله) على عباده، أي أدلته وعلامته التي بها يهتدون إليه سبحانه، إذ بنا يعرفون وعده ووعيده وصراطه وغاية وجودهم، وبنا يحتج الله تعالى عليهم يوم القيامة لئلا يقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين) (2)
(ونحن باب الله) أي باب علمه وتوحيده وأحكامه وأسراره وجميع ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) وذلك ظاهر إذ كل أحد لم يسمع ذلك منه (صلى الله عليه وآله) ولا يجوز له التكلم فيه برأيه على قدر عقله فوجب أن يعلمه ممن يقوم مقامه بأمره وأمر ربه وهم الأئمة (عليهما السلام) فهم أيضا باب هذه المعارف ولا يدخل أحد بيت المعرفة إلا بهذا الباب.
(ونحن لسان الله) هذا واضح لأنهم يفصحون عن أوامره ونواهيه ويظهرون مراده منهما وينطقون بالمصالح العالية والحكم البالغة.
(ونحن وجه الله) إذ بهم يتوجه الخلائق إلى مقاصدهم ومراشدهم التي تنجيهم من الظلمات البشرية، وتوصلهم إلى مقام القرب منه تعالى (ونحن عين الله في خلقه) لأنهم الناظرون إلى المصالح الكلية والجزئية والمعاهدون لأذهان الخلق فيما يصلح لها من العقايد الدينية والمرشدون لنقوسهم إلى الأخلاق والقوانين الشرعية (ونحن ولاة أمر الله في عباده); لأن ولاية أمور المسلمين وإمارة المؤمنين وخلافة الرسول الأمين ثابتة لهم لخصائص موجودة فيهم وهي الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة فهم الناصرون لله والقائمون بأوامره والذابون عن دينه.
8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حسان الجمال قال: حدثني هاشم بن أبي عمار الجنبي قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أنا عين الله، وأنا يد الله، وأنا جنب الله، وأنا باب الله.(3)
(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حسان الجمال، قال: حدثني هاشم بن أبي عمار الجنبي) ضبطه بعض الأصحاب بفتح الجيم
ص:229
وسكون النون قبل الباء الموحدة، والجنب: حي من اليمن ينسب إليه حصين بن جندب الجنبي وأبو عمار الجنبي، وهاشم بن أبي عمار هذا من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) وهو غير هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال، وضبطه بعضهم بكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحت قبل الباء الموحدة منسوب إلى جيب وهو حصن قريب من القدس (قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أنا عين الله وأنا يد لله) أي قدرته أو نعمته (وأنا جنب الله) الجنب في اللغة الأمير وهو (عليه السلام) أمير من عند الله تعالى على خلقه، والخلق مأمورون باتباعه في جميع الأمور لأنه سبب لمن اهتدى به في الوصول إليه سبحانه، ويحتمل أن يكون المراد أنه (عليه السلام) جنب رحمة الله والرجاء فمن رجا بالله وأراد رحمته وتولى به (عليه السلام) قضى رجاءه وأوصله إلى رحمة الله، ومن تبر أعنه أبعده عن رحمته (وأنا باب الله) أي باب حكمته التي عليها العقايد والأعمال والأخلاق والسياسات ونظام الدين والدنيا.
9 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة ابن بزيع، عن علي بن سويد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) قال: جنب الله أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم.(2)
محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة بن بزيع، عن علي بن سويد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام في قول الله تعالى: (يا حسرتي) أقبلي فهذا أوان إقبالك ونزولك (على ما فرطت) أي قصرت (في جنب الله قال: جنب الله أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم) وهو المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين، والمراد بالمكان الرفيع كونهم جنب الله وأميره بالاستحقاق وعلو شرفهم وسمو نسبهم وضياء عقولهم بأنوار الأسرار الإلهية حتى أنهم يرون بأبصار بصايرهم ما لا يراه الناس ويسمعون بآذان ضمائرهم ما
ص:230
لا يسمعه الناس؟ إذ هم يمرون على لطائف غيبية وشواهد عينية وفرائد ذهنية لا يمر عليها غيرهم لتعلق نفوسهم بالهيئات البدنية وانغماسها في العلايق الدنيوية، فصار أولاء القاصرون مأمورين باتباع هؤلاء الكاملين الذين طهرهم الله عن درن تلك الهيئات وخبث تلك التعلقات حتى صارت نفوسهم كمرآة مجلوة حوذي بها شطر الحقايق الإ لهية فجلت وانتقشت فيها، فشاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة والعرفان وسبيل الهلاك والخسران وما بينهما، فسلكوا على بصيرة وهدوا الناس على يقين، فمن تبعهم فله الشرف والكرامة، ومن تخلف عنهم فله الحسرة والندامة.
10 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن علي بن الصلت، عن الحكم وإسماعيل ابني حبيب، عن بريد العجلي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: بنا عبد الله وبنا عرف الله وبنا وحد الله تبارك وتعالى، ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى.(1)
(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن علي ابن الصلت، عن الحكم وإسماعيل (2) ابني حبيب، عن بريد العجلي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: بنا عبد الله وبنا عرف الله وبنا وحد الله تبارك وتعالى) توضيح ذلك أن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، ثم خلق محمدا وأوصياءه الطاهرين (3) صلوات الله عليهم أجمعين وهم كانوا أرواحا
ص:231
نورانيين في ظلة خضراء يسبحونه ويقدسونه ويهللونه ويمجدونه، ثم خلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم، وفوض تعليمهم للمعرفة والتوحيد والعبادة إلى محمد وآله الطاهرين، فهم معلمو الملائكة (1) ومن دونهم في ذلك الوقت وهم أيضا أول القائلين ب (بلى) عند أخذ الميثاق ب (ألست بربكم)، ثم بإقرارهم وتعليمهم أقر من أقر، وهم أيضا أول العارفين وأول العابدين وأول الموحدين بعد ظهورهم في ديجور الإمكان وتعلق أرواحهم المطهرة بأبدانهم المقدسة إذ كان الناس كلهم عند ذلك جهالا سالكين لتيه الضلالة والغواية، ثم بنور هدايتهم وحد الله وعرفه وعبده من أخذت يده العناية الأزلية (ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى) أشار إلى أن سلوك سبيل الله تعالى لا يمكن إلا بالتوسل بمحمد (صلى الله عليه وآله) (2) لأنه حجاب الله المرشد إلى كيفية سلوك طريقه الموصل إليه والمبين لمراحله
ص:232
ومنازله وما لا بد منه للسائرين فيه من العلم والعمل، ثم لا يمكن التوسل بذلك الحجاب إلا بالتوسل بأوليائه الطاهرين وأوصيائه المعصومين لأنهم ورثة علمه وسالكون مسلكه بتعليمه والمنزهون عن الجور والطغيان والمتصفون بالعدل والعرفان.
11 - بعض أصحابنا، عن محمد بن عبد الله، عن عبد الوهاب بن بشر، عن موسى بن قادم، عن سليمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (1)قال: إن الله تعالى أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، حيث يقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)(2) يعني الأئمة منا، ثم قال في موضع آخر: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ثم ذكر مثله.(3)
(بعض أصحابنا، عن محمد بن عبد الله، عن عبد الوهاب بن بشر، عن موسى بن قادم، عن سليمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)) لرجوع جزاء الظلم ونكاله إليهم يقال: ظلمه حقه إذا أخذه ظلما وقهرا، وحقيقة الظلم وضع الشيء في غير موضعه (قال: إن الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم) لبراءة ساحته عن الانفعال والتغير والعجز وإذا كان كذلك فلا فائدة في نفي المظلومية عنه فلا بد من صرف نفيها إلى من هو قابل لها وإليه أشار بقوله:
(ولكنه خلطنا بنفسه) يقال خلطت الشيء بغيره خلطا فاختلطا بانضمام بعض إلى بعض يعني ضمنا إلى نفسه المقدسة وشاركنا (فجعل ظلمنا ظلمه) أي فجعل الظلم الواقع علينا منسوبا إلى نفسه واقعا على ذاته مجازا كما جعل أسفنا منسوبا إلى ذاته ثم نفاه عنا تسهيلا للأمر علينا وتسلية لنا (وولايتنا ولايته) الولاية بالفتح: الحكومة والتصرف في أمور الخلق يعني: وكذلك جعل ولايتنا على المؤمنين وتولينا لأمورهم وحكومتنا عليهم وإمامتنا لهم ولايته وحكومته وإمامته (حيث
ص:233
يقول:
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني الأئمة منا) يعني أراد بالذين آمنوا الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا التفسير كاف للعلم بأن المراد ما ذكر لأنه (عليه السلام) أعلم بما هو المقصود من كلام الله تعالى، ولكن لا بأس أن نشير إلى توضيح ذلك فنقول: أولا: قال العلامة في كشف الحق: أجمعوا على أن هذه الآية نزلت في علي (عليه السلام) وهو مذكور في الصحاح الستة لما تصدق بخاتمه على المسكين بمحضر من الصحابة وقال بعض أصحابنا: الجمع للتعظيم على أنه وقعت هذه الكرامة عن باقي الأئمة (عليهم السلام) ونقول: ثانيا:
إن الولي هنا بمعنى الأولى بالتصرف، والإمام دون الناصر والمحب; لأن حصر النصرة والمحبة في المؤمن المعطي للزكاة في حال الركوع غير مستقيم لتحققهما في المؤمن مطلقا وإذا كان الولي بالمعنى المذكور كانت نسبة الولاية إلى الله تعالى من باب نسبة ما لأوليائه إليه.
وقال بعض المخالفين: الولي في هذه الآية بمعنى الناصر والمحب دون الأولى بالتصرف الذي هو الإمام وإلا لفاتت مناسبة هذه الآية لما قبلها وهو قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) (1)فإن الأولياء هاهنا بمعنى الأنصار والأحباب لا بمعنى الأحقين بالتصرف، ولما بعدها وقوله هو تعالى (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)(2) فإن التولي هاهنا بمعنى النصرة والمحبة دون الأولى بالتصرف فوجب أن يحمل الولي فيما بينهما على الناصر والمحب ليلتئم أجزاء الكلام.
الجواب عنه: أما أولا: فبأن حمل الولي على ذلك يوجب فساد الحصر (3) وأما ثانيا: فبأن فوات المناسبة ممنوع; لأن الولاية بمعنى الأولوية في التصرف شاملة للولاية بمعنى النصرة والمحبة فالمناسبة حاصلة.
وأما ثالثا: فبأن العطف دل على التشريك في اختصاص الولاية ولا خفاء في أن نصرة الرسول للمؤمنين نصرة مخصوصة مشتملة على التصرف في أمرهم على ما ينبغي فكذلك نصرة الذين آمنوا.
وأما رابعا: فبأنا لا نسلم أن التولي فيما بعد هذه الآية بمعنى النصرة والمحبة بل بمعنى الأحق بالتصرف فإن باب التفعل يجيء كثيرا لاتخاذ الفاعل أصل الفعل، فالمعنى من «اتخذ الله ورسوله
ص:234
والذين آمنوا» - وهم الأئمة - أولياء يعني الأحقين بالتصرف.
وأما خامسا: فبأن وجوب التوافق بين الآيات ممنوع فقوله: ف «يجب» غير ثابت، وعلى تقدير التسليم فالتوافق إنما يجب إذا لم يمنع مانع وقد عرفت وجود المانع هاهنا.
واعترض شارح المقاصد على الإمامية بأن الحصر يجب أن يكون فيما فيه نزاع وتردد، ولا خفاء في أن النزاع في الإمامة لم يكن عند نزول الآية ولم يكن في ذلك الزمان إمامة حتى يكون نفيا للتردد.
والجواب عنه: أما أولا: فبأن نفي التردد إنما يعتبر في القصر الإضافي كما صرح به في شرحه للتخليص وهذا القصر قصر الصفة على الموصوف قصرا حقيقيا لا إضافيا (1).
وأما ثانيا: فبأنه تعالى عالم بجميع الأشياء فلما علم اعتقادهم إمامة الغير في الاستقبال أنزل هذه الآية دفعا لاعتقادهم وردا لهم عن خطائهم.
وأما ثالثا: فبأنه يجوز أن يكون الحصر لدفع التردد الواقع من بعضهم عند نزول الآية بين انحصار الولاية في الله ورسوله أبدا، أو اشتراكهما بينهما وبين غيرهما، على أن يكون القصر لتعيين الاشتراك.
(ثم قال) هذا كلام زرارة يعني (2) ثم قال (عليه السلام) (في موضع آخر) غير هذا الموضع في سياق بعض حديثه أو ابتداء ((وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ثم ذكر مثله) وهو «أنه تعالى أعظم وأعز - إلى قوله - فجعل ظلمنا ظلمه» على الظاهر أو إلى قوله «يعني الأئمة منا على» الاحتمال والحاصل أن زرارة روى عنه (عليه السلام) تفسير هذه الآية بما مر في موضعين، والله أعلم.
ص:234
والحكم بوجوده بتقدير حادث وتعلق إرادة حادثة بحسب الشروط والمصالح، ومن هذا القبيل إيجاد الحوادث اليومية، ويقرب منه قول ابن الأثير: «في حديث الأقرع والأبرص والأعمى: بدا لله عز وجل أن يبتليهم أي قضى بذلك وهو معنى البداء هاهنا; لأن القضاء سابق والبداء استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم وذلك على الله عز وجل محال غير جايز، ولعله أراد بالقضاء: الحكم بالوجود، وأراد بكونه سابقا أن العلم به سابق، كما يرشد إليه ظاهر التعليل المذكور بعده، فلا يرد عليه ما أورده بعض الأصحاب من أن هذا القول ركيك جدا; لأن القضاء السابق متعلق بكل شيء، وليس البداء في كل شيء بل فيما يبدو ثانيا ويتجدد أخيرا.
ومنها: ترجيح أحد المتقابلين والحكم بوجوده بعد تعلق الإرادة بهما تعلقا غير حتمي (1) لرجحان مصلحته وشروطه على مصلحة الآخر وشروطه، ومن هذا القبيل إجابة الداعي وتحقيق مطالبه وتطويل العمر بصلة الرحم وإرادة إبقاء قوم بعد إرادة إهلاكهم، وقد قال مولانا أبو الحسن الرضا (عليه السلام) لسليمان المروزي وهو كان منكرا للبداء وطلب منه (عليه السلام) ما يدل عليه من القرآن قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (فتول عنهم فما أنت بملوم) ثم بدا لله تعالى فقال (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) يريد (عليه السلام) أنه تعالى أراد إهلاكهم (2) لعلمه بأنهم لا يؤمنون وأراد بقاءهم لعلمه بأنه يخرج من أصلابهم المؤمنون، فرجح بقاءهم وحكم به تحقيقا لمعنى الإيمان.
ص:238
ومنها: محو ما ثبت وجوده (1) في وقت محدود بشروط معلومة ومصلحة مخصوصة وقطع استمراره بعد انقضاء ذلك الوقت والشروط والمصالح سواء ثبت بدله لتحقق الشروط والمصالح في إثباته أو لا، ومن هذا القبيل: الإحياء والإمانة والقبض والبسط في الأمر التكويني ونسخ الأحكام بلا بدل أو معه في الأمر التكليفي.
والنسخ أيضا داخل في البداء كما صرح به الصدوق في كتابي التوحيد والاعتقادات. ومن أصحابنا من خص البداء بالأمر التكويني وأخرج النسخ عنه وليس لهذا التخصيص وجه يعتد به (2) وإنما سميت هذه المعاني بداء لأنها مستلزمة لظهور شيء على الخلق بعد ما كان مخفيا عنهم، ومن ثم عرف البداء بعض القوم بأنه أن يصدر عنه تعالى أثر لم يعلم أحد من خلقه قبل صدوره عنه أنه يصدر عنه. واليهود أنكروا البداء وقالوا (يد الله مغلولة) (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) وهم يعنون بذلك أنه تعالى فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا، ونقل عنهم أيضا: أنه تعالى لا يقضي يوم السبت شيئا، ويقرب منه قول النظام من المعتزلة: إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكانها دون حدوثها ووجودها، وكأنه أخذ ذلك من الكمون والظهور من مذهب الفلاسفة. ونقل صاحب الكشاف عن الحسين بن الفضل ما يعود إلى هذا المذهب وهو أن عبد الله بن طاهر دعا الحسين ابن الفضل وذكر أن من آيات أشكلت عليه قوله عز من قائل (كل يوم هو في شأن) وقد صح «أن القلم جف بما هو كاين إلى يوم القيامة» فقال الحسين: أما قوله (كل يوم هو في شأن) فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها (3)، وهذه المذاهب عندنا باطلة لأنه تعالى يحدث ما يشاء في أي وقت يشاء على وفق الحكمة والمصلحة كما دلت عليه روايات هذا الباب ودل عليه أيضا ما مر من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الحمد لله الذي لا يموت ولا ينقضي عجائبه لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن، فإنه صريح في أنه تعالى يحدث في كل وقت ما أراد إحداثه من الأشخاص والأحوال، ولعل الحسين كالسائل فهم أن ابتداءها
ص:239
وإحداثها ينافي ما صح من جفاف القلم وأنت تعلم أنه لا منافاة بينهما فإن جفاف القلم دل على أن كل ما هو كاين إلى يوم القيامة فهو مكتوب في اللوح المحفوظ أو في لوح التقدير ومعلوم له - تعالى شأنه - بحيث لا يتغير ولا يتبدل، ومن المكتوب والمعلوم له تعالى أنه يقدر كذا في وقت كذا ويبتدي بايجاده وإحداثه على وفق الحكمة والمصلحة فالابتداء والإحداث الذي هو البداء المراد هنا أيضا من المكتوبات فليتأمل.
1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال عن أبي إسحاق ثعلبة، عن زرارة بن أعين، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ما عبد الله بشيء مثل البداء وفي رواية ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما عظم الله بمثل البداء.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن أبي إسحاق ثعلبة) هو ثعلبة بن ميمون وكنيته أبو إسحاق، فما وقع في بعض النسخ عن أبي إسحاق عن ثعلبة فهو سهو من الناسخ (عن زرارة بن أعين، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ما عبد الله بشيء مثل البداء) (2) أي مثل القول بالبداء والتصديق بثبوته له تعالى; لأن فيه إذعانا بأنه تعالى قادر على الحوادث اليومية، واعترافا بأنه مختار يفعل بإرادته ما يشاء ويتصرف في ملكه كيف يشاء ولا يبلغ شيء من العبادة هذه المرتبة; لأن العبادة إنما هي عبادة وكمال بعد معرفته بما ينبغي له، ومن أنكر البداء له تعالى فقد نسب العجز إليه وأخرجه عن سلطانه وعبد إلها آخر ودان بدين اليهود. قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: القول بالبداء رد على اليهود حيث زعموا أنه تعالى فرغ من الأمر لأنه عالم في الأزل بمقتضيات الأشياء فقدر كل شيء على وفق علمه، وملخص الرد أنه يتجدد له تعالى تقديرات وإرادات حادثة كل يوم بحسب المصالح المنظورة له تعالى.
(وفي رواية ابن أبي عمير، عن هشام ابن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما عظم الله بمثل البداء) أي ما عظم الله تعالى بشيء من أوصاف ومحامد يكون مثل البداء; لأن تعظيمه تعالى ووصفه بالبداء الذي هو فعل من أفعاله مستلزم لتعظيمه ووصفه بجميع الصفات الكمالية مثل العلم والقدرة
ص:240
والتدبير والإرادة، والاختيار وأمثالها.
2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في هذه الآية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) (1)قال: فقال: وهل يمحي إلا ما كان ثابتا وهل يثبت إلا ما لم يكن.(2)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في هذه الآية) أي في تفسيرها: (يمحو الله ما يشاء) محوه وإعدامه (ويثبت) ما يشاء إثباته إيجاده (قال فقال) إعادة القول للتأكيد والتقدير: (وهل يمحى إلا ما كان ثابتا) في اللوح المحفوظ أو في الأعيان (وهل يثبت إلا ما لم يكن) ثابتا فيهما. أن المحو يتعلق بالموجود والإثبات يتعلق بالمعدوم، وكل ذلك لعلمه تعالى بالمصالح العامة والخاصة والشرائط، فيزيل وجود ما أو جده ويفيض وجود ما أراد إيجاده لانقضاء مصالح الوجود وشرائط حسنه في الأول وتحققها للثاني وتلك المصالح والشرائط مما يختلف باختلاف الأوقات والأزمان ودلالته على البداء (3) بمعنى تجدد التقدير والمشية والإرادة في كل وقت بحسب المصالح ظاهرة.
3 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار له بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما [من خل] يشاء (4)
(علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال الإقرار له بالعبودية) أي إقرار النبي بأنه عبد له تعالى يستحق العبادة منه وأخذه على أمته الإقرار بذلك (وخلع الأنداد) أي خلع الأمثال والأضداد بالتصديق بوحدانيته في الذات والصفات وتفرده باستحقاق العبادة (وأن الله
ص:241
يقدم ما يشاء ويؤخر من يشاء) على وفق ما يقتضيه الحكمة والمصلحة ونظام الكل; لأن الحكيم العليم إذا علم حسن شيء في وقت وقبحه في وقت آخر يضعه في موضعه. قال الصدوق - رحمه الله - في كتاب الاعتقادات بعد نقل هذا الحديث: ونسخ الشرائع والأحكام بشريعة نبينا (صلى الله عليه وآله) من ذلك ونسخ الكتب بالقرآن من ذلك، أقول: وهو رد على اليهود المنكرين للنسخ باعتبار أن النسخ بداء والبداء على الله تعالى محال وتحقيق الرد أن البداء المحال عليه سبحانه هو ظهور الشيء بعد الخفاء عليه. وأما البداء بمعنى إثبات كل شيء في وقته بإرادته لمصلحة تقتضيه فهو من أعظم أو صافه ومحامده كما عرفت. وفي بعض نسخ هذا الكتاب وكتاب الاعتقادات والعيون «ويؤخر ما يشاء» بلفظة «ما» الموصولة وهو الأظهر والأنسب بما قبله.
فإن قلت: هذا الحديث ينافي ما يجيء في باب مولد النبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن عبد المطلب أول من قال بالبداء».
قلت: لا منافاة بينهما; لأن المراد بالأولية الأولية الإضافية بالنسبة إلى غير الأنبياء (عليهم السلام) أو المراد أنه أول من أطلق هذا اللفظ على غير معناه اللغوي.
4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل (قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: هما أجلان:
أجل محتوم وأجل موقوف.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى: قضى أجلا) أي أحكمه وأبرمه (وأجل مسمى عنده) «أجل» مبتدأ لتخصيصه بالصفة «عنده» خبره (قال: هما أجلان) أي أجلان للموت أو أجلان متغايران بقرينة المقام، والتفسير فلا يرد أن الحمل غير مفيد لأنه بمنزلة أن يقال: الأجلان أجلان والاثنان اثنان (أجل محتوم) أي مبرم محكم لا يتغير ولا يتبدل لتعلق القضاء بالإمضاء به فلا يجري فيه البداء لما سيجيء من أنه لا بداء بعد القضاء وهو ناظر إلى قوله قضى أجلا وتفسير له (وأجل موقوف) لم يتعلق القضاء به بعد لتوقف تعلقه (2) به على حصول مصالح وشرائط وأمور
ص:242
خارجة عن ذات الأجل عند حضوره فإن حصلت تلك الأمور يتعلق به القضاء فيصير مبرما وإلا فلا وتعلق العلم الأزلي بحصولها مثلا عند حضور ذلك الأجل لا يقتضي تقدم القضاء عليه وهذا ناظر إلى قوله (وأجل مسمى عنده) معناه: الله أعلم أن الأجل المسمى المعلق، حكمه عنده، إن شاء أمضاه بقدرته واختياره، وهذا معنى البداء هنا.
وقال بعض الأصحاب: المراد بالأجل المحتوم الأجل لمن مضى فلا بداء فيه لانقضائه وإمضائه ولا قدرة على ما مضى وبالأجل الموقوف الأجل لمن يأتي وفيه البداء لتجدده بالقدرة، فالفرق بين الأجلين في جريان البداء في الثاني، وعدم جريانه في الأول وإلا فكل من الماضي والآتي محتوم بالنسبة إليه تعالى. وفيه أن كون الآجال الاستقبالية كلها موقوفة محل نظر لجواز أن يكون بعضها مما حتمه الله تعالى وقضى به في الأزل فلا يجري فيه البداء ولا يقع فيه المحو.
5 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط، عن خلف بن حماد، عن ابن مسكان، عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا)(1) قال: فقال، لا مقدرا ولا مكونا، قال: وسألته عن قوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا)(2) فقال كان مقدرا غير مذكور.(3)
(أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط عن خلف بن حماد،
ص:243
عن ابن مسكان، عن مالك الجهني) كأنه مالك بن أعين وقد قيل إنه كان مخالفا ولم يكن من هذا الأمر في شيء وقيل في شأنه رواية دالة على مدحه بل على توثيقه إلا أنه هو راويها (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (أولم ير الإنسان)) الهمزة لإنكار السلب أو لتقرير الإثبات (أنا خلقناه من قبل) أي قدرناه بالإرادة والمشية من زمان وجوده أو من قبل أن يكون إنسانا أو من قبل أن يكون له صورة ومثال في عالم الإمكان، وهذا أنسب; لأن دلالته على الابداع أظهر (ولم يك شيئا) حال عن المفعول.
(قال: فقال: لا مقدرا ولا مكونا) (1) بل كان معدوما صرفا وفيه دلالة على أن المعدوم ليس شيئا وإنما قدم المقدر على المكون ولم يعكس مع أن العكس أتم فائدة باعتبار أن نفي التقدير مستلزم لنفي التكوين فليس لنفي التكوين بعده كثير فائدة بخلاف نفي التكوين فإنه لا يستلزم لنفي التقدير لوجهين; أحدهما: أن المقصود الأصلي هاهنا نفي التقدير ونفي التكوين مقصود بالعرض والمقصود الأصلي أولى بالتقديم.
ثانيهما: أن التقدير مقدم على التكوين في نفس الأمر فقدمه في الذكر لرعاية التناسب ثم المراد بالمكون إما المادة الانسانية مثل النطفة والعلقة وغيرهما أو الصورة الانسانية الحاصلة بعد تكامل الأجزاء وتمام الأعضاء حتى صارت قابلة لفيضان الروح (قال: وسألته عن قوله: هل أتى على الإنسان) الاستفهام للتقرير. وقال أبو عبيدة: «هل» هاهنا بمعنى قد (حين من الدهر) أي طايفة من الزمان (لم يكن شيئا مذكورا) حال عن الإنسان (فقال كان مقدرا غير مذكور) أشار إلى أن النفي راجع إلى القيد أي كان مقدر الوجود ذلك الحين عند كونه نطفة أو علقة غير مذكور بين أهل الأرض وأهل السماء من الملائكة وغيرهم بالإنسانية إذ ما لم تكمل صورته ولم تتم أعضاؤه وجوارحه ولم يتعلق به الروح الإنسانية لا يسمى إنسانا، وفي هذين الحديثين دلالة على تجدد إرادته تعالى وتجدد تقديره وتدبيره في خلق الإنسان، وهذا هو المراد بالبداء في حقه تعالى .
ص:244
6 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: العلم علمان فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه وعلم علمه ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء.(1)
(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: العلم علمان فعلم عند الله مخزون) لا يعلمه إلا هو كما فسره بقوله (لم يطلع عليه أحدا من خلقه) وهو العلم بسر القضاء والقدر ونحوه، وقيل:
المراد بالعلم المخزون والعلم المكتوب: المقرر في اللوح المحفوظ.
أقول: فيه نظر; لأن كل ما في اللوح المحفوظ من العلوم لا يجب أن يكون مختصا به سبحانه لا يطلع عليه أحد من خلقه بل لنا أن نقول: كل ما فيه فهو حاصل لبعض خلقه فإن اللوح المحفوظ إما الملك كما هو مذهب الصدوق (رضي الله عنه) وقد صرح به في كتاب الاعتقادات، أو الروح المقدس لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما قال في خطبة البيان: أنا اللوح المحفوظ (وعلم علمه ملائكته ورسله) تعليما لا يحتمل متعلقه نقيضه وذلك بأن لا يكون معلقا بشرط (فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون) على وفق ما علمهم من غير تغير وتبدل (لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله) (2) لا يكذب إما من الكذب أو من التكذيب أي لا يكذب نفسه في إخباره للملائكة بوقوع متعلقه ولا يكذب ملائكته في إخبارهم للرسل ولا يكذب رسله في إخبارهم للخلق; لأن الكذب نقص وقبيح وجب تنزهه تعالى وتنزه سفرته عنهما.
فإن قلت: هذا ينافي ما رواه الصدوق في كتاب العيون بإسناده عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) لإثبات البداء قال (عليه السلام) «لقد أخبرني أبي عن آبائه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله عز وجل أو حي إلى نبي من
ص:245
أنبيائه أن أخبر فلانا الملك أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير، فقال: يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري، فأوحى الله تعالى إلى ذلك النبي أن ائت فلانا الملك فأعلمه أني قد أنسيت أجله وزدت في عمره خمسة عشر سنة فقال ذلك النبي: يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط فأوحى الله تعالى إنما أنت عبد مأمور وأبلغه ذلك والله لا يسأل عما يفعل» قلت: المراد بالتعليم التعليم المقرون بما يفيد القطع بوقوع متعلقه فإنه لابد من وقوعه لما مر، وأما التعليم المجرد عن ذلك فيجوز أن لا يقع متعلقه لجواز أن يكون وقوع متعلقه مقيدا بشرط في علم الله تعالى كما في حديث وفاة الملك فإنه كان مقيدا في علم الله تعالى بترك الدعاء والتضرع فلما وجدا لم يقع الوفاة لانتفاء الشرط وإخبار النبي ذلك الملك من الله بأنه متوفيه، لم يكن كذبا في نفس الأمر فإن قوله «متوفيه» من كلامه تعالى وهو مقيد في علمه بما ذكر وعدم علم النبي بذلك القيد لا ينافي ذلك الكلام المقيد في نفس الأمر ولا يكون الإخبار به كذبا (1) وإنما يكون كذبا لو لم يؤمر بالإخبار فأخبره. وبمثل هذا التوجيه يندفع أيضا ما يتوجه على ظاهر ما رواه المصنف في باب «أن الصدقة تدفع البلاء» بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مر يهودي بالنبي (صلى الله عليه وآله) فقال: السام عليك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليك. فقال أصحابه إنما سلم عليك بالموت فقال: الموت عليك، قال النبي (صلى الله عليه وآله) وكذلك رددت، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله، قال:
فذهب اليهودي فاحتطب حطبا كثيرا فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ضعه فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود فقال: يا يهودي أي شيء عملت اليوم؟ فقال: ما عملت عملا إلا حطبي هذا احتملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بها دفع الله عنك وقال: إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان» تقرير الدفع أن قوله (صلى الله عليه وآله): إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله من كلامه تعالى أوحاه إليه وأمره بتبليغه لقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى)(2) وهذا الكلام في علم الله كان مقيدا بالشرط وهو عدم التصدق وهو مع هذا القيد صادق كصدق الشرطية، والمخبر به من الله أيضا صادق لأنه مأمور بتبليغه وعدم وقوع متعلقه لانتفاء الشرط لا ينافي صدقه.
ص:246
نعم فيه دلالة على أن الأنبياء (عليهم السلام) لا يعملون جميع أسرار القدر، ولا يبعد أن يكون الغرض من أمرهم بتبليغ أمثال ذلك (1) أن يظهر للخلق أن لله تعالى علوما لا يعلمها إلا هو، والله أعلم (وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء) باختياره وإرادته إن كان لكل واحد من التقديم والتأخير والإثبات مصلحة تقتضيه وهذا هو المراد بالبداء هنا. توضيح ذلك أن الله سبحانه عالم في الأزل بالأشياء ومنافعها ومصالحها فإذا كان لشيء مصلحة في وقت من وجه وفي وقت من وجه آخر إن شاء قدمه وإن شاء أخره (2) وكذا إذا كان لشيء مصلحة في وقت دون وقت آخر بينه في ذلك الوقت بإرادته وعلمه في الأزل بإثباته في ذلك الوقت وتقديمه وتأخيره على حسب الاختيار، والإرادة الحادثة لا ينافي الاختيار والقدرة بل يؤكدهما ولا يوجب تغيير علمه أصلا وإنما يوجب تغييره لو علم أنه يؤخره ولا يثبته مثلا فقدمه وأثبته.
لا يقال: لو كان البداء عبارة عن الإيجاد بالاختيار والإرادة كان في القسم الأول أيضا بداء لضرورة أن ما وقع فيه التعليم أيضا يوجده بالاختيار والإرادة.
لأنا نقول: المعتبر في البداء أن يوجده بالاختيار والإرادة الحادثة عند وقت الإيجاد (3) وإن لا يكون للخلق علم بصدوره عنه قبل صدوره عنه كما أشار إليه سابقا ولا يتحقق شيء من ذينك الأمرين في القسم الأول أما الثاني فظاهر وأما الأول فلإرادة الإيجاد في الأزل أو عند التعليم، والله أعلم.
ص:247
هذا، وقال الفاضل الأسترآبادي في حل هذا الكلام وعلم عنده مخزون أي مقدر في اللوح المحفوظ أولا على وجه ثم يغير ذلك إلى وجه آخر لمصلحة حادثة وهذا هو البداء في حقه تعالى.
وقال الفاضل الشوشتري في حله: ولعله إنما يستقيم البداء فيه ويرتفع العبث ولا يتطرق شبهة التغير في علمه إذا قلنا بإثبات مخزونه في موضع واطلع عليه أحد ولم يجز له إظهاره وأنه اطلع بعض الناس عليه كما سيجيء ما يفهم منه ذلك انتهى، فليتأمل.
7 - وبهذا الإسناد، عن حماد، عن ربعي، عن الفضيل قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ويؤخر منها ما يشاء.(1)
(وبهذا الإسناد، عن حماد، عن ربعي، عن الفضيل قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور موقوفة عند الله) الأمور قسمان القسم الأول أمور محتومة (2) حتمها الله تعالى قبل أوان وجودها وهو يوجدها في أوقاتها لا محالة ولا يمحوها، ومن هذا القبيل ما مر من أن ما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون، وما رواه الصدوق عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) حين قال له سليمان المروزي: ألا تخبرني عن (إنا أنزلناه في ليلة القدر)(3) في أي شيء أنزلت قال: يا سليمان ليلة القدر يقدر الله تعالى فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق فما قدره الله في تلك الليلة فهو من المحتوم. والقسم الثاني أمور غير محتومة حتمها موقوف على مشية وإرادة حادثة في أوقاتها (يقدم منها ما يشاء ويؤخر منها ما يشاء) فعلم من ذلك تجدد إرادته تعالى في القسم الثاني وهو معنى البداء. وقيل: المراد بالأمور المحتومة الأمور الماضية وبالأمور الموقوفة الأمور الآتية، ولا
ص:248
بداءفي الأولى; إذ الماضي لا قدرة عليه بخلاف الآتي. وفيه أن الأمور الآتية قد تكون محتومة (1) كما ذكرنا سابقا ودل عليه أيضا حديث مولانا الرضا (عليه السلام).
8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جعفر بن عثمان، عن سماعة، عن أبي نصير، ووهب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله علمين علم مكنون مخزون، لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه.(2)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جعفر بن عثمان، عن سماعة، عن أبي بصير، ووهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله علمين علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء) (3) أي إيجاد فعل بالتقدير والتدبير
ص:249
والإرادة الحادثة لحكم ومصالح لا يعلمها إلا هو (وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه) بتعليم نبوي وإلهام إلهي، وهكذا ينبغي أن يكون أوصياء الأنبياء وخلفاؤهم في أرض الله تعالى وعباده ولا بداء فيه لما عرفت.
9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بدا لله في شيء) أي ما نشأ منه سبحانه حكم وإرادة في شيء بالمحو والإثبات على حسب المصالح (إلا كان) ذلك الشيء ومحوه وإثباته ومصالحهما (في علمه قبل أن يبدو له) فهو سبحانه كان في الأزل عالما بأنه يمحو ذلك الشيء الثابت في وقت معين لمصلحة معينة عند انقطاع ذلك الوقت وانقضاء تلك المصلحة ويثبت هذا الشيء في وقته عند تجدد مصالحه، ومن زعم خلاف ذلك واعتقد بأنه بدا له في شيء اليوم مثلا ولم يعلم به قبله فهو كافر بالله العظيم ونحن منه براء.
ص:250
10 - عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن داود بن فرقد، عن عمرو بن عثمان الجهني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم يبد له من جهل.(1)
(عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن داود بن فرقد، عن عمرو بن عثمان الجهني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم يبد له من جهل) أي لم ينشأ منه حكم بمحو الثابت من أجل الجهل برعاية جهات حسنه ومصالحه واعتبار ما ينبغي له، ثم علم اشتماله على الخلل والفساد فمحاه كما هو شأن الناقصين في العلم وكذا لم ينشأ منه حكم بايجاد المعدوم في الوقت المعلوم لا قبله من أجل الجهل به قبله لتعاليه عن الجهل بل كل ذلك لأجل مصالح وشرايط لا يعلمها إلا هو، وفي هذين الحديثين إشارة إلى أن بداءه تعالى ليس بداء ندامة وبداء جهل.
11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن منصور بن حازم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق.(2)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل يكون اليوم شيء) من فعله وفعل العباد (لم يكن في علم الله بالأمس قال: لا) لاستحالة الجهل عليه وتجدد العلم له (من قال هذا فأخزاه الله) أي أذله وأهانه وأوقعه في بلية وعذاب (قلت:
أرأيت) أي أخبرني (ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة) بل وما هو كائن في يوم القيامة أيضا (أليس في علم الله؟) لعل الفرض من هذا السؤال بعد الجواب عن السؤال المذكور هو استعلام حال علمه تعالى بجميع الكائنات في جميع الأوقات من حيث الثبوت والاستمرار وعدم التغير (قال: بلى) هو في علم الله أزلا (قبل أن يخلق الخلق) هذا عقيدة جميع أهل الإسلام إلا من لا يعتد به من أهل البدع كما مر آنفا، وفيه دلالة على ثبوت البداء له تعالى وعلى أن بداءه ليس من جهل.
ص:251
12 - علي، عن محمد، عن يونس، عن مالك الجهني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه.(1)
(علي، عن محمد، عن يونس، عن مالك الجهني قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه); لأن السعي في الشيء على قدر عظمته وزيادة أجره، وفي هذا الإبهام دلالة على عظمة الأجر في هذا القول. كيف لا؟ وفيه اعتراف بتقديره تعالى وتدبيره وقدرته على إيجاد الحوادث واختياره في إفاضة الوجود على ما تقتضيه الحكمة والمصالح واقتداره على ما أراد عدمه وإبقاء ما أراد بقاءه، وفيه أيضا خروج عن قول اليهود القائلين بأنه تعالى قد فرغ من الأمر فراغا لا يريد، ولا يقدر ولا يدبر بعده شيئا (2) وعن قول الحكماء القائلين بأنه واحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وينسبون ما زاد إلى العقل. وعن قول بعض المعتزلة القائلين بأنه خلق الأشياء كلها دفعة واحدة ثم يظهر وجوداتها متعاقبة بحسب تعاقب
ص:252
الأزمنة. وعن قول الدهرية القائلين بأن الجالب للحوادث هو الدهر. وعن قول الملاحدة القائلين بأن المؤثر هو الطبايع.
13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن محمد بن عمرو الكوفي أخي يحيى، عن مرازم بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس خصال: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن محمد بن عمرو الكوفي أخي يحيى، عن مرازم بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما تنبأ نبي) أي ما صار النبي نبيا ولم ينل شرف النبوة (قط حتى يقر لله بخمس خصال: بالبداء والمشية والسجود والعبودية والطاعة) رد بالبداء على من أخرجه عن سلطانه في ملكه وبالمشية وهي الإرادة على من قال: إنه موجب، وبالسجود وهو موضع أشرف الأجزاء على التراب للتذلل له على من أنكر استحقاقه للسجود وحده أو بالكلية لإنكار أصل وجوده، وبالعبودية على من قال: عزير ابن الله وعيسى ابن الله، كما رد عليه جل شأنه بقوله: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله)(2). وبالطاعة على من قال من المتصوفة: إن الطاعة مرفوعة عمن بلغ غاية الكمال لأنها من المعالجات التي تحتاج إليها النفس لبرئها من الأمراض فإذا برئت لا تحتاج إليها، وعلى من أنكر من المبتدعة التكليف مطلقا لأنه مشقة علينا ولا ينفعه تعالى مع أنه يقدر أن يعطينا بدون الطاعة ما يعطينا معها وهذا مزخرف من القول، ثم هذا الحديث لا ينافي ما سبق في حديث محمد بن مسلم من أن المأخوذ عليهم ثلاث خصال إذ لا دلالة فيما سبق على الحصر إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة كما بيناه في أصول الفقه على أنه يمكن إدراج الطاعة والسجود في العبودية أولا وإدراج البداء والمشية في قوله «يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء» وإدراج خلع الأنداد في العبودية أخيرا، فكل ما هو مذكور في الأول مذكور في الأول مذكور في الآخر وبالعكس.
14 - وبهذا الاسناد عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن يونس، عن جهم بن أبي جهمة، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل أخبر محمدا (صلى الله عليه وآله) بما كان منذ كانت
ص:253
الدنيا وبما يكون إلى انقضاء الدنيا وأخبره بالمحتوم من ذلك واستثنى عليه فيما سواه.(1)
(وبهذا الاسناد، عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن يونس عن جهم بن أبي جهمة) جهم بالجيم المفتوحة والميم بعد الهاء الساكنة، وأبي جهمة كذلك مع الهاء بعد الميم وفي بعض النسخ بدون الهاء وقيل جهيم بن أبي جهم بالتصغير في الأول (عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إن الله أخبر محمدا (صلى الله عليه وآله) بما كان منذ كانت الدنيا وبما يكون إلى انقضاء الدنيا) من الأمور الكلية والجزئية والحوادث اليومية (وأخبره بالمحتوم من ذلك) أي مما يكون إلى انقضاء الدنيا والمراد بالمحتوم ما يكون محكما واجب الوقوع (واستثنى عليه فيما سواه) (2) بأن قال: إنه سيقع إن قضيت أو إن أردت أو إن أوجدت على تقدير الحكمة والمصلحة والبداء إنما يكون في هذا القسم لا فيما يكون حتما ولا فيما كان لأنه وقع فلا يصح أن لا يقع، وقيل هاهنا أيضا المراد بالمحتوم
ص:254
ما كان،وبغيره - وهو ما استثنى عليه - ما يكون - فإن كل ما يكون يجري فيه البداء ولا يجري البداء في شيء مما كان إذ لا بداء بعد القضاء. وفيه ما مر من أن بعض ما يكون لا يجري فيه البداء أيضا كما يرشد إليه بعض الروايات.
15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر) تحريم الخمر كان ثابتا في جميع الأزمان وفي جميع الملل وما رواه العامة من أن شربها كان حلالا في شرعنا أولا ثم حرم فالظاهر أنه افتراء (وأن يقر لله بالبداء) لأنه من اصول الإيمان بالله القادر المختار. (2)
ص:255
16 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله؟ قال علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى، فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد، فبعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الإرادة وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإمضاء، والعلم متقدم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء، فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء، فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيئة في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواس من ذوي لون وريح ووزن وكيل وما دب ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس.
فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء والله يفعل ما يشاء فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها، وبالإرادة ميز أنفسها في ألوانها وصفاتها، وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها وذلك تقدير العزيز العليم.(1)
(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله) هذا الحديث من الثنائيات فهو من أعلى الأسانيد العالية (2) ولعل السائل استفهم عن تقدم علمه على المعلومات أو عن كفاية علمه بها في وجودها، والجواب مشعر بتقدمه عليها بمراتب وعدم كفايته في وجودها بل بينه وبين وجودها وسائط (قال علم) أي علم في الأزل بأنه سيوجد الأشياء، وهذا العلم بعينه هو العلم بها بعد وجودها لما عرفت آنفا من أن العلم بالأشياء قبل وجودها وبعده واحد، وأن العلم نفس ذاته ولا معلوم سواه فلما أحدث المعلومات وقع العلم منه عليها
ص:256
(وشاء) ما يكون في وجوده مصلحة ويكون وجوده خيرا محضا أو خيرا غالبا (وأراد) إرادة عزم فهي آكد من المشية وأخص منها كما يجيء في رابع الجبر والقدر تفسير الإرادة بأنها هي العزيمة على ما يشاء وقد يعبر عنها بأنها هي الثبوت على ما يشاء يعني الجد فيه، وربما يفهم من كلام بعض العلماء أن المشية هي العلم بشيء مع ما يترجح به وجوده فهي حينئذ نوع من العلم مغايرة للإرادة (وقدر) أي قدر الأشياء أولها وآخرها وحدودها وذواتها وصفاتها وآجالها وأرزاقها إلى غير ذلك مما يعتبر في كمالها وتميزها وتشخصها (وقضى) أي حكم بوجود تلك الأشياء في الأعيان على وفق الحكمة والتقدير (وأمضى) أي أنفذ حكمه وأتمه فجاءت الأشياء كما أرادها وقدرها وقضاها مع أسبابها وشرايطها وتميزاتها وتشخصاتها في أماكنها ومساكنها طوعا وانقيادا لقدرته القاهرة كما قال سبحانه (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)(1) فهذه ستة أمور لابد منها في خلق كل شخص من أشخاص الموجودات وإيجاد كل فرد من أفراد المخلوقات، وبين تلك الأمور ترتب وتسبب في لحاظ العقل، نظير ذلك أن الصانع منا لشيء لا بد من أن يتصور ذلك الشيء أولا وأن تتعلق مشيته وميله إلى صنعه ثانيا وأن يتأكد العزم عليه ثالثا وأن يقدر طوله وعرضه وحدوده وصفاته رابعا وأن يشتغل بصنعه وإيجاده خامسا وأن يمضي صنعه سادسا حتى يجيء على وفق ما قدره، إلا أن هذه الأمور في صنع الخلق لا تحصل إلا بحيلة وهمة وفكر وشوق ونحوها بخلاف صنع الحق فإنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك كما مر (فأمضى ما قضى) أي فأبرم وأتم وأحكم ما حكم بوجوده (وقضى ما قدر وقدر ما أراد) أشار بهذا التفريع إلى أن وجود القضاء وتحققه دليل على وجود جميع الأمور المذكورة المعتبرة في لحاظ العقل لتحققه; لأن وجود المسبب دليل على وجود جميع أسبابه المتعاقبة، أو إلى أنه يمكن اعتبار تلك الأمور وملاحظتها تارة على سبيل التعاقب وتارة على سبيل الاجتماع وإنما لم يقل أيضا أراد ما شاء وشاء ما علم إما للاقتصار لظهور ذلك مما ذكر، أو لأنه لا تفاوت بين المشية والإرادة إلا بحسب الاعتبار، وتعلق المشية بكل ما علم غير صحيح لأنه تعالى عالم بالمفاسد والقبايح ولا يشاؤها، ولما كان المقصود مما ذكر هو بيان الترتب في الأمور المذكورة فرع عليه الترتب بقوله:
ص:257
(فبعلمه كانت المشية) (1) إذ مشية الشيء متوقفة على العلم به وبجهات حسنه (وبمشيته كانت الإرادة) أي الإرادة المؤكدة بالعزم على المشية إذ العزم على الشيء فرع لحصول ذلك الشيء (وبإرادته كان التقدير) إذ تقدير الشيء يقع بعد إرادته كما أن الباني يقدر في نفسه طول البيت وعرضه وسائر ما يعتبر في خصوصياته بعد العزم على بنائه (وبتقديره كان القضاء) إذ خلق الشيء والحكم بوجوده يقع بعد تقديره بقدر معين ووزن معلوم ومقدار مخصوص فإن القضاء بمنزلة البناء والقدر بمنزلة الأساس ولا يتحقق البناء بلا أساس (وبقضائه كان الإمضاء) إذ الإمضاء هو إتمام القضاء وإنفاذه والفراغ منه ولا يتصور ذلك بدون القضاء، ثم أكد ذلك بقوله:
(والعلم متقدم على المشية (2)، والمشية ثانية والإرادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء) النسبة بين التقدير والقضاء كالنسبة بين العلم والمعلوم في التقدم والتأخر فكما أن العلم واقع على المعلوم منطبق عليه إذا وجد المعلوم كذلك التقدير واقع على القضاء منطبق عليه إذا وجد القضاء بالإمضاء، ثم لما كان الانطباق من الطرفين كان القضاء أيضا منطبقا على التقدير واقعا على وفقه (فلله البداء فيما علم متى شاء (3) وفيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء)
ص:258
أشار بذلك إلى إذا لوحظت تلك الأسباب من أولها إلى أعلى المسببات أعني القضاء بالإمضاء كان له تعالى البداء في كل مرتبة من مراتب تلك الأسباب إذ له أن يشاء وأن لا يشاء بقدرته واختياره على ما يقتضيه الحكمة والمصلحة وأن يريد وأن لا يريد وأن يقدر وأن لا يقدر، وهذا معنى البداء في حقه تعالى. وإذا لوحظت تلك المسببات من آخرها وهو القضاء بالإمضاء لا بداء له في شيء من مراتبها; لأن تحقق القضاء دليل على وقوع جميع أسبابها، ووقوع ما وقع خارج عن متعلق القدرة والإرادة إذ لا يقدر أحد على وقوع ما وقع ولا يمكن له إرادته; لأن القدرة والإرادة إنما يتعلقان بالشيء قبل وقوعه لا بعده بالاتفاق، ثم أشار إلى أن كلا من العلم والمشية والإرادة والتقدير متعلق بمتعلقه قبل وجود ذلك المتعلق في الأعيان على سبيل التفريع لكونه نتيجة للسابق ومعلوما منه بقوله:
(فالعلم بالمعلوم قبل كونه) في الخارج بمراتب; لأن كونه في الخارج بعد القضاء والعلم مقدم عليه بثلاث مراتب كما عرفت، وسر ذلك أن ذاته تعالى في الأزل علم بالموجودات في أوقاتها، وبعبارة أخرى: هو علم في الأزل بأنه سيوجدها في أوقاتها، فالعلم أزلي، والمعلوم حادث (والمشية في المنشأ (1) قبل عينه) أي قبل وجوده في الأعيان بمرتبتين أو قبل تعيين عينه وحقيقته (والإرادة في المراد قبل قيامه) في الزمان والمكان، والحاصل قبل وجوده في الأعيان لأن قيامه إنما هو بالإرادة المتعلقة بإيجاده في وقت معين وحدها أو لمرجح على اختلاف، وعلى التقديرين قيامه مسبوق بالإرادة (والتقدير لهذه المعلومات) المذكورة أعني المشيء والمراد أو المحسوسة والمشاهدة في هذا العلم (قبل تفصيلها وتوصيلها) أي تفصيل بعضها عن بعض وتوصيل بعضها ببعض; لأن التفصيل والتوصيل واقعان على وفق التقدير (عيانا ووقتا) نصبهما على الظرفية لكل من التفصيل والتوصيل. أما التفصيل العياني أي الخارجي فهو مثل جعل السماء مرفوعة والأرض موضوعة وجعل بعض الحيوان متحركا على رجلين وبعضه على أربع ووضع بعض الأجسام في مشرق وبعضها في المغرب ووضع بعض الأحوال في محل وبعضها في محل آخر إلى غير ذلك مما لا يحصى، وأما التوصيل العياني فهو مثل جعل هذا الجسم متصلا بآخر مماسا به مقاربا له في
ص:259
المكان وجعل هذه الاشخاص متساوية في الحقيقة ولوازمها ووضع هذه الأحوال في محل واحد وأمثال ذلك مما لا يعد كثرة، وأما التفصيل الوقتي فهو كجعل بعض الأشياء موجودا في هذا الزمان وبعضها في زمان سابق وبعضها في زمان لاحق، وأما التوصيل الوقتي فهو كجعل كثير من الأشياء متشاركة في الوجود في هذا الزمان وكثير منها متشاركة في الوجود في زمان آخر (والقضاء بالإمضاء) أي الحكم على تلك المعلومات بإمضائها ووجودها على وفق التقدير (هو المبرم) أي المحكم المتقن الواقع بلا دافع ولا مانع ولا خلل من جهة القضاء ولا من جهة الإمضاء ولا من جهة المقضى ولا من جهة انطباقه على النظام الأكمل (من المفعولات) بالفاء والعين، والظاهر أن «من» صلة للمبرم أو بيان له وجعلها بيانا للمعلومات بعيد (ذوات الأجسام) بيان للمفعولات أو بدل منه أي الذوات التي هي الأجسام (المدركات بالحواس) فالإضافة بيانية أو الذوات التي للأجسام، والإضافة لامية فيندرج حينئذ في الذوات العقول والنفوس مطلقا سواء كانت فلكية أو حيوانية (من ذوي لون وريح ووزن وكيل) بيان للأجسام والمراد بالوزن والكيل كون تلك الأجسام على مقدار مخصوص وحد معلوم (وما دب ودرج) عطف على ذوات الأجسام من باب عطف الخاص على العام، والدبيب والدروج المشي على الأرض والمراد هنا مطلق الحركة وإن كان في الهواء (من أنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس) من أنواع الحيوان وأشخاصه (فلله تعالى فيه) أي في كل واحد من المعلوم والمشيء والمراد والمقدر والمذكور في قوله:
فالعلم بالمعلوم قبل كونه إلى آخره (البداء) أي الإرادة والقدرة على اختيار أحد الطرفين لمرجح أولا على اختلاف المذهبين (مما لا عين له) أي مما ليس له وجود في الأعيان، وهذا حال عن الضمير المجرور في قوله فيه (فإذا وقع العين المفهوم المدرك) بالحواس بعد القضاء بالإمضاء (فلا بداء) إذ لا تتعلق الإرادة والقدرة بإيجاد الموجود كما عرفت (والله يفعل ما يشاء) الظاهر أنه تأكيد لثبوت البداء له تعالى فيما ذكر ويحتمل أن يكون بيانا وتعليلا لعدم ثبوت البداء له في المفعولات العينية المدركة بالحواس; لأن المراد بالبداء هنا هو أن يفعل ما يشاء فعله وإيجاده، وهذا المعنى لا يمكن تحققه في شيء بعدما فعله وأوجده، نعم يمكن له أن يعدمه ويزيل وجوده لحكمة ومصلحة كما في النسخ وغيره، وهذا أيضا بداء ولكن المراد بالبداء المنفي هو البداء في إيجاد الموجود فليتأمل
ص:260
(فبالعلم) الذي هو نفس ذاته المقدسة (علم الأشياء قبل كونها) (1) أي قبل وجوداتها المتعاقبة الزمانية (وبالمشية عرف صفاتها) الظاهر أن عرف من المعرفة لا من التعريف (وحدودها وإنشاءها قبل إظهارها) في الأعيان، وفيه إشعار بأن المراد بالمشية هنا هو العلم بالأشياء من حيث اتصافها بالصفات المذكورة، وهذا قريب مما ذكرناه سابقا، ولعل الوجه لذلك أن العلم المذكور سبب للمشية فأطلقت المشية على العلم مجازا من باب تسمية السبب باسم المسبب (وبالإرادة ميز أنفسها) أي أنفس الأشياء (في ألوانها وصفاتها) من الكيفيات والحدود وغيرها، وفيه إشارة إلى أن تخصيص كل شيء بلون مخصوص وصفات معينة بمجرد الإرادة من غير ملاحظة استعداد واعتبار قابلية كما هو مذهب الفلاسفة (2) (وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها) من الزمان المقدر وجودها فيه ويحتمل أن يراد أولها من حيث ذواتها وآخرها من حيث صفاتها (وبالقضاء أبان للناس أماكنها) المحسوسة والمعقولة (ودلهم عليها) أما المحسوسة فظاهرة، وأما المعقولة فهي أمكنتها في مرتبة العلم والمشية
ص:261
والإرادة والتقدير، فإن أصحاب العقول الخالصة يعلمون بعد مشاهدة وجوداتها العينية الحاصلة بعد القضاء أن لها وجودات في هذه المراتب بحسب نفس الأمر (وبالإمضاء شرح عللها) الفاعلية والمادية والصورية والغائية (وأبان أمرها) من حقايقها وصورها ومصالحها ومنافعها وحركاتها وسكناتها إلى غير ذلك من عجايبها وغرايبها التي يتحير فيها عقول ذوي البصائر (وذلك تقدير العزيز العليم) أي ذلك المذكور من كيفية الإيجاد تقدير العزيز الغالب القاهر على جميع المكنات، العليم المحيط علمه بجميع الكائنات فيعلم كيفية سوقها من كتم العدم إلى الوجود والظهور، ويعلم فروعها وأصولها وأجناسها وفصولها ولواحقها وعوارضها وخواصها ومنافعها وأماكنها ومواضعها وطريق تميز بعضها عن بعض وضم بعضها إلى بعض، سبحان الذي لا يخفى عليه شيء في ملكه ولا يعجزه شيء عن أمره.
ص:262
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد جميعا، عن فضالة بن أيوب، عن محمد ابن عمارة، عن حريز بن عبد الله وعبد الله بن مسكان جميعا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر.
ورواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن حفص، عن محمد بن عمارة، عن حريز بن عبد الله وابن مسكان مثله.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ابن عيسى، عن الحسين بن سعيد، ومحمد بن خالد جميعا، عن فضالة بن أيوب، عن محمد بن عمارة، عن حريز بن عبد الله وعبد الله بن مسكان جميعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا يكون شيء من أفعال الخالق وأفعال الخلق (2) في الأرض ولا في السماء) المراد به هو التأكيد في
ص:263
عمومية الشيء (إلا بهذه الخصال السبع بمشية وإرادة) قد مر أن الإرادة هي العزيمة على المشية (1) وتأكد العزم والثبوت عليها وأنت خبير بأن هذا بحسب الظاهر إنما ينطبق على مذهب الأشاعرة القائلين بأن الإرادة موافقة للعلم بمعنى أن كل ما علم الله تعالى وقوعه فهو مراد الوقوع وكل ما علم الله تعالى عدم وقوعه فهو مراد العدم كما صرح به بعض الأفاضل في شرح الطوالع فهم يقولون بأن جميع أفعال العبادة التي صدرت منهم من الطاعات والمعاصي مثل الكفر والزندقة وسب النبي وسبه تعالى مراد له تعالى، وأما انطباقه على مذهب العدلية أعني المعتزلة والإمامية القائلين بأنه تعالى يريد من أفعال العباد الطاعات والخيرات ولا يريد المعاصي والشرور فقد استفدناه من الحديث وكلام الأصحاب من وجوه:
الأول - أنه مشيته تعالى وإرادته متعلقة بجميع الموجودات بمعنى أنه أراد أن لا يكون شيء إلا بعلمه كما يرشد إليه الحديث الخامس من الباب الآتي، الثاني: أن الإرادة متعلقة بالأشياء كلها لكن تعلقها بها على وجوه مختلفة; لأن تعلقها بأفعال نفسه بمعنى إيجادها والرضا بها لكون كلها حسنة واقعة على وجه الحكمة، والشر القليل تابع لخيرات كثيرة فيه وليس مرادا بالذات، وتعلقها بأفعال العبادة أما الطاعات فهو إرادة وجودها والرضا بها أو الأمر بها، وأما بالمباحات فهو الرخصة بها، وأما بالمعاصي فهو إرادة أن لا يمنع منها بالجبر والقهر، وقد صرح به الصدوق في كتاب الاعتقادات أو إرادة عدمها، وبذلك فسروا قوله تعالى (لو شاء الله ما أشركوا) حيث قالوا ولو شاء الله عدم شركهم على سبيل الإجبار ما أشركوا ولكن لم يشأ على هذا الوجه لمنافاته غرض التكليف وإنما شاء على سبيل الاختيار ليكون لهم القدرة على الفعل والترك.
ومما يدل على هذا المعنى ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن الرضا (عليه السلام) قال: «إرادة الله تعالى ومشيته في الطاعات الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها. قال السائل: فلله فيه قضاء؟ قال: نعم ما من فعل يفعل العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء قال السائل: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة» نقلنا بعض الحديث بحسب المعنى.
الثالث - أن تعلقها بأفعاله تعالى هو ما مر وتعلقها بأفعالهم على سبيل التجوز باعتبار إيجاد الآلة والقدرة عليها وعدم المنع منها فكأنه أرادها.
ص:264
الرابع - إن إرادته تعالى عبارة عن العلم بما في الفعل من المصلحة.
الخامس - إن إرادة العبد لأفعاله مخلوقة لله تعالى وقد صرح به سيد المحققين في تفسير قول الصادق (عليه السلام) «خلق الله المشية ثم خلق الأشياء بالمشية» حيث قال: المراد بالمشية هنا إرادة المخلوقين والمراد أنه تعالى خلق إرادتهم بنفسها لا بمشية أخرى مباينة لها ثم خلق الأشياء يعني أفاعيلهم المترتب وجودها على تلك المشية بتلك المشية وصرح به أيضا السيد الشهيد الثالث الشوشتري في شرحه لكشف الحق حيث قال في بحث إبطال الكسب: أصل الإرادة مخلوقة له تعالى، والإرادة الجازمة التي صدر منها الفعل وهي الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع اختيارية لنا لأنه إذا حصل لنا العلم بنفع فعل يتعلق به الإرادة بلا اختيارنا لكن تعلق الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير جازمة موجبة للفعل فإنا قد نريد شيئا ومع هذا نكف نفسنا عنه وذلك الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الداعي إليه فإن عدم علة الوجود علة العدم وعدم الداعي إلى هذا وهكذا وغاية ما يلزم منه التسلسل في العدمات ولا استحالة فيه وبالجملة الإرادة الجازمة اختيارية لنا لاستناد عدم كف النفس المعتبر فيها إلى اختيارنا وإن لم يكن نفسها اختيارية.
ثم ذكر ما أورده بعض الجبرية على قول العلامة الحلي في كشف الحق بأن إرادة العبد فعل من أن الإرادة إذا كانت فعلا وهي عندك وعند أصحابك مخلوقة له في العبد والعبد بها يرجح الفعل كان بعض أفعال العباد عندكم مخلوقا له فوافقتمونا في البعض فلا نزاع بيننا وبينكم فيه فلم لا يجوز ذلك في الكل حتى يرتفع الخلاف بالكلية، وأجاب عنه بأن أصل الإرادة من الأفعال الاضطرارية ومحل النزاع هو الأفعال الاختيارية وبما قررنا يندفع ما ينسبه إليه أهل الخلاف والمشنعون علينا من أهل الإلحاد من أنه إذا كانت إرادته متعلقة بكل شيء لزم أن يكون جميع المعاصي مرادا له وأن يكون قتل الحسين (عليه السلام) مرادا له.
(وقدر وقضى) (1) لعل المراد بالقدر تقدير الموجودات طولا وعرضا وكيلا ووزنا وحدا ووصفا
ص:265
وكما وكيفا بحيث لا يزيد ولا ينقص كما قال (قد جعل الله لكل شيء قدرا) وبالقضاء في أفعاله هو الحكم بوجودها وفي أفعالنا هو الحكم عليها بالثواب والعقاب كما مر نقلا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وقال الآبي من علماء العامة: القدر عبارة عن علمه تعالى وإرادته بالكاينات قبل وجودها. وفيه أن مجيء القدر بمعنى العلم والإرادة في اللغة والعرف غير ثابت، وقيل: القضاء هو العلم الإجمالي بما يكون وما هو كائن، والقدر تفصيله الواقع على وفقه، فكل واقع في الوجود فبقضاء وقدر. وقيل:
القضاء هو الحكم الإجمالي والقدر تفصيله.
(وإذن) المراد بالإذن هنا العلم ومنه قوله تعالى (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أي كونوا على علم، من أذن بالشيء كسمع إذنا بالكسر وآذن الأمر وبه من باب الإفعال: أعلمه، وما من شيء يقع في الوجود إلا وقد سبق به علمه تعالى، أو المراد به الأمر، وإذنه تعالى في أفعاله عبارة عن الأمر لها بالوجود بقوله «كن» وفي معاصي العباد أمرهم بالترك والإعراض عنها وفي طاعاتهم بها، وقد سأل المأمون الرضا (عليه السلام) عن قوله تعالى (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) قال (عليه السلام) إذنه أمره لها بالايمان أو المراد به الرخصة لأنه تعالى رخص عباده بالمعاصي حيث لم يجبرهم على الطاعة، ومن ثم قال بعض الأصحاب: المراد بالاذن أن لا يحدث سبحانه مانعا زاجرا للعبد عن فعله وتركه كسلب القدرة والهمة وإبطال الآلة وإيجاد الضد وإعدام العبد ونحوها (وكتاب) في اللوح المحفوظ بقلم التصوير; لأن صورة كل ما يدخل في الوجود مكتوبة فيه ويحتمل أن يراد بالكتاب الفرض والايجاب كما في قوله تعالى (كتب عليكم الصيام) و (كتب على نفسه الرحمة) أي فرض وأوجب ومعناه إيجاد خلق الأشياء خلق تقدير وتمكين في أفعال العباد وخلق إيجاد وتكوين في أفعال نفسه.
(وأجل) أي أمد معين ووقت مقدر عنده تعالى لكل شيء لا يتقدم عليه ولا يتأخر (فمن زعم أنه قدر على نقض واحدة) من هذه الخصال السبع (فقد كفر) كما زعمت الفلاسفة أن الأجسام
ص:266
قديمة (1) لا أجل لها وأن الفاعل الحق موجب لا إرادة له، وتمسكوا لإثبات ذلك بمفتريات عقولهم الكاسدة ومكتسبات أوهامهم الفاسدة، وقد بين فساد ذلك في موضعه.
(ورواه علي بن إبراهيم، عن محمد بن حفص، عن محمد بن عمارة، عن حريز بن عبد الله وابن مسكان مثله) «مثله» بدل عن الضمير المنصوب في قوله «ورواه» أو حال عن كونه مماثلا المذكور في المتن في عدد الخصال.
2 - رواه أيضا عن أبيه، عن محمد بن خالد، عن زكريا بن عمران، عن أبي الحسن موسى ابن جعفر (عليهما السلام) قال: لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشية وكتاب وأجل وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل.
(ورواه أيضا) من غير تفاوت إلا في التقديم والتأخير في الخصال (عن أبيه، عن محمد بن خالد، عن زكريا بن عمران، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشية وكتاب وأجل وإذن فمن زعم غير هذا) بأن نفى كلها أو بعضها (فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل) الترديد من الراوي. وفيه اهتمام بالنقل على الوجه المسموع والكذب بحسب المفهوم، والمورد أعم من الرد.
ص:267
1 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.
قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل، قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه، قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى، أمضاه فذلك الذي لا مرد له.
(علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.
قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل) لما كان قوله (عليه السلام): لا يكون شيء إلا ما شاء الله دالا بحسب الظاهر على أن المعاصي تقع بمشيئته تعالى (1) وإرادته وهذا لا يستقيم على المذهب الحق سأل السائل عن معنى المشية حتى يظهر له وجه الاستقامة، فأجاب (عليه السلام) بأن المشية ابتداء الفعل وأوله، ولعل المراد بابتداء الفعل أن مشيته تعالى أول فعل من الأفعال وكل فعل غيرها يتوقف عليها ويصدر بعدها كما يدل عليه ما مر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «خلق الله المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية» يعني خلق أفعاله بها وكذا خلق أفعال عباده بها لكن بتوسط مشية جازمة صادرة منهم كما عرفت في الباب السابق، فإذن سلسلة جميع الأفعال منتهية إلى مشيته تعالى أو المراد به أن مشته تعالى أول المشيات وكل مشية سواها تابعة لها كما أنه تعالى هو الفاعل الأول وكل فاعل بعده فاعل ثانوي يسند إليه فعله بلا واسطة وإلى الفاعل الأول بواسطة وهذا معنى مشيته تعالى لأفعال العباد ومعنى إسناد أفعالهم إلى مشيته أو المراد به إيجاد الآلة مثل الحياة والقوة والقدرة والهمة والشوق فكأنه شاء أفعالهم على سبيل التجوز والله أعلم. وفي محاسن
ص:268
البرقي في هذه الرواية بعد هذا السؤال والجواب.
«قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه» يعني على ابتداء الفعل ومن هاهنا فسر بعضهم الإرادة تارة بأنها العزيمة على المشية وتارة بأنها الإتمام لها وتارة بأنها الجد عليها (قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه) المراد به تعيين ذات الشيء وصفاته وحدوده وكيفياته وسائر ما يدخل في خصوصياته، وقيل: التقدير هو الإعلام والتبيين. وقيل: هو الكتابة في اللوح المحفوظ. وقيل: غير ذلك، ولا شبهة في صحة تعلق تقديره تعالى بهذه المعاني بجميع الأشياء.
(قلت ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه (1) فذلك الذي لا مرد له); لأن إمكان رد الشيء وتركه والقدرة عليها إنما هو قبل القضاء والايجاد وأما بعدهما فقد خرجا عن تحت القدرة والفاعل كالمجبور لا يقدر على إيجاده وعدم إيجاده; لأن إيجاد الموجود وعدم إيجاده محال وتحقق هذا المعنى لقضائه في أفعاله ظاهر، وكذا لقضائه في أفعال العباد إذ قضاؤه فيها أعني الحكم عليها بالثواب والعقاب كما عرفت آنفا أيضا لا مرد له.
2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبان، عن أبي بصير قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم.
قلت: وأحب؟ قال: لا.
قلت: وكيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب؟ قال: هكذا خرج إلينا.
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبان، عن أبي بصير قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم) قد عرفت وجه تعلق هذه الأمور بجميع الأفعال آنفا (قلت وأحب) جميع ما شاء وأراد وقدر وقضى؟ (قال: لا) أي لا يحب جميع ذلك، فالنفي وارد على الإيجاب الكلي، وإنما قلنا ذلك; لأن الايجاب الجزئي ثابت وذلك لأن الله تعالى يحب جميع أفعاله ويرضاه ويحب بعض أفعال عباده أعني الطاعات والخيرات ولم يحب بعضها أعني
ص:269
المعاصي والشرور. وفي نفي الإيجاب الكلي رد على الجبرية لأنهم قائلون بأنه تعالى يريد ويحب جميع أفعالهم حتى الكفر والزناء والسرقة وغير ذلك من القبايح والشرور بناء على أن جميع أفعالهم مخلوقة له تعالى بلا واسطة (قلت: وكيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب) لعل السائل لم يعرف معاني هذه الأمور عند تعلقها بأفعال العباد حتى يعرف أنها لا يستلزم المحبة لجميع أفعالهم والرضا بها أو عرفها ولم يعرف معنى محبته تعالى لأفعالهم وهو الإثابة بها والمدح عليها أو عرفه أيضا ولم يعرف علة عدم الاستلزام إذ لو حصلت له المعرفة بتلك الأمور لما خفي عليه وجه عدم الاستلزام ولم يحتج إلى السؤال (قال: هكذا خرج إلينا) (1) من الوحي أو من البيان النبوي، وفيه على الأولين زجر له على الخطأ في السؤال حيث لم يسأل عن الطرفين المجهولين له وسأل عن علة عدم استلزام أحدهما للآخر، وهذا خلاف قانون التعلم، وعلى الأخير تنبيه له على أن الواجب عليه أمثال ذلك بعد حصول أصل المطلب هو التسليم والإذعان ولا يضره الجهل بلمية الحكم، والله أعلم.
3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل.
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أمر الله ولم يشأ) لعل المراد أنه أمر الله بشيء على وجه الاختيار
ص:270
وإراده على وجه التفويض والاختيار ولم يشأ ذلك الشيء مشية جبر ولم يرده إرادة قسر (وشاء ولم يأمر) يعني شاء شيئا مشية تكليفية وإراده تخييرية ولم يأمر به على وجه القسر ولم يرده على وجه الجبر أو شاء شيئا باعتبار أنه لم يجبر على ضده ولم يأمر بذلك الشيء أصلا كما أنه شاء أكل آدم من الشجرة بالاعتبار المذكور ولم يأمر به لكونه مرجوحا ثم أوضح ذلك بقوله (أمر إبليس أن يسجد لآدم) على سبيل الاختيار وأراد منه السجود من غير القسر والإجبار (وشاء أن لا يسجد) بالجبر والقسر، أو المراد ولم يشأ أن يسجد بقرينة قوله «أمر الله ولم يشأ» ومعناه ولم يشأ أن يسجد له مشية جبر ولم يرد منه ذلك إرادة قسر، والمآل واحد (ولو شاء لسجد) أي ولو شاء سجوده لآدم على القسر والجبر لسجد; لأن الأفعال القسرية لا تتخلف عن الفاعل، وحيث لم يسجد علم انتفاء المشية القسرية والإرادة الجبرية (ونهى آدم عن أكل الشجرة) على وجه الاختيار وكره منه أكل ثمرتها من غير القسر والإجبار (وشاء أن يأكل منها) أي شاء أن يكون أكله منها أمرا اختياريا له أراد أن لا يكون مجبورا في تركه وفي قبول النهي عنه (ولو لم يشأ لم يأكل) يعني لو لم يشأ أن يكون له اختيار في أكله ويكون مجبورا على تركه لم يأكل، لأن المجبور على ترك الشيء مسلوب الاختيار عن فعله لا يقدر على الاتيان بذلك الشيء، وحيث أكل علم أنه صاحب القدرة والاختيار فيه وأنه تعالى أراد أن يكون فعل العبد وتركه بقدرته حفظا لنظام التكليف وتحقيقا لمعنى الثواب والعقاب، وبهذا التقرير يندفع (1) ما يتوجه إلى ظاهر هذا الحديث من أنه موافق لمذهب الجبرية القائلين بأنه تعالى قد يأمر بالشيء وهو لا يريده وينهى عن الشيء وهو يريده، وأنه يريد كل ما يدخل في الوجود وإن كان معصية ولا يريد ما يدخل فيه وإن كان طاعة بناء على ما تقرر عندهم من أنه تعالى خالق لأفعال العباد، فكل ما خلقه فقد أراده وكل ما لم يخلقه لم يرده فأمر إبليس بالسجود ولم يرده لعدم تحققه وأراد عدمه لتحققه، ونهى آدم عن الأكل وأراد أكله لتحققه ولم يرد تركه لعدم تحققه، وغير موافق لمذهب العدلية الإمامية وهو أنه تعالى كل ما يأمر به فهو يريده وكل ما ينهى عنه فهو لا يريده بل
ص:271
يكرهه، وأنه تعالى يريد كلما هو خير حسن وجد أو لم يوجد، ولا يريد كلما هو شر وقبيح كذلك.
ويخطر بالبال توجيه آخر وهو أن معنى قوله: «أمر الله ولم يشأ» هو أنه أمر بشيء ولم يرد تعلق علمه بوقوع ذلك الشيء لعلمه بعدم وقوعه. ومعنى قوله «وشاء ولم يأمر» هو أنه أراد تعلق علمه بوقوع شيء لعلمه بوقوعه ولم يأمر بذلك الشيء لأنه يكرهه، وتوجيه ثالث بناء على أن المراد بالمشية العلم وهو أنه أمر بشيء ولم يعلم وقوع ذلك الشيء لعلمه بعدم وقوعه فلا يتعلق علمه بوقوعه و «شاء» يعني علم وقوع شيء ولم يأمر به لكونه غير مرضي له، والتوجيه الأول أقرب والثالث أبعد ; لأن إطلاق المشية على العلم لم يثبت لغة ولا عرفا. وحمل الحديث على التقية محتمل أيضا.
4 - علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد الهمداني، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن لله إرادتين ومشيئتين:
إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى.
(علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد الهمداني، ومحمد بن الحسن عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن لله إرادتين ومشيئتين (1)
ص:272
إرادة حتم) أي إرادة حتمية ومشيئة قطعية لا يجوز تخلف المراد عنها كما هو شأن إرادته ومشيئته بالنسبة إلى أفعاله (وإرادة عزم) أي إرادة عزمية غير حتمية ومشية تخييرية غير قطعية يجوز تخلف المراد عنها، كما هو شأن إرادته ومشيته بالنسبة إلى أفعال العباد (ينهى وهو يشاء) أي ينهى عن العبد عن شيء ويكره ذلك الشيء وهو يريد بالعرض صدوره منه باعتبار أنه لم يجبره على قبول النهي والترك (ويأمر وهو لا يشاء) أي يأمر العبد بشيء ويريد صدوره منه وهو لا يريد ذلك الشيء باعتبار أنه لم يجبره على قبول المأمور به، والحاصل أنه تعالى لما كان قادرا على منع العبد جبرا وقسرا من الفعل في صورة النهي ومن الترك في صورة الأمر ولم يمنعه كذلك لأنه مناف للتكليف كأنه شاء فعل المنهي عنه وترك المأمور به.
(أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك) أي أكلهما منها باعتبار أنه لم يجبرهما على تركه (ولو لم يشأ أن يأكلا) بجبره لهما على المنهي عنه ومشيته لتركه حتما (لما غلبت مشيتهما) للأكل (مشية الله تعالى) لتركه حتما; لأن المغلوب المجبور على ترك شيء لا يمكنه الإتيان بفعله فضلا عن أن يكون مشيته غالبة على مشية الجابر القاهر.
(وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق) دل على أن الذبيح إسحاق ابن سارة، وفي رواية أبي بصير، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) المذكورة في باب حج إبراهيم (عليه السلام) من هذا الكتاب أيضا دلالة على ذلك ولكن رواية الصدوق رحمه الله في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وبإسناده الآخر، عن علي بن الحسن بن علي بن الفضال، عن أبيه عنه (عليه السلام) دلت على أن الذبيح إسماعيل ابن هاجر، وكذا روايته في كتاب معاني الأخبار في باب نوادر المعاني صريحة في ذلك وفي آخرها «فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل وأن الذبيح إسحاق فقد كذب بما أنزل الله من نبأهما.
(ولم يشأ أن يذبحه) (1) مشية حتم يمتنع معها الذبح والإعراض عنه
ص:273
(ولو شاء أن يذبحه) كذلك (لما غلبت مشية إبراهيم) ترك الذبح والإعراض عنه بعد الاشتغال به (مشية الله تعالى) ذبحه حتما لأنه (عليه السلام) حينئذ كان مجبورا بالذبح غير قادر على تركه، والله أعلم.
5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن درست بن أبي منصور، عن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: شاء وأراد ولم يحب ولم يرض، شاء أن لا يكون شيء إلا بعلمه وأراد مثل ذلك ولم يحب أن يقال: ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر.(1)
(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن درست بن أبي منصور، عن فضيل بن يسار، قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: شاء وأراد ولم يحب (2) ولم يرض) هذا باعتبار المطلق مجمل فسره بقوله (شاء أن لا يكون شيء إلا بعلمه وأراد مثل ذلك) قد عرفت أن الإرادة آكد من المشية يعني شاء وأراد إرادة حتم أن يتعلق علمه بكل شيء من الأشياء إلا بعلمه وهذا أحد التأويلات لتعلق مشيته وإرادته بكل شيء خيرا كان أو شرا (ولم يحب أن يقال: ثالث ثلاثة) المحبة في حق العبد ميل النفس أو سكونه بالنسبة إلى موافقه وملائمه عند تصور كونه ملايما وموافقا له، وهذا مستلزم لإرادته إياه،ولما كانت المحبة بهذا المعنى محالا في حقه تعالى يراد بها ذلك اللازم يعني لم يرد أن يقال: هو إله من الآلهة الثلاثة: الله وعيسى ومريم كما قالت النصارى ودل على قولهم ذلك قوله تعالى (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) (ولم يرض لعباده الكفر); لأن الرضا بالكفر قبيح لا يجوز إسناده إليه تعالى، وفيه رد على
ص:274
الأشاعرة لأنهم يقولون: أراد الله الكفر من الكافر وأراد أن يقال له «ثالث ثلاثة» بناء على ما تقرر عندهم من أنه تعالى أراد كلما له حظ من الوجود وإذا أرادهما فقد أحبهما (1) ورضيهما; لأن حبه تعالى للشيء ورضاه عبارة عن الإرادة، كما صرحوا به في كتبهم وصرح به أصحابنا أيضا.
ومن ثم قال ابن قيم الحنبلي وابن هشام على ما نقل عنهما شارح كشف الحق أن هؤلاء - يعني الأشاعرة - يقولون: إن كل ما شاء الله وقضاه فقد أحبه ورضيه، ولما رآى جماعة المتأخرين منهم شناعة هذا القول وقبحه حاولوا التحرز عنه فقال بعضهم: إرادته تعالى بجميع الأشياء حتى الكفر وغيره عبارة عن تقديرها، وتقديره للكفر لا يوجب أن يحبه ويرضاه.
وقال صاحب المواقف: الرضا عبارة عن ترك الإعراض والله [لا] يريد الكفر ويعترض عليه ويؤاخذ به، ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض وليس مأمورا بإرادتها وهو مأمور بترك الاعتراض عليها.
والجواب عن الأول: أن الإرادة لم تجئ لغة ولا عرفا بمعنى التقدير ولم يصطلح عليه سوى هذا القائل ولهذا لم يتمسكوا في دفع هذه الشناعة عن أنفسهم بهذا القول مع أنه لا ينفعهم أصلا لأن أفعال العباد كلها مخلوقة له تعالى عندهم ولا معنى لخلق الفاعل المختار لها بدون إرادتها فالقبح بحاله.
والجواب عن الثاني من وجوه: الأول أنه لم يثبت في اللغة ولا في العرف أن الرضا عبارة عن ترك الاعتراض بل الثابت فيهما أنه عبارة عن الإرادة وبذلك يشعر كلام ابن قيم في شرح منازل السائرين وكلام الآبي في كتاب إكمال الإكمال وكلام بعض شراح نهج البلاغة حيث قال: المحبة إرادة هي مبدأ فعل ما، ومحبته تعالى للشيء إرادته، والرضا قريب من المحبة ويشبه أن يكون أعم منها; لأن كل محب راض عما أحبه ولا ينعكس، وقد قيل: إن الرضاء على ما يقتضيه القرآن مستلزم للإرادة أو إرادة مخصوصة ولعل تلك الإرادة المخصوصة هي التي ذهب إليها بعض الأصحاب من أن الرضا إرادة متعلقة بالأمور الحسنة من حيث هي كذلك، الثاني أن إرادة الكفر من
ص:275
شخص والاعتراض عليه قبيح بحسب العقل، فلا يصح إسناده إليه تعالى، الثالث أن ترك الاعتراض يتحقق في المباحات والمكروهات ولا يقال: إنه تعالى راض عن العباد بفعلها، الرابع أن التأييد المذكور في محل المنع; لأن رضا العبد بالآلام عبارة عن إرادتها ترجيحا لإرادته تعالى على إرادة نفسه، وترك الاعتراض تابع لتلك الإرادة.
6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد محمد بن أبي نصر قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) قال الله: ابن آدم! بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا، بصيرا، قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك وذاك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني وذاك أنني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.(1)
(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) قال الله: ابن آدم) بحذف حرف النداء وفي كتاب العيون «يا ابن آدم» بذكرها (بمشيئتي) مشيتك وتوفيقك واللطف بك (كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء) (2) من الطاعات والخيرات الموجبة لاستقامة أحوالك في الدارين كما قال سبحانه (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) (3)وفي الكلام ترجيح لجانب المعنى والخطاب على جانب اللفظ والغيبة.
(وبقوتي) التي أودعتها فيك (أديت فرائضي) التي توجب قربك مني ورضاي عنك، ولما كان
ص:276
أداؤها متوقفا على إرادتها والقوة عليها والتوفيق المحرك إليها كان كل ذلك من صنع الله تعالى بعباده والتفضل عليهم، أما الأخيران فظاهران وأما الأول فلأنك قد عرفت آنفا أن أصل الإرادة من خلق الله تعالى وإن كانت الإرادة الجازمة من العبد، من الله تعالى عليهم بذكر هذه الأمور (وبنعمتي قويت على معصيتي) فيه توبيخ لك بالظلم والكفران ووعيد باستحقاق العقوبة والخذلان; وذلك لأن حكمة التكليف المورث لاستحقاق الثواب والعقاب تقتضي إمكان تعلق القوة بالضدين وصلاحية ارتباطها بالطريق وتلك لكونها جسمانية تقوى وتضعف بسبب توارد النعمة وعدمه اقتضت الحكمة لأجل تكميل الحجة تقويتها بالنعمة، والغرض الأصلي من تقويتها هو أن تصيرها إلى أشرف الضدين وتميلها إلى أفضل الطرفين أعني الطاعات والخيرات، فإذا جعلها مايلة إلى المعاصي والشرور فقد صرف أثر النعمة في سبيل الظلم والطغيان وحصل لك استحقاق العقوبة والخذلان (جعلتك بلا سبق استحقاق سميعا) بما نطقت به ألسن الشرايع والرسل (بصيرا) بما دل على أشرف المناهج والسبل (قويا) على سلوك طريق الاستقامة والزلل.
(ما أصابك من حسنة) طاعة كانت أو نعمة (فمن الله) (1) تفضلا منه عليك وإحسانا منه إليك فله الفضل والحق عليك أما الطاعة فلأخذ لطفه عنان مشيتك إليها وإقامة توفيقه جواد إرادتك عليها، وأما النعمة سواء كانت دنيوية أو أخروية فلظهور رجوع جلها بل كلها إلى التفضل والإحسان; لأن الإنسان وإن صرف عمره في سبيل الطاعة والرضوان واجتنب دهره عن طريق المعصية والطغيان فهو بعد لم يأت بما يكافي نعمة الوجود فكيف يستحق بعمله نعمة أخرى، ولذلك ورد من طريق العامة والخاصة «لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته» وفيه دلالة على نفي التفويض (وما أصابك من سيئة) معصية كانت أو بلية (فمن نفسك) لكونها فاعلة لها وجالبة إياها، أما المعصية فلصرف النفس عنان القدرة القادرة على الطاعات والمعاصي إلى سبيل المعاصي، وأما البلية فلاستجلاب النفس إياها بارتكاب المناهي كما روى المصنف في باب «تعجيل عقوبة الذنب» بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قول الله عز وجل (وما
ص:277
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (1)ليس من التواء عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم ولا خدش عود إلا بذنب - الحديث» قال القاضي الآية مخصوصة بالمجرمين فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعويضه للأجر العظيم بالصبر عليه، إنتهى. ولك أن تريد بالنفس واليد الجنس وتقول قد يصيب المصيبة بريئا بفعل غيره كما دل عليه بعض الآيات والروايات وأن تريد بهما نفس المصاب ويده وتجعل المكسوب الجالب للمصيبة شاملا لخلاف الأولى أيضا وتقول غير المجرم لا يخلو منه كما اشتهر «حسنات الأبرار سيئات المقربين»، ومن هاهنا أصاب آدم (عليه السلام) ما أصابه. وفيه دلالة واضحة على أن العبد ليس مجبورا على المعصية وأن أفعاله مستندة إليه لا إليه سبحانه كما زعمت الأشاعرة (وذاك) المذكور وهو كون (ما أصابك من حسنة) سببا للحكم عليه بأنه من الله وكون «ما أصابك من سيئة» سببا للحكم عليه بأنه من نفسك لأجل (أني أولى بحسناتك منك) لصدورها عنك بقوتي التي أودعتها فيك اختيارا وامتحانا وتوفيقي ولطفي بك تفضلا وإحسانا حتى لو صرفت وجه التوفيق واللطف عنك، ووكلتك إلى نفسك كنت من الشر أقرب ومن الخير أبعد وأنت أولى بسيئاتك مني) لصدورها عنك على وفق عنايتك وإرادتك ومقتضى مشيتك وقدرتك. وفي لفظة أولى وإضافة الحسنات والسيئات إلى المخاطب إشعار بأن الحسنات والسيئات كلها مكسوبة للعبد إلا أن فعل الحسنات لما كان بالتوفيق واللطف الخارجين عن الأمور المعتبرة في أصل التكليف كان إسناده إليه تعالى أولى بهذا الاعتبار كإسناد الرمي إليه تعالى في قوله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وفعل السيئات لما كان عن مجرد القوة التي هي مناط التكليف مع شوق النفس إليه من غير إعانة من الله تعالى عليه كان إسناده إلى الفاعل الحقيقي أولى من إسناده إلى الفاعل بواسطة (وذلك) إشارة إلى الأمر المفهوم من سياق الكلام وهو الإقدار على الطاعة والمعصية وإحداث اللطف والتوفيق لبعض دائما ولبعض في وقت دون وقت.
(إنني لا اسأل عما أفعل) (2) لكمال الجلالة والعظمة والجبروت مع اشتمال ذلك الفعل على
ص:278
الحكم والمصالح وغيرها من أسرار القدر التي لا يصل إليها عقول أحد من البشر.
(وهم يسألون) عما يفعلون وعن صرف القوة والنعمة فيما يعملون لأنهم عباد مملوكون وفيه أيضا دلالة على أنهم الفاعلون إذ لا معنى لسؤال أحد عما هو مجبور عليه وليس من فعله.
ص:279
1 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حمزة ابن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء.(1)
(علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء) القبض في اللغة: الإمساك والأخذ يقال: قبض عليه بيده إذا ضم عليه أصابعه، وقبض الشيء أخذه، والبسط:
نشر الشيء والجود والإنعام، وفلان مبسوط اليد وجواد عبارتان متعقبتان على معنى واحد، ومن أسمائه تعالى القابض والباسط لأنه يقبض الرزق عمن يشاء ويبسط الرزق لمن يشاء ويقبض الأرواح عند الممات ويبسطها في الأجساد عند الحياة، ولعل المراد بالقبض والبسط هنا القبض والبسط في الأرزاق بالتوسع والتقتير، وفي النفوس بالسرور والأحزان، وفي الأبدان بالصحة والألم، وفي الاعمال بتوفيق الإقبال إليها وعدمه، وفي الأخلاق بالتحلية بها وعدمها، وفي الدعاء بالإجابة له وعدمها، وفي الأحكام بالرخصة في بعضها والنهي عن بعضها، يعني ما من قبض ولابسط بشيء من هذه المعاني إلا ولله تعالى فيه مشية وإرادة وقضاء وحكم، والابتلاء هو اختبار يختبر بها عباده ويعامل معهم معاملة المختبر مع صاحبه لا ليعلم مآل حالهم وعاقبة أمرهم لأنه علام الغيوب بل ليظهر لهم كيف يخرجون من بوتقة الامتحان أيخرجون صابرين خالصين أو يخرجون شاكين خبيثين، فالفقير والمحزون والمتألم مختبرون بالفقر والحزن والألم، والغني والمسرور والصحيح مختبرون بالغنى والسرور والصحة وهكذا البواقي، فإن صبروا دخلوا في زمرة الصابرين الكاملين وإن لم يصبروا دخلوا في زمرة الشاكين الناقصين، والسالكون العارفون بمراتب هذه الاختبارات ورموز هذه الامتحانات مترددون بين خوف ورجاء ولا حول ولا قوة إلا بالله. وفيه دلالة على أن أفعال العباد اختيارية لهم إذ لا معنى لا ختبار أحد بفعل لا يقدر عليه.
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن حمزة
ص:280
ابن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه لله عز وجل ابتلاء وقضاء.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه) لعل المراد بالأمر خلاف النهي فيشمل ما وقع فيه الرخصة مثل المباحات أيضا، والبسط في صورة الأمر، والقبض في صورة النهي; لأن الناهي قبض المنهي وأخذه عن فعل المنهي عنه، ويمكن تعميم الأمر والنهي على وجه يشمل القبض والبسط في غير الأحكام أيضا فإن الفقر والغنى والألم والصحة وغيرها أيضا حاصلة بأمره تعالى (إلا وفيه لله تعالى ابتلاء وقضاء) وذلك بعد حصول اللطف منه تعالى ببعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإرشاد العباد وإيضاح السبل ومدح الصابرين وتعظيم أجرهم، فلا يرد أن الاختبار ينافي اللطف المقرب إلى الطاعة والانقياد واجب على الله تعالى كما بين في موضعه.
ص:281
الشقاء والشقاوة خلاف السعادة، سعد الرجل بالفتح والكسر فهو سعيد، وبالضم والكسر فهو مسعود. والسعيد فسره الآبي بأنه من يدخل الجنة وإن أردت زيادة توضيح فنقول: السعادة والشقاوة حالتان متقابلتان للإنسان ولهما أثر وسبب قريب وسبب بعيد، أما الأثر فهو استحقاق الثواب والعقاب، وأما السبب القريب فهو الإتيان بالخيرات التي أشرفها الإيمان والاتيان بالشرور التي أخسها الكفر وقد يطلق السعادة والشقاوة على نفس هذا السبب أيضا، وقول الصادق (عليه السلام) السعادة سبب خير يمسك به السعيد فجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان يمسك به الشقي فجره إلى الهلكة، وكل بعلم الله، يحتمل الأمرين، وأما السبب البعيد فهو ما أشار إليه مولانا الباقر (عليه السلام) بقوله: «إن الله جل وعز قبل أن يخلق الخلق قال كن ماء عذبا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وكن ملحا أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي، ثم أمرهما فامتزجا فمن ثم صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن - الحديث» فإن هذين الماءين سبب لاقتدار الإنسان بالخير والشر وتكليفه وامتحانه بهما ومبدأ لاستعداده لقبول السعادة والشقاوة وميله إليهما ولا يقتضي ذلك الجبر; لأن الجبر إنما يلزم لو خلقه من ماء أجاج وحده فإن ذلك كان يوجب انتفاء القدرة على الخير، والظاهر أنهما يطلقان على هذا السبب أيضا، وبالجملة هما في الحقيقة الحالتان المذكورتان، وإطلاقهما على السببين المذكورين على سبيل التوسع من باب تسمية السبب باسم المسبب.
1 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا.(1)
ص:282
(محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان (1)، عن صفوان يحيى، عن بن منصور ابن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه) أي قدرهما قبل تقدير الخلق (2) أو قبل إيجاده فلا يرد أنهما أمر عرضي كيف يتصور تحققه قبل تحققه هذا إن أريد بهما الحالة المذكورة أو السبب القريب لها وأما إن أريد بهما السبب البعيد فيحتمل أن يراد بخلقهما تقديرهما ويحتمل أن يراد به إيجادهما لأن مبدأ الخير والشر مما أوجده الله تعالى في مبدأ الإنسان الذي هو الماء الذي اختمرت به طينته (فمن خلقه الله سعيدا) (3) حال عن المفعول أو تميز للنسبة وعلى التقديرين كان تقديره أو إيجاده مقرونا بسعادته في علم الله تعالى فلا يرد أن سعادته مكسوبة له لا أنه تعالى موجد لها على ما هو الحق عند الإمامية (لم يبغضه أبدا) لتحقق السعادة الموجبة للمحبة والرضا عنه (وإن عمل شرا) بمقتضى ما فيه من القوة الداعية إلى الشر (أبغض عمله) بما هو شر متصف بأنه خلاف المراد (ولم يبغضه) بغضه له يعود إلى كراهته له وعلمه بعدم وقوعه على نهج الصواب واستحقاق صاحبه للتعذيب ثم يوفقه للتوبة الماحية له أو يمحوه بالآلام والمصائب أو يعفو عنه لمن يشاء حتى يرد عليه خالصا من الذنوب (وإن كان شقيا لم يحبه أبدا) لغلبة شقاوته الموجبة للمقت والبغض وفي تغيير الأسلوب إيماء لطيف (4) إلى أنه تعالى لا يخلق أحدا شقيا وإنما الشقاوة من كسب العبد بخلاف السعادة فإنها أيضا
ص:283
وإن كانت من كسبه إلا أنه لحسن استعداده صار محلا للطفه تعالى به وتوفيقه له في اكتسابها فكأنه تعالى خالق لها (وإن عمل صالحا) لما فيه من القوة الداعية إلى الصلاح (أحب عمله) حبه له يعود إلى علمه بوقوعه على نهج الصواب وإرادة المكافأة لصاحبه فيكافيه بالإحسان والإنعام الدنيوي ونحوه ليرد عليه خاليا عما يوجب الدخول في الجنة (وأبغضه لما يصير إليه بسوء اختياره من الشقاوة التامة الموجبة للدخول في النار (فإذا أحب الله شيئا) سواء كان عملا أو غيره (لم يبغضه أبدا وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا) توضيح ذلك أن الإنسان عبارة عن مجموع الجوهرين: النفس والبدن (1) ولكل واحد منهما طريقان طريق الخير وطريق الشر فطريق الخير للأول هي العقائد الصحيحة والأخلاق المرضية وللثاني هي الأعمال الحسنة، وطريق الشر للأول هي العقائد الباطلة والأخلاق الرذيلة، وللثاني هي الأعمال القبيحة. فإن استقام هذان الجوهران في شخص دائما كما في الأنبياء والأوصياء كان سعيدا مطلقا محبوبا لله دائما غير مبغوض أبدا، وإن لم يستقم شيء منهما أبدا كان شقيا مبغوضا أبدا غير محبوب أصلا، وإن استقام الأول دائما دون الثاني كان هو محبوبا دائما غير مبغوض أبدا; لأن الجوهر الأول أولى بالحقيقة الإنسانية بل هو الإنسان حقيقة وكان عمله مبغوضا، وإن استقام الثاني دائما دون الأول كان هو مبغوضا وعمله محبوبا، وإن استقام كل واحد منهما في وقت دون آخر يعتبر حاله في الخاتمة فإن استقيما أو استقيم الأول وحده كان هو عند الله محبوبا وكان عمله مبغوضا، وإن استقيم الثاني أو لم يستقم شيء منهما كان هو عند الله مبغوضا وكان عمله محبوبا،
ص:284
وكلما كان العمل وحده مبغوضا أمكن أن يتداركه: التوبة أو المصيبة الدنيوية أو البرزخية أو الشفاعة أو العفو، ومما ذكرنا ظهر أن الكافر الذي يؤمن محبوب له تعالى في علم الغيب والمؤمن الذي يكفر مبغوض أبدا.
لا يقال: هذا ينافي قوله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فإن هؤلاء كانوا محبوبين لله تعالى; لأن الرضا عنهم يوجب المحبة ثم صار بعضهم مبغوضا بالنفاق في حال حياته (صلى الله عليه وآله) وبعضهم بالخلاف بعده.
لأنا نقول: الرضا متعلق بالمؤمنين وكون هؤلاء من المؤمنين عند المبايعة ممنوع، وعلى تقدير التسليم كان الرضا مشروطا بالوفاء وعدم النكث كما يدل عليه قوله تعالى (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) وهؤلاء لما نكثوا علم أنهم فقدوا شرط المحبة، وفي هذا الحديث رد على الأشاعرة القائلين بأنه تعالى أراد جميع أفعال العباد ورضي بها وأحبها بناء على ما زعموا من أنه الموجد لها.
2 - علي بن محمد رفعه، عن شعيب العقرقوفي، عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله! من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه بحقه. فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معرفته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله. ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم في علمه ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه. لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره.(1)
(علي بن محمد رفعه، عن شعيب العقرقوفي عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا) قوله جالسا إما خبر والظرف متعلق به أوحال والظرف خبر (وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية) (2) أي من أي محل، على أن يكون «من»
ص:285
للابتداء أو «من» أي سبب على أن يكون للتعليل كما في قوله تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا) ويكون أين بمعنى أنى للسؤال عن الحال (حتى حكم لهم في علمه بالعذاب) عليهم (على عملهم) اللام في «لهم» للتهكم و «في» بمعنى الباء أي بسبب علمه بسوء حالهم وقبح مآلهم وفساد أعمالهم أو للظرفية المقدرة لاستقرار هذا الحكم في علمه المحيط بكل شيء واحتواء علمه به كاستقرار السعي في الحاجة في قوله سعيت في حاجتك والباء متعلق بحكم و «حتى» عاطفة لا جارة بقرينة وقوع الفعل بعدها، وما بعدها هاهنا أقوى مما قبلها; لأن للشقاء أفرادا وهذا الفرد وهو حكم الله تعالى عليهم بالعذاب أقوى أفراده، ولذلك جعله السائل غاية له ليقيد لحوق جميع أفراد الشقاء
ص:286
بهم حتى هذا الفرد الذي لا شقاء أقوى منه، ثم إن أراد بلحوق الشقاء لحوقه بحسب العلم الإلهي كان المعطوف مؤخرا بحسب الذهن ونفس الأمر جميعا; لأن هذا الحكم تابع لعلمه بشقائهم وإن أراد به لحوقه بحسب الخارج كان المعطوف مؤخرا بحسب الذهن لملاحظة إحاطة أفراد الشقاء بهم فردا بعد فرد إلى أن بلغ هذا الفرد الذي هو نهاية أفراده وأقواها ومقدما بحسب نفس الأمر لأنه تابع لعلمه الأزلي بحالهم، بقي هاهنا شيء وهو أنه إن أراد بالمعصية المعصية الموجبة للدخول في النار أبدا مثل الكفر يراد بالشقاء الشقاء التام وبالعذاب العذاب الأبدي، وإن أراد بها أعم مما ذكر يراد بهما أيضا أعم مما ذكر وحينئذ يراد بقوله «حكم لهم بالعذاب» أنه حكم لهم باستحقاق العذاب لئلا ينافي جواز العفو وغيره في بعض الصور، ولما سأل سائل عن المبدأ الأول والسبب الأصلي للشقاء أشار (عليه السلام) إلى أن ذلك سر من الأسرار التي لا يصل إليها العقول الناقصة.
(فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أيها السائل حكم الله لا يقوم له) أي لمعرفته ومعرفة أسراره (أحد من خلقه بحقه) أي بحق الحكم أو بحق القيام، ولعل المراد بهذا الحكم هو حكمه تعالى في علمه بالثواب والعقاب على عملهم أو حكمه تعالى في مادة الإنسان بامتزاج الماءين أو بامتزاج الطينتين طينة الجنة وطينة النار كما في بعض الروايات، وهذا الامتزاج مبدأ للقوة الداعية إلى الخير والشر والسعادة والشقاوة (فلما حكم بذلك) أي بالثواب والعقاب أو بالامتزاج المذكور (وهب لأهل محبته) أي للذين علم أنهم سيصبرون على طاعته ويقومون على أمره ونهيه ويسلكون باختيارهم سبيل محبته (القوة على معرفته) (1) القوة إن اعتبر في مفهومها صلاحية تأثيرها في الخير والشر وإمكان ارتباطها بالفعل والترك إلا أنها في هؤلاء لما كانت متوجهة إلى طريق الخير ومتعلقة بسبيل المعرفة خصها بالذكر باعتبار هذا الطريق لا نتفاء أثرها في غيرها.
(ووضع عنهم) لطفا وتوفيقا لهم لمراعاتهم ما هو الغرض من هذه القوة (ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله) من الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات والسلوك إلى الله، وبذلك صاروا من أهل
ص:287
المحبة والسعادة، فالقوة والإعانة منه تعالى، والفعل منهم على سبيل الاختيار.
(ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم) وجه التخصيص يعرف مما ذكر، وإنما أضاف المعصية إليهم لا إليه سبحانه كما في المحبة والمعرفة للتنبيه على أن معصيته مما ينبغي أن لا يقع وأنها لكونها من مقتضيات نفوسهم وجب أن يضاف إليهم ولما كان المراد بهذه القوة القوة الجامعة لشرائط التأثير في المعاصي بقرينة تخصيص تعلقها بالمعصية بالذكر أشار إلى تعليل هبتها بوجه يخرجها عن الجبر والظلم بقوله (لسبق علمه فيهم) بما يصيرون إليه من المعصية والمخالفة، وهذا العلم تابع للمعلوم بمعنى أنه مطابق له، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم إذ لولاه لم يتعلق العلم به لا بمعنى أنه متأخر عنه لاستحالة حدوث العلم له تعالى (ومنعهم إطاقة القبول منه) في الطاعات وسلوك سبيل الخيرات، والظاهر أن إضافة المنع إلى ضمير الجمع من باب إضافة المصدر إلى الفاعل، والمقصود أن هبة القوة المؤثرة في المعصية لأجل مجموع هذين الأمرين أعني العلم والمنع فلا يلزم الجبر لاستناد المنع إليهم. وإنما قلنا «الظاهر ذلك» لاحتمال أن يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول، والفاعل هو الله تعالى، والمقصود منه سلب التوفيق والإعانة عنهم بسبب إبطالهم الاستعداد الفطري لإطاقة القبول منه وإفسادهم القوة المعدة لقبول الطاعة ولا يلزم منه جبر ولا ظلم; لأن الجبر إنما يلزم لو لم يهب لهم القوة على الطاعة وإطاقة القبول (1) والظلم إنما هو وضع الشيء في غير موضعه، وهم بسبب ذلك الابطال والافساد خرجوا عن استحقاق الإعانة والتوفيق (فواقعوا) بالقاف والعين، وفي بعض النسخ: فوافقوا بالفاء والقاف (ما سبق لهم في علمه) من المعاصي الموجبة لعذابهم (2) (ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم (3) من عذابه; لأن علمه أولى بحقيقة التصديق).
إن قلت: علمه تعالى بأحوالهم الموجبة لعذابهم لا يقتضي أن تكون تلك الأحوال واجبة وأن لا
ص:288
يكون لهم قدرة على الأحوال الموجبة لنجاتهم عن العذاب إذ العلم تابع للمعلوم لا علة له.
قلت: لا دلالة فيه على أن علمه علة لتلك الأحوال وعدم قدرتهم على نقيضها وإنما دل على أن المعلوم واجب الحصول; لأن علمه مطابق. وأما وجود المعلوم فهو مستند إلى علته التامة التي هي باختيارهم (1) ومع تحقق علته التامة فهو واجب الحصول، ونقيضه ممتنع لا قدرة لهم عليه (وهو معنى شاء ما شاء وهو سره) أي إعطاء القوة على الطاعة والمعصية وعدم الجبر على شيء منها تحقيقا لمعنى الاختيار والتكليف هو معنى شاء ما شاء وسره إذ لو لم يشأ صدورها على سبيل الاختيار لما أعطاهم القوة عليها ولجبرهم على الطاعة، وفيه رد على الجبرية القائلين بأن معناه أنه تعالى أراد جميع أفعال العباد وفعل هو خيرها وشرها، وهم - كما صرح به بعض المتأخرين منهم - صنفان; صنف يقولون بأنه تعالى هو الفاعل لأفعال العباد وليس لهم اختيار وقدرة عليها أصلا، وصنف يقولون لهم قدرة واختيار على أفعالهم، ولا يكون لقدرتهم واختيارهم مدخل وتأثير فيها وإنما الموجد لها هو الله تعالى، والعبد كاسب، بمعنى أنه محل لتلك الأفعال التي أوجدها الله تعالى فيه، وتحقيقه يرجع إلى أن العبد إذا توجهت قدرته إلى الفعل سبقت قدرته تعالى إليه وتوجدها، وهذا الصنف وهم الأشاعرة مع موافقتهم للصنف الأول في بعض الوجوه خالفوهم بوجه آخر لئلا يرد عليهم أن فعله تعالى معاصي العباد ثم تعذيبهم بها ظلم وجور لأنهم يقولون يستحق العباد التعذيب باعتبار المحلية والكسب واقتران المعصية مع قدرتهم وإن لم يكن قدرتهم مؤثرة فيها أصلا.
وأنت تعلم أن القول بوجود قدرة غير مؤثرة غير معقول; لأن القدرة صفة مؤثرة على وفق الإرادة فلو لم يكن قدرة العبد مؤثرة كانت تسميتها قدرة مجرد اصطلاح وأن الظلم لازم غير مدفوع، ولقد أحسن بعض أصحابنا حيث أتى بالتمثيل لإيضاح قبح هذا القول وقال: لعمري إن القول بكسب العبد وبأن قدرته غير مؤثرة وإنما المؤثر قدرة الله تعالى ثم القول بثواب العبد أو عقابه من باب أن يقال إن أحدا قادر على الزناء مثلا إذا كان معه قادر آخر تكون قدرته أشد من قدرته وارتكب الزناء دون الأول صار ذلك الضعيف الغير المرتكب له مستحقا للحد والرجم دون المرتكب له، وهو كما ترى.
3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد عن يحيى ابن عمران الحلبي، عن معلى بن عثمان، عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: يسلك
ص:289
بالسعيد في طريق الأشقياء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثم يتداركه السعادة، وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم، ثم يتداركه الشقاء، إن من كتبه الله سعيدا وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة.(1)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحبي، عن معلى بن عثمان، عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء) تقول أسلكت الشيء في كذا إسلاكا وسلكته فيه سلكا بالفتح فانسلك إذا أدخلته فيه فدخل، فالفعل متعد إما مزيد أو مجرد وعلى التقديرين إما معلوم مسند إلى ضمير يرجع إلى الله تعالى أو مجهول مسند إلى الظرف والباء للمبالغة في التعدية وقد تجعل للتعدية بناء على أن السلك قد يجيء لازما (حتى يقول الناس ما أشبهه بهم) إظهارا للتعجب في كمال المشبهة بينه وبينهم في الشقاء (بل هو منهم) لحصول المساواة في الظاهر وانتفاء التشبيه المشعر بالتفاوت (ثم يتداركه السعادة) برجوعه إلى طريق السعداء وندامته عما كان فيه فيحسن خاتمته، وقد تقرر أن كل من مات على شيء حكم له به من خير أو شر (وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم ثم يتداركه الشقاء) بالحركة إلى طريق الأشقياء واستقرار خاتمته على الشقاوة.
(إن من كتبه الله سعيدا وإن لم يبق من الدنيا فواق ناقة ختم له بالسعادة) الفواق بالفتح والضم ما بين الحلبتين من الوقت; لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل ثم تحلب، وهذا تمثيل بقرب ما بين موته ووصوله إلى مرتبة السعادة ثم تلك السعادة حصلت له باختياره وحسن اعتباره مع لحوق اللطف والتوفيق به، ولا يلزم من كونه مكتوبا من السعداء سلب الاختيار عنه إذ معنى كتبه سعيدا ليس تعلق علمه بأنه سعيد (2) وعلمه بسعادته لا يلزم وجودها لا باختياره وإرادته; لأن
ص:290
العلم تابع للمعلوم ومطابق لما يقع في نفس الأمر، وفيه تنبيه على الخوف من سوء الخاتمة، وهو الذي قرح قلوب العارفين، ووقع من سوئها جزئيات كثيرة، وزل فيها أقدام جماعة من أهل العرفان ولذلك كان أهل الحق والسعادة يطلبون حسن العاقبة واستقامة الخاتمة بالتضرع والابتهال، وقد وقع مثل هذا الحديث في طرق العامة، روي مسلم في باب بيان المقادير السابقة بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم عمله بعمل أهل الجنة» وبإسناده عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة».
قال المازري: الانتقال من الشر إلى الخير كثير، وأما من الخير إلى الشر فهو في غاية الندور، وهو من باب «سبقت رحمتي غضبي» ثم الشر المنتقل إليه أعم من كونه كفرا وشر مخالفة.
قال الآبي: وما ذكر المازري من أن ذلك في غاية الندور، ذكر الغزالي أن تسعين صديقا انحطت من درجة الصديقية إلى درجة الزندقة باتخاذ النساء، وغرضنا من نقل أحاديثهم وأقاويلهم هو الإشعار بأنهم أيضا قايلون بأن الانتقال من أحدهما إلى الآخر غير مستبعد من غير المعصوم فكيف يستبعدون ذلك من الثلاثة الذين خلفوا على تقدير إيمانهم وخروجهم من الكفر الذي مضوا عليه في أكثر عمرهم.
ص:291
باب الخير والشر (1)
1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب وعلي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما أوحى الله إلى موسى (عليه السلام) وأنزل عليه في التوراة: أني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب، فطوبى لمن أجريته على يديه، وأنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده، فويل لمن أجريته على يديه.(2)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب وعلي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) وأنزل عليه في التوراة) العطف للتفسير مع احتمال أن يكون الإيجاد قبل الإنزال (إني أنا الله لا إله أنا) إشارة إلى التوحيد في الذات والصفات (خلقت الخلق) إشارة إلى التوحيد في كونه مبدأ لجميع المخلوقات مع احتمال أن يراد بالخلق الخلق القابل للخير والشر بقرينة المقام (وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب فطوبى لمن أجريته على يديه) طوبى فعلى من الطيب والواو منقلبة عن الياء لا نضمام ما قبلها وقيل: هي اسم شجرة في الجنة وعلى التقديرين فهو مبتدأ والمعنى له طيب العيش أو له الجنة لأنها تستلزم طيبه (وأنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده) أي من أريد إجراءه على يديه (فويل لمن أجريته على يديه) هذا الحديث وما يتلوه دل بحسب
ص:292
الظاهر على الجبر كما هو مذهب الأشاعرة القائلين بأنه تعالى هو الخالق الموجد أفعال العباد كلها خيرها وشرها، وبطلانه لما كان معلوما عندنا بالعقل والنقل وجب التأويل فيه (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) (1)ولكن لا بأس أن نشير إليه على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال فنقول: لعل المراد بالخير والشر الجنة والنار وإجراؤهما عبارة عن الإعانة والتوفيق للمتوجه إلى الأول، وعن سلبهما عن المتوجه إلى الثاني. وهذا التأويل قد ذكره بعض شارحي نهج البلاغة حيث قال: وكأني بك تستعلم عن كيفية التوفيق بين ما روي في دعاء التوجه إلى الصلاة «الخير في يديك والشر ليس إليك» وما روي في الدعاء «اللهم أنت خالق الخير والشر» فوجه التوفيق أن المراد بالأول أن الأفعال التي فعلها الله تعالى وأمر بها حسنة كلها وليست القبايح من أفعاله تعالى ولا من أوامره، ومعنى الثاني أنه تعالى خالق الجنة والنار، انتهى. أو نقول: المراد بخلق الخير والشر تقديرهما والخلق كما جاء في اللغة بمعنى الإيجاد جاء أيضا بمعنى التقدير، والله سبحانه هو المقدر لجميع الأشياء والمبين لحدودها ونهاياتها حتى الخير والشر ومعنى إجرائهما ما عرفت، أو نقول: الخلق بمعنى الإيجاد مستلزم للإرادة والمشية والمراد هنا هو الإرادة على سبيل الكناية وقد صرح بعض علماء العربية بأن الكناية قد يتحقق في موضع يمتنع فيه إرادة الحقيقة.
فإن قلت: فهو تعالى على هذا التأويل يريد الشر من أفعال العباد كما يريد الخير وهذا ينافي الحق الثابت عندنا من أنه يريد الخير دون الشر.
قلت: لا منافاة أما أولا فلأن إرادة الشر بالعرض من حيث إنها تابعة لإرادة الخير وذلك لأنه إذا أراد الخير بدون حتم بمعنى أنه أراد صدوره عنهم باختيارهم ولم يجبرهم عليه فقد أراد الشر بالعرض فإرادته تابعة لإرادة الخير بالمعنى المذكور والحق الثابت أنه لا يريد الشر بالذات كما يريد الخير كذلك. وأما ثانيا فلأنه أراد الخير، صدر عنهم أو لم يصدر وأراد الشر لعلمه بصدوره عنهم على اختيارهم، فإرادة الشر تابعة للعلم بصدوره بخلاف إرادة الخير وسيأتي في ثالث باب الاستطاعة ما يدل عليه، والحق الثابت أنه لا يريد الشر بما هو شر، ولا ينافي ذلك إرادته من حيث علمه بصدوره عنهم، وسر ذلك أنه تعالى علم جميع الموجودات وأراد أن يكون علمه مطابقا للواقع فمن أجل ذلك كأنه أراد جميعها وإن كان بعضها مرادا له بالذات وبعضها مكروها له بالذات، ومنه يظهر سر (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) تأمل تعرف فإنه دقيق جدا (2) وحمل الحديث على
ص:293
التقية عن بعض الحاضرين أيضا محتمل.
هذا، وقال بعض الناظرين في هذا الحديث أن إيجاده تعالى للشر بالعرض لا بالذات بل ذلك تابع لإيجاد الخيرات. ألا ترى أن خلق الماء فيه منافع كثيرة وشرور قليلة مثل هدم بعض الأبنية وهلاك بعض الأشخاص وهو تعالى إنما أوجده للأول لا للثاني، وكذا كل خلق مشتمل على خيرات كثيرة وشرور قليلة، وليس خلقه إلا لاشتماله على الخيرات لا لاشتماله على الشرور ولا لاشتماله عليهما جميعا فيكون وقوع الشر منه تعالى بالعرض وبتبعية الخيرات لا بالذات وظني أنه لا مدخل له في هذا الحديث (1); لأن المقصود من الخير والشر هو الخير والشر من أفعال العباد كما يشعر له سياق الكلام وما ذكره إنما يتم في أفعاله تعالى لا في أفعالهم، وعلى تقدير التسليم فهذا القايل قد اعترف بأن موجد الخيرات بالذات (2) هو الله تعالى، وهذا بعينه مذهب الجبرية (3).
ص:294
2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن في بعض ما أنزل الله من كتبه أني أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الخير وخلقت الشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول: كيف ذا كيف ذا(1).(2)-الکافی :/1.(3)
(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن في بعض ما أنزل الله من كتبه أني أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الخير وخلقت الشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير، وويل لمن أجريت على يديه الشر) الويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب (وويل لمن يقول: كيف ذا وكيف ذا) (4) على سبيل الإنكار والإشارة الأولى لخلق الخير وإجرائه على يد أهله والثانية لخلق الشر وإجرائه على يد أهله، أو الأولى لخلق الخير والشر، والثانية لإجرائهما على يد أهلهما.
3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بكار بن كردم، عن مفضل بن عمر، وعبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: أنا الله لا إله إلا أنا، خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول:
كيف ذا وكيف هذا.
ص:295
«قال يونس: يعني من ينكر هذا الأمر بتفقه فيه».(1)
(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بكار بن كردم) بكار بفتح الباء وتشديد الكاف، والكردم في اللغة الرجل القصير الضخم ثم جعل علما وشاعت التسمية به (عن مفضل بن عمر، وعن عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: أنا الله لا إله إلا أنا، خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر) ربما يقال: إنه تعالى لما أقدر العبد على الخير والشر كأنهما يجريان منه تعالى على أيديهم (وويل لمن يقول: كيف ذا وكيف هذا قال يونس يعني) بمن يقول (من ينكر هذا الأمر) وهو خلق الخير والشر وإجراؤهما على يد أهلهما (بتفقه فيه) أي في الإنكار أوفي هذا الأمر وقوله «بتفقه» إما مصدر مجرور بالباء أو فعل مضارع، وهو على التقديرين حال عن فاعل ينكر. وفي هذا التفسير إشارة إلى أن ترتب الويل على هذا القول إنما هو إذا كان القائل منكرا لهذا الأمر يدعي الفقه في ذلك الإنكار والعلم بخلاف ذلك الأمر، أو يطلب التفقه والدليل على ذلك الأمر كما أن المنكر لشيء قد يطلب من الخصم دليلا عليه لا ما إذا كان غير عارف بحقيقة ذلك الأمر ولا عالم بمعناه فيسأل العارف عنها فإن السؤال على هذا الوجه ليس بمنهي عنه والسائل ليس محلا للوعيد.
تم المجلد الرابع ويليه إن شاء الله المجلد الخامس أوله:
«باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين».
ص:296
(الأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف: 103 - 104.... 217
(الحمد لله فاطر) فاطر: 1... 201
(الذين يحملون العرش) غافر: 7... 100 - 102 - 103
(الراسخون في العلم) النساء: 162... 130
(الرحمن على العرش استوى) طه: 5... 83 - 84 - 86 - 97 - 104
(الله نور السماوات والأرض) النور: 35... 8
(إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1... 241
(إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172... 114 - 221
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) الفتح: 10... 218 - 219
(إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما
غفورا) فاطر: 41... 90 - 91
(إن بطش ربك لشديد) البروج: 12... 20
(إنما إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس: 82... 185
(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) النساء: 171... 118
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) المائدة: 55... 226
(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 29... 215
(إنه كان حليما) الاسراء: 44... 92
(أفتهلكنا بما فعل المبطلون) الأعراف: 173... 114
(أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) إبراهيم: 10... 175
(ألست بربكم) الأعراف: 173... 225 - 178
(أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) فصلت: 21... 113
(أو لم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) الأعراف: 185... 198
(أولم ير الإنسان) يس: 77... 236
(أولم ير الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) مريم: 67... 236
ص:297
(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن) الأحقاف: 33... 140
(أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) الأعراف: 173... 114
(تبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون: 14... 121
(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) الحشر: 14... 169
(تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض) مريم: 90... 92
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فصلت:
110... 249 - 203
(ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون: 14... 202
(سبحان الله) الصافات: 159... 25
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت: 53... 198
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول) الجن: 26 - 27... 215
(على العرش استوى) طه: 5... 78
(غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) المائدة: 64... 232
(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) الحجر: 29... 116
(فأذنوا بحرب من الله ورسوله) البقرة: 279... 258
(فتول عنهم فما أنت بملوم) الذاريات: 54... 231
(فلعلك باخع نفسك على آثارهم) الكهف: 6... 208
(فلما آسفونا انتقمنا منهم) الزخرف: 55... 218
(فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) الأعراف 143... 157
(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) الفتح: 10... 278
(قد جعل الله لكل شيء قدرا) الطلاق: 3... 258
(قضى أجلا وأجل مسمى عنده) الانعام: 2... 235
(كتب عليكم الصيام) البقرة: 183... 258
(كتب على نفسه الرحمة) الانعام: 12... 258
(كل شيء هالك إلا وجهه) القصص: 88... 58 - 211
(كل من عليها فان ويبقي وجه ربك) الرحمن: 26 _ 27... 212
(كل يوم هو في شأن) الرحمن: 29... 232
(كن فيكون) البقرة: 117... 73
ص:298
(لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف: 87.... 25 - 26
(لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون) الشعراء: 50... 159
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) الفتح: 18... 278
(لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) النحل: 7... 74
(لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) النساء: 172... 246
(لو شاء الله ما أشركوا) الانعام: 107... 256
(ليس كمثله شيء) الشورى: 11... 60 - 82 - 84 - 105
(ما خلقت السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) الدخان: 38.... 201
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) المجادلة: 7... 80 - 81 - 96 - 90
(مسني الشيطان بنصب وعذاب) ص: 41... 56
(مما خطيئاتهم أغرقوا) نوح: 25... 279
(من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80... 217 - 218
(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء: 1... 45
(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) الاسراء: 67... 66
(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست ربكم) الأعراف:
172... 113
(وإذ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) النمل: 18... 35
(واسأل القرية) يوسف: 82... 161
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) طه: 7... 96
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده) الاسراء: 44... 113 - 177
(وأتوا البيوت من أبوابها) البقرة: 189... 215
(وأجل مسمى عنده) الانعام: 2... 236
(وأحصى كل شيء عددا) الجن: 28... 134
(وأزلفت الجنة للمتقين) الشعراء: 90... 201
(وأشرقت الأرض بنور ربها) الزمر: 69... 175
(وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه
عزيز حكيم) الأنفال: 63... 169
(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) آل عمران: 107... 93
ص:299
(وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) الزمر: 75... 103
(وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) الشعراء: 217... 67 - 72 - 73
(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات: 55... 231
(وروح منه) النساء: 171... 118
(وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) البقرة: 255... 90 - 96 -
107 - 108 - 109
(وصوركم فأحسن صوركم) غافر: 64... 122
(وكان عرشه على الماء) هود: 7... 111 - 112
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض)... 98
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الانعام: 75... 90
(ولئن زالتا إن أمسكهما) فاطر: 41... 91
(ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم) المجادلة: 7... 81
(ولدينا مزيد) ق: 35.... 201
(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) الأعراف: 180... 214 - 100 - 102
(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى: 30... 270
(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) الانسان: 30... 269 - 286
(وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) الذاريات: 56... 140 - 201
(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الأنفال: 17... 271
(وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) البقرة: 57... 226 - 228
(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) يونس: 100... 258
(وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) يونس: 74... 114
(وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) آل عمران: 7... 286
(وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3 - 4... 239
(ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) الذاريات: 49... 161 - 170
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا) الطلاق: 2... 158
(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) المائدة 56... 227
(ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) المؤمنون:
117... 124
(ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80... 212 - 219
(ونفخت فيه من روحي) الزخرف: 84... 119 - 122
ص:300
(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الزخرف: 84... 88
(وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) الحديد: 4... 96
(ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) الحاقة: 17... 92 - 100 - 102
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الاسراء: 85... 117
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) الانسان: 1... 236
(هو الأول والآخر) الحديد: 3... 8 - 9
(هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الزخرف: 84... 204
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 59... 217
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) المائدة: 51... 227
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) فاطر: 15.... 107
(يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) الزمر: 56... 223
(يا عباد فاتقون) الزمر: 16... 140
(يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) الحاقة: 17... 90
(يد الله مغلولة) المائدة: 64... 232
(يعلم ما يسرون وما يعلنون) البقرة: 77... 96
(يمحو الله ما يشاء ويثبت) الرعد: 39... 234
(أأمنتم من في السماء) الملك: 16... 84
(أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) المائدة: 116... 267
ص :301
باب المعانی الأسماء و اشتقاقها...3
معانی الأسماء و اشتقاقها...28
باب تأویل الصمد...61
باب الحرکة و الانتقال...69
باب العرش و الکرسی ...93
باب الروح...119
باب الجوامع التوحید...128
باب النوادر...218
باب البداء...236
فی انه لا یکون شیء فی السماء و الأرض إلا بسبعة...263
باب المشیئة و الارادة...268
باب الابتلاءو الاختیار...280
باب السعادة و الشقاء...282
باب الخیر و الشر...292
فهرس الآیات...297
ص:302