کنزالفوائد للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن علی بن عثمان

اشارة

کنزالفوائد للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن علی بن عثمان الکراجکی الطرابلسی

حققه وعلق عليه

العلامة الشيخ عبدالله نعمه

الجزء الاول و الثانی

دار الأضواء

بيروت -لبنان

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

این کتاب، به زبان عربی و حاوی مباحثی ارزشمند درباره موضوعات گوناگون اسلامی مانند حدیث، فقه، اخلاق، فلسفه، کلام، موعظه، عقاید ، تاریخ اسلام و بررسی مذاهب گوناگون است.

کتاب کنز الفوائد، از زمان نگارش تا حال، پیوسته، مورد توجه علما و فقهای شیعه قرار داشته و برای آگاهی از بسیاری از مباحث مهم اسلامی، کتابی ارزش مند و قابل توجه است.

مؤلف، بر بسیاری از منابع معتبر دست رسی داشته و این خود، بر ارزش کتاب می افزاید.

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 1

ص: 2

کنزالفوائد

للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن علی بن عثمان

الکراجکی الطرابلسی المتوفی449ه

حققه وعلق عليه

العلامة الشيخ عبدالله نعمه

الجزء الاول

دار الأضواء

بيروت -لبنان

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

1405 ه - 1985 م

دارالاضواء

بيروت - العنبره . مشارع عبد الله الحاج . بناية الروضة

ص.ب:25/40 - برقيا الغبيره - حسنکر

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلواته وتحياته على أكرم رسله ، سيدنا محمد وآله المصطفين الأبرار ، وصحبه الأخيار.

وبعد فأنا أمام كتاب «كنز الفوائد» الذي يعتبر - بحق - من الآثار القيمة الحية ، التي تركها لنا سلفنا العلماء الخالدون ، قد ضم بين دفتيه مجموعة كبيرة من أبحاث علمية، متعددة الألوان ، مختلفة المواضيع ، قد تبوأ مكانة كريمة لدى العلماءوالباحثين ، وأولوه إهتمامهم وعنايتهم، فكان من المصادر التي اعتمدوها واخذو عنها .

وهذا الكتاب من آثار العلامة الفقيه المتكلم الشيخ أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي الطرابلسي، من ألمع العلماء الإسلاميين في القرن الخامس الهجري ، وأكثرهم إحاطة بمعارف عصره، وأوفرهم إنتاجاً ونشاطا في سبيل العقيدة الإسلامية ، ونعرف ذلك من ثبت مؤلفاته كما يأتي إن شاء الله .

وقد طبع هذا الكتاب في إيران منذ أكثر من ثمانين سنة على المطابع الحجرية ونفدت نسخة وأصبحت نادرة الوجود ، رغم رداءة طباعته وكثرة أغلاطه . لذلك أصبح مجهولاً لا يعرفه إلا قليل.

وقد عنيت منذ مدة طويلة بنسخه عن النسخة المطبوعة ، وبترتيبه والتعليق عليه ، رغبة في نشره بين القراء ، وتعميما للفائدة، وإبرازاً لآثار علمائنا الأبرار وجهودهم في مجالات العلم والثقافة الإسلامية .

ص: 5

وكان من حق هذا الكتاب أن يصدر بحلته الجديدة، منذ زمن، إلا أن الظروف القاسية التي مرت بها البلاد حالت دون ذلك.

وأخيرا قيض الله سبحانه الصديق البر الحاج جعفر الدجيلي صاحب دار الأضواء، فتولى طبعه وإخراجه ، فله شكري ودعائي له بالتوفيق . والله سبحانه يتولى الصالحين العاملين .

4 ربیع الاول سنة 1405 ه

27 / 11 / 1984م

عبد الله نعمة

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد

مقدمة

عاش أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي مؤلف هذا الكتاب «كنز الفوائد » الشطر الكبير من حياته ما بين النصف الأخير من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس للهجرة.

وكانت هذه الفترة التي عاشها الكراجكي بالذات حافلة إلى حد كبير بضروب من الانقسامات السياسية الهائلة ، وبقيام دول صغيرة ، منيت بها المملكة الإسلامية (الأم)، وانفصلت عنها .

فقد استقل بنو بويه بفارس والري وأصبهان والجبل .

وأصبحت کرمان في يد محمد بن الياس ، والموصل وديار بكر وربيعة ومضر في أيدي الحمدانيين ، والمغرب وأفريقيا في أيدي الفاطميين، والأندلس في أيدي الأمويين، وخراسان في يد السامانيين ، والأهواز وواسط والبصرة في أيدي البريديين، واليامة والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي ، وجرجان وطبرستان في أيدي الديلم.

ولم يبق في يد العباسيين سوی بغداد وأعالها ، محتفظين بسيادة معنوية على هذه الدويلات المنفصلة عنها، التي كانت تقدم للخليفة العباسي في بغداد الدعاء والخطب في المساجد أيام الجمع والأعياد وفي المناسبات الدينية ، وتشتري منه الألقاب(1).

ص: 7


1- أنظر : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع لآدم متز ، ج1 ص1 وما بعدها .

كما حفلت هذه الفترة أيضا بضروب عديدة من المذاهب والنحل ، وبانقسام كبير في الآراء والنزعات، في مجادلات ومناظرات عنيفة وحادة ، بصراحة وحرية ، حفظتها لنا تلك المؤلفات التي وضعت في هذه الفترة ، والتي تبرز لنا تلك الألوان المذهبية بوضوح وعنف، حول القدم والحدوث ، وحول الخالق وصفاته ، وحول أفعال الإنسان في الجبر والاختيار، وحول الخلافة والإمامة وما إليها من العصمة والنص والاختيار ، وحول ما يراه المعتزلة من نظرية الأحوال، ونظرية الأشاعرة حول نظرية الكسب ، وحولما يراه الإسماعيلية والقرامطة من الباطن والظاهر ، وحول جميع هذه المواضيع الكلامية وغيرها ، التي كانت محور المناظرات العلمية والفكرية آنذاك.

فقد برز في هذه الفترة من شيوخ الأشاعرة أمثال أبي بكر محمد بن الطيب البصري المعروف بالقاضي الباقلاني المتوفي سنة (403 ه).

ومن المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني شيخ المعتزلة في عصره المتوفي سنة (415ه.). وأبو الحسن البصري محمد بن علي بن الطيب المتوفي سنة (430 ه).

ومن الشيعة الإمامية الشيخ محمد بن محمد بن النعمان التلعکبري المعروف بالشيخ المفيد المتوفي سنة (413ه) وهو عالم الشيعة في عصره.

والشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي المتوفي سنة 436. وتلميذها أبو الفتح الكراجكي المتوفي سنة (449ه).

وفي هذه الفترة بالذات تنفس الشيعة الإمامية الصعداء حين أخذ ينحسر عنهم الكثير من الحرمان والكبت والملاحقة ، التي عاشوها طيلة أكثر العهود الماضية، وتنسموا شيئا من حريتهم ، واستطاعوا الإعلان عن آرائهم واتجاهاتهم ، ما لم يحظوا به في عصور سابقة. ذلك حين عطف بنو بويه على الشيعة ، وسيطروا على الخليفة في بغداد، الذي كان مصدر ذلك الكبت والحرمان، وتحكموا بمقدرات الدولة ومصيرها ، وأصبح الخليفة العباسي دمية بين أيديهم يحركونها كيفما شاؤوا

ص: 8

وفي هذه الفترة بالذات أيضا ، استطاع الشيخ المفيد وتلميذه الشريف المرتضى وتلامذهما، أن ينشطوا للقيام بواجبهم الديني والعلمي دون خوف أو تقية ، وأن يتغلغلوا في دفع الفكرة الشيعية إلى المناطق التي كانت موصدة أمامهم من قبل ، كإيران وأكثر جهات العراق وسوريا ، وأن يبرزوا التشيع في حقيقته النقية الصافية الممدودة بالمنطق والأدلة العلمية ، وقد أخذوا على عاتقهم مهمة الدعوة الإسلامية ، وصد هجمات الملاحدة من القرامطة والغلاة وغيرها.

وكان أبو الفتح الكراجكي من أبرز من تحملوا المسؤولية في هذا السبيل . وكان الدور الذي قام بأعیائه مهماً وخطيراً. فقد قدر له أن يعيش في هذا الثغر الشامي وفي الساحل اللبناني ، ليقوم بترسيخ العقيدة الإسلامية ، والحد من النزعة الإسماعيلية ، يوم كانت فلسطين ولبنان واقعة تحت نفوذ الدولة الفاطمية ، وحين كانت الفكرة الإسماعيلية الفاطمية تعيش في أكثر بقاعها .

وقد إختار الكراجكي مدينة طرابلس اللبنانية قاعدة لانطلاقه وعمله ، حين كان أمراء بني عمار الشيعة يتولون حكمها ، ويسيطرون عليها .

ومن هذه القاعدة - طرابلس - انطلق الشيخ الكراجكي يناظر ويجادل ويعلم ، بكل ما يملك من طاقة علمية وفكرية ، وصمد في وجه الموجة الإسماعيلية العارمة ، واستطاع أن يجد من نشاطها ، حتى انحسرت عن أكثر هذه المنطقة، وحلت مكانها الفكرة الشيعية الأمامية ، وأصبحت مذهب الأكثرية لسكان المناطق الساحلية في ذلك العهد .

وشمل في نشاطه مقاومة سائر المخالفين ، كالمعتزلة والأشاعرة، وأهل الديانات الأخرى ، كاليهود

والنصارى والبراهمة وسواهم ، كما يبدو ذلك من كتبه والفصول التي أدرجها في كتابه (كنز الفوائد).

كل ذلك بفضل جهوده المتواصلة ، وبما كان يملكه من شدة المعارضة وروح الجدل ، ووفور : العلم ، وعمق الملاحظة ، وتنوع الثقافة ، وقوة الحجة ، وماكان يتمتع به من وعي وإدراك ، ومن حيوية وحركة وصبر وعمل دائب.

ص: 9

ص: 10

مؤلف الكتاب

اشارة

هو أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان المعروف بالكراجكي ، نسبة إما إلى (کر اجك) وهي قرية تقع على باب مدينة (واسط) العراقية التي بناها الحجاج الثقفيوالي الأمويين سنة 84/83 ه أنظر : التنبيه والاشراف المسعودي ص311.، وكان بينها وبين كل من البصرة والكوفة والأهواز وبغداد مقدار واحد ، وهو خمسون فرسخا .(1)

وهذا ما قاله كثير من مترجميه.

وإما نسبة إلى عمل الكراجك وهي الخيم كما في لسان الميزان .(2)

وقد وصفه غير واحد بالخيمي نسبة إلى (الخيم) قرية أو محلة في مصر ، كان أبو الفتح قد نزلها.

والأرجح أن نسبته بالكراجكي إنما هي إلى عمل الخيم، التي هي الكراجك كما قاله في لسان الميزان ، إما لأنه هو كان يعملها أو أن الذي يعملها أحد آبائه فنسب إليها . بدلیل ما قاله العاد الحنبلي: « وفيها توفي أبو الفتح الكراجكي أي الخيمي » الذي يفسر الكراجكي بالخيمي.

كما ينسب الكراجكي إلى طرابلس الشام، فيوصف بالطرابلسي ، لاقامته فيها مدة طويلة أيام حكامها بني عمار، وقد عده المجلسي في كتاب البحار في فقهاء طرابلس، كما يفهم من عبارته التالية:

«ومن أجلاء علمائنا وفقهائنا ورؤسائهم فقهاء حلب ، وهم جمع كثير ، ومنهم

ص: 11


1- أنظر : التنبيه والاشراف المسعودي ص311.
2- ج 5 ص 300

فقهاء طرابلس، ومنهم الشيخ الأجل السعيد أبو الفتح الكراجكي نزيل الرملة البيضاء ».(1)

ويعزز هذه النسبة وإقامته الطويلة في طرابلس، أنه ألف أثناء إقامته فيها عدة مؤلفات، ومنها :

1- عدة المصير في حجج يوم الغدير ، ألفه في طرابلس للشيخ أبي الكتائب ابن عمار .

2- التلقين الأولاد المؤمنين.

3- التهذيب متصل بالتلقين.

4-نهج البيان في مناسك النسوان، أمره بعمله الشيخ الجليل أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمار بطرابلس .

5-معونة الفارض على استخراج سهام الفرائض، ألفه بطرابلس لبعض الإخوان.

6- ردع الحاصل وتنبيه الغافل ، وهو نقض كتاب أبي المحاسن المعري الذي رد به على الشريف المرتضى في المسح على الرجلين ، ألفه في طرابلس .

7- مختصر طبقات الوراث، عمل للمبتدئين بطرابلس .

كما ينسب إلى (صور) المدينة الساحلية اللبنانية، فقد وصفه الطهراني في

الطبقات بالصوري، إذ أقام فيها ، وفيها توفي ودفن، وقد وضع فيها بعض مؤلفاته ، منها : الأصول إلى مذهب آل الرسول سنة 418ه.

***

وقد اتفقت كلمة مؤرخيه على أنه توفي سنة (449ه)(2) في الثاني من ربيع الآخر (3) .

ص: 12


1- البحار ج 105 ص 76.
2- أنظر : شذرات الذهب للعماد الحنبلي ج3 ص283 ، ولسان الميزان للعسقلاني ج 5 ص300 ومرآة الزمان لليافعي م3 ص70 والقمي في الكنى والألقاب ج3 ص94ومعجم رجال الحديث م16 ص 376
3- أنظر : لسان الميزان ج5 ص 300

أما تاریخ ولادته فقد أهملته كتب التراجم، لكن وجدنا الكراجكي في كتابه (کنز الفوائد) يروي عن أبي الحسن علي بن أحمد اللغوي المعروف برکاز (بمیا فارقين) في سنة 399 ه.

وهذا يعني أن الكراجكي كان إذ ذاك في سن تمكنه من تلقي الرواية والأخذ عن الرواة ، وهذا عادة لا يكون إلا في سن الخامسة والعشرين من عمره، على أدنى الإفتراضات، وعلى هذا فتكون ولادته سنة 374 ه. أي أنه عاش خمساً وسبعين سنة تقريبا .

والكراجكي من أئمة عصره في الفقه والكلام والفلسفة والطب والفلك والرياضيات وغيرها ، وقد وصفه أصحاب التراجم ما يدل على مكانته العلمية وشخصيته البارزة في أكثر معارف عصره. قال العماد الحنبلي في شذرات الذهب ج3 ص283 في حوادث سنة 499 ه.

« وفيها توفي أبو الفتح الكراجكي أي الخيمي رأس الشيعة وصاحب التصانیف محمد بن علي ، مات بصور في ربيع الآخر ، وكان نحوياً لغوياً ، منجما ، طبيباً ، متکلماً متقناً ، من كبار أصحاب الشريف المرتضى ، وهو مؤلف كتاب « تلقين أولاد المؤمنين »

وقريب منه ما قال اليافعي في مرآة الزمان (ج3 ص70).

وقال العسقلاني في لسان الميزان ج5 ص300 «محمد بن علي الكراجكي »

بفتح الكاف وتخفيف الراء وكسر الجيم ثم الكاف ، نسبة إلى عمل الخيم وهي الكراجك ، بالغ ابن طي (1) في الثناء عليه في (ذكر الإمامية)، وذكر أن له

ص: 13


1- هو يحيى بن حميد بن ظافر بن علي بن الحسين بن علي بن محمد بن الحسن بن صالح بن علي بن سعيد بن أبي الخير الطائي أبو الفضل البخاري الحلي المعروف بابن أبي طي (585- 650 ه) أنظر : طبقات الشيعة القرن السابع ص 205. وله ترجمة في لسان الميزان ج6ص263-264 وقال: أنه ولد بحلب سنة 575 وله تصانیف عدة منها (معادن الذهب في تاريخ حلب) و(شرح نهج البلاغة) في ست مجلدات و(فضائل الأئمة) و(خلاصة الخلاص في آداب الخواص) في عشر مجلدات و(الحادي في رجال الإمامية) و(سلك النظام في أخبار الشام)، أخذ الفقه عن ابن شهر آشوب وكان بارعاً في الفقه على مذهب الإمامية ، وله مشاركة في الأصول والقراءات.

تصانيف في ذلك ، وذكر أنه أخذ عن أبي الصلاح ،(1) واجتمع بالعين زربی ، ومات في ثاني ربيع الآخر سنة 449».

وقال الحر العاملي في الأمل:

عالم فاضل متکلم فقيه محدث ثقة جلیل القدر . ثم ذكر بعض مؤلفاته .

وقد أطراه عدد من مترجميه ، فوصفوه بالشيخ المحدث الفقيه المتكلم المتبحر الرفيع الشأن من أكابر تلامذة المرتضى والشيخ (أي المفيد)، والديلمي ، والواسطي ، وسلار وأبي الحسن ابن شاذان القمي ، وهو من أجلة العلماء والفقهاء والمتكلمين ، وأسند إليه جميع الإجازات (2). ويعبر عنه الشهيد الأول العاملي كثيراً، في كتبه بالعلامة ، مع تعبيره عن العلامة الحلي بالفاضل(3).

وقد وصفه ابن شهر آشوب في كتاب معالم العلماء ص 788 بالقاضي ، وتابعه على ذلك السيد الكبير مهدي الطبطباني في رجاله فقال : أبو الفتح القاضي شیخ فقیه متكلم من تلامذة الشيخ المفيد . وربما جاءت كنيته بأبي القاسم، وإنه من دیار مصر ويحتمل أنه من دیار الشام. ويؤيد هذا الاحتمال الأخير ما ذكره صاحب لسان الميزان من أن الكراجكي نسبة إلى عمل الكراجك وهي الخيم، وعلى هذا فهو ليس مصرياً كما احتمله بعضهم من أنه نسبة إلى الخيم قرية في مصر ، كما أنه ليس لدينا ما

ص: 14


1- هو تقي الدين بن النجم الحلي من تلاميذ الشريف المرتضى ، له عدة مؤلفات ، منها . (تقريبا المعارف) و(البداية)، و(البرهان على ثبوت الإيمان) و(الكافي في الفقه). وصفه الشهيد الثاني ، بالشيخ الفقيه السعيد خليفة المرتضى في البلاد الحلبية .أنظر : (الكنى والألقاب ج1 ص97). وفي لسان الميزان ج2 ص71: تقي بن عمر بن عبيد الله ابن محمد الحلي أبو الصلاح ، مشهور بكنيته من علماء الإمامية ولد سنة 374 ومات بحلب سنة 447 ، أخذ عن أبي جعفر الطوي وغيره ، ورحل إلى العراق فحمل عن الشريف المرتضي.
2- يراجع في ذلك بحار الأنوار ج 102 ص263 هامش للمعلق ، والكنى والألقاب ج3 ص94. وأنظر : معجم رجال الحديث ج16 ص376 ومقدمة الطبعة القديمة لكنز الفوائد .
3- أنظر الكنى والألقاب ج 3 ص 94.

يدل على أنه عراقي نسبة إلى كراجك وهي قرية على باب واسط كما تقدم ، بل المحتمل قريبا أنه من بلاد الشام.

وقد وصف المؤلف کا سبق بالقاضي ، ولا نعرف البلد الذي كان فيه قاضياً ، ولا الجهة التي أسندت إليه هذا المنصب ، وإن كان المظنون أن أمراء بني عمار حکام طرابلس هم الذين أسندوا إليه القضاء وفي مدينة طرابلس الشام بالذات.

وكان المؤلف الكراجكي جياشاً بكل فن، يطلب المعرفة أينما كانت ، وفي حركة دائبة بدون ملل ، يفيد ويستفيد ، فقد كان صاحب رسالة إسلامية وعلمية ، يعيشها ويدعو إليها ، ويتجول في سبيلها في كثير من العواصم الإسلامية ، وبخاصة الشامية منها ، ويجول فيها عرضاً وطولاً، إشباعا لرغبته في نشر رسالته ، فلم يقر له قرار ، فكان في مصر سنة 407 و 426، وفي الرملة من فلسطين سنة 410و412(1) و416، وفي مكة المكرمة سنة 412، وفي بلبيس سنة 418، وفي میافارقين سنة 0399

كما كان يتجول بين دمشق وبغداد ، وحلب وطبرية ، وبين صيدا، وصور وطرابلس ، ويقيم في كل منها مدة طويلة ، يؤلف فيها ويصنف ، كما يظهرمن ثبت مؤلفاته ، ومن لقاءاته مع أهل العلم، مما ذكره في كتابه (الكنز).

وحيث يستقر في بلد يعكف على التأليف في مواضيع الساعة آنذاك. ومن هنا وجدنا شطراً من مؤلفاته وضعها بالقاهرة، وبعضها في الرملة ، وآخر في دمشق وطبرية وصيداء وصور وطرابلس وغيرها .

كما كان يؤلف لبعض شخصیات عصره من أمراء وقواد وعلماء وقضاة ، وثبت مؤلفاته يشير إلى هذا.

وكان على إلمام تام بمعارف عصره، كما يظهر ذلك من مؤلفاته المتعددة المواضيع ، وذا ثقافة واسعة.

ص: 15


1- يقول الكراجكي ص274 من طبعة الكنز القديمة : ورأيت بالرملة في جمادى الآخرة من سنة 412، شريفاً من أهل السند يعرف بأبي القاسم عيسى بن علي العمري من ولد عمر بن أمير المؤمنين (ع) .

فقد كتب في الفقه والأصول، والحساب، والرياضيات والفلك ، والأدب والحديث، والفلسفة والكلام، والنحو، والأخلاق والتاريخ والرجال ، والتفسير ، وغير ذلك مما تشير إليه عناوین کتبه التي وضعها .

ومن هنا نجد مترجميه يصفونه بأنه نحوي لغوي منجم طبيب متکلم ، محدث فقیه متفنن على ما سبق.

« شيوخ المؤلف وأساتذته»

أخذ أبو الفتح الكراجكي العلم عن جماعة كثيرة من أعلام عصره، كما أخذ الحديث ، من عدد كبير من الرواة والعلماء من شيعة وسنة ، وروى عن أكثرهم في كتابه (الكنز).

ومنهم:

1- الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي العكبري البغدادي المعروف بابن المعلم ( 336/338-413 ه).

2- الشريف المرتضى علي بن أبي أحمد الحسيني بن موسى الموسوي المعروف

بذي المجدين وبعلم الهدی ، والمكنى بأبي القاسم 357- 436

3- أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني المعروف بسالار ومعناه الرئيس أو المقدم من تلاميذ المفيد والمرتضی ، توفي سنة 448 ها وقيل سنة 463ه.

4- أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن علي المعروف بابن الواسطي المعاصرللشريف المرتضی.

5- أبو المرجا (أبو الرجاء )محمد بن علي بن طالب البلدي وهو من روی عنه بالقاهرة.

6-الشريف أبو عبدالله محمد بن عبيد الله بن الحسين بن طاهر الحسيني .

7- القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي البصري ، روی عنه مصر سنة 426 ه قراءة عليه.

8- أبو محمد عبد الله بن عثمان بن حماس ، روى عنه بمدينة الرملة.

9- أبو القاسم هبة الله بن ابراهيم بن عمر الصواف ، روى عنه بمصر .

ص: 16

10 - القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم بن کلیب السلمى الحراني نزيل بغداد ، روى عنه في مدينة الرملة سنة 410 ه ، وقد أكثر الراوية عنه في كنز الفوائد ، وقال ابن عساكر عنه: كان من أشد الشيعة وكان متکلما. مات بعد الأربعمائة .(1)

11- أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي ، روى عنه الكراجكي بمكة المكرمة سنة 412ه (2) وأورد في الكنز كثيراً من رواياته عنه ، وهو ابن أخت أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولديه القمي الشهير المتوفي سنة 368/367ه.

12- الحسين بن محمد بن علي الصيرفي البغدادي ، قال الكراجکی عنه :

وكان مشتهراً بالعناد لآل محمد والمخالفة لهم. وسمعت من هذا الراوي المخالف عدة فضائل لآل محمد (ص) سخره الله لنقلها فرواها راغما حجة عليه بها .(3)

13- الشريف أبو منصور أحمد بن حمزة الحسيني العريضي ، روى عنه في الرملة.

14- أبو العباس أحمد بن إسماعيل بن عنان، روى عنه بحلب .(4)

15- أبو الحسن علي بن أحمد اللغوي المعروف بابن ركاز ، روى عنه في میا فارقين سنة 0399

16 - القاضي أبو الحسن علي بن محمد السباط البغدادي.

17- أبو الحسن طاهر بن موسی بن جعفر الحسيني، روى عنه مصر سنة 607 ه.

18- أبو سعيد أحمد بن محمد بن أحمد الماليني الهروي، روى عنه في الرملة سنة 410ه في شوال.

ص: 17


1- أنظر : لسان الميزان جا ص382.
2- ورد في الكنى والألقاب ج1 ص318 تاریخ قراءة الكراجكي سنة 312 وهو اشتباه دون ريب
3- أنظر كنز الفوائد ص 154 من الطبعة القديمة .
4- أبو العباس هذا يروي عن أبي الفضل محمد بن عبد الله الشيباني شيخ عدة من مشايخ الطوسي (الطبقات ج2 ص73).

19- أبو العباس أحمد بن نوح بن محمد الحنبلي الشافعي ، روى عنه بالرملة سنة 411ه حديثا عن المعمر الشرقي.

20- أبو الحسن علي بن الحسن بن مندة، روى عنه الكراجكي حديث الطائر المشوي في طرابلس سنة 436 ه ، وأورد هذا الحديث في كتابه (تفضيل علي على غيره).

21- أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي ، شيخ الطائفة وصاحب كتابي التهذيب والإستبصار (385 - 460ه) ذکره کما حكي عن منتجب الدين صاحب الفهرست في مشايخ الكراجكي .

ومن الملاحظ أن الكراجكي لم يرو حديثاً واحداً عنه في كتابه (کنز الفوائد). ومن هنا شك بعضهم في صحة ذلك.

«تلاميذ المؤلف »

عرفنا من تلاميذه الذين أخذوا عنه جماعة وهم:

1- الشيخ عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين الخزاعي المعروف بالمفيد . النيسابوري، وهو من شيوخ العلماء ، صاحب التصانيف ، وعم والد الشيخ أبي الفتوح الرازي جعفر بن علي بن محمد بن أحمد .(1)

2- أبو محمد ريحان بن عبدالله الحبشي .(2)

3- السيد أبو الفضل ظفر بن الداعي بن مهدي العلوي المصري العمري الإسترابادي ، كان فقيها صالحاً، يروي عن عبد الله بن عمر الطرابلسي .

ص: 18


1- هو تلميذ الرضي والمرتضى والطوسي وسالار وابن البراج والكراجكي (الذريعة ج 2 ص 311).
2- في لسان الميزان ج2 ص496 : ريحان الجبش أبو محمد السبيعي الأمامي المصري ، تفقه على علي ابن عبد الله بن کامل ، روى عنه شاذان بن جبريل ، قال : ابن أبي طي قال لي أبي: كان الفقيه ریحان من أحفظ الناس ، وقيل كان يصوم كثيراً ولا يأكل إلا من طعام يعلم أصله ، وكان ابن رزيك (أي الوزير الفاطمي) يعظمه ويحترمه، كان بعد الخمسين وخمسماية .

4- عبد العزيز بن أبي كامل القاضي عز الدين الطرابلسي.

5 - الفقيه أبو عبد الله الحسين بن هبة الله الطرابلسي(1)، روى عن الكراجكي کتاب معدن الجواهر ، وكتاب روضة العابدين الذين ألفه الكراجكي لولده موسی ..

6- الشيخ شمس الدين أبو محمد الحسن الملقب بحسكا الرازي ابن الحسين بن الحسن بن الحسين بن علي بن بابويه القمي من تلاميذ الطوسي وسالار الديلمي وابن البراج، وحسکا مخفف (حسن کیا) و معنی کیا الرئيس . ونحوه من كلمات التعظيم ، وهو فقيه عصره، روى عن الكراجكي ، وهو جد منتجب الدين ابن بابویه صاحب الفهرست (2)

« مؤلفاته »

وقد وضع الكراجكي عددا ضخما من مؤلفاته في مواضيع مختلفة، كما أشرنا من قبل .

وقد ذكرها العلامة النوري في كتابه (المستدرك) ص497 - 499.

وفيما يلي شطر من هذه المؤلفات.

1- روضة العابدين ونزهة الزاهدين، ثلاثة أجزاء في الصلاة ، ألفه لولده موسی. ينقل عنه الشيخ شمس الدين محمد وأخوه تقي ابراهيم الكفعمي ،(3) ويرويه عنه الحسين بن هبة الله الطرابلسي (4)

2- الرسالةالناصرية في عمل ليلة الجمعة ويومها ، عملها للأمير ناصر الدولة بدمشق.

3- التلقين لأولاد المؤمنين ، ألفه بطرابلس.

ص: 19


1- في الذريعة ج19/ص156 ذكر له كتاب (الفرج في الغيبة) وورد اسمه هكذا أبو عبد الله محمد ابن هبة الله بن جعفر الوراق الطرابلسي تلميذ الطوسي.
2- أنظر : البحار ج102 ص244 وص264 ها مش وأنظر : الكنى والألقاب ج3ص181 - 182
3- أنظر : طبقات الشيعة ج5ص179
4- المصدر ص69

4- التهذيب متصل بالتلقين، ألفه بطرابلس .

5- معونة الفارض على استخراج سهام الفرائض، ألفه بطرابلس لبعض الإخوان.

6- المنهاج إلى معرفة مناسك الحاج، ألفه للأمير صارم الدولة ذي الرياستين .

7 - المقنع للحج والزائر ، سأله لتأليفه القائد أبو البقاء غرز بن براك .

8- المنسك العضي أمره بعمله صارم الدولة بطبرية .

9- منسك لطيف في مناسك النسوات أمره بعمله صارم الدولة .

10- نهج البيان في مناسك النسوات أمره بعمله الشيخ الجليل أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمار بطرابلس .

11- الاستطراف فيما ورد في الفقه من الانصاف ، صنفه للقاضي أبي الفتح عبد الحاكم.

12 - مختصر دعائم الإسلام للقاضي النعمان ، قاضي الفاطميين.

13 - الإختيار من الأخبار، وهو اختصار کتاب الأخبار للقاضي النعمان .

14- ردع الجاهل وتنبيه الغافل ، وهو نقض كلام أبي المحاسن المعري الذي نقض به على الشريف المرتضى في المسح على الرجلين ، عمله بطرابلس .

15 - البستان في الفقه ، صنفه للقاضي أبي طالب عبد الله بن محمد بن عمار .(1)

16 - الكافي بصحة القول برؤية الهلال، عمله بمصر .

17 - نقض رسالة فردان المروزي في الجزء.

18 - غاية الانصاف في مسائل الخلاف، وهو نقض على أبي الصلاح الحلبي في مسائل خلافية بينه وبين الشريف المرتضی، نصر فيها رأي المرتضی .

19- حجة العالم في هئية العالم ، ذكر فضلا منه في كتاب كنز الفوائد .

20- کتاب ذكر الأسباب الصارقة عن معرفة الصواب.

21- دامغة النصارى، وهي نقض كلام أبي الهيثم النصراني فيما رامه من تثبيت الثالوث والإتحاد.

ص: 20


1- ويقع في نيف وثلاثين شجرة طبقات 5 ص109 وربما كان هو كتابه المشجر الآتي .

22 - الغاية في الأصول في حدوث العالم وإثبات محدثه .

23 - رياضة العقول في مقدمات الأصول.

24- الراشد أو (الرائد) المنتخب من غرر الفوائد وهو كتاب الأمالي للشريف المرتضی.

25- جواب رسالة الأخوين ، يتضمن الرد على الأشعرية وفساد أقوالهم وطعنهم على الشيعة.

26- عدة البصير أو (المصير) في حجج يوم الغدير (1)، عمله بطرابلس للشيخ أبي الكتائب ابن عمار 27 - التعجب في الأمانة من أغلاط العامة ، وهو مطبوع في آخر کنز الفوائد في ربيع الأول سنة 1322 ه وعدد صفحاته 69 صفحة.

28 - الاستنصار في النص على الأئمة الأطهار ، وهو مطبوع مع كتاب مقتضب الأثر للعياشي أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عياش المتوفي سنة 401 ه ، وقد طبع سنة 1346 ه. في النجف في المطبعة العلوية عن نسخة كانت في مكتبة المرجع میرزا محمد حسن الشيرازي المتوفي سنة 1312 وكانت كتابتها قبل سبعة قرون سابقة على طباعتها .

29- معارضة الأضداد باتفاق الأعداد .

30 - المسألة القيسرانية في تزويج النبي (ص) عائشة وحفصة.

31- المسألة التبانية في فضل أميرالمؤمنين (ع) على جميع البرية سوى سيدنا رسول الله (ص).

32 - مختصر تنزيه الأنبياء ، والأصل للشريف المرتض.

33 - الإنتقام ممن عذل أمير المؤمنين (ع) وهو النقض على ابن شاذان الأشعري فيما أورده في آية النار.

34- القاضح في ذكر معاصي المتغلبين على مقام أمير المؤمنين لم يتم.

ص: 21


1- قال النوري في المستدرك ج3 ص498: هذا كتاب مفبد يختص باثبات أمامة أمير المؤمنين (ع) في يوم الغدير ، جزء واحد مائتا ورقة ، بلع العاية فيه (الغدير ج1ص155).

35- مزيل اللبس ومکمل الانس .

36 - نظم الدرر في مبنى الكواكب والصور ، يتضمن ذكر أسماء الكواكب المسماة على ما نطقت به العرب وأهل الرصد.

37- إيضاح السبيل إلى علم أوقات الليل.

38 - كتاب في الحساب الهندي وأبوابه وعمل الجذور والمكعبات.

39- معدن الجواهر ورياضة النواظر ، في الآداب والحكم ومما روي عن رسول الله (ص) (1) .

40- رياضة الحكم، عارض فيه ابن المقفع .(2)

41 - موعظة العقل ، عملها لنفسه.

42 - التعريف بوجوب حق الوالدين ، عملها لولده موسی

43 - إذكار الاخوان بوجوب حق الأيمان، أنقذها إلى الشيخ الأجل أبي الفرج البابلي .(3)

44 - نصيحة الأخوان، أنقذها إلى الشيخ أبي اليقظان .

45 - التحفة في الخواتيم.

46 - الرسالة العلوية في تفضيل أمير المؤمنين (ع) على سائر البرية سوى الرسول (ص) عملها للشريف أبي طالب. وهو على الظاهر نفس کتاب التفضيل المذكور سابقا ، وفيه يروي عن ابن مندة (4) حديث الطائر

ص: 22


1- رواه عنه تلميذه الفقيه أبو عبد الله الحسين بن هبة الله الطرابلسي ، أنظر الطبقات 5 ص 179 وترجمة إلى الفارسية الشيخ عباس القمي المحدث المعروف.
2- هو عبد الله بن المقفع البليغ المشهور مترجم كتاب كليلة ودمنة.
3- یحمل أن يكون البابلي هذا نسبة إلى قرية البابلية العاملية أو القرية المذكورة نسبة إليه وهي تقع جنوبي مدينة صيداء قريبة من بلدة الصرفند .
4- هو أبو الحسن علي بن الحسن بن مندة ، روى عنه الكراجکي سنة 436 ه في طرابلس حديث الطائر المشوي في كتابه تفضيل علي على غيره ، وقال أنه روی ابن مندة روايةالطير المشوي عن شيخه الحسين بن يعقوب البزاز سنة 370 ه. عن (الطبقات ج2 ص119) أنظر : الحياة الثقافية في طرابلس ص281.

المشوي ، توجد فيه نسخة ضمن مجموعة في مكتبة مجد الدين صدر الأفاضل في طهران. كما يبدو انه عملها للشيخ أبي طالب ابن عمار ، لا للشريف ابن طالب.

47 - الجليس شيبه الكشكول في خمسة أجزاء في خمسماية ورقة.

48 - انتفاع المؤمنين بما في أيدي السلاطين ، عملها للأخوان حرسهم الله او بصيداء .

49- الأنيس ، يقع في ألفي ورقة ، وهو مبوب في كل فن ، مات ولم يتمه.

50- مختصر ابن جذاع في ذكر المعقبين من ولد الحسن والحسين (ع) في الأنساب

51 - الزاهد في آداب الملوك ، عمله للأمير صارم الدولة ذي الفضيلتين .

52- کنز الفوائد ، وهو مطبوع سنة 1322هعمله لابن عمه ، صرح بذلك الطهراني في الذريعة ج 18 ص 161من دون ذكر اسمه. وقال: انه كبير في خمسة أجزاء, لكن الموجود منه حسب النسخة المطبوعة جزء ان فقط، وهذا يعود إما لسقوط طائفة كبيرة منه، وإما للاختلاف بين المطبوع والأصل في الترتيب والتقسيم .

. 53- تسلية الرؤساء عملها للأمير ناصر الدولة .

54- التأديب عمله لولده.

55 - المجالس في مقدمات صناعة الكلام ، أمر بعملها الأمير صارم الدولة ولم یتم

56 - الاقناع عند تعذر الإجماع في مقدمات الكلام ولم يتم.

57 - الكفاية في الهداية في مقدمات أصول الكلام ولم يتم.

58 - الأصول إلى مذهب آل الرسول، يتضمن الأخبار بالمذهب من غير أدلة ، عملها للاخوان بصور سنة 418ه أو سنة 416.

59 - البيان عن دلالة شهر رمضان، يتضمن نظرة القول بالعدد في معرفة أوائل الشهور ، عمله بالرملة القاضي القضاة.

ص: 23

60- جواب الرسالة الحازمية في إبطال العدد وتثبيت الرؤية ، وهي رد على أبي الحسن بن أبي حازم المعري.

61- الرسالة العامرية في الجواب عن مسألة سألت عنها الغلاة، أمربعملها الأمير قوام الدولة وأنفذها . إلى العامري ، عملت بالقاهرة.

62- مختصر القول في معرفة النبي (ص) بالكتابة وسائر اللغات ، عمله بالقاهرة لأبي اليقظان.

63- مختصر طبقات الوراث، عمله للمبتدئين بطرابلس .

64 - المدهش سأله في عمله سائل ، ولا نعرف موضوعه .

65 - الرسالة الصوفية ، سأله عملها بعض الاخوان .

66 - الإيضاح عن أحكام النكاح، أمر بعمله الأمير ذخر الدولة بصيدا، في سنة 441 ه في جزء واحد يحرر فيه الخلاف بين الأمامية والاسماعيلية .

67 - التنبيه على أغلاط أبي الحسن البصري في فصل ذكره في الأمامة .

68 - الباهر في الأخبار .

69 - نصيحة الشيعة لم يتم

70- مسألة العدل في المحاكمة إلى العقل لم يتم .

71- هداية المسترشد لم يتم

72 - الفهرست. وينقل عنه السيد ابن طاووس في آخر كتاب (الدروع الواقية) عند ذكره جعفر بن أحمد القمي قال ما لفظه : ذكر الكراجكي في كتاب الفهر ست أنه صنف 220 كتاباً بقم والري (1) کاينقل عنه في لسان الميزان في أكثر من مورد

73- رسالة في الخلاء والملاء، وهي ما احتوى عليه كنز الفوائد .

74- رسالة في الرد على الغلاة، وهي ما تتضمنه كنز الفوائد .

ص: 24


1- الطبقات 5 ص179.

75- رسالة في الرد على المنجمين ، وهي مما احتواه كنز الفوائد ، ولكنها من النصوص المفقودة لم تطبع في الكنز، إلا أن السيد ابن طاووس في كتابه النجوم نقل عن كنز الفوائد قطعة كبيرة يحتمل أن تكون من هذه الرسالة.

76 - الرحلة ، أشار إليها ابن أبي طي في فهرسته في ترجمة القاضي الحسين بن بشر بن على الطرابلسي، له مناظرة مع الخطيب البغدادي ذكرها الكراجكي في رحلته ، وقال : حكم له على الخطيب بالتقدم في العلم ، وأشار إلى هذا في لسان الميزان ج 2 ص 275 نقلا عن ابن أبي طي.

77 - الاعلام بحقيقة إسلام أمير المؤمنين عليه السلام، وهي ما تضمنه كنز الفوائد.

78 - رسالة كتبها إلى بعض الاخوان تتضمن كلاماً في وجوب الامامة.

79 - رسالة في جوابه عن سؤال ورد إليه عن الحج ، وهي مما تتضمنه كنز الفوائد.

80- کتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان ألفها سنة 427، وهي ما تضمنه كنز الفوائد.

81- کتاب النوادر .

82- كتاب الإبانة عن الممائلة في الاستدلال بين طريق النبوة والإمامة .

83 - المزار وهو مختصر في زيارة إبراهيم الخليل (ع).

84- شرح جمل العلم للشريف المرتضى.

85- كتاب النصوص، ولعله كتاب الاستبصار في النص على الأئمة الأطهار الذي مر ذكره.

86 - الأخبار في الآحاد .

87 - الوزيري.

88 -المشجر .

ص: 25

ص: 26

هذا الكتاب

إذا كان هناك كتاب يطابق اسمه مسماه ، ويعبر عنوانه عن حقيقته تعبيرا صادقا عن واقع محتواه ، فهو هذا الكتاب (كنز الفوائد) ودون مبالغة وتجوز .

وما على القارىء ليدرك صحة هذا القول، إلا أن يقلب صفحاته ، ويمعن في قراءته ودراسته ، فإنه سيخرج - بعد هذا - دون ريب بهذه الحقيقة التي اشرنا إليها ، وسيجد بين يديه ثروة متنوعة دسمة من المعرفة ، من أنواع الفكر والثقافة والتاريخ والأدب ، ما لم يجده في سواه ، تتفق مع مستويات القراء الثقافية المختلفة .

فهو ينبوع معين، تأخذ منه وتستفيد مختلف الطبقات، وعلى مختلف اتجاهاتهم العلمية والثقافية.

ويمتاز بالإضافة إلى ذلك في تناوله أمهات مسائل إسلامية وفلسفية بالبحث والدراسة العميقة ، ويسهب في عرضها ومناقشتها ، وتفنيد ما حولها من آراء أخرى، ويدلي بالأدلة والبراهين العقلية والعلمية على صحة ما يذهب إليه .

كما يمتاز باسلوبه الواضح الخلو من التعقيد، حتى في أدق المسائل الفكرية التي عرضها في كتابه وناقشها ، كمسألة حدوث العالم، ومسألة الحال التي يقول بها المعتزلة ، ومسألة الكسب الأشعرية، والمسائل الخلافية بين الشيعة والسنة ، کالامامة والعصمة وسواها . يناقش كل ذلك بدقة وعمق ووضوح.

ويمتاز أيضا أنه قد ضم بين دفتيه موضوعات فلسفية وكلامية وأدبية

ص: 27

وفقهية ، وتاريخية وتفسيرية ، وغير ذلك من حكم ومواعظ وتعاليم . أتي عليها بروح عالم يقدر المسؤلية ، وذي طبيعة ثقافية جياشة ، وبا حساس المفكر العالم الذي يريد للمعرفة أن تشمل ، وللحقيقة أن تبرز ، وللباطل أن يزهق .

انه مجموعة من مواضيع شتى علمية وفلسفية وغيرها، لا يكتفي بعرضها عرضا عابراً، بل يحرص على تقريرها ونقدها ، وعلى بيان ما فيها من صحة و فساد .

وقد كان هناك مفكرون وضعوا مجاميع سبقت عصر الكراجكي أو تأخرت عنه ، كتلك المؤلفات التي تعرف بالأمالي ، أو التي تعرف (بالكشكول) في العصور المتأخرة عن الكراجكي ، لكنها لم ترتفع إلى مستوى هذا الكتاب (کنز الفوائد) لأن غالبها ذو لون واحد، وذو إتجاهات معينة ، فبعضها كان الغالب عليه التاريخ ، وبعضها كان فقهياً ، وبعضها كان أدبياً ، وبعضها الآخر جمع بين هذا وهذا، إلا أنه كان الغالب فيها السرد والغرض دون مناقشة علمية أو بحث موضوعي.

وميزة أسلوب الكراجكي في هذا الكتاب اسلوب تعليمي ، ومن هنا تجده يسهب أحيانا كثيرة في بيان ما يريد وفي مقام النقد والمناقشة.

وإن كثيراً من آرائه هي آراء شخصية خاصة به ، لا تمثل الوجهة الشيعية بصورة واضحة وبخاصة تلك المواضع الكثيرة التي تختلف فيها وجهات النظر والاجتهاد ، كما في كثير من تفسير الآيات والأحاديث.

كما أن كثيرا مما يرويه لا يمكن الاعتماد عليه , وبخاصة فيما يتعلق بالخوارق ، ولكن الرجل ناقل عن غيره (وناقل الكفر ليس بكافر) كما يقال.

وهذا الكتاب يعكس اهتمامات العلماء والمفكرين في المسائل المطروحة في عصر هم، والتي أخذت كثيراً من جوانب تفكيرهم، وكانت محور نزاعاتهم ومناظراتهم

وقد ضمن المؤلف كتابه (كنز الفوائد) بعض رسائله ، فأدرجها فيه، من ذلک

ص: 28

1- مختصر من الكلام في أن للحوادث أولا .

2- القول المبين عن وجوب المسح على الرجلين ، وهي رسالة كتبها إلى أحدالأخوان.

3- البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان، وهي رسالة كتبها إلى أحد الاخوان .

4- كتاب الإعلام بحقيقة إسلام أمير المؤمنين عليه السلام، كتبه لبعض الإخوان.

5- المقدمات في صناعة الكلام.

6 - رسالة في وجوب الإمامة ، كتبها لبعض الاخوان .

7- مختصر التذكرة بأصول الفقه ، استخرجها لبعض الاخوان من كتاب استاذه الشيخ المفيد .

8- البرهان على صحة طول عمر صاحب الزمان ، كتبها سنة 427.

9- الرد على الغلاة.

10- رسالة في جوابه عن سؤال ورد إليه عن الحج .

***

لقد كانت النسخة المطبوعة سنة 1322 سقيمة جدا ، وكثير من الكلمات فيها غير واضح، لكن حافظت على نص كلام المؤلف کما هو بقدر الإمكان ، إلا في المواضع غير الواضحة ، فصححتها ووضعتها بين قوسين ، وإلا في المواضع التي لم يتضح المراد منها ، فوضعت مكانها ثلاث نقط .

ونجد شطراً كبيراً من مؤلفاته قد وضعه بطلب من بعض شخصیات عصره ، من علماء وأمراء وقضاة وغيرهم في مواضيع فقهية وغيرها .

فقد ألف للأمير ناصر الدولة بدمشق، الرسالة الناصرية في عمل ليلة الجمعة ويومها ، وكتاب تسلية الرؤساء.

وألف للأمير صارم الدولة ذي الرئاستين بطبرية (المنسك المضبي) و (المنسك اللطيف في مناسك النسوان)، و (المنهاج إلى معرفة مناسك الحاج) و

ص: 29

(الزاهد في آداب الملوك)، و (المجالس في مقدمات صناعة الكلام) لم يتم .

وألف للشيخ الجليل ابي الكتائب أحمد بن محمد بن عمار بطرابلس ، نهج البيان في مناسك النسوان ، بطلب منه ، وعدة البصير (أو المصير) في حجج يوم القدير .

وألف للشيخ الأجل أبي الفرج البابلي ، كتاب (إذكار الأخوان بوجوب حق الإيمان).

وألف للقاضي أبي طالب عبد الله بن محمد بن عمار ، کتاب (البستان في الفقه) والرسالة العلوية في تفضيل أمير المؤمنين على سائر البرية سوى الرسول (ص) .

وألف للقاضي أبي الفتح عبد الحاكم، كتاب (الاستطراف فيا ورد في الفقه من الأنصاف).

وألفبالقاهرة للشيخ أبي اليقظان، کتاب (نصيحة الإخوان)، ومختصر القول في معرفة النبي (ص) بالكتابة وسائر اللغات.

وألف بالقاهرة أيضا للعامري، الرسالة العامرية في الجواب عن مسألة سألت عنهاالغلاة . وأمره بعملها الأمير قوام الدولة .

وألف بصيداء سنة 441ه بأمر الأمير ذخر الدولة ، (كتاب الإيضاح عن أحكام النكاح) في جزء واحد، يحرر فيه الخلاف بين الإمامية والإسماعيلية.

وألف للقائد أبي البقاء فرز بن براك بسؤال منه كتاب المقنع للحاج والزائر .

ونجد إلى جانب ذلك أن فهرست مؤلفاته قد اشتمل على مؤلفات وضعها في الرد على المخالفين ، من ذلك:

1- ردع الجاهل وتنبيه الغافل ، وهو نقض كلام أبي المحاسن المعري الذي نقض به على الشريف المرتضى في المسح على الرجلين في مسألة الوضوء ، ألفه بطرابلس.

2- نقض رسالة فردان المروزي في الجزء ، وهي المسألة الفلسفية في قضية الجزء الذي لا يتجزأ.

ص: 30

3- غاية الانصاف في مسائل الخلاف، وهو نقض على أبي الصلاح الحلبي من فقهاء الشيعة في مسائل خلافية بينه وبين الشريف المرتضی ، نصر فيها رأي المرتضی

4- دامغة النصاري ، وهي رد كلام أبي الهيثم النصراني فيما رامه من تثبیت الثالوث والإتحاد.

5 - جواب رسالة الأخوين، في الرد على الأشعرية وفساد أقوالهم وطعنهم على الشيعة.

6- الانتقام من عذل أمير المؤمنين (ع)، وهو النقض على ابن شاذان الأشعري فيما أورده في آية الغار.

7- جواب الرسالة الحازمية في إبطال العدد وتثبيت الرؤية ، وهي رد على أبي الحسن بن أبي حازم المصري.

8- التنبيه على أغلاط أبي الحسن البصري في فصل ذكره في الامامة.

9- رسالة في الرد على الغلاة.

10- رسالة في الرد على المنجمين.

ص: 31

ص: 32

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين فإنه خير معين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد رسوله خاتم النبيين وآله الطاهرين.

«مختصر من الكلام في أن للحوادث أولا »

اشارة

إعلم - أيدك الله - أن من الملحدة فريقا يثبتون الحوادث ومحدثها ، ويقولون إنه لا أول لوجودها ، ولا إبتداء لها.

ويزعمون أن الله سبحانه لم يزل يفعل ولا يزال كذلك ، وأن أفعاله لا أول لها ولا آخر . فقد خالفونا في قولهم أن الأفعال لا أول لها . إذ كنا نعتقد أن الله تعالى ابتدأها ، وأنه موجود قبلها . ووافقونا بقولهم : لا آخر لها، لأنهم وإن ذهبوا إلى بقاء الدنيا على ما هي عليه ، واستمرار الأفعال فيها ، وأنه لا آخر لها، فإنا نذهب في دوام الأفعال إلى وجه آخر ، وهو تقضي أمر الدنيا ، وانتقال الحكم إلى الآخرة، واستمرار الأفعال فيها ، من نعيم الجنة الذي لا ينقطع عن أهلها ، وعذاب النار الذي لا ينقضي عن المخلدين فيها (1). فأفعال الله عز وجل من هذا الوجه لا آخر لها.

ص: 33


1- وذهب الجهم بن صفوان المقتول في تستر في أواخر حكم بني أمبة قتله سالم بن أحوز المازني ، ذهب إلى القول بأن حركات أهل الخلدين (الجنة والنار) تنقطع ، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلها فيها ، وتلذذ أهل الجنة بنعبمهاوتألم أهل النار بجحيمها ، متعللا بأنه لا يتصور حركات لا تتناهى آخراً كما لا تتصور حركات لا تناهى أولا، وحمل ما دل على التخليد في کلام الله على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة ، ومستشهدا بقوله تعالى (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ووافقه على انقطاع حركات أهل الخلدين كل من أبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام من المعتزلة . وقد فات هؤلاء أن حركات أهل الخلدين ليست لذاتها ولنفسها ، وإنما بقاؤها بالعرض تابع لوجود المبقي وهو الله الحي الباقي . وزاد أبو الهذيل والنظام على ذلك أن أهل الخلدين بصيرون إلى سكون دائم جموداً وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة ، وتجمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار . كل ذلك فرارا من وجود حوادث لا آخر لها كوجود حوادث لا أول لها ، إذ كل منهما لا يتناهی. وقد فاتها أن السكون کا لحركة يلزم منه ما فرا مما يلزمها في الحركة، وبخاصة أنه أحد الأكوان الأربعة. ولهشام بن الحكم مناظرة طريفة مع أبي اسحاق النظام حول هذه المسألة ، لم يحر النظام معه جوابا . ذكرناها في كتابنا (هشام بن الحكم) أنظر ص 215-216.

وهؤلاء - أيدك الله- هم الدهرية القائلون : بأن الدهر سرمدية لا أول له ولا آخر . وأن كل حركة تحرك بها الفلك فقد تحرك قبلها بحركة من غير نهاية ، وسيتحرك بعث بحركة بعدها حركة لا إلى غاية . وأنه لا يوم إلا وقد كان قبله ليلة ، ولا ليلة إلا وقد كان قبلها يوم ، ولا إنسان إلا أن يكون من نطفة ، ولا نطفة تكونت إلا من إنسان ، ولا طائر إلا من بيضة ، ولا بيضة إلا من طائر ، ولا شجرة إلا من حبة، ولا حبة إلا من شجرة.

وأن هذه الحوادث لم تزل تتعاقب ولا تزال كذلك ، ليس للماضي فيها بداية ، ولا للمستقبل فيها نهاية . وهي مع ذلك صنعة لصانع، لم يتقدمها ، وحكمة من لم يوجد قبلها ، وأن الصنعة والصانع قديمان لم يزالا(1). تعالى الله الذي لا قديم سواه ، وله الحمد على ما أسداه ، من معرفة الحق وأولاه.

وأنا بعون الله أورد لك طرفاً من الأدلة على بطلان ما ادعاه الملحدون ، و فساد ما تخيله الدهريون.

ص: 34


1- وهذا الرأي منسوب إلى كثير من الفلاسفة الإسلاميين كأبي بكر محمد بن زكريا الرازي الفيلسوف والطبيب المشهور المولود عام (311 ه). وخلاصة هذا الرأي أن الصانع متقدم على الصنعة رتبة لا زماناً ، كتقدم العلة على المعلول الذي لا يتخلف عن علته الموجبة وقد ترجمنا له في كتابنا (فلاسفة الشيعية)، وعرضنا فيه لرأيه في هذا الموضوع بدراسة وافية.

دلیل

مما يدل على أن الحوادث الماضية لا بد لها من أول ، أننا في كل وقت من أوقات زماننا ، بين آخر ما فيها ، وأول مستقبلها . فقد علمنا - لا محالة - آخر ما مضى ، وهو أحد طرفيه.

ثم نحن نعلم علماً لا نشك فيه أن ما يأتي من مستقبل الحوادث إلى ماية سنة ، يكثر عدد الماضي ، ويزيد فيه.

فمعلوم أنه قبل الزيادة أقل عددا منه إذا انضمت (أي الزيادة) إليه.وهذا يدل على تناهي عدد ما مضى، وحصر طر فيه. لأنه لو كان لا نهاية له ، لم تتصور العقول دخول التكثر فيه.

وقد صح ما بيناه أن الحوادث الماضية تصير إلى ماية سنة أكثر عددا مما هي اليوم علیه(1).

فبان بهذا تناهيها ، وصح أولها كما صح آخرها، ويبطل مقال الدهرية فيها .

معارضة

وقد قال الملحدون إن جميع ما ذكرتموه في الماضي عائد عليكم في المستقبل ، لأنكم تقولون : أن أفعال الله تعالى المستقبلة لا آخر لها، ومع هذا فقد علمتم أولها ، وهو أحد طرفيها ، فيجب أن يكون ما يوجد إلى ماية سنة ينقص منها . وإذا دخل النقصان فيها دل على تناهيها وإنحصار طرفيها .

انفصال

فيقال لهم : بين الماضي والمستقبل في ذلك فرق وهو أن الحوادث الماضية ليس منها إلا ما كان موجوداً قبل مضيه، فقد شمل جميعها حكم الوجود ، فوجب أن يزيد فيها كل ما يخرج إلى الوجود.

وليس المستقبل كذلك ، لأنها لم توجد ، وإنما هي في إمكان الفاعل. فلا يصح فيها النقض، ولا سبيل إلى القول فيها بالتناهي.

ص: 35


1- يعني به اليوم الذي افترضه.

1- دليل آخر على تناهي ما مضى

وهو أنه قد مضت أيام وليال، ووقفنا اليوم عند آخرها ، فلا يخلوا : أن تكون الأيام أكثر عددا من الليالي ، أو يكون الليالي أكثر من الأيام، أو يكونا في العدد سواء.

فإن كانت الأيام أكثر من الليالي تناهت الليالي ، لأنها أقل منها ، واقتضى ذلك تناهي الأيام أيضا. لبطلان إتصالها قبل الليالي بغير ليال بينها . فوجب على هذا الوجه تناهيها معا.

وإن كانت الليالي أكثر من الأيام كان الحكم فيها نظير ما قدمنا من تناهي الأول، فتناهي الأيام لزيادة الليالي عليها . ويقتضي ذلك تناهي الليالي أيضا ،لفساد اتصالها قبل الأيام بغيز أيام بينها . فوجب على هذا الوجه الآخر تناهيها معا.

وإن كانت الأيام والليالي في العدد سواء ، كان بمجموعها أكثر عددا من أحدهما بانفراده.

وهذا يشهد بتناهيها. إذ لو كان كل واحد منهما في نفسه غير متناه ما تصورت العقول عددا أكثر منه.

وقد علمنا أن الليالي مع الأيام جميعا أكثر عددا من أحدهما، وهذا موضح عن تناهيهما.

وبهذا الدليل نعلم أيضا تناهي جميع ما مضى من الحركات والسكنات ، ومن الإجتماعات والافتراقات، ومن الطيور والبيض، والشجر والحب ، وما يجري مجرى ذلك.

معارضة

قال الملحدون هذا الكلام عائد عليكم في نعيم المؤمنين في الجنة ، وعذاب الكافرين في النار. وقد زعمتم (أن) كل واحد منهما لا نهاية له ، ولستم تذهبون إلى أن أحدهما أكثر من الآخر ، فنخاطبكم بما ذكرتم ولكن نقول لكم: أنها بمجموعها أكثر عددا من أحدهما. وهذا يوجب تناهيهما جميعا وحصرهما.

ص: 36

إنفصال

يقال لهم : هذا الذي ذكرتموه لا يصح في المستقبلات، وهو لازم لكم في الماضيات. لأن الأعداد إذا يضم بعضها إلى بعض بعد وجودها وحصرها ، وعدد الليل والنهار الماضيات فقد وجدا وانحصرا بالفراغ منهما، والوقوف عند آخرهما. فصح ضم بعضها إلى بعض ، وأمكن ما ذكرنا فيها .

والمستقبلات من نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، فأمور متوقعة لم توجد ، وليس لها آخر ، لأنها تكون دائمة بغير انقضاء . وما لم يوجد من العدد فلا يصح فيه ضم بعض إلى بعض. وما يتوقع حدوثه أبدأ بغير نهاية لا يكون مثل ما قد حدث وكان وتناهی ، بادراك آخره في كل حال.

دليل آخر

ومما يدل على أن للأفعال الماضية أولا ، كونها ووجودها ، ولو لم يكن لها أول، ما صح وجودها ، لأنها كالعدد الذي لا يصح أن يتوالى إلا أن يكون له أول. إما واحداً، أو جملة يبتدىء بها، تقوم مقام الواحد.

إنفصال (1)

قيل لهم لا يجب ذلك من قبل أن المستقبل منوط بقدرة القادر ، والعاد يصح منه أن يعد ما دام حياً ، فإذا كان ليس لوجوده آخر صح أن ليس لعده آخر. ومع ذلك فلا بد من أن يكون لعدده أول.

دليل آخر

ومما يدل على أن الأفعال لا يصح وجودها إلا بعد أن يبتدىء بأولها ، أنه لو قيل لرجل: لا تدخلن داراً حتى تدخل قبلها غيرها ، لم يصح منه دخول شيء من الدور أبدا ، ولم يكن ذلك إلا بأن يبتدىء بواحدة منها.

ص: 37


1- ورد هذا الإنفصال أو الجواب من دون أن يذكر الإعتراض ، وهو على الأرجح سقط من قلم الناسخ .

سؤال

فإن قالوا : هذا يستحيل كما ذكرتم في المستقبل من الأفعال ، لأنه لا بد للمستقبلات من أول، فمن أين لكم أن هذا حكم الماضيات؟

جواب

قيل لهم : علمنا ذلك من قبل أن الماضيات قد كانت مستقبلة قبل وجودها ومضيها ، فلو لم يكن لها أول ما صح وجودها .

وبعد فلو رأينا هذا الرجل الذي مثلنا به وهو يدخل دارا بعد دار ، فقلنا له : هل كان بعد دخولك هذه الدور ابتداء ، حتى يقول لنا لم ابتدأ بدار منها ، ولا دخلت دارا حتى دخلت قبلها دوراً لا تتناهی ، فعلمنا أنه كاذب فيما ادعي.

دليل آخر

ومما يدل على تناهي الأفعال الماضية وانحصارها وصحة طر فيها ، خروجها إلى الوجود على كمالها وفراغ فاعلها منها ، وكل شيء فعله الفاعل فقد يتوهم منه أن يفعل أمثاله . وهذا وجه صحيح يدل على تناهيها وانحصار طر فيها ، الجواز وجود أكثر منها معارضة

وقد قال الملحدة: هذا راجع عليكم في نعيم أهل الجنة ، لأن الله تعالى يقدر على أمثاله ، فيتناهی بوجود أكثر منه.

إنفصال

فيقال لهم : ومتى صحت المماثلة بين الموضعين؟ والأفعال الماضية قد خرج جميعها إلى الوجود.

ونعيم أهل الجنة ليس له جمیع يخرج إلى الوجود ، وإنمايوجد شيء من غير أن يوقف له على وجه آخر من الوجوه .

فإن قالوا: فقد لزمكم على هذا أن يكون الله تعالى وعد أهل الجنة بنعيم لايصلون إلى جميعه ، ولا ينالون سائره.

ص: 38

قيل لهم : قد أعلمنا كم أنه لا جميع له في الحقيقة ولا سائره إذ ليس له (آخر)(1). والذي وعدهم الله به هو نعيم متصل غير منقطع ، فلو وجد حتى لا يبقى منه شيء ينتظر ، لكان في الحقيقة لم يف لهم بما وعده .

فإن قالوا: إن الأفعال الماضية أيضا لاکل لها في الحقيقة، لاستحالة حصرها.

قيل لهم : ولم زعمتم ذلك ؟ وقد سلمتم لنا أنها قد دخلت في باب الوجود عن آخرها ، واشتمل الحدوث عليها .

2- مسألة أخرى عليهم

اشارة

يقال لهم : أيجوز أن تدور الشمس في المستقبل دورات بعد الدورات الماضية أم لا يجوز ذلك؟

فإن قالوا: غير جائز ، قيل لهم : لم زعمتم ذلك ؟ وعندكم أنها تدور في المستقبل دورات لا نهاية لعددها ، أفليس في ذلك ما يفي بما قد مضى؟

فإن قالوا : لا يفي به ، جعلوا الماضي أكثر من المستقبل ، وأوجبوا تناهي المستقبل.

وإن قالوا: إن الشمس ستدور دورات في عددها بما مضى، أوجبوا تناهي ما مضى. وقيل لهم : أفيبقى من المستقبل بعد ذلك بقية ؟

فإن قالوا : لا ، أقروا بوجود الأول والآخر ، وأوجبوا تناهي الزمان من طر فيه ، وجعلوا له لدورات الشمس بداية ونهاية ، وهو خلاف ما ذهبوا إليه .

وإن قالوا إنه ستدور دورات يفي بما مضى ، ويبقى من المستقبل ما لا نهاية له أيضا . لم يبق شبهة في تناهي الماضي ، وصح أوله ، وبطل مذهبهم في قدمه والحمد لله.

دليل آخر على أن للأفعال الماضية أولا (2)

مما يدل على ذلك أنه قد ثبت أن كل واحد منها محدث کائن بعد أن لم يكن ، ولها محدث متقدم عليها ، فوجب أن تكون جميعها محدثة كائنة بعد أن لم

ص: 39


1- في الأصل (أخرى).
2- وهذا الدليل من أوضح الأدلة وأرسخها في الموضوع .

تكن، ولها محدث متقدم عليها ، لأن جميعها هو مجتمع آحادها ، ولا يصح أن يختلف في الجمع والتفريق هذا الحكم فيها .

كما أن كل واحد من الزنج بانفراده أسود فالجميع باجتماعهم سود . والحكم في ذلك واحد في الجمع والتفريق.

وقد اجتمع معنا على أن جميعها أفعال الفاعل ، وصنعة الصانع، والعقول تشهد بوجوب تقدم الفاعل على أفعاله ، وسبق الصانع لصنعته وليس يخالف في ذلك إلا مكابر العقله .

واعلم أن الملحدة ما لم تجد حيلة تدفع بها تقدم الصانع على الصنعة. قالت انه متقدم عليها تقدم رتبة لا تقدم زمان، فيجب أن نطالبهم بمعني تقدم الرتبة ليوضحوه ، فيكون الكلام بحسبه.

وقد سمعنا قوما منهم يقولون: إن معنى ذلك أنه الفعال فيها ، والمدبر لها.

فسألناهم. هل ذلك يدافع عنها حقيقة الحدوث ، فعادوا إلى الكلام الأول، من أن كل واحد من أجزاء الصنعة محدث.

فأعدنا عليهم ما سلف ، حتى لزمهم الأقرار بحدوث الكل. وطالبناهم بحقيقة المحدث والقديم ، فلم يجدوا مهرباً من أن التقدم والقديم في الوجود على المحدث، هو التقدم المفهوم المعلوم ، الذي يكون أحدهما موجوداً والآخر معدوماً.

وليس أيضا من شرط التقدم والتأخر في الوجود أن يكون ذلك في زمان . والله تعالى متقدم على جميع الأفعال.

وليس أيضا من شرط التقدم والتأخر في الوجود أن يكون ذلك في زمان ، لأن الزمان نفسه قد يتقدم بعضه على بعض ، ولا يقال إن ذلك مقتض لزمان آخر.

والكلام في هذا الموضع جلیل ، ومن الحق(1) فيه سقطت عنه شبه كثيرة .

ص: 40


1- كذا في النسخة .

وقد كنت اجتمعت في الرملة برجل عجمي، يعرف (بأبي سعيد البرذعي)(1)، وكان يحفظ شبها في هذا الباب. وكنت كثيراً ما أكلمه ، واستظهر باثبات الحجة عليه. فأورد على شبهة ، كانت أكبر مما في يديه ، وتكلمت عليها بكلام لم أقنع به فأحكيه.

ثم إني كتبت كتاباً إلى بغداد ، إلى حضرة سيدنا الشريف المرتضى ذي المجدين رضي الله عنه .(2)وذكرت الشبهة فيه ، فورد إلي جوابه عنها .

فأنا أذكر الشبهة والجواب وما وجدته بعد ذلك من الكلام في هذا الباب .

الشبهة

قال الملحد مستدلا على أن الصانع لم يتقدم الصنعة: إني وجدت ظاهرهما لايخلو من ثلاث خصال: إما أن تتقدم الصنعة عليه ، أو أن تتأخر عنه ، أو أن يكونا في الوجود سواء.

وقد فسد باتفاق تقدمها عليه.

ص: 41


1- ورد ذكر البرذعي في بعض رسائل حمزة بن على الزوزني الذي يعتبر مؤسس المذهب الدرزي به يبدأ تاريخ الدروز سنة 408 ه أقول ورد ذكر البرذعي في رسالة حمزة السادسة عشرة سنة 408ه والرسالة التاسعة عشرة وغيرها بإسم أبي منصور البرذعي لا أبي سعيد كما ذكره المصنف وقد يكون أبو سعيد البرذعي الذي لقبه الكراجكي هو نفس أي منصور البرذعي الوارد ذكره في رسائل حمزة بن علي.
2- هو أبو القاسم علي بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي المعروف بعلم الهدى ، أكبر شخصية شيعية في القرن الرابع الهجري، بالعلم والفقه والآثار والكلام والأدب والشعر وغيرها. كان فقيها انتهت إليه زعامة الإمامية في عصره، كما كان أحد أعمدة علم الكلام والفلسفة الإسلامية ، والأدب والشعر واشتهر بعلم النجوم، وبرز في غير ذلك من جوانب المعرفة والفكر . وكان حادقاً في المناظرة والجدل، حاج النظراء والمتكلمين ، وناظر العلماء والمخالفين ، وقد عده ابن الأثير من مجددي مذهب الإمامية في رأس المئة الرابعة. وتعتبرآراء الشريف المرتضی وآثاره سجلا كاملا لآراء الشيعية الإمامية وأقوالهم ، وفي كتبه حفظت عقائدهم وآراؤهم الإسلامية ، وله مؤلفات عديدة أبرزها من المطبوع: الشافي والمالي وتنزيه الأنبياء ، وهو من تلاميذ الشيخ المفيد . ولد في رجب سنة 355ه وتوفي ربيع الأول سنة 436 ه وله في كتابنا (فلاسفة الشيعة) ترجمة بدراسة وإسهاب.

قال: ويفسد أيضا تقدمه عليها . إذ كان لا يخلو من أن يكون تقدمه بمدة محصورة وتقدير أوقات متناهية ، أو بمدة غير محدودة وتقدير أوقات غير محصورة.

قال : وإن [كان ] تقدمها بمدة لا تحد ، وتقدير أوقات لا تتناهي و تحصر ، فلا آخر متناه، وله أول وآخر. فكما أن آخره حدوث الصنعة ، فكذلك أوله حدوث الصانع. ونعوذ بالله من القول بذلك.

قال : وإن [كان ] تقدمها بمدة لا تحد، وتقدير أوقات لا تتناهی وتحصر ، فلا آخر لهذه المدة ، كما لا أول لها . وإذا لم يكن لها آخر فقد بطل حدوث الصنعة (1) .

وإن نفيتم الأوقات والأزمان التي يصح هذا فيها فإنه لا يمكنكم إنكار تقديرها . وفي التقدير يلزم هذا هنا.

قال: فهذا دليل على أن الصنعة والصانع قديمان لم يزالا .

« الجواب »

قاله الشريف المرتضی رحمه الله

أما الصانع من حيث كان صانعاً فلا بد من تقدمه على صنعته ، سواء أكان قديماً أو محدثا . لأن تقدم الفاعل على فعله حكم، يجب له من حيث كان فاعلا.

ویستوى في هذا الحكم الفاعل القديم والفاعل المحدث. غير أن الصانع القديم يجب أن يتقدم صنعته بما إذا قدرناه أوقاتا وأزماناً كانت غيرمتناهية ولا محصورة.

ولا يجب هذا في الصانع المحدث، بل يتقدم الصانع من المحدثين صنعته بالزمان الواحد والأزمان المتناهية المحصورة.

والذي يدل على أن الصانع لا بد من أن يتقدم صنعته ويستوي في هذا الحكم القديم والمحدث. أنه لو لم يتقدم عليها لم تكن فعلا له وحادثة به ، لأن من

ص: 42


1- لأنه ان كان الصانع متقدماً على الصنعة بمدة غير متناهية ، فلا يمكن والحال هذه أن يكون لها آخر ، كما لا يمكن حدوث الصنعة ، لأن حدوثها يعني تناهي المدة التي فرض عدم تناهيها ، وهذا خلف .

شأن الفاعل أن يكون قادراً ، ولا يقدر على الموجود ، لأن وجوده يغني عن تعلق القدرة به، فهذا يدل على استحالة مصاحبة الفاعل لفعله.

فأما تقدم الفعل على فاعله فأظهر فساداً، لأن المؤثر في وجود الفعل وحدوثه كون فاعلة قادراً . فكيف يتقدم المؤثر فيه على المؤثر .

وأما تقدم الصانع القديم تعالى على صنعته فيجب أن يكون غير محصور الأوقات. وإنما وجب ذلك فيه ولم يجب في الصانع المحدث، لكونه قديماً . لأنه لو كان بين القديم والمحدث أوقات متناهية لخرج من أن يكون قديماً ودخل في أن يكون محدثا . لأن من شأن القديم أن لا يكون بوجوده إبتداء . وتناهی ما بينه وبين الأوقات وبين المحدث يقتضي أن يكون بوجوده أول وابتداء.

فأما ما تضمنه السؤال من التقسيم والتعديل في إفساد تقدم الصنعة على الصانع على الاتفاق على ذلك ، فغير صحيح، لأن مثل هذا لا يعول فيه على الاتفاق، بل لا بد أن يعين طريق العلم: إما من ضرورة ،أو استدلال. وقد بينا ما يدل على أن الصنعة لا تتقدم الصانع.

فأما ما مضى من السؤال من إلزام نفي التناهي والآخر عن المدة التي تكون بين الصانع والصنعة كما نفى عنها الابتداء والتناهي من قبل أولها ، فغير صحيح ولا لازم. لأنا قد بينا أنا متى جعلنا بين الصانع القديم وصنعته مدة متناهية الابتداء محصورة ، لحق القديم بالمحدث، وخرج من أن يكون قديماً .

وإذا جعلناها (1) محصورة الإنتهاء لم يجب ذلك فيها ، ولا أدى إلى ما قد علمنا فساده من كون القديم محدثاً ، ولا إلى غيره من ضروب الفساد . فلم يلزم نفي الآخر عن المدة قياسا على نفي الأول. وقد بين شيوخ أهل العدل (2) في كتبهم الفرق بين هذين الأمرين ، وقالوا:

ص: 43


1- الظاهر سقوط كلمة (غير ) هنا ، إذ لا يتم المعني بدونها فتكون الجملة هكذا: وإذا جعلناها غیر محصورة الانتهاء لم يجب ذلك فيها .
2- المراد بأهل العدل هم المعتزلة والإمامية الذين يقولون باستحالة صدور الظلم والمنافي منه سبحانه ، إما لعدم قدرته عليه كما يقوله المعتزلة أو أكثرهم ، وإما لقبح صدوره عنه عقلا مع قدرته عليه كما يقوله الإمامية.

من المستحيل إثبات فاعلي لم (1) یزل فاعلا ، وليس بمنكر ولا مستحيل إثبات فاعل لا يزال فاعلا ، وبينوا أن نفي التناهي والابتداء عن الأفعال من قبل أولها يخرجها من أن تكون أفعالا . وليس نفي التناهي عنها من قبل آخرها يخرجها من أن تكون أفعالا.

وذكروا أن نعيم أهل الجنة وعقاب أهل النار دائمان، لا إنقطاع لهما ولا آخر ، ولم يؤد ذلك إلى المحال والفساد ما أدى إليه نفي التناهي عن الأفعال من قبل أولها.

وقالوا: ليس بمنكر أن يدخل داخل دارا بعد دار أبدا بغير انقطاع. ومن المستحيل المنكر أن يدخل داراً قبل دار أبدا بلا أول.

وقد استقصينا نحن هذا الكلام في مواضع كثيرة من كتبنا ، وذكرناه في الملخص ، (2) وغيره من أجوبة المسائل والنقوض على المخالفين .

وأما ما تضمنه السؤال من أن هذا يدل على أن الصنعة وإلصانع قديمان لم يزالا ، فمناقضة ظاهرة، لأن وصف المتصف بالقدم ينقض كونه صفة ، كما أن وصف القديم بأنه مصنوع ينقض كونه قديماً .

وهل هذا إلا تصريح بأن المحدث قديم ، والقديم محدث. ولا خفاء بفساد ذلك.

وهل آخر الجواب الوارد إلي من حضرة السيد الشريف المرتضی رضي الله عنه عن هذه الشبهة.

وجميع ما تضمنه من إطلاق القول بأن بين القديم وأول المحدثات أوقات لا

ص: 44


1- ويفهم من هذه العبارة أن كون الفاعل مرتبطاً بما يصدر عنه من أفعال ، فإذا كان الفاعل فاعلا منذ الأزل كانت أفعاله منذ الإبتداء قديمة معه وتخرج عن كونها أفعالا محدثة ، لذلك يستحيل كونها قديمة وبالتالي استحالة أن يكون الفاعل لم يزل فاعلا . على خلاف اثبات فاعل لا يزال فاعلا من حيث الآخر إلى غير نهاية فلا استحالة إذ لا يخرجها ذلك عن كونها أفعالا . وهذا يتضح من قوله : وبينوا أن نفي التناهي الخ).
2- هو كتاب للشريف المرتضى في الأصول ، ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسي، والنجاشي، وابن شهر آشوب.

أول لها ، فإنما المراد به تقدير أوقات، دون أن يكون القصد أوقاتاً في الحقيقة ، لأن الأوقات أفعال.

فقد ثبت أن الأفعال أولا ، فلو قلنا أن بين القديم وأول الأفعال أوقاتا في الحقيقة لناقضناه ودخلنا في مذهب خصمنا. نعوذ بالله من القول بهذا.

3- مسألة على الملحدة

اشارة

يقال لهم : أخبرونا عن الشمس ، أليس لم تتحرك بحركة حتى تحركت قبلها بحركات لا نهاية لها؟

فإن قالوا: بلى. قيل لهم: فإذا جاز أن تفرغ الحركات التي لا نهاية لها ، وتحركت الشمس بها كلها حتى تنتهي إلى آخرها . فالا جاز أن تتحرك بالحركات المستقبلة كلها حتى تفرغ منها ، وتقف عند آخرها ، ولا يبقى مستقبل بعدها.

فإن قالوا: إن المستقبلات لا گل في الحقيقة لها.

أجابوا بمثل قولنا . ثم لم ينفعهم ذلك فيما سألنا ، لأن الفراغ مما لا نهاية له قد صح عندهم ، وهو غير صحيح عندنا ، إذ يلزمهم تقضي المستقبلات حتى توقف عند آخرها.

فإن قالوا: إن الشمس تتحرك بحركة واحدة باقية دائمة. قيل لهم : إنه ليس يلزمنا قبول ما لا طريق إلى فهمه ، ولا سبيل لمدعيه إلى إثبات علمه . وهذا الذي زعمتموه دعوی عارية من برهان.

وبعد فإنا إذا لم ننازعم في ذلك نسألكم:

فنقول:ألستم معترفين بأن الشمس قد دارت الفلك قبل هذه الدورة التي هي فيها دورات لا نهاية لها ؟

ص: 45

فلا بد لهم من الأقرار بذلك ، فيقال لهم : فقد عاد الأمر إلى الفراغ مما لا نهاية له. في أنكرتم أن تنقضي دوراتها المستقبلة التي تقولون أنها لا نهاية لها، ويفرغ منها حتى يقف عند آخرها كما فرغت فيما مضى ، وهي الآن في آخره؟

فإن قالوا: هذا مستحيل في المستقبل ، وهو صحيح في الماضي.

قيل لهم : بنظير الكلام المتقدم، وهو أن الماضي قد كان مستقبلا، فلو استحال أن يصير المستقبل ماضياً ، لاستحال في الماضي ، لأنه قد كان مستقبلا.

جواب آخر عن هذه الشبهة

وقد قال بعض أهل العلم: أنه لا ينبغي أن نقول بين القديم وبين المحدث، لأن هذه اللفظة إنما تقع بين شيئين محدودين ، والقديم لا أول له.

والواجب أن نقول : إن وجود القديم لم يكن عن عدم

ونقول: إنه لو أمكن وجود حوادث بلا نهاية ولم يتناقض ذلك ، لأمكن أن يفعلها حادثاً قبل حادث لا إلى أول، فيكون قد وجدت حوادث بلا نهاية .

ولسنا نريد بذلك أنه كان قبل أن فعل مدة ، يزيد امتدادها ، لأن هذا هو الحدوث والتجدد، وهو معنى الزمان والحركة.

فإن قال قائل : إنه لا يثبت في الأوهام إلا هذا الامتداد .

قيل له: ليس يجب إذا ثبت في الوهم أن يكون صحيحاً.

أليس عندكم أنه ليس خارج العالم خلاء؟وذلك غير متوهم.

ثم يقال لهم : أيثبت في الوهم ذلك؟ مع فرضكم نفي الحركات والتغييرات ، أم مع فرضكم إثبات ذلك.

فإن قالوا: مع فرضنا إثبات ذلك قيل لهم : فيجب مع نفي ذلك أن لا يثبت هذا التوهم.

وإن قالوا: يثبت هذا التوهم مع فرضنا نفي ذلك.

قيل لهم : فقد ثبت في التوهم النقيضان، لأن هذا التوهم هو أن ينتقل ويمتد .

قال: ثم يقال أرأيتم لو قال لكم قائل : ليس يثبت في ذهني موجود ليس في

ص: 46

جهة ، فيجب أن يكون الباري عز وجل في جهة ، أليس يكون يمكن أن يقال : إنما يثبت ذلك في الوهم متى فرضتموه جسما

وأما متى فرضتموه غير جسم ولا متحيز فإنه لا يثبت ذلك في الوهم ،فهكذا يكون جوابنا لكم.

ثم قال هذا المتكلم :

فإن قالوا: فإذا لم تثبتوا مدة مديدة قبل الفعل فقد قلتم أن الباري سبحانه لم يتقدم فعله.

قيل : بل نقول إنه يتقدم على معنى أن وجوده قارن عدم فعله ثم قارن وجود فعله. وقولنا (ثم) يترتب (1) على عدم الفعل لا غير. قال : ونقول إذا فعل الله سبحانه شیئا، إنه يجوز أن يتقدم ، على معنی أنه يفعله ، فيكون بينه وبين يومنا من الحوادث أكثر مما هو الآن، وليس الكثرة والتقدم والتأخر راجعاً إلا إلى الحوادث دون مدة يقع فيها .

ثم تكلم في نفي المدة فقال :

والذي يبين أن تقدم الحركات وتأخرها يثبت من دون مدة يقع فيها ، أنه لا يخلو هذه المدة من أن يكون شيئاً واحداً ، لا إمتداد فيه ولا ينقل من حال إلى حال. أو يكون فيه تنقل وامتداد .

والأول يقتضي إثبات الزمان على غير الوجه المعقول ، ويقتضي أن تكون الأشياء غير متقدم بعضها على بعض، إذا كان بالأجل تقدمه وتأخره تتقدم الأشياء وتتأخر ليس فيه تقدم وتأخر .

فليت شعري أثبت التقدم والتأخر بنفسه أم بغيره؟

إن كان يثبت فيه بغيره أدى إلى ما لا نهاية له. وإن كان ذلك الزمان متقدماً ومتأخراً بنفسه من غير أن يكون في شيء متقدم ومتأخر ، فهلا قيل ذلك في الحركات واستغني عن معنى غيرها.

ص: 47


1- لأن كلمة (ثم) من أدوات العطف مع ترتب مدخولها على ما قبلها ولا يلزم أن يكون ما قبلها أمراً وجودياً بل يكفي في صحة الترتب مقارنة مدخولها لماقبله وإن كان عدماً .

فصل وبيان

وهذه الطريقة التي حكيتها هي عندي قاطعة لمادة الشبهة ، كافية في إثبات الحجة على المستدل وهي مطابقة لاختيار أبي القاسم البلخي (1) لأنه لا يطلق (2) القول بأن بين القديم وأول المحدثات مدة.

ويقول: إنه (أي الصانع تعالی) قبلها ، بمعنى أنه كان موجودا ثم وجدت .

وهو معنى ما ذكر هذا المتكلم في قوله: إن وجوده قارن عدم فعله ثم قارن وجود فعله ، فهو على هذا الوجه قبل أفعاله.

واعلم - أيدك الله - أن العبارات في هذه المواضع تضيق عن المعاني ، وتدعو الضرورة إلى النطق بما عهد ووجد في الشاهد ، وإن لم يكن المراد حقيقة في المتعارف ، ويجوز ذلك إذا كان مؤدياً لحقيقة المعنى إلى النفس ، كقولنا : قبل ، وبعد، وكان ، وثم. فليس المعهود في الشاهد استعمال هذه الألفاظ إلا في الأوقات والمدد .

فإذا قلنا أن الله تعالى كان قبل خلقه ثم أوجد خلقه ، فلبس هذا التقديم والتأخير مفيداً لأوقات ومدد وقد يتقدم بعضها على بعض بأنفسها ، من غير أن يكون لها أوقات أخر.

وكذلك ما يطلق به اللفظ من قولنا : إن وجود الله قبل وجود خلقه . فليس الوجود في الحقيقة معنى غير الموجود . وإنما هو إتساع في القول ، والمعنى مفهوم معقول.

وقد سأل أبو القاسم البلخي نفسه ، فقال :

إن قال قائل أخبرونا عن أول فعل فعله الله تعالى ، أكان من الجائز أن یفعل قبل غيره ؟

ص: 48


1- هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي توفي سنة (317ه) و هو من زعماء المعتزلة وشيوخهم ورأس طائفة منهم يقال لها الكعبیة ، وهو أستاد أبي جعفر محمد بن عبد الرحمن المتكلم الشيعي المعروف (بابن قبة). وللبلخي مؤلفات عديدة منها كتاب (عیون المسائل والجوابات) ذكره المسعودي في مروج الذهب ج ص 151. ولأبي القاسم البلخي أراء كلامية تنقل عنه في كتب الكلام والفرق.
2- في الأصل (و القول) ویہ - و أن الواو فيها زائدة .

وأجاب عن ذلك فقال : هو جائز، بمعنى أن يكون لم يفعله وفعل غيره بدله ، وفعله هو. فأما غير ذلك فلا يجوز ، لأنه يؤدي إلى المحال.

وفي هذا القدر كفاية في الكلام على الملحدة الدهرية والحمدلله .

4- مسألة في تأويل خبر

اشارة

إن سأل سائل فقال: ما معنى قول النبي صلى الله عليه و آله في الخبر المروي عنه:

«ولا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر »

الجواب

قيل له : الوجه في ذلك. أن الملحدين ومن نفي الصانع من العرب كانوا(1) ينسبون ما ينزل به من أفعال الله تعالى كالمرض والعافية والجدب ، والخصب والفناء ، إلى الدهر . جهلا منهم بالصانع جلت عظمته ، ويذمونه في كثير من الأحوال ، من حيث اعتقدوا أنه الفاعل بهم هذه الأفعال ، فنهاهم النبي (ص) عن ذلك ، وقال لهم : لا تسبوا من فعل بكم هذه الأفعال ، ممن يعتقدون أنه هو الدهر ، فإن الله تعالى هو الفاعل لهذه الأفعال. وإنما قال إن الله هو الدهر من حيث نسبوا إلى الدهر أفعال الله تعالى.

وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم :

«ما هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ». سورة الجاثية : 24 وقال لبيد :

هو لبيد بن ربيعة الشاعر الجاهلي المشهور الذي أدرك الإسلام وأسلم توفي سنة (40ه) و(660م) وهو صاحب احدى المعلقات السبع التي أولها

عفت الديار محلها فمقامها*** بمني تأبد غولها فرجامها

وله أمثال شعرية سائرة.

ص: 49


1- في الأصل (كما) واتساق الكلام يقتضي أن يكون كما ذكرنا .

في قروم سادة من قومه*** نظر الدهر إليهم وابتهل

أي دعا عليهم .(1)

« قصيدة في الآداب والأمثال لإبن دريد »(2)

ما طاب فرع لا يطيب أصله ***حمي مؤاخاة اللئيم فعله

وكل من آخي لئيما مثله

من يشتكي الدهر يطل في الشكوى *** فالدهر ما ليس عليه عدوی

مستشعر الحرص عظيم البلوى

من أمن الدهر أتي من مأمنه *** لا تستثر ذا لبد (3) من مكمنه

وكل شيء يبتغي من معدنه

لكل ناع ذات يوم ناعي*** وإنما السعي يقدر الساعي

قد يهلك المرعي عنف الراعي

من يترك القصد تضق مذاهبه*** دل على فعل امری ءٍ مصاحبه

لا تركب الأمر وأنت عائبه

من لزم التقوى استبان عدله*** من ملك الصبر عليه عقله

نجا من العار وبان فضله

ص: 50


1- تجدالكلام على ذلك في أمالي المرتضی ج(1) ص45.
2- في الأصل (لابن دریده) وهو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (223 - 321ه) من مشاهير علماء الأدب واللغة والشعر ، وهو شاعر ، له ديوان شعر ، وعده این شهر اشوب من شعراء أهل البيت ، وذكر من شعره قوله. أهوى النبي محمداً ووصیه*** وابنیه وابنته البتول الطاهرة أهل الولاء فانني بولائهم*** أرجو السلامة والنجا في الآخرة وله مؤلفات عديدة منها كتاب الجمهرة في اللغة ، وله مقاطيع محبوكة الطرفين، وقصيدة في المقصور والممدود ، والمقصورة المشهورة التي تبلغ حوالي مائتي بيت ، وهو أستاذ الجماعة من العلماء منهم أبو سعيد السيرافي وأبو عبد الله المرزباني ، وقد مات هو وأبو هاشم الجبائي في يوم واحد، فقال الناس يموت ابن دريد وأبو هاشم . أنظر الفهرست ص 91-92 والأمل قسم (2) ص62.
3- صفة للأسد.

يجلو اليقين كدر الظنون *** والمرء في تقلب الشئون

حتى توفاه يد المنون

یا رب حلو سيعود سما ***ورب حمد تحوز ذما

ورب روح (1) سيصير هما

من لم تصل فارض إذ حباكا*** وأول حمداً إذا قلاكا

أو أوله منك الذي أولاكا

مالك إلا عليك مثله ***لا تحمدن المرء ما لم تبله

والمرء كالصورة لولا فعله

یا ربما أدرئت اللجاجة*** ما ليس للمرء إليه حاجه

وضيق أمر يبتغي انفراجه

ليس يقي - من لم يق الله - الحذر ***وليس يقدر امرؤ على القدر

والقلب يعمي مثلما يعمى البصر

كم من وعيد يخرق الآذانا ***كأنما یعنى به سوانا

أصمنا الاهمال بل أعمانا

ما أفسد الخرق وساء الرفق *** وخير ما أنبا عنك الصدق

کم صعقة دل عليها البرق

لكل ما يؤذي وإن قل ألم ***ما أطول الليل على من لم ينم

وسقم عقل المرء من شر السقم

أعداء غيب إخوة التلاقي*** يا سوأتا لهذه الأخلاق

كأنما اشتقت من النفاق

أنف الفتى وهو صريم أجدع (2)*** من وجهه وهو قبيح اشنع

هل يستوي المحظوظ والمضيع

ص: 51


1- الراحة والرحمة
2- الصريم والأجدع بمعنى واحد وهو الأقطع.

ما منك من لم يقبل المعاتبة*** وشر أخلاق الفتى المؤاربت

ينجيك مما نكره المجانبة

متى تصيب الصاحب المهذبا*** هیهات ما أعسر هذا المطلبا

وشر ما طالبته ما استصعبا

أف لعقل الاشمط النصاب*** رب معيب فعله عيآب

ذم الكلام حذر الجواب

لكل ما يجري جواد كبوة*** مالك إلا أن قبلت عفوه

من ذا الذي يسقيك عفوا صفوه

لا يسلك الشر سبيل الخير ***والله يقضي ليس زجر الطير

كم قمر عاد إلى قمير

[لم] يجتمع جمع لغير بين ***لفرقة كل اجتماع اثنين

يعمي الفتى وهو البصير العين

الصمت إن ضاق الكلام أوسع*** لكل جنب ذات يوم مصرع

کم جامع لغيره ما يجمع

مالك إلا ما بذلت مال*** في طرفة العين يحول الحال

ودون آمال الفتي الآجال

كم قد بكت عين وليس تضحك*** وضاق من بعد اتساع مسلك

لا تبر من أمرأ عليك يملك

خير الأمور ما حمدت غبه*** لا يرهب المذنب إلا ذنبه

والمرء مقرون بمن أحبه

کل مقام فله مقال *** کل زمان فله رجال

وللعقول تضرب الأمثال

دع كل أمر منه يوما تعتذر*** عف كل ورد غيرمحمود الصدر

لا تنفع الحيلة في ماضي القدر

ص: 52

نوم أمريءٍ خير له من يقظه*** لم يرضه فيه الكرام الحفظه

وفي صروف الدهر للمرء عظه

مسألة الناس لباس ذل ***من عف لم يسئم ولم يمل

فارض من الأكثر بالأقل

جواب سوء المنطق السکوت*** قد أفلح المبتدىء الصموت

ما حم(1) من رزقك لا يفوت

في كل شيء عبرة لمن عقل ***قد يسعد المرء إذا المرء اعتدل

ترجو غداً ودون ما ترجو الأجل

من لك بالمحض وليس محض ***يخبث بعض ويطيب بعض

ورب أمر قد نهاء النقض

کم زاد في ذنب جهول عذره ***ذا مرض یعنی عليك أمره

يخشى امرء شيئا ولا يضره

يا رب إحسان يعود ذنبا*** ورب سلم سيعود حربا

وذو الحجي يحمل إن أحبا

قد يدرك العسر في إعساره ***ما لم يبلغ الموسر في إيساره

وينتهي الهاوي إلى قراره

الشيء في نقص إذا تناها ***والنفس تنقاد إلى رداها

مذعنة يحتث سائقاها

النا س في فطرتهم سواء*** وإن تساوت بهم الأهواء

كل بقاء بعده فناء

لم يغل شيء وهو موجود الثمن*** مال الفتى ما قصه لا ما احتجن

إذا حوی، جثمانه ثرى الجبن (كذا)

ص: 53


1- حم: قدر

المال يحكي الغي في أثقاله ***وإنما المنفق من أمواله

و ما غمر الخلة من سؤاله

من لاح في عارضه القتير(1)*** فقد أتاه بالبلي النذير

ثم إلى ذي العزة المصير

رأيت غب الصبر مما يحمد*** وإنما النفس کما تعدد

وشر ما يطلب ما لا يوجد

إن اتباع المرء كل شهوة ***ليلبس القلب لباس قسوة

وكبوة العجب أشد كبوة

من يزرع المعروف يحصد ما رضي*** لكل شيء غاية ستنقضي

والشر موقوف لدى التعرض

لا يأكل الإنسان إلا ما رزق*** ما كل أخلاق الرجال تتفق

هان على النائم ما يلقى الأرق

من يلذع الناس يجد من يلذعه ***لسان ذی الجهل وشيكاً يوقعه

لا يعدم الباطل حقا يدمغه

کل زمان فله نوابغ ***والحق للباطل ضد دامغ

لا يغصك المشرب وهو سائغ

رب رجاء قص من مخافه ***ورب أمن سيعود آفة

ذو النجح لا يستعبد المسافة

كم من عزيز قد رأيت ذلاً*** وكم سرور مقبل تولي

وكم وضيع شال فاستقلا

لا خير في صحبة من لا ينصف ***والدهر يجفو أمره ويلطف

والموت يفني كل عين تطرف

ص: 54


1- القتير هو الغبار وأراد به هنا الشيب مجازاً

رب صباح لأمري ءٍ لا يمسه*** حتف الفتى موكل بنفسه

حتى يحل في ضريح رمسه

إني أرى كل جديد بالي ***وكل شيء ف إلى زوال

فاستشف من جهلك بالسؤال

آن رحیلا فأعد الزادا ***آن معادا فاحذر المعادا

لا يملك العمر وإن تمادی

إنك مربوب مدين تسئل*** والدهر عن ذي غفلة لا يغفل

وكلما قدمته محصل ***حتى يجيء يومك المؤجل

(فصل)

روي عن أحد الأئمة عليهم السلام ، أنه قال رسول الله ص):

إن الله عز وجل كتم ثلاثة في ثلاثة : رضاه في طاعته ، وكتم سخطه في معصته ، وكتم وليله في خلقه ، ولا يستخف أحدكم شيئا من الطاعات، فإنه لا يدري في أيها رضا الله تعالى ، ولا يستقلن أحدكم شيئا من المعاصي، فإنه لا يدري في أيها سخط الله ، ولا يزرين أحدكم بأحد من خلقه ، فإنه لا يدري أيهم ولي الله .

ومن كلامه (ص):

من سرته حسنته ، وساءته معصيته فهو مؤمن.

لا خير في العيش إلا لرجلين : عالم مطاع، ومستمع واع.

كفى بالنفس غني ، وبالعبادة شغلا .

لا تنظروا إلى صفير الذنب ، ولكن انظروا إلى من اجترأتم .

وقال عليه و آله السلام: آفة الحديث الكذب ، وآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الفترة، وآفة الطرف الصلف .

لا حسب إلا بتواضع ، ولا كرم إلا بتقوى ، ولا عمل إلا بنية ، ولا عبادة إلا بيقين.

ص: 55

إن العاقل من أطاع الله وإن كان ذميم المنظر ، حقير الخطر ، وإن الجاهل من عصى الله وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر.

أفضل الناس أعقل الناس.

إن الله تعالى قسم العقل ثلاثة أجزاء ، فمن كانت فيه كمل عقله ، ومن لم تك فيه فلا عقل له: المعرفة بالله تعالى ، وحسن الطاعة ، وحسن الصبر .

إن لكل شيء آلة وعدة ، وآلة المؤمن وعدته العقل ، ولكل تاجر بضاعة ، وبضاعة المجتهدين العقل ، ولكل خراب عمارة ، وعبارة الآخرة العقل ، ولكل سفر (1) فسطاط يلجئون إليه ، وفسطاط المسلمين العقل .

(فصل)

روي عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:

العقل ولادة ، والعلم إفادة ، ومجالسة العلماء زيادة.

وروي عنه عليه السلام أنه قال:

هبط جبرئیل (ع) على آدم (ع) فقال:

یا آدم أمرت أن أخيرك في ثلاث ، فاختر منهن واحدة ودع اثنتين ، فقال آدم وما الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدين . فقال آدم فإني قد اخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ، فقالا يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال فشأنكما وعرج.

(مسألة): إن سأل سائل فقال: كيف يحسن مخاطبة الحياء والدين ؟ وكيف يصح منها النطق ؟ وهما داخلان في باب الأعراض، التي لا تقوم بأنفسها ، ولا تصح الحياة والنطق منهما.

(الجواب): قيل له : هذا مجاز من القول ، وتوسع في الكلام ، والمعنى فيه : أنهما لو كانا حيين قائمين بأنفسهما، تصح المخاطبة لهما، والنطق. لكان هذا حكمهما ، والمحكي عنهما جوابهما.

ص: 56


1- سفر : القوم المسافرون .

وقد يستعمل العرب ذلك في كلامها ، وهو نوع من أنواع فصاحتها ، قال الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني (1). ***مهلا رويدا قد ملأت بطني

ونحن نعلم أن الحوض لا يصح منه النطق ، ولكنه استعار النطق ، لأنه عنده لو كان في صورة ما ينطق لكان هذا قوله.

(خبر آخر): في هذا المعنى، وهو المشتهر بين الخاصة والعامة ، من أن أول شيء خلق الله تعالى العقل ، فقال له: أقبل ، فأقبل . ثم قال له أدبر ، فأدبر .

فقال : وعزتي وجلالي ، ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك. بك أعطي ، وبك أمنع ، وبك أثيب ، وبك أعاقب . وعزتي وجلالي ، لا أكملتك إلا فيمن أحببت . (2)

فالمعنى فيه نظير ما تقدم، هو أن العقل لو كان قائما بنفسه حتى يوجد مفرداً ، لكان أول شيء خلقه الله تعالى لفضله ، ولأن المنازل العالية لا تستحق إلا به ، ولو كان حياً قادراً، لصح منه امتثال أمر الشارع إلى ما يؤمر به ، ولم يقع خلاف للمراد منه.

وهذا كله بينة على شرف العقل و جلالته، وحث على وجوب الرجوع إليه ، والتمسك بحججه ، وفي القران لذلك نظائر .

(فصل مما ورد في القرآن في هذا المعنى)

فمن ذلك قول الله عز وجل :

« إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» النحل : 40.

فدليل شاهد بأن المراد بذلك ليس هو القول ، ولا يصح فيه حقيقة الأمر . لأنه لو كان يأمر الشيء في الحقيقة بالكون ، كان لا يخلو من حالين :

ص: 57


1- معناه حسبي
2- تجد أكثر هذا الحديث في كتاب مشكاة الأنوار ص227 وفي كتاب الأربعين للمجلسي وهو الحديث الثاني من أحاديثه ص 5 رواه بأسانیده.

إما أن يأمره بذلك ، والشيء في حال عدمه ، أو في حال وجوده .

و محال أن يأمره وهو في حال عدمه ، لأن المعدوم في الحقيقة ليس بشيء ، فيتوجه إليه الأمر.

والذين يثبتون أنه شيء في حال عدمه من المتكلمين (1) لا يخالفون في أنه لايصح أن يؤمر .

ومحال أيضا أن يأمره وهو في حال وجوده ، لأن الموجود هو الكائن .

ولا يقال للكائن (كن)، كما لا يقال للساكن (اسکن).

وأيضا فلو كان يأمره في الحقيقة (بالكون) لكان الشيء المأمور هو الذي يفعل نفسه ويكونها .

ولا يصح من شيء أن يفعل إلا أن يكون حيا قادراً ، ولا يصح منه أن يفعل الحكم المتقن إلا بعد كونه عالماً.

وهذا كله (2) على أن المعدوم لا يؤمر ولا يفعل نفسه .

ولم يبق إلا أن يكون ذلك مجازاً في القول.

والمراد به الإخبار عن تیسر الفعل على الله سبحانه ، أنه إذا أراده، وأنه غير متعذر منه ، ومتى أراد كونه كان بغير حائل ولا مانع ، حتى كأن الذي يريده لو كان حياً قادراً ، يصح أن يكون نفسه ، ثم أمره الله تعالى بذلك ، ليبادر إليه ، ولم يتأخر عنه.

ص: 58


1- اختلف المتكلمون في المعدوم هل هو شيء أم لا ، فذهب بعضهم إلى أن المعدوم في حال عدمه شيء ، واستدلوا بأيات منها : قوله تعالى (ولا تقولن بشيء إني فاعل ذلك غدا) إذ سماه شیئا في حال عدمه ، وقوله تعالى: (إن زلزلة الساعة بشيء عظيم) عبر عنها بكلمة شيء وهي معدومة وقبل أن تكون. وأنكر بعضهم أن يكون المعدوم شيئا واستدلوا بآيات منها: قوله تعالى : (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) وقوله تعالى : (ألم ير الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) وقوله أيضا : (لم يكن شيئا مذكوراً) فقد نفى عن الذي لم يكن وكان معدوماً أن يكون شيئاًوحملوا تلك الآيات التي استدل بها مثبتوا الشيئية للمعدوم كما فعل المؤلف على المجاز.
2- لعله قد سقطت كلمة (یدل) ووضعناها ليستفیم الكلام

ومثل ذلك قول الله عز وجل:

«ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا (أَتَيْنَا طَائِعِينَ)»سورة فصلت: 11.

وليس المراد أن السماء والأرض وهما جماد، [نطقتا ]، وإنما المعنى تیسر

فعلهما ، وما أراده فيها.

فكأنهما لو كانتا في حكم الأحياء القادرين الذين يصح منهم النطق والإتیان ، لقالتا إذا أمرتا بالإتيان (أَتَيْنَا طَائِعِينَ).

ونظير هذا في الكلام كثير .

والناس يجعلون من تيسر منه الفعل ، كأن فعله قد أطاعه، ويقولون للشاعر الحاضر الخاطر: إن القوافي لتسمع [إله ] وتطيع ، وإنك لتراها رأي العين ، وإنها لمحصورة بين يديك.

ومراد هم أنها لا تتعذر عليه متى رامها ، ولا يتوقف شيء منها إذا قصدها.

فكأنها لو كانت في حيزها تری ، لر آها ، أو في حكم من يطيع لأطاعت أمره إذا أمرها.

فأما الإخبار عن السماء والأرض بأنهما (قَالَتَاأَتَيْنَا طَائِعِينَ) بلفظ التذكير .

فيحتمل أن يكون المعنى أتينا بمن فينا ، ومن يصح فيه التذكير .

ومن ذلك قول الله عز وجل :

«يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» سورة ق: 30.

و جهنم في الحقيقة لا يصح أن تخاطب ، ولا يقع منها القول.

فالمعنى أنها لو كانت في حكم من يخاطب ويصح منها القول ، لقالت (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).

وقيل في الآية بوجه آخر.

وهو أن الذكر لها، والخطاب في الحقيقة متوجه لخزنتها ، وهم القائلون (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).

ص: 59

وإنما أضيف ذلك إليها ، كما يقال :

قالت البلدة الفلانية ، أي قال أهلها .

وقال الله تعالى:

«وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا » يوسف : 82 والمراد أهلها .

ومن ذلك قول الله عز وجل:

«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» . النور: 24 وقوله جل اسمه :

«وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» فصلت : 21

فالقول عندنا في ذلك كله أنه على الاستعارة ومجاز اللغة ، دون الحقيقة .

والمعنى فيه أن الجوارح لو كانت مما تنطق لنطقت على أصحابها بالشهادة ، وقالت انطقنا الله .

وقد يجوز في أبعاض الإنسان ما تقام الشهادة بفعله، وإن لم يكن نطق .

والعرب تقول:

(رب عين أنطق من لسان) ويقولون:

(عيناك تشهد بسحرك، ونظرك يدل على خبرك).

والشواهد على هذا كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية .

5- مسألة من عويص النسب :

اشارة

ألا قل لابن أم حماة أمي*** أنا ابن أخ ابن أختك غيروهم

فلو زوجت أختك من أخ لي ***فأولدها غلاما كان عمي

وكان أخي لذاك العم عماً*** وصار العم مثل دمي ولحمي

فمن أنا منك أو من أنت مني*** أجب إن كنت ذا لب وفهم

الجواب:

القائل ابن ابن المقول له ، هو خال أبي القائل ، وأخت المقول له هي أم أبي القائل.

ص: 60

فإذا تزوجها أخوا القائل لأمه ، وهو جائز، لأنه لا قرابة بينها ، فأولدها غلاما . فالغلام عم القائل ، لأنه يصير أخا لأبيه ، ويكون القائل أيضا عما للغلام من الأم، وكانت إخوة القائل من أبيه وأمه أعماماً للغلام.

فصل في ذكر الدنيا :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

« و من أحب دنياه أضر بآخرته »

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

الدنيا دول ، فاطلب حظك منها بإجمال الطلب .

وقال عليه السلام:

من أمن الزمان خانه ، ومن غالبه هانه .

وقال:

الدهر يومان: يوم لك ، ويوم عليك ، فإن كان لك فلا تبطر ، وإن كان عليك فاصبر ، فكلاهما عنك يمضي.

قال بعض الشعراء:

وإن امرءاً دنياه أكثر همه*** لمستمسك منها بحبل غرور

وقال بعضهم:

إياك الإغترار بالدنيا ، والركون إليها ، فإن أمانتها كاذبة ، وآمالها خائبة ، وعيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأنت منها على خطر ، إما نعمة زائلة ، وإما بلية نازلة ، وإما مصيبة موجعة ، وإما منية مفجعة .

وقال آخر:

صاحب الدنيا في حرب ، يكابد الأهواء لتقدح، والجهالة لتقمح،والأرواع لتندفع، والآمال لتنال ، والمكروه ليزال ، وبعض ذلك عن بعض

ص: 61

شاغل ، والمشغل عنه ضائع ، فلما رأى الحكماء أنه لا سبيل إلى إحكام ذلك تركوا ما يفني ليحرزوا ما يبقي.

فصل في ذكر الأمل.

روى أن اللهتعالى قال:

يا ابن آدم يأتي رزقك وأنت تحزن، وينقص من عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك ، وعندك ما يكفيك.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من كان يأمل أن يعيش غداً ، فإنه يأمل أن يعيش أبدا. وقال بعضهم:

الآمال لا تنتهي ، والحي لا يكتفي.

وقيل: ما أطاع عبد أمله ، إلا قصر عمله .

وقال آخر: لا يلهك الأمل الطويل عن الأجل القصير .

وقال آخر:

من جرى في عنان أمله (1) عثر بأجله .

وقال آخر:

إنك إذا أدركت أملك قربك من أجلك ، وإذا أدركك أجلك لم تبلغ أملك.

لابن الرومي (2)

ص: 62


1- في الأصل (عمله) وهذه الكلمة للإمام علي (ع) انظر : نهج البلاغة ص567 رقم 18.
2- ابن الرومي هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريح وقيل جرجیس ولد سنة (221ه) وتوفي سنة (283 أو 284 ه) وقيل بل في سنة (276 ه). وهو من الشعراء الموهوبين المبدعين وكان یتشيع وقصيدته الجمية في رثاء يحيى العلوي شاهد على ذلك. والأبيات التي ذكرها المؤلف هي من قصيدته التي جرى فيها مجری لزوم ما لا يلزم التي يقول فيها : لهفي على الدنيا وهل لهفة*** تنصف منها إن تلهفتها کم آهة لي قد تأوهتها*** فيها ومن اف فأففتها أغدو ولا حال تسنمتها ***فيها ولا حال تردفتها

خمسون عاماکنت آملها*** كانت أمامي ثم خلفتها

كنز حياة لي أنفقته ***على تصاريف تطرفتها

لو كان عمري ماية هدني*** تذكري أني تسوفتها

فصل في ذكر الموت.

روي أنه كان في التوراة مكتوباً :

يا بن آدم. لا تشتهي حتى تموت حتى تتوب ، وأنت لا تتوب حتى تموت .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير.

وقال بعضهم:

لو رأيتم الأجل ومسيره، ولأبغضتم الأمل وغروره .

وأنشد :

نراع لذكر الموت ساعة ذكره*** فتعترض الدنيا فنلهو ونلعب

وقيل :

إن امرءاً آخره الموت لحقيق أن يخاف ما بعده .

وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام، ، سمع إنسانا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال :

قولنا (أنا لله) إقرار منا له بالملك ، وقولنا (وإنا إليه راجعون) إقرار على أنفسنا بالهلك (1).

ص: 63


1- هذه الكلمة من كلمات الإمام علي (ع) المروية في نهج البلاغة من باب المختار من حكمه رقم (99) ص 582 وأنظر : تحف العقول ص 145.

وقيل:

إن من عجائب الدنيا ، أنك تبكي على من تدفنه، وتطرح التراب على وجه من تكرمه.

[قال] أبو نؤاس :(1)

غر جهولا أمله*** يموت من جا أجله

ومن دنا من يومه*** لم تغن عنه حیله

وكيف يبقي آخر *** قد مات عنه أوله

لا يصحب الإنسان من ***دنياه إلا عمله

[قال] أبو ذؤيب :(2)

وإذا المنية أنشبت أظفارها***ألفيت کسل تميمة لا تنفع

غيره:

ننافس في الدنيا ونحن نعیبها*** وقد حذرتناها لعمري خطویها

وما نحسب الساعات نقطع مدة ***على أنها فينا سريع دبيبها

كأني برهطي يحملون جنازتي ***إلى حفرة یحثي علي كثيبها

وباكية حري تنوح وأنني*** على غفلة من صوتها لا أجيبها

ص: 64


1- هو أبو علي الحسن بن هاني بن عبد الأول من الصباح الحكمي ، كان جده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان ، ونسبه إلى مولاه المذكور ، ولد أبو نؤاس سنة 141 ه وتوفي سنة 195 او 197 أو 198 ه، وهو من مشاهير الشعراء المجيدين وخاصة في الخمريات والغزل. وهو معدود في شعراء الشيعة وله مدائح في أهل البيت عليهم السلام.
2- أبو ذؤيب هو خویلد بن خالد بن محرث بن مخزوم ينتهي نسبه إلى نزار ، وقد أدرك الجاهلية والإسلام ، وعاش إلى أيام عثمان بن عفان وخرج غازياً لأفريقية مع عبد الله بن أبي سرح ومات في مصر والبيت هو من قصيدة قالها في رثاء أولاده الخمسة الذين هلكوا في عام واحد، وهي قصيدة جيدة طويلة أولها: أمن المنون وريبها تتوجع ***والدهر ليس بمعتسسب من يجزع

أيا هادم اللذات ما منك مهرب ***يحاذر نفسي منك ما سيصيبها

رأيت المنايا قسمت بين أنفس ***ونفسي سيأتي بعد ذاك نصيبها

لأبي إسحاق الصابي(1) من قطعة كتبها إلى الشريف الرضي أبي الحسن الموسوي ، وهو هذا:

وإني على عيب الردى في جواني *** وما كف من خطوي وبطش بناني

وإن لم ي دع إلا فؤاداً مروعاً*** به غیر بات من الخفقان

تلوم تحت الحجب تنقب حكمة*** إلى أذن تصغي لنطق لساني

لأعلم أني میت عاق دفنه ***دماء قليل في غد هو فان

وإن فما لأرض غرثان حائماً*** یرااصد من أكلي حضور أوان

به فترة عم الوری لفجائع ***تركن فلانا ثاكلاً لفلان

غداً فاغراً يشكو الطوى فهو راتع*** وما تلتقي يوماله شفتان

وكيف وحد القوت منه فناونا ***وما دون ذاك الحد ردعیان

ص: 65


1- هو ابراهيم بن هلال بن هارون الحراني الصابئي ، من ألمع الأدباء المشاهير في العصر العباسي ، ومن الكتاب المهرة البلعاء وقد أطراه كل من عرض لترجمته ونعته بصفات عالية . وتوفي عام (384ه) وكان صديقا حميما للشريف الرضي ، حتى أن الشريف رثاه بعد موته بقصيدة دالية معروفة أولها : أعلمت من حملوا على الأعواد*** أرأيت كيف خبا ضياءالنادي

إذا عاصيا بالنسك ممن يعوله ***فلا أولا منه بمهلك ثان؟

إلى ذات يوم لا ترى الأرض وارثا*** سوى الله من إنس تراه وجان

لغيره :

فكم من صحیح بات للموت آمناً*** أتته المنايا رقدة بعدما هجع

فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ***فرارا ولا منه بحيلة انتفع

فأصبح تبكيه النساء مكفناً ***ولا يسمع الداعي إذا صوته رفع

وقرب من لحسد فصار مقيله *** وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع

(فصل في ذكر الموت والقتل وما بينهما)

اشارة

أعلم أن الموت غير القتل ، والذي يدل على أنها غيران ، قول الله عز وجل (إِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ) آل عمران: (144)

وقوله تعالى :

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ ) آل عمران: (158)

وقوله سبحانه :

( مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) آل عمران: (156)

وليس يجوز أن يكون التأكيد والتكرير في اللفظين یرجعان إلى معنی واحد.

ويدل على ذلك أيضا ، العلم بأن الله سبحانه ليس بقاتل لمن مات حتف أنفه.

ص: 66

ولو قال قائل في ميت أن الله قتله لأعاب العقلاء عليه.

والموت والقتل عرضان ، وليسا بجسمين.

وقد قال شيخنا المفيد رضي الله عنه (1):

إن القتل متولد عن الأسباب، ومحله محل حياة الأجسام، والموت معنی يضاد حياة الفاعل المخلوق ، ولا يصح حلوله في الأجسام.

قال :

وهذا مذهب يختص بي .

والقتل عند جميع أهل العدل من مقدورات العباد ، والموت لا يقدر عليه أحد إلا الله .

(تأويل آية)

إن سأل سائل عن قول الله سبحانه:

«وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»(2) التكوير:8-9.

فقال : كيف يصح أن يسأل من لا عقل له؟ وأي فائدة في سؤالها عن ذلك ولا ذنب لها؟ وما المؤودة؟ ومن أي اشتقاق هذه اللفظة ؟

جواب

قلنا في قوله تعالى (سُئِلَتْ) وجهان :

ص: 67


1- هو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي العكبري البغدادي ، ولد عام (336 أو 338ه وتوفي 413ه). وهو من أعمدة الشيعة في العلم والكلام والفقه والآثار، وأكبرشخصية شيعية علمية في القرن الرابع الهجري في الكلام والمناظرة. و شیعه یوم وفاته ثمانون ألفا. وقال عنه ابن حجر العسقلاني : « برع في العلوم حتى كان يقال : له على كل إمام منة ». و مؤلفاته قد تجاوزت المأتي كتاب في مختلف المواضيع العلمية ، ولا يزال بعضها حياً إلى اليوم، وقد طبع شيء منها وقد كتبنا عنه دراسة مسهبة في كتابنا « فلاسفة الشيعة» ص (454-469) فراجع
2- أنظر الكلام على هذه الآية في أمالي المرتضی م2 ص 279 - 282.

أحدهما : أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها ، وسئل عن سبب قتله لها ، وبأي ذنب قتلها ، وذلك على سبيل التوبيخ والتعنيف ، وإقامة الحجة.

فالقتلة ههنا هم المسؤولون على الحقيقة ، لا المقتولة مسؤول عنها .

ومثله قوله تعالى :

«وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»الأسراء 34

أي مطالباً به و مسؤولا عنه.

والوجه الآخر : أن يكون السؤال توجه إلى المؤودة على الحقيقة ، توبيخاً لقاتلها ، وتقريعاً له ، على أنه لا حجة له في قتلها .

ويجري هذا مجري قوله تعالى لعيسى عليه السلام:

«أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ »المائدة 116 على طريق التوبيخ لقومه ، وإقامة الحجة عليهم.

فإن قيل : على هذا الوجه كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟

فالجواب: إن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت القائل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الموقف على طريق العقاب ، لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من المؤودة فهم. لأن الخطاب وإن توجه إليها ، فالغرض في الحقيقة به غيرها .

وهذا يجري مجرى رجل ضرب ضارب طفلا له من ولده ، فأقبل الرجل على ولده يقول له: لم ضربت؟ وما ذنبك؟ وبأي شيء استحل هذا منك؟ وغرضه تبكيت الظالم لاخطاب الطفل .

وفي الناس من قال:

إن توجه السؤال إلى المؤودة وإن كان الغرض فيه تبكيت القاتل ، فإنه لا يكون إلا والمؤودة قد أكملت لها العقل و جهلت على أفضل الهيئات ، لأنها في القيامة تعوض عما نالها بالنعيم الدائم ، فلابد من إكمال عقولها ، لتعرف عدل الله

ص: 68

تعالى ، ويحسن التذاذها بما وصل إليها . فليس يتوجه السؤال إليها إلا وهذه حالها.

وقد روي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعن ابن عباس رضي الله عنه ، عنها وعن غيرهما ، أنهم قرأوا :

(إذا المؤودة سألت) بفتح السين والهمزة وإسكان التاء ( بأي ذنب قتلت) باسكان اللام وضم التاء الثانية ، فكانت المؤودة والقائلة .

وإما المؤودة فهي المقتولة صغيرة.

وكانت العرب في الجاهلية تدفن البنات أحياء ، وهو قوله :

« أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»النحل : 59

وهوقوله عز وجل :

«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ » الأنعام: 140

ويقال : أنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين:

أحدهما : أنهم كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات بالله ، فهو أحق بالبنات.

والأمر الآخر:

أنهم كانوا يقتلونهم خشية الإملاق ، قال الله عز وجل :

«لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا» الإسراء : 31

(فصل في معرفة الإسم والصفة)

اشارة

اعلم أن الإسم غير المسمى ، والصفة غير الموصوف.

والاسم والصفة جميعاً لا يكونان إلا قولا (1) من المسمي والوصف، أو كتابة يدل على ما يدل عليه القول.

ص: 69


1- يعني أن الاسم والصفة هما لفظان مأخوذان اشتقاقاً من المسمى والوصف.

والاسم في الحقيقة ما دل على المسمى ، والصفة ما دل على معنى في المسمى .

وفي هذا اللفظ تجوز ، لأنها تعطي الظرفية والحلول. وربما كان الموصوف غير ظرف ولا محل .(1)

وأقرب من هذا أن يقال:

إن الصفة ما أفادت أمراً يكون في الموصوف عليه .

وإنما افتقر المتكلم إلى استعمال هذه الألفاظ لضيق العبارات عن استيفاء المعاني ، فإذا فهم من اللفظ الغرض جاز استعماله.

فالاسم قولنا: زید وعمرو ونحو ذلك، مما وسمت به الأشخاص، وحصل لها ألقابا تتخصص بها عند الإشارات، وليست دالة على معنى في الموصوف، ولا مفيدة أمرا هو عليه.

والصفة قولنا : قادر و عالم ونحو ذلك، مما يدل على أمور يكون الموصوف عليها.

فقولنا : قادر يفيد جواز وقوع الفعل منه ، وقولنا عالم يفيد صحة وقوع الفعل المحكم منه.

فإن انكشف لنا الإعتبار عن خروج الموصوف عن هاتين الصفتين إلى ضدهما، حتى يتعذر وقوع الفعل منه ، ويستحيل حصول الفعل المحكم المتقن منه ، في ذاك إلا لأن فيه معنيين حالين، وهما القدرة ، والعلم ، وبوجودهما صح منه فعل المحكم المتقن ، وهما عرضان متغايران ، وضداهما العجز والجهل، ولا يكون هذا إلا والموصوف محدث، وليس القدرة والعلم صفتين للقادر والعالم ، وإنما الصفة قول الواصف: هذا قادر وهذا عالم ، أو كتابته الدالة على ذلك.

وكذلك ليس السواد بصفة للأسود ، وإنما صفته قولنا : هذا أسود، ومن خالف في هذا فقد غلط

ص: 70


1- کما إذا كانت الصفة صادرة عن الموصوف لا قائمة فيه كالقتل والضرب وسائر الأفعال الصادرة عنه ، ولم يكن محلا لها.

إلا أن يقال: إن العلم للعالم ، والسواد للأسود على وجه التوسع في الكلام،فذلك جائز.

وإن كشف لنا الإعتبار عن استحالة خروج الموصوف عما وصف به ، وبطلان وصفه بضده فما ذاك إلا لأنها صفات نفسية . ولهذا قلنا: إن الله قادر وعالم لنفسه ، وأنه لاعلم ولا قدرة في الحقيقة له ، لاستحالة خروجه من جواز وقوع الفعل المحكم المتقن منه.

فالمعاني التي دلت الصفات عليها هي ما استفدناه من حال الموصوف .

وقد ظنت المجبرة أن الصفة غير الوصف، وقالوا : إن الصفة معنى قائم بالموصوف، والوصف هو قول الواصف، وهذا فاسد ، والصفة هي الوصف ، وهما مصدران لفعل واحد.

تقول: وصف يصف صفة ووصفاً ، وهذا كالوهب والواهب والهبة ، والوعدوالعدة. تقول: وهب يهب هبة ووهباً ، ووعد يعد عدة ووعداً.

أسماء الله وحقيقتها

فصل في معرفة أسماء الله تعالى وحقيقتها .

فأما أسماء الله تعالى كلها فعائدة إلى الصفات، لأنها دالة على معان ، و متضمنة لفوائد ، وليس فيها إسم يخلو من ذلك. ويجري مجرى اللقب ، إنما وضع على شخص تقع الإشارة إليه ، ليفرق

بينه وبين ما شاركه في جنسه من الأشخاص المتماثلة.

ولما كان الله تعالى يجل عن المجانسة ويرتفع عن المماثلة ، استحال أن يكون في أسمائه لقب ، ووجب أن يكون جميعها مفيداً للمعاني ، كما تفيد الصفات.

فأما التسمية له تعالى (بالله) فإنه يفيد من المعنى وله العباد إليه ، وتعلق نفوسهم به ، ورغبتهم عند الشدائد في إزالة المكروه إليه.

وقد روي عن الصادق عليه السلام في هذا المعني مثل ما ذكرناه في الحقيقة ، وإن خالفه في بعض اللفظ.

ص: 71

فروي عنه أنه قال:

الإله يقتضي والها، والواله لابد له من مألوه. والإسم غير المسمى .(1)

والأصل في قولنا: الله. إلاه، ثم دخلت الألف واللام للتعريف ، فصار الإله ، فاسقطت الهمزة الثانية تخفيفا ، وجعلت اللامان لاماً واحدة مشددة، فقيل : الله.

فأما التسمية له بالرحمن الرحيم فهو أن الرحمن مشتق من فعل الرحمة على سبيل المبالغة في الوصف ، لوقوعها في الفعل على حد لا يصح وقوعها عليه من أحد من الخلق.

وقد روي عن الباقر (2) عليه السلام صحة ذلك ، فقال :

الرحمن لسائر الخلق، الرحيم بالمؤمنين .

فكان أحد الإسمين مشتق من عموم الرحمة ، وهو الرحمن. والآخر من خصوصها وهو الرحيم.

فأما تسميته باللطيف فيفيد اجتماع الحكمة والرحمة ، ونفوذ مراده إذا شاء وقوعه على الحتم بلطائفة التي يلطف بها لخلقه ، على العلم بمصالحهم.

وهذا معروف في اللسان. تقول العرب! فلان لطيف في أمره، وفلان لطيف في صنعته ، إذا أرادوا وصفه بالحكمة في تدبيره .

وأما الخبير فيفيد علمه بالأشياء على حقائقها ، وتبينه لها على أوصافها .

وأما الكريم فهو مشتق من فعل الكرم ، وهو التفضل بالنعم، والصفح عن الذنوب ، والتطول بالمنن.

ص: 72


1- الحديث المروي عن الصادق عليه السلام هكذا بعد أن سأله هشام بن الحكم عن أسماء الله واشتقاقاتها قال: الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمى، فمن عبد الإسم والمعنى فقد اشرك وعبد الإثنين، ومن عبد المعني دون الاسم فذاك التوحيد. أنظر توحيد الصدوق ص219.
2- هو الإمام محمد بن علي الباقر خامس الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ولد عام (57ه) وتوفي عام (14 1ه)

وأما الجواد فهو مشتق من الجود، وهو التفضل كما ذكرناه في معنى الكرم ، غير أن لفظه أبلغ في الوصف في معنى الكرم من لفظ كريم .

وأما الغني فيفيد القدرة على ما يريد من غير معين عليه ، وليس تستحق هذه السمة مع الله عز وجل على الحقيقة غيره ، ومن وصف بها من المخلوقين فعلى سبيل الاتساع.

وأما السخي فمعناه عند من حقق إطلاقه على الله سبحانه ، بذل النعم والتفضل بها.

وقد أبت جماعة من أهل التوحيد إطلاق السخاء على الله تعالى ، لأنه لم ينقطع عذري (1) بكتاب منزل ، ولا سنة متواترة، ولا إجماع ، ولا أثر مستفیض جاء عن الصادقين عليهم السلام في تسمية الله تعالى بالسخاء، وليس له معنى تدل عليه العقول.

وقد ذكر بعض أهل التوحيد العارفين باللغة : أنه مأخوذ من السخاوة ، وهي الأرض الرخوة .

وقد ثبت أن الأسماء لا تؤخذ إلا سماعاً ، فلهذا وقفت ولم أقدم .

وأما قولنا : رب مأخوذ من التربية ، ثم نقل إلى الملك.

وقولنا مالك مشتق من الملك

وجميع ما سوى هذا، مما سمي الله تعالى به نفسه فصفات مفيدة لمعان ، يفهم ذلك من تأمله .

(فصل في تمييز صفات الله تعالی)

اشارة

اعلم أن جميع ما يوصف به على حقيقة، والمراد به معنى الوصف. وقسم يوصف به مجازاً واتساعاً ، والمراد به غير حقيقة ذلك الوصف . وصفات الحقائق تنقسم أيضا قسمين:

ص: 73


1- هكذا وردت في الأصل ، ولعل الأصوب (عذرهم)

فقسم صفات ذاتية ، وهي التي لم يزل عليها ، ولا يزول عن استحقاقها .وقسم صفات أفعال ، وهي التي تجددت عند فعله الأفعال، ولا يصح أن يقال أنه عليها فيما لم يزل.

بیان صفات الذات، والدليل عليها :

وهي قولنا :

حي، باق ، وقادر ، وعالم ، وكذلك موجود ، وقديم. فهذه الصفات استحقها لنفسه لا لمعنى آخر .

والدليل على ذلك: أنه لو كان حيا بحياة، وباقياً ببقاء ، وقادراً بقدرة ، وعالماً بعلم ، كان حياته ، وبقاؤه، وقدرته ، وعلمه ، لا يخلو عن حالين:

إما أن تكون معاني قديمة معه ، وإما أن تكون حادثة.

فلو كانت قديمة لشاركته في أخص صفاته ، وماثلته ، فيبطل التوحيد .

وقد تقدمت الأدلة على صحته.

وأيضا فلو ماثلت الصفة الموصوف لم تكن صفة له بأولى من أن يكون هو صفة لها.

وإن كانت هذه المعاني الموصوف بها ، أعني الحياة والبقاء والقدرة ، والعلم ، حادثة ، وجب أن يكون قبل حدوثها غير مستحق للوصف بها.

وقد ثبت الأدلة (1) على انه سبحانه لم يزل حیا، باقياً ، قادراً ، عالماً . ولو كانت أيضا حادثة ، لم يكن لها غناء عن محدث أحدثها .

ولا يصح أن يكون محدثاً غيره تعالى ، لأنه الفاعل الأول، والقديم الذي لم يزل، فكيف يفعل الحياة لنفسه من ليس بحي ؟ أو يحدث القدرة من ليس بقا در .

والعاقل يعلم أن هذا مستحيل باطل .

ص: 74


1- الأولى ثبت بالأدلة بزيادة الباء

فعلم أنه حي وباق وقادر و عالم لنفسه لا لمعان غيره .

وربما أطلق اللفظ إتساعاً بأن له قدرة وعلماً ، قال (1) الله سبحانه كذا ، والمعنى أنزله وهو عالم به ، ويقول المتكلمون: قدرة الله عظيمة، والمعنى التعظيم لمقدوره، وأنه لايعجزه شيء أراده .

فأما عند التحقيق فهو قادر عالم لنفسه.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في كلام له : وجد الله تعالى وليس بينه وبين معلومه علم غيره ، به كان عالما بمعلومه . وهذا القول عنه عليه السلام (2) أنه تعالى عالم لنفسه وذاته ، وأنه لا علم في الحقيقة له، تعالى الله الذي ليس كمثله شيء.

وقد ذهب المجبرة إلى أن الله تعالی موصوف بصفات قديمة معه ، وأنها ليست غيره، ولا بعضها غير بعض.

وهذا خروج عما يعقل ويفهم، لأن العقول شاهدة بأن الأشياء التي يقع عليها العدد ، ويشملها الوجود، ويختص كل منها بدلیل ، لا تكون إلا غیارا (3) بعضها سوى بعض.

وقد قال لهم أهل العدل!

إذا كانت الله تعالی صفات قديمة ، وليست غيره ، بقولها: إنها ، أو هي هو، فأن العقل يقضي بأنه لا بد لكم في إثباتكم من أحد هذه الثلاثة الأقسام

قالت المجبرة:

كل واحد من هذه الثلاثة الأقسام قد ثبت الدليل على بطلانه ، فلا سبيل إلى قوله.

ولكنا نقول: ليست الصفات عين الموصوف ، ولا غيره ، ولا بعضه .

ص: 75


1- ربما سقطت من الناسخ كلمة وقيل : فيصح الكلام هكذا وقيل قال الله ...
2- في الأصل تکرير أنه ويحتمل سقوط كلمة (يعني) أو ما يماثلها .
3- يعني بها المغايرة.

فقال لهم أهل العدل:

وقد هربتم من أن تقولوا بأحد هذه الأقسام لبطلانه ، وصرتم إلى إدعاء ما لا تتصور العقول صحته ، بل يشهد بفساده وبطلانه ، فأخبرونا ما الفرق بينكم في قولكم إن صفاته لا هي هو، ولا غيره ، ولا بعضه.

قالت المجبرة: هذا القول مناقضة.

قالت العدلية :

وقولكم في التناقض مثله ، وأي شيء أردتموه في إبطال ما عارضناكم به،فقولكم يبطل بمثله.

وقد قالت المجبرة أيضا في نصرة مذهبها :

إنا لم نر عالماً إلا وله علم، ولا قادراً إلا وله قدرة، فلما كان الله عالماً فادراً ، وجب أن يكون له علم وقدرة .

قال لها أهل العدل:

إنكم إنما عولتم في ذلك على الشاهد ، فقولوا إن علم الله تعالى غيره ، وكذلك قدرته غيره. لأنكکم لم تروا في الشاهد عالماً وقادراً إلا وهذا حكمه ، وقولوا أيضا إن علم الله تعالی محدث، وكذلك قدرته وجميع صفاته ، لأنكم لم تروا ذات صفات إلا وصفاته محدثة ، فاحتالوا في الخلاص مما لزمكم على سنن قیاسكم.

بیان صفات الأفعال

اعلم أن صفة الفعل هي كل صفة داخلة في باب المضاف ، ومعنى ذلك أن يكون يقتضي وجود غير الموصوف، كقولنا آله، ورب، ومالك، وفاعل ، وجواد ، ورزاق ، وراحم ، ومتکلم، وصادق ، ونحو ذلك.

لأنا قد بينا أن الإله، والة، والواله لا يكون إلا موجوداً، والرب يقتضي مربوباً ، وكذلك مالك يقتضي وجود المملوك ، لانه لا يقال قد ملك المعدوم ، وفاعل صفة ، لا شبهة في أنها لا تصح إلا إذا وجد المفعول. نعوذ بالله من القول

ص: 76

بان القديم لم يزل فاعلا ، لأن ذلك يقتضي أنه لم يتقدم أفعاله ، فيصير الفاعل قديما ، وجميع صفات الأفعال جارية هذا المجرى لمن تأملها .

ألا ترى: لو قلنا إنه جواد فيما لم يزل ، اقتضى ذلك فعله للجود فيما لم يزل ، ووجود من يجود عليه أيضا فيما لم يزل.

وكذلك قولنا : متکلم يقتضي وجود کلام إذا تكلم ، فكلام الله تعالى أحد أفعاله ، كما أن رزقه أحد أفعاله ، وهو موجود قبل كلامه.

فأما صادق فلا يصح إلا بعد صحة التكلم ، والجميع صفات أفعالي على ما تبين.

(فصل في فروق صفة الذات وصفة الفعل)

اشارة

الفروق بينها كثيرة:

فمنها أن تنظر الصفة التي تصف الله تعالى بها ، فإن كانت داخلة في باب المضاف ، فهي نفسية ، كقولنا موجود ، وقديم ، وباق وحي.

وكذلك إن كانت تقتضي إضافته إلى أمر غير موجود ، كقولنا: قادر ، فالقادر لا يكون إلا على مقدور ، ولكن المقدور غير موجود.

ويجري مجرى ذلك قولك : عالم ، لأنه لا يكون عالماً إلا بمعلوم، وقد يصح أن يكون المعلوم معدوماً غير موجود.

فأما ما سوى ذلك من الصفات الداخلة في باب المضاف المقتضية إثبات غير الموصوف مما يكون موجوداً غير معدوم ، فكلها صفات أفعال .

فرق آخر:

ومنها أن كل صفة تصف الله تعالى بها ، ولا يجوز أن يدخلها التخصيص ، فتثبتها له في حال ، وتنفيها منه في أخرى فهي صفة نفسية ، كقولك : موجود ، وحي ، وقادر ، وعالم ، فإنه لا يجوز أن ينتفي عنه ولا يتخصص شيء من ذلك .

وكل صفة تصفه بها ، ويجوز التخصيص فيها ، فتثبتها في حال ، وتنفيها عنه

ص: 77

في غيرها فهي صفة فعل. كقولك : فاعل ، وراحم ، ورازق ، ومتکلم ، فإنك تقول: إنه سبحانه يفعل الخير ولا يفعل الشر ، ويرحم المؤمن ولا يرحم الكافر ، ويرزق زيداً ولا يرزق عمراً، وكلم الله موسى ، ولم يكلم فرعون. فيكون فيها صفات أفعال ، صح فيها التخصيص، وهذا واضح.

فرق آخر:

وهو أن كل ما استحال أن يوصف بالقدرة عليه وعلى ضده فهو من صفات ذاته.

ألا ترى أنه يستحيل قولك: يقدر أن يحیي ويقدر على الإحياء ، ويقدر على ان لا يقدر .

ويقدر على أن يعلم ، ويقدر على أن لا يعلم ، فهذه صفات ذاته .

فأما إن كان ما يوصف به يصح أن يوصف بالقدرة عليه وعلى ضده فهو من صفات الأفعال.

ألا ترى أنك تقول : يقدر أن يفعل ، ويقدر أن لا يفعل ، ويقدر أن يرحم ويرزق، ويقدر أن لا يرحم ولا يرزق ، ويقدر أن يتكلم، ويقدر أن لا يتكلم ، فهذه كلها صفات أفعال، فافهم ذلك .

بیان صفات المجاز:

فأما الذي يوصف الله تعالی به ومرادنا به غير حقيقة الوصف في نفسه ، فهو كثير ، فمنه مريد وكاره وغضبان وراض ومحب ومبغض و سمیع و بصیر وراء ومدرك ، فهذه صفات لا تدل على وجوب صفة يتصف بها، وإنما نحن متبعون للسمع الوارد بها، ولم يرد السمع إلا على مجاز اللغة واتساعاتها ، والمراد بكل صفة منها غير حقيقتها .

القول في المريد

أعلم أن المريد في الحقيقة والمعقولة هو القاصد إلى أحد الضدين اللذين خطرا بباله الموجب له بقصده وايثاره دون غيره .

ص: 78

وهذا من صفات المخلوقين التي تستحيل أن يوصف في الحقيقة بها رب العالمين. إذ كان سبحانه لا يعترضه الخواطر ، ولا يفتقر إلى أدني روية وفکر ، إذ كان هذا على ما بيناه ، فإنما معنى قولنا : إن الله تعالى مريد لأفعاله ، أنها وقفت وهو عالم بها غير شاغلة ، ولا هو موجوداً لمسبب وجب من غيره مريدا له. فصح إذا أردنا أن نخبر بأن الله تعالى يفعل لا من سهو ولا غفلة ولا بايجاب من غيره ، أن تقول هو مريد لفعله ، ويكون هذا الوصف استعارة ، لأن حقيقته كما ذكرناه لا يكون إلا في المحدث.

دلیل

والذي يدل على صحة قولنا في وصف الله تعالى بالأرادة ، أنه سبحانه لو كان مريدا في الحقيقة لم تخل الأمر من حالين:

إما أن يكون مريدا لنفسه ، لوجب أن يكون مريدا للحسن والقبح، كما أنه لو كان عالما لنفسه كان عالما بالحسن والقبح. وإرادة القبح لا تجوز على الله سبحانه .

والكلام في هذا يأتي محرراً على المجبرة في خلق الأفعال.

فإذا ثبت أن الله عز وجل لا يجوز أن يريد المقبحات علم أنه غير مرید لنفسه .

وإن كان مريداً بإرادة، لم تخل الإرادة من حالين:

إما أن تكون قديمة ، أو حادثة.

ويستحيل أن تكون قديمة ، بما بيناه من أنه لا قديم سواه عز وجل .

والكلام على المجبرة في هذا داخل في باب نفي الصفات التي أدعت المجبرة أنها قديمة مع الله تعالى.

وأيضا فلو كان الله سبحانه مريدا فيما لم يزل، إما لنفسه وإما بإرادة قديمة معه ، لوجب أن يكون مراده فيما لم يزل، لأنه لا مانع له ما أراده ، ولا حائل بينه وبينه، ولكان ما يوجده من الأفعال لا تختلف أوقاته، [ولا] يتأخر بعضه عن بعض ، لأن الإرادة حاصله موجدة في كل وقت ، وهذا كله موضح أنه عزوجل ليس بمريد فيما لم يزل، لا لنفسه ولا لإرادة قديمة معه.

ص: 79

وإذا بطل هذا لم يبق إلا أن يكون مريداً بعد أن لم يكن مريدا بإرادة محدثة ، وهذا أيضا يستحيل ، لأن الإرادة لا تكون إلا عرضاً ، والعرض يفتقر إلى محل ، والله تعالي غير محل للأعراض، ولا يجوز أن تكون إرادته حالة في غيره ، كما لا يجوز أن يكون عالما بعلم يحل في غيره ، وقادراً بقدرة تحل في غيره .

ولا يجوز أيضا أن تكون لا فيه ولا في غيره ،(1) لأنه عرض ، والعرض يفتقر إلى محل يحملها ، ويصح بوجوده وجودها.

ولو جاز أن توجد إرادة لا في مريد بها، ولا في غيره، لجاز أن توجد حركة لا في متحرك بها ولا [ في ] غيره .

فإن قيل أن الحركة هيئة للجسم، وليس يجوزان تكون هيئة غير حالة فيه.

قلنا : ولم لا يجوز ذلك ؟

فإن قيل: لأن تغيير هيئة الجسم مدرك بالحاسة ، فوجب أن يكون المعنى الذي يتغير به حالا فيه.

قلنا : وكذلك المريد للشيء بعد أن لم يكن مريداً له ، قد يتغير عليه حس نفسه ، فوجب أن تكون إرادته تحله.

فإن قيل: أي شيء من الحواس تحس الإرادة؟

قلنا: وبأي شيء يحس الصداع؟

فإن قيل: إن الإنسان يدرك ألم الصداع في موضعه ضرورة.

قلنا : فلم نركم أشرتم إلى حاسة بعينها أدركه بها؟

ولنا أن نقول: وكذلك المريد في الحقيقة ، يعلم بتغير حسه ، ويدرك ذلك من نفسه ضرورة.

ص: 80


1- وقد ذهب هشام بن الحكم إلى أن صفات الله ليست هي هو ولا غيره تبعا للجهم بن صفوان ، واستدل لهذا الرأي بأن حدوث الصفة في ذاته يلزم منه التغير في ذاته وان يكون محلا للحوادث، وإن حدثت الصفة في محل فیکون الموصوف بالعلم مثلا هو ذلك المحل لا الباري تعالى وقد شرحنا ذلك في كتابنا «هشام بن الحكم» فراجع

(فصل) من كلام شيخنا المفيد رضي الله تعالى عنه في الإرادة .

قال: الإرادة من الله جل إسمه نفس الفعل ، ومن الخلق الضمير وأشباهه ،مما لا يجوز إلا على ذوي الحاجة والنقص.

وذاك أن العقول شاهدة بأن القصد لا يكون إلا بقلب ، كما لا تكون الشهوة والمحبة إلا لذي قلب ، ولا تصح النية والضمير والعزم إلا على ذي خاطر ، يصور معها في الفعل الذي تغلب عليه الإرادة له ، والنية فيه والعزم .

ولما كان الله تعالى يج عن الحاجات ، ويستحيل عليه الوصف بالجوارج والآلات، ولا يجوز عليه الدواعي والخطرات، بطل أن يكون محتاجاً في الأفعال إلى التصور والعزمات، وثبت أن وصفه بالإرادة مخالف في معناه لوصف العباد، وأنها (1) نفس فعله الأشياء، وإطلاق الوصف بها عليه مأخوذ من جهة الإتباع (2) دون القياس ، وبذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى عليهم السلام.

قال شيخنا المفيد رحمه الله :

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه (3) عن محمد بن يعقوب الكليني

عن أحمد بن ادريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى قال:

قلت لأبي الحسن عليه السلام (4):

«أخبرني عن الإرادة من الله تعالى ومن الخلق .

فقال: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم من الفعل ، والإرادة من الله تعالى إحداثه الفعل لا غير ذلك ، لأنه جل اسمه لا يهم ولا يتفکر » .(5)

ص: 81


1- في الأصل وإن بها نفس فعله، وصوبناه لما ذكرناه اعتمادا على ما سيأتي .
2- يعني به السماع
3- من علماء الأمامية المحدثين الثقات وهو استاذ الشيخ المفيد ، له مؤلفات منها (کامل الزیارات) توفي عام 368 أو 367 ه.
4- هو الإمام موسی بن جعفر عليه السلام المتوفي سنة 183 ه وقيل بل 186 ه.
5- روى الصدوق المتوفي عام 381 ه هذا الحديث في كتابه « التوحيد» مع تغيير في بعض ألفاظه لا تؤثر في روح الحديث.

قال شيخنا المفيد رحمه الله :

وهذا نص من مولانا عليه السلام على اختياري في وصف الله تعالى بالإرادة ، وفيه نص على مذهب في آخر منها ، وهو : أن إرادة العبد تكون قبل فعله ، وإلى هذا ذهب البلخي (1).

والقول في تقدم الإرادة للمراد كالقول في تقدم القدرة للفعل ، وقول الإمام عليه السلام في الخبر المقدم أن الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم من الفعل صريح في وجوب تقدمها للفعل ، إذ كان الفعل يبدو من العبد بعدها ، ولو كان الأمر فيها على مذهب الجبائي لكان الفعل بادياً في حالها ، ولم يتأخر بدوه إلى الحال التي هي بعدها لها.

فصل: اعلم أنا نذهب إلى أن الإرادة تتقدم المراد كتقدم القدرة للمقدور ، غير أن الإرادة موجبة للمراد ، والقدرة غير موجبة للمقدور ، والإرادة مما لا يصح أن يفعل الشيء فضده بدلا منه ، والجميع (2) أعراض لا يصح بقاؤها .

« فصل من القول في أن الإرادة موجبة »:

هو أن الحي متى فعل الإرادة لشيء ، وجب وجود ذلك الشيء ، إلا أن يمنعه منه غيره ، فأما أن يمتنع هو(3) من مراده فلا يصح ذلك.

ومن الدليل على صحة ما ذكرناه أنه قد ثبت تقدم الإرادة على المراد ، لاستحالة أن يريد الإنسان ما هو فاعل له في حال فعله ، فيكون مريداً للموجود ، كما يستحيل أن يقدر على الموجود . وإذا ثبت أن الإرادة متقدمة للمراد لم يخل أمر المريد لحركة يده من أن يكون واجباً وجودها عقيب الإرادة بلا فصل، أو كان يجوز عدم الحركة ، فلو جاز ذلك لم يعدم إلا بوجود السكون منه بدلا منها .

ولو فعل السكون في الثاني من حال إرادته للحركة لم يخل من أن يكون

ص: 82


1- هو أبو القاسم البلخي وتقدمت ترجمته،
2- في النسخة والجمع.
3- في النسخة كلمة (لا) بعد (هو) وهو غير واضح ولعلها زائدة

فعله بإرادته له أو سهو عنه ، ومحال أن يفعله بإرادة ، لأن ذلك موجب لاجتماع إرادتي الحركة والسكون لشيء واحد في حالة واحدة، ومحال وجود السكون في حال إرادته الحركة ، فيبطل جواز امتناع الإنسان مما قد فعل الإرادة له على ما شرحناه.

مسألة إن قال قائل: إذا كنتم تقولون أن إرادة الله تعالى لفعله هي نفس ذلك الفعل ، ولا تثبتون له إرادة غير المراد ، فما معنى قولكم أراد الله بهذا الخبر كذا، ولم يرد كذا ، وأراد العموم ولم يرد الخصوص ، وأراد الخصوص ولم يرد العموم؟

جواب قيل له معنى ذلك أن في المقدور أخباراً كثيرة عن أشياء مختلفة ، فقولنا أراد كذا ولم يرد كذا ، فهو أنه فعل الخير الذي هو عن كذا ، ولم يفعل الخير الذي هو عن كذا، وفعل القول الذي يفهم منه كذا، ولم يفعل (1) القول الذي يفهم منه كذا.

وهذا كقولنا : إنا إذا قلنا : الحمد لله رب العالمين وأردنا القول كان ذلك قرآنا ، وإذا أردنا أن يكون منا شكر لله تعالى كان كذلك.

فانا لسنا نريد أن قولاً واحداً ينقلب بإرادتنا قرآنا إن جعلناه قرآنا ،ويكون كلامنا إن جعلناه لنا كلاماً ، وإنما معناه أن في مقدورنا كلا مين نفعل هذا مرة وهذا مرة.

فإن قال : فكان من قولكم أن (الحمد لله رب العالمين) إذا أردتم به القرآن يكون مقدوراً لكم.

قلنا: هذا كلام في الحكاية والمحكي ، وله باب يختص به ، وسنورد إن شاء الله تعالى طرفاً منه.

فصل: فأما إرادة الله تعالى لأفعال خلقه فهي أمره لهم بالأفعال، ووصفنا له بأنه يريد منهم كذا إنما هو استعارة ومجاز ، وكذلك كل من وصف بأنه مريد

ص: 83


1- في النسخة (ولم يفهم) وهي خطأ من الناسخ والصواب ما ذكرناه .

لما ليس من فعله تعالى بطريق الإستعارة والمجاز . وقول القائل : يريد مني فلان المصير إليه إنما معناه أنه يأمرني بذلك ويأخذني به ، وأرادني فلان على كذا أي أمرني به ، فقولنا : إن الله يريد من عباده الطاعة إنما معناه أنه يأمرهم بها.

وقد تعبر بالإرادة عن التمني والشهوة مجازاٌ وإتساعاً ، فيقول الإنسان أنا أريد أن يكون كذا أي أتمناه ، وهذا الذي كنت أريد أن يكون كذا أي أتمناه، وهذا الذي كنت أريده أي اشتهيه وتميل نفسي إليه.

والإستعارات في الإرادات كثيرة ، فأما كراهة الله تعالى للشيء فهو نهیه عنه ، وذلك مجاز كالإرادة فاعلمه.

1- القول في الغضب والرضا

وهاتان صفتان لا تصح حقيقتهما إلا في المخلوق، لأن الغضب هو نفور الطباع ، والرضا میلها وسكون النفس ، ووصف الله تعالى بالغضب والرضا إنما هو مجاز ، والمراد بذلك ثوابه وعقابه ،(1) فرضاه وجود ثوابه ، وغضبه وجود عقابه ، فإذا قلنا رضي الله عنه فإنما نعني أثابه الله تعالى ، وإذا قلنا غضب الله عليه فإنما نريد عاقبه الله ، فإذا علق الغضب والرضا بأفعال العبد فالمراد بهما الأمر والنهي ، نقول إن الله يرضى الطاعة بمعني يأمر بها ، ويغضب من المعصية بمعني ينهي عنها .

2- القول في الحب والبغض

وهاتان الصفتان انما يوصف الله تعالى بها مجازاً، لأن المحبة في الحقيقة ارتياح النفس إلى المحبوب ، والبغض ضد ذلك من الأوزاع والتنفر الذي لا يجوز على القديم ، فإذا قلنا إن الله عز وجل يحب المؤمن ويبغض الكافر فإنما نريد بذلك أنه ينعم على المؤمن ويعذب الكافر ، وإذا قلنا إنه يحب من عباده

ص: 84


1- وبهذا المعنى وردت عدة أحاديث منها ما في حديث هشام بن الحكم عن الصادق (ع) : قال (ع) من حديثه : فرضاه ثوابه ، وسخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال ، التوحيد للصدوق ص160).

الطاعة ، ويبغض منهم المعصية جرى ذلك مجرى الأمر والنهي أيضا على المعنى الذي قدمنا في الغضب والرضا .

3- القول في سمیع وبصير

أعلم أن السميع في الحقيقة هو مدرك الأصوات بحاسة سمعه ، والبصير هو مدرك المبصرات بحاسة بصره، وهاتان صفتان لا يقال حقيقتهما في الله تعالى ، لأنه يدرك جميع المدركات بغير حواس ولا آلات، فقولنا : إنه سميع إنما معناه لا تخفى عليه المسموعات ، وقولنا : بصير معناه أنه لا يغيب عنه شيء من المبصرات، وأنه يعلم الأشياء على حقائقها بنفسه لا بسمع وبصر ، ولا بمعان زائدة على معنى العلم:

وقد جاءت الآثار عن الأئمة عليهم السلام بما يؤكد ما ذكرناه .

قال المفيد رضوان الله عليه :

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن ابراهيم بن هاشم عن محمد بن عيسى عن حماد بن حريز عن محمد بن مسلم الثقفي قال: قالت لأبي جعفر الباقر عليه السلام: إن قوما من أهل العراق يزعمون أن الله تعالى سميع بصير كا يعقلونه ، قال : فقال : الله تعالى إنما يعقل ذلك فيما كان بصفة المخلوق، وليس الله تعالی كذلك.

وبإسناده عن محمد بن يعقوب عن علي بن محمد مرسلا عن الرضا عليه السلام: أنه قال في كلام له في التوحيد ، وصفة الله تعالى كذلك : بأنه سميع إخبار بأنه تعالى لا يخفي عليه شيء من الأصوات، وليس على معنى تسميتنا بذلك ، وكذلك قولنا بصير، فقد جمعنا الإسم، واختلف فينا المعنى، وقولناأيضا مدرك وراء لا يتعدی به معنی عالم ، فقولنا راء معناه عالم بجميع المرئيات ، وقولنا مدرك معناه عالم بجميع المدركات، فهذه صفات المجازات والحمد لله .

4- القول في الخالق

اعلم أن حقيقة الخالق في لغة العرب هو المقدر للشيء قبل فعل الرؤى

ص: 85

المفكر فيه ، قال زهير بن أبي سلمي يمدح هرم بن سنان .(1)

ولأنت تفري ما خلقت ***وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

وقال الحجاج بن يوسف (2):

«إني لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فریت .»

والشواهد في هذا كثيرة .

وإذا كان هذا حقيقة الخالق ، أعلم إن وصف الله تعالى به اتساع وتجوز ، والمراد به فاعل ، لأن الله تعالى لا يصح أن يقدر بروي وتفكر .

(فصل في صفة أهل الإيمان)

اشارة

في كتاب المحاسن للبرقي(3) قال مر أمير المؤمنين (ع) بمجلس من مجالس قرش ، فإذا هو بقوم بيض ثيابهم ، صافية ألوانهم، كثير ضحكهم، يشيرون بأصابعهم إلى من مر بهم. ثم مر بمجلس للأوس والخزرج، فإذا هو بقوم بلیت منهم الأبدان ، ورقت منهم الرقاب، واصفرت منهم الألوان، قد تواضعوا بالكلام ، فتعجب أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك ، ودخل على رسول الله

ص: 86


1- زهير بن أبي سلمى من الشعراء الجاهليين المتقدمين ومن أصحاب المعلقات المعروفة، وهو صاحب المعلقة التي أولها : أمن أم أوفی دمنة لم تكلم ***بجومانة الدراج فالمتثلم وهو ممن كان يتأله في شعره من الجاهلبين ، ويكاد يكون مدحه وقفاً على هرم بن سنان المري ، والبيت الذي استشهد به المؤلف هو من قصيدة أولها : لمن الديار بقنة الحجر*** أقوين من حجج ومن شهر وتوفي عام 14قبل الهجرة وعام 608م
2- هو من أعاظم رجال الأمويين وقوادهم، ومن جبابرة القواد وطعاتهم ولولاه لانهار ملك بني مروان ، ولما قامت لهم قائمة ، توفي بواسط المدينة التي بناها سنة83ه وكانت وفاته سنة (95ه) و713م.
3- هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي القمي توفي سنة (274ه) أو (280 ه) من أعلام الأمامية في الآثار والأحاديث ، وكتابه المحاسن يحتوي على ثمانين كتابا وله سواه کتب عديدة.

صلى الله عليه وآله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله مررت بمجلس لآل فلان ثم وصفهم ، ثم قال : وجميع مؤمنون ، فأخبرني يا رسول الله بصفة المؤمن فنكس. رسول الله (ص) رأسه ، ثم رفعه ، فقال:

«عشرون خصلة في المؤمن ، من لم تكن فيه لم يكمل إيمانه ، إن من أخلاق المؤمن يا علي، الحاضرون الصلاة ، والسارعون إلى الزكاة، والمطمعون المساكين ، والماسحون رأس اليتيم، والمطهرون أظفارهم، والمتزرون على أوساطهم، الذين إن حدثوا لم يكذبوا ، وإن وعدوا لم يخلفوا ، وإن تمنوا لم يخونوا، وإن تكلموا صدقوا، رهبان بالليل، أسد بالنهار ، صائمون النهار ، قائمون الليل ، لا يؤذون جاراً، ولا يتأذى بهم جار ، الذين مشيهم على الأرض هوناً ، وخطاهم إلى المساجد وإلى بيوت الأرامل وعلى أثر المقابر ، جعلنا الله وإياكم المتقين ». .

أخبرني أبو الرجا محمد بن علي بن طالب البلدي ، قال أخبرني أبو المفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن المطلب الشيباني الكوفي (1) قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن حجاب الأزدي بالكوفة ، قال حدثني خالد بن يزيد بن محمد الثقفي ، قال حدثني أبي خالد ، قال حدثني حنان بن سدير عن أبيه عن محمد بن علي عن أبيه عن جده قال قال علي عليه السلام لمولاه نوف الشامي، وهو معه في السطع(2):

ص: 87


1- ينتهي نسبه إلى ذهل بن شيباني أصله من الكوفة ، قضى عمره في طلب الحديث توفي سنة 387ه قال النجاشي عنه : كان في أول أمره ثبتأ ثم خلط ورأيت جل أصحابنا يغمزونه ويضعفونه ، ويكثر محمد بن علي الحزاز في كتابه كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الإثني عشر ، الرواية عنه ، وكذا الصدوق وخاصة في كتابه كمال الدين وتمام النعمة. وللشيباني مؤلفات منها مزار أمير المؤمنين (ع) وکتاب مزار الحسين (ع) وكتاب من روی حدیث غدیر خم
2- لعله السطح لكن في النهج قال: وقد خرج ذات ليلة وهو ينظر إلى النجوم وهذا الحديث مروي في النهج وفي أمالي المفيد ص 78 وفي تاريخ بغداد للخطیب م7 ص162وفي مروج الذهب ج4 ص 193 وفي حلية الأدلياء ج1 ص 79، وفي الخصال للصدوق القمي ج1 ص 299. ونوف هو نوف البكالي والراوي عنه هو أبو عبد الله الشامي كما في معجم رجال الحديث ج 19 ص 227.

«یا نوف أرامق أم نبهان؟ قال: نبهان أرمقك يا أمير المؤمنين ، قال هل تدري من شيعتي ؟ قال: لا والله ، قال : شيعتي الذبل الشفاء ، الخمص البطون ، الذين تعرف الرهبانية والربانية في وجوههم، رهبان بالليل ، أسد بالنهار ، الذين إذا جنهم الليل اتزروا على أوساطهم، وارتدوا على أطرافهم، وصفوا أقدامهم، وافترشوا جباههم، تجري دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم ، وأما النهار فحلماء علماء کرام نجباء أبرار أتقياء ، یا نوف، شيعتي الذين اتخذوا الأرض بساطاً ، والماء طيباً ، والقرآن شعاراً ، إن شهدوا لم يعرفوا ، وإن غابوا لم يفتقدوا ، شيعتي من لم يهر هرير الكلب ، ولا يطمع طمع الغراب ، ولم يسأل الناس ولو مات جوعا ، إن رأى مؤمنا أكرمه ، وإن رأى فاسقاً هجره. هؤلاء والله يا نوف شيعتي ، شرورهم مأمونة ، وقلوبهم محزونة ، وحوائجهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، اختلفت بهم الأبدان ولم تختلف قلوبهم .

قال: قلت يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك، أين أطلب هؤلاء ، فقال لي في أطراف الأرض . یا نوف ، يجيي النبي (ص) يوم القيامة آخذاً بحجزة ربه جلت أسماؤه ، يعني يحمل الدين وحجزة الدين ، وأنا آخذ بحجزته ، وأهل بيتي آخذون بحجزتي ، وشيعتنا آخذون بحجزتنا ، فإلى أين ؟ إلى الجنة ورب الكعبة ، قالها ثلاثا »

وأخبرني أيضا أبو الرجا محمد بن علي بن طالب الرازي، قال أخبرني أبو المفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن المطلب الشيباني ، قال حدثني أبو عبد الله جعفر بن محمد بن جعفر العلوي الحسني ، قال حدثنا أحمد بن محمد بن عیسی الوابشي ، قال حدثني عاصم بن حميد الخياط.

قال أبو المفضل الشيباني : وحدثنا محمد بن علي بن أحمد بن عامر البندار

ص: 88

بالكوفة من أصل كتابه ، وهذا الحديث بلفظه وهو أنتم سياقة ، قال حدثنا الحسن بن علي بن بزیع ، قال حدثنا مالك بن إبراهيم بن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن رجل من قومه ، يعني يحيى بن أم الطويل ، أنه أخبره عن نوف البكالي قال: عرضت لي إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حاجة ، فاستبعثت إليه جندب بن زهير والربيع بن خيثم وابن أخيه همام بن عبادة بن خیثم، وكان من أصحاب البرانس ، فأقبلنا معتمدين لقاء أمير المؤمنين (ع)، فألفيناه حين خرج يؤم المسجد ، فأفضى ونحن معه إلى نفر متدينين قد أفاضوا في الأحدوثات تفکها ، وبعضهم يلهي بعضا ، فلما أشرف لهم أمير المؤمنين (ع) أسرعوا إليه قياماً ، فسلموا ورد التحية . ثم قال : من القوم ؟ فقالوا : أناس من شيعتك يا أمير المؤمنين ، فقال لهم : حبا .

ثم قال: يا هؤلاء ما لي لا أرى فيكم شيمة شيعتنا وحلية أحبتنا أهل البيت ؟

فأمسك القوم حياءً . قال نوف: فأقبل عليه جندب والربيع فقالا : ما سمة شيعتكم وصفتهم يا أمير المؤمنين؟ فتثاقل عن جوابها ، فقال : اتقيا الله أيها الرجلان وأحسنا ، «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» ، النحل : 118

فقال همام بن عبادة وكان عابداً مجتهداً:

أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم وفضلكم تفضيلا ، إلا أنبأتنا بصفة شيعتكم، فقال: لا تقسم ، فسأنبئكم جميعا.

وأخذ بيد همام فدخل المسجد فسبح ركعتين وأوجزهما وأكملهما، ثم جلس وأقبل علينا، وحف القوم به ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ، ثم قال:

«أما بعد فإن الله جل شأنه وتقدست أسماؤه خلق خلقه ، فألزمهم عبادته ، وكلفهم طاعته ، وقسم بينهم معائشهم، ووضعهم في الدنيا بحيث وضعهم ، ووصفهم في الدين بحيث وصفهم. وهو في ذلك غني عنهم ، لا تنفعه طاعة من أطاعه ، ولا تضره معصية من عصاه منهم ، لكنه تعالى علم قصورهم عما يصلح

ص: 89

عليه شؤونهم، ويستقیم به أودهم وهم في عاجلهم ، وآجلهم ، فأدبهم بإذنه في أمره ونهيه ، فأمرهم تخييراً وكلفهم يسيراً، وأماز سبحانه بعدل حكمه ، وحكمته بين الموجف من انامه إلى مرضاته ومحبته ، وبين المبطيء عنها ،والمستظهر على نعمته منهم، بمعصيته فذلك قول الله عز وجل (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم ، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم، ومماتهم ساء ما يحكمون).

ثم وضع أمير المؤمنين (صلى الله عليه) يده على منكب همام بن عبادة ، فقال: ألا من سأل من شيعة أهل البيت ، الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم في كتابه مع نبيه تطهيراً، فهم العارفون بالله ، العاملون بأمر الله ، أهل الفضائل والفواضل ، منظقهم الصواب، وملبسهم الإقتصاد ، ومشيهم التواضع ، وبخعوا لله بطاعته ، وخضعوا له بعبادته ، فمضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم ، واقفين اسماعهم على العلم بدينهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء ، كالذين نزلت منهم في الرخاء رضى عن الله بالقضاء ، فلولا الأجال التي كتب الله لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم ، طرفة عين ، شوقا إلى لقاء الله ، والثواب ، خوفا من العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة ، كمن رآها ، فهم على آرائكها متكئون، وهم والنار، کمن دخلها ، فهم فيها يعذبون قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحوائجهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، ومعرفتهم في الإسلام عظيمة ، صبروا أياما قليلة ، فأعقبتهم راحة طويلة ، وتجارة مریحة ، يسرها لهم رب کریم ، أناس أكياس ، ارادتهم الدنيا ، فلم يريدوها ، وطلبتهم فأعجزوها .

أما الليل فصافون أقدامهم ، تالون لأجزاء القرآن، يرتلونه ترتيلا ، يعظون أنفسهم ، بأمثاله ، ويستشفون لدائهم بدوائه تارة وتارة ،يفترشون جباههم وأكفهم ، وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم ، ويمجدون جباراً عظيماً ، ويجأرون إليه ، جل جلاله ، في فاك رقابهم هذا ليلهم ، فأما نهارهم ، فحلماء علماء بررة أتقياء ، براهم خوف بارئهم فهم أمثال القداح يحسبهم الناظر إليهم مرضى ، وما بالقوم من مرض،أو خولطوا وقدخالط القوم من عظمة ربهم

ص: 90

وشدة سلطانه ، أمر عظيم، طاشت له قلوبهم، وذهلت منه عقولهم، فإذا استفاقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى ، بالأعمال الزاكية لا يرضون بالقليل ، ولا يستكثرون له الجزيل فهم منهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون إن ذكر أحدهم خاف مما يقولون ، وقال أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي ، اللهم لا تؤاخذني ، بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون ، فإنك علام الغيوب ، وساتر العيوب. هذا ، ومن علامة أحدهم ، أن ترى له قوة في دين وحزماً في لين ، وإيمانا في يقين ، وحرصا على علم ، وفهما في فقه ، وعلما في حلم، وكيسا في رفق، وقصدأ في غنى ، وتحملا في فاقه ، وصبراً في شدة ، وخشوعا في عباده ، ورحمة للمجهود ، وإعطاء في حق ، ورفقاً في کسب ، وطلباً في حلال ، وتعففاً في طمع ، وطمعا في غير طبع أي دنس ، ونشاطا في هدي ، واعتصاما في شهوة ، وبراً في استقامة ، لا يغيره ما جهله ، ولا يدع أحصاء ما عمله ، يستبطیء نفسه في العمل ، وهو من صالح عمله على وجل ، يصبح، وشغله الذكر ، ويمسي وهمه الشكر ، يبيت حذراً من سنة الغفلة ، ويصبح فرحاً لما أصاب من الفضل والرحمة، أن استعصبت عليه نفسه فيما تكره ، لم يعطها سؤلها ، فيما إليه تشره، رغبة فيما يبقى ، وزهادة فيما يفنى ، قد قرن العمل بالعلم، والعلم بالحلم ، يظل دائما نشاطه بعيداً كسله، قريباً أمله ، قليلا زلله ، متوقعا أجله ، خاشعاً قلبه ، ذاكراً ربه ، قانعة نفسه ، عازباً جهله ، محرزاً دينه ، میتا داؤه ، كاظماً غيظه ، صافياً خلقه، آمناً من جاره ، سهلا أمره ، معدوماً كبره، ثبتأ صبره ، كثيراً ذكره، لا يعمل شيئا من الخيررياء ، وما يتركه حیاء ، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون ، إن كان بين الغافلين ، كتب في الذاكرين ، وان كان مع الذاکرین لم يكتب من الغافلين ، يعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من قطعه ؛ قریب معروفه ، صادق قوله ، حسن فعله ، مقبل خیره ، مدبر شره، غائب مكره، في الزلازل وقور ، وفي المكارة صبور ، وفي الرخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحب ، ولا يدعي ما ليس له ، ولا يجحد ما عليه ، يعترف بالحق ، قبل أن يشهد به عليه ، لا يضيع ما استحفظه، ولا ينایز بالألقاب، ولا يبغي على أحد، ولا يغلبه الحسد. ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصاب، مؤد للأمانات، عامل بالطاعات سريع إلى

ص: 91

الخيرات، بطيء عن المنكرات، يأمر بالمعروف، ويفعله ، وينهي عن المنكر ويجتنبه ، لا يدخل في الأمور . بجهل ، ولا يخرج من الحق بعجز ، إن صمت لم يعية الصمت ، وإن نطق لم يعبة اللفظ ، وإن ضحك لم يعل به صوته ، قانع بالذي قدر له ، لا يجمح به الغيظ ، ولا يغلبه الهوى ، ولا يقهره الشح، يخالط الناس بعلم ، ويفارقهم بسلم، يتكلم ليغنم، ويسأل ليفهم، نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، أراح الناس من نفسه ، وأتعبهالاخوته أن بغي [عليه ] صبر ليكون الله تعالى هو المنتصر ، يقتدي بمن سلف ، من أهل الخير قبله ، فهو قدوة لمن خلف من طالب البر بعده ، أولئك ، عمال لله ، ومطايا أمره وطاعته ، وسرج أرضه وبريته، أولئك شيعتنا وأحبتنا، ومنا ومعنا آها شوقا إليهم .

فصاح همام بن عبادة صيحة وقع مغشيا عليه ، فحركوه فإذن هو قد فارق الدنيا ، رحمة الله عليه ، فاستعبر الربيع باكياً، وقال، لا سرع ما أودت موعظتك يا أمير المؤمنين با ابن أخي ولوددت أني مكانه فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ، أما والله لقد كنت أخافها عليه فقال له قائل : فما بالك أنت يا أمير المؤمنين ، فقال ويحك أن لكل واحد أجلا لا يعدوه، وسبباً لن يتجاوزه ، فلا تعد بها، فإنما ينفثها على لسانك الشيطان ، قال فصلى عليه أمير المؤمنين عليه السلام عشية ذلك اليوم، وشهد جنازته ونحن معه.

قال الراوي عن نوف، فصرت إلى الربيع بن خيثم فذكرت له ما حدثني نوف، فبكى الربيع حتى كادت نفسه أن تقبض ، وقال صدق أخي أن موعظة أمير المؤمنين عليه السلام وكلامه ذلك مني بريء ، ومسمع ما ذكرت ما كان من همام بن عبادة ، يومئذوأتاني هنيئة الا كدرها ولا شدة إلا فرجها (1).

ص: 92


1- هذه الخطبة رواها ابن شعبة الحراني في تحف العقول ص 107 - 109 وسلیم بن قیس الهلالي في کتابه ص160-164، وأبو جعفر الكليني في أصول الكافي م2 ص226 - 230 وسبط ابن الجوزي في التذكرة ص138 - 139 وفي نهج البلاغة ، وغيرهم ، انظر كتابنا مصادر نهج البلاغة ص212.

فصل:

من كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في الأخوان وآداب الإخوة .

في الإيمان الناس إخوان ، فمن كانت إخوانه في غير ذات الله فهي عداوة ،

وذلك قوله عز وجل:

«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ». الزخرف: 67

من قلب الأخوان عرف جواهر الرجال.

إمحض أخاك بالنصيحة حسنة كانت أم قبيحة. ساعده على كل حال، وزل معه حيث زال. لا تطلبن منه المجازاة فإنها من شيم الدناة . إبذل لصديقك كل المودة ، ولا تبذل له كل الطمأنينة.

واعطه كل المواساة، ولا تفض إليه بكل الأسرار ، توفي الحكمة حقها ، والصديق واجبه. لا يكون أخوك أقوى منك على مودته.

البشاشة فخ المودة ، والمودة قرابة مستفادة. لا يفسدك الظن على صديق ، أصلحه لك اليقين . كفى بك أدباً لنفسك ما كرهته لغيرك. لأخيك عليك مثل الذي لك عليه. لاتضيعن حق أخيك إتكالا على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من ضيعت حقه.

ولا يكن أهلك أشقى الناس بك. اقبل عذر أخيك ، وإن لم يكن له عذر فالتمس له عذراً.

لا يكلف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته. لا ترغبن فيمن زهد فيك، ولا تزهدن فيمن رغب فيك ، إذا كان للمخالطة موضع .

لا تكثرن العتاب فإنه يورث الضغينة، ويجر إلى البغيضة، وكثرته من سؤ الأدب. إرحم أخاك وإن عصاك ، وصله وإن جفاك.

احتمل زلة وليك لوقت وثبة عدوك. من وعظ أخاه سراً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شأنه .

ص: 93

من كرم المرء بكاه على ما مض من زمانه ، وحنينه إلى أوطانه، وحفظه قديم إخوانه .

(فصل مما جاء نظما في الأخوان)

روى أن الصادق جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام كان يتمثل كثيراً بهذين البيتين:

أخوك الذي لو جئت بالسيف عامداً*** لتضربه لم يستغشك في الود

ولو جئته تدعوه للموت لم يكن ***يردك إبقاء عليك من الود

وقال مسلم بن وابصة :(1)

أحب الفتي ينفي الفواحش سمعه ***كان به من كل فاحشة وقرا

سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى*** ولا مانعاًخيراً ولا قائلا هجرا

إذا ما أتت من صاحب لك زلة ***فكن أنت محتالا لزلته عذرا

غنى النفس ما يكفيك من سد خلة*** فإن زاد شيئا عاد ذاك الغني فقرا

لغيره:

إذا جمع الفتي حسباً ودينا*** فلا تعدل به أبدا قريناً

ولا تسمح بحظك منه بل كن ***بحظك من مودته ظنینا

لآخر :

وكنت إذا الصديق أراد غيظي ***وأشرقني على حنق بريقي

غفرت ذنوبه وصفحت عنه*** مخافة أن أعيش بلا صدیق (2)

ولآخر:

ومن لا يغمض عينه عن صديقه ***وعن بعض ما فيه ، يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهداً كل عثرة*** يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب(3)

ص: 94


1- هو سالم بن وابصة الأسدي لا مسلم بن وابصة ، وهو شاعر إسلامي تابعي ، وأبوه وابصة بن سعید صحابي جليل ، ولسالم بن وابصة مقطعات شعرية في حماسة أبي تمام.
2- رواهما ابن قتيبة في عيون الأخبار ج7 ص16 باختلاف كبير.
3- في النسخة نقصان وتشويش ، وقد صححنا البيتين عن الموشي للوشاء ، وعن محاضرات الأدباء للأصفهاني وفي عيون الأخبار ج7 ص16 وهما لكثير .

وقال إياس أبن الفائق : (1)

يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ***وترمي النوى بالمقترین المرامیا

فأكرم أخاك الدهر ما دمتها معاً***كفى بالمات فرقة وتنائيا

إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها *** فقدت صديقي والبلاد كما هيا

وقال حاتم بن عبد الله :(2)

وما أنا بالساعي بفضل زمامها ***لتشرب ما في الحوض قبل الركائب

وما أنا [ بالطاوي] حقيقة (3) رحلها *** لأبعثها حقا وأترك صاحبي

لبعضهم:

بدا حين أثرى بإخوانه ***ففتك عنهم شباه العدم

وذكرهم الحزم غيب الأمور *** فبادر قبل انتقال النعم

لغيره :

ألا إن عبد الله لما حوى الغني ***وصار له من بين إخوانه مال

رأي خلة منهم يسد بماله ***فساواهم حتى استوت بهم الحال

لموسی بن يقطين:

تتبع إخوانه في البلاد***فأغنى المقل عن المكثر

ولسليمان بن فلاح:

لي صديق ما مسني عدم ***مذ وقعت عينه على عدم

قام بعذري لما قعدت به ***ونمت عن حاجتي ولم ينم

أغنى وأقنى ولم يسم كرماً *** يقبل کف له ولا قدم

ص: 95


1- هذه الأبيات من شعر حماسة أبي تمام ولم أجد لأياس هذا ترجمة.
2- هو حاتم بن عبدالله الطائي من أجواد العرب وقد أصبح بجوده مضرب المثل والببتان من قصيدة أولها ومرقبة دون السماء علوتها ***أقلب طرفي في فضاء السباسب
3- في ديوان حاتم (حفيبة) وهو الأرجح.

لبشار بن برد ، ويكنى أبا معاذ ، ويلقب بالمرعث الداعمي.(1)

إذا كنت في كل الأمور معاتباً*** صديقك لم تلق الذي لا تعاقبه

فعش واحداً أو صل أخاك فإنه*** مفارق ذنب مرة ومجانبه

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ***ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

لزياد الأعجم : (2)

أخ لك لا تراه الدهر إلا*** على العلات بساما جوادا

أخ لك ليس خلته بمذق ***إذا ما ماد فقر أخيه عادا

[وله ] (3)

إذا كان ذواقاً أخوك من الهوى ***موجهة في كل فج مذاهبه

فخل له وجه الطريق ولا تكن ***مطية رحال كثير مذاهبه

تخاف المنايا أن ترحل صاحبي*** كان المنايا في المقام تناسبه

ولبشار أيضا :

خير إخوانك المشارك في المر ***وأين الشريك في المر أينا

الذي إن شهدت سرك في النا ***س وإن غبت كان أذنة وعينا

مثل سر العقيان إن مسه النا*** ر جلاه البلافازداد زینا

ص: 96


1- هو بشار بن برد مولى بني عقيل وقيل بل لبني سدوس ويكنى أبا معاذ، ويلقب بالمرعث، والمرعت هو الذي جعل في أذنيه الرعاث وهي الأقراط، ولا أعرف سبب نسبته إلى الداعمي ، وهو من فحول الشعراء الإسلاميين ، ومن أشعر المحدثين طبعا واسترسالا وعمقاً ، أنهم بالزندقة، وقتل على ذلك سنة 168/167 ه. ويشك في صحة هذه التهمة الموجهة ، والأرجح أنها سياسية لا عقائدية وخاصة بعد قوله. إن في البعث والحساب لشغلا*** عن وقوف برسم دار محیل تجد أخباره في كتب الأدب والتاريخ كالأغاني ومعاهد التنصيص وسواهما.
2- هو زياد بن جابر بن عمرو مولى عبد القيس ، كان ينزل اصطخر فغلبت العجمة على لسانه فقيل الأعجم، أصله ومولد ومنشأه اصبهان، ومات بخراسان ، أحد الشعراء المجيدين في عهد بني أمية ، وله مدائح جياد في المهلب بن أبي صفرة ، أخباره موجودة في الأغاني ج14 والشعر والشعراء لابن قتسبة.
3- كذا في النسخة وهنا سقوط كلمة (وأيضا) أو كلمة لغيره).

وأنشدت لابن نعمة الخطيب مما قاله في مجلس ابن خالويه :(1)

أيها العالم الذي ملأ الأرض علمه

قلت لما جرحت قلبي بحال تغمه

لا يفر الحوار إن يتوطاه أمه ولعمري لضمه كان أحلى وشمه

لا تهجم (2) على الصديق بشيء يغمه

فإذا أحوج(3) الشجاع (4) بدامنه سمه

قال وانشد لغيره :

[لا](5) توردن على الصديق من ***الدعاية ما يغمه

واحذر بوادر طيشه *** يوما إذا ما طال حلمه

فالعجل تنطحه على*** إدمان مس الضرع أمه

ص: 97


1- هو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالدية من شيوخ العربية البارزين ، دخل بغداد وأخذ من علمائها كابن الأنباري وابن عمر والزاهد وابن دريد والسيرافي وانتقل إلى حلب ولزم سیف الدولة الحمداني ، وهو من علماء الشيعة ومؤلفاته كتيرة منها : (كتاب ليس) وهو مبني على أنه ليس في كلام العرب كذا و(كتاب الآل) وعرض فيه للأئمة الاثني عشر ومواليدهم ووفياتهم ، وكتاب في إمامة علي (ع) و(شرح مقصودة ابن دريد)، وأورد السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال دعاءً عن ابن خالدية في أعمال شهر شعبان عن علي (ع) قال: كان أمير المؤمنين والأئمة (ع) يدعون به في شهر شعبان. وتوفي في حلب سنة (370ه) وله شعر منه قوله : إذا لم يكن صدر المجالس سبد *** فلا خير فيمن صدرته المجالس وكم قائل مالي رأيتك راجلاً*** فقلت له من أجل أنك فارس
2- هكذا في النسخة والوزن معها غير مستقيم ولعله (لا تهجمن).
3- هكذا في النسخة والمعنى معها قلق ولعله في الأصل (أحرج) بدل أحوج .
4- الشجاع هو ذكر الحية.
5- ليس في الأصل كلمة (لا) وقد وضعناها ليستقيم الوزن والمعني .

(فصل آخر في ذكر الأخوة والأخوان)

اشارة

قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

« إذا آخي أحدكم رجلا فليسأله عن اسمه واسم أبيه وقبيلته ومنزله ، فإنه من واجب الحق ، وصافي الأخاء ، وإلا فهو مودة حمقاء ».

وروي أن داود قال لإبنه سليمان عليهما السلام: يا بني لا تستدلن بأخ أخا مستفاداً إما استقام لك، ولا تستقلن أن يكون لك عدو واحد ، ولا تستكثرن أن يكون لك ألف صديق.

وأنشد لأمير المؤمنين عليه السلام:

وليس كثيراً ألف خل وصاحب ***وإن عدواً واحداً لكثير

وروي أن سلیمان علیه السلام قال:

لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا من يصاحب ، فإنما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه ، وينسب إلى أصحابه وأخوانه.

وروي أنه كانت بين الحسن والحسين صلوات الله عليهما وحشة ، فقيل للحسين عليه السلام: لم لا تدخل على أخيك وهو أسن منك ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أيها اثنان جرى بينها كلام، فطلب أحدهما رضاء صاحبه كان سابقا له إلى الجنة ، فأكره أن (1) أسبق أبا محمد إلى الجنة ، فبلغ ذلك (2) الحسن عليه السلام فقام يجر رداءه حتى دخل على الحسين صلوات الله عليهما فاسترضاه.

حدثني الشريف أبو عبد الله محمد بن عبيد الله بن الحسين بن طاهر الحسيني رحمه الله وكتب لي بخطه قال حدثنا عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي ، قال أخبرنا أحمد بن محمد بن رباح، قال حدثنا محمد بن العباس الحسيني عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني عن صفوان الجمال قال : وقع بين أبي عبد

ص: 98


1- في النسخة إذا فصوبناها (أن).
2- في النسخة زيادة (إلى) والأصوب حذفها .

الله جعفر بن محمد عليهما السلام وبين عبد الله بن الحسن بن الحسين کلام ، حتى ارتفع الضوضاء ، واجتمع الناس عليها ، فتفرقا عشیتهما تلك ، ثم غدوت في حاجة لي ، فإذا أنا بأبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام على باب عبد الله بن الحسن ، وهو يقول: يا جارية قولي لأبي محمد ، هذا جعفر بالباب ، قال فخرج عبد الله ، فقال يا أبا عبد الله ما بكر بك؟ فقال : أبو عبد الله عليه السلام: إني ذكرت آية من كتاب الله البارحة ، فأقلقتني ، قال وما هي؟ فقال: قول الله عز وجل :

« وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ» الرعد: 21 .

فقال عبد الله : صدقت والله يا أبا عبد الله ، كأني لم أقرأ هذه الآية قط .

وروي في الكامل أن عبد الله بن علي بن جعفر بن أبي طالب ، افتقد صديقاً له من مجلسه ، ثم جاءه فقال این كانت غيبتك ؟ قال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي ، فقال له: إن لم تجد من صحبة الرجال بداً فعليك بصحبة من إن صحبته زانك، وإن خفقت له صانك، وإن احتجت إليه [ أعانك ] (1)، وإن رأى منك خلة سدها، أو حسنة عدها، أو وعدك لم يحرضك ، وإن كثرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاك ، وإن أمسكت عنه ابتداك.

وقال بعضهم:

قارب إخوانك في لقائهم تسلم من بوائقهم .

وفي كتب الهند:

ثق بذي العقل والكرم، واطمئن إليه ، وواصل غير ذي الكرم واحترس من سيء أخلاقه، وانتفع بعقله ، وواصل الكريم غير العاقل وانتفع بكرمه ، وانفعه بعقلك ، واهرب من اللئيم الأحمق.

وقال آخر:

ص: 99


1- في النسخة مكان كلمة أعانك (مانك).

دع مصارعة أخيك وإن حث التراب في فيك .

وقيل:

إياك وطاعة الأسفال فإنه يهجم بصاحبه على مكروه، وإذا صفا لك أخ فكن به أشد ضنا منك بنفائس أموالك. ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقا تكرهه، فإن نفسك التي هي أخص الأنفس بك لا تطيعك كالمقادة في كل ما تهوی، فكيف تلتمس ذلك من غيرك ، وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره ، فقد قالت العرب: من لك يوما بأخيك كله.

ووصف إعرابي رجلا فقال :

كان والله يتحى مرارة الأخوان ، ويسقيهم عذبه .

وقيل لخالد بن صفوان (1) أي الأخوان أحب إليك؟ فقال : الذي يغفر زللي ، ويقبل عللي ، ويسد خللي .

وسئل رجل عن صديقين له فقال:

أما أحدهما فعلق (2) مصيبة لا تباع، وأما الآخر فعلق مصيبة لا تبتاع.

وكان آخر يقول:

اللهم احفظني من الصديق، فقيل له ولم؟ قال لأني من العدو متحرز ، ومن الصديق آمن وأنشد :

احذر مودة ماذق(3)*** شاب المرارة بالحلاوة

يحصى العيوب عليك أيام الصداقة للعداوة

وقيل لبعضهم: كم لك من صديق؟ فقال: لا أدري ، لأن الدنيا علي مقبلة ، فكل من يلقاني يظهر في الصداقة ، وإنما أحصيهم إذا ولت عني.

ص: 100


1- هو خالد بن صفوان بن عبد الله بن الأهتم من الخطباء البلغاء وهو معدود في البخلاء توفي في عهد السفاح سنة 132 ه - 750 م.
2- هو النفيس من كل شيء ، وهو القطعة أيضا.
3- هو من كان وده غير خالص.

وقيل ليحیی بن خالد(1) وهو في الحبس وقد احتاج: لو كتبت إلى فلان فإنه صديقك ، فقال : دعوه يكون صديقا .

لبعضهم :

قد أخلق الدهر ثوب المكرمات فلا*** تخلق لوجهك في الحاجات ديباجة

ولا يغرنك إخوان تعدهم ***أنت العدو لمن كلفته حاجة

لغيره :

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها*** فحيث ما انقلبت يوما له انقلبوا

مساعدوه على الدنيا فإن وثبت*** يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

لغيره:

هي توبتي من أن أظن جمیلا ***بأخ ودود أو أعد خليلا

كشفت لي الأيام كل خبيئة ***فوجدت إخوان الصفاء قليلا

الناس سلمك ما رأوك مسلماً*** ورأوا نوالك ظاهراً مبذولا

فإذا امتحنت بمحنة ألفيتهم ***سيفا عليك مع الردى مسلولا

للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله .

وقد كنت مذلاح المشيب بعارضي ***انقر (2) عن هذا الورى وأكشف

فما إذ عرفت الناس إلا ذمتهم ***جزى الله خيرا كل من لست أعرف

ولإبراهيم بن هلال الصابي :

أيا رب كل الناس أبناء علة (3) ***أما تغلط الدنيا لنا بصديق

وجوه بها من مضمر الغل شاهد ***ذوات أديم في النفاق صفيق (4)

إذا اعترضوا عند اللقاء فإنهم*** قذى لعيون أو شجأ لحلوق

وإن عرضوا(5)برد الوداد وظله *** أسروا من الشحناء حر صدیق

ص: 101


1- هو يحیی بن خالد البرمكي كان رجل الدولة العباسية عقلا ورأياً وسياسة وكان إلى هذا من الخطباء البلغاء الأجواد ، حبسه الرشید بعد فتکه بالبرامكة ومات في الحبس سنة 190 ه.
2- في النسخة (انفر) بدل انقر
3- أي أبناء ضرة.
4- الصفيق السميك.
5- في النسخة أعرضوا والأوجه ما ذكرناه .

ألا ليتني حيث انتوت أفرخ القطا*** بأقصى محلي في البلاد سحيق

أخو وجدة قد آنستني كأنثى*** بها نازل في معشري وفريقي

فذلك خير للفتى من ثوابه*** بمسغبة من صاحب ورفيق

لغيره:

اسم الصديق على كثير واقع ***وقد اختبرت في وجدت فتى يفي

کعجائب البحر التي اسماؤها***مشهورة (1) وشخوصها لم تعرف

لأحمد بن إسماعيل:

مذ سمعنا باسم الصديق فطالبنا*** بمعناه في استفدنا صديقاً

أتراه في الأرض يوجد لكن*** نحن لا نهتدي إليه طريقا

أم ترى قولهم صدیق مجازا ***لا نرى تحت لفظه تحقیقا

لعبد الملك بن مروان (2):

صديقك حين تستغني كثير ***ومالك عند فقرك من صديق

فلا تأسف على أحد إذا ما***لهي عنك الزيارة وقت ضيق

لبعضهم :

هو خل ولكن*** لعن الله ولكن

لفظة في ضمنها السوء ***تحامي في أماكن

1- « مسألة فقهية »

رجل صحيح دخل على مريض ، فقال له: أوصى فقال : ما أوصى. وإنما يرثني زوجتاك واختاك وعمتاك وخالتاك وجدتاك ، وفي ذلك يقول الشاعر :

أتيت الوليد ضحى عائداً*** وقد خامر القلب منه السقاما

فقلت له أوص فيما تركت*** فقال ألا قد كفيت الكلاما

ففي عمتيك وفي جدتیك ***وفي خالتيك تركت السواما

ص: 102


1- في النسخة معروفة مشهورة.
2- هو أحد ملوك بني أمية ، وهو الذي ولد حكمهم وقضى على عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الأشعث وعلى عمر و بن سعید الاشدق، كان معروفاً بالحزم والحنكة ولد سنة 26ه وتوفي مسمنة 86 ه

وزوجاك حقهما ثابت*** واختاك منه تحوز التماما

هنالك يا بن أبي خالد*** ظفرت بعشر حويت السهاما

الجواب

هذا المريض تزوج جدتي الصحيح أم أمه وأم أبيه ، فأولد كل واحدة منها ابنتين ، فابتناه من جدته أم أمه خالتا الصحيح (1)، وتزوج الصحيح جدتي المريض أم أبيه وأم أمه ، وتزوج أبو المريض أم الصحيح ، فاولدها ابنتين ، فقد ترك المريض أربع بنات ، وها عمتا الصحيح وخالتاه، وترك جدتیه وه زوجتا الصحيح ، وترك امرأتيه وها جدتا الصحيح ، وترك أختيه لأبيه ، وهما اختا الصحيح لأمه. فلبناته الثلثان ، ولزوجته الثمن ، ولجدتيه السدس ، ولا ختيه لأبيه ما بقي.

وهذه القسمة على مذهب العامة دون الخاصة (2).

2- شبهة المجبرة

استدل المجبرة على أن الإيمان فعل الله تعالى ، أن قالت : قد قال الله تعالى : (اهدنا الصراط المستقيم)(3)، ولا شك أنه أراد بذلك تعليمنا سؤاله ، فلا تخلو هذه الهداية التي تسأل فيها من حالتي : إما أن [تكون] الدلالة على ما يقولون ، وإما أن يكون الإيمان على نقول.

وزعموا أنها لا تصح أن تكون الدلالة لأن الله عز وجل قد فعلها . قالوا : ولا يجوز أن تسأله في فعل ما قد فعله ، وإذا لم يصح أن يكون السؤال في الدلالة ، فما هو إلا في أن يفعل لنا الإيمان فنكون بفعله مهتدين .

ص: 103


1- هنا كما يبدو قد سقط بیان نسبة البنتين المولودتين من أم أبيه، وهم يكونان عمتي الصحيح.
2- لأنه لا يرث في مذهب الإمامية في مثل هذه المسألة إلا بنات الميت وزوجتاه أما جدتاه وأختاه فلا ارث لها هنا.
3- سورة الفاتحة آية6

نقض عليهم

أما قولهم ان هذه الهداية المسئول فيها لا تخلو في حالتين إما أن تكون الدلالة وإما أن يكون الإيمان فخطأ ، لأنها قد تحتمل غير ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بها فعل الألطاف التي إذا فعلها الله تعالى ازداد بها الصدرإنشراحاً للإيمان ، ولا تكون هذه الألطاف إلا لمن آمن واهتدى ، وقد تكون الألطاف هداية ، قال الله تعالى:

(والذين اهتدوا زادهم هدی) محمد: 17

وأما قولهم إنها لا تجوز أن تكون الدلالة فخطأ ، لأن الدلالة وإن كان الله قد فعلها وأزاح علل المكلفين بإقامتها ، فإنه قد يصح أن تسأله في الزيادة فيها ، وأن يقوي خواطرنا بالتيسير لنا إدراك ادلة أخرى بعدها.

ولا شبهة في أن ترادف الأدلة زيادة في الهدى .

وأما قولهم إنه لا يجوز سؤال الله تعالى في فعل ما قد فعله فخطأ أيضا .

وقد يصح أن نسأل الله سبحانه في فعل ما فعله ، وفي أن لا يفعل ما يجوز أن فعله .

وقد علمنا ذلك في كتابه وندبنا إلى ما فعله عبادة تعبدنا بها ومصلحة هدانا إليها فقال سبحانه حاکيا عن ملائكته (اغفر للذين تابوا وتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) غافر : 7

ولا شك أنه قد فعل ذلك بهم قبل المسألة منهم .

وكقوله : (رب احكم بالحق)

ونحن نعلم أنه لا يحكم إلا به

وكذلك ما تعبدنا به منی من سؤاله أن تصلي على أنبيائه ورسله مع علمنا أنه قد صلى عليهم ورفع أقدارهم . وحكى لنا سؤال إبراهيم خليله (صلی الله علیه وسلم) في قوله : (ولا تخزني في يوم يبعثون) الشعراء : 87، وهو يعلم أنه لا يخزيه.

ص: 104

وعلمنا سبحانه كيف تقول: (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)، ونحن نعلم أنه لا يكلف عباده ما لا يطيقون .

وقد شهد بذلك قوله عز وجل :

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) البقرة : 286.

وإنما جازت العبادة بذلك ونحوه لما فيه من التذلل والخضوع والاستكانة والخشوع، فيجوز على هذا الوجه أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم ، بمعنی یدلنا عليه ، وإن كان قد دل وهدى جميع المكلفين ، قال الله تعالى:

(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى). فصلت: 17.

مسألة لهم

قالت المجبرة ما معنى قول الله تعالی :

(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وكيف يجوز أن يتعبدنا بالدعاء ، وعندكم أن النسيان من فعله سبحانه ، ولا تكليف على الناس في حال نسيانه .

جواب

يقال للمجبرة لسنا نحيل أن يكون المراد من النسيان المذكور في هذه الآية السهو وفقد العلم ، ويكون وجه الدعاء إلى الله تعالى بترك المؤاخذة عليه جاريا مجرى ما تقدم ذكره من الانقطاع إليه ، وإظهار الفقر إلى مسألته) والاستعانة به ، وإن كان مأموناً منه في المؤاخذة بمثله ، على المعنى الذي أوضحنا قبل هذه المسألة ، ويجوز أيضا أن نحمل النسيان المذكور فيها على أن المراد به الترك كما قال سبحانه : (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) طه: 115.

أي فترك ، ولولا ذلك لم يكن فعله معصية كقوله تعالى : (نسوا الله فنسيهم) أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته ، وقد يقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك أي لا تتركني منها .

وأنشد أبو عرفه:

ولم أك عند الجود للجود قالياً*** ولا كنت يوم الروع للطعن ناسياً

يعني تاركاً :

ص: 105

ويشهد بصحة ذلك قول الله عز وجل :

(أتأمرون الناس بالبروتنسون أنفسكم). البقرة : 44 بمعنى وتتركون أنفسكم.

3- فصل:

من الفرق بين مذهبنا ومذهب المجبرة في الأفعال. التي نعتقدها (1)

أن الله تعالى لا يكلف عباده ما لا يطيقون، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم إلاعلى ما يفعلون.

وأن الإيمان فعل المؤمن . وأن الكفر فعل الكافر .

وتزعم المجبرة : أن الله تعالى يكلف العبد ما لا يطيقه ، ويأمره بما لا يقدر عليه ولا يتأتى منه ، ويثيبه ويعاقبه على ما لم يفعله والإيمان والكفر فعلان لله تعالي .

ونعتقد أن القدرة التي أعطاها الله تعالى للعبد هي قدرة على الایمان بيان والكفر وأنه يفعل بها أيهما شاء باختياره، ولا يصح أن يفعلهما معا في حال واحدة لتضادهما. فحصل من هذا أن الذي أمره الله بالإيمان ونهاه عن الكفر قادر على ما أمره به ونهاه عنه ، وصح أنه سبحانه لا يكلف العبد إلا بما يستطيعه.

وتزعم المجبرة أن القدرة التي اعطاها الله عز وجل للعبد لا تصلح إلا لشيء واحد ، إما للإيمان وإما للكفر .

وأن قدرة الإيمان تضاد قدرة الكفر ، ولا يصح اجتماعهما معا.

فالذي معه قدرة الإيمان قد كلف ترك الكفر وهو غير قادر عليه ، والذي معه قدرة الكفر قد كلف فعل الإيمان ولا قدرة معه عليه. فحصل من هذا تکلیف ما لا يطاق، وإلزام ما لا يستطاع. تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.

ونعتقد أن القدرة على الفعل توجد قبله ، وأن الفعل يوجد بعدها ،

ص: 106


1- في الأصل نعتقده

فالمأمور بالإيمان قادر عليه غير فاعل له، وإنما أمر بمعدوم ليوجده وهو يقع ويحصل ثاني وقت القدرة كما قدمناه.

وكذلك المنهي عن الكفر إنما نهي وهو قادر على أن يفعل كفراً يقع منه في ثاني حال قدرته ، فإذا كان كافرا وقت قدرته ، فكفره ذلك إنما صح منه بقدرة أخرى تقدمته.

وتزعم المجبرة أن القدرة على الفعل توجد هي والفعل معاً ، ولا يتأخرالفعل عنها.

فالمأمور بالايمان ومعه قدرة عليه إنما أمر بوجود ، والمنهي عن الكفر ومعه قدرة عليه إنما نهي عن موجود ، فكأنه قيل للمؤمن افعل ما قد فعلت ، والموجود المفعول لا يفعل ، وقيل للكافر : لا تفعل ما قد فعلت ، وما قد فعل ووجد لا يصلح الإمتناع منه. وهذا تخبيط محكم.

ونعتقد أن القدرة غير موجبة للمقدور ولا حاملة عليه ، وأن القادر مخیر بين أن يفعل الشيء أو ضده بدلا منه.وتزعم المجبرة أن القدرة موجبة للمقدور حاملة عليه، ولا يصح وجودها إلا والمقدور معها .

ونعتقد أن المقدور الكائن بالقدرة هو فعل العبد في الحقيقة ، سواء كان طاعة أو معصية أو مباحاً ، وأن العبد محدث الفعل وموجده .

وتزعم المجبرة أن جميع المقدورات فعل الله تعالى ، وهو المحدث لسائر الأفعال في الحقيقة ، ولا محدث سواه، ويقولون أن معنى قولنا إن العبد فعل إنما هو اكتسب ، فإذا سئلوا عن حقيقة الكسب لم يتحصل منهم فيه فائدة تعقل.

ونعتقد أن الله تعالى لا يريد من العباد إلا الطاعة ، وأنه مريد لما أمر به ، کاره لما نهى عنه.

وتزعم المجبرة أن الله تعالى يريد من قوم الطاعة ويريد من آخرين معصيته ، وأنه قد أمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه، فقد أمره بما لا يريد ونهی عما أراد .

ص: 107

ونعتقد أن الله تعالى إذا أراد شيئا فهو كان يحبه ويرضاه ، وإذا كره شيئا فإنه لا يحبه ولا يرضاه.

وتزعم المجبرة أن الله عز وجل قد يريد شيئا ويشاؤه ولا يحبه ولا يرضاه ، وأنه قد يكره شيئا ويحبه ويرضاه .

وهذه مناقضة لا تخفي على عاقل .

وكل ما ذهبنا إليه في الأفعال بما وصفناه وعددناه فالمعتزلة توافقنا عليه ، وتخالفنا المجبرة فيه . وكل من قال : الله لا يكلف عباده مالا يطيقون ولا يعذبهم على ما لم يفعلوا فهو من أهل العدل ، ومن خالف في ذلك فهو من أهل الجور والجبر.

4- قبح التكليف بما لا يطاق

فصل : من القول في أن الله تعالى لا يكلف عباده ما لا يطيقون.

الذي يدل على أن الله تعالى لا يفعل ذلك ، أنا وجدنا قد قبحه في عقولنا ، لالعلة من نهي أو غيره، بل جعل العقول شاهدة بأنه قبيح لنفسه. وما كان قبيحاً لنفسه لا للنهي عنه ، فلن يجوز أن يفعله فاعل إلا وقد خرج من كونه حكيماً ، ولو جاز أن يكلفنا سبحانه وتعالى ما لا نطيق ، لجاز أن يكلف الأعمى النظر ، والأخرس النطق، والزمن(1) العدو، ولجاز أن يكلف السيد منا عبده ذلك، ويعاقبه على ما لا يقدر عليه . وهذا واضح البطلان، فعلم أنه لا يكلف أحداً من عباده إلا ما يطيقه ويستطيعه.

فإن قالوا : إن تكليف ما لا يطاق قبيح ، وهو حسن من خالقنا ، لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. قيل لهم : فأجيزوا عليه الإخبار بالكذب ، وقولنا إن ذلك قبيح بيننا ، حسن من خالقنا ، لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

ص: 108


1- الزمن هو المقعد الذي لا يستطيع المشي.

فإن اعتقدوا ذلك وجب أن لا يثقوا بشيء مما تضمنه القرآن من الأخبار، وإن امتنعوا طولبوا بعلة الإمتناع.

فمهما قالوه في قبح الأخبار بالكذب من قول ، قيل لهم : قد قبح تکلیف ما لا يطاق مثله .

فأما ما يشهد من القرآن بأن الله تعالى لا يكلف ما لا يطاق ، فقوله سبحانه:

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) البقرة : 286.

وقوله عز وجل :

(لا يكلف الله نفسا إلا ما آثاها ) الطلاق: 7

فصل : من القول في أن القدرة على الايمان في قدرة على الكفر

اشارة

مما يدل على ذلك أن الكافر مأمور بالإيمان ، فلو كانت قدرة الإيمان لیست معه ، كان قد كلف ما لا يطيقه ، وقد تقدم القول في فساد هذا.

وإذا كانت معه فلا يجوز أن تكون غير قدرة الكفر الحاصلة له ، لما في ذلك من اجتماع الضدين . فعلم أنها قدرة واحدة تصلح للضدين على أن يفعل بها مايتعلق به اختيار المكلف منها .

فإن قالوا : إذا كانت قدرة على الضدين ، فيجب أن يفعلهما معا.

قيل لهم : لا يجب ذلك ، لأن القدرة غير موجبة للفعل ، والقادر بها مخير غير مجبر.

فإن قالوا: فجوزوا أن يختارها فيفعلهما.

قبل لهم : هذا غير صحيح ولا جائز، لأن الإختيار هو أن يختار أحدهما على الآخر فيفعله بدلا منه ، ولا يصح ذلك فيها معا.

وبعد فهما ضدان، وكل واحد منهما ترك لصاحبه ، فلا يصح أن يوجدا في حال واحد معا. وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى يقدر على أن يبقي العبد

ص: 109

على حاله ، ويغنيه ويحييه ، ويميته ، ولا يجوز أن يفعل ذلك أجمع في وقت واحد.

فإن قيل : فإذا كان الله تعالى قد أعطى العبد قدرة ، تصلح للكفر ، فقد أراد الكفر منه.

قلنا: ليس الأمر كذلك ، لأن الله سبحانه إنما أعطاه القدرة ليطيع بها مختاراً، فلو كانت لا تصلح إلا للطاعة ، لكان في فعلها مضطراً. ومثل القدرة كمثل السيف الذي يعطيه السيد لعبده ليقتل به أعدائه ، وهو يصلح أن يقتل به أولياءه ، وکالدراهم التي تصلح أن تنفق في الطاعة والمعصية ، ويدفع إلى من ينفقها في الطاعة ، وينفقها في المعصية. والقدرة معني تحل (1) القادر ، يصح به الفعل ، وهي القوة ، وهي أيضا الاستطاعة.

فصل من القول في أن القدرة على الفعل توجد قبله

الدليل على أن القدرة متقدمة في الوجود للفعل أنها يحتاج إليها ليحدث بها الفعل ، ويخرج بها من العدم إلى الوجود. فمتى وجدت والفعل موجود ، فقد وجدت في الإستغناء عنه .(2)

ومما يدل على تقدمها ، أنها لو كانت مع الفعل ، كان الكافر غير قادر على الإيمان ، لأنه لو قدر عليه لكان موجوداً منه على هذا المذهب ، فكأن يكون مؤمناً في حال كفره ، وهذا فاسد.

ولو لم يكن قادراً على الإيمان لما حسن أن يؤمر به ويعاقب على تركه ، لما قدمناه من قبح تکلیف ما لا يطاق وبطلانه.

وقد قال أصحابنا مؤكدين القول بتقدم القدرة على الفعل فيمن كان في يده شيء فألقاه ، إن استطاعة الإلقاء لا تخلو من حالتين: إما أن تأتيه والشيء في يده ، أو تأتيه وهو خارج عن يده ، فإن كانت تأتيه والشيء في يده ، فقد صح

ص: 110


1- هكذا في النسخة
2- هذا بيان لعدم صحة القول بمقارنة القدرة للمقدور .

تقدم القدرة على الإلقاء ، وهو الذي قلنا ، وإن كانت تأتيه والشيء خارج عن يده ، ملقى عنها ، فقد أتت في حال الغني عنها .

وفي ذلك أيضا أنه قد قدر على أن يلقي ما ليس في يده، وهذا محال . وليس بين كون الشيء في يده، وكونه خارجاً عنها واسطة ومنزلة ثالثة.

وقد قال أهل العلم أيضا:

لو كانت القدرة والفعل يوجدان معا ، ولا يصح غير هذا ، لم تكن القدرة المؤثرة فيه بأولى من أن يكون هو المؤثر فيها .

وقالوا: ولو كان لا يصح وجود القدرة حتى يوجد الفعل ، كما لا يصح وجود الفعل حتى توجد القدرة ، لكان لا يصح أن يوجدا.(1)

حدثني شيخي رحمه الله (2):

إن متكلمين أحدهما عدلي، والآخر جبري ، كانا كثيراً ما يتكلان في هذه المسألة ، وإن الجبري أتى منزل العدلي ، فدق عليه الباب ، فقال العدل من ذا؟ قال: أنا فلان، قال له العدلي: أدخل ، قال له الجبري: افتح لي حتى أدخل ، قال العدلي : ادخل حتى أفتح ، فأنكر هذا عليه وقال له: لا يصح دخولي حتى يتقدم الفتح . فوافقه على قوله في القدرة والفعل ، وأعلمه بذلك وجوب تقدمها عليه ، فانتقل الجبري عن مذهبه وصار إلى الحق.

فصل: من القول في أن القدرة غير موجبة للفعل

الدليل على أنها غير موجبة ما قدمناه ، من أنها قدرة على الضدين ، فلو كانت موجبة لأوجبتها فأدى ذلك إلى المحال، وكون المكلف حاضراً ومسافراً في حال، ومتحركاً ساكناً في حال.

ص: 111


1- وذلك لأن كل واحد من الفعل والقدرة يتوقف وجوده على وجود الآخر المتوقف على نفسه وهو من الدور المحال، وما ترتب على المحال محال.
2- المراد به هو الشيخ المفيد .

ولو كانت القدرة أيضا موجبة ، لكان القادر بها مضطراً، ويخرج من كونه مختاراً. والمضطر لا معنى لتوجه الأمر والنهي إليه، ولا يحسن ثوابه وعقابه على أمر هو مضطر فيه

[أفعال الإنسان]

فصل : من القول في أن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد وأنها فعل لهم على سبيل الاحداث والإيجاد.

الدليل على أنه سبحانه لم يفعلها أن فيها قبایح ، من کفر وفسق، وظلم ، وكذب ، وليس بحكيم من فعل القبائح. ولا يجوز من الحكيم أيضا سب نفسه وسوء الثناء عليه.

ثم نحن نعلم أن من فعل شيئا اشتق له إسم من فعله ، كما يقال فمن فعل الحركة أنه متحرك ، ومن فعل السكون أنه ساكن ، ومن فعل الضرب ضارب، ومن فعل القتل قاتل. فلو كان الله تعالى هو الفاعل لأفعالنا والخالق لها دوننا ، الوجب أن يسمي بها الله عز وجل عن ذلك وتعالى .

والذي يدل على أنها فعل لنا دون غيرنا ، وقوعها بحسب تصورنا وإرادتنا ، وانتفاء المنفي منها بحسب کراهتنا ، وانتظام ما ينتظم منها بحسب مبلغ علومنا ، واختلالها بقدر اختلالاتنا.

فلو كانت فعلا لغيرنا لم يكن الأمر مقصوداً على ما ذكرنا. ونحن قد نفرق - ضرورة- بين حركة نحدثها في بعض جوارحنا، وبين الرعشة إذا حدثت في عضو منا ، ونرى وقوع إحدى الحركتين عن قصد، ووقوع الأخر بخلاف ذلك ، فلسنا نشك في أن إحداهما حادثة منا ، وفعل في الحقيقة لنا، وهي الكائنة عن قصدنا .

وشيء آخر : وهو أن الله تعالى خلق فينا الشيب والهرم، والصحة والسقم ، ولم يأمرنا بشيء من ذلك ، ولا نهانا عنه، ولا مدح الشاب على شبيبته ، ولا دم الشيخ لشيخوخته، عدلا منه سبحانه في حكمه . فلو كانت الطاعات والمعاصي

ص: 112

أيضا من فعله وخلقه ، لجرت مجرى ذلك ، وقبح أن يأمرنا بطاعة ، أو ينهانا عن معصية ، ولم يصح على شيء من ذلك مدح ولا ذم، ولا ثواب ولا عقاب ، وهذا واضح لمن عقل.

فصل: من القول أن الله تعالى لا يريد من خلقه إلا الطاعة، وأنه کاره للمعاصي كلها.

اشارة

وأما الذي يدل على أنه سبحانه لا يريد المعاصي والقبائح، ولا يجوز أن يشاء شيئا منها ، وأنه كاره لها، ساخط لجميعها . فهو أنه تعالى نهی عنها ، والنهي إنما يكون نهيا بكراهة الناهي للفعل المنهي عنه.

ألا ترى أن لا يجوز أن ينهي إلا عما يكرهه ، فلو كان النهي في كونه نهياً غير مفتقرة (1) إلى الكراهية لم يجب ما ذكرناه . لأنه لا فرق بين قول أحدنا لغيره: لا تفعل كذا وكذا ناهياً له ، وبين قوله : أنا كاره له ، كما لا فرق بين قوله : افعل ، أمرا له ، وبين قول: أنا مريد منك أن تفعل .

وإذا كان سبحانه کارها لجميع المعاصي والقبائح من حيت كونه ناهياً عنها ، استحال أن يكون مريدا لها ، لاستحالة أن يكون مريدا، كارهة لأمر واحد على وجه واحد.

ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان مريدا للقبيح لوجب أن يكون على صفة نقص وذم إن كان مريداً له بلا إرادة ، وإن كان مريدا بإرادة وجب أن يكون فاعلا للقبيح، لأن إرادة القبيح قبيحة ، ولا يكون كذلك ، كما في الشاهد ، كما لا خلاف في قبح الظلم من أحدنا.

وقد دل السمع من ذلك على مثل ما دل عليه العقل ، قال الله عز وجل :

«وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ» غافر: 31

وفي موضع آخر:

ص: 113


1- والأولى مفتقر بدل (مفتقرة).

«وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ» آل عمران: 108

وقال الله تعالی :

«كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا» الإسراء : 38

وقال تعالى:

«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » البقرة: 185 .

ونعلم أن الكفر أعظم العسر ، وقال تعالى :

«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» الذاریات: 56.

فإذا كان خلقهم للعبادة فلا يجوز أن يريد منهم غيرها ، وقال :

«وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ » الزمر:7

1- إيراد على أهل الجبر

فصل:

وقد سأل أهل العدل المجبرة عن مسألة ، ألزموهم بها ما لم يجدوا فيه حيلة .

وذلك أنهم قالوا لهم:

أخبرونا عن رجل نكح إحدى المحرمات عليه بأحد المساجد المعظمة ، في نهار شهر رمضان ، وهو عالم غير جاهل ، أتقولون إن الله تعالى أراد منه هذا الفعل على هذه الصفة ؟

قالت المجبرة : بل الله أراده .

قال لهم أهل العدل: أخبرونا عن إبليس اللعين ، هل أراد ذلك أم كرهه؟

قالت المجبرة : بلى ، هذا إنما يريده إبليس ویؤثره.

قال لهم أهل العدل: فأخبرونا: لو حضر النبي (ص)، وعلم بذلك أكان يريده أم يكره؟

قالت المجبرة: بل يكرهه ولا يريده .

ص: 114

قال لهم أهل العدل: فقد لزمكم على هذا أن تثنوا على إبليس اللعين ، وتقولوا: إنه محمود لموافقة إرادته لإرادة الله عز وجل ، وهذا ما ليس فيه حيلة لكم مع تمسككم بمذهبكم.

2- [حكاية للمؤلف في مجلس بعض الرؤساء ]

وقد كنت أوردت هذه المسألة في مجلس بعض الرؤساء مستظرفا له بها ، وعنده جمع من الناس ، فقال رجل ممن كان في المجلس يميل إلى الجبر: إن كان هذه المسألة لا حيلة للمجبرة فيها ، فعليكم أنتم أيضا مسألة لهم أخرى ، لاخلاص لكم مما يلزمكم منها .

فقلت: وما هي ؟ قال : يقال لكم إذا كان الله تعالى لا يشاء المعصية ، وإبليس يشاؤها ، ثم وقعت معصية من المعاصي، فقد لزم من هذا أن تكون مشيئة إبليس غلبت مشيئة رب العالمين.

فقلت : إنما تصح الغلبة عند الضعف وعدم القدرة ، ولو كنا نقول إن الله تعالى لا يقدر أن يجبر العبد على الطاعة ، ويضطره إليها ، ويحيل بينه وبين المعصية بالقسر والإلجاء إلى غيرها ، لزمنا ما ذكرت، وإلا بخلاف ذلك . وعندنا أن الله تعالى يقدر أن يجبر عباده ، ويضطرهم ، ويحيل بينهم وبين ما اختاروه ، فليس يلزمنا ما ذكرتم من الغلبة.

وقد أبان الله تعالى فقال:

-«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً» هود : 118

وقال تعالى :

«وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا » السجدة : 13

وإنما لم يفعل ذلك، لما فيه من الخروج عن سنن التكليف، وبطلان استحقاق العباد للمدح والذم. فتأمل ما ذكرت تجده صحيحاً ، فلم يأت بحرفي بعد هذا.

ص: 115

3- جناية المجبرة على الإسلام

اشارة

فصل: اعلم - أيدك الله تعالى - أن جناية المجبرة على الإسلام كثيرة ، وبليتها عظيمة ، بحملها المعاصي على الله تعالى ، وقولها أنه لا يكون إلا ما أراده الله تعالى ، وأنه لا قدرة للكافر على الخلاص من كفره، ولا سبيل للفاسق إلى ترك فسقه ، وأن الله تعالى قضى بالمعاصي على قوم ، وخلقها لهم، وفعلها فيهم ، ليعاقبهم عليها ، وقضى بالطاعات على قوم ، وخلقهم لها، وفعلها فيهم ، ليثيبهم علیهم.

وهذا الإعتقاد القبيح يسقط عن المكلف الحرص على فعل الطاعة ، والإجتهاد والإحتناب عن المعصية ، لأنه يرى أن اجتهاده لا ينفع ، وحرصه لا يغني ، بل لا إجتهاد في الحقيقة ولا حرص ، لأنه مفعول فيه غير فاعل ، وموجد فيه غير موجد، ومخلوق لشيء لا محيد له عنه ، ومسبوق لأمر لا انفصال له منه ، فأي خوف مع هذا يقع؟ وأي وعيد معه ينفع. نعوذ بالله مما يقولون ، ونبرأ إليه مما يعتقدون . وأنشدت لبعض أهل العدل شعراً:

سألت المخنث عن فعله*** علام تخنث يا ماذق

فقال ابتلاني بدائي العضال*** وأسلمني القدر السابق

ولمت الزناة على فعلهم ***فقالوا : بهذا قضى الخالق

وقلت لأكل مال اليتيم ***[ ألؤما ](1) وأنت امرؤ فاسق

فقال ولجلج في قوله ***أكلت وأطعمني الرازق

ص: 116


1- اضفنا هذه الكلمة لإستقامة الوزن، وهي في النسخة غير موجودة .

وكل يحيل على ربه ***وما فيهم أحد صادق

التجوز في التعبير بالإستطاعة عن الفعل ، وبنفيها عن نفيه

فصل : أعلم أيدك الله تعالى ، [أنه] قد يعبر عن نفي الفعل بنفي الإستطاعة توسعاً ومجازاً ، فيقال لمن يعلم أنه لا يفعل شيئا ، لثقله على قلبه ، ونفور طبعه منه ، إنك لا تستطيعه ، وإن كان في الحقيقة مستطيعاً له، ويقول أحدنا لمن يعلم أنه يبغضه: إنك لا تستطيع أن تنظر إلي ، والمعنى أن ذلك يثقل عليك ، ويقال للمريض الذي يجهده الصوم: إنك لا تستطيع الصيام، وهو في الحقيقة يستطيعه، ولكن بمشقة تدخل عليه ، وثقل يناله منه.

وعلى هذا المعنى يتأول قول الله جل إسمه فيما حكاه عن العالم الذي تبعه موسی علیه السلام ، حيث قال له موسی:

« هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا». الكهف: 66-67

المعنى فيه أنك لا تصبر ولا يخف عليك ، وأنه يثقل على طبيعتك ، فعبر عن نفي الصبر بنفي الإستطاعة ، وإلا فهو قادر مستطيع ، فيدل على ذلك قول موسی علیه السلام في جوابه له:

« سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا » الكهف: 69.

ولم يقل : إن شاء الله مستطيعاً ، ومن حق الجواب أن يطابق السؤال ، فدل جوابه على أن الإستطاعة المذكورة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه مجازا كما ذكرنا.

وقد يستعمل الناس هذا كثيراً، وأنشده شعراً

أرى شهوات لست أسطيع تركها ***وأحذر إن واقعتها ضرر الإثم

ص: 117

فلا النفس ننهاني وتبصر رشدها *** وأكره إتيان العقاب على علم

ولسنا نشك في أن الشاعر عني بقوله لست أسطيع تركها ، أن تركها يثقل عليه ، ولا يلاءم طبعه ، وأنه لم ينف الاستطاعة في الحقيقة عن نفسه، ولو كان أراد نفيها لم يكن معنى لقوله (واحذر أن واقعتها ضرر الإثم)، وقوله (وأكره اتيان العقاب على علم). وعلى هذا المعنى يتأول قول الله عز وجل«مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ»هود : 20

وهو أنهم لاستثقالهم استماع آيات الله تعالى ، وكراهتهم تأملها وتدبرها ، جروا مجرى من لا يستطيع السمع . كما يقال لمن عهد منه العناد واستثقال استماع الحجج والبينات، ما يستطيع استماع الحق، وما يطيق أن يذكر له. قال الأعشى : (1)0

ودع هريرة إن الركب مرتحل ***وهل تطيق وداعا أيها الرجل

ونحن نعلم أنه قادر على الوداع ، وإنما نفى قدرته عليه من حيث الكراهية والاستثقال ، ومعنى قوله : (وما كانوا يبصرون) أن أبصارهم لم تكن نافعة لهم ، ولا مجدية عليهم نفعا ، لإعراضهم عن تأمل آيات الله عز وجل وتفهمها، فلا انتفت عنهم منفعة الإبصار جاز أن ينفي عنهم الإبصار نفسه ، كما يقال عن المعرض عن الحق ، العادل عن تأمله (2) مالك لا تسمع ولا تعقل.

وقد تأول الشريف المرتضی رحمه الله هذه الآية على وجه آخر (3) ، وهو أن يكون (ما) في قوله (ما كانوا يستطيعون السمع) ليست للنفي ، بل تجري مجری

ص: 118


1- هذا البيت مطلع معلقة الأعشى المشهورة وهو من شعراء الجاهلية المشهورين أدرك الإسلام ولم يسلم توفي سنة (7) للهجرة و(629م) وهو الأعشى ميمون بن قيس ينتهي إلى نزار ، ويقال له صاجة العرب لجودة شعره.
2- في الأصل تأملها.
3- أنظر كلامه على هذه الآية في الأمالي م 2 ص163-167.

قولهم : لا واصلتك ما لاح نجم، (لا أقيمن على مودتك ما طلعت شمس).

قال الله تعالى :

«يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ۚ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ». هود: 20.

ويكون المعني اتصال عذابهم ودوامه ما كانوا أحياء.

مسألة:

وقد سألت المجبرة عن معنى قول الله تعالى «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ»البقرة: 18 وظنوا أن لهم في هذه الآية حجة يتشبثون بها.

والجواب: إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن المنافقين كانوا بهذه الصفات ، ومعلوم من حالهم أنهم كانوا بخلافها ، ولا شيء أدل على فساد التعلق بظاهرها من أن يعلم أن العيان بخلاقه ، فوجب - ضرورة - صرف الآية عن ظاهرها إلى ما يقتضيه الصواب من تأويلها .

والمراد بها أنهم لما لم ينتفعوا بهذه الحواس والآلات فيها خلقت له ، وأنعم عليهم بها لأجله ، صاروا كأنهم قد سلبوها وحرموها . وهذا مستعمل في الشاهد، يقول أحدنا لغيره وقد بين له الشيء وبالغ في إيضاحه ، وهو غير متأمل بوروده : إنك أصم وأعمى فلا تستطيع كذا تسمع [قد ختم ](1) على قلبك.

وربما تجاوز ذلك فقال له: إنك ميت لا تفهم ولا تعقل ، قال الله تعالى : «إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى»النمل : 80.

وفي هذا المعنى قال الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حياً ***ولكن لا حياة لمن تنادي (2)

ص: 119


1- قد أضفنا ما بين القوسين تصحيحاً للتعبير.
2- هذا البيت على ما أحفظه لأبي تمام الطائي الشاعر المشهور توفي سنة 231 ، وبعد البيت قوله : وناراً إن نفخت بها أضاءت*** ولكن أنت تنفخ في رماد
شبهة للمجبرة

وقد احتجت في تصحيح قولها أن الله تعالى خلق طائفة من خلقه ليعذبهم ، بقوله سبحانه:

«وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » الأعراف: 179.

قالت : فبين أنه خلقهم لمجرد العذاب في النار ، لا في غيره .

نقض عليهم

يقال لهم : حمل هذه الآية على ظاهرها مناف للعدل والحكمة، ومباين لما وصف نفسه به من الرأفة والرحمة، ومناقض لقوله عز وجل :

«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» الذاريات: 56.

ولقوله تعالى :

«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا». الفتح: 45 - 46.

من ص 77 الى ص 186

ولقوله سبحانه:

« لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا» الفرقان : 50

ولقوله جل إسمه :

« َأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » الحديد: 25

ولقوله تبارك وتعالى:

«هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ »الحديد : 9

فالواجب ردها إلى ما يلائم هذه الآيات المحكمات ، ويوافق الحجج العقلية والبينات.

ص: 120

والوجه في ذلك أن يكون المراد بقوله (ولقد ذرأنا لجهنم) العاقبة ، فكأنه قال:

ولقد ذرأناهم، والمعلوم عندنا أن مصيرهم ومآل أمرهم، وعاقبة حالهم ،دخول جهنم بسوء اختيارهم ، قال الله عز وجل:

(فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) القصص: 8 والمراد أن ذلك يكون أمرهم، لأنهم ما التقطوه إلا ليسروا به ، وكقوله سبحانه:

(وكذالك جعلنا في كل قرية أكابر مجرمیها لیمكروا فيها ) الأنعام:123 (1) والمراد أن أمرهم يؤول إلى هذه ، وعاقبتهم إليه، لا لأن الله عز وجل

جعلهم فيها ليعصوا ويمكروا.

وقوله (إنما نملي لهم ليزدادوا إثم ) وإنما أخبر بذلك عن قاقبتهم.

وهذا ظاهر في اللغة ، مستعمل بين أهلها قال الشاعر :

أم سماك فلا تجزعي*** فللموت ما تلد الوالدة .

وقال آخر:

فللموت تغذوا الوالدات سخالها *** کما لخراب الدور تبني المساكن

وهي لا تغذو أولادها للموت ، ولا تبني المساكن لخرابها ، وإنما تبنى لعارته وسكناها ، وتغذي السخال لمنفعتها ونموها ، ولكن لما كانت العاقبة تؤول إلى الموت والخراب جاز أن يقال ذلك.

ومثله قول الآخر :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ***ودورنا لخراب الدهر نبنيها

والمعنى في هذا كله واحد ، والمقصود به العاقبة ،وفيما ذكرناه كفاية .

ص: 121


1- وتسمى هذه اللام في مثل هاتين الآيتين في عرف النحاة لام العاقبة.

مسألة لهم أخرى

وقد احتجوا لمذهبهم بقول الله تعالى :

(لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون). هود : 24

وقالوا: ظاهر هذه الآية يدل على أن نصح النبي (ص) لا ينفع الكفار الذين أراد الله بهم الكفر والغواية ، وهذا خلاف مذهبكم.

نقض عليهم

يقال لهم :

إن الغواية هي الخيبة وحرمان الثواب.

قال الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ***ومن يغو لا يعدم على الغي لائمة

فكأنه قال : ولا ينفعكم نصحي إن كنتم مصرين على الكفر الذي يريد الله معه أن يحرمكم الثواب ويخيبكم منه.

وأيضا : قد سمى الله تعالى العقاب غياً ، قال : ( فسوف يلقون غيا) مريم: 59

فيكون المعني على هذا الوجه : إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفر کم ، فليس ينفعكم نصحي إلا بأن تفعلوا وتتوبوا.

وما قبل الآية يشهد بصحة هذا، وإن القوم استعجلوا عقاب الله تعالى ، فقالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأننا بما تعدنا إن كنت من الصاديقين ، قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون . سورة هود: 33 - 34

ووجه آخر في الآية

ص: 122

وهو أنه قد كان في قوم نوح طائفة [تقول] بالجبر ، فنبههم بهذا القول على فساد مذاهبهم ، وقال لهم على طريق الإنكار عليهم، والتعجب من قولهم : إن كان القول كما تقولون من أن الله يفعل فيكم الكفر والفساد فما ينفعكم نصحي ، فلا تطلبوا مني نصحاً وأنتم على قولك لا تنتفعون به .

من هم القدرية؟

(فصل: في معرفة القدرية)

أعلم أنا وجدنا كل فرقة تعرف باسم أو تنعت بنعت فهي ترتضيه ولا تنكره ، سواء كان مشتقاً من فعل فعلته، أو قول قالته ، أو من اسم مقدم لها تبعته ، ولم نجد في أسماء الفرق كلها اسما ینكره أصحابه ، ويتبرأ منه أهله ، ولا يعترف أحد به إلا القدرية. فأهل العدل يقولون لأهل الجبر: أنتم القدرية ، وأهل الجبر يقولون لأهل العدل: أنتم القدرية.

وإنما تبرأ الجميع من هذا الإسم لأن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن القدرية ، وأخبر أنهم مجوس الأمة ، والأخبار بذلك مشتهرة.

فمنها : ما حدثني به أبو القاسم هبة الله بن ابراهيم بن عمر الصواف بمصر ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان المالكي ، قال: حدثنا عباس بن محمد الدوسي ، قال : حدثنا عثمان بن زفر ، قال : حدثنا أبو معشر عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

«لكل أمة مجوس ، و مجوس هذه الأمة القدرية ، فإن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ، وإن لقيتموهم في طريق فالجأوهم إلى ضيقه »

وهذا القول من رسول الله (ص) دلالة لنا على المعرفة بالقدرية ، وتمييز لهم من بين الأمة ، لأنهم لم ينعتهم بالمجوسية إلا لموضع المشابهة بينهم وبين المجوس في المقال والاعتقاد. وقد علمنا - بغير شك ولا ارتياب - أن من قول المجوس أن الله تعالى فاعل لجميع ما سر ولذ وأبهج ، ومالت إليه الأنفس ، واشتهته الطباع،

ص: 123

کائناً ما كان، حتى أنه فاعل الملاهي والأغاني ، وكلما دخل في هذا الباب ، وهذا مذهب المجبرة بغير خلاف.

ويقول المجوس إن الله تعالي محمود على فعل الخير ، وهو لا يقدر على ضده ، وإن ابلیس مذموم على فعل الشر ولا يقدر على ضده. وهذا بعينه يضاهي قول المجبرة: إن المؤمن محمود على الإيمان وهو لا يقدر على ضده ، وإن الكافر مذموم على الكفر ولا يقدر على ضده.

وتذهب المجوس إلى القول بتكليف ما لا يطاق ، وهو رأيها الذي تدین به في الإعتقاد . ولهم في السنة يوم ، يأخذون فيه بقرة، قد زينوها ، فيربطون يديها ورجليها أوثق رباط. ثم يقر بونها إلى سفح الجبل ويضربونها لتصعد ، فإذا رأوا أن قد تعذر عليها ذلك قتلوها ، ويسمون هذا اليوم - عبد الباقور -.

وهذا هو مذهب المجبرة في القول بتكليف ما لا يستطاع ، فهم مجوس هذه الأمة وقدريتها بما اقتضاه هذا البيان.

وقد قالت العدلية للمجبرة : إن من أدل دليل على أنكم القدرية قولكم: إن جميع أفعال العباد بقدر من الله عز وجل ، وإنه الذي قدر على المؤمن أن يكون مؤمناً، وعلى الكافر أن يكون كافرا، وإنه لا يكون شيء إلا أن يقدره الله تعالى .

قالت المجبرة: بل أنتم أحق بهذا لأنكم نفيتم القدر وجحدتموه ، وأنكرتم أن يكون الله سبحانه قدر لعباده ما اكتسبوه .

قالت العدلية : قد غلطتم فيما ذكرتموه ، وجرتم فيما قضيتموه ، لأن الشيء يجب أن ينسب إلى من أثبته وأوجبه ، لا إلى من نفاه وسلبه ، ويضاف إلى من أقر به واعتقده ، لا إلى من أنكره وجحده ، فتأملوا قولنا تعلموا أنكم القدرية دوننا.

تهمة المعتزلة للشيعة بالإرجاء

فصل : وقد ظنت المعتزلة أن الشيعة هم المرجئة ، لقولهم : إنا نرجو منالله تعالى العفو عن المؤمن إذا ارتكب معصية ومات قبل أن تقع منه التوبة .

ص: 124

وهذا غلط منهم في التسمية ، لأن المرجئة إسم مشتق من الإرجاء، وهو التأخير، يقال لمن أخر أمراً: أرجأت الأمر يا رجل فأنت مرجئ، قال الله :( أرجه وأخاه) الأعراف: 111أي أخره، وقال تعالى :

(وآخرون مرجون لأمر الله). التوبة: 106 يعني مؤخرون إلى مشيئته.

وأما الرجاء فإنما يقال منه : رجوت فأنا راج ، فيجب أن تكون الشيعة راجية لا مرجئة.

والمرجئة هم الذين أخروا الأعمال ولم يعتقدوها من فرائض الإيمان ، وقدلعنهم النبي عليه السلام فيما وردت به الأخبار.

حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي البصري بمصر سنة ست وعشرين وأربعماية ، قراءة منه علينا ، قال : أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا علي بن محمد بن مهرويه القزويني ببغداد سنة ثلاث عشرة وثلاثماية ، قال : حدثنا داود بن سليمان العادي ، قال : حدثنا علي بن موسی الرضا ، قال : (1) حدثنا أبي الحسين بن علي ، قال حدثني أبي علي بن أبي طالب علیه السلام ، قال : قال رسول الله (ص) : صنفان من أمتي ليس لهم في الآخرة نصيب: المرجئة والقدرية .

أغلاط للمعتزلة

فصل : وأعلم أن المعتزلة لها من الأغلاط القبيحة ، والزلات الفضيحة ما يكثر تعداده . وقد صنف ابن الراوندي (2) کتاب فضائحهم، فأورد فيه جملاً

ص: 125


1- يبدو أن هنا سقطاً في سلسلة السند ، وهي : حدثنا أبي موسى بن جعفر قال حدثنا أبي ، جعفر بن محمد، قال حدثني أبي محمد بن علي قال: حدثني أبي الخير إلخ.
2- هو أحمد بن الحسين بن اسحاق البغدادي مات سنة 245ه له كتب كثيرة منها : کتاب فضيحة المعتزلة الذي رد عليه ابن الخياط المعتزلي بكتابه الانتصار وهو یرمي بالزندقة

من اعتقاداتهم وآراء شيوخهم، مما ينافر العقول ، ويضاد شريعة الرسول (ص) .

وقد وردت الأخبار بذمهم من أهل البيت ، ولعنهم جعفر بن محمد الصادق علیه السلام، فقال:

(لعن الله المعتزلة ، أرادت أن توحد فألحدت، ورامت أن ترفع التشبيه فأثبتت).

فمن أقبح ما تعتقده المعتزلة ، وتضاهي فيه قول الملحدة، قولهم : إن الأشياء كلها كانت قبل حدوثها أشياء ، ثم لم يقنعهم ذلك حتى قالوا: إن الجواهر في حال عدمها جواهر ، وإن الأعراض قبل أن توجد كانت أعراضاً ،

حتى أن السواد عندهم قد كان في عدمه سواداً. وكذلك الحركة قد كانت قبل وجودها حركة. وسائر الأعراض يقولون فيها هذا المقال.

ويزعمون أن جميع ذلك في العدم ذوات ، كما هو في الوجود ذوات.

وهذا إنكار لفعل الفاعل ، ومضاهاة المقال الملحدين. وقد أطلقوا هذا القول إطلاقا ، فقالوا: إن الجواهر والأعراض ليست بفاعلها . وفسروا ذلك ، فقالوا : أردنا أن الجوهر لم يكن جوهراً بفاعله ، ولا كان العرض أيضا بفاعله ، وإنهما على ما هما عليه من ذلك لنفوسهما قبل وجودهما ، ولا بجاعل جعلها . وهذا تصريح غير تلويح .

وقال لهم شيوخنا وعلماؤنا : فإذا كانت الذوات في عدمها ذواتاً ، والجواهر والأعراض قبل وجودها جواهر وأعراضاً ، فما الذي صنع الصانع ؟

قالت المعتزلة : أوجد هذه الذوات.

قال أهل الحق لهم: ما معنى قولكم: أوجدها ؟ وأنتم ترون أنها لم تكن أشياء به ، ولا ذواتا بفعله ، ولا جواهر ولا أعراضا أيضا بصنعته.

قالت المعتزلة : معنى قولنا أنه أوجدها ، أنه فعل لها صفة الوجود .

قال أصحابنا : فإذا ما فعلها ، ولا تعلقت قدرته بها، وإنما المفعول المقدور هوالصفة دونها، فأخبرونا الآن ما هذه الصفة لنفهمها؟ وهل هي نفس الجوهر

ص: 126

ونفس العرض ، فهما اللذان فعلا فكانا جوهراً وعرضاً بفاعلها ؟ وإن قلتم: إنهما شيء آخر غيرها ، فهل هي شيء أم ليست بشيء ؟

وأعلموا أنكم إن قلتم أنها شيء لزمكم أن تكون في عدمها أيضا شيئا ، وإن قلتم أنها ليست بشيء ، نفيتم أن يكون الله تعالى فعل شيئا.

قالت المعتزلة : هي أمر معقول ولم تزد على ذلك ، وأتت فيه بنظير ما أتی أصحاب الكسب المخلوق (1).

وجميع المعتزلة على هذا القول إلا أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي ، فإنه يرى أن الأشياء قد كانت كلها في عدمها أشياء ، ولم تكن جواهر ولا أعراضأ ولا ذواتا ، وإنما جعلت كذلك بفاعلها ، ولم تكن أشياء بفاعلها . فقد تبين لك رأي المعتزلة في هذا.

4- [نظرية الأصلح ]

اشارة

فصل: من الكلام في الأصلح. وقد اشتهر عن المعتزلة أنها من أهل العدل ، وذلك لقولها أن الله تعالى لا يكلف العبد إلا ما يستطيع.

ولها مع ذلك قول تنسب الله عز وجل فيه إلى الأمر القبيح، وتضاد به ما أوجبه الدليل من وصفه بالحسن الجميل، وهو ما ذهب إليه الجبائي وابنه عبد السلام ومن وافقها ، وهم اليوم أكثر المعتزلة ، من أن الله تعالى وإن كان عدلاً كريماً ، فإنه لا يفعل يخلقه الأصلح ، ولا يتفضل عليهم بالأنفع ، وإنه يقتصر بهم من النفع والصلاح على نهاية غيرها أفضل منها وأصلح ، مع حاجتهم إلى ما يمنعهم إياه من الصلاح، أو فقرهم إلى المنافع ، التي حرمهم إياها ، من الإنعام والإحسان، وهو قادر على ما يحتاجون إليه ، ومع ذلك هو غني عن منعه ، عالم بحسن بذله وفعله . والعباد يتضرعون إليه في التفضل علیهم به ، فلا يرحم

ص: 127


1- هم القائلون بأن للعبد إرادة مقارنة لإرادة الله تعالى التي هي الفاعلة فقط دون إرادة العبد ، غاية ما هناك أن إرادة العبد المفترضة هي المصححة للثواب والعقاب وإن لم يكن لها أي أثر في وجود الأفعال وتسمى هذه الارادة أو هذه القدرة بالكاسبة أي التي بها يكتسب العبدالتكليف والثواب والعقاب

تضرعهم، ويسألونه المنة بفعله فلا يجيبهم، ويرجونه فيخيب رجاء هم ، ويتمنونه من فعله فلا يهب لهم مناهم. تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً.

والذي نذهب في ذلك إليه مما وافقنا البلخي (1) فيه:

هو أن الله سبحانه متفضل على جميع خلقه بنهاية مصالحهم ، متطول عليهم بغاية منافعهم ، لا يسألونه صلاحا إلا أعطاهم ، ولا يلتمسون منه ما يعلم أنه لهم أنفع إلا فعله بهم، ولا يمنعهم إلا مما يضرهم ، ولا يصدهم إلا عما يفسدهم ، ولا يحول بينهم وبين شيء يصلحهم ، وأنه لا يقضي عليهم بشيء ، يسرهم أو يسوؤهم إلا وهو خير لهم ، وأصلح ما صرفه عنهم.

والذي يدل على ذلك هو ما ثبت من أن الله تعالى عالم بقبح القبيح ، وغني عن فعله ، لا يجبر على الحسن ، ولا يحتاج إلى منعه ، وأنه مستحق للوصف بغاية الجود ، ومنفي عنه البخل والتقصير ، خلق الخلق لمنافعهم ، واخترعهم لمصالحهم .

فلو منعهم صلاحاً لناقض ذلك الغرض في خلقهم ، ولم يكن مانعاً نفعا ، هو قادر عليه ، عالم بحسنه إلا لحاجة إليه ، أو للبخل به ، أو الإفتقار في صنعه . وذلك كله منفي عن الله سبحانه .

ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه : أنا وجدنا الحكيم إذا كان آمراً بطاعته ، فلن يجوز أن يمنع المأمور ما به يصل إليها إذا كان قادراً على أن يعطيه إياه ، وكان بذله له لا يضره، ولا يخرجه من استحقاق الوصف بالحكمة، ومنعه لا ينفعه.

وكذلك إذا كان له عدو ، يدعوه إلى موالاته ، ويحب رجوعه إلى طاعته ، فلن يجوز أن يعامله من الغلظة أو اللين إلا مما يعلم أنه أنجع فيما يريده منه ، وأدعى له إلى ترك ما هو فيه من عداوته ، والرجوع إلى ولايته. فإن عرض له أمران من الشدة والغلظة ، أو الملاطفة والملاينة ، يعلم أن أحدهما أدعى لعدوه إلى المراجعة والإنابة ، والآخر دون ذلك ، ففعل الدون ، وترك أن يفعل

ص: 128


1- هو أبو القاسم البلخي تقدمت ترجمته.

الأصلح إلا الأدعي ، وكلاهما في قدرته سواء ، ولا يضره بذلهما ، ولا ينفعه منعهما ، كان عند الحكماء جميعاً مدموماً، خارجاً عن استحقاق الوصف بالجود والحكمة .

فلما كان هذا فيما بينا على ما وصفنا ، وكان الله تعالى قادراً حكيما جواداً عالماً مواضع حاجة عباده ، آمراً لهم بطاعته، وترك عداوته ، والرجوع إلی ولايته ، لا يضره الإعطاء، ولا يلحق به صفة الذم ، ولا ينفعه المنع ، ولا يزيد في ملكه ، علمنا أنه لا يفعل بعباده إلا ما كان أصلح بحالهم، وأدعاها إلى طاعته ، صحة كان أو سقما ، لذة كان أو ألما ، آمنوا أو كفروا ، أطاعوا أم عصوا ، قال الله تعالى لرسوله عليه السلام:

(قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشی) طه: 44

هذا حين علم أن الدعاء على جهة اللين أصلح له ، ثم قال في موضع آخر :

(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، وأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) الأنعام: 42

حين كانت الشدة والغلظة أصلح في دعائهم إلى التضرع والخشوع لديهم.

وأعلم أن الأصلح إذا فعل بالعبد لا يضطره إلى إيجاد الفعل ، وإنما هو تیسر في إيجاده، ومعونة عليه ، كما أن القدرة لا تضطر العبد إلى إيجاد الفعل ، وإنما هي تمكين منه وإزاحة للعلة فيه.

فمن نسب الله تعالى إلى أنه تعالى لا يفعل بمن كلفه (1) الأصلح فقد جعله بخيلا ومقتصداً. ومن نسبه إلى أن لا يعطي من كلفه الطاعة القدرة عليها ، فقد جعله ظالماً جائراً، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.

[نقوض على هذه النظرية مع دفعها ]

فإن قال قائل : إذا كان قد فعل بجميع خلقه الأصلح ، فقد ساوى بين وليه وعدوه ، ومن ساوى بينهما فغير حكيم في فعله.

ص: 129


1- في النسخة زيادة كلمة (إ) فحدمناهما لئلا يقلب المعنى المقصود .

قلنا : إنما التسوية بينهما أن يثيبها جميعا ، أو يمدحهما ، أو يفعل بهما جميعا ما يشتهيانه ويلذهما، وليس التسوية بينهما أن يفعل لهما ما يكون أدعى إلى طاعته ، وأزجر عن معصيته.

ألا ترى أن رجلا لو كان له عبدان ، قد أطاعه أحدهما، وعصاه الآخر، فقصد إلى الذي أطاعه فمدحه، وأعطاه لتزداد بذلك رغبته في طاعته ، ويرغب عبيده في فعلها ، وقصد إلى الآخر فشتمه وعاقبه على ذنبه الذي ارتكبه ، ليزجره عن معصيته ، ويصير إلى طاعته ، وينزجر غيره أيضا عن مثل فعله ، لكان قد فعل بكل واحد منهما ما هو أصلح له. ولم يجز أن يقال - مع ذلك - أنه قد ساوى بينهما ، وقد أمر الله تعالى عبديه المؤمن والكافر بالطاعة ، ونهاهما جميعا عن المعصية ، وأقدرهما على ما كلفهما ، وأزاح عللهما . ولا يقال مع ذلك أنه قد ساوى بينهما، إلا أن يراد بالمساواة ، أنه قد عدل فيهما، ولم يظلم أحدهما، فذلك صحيح.

فإن قال: إذا أوجبتم أن يفعل بعباده كل ما فيه صلاحهم في دينهم ، وفي أداء ما كلفهم ، فقد أوجبتم أن لما عنده مما فيه صلاحهم غاية ونهاية .

قلنا: لسنا نقول ذلك، بل نقول: لا غاية لما عند الله تعالى مما فيه صلاح العباد ولا نهاية له ، ولا نفاد ، وأن في سلطانه وقدرته أمثالا لما فعله بهم مما فيه صلاحهم. ولكنه إنما يأتيهم من ذلك في كل وقت بقدر حاجتهم، وما يعلم أنه الأصلح لهم.

فإن قال: فإذا كان الذي فعل بهم مما تقولون أنه الأصلح لهم ، أمثال ، فقد وجب إذا جمعت لهم تلك الأمثال أن تكون أصلح لهم من الواحد.

قلنا لهم: ليس يجب ذلك.

ومما يدل على أن القول ما قلنا ، أنه يكون صلاح المريض مقداراً من الدواء ، ولذلك المقدار من الدواء أمثال، لو جمعت كلها له لصار تضرراً عليه ، ولقتلته .

وكذلك الجائع قد يكون مقدار من الطعام فيه صلاحه، ولذلك المقدار

ص: 130

أمثلة ، لو ضمت فأكلها لعادت علیه ضرراً ولأمرضته.

وكذلك قد يكون معنى ، هو صلاح العبد في دينه ، وله أمثال ، لو جمعت له لم يكن فيها صلاحه ، بل كان فيها ضرره وفساده.

وقد جاءت الأخبار عن آل محمد صلوات الله عليهم: بأن الله لا يفعل بعبده إلا أصلح الأشياء له.

أخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه ، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن يحيى بن ابراهيم عن عاصم بن عبيد عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين أنه قال: « الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله ، ومن صبر ورضي عن الله بما قضى عليه فيما أحب أو كره هو خير له ».

وقد ظن من لا معرفة له أنا لما قلنا إن الله تعالى يفعل بعباده الأصلح لهم ، أنه يلزمنا على ذلك ، أن يكون ما يفعله بأهل النار من العذاب أصلح لهم.

وقد رأيت من أصحابنا من يلتزم ذلك ، ويقول: قد أخبر الله تعالى عن أهل النار ، أنهم (لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه)، قال : ولو ردوا وعادوا لاستحقوا من العذاب أكثر مما يفعل بهم في النار، فالاقتصار بهم على ما هم فيه أصلح لهم.

وهذا غير صحيح، والأصلح إنما هو التيسير إلى فعل الطاعة، وتسهيل الطريق التي هي تناولها . وهذا لا يكون إلا في حال التكليف دون غيرها .

فأما الآية فإنما تضمنت تكذيب أهل النار فيما قالوه ، لأن الله تعالى أخبر عنهم فقال : (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام: 27.

فقال الله تعالى مكذبا لهم:

(بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ، ولو ردوا لعادوا لا نهوا عنه وإنهم لكاذبون). الأنعام: 28.

ص: 131

[رأي الجبائي و من تبعه من المعتزلة في الترك، ومناقشة المصنف له]

فصل من الكلام في الترك

وقد اختار عبد السلام الجبائي لنفسه قولاً قبيحاً ، ضاهي فيه قول المجبرة ، إن الله تعالى يعذب العبد على ما لم يحدثه ، وزاد عليهم بأنه قال: إنه يعدب العبد من غير فعل فعله ، ولا شيء اكتسبه.

وذلك لأنه يقول إن ترك الطاعة التي افترضها الله تعالى وأوجبها ، يجوز أن لا يكون فعلا ، ثم يعذب الله تعالى العبد لأنه ترك ، وإن لم يكن ترك شيئا ، لا فعلا ولا کسباً.

وهذا قول انفرد به ، ورأي استحدثه ، ثم تبعه معظم المعتزلة عليه من بعده.

والذي يدل على أن الله تعالى لا يعذب العبد إلا على فعل فعله ، أنا رأينا العذاب إنما يستحقه من يستحق الذم واللوم ، ورأينا في الشاهد أنا لا نستحسن ذم أحد إلا وقد استقبحنا حالا حصل المذموم عليها ، متي ارتفعت من أوهامنا ارتفع استحساننا لذمه ، ومتى حصلت حسن ذمه ، حتى إنه متى خفي أمره فلم يعلم على أي حال هو لم يستحسن حمده ولا ذمه ، إلا بتعليقه بحال ما حصل عليها ، نستحسنها في عقولنا أو نستقبحها ، فنقول إن كان على كذا حسن حمده وقبح ذمه ، وإن كان على كذا حسن ذمه وقبح حمده .

وكذلك من انتهى إلى آخر أوقات الظهر حتى تيقن أنه لم يبق من وقته إلا مقدار أربع ركعات من أخف ما يجزي ، وهو قادر ، ممكن ، ذاكر للواجب عليه من الصلاة ، فلم يصل ، فإن العقول لا تمتنع من استقباح حال هذا الإنسان على أي هيئة حصل عليها ، من اضطجاع أو قعود أو قيام أو مشي ، أو غير ذلك من الهيئات التي لا تصح معها الصلاة.

وقد علمنا أن الاستقباح يتعلق بمستقبح، فقد وجب أن يكون هناك

ص: 132

قبيح. وإذا كان هذا الاستقباح إنما يوجد عند وجود إحدى تلك الهيئات ، ويعدم بعد مها ، لأنها متی عدمت كان مصلياً ، وجب أن تكون هي القبيح الذي تعلق به الاستقباح.

ولذلك ثبت حسن ذمه في عقولنا عند حصول هذا الإستقباح ووجود هذه الهيئة، وإلا لم يحسن ، وإذا ثبت أن لهذه الهيئة حسن ذمه . ثم استدللنا بدلائل حدوث الهيئات أن هذه الهيئة حادثة من فعله ، صح بذلك أنه لا يحسن ذم الإنسان [إلا] على فعله.

وكذلك سبیل سائر المستحقين للذم، إنهم لا يستحقون إلا وقد جروا مجری هذا التارك للصلاة.

وإذا كان الذم لا يحسن إلا لما قلنا ، وجب أن يكون العقاب لا يحسن إلا له. وذلك بين لمن تأمله.

فإن اعترضه معترض في هذا وقال: ما تنكرون أن يكون الإنسان (1) يستحق الذم، لأنه لم يفعل ما وجب عليه ، إذا كان قد يحسن من العقلاء فيما بيننا إذا لاموا إنساناً ، فقيل لهم لم لمتموه ؟ أن يقولوا لأنه لم يفعل ما وجب عليه ، ويقتصروا على هذا القدر في استحقاقه الذم.

قلنا: إنا لسنا نمنع من أن يكون الإنسان يعبر عن الشيء ويريد غيره ، مما يتعلق به مجازاً واستعارة أو لعادة جارية ، أو لدلالة قائمة ، فيعبر في حال بعبارة نفي ، والمراد بها إثبات ضد المنفي ، ألا ترى أنا نقول للإنسان: أنت قادر على أن لا تمضي مع فلان ، وعلى أن لا تقوم معه ، وأنا أريد منك أن لاتصحبه ولا تمشي معه .

والقدرة عندنا وعند مخالفينا إنما هي قدرة على أن يفعل الشيء ، ليس على أن لا يفعل.

ص: 133


1- في النسخة زيادة كلمة أن المصدرية.

فقولنا : أنت قادر على أن لا تمشي معه ، إنما نريد أنه قادر على أن يفعل ضد الشيء وما لا يقع المشي معه وكذلك في الإرادة.

وإذا كان هذا کما وصفنا لم يجز لعاقل أن يقتصر في هذا الباب على ما يطلقه الناس من عباراتهم ، ويدع التأمل للمعنى الذي تعلق به الذم في العقول .

وأيضا : فإنا نعلم أنهم كما يقولون لمن لم يصل أسأت إن لم تصل ، فكذلك يقولون له أسأت في تركك الصلاة وتشاغلك عنها بما لا يجدي عليك في دين ولا دنيا ، وفرطت وضیعت، وظلمت زيدا إذ منعته حقه الذي له عليك ، وفعلت ما لا يحل ولا يحمد. فيعلقون الذم في ظاهر القول بأفعال. وقد علمنا أنهم لم يقصدوا من الذم بأحد القولين إلا إلى ما يقصدونه بالآخر ، وفي أحد القولين الإفصاح عن فعل عقلوه، فوجب أن يكون هو المقصود بالقول الآخر ، وهو الفعل المعقول الذي هو الترك.

فصل

وأعلم أن الفاعل المحدث لا يخلو من أخذ أو ترك ، وها فعلان متضادان، فهو لا [يعرو] من الأفعال في تعاقب الأضداد .

ولا يقال أن الله سبحانه لا يخلو من أخذ أو ترك، لأنه يصح أن يخلو من الأفعال ، وليس هو بمحل للأعراض ولا لتعاقب الأضداد .

والترك في الحقيقة يختص بالمحدثين ، ولا يوصف الله تعالى به إلا على المجاز والإتساع ، ولا يصح أن يقال: إنه لم يزل تاركاً في الحقيقة ، لأن ذلك يوجب أنه لم يزل خالياً من الأفعال، والقول الصحيح أنه كان قبل خلقه ليس بفاعل ولا تارك، متقدماً لجميع الأفعال فافهم ما ذكرناه .

[مواعظ وكلمات في النهي عن الظلم ]

(فصل مما ورد في ذكر الظلم)

روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

ص: 134

أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائه : ابن آدم أذكرني عند غضبك أذكرك عند غضبي ، فلا امحقك فيمن أمحق ، فإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك ، فإن انتصاري خير من انتصارك لنفسك ، وأعلم أن الخلق الحسن يذيب السيئة کا تذيب الشمس الجليد ، وإن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل .

وروي عن رسول الله (ص) قال:

« من ولي شيئا من أمور أمتي ، فحسنت سريرته لهم رزقه الله تعالى الهيبة في قلوبهم ، ومن بسط كفه لهم بالمعروف رزق المحبة منهم ، و من كف يده عن أموالهم وقي الله عز وجل ماله، ومن أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً ، ومن كثر عفوه مد في عمره، ومن عم عدله نصر على عدوه، ومن خرج من ذل المعصية إلى عن الطاعة آنسه الله عز وجل بغيرأنيس، وأعانه بغیر مال »

وروي أن في التوراة مكتوباً :

« من يظلم يخرب بيته »

ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل :

(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) النمل : 52

وقيل :

إذا ظلمت من دونك عاقبك من فوقك.

وقال رسول الله (ص):

« إن الله تعالى يمهل الظالم حتى يقول أهملني ، ثم إذا أخذه أخذه أخذة رابية ».

وقال رسول الله (ص):

إن الله تعالى حمد نفسه عند هلاك الظالمين ، فقال :

0فقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) الأنعام: 45

ومن كلام أمير المؤمنين (ع) في ذلك:

ص: 135

لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك ، فإنما يسعى في مضرته ونفعك ، وليس جزاء من سرك أن تسوء [ه].

ومن سل سيف البغي قتل به .

ومن حفر لأخيه بثراً وقع فيها .

ومن هتك حجاب أخيه هتکت عورات بيته .

بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد .

أسد حطوم خير من سلطان ظلوم.

وسلطان ظلوم خير من فتن تدوم.

أذكر عند الظلم عدل الله فيك ، وعند القدرة قدرة الله عليك.

[قال] المتنبي:

وأظلم خلق الله من بات جاسداً ***لمن بات في نعمائه يتقلب

5- [ كلمات لأمير المؤمنين (ع) وغيره في ذم الحسد ]

اشارة

فصل : قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه :

ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد ، نفس دائم ، وقلب هائم ، وحزن لازم.

وقال (ع)

الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له إليه ، بخيل بما لا يملكه.

وقال (ع):

الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .

وقال (ع):

الحسد آفة الدين ، وحسب الحاسد ما يلقی .

وقال (ع):

ص: 136

لا مروءة لكذوب، ولا راحة لحاسد، ويكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك.

وقال (ع): الحسد لا يجلب إلا مضرة وغيظاً، يوهن قلبك ، ويمرض جسمك ، وشر ما استشعر قلب المرء الحسد. تغنم (1) ونق قلبك من الغل تسلم .

وقال (ع): الحسود سريع الوثبة ، بطيء العطفة ، مغموم ، واللئيم مذموم .

وقال (ع): لا غنى مع فجور ، ولا راحة لحسود ، ولا مودة لملول.

وقال لقمان لابنه: إياك والحسد ، فإنه يتبين فيك ، ولا يتبين فيمن تحسده .

وقال آخر : ليس في خلال الشر خلة هي أعدل من الحسد ، لأنه يقتل الحاسد قبل أن يصير إلى المحسود .

وقال آخر: إذا مطر التحاسد نبت التفاسد.

وقال آخر: كل الناس أقدر أن أرضيهم إلا الحاسد ، فإنه لا يرضيه إلا زوال نعمتي.

أنشدت للشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي:

لو كنت أحسد ما تجاوز خاطري ***حسد النجوم على بقاء السرمد

لا تغبطن ع لى ترادف نعمة ***شخصا تبيت له المنون بمرصد

إذ ليس بعد بلوغه آماله ***أفضى إلى عدم كأن لم يوجد

فصل:

لا تخضعن لمترف متکبر ***إن كان ذا مال وأنت عديما (2)

ص: 137


1- كذا وردت
2- كذا وردت ولعل الصحيح: وكنت عديماً .

وأصبر على مضض الزمان وعيبه *** حتى يساعد أو تموت كريما

فلأن يموت المرء غير مذمم *** خير له من أن يعيش ذميما.

غيره :

في اليأس عز واتباع مطامع الآمال ذل وطلاب ما لم يقض صعب وهو في المقدور سهل.

غيره وهو صخرة التميمي:

وللموت خير للفتى من علاقة*** من العار بر ميه بها كل قائل.

وأنشدني أبو الحسن علي بن عبدالله بن حمزة قال أنشدني أبو طاهر الخوارزمي للقاضي الجرجاني (1):

يقولون لي فيك انقباض وإنما*** رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما

إذا قيل: هذا مورد قلت قد أری ***ولكن نفس الحر تحتمل الظما

وما كل برق لاح لي يستفزني ***ولا كل من لاقيت أرضاه منعما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ***ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكنهم قد دنسوه وعرضوا ***محياه للأطماع حتى تجهما

ص: 138


1- هو القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الفقيه الشافعي المتوفي بالري سنة (366/342 ه) ه)، أطراه الثعالي في اليتيمة ، وذكر كثيراً من شعره، ومنه الأبيات المذكورة بزيادة ونقصان وتجده ترجمته في الكنى والألقاب للقمي ، وفي وفيات الأعيان وشذرات الذهب ومعجم الأدباء وطبقات المفسرين.

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ***لأخدم من لاقيت إلا لأخدما

أأغرسه عزة وأجنيه ذلة ***إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما

وأنشدت لعبد المحسن الصوري :(1)

کد كد العبد إن أحببت أن تحسب حراً ***واقطع الآمال من جود بني آدم طرا

لا تقل : ذا مكسب يزري ***ففضل الناس . أزري

فصل

«أقوال وكلمات في الصبر »

روي عن رسول الله (ص) أنه قال:

« الصبر ستر من الكروب ، وعون على الخطوب »

وقال صلى الله عليه وآله:

بالصبر يتوقع الفرج، ومن يدمن قرع الباب يلج.

وقال عليه وآله السلام:

الصبر صبران ، صبر عند البلاء ، وأفضل منه الصبر عند المحارم.

و من كلام أمير المؤمنين (ع):

الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو .

ص: 139


1- هو عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب بن غلبون الصوري العاملي أحد الشعراء المحسنين والأدباء المجيدين أورد الثعالي في اليتيمة طائفة كبيرة من شعره، وتجد ترجمته في أمل الآمل للحر العاملي وفي وفيات الأعيان. ومن شعره و كم آمر بالصبر لم ير لوعتي ***وما صنعت نار الرأس بين أحشائي ومن أين لي صبر وفي كل ساعة*** أرى حسناتي في موازين أعدائي . وله مرثاة جيدة في الشيخ المفيد شيخ الشيعة الإمامية في عصره المتوفي سنة (413 ه) وقد توفي الصوري سنة (489ه).

من كنوز الإيمان الصبر على المصائب .

الصبر جنة من الفاقة.

أطرح عنك الهموم عزائم الصبر ، وحسن اليقين .

من صبر ساعة حمد ساعات.

وقال آخر:

أفضل العدة الصبر على الشدة .

وقال آخر :

بالصبر على مرارة العاجل ترجی حلاوة الآجل .

وقال آخر:

الصبر كإسمه ، وثمرته ثمرته.

لبعض :

أصبر لدهر نال منك*** فهكذا مضت الدهور

فرح وحزن مرة*** لا الحزن دام ولا السرور

كتب رجل إلى أخيه :

الصبر مجنة المؤمن ، وسرور الموقن ، وعزيمة المتوكل ، وسبب درك الحاجة ، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

[ قال ] ديك الجن : (1)

من كان يبغي الذل في دهره ***فليطلع الناس على فقره

ما للفتى إن عضه دهره*** معول أكرم من صبره

ص: 140


1- هو عبد السلام بن رغبان الحمصي شاعر معروف مجید ، وكان يتشیع وله مرات كثيرة في الحسين (ع) توفي سنة (235ه) وقد نسب إلى الإلحاد لتشیعه ، وهي الطريقة التي كانت متبعة في أمثاله من الشيعة كيداً واضطهاداً وتجد أخباره في الأغاني وابن خلكان وحياة الحيوان وسواها .

وكان يقال:

العافية عشرة أجزاء، فتسعة منها في الصبر، والعاشر في التفرد عن الناس.

لبعضهم:

ألم تر (1) أن الصبر أجمل للفتى ***إذا ضاق عنه أمر لم يجد عنه مخرجا

فما صفت الدنيا لصاحب نعمة *** ولا اشتد أمر قط إلا تفرجا

وقيل :

إن الأدب هو الصبر على الغصة ، حتى تدرك الفرصة.

لآخر :

ولما امتطيت صروف الزمان ***وأسلمت للدهر طوعا قيادي

تزودت صبراً لوعثائه ***وزاد أخي الصبر من خير زاد

ولم يضع الصبر قدر أمريء ***وهل يضيع الترب إثر النجاد

6- [ قصة ذريب بن ثملا وصي عیسی بن مریم (ع) ]

اشارة

*قصة ذريب بن ثملا (2) وصي عیسی بن مریم (ع)

فصل:

أخبرني أبو الحسن محمد بن علي بن صخر ، قال حدثنا أبو شجاع فارس بن موسى العرضي بالبصرة، قال حدثنا أحمد بن محمد ، قال حدثنا أحمد بن محمد بن

ص: 141


1- في النسخة (أما ترى) فأبدلناه ب (ألم تر) فرارا من الزحاف
2- أشار إلى هذه القصة صاحب لسان الميزان ج3 ص402 أشارة موجزة واعتبرها غيرصحيحة .

شيبة الكوفي ببغداد ، قال حدثنا أبو نعيم محمد بن يحيى الطوسي السراج، قال حدثنا محمد بن خالد الدمشقي ، قال حدثنا سعيد بن محمد بن عبد الرحمن بن خارجة الرقي ، قال : قال معاوية بن العضلة :

كنت في الوفد الذين وجههم عمر بن الخطاب ، وفتحنا مدينة حلوان ، وطلبنا المشركين في الشعب ، فلم نقدر عليهم ، فحضرت الصلاة ، فانتهيت إلى ماء ، فنزلت عن فرسي وأخذت بعنانه ، ثم توضأت، وأذنت فقلت : الله أكبر ألله أكبر ، فأجابني شيء من الجبل وهو يقول: كثرت كبيرا، ففزعت لذلك فزعاً شديداً ، ونظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا.

فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله ، فأجابني وهو يقول : الآن حين أخلصت.

فقلت: أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال : نبي بعث.

فقلت: حي على الصلاة ، فقال : فريضة افترضت.

فقلت: حي على الفلاح ، فقال : قد أفلح من أجابها واستجاب لها.

فقلت: قد قامت الصلاة ، فقال : البقاء ، لأمة محمد (ص)، وعلى رأسها تقوم الساعة.

فلما فرغت من أذاني ناديت بأعلى صوتي حتى أسمعت ما بين لابتي الجبل، فقلت: أنسي أم جني ؟ قال فاطلع رأسه من کهف الجبل ، فقال : ما أنا بجبنی ولكني أنسي ، فقلت له: من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا ذريب بن ثملا من حواري عیسی بن مریم (ع)، أشهد أن صاحبكم نبي، وهو الذي بشر به عیسی بن مریم (ع)، ولقد أردت الوصول إليه ، فحالت بيني وبينه فارس وكسرى وأصحابه ، ثم أدخل رأسه في كهف الجبل فركبت دابتي ولحقت بالناس ، وسعد بن أبي وقاص أميرنا ، فأخبرته بالخبر ، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب ، فجاء كتاب عمر يقول: الحق الرجل ، فركب سعد وركبت معه حتى انتهينا إلى الجبل ، فلم نترك كهفاً ولا شعباً ولا واديا إلا التمسناه فلم نقدر عليه، وحضرت الصلاة ، فلما فرغت من صلاتي ناديت بأعلى صوتي :

ص: 142

یا صاحب الصوت الحسن والوجه الجميل ، أنا قد سمعنا منك كلاما حسناً ، فأخبرنا من أنت ، يرحمك الله ، أقررت بالله تعالى ووحدانيته ، قال : فأطلع رأسه من کهف الجبل ، فإذا (1) شيخ أبيض الرأس واللحية ، له هاماً كأنها رحي، فقال:

السلام عليكم ورحمة الله ، قلت : وعليك السلام ورحمة الله ، من أنت يرحمك الله؟

قال : أنا ذريب بن ثملا، وصي العبد الصالح عیسی بن مریم (ع) ، كان قد سأل ربه لي البقاء إلى نزوله من السماء ، وقراري في هذا الجبل . وأنا موصيكم، سددوا ، وقاربوا ، وإياكم وخصالا تظهر في أمة محمد (ص)، فإن ظهرت فالهرب الهرب، ليقوم أحدكم على نار جهنم حتى تطفأ عنه خير له من البقاء في ذلك الزمان.

قال معاوية بن الفضلة : قلت له : يرحمك الله ، أخبرنا بهذه الخصال لنعرف ذهاب دنيانا وإقبال آخرتنا، قال: نعم : إذا استغني رجالكم برجالكم، واستغنت نساؤكم بنسائكم، وانتسبتم إلى غير مناسبكم، وتوليتم إلى غير مواليكم ، ولم يرحم كبيركم صغيركم، ولم يوقر صغيركم كبيركم ، وكثر طعامكم ،فلم تروه إلا غلاء أسعار کم، وصارت خلافتكم في صبيانكم ، وركن علماؤكم إلى ولاتكم، فأحلوا الحرام، وحرموا الحلال ، وأفتوهم بما يشتهون ، واتخذوا القرآن ألحاناً ومزامير في أصواتهم. ومنعتم حقوق الله من أموالكم، ولعن آخر أمتكم أولها ، وزوقتم المساجد، وطولتم المنابر ، وحليتم المصاحف بالذهب والفضة ، وركب نساؤكم السروج، وصار مستشار أموركم نساء كم وخصيانكم ، وأطاع الرجل امرأته ، وعق والديه ، وضرب شاب والدته ، وقطع كل ذي رحم رحمه ، وبخلتم بما في أيديكم ، وصارت أموالكم عند شرار کم، وكنزتم الذهب والفضة ، وشربتم الخمر ، ولعبتم بالميسر ، وضربتم بالكبر(2)، ومنعتم الزكاة ورأيتموها مغرماً ، والخيانة مغنما

ص: 143


1- في النسخة : فإذن.
2- الكبر بفتحتين هو الطبل له وجه واحد وجمعه كبار کجبل وجبال (مجمع البحرين).

وقتل البريء لتتعظ العامة بقتله ، واختلست قلوبكم فلم يقدر أحد منكم يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر ، وقحط المطر فصار قيضاً ، والولد غيظاً ، وأخذتم العطاء فصار في السقاط، وكثر أولاد الخبيثة يعني الزنا، وطففت المكيال، وكلب علیكم عدوكم ، وضربتم بالذلة وصرتم أشقياء ، وقلت الصدقة حتى يطوف الرجل من الحول إلى الحول ما يعطى عشرة دراهم ، وكثر الفجور ، وغارت العيون ، فعندها نادوا فلا جواب ، يعني دعوا فلم يستجب لهم.

شرح قوله : (ولعن آخر أمتم أولها).

فصل: أعلم- أيدك الله تعالى - أن قوله في هذا الخبر: (ولعن آخر أمتكم أولها) مما يظن الناصي أن فيه طعناً علينا ، وذلك ظن فاسد....(1) وقد لعن الله تعالى الظالمين ، فقال : (ألا لعنة الله على الظالمين)

وأخبر النبي (ص) بأن من أصحابه من يغير بعده ويبدل ويغوي ويفتن ،ويضل ويظلم ، ويستحق العقاب الأليم والخلود في الجحيم.

فما رووا عنه في ذلك قوله (ع) لأصحابه:

لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم. فقالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذن .(2)

وقوله (ص) وقد ذكرت فتنة الدجال :

لا ، فإني لفتنة بعضكم أخوف مني لفتنة الدجال (3).

وقوله (ص) لأصحابه :

« إنكم محشورون إلى الله يوم القيامة ، حفاة عراة ، وإنه سيجاء برجال من

ص: 144


1- كذلك كلات مطموسة.
2- تجد هذا الحديث في صحيح البخاری ج9 ص83 بسنده عن أبي سعيد الخدري ورواه الطبري الأمامي في المسترشد ص 28 - 29. باختلاف يسير
3- أنظر : ص96 من صحيح البخاري ج4 من طبعة مصر سنة 1306.

أمتي ، فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال ، فأقول: يا رب أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لا يزالون مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ».(1)

وقوله (ص) في حجة الوداع لأصحابه :

« ألا لأخبرنكم ترتدون بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا إني قد شهدت وغبتم ».

وقوله (ص) في مرضه الذي توفي فيه :

«أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى ».(2)

وقوله (ص):

«تكون لأصحابي بعدي زلة ، يعمل بها قوم يكبهم الله عز وجل في النار على مناخر هم »

وحدثني من طريق العامة أبو محمد عبد الله بن عثمان بن حماس بمدينة الرملة ، قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن محبوب ، قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسن ابن قتيبة العسقلاني ، قال : حدثنا كثير بن عبيد أبو الحسن الحذاء ، قال : حدثنا محمد بن حمير ، عن مسلمة بن علي ، عن عمر بن ذرة ، عن قلابة الحرمي ، عن أبي مسلم الخولاني ، عن أبي عبيدة الجراح، عن عمر بن الخطاب ، قال :

«أخذ رسول الله (ص) بلحيتي ، وأنا أعرف الحزن في وجهه ، فقال : يا عمر ، أنا لله وإنا إليه راجعون ، أتاني جبرائیل آنفا ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقلت : أجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فمم ذاك يا جبرئيل ؟ قال :

ص: 145


1- تجد بعضه مروياً في صحيح البخاري ج9 ص39 كتابه الفتن ورواه الطبري في المسترشد ص 29 باختلاف في بعض ألفاظه ومختصراً
2- عن طبقات ابن سعد ج1 ص19

إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير ، فقلت: فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال : كل سیکون ، فقلت: فمن أين ذلك ، وأنا تارك فيهم كتاب الله ؟ قال : بكتاب الله يضلون ، وأول ذلك من قبل أمرائهم وقرائهم ، بمنع الأمراء الحقوق ، فيسأل الناس حقوقهم فلا يعطونها ، فيفتنوا ويقتلوا، يتبع القراء هؤلاء الأمراء ، فيمدونهم في الفي ثم لا يقصرون. فقلت : يا جبرئیل ، فيم يسلم من يسلم منهم؟ قال: بالكف والصبر ، إن اعطوا الذي لهم أخذوه، وإن منعوهم ترکوه ».

فهذا بعض ما ورد من الأخبار في أنه قد كان بعد رسول الله (ص) من ضل وأضل، وظلم وغشم، ووجب بغیه والبراءة منه متى فعله.

فأما الوجه في اللعن الذي يجب أن يحمل عليه ما تضمنه الخبر الذي أوردناه من قوله (ص) (ولعن آخر أمتكم أولها)، فهو ما استحله الظالمون المبغضون لأمير المؤمنين (ع) من لعنة والمجاهرة بسبه وذمه ، فلسنا نشك في أنه قد تبرأت منه الخوارج، ولعنه معاوية ومن بعده من بني أمية على المنابر ، وتقرب الناس إلى ولاة الجور بذمه ، ونشأ أولادهم على سماع البراءة منه وسبه.

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن ابراهيم بن كليب السلمي الحراني رحمة الله عليه بمدينة الرملة من نقل العامة ، قال : أخبرني أبو حفص حمر بن علي العتكي الخطيب، قال: حدثني أحمد بن محمد بن سليمان الجوهري ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن السبري ، قال : حدثنا هشام بن محمد بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن السائب ، عن أبيه ، قال :

جمعنا زیاد(1) في الرحبة، فملا منا الرحبة والقصر ، وحملنا على شتم علي بن أبي طالب، والبراءة منه، والناس في أمر عظيم ، قال : فهومت برأسي تهويمة ، فإذا شيء أهدب أهدل ، ذو مشفر ، طويل ، مد إلي من السماء إلى الأرض ، ففرعت ، وقلت: من أنت ؟ قال : أنا النقاد ذو الرقبة ، أرسلني ربي إلى صاحب

ص: 146


1- هو زياد بن أبيه عامل الأمويين على العراق .

هذا القصر ، فانتبهت ، فحدثت أصحابي ، فقالوا: أنت مجنون ، فما برحنا أن خرج الآذن فقال: انصرفوا فإن الأمير قد شغل ، وإذا الفالج قد ضربه ، قال : فأنشأ عبد الرحمن يقول:

ما كان منتهياً عما أراد بنا *** حتى تناوله النقاد ذو الرقبة،

فأسقطر الشق منه حربة ثبتت ***كما تناول ظلماً صاحب الرحبة (1)

وحدثني السلمي ، قال أخبرني العتكي ، قال أخبرنا محمد بن الحسين الخزاعي الهمداني فيما قرأت عليه : أن محمود بن مثوبة الواسطي حدثهم : قال حدثنا القاسم بن عيسى ، قال حدثنا رحمة بن مصعب بن الباهلي ، قال حدثنا قرة بن خالد عن أبي رجاء العطاردي ، قال : لا تسبوا هذا الرجل يعني علياً عليه السلام، فإن رجلا سبه فرماه الله بكوكبين في عينيه »

وحدثني السلمي أيضا قال أخبرني العتكي ، قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن صالح الرازي وراق أبي ذرعة الرازي بمكة سنة ست وثلاثماية ، قال : حدثناأبو ذرعة الرازي ، قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الملك ، قال حدثني ابن أبي فديك ، قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي نعيم ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، قال :

«كنت مستنداً إلى المقصورة ، وخالد بن عبد الملك (2) على المنبر يخطب ، وهو يؤذي علياً (ع) في خطبته ، فذهب بي النعاس فرأيت القبر قد انفرج، فاطلع مطلع فقال: آذيت رسول الله لعنك الله »

وحدثني أيضا السلمي ، قال أخبرني العتكي ، قال أخبرنا أبو بكر محمد بن ابراهيم بن عبد الله بن يعقوب البغدادي ويعرف بابن نساوران بانطاكية ، قال

ص: 147


1- رواه البيهقي في المحاسن والمساوي ج (1) ص87 عن عبد الله بن السائب ، ورواه المسعودي في مروج الذهب ج3 ص 35- 36، وصاحب الرحبة هو علي (ع) لأنه قتل في رحبة المسجد
2- هكذا في النسخة ولعله : خالد بن عبد الله أي القسري.

حدثني أبو سعید الحسن بن عثمان بن زياد الخلال التستري بتستر ، قال حدثني أحمد بن حماد الطهري، قال حدثنا عبد الرزاق بن معمر ، عن الزبيري عن عكرة عن ابن عباس عن النبي (ص) قال:

«إن الله تبارك وتعالى حبس قطر المطر عن بني اسرائيل بسوء رأيهم في أنبيائهم ، وإنه حابس قطر المطر عن هذه الأمة ببغضهم علي بن أبي طالب (ع).

وحدثني السلمي ، قال أخبرني العتكي ، قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن جعفر الجوهري ، قال حدثنا أحمد بن علي المروزي ، قال حدثنا الحسن بن شعیب ، قال حدثنا خلف بن أبي هارون العبدي قال:

« كنت جالسا عند عبد الله بن عمر ، فأتى نافع بن الأزرق، فقال والله إني لأبغض علياً ، فرفع ابن عمر رأسه فقال: أبغضك الله ، أتبغض- ويحك - رجلاً، سابقة من سوابقة خير من الدنيا بما فيها .»

فقد بان بما ذكرناه ورويناه أن آخر هذه الأمة لعن أولها ، وأن متأخرها سب سابقها ، فاللعن. متوجه في الخبر المتقدم إلى مبغضي أمير المؤمنين (ع) والقادحين فيه.

وحدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي بمكة في المسجد الحرام محاذى المستجار سنة اثنتي عشرة وأربعماية ، قال أخبرني أبو محمد بن أحمد بن الحسين الشامي من كتابه ، قال حدثني أحمد بن زياد القطان في دكانه بدار القطن ، قال حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، قال حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنت عند النبي (ص)، إذ أقبل علي بن أبي طالب ، فقال :

« أتدري من هذا؟ قلت: هذا علي بن أبي طالب ، فقال النبي (ص): هذا البحر الزاخر ، هذا الشمس الطالعة ، أسخي من الفرات كفاً ، وأوسع من الدنيا قلباً ، فمن أبغضه فعليه لعنة الله»

وحدثنا الفقيه ابن شاذان رحمه الله ، قال : حدثنا سهل بن أحمد عن محمد بن

ص: 148

عبد الله الديباجي رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن محمد بن محمد بن الأشعث بمصر ، قال : حدثنا موسی بن اسماعيل ، عن أبيه ، قال : حدثني موسی بن جعفر عن أبيه عن محمد بن علي عن أبيه عن الحسين بن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص):

« دخلت الجنة فرأيت على بابها مكتوباً بالذهب : لا إله إلا الله ، محمد حبیب الله ، علي بن أبي طالب ولي الله ، فاطمة آية الله ، الحسن والحسين صفوتا الله ، على مبغضيهم لعنة الله » .

وحدثنا ابن شاذان أيضا ، قال حدثني أبو حفص عمر بن ابراهيم [ ابن ] أحمد بن كثير المقري المعروف بالكناني ، قال حدثني عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال حدثنا عبد الله بن عمر ، قال : حدثنا عبد الملك بن عمير ، قال : حدثنا سالم البزاز ، قال: حدثني أبو هريرة ، قال : قال رسول الله (ص) :

« خير هذه الأمة من بعدي علي بن أبي طالب ، وفاطمة، والحسن ، والحسين عليهم السلام، فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله »

ومما حدثنا به الشيخ الفقيه أبو الحسن ابن شاذان رحمه الله ، قال : حدثني أبي رضي الله عنه ، قال : حدثنا ابن الوليد محمد بن الحسن ، قال حدثنا الصفار محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن زياد عن مفضل بن عمر عن يونس بن يعقوب رضي الله عنه ، قال : سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول :

« ملعون ملعون کل بدن لا يصاب في كل أربعين يوما .»

فقلت : ملعون؟ قال: ملعون ، فلما رأى عظم ذلك علي قال: يا يونس، إن من البلية الخدشة ، واللطمة ، والعثرة ، والنكبة ، والفقر (1)، وانقطاع الشسع وأشباه ذلك.

یا یونس إن المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يمر عليه أربعون يوما لا يمحص فيها من ذنوبه ، ولو بغم يصيبه لا يدري ما وجهه ، وإن أحدكمليضع

ص: 149


1- في النسخة (الفقرة).

الدراهم بين يديه فيراها (1) فيجدها ناقصة فيغتم بذلك ، فيجدها سواء فيكون ذلك حطاً لبعض ذنوبه.

يا يونس : ملعون ملعون من آذى جاره ، ملعون ملعون رجل يبدأه أخوه بالصلح فلم يصالحه ، ملعون ملعون حامل القرآن ، مصر على شرب الخمر ، ملعون ملعون عالم يؤم سلطاناً جائراً، معيناً له على جوره، ملعون ملعون مبغض علي بن أبي طالب (ع)، فإنه ما أبغضه حتى أبغض رسول الله (ص) ، ومن أبغض رسول الله (ص) لعنه الله في الدنيا والآخرة. ملعون ملعون من رمی مؤمنا بكفر ، ومن رمی مؤمنا بكفر فهو كقتله.

ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمه ، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه وتطيعه في جميع أحواله .

يا يونس: قال جدي رسول الله (ص):

ملعون ملعون من يظلم بعدي فاطمة ابنتي ويغصبها حقها ويقتلها . ثم قال : یا فاطمة : البشري، فلك عند الله مقام محمود، تشفعين فيه لمحبيك وشيعتك فتشفعین

یا فاطمة لو أن كل نبي بعته الله ، وكل ملك قربه ، شفعوا في كل مبغض لك، غاصب لك ، ما أخرجه الله من النار أبدا.

ملعون ملعون قاطع رحمه ، ملعون ملعون مصدق بسحر ، ملعون ملعون من قال الإيمان قول بلا عمل ، ملعون ملعون من وهب الله له مالا فلم يتصدق به . أما سمعت أن النبي (ص) قال:

صدقة درهم أفضل من صلاة عشر ليال .

ملعون ملعون من ضرب والده أو والدته . ملعون ملعون من عق والديه ، ملعون ملعون من لم يوقر المسجد.

أتدري يا يونس لم عظم الله تعالى حق المساجد، وأنزل هذه الآية : (وأن

ص: 150


1- في النسخة فيريها.

المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)، كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم أشركوا بالله تعالى ، فأمر الله سبحانه نبيه أن يوحد الله فيها ويعبده .

رسالة للمؤلف

رسالة كتبتها إلى أحد الإخوان وسميتها بالقول المبين عن وجوب مسح الرجلين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد رسوله خاتم النبيين وآله الطاهرین.

سألت يا أخي - أيدك الله تعالى - في أن أورد لك من القول في مسح الرجلين ما يتبين لك به وجوبه وصحة مذهبنا فيه وصوابه. وأنا أجيبك إلى ما سألت ، وأورد مختصراً نطلب ما طلبت بعون الله وتوفيقه .

أعلم أن فرض الرجلين عندنا في الوضوء هو المسح دون الغسل ، ومن غسل فلم يؤد الفرض . وقد وافقنا على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ، كابن عباس (1) رحمه الله، وعكرمة ، (2) وأنس ، وأبي العالية ، والشعبي وغيرهم.

ودليلنا على أن فرضهما المسح قول الله تعالى :

(يا أيها الذين إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ..) النساء :6

فتضمنت الآية جملتين ، صرح فيهما بحكمين ، بدأ في الجملة الأولى بغسل

ص: 151


1- هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي (ص) وحبر الأمة وترجمان القرآن - كما وصفوه - ولد بمكة قبل الهاجرة بثلاث سنين وتوفي بالطائف سنة 68 ه بعد أن كف بصره، وينسب له التفسير المطبوع المعروف بتفسير ابن عباس ، ولي لأمير المؤمنين علي (ع) البصرة وقيل أنه احتجن ما في بيت المال وهرب به ، وجرت بينه وبين الإمام (ع) مراسلات و مکاتبات في شأن ذلك تجدها في العقد الفريد وبعضها في نهج البلاغة، وهو جد الخلفاء العباسيين.
2- هو أبو عبد الله عكرمة البربري مولى عبد الله بن عباس ، حدث عن جماعة من الصحابة ومنهم عبد الله بن العباس، كان يرى رأي الخوارج وهو متهم بالكذب مات ( 107/105 ه).

الوجوه ، ثم عطفت الأيدي عليها ، فوجب لها من الحكم بحقيقة العطف مثل حكمها .

ثم بدأ في الجملة الثانية بمسح الرؤوس ، ثم عطف الأرجل عليها ، فوجب أن يكون لها من الحكم بحقيقة العطف مثل حكمها، حسبما اقتضاه العطف في الجملة التي قبلها . (1)

ولو جاز أن يخالف في الجملة الثانية بين حكم الرؤوس والأرجل المعطوفة عليها ، لجاز أن يخالف في الجملة الأولى بين حكم الوجوه والأيدي المعطوفة عليها . فلما كان هذا غير جائز کان الآخر مثله ، فعلم وجوب حمل كل عضو معطوف في جملة على ما قبله، وفيه كفاية لمن تأمله.

فإن قال قائل : إنا نجد أكثر القراء يقرأون الآية بنصب الأرجل ، فيكون الأرجل في قراءتهم معطوفة على الأيدي، وذلك موجب للغسل.

قيل له : أما الذين قرأوه بالنصب من السبعة فليسوا بأكثر من الذين قرأوا بالجر ، بل هم مساوون لهم في العدد . وذلك إن ابن كثير ، (2) وأبا بكر ،(3) و حمزة عن (4) عاصم ، (5) قرأوا أرجلكم بالجر . وابن عامر ،(6) والكسائي ، (7) وحفصاً ، (8) عن عاصم ، قرأوا وأرجلكم بالنصب .

ص: 152


1- لأن الواو العاطفة تدل على مشاركة ما بعدها في الحكم لما قبلها وهي لمطلق الجمع.
2- هو أبو معبد عبدالله أحد القراء السبعة كانت وفاته بمكة المكرمة سنة (120ه).
3- هو شعبة وقيل سالم بن عیاش الأسدي الكوفي أخذ عن عاصم أحد القراء السبعة توفي بالكوفةسنة (193 ه) وكان من الزهاء العباد اضطهد وشتم وحبس في سبيل نهيه عن المنكر .
4- هو حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة وكان فقيها توفي سنة 156 ه
5- هو عاصم بن بهدلة ويكنى أبا بكر بن أبي النجود قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش توفي سنة
6- هو عبد الله بن عامر اليخصبي أحد القراء السبعة من التابعين من أهل دمشق مات سنة 128 ه.
7- هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان وقيل بهمن بن فيروز ، اتصل بالرشيد وأدب ولديه الأمين والمأمون أخذ عن الرؤاسي وغيره ، توفي سنة 197 ه، أخذ عن حمزة بن حبیب وعبد الرحمن بن أبي ليلى
8- هو حفص بن سليمان أبو عمرو البزار أخذ القراءة عن عاصم مرتفعة إلى علي (ع) من رواية أبي عبد الرحمن السلمي مات حفص سنة 131 ه.

وقد ذكر العلماء بالعربية أن العطف من حقه أن يكون على أقرب مذکور دون أبعده ، هذا هو الأصل ، وما سواه عندهم تعسف وانصراف عن حقيقة الكلام إلى التجوز ، من غير ضرورة تلجيء إلى ذلك.

وفيه إيقاع للیس ، وربما صرف المعني عن مراد القائل. ألا ترى أن رئيسا لو أقبل على صاحب له ، فقال له: أكرم زيداً وعمراً، واضرب بكراً وخالداً ، كان الواجب على الصاحب أن يميز بين الجملتين من الكلام ، ويعلم أنه ابتداء في كل واحدة منهما ابتداء عطف باقي الجملة عليه ، دون غير، وأن بكراً في الجملة الثانية معطوف على خالد ، كما أن عمراً في الجملة الأولى معطوف على زيد.

ولو ذهب هذا الأمور إلى أن بكراً معطوف على عمرو، لكان قد انصرف عن الحقيقة ومفهوم الكلام في ظاهره، وتعسف تعسفا صرف به الأمر عن مراد الآمر به ، فأداه ذلك إلى إكرام من أمر بضربه.

ووجه آخر، وهو أن القراءة بنصب الأرجل غير موجبة أن تكون معطوفة على الأيدي ، بل تكون معطوفة على الرؤوس في المعنى دون اللفظ ، لأن موضع الرؤوس نصب ، لوقوع الفعل الذي هو المسح ، وإنما انجرت بعارض وهو الباء . والعطف على الموضع دون اللفظ جائز مستعمل في لغة العرب، ألا تراهم تقولون: مررت بزید وعمراً، ولست بقائم ولا قاعداً. قال الشاعر : معاوي إننا بشر فاسحج *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا

والنصب في هذه الأمثلة كلها انما هو العطف على الموضع دون اللفظ .

فيكون على هذا من قرأ الآية بنصب الأرجل ، كمن قرأها بجرها ، وهي في القرآن جميعا معطوفة على الرؤوس التي هي أقرب إليها في الذكر من الأيدي ، ويخرج ذلك عن طريق التعسف ، ويجب المسح بها جميعا والحمد لله.

وشيء آخر وهو: أن حمل الأرجل في النصب على أن تكون معطوفة علی الرؤوس أولى من حملها على أن تكون معطوفة على الأيدي. وذلك أن الآية قد

ص: 153

قرئت بالجر والنصب معا ، والجر موجب للمسح، لأنه عطف على الرؤوس ، فمن جعل النصب إنما هو لعطف الأرجل على الأيدي ، أوجب الغسل وأبطل القراءة بالجر الموجب للمسح، ومن جعل النصب إنما هو لعطف الأرجل على موضع الرؤوس، أوجب المسح الذي أوجبه الجر ، فكان مستعملا للقرائتين جميعا غير مبطل لشيء منهما، ومن استعملهما فهو أسعد ممن استعمل أحدهما .

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون استعمال القرائتين إنما هو بغسل الرجلين وهو أحوط في الدين ، وذلك أن الغسل يأتي على المسح ويزيد عليه ، فالمسح داخل فيه. فمن غسل فكأنما مسح وغسل ، وليس كذلك من مسح ، لأن الغسل غیر داخل في المسح.

قلنا: هذا غير صحيح، لأن العسل والمسح فعلان ، كل واحد منهما غير الآخر ، وليس بداخل فيه ، ولا قائم مقامه في معناه الذي يقتضيه .

ويتبين ذلك أن الماسح كأنه قيل له: اقتصر فيما تتناوله من الماء على ما یندی به العضو الممسوح، والغاسل كأنه قيل له : لا تقتصر على هذا القدر ، بل تناول من الماء ما يسيل ويجري على العضو المغسول.

فقد تبين أن لكل واحد من الفعلين كيفية يتميز بها عن الآخر، ولولا ذلك لكان من غسل رأسه فقد أتى على مسحه ، ومن اغتسل للجمعة فقد أتى على وضوئه. هذا مع أجماع أهل اللغة والشرع على أن المسح لا يسمى غسلا ، والغسل لا يسمى مسحاً.

فإن قيل: لم زعمتم ذلك؟ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قوله سبحانه :

(فطفق مسحاً بالسوق والأغناق) ص: 33 إلى أنه أراد غسل سوقها وأعناقها ، فسمى الغسل مسحاً .

قلنا: ليس هذا مجمعاً عليه في تفسير الآية. وقد ذهب قوم إلى أنه أراد المسح بعينه .

ص: 154

وقال أبو عبيدة (1) والفراء (2) وغيرهما أنه أراد بالمسح الضرب.

وبعد فإن من قال إنه أراد بالمسح الغسل لا يخالف في أن تسمية الغسل مسحاً مجازاً واستعارة ، وليس هو على الحقيقة ، ولا يجوز لنا أن نصرف کلام الله تعالى عن حقائق ظاهرة إلا بحجة صارفة.

فإن قال: ما تنكرون من أن يكون جر الأرجل في القراءة إنما هو لأجل المجاورة لا للنسق، فإن العرب قد تعرب الإسم بإعراب ما جاوره ، كقولهم : (حجر ضب خرب)، فجروا خرباً لمجاورته لضب ، وإن كان في الحقيقة صفة للحجر لا للضب ، فتكون كذلك الأرجل إنما جرت لمجاورتها في الذكر لمجرور وهو الرؤوس ، قال امروء القيس :

كأن ثبيراً في عرانين وبله *** كبير أناس في بجاد مزمل (3)

فجر مزملا لمجاورته لبجاد، وإن كان من صفات الكبير ، لا من صفات البجاد ، فتكون الأرجل على هذا مغسولة وإن كانت مجرورة.

ص: 155


1- هو معمر بن المثنى التيمي من تیم قریش مولى لهم من علماء اللغة والأدب والأخبار، وكان شعوبيا ومع هذا يرى رأي الخوارج ، له مؤلفات عديدة ولد سنة 112 ه ، وتوفي سنة 211 ه.
2- هو أبو زکریا یحیی بن زياد الفراء من أئمة العربية له مؤلفات كثيرة فيها ، مات بطريق مكة سنة 207 ه.
3- هو من معلقة امرئ القيس المشهورة التي أولها قفا نبك من ذكرى حبيبا ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل وفي ديوان امرئ القيس باخراج السندوبي روى البيت هكذا كان أبانا في أفانين ودقه *** كبير أناس في بجاد مزمل وثبير : جبل. أفانين: ضروب. البجاد: کساء مخطط. مزمل : ملفف. وامرئ القيس هو ابن الملك حجر بن الحارث الكندي ، ويقال له الملك الضليل توفي سنة 80 قبل الهجرة وسنة 565 م . وهو من فحول الشعراء الجاهليين حتى قيل أنه بدى الشعر بملك يعني أمرئ القيس ، وحتم بملك يعني أبا فراس الحمداني.

قلنا: هذا باطل من وجوه ، أولها :

اتفاق أهل العربية على أن الإعراب بالمجاورة شاذ نادر لا يقاس عليه ، وإنما ورد مسموعاً في مواضع لا يتعداها إلى غيرها ، وما هذا سبيله فلا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجىء إليه.

وثانيها : أن المجاورة لا يكون معها حرف عطف ، وهذا ما ليس فيه بين العلماء خلاف

وفي وجود واو العطف في قوله تعالى (وأرجلكم) دلالة على بطلان دخول المجاورة فيه وصحة العطف.

وثالثها : أن الإعراب بالجوار إنما يكون بحيث ترتفع الشبهة عن الكلام ، ولايعترض اللبس في معناه، ألا ترى أن الشبهة زائلة ، والعلم حاصل في قولهم (حجر ضب خرب) بأن خرباً صفة للحجر دون الضب .

وكذلك ما أنشد في قوله (مزمل) وأنه من صفات الكبير دون البجاد .

وليس هكذا الآية ، لأن الأرجل يصح أن فرضها المسح کا يصح أن يكون الغسل، فاللبس مع المجاورة فيها قائم، والعلم بالمراد منها مرتفع. فبان بما ذكرناه أن الجر فيها ليس هو بالمجاورة والحمد لله.

فإن قيل : كيف أدعيتم أن المجاورة لا تجوز مع واو العطف؟ وقد قال الله عز وجل :

(يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ، وأباريق)(1)

ثم قال: (وحور عين) (2)

فخفضهن بالمجاورة، لانهن يطفن ولا يطاف بهن .

قلنا: أول ما في هذا أن القراء لم يجمعوا على جر (حور عين)، بل أكثر السبعة يرى أن الصواب فيها الرفع ، وهم نافع ، وابن كثير ، وعاصم في رواية

ص: 156


1- سورة الواقعة آية :17 - 18.
2- الواقعة آية: 21.

أبي عمرو، وابن عامر ، وإنما قرأها بالجر حمزة والكسائي ، وفي رواية المفضل عن عاصم.

وقد حكي عن أبي عبيدة أنه كان ينصب ، فيقرأ (وحوراً عيناً).

ثم إن للجر فيها وجها صحيحاً غير المجاورة، وهو أنه لما تقدم قوله تعالى : (أولئك المقربون في جنات النعيم) الواقعة :12 - 13 عطف (بحور عين) على (جنات النعيم)، فكأنه قال: هم في جنات النعيم ، وفي مقارنة أو معاشرة حور عين ، وحذف المضاف (1).

وهذا وجه حسن ، وقد ذكره أبو علي الفارسي (2) في كتاب (الحجة في القرآن) واقتصر عليه دون ما سواه، ولو كان للجرو بالمجاورة فيه وجه لذكره.

فإن قيل : ما أنكرتم من أن تكون القراءة بالجر موجبة للمسح إلا أنه متعلق بالخفين لا بالرجلين ، وأن تكون القراءة بالنصب موجبة للغسل المتعلق بالرجلين بأعيانهما ، فيكون للآية قراء اتان مفيدة لكلا الأمرين ؟

قلنا: أنكرنا ذلك لأنه انصراف عن ظاهر القرآن والتلاوة إلى التجوز والاستعارة من غير أن تدعو إليه ضرورة ، ولا أوجبته دلالة ، [و] ذلك خطأ لا محالة.

والظاهر يتضمن ذكر الأرجل بأعيانها ، فوجب أن يكون المسح متعلقاً بها دون غيرها ، كما أنه يتضمن ذكر الرؤوس، وكان الواجب المسح بها أنفسها دون أغيارها.

ولا خلاف في أن الخفاف لا يعبر عنها بالأرجل ، كما أن العمائم لا يعبر عنها

ص: 157


1- وهو المقارنة أو المعاشرة
2- هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفسوي النحوي من أئمة العلم والأدب ولد بمدينة (فسا) سنة 288 ه، وقدم بغداد واشتغل بها سنة 307 ه، وأصبح إمام عصره في النحو واتصل بسيف الدولة الحمداني وأقام عنده مدة وذلك سنة 341 ه، وجرت بينه وبين المتني الشاعر محاورات ، توفي في بغداد سنة 377 ه.

بالرؤوس، ولا البراقع بالوجوه، فوجب أن يكون الغرض متعلقاً بنفس المذكور دون غيره على جميع الوجوه .

ولو شاع سوى ذلك في الأرجل حتى تكون هي المذكورة والمراد من سواها ، لشاع نظيره في الوجوه والرؤوس ، ولجاز أيضا أن يكون قوله سبحانه:

(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) المائدة : 33 محمولا على غير الأبعاض المذكورة .

ولا خلاف في أن هذه الآية دالة بظاهرها على قطع الأيدي والأرجل بأعيانها، وأنه لا يجوز أن ينصرف عن دليل التلاوة وظاهرها ، فكذلك آية الطهارة لأنها مثلها .

فإن قيل: إن عطف الأرجل على الأيدي أولى من عطفها على الرؤوس لأجل أن الأرجل محدودة كاليدين ، وعطف الحدود على الحدود أشبه بترتیب الكلام.

قلنا : لو كان ذلك صحيحاً لم يجز عطف الأيدي وهي محدودة على الوجوه وهي غير محدودة، في وجود ذلك، وصحة اتفاق الوجوه والأيدي في الحكم مع اختلافهما في التحديد دلالة على صحة عطف الأرجل على الرؤوس، واتفاقهما في الحكم وإن اختلفا في التحديد.

على أن هذا أشبه بترتيب الكلام ما ذكره الخصم، لأن الله تعالى ذكر عضواً ممسوحاً غير محدود ، وهو الرأس، وعطفه عليه من الأرجل بممسوح محدود ، فتقابلت الجملتان من حيث عطف فيهما مغسول محدود على مغسول غير محدود، وممسوح محدود على ممسوح غير محدود.

فأما من ذهب إلى التخيير وقال: أنا مخير في أن أمسح الرجلين وأغسلهما ، لأن القراءتين تدل على الأمرين کليهما، مثل الحسن البصري ، والجبائي ، ومحمد ابن جرير الطبري ومن وافقهم ،(1) فيسقط قولهم ما قدمناه من أن القراءتين

ص: 158


1- هذا الرأي تضمنه التساؤل السابق على الأخير

لا يصح أن تدلا إلا على المسح، وأنه لا حجة لمن ذهب إلى الغسل ، وإذا وجب المسح بطل التخيير.

وقد احتج الخصوم لمذهبهم من طريق القياس ، فقالوا: إن الأرجل عضو يجب فيه الدية ، أمرنا بإيصال الماء إليه ، فوجب أن يكون مغسولا كاليدين.

وهذا احتجاج باطل ، وقياس فاسد ، لأن الرأس عضو يجب فيه الدية ، وقد أمرنا بإيصال الماء إليه ، وهو مع ذلك ممسوح.

ولو ترکنا والقياس ، لكان لنا منه حجة، هي أولى من حجتهم ، وهي أن الأرجل عضو من أعضاء الطهارة الصغرى ، يسقط حكمه في التيمم ، فوجب أن يكون فرضه المسح دلیله [ القياس على ] الرأس.

فإن قالوا: هذا ينتقض عليكم بالجنب ، لأن غسل جميع بدنه وأعضائه يسقط في التيمم [و] فرضه مع ذلك الغسل.

[قلنا ] وقد احترزنا من هذا بقولنا إن الأرجل عضو من أعضاء الطهارة الصغرى ، فلا يلزمنا بالجنب نقض على هذا.

فإن قال قائل : فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي (ص):

(أنه توضأ، فغسل وجهه وذراعيه، ثم مسح رأسه وغسل رجليه ، وقال :

هذا وضوء الأنبياء من قبلي ، هذا الذي لا تقبل الصلاة إلا به)؟

قيل : هذا الخبر الذي مختلط من وجهين رواهما أصحابك.

أحدهما : أن النبي (ص) توضأ مرة مرة، وقال: (هذا الذي لا يقبل الله صلاة إلا به) ولم يأت في الخبر كيفية الوضوء.

والآخر: أن النبي (ص) غسل وجهه ثلاثاً ، ويديه ثلاثاً ، ومسح رأسه، وغسل رجليه إلى الكعبين ، وقال : (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي) ولم يقل : لم يقبل الله صلاة إلا به ، فخلطت في روايتك أحد الخبرين بالآخر ، لبعدك من معرفة الأثر.

وبعد فلو كانت الرواية على ما أوردته لم يكن لك فيها حجة ، لأن الخبر

ص: 159

إذا خالف ما دل عليه القرآن وجب اطراحه والمصير إلى القرآن دونه .

ولو سلمنا لك باللفظ الذي تذكره بعينه، كان لنا أن نقول: إن النبي (ص) مسح رجليه في وضوئه ثم غسلهما بعد المسح لتنظيف أو تبريد أو نحو ذلك مما ليس هو داخلا في الوضوء ، فذكر الراوي الغسل ولم يذكر المسح الذي كان قبله ، إما لأنه لم يشعر به بعدم تأمله ، أو لنسيان اعترضه ، أو لظنه أن المسح لا حكم له ، وأن الحكم للغسل الذي بعده ، أو لغير ذلك من الأسباب. وليس هذا بمحال.

فإن قال: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

(ويل للأعقاب من النار)

فلو كان ترك غسل العقب في الوضوء جائزاً لما توعد على ترك غسله .

قلنا : ليس في هذا الخبر ذكر مسح ولا غسل فيتعلق به ، ولا فيه أيضا ذكر وضوء فنورده لنحتج (1) به ، وليس فيه أكثر من قوله : ويل للأعقاب من النار .

فإن قال: قد روى أنه رآها تلوح ، فقال : (ويل للأعقاب من النار).

قيل له: وليس لك في هذا أيضا حجة ، ولا فيه ذكر لوضوء في طهارة .

وبعد فيحوز أن يكون رأى قوما غسلوا أرجلهم في الوضوء عوضا عن مسحها ، ورأى أعقابهم يلوح عليها الماء ، فقال : ويل للأعقاب من النار .

ويجوز أيضا أن يكون رأى قوما اغتسلوا من جنابة ولم يغمس الماء جميع أرجلهم ، ولا حت أعقابهم بغير ماء ، فقال : ويل للأعقاب من النار .

ويمكن أيضا أن يكون ذلك في الوضوء لقوم من طغام العرب مخصوصين ، كانوا يمشون حفاة ، فتشقق أعقابهم، فيداوونها بالبول على قديم عادتهم، ثم يتوضأون ولا يغسلون أرجلهم قبل الوضوء من آثار النجس ، فتوعدهم النبي (ص) بما قال : وكل هذا في حيز الإمكان.

ص: 160


1- في النسخة نحتج فأضفنا إليها اللام لتصحيح التعبير .

ثم يقال: له: وقد قابل ما رويت أخبار، هي أصح وأثبت في النظر ، والمصير إليها أولى لموافقة ظاهرها لكتاب الله تعالى .

فمنها : إن النبي (ص) قام بحيث يراه أصحابه ، ثم توضأ ، فغسل وجهه وذراعيه ، ومسح برأسه ورجليه.

ومنها : أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال للناس في الرحبة:

ألا أدلكم على وضوء رسول الله (ص)

قالوا : بلى ، فدعا بعقب فيه ماء ، فغسل وجهه وذراعيه ، ومسح على رأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث حدثا .

فإن قال الخصم: ما مراده بقوله:

وضوء من لم يحدث حدثاً؟ وهل هذا إلا دليل على أنه قد كان على وضوء قبله ؟

قيل له : مراده بذلك أنه الوضوء الصحيح الذي كان يتوضأ رسول الله (ص)، وليس هو وضوء من غير وأحدث في الشريعة ما ليس منها .

ويدل على صحة هذا التأويل وفساد ما توهمه الخصم أنه قصد أن يريهم فرضا يعولون عليه ، وتقيدون به فيه . ولو كان على وضوء قیل ذلك ، لكان لم يعلمهم الفرض الذي هم أحوج إليه.

ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمين (ع) من قوله :

(ما نزل القرآن إلابالمسح).

ولا يجوز أن يكون أراد بذلك إلا مسح الرجلين، لأن مسح الرؤوس لا خلاف فيه.

ومنه قول ابن عباس رحمه الله

(نزل القرآن بغسلين ومسحين)

ومن ذلك اجماع آل محمد عليهم السلام على مسح الرجلين دون غسلهما ، وهم

ص: 161

الأئمة والقدوة في الدين ، لا يفارقون كتاب الله عز وجل ، إلى يوم القيامة (1) وفيما أوردناه كفاية والحمد لله

(سؤال)

فإن قال قائل : فلم ذهبتم في مسح الرأس والرجلين إلى التبعیض؟

(جواب)

قيل له : لما دل عليه من ذلك كتاب الله سبحانه وسنة نبيه (ص).

أما دليل مسح بعض الرأس فقول الله تعالى : (وامسحو برؤوسكم) فأدخل الباء التي هي علامة التبعيض ، وهي التي تدخل على الكلام مع استغنائه في إفادة المعنى عنها ، فتكون زائدة ، لأنه لو قال: (وامسحوا رؤوسكم) لكان الكلام صحيحاً ، ووجب مسح جميع الرأس ، فلما دخلت الباء التي لم يفتقر الفعل في تعديته إليها أفادت التبعيض.

وأما دلیل مسح بعض الأرجل، فعطفها على الرؤوس ، والمعطوف يجب أن يشارك المعطوف عليه في حكمه.

وأما شاهد ذلك من السنة في روي أن رسول الله (ص) توضأ ومسح بناصيته ولم يمسح الكل .

ومن الحجة على وجوب التبعيض في مسح الرؤوس والأرجل إجماع أهل البيت عليهم السلام على ذلك وروايتهم إياه عن رسول الله جدهم (ص)، وهم أخبر بمذهبه .

(سؤال)

فإن قال قائل : ما الكعبان عندكم اللذان تمسحون عليها ؟

ص: 162


1- هو إشارة إلى الحديث المشهور المستفيض: « إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض..». رواه مسلم والبيهقي والحاكم في المستدرك والنسائي في الخصائص وأحمد في المسند، وابن سعد في الطبقات والهندي في كنز العمال ، وغيرها . أنظر : (فضائل الخمسة ج 2، ص 43 - 52).

(جواب)

قيل له : العظمان النابتان في ظهر القدمين عند عقد الشراك، وقد وافقنا على ذلك محمد بن الحسن (1) دون من سواه.

دليلنا ما رواه أبان بن عثمان عن ميسر عن أبي جعفر (ع) أنه قال:

ألا أحكي لك وضوء رسول الله (ص) ، ثم انتهى إلى أن قال: فمسح رأسه وقدميه، ثم وضع يده على ظهر القدم (2)

***

ثم قال : (3) وذكرت فأوجزت، وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه بأبصارنا ، أو سمعناه بآذاننا ، أو ذقناه بأفواهنا ، أو شممناه بأنوفنا ، أو لمسناه ببشرتنا.

فقال الصادق عليه السلام:

ذكرت الحواس الخمس ، وهي لا تنفع في الاستنباط إلا بدليل ، كما لا يقطع الظلمة إلا بمصباح . (4)

قال شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رضي الله عنه:

ص: 163


1- هو محمد بن الحسن بن واقد الشيباني مولى بني شيبان وصاحب أبي حنيفة ولد بواسطة سنة 132ه ومات بالري سنة 189 ه أخذ عن أبي حنيفة والثوري ومسعر بن کدام والأوزاعي ومالك.
2- اختصر المؤلف هذا الحديث ، ويبدو أنه قد سقط من النسخة طائفة كبيرة من بحث كيفية الوضوء .
3- قد سقط من النسخة أوائل الحديث الثاني المتعلق بحدوث العالم واثبات الصانع.
4- أول الحديث هو أنه سأل أبو شاكر الديصاني الإمام الصادق فقال له : ما الدليل على حدوث العالم ، فقال (ع): نستدل عليه بأقرب الأشياء ، قال : وما هو؟ قال فدعا (ع) بيضة فوضعها على راحته ، فقال : هذا حصن ملموم داخله غرقی رقیق لطیف ، به فضة سائلة وذهبة مائعة ، ثم تنغلق عن مثل الطاووس ، أدخلها بشيء ؟ فقال: لا، قال: فهذا الدليل على حدوث العالم . قال : أخبرت فأوجزت وقلت فأحسنت ، وقد علمت ...» أنظر : توحيد الصدوق ص303.

إن الصادق عليه السلام أراد أن الحواس بغير عقل لا توصل إلى معرفة الغائبات. وإن الذي أراه من حدوث الصورة معقول بنا [لوقوع] العلم به على محسوس . (1)

وأعلم - أيدك الله تعالى - أن الأجسام إذا لم تخل من الصور التي قد ثبت حدوثها فهي محدثة مثلها .(2)

فصل: (في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ووصف شيء من فضله).

روی نقلة الأخبار وحملة الآثار من الخاص والعام أن رسول الله (ص) قال :

(أنا سيد ولد آدم، وأنا سيد البشر)

وقال أمير المؤمنين (ع):

(ما برء الله نسمة خيراً من محمد صلى الله عليه وآله)

وجاء في الحديث النبي (ص) أنه قال :

(نقلت من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة نکاحاً لا سفاحا).

وروي عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال:

(نزل جبرئیل (ع) على رسول الله (ص) فقال:

يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام، ويقول:

(إني قد حرمت النار على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وثدي أرضعك).

وژوي: أن نوره (ص) كان يلوح في جبهة آدم (ع)، وان الله سبحانه أعلم بحاله ، وبين أمره، وعهد إليه أن لا يقرب حواء إلا وهما طاهران ، لأجل انتقال ذلك النور إلى ولده ، وأن عهداً باقياً في عقبه ، يأخذه كل أب منهم على

ص: 164


1- في العبارة قلق يحول دون وضوح المعنى ولعل هنا سقوط جملة أو جمل من قلم الناسخ .
2- ذلك لأن الجسم أو الهيولى حيث وجدت تكون في صورة ما ، ولا يوجد بدون صورة ، والصورة متغيرة إذن الجسم متغير فهو محدث ، ولذلك قال الفلاسفة: إن شيئية الشيء بصورته لا بمادته.

ابنه ، ممن يظهر نور رسول الله (ص) في وجهه ، بأنه لا يتزوج إلا بأطهر نساء أهل وقته ، حراسة لهذا النور ألا ينتقل إلا [ في ] درجات الشرف، ومنازل الطهارة ، من الدنس ، فلم يزل نوره منتقلا فيهم، ظاهراً بين أعينهم، يدرکه الناس بالمشاهدة، ويرون خلو الوالد منه ، إذا انتقل إلى ولده . وهو يزداد بالانتقال بیانا، ويتضاعف بالموارثة برهانا ، إلى انتهى إلى عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف رضوان الله عليهم ، فظم في وجهه ، وأضاء في غرته ، وعلمت حاله الأحبار، وأخبرت بأمره الكهان، وذاع خبره في البلاد .

حتى روي (1) أن أحبار يهود الشام كانت عندهم جبة مغموسة في دم یحیی ابن زکریا (ع)، وكانوا قد وجدوا في كتبهم أن إذا رأيتم الجبة بيضاء والدم يقطر ، فاعلموا أن أبا النبي محمد المصطفی قد ولد ، فلما رأوا ذلك من حالها ، تحققوا ولادة عبد الله بن المطلب ، عمدوا بأجمعهم إلى الحرم ليغتالوه ، ويغتنموا الظفر به فيقتلوه ، فصرف الله سبحانه عنه کیدهم، وردهم خائبين إلى بلادهم، وكانوا إذا سألوا عنه قيل لهم: تركناه نوراً يتلألأ في قريش تلألؤ القمر ، فيقول الأحبار: ليس ذلك النور لعبد الله ، إنما هو لولده محمد (ص)، ثم ترجع في كفرها وعنادها ، فإذا تأملت الحال، وأفاقت للاستدلال قالت : هو هو ورب موسی

وقيل : إن الكهنة اجتمعت فقالت: نحن نتخوف لتزايد نور عبد الله أن يغلب کهانتنا.

وروى: أن نساء قریش افتتن به ، وكن يتعرضن به في طريقه ، حتى لقي منهن ما لقي يوسف (ع) من امرأة العزيز ، وهو لا يلوي عليهن ، ويقول لهن : ليس في سبيل إلى كلامكن . (2)

حتى ورد في الحديث : أن الحوار الأبكار كن يقفن في طريقه ، وإذا رمن هو :

ص: 165


1- تجد شطراً من هذه الرواية في مناقب آل أبي طالب ج1 ص27.
2- تجد شطراً من هذا الخبر في کتاب اثبات الوصية للمسعودي ص88 - 89

كلامه، تصورت الملائكة لهن في صورة مفزعة، يصدونهن عنه ،فيرجعن مذعورات فزعات.

ثم إن وهب بن عبد مناف لما رأى عظم أمره، وجلالة قدره، اجتهد في تزويجه آمنة ابنته ، وراسل في ذلك عبد المطلب رضوان الله عليه ، فزوجه بها ، ونقل الله تعالى نور نبيه إليها ، فحملت به في ليلة الجمعة لتسع خلون من ذي الحجة ليلة عرفة ، وقيل بل في أيام التشريق ،(1) وذلك بمني عند الجمرة الوسطى ، وكانت منزل عبد الله بن عبد المطلب .

فروي عنها من الآيات التي شاهدتها ليلة حملها به وعند ولادتها ما يطول ذکره.

فكان مما قالت: أنه أتاني المخاض، وأنا وحدي ، فلما وضعته (ص) رأيته ساجداً، قد رفع أصبعه إلى السماء كالمبتهل المتضرع، ثم غشتني سحابة غيبته عن عيني ، وسمعت منها كلاما ، ثم أعيد إلي، وهو مدرج في ثوب صوف أشد بياضاً من الثلج ، وتحته حريرة خضراء ، وولد (ص) طاهراً مطهراً.

فكان من دلائل ولادته خمود نيران المجوس، وتزعزع أسرة الملوك ، وكلام كثير من الدواب ، وسقوط الأوثان عن البيت الحرام .

وروي عن عبد المطلب أنه قال:

كنت في تلك الليلة في البيت الحرام أرم منه شيئا ، فلما انتصف الليل رأيته قد أهوى من جميع جوانبه مائلاً كالساجد إلى ناحية المقام، ثم استوی قائماً ، وسمعت منه تكبيراً عجبا ، يقول : الله أكبر رب محمد المصطفى ، الآن قد طهرني ربي من أنجاس المشركين وأرجاس الجاهلية . فحرت من ذلك حتى ظننت أني نائم.

ثم إن عبد المطلب أتي آمنة رضوان الله عليها ، فسألها عن حالها فاخبرته بولادتها ، والآيات التي رأتها ، فقال لها أريني الولد ، فقالت: لا سبيل لأحد إلى

ص: 166


1- هي ثلاثة أيام يبتدئ أولها ثاني يوم النحر وآخرها اليوم الثالث عشر من ذي الحجة إلى العصر .

رؤيته حتى تمضي ثلاثة أيام ، فعند ذلك جرد سيفه ليقتل نفسه ، فقالت : هو في ذلك البيت ، أدخل إن أحببت أن تراه ، فلما دخل عبد المطلب تراءى له رجل ، وقال إليك يا عبد المطلب ، لا سبيل لك إلى رؤيته حتى تنقطع عنه زيارة الملائكة.

وكانت ولادته (ص) يوم الجمعة عند طلوع الفجر في اليوم السابع عشر (1) من ربيع الأول عام الفيل (2) بمكة في شعب أبي طالب رضوان الله عليه .

وهذا اليوم الذي ولد فيه سيدنا رسول الله (ص) يوم عظيم الشرف ، جلیل القدر ، لم يزل آل محمد (ع) يعطمونه ، ويرعون حرمته، ويتطوعون بصيامه والصدقة فيه.

وروي أن من صامه کتب الله له صيام سنة.

ولما صار له (ص) شهران توفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب رضوان الله عليه ، عند أخواله بالمدينة.

وكذلك ماتت أمه رحمة الله عليها وهو طفل.

وروي أن الله تعالى أيتم نبيه (ص) لئلا تجري عليه رئاسة لأحد من الناس .

وشرف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعه ، وخصها بتربيته ، وكانت ذات عقل وفضل . فروت من آیاته ما يبهر عقول السامعين ، وأغناها الله ببركته في الدنيا والدین .

وكان لا يرضع إلا من ثديها اليمين .

قال ابن عباس رضي الله عنه: ألهم العدل حتى في رضاعه ، لأنه علم أن له شريكاً ، فناصفه عدلا منه (ص).

ص: 167


1- وهو المشهور بين الشيعة الإمامية ، وقيل في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وهو المعروف بين الجمهور وبه قال أبو جعفر الكليني من الإمامية ، وقيل لثمان خلون من شهر ربيع الأول ، وقيل لعشر خلون منه.
2- وذلك بعد قدوم أصحاب الفيل مكة بخمسة وستين يوما ، وقيل أقل من ذلك وكان قدومهم مكة يوم الأحد للخمس ليال خلون من المحرم.

قالت حليمة: فكان ثدیي اليمين لرسول الله ، واليسار لولدي ضميرة ، وكان ولدي لا يشرب حتى يراه قد شرب.

قالت : ولم أر قط ما يرى للأطفال طهارة ونظافة ، وإنما كان له وقت واحد، ثم يعود إلى وقته من الغد.

وما كان شيء أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفاً ، فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه.

وروي عنها أنها قالت : سمعته لما تمت له سنة ، يتكلم بكلام ، لم أسمع أحسن منه . سمعته يقول: قدوس ، قدوس ، نامت العيون ، والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم .

ولقد ناولتني امرأة كف تمر من صدقه ، فناولته منه ، وهو ابن ثلاث سنين ، فرده علي ، وقال : يا أمه ، لا تأكلي الصدقة ، فقد عظمت نعمتك ، وكثر خيرك ، فإني لا آكل الصدقة.

قالت : فوالله ما قبلتها بعد ذلك من أحد من العالمين.

وكان بنو سعد يرون البركات بمقامه معهم ، وسكناه بينهم ، حتى إنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ، ليمسها بيده ، فيزول ما بها ، وتعود إلى أحسن حالها .

ولم يزل كذلك إلى أن ردته حليمة إلى أهله ، فاشتمل عليه جده عبد المطلب ، يحبوه التحف ، ويمنحه الطرف، ويعد قریشاً به ، ويخبرهم بما يكون من حاله ، إلى أن ذنت وفاته فوضعه في حجر أبي طالب ، وأوصاه به، وأمره بحياطته ورعايته ، وعرفه ما يكون من أمره.

ثم توفي عبد المطلب رضوان الله عليه في شهر ربيع الأول ، وللنبي (ص) ثماني سنين من عمره، فكفله أبو طالب أحسن كفالة ، ولم يكن له يومئذ ولد ، وكانت امرأته فاطمة بنت أسد بن هاشم المعروفة بسودة الفاضلة ، فتولت معه تربيته ، وأحسنا جميعة حياطته ورعايته ، واتخذاه لأنفسهما ولدة، ولميؤثرا عليه في المحبة ولدا، وقد شغفا بواضح دلالته، وذهلا من ظاهر حجته .

ص: 168

والكهان مع ذلك يخبرونه بشأنه، ويتعجبون من جلي برهانه ، ويبشرون أبا طالب بأمره، وبأنه سيكفل ولداً له من ظهره.

ثم نشأ (ص) نشوءاً يحير أهل عصره، يحضر مشاهد قريش كلها ، غير السجود للأصنام [والعبادة ](1) لها، وشرب الخمر ، ونظم الشعر ، وافتعال الكذب ، والاشتغال باللعب ، إلى أن أظهر الله أمره، وأعلى قدره، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا.

فصل: في ذكر شيء من معجزات رسول الله (ص) وباهر آیاته .

فمن ذلك: أنه دعا شجرة فجاءت تخد الأرض ، ثم أشار إليها فرجعت .

ومن ذلك: أنه مسح شطري ضرع العناق (2) وها ملتصقان ، لا لبن فيهما ، فدر ، ولب منه لبن كثير . هذا في هجرته إلى المدينة. وذلك مشتهر قد أتت به الأخبار ، وقيل فيه الأشعار.

ومن ذلك: رمي الحصى في وجوه الأعداء يوم بدر ، فنالهم في عيونهم ما نالهم، وكانت في الحال عزيمتهم، وأنزل الله سبحانه :

(وما رمیت اذ رمیت ، ولكن الله رمی) الانفال: 17.

وفعل مثل ذلك يوم حنين وقال:

(شاهت الوجوه) فانهزم المشركون بأسرهم.

ومن ذلك: إخباره عن العير التي جاءت من الشام ، وحال القوم وأفعالهم ، وما معهم من متاعهم، وكثير من كلامهم.

ومن ذلك : كلام الذئب والضب أيضا معروف.

ومن ذلك: الميضاة (3) التي وضع فيها يده، وفيها شيء يسير من الماء ،فشرب منه خلق كثير ، وتوضأوا منه.

ص: 169


1- في النسخة كلمة غير واضحة
2- هي الأنثى من أولاد المعزى قبل استكمالها الحول .
3- هي المطهرة الكبيرة التي يتوضأ منها .

ومن ذلك: أن ناقة ضلت من صاحبها في بعض أسفاره، فقال المنافقون: لو كان نبياً لعلم أين الناقة ، فبلغه ذلك فقال : الغيب لا يعلمه إلا الله ، انطلق يا فلان ، لصاحب الناقة ، فإن ناقتك بمكان كذا، قد تعلق زمامها بالشجرة ، فوجدها كما قال (ص).

ومن ذلك: أنه أقام بتبوك (ع)، فنفدت أزوادهم ، فأمرهم عليه السلام، فجمعوا ما بقي منها ، ثم أمر بأنطاع فبسطت ، وقال : من كان عنده فضل زاد فليأتنا به ، فكان الرجل يأتي بالمد الدقيق، والسويق، والقليل من الخبز ، فیوضع كل صف على حدة ، فكان جميع ذلك قليلا ، ثم توضأ وصلى ودعا بالبركة فيه ، فكثر ذلك ، حتى فاض من الأنطاع، ثم نادى الناس: أن هلموا ، فأقبل الناس ، فحملوا من كل شيء ، حتى ملأوا كل جراب ومزود

ومن ذلك: أنه نزل بالحديبية فإذا ببئرها لا ماء فيها ، فشكا الناس ذلك إليه (ص) ، فأخرج سهما من كنانته ، فدفعه إلى البراء بن عازب ، فنزل في البئر ، فأقبل الماء من عيون البئر ، حتى ملأوا كل ما معهم ، وسقوا ركائبهم . (1)

ومن ذلك: أنه كان في سفر ، فاستيقظ من نومه ، فقال : مع من وضوء؟ فقال: أبو قتادة : معي في ميضاة ، فأتاه به ، فتوضأ ، وفضلت في الميضاة فضلة ، فقال (ع): احتفظ بها يا أبا قتادة ، فسيكون لها شأن ، فلما حمي النهار واشتدالعطش بالناس ، فابتدروا إلى النبي (ص) يقولون : الماء الماء ، فدعا النبي (ص) بقدحه ، ثم قال: هلم الميضاة يا أبا قتادة ، فأخذها ، ودعا فيها ، وقال : اسكب ، فسكب في القدح ، وابتدر الناس الماء فقال رسول الله (ص) : كلكم يشرب إن شاء الله تعالى ، فكان أبو قتادة يسكب ، ورسول الله (ص) يسقي ، حتى شرب الناس أجمعون. ثم قال النبي (ص) لأبي قتادة: اشرب ، فقال : لا ، بل اشرب أنت يا رسول الله ، فقال : اشرب فإن ساقي القوم آخرهم يشرب، فشرب أبو قتادة ، ثم شرب رسول الله ، وانتهى القوم رواء.

ص: 170


1- تجد هذه المعجزة مفصلة في كتاب اعلام النبوة ص68.

ومن ذلك: أنه أتي بشاة ، فأخذ بأذنها بين أصبعيه ثم خلاها ، فصار لها وسم(1) وكانت تولد والأثر في أولادها .

ومن ذلك: ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه ، قال : أصاب الناس يوم الخندق کدية (2) ضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت، فأخبروا رسول الله (ص) فدعا بماء فصبه عليها ، فصارت كثيبا .(3)

ومن ذلك : أن اعرابياً باع شيئا من أبي جهل فمطله ، فأتى قريشا فقال : اعدوني على أبي الحكم، فقد لوى بحقي ، فأشاروا إلى النبي (ص) وقالوا : أنت هذا الرجل فاستعد عليه ، وهم يهزأون بالإعرابي ، ويريدون أن يغروا أبا جهل برسول الله (ص) فأتي الإعرابي رسول الله (ص) ، فقال : يا عبد الله ، أعدني على عمرو بن هشام، فقد مطلني حقي ، قال : نعم ، فمضى معه النبي (ص) فضرب على أبي جهل بابه ، فخرج متغيراً، فقال: ما حاجتك ؟ فقال : اعط هذا الرجل حقه ، قال: نعم، الساعة ، فأعطاه فجاء الرجل إلى قريش فقال : جزاكم الله خيراً، انطلق معي الرجل الذي دللتموني عليه ، فأخذ لي حقي ،وجاء أبو جهل ، فقالوا: أعطيت الإعرابي حقه ؟ قال : نعم قالوا: إنما أردنا أن نغريك بمحمد (ص) قال: ما هو إلا أن دق بابي ، وسمعت كلامه ، في تمالكت أن خرجت إليه ، وخلفه مثل الفالج (4) فاتح فاه ، فكأنما يريدني ، فقال : اعطه حقه ، فلو قلت: لا، لا لابتلع رأسي. (5)

ص: 171


1- أي علامة
2- الكدية هي الضخرة الصلدة.
3- تجد هذه المعجزة مفصلة في اعلام النبوة للماوردي ص66-67 نقلها عن البخاري عن عبدالواحد بن أبين عن أبيه عن جابر .
4- الفالج : الجمل الضخم ذو السنامين ، وفي رواية ابن هشام: وإن فوق رأسه لفحلاً .
5- رواه ابن هشام في السيرة ج1 ص411 - 41 مع اختلاف يسير .

ومن ذلك: أن أبا جهل جاء إلى النبي (ص) ومعه حجر ، يريد أن ير ميه به ، إذا سجد ، فلما سجد رسول الله (ص) رفع أبو جهل يده ، فیبست على الحجر ، فقالوا له : أجبنت ؟ قال : لا ، ولكن رأيت بيني وبينه كهيئة الفحل ، يخطر بذنبه.

وهذا الحديث مشهور ، وفيه يقول أبو طالب رضوان الله عليه :

افيقوا بني غالب وانتهوا *** عن الغي في بعض ذا المنطق

وإلا فإني إذا خائف *** بواثق في دار کم تلتقي

تكون لعابركم عبرة *** ورب المغارب والمشرق

کما ذاق من كان من قبلكم *** ثمود وعاد، فمن ذا بقي

غداه أتتهم بها صرصر *** وناقة ذي العرش إذ تستقي

فحل عليهم بها سخطة *** من الله في ضربة الأزرق

غداه [يعض ](1) بعرقوبها . *** حسام من الهند ذو رونق

وأعجب من ذاك في أمر كم *** عجائب في الحجر الملصق

یکف الذي قام من جبنه *** إلى الصابر الصادق المتقي

فأيبسه الله في كفه *** علی رغم ذي الخائن الأحمق

ص: 172


1- في النسخة كلمة غير واضحة.

وهذا مما يستدل به على صحيح إيمان أبي طالب بالله تعالى ورسوله (ص) ، لما تضمنه قوله من إقراره بالله سبحانه ، واعترافه بآياته ، وبالعجز الذي بان النبيه ، وإخباره عنه بأنه صابر صادق متقي.

ومن ذلك: أن امرأة سلام بن مسكين أتت بشاة قد سمتها إلى النبي (ص)، فقال : ما هذا ؟ فقالت: ألطفك بها، وكان مع النبي (ص) بشر بن البراء بن المعرور ، فتناول النبي (ص) من الذراع، وتناول بشر ، فأما النبي (ص) فإنه لاکها ثم لفظها ، وقال : إن هذه الذراع تكلمني وتزعم أنها مسمومة ، وأما بشر فلاك البضعة ليبلعها فمات منها ، فأرسل النبي (ص) إلى المرأة فأقرت ، فقال : ما دعاك إلى هذا ؟ قالت : قتلت زوجي وأشراف قومي ، فقلت إن كان ملكا قتلته ، وإن كان نبياً فسيطلعه الله على ذلك .(1)

ومن ذلك: أن صفوان بن أمية ، وعمرو بن وهب الجمحي قالا : من لنا بمحمد ؟ فقال عمرو بن وهب : لولا دين علي لخرجت إلى محمد حتى أقتله ، فقال : صفوان : علي دينك ، ونفقة عيالك إن قتلته . فخرج حتى قدم المدينة ، فدخل على رسول الله (ص) فقال : أنعم صباحا، أببت اللعن، فقال النبي (ص): قد أبدلنا الله بها خيراً منها ، قال : إن عهدك بها حديث، قال: أجل، ثم أكرمنا الله بالنبوة ، ثم قال: يا عمرو ، ما جاء بك ؟ قال : ابني أسير عندكم ، قال : لا ولكنك جلست مع صفوان ، ثم قص عليه الذي قال ، فقال عمرو: والله ما حضرنا أحد، وما أتاك بهذا إلا الذي يأتيك بأخبار السماء ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله .(2)

ومن ذلك: أن المدينة أجدیت فشكوا ذلك إلى رسول الله (ص) ، فرفع يديه إلى السماء وقال:

اللهم إني سألتك فأعطيتني ، ودعوتك فأجبتني ، اللهم اسقنا غيثا مرياً ،

ص: 173


1- أشير إلى هذا في مناقب آل أبي طالب ج1 ص81.
2- تجد هذا مختصراً في مناقب آل أبي طالب ج1 ص113.

مريعاً، عاجلا غير رايث، نافعا غير بايث، نافعا غير ضار ، فمطر الناس للوقت ، وسالت الأودية، وامتلأ كل شيء ، فدامت جمعة.

فأتى رجل فقال: غرقنا، وتقطعت السبل في أسواقنا ، فقال رسول الله (ص): حوالينا ولا علينا.

فانجاب السحاب عن المدينة ، وكان فيما حولها حتى حصلت السماء فوقهاء والسحاب ذلك (1).

فقال كل واحد منهم في نفسه : آمنت إذا مضيت أن يأتي أحد غيري فيشعر بي ، فاجتمعوا بأسر هم لاتفاق ما في نفوسهم ، ولما أزعجهم من التعجب الاستماع ما حيرهم وأذهلهم ، فوقفوا إلى الصباح ، فلما انصرفوا اجتمعوا أيضا ، وافتضح بعضهم عند بعض ، وجددوا العهد بينهم ، ثم عادوا حتى فعلوا ذلك عدة دفعات ، تطلعاً إلى سماع القرآن مع ما هم عليه من الإصرار على العناد .

وأما تعجب الجن فقولها :

(إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحداً). سورة الجن :1

فصل : من البيان عن إعجاز القرآن

اشارة

فمن ذلك عجز بلغاء العرب عن الإتيان بمثله في فصاحته ونظمه مع علمهم بأن النبي (ص) قد جعله علما على صدقه ، وسماعهم للتحدي فيه على أن يأتوا بسورة من مثله. هذا مع اجتهادهم في دفع ما أتى به (ص)، وتوفر دواعيهم إلى إبطال أمره، وفل جمعه ، و استفراغ مقدورهم في أذيته ، وتعذيب أصحابه ، وطرد المؤمنين به.

ثم ما فعلوه بعد ذلك من بذل النفوس والأموال في حربه ، والحرص على إهلاکه ، مع علمهم بأن ذلك لا يشهد بكذبه ، ولا فيه إبطال الحجة ، ولا يقوم مقام معارضته فيا جعله دلالة على صدقه ، وتحداهم على الإتيان بمثله .

ص: 174


1- تجد هذا في مجالس المفيد ص 139 رواها باسناده عن مسلم الغلابي مع زيادات.

وقد كانوا قوما فصحاء ، حکماء ، عقلاء ، خصماء ، لا يصبرون على التقريع، ولا يتغاضون عن التعجيز، وعاداتهم معروفة في التسرع (1) إلى الافتخار ، وتحدي بعضهم البعض بالخطب والأشعار، وفي انصرافهم عن المعارضة دلالة على أنها كانت متعذرة عليهم ، وفي التجائهم إلى الحروب الشاقة دونها بيان أنها الأيسر عندهم.

وأي عاقل يطلب أمراً (2) فيه هلاك حاله ، والتغرير بنفسه ، وهو يقدر على كلام يقوله ، يغنيه بذلك ، وينال به أمله ومراده، فلا يفعله .

هذا ما لا يتصور في العقل ، ولا يثبت في الوهم ، وفي عجزهم الذي ذكرناه حجة في بيان معجز القرآن ، وفي صحة نبوة نبينا

(ص).

ومن ذلك: ما يتضمنه من أخبار الدهور الماضية ، وأحوال القرون الخالية ،وأبناء الأمم الغابرة، ووصف الديار الدائرة، وقصص الأنبياء المتقدمين ، وشرح أحكام أهل الكتابين ، مما لا يقدر عليه إلا من اختص بهم ، وانقطع إلى الإطلاع بكتبهم ، وسافر في لقاء علمائهم ، وصحب رؤساء هم

ولما كان نبينا (ص) معلوم المولد(3) والدار ، والمنشأ والقرار، لا تخفى أحواله ، ولا تستتر أفعاله ، لم يلف قبل بعثته مدارساً لكتاب ، ولا رئي مخالطاً لأهل الكتاب ، ولم يزل معروفاً بالانفراد عنهم، غير مختص بأحد منهم ، ولا سافر لاتباع عالم سراً ولا جهراً، ولا احتال في نيل ذلك أولا ولا آخراً، علم أنه لم يأخذ ذلك إلا عن رب العالمين ، دون الخلائق أجمعين، وثبت صدقه وحجته ، وإعجاز الوارد على يده . وكان قول الله عز وجل :

(وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين). سورة القصص : 44

وقوله عز وجل :

ص: 175


1- في النسخة الشرع
2- في النسخة (فيه بما)
3- في النسخة (المولود)

(وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ، ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون). سورة القصص : 46.

يعضد ما ذكرناه ، ويشهد بصحة ما وصفناه.

ومن ذلك أيضا : ما ثبت فيه من الأخبار بالكائنات قبل كونها ، وإعلام ما في القلوب وضمائرها ، كقوله سبحانه في اليهود من أهل خيبر:

ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ، منهم المؤمنون ، وأكثرهم الفاسقون ، لن يضروكم إلا أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ، ثم لا ينصرون). سورة آل عمران: 111

وكان الأمر في هزيمتهم وخذلانهم كما قال سبحانه .

وقال في قصة بدر تشجيعا للمسلمين، وإخباراً لهم عن عاقبة أمرهم وأمرالمشركين:

(سيهزم الجمع ويولون الذبر). سورة القمر: 45

وكان ذلك يقينا كما قال سبحانه .

وقال فيهم:

(الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) سورة الأنفال: 36.

فكان الظفر قريبا كما قال سبحانه .

وقال عز اسمه :

(ألم غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئيذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحیم) سورة الروم: 2 و3

فأخبر الله تعالى عن ظفر هم بغلبهم وغلبتهم له، وحدد زمان ذلك ،وحصره، فكان الأمر فيه حسب ما قال سبحانه .

وقال عز وجل:

ص: 176

(يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ، ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) سورة الجمعة:6 و 7

فقطع على بغيهم، وأعلم أنهم لا يتمنون الموت، فلم يقدر أحد منهم على دفعه ، ولا أظهر تمنية ، كان الأمر في ذلك موافقا لما قال سبحانه .

[وقال تعالى ] :

(ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول) سورة المجادلة : 8.

فأخبر عن ضمائرهم بما في سرائرهم قبل أن يبدو على ألسنتهم، وكان الأمر كما قال سبحانه .

وقال في أبي لهب وهو حي متوقع منه الایمان والبصيرة والإسلام :

تبت يدا أبي لهب) سورة المسد : 1

فمات على كفره ولم يصر إلى الإسلام.

وقال تعالى لنبيه (ص):

(إنا كفيناك المستهزئين) سورة الحجر: 95.

وكلهم يومئيذ حي عزيز في قومه ، فأهلكهم الله أجمعين، وكفاه أمرهم على ما أخبر به .

وأمثال ذلك كثيرة يطول بها الكتاب ، وقد ذكرها أهل العلم (1)، وهذا طرف منها ، يدل على معجزة القرآن ، وصدق من أتی به

(ع).

دليل على حدوث العالم :

الذي يدلنا على ذلك أنا نرى أجساماً لا تخلو من الأحداث المتعاقبة عليها ،

ص: 177


1- نجد ذلك في أكثر المؤلفات الموضوعة في حياته ومعجزاته وكراماته واعجاز القرآن من الشيعة والسنة على السواء.

ولا يتصور في العقل أنها كانت خالية منها ، وهذا يوضح أنها محدثة مثلها ، لشهادة العقل بأن ما لم يوجد عارياً من المحدث فإنه يجب أن يكون مثله محدثا .

وهذه الحوادث هي : الاجتماع، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، والألوان ، والروائح ، والطعوم ونحو ذلك من صفات الأجسام التي تدل على أنها أشياء غير الجسم [ما نراه] من تعاقبها عليه ، وهو مع كل واحد منها . وهذا يقين أيضا على حدوثها ، لأن الضدين المتعاقبين لا يجوز أن يكونا مجتمعين في الجسم، ولا يتصور اجتماعهما في العقل ، وإنما وجد أحدهما وعدم الآخر ، فالذي طرأ ووجد هو المحدث، لأنه كائن بعد أن لم يكن ، والذي انعدم أيضا محدث، لأنه لو كان غير محدث لم يجز أن ينعدم، ولأنه مثله أيضا قد تجدد وحدث.

والذي يشهد بأن الأجسام لم تخل من هذه الحوادث بداية (1) العقول وأوائل العلوم، إذ كان لا يتصور فيها وجود الجسم مع هذه الأمور.

ولو جاز أن يخلو الجسم منها فيما مضى لجاز أن يخلو منها الآن وفيما يستقبل من الزمان.

والذي يدل على أن حكم الجسم كحكمها في الحدوث، أن المحدث هو الذي لوجوده أول ، والقديم هو المتقدم على كل محدث، وليس لوجوده أول. فلو كان الجسم قديماً لكان قبل الحوادث كلها ، خالياً منها .

وفيما قدمناه من استحالة خلوه منها دلالة على أنه محدث مثلها والحمد لله

ص: 178


1- المراد به البداهة العقلية .

فصل

في الأشعار المأثورة عن أبي طالب بن عبد المطلب (ره) التي يستدل بها على صحة ايمانه

من ذلك قوله في قصيدته اللامية:

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد. *** وأحببته حب الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه وحمیته *** ودارأت عنه بالذرا والكلاكل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها *** وشيئا لمن عاداه زين المحافل

حليماً رشيداً خازماً غير طائش *** يوالي اله الخلق ليس بما حل

فایده رب العباد بنصره *** وأظهر دينا حقه غیر باطل

لقد علموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يعني بقيل الأباطل (1)

ومن قطعة ميمية :

ترجون أن نسخى بقتل محمد *** ولم نختضب سحر العوالي من الدم

كذبتم وبيت الله حتى تغرفوا *** جماجم تلقی با لحطيم وزمزم

ص: 179


1- هذه الأبيات من قصيدة طويلة أوردها ابن هشام في السيرة ج1 ص286- 298 مع اختلاف یسیر .

وتقطع أرحام وتنسى حليلة *** حليلاً ويغشی محرماً بعد محرم

وينهض قوم في الحديد إليكم. ***يذودون عن أحسابهم کل مجرم

على ما أتى من بغيكم وضلالكم *** وغشيانكم في أمرنا كل مأتم

بظلم نبي جاء يدعو إلى الهدی *** وأمر أتي من عند ذي العرش مبرم

فلا تحسبونا مسلميه ومثله *** إذا كان في قوم فليس بمسلم

وقوله أيضا:

أخلتم بأنا مسلمون محمدا *** ولما نقاذف دونه بالمراجم

أصبنا حبيباً في البلاد مسوماً *** بخاتم رب قاهر للجرائم

يرى الناس برهانا وهيبة *** وما جاهل في فعله مثل عالم

نبي أتاه الوحي من عند ربه *** فمن قال لا يقرع بها سن نادم

تطيف به جرثومة هاشمية *** يذبون عنه كل باغ وظالم

وقوله أيضا :

ألا أبلغا عني على ذات بينها *** لؤيا وخصا من لؤي بني كعب

ص: 180

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسی خط في أول الكتب (1)

وإن عليه في العباد محبة *** ولا سن فيمن خصه الله بالحب

وقوله أيضا يحض أخاه حمزة بن عبد المطلب (ره) على اتباع رسول الله (ص) ونصرته:

فصبراً أبا يعلى على دين أحمد *** وكن مظهراً للدين وفقت صابرا

وحط من أتى بالدين من عند ربه *** بصدق وحق ولا تكن حمز کا فرا

فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن *** فكن لرسول الله في الله ناصرا

وباد قريشا بالذي قد أتيته *** جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا

وقوله لابنه جعفر وقد أمره بالصلاة مع النبي (ص) وقال : يا بني صل جناح ابن عمك فلا أجابه قال:

إن علياوجعفراً ثقتي *** عند مسلم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا *** يخذله من بي ذو حسب

لا تخذ لا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي

وقوله أيضا :

ص: 181


1- في الفصول المختارة هكذا: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا *** رسول أمين خط في سالف الكتب

زعمت قريش أن أحمد ساحر *** كذبوا ورب الراقصات إلى الحرم

ما زلت أعرفه بصدق حديثه *** وهو الأمين على الخرائب والحرم

بهتوه ، لاسعدوا بقطر بعدها *** ومضت مقالتهم تسير إلى الأمم

وقال في الإقرار بالتوحيد:

مليك الناس ليس له شريك *** هو الوهاب والمبدي المعيد

ومن فوق السماء له بحق *** ومن تحت السماء له عبيد

وقال أيضا :

يا شاهد الله علي فاشهد *** آمنت بالواحد رب أحمد

من ضل في الدين فإني مهتدي

وهذا كله دليل واضح على إيمانه رضوان الله عليه بالله تعالى وبرسوله (ص).

ومن الحديث الوارد بصحة إيمانه ، ما أخبرني به شيخي أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن علي المعروف بابن الواسطي رضي الله عنه.

قال: أخبرني أبو محمد هارون بن موسى التلعکبري، قال: أخبرني أبو علي بن همام ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن محمد القمي الأشعري، قال: حدثني منجح الخادم مولى بعض الطاهرية بطوس ، قال : حدثني أبان بن محمد ، قال : كتبت إلى الإمام الرضا علي بن موسى عليه السلام :

جعلت فداك ، قد شككت في إيمان أبي طالب .

قال: فكتب:

ص: 182

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى . إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار.

و باسناده إلى أبان بن محمد بن يونس بن نباته عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:

يا يونس، ما يقول الناس في إيمان أبي طالب ؟

قلت: جعلت فداك ، يقولون : هو في ضحضاح من نار يغلي منها أم رأسه ، فقال : كذب أعداء الله ، إن أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

ومن ذلك ما حدثنا به الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي رضي الله عنه ، قال : حدثني القاضي أبو الحسين محمد بن عثمان بن عبد الله النصيبي في داره، قال: حدثنا جعفر بن محمد العلوي ، قال : حدثنا عبيد الله بن أحمد ، قال : حدثنا محمد بن زیاد ، قال : حدثنا مفضل بن عمر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه كان جالسا في الرحية، والناس حوله ، فقام إليه رجل ، فقال له: يا أمير المؤمنين ، إنك بالمكان الذي أنزل الله ، وأبوك معذب في النار ، فقال له:

مه ، فض الله فاك ، والذي بعث محمدا بالحق نبياً ، لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله ، أأبي معذب في النار؟ وابنه قسيم الجنة والنار ، والذي بعث محمدا بالحق، إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفيء أنوار الخلائق إلا خمسة أنوار ، نور محمد ، ونور فاطمة ، ونور الحسن والحسين ، ونور ولده من الأئمة ، ألا إن نوره من نورنا ، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام.

ومن ذلك: ما حدثني به الحسن بن محمد بن علي الصيرفي البغدادي قراءة علي من طريق نقل العامة ، قال : حدثني أبو القاسم منصور بن جعفر بن ملاعب قراءة علي، قال: حدثنا أبو عيسى محمد بن داود بن جندل الحلبي ،

ص: 183

قال: أخبرنا علي بن حرب ، قال : حدثنا زيد بن الجناب، قال: أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت بن اسحاق ، عن عبد الله العباس أنه سأل رسول الله (ص) فقال : ما ترجو لأبي طالب ، فقال : كل خير أرجو من ربي عز وجل.

وحدثني أبو الحسن طاهر بن موسی بن جعفر الحسيني ، قال : حدثنا أبو القاسم میمون بن حمزة الحسيني ، قال : حدثنا مزاحم بن عبد الوارث البصري ، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أيوب الجوهري ، قال: حدثنا العباس بن علي ، قال : حدثنا علي بن عبدالله الجرشي ، قال : حدثنا جعفر بن عبد الواحد بن جعفر ، قال: قال لنا العباس بن الفضل ، عن اسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت المهاجر مولی نوفل اليماني يقول : سمعت أبا رافع يقول : سمعت أبا طالب يقول : حدثني محمد (ص): إن ربه بعثه بصلة الرحم، وأن يعبد الله وحده ، ولا يعبد معه غيره ، ومحمد عندي الصادق الأمين.

فصل: من أخبار عبد المطلب رضي الله عنه .

اشارة

وأخبرني شيخي أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن علي الواسطي رضي الله عنه قال: أخبرني أبو محمد هارون بن موسى التلعکبري، قال: أخبرني محمد بن هام ، وأحمد بن هوذه جميعا ، عن أبي محمد الحسن بن محمد بن جمهور القمي ، قال : حدثنا أبي ، عن الحسن بن محبوب الزراد ، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن هارون بن خارجة ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه قال :

الما ظهرت الحبشة باليمن ، وجه یکسوم ملك الحبشة بقائدين من قواده ، يقال لأحدهما إبرهه ، والآخر رباط، في عشرة من الفيلة ، كل فيل في عشرة آلاف، لهدم بيت الله الحرام ، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم ، واختلفوا،فقتل إبرهه

أرباط، واستولى على الحبش.

فلما قارب مكة طرد أصحابه عيرة لعبد المطلب بن هاشم. فصار عبد المطلب إلى إبرهه ، وكان ترجمان إبرهة والمستولي عليه ابن داية لعبد المطلب ، فقال الترجمان الإبرهة :

ص: 184

هذا سيد العرب وديانها ، فأجله وأعظمه . ثم قال لكاتبه : سله ما حاجته؟ فسأله . فقال : إن أصحاب الملك طردوا لي نعماً، فأمر بردها، ثم أقبل على الترجمان ، فقال : قل له: عجبا لقوم سودوك ، ورأسوک عليهم حيث تسألني في عير لك، وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك ، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت .

فقال : أيها الملك ، إن هذه العير لي ، وأنا ربها ، فسألتك إطلاقها ، وإن لهذه البنية ربا يدفع عنها .

قال: فإني غاد لهدمها ، حتى أنظر ماذا يفعل.

فلما انصرف عبد المطلب رحل إبرهة بجيشه ، فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر: يا أهل مكة، أتاكم أهل عكة ، بجحفل جرار، يملأ الأندار ملء الجفار(1) ، فعليهم لعنة الجبار ، فأنشأ عبد المطلب يقول:

أيها الداعي لقد أسمعتني *** كلما قلت وما بي من صمم

إن للبيت لرباً مانعاً *** من يرده بآثام يصطلم

رامه تبع (2) في أجناده *** حمير والحي من آل إرم (3)

هلكت بالبغي فيهم جرهم *** بعد طسم وجديس وجثم (4)

وكذالك الأمر فيمن جاده *** ليس أمر الله بالأمر الأمم (5)

ص: 185


1- جفار جمع جفرة وهي سعة في الأرض مستديرة.
2- هو من ملوك اليمن
3- أي من آل عاد وعليه قوله تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد .
4- جرهم وطسم وجديس وجثم هي قبائل عربية بائدة
5- الأمم بالتحريك اليسير

نحن آل الله فيما قد خلا *** لم يزل ذاك على عهد ابرهم (1)

نعرف الله وفينا شيمة *** صلة الرحم ونوفي بالذمم

لم يزل الله فيناحجة *** يدفع الله بها عنها النقم (2)

ولنا في كل دور كرة *** نعرف الدین وطوراً في العجم

فإذا ما بلغ الدور إلى *** منتهی الوقت أتي الطين (3) قدم

بكتاب فصلت آياته *** فيه تبيان أحاديث الأمم (4)

فلما أصبح عبد المطلب جمع بينه ، وأرسل الحرث ابنه الأكبر إلى أعلى جبل أبي قبيس فقال : انظر ماذا يأتيك من قبل البحر ، فرجع فلم ير شيئا ، فأرسل واحداً بعد آخر من ولده ، فلم يأته أحد منهم عن البحر بخبر ، فدعا ولده عبد الله ، وإنه لغلام حين أيفع وعليه ذؤابة تضرب إلى عجزه، فقال له : اذهب - فداك أبي وأمي - فاعل أبا قبيس، وانظر ماذا تری یجییء من البحر ، فنزل مسرعاً، فقال: يا سيد النادي ، رأيت سحاباً من قبل البحر مقبلا ، يسفل تارة، ويرتفع أخرى، إن قلت غيماً قلته، وإن قلت جهاما (5) خلته ، يرتفع تارة وينحدر أخرى.

فنادى عبد المطلب: يا معشر قريش ، ادخلوا منازلكم ، فقد أتاكم الله بالنصر من عنده .

ص: 186


1- أي ابراهيم عليه السلام
2- روى هذه الأبيات المسعودي في المروج ج2 ص 129 باختلاف في بعضها
3- الأحمر المشبع حمرة.
4- هذه الأبيات الثلاثة لم يذكرها المسعودي .
5- هو السحاب الذي لا ماء فيه.

فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر ، وفي رجليه حجران، فكان الطائر الواحد يقتل ثلاثة من أصحاب إبرهة ، كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره.(1)

وقد قص الله تبارك وتعالى بتأهم، فقال سبحانه:

(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبا بیل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول).(2) السجيل: الصلب من الحجارة. والعصف: ورق الزرع. ومأكول : يعني كأنه أخذ ما فيه من الحب ، فأكل وبقي لا حب فيه.

وقيل إن الحجارة كانت إذا وقعت على رؤسهم، وخرجت من أدبارهم ، بقيت أجوافهم فارغة خالية ، حتى يكون الجسم كقشر الحنطة.

وباسناده عن ابن جمهور رحمه الله ، قال حدثني أبي ، قال : حدثني علي بن حرب بن محمد بن علي بن حيان بن مازن الطائي ، قال: حدثني عمر بن بکر ، عن أحمد بن القاسم، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال:

لما ظفر سيف بن ذي يزن، واسمه النعمان بن قیس بالحبشة ، وذلك بعد مولد رسول الله (ص) بسنتين ، أتته وفود العرب، وأشرافها ، وشعراؤها ، تهنيه ، وتمدحه ، وتذكر ما كان من حسن بلائه، وطلبه بثأر قومه ، فأتاه فيمن أتاه وفد قريش ، وفيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان ، وخويلد بن أسد بن عبد العزى ، في أناس من وجوه قریش ، فقدموا عليه صنعاء (3) فإذا هو في رأس غمدان ،(4) وهو الذي ذكره أمية بن

ص: 187


1- تجد هذه القصة مروية في مجالس الشيخ المفيد باسناده إلى عبد الله بن سنان عن الصادق (ع) مع اختلاف في أسلوبها ص 184- 686.
2- سورة الفيل
3- هي احدى عواصم اليمن القديمة نزلها الأحباش بعد استيلائهم على اليمن ، ولا تزال إلى اليوم عاصمة اليمن الكبيرة.
4- غمدان أحد القصور الشهيرة في اليمن، وهو في صنعاء وقد بناه اليشرح بغضب 35 -15 ق.م. على رواية الهمداني وياقوت وظل باقياً إلى أيام عثمان بن عفان ، وكان مؤلفاً من عشرين طبقة ، ومما قيل في وصفه . يسمو إلى كبد السماء مصعداً *** عشرين سقفاً سمكها لا يقصر ومن السحاب معصب بعمامة *** ومن الغمام منطق ومؤزر متلاحكا بالفطر منه صخرة *** والجزع بين صروحه والمرمر تاريخ العرب قبل الإسلام

الصلت (1) في قصيدته حيث يقول:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً *** في رأس غمدان داراً منك محلالا (2)

فدخل الأذن ، فأخبره بمكانهم ، فأذن لهم، فدنا عبد المطلب ، فاستأذنه في الكلام ، فقال : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك ، فقد أذنا لك، فقال عبد المطلب:

إن الله قد أحلك - أيها الملك - محلا رفيعاً ، صعباً ، منيعاً، شامخاً باذخاً ،

ص: 188


1- هو أبو الصلت عبد الله بن ربيعة بن عوف بن أمية ، والبيت هو له لا لابنه أمية على رواية ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء ورواية ابن قتيبة في الشعر والشعراء ، ولكن الأصبهاني في الأغاني نسبة إلى ابنه أمية ابن الصلت.
2- هو من أبيات أولها: لا يطلب الوتر إلا كاین ذي يزن *** في البحر لجج للأعداء أحوالا أتى هرقلا وقد شالت نعامته *** فلم يجد عنده القول الذي قالا ثم انتحي نحو کسری بعد تاسعة *** من السنين لفد أبعدت إيغالا حتى أتی بیني الأحرار يقدمهم *** تخالهم فوق متن الأرض أجبالا ومنها من مثل کسری وسابور الجنود له *** أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعاً *** في رأس غمدان داراً منك محلالاً

أنبتك منبتاً طابت أرومته، وعزمت جرثومته، وثبت أصله ، وسبق(1) فرعه ، أكرم موطن ، وأطيب معدن.

وأنت - أبیت اللعن - ملك العرب وربيعها الذي به نخصب، ورأس العرب الذي إليه تنقاد ، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد .

سلفك خير سلف ، وأنت لنا منهم خير خلف ، فلم يخمل من هم سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه .

نحن - أيها الملك - أهل حرم الله ، وسدنة بيته ، أشخصنا إليك الذي ابهجنا لكشف الكرب الذي فد حنا ، فنحن وفد التهنئة ، لا وفد المرزئة .(2)

فقال سیف: وأيهم أنت أيها المتكلم؟

قال: أنا عبد المطلب بن هاشم ، قال: ابن اختنا ؟ قال : نعم، قال: ادن ، فدنا .

ثم أقبل عليه وعلى القوم ، فقال : مرحبا وأهلا ، وناقة ورحلا، ومستنا خا سهلا ، وملكاً نحلا ، يعني يعطى عطاء جزيلا ، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فإنتم أهل الليل والنهار ، ولكم الكرامة ما أقمتم ،والحباء إذا ظعنتم.

ثم نهضوا إلى دار الضيافة والوفود ، وأقاموا بها شهراً، لا يصلون إليه ، ولا يؤذن لهم في الإنصراف.

ثم انتبه لهم انتباهة ، فأرسل إلى عبد المطلب : أني مفض إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به ، ولكني رأيتك معدنه ، فأطلعتك طلعة ، (3) فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه ، فإن الله بالغ أمره.

ص: 189


1- هكذا في النسخة ولعل الأصل سمق بمعني ارتفع أو امتد أو الأصل بسق.
2- في النسخة (الترزية). والتصحيح عن الأعاني .
3- عن نهاية ابن الأثير: أطلعتك طلعة أي أعلمتك .

إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا ، واحتجبناه دون غيرنا ، خبراً عظيماً ، وخطراً جسيماً ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، وللناس عامة ، ولرهطك كافة ، ولك خاصة .

فقال عبد المطلب : مثلك - أيها الملك - سرّ وبرّ فما هو؟ فداك أهل الوبرزمراً بعد زمر.

قال: إذا ولد بتهامة ، غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الدعامة ، إلى يوم القيامة.

قال عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبت بخير ما آب به وافد ، لولا هيبة الملك وإجلاله لسألته [ من بشارته](1) إياي ما أزداد به سروراً.

قال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد ، اسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه. قد ولدناه مراراً ، والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منا أنصارا، يعزبهم أولياؤه، ويذل بهم أعداؤه ، يضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح

به كرائم الأرض ، يكسر الأوثان، ويخمد النيران، ويعبد الرحمان ، ويدحر الشيطان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر المعروف ويفعله ، وينهي عن المنكر ويبطله .

قال عبد المطلب : أيها الملك ، عز جدك ، وعلا كعبك ، ودام ملكك ، وطال عمرك، فهل الملك ساري با فصاح، فقد أوضح بعض الإيضاح؟

فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب ، والعلامات على النصب ، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب.

فخر عبد المطلب ساجداً، فقال : ارفع رأسك ، وثلج صدرك وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟

فقال: أيها الملك ، كان لي ولد ، وكنت به معجبا، وعليه شفيقاً ، فزوجته

ص: 190


1- في النسخة من سارة ، وصححناه عن اعلام النبوة للماوردي ، وفي رواية الأغاني : أن يزيدني من البشارة .

كريمة من كرائم قومي ، آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام، وسميته محمدا ، مات أبوه وأمه، فكفلته أنا وعمه ، بين كتفيه شامة ، وكل ما ذكرت من علامة.

قال ابن ذي يزن، إن الذي قلت لك لكما قلت ، فاحتفظ بابنك ، واحذر عليه اليهود ، فانهم أعداء له ، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ، واطو ما قلت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لك الرئاسة ، فيطلبوا لك الغوائل ، وينصبوا لك الحبائل ، وهم فاعلون لو أنبئهم ، ولولا إني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير يثرب دار ملكي ، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم الباسق، أن يثرب استحكام أمره، وأهل نصره ، وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب عقبه ، لكني صارف ذلك إليك ، عن غير تقصير من معك ، فعليه مني التحية والسلام .

ثم أمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد وعشر إماء ، وبمائة من الإبل ، وخمس من البرود ، وخمسة أرطال من الذهب، وعشرة أرطال فضة ، وكرش مملوء عنبراً.

وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال: إذا حال الحول فاتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول ، فكان عبد المطلب كثيراً ما يقول : يا معشر قريش ، لا يغبطني رجل منکم بجزيل عطاء الملك ، وإن كثر، فإنه إلى نفاد ، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره، وفخره ، وشرفه .

فإذا قيل له: وما ذلك ؟ قال: سيعلم ما أقول ولو بعد حين .

وهكذا ذكر الماوردي في إعلام النبوة قصة وفود عبد المطلب على سيف رواها باسناده عن أبي صالح عن ابن عباس وتجدها في الأغاني ج16 ص146 - 148. ورواها الطبرسي في إعلام الوری ص 24- 26 وقال روى هذا الحديث أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في دلائل النبوة من طريقين.

ص: 191

وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس:

جلبنا النصح تحمله المطايا *** على أكوار أجمال ونوق

مغلغلة مراقعها تعالى *** إلى صنعاء من فج عمیق

تؤم (1) بنا ابن ذي يزن ومعري *** و ذوات بطونها أم الطريق

وترعى عن مخايله يروقاً *** مواصلة الوميض إلى بروق

فلما وافقت صنعاء حلت *** بدار الملك والحسب العريق (2)

وروي أنه قيل لأكثم بن صیفي ، وكان حكيم العرب: إنك لأعلم أهل زمانك، وأحكمهم ، وأعقلهم، وأحلمهم، فقال:

وكيف لا أكون كذلك ، وقد جالست أبا طالب (3) بن عبد المطلب دهره، وهاشماً ذهره، وعبد مناف دهره، وقصياً دهره، وكل هؤلاء سادات أبناء سادات، فتخلقت بأخلاقهم ، وتعلمت من حلمهم ، واقتفيت سؤددهم، واتبعت آثارهم. وكان أكثم بن صيفي من المعمرين .(4)

ص: 192


1- في النسخة (ترم) والتصحيح عن الأغاني
2- هذه الأبيات موجودة في الأغاني ج16 ص148 وتجد قصة دخول عبد المطلب على سيف ابن ذي يزن في أمالي الصدوق ص174 - 178 وأنظر : إعلام الوری ص26 - 27.
3- قد يكون هنا سقط وهو قد جالست أبا طالب دهره وعبد المطلب دهره.
4- کما يأتي ذلك في بعض فصول هذا الكتاب.

1- خبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي ملك اليمن التي تأولها سطيح وشق

*خبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي(1)

ذكر الرواة من أهل العلم أن ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته ، وفظع بها ، فلما رآها بعث في أهل مملكته ، فلم يدع كاهناً ، ولا ساحراً، ولاقائضا، ولا منجما إلا أحضره إليه ، فلما جمعهم قال لهم : إني قد رأيت رؤياً هالتني، وفظعت بها ، فأخبروني بتأويلها ، قالوا: اقصصها علينا لنخبرك بتأويلها ، قال : إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها.

فلما قال لهم ذلك قال رجل من القوم: إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق ، فإنه ليس أحد أعلم منهما ، فهما يخبرانك بما سألت.

فلما قيل له ذلك بعث إليها ، فقدم عليه سطيح قبل شق ، ولم يكن مثلهما من الكهان ، فلما قدم عليه دعاه، فقال له: يا سطيح ، إني قد رأيت رؤياً ، هالتني ، وفظعت بها، فأخبرني بها ، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها ، قال أفعل :

رأيت جمجمة خرجت من ظلمة ، فوقعت بأرض تهمة ، فأكلت منها كل ذات جمجمة.

قال له الملك : ما أخطأت منها شيئا ياسطيح، في عندك في تأويلها ؟

فقال : أحلف بما بين الحرمين من خش ليهبطن أرضكم الحبش ، فلتملكن ما بين أبين إلى جرش.

قال له الملك: وأبيك يا سطیح، إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى هو كائن یا سطیح ، أفي زماني أم بعده ؟

قال: لا، بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين ، يمضين من السنين ، ثم يقبلون (2) بها أجمعون ، ويخرجون منها هاربين.

ص: 193


1- هو جد النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر .
2- في سيرة ابن هشام: ثم يقتلون.

قال الملك: من ذا الذي يلي ذلك من قبلهم وإخراجهم؟

قال : يليه إرم ابن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن ، فلا يترك منهم أحداً باليمن.

قال : أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟

قال: بل ينقطع.

قال : ومن يقطعه ؟ قال نبي زكي ، يأتيه الوحي من قبل العلي .

قال: وممن هذا النبي ؟ قال : من ولد غالب بن فهر بن مالك ابن النضر ، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر .

قال: وهل للدهر يا سطيح من آخر؟

قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، ويسعد فيه المحسنون ، ويشقى فيه المسيئون.

قال: أحق ما تخبرنا یا سطيح ؟ قال نعم والشفق ، والليل إذا اتسق ، إن ما انبأتك به لحق.

فلما فرغ قدم عليه شق ، فقال له يا شق إني رأيت رؤياً هالتني ، وفظعت بها، فأخبرني عنها ، فانك إن أصبتها أصبت تأويلها ، كما قال السطیح، وقد كتمه ما قال السطيح ، لينظر أيتفقان أم يختلفان.

قال: نعم، رأيت جمجمة خرجت من ظلمة ، فوقعت بين روضة وأكمة ، فأكلت منها كل ذات نسمة.

قال له الملك : ما أخطأت منها ، فما عندك في تأويلها ؟

قال: أحلف ما بين الحرمين من إنسان ، لينزلن أرضكم الحبشان ، فليغلبن على كل طفلة البنان ، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.

فقال له الملك: وأبيك إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى [هو] كائن ؟ أفي زماني أم بعده؟

قال: بعده بزمان ، ثم يستنقذكم منهم عظيم الشأن، ويذيقهم أشد الهوان .

ص: 194

قال: ومن هذا العظيم الشأن؟

قال: غلام، ليس بدني ولا مدن ، يخرج من بيت ذي يزن.

قال: فهل يدوم سلطانه أو ينقطع؟

قال: بل ينقطع برسول مرسل ، يأتي بالحق والعدل ، بين أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.

قال: وما يوم الفصل ؟

قال : يسمع منها الأحياء والأموات ، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون لمن اتقى الفوز والخيرات.

قال : أحق ما تقول یا شق؟

قال: إي ورب السماء والأرض ، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أبناتك لحق ما فيه أمض.(1).

2- دليل في تثبيت الصانع

حكي عن ابراهيم النظام قال:

الدليل على ذلك، أنا رأينا أشياء متضادة، من شأنها التنافي والتباين والتفاسد مجموعة ، وهي الحرارة والبرودة، والرطوبة ، واليبوسة ، المجتمعة في كل حيوان ، وفي أكثر سائر الأجسام ، فعلمنا أن جامعها أقسرها على الاجتماع .

ولولا ذلك لتباينت وتفاسدت.

قال : ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات، وتتقاوم من غير جامع جمعها ، لجاز أن يجتمع الماء والنار، ويتقا وما من ذاتهما بغير جامع مدبر مقيم يقيمهما، وهذا محال لا يثوهم.

ص: 195


1- قال ابن هشام: أمض يعني شكا ، وقال أبو عمرو أمض أي باطل وتجد قصة هذه الرؤيا في سيرة ابن هشام ج1 ص 11- 13.

قال: وفي اجتماعها دليل على حدوثها ، لأنها لا يجوز عليها الإنفراد ، فإذا كانت لا توجد إلا مجتمعة ، وبطل أن توجد كذلك إلا مجامع جمعها ، صح أنه قبلها ، وأنها لم توجد إلا حين ابتدعها مجتمعة ، ولو وجدت قبل ذلك لم توجد إلا على أحد وجهين ، أما أن يكون كل واحد منهما منفرداً، وهذا محال ، أو تكون مجتمعة لا جامع لها، وهذا أيضا محال.

فقد صح أنها ابتدعت، وأن الذي جمعها كان موجوداً قبلها لم يزل.

3- مسألة على نفاة الحقائق

*مسألة على نفاة الحقائق (1)

[و] هم الذين يقولون المذاهب باطلة كلها ، وأنه لاحق بشيء منها . فيقال لهم: أخبرونا عن مذهبكم هذا، أحق هو أم باطل؟

ص: 196


1- هم من فرق الفلسفة السوفسطائية «الحكمة المجوهة» ويقولون إنه لا حقائق واقعاً ، لأن الطريق إلى إدراكها هي الحواس الظاهرة الخمسة ، وقد تخطىء ، ومع احتمال خطئها فلا يمكن الجزم بشيء مما تؤديه ، فالجهاز البصري قد نری به ما ليس بواقع واقعاً ، والحاسة الذوقية قد تخدعاً أحباناً ، فالمريض بالحمى يجد الحلو مراً، والحاسة السمعية قد تخدعيا أيضا فتسمعنا أصواتا غير واقعية ، وحاسة الشم قد تخطىء أيضا عند اختلالها ، وتعطينا رائحة غير واقعية ، وأنه يكفي للشك فيما تؤديه هذه الحواس ولو مرة واحدة . وتقول هذه الفلسفة إنه لا حقائق للأشياء ، وإنما هي أوهام عارضة ، لأن ما نشاهده یجوز أن يكون على ما نشاهده أو تسمعه أو نبصره أو نشمه ، كما يجوز أن لا يكون كذلك. ومن مذاهب هذه الفلسفة ، المذهب اللاأدري ، القائم على نفي العلم بالحقائق ، وهم يثبتون الحقائق في نفس الواقع ولكنهم يسفون العلم بها ، ويقولون لا ندري . ومذهب آخر منها يسمى المذهب العندي ، ويقوم على نفي حقائق للأشياء في واقعها ، وإنما واقعها عند معتقديها فقط ، فليس لها حقيقة واحدة في نفس الأمر ، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب اعتقادهم . ويبدو أن هذا المذهب هو الأساس للفلسفة المثالية التي نادى بها (بر کلي) القائلة بأنه لا واقع خارج الذهن والوعي ، وأن الحقائق ليست إلا انعكاسات لوعي الإنسان ، وليست أشياء مستقلة خارجة عن هذا الوعي .

فإن قالوا هو حق ، قيل لهم : فقد ناقضتم وأوجبتم أن في المذاهب حقا من حيث نفيتم ذلك.

وإن قالوا : ليس مذهبنا حقا ، وهو باطل ، قيل لهم : فإذا بطل قولكم أنه لا حق في شيء من المذاهب ، فقد صح أن فيها حقا .

4- مسألة على مبطلي النظر وحجج العقل

يقال لهم: أبنظر أفسدتم النظر أم بالحواس ، أم بالخبر؟ وبعقل أفسدتم حجة العقل أم بغير عقل؟

فإن قلتم: أفسدنا النظر بنظر ، فقد نا قضتم ورجعتم إلى ما أعيتم، وصححتم النظر من حيث رمتم إفساده.

وإن قلتم بالحواس، قلنا: حواسنا کحواسنا، وعلوم الحواس لا تختلف فيها ، فما بالنا لا نعلم من ذلك ما علمتم؟

وإن قلتم بخبر، فبأي شيء فصلتم بين هذا الخبر وبين ضده من الإخبار ، إلا بالعقل والنظر.

فإن قلبتم السؤال، فقالوا: أبنظر صححتم النظر أم بحس أم بخبر؟ وبعقل أوجبتم حجة العقل أم بغير عقل ، أو قلتم بالحواس علمنا ذلك؟

قلنا لكم: حواسنا کحواسم، وعلوم الحواس ليس فيها اختلاف ، فما بالنا لا نعلم من صحة أمر النظر والعقل ما علمتم؟

وإن قلتم بالخبر [ فقد] جعلتم الخبر عياراً (1)على العقل ، وليس هذا قولكم.

وإن قلتم: عرفنا صحة النظر والعقل [ بالنظر والعقل ]، جاز لنا أن نزعم أنا عرفنا صحة الخبر بالخبر.

فالجواب: أن يقال لهم: أنا عرفنا صحة النظر والعقل بالنظر والعقل ، وليس يصح لكم مثل ذلك في الخبر ، لأنكم إن كنتم عرفتم صحة الخبر. [ب]

ص: 197


1- أي معیار يقاس به.

نفسه ، فيجب أن يكون كل من طرقه الخبر علم صحته ، حتى لا يوجد الخلف فيه ، ولسنا نجد ذلك (1) وإن قلتم: علمنا صحة الخبر بخبر آخر ، فهذا يؤديكم إلى ما لا يتناهی(2)

فإن قالوا: فأنتم إذا عرفتم صحة النظر والعقل بنظر وعقل ، فقد وجب أن يؤديكم هذا أيضا إلى ما لا يتناهی.

قيل لهم : إنا لا نزعم أنا عرفنا صحة النظر والعقل بنظر وعقل غيرهما ، بل نعرف صحتهما بها.

وذلك: أنا نعرف بهما أن كل نظر لزم صاحبه السنن والترتيب ، ولم يمل به هواه ، ولا إلفه وعصبيته ، فهو صحيح ، وكل علم بني على ما في بداية العقول فغير فاسد، فيكون هذا النظر نفسه داخلا فيما شهد بصحته إن كان حكمه ذلك.

(فصل: ما جاء في الحديث في العقل)

أخبرني شيخي أبو عبدالله الحسين بن عبد الله بن علي المعروف بابن الواسطي رضي الله عنه ، قال: أخبرني أبو محمد هارون بن موسى التلعكيري ، قال: أخبرني أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن الإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهم السلام قال: قال رسول الله (ص).

ص: 198


1- وخلاصة ذلك أن العلم بصحة الخبر من لوازم ذات الخبر نفسه فينبغي أن لا يختلف اثنان في صحته ، وهو خلاف الواقع على أن هذا من الدور الباطل لتوقف الشيء على نفسه
2- الأولى في الجواب أن يقال أن العلم أو النظر لابد لإثبات صحته من سبب صحیح معلوم ، ولا يمكن أن يكون بديهياً دائما وإلا لما جهل ولما وقع الخلاف فيه ، ولا یکونذکسبياً نظرياً دائما لأنه هو نفسه محتاج إلى سبب صحيح مثبت له أيضا فإن استند إلى كسي مثله وذهب إلى ما لا نهاية لزم التسلسل وإن رجع لزم الدور ، بل لا بد أن يستند إلى ما هو بديهي بنفسه ومن هنا قيل إن ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات.

إذا بلغكم عن رجل حسن حال، فانظروا إلى حسن عقله ، فإنما يجازي بعقله .

و باسناده عن الكليني ، عن أحمد بن محمد ، عن بعض من رفعه إلى أبي عبد الله (ع) أنه قال: قال رسول الله (ص):

إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة ، كثير الصيام، فلا تباهوا به حتى تنظروا عقله .

وباسناده عن الكليني عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد عن اسماعیل بن مهران عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (ع) أنه قال:

العقل دليل المؤمن .

(فصل: من كلام أمير المؤمنین (ص) في العقل)

لا عدة أنفع من العقل ، ولا عدو أضر من الجهل .

زينة الرجل عقله.

من صحب جاهلا نقص من عقله .

التثبت رأس العقل ، والحدة رأس الحمق.

غضب الجاهل في قوله ، وغضب العاقل في فعله .

الأدب صورة العقل ، فحسن عقلك كيف شئت .

العقول مواهب ، والآداب مکاسب .

فساد الأخلاق معاشرة السفهاء ، وصلاح الأخلاق معاشرة العقلاء .

قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل ، والعاقل من وعظته التجارب.

رسولك ترجمان عقلك.

لا تأوي من لا عقل له ، فيكثر ضررك.

ظن الرجل قطعة من عقله.

من ترك الإستماع من ذوي العقول مات عقله .

من جانب هواه صح عقله.

ص: 199

من أعجب برأيه ضل ، ومن استغنى بعقله زل ، ومن تكبر على الناس ذل .

إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.

من لم يكن أكثر ما فيه عقله ، كان بأكثر ما فيه قتله.

لا جمال أزين من العقل.

عجبا للعاقل كيف ينظر إلى شهوة ، يعقبه النظر إليها حسرة .

همة [ العاقل ](1) ترك الذنوب ، واصلاح العيوب.

الجمال في اللسان ، والكمال في العقل .

لا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل إلى ثماني عشرة سنة ، فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه.

ليس على العاقل اعتراض المقادير ، إنما عليه وضع الشيء في حقه.

العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس ، والحواس أئمة الأعضاء

(فصل: من الاستدلال على صحة نبوة رسول الله (ص).)

إعلم - أيدك الله - أن المتمحلين من الكفار في إيطال نبوة بيننا عليه وعلى آله السلام قد أداهم الحرص في الإنكار إلى وجوب الإذعان والإقرار ، وساقهم الخير والقضاء إلى لزوم التسليم والرضا ، فلا خلاص لهم من ثبوت الحجة عليهم و هم راغمون ، ولا محيص لهم من وجوب تصديقه وهم صاغرون.

وذلك أنهم لم يجدوا طريقاً يسلكونها في إنكار حقه من النبوة ، والدفع لما أتي به من الرسالة ، إلا بأن أقروا له ببلوغه من كل درجة في الفضل منيفة ، ومرتبة في الكمال والعقل شريفة ، ما قد قصر عنه جميع خلق الله . وبدون ذلك تجب له الرياسة والتقدم على الكافة ، ولا يجوز أن يتوجه إليه ساقط الظنة من قبل التهمة ، لمنافاتها لما أقروا به في موجب العقل والحكم.

ص: 200


1- في النسخة (العقل)

وبيان ذلك أنهم إذا سمعوا القرآن الوارد على يده الذي قد جعله علما على صدقه ، ورأوا قصور العرب عن معارضته ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، قالوا : أنه كان قد فاق بجميع البلغاء في البلاغة ، وزاد على سائر الفصحاء في الفصاحة ، قصر عن مساواته في ذلك الناس كافة ، ففضلوه بهذا على الخلق أجمعين ، وقدموه على العالمين.

فإذا تأملوا ما في القرآن من أخبار الماضين والذاكرين، وأعاجيب السالفين ، وذكر شرائع الأنبياء المتقدمين ، قالوا: قد كان أعرف عباد الله بأخبار الناس ، وأعلمهم بجميع ما حدث، وكان في سالف الأزمان قد أحاط بنبأ الغابرين وحفظ جمیع علوم الماضين ، ففضلوه بهذه الرتبة على الخلق أجمعين ، وأوجبوا له التقدم على العالمين.

فإذا رأوا ما تضمنه القرآن من عجيب الفقه والدين وبدائع عبادات المكلفين ، وترتيب الفرائض وانتظامها ، وحدود الشريعة وأحكامها ، قالوا قد كان أحكم أهل زمانه وأفضلهم ، وأبصرهم بأنواع الحكم، وأعلمهم ، ولم يكن خلق في ذلك يساويه ، ولا بشر يدانيه ، ففضلوه بذلك أيضا على الخلق أجمعين ، وأوجبوا له التقدم على العالمين.

فإذا علموا ما في القرآن من الإخبار بالغائبات، وتقديم الإعلام بمستقبل الكائنات ، وسمعوا ما تواترت به الأخبار من إنبائه لكثير من الناس بما في نفوسهم، وإظهاره في الأوقات لمغيب مستورهم ، قالوا : قد كان أعرف الناس بأحكام النجوم، وأبصر هم بما تدل عليه في مستأنف الأمور ، وإن لم يظهر معرفته بها لأمته ، ونهاهم عن الاطلاع فيها لينتظم له حال نبوته ، وأنه كان معولا عليها ، مستنداً في أموره إليها ، قوله لا يحرم، وإخباره بالشيءلا یختلف ، يعلم الحوادث والضمائر ، ويطلع على الخبايا والسرائر ، ولا يخفي عليه أوقات المساعد ...(1)، ولم يكن أحد يعثره (2) في ذلك ، ففضلوه بهذا أيضا على الخلق أجمعين ، وأوجبوا له التقدم على العالمين .

ص: 201


1- هنا كلمة غير واضحة.
2- هكذا في النسخة وهي غير واضحة المعني.

فإذا قيل لهم: فما تقولون في المأثور من معجزاته ، والمنقول من جرائحه(1) وآياته الخارقة للعادة، التي أقام بها الحجة ، قال المسلمون منهم لذلك ، المتعاطون لإخراج معناه: كان أعرف الناس بخواص الموجودات ، وأسرار طبائع الحيوان والحوادث، فيظهر من ذلك للناس ما يتحير له من رآه ، لقصوره عن إدراك سببه ومعناه، ففضلوه بهذا أيضا على الخلق أجمعين ، وأوجبوا له التقدم على العالمين.

وقد سمعنا في بعض الأحاديث أن أحد السحرة قال لموسى عليه السلام: إن هذه العصا من طبيعتها أن تسعى إذا ألقيت ، وتتشكل حيوانا إذا رمیت ، [و] خاصية لها بسبب فيها .

فقال له موسى على نبينا وعليه السلام: فخذها أنت وارمها ، قالوا: فأخذها الساحر ، ورماها ، فما تغيرت عن حالها ، فأخذها موسى ورماها ، فصارت حية تسعى.

فقال الساحر: ليس السر في العصا، وإنما السر فيما ألقاها . آمنت باله موسی.

أفترى لو أخذ أحد المشركين الحصا الذي سبح في كف رسول الله (ص)، فتركه في يده، أكان يسبح أيضا فيها؟ أم ترى أحدهم لو أشار بيده إلى الشجرة التي أشار إليها رسول الله (ص) فأتت ، لكانت تأتيه أيضا إذا أومأ إليها ؟ وأن هذه الأشياء تفعل بالطبع كما يفعل حجر المغناطيس في الحديد الجذب ؟ كلا : والحمد لله ما يتصور هذا عاقل ، فإذ نظر وأحسن تمام النظر أمر رسول الله (ص)، وانتظام مراده الذي قصده، وأنه نشأ بين قوم يتجاذبون العز والمنعة ، ويتنافسون في التقدمة والرفعة، ويأنفون من العار والشنعة ، ولا يعطون لأحد إمرة ولا طاعة ، فلم يزل بهم حتى قادهم إلى أمره، وساقهم إلى طاعته ، واستعبدهم (2) بما لم يكونوا عرفوه، وأمرهم بهجران ما ألفوه ،إلى أن

ص: 202


1- كذا في النسخة .
2- أي تعبدهم.

صاروا يبذلون أنفسهم دون نفسه ، ويسلمون لقوله ، ويأتمون لأمره، من غير أن كان له ملك خافوه ، ولا مال أملوه ، تفتح له البلاد، وأذعن له ملوك العباد ، ونفذ أمره في الأنفس والأموال، والخلائل والأولاد.

قالوا : إنما تم له ذلك ، لأنه فاق العالمين بكال عقله ، وحسن تدبيره ورأيه ، ولم يكن ذلك في أحد غيره ، ففضلوه بهذا أيضا على الخلق أجمعين ، وأوجبوا له التقدم على العالمين.

فإذا سمعوا المشتهر من عدله ونصفته ، وحسن سيرته في أمته ورعيته ، وأنه كان لا يكلف أحداً شيئا في ماله ، وإذا حصلت المغانم فرقها في أمته ، وقنع في عيشه بدون كفايته. هذا مع سخاوته وكرمه ، وإيثاره على نفسه ، ووفائه بوعده ، وصدق لهجته ، واشتهاره منذ كان بأمانته ، وشريف طريقته ، وحسن عفوه ومسامحته ، وجمیل صبره وحلمه ، قالوا : كان أزهد الناس وأعلاهم قدراً في العدل والإنصاف، ولا طريق إلى إنكار إحاطته بالفضائل الكرام، والمناقب [العظام]، ففضلوه في جميع هذه الأمور على الخلق أجمعين ، وأوجبوا له التقدم على العالمين.

فإذا قيل لهم: فهذه العلوم العظيمة متى أدركها ؟ وفي أي زمان جمعها وتلقطها ؟ وأي قلب يعيها ويحفظها ؟ وهل رأي بشر قط [ من] يحيط بجميع الفضائل ، ويتقدم العالمين كافة في جميع المناقب ، ويكون أوحد الخلق في كمال العقل والتمييز، وثاقب الرأي والتدبير ؟ مع نزاهة النفس و[صفائها ](1)، وجلالها وشرفها ، وزهدها وفضلها ، وجودها وبذلها .

قالوا: كانت له سعادات فلكية ، وعطايا نجومية ، فاق بها على جميع البرية .

قيل لهم : فمن يكون بهذا الوصف العظيم ، والمحل الجليل ، كيف يستجيز عاقل مخالفته ، أو يسوغ له مباينته ؟؟ ومن يقتدي أفضل منه ؟ ومتى يكون مصيباً في الانصراف عنه ؟

ص: 203


1- في النسخة وصلفها .

بل كيف لا يرضى بعقل أعقل[ الناس ]، ويؤخذ العلم من أعلم الناس ، ويقتبس الحكمة من أحكم الناس؟

وما الفرق بينكم في قولكم إن هذه العطايا التي حصلت له إنما كانت فلكية ونجومية ، وبيننا إذا قلنا آلهية ربانية ؟

وبعد فكيف يستجيز من يكون بهذا العقل الكامل ، والفضل الشامل ، والورع الظاهر ، والزهد الباهر ، والشرف العريق ، واللسان الصدوق ، أن يكذب على خالق السموات والأرضين ، فيقول للناس : أنا رسول رب العالمين ، ويدعي هذا المقام الجليل ، ويكون بخلاف ما يقول؟

وكيف تلائم صفاته التي سلمتموها لهذه الحال التي أدعتموها ؟

فدعوا المناقضة والمكابرة، وأثبتوا على ما أقررتم به في المناظرة ، فكلامكم لازم لكم، وقولكم حجة لكم عليكم، قد أقررتم بالحق وأنتم راغمون ، والتجأتم إلى ما هربتم منه وأنتم صاغرون .

وأعلموا أن من باين المسعود كان منحوساً، ومن خالف العاقل العالم كان جاهلا غبياً ، ومن كذب الصادق كان هو في الحقيقة كاذباً. والحمد لله مقيم الحجة على من أنكرها ، وموضح الحجة لمن آثرها .

فصل: مما في التوراة يتضمن البشارة نبينا (ص) وبأمته المؤمنين.

في التوراة مکتوب « إذا جاءت الأمة الأخيرة ، تتبع راكب البعير ، يسبحون الرب تسبيحاً جديداً ، في الكنائس الجدد ، فليفرح بنو إسرائيل ، ويسيروا إلى صهيون ، ولتطمئن قلوبهم ، لأن الله اصطفى منهم في الأيام الأخيرة أمما جديدة، يسبحون الله بأصوات عالية ، بأيديهم ذات شفرتين، فينتقمون لله من الأمم الكافرة في جميع أقطار الأرض.

فمن تری راكب البعير غیر رسول الله (ص)؟ ومن الأمم الأخيرة المسبحة تسبيحاً جديداً غير أمته ؟

ص: 204

ومن الذين أتوا وفي أيديهم السيوف غير ناصريه والمتبعين لدعوته ؟

وفي التوراة أيضا مكتوب في السفر الخامس :

« الرب ظهر فتجلى على سنين، وأشرف على جبل ساعير، وأشرف من جبل فاران ، وأتي من ربوات القدس، من يمينه نار ، شريعة لهم. »(1)

وجبال فاران جبال مكة ، وظهور الرب إنما هو ظهور أمره.

فصل في الإنجيل

وفي الإنجيل اليوم مكتوب:

« ابن البشر ذاهب، والفار قلیط أتي من بعده، وهو الذي يجلي لكم الأسرار، ويعيش لكم كل شيء ، وهو يشهد لي كما شهدت له ، فإني أنا جئتكم بالأمثال ، وهو يأتيك بالتأويل.»

ومن قول شعيا النبي (ع):

« قال لي آله إسرائيل: أقم على المنظرة فانظر ماذا تری؟ فإذا رأيت راكبين يسيران ، أضاءت لهما الأرض ، أحدهما على حمار ، والآخر على جمل، فقال: ويل لبابل ، كل صنم بها يكسر ويضرب به الأرض .»

ومن قول يوشع النبي (ع):

« رأيت راكبين يسيران، أضاءت لهما الأرض ، أحدهما على حمار، والآخر على جمل »

فراكب الحمار عیسی (ع) وراكب الجمل محمد (ص)

ومن قول دانیال النبي (ع):

« جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السموات والأرض من تسبیح محمد وأمته »

ص: 205


1- سفر التثنية 1:33 - 3 باختلاف في بعض ألفاظه حسب الترجمة أنظر : إظهار الحق للهندي هامش المعلق ص517.

وقال أيضا :

« يأتينا كتاب جديد بعد خراب بیت المقدس » فما الكتاب الجديد إلا القرآن.

ومن قول داود (ع):

« اللهم ابعث إلينا مقيم السنة بعد الفترة »

فمن أقامها غير رسول الله (ص)؟

ومن ذلك تأويل دانيال لرؤيا بخت نصر ملك بابل حيث قال:

رأيت في المنام صنماً، رأسه من ذهب ، وصدره وذراعاه من فضة ، بطنه وفخذاه من نحاس ، وركبتاه وساقاه من حديد وفيه خلط قليل من فخار.

ثم رأيت بعد ذلك حجراً انقطع من جبل عظيم بغير يد إنسان ، فضرب ذلك الصنم الذي فيه الصور الكثيرة ، فکسره ، ثم جعله مثل الرماد في يوم ريح، ثم عظم الحجر بعد ذلك ، حتى رأيت الأرض قد امتلأت منه.

فقال له دانیال:

أما الصنم الذي فيه الصور الكثيرة فهم الملوك الذين مضوا في سائر الأحقاب ، والذين يكونون على مر الأيام.

وأما الحجر الذي يجيء في آخر الزمان خاتم الأنبياء وأما امتلاء الأرض منه فهم الذين يتبعونه ويؤمنون به .(1)

فصل : من أخبار الواقدين على رسول الله (ص) للإسلام وما رأوه قبل قدومهم من الإعلام وما شاهدوه من أحوال الأصنام .

اشارة

فمن ذلك خبر أهبان بن أنس الأسلمي.

روى أن ذئباً ش على غنم لإهبان بن أنس، فأخذ منها شاة، فصاح به

ص: 206


1- انظر: إظهار الحق ص530 البشارة الحادية عشرة في الأصحاح الثاني من سفر دانیال مع اختلاف حسب الترجمة.

فخلاها ، ثم نطق الذئب فقال اهبان: سبحان الله ، ذئب يتكلم ؟ فقال الذئب : أعجب من كلامي ، أن محمدا يدعو الناس إلى التوحيد بيثرب، ولا يجاب.

فساق إهبان غنمه وأتى المدينة فأخبر رسول الله (ص) بما رآه ، فقال خذ هذه غنمي طعمة لأصحابك.

فقال: أمسك عليك غنمك، فقال: لا والله ، لا أسرحها أبدا بعد يومي هذا.

فقال : اللهم بارك عليه ، وبارك له في طعمته ، فأخذها أهل المدينة ، فلم يبق في المدينة بيت إلا أناله منها .(1)

1- وخبر ذباب:

ذكروا أنه كان لسعد العشيرة صنم ، يقال له فراص، وكانوا يعظمونه ، وكان سادنه رجل من بني أنس الله بن سعد العشيرة يقال له ابن وقشة ، فحدث رجل من بني أنس الله يقال له ذباب بن الحرث بن عمرو، قال: كان لابن وقشة ربیی من الجن ، يخبر بما یکون ، فأتاه ذات يوم، فأخبره، قال فنظر إلي وقال : یا ذباب ، اسمع العجب العجاب ، بعث أحمد بالكتاب ، يدعو بمكة لا يجاب.

قال فقلت : ما هذا الذي تقول؟

قال: ما أدري، هكذا قيل لي.

قال: فلم يكن إلا قليل حتى سمعنا بخروج النبي (ص)، فقام ذباب إلى الصنم فحطمه ، ثم أتى النبي (ص) فأسلم على يده ، وقال بعد إسلامه :

تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى *** وخلفت فراصاً بأرض هوان

ص: 207


1- ذكر قصة إهبان أبو الحسن الماوردي في أعلام النبوة ص94، مختلفة في اسلوبها ببعض الاختلاف وفيها بدل المدينة مكة وليس فيها قوله سبحان الله وذكر قصة أخرى مماثلة وقعت مع عمير الطائي رواها عن أبي سعيد الخدري .

شددت عليه شدة فتركته *** و كأن لم يكن ، والدهر ذو حدثان

ولما رأيت الله أظهر دينه *** أجبت رسول الله حين دعاني

فمن مبلغ سعد العشيرة انني *** شريت الذي يبقى بآخر فان

2- وخبر زمل بن عمرو العدوي:

روى أنه كان لنبي عذرة صنم يقال له حمام، وكانوا يعظمونه ، وكان في بني هند بن حزام، وكان سادنه رجل منهم يقال له طارق ، وكان يعقر ون عنده العقائر .

قال زمل بن عمرو العدوي ، فلما ظهر النبي (ص) سمعنا منه صوتا، وهو يقول : يا بني هند بن حزام ، ظهر الحق وأودى حمام ، ودفع الشرك بالإسلام.

قال : ففزعنا لذلك ، وهالنا ، فمكثنا أياما ثم سمعنا صوت آخر وهو يقول :

يا طارق ، بعث النبي الصادق ، يوحي ناطق ، صدع صادع، بأرض تهامة ، لناصريه السلامة ، ولخاذليه الندامة ، هذا الوداع إلى يوم القيامة ثم وقع الصنم الوجهه .(1)

قال زمل : فخرجت حتى أتيت النبي (ص)، ومعي نفر من قومي ، فأخبرناه بما سمعناه ، فقال : ذلك كلام مؤمن من الجن .

ثم قال: يا معشر العرب ، إني رسول الله إلى الأنام كافة ، أدعوكم إلى عبادة الله وحده ، وأني رسوله وعبده ، وأن تحجوا البيت ، وتصوموا شهراً من اثني عشر شهراً، وهو شهر رمضان، فمن أجابني فله الجنة نزلا وثوابا ، ومن عصاني كانت له النار منقلباً وعقابا .

ص: 208


1- ورد هذا الخبر مختصراً في مناقب آل أبي طالب ج1 ص 77.

قال: فأسلمنا ، وعقد في لواء ، وكتب لي كتابا ، فقال زمل عند ذلك :

إليك رسول الله أعلمت نصها *** أكفها حزناً وفوزاً من الرمل

لأنصر خير الناس نصرا مؤزراً *** وأعقد حبلاً من حبالك في حبلي

وأشهد أن الله لا شيء غيره *** أدين له ما أثقلت قدمي نعلي.

3- خبر عمرو بن مرة الجهني:

ذكروا أن عمرو بن مرة كان يحدث فيقول:

خرجت حاجاً في الجاهلية في جماعة من قومي ، فرأيت في منامي وأنا في الطريق ، كأن نوراً قد سطع من الكعبة ، حتى أضاء إلى نخل يثرب، وجبلي جهينة الأشعر والأجرد، وسمعت في النوم قائلا يقول:

تقشعت الظلماء ، وسطع الضياء ، وبعث خاتم الأنبياء.

ثم أضاء إضاءة أخرى، حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن ، وسمعته يقول:

أقبل حق فسطع ، ودفع باطل فانقمع .

فانتبهت فزعاً ، وقلت لأصحابي : والله ، ليحدثن بمكة في هذا الحي من قریش حدث.

وكان لنا صنم فكنت أنا الذي أسدنه ، فشددت عليه فكسرته ، وخرجت حتى قدمت عليه مكة ، فأخبرته ، فقال:

يا عمرو بن مرة، أنا النبي المرسل إلى العباد كافة ، أدعوهم إلى الإسلام، و آمرهم بحفظ الدماء ، وصلة الأرحام، وعبادة الرحمان ورفض الأوثان، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان، فمن أصاب فله الجنة ، ومن عصى فله النار ، فآمن بالله يا عمرو بن مرة، تأمن يوم القيامة من النار .

ص: 209

فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، آمنت بما جئت به من حلال وحرام، وإن أرغم ذلك كثيراً من الأقوام، وأنشأت أقول:

شهدت بأن الله حق وإنني *** لآلهة الأحجار أول تارك

وشمرت عن ساقي الإزار مهاجراً *** إليك أجوب الوعث بعد الدكادك

لأصحب خير الناس نفسا ووالداً ***رسول مليك الناس فوق الحبائك

ثم قلت : يا رسول الله ابعثني إلى قومي ، لعل الله تبارك وتعالى يمن عليهم کما من علي بك ، فبعثني ، فقال: عليك بالرفق ، والقول السديد ، ولاتك فظاً ، ولا غليظاً ، ولا مستكبراً، ولا حسوداً.

فأتيت قومي ، فقلت : يا بني رفاعة ، بل یا جهينة ، إن [ رسول ] رسول الله (ص) إليكم، أدعوكم إلى الجنة ، وأحذركم النار ، يا معشر جهينة ، إن الله وله الحمد ، قد جعلك خيار من أنتم منه ، وبغض إليكم في جاهليتكم ما حببت إلى غيركم من العرب، الذين كانوا يجمعون بين الأختين ، ويخلف الرجل منهم على امرأة أبيه ، وأغارت في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا الذي من لؤي ، أتانا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة، وسارعوا في أمره، يكن بذلك لكم عنده فضيلة .

قال: فأجابوني إلا رجل منهم ، فإنه قام فقال: يا عمرو بن مرة، أمر الله عیشك ، أتأمرنا برفض آلهتنا ، وتفريق جماعتنا ، ومخالفة دين آبائنا ، ومن مضى من أوائلنا إلى ما يدعوك إليه هذا المضري من أهل تهامة ، لا ولا حباً ولا كرامة ثم أنشأ يقول:

إن ابن مرة قد أتى بمقالة *** لیست مقالة من يريد صلاحاً

إني لأحسب قوله وفعاله *** يوما وإن طال الزمان ذباحا(1)

ص: 210


1- يريد به الهلاك.

أتسفه الأشياخ ممن قد مضى *** من رام ذلك لا أصاب فلاحا

فقال له عمرو: الكذاب مني [ أو ] منك ، أمر الله عيشه ، وأبكم لسانه ، وأكمه إنسانه ، قال عمرو: فوالله ، لقد عمي ومامات حتى سقطر فوه ، وكان لا يقدر على الكلام، ولا يبصر شيئا، وافتقر واحتاج.

4- وخبر ركانة وما فيه من الآية

كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قریش وأقواهم ، فخلا يوما برسول الله (ص) في شعاب مكة ، فقال له رسول الله (ص) :

یا ركانة ، ألا تتقي الله ، وتقبل ما أدعوك إليه ، فقال له ركانة: إني لو أعلم الذي تقول حقا لأتبعتك . قال فقال رسول الله (ص) : أفرأيت أن صرعتك ، أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم، قال فقم حتى أصارعك ، فقام ركانة إليه ، فلما بطش به رسول الله (ص) أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ، فقال ركانة وقد عجب من ذلك : عد يا محمد ، فعاد فصرعه رسول الله (ص) دفعة أخرى فاستعظم ذلك وقال : يا محمد ، ذا العجب ، فقال رسول الله (ص) : وأعجب من ذلك إن شئت أریکه إن اتقیت الله ، واتبعت أمري ، قال : ما هو؟ قال: أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني ، قال : فادعها ، فدعاها ، فأقبلت حتى ووقفت بين يدي رسول الله (ص) ، ثم قال لها : إرجعي إلى مكانك ، فرجعت حتى وقفت .

فذهب ركانة إلى قومه ، فقال : يا بني عبد مناف ، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض ، فوالله ، ما رأيت أسحر منه قط.

ثم أخبرهم بالذي رأي والذي صنع .(1)

5- وخبر أبي تميمة الهجيمي.

ص: 211


1- قصته موجودة في سيرة ابن هشام ج1 ص418

قال [ أبو ] تميمة:

وفدت على رسول الله (ص)، فوجدته قاعداً في حلقة، فقلت: أيكم رسول الله فلا أدري، أشار إلي رسول الله (ص) فقال : أنا رسول الله أو أشار إلي بعض القوم ، فقالوا: هذا رسول الله ، وإذا علیه بردة حمراء ، تتناثر هدبها على قدميه ، فقلت : إلى ما تدعو یا رسول الله ؟ قال: أدعوك إلى الذي إذا كنت بأرض فلاة فأضللت راحلتك فدعوته أجابك ، وأدعوك إلى الذي إذا استنت(1) أرضك أو أجدبت فدعوته أجابك.

قال: فقلت: وأبيك لنعم الرب هذا، فأسلمت ، وقلت : يا رسول الله ، علمني مما علمك الله تبارك وتعالى ، فقال النبي (ص):

اتق الله ، لا تحقرن شيئا من المعروف ولو أن تلقى أخاك ووجهك مبسوط إليه (2)، وإياك وإسبال الإزار من المخابلة ، قال الله تبارك وتعالى :

(إن الله لا يحب كل مختال فخور) سورة القمان: 18

ولا تسبن أحداً ، وإن سبك بأمر لا يعلم فيك ، فلا تسبه بأمر تعلمه فيه ، فيكون لك الأجر ، وعليه الوزر.

6- وخبر أهيب بن سماع :

وروي أن النبي (ص) كان يوما جالساً في نفر من أصحابه ، وقد صلی الغداة ، فإذ أقبل إعرابي على ناقة له ، حتى وقف بباب المسجد فأنا خها ثم عقلها ، ودخل المسجد يتخطى الناس، والناس يوسعون له ، وإذا هو رجل مديد القامة ، عظيم الهامة ، معتجر بعمامة ، فلما مثل بين يدي رسول الله (ص) أسفر عن لثامه ، ثم هم أن يتكلم فارتج حتى اعترضه ذلك ثلاث مرات.

فلما رآه النبي (ص)، وقد ركبه الزمع(3) لها عنه بالحديث ، ليذهب عنه

ص: 212


1- أي قحطت.
2- في النسخة : ووجهك مبسوطة إليك
3- أي أخذه الدهش .

بعض الذي أصابه ، وقد كسا الله نبیه جلالة وهيبة ، فلا أنس وفرخ روعه (1) قال له النبي (ص) : قل لله [ أنت ]ما أنت قائل.

فأنشأ يقول:

رب يوم يعي الألد المداري *** شره حاضر يروع الرجالا

قمته فانجلى ولو قام فيه *** مسجل الجن ما أطاق المقالا

جئت بالاقتدار في ذات نفسي *** انني أقهر الرفا (2) والكلالا

فانثت حدتي وفلت شباتي *** والهدى يقهر العمى والضلالا

لم أضق بالكلام ذرعا ولكن *** شدة البغي يستجير الحبالا (3)

قال فاستوى رسول الله (ص) جالسا ، وكان متكئا ، فقال : أنت أهيب بن سماع ؟ ولم يره قد قبل وقته ذاك ، فقال : أنا أهيب بن سماع الأبي الدفاع، القوي المناع.

قال: أنت الذي ذهب جل قومك بالغارات، ولم ينفضوا رؤوسهم من الهفوات إلا منذ أشهر وسنوات؟

قال: أنا ذاك ، قال : أفتذكر الأزمة التي أصابت قومك، أحرنجم لها الذبح، وأخلف نوع المرنج، وامشعت السماء وانقطعت الأنواء، واحترقت الغمة ، وخفت البرية ، حتى إن الضيف لينزل بقومك ، وما في الغنم عرق ولا غرر ، فترصدون الضب المكنون فتصيدونه.

ص: 213


1- أي ذهب فزعه.
2- هكذا في النسخة ولعل كلمة الرفا تصحيف العنا أو الفلا
3- هكذا في النسخة.

وكأنك في طريقك إلي لتسألني عن جل ذلك ، وعن حرجه. ألا ولا حرج على مضطر ، ومن كرم الأخلاق بر الضيف.

قال: فقال: لا والله ، لا أطلب أثراً بعد عين، لكأنك كنت معي في طريقي ، أو شريكي في أمري ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد رسول الله .

ثم قال: يا رسول الله زدني شرحا وبيانا، أزدد بک إيمانا.

فقال له النبي (ص): أتذكر إذ أتيت صنمك في الظهيرة فعت له العشيرة ؟

قال: نعم - بأبي أنت وأمي يا رسول الله - إن الحرث بن أبي ضرار المصطلقي جمع لك جموعأ ، ليدهمك بالمدينة ، واستعان بي على حربك ، وكان لي صنم يقال له راقب ، فرقبت خلوته ، وقممت ساحته (1)، ثم نفضت التراب عن رأسه ، ثم عترت له عتيرة(2) ، فإني لأستخيره في أمري، وأستشيره في حربك ، إذ سمعت منه صوتاً هائلا ، فوليت عنه هارباً ، وهو يقول كلاما في معنى كلامه الأول قال: فلما كان من غد ركبت ناقتي ، ولبست لامتي ، وتكبدت الطريق حتى أتيتك ، فأنر لي سراجك ، وأوضح لي منهاجك.

قال : قال له النبي (ص) : قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأني محمد عبده ورسوله ، فقالها غير مستنكف وأسلم وحسن إسلامه ، ووقر حب الإسلام في قلبه.

فقال النبي (ص) لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) : خذ بيده ، فعلمه القرآن، فأقام عند النبي (ص)، فلما حذق شيئا من القرآن ، قال: يا نبي الله ، إن الحرث بن أبي ضرار المصطلقي قد جمع لك جموعاً لید همك بالمدينة ، فلو وجهت معي قوماً بسرية ، نشن عليهم الغارة، فوجه النبي (ص) معه أمير المؤمنين (ع) وجماعة من المسلمين ، فظفروا بهم، واستاقوا إبلهم وماشيتهم.

وأهيب الذي يقول في إسلامه:

ص: 214


1- أي كنس قمامة ساحته وهي الكناسة ، فيقال قم البيت قماً أي كنسه .
2- هي الذبيحة التي تقدم للأصنام ويصب دمها على رأسها .

جبت الفلاة على حرف (1) مبادرة *** خطارة تصل الإرقال بالخبب (2) لا تشتكي [للذي] جابت جوانبه *** و[ما] تأتي لأين (3) السير والتعب

خطر فنها والثريا النجم واقفة *** كأنها قطف ملاح من العنب

أو كالجمان زهاني صدر جارية *** [ممطورة] (4) بنظام الدر والذهب

سارت ثلاثاً، فوافت بعد ثالثة *** ذات المناهل أرض النخل والكرب (5)

فيها النبي الذي لاحت حقائقه *** في معشر بسقوا في ذروة الحسب

حلو الشمائل میمون نقيبته *** محض الضرائب حياد عن الكذب

لا ينثني وسعير الحرب مضرمة *** تحش (6) بالنبل والأرماح والقضب

والحرب حامية والهام راسية *** والموت يختطف الأرواح من كثب

ص: 215


1- هي الناقة الضامرة.
2- الإرقال والخبب نوعان من السیر .
3- الآين : الإعياء .
4- في النسخة ممطرة ومعها لا يستقيم الوزن.
5- هي أصول سعف النخل .
6- أي توقد

هناك تخبو إذا ما راس(1) أخصمه *** سماحها(2) لعظيم الهول والرهب

داخت (3) رقاب الورى من هول رؤيته *** إذا بدا لهم في الموكب اللجب

فصل : من كلام سيدنا رسول الله (ص)

« أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأوثق العرى كلمة التقوى ، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الأمور عوامها ، وشر الأمور محدثاتها ، وأهدى الهدي هدى الأنبياء ، وأشرف الموت قتل الشهداء ، وأعمى العمى ضلالة بعد الهدى، وخير العمل ما نفع ، وخير الهدي ما اتبع ، واليد العليا خير من اليد السفلي ، وما قل وكفي خير مما كثر وألهي ، وشر المعذرة عند حضرة الموت ، وشر الندامة ندامة يوم القيامة.

ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزراً ، ولا يذكر الله إلا هجراً.

ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، ورأى الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين.

والارتياب من الكفر ، والنياحة من عمل الجاهلية ، والغلول (4) من جمر جهنم، والسكر من النار، والشعر من إبليس ، والخمر جماعة الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون ، وشر الكسب كسب الربا ، وشر المال أكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي شقي في بطن أمه .

ص: 216


1- هكذا في النسخة
2- هكذا في النسخة
3- أي ذلت
4- هو السرقة والخيانة في شيء .

وإنما بصير أحدكم إلى موضع ذراع، والأمر إلى آخره، وملاك الأمر خواتمه، وشر الروايات روايات الكذب ، وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر ، وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يستغفر الله يغفر له، ومن يتبع المستمع يستمع الله به، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن يكظم الغيظ يؤجره الله ، ومن يصير على الرزية يعوضه الله ، ومن يصم يضاعف الله أجره، ومن يعص الله يعذبه .

ومن كلامه (ص) قوله :

« إنكم في زمان، من ترك عشر ما أمر به هلك ، وسيأتي على الناس زمان من عمل بعشر ما أمر به نجا »

ومن كلامه عليه وآله السلام قوله : « استحيوا من الله حق الحياء».

قيل له : يا رسول الله ، إنا لنستحي ، فقال : ليس كذلك. من استحیی من الله حق الحياء ، فليحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحيا.

وقال عليه السلام:

حب الدنيا رأس كل خطيئة .

وقال:

إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، ولا تبلغون ما تأملون إلا بترك ما تشتهون.

فصل من البيان والسؤال

إن سأل سائل عن أول ما فرض الله عليك .

فقل : النظر المؤدي إلى معرفته

فإن قال: لم زعمت ذلك ؟

ص: 217

فقل : لأنه سبحانه قد أوجب معرفته ، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنظر في الأدلة المؤدية إليها .

فإن قال: فإذا كانت المعرفة بالله عز وجل لا تدرك إلا بالنظر ، فقد [ أصبح ] المقلد غير عارف بالله .

فقل : هو ذاك

فإن قال : فيجب أن يكون جميع المقلدين في النار .

فقل : إن العاقل المستطيع إذا أهمل النظر والإعتبار ، واقتصر على تقلید الناس ، فقد خالف الله تعالى ، وانصرف عن أمره ومراده ، ولم يكفه تقليده في أداء فرضه ، واستحق العقاب على مخالفته وتفريطه . غير أنا نرجو العفو عمن قلد الحق، والتفضل (1) عليه، ولا نرجوه لمن قلد المبطل ولا نعتقده فيه.

وكل مكلف يلزمه من النظر بحسب طاقته ونهاية إدراكه وفطنته .

فأما المقصر الضعيف الذي ليس له استنباط صحیح ، فإنه يجزيه التمسك في الجملة بظاهر ما عليه المسلمون.

فإن قال : كيف يكون التقليد قبيحاً من العقلاء المميزين ؟ وقد قلد الناس رسول الله (ص) فيما أخبر به عن رب العالمين ، ورضي بذلك عنهم ، ولم يكلفهم ما تدعون.

فقل : معاذ الله أن نقول ذلك أو نذهب إليه ، ورسول الله (ص) لم يرض من الناس التقليد دون الأعتبار، وما دعاهم إلا إلى الإستدلال، ونبههم عليه بآيات القرآن من قوله سبحانه وتعالى :

(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ، وما خلق الله من شيء ..) الاعراف: 185

وقوله :

ص: 218


1- في النسخة (والتفضيل).

(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب). آل عمران: 190.

وقوله:

(وفي الأرض آيات للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون) . الذاريات: 20 - 21

وقوله :

(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت). الغاشية : 19 - 22

ونحن نعلم أنه ما أراد بذلك إلا نظر الإعتبار ، فلو كان (ع) إنما دعا الناس إلى التقليد ، ولم يرد منهم الإستدلال لم يكن معنى لنزول هذه الآيات.

ولو أراد أن يصدقوه ويقبلوا قوله تقليداً بغير تأمل واعتبار لم يحتج إلى أن يكون على ما ظهر من الآيات والمعجزات.

فأما قبول قوله (ص) بعد قيام الدلالة على صدقة ، فهو تسليم وليس بتقليد .

وكذلك قبولنا لما أتت به أئمتنا (ع)، ورجوعنا إلى فتاويهم في شريعةالإسلام.

فإن قال: فأين لنا ما التقليد في الحقيقة؟ وما التسليم ؟ ليقع الفرق والبيان.

فقل : التقليد هو قبول قول من لم يثبت صدقه ، وهذا معنى التقليد لا يكون إلا عن بينة وحجة .(1)

فصل : من كلام جعفر بن محمد الصادق (ع) مما حفظ عنه في وجوب المعرفة بالله عز وجل وبدينه .

قوله :

وجدت علم الناس في أربع:

ص: 219


1- ومن جوابه هذا يظهر معنى التسليم وهو الأخذ بقول من ثبت صدقه وأصبح حجة بذاته.

أحدها : أن تعرف ربك.

والثاني : أن تعرف ما صنع بك.

والثالث : أن تعرف ما أراد منك.

والرابع : أن تعرف ما يخرجك عن دينك (1) .

قال شيخنا المفيد رحمه الله :

هذه أقسام تحيط بالمفروض من المعارف، لأنه أول ما يجب على العبد معرفة ربه جل جلاله ، فإذا علم أن له إلها وجب أن يعرف صنعه، وإذا عرف صنعه عرف به نعمته ، فإذا عرف نعمته ، وجب عليه شكره ، فإذا أراد تأدية شکره ، وجب عليه معرفة مراده، ليطيعه بفعله ، وإذا وجب عليه طاعته ، وجب عليه معرفة ما يخرجه عن دينه، ليتجنبه ، فتخلص له به طاعة ربه ، وشكر إنعامه.

أنشدني بعض أهل هذا العصر لنفسه:

والزم من الدين ما قام الدليل به *** فإن أكثر دين الناس تقلید

فكلما وافق التقليد مختلق *** زور وإن كثرت فيه الأسانيد

وكل ما نقل الآحاد من خبر *** مخالف لكتاب الله مردود .

فصل آخر من السؤال والبيان

اشارة

إن سأل سائل فقال:

ما نعمة الله تعالى عليك؟

فقل : خلقه إياي حياً لينفعني.

فإن قال : ولم زعمت أن خلقه إياك حياً أول النعم ؟

ص: 220


1- تجد هذا الحديث مرويا في إرشاد المفيد ص 259 .

فقل : لأنه خلقني لنفعي ، ولا طريق لنيل النفع إلا بالحياة التي يصح معها الإدراك.

فإن قال: ما النعمة؟

فقل : هي المنفعة إذا كان فاعلها قاصداً لها.

فإن قال : ما المنفعة ؟

فقل : هي اللذة الحسنة أو ما يؤدي إليها .

فإن قال : لم شرطت أن تكون اللذة حسنة ؟

فقل : لأن من اللذات ما لا يكون حسناً.

فإن قال: لم قلت: أو ما يؤدي إليها ؟

فقل : لأن كثيراً من المنافع لا يتوصل إليها إلا بالمشاق، كشرب الدواء الكريه والفصد ونحو ذلك من الأمور المؤدية إلى السلامة واللذات، فتكون هذه المشاق منافع لما يؤدي إليه في عاقبة الحال.

ولذلك قلنا: إن التكليف نعمة حسنة ، [لأنه] به ينال مستحق النعيم الدائم واللذات.

فإن قال: فما کمال نعم الله تعالى ؟

فقل : إن نعمه تتجدد علينا في كل حال، ولا يستطاع لها الإحصاء .

فإن قال: فما تقولون في شكر المنعم؟

فقل : هو واجب.

فإن قال : فمن أين عرفت وجوبه؟

فقل : من العقل وشهادته ، وواضح حجته ودلالته .

ووجوب شكر المنعم على نعمته مما تتفق العقول عليه ، ولا تختلف فيه .

فإن قال : فهل أحد من الخلق يكافئ نعم الله تعالى بشكر ، أو يوفي حقها بعمل؟

فقل : لا يستطيع أحد من العباد ، من قبل أن الشيء إنما يكون كفوا لغيره

ص: 221

إذا سد مسده ، وناب منابه ، وقابله في قدره ، وماثله في وزنه.

وقد علمنا أنه ليس شيء من أفعال الخلق تسد مسد نعم الله عليهم ، لإستحالة الوصف لله تعالى بالإنتفاع ، أو تعلق الحوائج به إلى المجازاة ، وفساد مقال من زعم أن الخلق يحيطون علماً بغاية الإنعام من الله تعالى عليه ، والإفضال، فيتمكنون من مقابلتها بالشكر على الإستيفاء للواجب ، والإتمام.

فيعلم بهذا تقصير العباد من مكافأة نعم الله تعالى عليهم ، ولو بذلوا في الشكر والطاعات غاية المستطاع، وحصل ثوابهم في الآخرة تفضلا من الله تعالى عليهم ، وإحسانا إليهم.

وإنما سميناه استحقاقا في بعض الكلام، لأنه وعد به على الطاعات، وهو الموجب له على نفسه بصادق وعده ، وإن لم يتناول شرط الإستحقاق على الأعمال.

وهذا خلاف ما ذهب إليه المعتزلة إلا أبا القاسم البلخي (1) ، فإنه يوافق في هذا المقال ، وقد تناصرت به مع قيام الأدلة العقلية عليه الأخبار .(2)

أخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد النعمان الحارثي رضوان الله عليه إجازة ، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه ، عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن عدة من أصحابه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن ابن محبوب ، عن داود بن كثير ، عن أبي عبيدة الحذاء ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله (ص):

ص: 222


1- في النسخة إلا أبو والصحيح أبا لأنه استثناء من موجب
2- اتفق أهل العدل على أن المؤمن الذي عمل عملا صالحا يدخل الجنة خالداً فيها ، واختلفوا في أن هذاالثواب هل هو على جهة الإستحقاق والمعارضة بينه وبين العمل أم تفضل من المولى تعالی قال أكثر المعتزلة بالأول اعتماداً على قبح الثواب مع عدم الاستحقاق ولأن التكليف حينئذ لغو ، وذهب البلخي والمعتزلة والمفيد وجماعة من الإمامة إلى الثاني عملا بطبيعة المولى والعبد إذ لا يجب على المولى بازاء العبد بشيء إذا أطاعه ، ولأنه يكفي في صحة التكليف وحسنه عقلا سبق المنعم على المكلف المستتبعة لوجوب شكر المنعم بالطاعة ، وللاخبار المؤيدة لحكم العقل ، التي ذكر المؤلف بعضا منها .

قال الله تعالى : لا يتكل(1) العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فإنهم لو أجمعوا وأتعبوا أنفسهم وأعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصرين ، غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي ، فيما يطلبون من كرامتي، والنعيم في [جناني ] ، ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا ، فإن رحمتي عند ذلك تدركهم ، وبمني أبلغهم رضواني ومغفرتي ، وألبسهم عفوي ، فإني الله الرحمن الرحيم ، بذلك تسميت.

أخبرني شيخنا المفيد رحمه الله قال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن الحسن بن الوليد ، عن أبيه ، عن محمد بن الحسن الصفار ، عن علي بن محمد القاشاني ، عن القاسم بن محمد الأصبهاني ، عن سليمان بن خالد المنقري، عن سفيان بن عينيه عن حمید بن زیاد ، عن عطاء بن يسار ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال:

يوقف العبد بين يدي الله تعالى فيقول: قيسوا بين نعمي وبين عمله ، فتغرق النعم العمل ، فيقول: هبوا له النعم ، وقيسوا بين الخير والشر منه ، فإن استوى العملان، أذهب الله الشر بالخير ، وأدخل الجنة، وإن كان له فضل أعطاه الله بفضله ، وإن كان عليه فضل وهو من أهل التقوى لم يشرك بالله تعالى، [واتقى] الشرك به فهو من أهل المغفرة، يغفر الله له برحمته ، ويتفضل عليه بعفوه .

وأخبرني أيضا شيخنا المفيد رحمه الله قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد ، عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب، عن سعد بن خلف، عن أبي الحسن (ع) أنه قال:

« عليك بالجد ، ولا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله وطاعته ، فإن الله تعالى لا يعبد حق عبادته .

ص: 223


1- في النسخة (لا يتكلوا).

شبهة للبراهمة في النبوة

*شبهة للبراهمة في النبوة (1)

اعتلت البراهمة في إبطال الرسالة بأن قالت :

ليس يخلو أمر الرسول من حالين:

إما أن يأتي ما يدل عليه العقل أو بخلافه . فإن أتى بما في العقل كان من كمل عقله غنياً عنه ، لأن الذي يأتيه مستقر عنده ، موجود في عقله.

وإن أتي بخلاف ما في العقل فالواجب رد ما يأتيه به، لأن الله تعالى إنما خلق العقول للعباد ليستحسنوا بها ما استحسنت ، ويقروا بما أقرت، وينكروا ما أنكرت.

نقض : يقال لهم: إن الرسول لا يأتي أبداً بما يخالف العقل ، غير أن الأمور في العقول على ثلاثة أقسام: واجب ، وممتنع ، وجائز .

فالواجب في العقل يأتي السمع بإيجابه تأكيداً له عند من علمه، وتنبيها عليه لمن لم يعلمه.

والجائز هو الذي يمكن في العقل حسنه تارة وقبحه تارة، كانتفاع الإنسان بما يتملكه غيره ، فإنه يجوز أن يكون حسناً إذا أذن له فيه مالكه ، وقبيحاً إذا لم يأذن له. وكل واحد من القسمين جائز في العقل ، لا طريق إلى القطع على أحدهما إلا بالسمع.

ومن الأمور التي لا يصل العقل إليها أيضا فيها إلى القطع على العلم بأدوية الأعلال ومواضعها ، وطبائعها، وخواصها ، ومقاديرها ، [ التي] يحتاج إليه منها ، وأوزانها.

فهذا مما لا سبيل للعقل فيه إلى حقيقة العلم، وليس يمكن امتحان كل ما في البر والبحر ، ولا تحسن التجربة والسير، لما فيها من الخطر المستقبح.

فعلم أن هذا ما لا غناء فيه عن طارق السمع.

ص: 224


1- هم أكثر الهندوس في الهند ينتسبون إلى برهام وهم أهل نحل عديدة ولهم شبهات على إرسال الرسل وإبطال النبؤات وتجد شرح مذاهبهم في الملل والنحل.

وبعد فإن شكر المنعم عندنا وعند البراهمة مما هو واجب في العقل ، وليس في وجوبه ووجوب تعظيم مبدأ النعمة خلاف، وشكر الله تعالى ، وتعظيمه أوجب ما يلزمنا ، لعظيم أياديه لدينا، وإحسانه إلينا.

ولسنا نعلم بمبلغ عقولنا أي نوع يريده من تعظيمنا له وشكرنا. هذا مع الممكن من لطف يكون(1) في نوع من ذلك لنا لا يعلمه إلا خالقنا.

ثم يقال للبرهمة أيضا :

لو لم يكن في العقل القسم الجائز الذي ذكرناه ، وكانت الأشياء لا تخلو من واجب ، وممتنع ، دون ما بيناه ، لم يستغن مع هذا التسليم عن المرسلين ، لأنهم ينبهون على طريق الإستدلال المسترشدين ، ويحركون الخواطر بالتذكار إلى سنن التأمل والاعتبار.

وهذا أمر يدل عليه ما نشاهده من أحوال العقلاء ، وافتقارهم إلى من يفتح لهم باب الاستدلال أولا.

وفي بعض ما أوردناه بیان عن غلط البراهمة فيما اعتدت، ونقض لشبهتها التي ذكرت والحمد لله .

(مختصر من الكلام على اليهود في إنكارهم جواز النسخ في الشرع).

إعلم أن اليهود طائفتان ، أحداهما تدعي أن نسخ الشرع لا يجوز في العقل . والأخرى تجيز ذلك عقلا، وتزعم أن المنع منه ورد به السمع.

فأما المدعون على العقل الشهادة بقبح النسخ ، فإنهم زعموا أن النسخ هو البداء.

ص: 225


1- في العبارة قلق ترکيبي وإن كان المراد واضحاً .

قالوا: والبداء لا يجوز على الله تعالى .

فيقال لهم : لم زعمتم أن النسخ هو البداء ؟

فإن قالوا: للمتعارف بين العقلاء، أن الآمر بالشيء إذا نهى عنه بعد أمره، [فقد ] بدا له فيه.

وكذا إذا نهى عن الشيء ثم أمر به من بعد نهیه .

قيل لهم : ما تنكرون من أن يكون على هذا قسمين :

أحدهما : أن يأمر الآمر بالشيء في وقت ، وإذا فعل وجاز وقت فعله ، نهی عنه من بعد ، فيكون في الحقيقة ، إنما نهى عن مثله . وهذا هو النسخ بعينه .وكذلك القول في الأمر بالشيء بعد النهي عنه.

والقسم الآخر : أن يأمر بفعل الشيء في وقت ، فإذا أتي ذلك الوقت نهی عنه فيه بعينه ، قبل أن يفعل ، ويكون هذا البداء دون القسم الأول ، محصل الفرق بين البداء والنسخ ، ويتضح أن دعواكم فيها أنهما واحد لم تصح .

فإن قالوا: إن العبادة إذا تعلقت على المكلف بأمر أو نهي ، فالحكمة اقتضتها . فمتى تغيرت العبادة ، دلت على تغيير الحكمة ، والحكمة لا يجوز تغييرها.

قيل لهم : فالا قلتم: إن العبادة إذا ألزمت المكلف ، فالحكمة اقتضتها لمصلحة من مصالح المكلف أوجبتها ، فإذا تغيرت العبادة ، دلت على أن الحكمة اقتضت ذلك لتغير المصلحة ، والمصلحة يجوز تغييرها .

فإن قالوا : إنا لا نعلم في العقل تغيير المصالح

قيل لهم : وكذلك لا تعرفون بالعقل المصالح.

ثم يقال لهم : ما السبب في نقل الله تعالى ، الإنسان من كونه شاباً إلى أن صيره شيخاً، وأفقره ثم أغناه ، وأماته بعد أن أحياه؟ وكيف أصحه ثم أسقمه ، وأوجده ثم أعدمه ؟ فكيف تغيرت الحكمة في جميع ما عددنا ؟ وما أنكرتم أن يكون هذا كله بداءً؟ أي اختلاف في المصالح يكون أوضح من هذا؟

ص: 226

وأما المدعون من اليهود ، أن إبطال النسخ علم بالسمع دون العقل ، فإنهم ادعوا في ذلك على موسي (ع) أنه قال:

إن شريعته دائمة لا تنسخ.

والذي يدل على بطلان دعواهم هذه ظهور المعجزات على من أتى بالنسخ . ولو كان خبرهم حقا لم يصح إتيان ذي معجز بنسخ.

وهذه المعجزات يعلم أنها قد كانت بمثل ما تعلم له اليهود معجزات موسی (ع) من غير فرق.

فصل في ذكر البداء

اشارة

أعلم - أيدك الله تعالى - أن أصحابنا دون المتكلمين يقولون بالبداء ، ولهم في نصرة القول به كلام، ومعهم فيه آثار.

وقد استشنع ذلك منهم مخالفوهم ، وشنع عليهم به مناظر وهم .

وإنما استشنعوه لظنهم أنه يؤدي إلى القول بأن الله تعالى ، علم في البداء ما لم يكن يعلم. فإذا قدر الناصر للبداء على الإحتراز من هذا الموضع فقد أحسن، ولم يبق عليه أكثر من إطلاق اللفط، وقد قلنا إن ذلك قد ورد به السمع

وقد اتفق لي فيه كلام مع أحد المعتزلة بمصر ، أنا أحكيه ، لتقف عليه .

حكاية مجلس في البداء

كنت سألت معتزليا ، حضرت معه مجلسا ، فيه قوم من أهل العلم ، فقلت له : لم أنكرت القول بالبداء ؟ وزعمت أنه لا يجوز على الله تعالى .

فقال : لأنه يقتضي ظهور أمر لله سبحانه كان عنه مستوراً، وفي هذا أنه قد تجدد له العلم بما لم يكن به عالماً .

ص: 227

فقلت له : أين لنا من أين علمت أنه يوجب ذلك ، وتقتضيه ، ليسع الكلام معك فيه ؟

فقال : هذا هو معنى البداء، والتعارف يقضي بيننا. ولسنا نشك أن البداء هو الظهور ، ولا يبدو للآمر إلا لظهور شي تجدد من علم أو ظن لم يكن معه من قبل .

وبيان ذلك: أن طبيباً لو وصف لعليل أن يشرب في وقته شراب الورد ، حتى إذا أخذ العليل القدح بیده ليشرب ما أمره به ، قال له الطبيب في الحال صبه ولا تشربه ، وعليك بشرب النیلوفر بدله ، فلسنا نشك في أن الطبيب قد استدرك الأمر وظهر له من حال العليل ما لم يكن عالما به من قبل ، فغير عليه الأمر لما تجدد له من العلم. ولولا ذلك لم يكن معنى هذا الخلاف.

فقلت له : هذا مما في الشاهد وهو من البداء ، فيجوز عندك أن يكون في البداء قسم غير هذا؟

فقال : لا أعلم في الشاهد غير هذا القسم، ولا أرى أنه يجوز في البداء قسم غيره ولا يعلم.

فقلت له : ما تقول في رجل له عبد، أراد أن يختبر حاله وطاعته من معصيته ، ونشاطه من كسله ، فقال له في يوم شديد البرد : سر لوقتك هذا إلى مدينة كذا، لتقبض مالا لي بها، فأحسن العبد لسيده الطاعة ، وقدم المبادرة، ولم يحتج بحجة ، فلما رأى سیده مسارعته، وعرف شهامته ونهضته، شكره على ذلك، وقال له: أقم على حالك، فقد عرفت أنك موضع للصنيعة، وأهل للتعويل عليك في الأمور العظيمة، أيجوز عندك هذا؟ وإن جاز فهل هذا داخل في البداء أم لا؟

فقال : هذا مستعمل ورأينا في الشاهد ، وقد بدا فيه للسيد ، وليس هو قسما ثانياً ، بل هو بعينه الأول ، هو الذي لا يجوز على الله عز وجل.

فقلت له لم جعلت الجمع بينهما من حيث ذكرت أولى من التفرقة بينهما ، من حيث كان أحدهما ريداً لإتمام قبل أن يبدو له فيه فينهى عنه ، وهو

ص: 228

الطبيب ، والآخر غير مريد لإتمامه على كل وجه، وهو سيد العبد ، بل كيف لم تفرق بينهما من حيث أن الطبيب لم يجز قط أن يقع منه اختلاف الأمر إلا لتجدد علم له لم يكن ، وسيد العبد يجوز أن يقع منه النهي بعد الأمر من غير أن يتجدد له علم ، ويكون عالما بنهضته في الحالين، ومسارعته إلى ما أحب ، وإنما أمره بذلك ليعلم الحاضرون حسن طاعته ، ومبادرته إلى أمره، وأنه ممن يجب اصطفاؤه ، والإحسان إليه، والتعويل في الأمور عليه.

قال: فإذا سلمت لك الفرق بينهما ، فما تنكر أن يكون دالا على أن مثالك الذي أتيت به غیر داخل في البداء ؟

قلت: أنكرت ذلك من قبل أن البداء عندنا جميعا نهي الآمر عما أمر به قبل وقوعه في وقته ، وإذا كان هذا هو الحد المراعي فهو موجود في مثالنا ، وقد أجمع العقلاء أيضا على أن السيد فيه قد بدا له فيما أمر به عبده .

قال: فإذا دخل القسمان في البداء ، فما الذي تجيز على الله تعالى منهما ؟

فقلت : أقربهما إلى قصة ابراهيم الخليل (ع) وأشبههما لما أمر الله تعالى في المنام بذبح ولده اسماعیل (ع)، فلما سارع إلى المأمور راضياً بالمقدور، وأسلما جميعاً صابرين ، وتله للجبين ، نهاه الله عن الذبح بعد متقدم الأمر، وأحسن الثناء عليهما ، وضاعف لها الأجر .

وهذا نظير ما مثلت من أمر السيد وعبده ، وهو النهي عن المأمور به قبل وقوع فعله.

قال: فمن سلم لك أن إبراهيم (ع) مأمور بذلك من قبل الله سبحانه ؟

قلت : سلمه لي من يقر بأن منامات الأنبياء عليهم السلام صادقة ، ويعترف بأنها وحي الله في الحقيقة ، وسلمه لي من يؤمن بالقرآن، ويصدق ما فيه من الأخبار.

وقد تضمن الخبر عن اسماعيل أنه قال الأبيه: يا أبت أفعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، وقوله الله تعالى لإبراهيم: (قد صدقت

ص: 229

الرؤيا)(1) وثناؤه عليه ، حيث قال: (كذلك نجزي المحسنين). وليس بمحسن من امتثل غير أمر الله تعالى في ذبح ولده ، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه .

قال: فإني لا أسمي هذا بدا .

فقلت له : ما المانع لك من ذلك ، أتوجه الحجة عليك به ، أم مخالفته للمثال المتقدم ذكره؟

فقال : يمنعني من أن أسميه البداء ، أن البداء لا يكشف إلا عن متجدد علم لمن بدا له ، وظهوره له بعد ستره ، وليس في قصة إبراهيم واسماعيل (ع) ما يكشف عن تجدد علم الله سبحانه ، ولا يجوز ذلك عليه ، فلهذا قلت أنه ليس ببداء .

فقلت له : هذا خلاف ما سلمته لنا من قبل ، وأقررت به، من أن سيد العبد يجوز أن يأمره بما ذكرناه ، ثم يمنعه مما أمره به وينهاه ، مع علمه بأنه يطيعه في الحالين لغرضه في كشف أمره للحاضرين.

ثم يقال لك: ما تنكر من إطلاق اللفظ بالبداء في قصة ابراهيم وإسماعيل (ع)، لأنها كشفت لها عن علم متجدد ، ظهر لهما، كان ظنهما سواه، وهو إزالة هذا التكليف بعد تعلقه ، والنهي عن الذبح بعد الأمر به.

قال: أفتقول إن الله تعالى أراد الذبح لما أمر به أم لم يرده؟

وأعلم أنك إن قلت : إنه لم يرده دخلت في مذاهب المجبرة ، لقولك إن الله تعالى أمر بما لا يريده.

وكذلك : إن قلت إنه أراده دخلت في مذهبهم أيضا ، من حيث أنه نهى عما أراده ، فما خلاصك من هذا؟

فقلت له : هذه شبهة يقرب أمرها ، والجواب عنها لازم لنا جميعا ، لتصديقنا بالقصة ، وإقرارنا بها.

وجوابي فيها أن الذبح في الحقيقة هو تفرقة الأجزاء ، ثم قد تسمى الأفعال

ص: 230


1- الصافات: 105.

التي في مقدمات الذبح ، مثل القصد ، والاضجاع ، وأخذ الشفرة ، ووضعها على الحلق ، ونحو ذلك ، ذبحاً مجازاً واتساعاً.

ونظير ذلك أن الحاج في الحقيقة هو زائر بیت الله تعالى ، على منهاج ما قررته الشريعة ، من الأحرام ، والطواف ، والسعي.

وقد يقال لمن شرع في حوائجه لسفره في حجة من قبل أن يتوجه إليه ، أنه حاج اتساعاً ومجازاً .

فأقول: إن مراد الله تعالى فيما أمر به لخليله إبراهيم (ع) من ذبح ولده ، إنما كان مقدمات الذبح، من الإعتقاد أولا والقصد ، ثم الإضتجاع للذبح ، ترك الشفرة على الحلق ، وهذه الأفعال الشاقة التي ليس بعدها غير الإتمام بتفرقة أجزاء الحلق.

وعبر عن ذلك بلفظ الذبح ، ليصح من إبراهيم (ع) الإعتقاد له، والصبر على المضض فيه ، الذي يستحق جزيل الثواب عليه.

ولو فسر له في الأمر المراد على التعيين لما صح منه الأعتقاد للذبح، ولا كان ما أمر به شاقاً ، يستحق عليه الثناء ، والمدح، وعظيم الأجر .

والذي نهى الله تعالى عنه هو الذبح في الحقيقة ، وهو الذي لم يبق غيره ، ولم تتعلق الإرادة قط به. فقد صح بهذا أن الله تعالى لم يأمر بما لا يريد ، ولا نهی عما أراد ، والحمد لله .

قال: الخصم: فقد انتهى قولك إلى أن الذي أمر به غير الذي نهى عنه ، وليس هذا هو البداء.

فقلت له : أما في ابتداء الأمر في ظن إبراهيم (ع) إلا أن المراد هو الحقيقة .

وكذلك كان ظن ولده إسماعيل (ع)، فلما انكشفت بالنهي لهما ما علماه مما كان ظنهما سواه ، كان ظاهره بداء ، لمشابهته لحال من يأمر بالشيء ، وينهي عنه بعينه في وقته ، وليستسلمه على ظاهر الأمر دون باطنه ، فلم يرد على ماذكرت شيئا.

ص: 231

وهذا الذي اتفق لي من الكلام في البداء .

مسألة:

فإن قال قائل: ما تقولون في الذبيح؟ ومن كان من ولدي إبراهيم (ص) أكان إسماعيل أم إسحاق (ع)؟؟

قلنا: الذبيح عندنا هو إسماعيل، وهذا يشهد ظاهر القرآن والخبر المأثور عن النبي (ص).

أما القرآن فإن الله تعالى قال حكاية عن إبراهيم (ص):

(رب هب لي من الصالحين) الصافات: 100

فأخبر عن سؤاله في الولد ، قال الله تعالى :

(فبشرناه بغلام حليم) الصافات: 101

ثم أخبر عن حال هذا الغلام فقال:

( فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك). الصافات: 102

فوصف قصة الذبح المختصة بهذا الغلام إلى قوله :

(إنا كذلك يخزي المحسنين). الصافات: 105

ثم قال بعد ذلك:

( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين). الصافات : 112

فأعلمنا أن إسحاق إنما أتاه بعد الولد الأول الذي أجيبت فيه دعوته ، ورأى في المنام أنه يذبحه .

وهذا يدل على أنه غير إسحاق ، وليس غيره ممن ينسب هذا إليه إلا إسماعيل (ع).

وأما الخبر المأثور فقول رسول الله (ص) « أنا ابن الذبيحين »(1)

ص: 232


1- أنظر أعلام النبوة للماوردي ص143

يعني إسماعيل وعبد الله بن عبد المطلب ، ولو كان الذبيح إسحاق لما صح هذا الخبر على ظاهره، لأنه ليس هو ابنه ، وهو ابن اسماعیل (ع) .

فصل:

جاء في الحديث أن الله تعالى بعث إلى عبد المطلب في منامه ملكاً ، فقال له: يا عبد المطلب احفر زمزم ، قال : وما زمزم؟ قال: تراث أبيك آدم (ع)، وجدك الأقدم عند الفرث والدم ، عند الغراب الأعصم.

وأن عبد المطلب رأى ذلك في منامه ثلاث ليال متواليات ، واصبح اليوم الرابع ، فقعد عند البيت الحرام ، فبينا هو قاعد إذا بقرة قد أفلتت من بعض الجزارين في أعلا الأبطح من وثاقها ، حتى جاءت إلى موضع زمزم ، فوقفت هناك، فجزرت مكانها، وسقط غراب أعصم على الفرث والدم.

والأعصم هو الذي إحدى رجليه بيضاء.

فقال عبد المطلب : هذا تأويل رؤياي، فحفوها في موضعها ، فصعب عليه الحفر ، فقال : اللهم إن لك علي نذراً ، أن أتقرب ببعض ولدي ، إن أنبطت لي الماء.

فلما نبع الماء عزم على أن يقرب بعض ولده ، فجاء. بنو مخزوم وسائر قريش ، فقالوا له: اقرع بين ولدك، فخر جت. القرعة على عبد الله ، فقال بنو مخزوم له إفد ولدك بمالك ،. فأقرع بينه وبين عشرة من الإبل ، فخرجت القرعة علی عبد الله ، فجعلها عشرین ، وقزع بينه وبينها ، فخرجت القرعة على عبد الله .

فما زال كذلك حتى صارت، الإبل. ماية.

وفي حديث آخر أنها بلغت ألفاً ، وهي دية الملوك ، فعند ذلك وقعت القرعة على الإبل ، فقربها فجعلها هدياً .

أخبرني شيخي أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله رضي الله عنه ، قال: أخبرني أبو محمد هارون بن موسى ، قال: أخبرني محمد بن همام، عن أبي محمد الحسن بن

ص: 233

جمهور ، قال : حدثني أبي ، قال: حدثني الحسن بن محبوب ، عن علي بن رباب (1) عن مالك بن عطية ، قال:

لما حفر عبد المطلب بن هاشم زمزم، وأنبط منها الماء ، أخرج منها غزالين من ذهب ، وسيوفاً وأدراعاً، فجعل الغزالين زينة للكعبة ، وأخذ السيوف والدروع، وقال: هذه وديعة كان أودعها مضاض الجرهمي بن الحرث بن عمرو بن مضاض.

والحارث هو الذي يقول (2)

كان لم يكن بين الجحون إلى الصفا ***أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلی : نحن كنا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي والجدود العواثر (3)

ويمنعنا من كل فج نريده *** أقب کسرحان الأباءة ضامر(4)

وكل لجوج في الجراء طمرة *** کعجزاء فتحاء الجناحين كاسر

والقصيدة طويلة (5)

فحسدته قريش بذلك ، فقالوا: نحن شركاؤك فيها ، فقال : هذه فضيلة ، نبئت بها دونکم في منامي ثلاث ليال تباعاً.

ص: 234


1- يكنى بأبي الحسن، وهو من رواة الشيعة الكوفيين الثقات روی عن الصادق والكاظم. وله عدة كتب توفي (سنة 224 ه)
2- في السيرة لابن هشام أن القائل هو عمرو بن الحرث بن عمرو بن مضاض وليس بمضاض الأكبر .
3- ذكر البيتين مع أبيات غيرهما لم يذكرهما المؤلف ، في مروج الذهب ج2 ص49.
4- الأباءة أجمة القصب.
5- تجد القسم الكبير من هذه القصيدة في سيرة ابن هشام ج1 ص126- 128 وهي متضمنة لبعض الأبيات التي ذكرها المؤلف.

فقالوا: حاكمنا إلى من شئت من حكام العرب ، فخرجوا إلى الشام يريدون أحد کهانها وعلمائها ، فأصابهم عطش شديد ، فأوصى بعضهم إلى بعض ، فبيناهم على ذلك ، إذ برکت ناقة عبد المطلب ، فنبع الماء من بين أخفافها فشربوا ، وتزودوا ، وقالوا لعبد المطلب : إن الذي سقاك في هذه الأودية القفر هو الذي سقاك بمكة ، فرجعوا ، وسلموا له هذه المأثرة.(1)

(بيان عن قول النصارى، ومسألة عليهم لا جواب لهم عنها)

اعلم أنهم يزعمون أن المسيح (ع) مجموع من شيئين: لا هوت ، وناسوت ، يعنون باللاهوت الله سبحانه وتعالى عما يقولون . وبالناسوت الإنسان ، وهو جسم المسيح، إن هذين اتحدا، فصارا مسیحا.

ومعنى قولهم اتحدا أي صارا شيئا واحداً في الحقيقة، وهو المسيح.

فيقال لهم : أنتم مجمعون معنا على أن الآله قديم ، وأن الجسم محدث، وقد زعمتم أنهما صارا واحداً.

فما حال هذا الواحد؟ أقديم أم محدث؟

فإن قالوا: هو قديم

قيل لهم : فقد صار المحدث قديماً ، لأنه من مجموع شيئين : أحدهما محدث.

وإن قالوا : هو محدث

قيل لهم : فقد صار القديم محدثا ، لأنه من مجموع شيئين أحدهما قديم .

وهذا ما لا حيلة لهم فيه ، وليس يتسع لهم أن يقولوا : بعضه قديم ، وبعضه محدث، لأن هذا ليس بإتحاد في الحقيقة ، ولا أن يقولوا هو قديم محدث، لتناقض ذلك واستحا [لته]، ولا أن يقولوا : ليس هو قديم ولا محدث، فظاهر فساد ذلك أيضا وبطلانه

ص: 235


1- تجد قصة حفر زمزم ومنازعة قريش لعبد المطلب مروية في سيرة ابن هشام ج (1) ص154 - 158 بروايته عن علي عليه السلام مختلفة في أسلوبها عن رواية الكراجكي ومتفقة معها في المضمون .

وهذا كاف في إبطال الإتحاد (1) الذي ادعوه .

وقد سألهم بعض المتكلمين فقال:

إذا كنتم تعبدون المسيح، والمسيح آله وإنسان، فقد عبدتم الإنسان ، وعبادة الإنسان كفر بغير اختلاف.

مسألة أخرى عليهم

قال لهم : إذا كان المسيح عند كم من مجموع شيئين : اله وإنسان، فأخبرونا عن القتل والصلب على ماذا وقع ؟ أتقولون أنه وقع بهما أم بأحدهما ؟ فإن قالوا : بهما. قيل لهم : ففي هذا أن الاله ضرب وصلب ، وقيل ، ودفن [وهي ] فضيحة لا ينتهي إليها ذو عقل .

وإن قالوا: بل وقع ذلك على أحدهما ، وهو الناسوت ، لأن اللاهوت لا يجوز عليه هذا.

قيل لهم: فإذا قد صح مذهب المسلمين في أنهم ما قتلوا المسيح ولا صلبوه ، لأن المسيح عند كم ليس هو الناسوت بانفراده، وإنما هو مجموع شيئين، لم يظفر اليهود إلا بأحدهما الذي [ليس] هو المسيح.

مسألة أخرى عليهم .

يقال لهم: أيجوز أن يكون جسم متحرك ، وشخص آكل شارب، تحله الأعراض الحادثات، وتناله الآلام والآفات قديماً ؟

فإن قالوا: يجوز ذلك ، لم يأمنوا أن يكون ناسوتاً قديماً .

وإن قالوا: لا يجوز ذلك

قيل لهم : فالمسيح (ع) كانت فيه هذه الصفات معلومات مرئيات.

فإن أنكروا ذلك کابروا وقبح (2) معهم الكلام .

ص: 236


1- في النسخة : الإلحاد
2- في النسخة (وأقبح).

وإن أقروا به ، وقالوا : (1) قد كان على هذه الصفات.

قيل لهم : فقد صح حدوثه ، وبطل قدمه ، وحصلتم عابدين لبشر مخلوق مربوب.

فإن قالوا : إنما رأينا ناسوته المحدث، ولم نر لاهوته القديم.

قيل لهم : أو ليس من مذهبكم أنهما اتحدا ، وصارا شيئا واحداً؟

فإذا قالوا: نعم.

قيل لهم : فيجب أن يكون من رأى أحدهما فقد رآهما ، وإن لم يكن الأمركذلك فما اتحدا.

فصل آخر من قولهم وكلام عليهم .

هم يذهبون إلى أن آلههم من ثلاثة أقانيم، والإقنوم عندهم هو الجوهر ، يعنون الأصل ، فالثلاثة الجواهر عندهم اله واحد، ويسمون هذه الثلاثة : الآب، والإبن ، والروح.

فيقال لهم : إذا جاز أن يكون عندكم ثلاثة أقانيم الها واحداً، فلم لا يجوز أن يكون ثلاثة آلهة أقنوماً واحداً ، ويكون ثلاثة فاعلين جوهراً واحداً، فما أبطلوا به هذا بطل [به] قولهم سواء.

فصل من قولهم

وقد احتجوا فقالوا: وجدنا من له ابن اشرف وأفضل من لا ابن له ، ومن لا ابن له ناقص .

قالوا: وكذلك وجدنا من لا حياة له ميت ، والروح هي الحياة ، فوجب أن تصف إلهنا بالشرف والكمال، ووجود الحياة.

فيقال لهم : فقولوا: إن له بنين عدة ، فإن ذلك أكثر لشرفه ، وأسنى لمنزلته ،

ص: 237


1- في النسخة (وقال)

بل قولوا: إن له نسلا ، وإن له جداً، لأن من له ابن ابن أجل ممن ليس له إلا ابن فقط.

وإذا أوجبتم الروح التي زعمتم أنها الحياة ، لئلا يكون ميتا ، فأوجبوا له علماً لئلا يكون جاهلاً ، وقدرة لئلا يكون عاجزاً، قولوا أيضا إن له عينين ليكون ناظراً ، أو جميع الحواس ليكون مدركاً.

فإن قالوا: إن [كان] له ما ذكرتم، لما اتحد بالناسوت فصار مسیحا.

قيل لهم : بل يجب أن يكون له فيها لم يزل، وإلا كان ناقصاً.

فصل من الألفاظ التي يقرون أن المسيح (ع) قالها ، وهي دالة على بطلان مذهبهم فيه.

اشارة

قوله (ع) في الإنجيل:

«لا يكون الرسول أعظم ممن أرسله »

وقوله :

« من آمن بي وآمن بالذي أرسلني ».

وقوله :

نيا إلهي قد علموا أنك أنت الله وحدك لا شريك لك ، وأنك أنت الله الخالق ، وأنك أنت أرسلت المسيح عيسى ليبلغ رسالتك، وأن نعبدك وحدك لا شريك له .»

وقال له الحواريون: أين تذهب وتدعنا فقال:

أذهب إلى إلهي وإلهكم، فأسأله أن يبعث إليكم البرقلیط (1) فإنه الذي

ص: 238


1- وردت كلمة (فارقلیط) و(بارقليطا) في إنجيل يوحنا في ثلاث آيات . 1- يوحنا 16:14 «وأنا أسأل الآب (الخالق) فيعطيكم فارقليطا آخر ، ليقيم معكم إلى الأبد . » 2- يوحنا 26:15 ومتى جاء بارقليطا سارسله أنا إليكم من عند الآب (الخالق) روح الحق الذي من عند الخالق ينبثق، فهو يشهد لي ، وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء .». 3- يوحنا 7:16 «لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم بارقليطا ولكن إن ذهبت أرسله لكم ». وكلمة فارقلیط وبار قليطا ، تعنیان من له حمد كثير كمحمد وأحمد. وتجد البحث ضافياً على هذه الكلمة في كتاب إظهار الحق للهندي. أنظر البشارة الثامنة عشر ص 538 وما بعدها ، وتجد بحثا عنها في كتاب: رسول الإسلام في الكتب السماويةللدكتور محمد الصادقي من 146 وما بعدها.

يذكر كم الحق، ولا يتكلم إلا بأمره، وإذا جاء کم فهو يشهد لي ، ويبين لكم أمري.

وزعموا أن الشيطان جرب المسيح، وأراه ملكوت الأرض، وقال له: هذا كله لي ، فاسجد لي سجدة واحدة ، أعطکه وأسلطك عليه ، فقال له:

« اعزب عني ، فإن الله أمرني أن لا أسجد لغيره ».

وقال الحواريون: الآن علمنا أن الله بعثك ، فرفع عينه إلى السماء فقال :

«رب قد بلغت رسالتك ، وإنما جنة الخلد لمن علم أنك وحدك أرسلت المسيح من عندك ، وقد أمرتهم يا إلهي بالذي أمرتني به. علموا أنك أرسلتني ، فكيف ابتغي لك من الناس، ولا أبتغي للناس منك .

فصل:

فإن قالوا : هذا كله إنما قاله المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته .

قيل لهم: وما يدريكم ذلك، وبعد فهل هو صادق فيما قال أم كاذب؟

فإن قالوا: كاذب ، فقد أعظموا الفرية.

وقيل لهم : وما يؤمنكم أن يكون جميع ما قاله لكم كذب؟ أو كيف يتحد الآله الصادق بالإنسان الكاذب؟

وإن قالوا: إنه لم يقل إلا حقا.

قيل لهم : فأي حجة بقيت في أيديكم مع ما أقررتم بأن المسيح قاله وصدق

فيه؟

ص: 239

وهل هو إلا دال على ما يقول المسلمون.

وقد احتجوا بأن في الإنجيل:

« أمضي إلى أبي »

فيقال لهم : في هذا أنه شارككم بهذا اللفظ في النبوة ، فإن وجب أن يكون ابنه فالجميع أبناؤه.

على أنه لفظه يحتمل التأويل ، ويكون معناه: ربي وربكم، وإلهي وإلهكم.

وفي هذا المختصر من الكلام عليهم كفاية والحمد لله.

رسالة كتبتها إلى أحد الإخوان، وسميتها بالبيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان.

بسم الله الرحمن الرحيم

سألت يا أخي أسعدك الله بألطافه ، وأيدك بإحسانه ، وإسعافه ، أن أثبت لك جملا من اعتقادات الشيعة المؤمنين، وفصولا في المذهب يكون عليها بناء المسترشدین، لتذاكر نفسك بها، وتجعلها عدة لطالبها . وأنا اختصر لك القول وأجمله ، وأقرب الذكر وأسهله ، وأورده على سنن الفتيا في المقالة ، من غير حجة ولا دلالة ، وما توفيقي إلا بالله .

أعلم أن الواجب على المكلف

أن يعتقد حدوث العالم بأسره، وأنه لم يكن شيئا قبل وجوده .

ويعتقد أن الله تعالى هو محدث جميعه ، من أجسامه، وأعراضه ، إلا أفعال العباد ، الواقعة منهم ، فإنهم محدثوها دونه سبحانه .

ويعتقد أن الله تعالى قديم وحده ، لا قديم سواه ، وأنه موجود لم يزل، وباق لا يزال ، وأنه شيء لا کالأشياء ، لا يشبه الموجودات ، ولا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات.

ص: 240

وأن له صفات يستحقها لنفسه ، لا لمعان غيره ، وهي كونه حيا ، عالماً ، قديماً ، باقياً ، لا يجوز خروجه عن هذه الصفات إلى ضدها ، يعلم الكائنات قبل كونها ، ولا يخفي عليه شيء منها.

وأن له صفات أفعال ،(1) لا يصح إضافتها إليه في الحقيقة ، إلا بعد فعله ، وهي ما وصف به نفسه من أنه خالق، ورازق، ومعط، وراحم ، ومالك ، ومتكلم ، ونحو ذلك.

وأن له صفات مجازات، وهي ما وصف به نفسه، من أنه يريد ، ويكره، ويرضى ، ويغضب.

فإرادته لفعل هي الفعل المراد بعينه ، وإرادته لفعل غيره، هي الأمر بذلك الفعل.

وليس تسميتها بالإراده حقيقة ، وإنما هو على مجاز اللغة .

وغضبه هو وجود عقابه ، ورضاه هو وجود ثوابه .

وأنه لا يفتقر إلى مكان ، ولا يدرك بشيء من الحواس .

وأنه منزه من القبائح ، لا يظلم الناس وإن كان قادراً على الظلم (2) لأنه عالم بقبحه ، غني عن فعله . قوله صدق ، ووعده حق، لا يكلف خلقه ما لا يستطاع ، ولا يحرمهم صلاحاً ، لهم فيه الإنتفاع، ولا يأمر بما لا يريد ، ولا ينهي عما يريد.

وأنه خلق الخلق لمصلحتهم، وكلفهم لأجل منازل منفعتهم ، وأزاح في التكليف عللهم ، وفعل أصلح الأشياء بهم.

وأنه أقدرهم قبل التكليف ، وأوجد لهم (3) العقل والتمييز .

ص: 241


1- وخلاصة القول في الصفات أن منها ما هو صفات الذات کا لحياة والعلم وسواهما وهي ليست بزائدة على الذات، ومنها ما هو صفة له باعتبار الفعل كالرازق والخالق وما إليهما، ومنها ما هو صفة له على نحو المجاز كالغضب والرضا وغيرهما كما أشار إلى ذلك المؤلف مما يدل على الانفعال الممتنع في حقه تعالی.
2- إشارة إلى الرد على النظام أحد زعماء المعتزلة الذي ذهب إلى أن الله لا يفعل الشر لأنه لا يقدر عليه ، أما الإمامية فذهبوا إلى أنه لا يفعله مع قدرته عليه ، لأنه قبيح.
3- في النسخة (وأوجدهم)

وأن القدرة تصلح أن يفعل بها وضده بدلا منه.

وأن الحق الذي تجب معرفته ، تدرك بشيئين ، وهما العقل والسمع .

وأن التكليف العقلي لا ينفك عن التكليف السمعي .(1)

وأن الله تعالى قد أوجد [للناس] في كل زمان مسمعاً [لهم] من أنبيائه ، وحججه بينه وبين الخلق ، ينبههم على طريق الإستدلال في العقليات، ويفقههم على ما لا يعلمونه إلا به من السمعيات.

وأن جميع حجج الله تعالى محيطون علما بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد .

وأنهم معصومون من الخطأ والزلل عصمة اختيار . (2)

وأن الله فضلهم على خلقه ، وجعلهم خلفاء القائمين بحقه .

وأنه أظهر على أيديهم المعجزات، تصديقاً لهم فيما ادعوه من الأنباء والأخبار.

وأنهم - مع ذلك- بأجمعهم عباد مخلوقون ، وبشر مكلفون ، يأكلون ، ويشربون ، ويتناسلون ، ويحيون بإحيائه ، ويموتون بإما متته ، تجوز عليهم الآلام المعترضات، فمنهم من قتل ، ومنهم من مات ، لا يقدرون على خلق ، ولا رزق ، ولا يعلمون الغيب إلا ما أعلمهم اله الخلق.

وأن أقوالهم صدق ، وجميع ما أتوا به حق.

وأن أفضل الأنبياء أولو العزم، وهم خمسة :

نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى، ومحمد ، صلى الله عليه وآله وعليهم .

ص: 242


1- إن القول بالملازمة بين حكم العقل وحم الشرع مبني على القول بمسألة عقلية معروفة وهي مسألة الحسن والقبح العقليين ، أما من لم يقل بهذه المسألة فلا تلازم بين حكم العقل والشرع ، ومعنى القول بالتلازم هو أن العقل إذا أدرك حسن شيء أو قبحه وقطع به فإنه حتما يكون حكم الشرع على طبقه .
2- علی نحو أن تكون هذه العصمة غير ملجئة له إلى فعل الطاعة ، بل هو قادر معها على فعل الشر كما هو قادر على فعل الخير لم يرتفع معها شيء من الأختيار والقدرة ، وإلا لما استحق شيئا من الثواب والعقاب ولما صح تكليفه.

وأن محمداً بن عبد الله (ص) أفضل الأنبياء أجمعين، وخير الأولين والآخرين.

وأنه خاتم النبيين ، وأن آباءه من آدم (ع) إلى عبد الله بن عبد المطلب رضوان الله عليهم ، كانوا جميعا مؤمنين ، موحدين لله تعالی عارفين ، وكذلك أبو طالب رضوان الله عليه .

ويعتقد أن الله سبحانه شرف نبینا (ص) بباهر الآيات، وقاهر المعجزات، فسبح في كفه الحصا ، ونبع من بين أصابعه الماء ، وغير ذلك مما قد تضمنته الأنباء ، وأجمع على صحته العلماء ، وأتي بالقرآن المبين ، الذي بهر به السامعين ، وعجز عن الإتيان بمثله سائر الملحدين.

وأن القرآن كلام رب العالمين ، وأنه محدث ليس بقديم .(1)

ويجب أن يعتقد أن جميع ما فيه من الآيات ، الذي يتضمن ظاهرها تشبیه الله تعالى بخلقه ، وأنه يجبرهم على طاعته أو معصيته، أو يضل بعضهم عن طريق هدايته ، فإن ذلك كله لا يجوز حمله على ظاهرها، وأن له تأويلا ، يلائم ما تشهد العقول به ، مما قدمنا ذكره في صفات الله تعالى ، وصفات أنبيائه .

ص: 243


1- هذا إشارة إلى الفتنة التي حدثت بين فرق المسلمين في القرآن هل هو مخلوق أم أزلي، بعد اتفاقهم على أنه تعالى يتصف بالكلام وأنه متكلم كما هو صريح قوله تعالى : (وكلم الله موسى تكليماً) وأن القرآن كلام الله ، ولكنهم اختلفوا في معنى كلامه فعند المعتزلة والشيعة أنه حادث وأنه تعالى أوجده بعد أن لم يكن موجوداً في أجسام دالة على المراد، كما أوجد الكلام في شجرة الطور لموسى (ع). وعند الأشاعرة أن الكلام صفة من الصفات اللاحقة له تعالى كغيره من الصفات الأخرى، من العلم والقدرة والحياة وغيرها وإن معنی کونه تعالى متکلما أن هناك صفة قائمة بذاته كالعلم والإرادة ، وهذه الصفة القائمة تعبر عنها وتحكيها الكلمات والألفاظ. وهذا المعنى القائم بذاته أمر واحد عندهم ليس بنهي ولا أمر ولا خبر ولا إنشاء ولا غيرها من أساليب الكلام، ويعبرون عنه بالكلام النفسي ، وما يحكيه من الألفاظ والعبارات بالكلام اللفظي. وقد نشبت هذه الفتنة في عصر المأمون العباسي الذي تبنى القول بخلق القرآن ، واشتد على من يقول بقدمه. وقد كتبنا حول هذه المسألة في كتابنا : هشام بن الحكم ص144 - 146

فإن عرف المكلف تأويل هذه الآيات فحسن ، وإلا أجزأه أن يعتقد في الجملة أنها متشابهات، وأن لها تأويلاً ملائماً ، تشهد بما تشهد به العقول والآيات المحكمات، وفي القرآن المحكم، والمتشابه، والحقيقة، والمجاز، والناسخ ، والمنسوخ، والخاص، والعام.

ويجب عليه أن يقر بملائكة الله أجمعين، وأن منهم جبرئیل و میکائیل ، وأنهما من الملائكة الكرام، كالأنبياء بين الأنام، وأن جبرئيل هو الروح الأمين ، الذي نزل بالقرآن على قلب محمد خاتم النبيين ، وهو الذي كان يأتيه بالوحي من رب العالمين.

ويجب الإقرار بأن شريعة الإسلام التي أتى بها محمد (ع) ناسخة لما خالفها من شرائع الأنبياء المتقدمين.

وأنه يجب التمسك بها والعمل بما تضمنته من فرائضها ، وأن ذلك دين الله الثابت الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، لا حلال إلا ما أحلت، ولا حرام إلا ما حرمت ، ولا فرض إلا ما فرضت ، ولا عبادة إلا ما أوجبت.

وأن من انصرف عن الإسلام ، وتمسك بغيره ، کافر ضال، مخلد في النار ،ولو بذل من الاجتهاد في العبادة غاية المستطاع.

وأن من أظهر الإقرار بالشهادتين كان مسلماً ، ومن صدق بقلبه ، ولم يشك في فرض أتي به محمد (ص) كان مؤمناً.

ومن الشرائط الواجبة للإيمان ، العمل بالفرائض اللازمة ، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن.

وقوله تعالى :

(إن الدين عند الله الإسلام)(1)

إنما أراد به الإسلام الصحيح التام، الذي يكون المسلم فيه عارفاً ، مؤمناً ، عاملاً بالواجبات طائعاً .

ص: 244


1- آل عمران: 19

ويجب أن يعتقد أن حجج الله تعالى بعد رسوله الذين هم خلفاؤه، وحفظة شرعه، وأئمة أمته ، اثنا عشر أهل بيته، أولهم أخوه وابن عمه ، وصهره بعل فاطمة الزهراء ابنته، ووصيه على أمته ، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، ثم الحسن بن علي الزكي، ثم الحسين بن علي الشهيد ، ثم علي بن الحسين زين العابدين ، ثم محمد بن علي باقر العلوم ، ثم جعفر بن محمد الصادق ، ثم موسی بن جعفر الكاظم ، ثم علي بن موسى الرضا ، ثم محمد بن علي التقي ، ثم علي بن محمد المنتجب ، ثم الحسن بن علي الهادي ، ثم الخلف الصالح بن الحسن المهدي صلوات الله عليهم أجمعين .

لا إمامة بعد رسول الله (ص) إلا لهم (ع) ، ولا يجوز الاقتداء في الدين إلا بهم، ولا أخذ معالم الدين إلا عنهم.

وأنهم في كمال العلم والعصمة من الآثام نظير الأنبياء عليهم السلام .

وأنهم أفضل الخلق بعد رسول الله عليه السلام.

وأن إمامتهم منصوص عليهم من قبل الله على اليقين والبيان.

وأنه سبحانه أظهر على أيديهم الآيات، وأعلمهم كثيراً من الغائبات ، والأمور المستقبلات، ولم يعطهم من ذلك إلا ما قارن وجهاً يعمله من اللطف والصلاح.

وليسوا عارفين بجميع الضمائر والغائبات على الدوام، ولا يحيطون بالعلم بكل ما علمه الله تعالى .

والآيات التي تظهر على أيديهم هي فعل الله دونهم، أكرمهم بها، ولا صنع لهم فيها .

وأنهم بشر محدثون ، وعباد مصنوعون ، لا يخلقون ، ولا يرزقون ، ويأكلون ويشربون، وتكون لهم الأزواج، وتنالهم الآلام والأعلال، ويستضا مون ، ويخافون فيتقون ، وأن منهم من قتل ، ومنهم من قبض .

وأن إمام هذا الزمان هو المهدي ابن الحسن الهادي، وأنه الحجة على العالمين ، وخاتم الأئمة الطاهرين، لا إمامة لأحد بعد إمامته، ولا دولة بعد

ص: 245

دولته، وأنه غائب عن رعيته ، غيبة اضطرار وخوفي من أهل الضلال ، وللمعلوم عند الله تعالى في ذلك الصلاح.

ويجوز أن يعرف نفسه في زمن الغيبة لبعض الناس ، وأن الله عز وجل سيظهره وقت مشيئته ، ويجعل له الأعوان والأصحاب ، فيمهد الدين به ، [و] يطهر الأرض على يديه ، ویهلك أهل الضلال، ويقيم عمود الإسلام، ويصير الدين كله لله.

وأن الله عز وجل يظهر على يديه عند ظهوره الإعلام، وتأتيه المعجزات بخرق العادات ، ويحيى له بعض الأموات، فإذا [أ] قام في الناس المدة المعلومة عند الله سبحانه قيضه إليه ، ثم لا يمتد بعده الزمان، ولا تتصل الأيام حتى تكون شرائط الساعة ، وإماتة من بقي من الناس ، ثم يكون المعاد بعد ذلك.

ويعتقد أن أفضل الأئمة عليهم السلام ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وأنه لا يجوز أن يسمى بأمير المؤمنين أحد سواه.

وأن بقية الأئمة صلوات الله عليهم ، يقال لهم الأئمة ، والخلفاء ، والأوصياء ، والحجج ، وإن (1) كانوا في الحقيقة أمراء المؤمنين ، فإنهم لم يمنعوا من هذا الإسم لأجل معناه ، لأنه حاصل لهم على الإستحقاق، وإنما منعوا من لفظه ، حشمة لأمير المؤمنين (ع).

وأن أفضل الأئمة بعد أمير المؤمنين، ولده الحسن، ثم الحسين، وأفضل الباقين بعد الحسين ، إمام الزمان المهدي (ص)، ثم بقية الأئمة بعده على ما جاء به الأثر ، وثبت في النظر.

وأن المهدي (ع) هو الذي قال فيه رسول الله (ص):

« ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد ، لطول الله تعالى ذلك اليوم، حتى

ص: 246


1- في النسخة (وإنهم).

يظهر فيه رجل من ولدي ، يواطئ اسمه إسمي ، يملأها عدلاً وقسطاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً. »(1)

فاسمه يواطئ إسم رسول الله (ص) ، وکنیته تواطی کنیته ، غير أن النهي قد ورد عن اللفظ ، فلا يجوز أن يتجاوز في القول أنه المهدي، والمنتظر، والقائم بالحق، والخلف الصالح، وإمام الزمان، وحجة الله على الخلق .

ص: 247


1- روى هذا الحديث وأمثاله ابن خلدون في المقدمة في الفصل الثاني والخمسين عن الترمذي وأبي داود باختلاف في بعض ألفاظه، وروي حوالي اثنين وثلاثين حديثاً ، وقال في ص 311 من المقدمة : « إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي، منهم: الترمذي ، وأبو داود ، والبزاز، وابن ماجه ، والحاكم ، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وطلحة ، وابن مسعود ، وأبي هريرة، وأنس ، وأبي سعيد الخدري ، وأم حبيبة ، وأم سلمة ، وثوبان ، وقرة بن إياس ، وعلي الهلالي ، وعبد الله بن الحارث بن جزء ». وقد ناقش في سندها تارة، وفي متنها تارة أخرى على طريقته الخاصة . وهي إسقاط كل رواية تأتي عن طريق الشيعة ، أو عن طريق من يميل إلى أهل البيت ، أو عن طريق من يتهم بالتشيع وإن لم يكن شيعياً ، أو عن طريق من يروي شيئا من فضائل أهل البيت ، أو شيئا من معاتب أعدائهم الأمويين. ولكن برغم مناقشات ابن خلدون وغيره ، فإن هناك حقيقة ثابتة ، وهي أن الأحاديث في هذا الموضوع قد بلغت من الكثرة حد التواتر المعنوي ، لا يمكن التشكيك في مضمونها ، أو دعوى أنها موضوعة ، إذ لم يحظ موضوع من المواضيع الاسلامية كموضوع قضية المهدي المنتظر ، وليس له شبیه من حيث عدد الأرقام الهائلة من الأحاديت في هذا الموضوع ، فقد أحصيت الأحاديث الواردة فيها من طريق أهل السنة وفي مسانبدها و مؤلفاتها ما يربو على أربعماية حديث عن النبي (ص)، وأحصي مجموع الأخبار الواردة من طرق الشيعة والسنة ، فبلغت أكثر من ستة آلاف حديث ، وهو رقم هائل لم يتوافر في أي قضية إسلامية أخرى، حتى في تلك القضايا الاسلامية الضرورية ، وهو يتحدى كل شك وإنكار. وقد وضعت عدة مؤلفات في هذا الموضوع ، ومن أحسنها ، کتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله محمد جواد الصافي

ويجب أن يعتقد أن الله فرض معرفة الأئمة (ع) بأجمعهم، وطاعتهم ، وموالاتهم ، والأقتداء بهم ، والبراءة من أعدائهم وظالميهم ... وأنه لا يتم الإيمان إلا بموالاة أولياء الله ، ومعاداة أعدائه ، وأن أعداء الأئمة عليهم السلام كفار ملحدون في النار، وإن أظهروا الإسلام، فمن عرف الله ورسوله والأئمة الاثني عشر وتولا هم ، وتبرأ من أعدائهم فهو مؤمن ، ومن أنكرهم .. أو تولى أعدائهم فهو ضال هالك لا ينفعه عمل ولا اجتهاد ، ولا تقبل له طاعة ولا يصح له حسنات »: (1)

ويعتقد أن الله يزيد وينقص إذا أشاء في الأرزاق والآجال.

وأنه لم يرزق العبد إلا ما كان حلالا طيباً.

ويعتقد أن باب التوبة مفتوح لمن طلبها ، وهي الندم على ما مضى من المعصية ، والعزم على ترك المعاودة إلى مثلها .

وأن التوبة ماحية لما قبلها من المعصية التي تاب العبد منها .

وتجوز التوبة من زلة ، إذا كان التائب منها مقيماً على زلة غيرها لا تشبهها ، ويكون له الأجر على التوبة ، وعليه وزر ما هو مقيم عليه من الزلة .

وأن الله يقبل التوبة بفضله وكرمه، وليس ذلك لوجوب قبولها في العقل قبل الوعد ، وإنما علم بالسمع دون غيره.

ويجب أن يعتقد أن الله سبحانه ، يميت العباد ويحييهم بعد الممات ليوم المعاد .

وأن المحاسبة حق والقصاص ، وكذلك الجنة والنار والعقاب .

وأن مرتكبي المعاصي من العارفين بالله ورسوله، والأئمة الطاهرين ،

ص: 248


1- مكان النقاط كلمات غير واضحة .

المعتقدين لتحريمها مع ارتكابها ، المسوفين التوبة منها ، عصاة فساق ، وأن ذلك لا يسلبهم اسم الإيمان كما لم يسلبهم إسم الإسلام .(1).

وأنهم يستحقون العقاب على معاصيهم ، والثواب على معرفتهم بالله تعالى ، ورسوله ، والأئمة من بعده (ص).

وما بعد ذلك من طاعتهم ، وأمرهم مردود إلى خالقهم، وإن عفا عنهم فبفضله ورحمته ، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته ، قال الله سبحانه:

(وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم). التوبة : 106

وأن عقوبة هؤلاء العصاة إذا شاءها الله تعالى ، لا تكون مؤبدة، ولها آخر ، يكون بعده دخولهم الجنة ، وليسوا من جملة من توجه إليهم الوعيد بالتخليد . والعفو من الله تعالى يرجي للعصاة المؤمنين.

وقد غلطت المعتزلة فسمت من یرجو العفو مرجئا، وإنما يجب أن يسمى راجياً .

ولا طريق إلى القطع على العفو ، وإنما هو الرجاء والتجوير فقط.

ويعتقد أن الرسول الله (ص) والأئمة من بعده (ع) شفاعة مقبولة يوم القيامة ، ترجي للمؤمنين من مرتكبي الآثام.

ولا يجوز أن يقطع الإنسان على أنه مشفوع فيه على كل حال، ولا سبيل له إلى العلم بحقيقة هذه الحال ، وإنما يجب أن يكون المؤمن واقفاً بين الخوف والرجاء .

ويعتقد أن المؤمنين الذين مضوا من الدنيا وهم غير عاصين ، يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجنة بغير حساب.

ص: 249


1- صرح بهذا المفيد أستاذ المؤلف في كتابه أوائل المقالات ص 48 ونسبه إلى اتفاق الإمامية أما الخوارج فتسمي مرتكب الكبيرة مشركاً وكافراً، والحسن البصري أستاذ واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، فيسمهم منافقين ، وأما واصل بن عطاء فوضعهم في منزلة بين منزلتين ، وقال أنهم فساق ليسوا مؤمنين ، ولا كفار ، ولا منافقين. أنظر هشام بن الحكم للمعلق ص 27.

وأن جميع الكفار والمشركين ، ومن لم تصح له الأصول من المؤمنين يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجحيم بغير حساب ، وإنما يحاسب من خلط عملا صالحا وآخر سيئاً ، وهم العارفون العصاة.

وأن أنبياء الله تعالى وحججه (ع) هم في القيامة المسؤلون للحساب بإذن الله تعالى ، وأن حجة أهل كل زمان يتولى أمر رعيته الذين كانوا في وقته.

وأن سيدنا رسول الله (ص) والأئمة الاثنا عشر من بعده (ع)، هم أصحاب الأعراف الذين لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار من أنكرهم وأنكروه.

وأن رسول الله (ص) يحاسب أهل وقته وعصره ، وكذلك كل إمام بعده .

وأن المهدي (ع) هو المواقف لأهل زمانه ، والمسائل للذين في وقته .

وأن الموازين [التي] توضع في القيامة ، هي إقامة العدل في الحساب ، والآنصاف في الحكم والمجازاة ، وليست في الحقيقة موازین بكفات وخيوط كما يظن العوام.

وأن الصراط المستقيم في الدنيا دين محمد وآل محمد عليه وعليهم السلام، وهو في الآخرة طريق الجنان .

وأن الأطفال والمجانين والبله من الناس، يتفضل عليهم في القيامة ، بأن تكمل عقولهم ، ويدخلون الجنان .(1)

ص: 250


1- وهو المعروف من رأي الإمامية ، وأول من صرح به منهم هشام بن الحكم على ما يظهر ، وتدل عليه بالإضافة إلى حكم العقل بعض النصوص عن أهل البيت (ع) وخالف الأشاعرة عدا أبا الحسن الأشعري الذين قالوا بأن الله تعالى يأمر هم بدخول نار يؤججها يوم القيامة فمن أطاع أدخل الجنة ومن عصى أدخل النار ، وجوز أبو الحسن الأشعري تعذيب الأطفال في القيامة لغيظ آبائهم، وذهب الخوارج إلى أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة من الحكم بكفرهم أو إيمانهم، ومن نعيمهم أو عذابهم. أنظر هشام بن الحكم للمعلق ص 187- 190.

وأن نعيم أهل الجنة متصل أبدا بغير نفاد، وأن عذاب المشركين والكفار متصل في النار بغير نفاد .

ويجب أن تؤخذ معالم الدين في الغيبة من أدلة العقل ، وكتاب الله عز وجل ، والأخبار المتواترة عن رسول الله (ص) وعن الأئمة (ع) ،(1) وما أجمعت عليه الطائفة الإمامية، وإجماعها حجة.

فأما عند ظهور الإمام (ع) فإنه المفزع عند المشكلات، وهو المنبه على العقليات، والمعرف بالسمعيات، كما كان النبي (ص). ولا يجوز استخراج الأحكام في السمعيات بقياس ولا إجتهاد .(2)

فأما العقليات فيدخلها القياس والاجتهاد ، ويجب على العاقل مع هذا كله ألا يقنع بالتقليد في الإعتقاد ، وأن يسلك طريق التأمل والاعتبار ، ولا يكون نظره لنفسه في دينه أقل من نظره لنفسه في دنياه ، فإنه في أمور الدنيا يحتاط ويحترز، ويفكر ويتأمل ، ويعتبر بذهنه ، ويستدل بعقله ، فيجب أن يكون في أمر دينه على أضعاف هذه الحال ، فالغرر في أمر الدين أعظم من الغرر في أمر الدنيا .

فيجب أن لا يعتقد في العقليات إلا ما صح عنده حقه، ولا يسلم في السمعيات إلا لمن ثبت له صدقه.

ص: 251


1- ما ذكره المؤلف هو رأي جماعة من علماء الإمامية ، كالشريف المرتضی، وابن زهرة، وابن البراج، والطبرسي ، وابن إدريس وغيرهم ، فقد ذهب هؤلاء إلى عدم اعتبار الخبر الواحد إذا لم يكن مقطوع الصدور عن المعصوم، وخصوا اعتباره بما إذا كان قطعي الصدور ، سواء أكان محتفاً بقرينة عقلية أو نقلية أخرى، فالمهم لدى هؤلاء في اعتبار الخبر أن يفضي إلى العلم ، ولو كان ذلك لإجماع أو شاهد عقلي ، بل صرح المفيد في أوائل المقالات بأنه لا يحب العمل بخبر الواحد . أما المشهور بين الإمامية بل المجمع عليه بين المتأخرين منهم فاعتبار الخبر الواحد لقيام الدليل على حجيته ، ولكل من الفريقين أدلة على دعواء مذكورة في كتب الأصول.
2- المراد بالإجتهاد هنا ليس هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، وإنما المراد به الإعتماد على الرأي والإستحسان والقياس ، من دون الرجوع إلى القواعد والأصول التي ثبتت حجيتها شرعاً

نسأل الله حسن التوفيق بيرجمته ، وألا يحرمنا ثواب المجتهدين في طاعته . قد أثبت لك يا أخي - أيدك الله - ما سألت، واقتصرت وما أطلت .

والذي ذكرت أصل لما تركت ، والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم .

فصل : في ذكر مولد أمير المؤمين (ص)

اشارة

روى المحدثون ، وسطر المصنفون أن أبا طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، وأمرأته فاطمة بنت أسد بن هاشم رضوان الله عليهما، لما كفلا رسول الله (ص) استبشرا بغرته ، واستبعدا بطلعته، واتخذاه ولداً، لأنهما لم يكونا رزقا من الولد أحدا.

ثم نشا (ع) أشرف نشوء وأحسنه ، وأفضله وأیمنه ، فرأى فاطمة ورغبتها في طلب الولد ، وقر بانها وقتا بعد وقت ، فقال لها: يا أمه اجعلي قربانك لوجه الله تعالى خالصاً ، ولا تشركي . معه أحدا، فإنه يرضاه منك ويتقبله ويعطيك طلبتك ، ويعجله .

فامتثلت فاطمة أمره، وقبلت قوله ، وقربت قرباناً مضاعفاً ، وجعلته لله تعالى خالصا ، وسألته أن يرزقها ولداً صالحا ذكراً .

فأجاب الله عز وجل دعاها ، وبلغها ، مناها ، ورزقها من الأولاد خمسة : عقيلا، ثم طالباً، ثم جعفراً، ثم علياً ، ثم اختهم فاختة المعروفة بأم هاني .

فما جاء في حديثها (1) قبل أن ترزق أولادها ، أنها كانت جلست يوما تتحدث مع عجائز العرب والفواطم من قريش، منهن فاطمة ابنة عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم جدة رسول الله (ص) لأبيه ، وفاطمة ابنة زائدةبن الأصم، وهي أم خديجة بنت خويلد ، وفاطمة ابنة عبد الله رزام، وفاطمة

ص: 252


1- تجد هذا الحديث في كتاب إثبات الوصية للمسعودي ص 114 وفي بحار الأنوار ج 35 ص40 نقله عن الكراجكي في الكنز.

ابنة الحارث بن عكرمة، وتمام الفواطم التي انتمي إليهن رسول الله (ص) ، فاطمة أم قصي ، وهي ابنة نضر .

فإنهن لجلوس إذ أقبل رسول الله بنوره الباهر ، وسعده الظاهر ، وقد تبعه بعض الكهان ، ينظر إليه ، ويطيل فراسته فيه، إلى أن أتى إليهن، فسألهن عنه ، فقلن : هذا محمد ذو الشرف الباذخ، والفضل الشامخ ، فأخبرهن الكاهن بما يعلمه من رفيع قدره ، وبشرهن بما سيكون من مستقبل أمره، وأنه سيبعث نبياً ، وينال منالا علياً، وقال : إن التي تكفله منكن في صغره، سيكفل لها ولداً ،يكون عنصره من عنصره، يختصه بسره وبصحبته ، ويحبوه بمصادقته وإخوته.

فقالت له فاطمة ابنة أسد رضوان الله علیها :

أنا التي كفلته ، وأنا زوج عمه الذي يرجوه ويؤمله .

فقال : إن كنت صادقة ، فستلدین غلاما علاماً ، مطواعا لربه هماماً، اسمه على ثلاثة أحرف، يلي هذا النبي في جميع أموره، وينصره في قليله وكثيره ، حتى يكون سيفه على أعدائه ، وبا به لأوليائه ، يفرج عن وجهه الكربات، ويجلو عنه حندس الظلمات ، تهاب صولته أطفال المهاد، وترتعد من خيفته من(1) الجلال ، له فضائل شريفة ، ومناقب معروفة ، وصلة منيعة ، ومنزلة رفيعة يهاجر إلى النبي في طاعته ، ويجاهد بنفسه في نصرته، وهو وصيه الدافن له في حجرته.

قالت له أم علي (ع): جعلت أفكر في قول الكاهن ، فلما كان الليل رأيت في منامي كأن جبال الشام قد أقبلت تدب، وعليها جلابيب الحديد ، وهي تصيح من صدورها بصوت مهول ، فأسرعت نحوها جبال مكة ، وأجابتها بمثل صياحها وأهول، وهي كالشرد (2) المحمر ، وأبو قبیس ينتفض كالفرس ،

ص: 253


1- في النسخة (عن)، وفي اثبات الوصية ص116: وترعد من خيفته الفرائض ويوم الجلاد .
2- هي الناقة التي تعسرت ولادتها فلا يخرج حتى تموت ، كذا في هامش النسخة ، وفي اثبات الوصية ص 117: وهي كالشرر المجمر . والشرد جمع شارد وهو البعير النافر والمحمر على وزن مكرم الناقة يلتوي في بطنها ولدها.

ونصال تسقط عن يمينه وشماله ، والناس يلتقطون ذلك ، فلقطت معهم أربعة أسياف وبيضة حديد مذهبة. فأول ما دخلت مكة سقط (1) منها سيف في ماء فغمر، وطار الثاني في الجو واستمر (2)، وسقط الثالث إلى الأرض فانكسر ، وبقي الرابع في يدي مسلولا ، فبينا أنا به أصول إذ صار السيف شبلا ، فتبينته فصار ليثا مهولا (3) فخرج عن يدي ، ومر نحو الجبال يجوب بلاطحها ،(4) ويخرق صلادحها (5) والناس منه مشفقون، ومن خوفه حذرون ، إذ أتي محمد (ص) فقبض على رقبته ، فانقاد له كالطبية الألوف، فانتبهت وقد راعني الزمع ، (6) والفزع ، فالتمست المفسرین، فطلبت القائفين (ع) والمخبرين ، فوجد كاهناً زجر لي بحالي ، وأخبرني منامي ، وقال لي : أنت تلدين أربعة أولاد وبنتاً بعدهم ، وإن أحد البنين يغرق ، والآخر يقتل في الحرب، والآخر يموت ، ويبقى له عقب ، والرابع يكون إماما للخلق ، صاحب سيف وحتي ، ذا فضل وبراعة ، يطيع النبي المبعوث أحسن طاعة.

فقالت فاطمة : فلم أزل مفكرة في ذلك، ورزقت بني الثلاثة : عقيلا ، وطالباً ، وجعفراً.

ثم حملت بعلي (ع) في عشر ذي الحجة ، فلما كان الشهر الذي ولدت فيه ، وكان شهر رمضان، رأيت في منامي ، كأن عمود حديد قد انتزع من أم رأسي ، ثم سطع في الهواء حتى بلغ السماء ، ثم رد إلي ، فقلت : ما هذا » فقيل لي : هذا قاتل أهل الكفر ، وصاحب میثاق النصر ، بأسه شديد ، يفزع من خيفته، وهو معونة الله لنبيه ، وتأييده على عدوه.

قالت: فولدت علياً (ع).

وجاء في الحديث:

ص: 254


1- في البحار: سقطت منها سيف في ماء فغير .
2- في إثبات الوصية : فانثمر ، ولعله تصحيف (فانتثر).
3- في إثبات الوصية : مستأسداً.
4- جمع بلطح وهو المكان الواسع
5- في البحار: صلا طحها وهو بمعني بلاطم
6- الرمع بالتحريك شبه الرعدة تأخذ الانسان.

أنها دخلت الكعبة على ما جرت به عادتها ، فصادف دخولها وقت ولادتها ، فولدت أمير المؤمين (ص)، داخلها ، وكان ذلك في النصف من شهر رمضان (1) ، ولرسول الله (ص) ثلاثون سنة على الكمال ، فتضاعف ابتهاجه به ، وتمام مسرته ، وأمرها أن تجعل مهده جانب فراشه.

وكان يلي أكثر تربيته ، ويراعيه في نومه ويقظته ، ويحمله على صدره وكتفه ، ويحبوه بألطافه وتحفه ، ويقول : هذا أخي وسيفي وناصري ووصي. (2)

فلما تزوج النبي (ص) خديجة (ع) أخبرها بوجده بعلي ومحبته ، فكانت تستزيره، فتزينه، وتحليه ، وتلبسه، وترسله مع ولائدها، ويحمله خدمها ، فيقول الناس: هذا أخو محمد، وأحب الخلق إليه ، وقرة عين خديجة ، ومن اشتملت السعادة عليه.

وكانت ألطاف (3) خديجة تطرق منزل أبي طالب ليلا ونهارا، وصباحأ ومساء.

ثم إن قريشا أصابتها أزمة مهلكة ، وسنة مجدية منهكة ، وكان أبو طالب رضي الله عنه ذا مال يسير ، وعيال كثير، فأصابه ما أصاب قريشا من العدم والإضاقة ، والجهد والفاقة.

فعند ذلك دعا رسول الله (ص) عمه العباس ، فقال له : يا أبا الفضل إن أخاك أبا طالب كثير العيال، مختل الحال ، ضعیف النهضة والغرمة ، وقد ناله ما نزل بالناس من هذه الأزمة ، وذوو الأرحام أحق بالرفد ، وأولى من حمل الكل (4) ، في ساعة الجهد ، فانطلق بنا إليه ، لنعينه على ما هو عليه، فلنجمل عنه بعض أثقاله ، ونخفف عنه من عياله ، يأخذ كل واحد منا واحداً من بنیه ، يسهل عليه بذلك بعض ما هو فيه.

ص: 255


1- أنظر إثبات الوصية للمسعودي ص114.
2- المصدر ص 117
3- أي هدایا تبره بها.
4- الكل: الثقل.

فقال له العباس : نعم ما رأيت، والصواب فيما أتيت ، هذا والله الفضل الكريم ، والوصل الرحيم.

فلقيا أبا طالب ، فصبراه، ولفضل آبائه ذكراه، وقالا له: إنا نريد أن نحمل عنك بعض العيال ، فادفع إلينا من أولادك من يخف عنك به الأثقال.

قال أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلا وطالباً فافعلا ما شئتما.

فأخذ العباس جعفراً ، وأخذ رسول الله (ص) علياً (ع) (1) فانتجبه لنفسه ، واصطفاه لمهم أمره، وعول عليه في سره وجهره، وهو مسارع لمرضاته ، موفق السداد في جميع حالاته . (2)

وكان رسول الله (ص) في ابتداء طروق الوحي إليه ، كلما هتف به هاتف ، أوسمع من حوله رجفة راجف ، أو رأى رؤيا ، أو سمع كلاما ، يخبر بذلك خديجة وعلياً (ع) ويستسرهما هذه الحال.

فكانت خديجة تثبته وتصبره ، وكان علي يهنيه ويبشره، ويقول له: والله يا ابن عم ، ما كذب عبد المطلب فيك ، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك ، ولم يزل كذلك إلى أن أمر (ص) بالتبليغ. فكان أول من آمن به من النساء خديجة ، ومن الذكور أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وعمره يومئذ عشر سنين .(3)

ص: 256


1- في مقاتل الطالبین ص17 أن رسول الله (ص) أخذ علياً ، وحمزة أخذ جعفراً ، والعباس أخذ طالباً .
2- تجد قصة ولادة أمير المؤمنين (ع) في اثبات الوصية ص115- 120 مع اختلاف وزيادة .
3- وقال الأصبهاني : وكانت سنه يوم أسلم إحدى عشرة على أصح ما ورد من الأخبار في إسلامه (مقاتل الطالبيين ص17) وتنوزع في سنه يوم أسلم ، فقال فرقة كانت سنه يومئذ خمس عشرة سنة ، وقال آخرون ثلاث عشرة ، وقيل إحدى عشر ، وقيل تسع ، وقيل ثمان ، وقيل سبع ، وقیل ست وقیل: خمس (التنبيه والإشراف ص198).

ومما عملته لبعض الإخوان كتاب الإعلام بحقيقة إسلام أميرالمؤمنين عليه السلام وبه نستعين .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ذي الجود والإكرام، الهادي إلى شريعة الإسلام، وصلاته على خيرته من جميع الأنام ، سیدنا محمد رسوله وأهل بيته المطهرة من الأثام، وسلام الله على أول السابقين إسلاماً وإيمانا ، وأخلص المصدقين إقراراً وإذعاناً ، وأنصح الناصرین سراً وإعلاناً ، وأوضح العالمين حجة وبرهاناً، الذي كان سبقه إلى الدخول في الإسلام ، وكونه بعد الرسول الحجة على الأنام، مشابها لخلق آدم (ص) في وجود الخليفة قبل المستخلف عليه ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ذي الفضائل والمناقب ، ولعنة الله على باغضيه ومنكري فضله وحاسدية .

هذا مختصر جمعت لإخواني فيه من الكلام في إسلام أمير المؤمنین (ص) ما يجب الانتهاء إليه ، والإعتماد في المسألة عليه .

فصل : يجب أن يقدم القول بأن أمير المؤمين (ص) أسلم

اعلموا - أيدكم الله - أن المخالفين لشدة عداوتهم لأمير المؤمنين ألقوا شبهة مؤهوا بها على المستضعفين ، وجعلوا لها طريقاً ، يسلكها من يروم نفي الإسلام عن أمير المؤمنين (ص).

وذلك أنهم قالوا : إنما يصح الإسلام ممن كان كافراً، فأما من لم يك قط ذا کفر ولا ضلال ، فلا يجوز أن يقال أنه أسلم ، وإذا كان علي بن أبي طالب (ع) لم يكفر قط، فلا يصح القول بأنه أسلم.

وهذا ملعنة من النصاب لا تخفي على أولي الألباب ، يتشبثون بها إلى القدح في أمير المؤمنين (ع)، والراحة من أن يسمعوا القول بأنه أسلم قبل سائرالناس.

وقد تعدتهم هذه الشبهة ، فصارت في مستضعفي الشيعة ، ومن لا خبرة له

ص: 257

بالنظر والأدلة ، حتى إني رأيت جماعة منهم يقولون هذه المقال، ويستعظمون القول بأن أمير المؤمنين (ع) أسلم أتم استعظام.

وقد نبهتهم على أن هذه الشبهة مدسوسة عليهم ، وأن أعداءهم ألقوها بينهم ، فمنهم من قبل ما أقول، ومنهم من أصر على ما يقول.

وقد كنت اجتمعت بأحد الناصرين لهذه الشبهة من الشيعة ، فقلت له : أتقول إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مسلم ؟

فقال : لا يسعني غير ذلك.

فقلت له: أفتقول أنه يكون مسلماً من لم يسلم ؟ فقال : إن قلت بأنه أسلم ، لزمني الإقرار بأنه قبل إسلامه لم يكن مسلماً.

ولكني أقول : إنه ولد مسلماً مؤمناً ، فقلت : هذا كقولك إنه ولد حيا قادرا ، وهو يؤديك إلى أن الله تعالى خلق فيه الإسلام والإيمان ، كما خلق فيه القدرة والحياة ، ويدخل بك في مذهب أهل الجبر ، ويبطل عليك القول بفضيلة أمير المؤمنين (ع) في الإسلام ، وما يستحق عليه من الأجر .

فأختر لنفسك: أما القول بأن إسلامه وإيمانه فعل الله سبحانه ، وأنه ولد مسلما ومؤمناً ، وإن ساقك إلى ما ذكرناه .(1)

وإما القول بأن الله تعالى أوجده حياً قادراً ثم آتاه عقلا ، وكلفه بعد هذا ، فأطاع، وفعل ما أمر به مما يستحق جزيل الأجر على فعله ، فإسلامه وإيمانه من أفعاله الواقعة بحسب قصده وإيثاره، وإن أداك في وجوده قبل فعله إلى ما وصفناه.

فخيره هذا الكلام، ولم يجد فيه حيلة من جواب.

ومما يجب أن يكلم به في هذه المسألة أهل الخلاف، أن يقال لهم :

لما زعمتم أنه لم يسلم إلا من كان كافراً؟

ص: 258


1- وهو عدم استحقاقه (ع) الأجر على إسلامه لأنه مجبور عليه من فعل الله .

فإن قالوا: لأن من صح منه وقوع الإسلام فهو قبله عار منه ، وإذا عري منه كان على ضده ، وضده الكفر .(1)

قيل لهم : لم زعمتم أنه إذا عري منه كان على ضده؟ وما أنكرتم من أن يخلو منهما ، فلا يكون على أحدهما ؟

فإن قالوا: إن ترك الدخول في الإسلام هو ضده ، لأنه لا يصح اجتماع الترك والدخول ، فمتى كان تاركا كان كافراً، لأن معه الضد .

قيل لهم : إنما يلزم ما ذكرتم ، متى وجدت شريعة الإسلام ، ولزم العمل بها، وعلم العبد وجوبها عليه بعد وجودها.

فأما إذا لم يكن نزل به الوحي ، ولا لزم المكلف منها أمر ولا نهي ، فالزامكم الكفر جهل وغي.

فإن قالوا: قد سمعنا كم تقولون: إن الوحي لما نزل على النبي (ص) بتبليغ الإسلام دعا إليه أمير المؤمنين (ع) فلم يجبه عند الدعاء ، وقال له: أجلني الليلة ، وتعتدون هذا له فضيلة ، وفيه أنه قد ترك الدخول في الإسلام بعد وجوده .

قلنا: هو كذلك ، لكنه قبل علمه بوجوبه، وهذه المدة التي سأل فيها الأنظار في زمان مهلة النظر ، التي أباحها الله تعالى للمستدل، ولو مات قبل اعتقاد الحق لم يكن على غلط ، وهكذا رأيناكم تفسرون قول إبراهيم (ع) لما (رأى كوكباً قال هذا ربي ، فلما أفل قال لا أحب الأفلين) الأنعام: 76 إلى تمام قصته (ع).

ص: 259


1- هذه الدعوى مبنية على القول بأن التقابل بين الإيمان والكفر تقابل نقيضين أو السلب والإیجاب، أو تقابل ضدين لا ثالت لهما. أما إذا كان التقابل بینهما تقابل عدم وملكة ، أو تقابل ضدين لهما ثالث فلا تصح هذه الدعوى. ويبدو أن طبيعة الجواب مبنية على أن التقابل بینهما تقابل ضدين لهما ثالث، الذي لا يلزم من نفي أحدهما إثبات الآخر .

وقوله: (إنني بري مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). الأنعام: 78- 79.

وتقولون : إن هذا منه كان استدلالا ، وهي في زمان مهلة النظر التي وقع عقيبها العلم بالحق.

فإن قالوا: فما تقولون في أمير المؤمنين (ع) قبل الإسلام؟، وهل كان على شيء من الاعتقادات؟

قيل لهم : الذي نقول فيه أنه كان في صغره عاقلا ممیزاً، وكان في الاعتقاد على مثل ما كان عليه رسول الله (ص) قبل الإسلام، من استعماله عقله ، والمعرفة بالله تعالى وحده ، وإن ذلك حصل من تنبيه الرسول (ص)، وتحريك خاطره إليه ، وحصل للرسول من ألطاف الله تعالى ، التي حرکت خواطره إلى الإسلام والاعتبار ، ولم يكن منهما من سجد لوثن ، ولا دان بشرع متقدم .

فأما الأمور الشرعية فلم تكن حاصلة لها ، فلا بعث رسول الله (ص) لزم أمير المؤمنين (ع) الإقرار به ، والتصديق له ، وأخذ الشرع منه.

وإنما قال له : أجلني الليلة ليعتبر فيقع له العلم واليقين مع اعتقاد التصديق لرسول رب العالمين ، فلا ثبت له ذلك أقر بالشهادتين، مجدداً للإقرار بالله سبحانه ، وشاهداً ببعثة رسول الله (ص).

فإن قالوا : فأنتم إذا تقولون إن رسول الله (ص) أسلم ؟ وهذا أعظم من الأولى .

قيل لهم : إن العظيم في العقول هو الإنصراف من هذا القول ، فإن لم تفهموا فيه حجة العقل فما تصنعون في دليل السمع ، وقد قال الله عز وجل لنبيه (ع):

(قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين) الأنعام: 14.

وقوله سبحانه :

(قل إن هدى هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين). الانعام: 71

ص: 260

وقوله: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) آل عمران: 20

ونظير ذلك كثير في القرآن، فكيف يصح هذا الإسلام من الرسول ولم يكن قطر کا فراً، وهل بعد هذا البيان شك يعترض عاقلا ؟؟

ثم يقال لهم: إذا كان لا يسلم إلا من كان كافراً، فما تقولون في إسلام إبراهيم الخليل (ص)، ولم يكن قط كافرا، ولا عبد وثنا، حيث قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب، یا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. البقرة : 130 - 131

فقد تبين لكم - أيها الإخوان ثبتكم الله على الإيمان- ما تضمنه هذا الفصل من البيان عن صحة إسلام أمير المؤمنين (ع).

وأنا أتكلم بعد هذا على الذين قالوا إنه (ص) قد أسلم ، ولكن لم يكن السابق الأول، وزعمهم أن المتقدم على جميع الناس أبو بكر .

فصل : من البيان عن أن أمير المؤمنين (ع) أول بشر سبق إلى الإسلام بعد خديجة عليها السلام.

أعلموا أن أهل النصب والخلاف قد حملتهم العصبية والعناد على أن ادعوا تقدم إسلام أبي بكر على سائر الناس، وإذا هم عرجوا عن طريق المكابرة، واطلعوا في السير الطاهرة، والأخبار المتواترة، والآثار المتظافرة ، والأشعار السائرة وأقوال أمير المؤمنين (ع) الظاهرة، وجدوا جميع ذلك ناطقاً بخلاف ما يزعمون ، شاهداً بكذبهم فيا يدعون ، قاضياً بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أول ذكر آمن برسول الله (ص)، وسبق إلى الإسلام، وأنه لم يتقدمه بشر من الأمة بأسرها غير خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .

وقد روي : أن رسول الله (ص) بعث يوم الاثنين، وفيه أسلمت خديجة ، وإن أمير المؤمنين (ع) أسلم يوم الثلاثاء .

ص: 261

وروى أصحاب الحديث عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان علي (ع) يألف النبي (ص)، فأتاه، فوجده وخديجة يصليان ، قال ابن عباس : وعلي يومئذ ابن عشر حجج ، فقال لرسول الله (ص) : ما هذا ؟ قال : يا علي ، هذا دين الله الذي ارتضاه لنفسه ، وبعث به رسله ، أدعو إلى الله وحده لا شريك له ، فقال علي (ع) : هذا شيء لم أسمع به. قال: صدقت يا علي .

فمكث علي تلك الليلة مفكراً، فلما أصبح أتى النبي (ص)، فقال له: لم أزل البارحة أفكر فيما قلت لي ، فعرفت الحق والصدق في قولك ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله .

وأخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه إجازة، قال: أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد البلخي (1)، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج (2)، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن بن القاسم البرقي ، قال: حدثني أسد بن عبيدة ، عن يحيى بن عفيف ، عن أبيه قال:

كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بمكة قبل ظهور أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء شاب ، فنظر في السماء حين تحلقت الشمس ، ثم استقبل الكعبة ، فقام يصلي ، ثم جاء غلام فقام عن يمينه ، ثم جاءت أمرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ، ثم رفع الشاب فرفعا ، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت : يا عباس، أمر عظيم ، فقال العباس: أمر عظيم ، أتدري من هذا الشاب ؟ هذا محمد بن عبد الله بن بن عبد المطلب ، ابن أخي ، أتدري من هذا الغلام ؟ هذا علي بن أبي طالب ابن أخي ، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة ابنة خويلد. إن ابن أخي هذا حدثني أن ربه رب

ص: 262


1- من تلاميذ أبي سهل اسماعیل بن علي النوبختي كان عارفاً بالاخبار متکلما توفي سنة 367ه وهو استاذ الشيخ المفيد ، وله كتاب فعلت فلا تلم. وكتاب نقض العثمانية على الجاحظ وكتاب في الإمامة ووصفه ابن النديم بأنه كان شاعراً مجوداً في أهل البيت (ع) متکلما بارعاً .
2- في الأصل البلخ

السموات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، ولا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (1).

وحدثني الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن شاذان (رضي) بمكة في المسجد الحرام ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن عمران ، قال : حدثنا الحسن بن محمد العلوي، قال: حدثنا ابراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عبد الرزاق ، قال: حدثنا : معمر بن يحيى بن أبي كثير ، عن أبيه ، قال:أخبرني أبو هريرة العبدي، قال: حدثني جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله (ص):

« علي بن أبي طالب أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما ، وأصحهم دينا، وأكثرهم يقينا ، وأكملهم حلما ، وأسمحهم كفا، وأشجعهم قلبا ، وهو الإمام والخليفة بعدي ».(2)

وجاء في الحديث عن أبي ذر رحمه الله أنه قال : سمعت رسول الله (ص) يقول:

علي أول من آمن بي وصدقني .(3).

وعن أنس بن مالك أنه قال: قال النبي (ص).

إن أول هذه الأمة وروداً علي أولها إسلاما. وإن علي بن أبي طالب أولها إسلاماً ، فقال له سلمان (رض): قبل أبي بكر وعمره؟ فقال: قبل أبي بكر وعمر .

وعن أنس بن مالك أيضا أنه قال : بعث النبي (ص) يوم الإثنين ، وأسلمت خديجة في آخر ذلك اليوم، وأسلم علي (ع) يوم الثلثاء (4)

ص: 263


1- رواه أبو جعفر الأسكافي المعتزلي في نقضه على كتاب العثمانية للجاحظ أنظر : رسائل الجاحظ، ص18- 19 جمع ونشر حسن السندوبي
2- رواه أبو جعفر الأسكافي المعتزلي في نقضه على كتاب العثمانية للجاحظ أنظر : رسائل الجاحظ، ص18- 19 جمع ونشر حسن السندوبي
3- رواه في الرياض النضرة ج 2 ص 157 ، أنظر : فضائل الخمسة ج (1) ص 188، وأنظر : نقض العثمانية للاسكا في ص 17
4- رواه الإسكافي عن جابر وأنس وأبي رافع أنظر رسائل الجاحظ ص20.

وعن أبي ذر وسلان جميعا قالا :

أخذ رسول الله (ص) بيد علي (ع) فقال:

ألا إن هذا أول من آمن بي ، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصديق الأكبر، وهذا فارون هذه الأمة ، يفرق بين الحق والباطل ، وهذا يعسوب الدين، والمال يعسوب الظالمين .(1)

وعن سلیمان بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله (ص) لفاطمة (ع):

أما ترضين يا فاطمة أني زوجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علما، وأفضلهم حلما . (2)

وفي رواية أخرى:

زوجتك أقدم المسلمين سلما، وأكثرهم علما ، وأفضلهم حلما .(3)

وعن عكرمة عن ابن عباس قال:

كان لعلي بن أبي طالب أربع مناقب ، لم يسبقه إليها عربي .

كان أول من صلى مع رسول الله (ص).

وكان صاحب رأيته في كل زحف ، وانهزم الناس يوم المهراس وثبت .

وغسله وأدخله قبره (4) والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

فأما المحفوظ من كلام أمير المؤمنين (ع) في ذلك واحتجاجه به في جملة ما له من المناقب .

فمنه ، ما حدثني به القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني رحمه الله قال: حدثني الخطيب العتكي أبو حفص عمر بن علي ، قال: أخبرنا

ص: 264


1- روي في الإصابة ج7 قسم 1 ص147 ، وفي فيض القدير ج 4 ص 358 أنظر : فضائل الخمسة ج1، ص189.
2- رواه الإسكافي في نقض العثمانية ص19 من رسائل الجاحظ .
3- المصدر نفسه
4- أنظر : الإرشاد ص17،

أبو بكر محمد بن إبراهيم البغدادي، ويعرف ذوران ، قال : حدثنا الحضرمي ويعرف بمطني ، قال: حدثنا سعد بن وحب بن شيبان وعبد الرحمن بن جبلة ، قالا: حدثنا نوح بن قيس الطلاحي ، عن سليمان بن غالب ، عن معادة بنت عبد الرحمن العدوية ، قالت: سمعت علياً (ع) على منبر البصرة وهو يقول:

أنا الصديق الأكبر ، وأنا الفاروق بين الحق والباطل ، أسلمت قبل أن يسلم أبو بكر ، وآمنت قبل أن يؤمن .(1)

وجاء عنه (ع) أنه قال:

« اللهم ، لا أعرف أحداً من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيها »

وجرى بينه وبين عثمان كلام، فقال له عثمان : وعمر خير منك ، فقال له : كذبت ، بل أنا خير منك ومنهما ، عبدت الله قبلهما وبعدهما.

وقد تضمن ذكر تقدم إيمانه كثير من أشعاره الواردة في أخباره.

حدثني القاضي السلمي ، قال أخبرني الخطيب العتكي ، قال حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى الفتات ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن يعقوب الدينوري ، قال : حدثنا محمد بن عبد البلوي الأنصاري ، قال : حدثنا عمارة بن زيد ، قال : حدثنا بكير بن حارثة عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن کعب ، عن مالك ، عن جابر بن عبد الله ، قال : سمعت عليا (ع) ينشد ورسول الله (ص) يسمع :

أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي *** معه ربيت وسبطاه هما ولدي

جدي وجد رسول الله منفرد *** وفاطم زوجتي لا قول ذي فند

صدقته وجميع الناس في بهم *** من الضلالة والإشراك ذي النكد

فالحمد لله حمداً لا شريك له. *** البر بالعبد والباقي بلا أمد

ص: 265


1-

قال: وتبسم رسول الله (ص) وقال: صدقت يا علي .

ومنه احتجاجه (ع) على معاوية في جواب کتابه من الشام إليه ، وقد رام معاوية إلاقتخار فيه ، فقال أمير المؤمنين (ع): يفتخر ابن آكلة الأكباد:

ثم قال عبيد الله بن أبي رافع (1): أكتب:

محمد النبي أخي وصهري *** وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يضحي ويمسي *** يطير مع الملائك ابن أمي

وبنت محمد سلني وعرسي *** مناط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ابناي منها *** فأيکم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طراً *** غلاما ما بلغت أوان حلمي

وأوجب لي الولاء معا عليكم *** خليلي يوم دوح غدیر خم (2)

فكان (ص) يحتج بتقدم إسلامه على الكافة ، ويفتخر به في جملة مناقبه على الأمة ، ويذكره بحضرة رسول الله (ص)، دفعة بعد دفعة ، وبعد رسول الله (ص) بين الصحابة ، فما أنكر ذلك قط عليه الرسول (ص) ، وكيف ينكره عليه وهو الشاهد له بذلك ، ولا قال له أحد من الناس لا نحتج بهذا الكلام ، فإن أبا بكر هو الذي أسلم قبل جميع الأنام ، بل يذعن لقوله (ع) الناس، ويعلمون صدقه من غير اختلاف ، ويقولون فيه كما قد قال (ع).

فمن ذلك قول سفيان بن الحرث بن عبد المطلب :

ص: 266


1- هو من خواص علي (ع) وكاتبه ، له كتاب قضايا أمير المؤمنين (ع) وکتاب تسمية من شهد معه (ع) الجمل وصفين و النهروان من الصحابة ، وأورده ابن حجر في التقريب وقال : كاتب علي (ع) وهو ثقة من الثالثة أي أنه مات بعد المائة
2- روى هذه الأبيات المفيد في الفصول المختارة ج2 ص70 وزاد بیتا في آخرها وهو: فویل ثم ويل ثم ويل *** لمن يلقي الآلة غداً بظلمي

ما كنت أحسب أن الأمر منتقل *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتهم *** وأعرف الناس بالآثار والسنن

من فيه ما فيهم من كل صالحة *** وليس في القوم ما فيه من الحسن (1)

وجرير بن عبد الله البجلي يقول فيه مثل ذلك أيضا، وقيس بن سعد بن عبادة له فيه أقوال كثيرة ، وغيرهم ممن شهد رسول الله (ص) وسمع منه الأخبار بتقديم إسلامه ، والحال أشهر عند أهل العلم من أن يستتر، وأظهر بين أهل النقل من أن يكتم.

غير أن الناصبة قد غلبها الهوى على التقوى ، فآثرت الضلال على الهدى.

وقد احتج النصاب في تقديم إسلام أبي بكر بقول حسان :

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة *** فأذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية اتقاها وأعدلها *** بعد النبي وأوفاها بما حملا

الصاحب التالي المحمود مشهده *** وأول الناس منهم صدق الرسلا(2)

ص: 267


1- تجد هذه الأبيات في كتاب سليم بن قیس ص16 منسوبة للعباس وتجدها في كتاب الجمل للمفيد ص43 منسوبة لعبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب مع زيادة بيتين ، وفي تاريخ اليعقوبي ج2 ص103 ط النجف منسوبة لعتبة بن أبي لهب.
2- نجد البيت الأول والثالث في كتاب العثمانية ص 2 من رسائل الجاحظ .

واحتجاجهم بقول حسان يدل على عمى القلوب وصدأ الألباب (1) ، أو على تعمد التلبيس على ضعفاء الناس ، وإلا فلو اعتمدوا الأنصاف علموا أن حسان بن ثابت هو الذي تضمن شعره الإقرار الأمير المؤمنين (ع) بالأمامة والرئاسة على الأنام لما مدحه بذلك يوم الغدير بحضرة رسول الله (ص) على رؤوس الأشهاد بعد أن استأذن الرسول (ص) فأذن له فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** نجم واسمع بالرسول منادیا

يقول فمن مولاکم ونبيکم(2) *** فقالوا ولم يبدو وهناك التعاميا

آلمك مولانا وأنت نبينا *** ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له : قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن کنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له أنصار صدق موالیا

هناك دعا اللهم وال وليه *** وكن للذي عادي علياً معادياً (3)

فصوبه النبي (ص) في هذا المقال ، وقال له: لا تزال یا حسان مؤيداً ما نصرتنا بلسانك)

فكيف سمعت الناصبة تلك الأبيات التي رويت لها من قول حسان ؟ ولم تسمع عنه هذه الأبيات التي قد سارت بها الركبان بل كيف تثبت لها بما ذكرته

ص: 268


1- في النسخة صدى.
2- في المسترشد للطبري ص96 (وولیم) بدل نبيكم.
3- ذكر الأبيات الأربعة الأولى منها الطبري في المسترشد ص 96. وانظر : أعلام الوری ص 140 فقد ذكر الأبيات كلها.

من شعره أن أبا بكر سبق الناس إلى الإسلام؟ ولم تثبت بما ذكرناه من شعره أيضا أن أمير المؤمنين (ع) لجميع الناس إمام؟ وكيف احتجت ببعض قوله ؟ وصدقه فيه ؟ ولم تر الاحتجاج بالبعض الآخر وكذبته فيه ؟

أوليس إذا قالت أنه كذب فيما قاله في علي (ع) في هذه الأبيات؟ أمكن أن يقال : لها بل كذب فيها حكيتموه عنه من تلك الأبيات.

وإن قالت إن حساناً شاعر النبي (ص) ولسنا نكذبه ، لكن نقول إنه كذب عليه في الشعر الذي رويتموه.

قيل لها : فإن قال لكم قائل مثل هذا الكلام، وأنه كذب عليه في الشعر الذي ذكرتموه ما يكون الإنفصال؟

وأعلم أنا لم نقل ذلك إلا لنعلمهم ، لأنه لا حجة في أيديهم ، وانه لا فرق بين قولهم وقول من قلبه عليهم .

ولسنا ننفي عن حسان الكذب ، ولا رأينا فيه بحسن ، وذلك أنه فارق الإيمان ، وانحاز إلى جملة أعداء أمير المؤمنين (ع) وحصل من عصبة عثمان ، فهو عندنا من أهل الضلال.

فإن قال قائل : كيف تجيزون ذلك عليه بعد ما مدحه به الرسول (ص) في يوم غدير خم وأثنى عليه ؟

قلنا: إن مدحه وثناءه عليه كان مشروطاً ولم يكن مطلقا .

وذلك أنه قال: ما تزال مؤيداً ما نصرتنا بلسانك ، وهذا يدل على أنه متى انصرف عن النصر ، زال عنه التأييد واستحقاق المدحة. وقد انصرف عنها بطعونه على أمير المؤمنين (ع)، وانصبابه في شعب عدوه ، وقعوده في جملة من قعد عن نصرته في حرب البصرة.

ويشبه ما قال فيه النبي (ع) قول الله تعالى في ذكر أزواج نبيه ونسائه:

(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقیتن) الأحزاب: 32

فعلق ذلك بشرط وجود التقوى ، فإذا عدمت كن كمن سواهن ، بل كن أسوأ حالا من غيرهن .

ص: 269

وأعلم - أيدك الله تعالى - أنه قد روى المخالفون عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما أسلم أبي جاء إلى منزله ، فما قام حتى أسلمنا وأسلمت عائشة وهي صغيرة.

وروايتهم هذه دليل على تأخر إسلامه ، وذلك أن مولد عائشة معروف، وزمانها معلوم ، ولدت بعد البعثة بخمس سنين ، وكان لها وقت الهجرة ثماني سنين ، وتزوجها رسول الله (ص) بعد الهجرة بسنة ، ولها يومئیذ تسع سنين ، وأقامت معه تسعاً ، وكان لها يوم قبض (ع) ثماني عشرة سنة.

فإذا كانت يوم إسلام أبيها صغيرة ، فأقل ما يكون عمرها في ذلك الوقت سنتان وهذا يدل على أن أباها أسلم بعد البعثة بسبع سنين، فهو مقدار الزمان الذي أتت الأخبار بأن أمير المؤمنين (ع) كان يصلي فيه مع رسول الله (ص)، والناس في بهم الضلال.

وسنذكر طرفا مما ورد في ذلك من الأخبار، فإذا كان الناس سوى أمير المؤمنين إنما أجابوا إلى الإسلام بعد سبع سنين من مبعث النبي ، فليس يستحيل أن يكون أبو بكر أحد المستجيبين في هذه السنة ، وليس ذلك بموجب أن يكون أولهم ، لأنه قد تناصرت الأخبار بتقديم إسلام جعفر بن أبي طالب عليه ، بل على غيره من الناس سوى أمير المؤمنين (ع).

حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي قال حدثنا عمر بن محمد بن سيف بالبصرة سنة سبع وخمسين وثلاثماية ، قال حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان ، قال حدثنا محمد بن صفر بن صلصال بن الدلهمس بن جهل بن

جندل ، قال حدثني أبو ضو بن صلصال بن الدهمي قال: كنت أنصر النبي (ص) مع أبي طالب قبل إسلامي ، فإني يوما لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدة القيظ، إذ خرج أبو طالب إلي شبيهاً بالملهوف، فقال لي : يا أبا الغنصقر ، هل رأيت هذين الغلا مين يعني النبي (ص) وعلياً (ع)، فقلت ما

ص: 270

رأيتها مذ جلست ، فقال : قم بنا في الطلب ، فلست آمن قريشا أن تكون اغتالتهما.

قال فمضینا حتى خرجنا من أبيات مكة ، ثم صرنا إلى جبل من جبالها ، فاسترخينا إلى قلة ، فإذا النبي (ص) وعلي (ع) عن يمينه ، وهما قائمان بازا ، عين الشمس یر کعان ويسجدان ، قال : فقال أبو طالب لجعفر ابنه : صل جناح ابن عمك ، فقال إلى جنب علي ، فأحس بها النبي (ص)، فتقد مهما وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا مما كانوا فيه ، ثم أقبلوا نحونا ، فرأيت السرور يتردد في وجه أبي طالب ثم انبعث يقول:

إن عليا وجعفراً ثقتي *** عند مهم الأمور والكرب

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي

والله لا يخذل النبي ولا *** يخذله من بني ذو حسب (1)

وقد أتت الأخبار بأن زيد بن حارثة تقدم أبا بكر في الإسلام .

بل روي أن أبا بكر لم يسلم حتى أسلم قبله جماعة من الناس.

وروی سالم بن أبي الجعد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص : انه قال لأبيه: كان أبو بكر أولكم إسلاماً ؟ قال: لا قد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلا.

وأما الأخبار الواردة بأن أمير المؤمنين (ع) صلى مع رسول الله (ص) سبع سنين ، والناس كلهم كانوا ضالين.

فمنها ما أخبرني به شيخنا المفيد أبو عبد الله (رض) قال: أخبرني أبو حفص عمر بن محمد الصيرفي قال : حدثنا محمد بن أبي التلج ، عن أحمد بن القاسم البرقي ، عن أبي صالح سهل بن صالح - وكان قد جاوز ماية سنة - قال سمعت أبا المعمر عباد بن عبد الصمد ، قال سمعت أنس بن مالك يقول : قال رسول الله (ص): صلت الملائكة علي وعلى علي (ع) سبع سنين ، وذلك أنه لم يرفع إلى السماء شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (ص) الا مني ومن علي (ع) .

ص: 271


1- أنظر : العذير ج 7 ص 356 نقله عن ديوان أبي طالب ص 36 وعن كتاب الأوائل للعسكري .

ومنه ما روي عن أبي أيوب أنه قال: إن رسول الله (ص) قال: لقد صلت الملائكة علي وعلي علي سبع سنين، لأنا كنا نصلي ليس معنا أحد غيرنا .

وما رواه أبو هريرة قال قال رسول الله (ص) : أن الملائكة صلت علي وعلى على سبع سنين قبل أن يسلم بشر .

وما رواه عباد بن يزيد قال سمعت عليا (ع) يقول:

لقد صليت مع رسول الله (ص) سبع حجج ما يصلي معه غيري إلا خديجة بنت خويلد ، ولقد رأيتني أدخل معه الوادي، فلا نمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله ، وأنا أسمعه.

وما روی (ع) من قوله :

أنا عبد الله ، وأنا أخو رسول الله (ص) وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي الا كذاب مفتر صليت قبلهم سبع سنين.

وما رواه أبو رافع قال قال (ص) بعثت أول يوم الأثنين ، وصلت خديجة آخر يوم الاثنين ، وصلى علي يوم الثلاثاء من الغداة مستخفيا قبل أن يصلي مع النبي (ص) أحد سبع سنين .

(فصل في أن إسلامه (ع) كان عن بصيرة وإستدلال)

اعلم أنه لما توجهت الحجة على المخالفين بتقدم إسلام أمير المؤمنين (ع) علی سائر المكلفين ، قالوا: وما الفضيلة في إسلام طفل لم يلحق بدرجة العقلاء البالغين ؟ وأي تكليف يتعين عليه يستحق بفعله الأجر من رب العالمين ؟ وهل كان إلقاء الإسلام إليه إلا على سبيل التوقيف والتلقين الذي يفعله أحدنا مع ولده لينشأ عليه ، ويصير له من الألفين؟

وخطأ هؤلاء القوم لا يخفى للمتأملين ، وضلالهم عن الحق واضح للمنصفين .

وذلك أن الحال التي كان عليها رسول الله (ص) في إبتداء أمره من كتمان ما هو عليه وستره، وصلاته مختفياً في شعاب مكة، للمخافة التي كان فيه

ص: 272

والتقية ، منتظراً لأذن الله تعالى في الاعلان والاظهار ، فيبدي حينئذ أمره على تدريج ، يأمن معه المضار، يقضي إلى أن يلقي ذلك إلى الأطفال والصبيان الذين لا عقول لهم ، يصح معها الكتان، والذين من عادتهم الأخبار بما علموه والاعلان.

فإذا علمنا وهذه صورة الحال، أن النبي (ص) قد خص في ابتدائها بالوقوف على سر أحد الأطفال ، تحققنا أن ذلك الطفل مميز، بصحة الفعل والكمال.

وليس يستحيل حصول العقل والتمييز لابن عشر سنين ، ولا تجويزه ذلك في الأمور المستبعدة عند العارفين.

والمنكر لذلك إنما يعول على الغالب في المشاهدات. والعقل لا يمنع من وجود ما ذكرناه في نادر الأوقات، بل لا يمنع من أن يجعل الله تعالى ذلك آية يخرق بها العادات.

وقد أخبر الله سبحانه عن نبيين من أنبيائه (ع) بما هو أعجب من هذا، وهما عیسی ویحیی.

فقال حاكياً كلام عیسی (ع) للناس في المهد :

(إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً)

وقال في يحیی:

(يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا)

فإن قال الخصوم: (إن هذين نبيان يصح أن يكون لهما الآيات المعجزات) .

قلنا : فما المانع من يكمل الله تعالى عقل طفل في زمن نبينا (ع) ويمنحه صحة التمييز والاستدلال، ويخصه بالتكليف دون جميع الأطفال، ويكون ذلك آية لنبيه (ص)، وكرامة له في أخص الناس به .

ولوجه آخر من الصلاح يختص بعلمه ، وليكون مع هذا كله إبانة لوليه الذي هو حجته ووصي نبيه (ص). في المحيل لما ذكرناه ، والمانع من كونه كذلك ؟

ص: 273

أوليس قد روي أن الشاهد الذي شهد من أهلها في قميص يوسف (ع) كان طفلا في المهد ، له سنتان ، وليس بنبي ،

وبعد فقد أوجد كم (1) الله تعالى عيانا من أحد أئمتنا (ع) ما هو أكثر مما أنكرتموه من هذه الحال.

وهو أبو جعفر محمد بن علي بن موسی (ع) (2) وشهادة المأمون لما عزم على تقريبه ومصاهرته ، وهو ابن تسع سنين، بالعقل والعلم والكمال (3) ، واتفاقهم معه على أن يعقدوا له مجلسا للامتحان ، وسؤالهم يحيى بن أكثم القاضي في أن يتولى لهم ذلك ، وبذلهم له الأموال، وما جرى له من عجيب الكمال في السؤال والجواب، حتى عجز يحيي، ووقف في (4) يديه ، وأذعن بالاستفادة منه ، والرجوع إليه فيما لا يعلمه.

وهذا أمر قد شاركتمونا في نقله ، واتفق أصحاب الحديث (5) على حمله .

ولسنا نشك في أن هذا العلم والفضل لم يحصل لأبي جعفر (ع) إلا من أحد وجهين (6).

إما الإلهام، فهو إذا معجز بان(7) به من الأنام.

ص: 274


1- المرجح أن ضمير الجماعة الخاطبة وهو (كم) زائد .
2- هو الإمام التاسع أبو جعفر محمد بن علي الملقب بالجواد ولد سنة 195ه وتوفي سنة 220ه.
3- في النسخة أيضا الكلام
4- هكذا ورد في النسخة ولعل الصواب (بين).
5- في النسخة الحديثين.
6- في النسخة(لاحد) أيضا.
7- بان أي انفصل وغایر .

وإما عن تلقين وتعليم ، وكان عمره وقت تلقينه ذلك، وهو في وقت للناظرة ابن تسع سنين ، وقيل ثماني سنين.

أو ليس هذا أعجوبة قد نقلتموها وأقررتم بها ، وسألتموها ؟.

فأخبرونا كيف أقررتم لولد أمير المؤمنين (ع) في زمن المأمون بكمال العقل والعلم وحسن المعرفة والفهم ، وهو ابن تسع سنين ؟ وأنكرتم أن يصح لأمير المؤمنين صلوات الله عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله كمال العقل والتكليف وله عشر سنين ؟

فإن قالوا: نحن لا نعترف لأبي جعفر (ع) بهذا ، كانت السير قاضية بيننا وبينهم ، شاهدة للمحق(1) منا.

ثم يقال لهم: إن لم يكن الأمر كما ذكرناه من كمال عقل أمير المؤمنين (ع) وقت دعاء النبي (ص) له إلى الإسلام، وهو في حال سر وكتمان وخوف من الشرك والضلال ، أليس يكون قد غرر بنفسه فيما ألقاه إليه ، وفعل ما يشهد العقل بقبحه، وخطأ المقدم عليه حاشا الرسول (ص) مما ينسبونه إليه.

والذي ذكرناه في أمير المؤمنين (ع) أوضح من أن يشتبه الأمر فيه.

أليس هو القائل لرسول الله (ص) : انني لم أزل البارحة مفكراً فيما قلت لي ، فعرفت الحق والصدق في قولك ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله .

فوقع منه الإقرار بالشهادة بعد فکر ليلة كاملة.

فكيف تصح من طفل - كما زعمتم - غير عاقل أن يفكر في صحة النبوة ليلة كاملة ، حتى حصل له العلم بصدق المخبر بها بعد طول الروية ؟

وهل بعد هذا لبس يعترض عاقلا هجر العصبية.

وقد روي أعجب منه عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إن النبي (ص)

ص: 275


1- في النسخة للحق أيضا .

عرض علي علي (ع) الإسلام، فقال له علي (ع): أنظرني الليلة ، فقال له النبي (ص): هي أمانة في عنقك ، لا تخبر بها أحداً.

فلینظر الغافلون إلى هذا الكلام الواقع منهما عليهما السلام ، وسؤال أمير المؤمنين (ع) له في التأجيل والإنظار.

هذا وهو الذي كفله ورباه ، ولم يزل طائعاً له في جميع ما يأمره ويراه . فلا أتاه الأمر رأى أن الإقدام على الإقرار به من غير علم ويقين قبيح ، سأله التأجيل.

ثم قول النبي (ص) له. إنها أمانة في عنقك لا تخبر بها أحداً، مما تشهد العقول بأسرها أنه لا يقال إلا لمميز يکون عقله كاملا.

ويزيد هذه الحال أيضا بيانا ، أنه لما أسلم (ع) كان يخرج مع رسول الله (ص) إلى شعاب مكة ، فمرة يصلي معه ، ومرة أخرى يرصد له.

حتى روي أن كل واحد منهما كان إذا صلى صاحبه ، حرسه ووقف يرصد له.

فهل يصح أن يختص بهذا الأمر من لا عقل له؟ لا : ولكن قد يخفي صحته عمن لا عقل له .

والعجب أن مخالفينا يدفعون أن يكون إسلام أمير المؤمنين (ع) وهو ابن عشر سنين ، له فضيلة . ورسول الله (ص) لم يدفع ذلك ، بل كان يعده له من أول الفضائل ، ويخبر به إذا مدحه وأثنى عليه في المحافل.

والعجب أنهم ينكرون علينا الإحتجاج بتقدم إسلامه ، وهو (ص) كان يحتج بذلك بين الصحابة ، ولا ينكره أحد عليه ، ولا يقول له: وما في ذلك من الفضل ؟ وإنما أسلمت وأنت طفل لا عقل لك .

ص: 276

فصل في البلوغ

وأما ما ظن الخصوم من أن البلوغ إلى درجة التكليف ، هو الإحتلام، وقولهم : إن أمير المؤمنين (ع) لم يكن بلغ وقت إسلامه مبلغ المحتلمين ، فلا يكون من المكلفين .

فظن غير صحيح. ولو كان الأمر كما زعموه لكان كل من بلغ الحلم مكلفاً ، ونحن نعلم فساد ذلك ، لوجود بالغين من البله والمجانين غير مكلفين.

والواجب الذي ليس عنه محيد أن يقال إن وجود العقل في الإنسان وصحة التمييز منه والإدراك، شرط في وجوب تكليف العقليات، من النظر والاستدلال ومعرفة ما لا يسع جهله من الأمد والواجبات واعتقاد الحق بأسره وإدراك الصواب.

وشرط أيضا في صحة تعلق [تکلیف ](1) العبادات السمعيات ، وإن كان أكثرها يسقط عمن لم يبلغ الإحتلام ، ولا (2) يعلم سقوطه إلا من جهة السمع الوارد دون ما سواه .

ولم يكن المشروع (3) كله حاصلا في ابتداء البعثة، ولا أتي الوحي وقت إسلام أمير المؤمنين (ع) لجميع العبادات السمعية ، فيعلم ما هو لازم لمن لم يبلغ مما هو غير لازم.

فأما التكليف الواجب في العقول فلا يجوز أن يسقط عمن له عقل و تحصیل ... (4) اذ هو بلوغ حد التكليف.

وقد بينا أن أمير المؤمنين (ع) كان كامل العقل وهو ابن عشر سنين

ص: 277


1- النسخة خالية من كلمة تكليف واضفناها تصحیحاً للمعني.
2- في النسخة : وإن يعلم ووضعنا مكانها كلمة (ولا يعلم) تصحيحاً للمعني.
3- في النسخة للمشروع.
4- هنا كلمتان غير واضحين المراد.

فلز مته (1) المعرفة بالله تعالى والرسول وبجميع ما يوجب معرفة العقول (2) ولزمه من التعبد المسموع ما قارن وجها من المصلحة له (3) وهذا كاف لذوي التحصیل .

وقد أوردت في هذا الكتاب من القول في إسلام أمير المؤمنين (ع) ما فيه منفعة للمؤمنين ، وحجة على المخالفين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سیدنا محمد خاتم النبيين [وآله](4) الطيبين الطاهرين .

فصل : من كلام أمير المؤمنين (ع) وحكمه .

قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه :

لا شرف أعلا من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى ، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة .

من ضاق صدره لم يصبر على أداء حق . من كسل لم يؤد حق الله .

من عظم أوامر الله أجاب سؤاله.

من تنزه عن حرمات الله سارع إليه عفو الله .

من تواضع قلبه لله لم يسأم بدنه طاعة الله.

الداعي بلا عمل کالر امي بلا وتر .

ليس مع قطيعة الرحم نماء. ولا مع الفجور غنی .

عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر .

تصفية العمل خير من العمل .

عند الخوف يحسن العمل.

ص: 278


1- في النسحة فلزمه أيضا .
2- في النسخة معرفة المعقول أيضا .
3- هنا كلمتان غير واضحتين
4- النسخة خالية من كلمة وآله .

رأس الدين صحة اليقين.

أفضل ما لقيت الله به نصيحة من قلب ، وتوبة من ذنب .

إياكم والجدل فإنه يورث الشك في دين الله.

بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثر منها في أوان كسادها .

اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل .

ودخول الجنة رخيص ، ودخول النار غال

التقى سائق إلى كل خير .

من غرس أشجار التقى جنى ثمار الهدى.

الكريم من أكرم عن ذل النار وجهه .

ضاحك معترف بذنبه أفضل من باک مدل على ربه .

من عرف عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره .

من نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره.

ومن نظر في عيوب الناس ورضاها لنفسه فذلك الأحمق بعينه .

كفاك أدبك لنفسك ما كرهته لغيرك.

اتعظ بغيرك ولا تكن متعظاً بك.

لا خير في لذة تعقب ندامة .

تمام الإخلاص تجنب المعاصي .

من أحب المكارم اجتنب المحارم .

جهل المرء بعيوبه من أعظم ذنوبه .

من أحبك نهاك ، ومن أبغضك أغراك .

ومن أساء استوحش.

من عاب عيب .

ومن شتم أجيب.

أدوا الأمانة ولو إلى قاتل الأنبياء .

الرغبة مفتاح العطب.

والتعب مطية النصب .

ص: 279

الشر داع إلى التقحم في الذنوب.

من تورط في الأمور غير ناظر في العواقب ، فقد تعرض لمدرجات النوائب.

من أتي ذمياً وتواضع له ليصيب من دنياه شيئا ذهب ثلثا دينه.

من لزم الاستقامة لزمته السلامة.

حدثنا الشيخ المفيد أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي رضي الله عنه بمكة في المسجد الحرام، قال: حدثني أبو الفرج المعافي بن زكريا قال حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج قال: حدثنا الحسن بن محمد بن بهرام قال : حدثنا يوسف بن موسى الطالقاني ، قال : حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص):

لو أن الغياض أقلام، والبحر مداد ، والجن حساب ، والأنس کتاب ، ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب.

وأنشدت(1) لابن وكيع الشاعر (2) في أمير المؤمنين صلوات الله عليه هذه الأبيات:

قالوا: على لماذا لست تمدحه *** فقلت أصبحت في ذا الفعل معذورا

صر فت مدحي إلى من نور مدحته *** يعده الناس إسرافا وتبذيراً

ولم أطق مدح من فاتت فضائله *** قدر المدائح منظوماً ومنثوراً

ومن جواد قريضي أن بعثت به *** في مدحه من علاه عاد محسوراً

ص: 280


1- في النسخة وأنشدت بيتين ، وهو زيادة من الناسخ.
2- هو أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن محمد خلف البغدادي أحد الشعراء البارعين توفي بمدينة تنیس من دیار مصر بالقرب من دمياط سنة 393 ه. له ديوان شعر ومن شعره: لقد قنعت همتي بالخمول *** وحدت عن الرتب العالية وما جهلت طعم طيب العلا *** ولكنها تؤثر العافية ووكيع لقب جده أبي محمد بن خلف وكان فاضلاً عالما بالقرآن والفقه والنحو والسير وله مصنفات توفي سنة 306 ه

أأزعم الغيث يحي الأرض وإبله *** أم أزعم البدر قد عم الوری نوراً

ما زلت ذاك وذا بالوصف منهية *** ولا أتيت بفضل كان مستوراً

متي صرفت إليه الشعر أمدحه *** شهرت من وصفه ما كان مشهوراً

وظلت أتعب فيمن ليس يرفعه *** مدحي وأنشر فضلا كان منشوراً

سارت مآثره بالفضل ظاهرة *** فما ترى لمديح فيه تأثيراً

وأصبح الوصف منه لاستفاضته *** كاللفظ كرر في الأسماع تکريراً

بعد جهدي تقصيراً بمدحته *** ولست أرضى بجهد عد تقصيراً

وأظنه بني على قول المتنبي :

وتركت مدحي للوصي تعمداً *** إذ كان نوراً مستقلا کاملا(1)

وإذا استقل (2) الشيء قام بنفسه *** وأرى صفات الشمس تذهب باطلا

وفي هذا المعنى لأبي نؤاس في الرضا عليه السلام:

قيل لي لم ترکت مدح ابن موسى *** والخصال التي تجمعن فيه

قلت لا أهتدي لمدح إمام *** كان جبريل خادماً لأبيه

ولبعضهم:

لا يبلغن مدح النبي وآله *** قوم إذا ما بالمدائح فاهوا

رجل يقول إذا تكلم قال لي *** جبريل أخبرني بذاك الله

ومن مليح ما وجدته لابن الرومي:

لي أحمدان الدنياي وآخرتي *** ولي عليان فانظر من أعدت ولي

من خاتم الملك في الدنيا بخنصره *** ومن على كتفيه خاتم الرسل

تعلقت راحتي منهم بأربعة *** إن عشت أو مت للتأميل والأمل

منهم باثنين ما استسمحت يسمح لي *** كما باثنين ما استشفعت يشفع لي

فللشفاعة حسي أحمد وعلي *** وللمعيشة حسبي أحمد وعلي

ص: 281


1- في ديوان المتنبي والمحفوظ هكذا: إذ كان نوراً مستطيلا شاملا).
2- في الديوان والمحفوظ : وإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب با طلا .

فصل في فضل اقتناء الكتب

قال بعض الحكماء الكتب أصداف الحكم، تنشق [ عنها ] جواهر الشيم .

وقيل لآخر: ما بلغ من شهوتك للكتب ورغبتك في قراءتها ؟ فقال : إذا نشطت فهي لذتي ، وإذا اغتممت فهي سلوتي .

وقال آخر: ما ورثت الأسلاف للإخلاف كنوزاً أفضل من الكتب ، ولا حلت الآباء الأبناء ليا أجمل من الأدب.

وليم آخر على إنفاذ المال في الكتب وترك الولد بغير عقل ، فقال : إني اعتقد لهم كتب علوم تخلص أرواحهم، لأعق أموال تنعم أشباحهم.

وقيل لآخر : فلان مات وما خلف لولده إلا كتبا . فقال : لقد خلف لهم مآثر لا تعفوها الأيام، وترك لهم موارث لا تنفدها الأعوام.

وقال بعض المصنفين في فضل الكتب واقتنائها :

أعلم أن الكتاب قيد على الناس علم الدين ، وأخبار الأولين، مع خفة محمله ، وصغر جثته، صامت ما أسكته ، بليغ ما استنطقته ، ومن بمسامر لا يبتديك في حال شغلك ، ولا يدعك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له ، والتذمم منه.

ومن لك بزائر إن شئت جعل زيارته غباً ، ووروده حبا (1) وإن شئت لزمك لزوم ظلك، فكان منك مكان بعضك.

والكتاب هو الذي إذا نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجود بيانك ، وفخم ألفاظك ، وعمر صدرك، ومنحك صداقه الملوك ، وتعظيم العوام، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر .

ص: 282


1- في النسحة: جسما.

قال: والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر کطاعته في الحضر ، لا يقصر عنك بنوم ، ولا يعتريه ملال ، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك ، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عدلت عنه لم يدع طاعتك ، وإن هب ريح أعدائك لم ينقلب عليك ، ومتى كنت منه متعلقاً بسبب ومعتصماً بحبل لم [ تضطرك ] معه وحشة الإنفراد إلى الجليس السوء.

ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك ، والنظر إلى المارة بك ، مع ما في ذلك من التعرض للحقوق في فضول النظر ، وملابسة صغار الناس وحضور ألفاظهم الساقطة ، وأخلاقهم الردية ، لكان في ذلك السلامة يوم القيامة ، ونعم الجليس.

وقال في هذا المعنى:

والكتاب نعم الذخر والقعدة، ونعم الجليس والعقدة، ونعم السيرة والنزهة ، ونعم الشغل والحرفة ، ونعم الأنيس ساعة الوحدة ، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والزميل . والكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا ، وإناء شحن مزاحا وجداً. إن شئت كان أبين من سحبان وائل (1)، وإن شئت كان أعي من باقل (2)، وإن شئت ضحكت من نوادره ، وإن شئت عجبت من غرائب فوائده ، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت أشحتك مواعظه.

وبعد فمتى رأيت بستانا يخمل في ردن ، وروضة تنقلب في حجر ، ينطق عن الموتى ، ويترجم كلام الأحياء.

ومن لك بمؤنس لا ينطق إلا بما تهوی، آمن من في الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر.

ص: 283


1- هو من السنة الجاهليين وخطباء الإسلام ويضرب فيه المثل في الفصاحة والببان توفي سنة (54ه)- (673م) وفي النسخة (من تيجان وائل).
2- هو باقل بن عمرو بن تعلبة الأبادي يضرب فيه المتل في العي والفهاهة .

وقال: لا أعلم جاراً أبر ، ولا خليطاً أنصف ، ولا رفيقا أطوع، ولا معلماً أخضع ، ولا صاحباً أظهر كفاية ، وأقل جناية ، ولا أقل ملالا ، وإبراماً وخلافا وجزافا ، ولا أقل غيبة ، ولا أبعد من مرأى، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدل، ولا أكف عن قتال من كتاب.

ولا أعلم قريناً، ولا أحسن موافاة ، ولا أعجل مكافاة ، ولا أحضر معرفة ، ولا أخف مؤنة ، ولا شجراً أطول عمراً، ولا أطيب ثمراً، ولا أقرب مجتنی ، ولا أسرع إدراكا ، ولا أوجد في كل أوان من كتاب (1)

وأنشد بعضهم :

وإذا الهموم تضيقتك ولم تجد *** أحداً ومل فؤادك الأصحابا

فاعمد إلى الكتب التي قد ضمنت *** أوراقها الأشعارا والآدابا

فهي التي تنفي الهموم ولم تجد *** أحداً له أدب يمن كتاباً

فصل :

حکی شیخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه (2):

قال: قد ألزم الفضل بن شاذان رحمه الله ، فقهاء العامة (3). قولهم في الميراث، أن يكون نصیب بني العم أكثر من نصيب الولد ، واضطرهم إلى الاعتراف بذلك ، فقال :

ص: 284


1- أحسب أن هذا الفصل في وصف الكتاب هو من إنشاء المؤلف، لأنه بأسلوبه أشبه .
2- وهو كتاب الفصول المختارة ج1 ص123- 124.
3- في النسخة : الناحبة والتصحيح مطابق لما في الفصول المختارة، والفضل بن شاذان النيسابوري الأزدي المتوفي عام (260 ه) وهو من شيوخ الفقه والكلام والآثار الشيعة ، وله مؤلفات كثيرة أنهاها مترجموه إلى ماية وثمانين كتابا .

خبروني عن رجل توفي وخلف ثلاثين ألف درهم، وخلف ثماني وعشرين بنتا وابناً واحداً ، كيف تقتسمون الميراث؟

فقالوا: نعطي الولد الذكر ألفي درهم ، ونعطي كل بنت ألف درهم ، فیکون للبنات ثمانية وعشرون ألف درهم على عددهم، ويحصل الذكر ألفا درهم، فيكون له ما قسمه الله عز وجل وأوجبه في كتابه من قوله : وللذكر مثل حظ الأنثيين.

قال لهم : فما تقولون ؟ لو كان موضع الابن ابن عم ، كيف تقسم الفريضة ؟

فقالوا: نعطي ابن العم عشرة آلاف درهم ، ونعطي البنات كلهن عشرين ألف درهم .

فقال لهم الفضل بن شاذان رحمه الله : فقد صار ابن العم أوفر حظا من الإبن للصلب ، والابن مسمى في التزيل ، متقربأ بنفسه، وبنو العم لا تسمية لهم، وإنما يتقربون بأبيهم ، وأبوهم يتقرب بجده ، والجد يتقرب بأبيه ، وهذا نقض للشريعة.

قال شيخنا المفيد رضي الله عنه:

وإنما لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة خاصة ، لقولهم بأن من عدا الزوج والزوجة والأبوين ، يرثون مع الولد ، على خلاف مسطور الكتاب والسنة ، وإنما أعطوا ابن العم عشرة آلاف درهم في هذه الفريضة ، من حيث تعلقوا بقوله تعالى : (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك). فلا بقي الثلث اعطوه لابن العم ، فلحقتهم هذه الشناعة المخرجة لهم من الدين ، ونجت الشيعة من ذلك والحمد لله . (1)

ووجدت في أمالي (2) شيخنا المفيد رضي الله عنه :

ص: 285


1- أنظر : الفصول المختارة ج1 ص122.
2- هذا موجود في الفصول المختارة ج1 ص44.

أن أبا الحسن علي بن میثم (1) رضي الله عنه ، دخل على الحسن بن سهل ، وإلى جانبه ملحد قد عظمه (2)، والناس حوله ، فقال له:

قد رأيت عجبا . قال : وما هو؟ قال: رأيت سفينة تعبر الناس من جانب إلى جانب بغير ملآح ولا ماصر .

قال فقال الملحد : إن هذا أصلحك الله لمجنون.

قال: وكيف؟

قال: لأنه يذكر عن خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ، ولا حياة فيه ولا عقل ، أنه يعبر الناس، ويفعل فعل الإنسان ، كيف يصح هذا؟

فقال له أبو الحسن : فأما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوی ، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض ، والمطر الذي ينزل من السماء ، كيف يصح ما تزعمه من أن لا مدبر له كله ؟ وأنت تنكر أن تكون سفينة تتحرك بلا مدبر وتعبر الناس بلاح.

قال: فبهت الملحد.

فصل أجبت به بعض الإخوان عن ثلاث آيات من القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الموفق للسداد ، وصلواته على حججه في العباد ، مولانا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين.

هذه ثلاث آيات من القرآن ، سأل عنها بعض أهل الإيمان، أوضحت معانيها وما يتعلق به المخالفون منها ، وأجبت عن ذلك بما اقتضاه الصواب على سبيل الإختصار دون الإطناب.

ص: 286


1- هو علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم الثمار الكوفي صاحب أمير المؤمنين علي (ع) وتوفي سنة (179 ه)، وهو من متکلمي الشيعة البارزين في عصر الرشيد . وله عدة مؤلفات.
2- في النسخة : قد أعظم الناس حوله وصوبناه اعتمادا على النص الوارد في الفصول المختارة .

الآية الأولى قول الله عز وجل :

« واختار موسی قومه سبعين رجلا لميقاتنا ، فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت لأهلكتهم من قبل وإياي ، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ، فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين » الأعراف: 155

المواضع المسؤول عنها من هذه الآية التي يتعلق بها المخالفون منها ثلاث مواضع:

أحدها : قول موسى عليه السلام: أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فيقولون : كيف خفي على نبي الله أنه لا يجوز في العدل والحكمة أخذ العبد بجرم غيره.

الثاني : قوله: (إن هي إلا فتنتك) فزعمت المجبرة أن في هذا دلالة على أن الله تعالى يفتن العباد الفتنة التي هي الإضلال.

الثالث قوله : تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ، قالوا : وهذا بيان أنه سبحانه يفعل في طائفة من عبادة الضلال، ويحر مهم الإيمان ، ويخص الأخرى بالهدى ويجنبها الضلال.

الجواب:

أما قول موسی (ع) (أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا) ففيه وجهان:

أحدهما : أن الهلاك هنا هو الموت ، قال الله تعالى : (إن أمرؤ هلك ليس له ولد)(1) يعني مات ، فكأن موسى عليه السلام قال على سبيل السؤال : أتميتنا مع هؤلاء السفهاء ، وليس الموت الذي سأل عنه عقوبة ، بل على ما جوزه من اتفاق حضور الميتة ، كما اتفق هلاك العالمين في طوفان نوح عليه السلام إلا من حملت السفينة ، فكان هلاك الكفار منهم عقوبة لهم، وهلاك الأطفال والبهائم ومن لا تكليف عليه معهم ، لحضور آجالهم.

ص: 287


1- سورة النساء 176

وقامت الباء في قوله تعالى : (بما فعل السفهاء) مقام (مع)، لأنها جميعا من حروف الخفض.

والوجه الثاني : أن يكون قوله: أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا، خرج منه على وجه الاستبعاد لذلك والنفي والإنكار، كما يقول أحدنا للحاكم: أتراك تظلمني في فعلك ، أو تجور علي في حكمك ، وهو لا يريد سؤاله بل يقصد نفي الظلم والجور عنه ، واستبعاد وقوعهما منه. قال جرير :

أعبداً حل في شعبي غريباً *** ألؤما لا أبا لك واغترابا

يريد أن لا يجتمع هذان.

وأما قوله : إن هي إلا فتنتك [فإن ](1) الفتنة على ضروب في الكلام ، وهي في هذا المكان بمعنى المحنة والإختبار ، قال الله تعالى :

(وفتناك فتونا)(2) يعني اختبرناك اختباراً، وكأنه قال: إن هي إلا فتنتك التي امتحنت بها خلقك و[ اختبرتهم ](3) في التكليف، لتثبت من اهتدى بها، وتعاقب من ضل [عنها ] (4).

وأما قوله : (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) فإنه ذكر في هذه الآية وفي نظائرها ، أنه يضل قوما ويهدي آخرين مجملا للقول في ذلك من غير تفسير .

وكشف في آيات أخر عمن يشاء أن يضلهم، ومن يريد أن يهديهم ، وميزهم وصف بعضهم من بعض وبينهم ، فقال في الضلال:

(ويضل الله الظالمين)

وقال: (وما يضل به القوم الفاسقين).

فأخبر أنه لا يشاءأن يضل إلا من سبقت منه الجنابة ، واقترف الإساءة .

ص: 288


1- في النسخة (تكن).
2- طه: 40
3- في النسخة : وأخبرتهم .
4- في النسخة : عندها .

وقال في الهدی:

(وقد جاء كم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) المائدة : 16

وقال : (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن : 11

فأوضح بهذه الآيات المفسرة عما ذكره في تلك الآيات المجملة .

فأما هذا الضلال منه والهوى فهو يحتمل وجوها : منها أن يكون الا ضلال العقاب ، والهدى الثواب. وجاز ذلك في الكلام ، لأن الجزاء عندهم على الشيء يسمي بإسم ذلك الشيء على طريق الاتساع، وله نظائر في القرآن.

ومنها أن يضل العصاة عن الألطاف في الدنيا التي وعد بها أهل الإيمان .

ومنها للتسمية ، فقد يقال: أكذبني فلان ، إذا سماني كاذباً ، وأضلني ، إذا سماني ضالا . قال الشاعر (1) :

وطائفة قد أكفروني بحبكم *** وطائفة قالوا مسيء ومجرم (2)

الآية الثانية

قوله سبحانه :

(وأكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، إنا هدنا إليك ، قال عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون) . الأعراف: 156

(المواضع المسؤول عنها من هذه الآية).

الذي يسأل عنه من معانيها :

ص: 289


1- هو الكميت بن زيد الأسدي من ألمع شعراء الدولة الأموية وكان عالما بلغات العرب وأيا مهم خص أكثر شعره في مديح أهل البيت (ع) وأفضله الهاشميات المشهورة توفي سنة 126ه
2- هو مذنب لا مجرم ، وهو من قصيدته البائية التي أولها: طربت وما شوقا إلى البيت أطرب *** ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

قوله : (إنا هدنا إليك) وما في معناه في اللغة .

وقوله: (عذابي أصيب به من أشاء) فهو مما ينتسب به المجبرة .

وقوله : (ورحمتي وسعت كل شيء) فقد قال بعض الملحدة : إذا كانت رحمته وسعت كل شيء ، فكيف لم تسع الكافر الذي لم يرحمه ؟

الجواب.

أما قوله : (هدنا إليك) فمعناه تبنا إليك.

وأما قوله : (عذابي أصيب به من أشاء) فالكلام فيه كالكلام في الضلال والهدى ، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما يستدل به على أنه تعالى لا يشاء أن يعذب إلا من عصي.

وأما قوله : (ورحمتي وسعت كل شيء) ففيه وجهان .

أحدهما: أن نعمة سبحانه في الدنيا قد شملت الخلائق ووسعت العباد ، وسيكتبها في الآخرة للذين يتقون ويكونون على ما نعته من الصفات.

والوجه الآخر إنه أراد يقول وسعت كل شيء ، أن رحمته تسع الخلائق لو دخلوها ، ولا تقصر عنهم لو عملوا لها ، غير أنه لا يكتبها إلا لمن اتقى وفعل الحسنی.

الآية الثالثة

قوله الله تعالى :

(الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، فالذين آمنوا به وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف: 157

المواضع المسؤول عنها من هذه الآية

منها قوله تعالى : ( النبي الأمي) فقد ظن قوم أنه أراد بذلك عدم علمه بالخط.

ص: 290

ومنها قوله تعالى : (ويضع عنهم إصرهم) ما هذا الإصر والأغلال التي كانت عليهم؟

ومنها قوله : ( الذين آمنوا به وعزروه ونصروه ) فقد تأول قوم ذلك في أبي بكر وعمر وعثمان .

ومنها : النور الذي كان معه (ع) ما هو؟ ليقع العلم به .

الجواب:

أما قوله سبحانه (الأمي) فإنما نسبه إلى أم القرى وهي مكة ، قال الله تعالى : (لتنذر أم القرى ومن حولها).

وأهلها هم الأميون ، قال الله تعالى :

(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) الجمعة : 2

وهذا كاف في إبطال ما ظنوه.

وأما الإصر ههنا [ف] هو الثقل ، والإثقال التي كانت عليهم ، والأغلال يحتمل أن تكون الذنوب التي اقترفوها في حال الكفر والضلال، فأخبر الله سبحانه أنه يضعها عنهم إذا آمنوا به وبرسوله عليه وعلى آله السلام.

وأما قوله : (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون).

فهو مدح لمن كان على هذه الصفات، وليس فيه تسمية لأحد يزول معها الأشكال ، ولا على ما ادعاه المخالفون في ذلك دليل إجماع.

ومن سبر الأخبار واطلع في صحيح السير والآثار ، علم أن أبا بكر وعمر وعثمان معرون من هذه الصفات.

وهذا باب يتسع فيه الكلام، والواجب مطالبة من إدعى أن هذه الآية فيهم، بدليل على دعواه يصح بمثله الإحتجاج. فأما الآية نفسها فلا تدل على ذلك.

وأولى الأشياء أن يكون المدح فيها للذين حصل الاتفاق على استحقاقهم ما

ص: 291

تضمنته من الصفات ، ممن لا ريب في صحيح إيمانهم ، وعالي نصرتهم وجهادهم . من أهل البيت عليهم السلام ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب، ومن الصحابة الأخبار والنجباء الأطهار ، زید بن حارثة ، وخباب ، وعمار بن یاسر ، وسعد بن معاذ، والمقداد ، وسلمان ، وأبوذر ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو الهيثم ابن التهيان، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وإبنا سهل وعثمان ، ومن في طبقتهم من أهل الإيمان ، رحمة الله عليهم أجمعين .

وأما النور الذي أنزل معه فهو القرآن ، ولم يسم بذلك لأن فيه أجساما من الضياء، لكن لما يتضمنه من الحجج والبيان الذي يستنار به في شريعة الإسلام.

وقد سماه الله تعالی نوراً في موضع آخر فقال :

« قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين » المائدة : 15

وقال أيضا:

« إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور » المائدة : 46

ولم يرد أن فيها أجساما من الضياء ، وإنما أراد ما ذكرنا .

فهذا مختصر من الكلام في معاني هذه الآيات ، والحمد لله الموفق للصواب وصلى الله على خيرته من خلقه محمد رسوله وآله.

ووجدت في بعض الأناجيل مكتوباً :

إن المسيح (ع) قال: وحقا أقول ، لست الشارب مما لفظته الكروم حتى أشرب ذلك غدا في الملكوت »

وفي هذا على النصاری حجتان:

إحدهما إن المسيح (ع) كان لا يشرب الخمر ، وهو خلاف ما رووه عنه من قوله في لحم الخنزير والخمر :

« هذا لحمي فكلوه ، وهذا دمي فاشربوه ».

ص: 292

والحجة الأخرى أن في الجنة شرباً ، وإذا كان فيها شرب كان فيها أكل ، وليست تذهب النصارى إلى هذا.

فأما روايتهم عنه (ع) [ أنه ] قال :

« هذا لحمي فكلوه ، وهذا دمي فاشربوه » فإنه يحتمل وجها من التأويل ، ويكون معناه التهديد ، وإن كان بلفظ الأمر ، كما يقول أحدنا لمن يتهدده : أعمل ما شئت ، وهو لا يريد أمره

ويقوي هذا التأويل ما تضمنه الخبر عن قوله:

هذا لحمي وهذا دمي . ونحن نعلم أن لحمه ودمه محرمان ، فيصح بما ذكرناه من أن المراد بالخبر التهديد .(1)

وأعلم أنا لم نتأول هذا الخبر توقفا عن رده، وإنا لنعلم أنهم متهمون فيما یروون. وإنما تأولناه تصرفاً في النظر وإقامة الحجة على الخصم. فأما ما في القرآن من التهديد الذي هو بلفظ الأمر فواضح. أحدها قول الله سبحانه لابليس:

« إجلب عليهم بخيلك ورحلك وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً» الإسراء : 64

وقوله تعالى :

« أعملوا ما شئتم أنه بما تعملون بصير ، فصلت : 40

مسألة:

إن سأل سائل عن قول الله تعالى في موضع من ذكر موسی (ع):

«وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولي مدبراً ولم يعقب » النمل : 10.

وعن قوله في موضع آخر :

ص: 293


1- وبعبارة أوضح أن المراد به هو الزجر عنهما ، على معنى إن ساغ لكم أكل لحمي فكلوا لحم الخنزير ، وإن ساغ لكم شرب دمي فاشربوا الخمر .

« فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين » الشعراء : 32

وقال: ما معنى هذا الإختلاف في وصف العصا، وقد أخبر في إحدى الآيتين، أنها كانت کا لجان وکالجان الحية الصغيرة ، وذكر في الآية الأخرى أنها ثعبان مبين ، والثعبان الحية العظيمة، فكيف تكون في خبر واحد بهاتين الصفتين المتباينتين؟

جواب: قلنا قد أجيب عن هذا السؤال بأن موسی (ع) لما ألقى العصا جعلها الله تعالى على صفة الجان في سرعة حركتها وقوتها وكثرة نشاطها ، وعلى صفة الثعبان في عظم خلقها وهول منظرها وكبر جسمها، فاجتمع فيه الوصفان لها ، فلیس تشبيهها لها بالجان في إحدى الآيتين بموجب أن يكون لشبهه في جميع صفاته ، ولا تشبيهة لها بالثعبان في الآية الأخرى بدليل على أنها تماثله في سائر حالاته. وعلى هذا الجواب لا تباين في الآيتين بحمد الله ومنه.

ووجه آخر

وقد أجيب عن ذلك بجواب آخر ، وهو أن الآيتين ليستا خبراً عن حالة واحدة ، بل لكل واحدة منهما حال منفردة .

فالحال التي كانت العصا فيها كأنها جان كانت في ابتداء النبوة، وقبل مصير موسی (ع) إلى فرعون مؤدياً للرسالة .

والحال التي صارت العصا فيها ثعباناً كانت عند لقائه وإبلاغه الرسالة . وعلى هذا تدل التلاوة. ولم يبق في المسألة شبهة . والمنة لله.

فصل:

وروي في الحديث أن فضال بن الحسن بن فضال الكوفي مر بأبي حنيفة وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقه حديثه ، فقال فضال لصاحبه كان معه ! والله لا أبرح حتى أخجل أبا حنيفة .

ص: 294

فقال صاحبه : إن أبا حنيفة من قد علمت حاله وظهرت حجته .

فقال فضال: هل علت حجة على المؤمن ؟

ثم دنا منه فسلم عليه وقال: يا أبا حنيفة يرحمك الله إن لي أخاً يقول : إن خير الناس بعد رسول الله (ص) علي بن أبي طالب ، وأنا أقول: أبو بكر وبعده عمر ، فما تقول أنت يرحمك الله ؟

فأطرق أبو حنيفة مليا ثم رفع رأسه فقال:

كفى بمكانهما من رسول الله (ص) كرماً وفخراً، أما علمت أنهما ضجيعاه ، فأي حجة أوضح لك من هذا؟

فقال له فضال: إني قد قلت لأخي هذا فقال: والله لإن كان الموضع لرسول الله (ص) دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما، وإن كان لهما فوهبا لرسول الله (ص) لقد أساءا وما أحسنا في ارتجاعهما هبتهما ونكثهما عهدهما .

فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال : لم يكن لهما خاصة ، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة ، فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحق ابنتيهما.

فقال فضال: قد قلت له ذلك فقال: أنت تعلم أن النبي (ص) مات عن تسع ، فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن ، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك ، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله (ص)، وفاطمة ابنته تمنع الميراث.

فصاح أبو حنيفة : يا قوم نحوه عني فإنه رافضي (1)

فصل:

حدثني الحسين بن محمد بن علي الصيرفي قال حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عمر المعروف بالجعابي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن سلمان بن محبوب قال: حدثنا أحمد بن عيسى الحربي قال: حدثنا إسماعيل بن يحيى عن ابن جريح عن

ص: 295


1- هذا مذكور في الفصول المختارة ج1 ص42 - 43. وتجده أيضا في احتجاج الطبرسي ص207 أنظر البحار ج47 ص400هامش.

عطا عن ابن عباس قال كان النبي (ص) ليلة بدر قائماً يصلي ويبكي ويستعبر ويخشع ويخضع کاستطعام المسكين ويقول:

اللهم أنجز لي ما وعدتني ويخر ساجدا ويخشع في سجوده ويكثر التضرع ، فأوحى الله تعالى إليه : قد انجزنا وعدك ، وأيدناك بابن عمك علي ، ومصارعهم على يديه ، وكفيناك المستهزئين به. فعلينا فتوكل ، وعليه فاعتمد ، فأنا خير من توكلت عليه ، وهو أفضل من اعتمد عليه.

وحدثني القاضي أبو الحسن أسد بن ابراهيم السلمي الحراني نزيل بغداد قال: أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي الخطيب ، قال : قرأت على الحسن بن أحمد البالسي [ حدثكم] (1) أبو أمية محمد بن ابراهيم قال : حدثنا أبو عاصم النبيل عن أبي الجراح عن جابر بن صبيح عن أم سر حيل عن أم عطية إن رسول الله (ص) ، بعث عليا عليه السلام في سرية [قالت] فرأيته رافعا يده يقول: اللهم لا تمتني حتى تريني علياً» .

و باسناده عن العتكي قال: حدثني سعيد بن محمد قال: أخبرنا محمد بن عبد الحضري قال: حدثنا عباد بن يعقوب قال: حدثنا علي بن عابس عن الحارث بن حميرة عن القاسم بن جندب قال : سمعت رجلا من خثعم يقول:

سمعت أسماء بنت عمیس قالت : رأيت رسول الله (ص) بثبير وهو يقول :

أشرق ثبير ، اللهم إني أسألك بما سألك به أخي موسى أن تشرح لي صدري وأن تيسر لي من أمري، وأن تحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ، وأن تجعللي وزيرا من أهلي ، عليا أخي ، أشدد به أزري وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيرا.

وبإسناده أيضا عن العتكي قال أخبرني محمد بن صفوة قال: حدثني الحسن ابن علي العلوي قال: حدثني أحمد بن العلاء قال: حدثنا صباح بن يحيى المري

ص: 296


1- هكدا في النسخة .

قال: حدثني خالد بن يزيد عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عن الحسين بن علي عن أبيه عليهم السلام ، قال : قال رسول الله (ص) يوم الأحزاب::

« اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحرث يوم بدر وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا أخي علي بن أبي طالب ، رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين»(1)

فصل:

روى في الحديث أنه لما أتت الأحزاب وحاصرت المدينة وأقامت عليها بضعاً وعشرين ليلة ، طاف المشركون بالخندق فلم يكن منهم من يقدم عليه غير عمرو بن عبدود، فإنه ضرب فرسه فعبر به عرضه وحصل في حيز المدينة فأخذ يزمجر في ممره ومجيئه على رسول الله (ص)، وينادي بالبراز ولا يجيبه أحد ، فقال رسول الله (ص) لأصحابه وهم مطیفون به : أيكم برز إلى عمرو أضمن له على الله الجنة ، فلم يجبه منهم أحد .. هيبة لعمرو واستعظاماً لأمره . فقام علي بن أبي طالب (ع) فقال له إجلس ، ونادى أصحابه دفعة أخرى فلم يقم منهم أحد، والقوم ناکسوا رؤوسهم، فقام علي بن أبي طالب (ع) فأمره بالجلوس، ونادي الثالثة ، فلما لم يجبه أحد سواه ، استدناه وعممه بيده وأمره بالبروز إلى عدوه ، فتقدم إليه ، ورسول الله (ص) يقول: « برز الإيمان كله إلى الشرك كله »

وكان عمرو حينئذ يرتجز ويقول:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجاع *** موقف الخصم المناجز

إني كذلك لم أزل *** متسرعاً نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى *** والجود من كرم الغرائز

فتقدم إليه أمير المؤمنين صلى الله عليه وهو يقول:

ص: 297


1- روي بعضه في منتخب الكنز ص35 أنظر حياة أمير المؤمنين ص 245

لا تعجلن فقد أتاك *** مجیب صوتك غير عاجز

ذو نیة وبصيرة *** والصدق منجی کل فائز

إني لأرجو أن تقوم *** عليك نائحة الجنائز

من طعنة نجلاء يبقى *** ذكرها بين الهزاهز (1)

ثم جادله في كان بأسرع من أن صرعه أمير المؤمنين وجلس على صدره ، فلا هم أن يذبحه، وهو يكبر الله ویحمده قال له عمرو:

يا علي ، قد جلست مني مجلسا عظيما ، فإذا قتلتني فلا تسلبني حليتي . فقال له أمير المؤمنين (ص): هي أهون على من ذلك ، وذبحه وأتي برأسه ، وهو يتبختر في مشيته ، فقال عمر : ألا ترى يا رسول الله إلى علي ، كيف يتيه في مشيته ، فقال رسول الله (ص) : إنها مشية لا يمتقها الله في هذا المقام.

ثم نهض رسول الله (ص) إلى أمير المؤمنين (ع) فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه ، فرمی الرأس بين يديه ، فقال رسول الله (ص) ما منعك من سلبه ؟ قال : یارسول الله خفت أن يلقاني بعورته ، فقال النبي (ص) : إبشر يا علي ، فلو وزن اليوم عملك بعمل جميع أمة محمد لرجح عملك على عملهم. وذلك أنه لم يبق بيت من المشركين إلا وقد دخله ذل من فتل عمرو ، ولم يبق بیت من المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو ، فأنشأ أمير المؤمنين يقول:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه *** ونصرت رب محمد بصواب

فضربته وتركته متجدلا ***ً كالنسر فوق دکادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني *** كنت المقطر بزني أثوابي

ص: 298


1- روي ذلك أبو جعفر الإسكاني في نقضه العثمانية للجاحظ أنظر : رسائل الجاحظ ص 64-65 وأنظر : فضائل الخمسة ج2 ص320 - 323 فقد روى شیئا منه عن مستدرك الصحيحين وغيره .

لا تحسبن الله خادال دینه *** ونبيه يا معشر الأحزاب (1)

ولما قتل علي (ص) عمراً سمع مناديا ينادي لا يرى شخصه:

قتل علي عمراً ، قصم علي ظهراً، أبرم علي أمراً.

ووقعت الجفلة بالمشركين فانهزموا أجمعين، وتفرقت الأحزاب خائفين مرعوبین .

فروي عن جابر رحمه الله أنه قال : ما شبهت قتل علي عمراً إلا بما قصه الله تعالى في أمر داود وجالوت، حيث يقول « فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت. (2)

فصل من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وحكمه

العفاف زينة الفقر ، الشكر زينة الغني ، الصبر زينة البلاء ، التواضع زينة الحسب ، الفصاحة زينة الكلام ، العدل زينة الأمارة ، السكينة زينة العبادة ، الحفظ زينة الرواية ، خفض الجناح زينة العلم ، حسن الأدب زينة العقل ، بسط الوجه زينة الحلم، الايثار زينة الزهد ، بذل المجهود زينة المعروف، الخشوع زينة الصلاة ، ترك ما لا يعني زينة الورع.

جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين : أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:

أعبد الناس من أقام الفرائض.

وأزهد الناس من اجتنب المحارم. وأسخي الناس من أدى زكاة ما له وأتقي الناس من قال الحق فيما له وعليه .

ص: 299


1- روى هذه الأبيات الطبرسي في إعلام الوری ص100-101 وأنظر : الإرشاد للمفيد ص 45 و47
2- أنظر: المصدر ص 196 والإرشاد ص 47.

وأعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه ، وكره لهم ما يكره لنفسه .

وأكيس الناس من كان أشد ذكراً للموت.

وأغبط الناس من كان في التراب في أمن من العقاب یرجو الثواب.

وأغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال .

وأعظم الناس خطراً من لم يجعل للدنيا عنده خطراً.

وأعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه .

وأشجع الناس من غلب هواه.

وأكثر الناس قيمة أكثرهم علماً.

وأقل الناس قيمة أقلهم علماً.

وأقل الناس لذة الحسود .

وأقل الناس راحة البخيل.

وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عز وجل عليه .

وأولى الناس بالحق أعلمهم به .

وأقل الناس حرمة الفاسق.

وأقل الناس وفاء الملوك.

وأفقر الناس الطمع.

وأغنى الناس من لم يكن للحرص أسيراً .

وأكرم الناس أتقاهم .

وأعظم الناس قدراً من ترك المراء وإن كان محقا .

وأقل الناس مروءة من كان كاذبا .

وأمقت الناس المتكبر .

وأشد الناس اجتهاداً من ترك الذنوب.

وأسعد الناس من خالط کرام الناس .

وأعقل الناس من أشد هم تهمة للناس.

وأولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة.

وأبغى الناس من قتل غير قاتله ، أو ضرب غير ضاربه .

ص: 300

وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة .

وأحق الناس بالذنب المغتاب.

وأذل الناس من أهان الناس .

وأحزم الناس أكظمهم للغيظ .

وأصلح الناس أصلحهم للناس.

وخير الناس من انتفع به الناس .(1)

وروى أن هذه الأبيات لأمير المؤمنين عليه السلام:

تخذتكم درعاً حصيناً لتدفعوا *** سهام العدى عني فكنتم نصالها

فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي *** ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها

قفوا موقف المعذور عني بجانب *** وخلوا نبالي للعدى ونبالها

وأنشدني الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن أحمد الموسوي:

كنا نعظم بالآمال بعضهم*** ثم انقضت فتساوى عندنا الناس

لم تفضلونا بشيء غير واحدة *** هي الرجاء فسوی بیننا الياس

وأنشد ابراهيم بن العباس كتبه إلى محمد بن عبد الملك .(2)

أخي بيني وبين الد *** هر صاحب أينا غلبا

صديقي استقام فإن *** نبا دهر علي نبا

وثبت على الزمان به*** فعاد به وقد وثبا

ولو عاد الزمان لنا *** لطار به أخا دبا

ص: 301


1- شطر من هذه الكلمات تجده في نهج البلاغة باب الحكم والأمثال وغيرها وقد رواها الصدوق في الأمالي ص 18 - 19
2- هو أبو إسحاق ابراهيم بن العباس بن محمد بن صول توفي سنة (242 ه) شاعر مجيد وأديب كبير من شخصيات الشيعة وله مدائح عدة في الإمام الرضا وأهل البيت واضطر - تقية - لأن يحرق كل شعره بهم، وديوان شعره نشره عبد العزيز الميمني ضمن مجموعة الطرائف سنة 1937 م وتجد بعض اخباره في عيون أخبار الرضا، ص 148

وله أيضا فيه :

كنت أخي بإخاء الزمان فلما *** جفا بنا صرت حربا عوانا

كنت أذم إليك الزمان فأص *** بحت فيك أذم الزمانا

فكنت أعدك للنا نبات *** فأصبحت أطلب منك الأمانا

وله أيضا فيه:

قدرت فلم تضرر عدواً بقدرة ***وسمت به إخوانك الذل والرغما

وكنت مليا بالتي قد يعافها ***من الناس من يأبي الدنية [ والذما ](1)

مسألة:

إمرأة جامعها ستة نفر في يوم واحد ، فوجب على أحدهم القتل ، وعلى الثاني الرجم، وعلى الثالث الجلد ، وعلى الرابع نصف الجلد ، وعلى الخامس التعزير ، ولم يجب على السادس شيء.

الجواب:

كان أحدهم ذمياً ، فوجب عليه القتل ، وكان الآخر محصناً مسلما فوجب عليه الرجم ، وكان الآخر بكراً فوجب عليه الجلد ، وكان الآخر عبداً فعليه نصف الجلد ، وكان الآخر صبياً، فعليه التعزير ، وكان الآخر زوجاً فليس عليه شيء .

ص: 302


1- في النسخة والوفا.

مسألة أخرى :

رجل له جارية يملك جميعها ليس لأحد معه نصيب ، لا يحل له جماعها حتى يجامعها غيره .

جواب:

هذا رجل كان زوجاً لهذه الجارية ثم ابتاعها من سيدها ، وقد كان طلقها تطليقين فلا تحل له حتى تنکح زوجا غيره(1).

مسألة أخرى:

إمرأة ولدت على فراش بعلها ببغداد ، فلحق نسبه بر جل ببصرة ، فلزمه دون صاحب الفراش ، من غير أن يكون شاهد المرأة أو عرفها ، أو عقد عليها ، أو وطأها حلالا أو حراماً ؟.

جواب:

هذه امرأة بكر وقعت عليها ثيب في حال قد قامت فيها من جماع زوجها ، فحولت نطفة الرجل إلى فرجها فحملت منه ، ومضى على ذلك تسعة أشهر ، فتزوجت البكر في آخر التاسع بر جل ودخلت عليه في ليلة العقد ، فولدت على فراشه ولداً تاماً ، فأنكر الزوج ذلك وقررها على ضمها فاعترفت بما ذكرناه ، وأقرت الفاعلة أيضا ، فلحق الولد بصاحب النطفة على ما حكم به الحسن بن علي عليها السلام، في أثر مذکور . (2)

ص: 303


1- هذا وارد على رأي الإمامية القائلين بالتحريم بطلقتين للأمة حتى تنکح زوجا غيره وأن المدار في التحريم هو حال المطلقة الزوجة فإن كانت حرة فلا تحرم إلا بثلاث طلقات وإن كان الزوج عبداً مملوكاً ، وإن كانت أمة فإنها تحرم على تطليقتين وإن كان زوجها المطلق حرا، ويدل عليه صراحة صحيحة الحلي عن الصادق (ع) قال: طلاق الحرة إذا كانت تحت العبد ثلاث تطلیقات ، وطلاق الأمة إذا كانت تحت الحر تطليقتان وبمضمونها صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (ع) وغيرهما. ويرى بعض السنة أن الاعتبار بحال الزوج إن كان حراً فلا تحرم إلا بالثلاث وإن كانت أمة وتحرم باثنتين إذا كانت حرة وهو عبد.
2- تجده ذلك في مناقب أبي طالب ج 3 ص 177.

فصل في الوعظ والزهد :

اشارة

قيل لبعضهم: كيف حالك؟

قال: كيف حال من يغني ببقائه ، ويسقم بسلامته ، ويؤتى من مأمنه(1).

وقيل لبعض حکماء العرب:

من أنعم الناس عيشاً ؟

فقال : من تحلى بالعفاف، ورضي : بالكفاف، وتجاوز ما بخاف إلى ما لا يخاف.

قيل : فمن أعلمهم؟

فقال : من صمت فادكر ، ونظر فاعتبر ، ووعظ فازدجر .

وروي : أن الله تعالى يقول:

يا ابن آدم، في كل يوم يؤتي رزقك وأنت تحزن ، وينقص عمرك وأنت لا تحزن ، تطلب ما يطغيك ، وعندك ما يكفيك.

وقيل: أغبط الناس من اقتصد فقنع، ومن قنع فك رقبته من عبودية الدنيا وذل المطامع .

وقيل : الفقير من طمع ، والغني من قنع.

وقيل : من كان له من نفسه واعظ ، كان عليه من الله حافظ.

وقيل : لا يزال العبد بخير ما دام له واعظ من نفسه ، وكانت المحاسبة من همه .

ووعظ رجل فقال:

عباد الله ، الحذر الحذر، فوالله لقد ستر ، حتى كأنه قد غفر ، ولقد أمهل حتى كأنه قد أهمل (2).

ص: 304


1- هذه الكلمة للإمام علي (ع) وهي مذكورة في النهج في القسم الثالث رقم 115.
2- هذه الكلمة لأمير المؤمنين علي عليه السلام وهي مذكورة في النهج في الباب الثالث رقم 29.

وقيل : العجب لمن يغفل وهو يعلم أنه لا يغفل عنه ، وأن يهنئه عيشه وهو لا يعلم إلى ماذا يصير أمره.

وقيل : إن للباقي بالفاني معتبر ، أو للآخر بالأول مزدجر، فالسعيد لا یر کن إلى الخدع ، ولا يغتر بالطمع.

قال آخر : كيف اذخر عملي ولست أدري متى يحل أجلي ؟ أم كيف تشتد حاجتي إلى الدنيا ، وليست بداري؟ أم كيف أجمع وفي غيرها قراري، أم كيف لا أمهد لرجعتي قبل انصراف مدتي ؟

وقال عمر بن الخطاب لأبي ذر الغفاري: عظني . قال له : ارض بالقوت ، وخف الفوت، وأجعل صومك الدنيا ، وفطرك الموت.

وقال آخر: عجباً لمن تكتحل عينه بر قاد ، والموت ضجيعها على وساد .

وقال آخر : نظرنا فوجدنا الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب

وقال آخر: عجبي لمن يحتمي من الطيبات مخافة الداء، ولا يحتمي من الذنوب مخافة النار.

وقيل : كيف يصفو عیش من هو عما عليه ، مأخوذ بما لديه ، محاسب على ما وصل إليه.

وقال آخر: عجبا لمن يقصر عن الواضحة ، وهو يعمل بالفاضحة.

وقيل : إذا زللت فارجع ، وإذا أذنبت فاقلع، وإذا أسأت فاندم، وإذا ائتمنت فاکتم.

وقال المسيح عليه السلام:

تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل ، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بعمل.

وقال عليه السلام : إذا عملت الحسنة فاله عنها ، فإنها عند من لا يضيعها ، وإذا عملت السيئة فاجعلها نصب عينيك .

ص: 305

وقيل لحكيم: لم تد من إمساك العصا ، ولست بكبير ولا مريض؟ قال لأعلم أني مسافر .

وقيل: من أحسن عبادة الله في [شبيته] في النسخة مشینه . لقاه الله الحكمة في بلوغه أشده ، وذلك قوله سبحانه :

«ولما بلغ أشده أثنياه حكا وعلما ، وكذلك نجزي المحسنين ». سورة يوسف : 22

ولا بأس أن يعذل المقصر المقصر ، قال بعضهم : لا يمنعكم معاشر السامعين سوء ما تعلمون منا، أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا.

قال الخليل بن أحمد: اعمل بعلمي ، ولا يضرك تقصيري. نعوذ بالله أن يكون ما علمنا حجة علينا لا لنا.

أنظر يا أخي لنفسك، ولا تكن ممن: جمع علم العلماء ، وطرائف الحكماء ، وجرى في العمل مجرى السفهاء .

حدثني الحسين بن محمد بن علي الصيرفي ، قال حدثني أبو بكر محمد بن علي الجعابي ، قال حدثنا أبو محمد القاسم بن محمد بن جعفر العلوي ، قال حدثني أبي عن أبيه ، عن آبائه عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله (ص):

«للمسلم على أخيه ثلاثون حقا ، لا براءة له إلا الأداء أو العفو: يغفر زلته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلته ، ويرعی ذمته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقيل هديته ، ويكافيء صلته ، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته ، ويشفع مسألته ، ويسمت عطسته ، ويرشد ضالته ، ويرد سلامه ، ويطيب كلامه ، ويبر انعامه ، ويصدق أقسامه ، ويوالي وليه ، ويعادي عدوه ، وينصره ظالماً و مظلوماً ، فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ، ولا يسلمه ، ولا يخدله ، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه »

ص: 306

ثم قال عليه السلام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا، يطالبه به يوم القيامة، فيقضي له وعليه ...(1).

وحدثني القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي ، قال : حدثنا أبو زيد عمرو بن أحمد العسكري بالبصرة، قال: حدثنا أبو أيوب ، قال : حدثنا أحمد بن الحجاج ، قال : حدثنا ثوبان بن إبراهيم عن مالك بن مسلم عن أبي مريم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) قال:

«تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين : يوم الاثنين ، ويوم الخميس ، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا من كانت بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا ...

مسألة فقهية لأبي النجا:

أتعرف من قد باع من مهر أمه ***أباه فوفاها بحق صداقها

وكانت قديما أشهدت كل من رأت *** بأن أباه قد أبت طلاقها

الجواب:

إذا أنت عقدت المسائل ملغزاً*** أتتك جوابات تحل وثاقها

تزوج عبد حرة أنجبت فتي *** وصادفه قول أبان فراقها

فأنكحها مولاه من بعد رغبة*** لما قد رأى منها وأسنى صداقها

ص: 307


1- رواه الشهر الثاني زين الدين العاملي الجبعي في آخر رسالته في الغيبة المطبوعة مع كشف الفوائد وحقائق الإيمان وأسرار الصلاة ص 260 - 261 - بسنده عن الكراجكي المؤلف.

فوكلت إبن العبد في قبض مهرها *** وأفلس مولاه وأبدى عتاقها

فباع الوكيل العبد بالحكم إذ رأى ***هوى أمه في بيعها وارتفاقها

تفسير الجواب:

هذه امرأة حرة، فتزوجت عبداً، فولدت منه ابناً، ثم طلقها العبد ،فأنكحها مولاه بصداق مسمى، فوكلت ابنها من العبد بقبض مهرها ، وفلس المولى ، فقضي لها العبد في واجبها ، فوكلت ابنها في بيعه لاستیفاء صداقها .

فصل في ذكر مجلس جرى لي ببليس

*فصل في ذكر مجلس جرى لي ببليس (1):

حضرت في سنة ثماني عشرة وأربعماية مجلسا ، فيه جماعة ممن يجب استماع الكلام، ومطلع نفسه فيه إلى السؤال، فسألني أحدهم ، فقال : كيف يصح لكم القول بالعدل(2) والإعتقاد بأن الله تعالى لا يجوز عليه الظلم ؟ مع قولكم أنه سبحانه يعذب الكافر في يوم القيامة بنار الأبد، عذابا متصلا غير منقطع ، وما وجه الحكمة والعدل في ذلك؟

وقد علمنا أن هذا الكافر وقع منه كفرة في مدة متناهية ، وأوقات محصورة، وهي ماية سنة في المثل ، وأقل وأكثر ، فكيف جاز في العدل عذابه أكثر من زمان كفره؟

وألا زعمتم أن عذابه متناه كعمره، ليستمر القول بالعدل، وتزول مناقضتكم لما تنفون عن الله تعالى من الظلم.

ص: 308


1- بلبيس بكسر البانين وسكون اللام وياء وسين مهملة مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق التام، كان يسكنها عبس بن بغيض ، فتحت سنة 19/18 ه على يد عمرو بن العاص، وقال: جزى عرباً ببلبيس ربها*** بمسعاتها تقرر بذاك عيونها كراكر من قيس بن عيلان ساهراً*** جفون ظباها للعلى وجفونها كذا ذكره ياقوت في المعجم م اس 479
2- في النسخة بالقول

الجواب:

فقلت له : سألت فافهم الجواب.

اعلم أن الحكمة لما اقتضت الخلق والتكليف ، وجب أن يرغب العبد فيها أمره به من الإيمان بغاية الترغيب ، ويز جره عما نهى عنه في الكفر بغاية التخويف والترهيب ، ليكون ذلك أدعى له إلى فعل المأمور به ، وأزجر له عن ارتكاب المنهي عنه .

وليس غاية الترغيب إلا الوعد بالمعيم الدائم المقيم ، ولا يكون غاية التخويف والترهيب ، إلا التوعيد بالعذاب الخالد الأليم.

وخلف الخبر كذب ، والكذب لا يجوز على الحكيم. فبان بهذا الوجه، أن تخليد الكافر في العذاب الدائم ، ليس بخارج عن الحكمة، والقول به مناقض للأدلة.

فقال صاحب المجلس:

قد أتيت في جوابك بالصحيح الواضح، غير أنا نظن بقية في السؤال ، تطلع نفوسنا إلى أن نسمع عنها الجواب ، وهي:

أن الحال أفضت إلى ما ينفر (1) منه العقل ، وهو أن عذاب أوقات غير محصورة، يكون مستحقاً على ذنوب مدة متناهية محصورة.

فقلت له : أجل، إن الحال قد أفضت إلى أن الهالك على كفره ، يعذب بعذاب تقدير زمانه أضعاف زمان عمره ، وهذا هو السؤال بعينه . وفي مراعاة ما أجبت به عنه بيان أن العقل لا يشهد به ، ولا ينفر منه. على أنني آتي بزيادة في الجواب مقنعة في هذا الباب.

فأقول: إن المعاصي تتعاظم في نفوسنا على قدر نعم المعصي بها. ولذلك عظم عقوق الولد لوالده لعظم إحسان الوالد عليه ، وجلت جنايه العبد على سیده ، لجليل إنعام السيد عليه . فلما كانت نعم الله تعالى أعظم قدراً ، وأجل أثراً من أن توفي بشكر ، أو تحصى بحصر ، وهي الغاية في الإنعام ، الموافق

ص: 309


1- في النسخة: ينفرد .

لمصالح الأنفس والأجسام، كان المستحق على الكفر به ، وحجده إحسانه ونعمه ، هو غاية الآلام، وغايتها هو الخلود في النار .

فقال رجل ينتمي إلى الفقه كان حاضراً:

قد أجاب صاحبنا الشافعي عن هذه المسألة بجوابين، هما أجلى وأبين مما ذكرت.

قال له السائل : وما هما؟

قال : أما أحدهما فهو أن الله سبحانه ، كما ينعم في القيامة [على ] من وقعت منه الطاعة في مدة متناهية بنعيم لا آخر له ولا غاية ، وجب قياسا على ذلك أن يعذب من وقعت منه المعصية في زمان محصور متناه ، بعذاب دائم غير منقض ولا متناه.

قال : والجواب الآخر، أنه خلد الكفار في النار لعلمه أنهم لو بقوا أبدا لكانوا كفاراً.

فاستحسن السائل هذين الجوابين منه استحسانا مفرطاً، إما لمغايظتي بذلك ، أو لمطابقتها ركالة فهمه.

فقال صاحب المجلس : ما تقول في هذين الجوابین؟

فقلت: اعفني من الكلام ، فقد مضى في هذه المسألة ما فيه كفاية .

فأقسم علي وناشدني .

فقلت: إن المعهود من الشافعي والمحفوظ منه كلامه في الفقه وقياسه في الشرع.

أما أصول العبادات والكلام في العقليات فلم تكن من صناعته .

ولو كانت له في ذلك بضاعة لاشتهرت، إذ لم يكن خامل الذكر .

فمن نسب إليه الكلام فيما لا يعلمه على طريق القياس والجواب ، فقد سبه ، من [حيث] أن فساد هذين الجوابين لا يكاد يخفي عمن له أدني تحصيل.

أما الأول منها وهو مماثلته بين إدامة الثواب والعقاب، فإنه خطأ في العقل والقياس ، وذلك أن مبتدی النعم المتصلة في تقدير زمان أكثر من زمان

ص: 310

الطاعة ، إن لم يكن ما يفعله مستحقاً، كان تفضلا ، ولا يقال للمتفضل المحسن :

لم تفضلت وأحسنت ، ولا للجواد المنعم، لم جدت وأنعمت.

وليس كذلك المعذب على المعصية في تقدير زمان زائد على زمانها ، لأن ذلك إن لم يكن مستحقا كان ظلماً ، تعالى الله عن الظلم. فالمطالبة بعلة المماثلة بين الموضعين لازمة ، والمسألة مع هذا الجواب عما يوجب التخليد قائمة . والعقلاء مجمعون على أن من أعطى زیداً على فعله أكثر من مقدار أجره ، فليس له - قياسا على ذلك - أن يعاقب عمراً على ذنبه بأضعاف ما يجب في جرمه.

وأما جوابه الثاني فهو وإن كان ذكره بعض الناس ، لاحق بالأول في السقوط ، لأنه لو كان تعذيب الله عز وجل للكافر بعذاب الأبد، إنما هو لأنه علم منه أنه لو بقي أبدا كافراً، لكان إنما عذابه على تقدير کفر لم يفعله . وهذا هو الظلم في الحقيقة ، الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه ، لأن العبد [لم](1) يفعل الكفر إلا مدة محصورة.

وقد اقتضى هذا الجواب أن تعذيبه الزائد على مدة كفره هو عذاب على ما لم يفعله.

ولو جاز ذلك لجاز أن يبتدىء خلقا ، ثم يعذبه من غير أن يبقيه ويقدره ، ويكلفه ، إذا علم منه أنه إذا أبقاه ، وأقدره، وكلفه ، كان كافراً جاحداً لانعمه .

وقد أجمع أهل العدل على أن ذلك لا يجوز منه سبحانه ، وهو كالأول بعينه في العذاب ، للعلم بالكفر قبل وجوده ، لا على ما فعله وأحدثه.

وقبحها يشهد العقل به ويدل عليه. تعالى الله عن إضافة القبيح إليه.

فعلم أنه لا يعتبر في الجواب عن هذا السؤال ما أورده هذا الحاكي عن الشافعي ، وأن المصير إلى ما قدمناه من الجواب عنه أولى ، والحمد لله.

ص: 311


1- في النسخة لا يفعل فأثرنا موضعها لم يفعل لأنه الصحیح في المعنى .

فلما سمع المتفقه طعني فيما أورده ، وقولي إن الشافعي ليس من أهل العلم بهذه الصناعة، ولا له فيها بضاعة ، ظهرت إمارات الغضب في وجهه ، وتعذر عليه نصرة ما جاء به ، كما تعذر عليه وعلى غيره ممن حضر ، القدح فيما كنت أجبت به ، فتعمد لقطع ما كنا فيه بحديث ابتداه ، لا يليق بالمجلس ولا يقتضيه.

فبينا نحن كذلك إذ حضر رجل ، كانوا يصفونه بالمعرفة ، وينسبونه إلى الأصطلاح بالفلسفة ، فلما استقر به المجلس، حكوا له السؤال ، وبعض ما جرى فيه من الكلام.

فقال الرجل : هذا سؤال يلزم الكلام فيه ، ويجب على من أقر بالشريعة ، طلب جواب صحیح عنه ، يعتمد عليه .

ثم سألوني الرجوع إلى الكلام والاعادة لما سلف لي من الجواب ، ليسمع ذلك الرجل الحاضر.

فقلت له : ألا سألتم الفقيه إعادة ما كان أورده لعله أن يرضى هذا الشيخ إذا سمعه، وعنيت بالفقيه ، الحاكي عن الشافعي ؟

قالوا: قد تبين لنا فساد ما أجاب به ، ولا حاجة بنا إلى إشغال الزمان بإعادته .

قلت : فأنا مجيبكم إلى الكلام، وسالك غير الطريقة الأولى في الجواب ، لعل ذلك أن يكون أسرع لزوال اللبس ، وأقرب إلى سكون النفس، إن وجدت منكم مع الإستماع حسن إنصاف.

قالوا: نحن مستمعون لك غير جاحدين لحق يظهر في كلامك.

فقلت : كان السؤال عن وجه العدل والحكمة في تعذيب الله عز وجل لمن مات وهو كافر بالعذاب الدائم ، الذي تقدير زمانه لا ينحصر ، وقد وقع من العبد كفره في مبلغ عمره المتناهي.

والجواب عن ذلك:

ص: 312

أن العذاب المجازی به على المعصية ، كائنة ما كانت، لا كلام بيننا في استحقاقه ، وإنا الكلام في اتصاله وانقطاعه.

فلا يخلو المعتبر في ذلك أن يكون هو الزمان الذي وقعت المعصية فيه ومقداره وتناهيه ، [أو] المعصية في نفسها وعظمها من صغرها.

فلو كانت مدة هي المعتبرة ، وكان يجب تناهي العذاب لأجل تناهيها في نفسها ، لوجب أن يكون تقدير زمان العقاب عليها بحسبها وقدرها ، حتى لا يتجاوزها ولا يزيد عليها .

وهذا حكم يقضي الشاهد بخلافه ، ويجمع العقلاء على فساده. فكم قد رأينا فيما بيننا معصية وقعت في مدة قصيرة ، كان المستحق من العقاب عليها يحتاج إلى أضعاف تلك المدة ، ورأينا معصيتين ، تماثل في القدر زمانها، واختلف زمان العقاب المستحق عليهما ، كعبد شتم سیده ، فاستحق من الأدب على ذلك أضعاف ما يستحقه إذا شتم عبداً مثله ، وإن كان زمان الشتمین متماثلاً.

فالمستحق عليهما من الأدب والعقاب يقع في زمان غير متماثل ، ولو لم يكن في هذا حجة إلا ما نشاهده من هجران الوالد أياما كثيراً لولده على فعل ، وقع في ساعة واحدة منه ، مع تصويب كافة العقلاء للوالد في فعله ، بل لو لم يكن فيه إلا جواز حبس السيد فيما بيننا لعبده زماناً طويلا على خطيئته .

وكذلك الأمام العادل لمن يرى من رعیته، لكان فيه كفاية في وضوح الدلالة ، وليس يدفع الشاهد إلا مكابر معاند.

فعلم مما ذكرناه أنه لا يعتبر فيما يستحق على المعصية بقدر زمانها ، ولايجب أن يماثل وقت الجزاء عليها لوقتها .

ووجب أن يكون المرجع إليها نفسها ، فبعظمها يعظم المستحق عليها ، سواء [أ] طال الزمان أو قصر ، اتصل أم انقطع ، وجد فكان محققاً ، أو عدم فكان مقدراً، والحمد لله.

فلما سمع القوم مني هذا الكلام ، وتأملوا ما تضمنه من الإفصاح والبيان، وتمثيلي بالمتعارف من الشاهد والعيان، لم يسعهم غير الإقرار للحق والإذعان

ص: 313

والتسليم في جواب السؤال لما أوجبه الدليل والبرهان .

والحمد لله الموفق للصواب، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين .

زيادة في المسألة:

وقد احتج من نصر الجواب الثاني المنسوب إلى الشافعي بقول الله تعالى :

« ولو ردوا لعادوا نهوا عنه » الأنعام : 28.

وجعل ذلك دلالة على أنه عذابهم بعذاب الأبد ، لعلمه بذلك من حالهم .

وليس في هذه الآية دلالة على ما ظن، وإنما هي مبنية على باطن أمرهم ،ومكذبة لهم فيما يكون في القيامة من قولهم، وما قبل الآية تتضمن وصف ذلك من حالهم ، وهو قوله تعالى سبحانه:

« إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين ، الأنعام : 27 .

فقال الله سبحانه :

« بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم الكاذبون ». الأنعام: 28

هذا : لما تمنوا الرجوع إلى دار التكليف. وليس فيه إخبار بأنه عذبهم لما علمه منهم أن لو أعادهم. حسبنا الله ونعم الوكيل.

فصل:

روي أن إمرأة العزير وقفت على الطريق فمرت بها المواكب حتى مر يوسف (ع) ، فقال :

الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته ، والحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بمعصيته.

وذكروا أن المتمناة ابنة النعمان بن المنذر دخلت على بعض ملوك الوقت ، فقالت: إنا كنا ملوك هذا البلد، يجبي إلينا خراجها ، ويطيعنا أهلها ، فصاح

ص: 314

بنا صائح الدهر ، فشق عصانا وفرق ملانا ، وقد أتيتك في هذا اليوم أسألك ما أستعين به على صعوبة الوقت.

فبكى الملك وأمر لها بجائزة حسنة ، فلا أخذتها أقبلت بوجهها عليه فقالت: إني محييتك بتحية كنا نحي بها، فأصغي إليها فقالت:

شكرتك يد افتقرت بعد غني ، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر ، وأصاب الله بمعروفك مواضعه ، وقلدك المنن في أعناق الرجال ، ولا أزال الله عن عبد نعمة إلا جعلك السبب لردها ، والسلام.

فقال: اكتبوها في ديوان الحكمة .

وروى أن أمير المؤمنين (ع) مر على المدائن فلما رأى آثار کسری وقرب خرابها ، قال رجل ممن معه:

جرت الرياح على رسوم ديارهم*** فكأنهم كانوا على ميعاد .

فقال أمير المؤمنين (ع):

أفلا قلت: « کم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ، ونعمة كانوا فيها فاكهين ، كذلك وأورثناها قوما آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين » الدخان : 26 - 29 (1)

فصل من المقدمات في صناعة الكلام:

إعلم أن المعدوم عندنا ليس بشيء ، ولا يكون الشيء إلا موجوداً .

فإن قال لك قائل: ما الشيء ؟ فقل هو الموجود .

فإن قال: ما الموجود ؟ فقل : هو الثابت العين في الوجود.

فإن قال: ما المعدوم؟ فقل : هو ما خرج بانتقائه عن كونه شيئا .

ص: 315


1- رواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين ح 1 ص143 ، وقال (ع) بعد الآيات: إن هؤلاء لم يشكروا النعمة، فسلبوا دنیاهم بالمعصية ، إياكم وكفر المنعم، لا يحل بكم النقم.

فإن قالوا: ما القديم ؟ فقل : ما ليس لوجوده أول.

فإن قال : ما المحدث ؟ فقل: هو الذي لوجود ، أول.

فإن قال ما الجسم ؟ فقل : هو ذوا الطول والعرض والعمق

فإن قال ما الجوهر ؟ فقل : هو أصغر ما تألفت منه الأجسام .

فإن قال ما العرض؟ فقل : هو العارض في المحل بغير بقاء.

واعلم أن الأعراض عندنا لا تبقى وإنما تتجدد حالا بعد حال ، ولا يوجد العرض عندنا إلا وقتاً واحداً، والموجود وقتاً واحداً ليس بباق ، ولا يوجد شيء من الأعراص إلا في محل.

فإن قال: ما الباقي ؟ فقل هو المستمر الوجود ، فإن أحببت فقل : هو ما وجد وقتين فما زاد.

فإن قال : ما الفاني ؟ فقل : هو ما انعدمت عينه بعد وجوده ، وقد كان يجوز أن لا ينعدم.

فإن قال: ما الاجتماع ؟ فقل : هو محاسن جواهر الأجسام.

فإن قال : ما الإفتراق ؟ فقل : هو مبانیتها .

فإن قال : ما الحركة ؟ فقل هي ما فرغ بالتحرك مكاناً وشغل مكاناً .

فإن قال : ما السكون؟ فقل : هو لبث الجوهر في مكان وقتین فما زاد .

واعلم أن الجوهر إذا لم يكن في مكان فهو ليس بمتحرك ولا ساكن.

فإن قال لك: ما المكان؟ فقل : هو ما أحاط بالمتمكن، فمكان الجوهر ستة أمثاله تحيط به من جميع جهاته ، وصفحة العالم العليا هي مكان للعالم ، ولا مكان لها. ولا يقال في الحقيقة أنها متحركة ولا ساكنة ، وكذلك المستفتح(1) الوجود من الجواهر عندنا وعند أكثر أهل النظر أنه ليس بمتحرك ولا ساكن.

ص: 316


1- العبارة غير واضحة وقد يراد به ما كان في ابتداء وجوده

فإن قال لك: ما الحي ؟ فقل : من صح كونه قادراً .

فإن قال: ما القادر ؟ فقل هو من صح منه الفعل.

فإن قال : ما العالم ؟ فقل هو من كان فعله محکماً منتظماً .

فإن قال: ما المريد ؟ فقل هو عند التحقيق من قطع على أحد الأمرين المعترضين.

فإن قال: أتقولون إن الله مريد ؟ فقل : أما على الحقيقة فلا يجوز ذلك عليه، وأما على المجاز فقد يوصف به اتساعاً في الألفاظ، وقد وصف نفسه سبحانه بأنه مريد كما وصف نفسه بأنه غضبان، وراض، ومحب ، وكاره. وهذه كلها صفات مجازات.

فإن قال: في الفائدة في قولكم إن الله تعالی مرید؟ فقل : هو حصول العلم للسامع بأنه سبحانه في أفعاله وأوامره منزه عن صفة الساهي والعابث.

فإن قال: فما إرادته ؟ فقال : الجواب عن هذا السؤال على قسمين: أحدهما: ارادته لما يفعله ، وهي الفعل المراد نفسه . والآخر : إرادته لما يفعله غيره ، وهي أمره بذلك الفعل.

فإن قال: فيما غضبه ؟ فقل: وجود عقابه.

فإن قال: فيا رضاه؟ فقل: وجود ثوابه.

فإن قال: فما محيته ؟ فقل : هي على قسمين: أحدهما أن يحب المؤمن ، بمعنی يحسن إليه ويثيبه ، والآخر : انه يحب الطاعة، بمعني يأمر بها.

فإن قال: فما كراهته ؟ فقل : هي بالضد من ذلك.

فإن قال: ما المتكلم ؟ فقل :هو من فعل كلاما .

فإن قال : ما الكلام؟ فقل : هو الأصوات المنتظمة إنتظاما يدل على معان .

فإن قال : ما الخبر؟ فقل : هو ما أمكن فيه الصدق والكذب.

فإن قال : ما الصدق ؟ فقل : هو الاخبار عن الشيء بما هو عليه.

فإن قال: ما الكذب ؟ فقل : هو الأخبار عن الشيء بخلاف ما هو به .

فإن قال: ما الحق؟ فقل: هو ما عضد (1) معتقده البرهان.

ص: 317


1- في النسخة ما عقد.

فإن قال ما الباطل ؟ فقال : هو ما خذل معتقده البيان.

فإن قال : ما الصحيح؟ فقل : هو الحق بعينه.

فإن قال: ما الفاسد؟ فقل : هو الباطل بعينه.

فإن قال : ما العقل؟ فقل : هو عرض يحل الحي ، يفرق بين الحسن والقبح، ويصح بوجوده عليه التكليف.

فإن قال : ما الحسن؟ فقل : هو ما كان للعقول ملائماً.

فإن قال: ما القبح ؟ فقل : هو ما كان لها منافراً.

فإن قال: ما العلم ؟ فقال : هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إلى المعتقد .

فإن قال : ما الجهل ؟ فقل : هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.

فإن قال: ما المعرفة ؟ فقل : هي العلم بعينه.

فإن قال: ما النظر؟ فقل: هو استعمال العقل في الوصول إلى معرفة الغائب باعتبار دلالة الحاضر .

فإن قال : ما الدليل ؟ فقل : هو المعتبر في إدراك ما طلبت النفس إدراکه .

فإن قال : ما الحجة ؟ فقل : هي الدليل بعينه.

فإن قال : ما الشبهة ؟ فقل : هي ما عرض للنفس عند انصرافها عن طريق الحق من باطل تخيلته حقا.

فصل : من كلام أمير المؤمنين صلى الله عليه في ذكر العلم

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

قيمة كل امرىء ما يحسن .

والناس أبناء ما يحسنون .

العلم وراثة مستفادة.

رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق .

الجاهل صغير وإن كان شيخاً

والعالم كبير وإن كان حدثا

ص: 318

الأدب يغني من الحسب.

من عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار

العلم في الصغر كالنقش في الحجر .

زلة العالم كانکسار السفينة تغرق وتعرق .

الآداب تلقيح الأفهام ونتائج الأذهان .

إذا استوضحت فاعزم.

لو سكت من لا يعلم سقط الإختلاف.

من جالس العلماء وقر ، ومن خالط الأنذال حقر .

لا تحقرن عبدا آتاه الله علما، فإن الله تعالى لم يحقره حين آتاه إياه .

المودة أشبك الأنساب ، والعلم أشرف الاحساب..

لا كنز أنفع من العلم ، ولا قرین سوء شر من الجهل.

العلم خير من المال ، لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والعلم يزكو على الانفاق ، والمال تنقصه النفقة ، العلم حاكم ، والمال محكوم عليه.

عليكم بطلب العلم ، فإن طلبه فريضة ، وهو صلة بين الإخوان، ودال على المروءة، وتحفة في المجالس ، وصاحب في السفر، وأنس في الغربة. ومن عرف الحكم لم يصبر على الأزدياد منها .

الشريف من شرفه علمه.

فصل من كلامه عليه السلام في ذكر الحلم وحسن الخلق :

قال (ع):

الحلم سجية فاضلة.

أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل.

من حلم عن عدوه ظفر به.

شدة الغضب تغير المنطق، وتقطع مادة الحجة،وتفرق الفهم.

لا نسب أنفع من الحلم، ولا حسب أنفع من الأدب ، ولا تصب أوجع من الغضب .

ص: 319

حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم .

حسن الخلق خير رفیق.

رب عزيز أذله خلقه ، وذليل أعزه خلقه .

من لانت كلمة وجبت محینه .

التواضع يكسبك السلامة .

زينة الشريف التواضع.

حسن الأدب ينوب عن الحسب .

تأويل آية:

إن سأل سائل عن قوله سبحانه :

« حتى إذا جاء أمرنا ونار التنور ، قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ، إلا من سبق عليه القول منهم، ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل » هود : 40 (1)

الجواب:

أما التنور فقد ذكر في معناه وجوه:

أحدها : أن يكون المراد به أن النور برز والضوء ظهر ، وأتت إمارات دخول النهار ، وتقضي الليل .

وهذا التأويل يروي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

وثانيها : أن يكون معنى ذلك ، واشتد غضب الله عليهم ، وحل وقوع نقمته بهم، فذكر التنور مثلا ، لحصول العذاب ، كما تقول العرب: قد حمي الوطيس ، إذا اشتدت الحرب، وعظم الخطب، وقد قارب [ 1 ](2) القوم ، إذا اشتدت حربهم .

وثالثها : أن يكون أراد بالتنور وجه الأرض ، وأن الماء نبع وظهر على وجهها ، وقد روي هذا عن أبي عباس ، قال : والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً .

ص: 320


1- أنظر الكلام على هذه الآية في أمالي المرتضى م 2 ص 170 - 172
2- . هنا كلمة مطموسة غير واضحة.

ورابعها : أن يكون هو التنور المعهود للخبز، وكان في دار نوح عليه السلام ، فجعل فوران الماء منه علما له عليه السلام على نزول العذاب.

فأما قوله : من كل زوجين اثنين ، فقد قيل : من كل ذكر وأنثى اثنين ، وكل واحد من الذكر والأنثى زوج.

وقال آخرون: من كل ضر بين اثنين.

وقيل أيضا: من كل لونين اثنين.

ومعنی من سبق عليه القول، أي من أخبر الله تعالى بعذابه وحلول الهلاك به . والله أعلم براده.

فصل:

اشارة

من التوراة في ذكر الفلك:

قال الله تعالى لنوح (ع): فاصطنع أنت فلكاً من خشب الصنوبر ،واصنع الفلك أدواراً، وأطله من داخل وخارج بقار، واجعل طول الفلك ثلاثماية ذراع، وعرضه خمسين ذراعاً، وارتفاعه ثلاثين ذراعا، واصطنع في الفلك کوئ، واصطنع بابه من جنبه، واجعل الفلك أثلاثا : الأسفل والأوسط والأعلى ، وسأرسل الطوفان على الأرض، ليفسد كل شيء فيه روح من تحت السماء ، وكل ما في الأرض، وأوثقك بميثاقي، وأدخل الفلك أنت وامرأتك وبنوك، ونساء بنيك معك ، ومن كل شيء من اللجم فأدخل اثنين اثنين معك.

رسالة كتبتها إلى بعض الإخوان تتضمن كلاما في وجوب الإمامة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، الهادي إلى الحق واضح البرهان ، وصلواته على سيدنا محمد نبيه المبعوث للبيان، وعلى آله الطاهرين أئمة الأزمان.

ص: 321

قد وقفت أيها الأخ الفاضل أدام الله لك التأييد ، وأوصلك بالتوفيق والتسديد ، من رغبتك في الإستدلال، وحرصك على دفع شبه أهل الضلال، على ما أوجب علي حسن مساعدتك ، وإجابتك عما تلتمسه عند مسائلتك، لما بيننا لما من الإيمان ، وما يتعين من ذلك على الإخوان.

قال رسول الله (ص):

« المؤمنون إخوة ، تتكافؤ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم »(1).

وقد فهمت السؤال الذي أرسلت، وأنا أجيب عنه بما يحضرني حسبما طلبت إن شاء الله تعالى ، وبه أستعين.

- السؤال -: ذكرت- أيدك الله - أن أخذ المخالفين قال: إذا كان الله تعالى قد قال :

«ما فرطنا في الكتاب من شيء » الأنعام: 38.

وكانت الأمة مجتمعة [على] أن النبي (ص) قد بلغ الرسالة إلى الكافة ، وأدى فيها الأمانة ، وبين لجميع الأمة ، فما الحاجة بعد ذلك إلى إمام.

- الجواب-

فأقول والله الموفق للصواب:

إن الكتاب، وإن كان الله تعالى لم يفرط فيه من شيء ، فإن الأمة لم تستغن به عن تفسير رسول الله (ص) لمعانيه ، وتنبيهه لمراد الله تعالى فيه ، ولا علمت - بسماع تلاوته - جميع أحكام الله تعالى في شرائعه ، بل مفتقرة إلى النبي صلى الله عليه وآله في الإيضاح والبيان، معتمدة عليه في السؤال عن معاني القرآن ، وهو نبيها مؤيد معصوم، کامل العلوم ، يرشد ضالتها ، ويعلم جاهلها ، ويجيب سائلها ، وينبه غافلها ، ويزيل الإختلاف من بينها ، ويفقهها (2) على معالم

ص: 322


1- أنظر : تحف العقول ص 30 رواه ما عدا فقرة: (ويجير عليهم أقصاهم)
2- هكذا وردت في النسخة ، والأولى : ويوقفها على معالم دينها .

دينها ، بقول متفق وأمر متسق ، وقد علم أن الآتين من أمته بعده مكلفون من شرعه نظيرنا ، كأنه من كان في وقته.

فوجب في العدل والحكمة إزاحة على أهل كل زمان لمن يقوم فيه ذلك المقام ، يفزع إليه في النازلات، ويعول عليه عند المشكلات، تكون النفس ساكنة إلى طهارته وعصمته، واثقة بكمال علمه ووفادته.

وليس ما تضمنه السؤال من أن النبي عليه وآله السلام قد بلغ الكافة ، وبين للأمة بقادح في هذا الإستدلال، لأنه عليه السلام بين لهم شرعه على الحد الذي أمر به، فعين لهم على بعضه بالمشافهة ، ودلهم منه على الجملة الباقية بالإشارة إلى من خصه الله بعلمها ، واستحفظه إياها ، وجعله الخليفة على الأمة بعده في تبليغها حسبما تقتضيه مصالحها في تكليفها ، في أخبار تواترت على ألسنتها ، منها قوله:

« أنا مدينة العلم وعلي بابها »

فكان ما خصه به من تفصيل ما أجمل لهم ، بحسب ما كلفه من التبليغ دونهم . على أنه لو ماثلهم في جميع التكليف لم يلزم اشتراكهم في الإبانة على التفصيل، وإنما الواجب عموم المكلفين بالتمليك من الأدلة ، التي بها تثبت الحجة ، وتدرك المحجة.

والإمام عندنا أحد الدليلين على الحق من الشريعة، فإذا أودعه الذي استخلفه عليهم تفصيل كثير مما أجمل لهم، ونص على عينه، ومکن منه فقد أزاح عللهم ، ولم يخرج ذلك عن القول بأنه بلغهم وبين لهم، ولا دفع ما قدمناه من وجوب الحاجة إلى إمام يرجعون إليه فيما كلفهم .

ووجه آخر:

لو فرضنا أن النبي (ص) قد شمل جميع الأمة بالابانة على سبيل التفصيل والجملة ، ولم يخص أحدا منهم ، ولا أخفي شيئا عنهم، لم تسقط مع ذلك الإمامة ، ولا جاز خلو زمان من حجة - لأن النبي (ص) علم أهل عصره، وبين

ص: 323

لمن كان في وقته ودهره، وكانت أحوالهم مختلفة، وأسباب إختلافها معهودة معروفة .

فمنهم الذكي الرشید ، والبطيء البليد ، والمحب للعلم مع شغله بدنياه ، والمنقطع إلى العمل والزهد دون ما سواه، والمتوفر على العلم المواظب عليه ، والمتضجر منه الزاهد فيه ، والمجتهد في الحفظ مع كثرة نسيانه ، والمعتمد يعتبر ما [يسعه ](1) إيمانه.

هذا مع عدم العصمة عنهم، وجواز الغلط منهم. ولذلك حصل الاختلاف بينهم ، وتضادت رواياتهم ، ووقع في الحيرة العظمى من عول في دينه عليهم.

ولم يكن الله سبحانه ليلجيء عباده بعد نبيه (ص) إلى غير حفظة لما استودعوه، ولا منفقين فيما رووه ونقلوه.

ولسنا نجد علما على يد بعضهم ، يستدل به على أمانتهم وصدقهم ، ولا عصمة لهم يؤمن معها من تحريفهم أو غلطهم.

هذا مع ما نعلم من عدمهم (2)أكثر النصوص في الأحكام ، والتجائهم بعد مها إلى الاجتهاد والقياس، والأخذ في الدين بالظن والرأي ، الموقع بينهم الاختلاف، والمانع من الإتفاق والائتلاف.

فعلمنا أن الله سبحانه قد أزاح علل المكلفين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين ، بالأئمة الراشدين ، الهداة المعصومين الذين أمر الله تعالى بالرد إليهم ، والتعويل عليهم فقال عز من قائل:

« ولو ردوه إلى رسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم » النساء : 83

وقال النبي (ص) :

ص: 324


1- في النسخة يسمعه.
2- يريد بقوله (من عدمهم ) عدم إحاطتهم بأكثر النصوص .

« إني مخلف فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (1).

ووجه آخر:

ولو قدرنا أن الأمة قد سمعت جميع علوم الشريعة، فوعت وأحاطت بتفاصيل أحكامها، وحفظت واتفقت فيما روت ونقلت ، وسقطت معرة الاختلاف عنها ، واستقر الاتفاق منها . لم يغن ذلك عن الأئمة ، ولا جاز عدمهم ، على ما يقتضيه العدل والحكمة ، لأن الأمة على كل حال يجوز عليها الشك والنسيان، ويمكن منها الجحد والكتمان.

وعلى ذلك حجج يجدها من أنعم الاستدلال، لولا الغرض في ترك الإطالة ، لأوردنا طرفاً منها في هذا الجواب .

وللمسؤل أن يبني جوابه على أصله المستقر عنده على قوله ، إلى أن ينقل الكلام إليه ، فتكون المنازعة فيه.

وإذا جاز على الأمة ما ذكرناه ، لم يكن حفظها واتفاقها الذي قدرناه ، بمؤمن من وقوع ما هو جائز عليها ، وحصول ما هو متوهم منها .

وفي جواز ذلك مع عدم الأئمة جواز سقوط الحجة عن الأمة ، إذ لا معقل يدرك منه الصواب ، [ يكون ](2)حافظاً للشرع والكتاب.

وفي هذا أوضح البيان عن وجوب الحاجة إلى الإمام في كل زمان .

وجه آخر:

ولو أضفنا إلى ما فرضناه وقدرنا، وجوده ، وتوهمناه من سماع الأمة الجميع تفاصيل الأحكام، وإيرادها على إتفاق ونظام ، نفي (3)جواز الشك

ص: 325


1- هو مروي على اختلاف في بعض ألفاظ في صحيح الترمذي ومسلم ومستدرك الصحيحين ومسند أحمد وغيرهم الكثيرين أنظر : فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 43 - 52.
2- في النسخة يكن. ولا موجب لجزمها .
3- في العبارة قلق واضطراب.

والنسيان عنها ، وإحالة الجحد والكتمان منها ، لم يغن ذلك عن إمام في كل زمان ، حسبما يشهد به الدليل العقلي والبرهان.

وذلك أنا وجدنا اختلاف طبائع الناس وشهواتهم ، وتباین هممهم وإرادتهم، و میل جميعهم في الجملة إلى الرياسة ، ومحبتهم لنفوذ الأمر ، ووجوب الطاعة ، ورغبتهم في حرز الأموال، وتطلعهم إلى نيل الآمال، وارتكاب أكثرهم للمقبحات، وتسرعهم إلى ما يقدرون عليه من الشهوات ، مع وكيد تحاسدهم ، وشديد تظالمهم الذي لا ينكره إلا من دفع الضرورات، وأنكر المشاهدات. يقضي ذلك في العقول عند ذوي التحصيل، بأن صلاح أحوالهم، وانتظام أمورهم، وحراسة أنفسهم وأموالهم، لا يتم إلا بوجود رئيس لهم، ومتقدم عليهم، يكون مسدداً فيما يمضيه من تدبيرهم ، موفقاً للصواب فيما يراه لهم وعليهم ، يقيم بهيبته عوجهم ، ويرد بيده أودهم، ويجمع برأيه متشتتهم ، ويقهر بتمكنه معاندهم، ويمنع القوي من الضعيف ، ويسوسهم بالسوط والسيف.

وفي عدم الرئيس - وهم على ما ذكرناه - فساد أحوالهم، وانقطاع نظامهم، وحصول الهرج منهم، ووجود الحيرة والفتنة بينهم، التي هي سبب تلافهم ، وهلاك أنفسهم.

وهذا أمر يعلم العقلاء صحته ممن أقر بالشرع، وجحده ، قال الأفوه الأودي وكان جاهلياً : (1)

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وإذا كان الله تعالى إنما خلق خلقه لنفعهم ، وأحياهم لصلاحهم ومراشدهم ، فإنه في عدله وحكمته ، ورأفته ورحمته ، لم يخلهم في كل زمان من رئيس يكون لهم ، وإمام في الدين والدنيا عليهم.

ص: 326


1- هو صلاءة بن عمرو بن مالك الأودي من بني أود ، والأفوه لقب كان له ، وهو من سادات العرب في الجاهلية المعروفين بالرأي والحزم، ومن الشعراء المشاهير ، وكان فارساً مغواراً توفي سنة (570م) وفي شعره فکر وحياة .

ووجه آخر:

ولو رفعنا الدليل العقلي الذي أوردناه ، مع تسليم ما ذكرناه وقدمناه ، لم يدفع ذلك وجوب الحاجة إلى الأمام، ولا جاز معه أن تعدمه الأنام.

لأن الأمة مجمعة على أن في الشريعة أحكاما تفتقر إلى من ينفذها ، وحدوداً على الجناة تحتاج إلى من يتولاها.

وهي مقرة بأن الله تعالى ما جعل ذلك لها ، وأنه لا يسع ولا يجوز إهمالها وتركها . فوجب أن يكون للناس إمام في كل زمان ، ينفذ الأحكام، ويقيم حدود شريعة الإسلام ، حافظا للبيضة من الكفار ، دافعاً عن المسلمين أسباب الأذى والمضار ، يسير فيهم بالهدى والصواب ، لا يتعدى ما يوجبه العقل والكتاب .

والحمد لله قد أوردت لك أيها الأخ الفاضل أدام الله توفيقك ما حضرني من وجوه الأجوبة عن هذا السؤال، وفي بعضه كفاية وبيان لمن أراد الاستدلال. والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد رسوله وآله وسلامه وحسبي الله ونعم الوكيل.

فصل من الحديث:

اشارة

حدثنا الشيخ أبو الحسن بن أحمد بن علي بن شاذان القمي، قال حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الدين عباس ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال حدثنا الحسن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن العباس الرازي ، قال : حدثني علي بن موسى الرضا عن أبيه موسى عن أبيه جعفر عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه الحسين عن أبيه أمير المؤمنين عليهم السلام قال: قال رسول الله (ص):

«من مات وليس له إمام من ولدي مات ميتة جاهلية ، يؤخذ بما عمل في الجاهلية والإسلام ».(1)

ص: 327


1- روى هذا الحديث الصدوق القمي في كتاب عيون خبار الرضا ج2 ص 58. وروى البرقي في كتاب المحاسن ص 116 - 117 عدة أحاديث بهذا المعنى وصرح الشهيد الثاني في حقائق الايمان ص 161 بأنه من مشاهير الأحاديث بين السنة والشيعة ، وأن السنة أوردوه في كتب أصولهم وفروعهم، وصرح الشيخ المفيد في كتاب بالأفصاح ص3 بأنه هذا الحديث متواتر ، وعن الحميدي أنه أخرجه في الجمع بين الصححين ، وعن الحاكم النيسابوري أنه أخرج عن ابن عمر أنظر : منتخب الأثر ص 15 هامش.

وقال حدثني أبو المرجا محمد بن علي بن طالب البلدي ، قال : حدثنا أبو القاسم عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي عن أبي علي محمد بن همام بن سهل عن عبد الله بن جعفر الحميري عن الحسن بن علي بن فضال عن محمد بن أبي عمير عن أبي علي الخراساني عن عبد الكريم بن عبد الله عن مسلمة بن عطا عن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام ، قال خرج الحسين بن علي صوات الله عليه ذات يوم على أصحابه فقال بعد الحمد لله جل وعز والصلاة على محمد رسوله صلى الله عليه وآله:

« يا أيها الناس أن الله - والله - ما خلق العباد إلا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته من سواه . »

فقال له رجل: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، ما معرفة الله .

قال : معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته »

اعلم أنه لما كانت معرفة الله وطاعته لا ينفعان من لا يعرف الامام ، ومعرفة الأمام وطاعته لا ينفعان إلا بعد معرفة الله ، صح أن يقال إن معرفة الله هي معرفة الإمام وطاعته.

ولما كانت أيضا المعارف الدينية العقلية والسمعية تحصل من جهة الأمام، وكان الإمام آمراً بذلك ، وداعياً إليه صح القول: إن معرفة الإمام وطاعته هي معرفة الله سبحانه. كما نقول في المعرفة بالرسول صلى الله عليه وآله وطاعته إنها معرفة بالله سبحانه ، قال الله عز وجل :

(من يطع الرسول فقد أطاع الله).

وما تضمنه قول الحسين عليه السلام من تقدم المعرفة على العبادة ، غاية في البيان والتنبيه.

وجاء في الحديث عن طريق العامة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله (ص) قال:

« من مات وليس في عنقه بيعة الإمام أو ليس في عنقه عهد الإمام مات ميتة جاهلية ».

ص: 328

وروى كثير منهم أنه عليه السلام قال:

« من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » .

وهذان الخبران يطابقان المعنى في قول الله تعالى :

« يوم ندعو كل أناس با ما مهم ، فمن أوتي كتابه بيمينه فاؤلئك يقرؤن کتابهم ولا يظلمون فتیلا ». الإسراء : 71

وقال الخصوم: إن الإمام ههنا هو الكتاب

قيل لهم : هذا انصراف عن ظاهر القرآن بغير حجة توجب ذلك ولا برهان ، لأن ظاهر التلاوة يفيد أن الإمام في الحقيقة هو المقدم في الفعل ، المطاع في الأمر والنهي ، وليس يوصف بهذا الكتاب، إلا على سبيل الاتساع والمجاز. والمصير إلى الظاهر من حقيقة الكلام أولى، إلا أن يدعو إلى الإنصراف عنه الاضطرار.

وأيضا فإن أحد الخبرين يتضمن ذكر البيعة والعهد للإمام. ونحن نعلم أنه لا بيعة للكتاب في أعناق الناس ، ولا معنى لأن يكون له عهد في الرقاب ، نعلم أن قولكم في الإمام أنه الكتاب غير صواب.

فإن قالوا : ما تنكرون أن يكون الإمام المذكور في الآية هو الرسول عليه السلام ؟

قيل لهم: إن الرسول عليه السلام قد فارق الأمة بالوفاة ، وفي أحد الخبرين أنه إمام الزمان. وهذا يقتضي أنه حي ناطق موجود في الزمان. فأما من مضى بالوفاة فليس يقال أنه إمام إلا على معنى وصفنا للكتاب بأنه إمام.

ولو أن الأمر كما ذكرنا لكان إبراهيم الخليل عليه السلام امام زماننا ، لأننا عاملون بشرعه ، متعبدون بدينه ، وهذا فاسد إلا على الاستعارة والمجاز .

وظاهر قول النبي (ص) : من مات وهو لا يعرف إمام زمانه ، يدل على أن لكل زمان إماماً في الحقيقة ، يصح أن يتوجه منه الأمر، ويلزم له الإتباع . وهذا واضح لمن طلب الصواب.

ومن ذلك ما أجمع عليه أهل الإسلام من قول النبي عليه الصلاة والسلام :

ص: 329

« إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنها لن يفترقا حتى يردا علي الحوض «(1).

فأخبر أنه ترك في الناس من عترته من لا يفارق الكتاب وجوده وحكمه ، وأنه لا يزال وجودهم مقروناً بوجوده.

وفي هذا دليل على أن الزمان لا يخلو من إمام.

ومنه ما اشتهر بين الرواة من قوله:

«في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ، ينفي عن الدين تحريف الغالين وإنتحال المبطلين ، وإن ائمتكم وفود كم إلى الله فانظروا من توفدون في دينكم ».

فصل: حديث عن الإمام الرضا:

حدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن صالح ، قال: حدثنا سعد بن عبد الله (2) قال: حدثنا أيوب بن نوح، قال: قال الرضا عليه السلام:

« سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الإستهزاء:

من استغفر بلسانه ولم يندم فقد استهزأ بنفسه .

ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه .

ومن (استحزم) (3) (استجاب) ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه .

ومن سأل الله الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه .

ومن تعوذ بالله من النار ولم يترك الشهوات فقد استهزأ بنفسه .

ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه .

ص: 330


1- قد تقدم ذكر بعض مصادره.
2- هو أبو القاسم سعد بن عبدالله بن أبي خلف الأشعري القمي من شيوخ الطائفة وفقهائها له مؤلفات كثيرة ذكرها الطوسي في الفهرست ص 101، عده الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام الحسن بن علي العسكري توفي سنة 301/299 وعن الخلاصة أنه توفي سنة 300 ه.
3- هنا كلمة غير واضحة .

مسائل فقهية:

مسألة: إمرأة لها بعل صحيح البعولة ، أمكنت نفسها من رجل كامل العقل ، رضي الدين ، فوطأها من غير حرج في ذلك عليها ، والبعل المتقدم ذكره کاره لهذا الأمر كراهة الطباع، راض به من جهة التسليم للشريعة رضا الاختيار .

(جواب): هذه امرأة نعي إليها زوجها ، فاعتدت وتزوجت رجلا مسلما ، فوطأها بالنكاح الشرعي حيث لا حرج عليها في ذلك ، لعدم علمها ببقاء زوجها ، ثم بلغ زوجها الأول ما فعلته ، فكرهه من جهة الطباع، ورضي به من جهة التسليم لشرع الإسلام ، فهي حلال للثاني ، وإن كانت في عقد الأول إلى أن يحصل لها وللعاقد عليها علم ببقاء زوجها الذي نعي إليها . وهذا الجواب ليس فيه بين الأمة اختلاف .

- مسألة أخرى -

رجلان كانا يمشيان في فسقط على أحد هما جدار فقتله ، فحرمت على الآخر في هذه الحال زوجته.

(جواب): هذا رجل زوج عبده ابنته وخرجا يمشيان فسقط على المولى الجدار ، فصار العبد بذلك ميراثا للبنت ، فحرمت عليه في الحال ، لملكها له ، وعلى هذا الاتفاق.

- مسألة أخرى

رجل غاب عن زوجته ثلاثة أيام فكتبت إليه الزوجة : أن قد تزوجت بعدك ، وأنا محتاجة إلى نفقة ، فأنفذ إلي ما أنفقه على نفسي وعلى زوجي ، فوجب لها ذلك عليه ، ولم يكن له منه مخرج.

(جواب): هذه مسألة في معنى التي قبلها ، وهي امرأة زوجها أبوها عبداً له، وأعطاه مالا وأذن له في السفر والتجارة بالمال، فخرج العبد قبل أن يدخل بالجارية ، فلما صار على يومين من بلده مات سیده فصار میراثاً لابنته التي زوجه بها مولاه، فحرمت بذلك عليه وحلت للأزواج في الحال ، إذ كان لا

ص: 331

عدة عليها ، فتزوجت رجلا ورضيت به ، وأنفذت إلى عبدها بأن يحمل إليها من تركة أبيها التي في يده ما تصرفه فيما تشاء ، فوجب ذلك عليه ، وليس في هذا أيضا اختلاف.

- أحاديث -

حدثني الشريف أبو الحسن طاهر بن موسی بن جعفر الحسين بمصر في شوال سنة سبع وأربعماية ، قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أحمد بن حسن الخلال إجازة ، قال : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد العرابي إجازة ، قال : حدثنا الطهراني أبو الحسن وحدثني محمد بن عبيد ، قال : حدثتني أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر ، قال : حدثنا أبو الفضل ، قال: حدثنا أبو على ابن الحسن الثمار ، قال: حدثنا أبو سعيد كلاهما عن أبي سعيد ، واللفظ لمحمد قال : حدثنا الطهراني ، قال : حدثنا عبد الرزاق قال حدثني معمر ، قال: حدثني الزهري قال:

« أشخصني هشام بن عبد الملك من أرض الحجاز إلى الشام زائراً له،فسرت فلا أتينا أرض البلقاء ، رأيت حبلاًأسود ، وعليه مكتوب أحرفاً لم أعلم ما هي ، فعجبت من ذلك ، ثم دخلت (عمان) قصبة البلقاء ، فسألت عن رجل يقرأ ما على القبور والجبال، فأرشدت إلى شيخ كبير ، فعرفته ما رأيت ، فقال : أطلب شيئا أركبه ، فحملته معي على راحلتي وخرجنا إلى الجبل ، ومعي محبرة وبياض ، فلما قرأه قال لي : ما أعجب ما عليه بالعبرانية، فنقلته إلى العربية فإذا هو:

« باسمك اللهم جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين. لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلي ولي الله صلى الله عليهما ، وكتب موسی بن عمران بيده ».

وحدثني الحسين بن محمد بن علي الصيرفي البغدادي ، وكان مشتهراً بالعناد لآل محمد عليهم السلام ، والمخالفة لهم قال: حدثنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر ابن محمد التميمي المعروف بالجعابي سنة ثلاثماية وخمسين ، قال حدثنا محمد بن محمد ابن سلیمان بن الحارث ، قال : حدثنا أحمد بن يزيد بن سلیمان ، قال : حدثنا إسماعیل بن أبان ، قال حدثنا أبو مريم عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) :

ص: 332

« الله ربي ولا إمارة لي معه ، وأنا رسول ربي ولا إمارة معي، وعلي ولي من کنت وليه ولا إمارة معه » .

وسمعت من هذا الراوي المخالف عدة فضائل لآل محمد علیهم السلام ، سخره الله لنقلها فرواها راغما، حجة عليه بها ، قد ذكرت في هذا الكتاب طرفا منها .

وحدثني أبو الحسن علي بن أحمد اللغوي المعروف بابن زكار بميافاقين في سنة تسع وتسعين وثلاثماية قال: دخلت على أبي الحسن علي بن السلماني رحمه الله في مرضته التي توفي فيها ، فسألته عن حاله ، فقال الحقتني غشية أغمي علي فيها ، فرأيت مولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه قد أخذ بيدي وأنشأ يقول:

طوفان آل محمد*** في الأرض غرق جهلها

وسفينهم حمل الذي *** طلب النجاة وأهلها

فاقبض بكفك عروة*** لا تخش منها فصلها

وحدثني الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين بن طاهر الحسيني قال حدثني أبي عن أبي الحسن أحمد بن محبوب ، قال : أبا جعفر الطبري يقول: حدثنا هناد بن السري، قال رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله ، في المنام، فقال لي : يا هناد قلت: لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : أنشدني قول الكميث:

ويوم الدوح دوح غدیر خم *** أبان لنا الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها *** فلم أر مثلها أمرا شنیعا

قال: فأنشدته ، فقال لي : يا هناد خذ إليك ، فقلت: هات يا سيدي، فقال عليه السلام:

ولم أر مثل ذاك اليوم يوما*** ولم أر مثله حقا أضيعا

وكثيرا ما أذكر قول شاعر آل محمد (ع): رحمة الله عليه :

جعلوك رابعهم أبا حسن*** ظلموك حق السبق والصهر

وإلى الخلافة سابقوك وما ***سبقوك في أحد ولا بدر

ص: 333

- القرآن يدل على إمامة علي (ع) -

دليل من القرآن على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام .

قال الله عز وجل:

« إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون » المائدة : 55

فقوله سبحانه (ولیکم) المراد به الأولى بكم والأحق بتدبیر کم، والقيم بأمور كم، ومن تجب طاعته عليكم.

وهذا هو معنى الامام بقوله تعالى : ( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).

المراد به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، لأنه كان قد تصدق بخاتمه وهو راكع في الصلاة.

فتقدير الآية : إنما المدبر لكم والمتولي لأمور كم والذي تجب طاعته عليكم ، الله ورسوله وعلي بن أبي طالب.

وهذا نص من القرآن على إمامة أمير المؤمنين (ص).

فإن قال لنا المخالفون: دلوا أولا على أن قوله (ولیکم) المراد به ما ذكرتم .

قلنا : أما كون لفظه ولي مفيدة لما ذكرناه فظاهر ليس فيه إشكال. ألا ترون الناس يقولون: هذا ولي المرأة ، يريدون

أنه المالك لتدبير أمرها في إنكاحها ، والعقد عليها .

ويصفون عصبة المقتول بأنهم أولياء الدم، من حيث كانوا مستحقي المطالبة بالدم.

ويقولون: إن السلطان ولي أمر الرعية أجمعين، وفي من رشحه بخلافته عليهم، إنه ولي عهد المسلمين.

ومن حيث كان إلى الولي النظر والتدبير قال الكميت :

ونعم ولي الأمر بعد ولیه *** ومنتجع التقوى ونعم المؤدب

ص: 334

وفي الجملة ، إن كان من كان والياً الأمر ومتحققاً بتدبيره فهو وليه وأولی به.

هذا هو المعروف في اللغة والشرع معاً ، فيثبت به ما ذكرناه .

فإن قال المخالفون: قد سلمنا لكم أن لفظه (ولیکم) تحتمل ما ذكرتم ، ولكنها قد تحتمل أيضا سواه، ويجوز أن يكون المراد بها الموالاة في الدين كقوله سبحانه .

« والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ». التوبة : 71

قلنا لهم: إن هذه الآية التي ذكرتموها عامة في سائر المؤمنين. والآية التي احتججنا بها لا يصح أن يكون مراد الله تعالى فيها : (والذين آمنوا) إلا البعض دون الجميع.

وذلك أنه ميز فيها من أراده من المؤمنين بصفة الزكاة في حال الركوع ، وجعله ولياً للجميع، وأنتم لا تخالفون في أن هذه الصفة خاصة في بعض المؤمنين ، فوجب أن يكون قوله (والذين آمنوا) خاصاً كذلك ، لأنها صفة لهم بظاهر التنزيل . ولو أراد بقوله (والذين آمنوا) العموم بجميع المؤمنين لكان الإنسان ولياً لنفسه ، وهذا لا معنى له.

وقوله في الآية (إنما) شاهد بصحة التخصيص ونفي المثبت عن من سوی المذكورين . وهي كقول القائل : إنما صديقك من نصحك ، فقد نفى (إنما) صحة الصداقة عمن لم ينصح .

وثبوت ما ذكرناه من التخصيص في قوله (والذين آمنوا) يعلم أن المراد بالولي هو المدبر للكافة والإمام القدوة.

ولو كان المراد مجرد الموالاة في الدين لبطل هذا التخصيص.

ووجه آخر: في الجواب عما ذكروه وهو أن الله تعالى ذكر في الآية التي احتججنا بها أمراً، بدأ فيه بنفسه ، ثم ثني برسوله (ص) ثم ثلث بمن ذكره من المؤمنين ، فوجب أن لا يصرف قوله (وليکم) إلا إلى ما هو مستحق لله ولرسوله (ص) وإذا كان كذلك فالذي آمنوا المذكورون في الآية يستحقون نظير ذلك

ص: 335

بعينه. وفي هذا دليل على أن المراد تولي التدبير ولزوم الطاعة والأمر والنهي في الجماعة.

فإن قال الخصوم: فإذا ثبت لكم أن مراده سبحانه في الآية التي احتججتم بها من قوله : (والذين آمنوا) هو بعض الأمة دون جميعها ، وسلم لكم أيضا أن معنى قوله (وليکم) فيها هو معنى الإمامة على الصفة التي تذكرونها ، فما الدليل على أن أمير المؤمنين (ع) هو المراد في الآية والمقصود فيها ؟

قلنا: الدليل على ذلك نقل أصحاب الحديث من الفريقين أنها نزلت في أمير المؤمنين (ع)، وأنه الذي تصدق بخاتمه على السائل ، وهو راكع.

ولم يخالف في ذلك إلا من نشأ من متكلمي ذي المتكلمين ، وليس الإنكار يقوم مقام الإقرار ، ولا مجرد النفي بقادح في الإثبات ، وإذا اتفق على رواية شيء جميع أهل النقل كان ذلك حجة على من له تمييز وعقل.

فإن قالوا : كيف يصح في ذلك الاتفاق ، وقد روي أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام ؟

قلنا: يصح لنا ذلك من حيث أن هذه رواية واحد ، وأخبار الآحاد لا تزيل الاتفاق إلى الحاصل من جملة الأخبار. والقول الشاذ لا يقدح في الإجماع .

على أن الذي روى أنها نزلت في عبد الله بن سلام ، قد تصفحت عليه الحال ، واشبهت القصة بشهادة نقاد الأخبار.

وذلك أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ، قالت اليهود : والله لاجالسناك ، ولا كلمناك، ولنقطعن ولايتنا منك ومن أصحابك، ولا نصرناك. فشكا ذلك إلى رسول الله (ص)، فأنزل الله تعالى :

«إنما ولیکم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون ويؤتون الزكاة وهم راکعون ، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون » المائدة : 55 - 56.

ص: 336

فخرج النبي (ص) إلى المسجد ، فقال : هل سأل سائل فأعطاه أحد شيئا ؟ قالوا: نعم، یا رسول الله ، رجل كان في المسجد يسأل فأعطاه علي (ع) خاتمه وهو راكع . فقال النبي (ص) : الله أكبر، إن الله تعالى قد أنزل فيه قرآنا ، وتلا عليهم الآيتين، ثم دعا عبد الله بن سلام وأصحابه ، فقال لهم : قد عوضكم الله من اليهود أولياء ، وتلا عليهم الآيتين. فظن بعضهم من أهل الغفلة أنها من أجل ذلك نزلت في عبد الله بن سلام.

ومن رجع إلى كتب التفاسير ونقل أصحاب الحديث ، علم أن الأمر على ما وصفناه . والكاف والميم في قوله سبحانه (ولیکم) خطاب لجميع الأمة حاضرهم وغائبهم وموجودهم ومن سيوجد منهم ، وهو كقوله كتب عليكم الصيام. وإنما حضر رسول الله (ص) عبد الله بن سلام وأصحابه وتلا عليهم الآيتين ليبشرهم بدخولهم في جملة من يكون وليهم الله ورسوله وأمير المؤمنين.

فإن قالوا: إن الآية تضمنت ذكر الجميع بقوله : (والذين آمنوا) فكيف يصح لكم إنها في واحد ؟

قلنا لهم: قد يعبر بلفظ الجمع تعظيما لشأنه ، ولا ينكر ذلك في اللغة ، بل يستعمله أهلها ، وقد قال الله عز وجل : (إنا أرسلنا إلى قومه). وقال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له الحافظون) : الحجر: 9 .

وقد علمنا أن الله أرسل نوحا وحده ، وانه نزل الذكر و حافظه [ وحده ] ونظير ذلك كثير .

فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله (والذين آمنوا) الجميع ، ويكون المعنى فيه أنهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم في إتيانها خاشعون متواضعون، لا يمنون ولا يتكبرون. ويكون هذا معنى قوله (راكعون) دون ما ذهبتم إليه من أن يؤتي الزكاة في حال ركوعه ؟

قلنا: هذا غير صحيح، لأن الركوع لا يفهم في اللغة والشرع معاً إلا أنه التطاطؤ المخصوص دون التواضع والخضوع، وإنما يوصف الخاضع بأنه راكع

ص: 337

على سبيل المجاز والتشبيه ، قال الخليل بن أحمد (1) صاحب كتاب العين : كل من ينكب لوجهه فمس ركبته الأرض أولا تمسها راكع ، وأنشد للبيد :

أخبر أخبار القرون التي مضت ***أدب كأني كلما قمت راكع

فإن قالوا: في تنكرون أن يكون قوله: (ويؤتون الزكاة) وصفاً لهم بإتيانهم، وقوله (وهم راكعون) ليس المراد أنهم أعطوها في حال ركعوهم ، وإنما معناه أن الركوع من شأنهم وعادتهم، فوصفهم به وإن كانوا يفعلونه في غير وقت إعطاء الزكاة؟

قلنا: أنكرنا ذلك من حيث هو خروج عن ظاهر الكلام المفيد أن الزكاة كان في حال ركوع الصلاة ولا طريق إلى الإنصراف عن الظاهر مع الإختيار .

ومثل ذلك قولهم: فلان (يغشى إخوانه وهو راكب) وظاهر هذا يدل على أنه راكب في حال غشيانه إخوانه ، وأن الزمان في الأمرين واحد.

وشيء آخر وهو أنا متى قلنا إن الزكاة لم تكن في حال الركوع، أدی الكلام إلى التكرار، لأن وصفهم بإقام الصلاة ، فإذا وصفهم بعد ذلك بأنهم راكعون ، وهو يريد يصلون ، تکرر الوصف بالصلاة ، لأن الركوع داخل في قوله : (يقيمون الصلاة).

فإن قالوا : فأمير المؤمنين علي (ع) لم يكن يلزمه عندكم زكاة ، لأنه لم يكن من ذوي اليسار.

قلنا: لسنا نقطع على أن الزكاة لم تجب عليه قط ، وربما ملك أدنى مقادير

ص: 338


1- هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي ولد في البصرة سنة 100 وتوفي سنة 170 ه من أئمة اللغة والنحو والأدب والعروض وأخبار العرب، وهو الذي اخترع علم العروض ووضع قواعده وأحكم أساسه ، وأول من صنف في علم اللغة ، ووضع كتابه (العين) ولم يتمه ، وله مؤلفات منها : كتاب النغم ، وكتاب العروض ، وكتاب الشواهد ، وكتاب النقط والشكل ، و کتاب فائدة العين ، وكتاب الإيقاع. وكان من الزهاد المنقطعين إلى العلم. وتجد الكلام على كتابه العين في فهرست ابن النديم ص 64.

النصاب ، وأتي وقت الزكاة وهو في يديه ، وليس يقال لمن ملك مأتي درهم أنه موسر ، لا سيما إذا اتفق له وجوب الزكاة منها وقتا واحداً.

وقد يجوز أيضا أن تكون هذه الزكاة نافلة ، لم تكن عليه واجبة ، ولا مانع أن يسمى النفل من الصدقة زكاة، لأنه متناول للفرض منها ، في كونه إعطاء يستحق عليه النمو في الحسنات والزيادة والمثوبات ، فإن كان لفظ الزكاة عند کم مشتركاً في النافلة من الصدقة والفريضة فقد توجه على الظاهر جوابنا . وإن كان عندكم أن المستفاد من ظاهر لفظ الزكاة إنما هو المفترض منها دون ما سواه ، كنا من صرفنا عن الظاهر ورود الأخبار المجمع عليها بأن الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام. مع أنه لم تلزمه قط فريضة الزكاة ، فلا بد من حمل ذلك على زكاة النافلة ، وإلا خصصنا الأخبار.

فإن قالوا : فكيف ساغ لأمير المؤمنين (ع) الصدقة في حال الصلاة ؟ أولیس ذلك إبطالا لها وإشغالا بغيرها ؟

قلنا: أقرب ما في هذا أنا غير عالمين أن جميع الأفعال المنهي عنها اليوم في الصلاة كانت محظورة، كلها في تلك الحال. فيجوز أن يكون هذا قبل ورود حظر هذه الأسباب.

وقد قيل أن الكلام قد كان مباحاً في الصلاة ونهي عنه بعد ذلك. ولو لم يكن الأمر كذلك لم يلزم ما ذكرتموه في السؤال، لأن الذي فعله أمير المؤمنين (ع) لم يكن شاغلا عن القيام بحدود الصلاة ، بل جاز أن يكون أشار إلى السائل إشارة خفية لا يقطع بمثلها الصلاة ، فهم منها مراده، وأخذ الخاتم من يده.

فكيف تنكرون هذا، وأنتم ترون اتفاق الفقهاء على أن يسير العمل في الصلاة لا يقطعها على حال.

والذي يدل على أنه (ع) لم يشتغل بالإعطاء عن استيفاء شرائط الصلاة نزول المدح له في القرآن ، والإضافة إلى المدح تقديمه وليا للأنام.

فان قالوا: فإذا ثبت أنه بهذه الآية أمام للخلق ، فما تنكرون أن يكون المراد استحقاقه لذلك بعد عثمان ؟

ص: 339

قلنا: أنكرنا ذلك من قبل أن كل من ثبت له الإمامة بها يوجبها بعد رسول الله (ص) في كل حال، ولا يخص بذلك حالا دون حال.

وأنكرنا ذلك من قبل أن الله تعالى ولينا ورسوله (ص) في كل حال، وقد عطف ذكر أمير المؤمنين على اسم رسول الله علیهما السلام ، فوجب أن يستحق ذلك أيضا في كل حال ، كما استحقه الرسول عليه السلام من غير إنفصال.

ولولا قيام الدلالة على أنه ليس في وقت رسول الله (ص) قدوة للخلق سواه ولا إمام، لكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، يستحق هذا المقام مذ نزلت الآية وما اتصل من غير فاصلة بولاية ولا اهمال.

والحمد لله الهادي إلى الحق واضح البرهان .

فصل من مستطرفات مسائل الفقه في الإنسان

مسألة: إثنان تزوج كل واحد منها أم الآخر فرزقا منهما ولدين ، ما قرابة بين الولدين ؟

جواب: كل منهما واحد منهما عم الآخر، لأنه أخو أبيه من أمه.

مسألة: إثنان تزوج كل واحد منهما بنت الآخر فرزقا ولدين ، ما قرابة الولدين ؟

جواب: إن كل واحد منهما خال الآخر ، لأنه اخو أمه، وهو أيضا ابن أخته .

مسألة: إثنان تزوج كل واحد منهما أخت الآخر ورزقا منها ولدين ، ما قرابة بين الولدين ؟

جواب: إن كل واحد منها ابن عمة الآخر وابن خاله.

مسألة: رجلان تزوج كل واحد منها جدة الآخر لأبيه ، فرزقا منهما ولدين ، ما قرابة ما بين الولدين وبين الرجلين وما قرابة ما بين الولدين ؟

جواب: إن كل واحد من الولدين عم الرجل المتزوج أم أبيه ، لأن الرجل

ص: 340

ابن جدته لأبيه ، والولد أخو أبيه وكل واحد من الولدين ابن أخي صاحبه وعم أبيه.

مسألة: رجلان تزوج كل واحد منها جدة الآخر لأمه فرزقا منهما ولدين، ما قرابة ما بين الولدين والرجلين ، وما قرابة ما بين الولدين ؟

جواب: إن كل واحد من الولدين خال الرجل المتزوج أم أمه ، لأن الرجل ابن جدته لأمه، والولد أخو أمه من أمها ، وكل واحد من الولدين ابن أخت صاحبه وخال أبيه.

أنشدنا الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله :

قد آن أن يبلغك الصوت *** أنائم قلبك أم ميت

ياباني البيت على غيره *** أمامك المنزل والبيت

وإنما الدنيا على طولها *** ثنية مطلعها الموت

وله أيضا:

إذا مضى يوم على هدنة*** وأنت في شك من النائبات

فعاجل الفرصة قبل الردى *** وبادر الليلة قبل البيات

واسبق وفي حبلك أنشوطة*** ضغط الليالي بيد الحادثات

لغيره:

أشح على ملكي وأحميه دائباً*** وسوف برغم الأنف أخرج عن ملكي

فما لي لا أبكي لنفسي وهلكها*** إذا كنت قد وطنت نفسي على الهلك

فإن كنت لا أدري متى أنا ميت*** فلست من الموت المنغص في شك

وموضع قبري أن أكن قد جهلته*** فلي خبرة بالعرض والطول والسمك

كأني أرى نفسي وحولي جماعة*** يكفنني بعض وبعضهم يبكي

وذكروا أن أحد الأئمة صلوات الله عليهم ، استدعاه السلطان في ذلك الزمان ، وأظن أن الإمام كان محمد بن علي الرضا عليهم السلام (1) ، وإن المستدعي كان

ص: 341


1- كان الإمام الذي وقعت معه هذه القصة هو الإمام علي بن محمد الهادي (ع) كما في تذكرة الخواص ص 361 وفي مروج الذهب ج 4 ص 94 .

المتوكل ، قالوا: فلما دخل إليه وجده في قبة مزينة في وسطح بستان، وبیده كأس فيها خمر، فقربه وهم أن يناوله الكأس فامتنع الإمام عليه السلام، فقال: إنا أهل بيت ما خامرت لحومنا ودماءنا ساعة قطر، قال : فقال أنشدني شعراً فأنشده الإمام عليه السلام :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القليل

واستنزلوابعد عزمن معاقلهم*** فأسكنوا جفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا *** أين الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت محجبة *** من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود تنتقل

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

قال: فضرب المتوكل بالكأس من الأرض وتنغص عيشه في ذلك اليوم .(1) لمحمود بن الحسن الوراق :(2)

مضى أمسك الماضي شهيداً معدلا *** وأعقبه يوم عليك شهيد

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة *** افتن باحسان وأنت حمید

ص: 342


1- أنظر : مروج الذهب ج4 ص 93 - 94 ووفيات الأعيان لابن خلکان وتذكرة الخواص ص 361
2- من شعراء الدولة العباسية ، أكثر شعره في المواعظ والحكم روى عنه ابن أبي الدنيا ، وتوفي الوراق في خلافة المعتصم العباسي في حدود سنة 230 ه.

فيومك إن أعقبته عاد نفعه ***عليك وماضي الأمس ليس يعود

ولا ترج فعل الخير يوما إلى غد *** لعل غداً يأتي وأنت فقید

وله أيضا:

أعارك ماله لتقوم فيه*** بطاعته وتعرف فضل حقه

فلم تشکره نعمته ولكن*** قويت على معاصيه برزقه

تبارزه بها أبدا وعوداً ***و تستخفي بها عن كل خلقه

وله أيضا :

یا ناظراً يرنو بعيني راقد*** ومشاهد للأمر غير مشاهد

منیت نفسك ضلية وأبحتها*** طرق الرجاء وهن غير قواصد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي*** درك الجنان وفوز ما للعابد

ونسيت أن الله أخرج آدما*** منها إلى الدنيا بذنب واحد

ولأبي العتاهية اسماعيل الجرار (1):

قنع النفس بالكفاف وإلا ***طلبت منك فوق ما يكفيها

ليس فيما مضى ولا في الذي ***لم يأت من لذة لمستحليها

إنما أنت طول عمرك ما عمرت ***والساعة التي أنت فيها

وله أيضا في الدنيا:

يا خاطب الدنيا إلى نفسها*** تنح عن خطبتها تسلم

إن التي تخطب غرارة*** قريبة العرس من المأتم

ص: 343


1- هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني من مشاهير الشعراء في طبقة بشار وأبي نؤاس وأكثر شعره في المواعظ والزهديات ولد سنة 130 ه بعين الثمر وهي بليدة بالحجاز قرب المدينة المنورة ونشأ بالكوفة وسكن بغداد ، وكان يبيع الجرار وتوفي سنة 211 ه. في بغداد .

المسيح يخاطب الدنيا

قال الشيخ أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي (رض) : حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي البصري عن النجري باسناده رفعه إلى أي شهاب قال:

بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام قال للدنيا : يا إمرأة كم لك من زوج؟ قالت كثير ، قال : فكلهم طلقك ؟ فقالت: لا، بل كلهم قتلت ، قال : أهؤلاء الباقون لا يعتبرون باخوانهم الماضين ، كيف تورد بينهم المهالك واحداً واحداً ، فيكونوا منك على حذر؟ قالت: لا.

وأنشد : لبعضهم في الدنيا:

مزمومة بالهم مخطومة *** سم زعاق در أخلافها

ولم تزل تقتل ألافها*** اف لقتالة ألافها

فصل من كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله في الدنيا

قال عليه السلام:

أنا زعيم بثلاث لمن أكب على الدنيا! بفقر لا غناء له ، وبشغل لا فراغ له ، وبهم وحزن لا انقطاع له.

وقال عليه السلام:

كونوا في الدنيا أضيافاً، واتخذوا المساجد بیوتا، وعودوا [ قلوبكم](1) الرقة، وأكثروا التفكر والبكاء ، ولا تختلفن بكم الأهواء . تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون ، وتأملون ما لا تدركون .

ص: 344


1- في النسخة بيوتكم.

فصل من كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في هذا المعنى :

« من أصبح حزيناً على الدنيا ، فقد أصبح ساخطاً على ربه تعالى ، ومن كانت الدنيا أكبر همه طال شقاؤه وغمه . الدنيا لمن تركها ، والآخرة لمن طلبها .

الزاهد في الدنيا كلما ازدادت له تحلياً ازداد عنها تخليا . إذا طلبت شيئا من الدنيا فزوي عنك فاذكر ما خصك الله به من دينك ، وصرفه عن غيرك ، فإن ذلك أحرى أن تستحق نفسك ما فاتك.

ومن بديع كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي حفظ عنه .

إن رجلا قطع عليه خطبته وقال له: صف لنا الدنيا . فقال :

أولها عناء ، وآخرها بلاء ،[ في ] حلالها حساب ، و[ في ] حرامها عقاب . من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم ، ومن استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن سعى لها (1) فأتته ، ومن قعد عنها واتته ، ومن نظر إليهاألهته ، ومن تهاون بها نصرته.

ثم عاد إلى مكانه من خطبته صلى الله عليه وآله .

وهذه أعلى الرتب درجة في حضور الخاطب .

فصل:

اشارة

من الكلام في تثبيت أمامة صاحب الزمان المهدي بن الحسن وامامة آبائه عليه وعليهم السلام.

أعلم - أيدك الله - إن الدليل على صحة اما مته (ص) وإثبات غيبته ظاهر لمن نظره، قاطع لعذر من اعتبره ، بين لمن تأمله ، قريب لمن تناوله.

وهو مبني على أصلين ، يشهد العقل بها ويدل عليهما . أحدهما وجوب الامام في كل زمان ، والآخر كونه معصوماً من السهو والخطأ والنسيان.

ص: 345


1- في النسخة : (ساعاها).

فإذا علم المتأمل صحة هذين الأصلين وثبتا عنده بواضح الدليل ثبت له عقیبهما صحة الإمامة والغيبة لمن ذكرنا (ص)، ولم يحتج إلى تكرار رواية ولا تطويل، وذلك للظاهر المعلوم الذي لا لبس فيه ، من حال من يدعي لهم الامامة اليوم، سوى من أشرنا إليه ، وتعريهم أجمعين عن استحقاق العصمة ، ومماثلتهم في جواز الخطأ عليهم لسائر الأمة.

فعلم بذلك صحة إمامة صاحبنا صلوات الله عليه ، وثبت لعدم ظهور غيبته حسبما ذهبنا إليه.

ولولا أنه الامام دون العالمين لبطل ما شهد به العقل من صحة الأصلين ، وبطلانهما يستحيل مع قيام الدليل.

وهذه حجة بعيدة عن المعارضات، سالمة من دخول الشبهات، [سهلة ](1) المرام، قريبة من الأفهام، وبها يستمر لك الاستدلال على نظام، في تثبيت إمامة. جميع ساداتنا عليهم السلام ، لأن وجوب الامامة وثبوت العصمة لرئيس الأمة مع ما علمناه من تعري الكافة من هذه الخصلة سائق إلى الإقرار بإمامة الأثني عشر صلوات الله عليهم ، ومانع للعاقل من الإنصراف عنهم، والشك فيهم ، ولم يبق بعدها أكثر من إيراد الدليل على صحة ما ذكرناه من الأصلين ، وقد وجب انحسام مادة الخلاف ممن له عقل وانصاف

دليل على وجوب الإمامة

أما الدليل أنه لا بد للناس من إمام في كل زمان فمختصره أنا نعلم علماً ليس للشك فيه مجال أن وجود الرئيس في الرعية ، المطاع ذي الهيبة مقدماً ومثقفاً ومذكراً وموقفا ، (2) أردع لها من القبيح، وأدعى إلى فعل الجميل ،

ص: 346


1- في النسخة (سهل)
2- كذا في النسخة . ولعله : معرفاً

وأكف لأيدي الظالمين ، وأحرس لأنفس [المردوعين ](1) ووجود الهرج بينهم ووقع الفتن منهم .

والعلم بما ذكرناه في ذلك مبني على الضرورات، والتنبيه عليه مع ظهوره يغني عن الإطالة والزيادات. وقد أتقن الكلام في هذه المسألة مشايخنا رضي الله عنهم ، ولم يدعوا للخصوم شبهة تستغرب منهم.

دليل على وجوب العصمة

وأما الدليل على وجوب عصمة الإمام فهو أن علة الحاجة إليه أن يكون لطفا للرعية في الصلاح ليصدها عن ارتكاب القبائح والفساد، ويردها إلى فعل الواجب والسداد ، حسبما تقدم به الذكر في وجوب الحاجة إليه في كل عصر . وهذا يقتضي أن لا تكون علة الحاجة إليه موجودة فيه ، فإنه متى جاز منه القبيح وفعل غير الجميل كان فقيراً محتاجاً إلى إمام متقدم عليه ، ويمنعه مما هو جائز منه ، ويأخذ على يديه . ويكون الكلام في إمامته كالكلام فيه ، حتى يؤدي ذلك إلى المحال من وجود أئمة لا يتناهون ، أو إلى الواجب من وجود إمام معصوم. فعلم أن علة الحاجة إليه غير موجودة فيه والحمدلله .

دليل آخر على ثبوت عصمة الإمام

وما يعلم به ثبوت العصمة للأئمة أن الإمام قدوة في الدنيا والدين ، واتباعه مفترض من رب العالمين ، فوجب أن لا يجوز الخطأ والزلل عليه ، وإلا كان الله تعالى قد أمر باتباع من يعصيه ، ولولا استحقاقه العصمة لكان إذا ارتكب المعصية [يتضاد مع] التكليف على الأمة ، وتصير الطاعة منها معصية ، والمعصية طاعة ، وذلك أنها مأمورة باتباعه والاقتداء به ، فمتي اتبعته في المعصية امتثالا للمأمور من الاقتداء لكانت من حيث الطاعة عاصية لله سبحانه ، ومتى خالفته ولم تقتد به طلبا لطاعة الله تعالى كانت أيضا عاصية لمخالفتها لمن أمرت بالاقتداء به واتباعه. وفي استحالة جميع ذلك دلالة على عصمته .

ص: 347


1- في النسخة الرادعين.

وليس لأحد أن يقول إن الاقتداء بالإمام واجب على الرعية فيما علمت صوابه فيه. لأن هذا القول يخرجها من أن تكون مقتديه به، إذ كانت إنما عرفت الصواب بغيره لا بقوله وبفعله . فهي إذا عملت (1) بما عمل لمعرفتها بصوابه فيه إنما وافقته في الحقيقة ولم تقتد به وتتبعه.

ولو جاز أن يكون إماماً لها في شيء عرفت صوابه بغيره لكانت اليهود أئمة للأمة في الإقرار موسى عليه السلام، لموافقتها لهم في العلم بصحة نبوته.

وهذا يدل العاقل على أن القدوة المتبع هو من عرف الحق به وبقوله وفعله . فقد بان واتضح ثبوت الأصلين من وجوب الإمامة والعصمة ، وبثبوتها قد انتظم لنا ما قدمناه من الدليل. وفي ذلك كغاية وغني عن التطويل ، والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد رسوله وآله الطاهرين .

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني قال أخبرني أبو جعفر عمر بن علي العتكي قال أخبرني أحمد بن محمد بن صفوة قال حدثني الحسن بن علي بن محمد العلوي قال حدثني الحسن بن حمزة النوفلي قال أخبرني عمي عن أبيه عن جده قال أخبرني الحسن بن علي قال أخبرتني فاطمةابنة رسول الله (ص) عنه (ص) قال أخبرني عن كاتبي على انهما لم يكتبا على علي ذنبا مذ صحباه.

وحدثني السلمي عن العتكي قال حدثني سعيد بن محمد الحضرمي قال حدثنا الحسن بن محمد بن عبد الرحمن الصدفي قال حدثني محمد بن عبد الرحمن قال حدثنا أحمد بن إبراهيم العوفي عن أحمد بن أبي الحكم البراجمي عن شريك بن عبد الله عن أبي الوفا عن محمد بن ياسر بن عمار بن یاسر عن أبيه عمار قال سمعت النبي (ص) يقول: أن حافظي علي يفتخران على سائر الحفظة بكونهما مع علي (ع). ذلك أنها لم يصعدا إلى الله عز وجل بشيء منه فيسخطه.

ص: 348


1- في النسخة علمت .

فصل من كلام أمير المؤمنين (ع) وحكمه

اشارة

قال علي (ع):

لم يمت من ترك أفعالا يقتدي بها من الخير .

من نشر حكمة ذكر بها.

موت الأبرار راحة لأنفسهم، وموت الفجار راحة للعالم.

من كتم علما فكأنه جاهل.

الجواد من بذل ما يضن بمثله .

من كرم أصله حسن فعله.

وجاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه تكلم أمير المؤمنين صلوات الله عليه بأربع وعشرين كلمة ، قيمة كل كلمة وزن السموات والأرض، قال:

رحم الله امرءاً سمع فوعي ودعي إلى رشاد فدنا . وأخذ بحجزة هاد فنجا، راقب ربه ، وخاف ذنبه ، قدم خالصاً، وعمل صالحا ، اكتسب مذخوراً ، واجتنب محظوراً، رمی غرضاً ، وأخذ عوضا ، كابر هواه ، وكذب مناه، حذر أملا ، ورتب عملا ، جعل الصبر رغبة حياته ، والتقى عدة وفاته، يظهر دون ما یکتم ، ويكتفي بأقل مما يعلم ، لزم الطريقة الغراء، والمحجة البيضاء، اغتنم المهل وبادر الأجل ، وتزود من العمل.»

ومن كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

أزرى بنفسه من استشعر الطمع.

من أهوى إلى متفاوت الأمور خذلته الرغبة .

أشرف الغني ترك المني.

من ترك الشهوات كان حراً.

الحرص مفتاح التعب ، وداع إلى التقحم في الذنوب، والشره جامع لمساوىء العيوب. الحرص علامة الفقر .

من أطلق طرفه كثر أسفه.

ص: 349

قلما تصدقك الأمنية. رب طمع کاذب ، وأمل خائب.

من لجأ إلى الرجاء سقطت كرامته.

همة الزاهد مخالقة الهوى ، والسلؤ عن الشهوات.

ما هدم الدين مثل البدع، ولا أفسد الرجال مثل الطمع. إياك والأماني فإنها بضائع النوكی.

لن يكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته ، ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه .

من تيقن أن الله سبحانه يراه وهو يعمل بمعاصيه فقد جعله أهون الناظرين .

مواعظ

وجاء في الحديث ، أن رسول الله (ص) قال:

« ما آمن بالقرآن من استحل محارمه» .

أخبرني شيخنا المفيد رضي الله عنه ونقلت من خطه قال حدثني أبو حفص بن عمر بن محمد بن علي المعروف بابن الزيات، قال حدثنا علي بن مهرویه القزويني ، قال حدثنا داود بن سليمان الغازي ، قال حدثنا الرضا علي بن موسی ، قال حدثني أبي موسى بن جعفر ، قال حدثني أبي جعفر بن محمد الصادق ، قال حدثني أبي محمد بن علي الباقر ، قال حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدین ، قال حدثني أبي الحسين بن علي الشهيد، قال حدثني أبي أمير المؤمنين ، قال حدثني رسول الله (ص) قال:

«يقول الله عز وجل يا ابن آدم ، ما أنصفتني ، أتحبب إليك بالنعم، وتبغض إلى بالمعاصي ، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، وفي كل يوم يأتيني عنك ملك كريم بعمل غير صالح.

يا ابن آدم: لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تدري من الموصوف لسارعت إلى مقته..

ص: 350

وأخبرني شيخنا المفيد رضي الله عنه قال حدثني جعفر بن محمد بن قولويه ، قال: حدثنا أبي وأخي علي ، قالا حدثنا سعد بن عبد الله عن يعقوب عن يزيد عن محمد بن زياد ، عن جعفر بن قرظ، عن أبي عبد الله (ع) قال:

« من وعظه الله بخير، فقبل بالبشري فله البشري، ومن له يقبل فالنار له أحرى »

وأخبرني شيخنا أيضا عن جعفر بن محمد بن قولويه ، قال حدثني جعفر بن محمد بن مسعود ، عن أبيه ، عن الحسين بن خالد ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله (ع) قال حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال:

«من أيقن أنه يفارق الأحباب، ويسكن التراب، ويواجه الحساب ، ويستغني عما خلف ، ويفتقر إلى ما قدم كان حريا بقصر الأمل وطول العمل »

فصل: من كلام رسول الله (ص) :

جاء في الحديث عن الرسول عليه وآله السلام أنه قال :

« من أراد أن يكون أعز الناس فليتق الله عز وجل».

وقال:

« من خاف الله سخت نفسه عن الدنيا ، ومن رضي من الدنيا بما يكفيه كان أيسر ما فيها يكفيه ،،

وقال :

« الدنيا خضرة حلوة ، والله مستعملكم فيها ، فانظروا كيف تعملون .»

وقال:

« من ترك معصية الله مخافة من الله أرضاه يوم القيامة ، ومن مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإيمان .»

وقال:

«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنك لن تجد فقد شيء تركته لله عز وجل »

ص: 351

وقال:

« باب التوبة مفتوح لمن أرادها ، فتوبوا إلى الله توبة نصوحا »

وقال:

« بادروا بعمل الخير قبل أن تشتغلوا عنه ، واحذروا الذنوب ، فإن العبد يذنب الذنب فيحبس عنه الرزق »

حدثني الشيخ أبو المرجا محمد بن علي بن أبي طالب البلدي بالقاهرة ، قال حدثنا استاذي أبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن جعفر النعماني رحمه الله ، عن أبي العباس أحمد بن محمد بن سعید بن عقدة الكوفي عن شيوخه الأربعين، عن الحسن بن محبوب ، عن محمد بن النعمان الأحول، عن سلام بن المستنير ، عن أبي جعفر الإمام الباقر عليه السلام قال: قال جدي رسول الله (ص):

«أيها الناس: حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة . ألا ، وقد بينها الله عز وجل في الكتاب ، وبينتهما لكم في سيرتي وسنتي . وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي، من تركها صلح له أمر دينه ، وصلحت له مروءته وعرضه .

ومن تلبس بها ووقع فيها واتبعها ، كان كمن رعى غنما قرب الحمى ، ومن رعى ماشيته قرب لحمى نازعته إلى أن يرعاها في الحمى.

ألا وان لكل ملك حمى، ألا وأن حمى الله عز وجل محارمه ، فتوقوا حمی الله ومحارمه.

ألا وأن أذى المؤمن من أعظم سبب سلب الإيمان .

ألا ومن أحب في الله جل وعز ، وأبغض في الله ، وأعطى في الله ، ومنع في الله ، فهو من أصفياء المؤمنين عند الله تبارك وتعالى .

إلا وأن المؤمنين إذا تحابا في الله جل وعز ، وتصافيا في الله ، كانا كالجسد الواحد ، إذا اشتكى [أحد ] هما من جسده موضعاً، وجد الآخر ألم ذلك الموضع ».

ص: 352

[قصة وقعت للمؤلف ]

ومن عجيب ما رأيت واتفق لي ، أنني توجهت يوما لبعض أشغالي . وذلك بالقاهرة في شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وأربعمائة ، فصحبني في الطريق رجل كنت أعرفه بطلب العلم وكتب الحديث ، فمررنا في بعض الأسواق بغلام حدث، فنظر إليه صاحبي نظراً استربت منه ، ثم انقطع مني ومال إليه و حادثه ، فالتفت انتظاراً له ، فرأيته يضاحكه ، فلما لحق بي عذلته على ذلك ، وقلت له : لا يليق هذا بك، في كان بأسرع من أن وجدنا بين أرجلنا في الأرض ورقة مرمية ، فرفعتها لئلا يكون فيها اسم الله تعالى ، فوجدتها قديمة ، فيها خط رقیق ، قد اندرس بعضه ، وكأنها مقطوعة من كتاب ، فتأملتها فإذا فيها حديث ذهب أوله وهذا نسخته:

قال أني أخوك في الإسلام، ووزيرك في الإيمان ، وقد رأيتك على أمر لم يسعني أن أسكت فيه عنك ، ولست أقبل فيه العذر فيك ، قال وما هو حتى أرجع عنه وأتوب إلى الله تعالى منه ، قال رأيتك تضاحك حدثا غراً جاهلا بأمور الله وما يجب من حدود الله ، وأنت رجل قد رفع الله قدرك بما تطلب من العلم ، وإنما أنت بمنزلة رجل من الصديقين ، لأنك تقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله (ص) عن جبرئیل عن الله تعالى ، فيسمعه الناس منك فيكتبوه عنك ، ويتخذونه دينا يعولون عليه ، وحكما ينتهون إليه ، وإنما أنهاك أن تعود لمثل الذي كنت عليه، فإني أخاف عليك غضب من يأخذ العارفين قبل الجاهلين ، ويعذب فساق حملة القرآن قبل الكافرين. فما رأيت حالا أعجب من حالنا ، ولا عظة أبلغ مما اتفق لنا. ولما وقف عليه صاحبي اضطرب لها اضطراباً بان فيها أثر لطف الله تعالى لنا. وحدثني بعد ذلك أنه أنزجر عن تفريطات كانت تقع منه في الدين والدنيا ، والحمد لله .

ص: 353

سؤال عن آية

«إن أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فحق عليها القول فدمرناها تدمير » الإسراء : 16

فقال : أخبروني ما معنى هذا الإهلاك الذي يريده الله تعالى ، وكيف قدم اهلاكهم على أمره لهم؟ ومتى يستمر مع القول بالعدل أن يريد إهلاك قوم قبل أن يأمرهم فيعصوا؟ وما معنى قوله (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ؟) ففي هذا على من لم يفهم معناه شبهة والله لا يأمر إلا بالعدل.

الجواب:

قيل له في هذه الآية وجوه :

أحدها أن من الإهلاك ما يكون حسناً، وهو أن يكون مستحقاً أو إمتحانا، وإنما يكون قبيحاً إذا كان ظلما أو عبثا.

وقد ثبت لنا بالدليل الواضح عدل الله تعالى وحكمته ، وأنه لا يريد الظلم ، ولا يقع منه العبث(1) فعلمنا أنه لا يريد إلا الإهلاك الحسن.

وأما قوله (أمرنا مترفيها) فالمأمور به هنا محذوف ، وهو الطاعة. وتقدير الكلام : أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا وخالفوا ، ويجري هذا مجرى قول القائل : أمرتك فعصيتني ، فحذف ذکر ما أمره به ، لفهم السامع له. وهذا معروف من كلام العرب ، والأمثلة فيه كثيرة.

وأما مترفوها فهم الذين يعملون في الدنيا في غير طاعة الله تبارك وتعالى .

ص: 354


1- في الأصل البعث وهو غلط من الناسخ.

وأما تقدم إرادة الإملاك على الأمر، فيتحمل أن يكون ذلك بعد أمر متقدم لم يذكر ، استحق المأمورون بمخالفتهم له العذاب، فلما أراد الله تعالى إهلاكهم أعذر إليهم بأمر ثان على وجه التكرير والتأكيد في إقامة الحجة على العاصين، قبل وقوع الإهلاك المستحق المذكور ، ويوافق هذا التأويل قوله تعالى :

«وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » الإسراء : 15

الوجه الثاني : أن يكون الإرادة في الآية مجازاً وتنبيها ، على المعلوم من حال القوم وعاقبتهم ، وأنهم متى أمروا ففسقوا فأهلكوا ، ويجري ذلك مجری قولهم : إذا أراد التاجر أن يفتقر أتته النوائب من كل جانب ، وتوجه نحوه الخسران من كل مكان، وإذا أراد العليل أن يموت خلط في أكله.

ومعلوم أن ليس منهما من يريد ذلك. وإنما حسن الكلام لما علم من عاقبة أمرهما.

وهذا من أحد أقسام الفصاحة في كلام العرب، وهو جواب صحيح في الآية.

الوجه الثالث: أن يحمل الكلام في الآية على التقديم والتأخير، ويكون تلخيصه: إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة فعصوا واستحقوا العقاب، أردنا إهلاكهم.

والتقديم والتأخير أيضا مستعمل في كلام العرب ، وهو وجه حسن ، ويشهد به من القرآن قول الله تعالى :

«يا أيها الذين إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » . المائدة: 1

ونحن نعلم أن الطهارة للصلاة إنما تجب قبل القيام إلى الصلاة . فأما من قرء

ص: 355

(أمرنا) بالتشديد فإنما لإغناء به عن أجوبتنا .(1)

فصل:

من أمالي شيخنا المفيد رحمه الله :

روي أنه لما سار المأمون إلى خراسان کان معه الإمام الرضا علي بن موسى عليهما السلام، فبينا ها يتسايران، إذ قال له المأمون: يا أبا الحسن، إني فكرت في شيء ، فسنح لي الفكر الصواب فيه. إني فكرت في أمرنا وأمر كم ، ونسبنا ونسبكم ، فوجدت القضية فيه واحدة ، ورأيت اختلاف شیعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية.

فقال له أبو الحسن الرضا (ع) : إن لهذا الكلام جوابا ، إن شئت ذكرته لك وإن شئت أمسكت.

فقال له المأمون: لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه .

قال الرضا (ع): أنشدك الله يا أمير المؤمنين ، لو أن الله تعالى بعث محمداً (ص) فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام ، فخطب إليك ابنتك لكنت مزوجه إياها ؟

فقال : يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (ص)؟

فقال له الرضا (ع): أفتراه كان يحل له أن يخطب ابنتي ؟

فسكت المأمون هنيئة ثم قال: أنتم والله أمس برسول الله (ص) رحماً.

وروي أنه لما حج الرشید ونزل في المدينة، اجتمع إليه بنو هاشم وبقايا المهاجرين والأنصار ووجوه الناس ، وكان في الناس ، الإمام أبو الحسن موسى

ص: 356


1- ما ذكره المؤلف هنا من الأجوبة هو ملخص مما ذكره الشريف المرتضى في الأمالي انظر ج 2 ص 1-5

ابن جعفر (ع) ، فقال لهم الرشيد قوموا بنا إلى زيارة رسول الله (ص)، ثم نهض معتمداً على يد أبي الحسن موسی بن جعفر (ص)، حتى انتهى إلى قبر رسول الله (ص)، فوقف عليه فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا ابن عم افتخاراً بذلك على قبائل العرب الذين حضروا معه ، واستطالة عليهم بالنسب. قال فنزع أبو الحسن موسی (ع) يده من يده ، وقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبه . قال فتغير وجه الرشيد ، ثم قال: يا أبا الحسن ، إن هذا لهو الفخر .(1)

حدثني القاضي السلمي أسد بن ابراهيم، قال: أخبرني العتكي عمر بن على ، قال: حدثني محمد بن إسحاق البغدادي، قال: حدثنا الكديمي ، قال : حدثنا بشر بن مهدان ، قال : حدثنا شريك بن شبیب ، عن عروة ، عن المستطيل ابن حصين ، قال :

« خطب عمر بن الخطاب إلى علي بن أبي طالب (ع) ابنته ، فاعتل عليه بصغرها ، وقال: إني [ أعددتها ] لابن أخي جعفر ، فقال عمر:

إني سمعت رسول الله (ص) يقول:

كل حسب ونسب فمنقطع يوم القيامة ما خلا حسبي ونسي، وكل بني أنثي ، عصبهم لأبيهم ما خلا بني فاطمة ، فإني أنا أبوهم ، وأنا عصبتهم ».(2)

خبر يحيى بن يعمر مع الحجاج

قال الشعبي: كنت بواسط ،(3) وكان يوم أضحى ، فحضرت صلاة العيد مع

ص: 357


1- ذكر هذا الحديث السبط في التذكرة ص. 350 ناقلا له عن المدائني مختصراً. ورواه المفيد في الفصول المختارة ج (1) ص 15. ورواه أيضا في الإرشاد ص272 مختصراً أيضا.
2- ذكر أصل خطبة عمر بن الخطاب لأم كلثوم بنت علي (ع) السبط في التذكرة ص321 دون ما سمعه عمر عن النبي (ص) وأنظر : الصواعق المحرقة ص156 - 157.
3- مدينة بناها الحجاج في العراق عام 83/84 ه وسمیت واسطاً لتوسطها بين البصرة والكوفة والأهواز وبغداد ، فإن بينها وبين كل واحدة من هذه المدن مقداراً واحداً وهو خمسون فرسخاً (التنبيه والإشراف) ص 311.

الحجاج ، فخطب خطبة بليغة، فلما انصرف جائني رسوله فأتيته، فوجدته جالساً مستوفزاً، قال: يا شعبي هذا يوم أضحى ، وقد أردت أن أضحي برجل من أهل العراق ، وأحببت أن تسمع قوله ، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.

فقلت : أيها الأمير ، لو ترى أن تستن بسنة رسول الله (ص)، وتضحي بما أمر أن يضحي به ، وتفعل مثل فعله ، وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره .

فقال يا شعبي ، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأي فيه ، لكذبه على الله وعلى رسوله ، وإدخاله الشبهة في الإسلام.

قلت: أفيري الأمير أن يعفني من ذلك ؟ قال : لا بد منه.

ثم أمر بنطع فبسط ، وبالسياف فأحضر ، وقال : احضروا الشيخ ، فأتوه به ، فإذا هو يحيى بن يعمر ، فاغممت غماً شديداً ، فقلت في نفسي : وأي شيء يقوله يحيى مما يوجب قتله ؟

فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق ؟

قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء أهل العراق.

قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسن والحسين (ع) من ذرية رسول الله (ص)؟

قال : ما أنا زاعم ذلك، بل قائل بحق.

قال : وبأي حق قلت ؟

قال: بكتاب الله عز وجل.

فنظر إلى الحجاج، وقال : اسمع ما يقول، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه ، أتعرف أنت في كتاب الله عز وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمد رسول الله (ص)؟ فجعلت أفكر في ذلك ، فلم أجد في القرآن شيئا يدل على ذلك.

وفكر الحجاج مليا ثم قال ليحيى : لعلك تريد قول الله عز وجل .

« فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا

ص: 358

وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين» آل عمران: 61.

وأن رسول الله (ص) خرج للمباهلة ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين (ع). قال الشعبي: فكأنما أهدى لقلبي سروراً ، وقلت في نفسي : قد خلص يحیی . وكان الحجاج حافظاً للقرآن.

فقال له يحيى: والله ، إنها لحجة في ذلك بليغة ، ولكن ليس منها أحتج لما قلت ، فأصفر وجه الحجاج ، وأطرق مليأ ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال : إن جئت من كتاب الله بغيرها في ذلك ، فلك عشرة آلاف درهم ، وإن لم تأت بها فأنا في حل من دمك.

قال: نعم

قال الشعبي: فغمني قوله فقلت : أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيي ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه ، ويتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه ، فإن جاءه بعد هذا بشيء لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو.

فقال يحيى للحجاج: قول الله عز وجل :

«ومن ذريته داود وسلیان » الأنعام: 84.

من عني بذلك ؟

قال الحجاج: ابراهيم

قال: فداود وسليمان من ذريته ؟

قال: نعم.

قال يحيى : ومن نص الله عليه بعد هذا أنه من ذريته ؟

فقرأ الحجاج : « وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين»

قال يحيى : ومن ؟

قال: « وزكريا ويحیی وعیسی »

قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذرية ابراهيم ، ولا أب له؟

ص: 359

قال: من قبل أمه مريم.

قال يحيی : فمن أقرب ، مريم من ابراهيم أم فاطمة من محمد (ص)، وعیسی من ابراهیم (ع) أم الحسن والحسين (ع) من رسول الله (ص) ؟؟

قال الشعبي: فكأنما ألقمه حجراً.

فقال أطلقوه، قبحه الله ، وإدفعوا إليه عشرة آلاف درهم ، لا بارك الله له فيها .

ثم أقبل علي فقال: قد كان رأيك صواباً ، ولكنا أبيناه ، ودعا بجزور فنحروه، وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه ، وما تكلم بكلمة حتى انصرفنا ، ولم يزل مما احتج به يحيى بن يعمر واجماً .

فصل من القول في القضاء والقدر

اشارة

(سؤال) إن قال قائل ما قولكم فيهما ، وما معناهما عندكم وحقيقتهما ، وهل أفعال العباد عندكم بقضاء الله وقدره أم لا، وما معنى الخبر المروي عن رسول الله (ص) إنه قال حاكيا عن ربه جل وعز :

« من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ رباً سوائي »(1).

وما روي عنه عليه السلام من أنه أوجب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأخبر أن الإيمان لا يتم إلا به . (2)

وما معنى قول المسلمين : إن الواجب الرضا بما قضاه الله وقدره ؟؟؟

أبينوا لنا عن حقيقة ذلك ليحصل لنا العلم به .

الجواب

قلنا الواجب من هذه المسألة أولا أن نذكر معاني القضاء والقدر ثم نبين ما

ص: 360


1- رواه الصدوق في التوحيد ص 379 على تغيير في بعض ألفاظه .
2- هو مضمون الحديث عن رسول الله (ص) لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره رواه في التوحيد ص 388.

يصح أن يتعلق بأفعال العباد من ذلك وما لا يتعلق ، ونجيب عن الخبر المروي عن رسول الله (ص) في ذلك بما يلاءم الحق.

أما القضاء فعلى أقسام :

منها ما يكون بمعنى الإعلام كقول الله تعالى :

« وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين » الحجر: 66 أي أعلمناه ، وقوله سبحانه:

« وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين » الإسراء : 4.

أي أعلمناهم بذلك. ويكون القضاء أيضا بمعنى الحكم والإلزام كقوله جل اسمه :

«وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه م الإسراء : 23.

أي حكم بذلك في التكليف على خلقه وألزمهم به.

فأما القدر فيكون بمعنى الكتاب والإخبار كما قال جل وعلا:

«إلا إمرأته قدرنا إنها لمن الغابرین ». الحجر: 60.

يعني كتبنا وأخبرنا ، ويكون القدر أيضا بمعنى التبيين لمقادير الأشياء وتفاصيلها والإعلام باختلاف أحوالها .

ويكون القدر ترك الأشياء في التدبير على نظام ووضعها في الحكمة مواضعها من غير زيادة ولا نقصان ، كما قال تعالى :

« وقدر فيها أقواتها » فصلت: 10

فأما أفعال العباد فيصح أن نقول فيها ، إن الله تعالى قضى بالطاعة منها ، على معنى أنه حكم بها وألزمها عباده وأوجبها . وهذا إلزام أمر ، وليس بالجاء ولا جبر.

ونقول أيضا : إنه سبحانه قدر أفعال العباد ، بمعني بين لهم مقاديرها من حسنها وقبحها ، ومباحها وحظرها وفرضها ونفلها .

ص: 361

فأما القول بأنه قضاها على معنى أنه خلقها فغير صحيح، لأنه لو خلق الطاعة والمعصية لسقط اللوم [عن] العاصي ، بموجب العدل ولم يكن معنى لإثابة الطائع في حجة ولا عقل.

ويقول في أفعال الله إنها كلها بقدره يريد أنها لا تفاوت فيها ولا خلل ، وأنها بموجب الحكمة ملتئمة وعلى نسق الصواب منتظمة.

فأما الخبر المروي عن النبي (ص) من قوله حكاية عن الله سبحانه :

« من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلاتي فليتخذ ربا سوائي »(1).

فهو واضح المعنى للمعاقل. وهذا القضاء من الله تعالى ، هو مما يبتلي به العبد، من إعلاله وأسقامه ، وعوارضه وآلامه، وفقره بعد الغني، وما [ يمتحنه ] من فقد الأعزاء والأقرباء . كل ذلك من قضاء الله الذي يجب الرضا به والصبر عليه ، وهو ما يفعله الله سبحانه بعبده للحكمة التي تقتضيه وما يعلمه الله عز وجل من الصلاح الذي لعبده فيه.

وكيف يقضي الله على العبد بالمعصية ، وهي من الباطل الذي يعاقب عليه وقد قال الله عز من قائل: « والله يقضي بالحق ». غافر: 20

وكذلك أقول في الخبر المروي عن النبي (ص) من إيجابه الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره. فالخير من القضاء والقدر هو ما مالت إليه الطباع و[التذت به ] الحواس. والشر بالضد من ذلك ، على ما تقدم به البيان.

وسمي أيضا شراً، لما على النفس في تحمله من المشاق، وهو ما أجمع المسلمون عليه من الرضا بقضاء الله والتسليم لقدره.

ولو كان الظلم والغضب والكفر بالله عز وجل من قضاء الله وقدره، لوجب الرضا به وترك إنكاره. فلما رأينا العقلاء ينكرونه ولا يرضونه ، ويعيبون على من رضي به ويذمونه ، علمنا أنه ليس من قضاء الله سبحانه .

ص: 362


1- رواه الصدوق في كتاب التوحید ص 379 على تغيير في بعض ألفاظه .

أخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه إجازة ، قال : حدثنا محمد بن عمر الحافظ إملاء ، قال: حدثنا أبو القاسم إسحاق بن جعفر العلوي ، قال : حدثني أبي جعفر بن محمد بن علي عن سليمان بن محمد القرشي ، عن إسماعيل بن أبي زياد ، عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه عن جده عليهم السلام قال:

« دخل رجل من أهل العراق على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فقال :

أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟

فقال له أمير المؤمنين (ع):

یا شیخ ، فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا بقضاء من الله وقدره .

فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين.

فقال: مهلا يا شيخ، لعلك تظن قضاء حتما وقدراً لازماً ؟

لو كان ذلك به ، لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر ، وسقط معنی الوعيد ، ولم يكن على مسيء لأئمة ، ولا لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب ، والمذنب أولى بالاحسان من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن، وقدرية هذه الأمة ومجوسها .

يا شيخ : إن الله كلف تخييراً ، ونهي تحذيراً، وأعطى بالقليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرها ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما با طلا . « ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار» ص: 27

وجاء في الحديث رواية أخرى، أن الرجل قال له : في القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟

فقال (ع): الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة، والمعونة على القربة إليه ، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب. كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعالنا . فأما غير ذلك فلا تظنه ، فإن الظن محبط للأعمال.

ص: 363

فقال الرجل : فرجت عني يا أمير المؤمنين وأنشأ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً*** جزاك ربك عنا فيه إحسانا

فليس معذرة في فعل فاحشة*** قد كنت راكبها فسقاً وعصيانا

لا لا ولا قائلا ناهيه أوقعه ***فيها عبدت إذا يا قوم شيطانا

ولا أحب ولا شاء الفسوق ولا *** قتل الولي له ظلما وعدوانا (1)

الحجاج يسأل عن القضاء والقدر

وذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي كتب إلى الحسن البصري (2)، وإلى واصل بن عطاء (3) ، وعمرو بن عبيد (4) وعامر الشعبي (5) ، فقال لهم : أخبروني بقولكم في القضاء والقدر ، فكتب إليه الحسن البصري:

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب (ع) ، فإنه قال:

« يا ابن آدم، أزعمت أن الذي نهاك دهاك ، وإنما دهاك أسفلك وأعلاك، وربك بري من ذاك» .

وكتب إليه واصل بن عطاء :

ص: 364


1- تجد هذا الحديث مروياً في توحيد الصدوق ص 388 - 389 وأنظر : أمالي المرتضی ج1 ص151، والفصول المختارة ج1 ص. 40 - 42، بزيادة أربعة أبيات.
2- هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار مولی زید بن ثابت ، وأمه خيرة مولاة أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي (ص)، كان معدوداً في الزهاد، ومتهما بالإنحراف عن علي (ع)، وكان كاتباً لوالي خراسان ربيعة بن زياد في زمن معاوية ، وولي القضاء على البصرة في زمن عمر بن عبد العزيز ، ثم استقال من تلك الوظائف، مجنداً نفسه لخدمة الأمويين ، حتى لقبوه بسيد التابعين ، نظراً لسعة معلومات، وتظاهرة بالتقشف والورع، ولكونه من محاسيب السلطة الأموية . عاش 89 سنة ومات سنة 110ه، وعلى هذا تكون ولادته سنة 21 ه.
3- هو أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال (80- 131 ه) من شيوخ المعتزلة وأعلامها البارزين ، بل هو المؤسس لمذهب الإعتزال، وله آراء معروفة مذكورة في كتب الفرق.
4- أبو عثمان عمرو بن عبید (80- 144 ه) من أئمة الإعتزال ودعاتهم ، وافق واصل بن عطاء في كثير من أصول المعتزلة.
5- أبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفي ينسب إلى شعب ، بطن من همدان ، من التابعين، كان فقيهاً شاعراً، وكان قاضياً على الكوفة، مات بالكوفة (سنة 104 ه).

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب (ع) فإنه قال:

« ما تحمد الله عليه فإنه منه ، وما تستغفر الله عنه فهو منك »

وكتب إليه عمرو بن عبيد :

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب ، فإنه قال:

«إن كان الرزق في الأصل محتوماً ، فالوازر في القصاص مظلوم »

وكتب إليه عامر الشعبي:

ما أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب (ع)

« من وسع عليك الطريق لم يأخذ عليك المضيق »

فلما قرأ الحجاج أجوبتهم قال : قاتلهم الله ، لقد أخذوها من غير صافية .(1)

وجاء في الحديث أن الحسن بن أبي الحسن البصري كتب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب (ع):

« من الحسن البصري إلى الحسن ابن رسول الله (ص) .

أما بعد فإنكم معاشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة ، ومصابيح الدجي وأعلام الهدى ، والأئمة القادة ، الذين من اتبعهم نجا، والسفينة التي يؤول إليها المؤمنون ، وينجو فيها المتمسكون ، قد كثر- يا ابن رسول الله - عندنا الكلام في القدر ، وإختلافنا في الإستطاعة ، فتعلمنا ما نرى عليه رأيك ورأى آبائك ، فإنكم ذرية بعضها من بعض ، من علم الله علمتم ، وهو الشاهد عليكم، وأنتم شهداء على الناس والسلام »

فأجابه الحسن بن علي صلوات الله عليهما:

« من الحسن بن علي إلى الحسن البصري.

أما بعد فقد انتهى إلى كتابك عند حيرتك وحيرة من زعمت من أمتنا ، وكيف ترجعون إلينا، وأنتم بالقول دون العمل .

ص: 365


1- من المعيد أن يكون الحجاج هو الذي وجه السؤال إلى مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، اللذين ولدا عام 80ه ، مع العلم أن الحجاج مات سنة 95 ه، حتى لو فرض أن سؤال الحجاج لهما كان في نفس السنة النبي مات فيها ، حين يكون عمر كل من عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء خمسة عشر عاما ، وبخاصة أنهما لم ييرزا بعد وهما في هذه السن المبكرة في المجال الفكري والعلمي ، و من هما فالمرجح أن يكون السائل شخصية أخرى غير الحجاج .

وأعلم أنه لولا ما تناهى إلي من حيرتك وحيرة الأمة قبلك لأمسكت عن الجواب ، ولكني الناصح وابن الناصح الأمين.

والذي أنا عليه أنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره، فقد كفر ، ومن حمل المعاصي على الله عز وجل فقد فجر . إن الله لا يطاع بإكراه، ولا يعصى بغلبة ، [ولم يهمل العباد سدی من المملكة ]، ولكنه عز وجل المالك لما ملكهم ، والقادر على ما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله عز وجل لهم صاداً ، ولا عنها مانعاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء سبحانه أن يمن عليهم فيحول بينهم وبينها فعل، وإن لم يفعل فليس هو[ الذي] حملهم عليها إجباراً، ولا ألزمهم بها إكراهاً ، بل احتجاجه - جل ذكره - عليهم أن عرفهم ، وجعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه ، وترك ما نهاهم عنه ، ولله الحجة البالغة والسلام ».(1)

أبو حنيفة مع الإمام موسی بن جعفر

وروى محمد بن سنان عن داود بن كثير الرقي ، أن أبا حنيفة قال لابن أبي ليلى مر بنا إلى موسی بن جعفر (ع) لنسأله عن أفاعيل العباد - وذلك في حياة جعفر الصادق (ع) وموسى يومئذ غلام- فلما صار إليه سلما عليه ، ثم قالا له: أخبرنا عن أفاعيل العباد، ممن هي؟

فقال لهما: إن كانت أفاعيل العباد من الله دون خلقه ، فالله أعلا وأعز وأعدل من أن يعذب عبيده على فعل نفسه ، وإن كانت من خلقه فالله أعلا وأعز من أن يعذب عبيده على فعل قد شاركهم فيه. وإن كانت أفاعيل العباد من العباد ، فإن عذب فبعدله ، وإن غفر فهو أهل التقوى وأهل المغفرة ، ثم أنشأ يقول :

لم تخل أفعالنا اللاتي تم بها ***إحدى ثلاث معان حين نأتيها

إما تفرد بارینا بصنعتها ***فيسقط الذم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه*** ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنانیها ***ذنب فما الذنب إلا ذنب جانیها (2)

ص: 366


1- تجد هذه المراسلة في تحف العقول للحرائي ص 162 مع بعض الاختلاف والزيادة.
2- روى ذلك الحراني في كتاب تحف العقول ص308 مختلفاً عن رواية المؤلف ودون ذكر الأبيات. ورواه الشريف المرتضى في الأمالي م 1 ص152 وذكر أن مضمون الخبر قد نظمه بعضهم

کلام الصادق لزرارة

وما حفظ عن الصادق (ع) في ذلك قوله لزرادة بن أعين :

«یا زرارة إني أعطيك جملة في القضاء والقدر ، قال له زرارة : نعم ، جعلت فداك. قال:

«إذا كان يوم القيامة ، وجمع الله الخلائق ، سألهم عما عهد إليهم ، ولم يسألهم عما قضى عليهم ».(1)

فصل من كلام أمير المؤمنين وآدابه وحكمه (ع)

*فصل من كلام أمير المؤمنين وآدابه وحكمه (ع) (2)

لا رأي لمن انفرد برأيه ، ما عطب من استشار من شاور ذوي الألباب دل على الصواب.

النصح لمن قبله

رأي الشيخ أحب إلى من حيلة الشاب .

رب واثق خجل

اللجاجة تسلب الرأي .

الطمأنينة قبل الحزم.

التدبير قبل العمل يؤمنك الندم .

من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ

من تحري القصد خفت عليه المؤن

من كابد الأمور عطب

لولا التجارب عميت المذاهب

في التجارب علم مستأنف

في التواني والعجز أنتجت الهلكة

ص: 367


1- هذا الحديث رواه الصدوق في التوحيد ص 374.
2- أكثر هذه الحكم موجودة في نهج البلاغة

أحذر العاقل إذا أغضبته ، والكريم إذا هنته، والنذل إذا أكرمته، والجاهل إذا صاحبته.

من كف عنك شره فاصنع به ما سره

من أمنت من أذيته فأرغب في إخوته

فصل من الكلام في الغيبة وسببها

إن قال قائل: ما السبب الموجب لغيبة صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل السلام.

قيل له : لا يسأل عن هذا السؤال إلا من قد أعطى صحة وجود الإمام، وسلم ما ذكره من غيبته من الأنام، لأن النظر في سبب الغيبة فرع عن كونها ، فلا يجوز أن يسأل عن سببها من يقول: إنها لم تكن ، وكذلك الغيبة نفسها فرع عن صحة الوجود، إذ كان لا يصح غيبة من ليس بموجود . فمن جحد وجود الإمام فلا يصح كلامه فيما بعد ذلك من هذه الأحوال. فقد بان أنه لا بد من تسليم الوجود والإمامة والغيبة ، إما تسلیم دین واعتقاد ، ليكشف السائل عن السبب الموجب للإستتار ، وإما تسلم نظر واحتجاج ، لينظر السائل عن السبب إن كان كلامنا في الفرع ملائماً للأصل ، وأنه مستمر عليه من غير أن يضاده وينا فيه .

فإن قال السائل : أنا أسم لك ما ذكرتموه من الأصل لا [عن] نظر ، إن كان ينتظم معه جوابكم عن الفرع، فما السبب الآن في غيبة الإمام (ع)؟

فقيل له : أول ما نقوله في هذا أنه ليس يلزمنا معرفة هذا السبب، ولا يتعين علينا الكشف عنه ، ولا يضرنا عدم العلم به.

والواجب علينا اللازم لنا ، هو أن نعتقد أن الإمام الوافر المعصوم الكامل العلوم، لا يفعل إلا ما هو موافق للصواب ، وإن لم نعلم الأغراض في أفعاله والأسباب. فسواء ظهر أو استتر ، قام أو قعد. كل ذلك يلزمه فرضه دوننا ، ويتعين عليه فعل الواجب فيه سوانا ، وليس يلزمنا علم جميع ما علم ، كما لا يلزمنا فعل جميع ما فعل. وتمسكنا بالأصل من تصويبه في كل فعل ، يغنينا في

ص: 368

المعتقد عن العلم بأسباب ما فعل. فإن عرفنا أسباب أفعاله كان حسناً ، وإن لم نعلمها لم يقدح ذلك في مذهبنا ، كما أنه قد ثبت عندنا وعند مخالفينا إصابة رسول الله (ص) في جمع أقواله وأفعاله ، والتسليم له والرضا بما يأتي منه ، وإن لم نعرف سببه.

ولو قيل لنا لم قاتل المشركين على كثرتهم يوم بدر ، وهو في ثلاثماية من أصحابه وثلاثة عشر ، أكثرهم رجالة ، ومنهم من لا سلاح معه ، ورجع عام الحديبية عن إتمام العمرة، وهو في العدة القوية ، ومن معه من المسلمين ثلاثة آلاف وستماية ، وأعطى

سهيل بن عمر وجميع مناه، ودخل تحت حكمه ورضاه ، من محو بسم الله الرحمن الرحيم من الكتاب ، ومحو إسمه من النبوة ، وإجابته إلى أن يدفع عن المشركين ثلث ثمار المدينة ، وأن يرد من أتاه ليسلم على يده منهم ، مع ما في هذا من المشقة العظيمة والمخالفة في الظاهر للشريعة . لما ألزمنا الجواب عن ذلك أكثر من أنه أعرف بالمصلحة من الأمة ، وأنه لا يفعل هذا إلا لضرورة يختص بعلمها ملجئة، أو مصلحة تقتضيه ، تكون له معلومة ، وهو الوافر الكامل الذي لا يفرط فيما أمر به .

وليس عدم علمنا بأسباب فعله ضاراً لنا ولا قادحاً فيما نحن عليه من إعتقادنا وأصلنا.

فكذلك قولنا في سبب غيبة إمامنا وصاحب عصرنا وزماننا.

ويشبه هذا أيضا من أصول الشريعة عن السبب في إيلام الأطفال وخلق الهوام، والمسمومات من الحشائش والأحجار ونحو ذلك مما لا يحيط أحد بمعرفة معناه ، ولا يعلم السبب الذي أقتضاه . فإن الواجب أن نرد ذلك إلى أصله ، ونقول إن جميعه فعل من ثبت الدليل على حكمته وعدله وتنزهه عن العيب في شيء من فعله.

وليس عدم علمنا بأسباب هذه الأفعال مع اعتقادنا في الجملة أنها مطابقة للحكمةوالصلاح ، بضار لنا ولا قادح في صحة أصولنا ، لأنا لم نكلف أكثر من العلم بالأصل ، وفي هذا كفاية لمن كان له عقل .

ص: 369

وهكذا أيضا يجري الأمر في الجواب إن توجه إلينا السؤال عن سبب قعود أمير المؤمنين (ع) عن محاربة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولم يقعد عن محاربة من بعدهم من الفرق الثلاث (1). والأصل في هذا كله واحد، وما ذكرناه فيه كاف للمسترشد.

فإن قال السائل لنا : جميع ما ذكرته من أفعال الله عز وجل فلا شبهة في أنه أعرف بالمصالح فيها ، وأن الخلق لا يعلمون جميع منافعهم ، ولا يهتدون إليها .

وأما النبي (ع) وما جرى من أمره عام الحديبية فإنه علم المصلحة في ذلك بالوحي من الله سبحانه .

فمن أين لإمامكم علم المصلحة في ذلك وهو لا يوحي إليه ؟

قيل له : إن كان إمامنا (ع) [ إماماً ] فهو معهود إليه ، قد نص له على جميع ما يجب [تعويله ] عليه ، وأخذ ذلك وأمثاله عن آبائه عن رسول الله (ص).

ولنا مذهب في الإمام، وعندنا أن الإمام (ع) يصح أن يلهم من المصالح والأحكام ما يكون هو المخصوص به دون الأنام.

ثم نتبرع بعدما ذكرناه بذكر السبب الذي تقدم فيه السؤال، وإن كان غير لازم لنا في الجواب.

فنقول: إن السبب في غيبة الإمام (ع) إخافة الظالمين له ، وطلبهم بسفك دمه ، وإعلام الله أنه متى أبدی شخصه لهم قتلوه ، ومتى قدروا عليه أهلكوه ، فحصل ممنوعاً من التصرف فيما جعل إليه من شرع الإسلام ، وهذه الأمور التي هي مردودة إليه ومعول في تدبيرها عليه ، فإنما يلزمه القيام بها بشرط[وجود ] التمكن والقدرة وعدم المنع والحيلولة وإزالة المخافة على النفس والمهجة ، فمتى لم يكن ذلك فالتقية واجبة ، والغيبة عند الأسباب الملجئة إليها لازمة، لأن التحرز من المضار واجب عقلا وسمعاً. وقد استتر النبي (ص) في غار حراء ، ولم يكن لذلك سبب غير المخافة من الأعداء.

ص: 370


1- وهم الناكثون من أهل البصرة والقاسطون معاوية وأصحابه ، والمارقون هم أصحاب النهروان أي الخوارج

فإن قال السائل : إن استتار النبي (ع) كان مقداراً يسيراً لم يمتد به الزمان ، وغيبة صاحبكم قد تطاولت بها الأعوام.

قيل له : ليس القصر والطول في الزمان يفرق في هذا المكان ، لأن الغيبيين جميعاً سببهما واحد ، وهي المخافة من الأعداء ، فهما في الحكم سواء ، وإنما قصر زمان إحداها القصر مدة المخافة فيها ، وطول زمان الأخرى لطول زمان المخافة. ولو ضادت إحداهما الحكمة وأبطلت الإحتجاج لكانت كذلك الأخرى.

فإن قال: فالأظهر إبداء شخصه ، وإقام الحجة على مخالفيه وإن أدى إلى قتله .

قيل لهم : إن الحجة في تثبيت إمامته قائمة في الأمة ، والدلالة على إمامته موجودة ممكنة ، والنصوص من رسول الله (ص) ومن الأئمة على غيبة مأثورة متصلة ، فلم يبق بعد ذلك أكثر من مطالبة الخصم لنا بظهوره ليقتل . فهذا غير جائز ، وقد قال الله سبحانه : « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» البقرة: 165

وقال موسى عليه السلام: « ففررت منكم لما خفتم » الشعراء : 21

فإن قال السائل : إن في ظهوره تأكيداً لإقامة الحجة ، وكشفا لما يعترض أكثر الناس في أمره من الشبهة ، فالأوجب ظهوره، وإن قتل لهذه العلة.

قيل له : قد قلنا في النهي عن التغرير بالنفس ما فيه كفاية ، ونحن نأتي بعد ذلك بزيادة ، فنقول: إنه ليس كلما نرى فيه تأكيداً لإقامة الحجة فإن فعله واجب ، ما لم يكن فيه لطف ومصلحة. ألا ترى إن قائلا قال: لم [لم] يعاجل الله تعالى العصاة بالعقاب والنقمة ، ويظهر آياته للناس في كل يوم وليلة ، حتى يكون ذلك آكد في إقامته عليهم الحجة ، أليس كان جوابنا له مثل ما أجبنا في ظهور صاحب الغيبة ، من أن ذلك لا يلزم ما لم [يفارق ]وجها معلوماً من المصلحة.

وعندنا أن الله سبحانه لم يمنعه من الظهور وإن قتل إلا وقد علم أن مصلحة المكلفين مقصورة على كونه إماما لهم بعينه ، وأن لا يقوم غيره فيها

ص: 371

مقامه ، فكذلك أمره بالإستتار [ في ] المدة التي علم أنه متى ظهر فيها قتله الفجار.

فإن قال الخصم : هلا أظهره الله تعالى ، وأرسل معه ملائكة تبيد كل من أراده بسوء ، وتهلك من قصده بمكروه؟

قيل له: قد سألت الملحدة عن مثل هذا السؤال في إرسال الأنبياء (ع)، فقالوا لم لم يبعث الله تعالى معهم من الأملاك من يصد عنهم كل سوء يقصدهم به العباد؟ فكان الجواب لهم أن المصالح لیست واقعة بحسب تقدير الخلائق ...(1) »، وإنما هي بحسب المعلوم عند الله عز وجل. وبعد فإن اصطلام (2) الله تعالى للعاصين ومعاجلته بإهلاك سائر الظالمين ، قاطع لنظام التكليف ، وربما اقتضى ذلك عموم الجماعة بالهلاك. كما كان في الأمم السابقة في الزمان .

وهو أيضا مانع للقادرين من النظر في زمان الغيبة المؤدي إلى المعرفة والإجابة ، فقد يصح أن يكون فيهم ومنهم في هذه المدة من ينظر فيعرف الحق ويعتقده ، أو يكون فيهم معاندون مقرون ، قد علم الله سبحانه أنهم إن بقوا كان من نسلهم ذرية صالحة ، فلا يجوز أن يحرمها الوجود بإعدامهم في مقتضی الحكمة ، وليس العاصون في كل زمان ، هذا حكمهم ، وربما علم ضد ذلك منهم ، فاقتضت الحكمة إهلاكهم ، كما كان في زمن نوح (ع)، حيث قال: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً »نوح: 26- 27

فإن قال السائل : إن آباءه (ع) قد كانوا أيضا في زمان مخافة وأوقات صعبة ، فلم لم يستتروا؟ وما الفرق بينهم وبينه في هذا الأمر؟

قيل له : إن خوف إمامنا (ع) أعظم من خوف آبائه وأكثر. والسبب في ذلك، أنه لم يرو عن أحد من آبائه (ع) أنه يقوم بالسيف ویکسر تیجان

ص: 372


1- هناك عدة كلمات غير واضحة المعني.
2- الإصطلام الإهلاك.

الملوك ، ولا يبقى لأحد دولة سواه، ويجعل الدين كله لله . فكان الخوف المتوجه إليه بحسب ما يعتقد من ذلك فيه ، وتطلعت نفوس الأعداء إليه ، وتتبعت الملوك أخباره الدالة عليه ، ولم ينسب إلى أحد من آبائه شيء من هذه الأحوال. فهذا فرق واضح بين المخافتين.

ثم نقول بعد ذلك : إن من اطلع في الأخبار وسبر السير والآثار، علم أن مخافة صاحبنا (ع) كانت منذ وقت مخافة أبيه (ص) ، بل كان الخوف عليه قبل ذلك في حال حمله وولادته . ومن ذا الذي خفي عليه من أهل العلم ما فعله سلطان ذلك الزمان مع أبيه وتتبعه لأخباره، وطرحة العيون عليه ، انتظاراً لما يكون من أمره، وخوفا مما روت الشيعة أنه يكون من نسله ، إلى أن أخفى الله تعالى الحمل بالإمام (ع)، وستر أبوه (ص) ولادته إلا عمن اختصه من الناس، ثم كان بعد موت أبيه ، وخروجه للصلاة ومضي عمه جعفر (1) ساعياً إلى المعتمد (2) ما كان، حتى هجم على داره، وأخذ ما كان بها من أثاثه ورحله ، واعتقل جميع نسائه وأهله ، وسأل أمه عنه فلم تعترف به، وأودعها عند قاضي الوقت المعروف بابن أبي الشوارب ،(3) ولم يزل الميراث معزولاً سنتين ، ثم ما كان بعد ذلك من الأمور المشهورة التي يعرفها من إطلع في الأخبار المأثورة .

وهذه كلها من أسباب المخاوف التي نشأت[ بنشوء ] [ الرجل] الخائف ، ثم بترادف الزمان لعظم ذكره على لسان المؤالف والمخالف.

ومع ذلك فإن النصوص قد نطقت بذكر مخافته ، كما تضمنت نعت استتاره وغيبته، منها ما هو مجمل ، ومنها ما هو مفصل.

فروي عن أمير المؤمنين (ع) إنه ذكر المهدي (ص) فقال :

ص: 373


1- هو جعفر بن الإمام علي الهادي المعروف عند الشيعة بجعفر الكذاب ادعى الإمامة ثم بطل أمره.
2- هو الخليفة المعتمد على الله من ملوك بني العباس.
3- هو أحمد بن محمد بن عبد الله الأموي قاضي بغداد من عهد المتوكل إلى زمن المقتدر توفي سنة 307ه

« صاحب الأمر هو الشريد. الطريد الفريد الوحيد (1)

وقال (ص):

اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك على خلقك ، ظاهراً موجوداً ، أو خائفاً مغموراً، كي لا تبطل حججك وبيناتك.(2)ومن ذلك قول الإمام الصادق (ع) وقد ذكر عنده المهدي (ص) فقال:

« إن للغلام غيبة قبل أن يقوم ، فقال له زرارة: ولم؟ قال: يخاف على نفسه » (3)

وقول أبيه الباقر (ع):

في صاحب هذا الأمر أربع سنين من أربعة أنبياء ، سنة من موسی (ع)، وسنة من عيسى ، وسنة من يوسف، وسنة من محمد صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء . فأما موسى فخائف ، وأما عيسى فيقال مات ويقال لم يمت، وأما یوسف فالغيبة عن أهله بحيث لا يعرفهم ولا يعرفونه ، وأما محمد (ص) فالسيف » (4) وفيها أوردناه مقنع والحمد لله.

فصل من مسائل الفقه المستطرفة

مسألة: إمرأة طلقها زوجها ، ومضت في عدتها حتى قاربت النصف ، فلما انتهت إلى ذلك وجب عليها استئناف العدة من أولها من غير أن تكون أخلت فيما مضى بشيء من حدودها .

ص: 374


1- رواه الصدوق في إكمال الدين ص 298 بسنده عن حنان بن السدير عن علي بن الجرد وعن الأصبغ عن علي ص241
2- تجد هذا الحدیث مرویا فی اکمال الدین للصدوق من اکثر من عشرۀ طرق أنظر ص 284-288
3- رواه الصدوق في إكمال الدين ص332 بسنده عن عبد الدين بكر عن رزادة ، وذكر القائم بدل القلام.
4- رواه الصدوق في الكتاب المذكور ص 317. بسنده عن أبي بصير وكذلك في ص 320 بسنده عن أبي بصير أيضا باختلاف في بعض ألفاظه .

الجواب: هذه جارية لم تبلغ المحيض ومثلها في السن من تحيض ، طلقها زوجها ، فوجبت العدة بالشهور عليها ، فلما مضت في عدتها قريب الشهر ونصف حاضت ، فوجب عليها الغاء ما مضى واستئناف العدة بالحيض .

وفي هذه من العامة خلاف ووفاق.

مسألة: إمرأة طلقها زوجها فوجبت عليها العدة أياماً معلومة ، فعمد إنسان إلى طاعة الله تعالى ففعلها ، فوجب على المرأة عند فعل الطاعة من العدة في الأيام مثل ما كان لزمها.

الجواب: هذه إمرأة طلقها زوج كان لها ، فحاضت حيضين في شهر واحد ، فلما كان قبل تقضي الشهر بيوم أو يومين قبل أن تطهر من الحيضة الثانية ، أعتقها مولاها ، فوجب عليها عدة الحرة ثلاثة قروء ، فلم تستوف ذلك حتى كملت ثلاثة أشهر .

وفي هذا الجواب خلاف من بعض العامة أيضا .

مسألة أخرى: رجل تزوج إمرأة على مهر غیر موزون ولا مكيل ، ولا ممسوح، ولا هو جسم، ولا جوهر ولا شيء من الأموال والعروض ، فتم نکاحه بذلك وكان مصيباً.

جواب: هذا العاقد على سورة أو آية من كتاب الله تعالى .

والشيعة مجمعة على هذا، وبعض العامة يوافق عليه.

مسألة: إمرأة أجنبية من رجل ، قالت قولاً حل له به فرجها من غير مهر ولا أجر ولا عقد أكثر مما تقدم منها من القول.

جواب: هذه المرأة التي وهبت نفسها للنبي (ص)، فنزل القرآن بقصتها وتحليلها له، وتحريم ذلك على غيره ، وجعلها الله سبحانه خالصة له من دون المؤمنين (1)

ص: 375


1- مصدره من الآية 50 من سورة الأحزاب، وهو قوله سبحانه : « وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ... »

وليس في هذا الجواب خلاف بين المسلمين .

مسألة: إمرأة، عدتها ساعة من الزمان .

جواب : هذه امرأة حامل ، فولدت بعد ساعة من الطلاق. والقول في ذلك أيضا إجماع.

مسألة: تزوج رجل إمرأة على ألف درهم، ثم طلقها فوجب له علیها ألف وخمسمایة درهم.

جواب: هذه المرأة قبضت من زوجها جميع مهرها وهو ألف درهم، ثم أشهدت على نفسها بعد قبضها له أنه صدقة عليه ، فلما عرف الرجل ذلك طلقها قبل أن يدخل بها ، فوجب عليها الألف درهم بالصدقة ، وخمسماية درهم نصف ما فرضه لها من الصداق ، وهذا أيضا جواب عليه الإتفاق.

فصل من كلام أمير المؤمنين (ص) في ذكر النساء

إياك ومشاورة النساء إلا من جربت بكمال عقلها ، فإن رأيهن يجر إلى الأفن(1) وعزمهن إلى وهن. وقصر عليهن أجنحتهن فهو خير لهن. وليس خروجهن بأشد عليك من دخول من لا يوثق به عليهن . وإن استطعت أن لايعرفن غيرك وأفعل.

لا تملك المرأة أمرها ما يجاوز نفسها فإن ذلك أنعم لبالها وبالك . وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ، ولا تطعها أن تشفع لغيرها ، ولا تطيل الخلوة مع النساء فیملنك وتملهن ، واستبق من نفسك بقية.

وإياك والتغاير في غير موضع غيرة ، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم ، وإن رأيت منهن ريبة فعجل النكير وأقل الغضب عليهن إلا في عيب أو ذنب .

وقال :

ص: 376


1- الأفن ضعف العقل .

لا تطيعوا النساء على حال، ولا تأمنوهن على مال ، ولا تثقوا بهن في الفعال ، فإنهن لا عهد لهن عند عامدهن ولا ورع عند حاجتهن ، ولا دين لهن عند شهوتهن ، يحفظن الشر وينسين الخير . فالطفوا لهن على كل حال لعلهن يحسن الفعال .(1)

فصل مما روي عن المتقدمين في ذكر النساء

قيل لسقراط ما تقول في النساء ؟

فقال : ما استرعين شيئا قط إلا ضاع ، ولا قدرن على شيء وكففن عنه

وقيل له : كيف يجوز أن تذم النساء ، ولولا هن لم تكن أنت ولا أمثالك من الحكماء ؟

فقال : إنما مثل المرأة كمثل النخلة ذات السلا ،(2) إن دخل يد الإنسان فيه عقره، وحملها الرطب الجني.

وقيل له : كيف تصبر عن النساء وطيبهن؟

فقال : هن كالعسل أديف فيه سم قاتل ، فمن أكله استلذ به ساعة أكله ، وفيه هلاكه إلا الأبد.

ونظر بعض الحكماء إلى امرأة معلقة في شجرة ، فوقف تحتها يبكي ، فقال له بعض تلامذته : أيها الحكيم، تبكي لهذه البائسة ؟

فقال: والله ما بكائي رحمة مني لها

قيل له : فمم بكاؤك؟

قال: أسفا مني ، كيف لا أرى كل الشجر يحمل من هذا الثمر .

وقال دیوجانس لبعض تلامذته، وقد نظر إلى امرأة حسناء متبرجة في طريقه : تنحوا عن هذا الفخ الذي قد نصب نفسه لهلاك الخلق .

ص: 377


1- هذا من وصايا الإمام (ع) لولده الحسن (ع) وهو مذكور في نهج البلاغة .
2- هو شوك النخل .

وقيل لسقراط: لم لا تتزوج؟

فقال: إن كان ولابد فعلى الصفة التي أصفها لكم.

قالوا: صف ، فلم يترك شيئا من السماجة والقباحة إلا وصفه .

فقيل له : أيها الحكيم: لقد ناقضت أولي الألباب في صفتك .

فقال: ألستم تعلمون أنه شر ، فشر صغير خير من شر كبير .

ونظر آخر إلى امرأة تحمل ناراً، فقال: الحامل شر من المحمول .

ونظر إلى امرأة تعلم الكتابة ، فقال : أفعي يزداد سما .

وبنى رجل داراً وكتب على بابها : لا يدخل شيء من الشر ، فقيل له : فامرأتك من أين تدخل.

ونظر بعض الحكماء إلى تلميذ له ينظر إلى امرأة حسناء ، فقال له :

احذر أن تقيدك بشر کها فتهلك.

فقال التلميذ : إنما أنظر إلى آثار حكمة الصانع فيها .

فقال له : أنظر إلى آثار حكم الصانع فيما لا تشتهيه نفسك ، أسلم لك .

فصل من ذكر المرضى والعبادة

قال رسول الله (ص):

الحمى تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد .

وقال الصادق (ع):

ساعات الآلام يذهبن بساعات الخطايا .

وقال (ع):

إن العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى كاتب الشمال :

«لا تكتب على عبدي خطيئة ما دام في حبسي ووثاقي إلى أن أطلقه ، وأوحي إلى كاتب اليمين : أن اجعل أنين عبدي حسنات ».

ص: 378

وروي أن نبيا من الأنبياء مر برجل قد جهده البلاء ، فقال :

یار ب، أما ترحم هذا مما به ، فأوحى الله إليه :

«كيف أرحمه مما به أرحمه» .

وروي أنه لما نزلت هذه الآية :

« ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به » سورة النساء : 123

فقال رجل لرسول الله (ص) : یا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر .

فقال (ع): كلا، أما تحزن ، أما تمرض ، أما تصيبك اللأواء (1) والهموم ؟؟

قال : بلى ، قال : فذلك مما يجزي به.

وروی جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رسول الله (ص) قال:

« عايد المريض يخوص في البركة ، فإذا جلس انغمس فيها »

وقال عليه السلام :

« إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل ، فإن ذلك لا يرد شيئا ، وهو يطبب النفس »

أنشد لبعضهم

حق العبادة يوم بين يومين*** وجلسة لك مثل الطرف بالعين

لا تبرمن مريضا في مسائلة ***يكفيك [تسأله من ذا ]بحرفين (2)

فصل من خطبة لرسول الله (ص) في ذكر الموت والوعظ

« يا أيها الناس : كأن الموت على غيركم كتب ، وكأن الحق على غيركم وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نبؤهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم ، كأنا مخلدون بعدهم ، قد نسينا كل واعظة ، وأمنا كل جائحة . طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب غيره ، وأنفق ما اكتسب في غير معصية ،

ص: 379


1- الشدة وضيق المعيشة ، ويطلق ويراد به القحط.
2- في النسخة: هكذا يكفيك من ذاك تسأله بحرفين ، وهو لا يستقيم وزنا وهو خطأ من الناسخ .

ورحم أهل الضعف والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة ، طوبى لمن أذل نفسه ، وحسنت خليقته وصلحت سريرته، وعزل عن غيره شره ، وانفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، ووسعته السنة ، ولم يدعها إلى البدعة (1)».

فصل مما روي في القبور والدفائن

اشارة

وجد على قبر مکتوبا :

قهرنا الأعداء ، وبنينا الحصون والدفائن، واقتصرنا على ما ترون .

ووجد على آخر مكتوباً :

الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، والناظر إلينا لاحق بنا.

ذكروا أنهم رأوا على قبر أبي نواس هذه الأبيات، وهن لأبي العتاهية :

وعظتك أجداث صمت*** ونعتك أزمنة حفت

وتكلمت عن أعين تبلى*** وعن صور سبت

وأرتك قبرك في القبو***ر وأنت حي لم تمت

وروى أنس بن مالك ، قال : إن رسول الله (ص) قال: «كان تحت الجدار الذي ذكره الله تعالى في كتابه:

«وكان تحته كنز لهما » الكهف : 82 .

لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن قلبه إليها، لا إله إلا الله ، (2)

وروي عن ابن عباس رحمه الله في حديث ، ذكر فيه إتيان رجل جهني إلى رسول الله (ص)، وإسلامه على يده، وأنهم تحدثوا يوما في ذكر القبور ، والجهني حاضر ، فحدثهم أن جهينة بن القوصان أخبره عن أشياخه ، أن سنة (3)

ص: 380


1- تجده هذه الخطبة في تحف العقول، وفي أعلام النبوة للماوردي مختصراً.
2- رواه الطبرسي في مشكاة الأنوار ص273 عن الإمام الرضا (ع).
3- أي سنة مجدية

نزلت بهم، أكلوا فيها ذخائرهم ، فخرجوا من شدة الأزل(1). وهم جماعة في طلب النبات ، فجنهم الليل ، فأووا إلى مغار ، وكانت البلاد مسبعة ، وهم لا يعلمون ، قال رجل منهم يقال له مالك ، قال : رأينا في الغار أشبالا ، فخرجنا هاربين ، حتى دخلنا وهدة من وهاد الأرض ، بعدما تباعدنا من ذلك الموضع ، فأصبنا على باب الوهدة حجراً مطبقاً، فتعاونا عليه حتى قلبناه ، فإذا رجل قاعد ، عليه جبة صوف، وفي يده خاتم عليه مكتوب:

« أنا حنظلة بن صفوان رسول الله ».

وعند رأسه كتاب في صحيفة نحاس ، فيه: بعثني الله إلى حمير وهمدان والعزيز من أهل اليمن بشيرا ونذيرا ، فكذبوني وقتلوني ، فأعادوا الصخرة إلى ما كانت عليه في موضعها .

وروى الأصبغ بن نباتة في حديث رجل من حضر موت ، أتی أمير المؤمنين (ع) أيام أبي بكر فأسلم على يده ، قال: فسأله أمير المؤمنين (ع) يوما ونحن مجتمعون للحديث ، فقال له:

أعالم أنت بحضر موت؟

فقال: الرجل: إن جهلتها لم أعلم شيئا .

قال: أفتعرف موضع الأحقاف؟

قال: كأنك تسأل عن قبر هود النبي (ع)؟

قال: لله درك ، ما أخطأت.

قال: نعم. خرجت في عنفوان شيبني في غلمة من الحي، ونحن نريد قبره ، البعد صوته فينا ، وكثرة من يذكره، فسرنا في بلاد الأحقاف أياماً ، وفينا رجل قد عرف الموضع ، حتى انتهى بنا ذلك الرجل إلى كهف ، فدخلنا وأمعنا فيه طويلا ، فانتهينا إلى حجرين قد أطبق أحدهما فوق الآخر، وبينهما خلل ، يدخل الرجل النحيف ، فتحار فت فدخلت ، فرأيت رجلا على سرير ، شدید الأدمة، طويل الوجه ، كث اللحية ، قد يبس ، فإذا مسست شيئا من جسده

ص: 381


1- الأزل: الشدة

أصبته صلبا لم يتغير ، ورأيت عند رأسه كتاباً بالعبرانية فيه مكتوب:

« أنا هود النبي آمنت بالله ، وأشفقت على عاد بكفرها ، وما كان لأمر الله من مرد ».

فقال لنا أمير المؤمنين (ع) : وكذلك سمعت من أبي القاسم (ص).

وروى عبد الرحمن بن زياد الإفريقي قال:

خرجت بأفريقة مع عم لي إلى مزروع لنا، قال: فحفرنا موضعاً فأصبنا ترابا هشاً ، فطمعنا فيه ، فحفرنا عامة يومنا حتى انتهينا إلى بيت كهيئة الأزج، فإذا فيه شيخ مسجى، وإذا عند رأسه كتابه ، فقرأتها ، فإذا هي:

أنا حسان بن سنان الأوزاعي رسول شعیب النبي (ص) إلى أهل هذه البلاد ، دعوتهم إلى الإيمان بالله ، فكذبوني وحبسوني في هذا الحفير، إلى أن يبعثني الله فأخاصمهم إليه يوم القيامة.

سالم الأعرج مولى بني زريق قال:

حفرنا بئراً في دور بني زريق ، فرأينا أثر حفر قديم ، فعلمنا إنه حفر قديم مستأثر ، فحفرنا فأفضينا إلى صخرة عظيمة ، فقلبناها ، فإذا تحتها رجل قاعد كأنه يتكلم ، فإذا هو لا يشبه الأموات، فأصبنا فوق رأسه كتابة ، فيها :

أنا قادم بن اسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ، هربت بدین الحق من (أيتملك) الكافر ، وأنا أشهد أن الله حق ووعده حق، لا أشرك به شيئا، ولا أتخذ من دونه ولياً.

وعبد الله بن موهب قال:

أصاب بعض عمال معاوية محفراً بمصر، احتفره بعض أهلها لحاجتهم ، فأفضى بهم ذلك إلى مخضب عظيم مطبق، فظنوه مالا ، فبعث. العامل إليه أمناءه ليحضروا ما فيه ، فلا فتحوا أصابوا شابا ، عليه جبة صوف، وكساء صوف، وخف إلى نصف ساقه ، وأصابوا عند رأسه كتاباً بالعبرانية ، فيه:

ص: 382

أنا حبیب بن نوبا جر صاحب رسول الله موسى بن عمران (ع). من أحب أن يأخذ بالناموس الأكبر ، فليخالف بني إسرائيل، فإنهم قد تواكلوا الحكم، وعملوا بالهوى ، وباعوا الرضا وتركوا المنهاج الذي أخذ عليه ميثاقهم.

عبد الله بن موهب عن بعض أشياخه:

إن مسجد الرملة لما حفر أساسه في دار معاوية بن أبي سفيان ، انتهى بهم الحفر إلى صخرة، فقلعوها فإذا تحتها شاب دهين الرأس موفر الشعر قائم مستقبل القبلة ، فكلموه فلم يكلمهم، فكتب بذلك إلى معاوية ، قال فخرجنا بالكتاب في خمسة ، فأتينا معاوية ، فأخبرناه بذلك ودفعنا إليه الكتاب ، فأمر أن ترد الضخرة إلى حالها ، وأن يعيدوه على حاله كما كان.

وحدثهم غير واحد:

أنه لما أجرى معاوية بن أبي سفيان القناة التي في (أحد)، أمر بقبور الشهداء فنبشت ، فضرب رجل بمعوله فأصاب إبهام حمزة رضي الله عنه ، فانحبس الدم في إبهامه ، فأخرج رطبة يتثنى ، وأخرج عبد الله بن عمرو بن الجموح، وكانا قتلا يوم (أحد) وهما [رطبان ..] بعد أربعين سنة ، فدفنا في قبر واحد. وكان عمرو بن الجموح أعرج، فقال أبو سعيد الخدري (1) : إنه الشيء لا آمر بعده معروف ولا أنهى عن منكر.

وذكروا أن الوليد بن عبد الملك احتاج إلى رصاص أيام بنی مسجد دمشق ، فقيل له إن في الأردن منارة فيها رصاص فابعث إليها ، فبعث إليها ، فلما أخذوا في حفرها ضرب رجل بمعوله فأصاب رجلا في سفط (2)، وناوله المعول ، فسال دمه ، فسأل عنه فقيل : هذا طالوت الملك ، فتركه ولم يخرجه.

وذكروا: إن سلیمان بن عبد الملك ، مر بوادي القرى، فأمر بحفر يحفر فيه ففعلوا فانتهى فيه إلى حجرة فاستخرجت ، فإذا تحتها رجل عليه قميصان

ص: 383


1- كذا في النسخة .
2- كذا في النسخة .

واضح يده على رأسه ، فجذبت يده فمج مكانها دم ، ثم تركت فرجعت إلى مكانها فرقا الدم ، وإذا معه كتاب فيه:

أنا الحرث بن شعيب الغساني رسول شعيب إلى أهل مدين فكذبوني وقتلوني.

مسألة من عويص الفقه لأبي النجا محمد بن المظفر

ذكروا أن أبا النجا سئل عن معن هذين البيتين:

أتعرف خالا أحرز المال كله *** ففاز به من دون عم وما غصب

وما الخال عم الميت حين نعته*** ولكنه أدنى وأولى إذا نسب

فأجاب :

تفهم جواباً تستفد بافتهامه*** غرائب علم طارف حين يكتسب

هو ابن أخيه من أبيه وخاله ***لأم فخذ قولا يفهم ذا الأدب

وذلك لمازوجت أم أمه ***أخاه يقينا من أبيه إذا انتسب

فجاءته بابن فهو لا شك خاله*** لأم وسنخ القوم وابن أخ لأب

فأحرز إرث العم من دون عمه*** كذلك يقضي ذو التفقه والأدب

تفسير الجواب

هذا رجل تزوج أخوه لأبيه ، جدته أم أمه ، فجاءت بابن ، فهو خاله لأمه ، وهو ابن أخيه لأبيه ، فلما مات عن عمه- وهذا الحال - كان أولى بالميراث من العم ، لأنه ابن أخ.

وفيه وجه آخر فيقال: رجل تزوج امرأة ، وزوج ابنه من أمها ، فجاءت كل واحدة منهما بابن ، فابن الكبرى هو خال ابن الصغرى، وهو ابن أخيه لابیه.

وقد روي أن مثل هذا اتفق في أيام عبد الملك بن مروان، وأنه دخل إليه رجل من أهل الشام ، فقال له: يا أمير المؤمنين ، إني تزوجت أمرأة، وزوجت ابني أمها ، ولا غنی بنا عن رفدك ، فقال له عبد الملك : إن أخبرتني ما قرابة ما بين أولادكما إذا ولدتما فعلت ؟

ص: 384

قال: يا أمير المؤمنين ، هذا حميد بن بجدل، قد قلدته سيفك ، ووليته ما وراء بابك فاسأله عنها ، فإن أصاب لزمني الحرمان، وإن أخطأ اتسع لي العذر. فدعا بالبجدلي ، فسأله عنها ، فقال: يا أمير المؤمنين ، إنك ما قدمتني على العلم بالأنساب، ولكن على الطعن بالرماح، ثم قيل له الجواب ، وهو أن أحدهما عم الآخر والآخر خاله .

مسألة: تزوج زيد امرأة، وزوج ابنه عمراً ابنتها ، فرزقا منها ولدين ، ما قرابة ما بين الولدين ؟

الجواب: إن ولد زيد من المرأة هو عم ولد عمرو من بنتها ، وخاله أيضا ، لأنه أخو أبيه من أبيه، وأخو أمه من أمه ، والآخر ابن أخيه وابن أخته .

مسألة أخرى: تزوج زيد امرأة وزوج ابنه عمراً أختها ، فرزقا منهما ولدين. في قرابة ما بين الولدين.

جواب: إن ابن زيد عم ابن عمرو وابن خالته ، وابن عمرو ابن أخيه(1)

وابن خالته.

فصل

حدثني أبو سعيد أحمد بن محمد بن أحمد الماليني الهروي بالرملة في شوال سنة ست عشرة وأربعماية ، قال : أخبرنا أبو عمرو إسماعيل بن مجيد إملاءً ، قال : حدثنا علي بن الحسن بن الجنيد الرازي، قال: حدثنا المعافا بن سليمان، قال: حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا محمود بن حجارة ، إن أبان حدثه قال : حدثني أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله (ص) يدعو في أثر الصلاة فيقول :

« اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع ، ودعاء لا يسمع . اللهم إني أعوذ من هؤلاء الأربع »

ص: 385


1- في النسخة ابن خالة وهو خطأ من الناسخ .

وأخبرني شيخي أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله بن علي الواسطي (1) رضي الله عنه ، قال : أخبرني أبو محمد هارون بن موسى التلعکبري(2)، قال: أخبرني أبو علي محمد بن همام (3) بن سهل ، قال: حدثنا جعفر بن مالك ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الزيات ، قال حدثنا حسن بن محبوب ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصیر ، قال : قال أبو جعفر (ع) ، كان من دعاء أمير المؤمنين صلوات الله عليه :

« الهي كفي بي عزاً أن أكون لك عبداً ، وكفى بي فخرا أن تكون لي رباً ، إلهي أنت لي كما أحب ، وفقني لما تحب » (4).

تم الجزء الأول من كتاب کنز الفوائد

ص: 386


1- هو العالم المعروف بابن الواسطي كما حكاه فخار بن معد في كتابه (حجة الذاهب) عن تلميذه الكراجكي ، وهو صاحب كتاب (من أظهر الخلاف لأهل البيت) الذي ينقل عنه ابن طاووس في رسالته (غياث سلطان الوری) في المواسعة (طبقات ج2 ص64)
2- الشيباني من وجوه الأصحاب وثقاتهم مات سنة 385ه وهو من تل عكیری بلدة من نواحي دجيل بينها وبين بغداد عشرة فراسخ.
3- هو أبو علي محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب الأسكافي من شيوخ الشيعة ومتقدميهم له منزلة عظيمة ، كثير الحديث ولد يوم الإثنين لست خلون من ذي الحجة سنة 250 ه وتوفي يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة 336 ه عن رجال النجاشی.
4- رواه الشيخ المفيد من كتاب الخصال ج (1) ص: 186.

صدر للمعلق

(1) سياسة الخلفاء الراشدين في الموازين النفسية .

(2) الأدب في ظل التشيع ، طبعة ثانية .

(3) هشام بن الحكم ، طبعة ثانية .

(4) فلاسفة الشيعة.

(5) مصادر نهج البلاغة.

(6) عقيدتنا، طبعة ثانية .

(7) دليل القضاء الجعفري.

وسيصدر قريبا إن شاء الله تعالى :

(8) روح التشيع.

(9) الأدلة الجلية في شرح الفصول النصيرية.

(10) ملحق أمل الآمل في تراجم علماء جبل عامل .

(11) الغيب وأنباء المستقبل في الإسلام.

ص: 387

مراجع الكتاب

طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي

الأغاني للأصبهاني

بحار الأنوار للمجلسي

مناقب ابن شهر آشوب

کشف الغمة

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

سيرة ابن هشام

حماسة أبي تمام

إعلام الوری للطبرسي

شرح التجريد للعلامة الحلي

أمالي الشريف المرتضی

الفصول المختارة

الكنى والألفاب للقمي

مروج الذهب

التنبيه والإشراف

اثبات الوصية

* للمسعودي

طبقات الشعراء لابن قتيبة

المحاس والمساوى للبيهقي

الخرائج والجرايح للراوندي

الإفصاح

الأمالي للمفید

الارشاد

* للمسعودي

الإختصاص

فهرست ابن النديم

التوحيد

اكمال الدين

الامالی

* للصدوق القمي

البيان والتببين

رسائل الجاحظ

الغيبة للطوسي

*للجاحظ

لسان المیران

ديوان ابن الرومي

ديوان الشریف الرضي

الأربعين للمجلسي

الأربعين للبهائي

كشف الفوائد للعلامة الحلى

عیون الأخبار لابن قتبية

مجمع البحرین

صحیح البخاري

فضائل الخمسة من الصحاح الستة

معاهد الننصبص

معجم رجال الحديث للسيد الخوئي

وقعة صفين لابن مزاحم الممقري

النجوم لابن طاووس

فلاسفة الشيعة

مصادر نهج البلاغة

* لمعلق

تتببت دلائل النبوة للهمذاني

مقتضب الأثر لابن عياش

مناقب المغازلي

ص: 388

فهرس الجزء الأول من الكتاب

مقدمة ...7

مؤلف الكتاب ...11

شيوخ المؤلف وأساتذته ...16

تلاميذ المؤلم ...18

مؤلفاته ...19

هذا الكتاب ...27

مختصر من الكلام في أن للحوادث أولا... 33

دليل آخر على تناهي ما مضى ... 36

مسألة على الملحدة ... 39

مسألة أحرى علبهم ...40

الشبهة...42

الجواب ...43

جواب آخر عنها...46

مسألة في تأويل خبر : لا تسبوا الدهر... 49

قصيدة ابن دريد ... 50

أحاديث عن رسول الله وعن الأمة ... 55

فصل ما ورد في القرآن ... 57

مسألة من عويص السب ...60

فصل في ذكر الدنيا ...61

فصل في ذكر الأمل ...62

فصل في ذكر الموت ...63

فصل في الموت والقتل ...66

تأويل آية: وإذا الموؤودة سئلت...67

فصل في معرفة الاسم والصمة...69

أسماء الله وحصبقها ... 71

فصل في تميبر صفات الله ...73

ببان صفات الأفعال...76

فصل في فروق صمة الذات وصفة المعل... 77

المول في العصب والرضا...84

الفول في الحب والبعض ...84

القول في سمیع وبصیر...85

القول في الخالق ... 89

فصل في صفة أهل الإيمان ...86

خطبة أمير المؤمنين في وصف المتقین ... 89

فصل من كلامه (ع)...93

فصل مما جاء نظماً في الأخوان...94

فصل في ذكر الأخوة والأخوان... 98

مسألة فقهیة...102

شبهة المجبرة ...103

فصل في المرق بین مذهبا ومذهب المجبرة ...106

قبح تکلیف مالا يطاق ...108

فصل من الكلام في القدرة ... 109

أفعال الإنسان ... 112

ص: 389

فصل في أن الله لا يريد من خلقه إلا الطاعة ... 113

ایراد على أهل الجبر ... 114

حكاية للمؤلف في مجلس بعض الرؤساء ...115

جناية المجبرة على الإسلام ...116

الفعل وبنفيها عن نفيه ...117

التجوز في التعبير بالإستطاعة عن شبهة للمجبرة ...120

من هم القدرية ...123

تهمة المعتزلة للشيعة بالإرجاء ...124

أغلاط المعتزلة ...124

نظرية الأصلح ...127

نقوض على هذه النظرية مع دفعها ...129

رأي الجبائي في الترك ... 132

مواعظ وكلمات في النهي عن الظلم ...134

كلمات لأمير المؤمنين وغيره في ذم الحسد... 136

أقوال في الصبر ... 139

قصة ذريب بن تملا ...141

شرح قوله : ولعن آخر أمتكم أولها ... 144

أحاديث ...164

رسالة للمؤف اسمها : القول المبين عن وجوب مسح الرجلي ................ 151

فصل في مولد رسول الله ... 164

فصل في ذكر شي من معجزاته (ص) ...169

فصل من البيان في إعجاز القرآن ... 174

دليل على حدوث العالم ... 177

الأشعار المأثورة عن أبي طالب التي يستدل بها على إعانه ... 179

أحاديث بصحة إيمانه ... 182

فصل من أخبار عبد المطلب (رض) ... 184

وفادة عبد المطلب على ابن ذي يزن ... 187

خبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي ملك اليمن التي تأولها سطبح وشق ... 193

دليل في تتببت الصانع ... 195

مسألة على نفاة الحقائق ...196

مسألة على مبطلي النظر وحجج العقل... 197

ما جاء في الحديث في العقل ... 198

كلام أمير المؤمنين في العقل ...199

من الاستدلال على صحة نبوة رسول الله (ص) ... 200

فصل مما جاء في التوراة يتضمن البشارة بنبينا (ص) ...204

فصل في الإنجيل ...205

من أخبار الوافدين على رسول الله (ص) وما رأوه قبل قدومهم عليه ....

خبر اهبان بن أنس الأسلمي ... 206

خبر ذباب ...207

خبر زمل العدوي ... 208

خبر عمرو بن مرة الجهنی...209

خبر ركانة ... 211

خبر أبي تميمة الهجيمي ... 211

خبر آهيب بن سماع ...212

فصل من كلام سيدنا رسول الله (ص) ...216

فصل من الببان والسؤال ...217

فصل من كلام جعفر بن محمد الصادق (ع) ...219

فصل آخر في السؤال والبيان ...220

شبهة للبراهمة في النسوة ...224

مختصر من الكلام على اليهود انکارهم جواز النسخ في الشرع ... 225

فصل في ذكر البداء ...226

حكايةمجلس في البداء ...226

فصل في منام لعبد المطلب ... 233

بیان عن قول النصارى ومسألة عليهم لا جواب لهم عنها ... 235

فصل من الألفاظ التي يقرون أن المسيح قالها ...238

رسالة البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان... 240

فصل في ذكر مولد أمير المؤمنين (ص) ...252

کتاب الأعلام بحقيقة إسلام

ص: 390

أمير المؤمنين (ع) ...257

فصل من البيان عن أن المؤمنين (ع) أول بشر سبق إلى الإسلام بعد خديجة (ع) ...261

فصل في أن إسلامه كان عن بصيرة واستدلال...272

فصل في البلوغ ...277

فصل من كلام أمير المؤمنين (ع) وحكمه... 278

فصل في فضل اقتناء الكتب ... 282

فصل فيما حكاه المفيد في بعض كتبه... 284

فصل في الجواب عن ثلاث آيات... 286

ما وجده مكتوباً في الإنجيل ...292

قصة فضال بن الحسن بن فضال مع أبي حنيفة...294

أحاديث حول فضل علي (ع) ... 295

فصل في واقعة الأحزاب ...297

فصل من كلام أمير المؤمنين (ع) وحكمه ...299

مسائل فقهية لأبی النجا ... 302

فصل في الوعظ والزهد ...304

مسألة فقهية لأبي النجا... 307

مجلس للمؤلف في ببليس ... 308

فصل من المقدمات في صناعة الكلام...315

فصل من كلام أمير المؤمنين (ع) ... 318

تأويل آية : حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور... 319

فصل من التوراة في ذكر الفلك...321

رسالة للمؤلف في وجوب الإمامة ... 321

فصل من الحديث... 327

مسائل فقهية ... 331

حديث عن الزهري... 332

دليل من القرآن على إمامة أمیير المؤمنين (ع) ...334

فصل من مستطرفات مسائل الفقه ...340

أشعار وكلمات في الدنيا والزهد ...341

فصل في تثبيت إمامة صاحب الزمان ... 365

دليل على وجوب العصمة ...347

فصل من كلام الامام علي (ع) وحديثه...349

فصل من كلام سيدنا رسول الله (ص) ... 350

قصة وقعت للمؤلف بالقاهرة...353

سؤال وجواب حول قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ...354

سؤال المأمون للرضا (ع)...356

خبر یحیی بن معمر مع الحجاج ... 357

فصل من القول في القضاء والقدر ... 360

سؤال الحجاج عن القضاء والقدر ... 364

أبو حنيفة مع الإمام موسی بن جعفر ...366

فصل من كلام أمير المؤمنين وآدابه وحكمه ...367

فصل من الكلام في غيبة الإمام (ع) ... 368

فصل من مسائل الفقه المستطرفة ... 374

فصل من كلام أمير المؤمنين (ع) في ذكر النساء ...376

فصل ما روي عن المتقدمين في النساء ...377

فصل في ذكر المرضى والعيادة ... 378

فصل من خطبة رسول الله (ص) في ذكر الموت ... 379

فصل مما روي في القبور والدفائن ... 380

مسألة من عويص الفقه لأبي النجا محمد ابن المظفر ...384

فصل من دعاء رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) ...385

ص: 391

منشورات دارالاضواء بيروت-لبنان

اسم الكتاب...المؤلف

جوامع الجامع في تفسير القرآن

الطبرسي

مصادر وأسانيد نهج البلاغة

عبد الزهراء الخطيب

شرائع الاسلام 1-4 ... العلامة الحلي

جامع الرواة ... الأردبيلي

معالم التوحيد

العلامة الشيخ جعفر سبحاني

معالم الحكومة الاسلامية

جعفر سبحاني

معالم النبوة...جعفر سبحاني

مفاتیح الجنان ... عباس القمي

الباقيات الصالحات... عباس القمي

الأنوار البهية ... عباس القمي

فرق الشيعة ... النوبختی

حق اليقين ... العلامة عبد الله شبر

تذكرة الخواص... سبط بن الجوزي

ثواب الأعمال وعقابها ...على دخيل

مناقب الإمام علي

ابن المغازلي الشافعي

أدعية وأعمال شهر رمضان

إعداد الدار

100 شاهد وشاهد

عبدالزهراء الخطيب

الاستنصار ... الكراجکی

الوصية الخالدة...عباس الموسوي

تلخيص المحصل... نصير الدين الطوسي

معالم العلماء ... ابن شهرآشوب

اسم الکتاب ... المؤلف

ضياء الصالحين ... الجوهري

عمار بن یاسر صدر الدین شرف الدين الإسلام وأسس التشريع

عبد الحسن فضل الله

مقتل الحسين... عبد الرزاق المقرم

حجر بن عدي ... عبد الله السبيتي

سلمان الفارسي ... عبد الله السبيتي

عمار بن ياسر ... عبد الله السبيتي

مذهب أهل البيت ... محمد الحيدري

كيف تكسب الأصدقاء... محمد الحيدري

النكت الاعتقادية ... جعفر النقدي

علي الأكبر... محمد علي عابدين

من ذا وذاك ... محمد جواد مغنية

شبهات الملحدين... محمد جواد مغنية

مصدر الوجود ... جعفر سبحاني

فلسفات إسلامية ... بسام مرتضی

طب الإمام الصادق ... محمد الخليلي

الأخلاق عند الإمام الصادق

محمد أمين زين الدين

الحياة الجنسية في الإسلام

صباح السعدي

کشف الغمة في معرفة الأئمة... الأربلي

سعد السعود ... ابن طاووس

مناقب آل أبي طالب ... ابن شهرآشوب

الفصول المختارة ... الشيخ المفيد

الانتصار ... الشريف المرتضی

مبادىء الوصول إلى علم الأصول

العلامة الحلي

ص: 392

المجلد 2

اشارة

کنزالفوائد للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن علی بن عثمان الکراجکی الطرابلسی

حققه وعلق عليه

العلامة الشيخ عبدالله نعمه

الجزء الثانی

دار الأضواء

بيروت -لبنان

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

این کتاب، به زبان عربی و حاوی مباحثی ارزشمند درباره موضوعات گوناگون اسلامی مانند حدیث، فقه، اخلاق، فلسفه، کلام، موعظه، عقاید ، تاریخ اسلام و بررسی مذاهب گوناگون است.

کتاب کنز الفوائد، از زمان نگارش تا حال، پیوسته، مورد توجه علما و فقهای شیعه قرار داشته و برای آگاهی از بسیاری از مباحث مهم اسلامی، کتابی ارزش مند و قابل توجه است.

مؤلف، بر بسیاری از منابع معتبر دست رسی داشته و این خود، بر ارزش کتاب می افزاید.

ص: 1

اشارة

ص: 2

کنز الفوائد

للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن ابی عثمان

الکراجی الطرابلسی التوفی 449 ه-

حققه و علق علیه

العلامة الشیخ عبدالله نعمه

الجزء الثانی

دارالاضواء

بيروت * لبنان

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

1405 ه- - 1985 م

دار الأضواء

بيروت - الغبيره - سشارع عبد الله للحاج - بناية الروضة

ص : ب 25/40 - برقيا و الغبيره - حسنکو

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين.

الأدلة على أن الصانع واحد

وبعد فمن الأدلة على أن صانع العالم واحد أما الذي يعتمده أكثر المتكلمين فدليل التمانع .

وهو أنه لو كان لصانع العالم ثان لوجب أن يكون قديما ، وإذا كان كذلك ماثله ، وإذا ماثله صح أن يريد أحدهما ضد ما يريده الآخر ، فيقع التمانع ، کارادة أن يحرك جسما في وقت وأراد الآخر أن يسكنه فيه.

وإذا صح ذلك لم يخل الأمر من ثلاث خصال:

إما أن يصح وقوع مرادهما من غير تضاد ولا تمانع بينهما ، فيكون الجسم في وقت واحد ساكنا ومتحركا . وهذا محال.

وإما أن لا يصح وقوعهما ولا شيء منهما، فهذا هو التمانع المبطل لوقوع مراديهما ، وهو دليل على ضعفهما.

وإما أن يقع مراد أحدهما دون الآخر، فهو دليل على أن من لم يقع مراده

ص: 5

ممنوع ضعیف ، خارج من أن يكون قديما ، لأن من صفات القديم أن يكون قادرا لنفسه، لا يتعذر (1) عليه فعل أراده.

فإن قيل : لم قلتم أنه إن كان معه ثان يصح أن يريد ضد مراده؟

قلنا: لأن من حق القادر أن يصح منه الشيء وضده، لا سيما إذا كان قادرا لنفسه ، فإذا كانا قادرين لأنفسهما صح ما ذكر بينهما.

فإن قيل: إن التمانع لا يقع منهما ، لأنها عالمان، فكل واحد منها يعلم أن مراد صاحبه حكمة ، فلا يريد ضده.

قلنا: إن الكلام مبني على صحة ذلك دون کونه ، فإن لم يكن واحد منها يريد أن يمنع صاحبه، فكونه قادرا يعطي أنه ممكن منه ، وإن لم يفعل ، وتصح إرادته ولا تستحیل منه ، ويحصل من ذلك تقدير التمانع بينهما وجوازه.

فإن قيل: لم ذكرتم أنهما إذا لم يقع مرادهما جميعا ، أن ذلك لضعفهما ؟

قلنا: لتساوي مقدورهما، وعند تساويه لا يكون فعل أحدهما أحق بالوجود من فعل الآخر. وفي ذلك إبطال أفعالهما، وهو معنى قول الله عز وجل .

«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» ، الأنبياء : 22

فإن قيل : فلم قلتم إن وجود مراد أحدهما دليل على ضعف الآخر؟

قلنا: لما في ذلك من رجحانه في قدرته على صاحبه. فلولا أنه أقدر منه لماوقع مراده دونه. وهذا يوضح عن ضعف من لم يقع مراده .

دليل آخر

وقد احتج أصحابنا بدلیل التمانع على وجه آخر فقالوا : إنها لو كانا اثنين كان لا يخلوا أحدهما من أن يكون يقدر على أن يكتم صاحبه شيئا ، أو لا يقدر على ذلك.

ص: 6


1- في النسخة: لا يعتذر

فإن كان يقدر فصاحبه يجوز عليه الجهل ، ومن جاز عليه الجهل فليس بآله قديم.

وإن كان لا يقدر فهو نفسه عاجز والعاجز ليس بآله قديم (1) .

دليل آخر:

ومما يدل على أن صانع العالم واحد، أنه لو كان معه ثان كان لا يخلو أمرهما في فعلهما للعالم من أحد وجهين:

إما أن أمرهما في فعلهما للعالم من أحد وجهين :

إما أن كل واحد منهما فعل جميعه ، حتى يكون الذي فعله أحدهما هو الذي فعله صاحبه.

أو يكون كل واحد منها انفرد ببعض منه.

وفي الوجه الأول إيجاب فعل واحد من فاعلين . وهذا يبطل في فصل (2).

وفي الوجه الثاني إيجاب تميز فعل كل واحد منها عن فعل الآخر ، لأن القادر الحكيم إذا فعل فعلا حسنا لم يجز إلا ليجعله دالا عليه وموسوما به ، ومميزا عن فعل غيره ، لا سيما إذا كان داعيا إلى شكر نعمته ، وموجبا لمعرفته ، ولا طريق لأحد إلى معرفته إلا بفعله.

فلما لم يكن فعل ما شاهدناه من السماء والأرض وغيرهما مما يدل على أن بعضه لواحد، وبعضه لآخر، وإنما يدل على أن له فاعلا فقط ، علمنا أن الفاعل له واحد، وهو الله تعالى ذكره.

فإن قيل: فإنا نجد العالم على قسمين : جواهر وأعراض، وكل واحد من الجنسين مميز عن الآخر فألا دل هذا على الصانعين؟

قلنا: لو كان صانع الجواهر غير صانع الأعراض، لكانا محتاجين بل

ص: 7


1- عرض الصدوق في كتاب التوحيد لهذا الدليل ص 277 باختلاف يسير .
2- هكذا في النسخة والعبارة غير تامة والأرجح أن هناك جملة ساقطة قد تكون هكذا: وهذا يبطل كونه فعله.

عاجزين ، لأن أحدهما لا يقدر أن يفعله بانفراده، وهو يفتقر إلى صاحبه ، الإستحالة وجود الجوهر بغير عرض ، والعرض بغير جوهر ، إلا ما انفرد به قوم من إرادة القديم وفناء العالم.

دليل آخر:

وهو أن العالم لو كان صانعه اثنين لكانا غيرين ، وحقيقة الغيرين هما اللذان يجوز وجود أحدهما وعدم الآخر ، إما من الزمان أو المكان ، أو على وجه من الوجوه ، أو كان يجوز ذلك (1).

ولسنا نجد أحدا من ذوي العقول الصحيحة السليمة التي لم تعترضها الشبهة الحادثة ، تعرف غيرين إلا وهو يعرف أنها هكذا ، ولا يعلم شيئين هكذا إلا.وهو يعلم أنهما غيران.

وهذا يمنع من أن يكون صانع العالم اثنين ، لما في ذلك من جواز عدم أحدهما، ومن جاز عدمه فليس بقديم. وفي بطلان قدم أحدهما دليل على أنه داخل في جملة المحدثين ، وأن صانع العالم هو الواحد القديم ومن خالفنا في حد الغيرين فليوجد [لنا] (2) شيئين متفقين على وجودهما ، ليس هذا: حكمهما.

دلیل آخر

وقد اعتمد البلخي (3) دليلا مفردا على أن صانع العالم واحد، لم يحتج أن يذكر فيه تقدير وجود الاثنين ، فقال :

ص: 8


1- في العبارة غموض ولعلها هكذا: (ولا يجوز غير ذلك)
2- في النسخة (نا).
3- هو مأخوذ من قول الإمام الرضا (علیه السلام) قولك أنه اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد فالواحد يجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه أنظر التوحيد ص 278.

الذي يدل على ذلك ، أنا وجدنا العالم محدثا ، ولا بد له من محدث، ووجدنا من تجاوز هذا القول بأن المحدث له واحد ، فزعم أنه اثنان (1) ، لا نجد فرقا بينه وبين من زعم أنه ثلاثة، وكذلك. لا نجد فرقا بينه وبين من زعم أنه: أربعة . وكل عدة تجاوزت الواحد. لا يقدر القائل بها اعلى فرق بينه وبين من زاد فيها ، ولا نجد حجة توجب قوله دون قول خصمه فيها .

فلما فسد قول كل من ادعى الزيادة على الواحد ، وليس مع. أحدهم رجحان بحجته ، وتكافأت أقوالهم في دعوى الزيادة ،دل على أن الصانع واحد لا أكثر من ذلك ، ولأن الدليل ثبت على وجود الصانع، ولم يثبت على ما يزيد على واحد .(2)

ثم علل رض نفسه فقال :

إذا قال قائل : إنكم قد تجدون دارا مبنية ، يدل بناؤها على أن لها بانيا ، ثم لا يجدون فرقا بين من زاد على واحد ، فقال إن بانيها اثنان وبين من قال ثلاثة. و كذلك كل عدة، حتى لا يتميز بعض الأقوال على بعض حجة ، أفتقطعون على أن صانع الدار واحد؟

وانفصل عن هذه المعارضة بأن قال: إن المثبت للدار صانعا واحدا أو صانعين فقد نجد فرقا بينه وبين من زاد عليه ، ودليلا على قوله دون قول من خالفه ، وذلك أن صناع الدار يجوز أن يشاهدهم من شاهدها ، ويجوز أن يرد الخبر إليها بعددهم ممن شاهدهم. يبنونها.

وليس كذلك صانع العالم. وهذا فرق واضح بين الموضعين . ولوضوحه يعلم بطلان مذهب الثنوية على اختلافهم، والنصارى في التثليث ومن جری مجراهم . والحمد لله .

ص: 9


1- في النسخة اثنين.
2- وخلاصته: أنه بعد العلم، بوجود: صانع للعالم فالواحد متیقن . والزائد مشكوك ولا دليل عليه لكن هذا يرد عليه إن عدم العلم بالزائذ لا يدل على عدم وجود الزائد والقضية متعلقة بالعقائد اليقينة لا بحكم ظاهري.

فصل:من كلام رسول الله (صلی الله علیه واله) في الخصال من واحد إلى عشرة .

وروي عن رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

خصلة من لزمها أطاعته الدانيا والآخرة، وربح الفوز بالجنة .

قيل : ما هي يا رسول الله ؟

قال: التقوى ، من أراد أن يكون أعز الناس فليتق الله عز وجل ، ثم تلا:

« وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ »

الطلاق: 2.

وقال:

المؤمن بين مخافتين ، بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه .(1)

وقال (صلی الله علیه واله):

« ومن وقي شر ثلاث فقد وقي الشر كله ، لقلقه ، وقبقبه ، وذبذبه ».

فلقلقه لسانه ، وقبقبه بطنه ، وذبذبه فرجه .

وقال (صلی الله علیه واله):

أربع خصال من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب، والإصرار على الذنب ، والحرص على الدنيا ».

وقال (صلی الله علیه واله):

« خمس لا يجتمعن إلا في مؤمن حقا، يوجب الله له بهن الجنة : النور في القلب ، والفقه في الإسلام ، والورع في الدين ، والمودة في الناس ، وحسن السمت في الوجه »

ص: 10


1- انظر: تحف العقول ص 20.

وقال (صلی الله علیه واله):

« اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، أصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا ائتمنتم، وأحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم »

وقال (صلی الله علیه واله):

« أوصاني ربي بسبع ، أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأعطي من حرمني ، وأصل من قطعني ، وأن يكون صمتي فكرا ، ونظري عبرا » (1)

وحفظ عنه (صلی الله علیه واله) ثمان قال:

« ألا أخبركم بأشبهكم بي خلقا ، »؟

قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحسنكم خلقا ، وأعظمكم حلما، وأبركم بقرابته ،و أشدكم حبا لإخوانه في دينه ، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ ، وأحسنكم عفوا ، وأشدكم من نفسه إنصافا » (2).

وقال (صلی الله علیه واله):

« الكبائر تسع ، أعظمهن الإشراك بالله عز وجل ، وقتل النفس المؤمنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين ، واستحلال البيت الحرام، والسحر . فمن لقي الله عز وجل ، وهو بريء منهن كان معي في جنة مصاريعها من ذهب ».

وقال :

« الإيمان في عشرة: المعرفة، والطاعة، والعلم، والعمل ، والورع، والإجتهاد ، والصبر، واليقين ، والرضا، والتسليم، فأيها فقد صاحبه بطل نظامه »

ص: 11


1- انظر : تحف العقول للحراني ص 25.
2- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار ص 214.

فصل:من فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) والنصوص عليه من رسول الله (صلی الله علیه واله)

من جملة ما رواه [لنا] (1) الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي رحمه الله بمكة في المسجد الحرام ، قال حدثني نوح بن أحمد بن أيمن رحمه الله ، قال : حدثنا إبراهيم بن أحمد بن أبي حصين ، قال : حدثني جدي ،قال : حدثني يحيى بن عبد الحميد ، قال : حدثني قيس بن الربيع ، قال : حدثني سليمان الأعمش عن جعفر بن محمد، قال حدثني أبي قال حدثني علي بن الحسين عن أبيه قال: أبي أمير المؤمنين علي عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله علیه و آله :

« يا علي أنت أمير المؤمنين ، وإمام المتقين يا علي أنت سيد الوصيين، ووارث علم النبيين ، وخير الصديقين ، وأفضل السابقين. يا علي أنت زوج سيدة نساء العالمين ، وخليفة خير المرسلين . يا علي أنت مولى المؤمنين ، والحجة بعدي على الناس أجمعين ، استوجب الجنة من تولاك ، واستوجب دخول الناس من عاداك.

يا علي ، والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية ، لو أن عبدا عبد الله تعالى ألف عام، ما قبل الله ذلك منه إلا بولايتك وولاية الأئمة من ولدك ، وان ولايتك لا تقبل إلا بالبراءة من أعدائك وأعداء الأمة من ولدك . بذلك أخبرني جبرئیل علیه السلام، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر .(2)

وحدثنا الشيخ أبو الحسن بن شاذان ، قال : حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن متويه المقري، قال: حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا علي بن عثمان ، قال : حدثنا محمد بن فرات عن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

ص: 12


1- جو مذكور في البحار ج 38 ص 134 نقله عن كشف اليمين ص 56 - 57.
2- جو مذكور في البحار ج 38 ص 134 نقله عن كشف اليمين ص 56 - 57.

علي بن أبي طالب خليفة الله وخليفتي ، حجة الله وحجتي ، وباب الله وبابي ، وصفي الله وصفي ، وحبيب الله وحبيبي ، وخليل الله وخليلي ، وسيف الله وسيفي، وهو أخي وصاحبي، ووزيري، ووصيي، حجته حجتي، ومبغضه مبغضي ، ووليه ولي ، وعدوه عدوي ، وزوجته ابنتي، وولده ولدي، وحربه حربي ، وقوله قولي ، وأمره أمري، وهو سيد الوصيين وخير أمتي » (1)

وحدثنا الشيخ أبو الحسن بن شاذان قال: حدثني خال أمي أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه الله ، قال : حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه (2) ، قال حدثني أحمد بن محمد، قال: حدثني محمد بن الفضيل، عن ثابت ابن أبي صفيه ، عن أبي حمزة (3) ، قال: حدثني علي بن الحسين، عن أبيه، قال حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

إن الله فرض عليكم طاعتي ونهاكم عن معصيتي، وأوجب عليكم اتباع أمري ، وفرض عليكم من طاعته طاعة علي بن أبي طالب بعدي كما فرض عليكم من طاعتي ، ونهاكم عن معصيته كما نهاكم عن معصيتي، وجعله أخي ووزيري ، ووصيي ووارثي ، وهو مني وأنا منه ، حبه إيمان ، وبغضه كفر. محبة محبي ، ومبغضه مبغضي، وهو مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مسلم ومسلمة، وأنا وهو أبوا هذه الأمة » (4)

ص: 13


1- انظر : البحار ج 38 ص 147 نقله عن بشارة المصطفى ص 28، هامش.
2- هو ابراهيم بن هاشم . أبو إسحاق الفمي أصله من الكوفه ، وانتقل إلى قم وهو أول من نشر حديث الكوفيين بقم ، ودکروا أنه لفي الامام الرضا (علیه السلام) فهرست الطوسي ص 27 .
3- هو أبو حمزة الثمالي ثابت بن دینار . من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) الثفات خدم أربعة من الأئمة: زین العابدين والباقر والصادق وبرهة من عصر الكاظم توفي سنة 150 ه.
4- انظر : أمالي الصدوق ص 13 و تجده أيضا في البحار ج 38 ص 91-92 نقلا عن الأمالي .

فصل:من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) وآدابه في فضل الصمت وكف اللسان.

من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه .

من كثر كلامه كثر خطؤه ، ومن كثر خطؤه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار.

إذا فاتك الأدب فالزم الصمت.

العافية في عشرة أجزاء ، تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله عز وجل .

کم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت نعمة.

من غلب لسانه أثره قومه.

المرء يعثر برجله فيبرأ، ويثر بلسانه ، فيقطع رأسه ولسانه. احفظ لسانك ، فإن الكلمة أسيرة في وثاق الرجل ، فإن أطلقها صار أسيرا في وثاقها .

عاقبة الكذب شر عاقبة.

خير القول الصدق ، وفي الصدق السلامة ، والسلامة مع الاستقامة .

لا حافظ أحفظ من الصمت .

إياكم والنمائم فإنها تورث الضغائن .

هانت عليه نفسه من أمر عليه لسانه .

الصمت نور .

إن الله عز وجل جعل صورة المرأة في وجهها ، وصورة الرجل في منطقه .

ص: 14

مختصر التذكرة بأصول الفقه

استخرجته من كتاب شيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان

رضي الله عنه وقدس سره .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أهل الحمد ومستحقه ، وصلاته على خيرته المصطفين من خلقه ، سیدنا محمد رسوله ، الدال بآياته على صدقه ، وعلى أهل بيته، الأئمة القائمين من بعده بحقه .

سألت أدام الله عزك، أن أثبت لك جملا من القول في أصول الفقه مختصرة،لنكون لك تذكرة بالمعتقد في ذلك ميسرة، وأنا أسير إلى محبوبك ، وانتهي إلى مرادك ومطلوبك ، بعون الله وحسن توفيقه.

إعلم أن أصول أحكام (1) الشريعة ثلاثة أشياء : كتاب الله سبحانه ، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده صلوات الله عليهم و سلامه.

والطرق الموصلة إلى علم المشروع في هذه الأصول ثلاثة :

أحدها العقل ، وهو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار .

والثاني اللسان، وهو السبيل إلى المعرفة بمعاني الكلام.

وثالثها الأخبار، وهي السبيل إلى إثبات أعيان الأصول من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة عليهم السلام.

والأخبار الموصلة إلى العلم بما ذكرناه ثلاثة أخبار : خبر متواتر ، وخبر واحد معه قرينة ، تشهد بصدقه، وخبر مرسل في الإسناد ، يعمل به أهل الحق على الاتفاق.

ص: 15


1- في الأصل الأحكام .

ومعاني القرآن على ضربين : ظاهر و باطن .

والظاهر هو المطابق لخاص العبارة عنه تحقيقا على عادات أهل اللسان ، كقوله سبحانه:

« إن الله لا يظلم الناس شيئا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون »

فالعقلاء العارفون باللسان يفهمون من ظاهر هذا اللفظ المراد .

والباطن هو ما خرج عن خاص العبارة وحقيقتها إلى وجوه الإتساع ، فيحتاج العاقل في معرفة المراد . من ذلك إلى الأدلة الزائدة على ظاهر الألفاظ، كقوله سبحانه:

« أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة »

فالصلاة في ظاهر اللفظ هي الدعاء حسب المعهود بين أهل الفقه ، وهي في الحقيقة لا يصح منها القيام به والزكاة هي الفهو عندهم بلا خلاف، ولا يصح أيضا فيها الاتيان ، وليس المراد في الآية ظاهرها ، وإنما هو أمر مشروع.

فالصلاة المأمور بها فيها هي أفعال مخصوصة مشتملة على قيام وركوع وسجود وجلوس.

والزكاة المأمور بها فيها ، هي إخراج مقدار من المال على وجه أيضا مخصوص ، وليس يفهم هذا من ظاهر القول ، فهو الباطن المقصود .

وأنواع أصول معاني القرآن أربعة :

أحدها، الأمر وما استعير له لفظه

وثانيها ، النهي وما استعمل فيه لفظه .

وثالثها ، الخبر مع ما يستوعبه لفظه.

ورابعها ، التقرير وما وقع عليه لفظه

وللأمر صورة محققة في اللسان ، يتميز بها عن غيره في الكلام ، وهي قولك :

(افعل) إذا ورد مرسلا على الإطلاق ، وإن كانت هذه اللفظة تستعمل في غير الأمر على سبيل الإتساع والمجاز ، کالسؤال، والإباحة، والخلق والمسخ ، والتهديد .

ص: 16

والأمر المطلق يقتضي الوجوب، ولا يعلم الندب إلا بدليل.

وإذا علق الأمر بوقت وجب الفعل في أول الوقت ، وكذلك إطلاقه يقتضي المبادرة بالفعل والتعجيل ، ولا يجب ذلك أكثر من مرة ما لم يشهد بوجوب التكرار الدليل.

فإن تكرر الأمر وجب تكرار الفعل ما لم تثبت حجة بأن المراد بتكراره التأكيد.

فأما الأمران إذا عطف أحدهما على الآخر فالواجب أن يراعى فيهما الاتفاق في الصورة والاختلاف، فإن اتفقا دل ذلك على التأكيد ، وإن اختلفا كان لهما حكان.

والقول في الخبرين إذا تساويا في الصورة كالقول في الأمرين.

وإمتثال الأمر مجز لصاحبه ، ومسقط عنه فرض ما كان وجب من الفعل عليه.

وإذا ورد لفظ الأمر معاقبا لذكر الحظر أفاد الإباحة دون الإيجاب كقول الله تعالى:

« فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ » الجمعة : 10.

بعد قوله : « إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ » الجمعة : 9.

وإذا ورد الأمر بفعل أشياء على طريق التخيير ، كوروده في كفارة اليمين ، فكل واحد من تلك الأشياء واجب ، بشرط اختيار المأمور ، وليست واجبة على الإجتماع ، ولا بالإطلاق.

وما لا يتم الفعل إلا به واجب ، كوجوب الفعل المأمور به ، وكذلك الأمر بالمسبب دليل على وجوب فعل السبب.

والأمر بالمراد دليل على فعل الإرادة .

وليس الأمر بالشيء هو بنفسه نهي عن ضده ، ولكنه يدل على النهي عنه ، بحسب دلالته على حظره.

ص: 17

وباستحالة اجتماع الفعل وتركه يقتضي صحة النهي العقلي عن ضد ما أمر به.

وإذا ورد الأمر بلفظ المذكر ، مثل قوله :

يا أيها الذين آمنوا، ويا أيها المؤمنون والمسلمون وشبهه ، فهو متوجه بظاهرة إلى الرجال دون النساء ، ولا يدخل تحته بشيء من الإناث إلا بدلیل سواه.

فأما تغليب المذكر على المؤنث فإنما يكون بعد جمعها بلفظها على التصريح ثم يعبر عنها من بعده بلفظ المذكر .

ومتى لم يجر للمؤنث بما يخصه من اللفظ فليس يقع العلم عند ورود لفظ المذكر بأن فيه تغليبا ، إلا أن يثبت أن المتكلم قصد الإناث والذكور معا بدلیل.

فأما الناس فكلمة تعم الذكور والإناث.

وأما القوم فكلمة تعم الذكور دون الإناث.

وإذا ورد الأمر مقيدا بصفة يخص بها بعض المكلفين ، فهو مقصور على ذي الصفة غير متعدية إلى غيره إلا بدليل كقوله تعالى :

« يَا أيُّهَا المُدَّثِر قُم فَاِنذِر » المدثر:2

وإذا ورد بصفة تتعدى المذكور إلى غيره من المكلفين ، كان متوجها إلى سائرهم على العموم ، إلا ما خصه الدليل كقوله عز وجل :

« يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » الطلاق:1

والأمر بالشيء لا يكون إلا قبله ، لاستحالة تعلق الأمر بالموجود .

والأمر متوجه إلى الطفل بشرطة البلوغ.

وكذلك الأمر للمعدوم بشرطر وجوده وعقله الخطاب.

ويصح أيضا توجه إلى من يعلم من حاله أنه يعجز في المستقبل عما أمر به ، أو يحال بينه وبينه، أو يخترم دونه کما (1) يجوز في ذلك من مصلحة الأمور في

ص: 18


1- في النسخة (لما).

اعتقاده فعل ما أمر به ، واللطف له في استحقاقه الثواب على نيته، وإمكان استصلاح غيره من المكلفين بأمره.

فأما خطاب المعدوم والجهادات والأموات فمحال والأمر أمر بعينه ونفسه .

فأما النهي فله صورة في اللسان محققة يتميز بها عن غيره ، وهي قولك [لا تفعل] إذا ورد مطلقا .

والنهي في الحقيقة لا يكون منك إلا لمن دونك كالأمر.

والنهي موجب للترك المستدام ما لم يكن شرط يخصه بجمال أو زمان .

فأما الخبر فهو ما أمكن فيه الصدق والكذب ، وله صيغة مبنية يتفصل بها مما يخالفه في معناه . وقد يستعار صيغته فيما ليس بخبر ، كما يستعار غيرها من صيغ الحقائق فيما سواه على وجه الاتساع والمجاز ، قال الله عز وجل :

« وَمَن دَخَلِهِ كَانَ آمَنَّا » هو من الآية 97 من آل عمران .

فهو لفظ بصيغة الخبر، والمراد به الأمر بأن يؤمن من دخله .

والعام في معنى الكلام ما أفاد لفظه اثنين فما زاد.

والخاص ما أفاد واحدا دون سواه ، لأن أصل الخصوص التوحيد ، وأصل العموم الاجتماع، وقد يعبر عن كل منها بلفظ الآخر تشبها وتجوزا، قال الله تعالى:

« إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» الحجر: 9 .

فعبر عن نفسه سبحانه وهو واحد بلفظ الجمع .

وقال سبحانه:

« الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَکُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَکيلُ » آل عمران: 173 .

وكان سبب نزول هذه الآية أن رجلا قال لأمير المؤمنين (علیه السلام) قبل وقعة أحد إن أبا سفيان قد جمع لكم الجموع، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : حسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 19

فأما اللفظ المعبر به عن العالم فهو كقوله عز وجل :

« وَٱلمَلَكُ عَلَى أَرجَائِهَا » الحاقة : 17

وإنما أراد به الملائكة.

وقوله:

«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَريمِ» الانفطار: 9

يريد يا أيها الناس.

وكل لفظي أفاد من الجمع ما دون استيعاب الجنس فهو عام في الحقيقة ، خاص بالإضافة ، كقوله عز وجل .

« فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ » الانعام:44

ولم يفتح لهم أبواب الجنات ولا أبواب النار

وقوله:

«ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا » البقرة: 260

وإنما أراد بعض الجبال.

وكقول القائل : جاءنا فلان بكل عجيبة . والأمثال في ذلك كثيرة ، وهو كله عام في اللفظ ، خاص مقصور عن الاستيعاب .

فأما العموم المستوعب للجنس فهو ما أفاد من القول نهاية ما دخل تحته وصح للعبارة عنه في اللسان، قال الله عز وجل:

« والله بكل شيء عليم »

« كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ». الرحمن : 26 - 27

فأما الألفاظ المنسوبة إلى الإشتراك ، فهي على ألحاء :

فمنها ما هو مبني لمعنی سائغ في أنواع مختلفات ، کاسم شيء على التنكير ، فهو وإن كان في اللغة موضوعا للموجود دون المعدوم، فهو يعم الجواهر والأجسام والأعراض، غير أن لكل ما شمله مما عددناه أسماء على التفصيل مبینات، يخص كل إسم نوعه دون ما سواه. ومنها رجل وإنسان وبهيمة ونحو

ص: 20

ذلك. فإنه يقع على كل اسم من هذه الأسماء على أنواع في الصور والهيئات ، وهو موضوع في الأصل لمعنى يعم جميع ما في معناه.

ومن الألفاظ المشتركة ضرب آخر ، وهو قولهم . (عين)، ووقوع هذه اللفظة على جارحة البصر، وعلى الماء، والذهب، وجيد الأشياء، وصاحب الخير ، وميل الميزان وغير ذلك. فهذه اللفظة. بمجردها غير مبنية لشيء ما عددناه ، وإنما هي بعض المسمى، وتمامه وجود الإضافة أو ما يقوم مقامها من الصفة المخصوصة.

وإذا ورد اللفظ وكان مخصوصا بدليل فهو على العموم فيما بقي تحته مما عدا المخصوص. ويقال إنه عام على المجاز ، لأنه منقول عما بني له من الاستيعاب إلى ما دونه من المخصوص.

وحقيقة المجاز هي وضع اللفظ على غير ما بني له في اللسان، فلذلك قلنا إنه مجاز .

وإذا ورد لفظان عامان، كل منهما يرفع حكم صاحبه ، ولم يعرف المتقدم منهما من المتأخر ، فيقال إن أحدهما منسوخ والآخر ناسخ ، وجب فيها الوقف ، ولم يجز القضاء بأحدهما على الآخر إلا أن يحضر دليل.

وذلك كقوله سبحانه :

« وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ » البقرة : 240.

وهذا عموم في جميع الأزواج المختلفات بعد الوفاة .

وقوله: « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا » (1) البقرة : 234 .

وهذا أيضا عام، وحكمهما متنافیان ، فلولا أن العلم قد أحاط بتقديم إحداهما فوجب القضاء بالمتأخرة الثانية منهما ، لكان الصواب هو الوقف دون الحكم بشيء منهما .

وكذلك إذا ورد حكمان في قضية واحدة ، أحدهما خاص والآخر عام ، ولم

ص: 21


1-

يعرف المتقدم من المتأخر منهما ، ولم يتمكن الجمع بينهما ، وجب التوقف فيهما ، مثل ما روي عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« لا نکاح إلا بولي »

والرواية عنه من قوله :

« ليس للولي مع البنت أمر »

وهذا يخص الأول، وفي الإمكان أن يقضى عليه في الأول في كل واحد منهما يجوز أن يكون الناسخ للآخر، فيعدلنا عنهما جميعا ، لعدم الدلالة على القاضي منهما ، وصرنا إلى ظاهر قوله عز وجل :

« فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ » النساء:3

وقوله : وأنكحوا الايامي منكم » في إباحة النكاح بغير اشتراطر ولي على الإطلاق.

[ الخاص والعام ]

وإذا ورد لفظ في حكم وكان معه لفظ خاص في ذلك الحكم بعينه ، وجب القضاء بالخاص ، وهذا مثل الأول، ومثاله قول الله عز وجل :

«وَ الَّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاَّ عَلي أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَکَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومينَ » المؤمنون: 5 و 6.

وهذا عام في ارتفاع اللوم على وطء الأزواج على كل حال، والخصوص قوله سبحانه :

« وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ » البقرة : 222

فلو قضينا بعموم الآية ارتفع حكم آية المحيض بأسره. وإذا قضينا بما في الثانية من الخصوص لم يرتفع حكم الأولى العام من كل الوجوه، فوجب القضاء بآية التخصيص منها ليصح العمل على ما بيناه بهما.

ص: 22

وإذا سبق التخصيص اللفظ العام أو ورد مقارنا له، فلا يجوز القول بأنه ناسخ لحكمه ، لأن العموم لم يثبت فيستقر له حكم، وإنما خرج إلى الوجود مخصوصا فأوجبه في حكم الخصوص.

والنسخ إنما هو رفع موجود لو ترك لأوجب حكما في المستقبل.

والذي يخص اللفظ العام لا يخرج منه شيئا دخل تحته ، وإنما يدل الدليل على أن التجوز لم يرد من [معنى] ما بني له الاسم ، وإنما أراد غيره، وقصد إلى وضعه على ما بني له في الأصل.

وليس يخص العموم إلا دليل العقل والقرآن والسنة الثابتة .

فأما القياس والرأي فإنهما عندنا في الشريعة ساقطان لا يثمران علما ، ولا يخصان عاما ، ولا يعمان خاصا ، ولا يدلان على حقيقة.

ولا يجوز تخصيص العام بخبر الواحد، لأنه لا يوجب علما ولا عملا، وإنما يخصه من الأخبار ما [قطع] العذر لصحته عن النبي (صلی الله علیه واله) وعن أحد الأئمة ( عليه السلام ).

وليس يصح في النظر دعوى العموم بذكر الفعل ، وإنما يصح ذلك في الكلام المبني والصور منه المخصوصة. فمن تعلق بعموم الفعل فقد خالف العقول ، وذلك أنه إذا روي أن النبي (صلی الله علیه واله) أحرم لم يجب الحكم بذلك على أنه أحرم بكل نوع من أنواع الحج من إفراد وقران وتمتع، وإنما يصح الإحرام بنوع منها واحد.

وإذا ثبت عنه عليه السلام أنه قال : لا ينكح المحرم، وجب عموم حظر النكاح على جميع المحرمين مع إختلافهم فيما أحرموا به من إفراد و قران وتمتع ، أو عمرة منقولة .

وفحوى الخطاب هو ما فهم منه المعنى وإن لم يكن نصا صريحا فيه بمعقول عادة أهل اللسان في ذلك ، كقوله عز وجل :

« فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا » الإسراء : 23

فقد فهم من هذه الجملة ما تضمنته نصا صريحا ، وما دل عليه بعرف أهل

ص: 23

اللسان من الزجر عن الاستخفاف بالوالدين الزائد على قول القائل لها (أف)، وما تعاظم عن انتهارهما من القول وما أشبه ذلك من الفعل ، وإن لم يكن النص تضمن ذلك على التفصيل والتصريح.

وكقولهم لأمر يخص لا تبخس فلانا من حقه حبة واحدة ، وما يدل ذلك عليه بحسب العرف بينهم والعادة من النهي عن جميع البخس الزائد على الحبة ، والأمثلة في ذلك كثيرة.

فأما دليل الخطاب فهو أن الحكم إذا علق ببعض صفات المسمى في الذكر ، دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة مما هو داخل تحت الإسم بخلاف ذلك الحكم إلا أن يقوم دليل على وفاقه فيه ، كقول: النبي (صلی الله علیه واله):

« في سائمة الأبل زكاة »

فتخصیصه السائمة بالزكاة دليل على أن العاملة ليس فيها زكاة .

ويجوز تأخیر بیان المراد من القول إذا كان في ذلك لطف للعباد . وليس ذلك من المحال .

وقد أمر الله قوم موسى أن يذبحوا بقرة ، وكان مراده أن تكون على صفة مخصوصة ، ولم يقع البيان مع قوله: «إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » ، بل تأخر عن ذلك ، وإنكشف لهم عند السؤال بحسب ما اقتضاه لهم الصلاح. وليس ينافي تأخير البيان ، القول بأن الأمر على الفور والبدار . وذلك إن تأخير البيان عن الأمر الوقت ، أو قرينة من برهان هو غير الأمر المطلق العري من القرائن ، الذي ظن أنه يقتضي الفور والبدار . ولا يجوز تأخیر بیان العموم، لأن العموم موجب بمجرده الاستیعاب، فمتى أطلقه الحكيم، ومراده التخصيص ولم يبين ذلك فقد أتي بألغاز ، وليس هذا كتأخیر بیان المجمل من الكلام ، وبينها فرق.

أسماء النكرة

والأسماء النكرة موضوعة في أصل اللغة للجنس دون التعيين، فإذا ورد

ص: 24

الأمر بفعل يتعلق بنكرة وجب إيقاعه على ما يستحق بمعناه سمة الجنس سوی ما زاد عليه.

فمن ذلك ما يفيد أقل ما يدخل تحت الجنس، كقول القائل لغيره : تصدق بدرهم، فامتثال هذا الأمر أن يتصدق بدرهم كائنا ما كان من الدراهم.

وليس النهي بالنكرة كالأمر بها ، لأن الأمر ههنا يقتضي التخصيص، والنهي يقتضي العموم.

ولو قال النبي (صلی الله علیه واله) لأحد أصحابه : لا تدخرن درهما ولا دينارا ، لاقتضى ذلك أن لا يدخر منهما عينا.

ولو قال له : تصدق بدرهم ودینار ، لأفاد ذلك أن يتصدق بهما ، ولا يلزمه أن يتجاوزها.

وليس القول بأن الأمر بالنكرة يقتضي أن يفعل أي واحد كان من الجنسين بمفسد ما تقدم من القول في تأخير البيان عن قوم موسي (علیه السلام) لما أمروا بذبح بقرة بلفظ التنكير، لأن حالهم يقتضي أن مع الأمر لهم بذبحها ، قد كانت لهم قرينة اقتضت التوقف والسؤال في سؤآلهم ذلك على ذلك.

ولو تعري الأمر من القرينة لكان مجرد وروده بالتنكير يقتضي الإمتثال في أي واحد من الجنسين.

ومن هذا الباب أن يرد الأمر بلفظ التثنية والتنكير كقوله : اعطر فلانا در همين ، فالواجب الامتثال في أي درهمن كانا على معنى ما تقدم من القول .

ومنه أن يرد الأمر بلفظ الجمع المنكر ، كقوله : تصدق بدراهم ، فليس يفيد ذلك أكثر من أقل العموم، وهو ثلاث، ما لم يقع التبيين.

في العموم وصیغه

واعلم أن العموم على ثلاثة أضرب، فضرب هو أصل الجمع المفيد لاثنين فما زاد ، وذلك لا يكون إلا فيما اختصت عبارة الاثنين به في العدد ، فهو عموم من حيث الجمع .

ص: 25

والضرب الثاني ما عبر عنه بلفظ الجمع المنكر ، كقولك : دراهم ودنانير . فذلك لا يصح في أقل من ثلاثة.

والضرب الثالث ما حصل فيه علامة الاستیعاب، من التعريف (بالألف واللام) و (بمن) الموضوعة للشرط والجزاء . فمتى قال لعبده: (عظم العلماء) فقد وجب عليه تعظيم جميعهم. وإذا قال: (من دخل داري أكرمته)، وجب عليه إكرام جميع الداخلين داره.

والأسماء الظاهرة ما استغنت في حقائقها عن مقدمة لها.

والكنية ما لم يصح الابتداء بها . وحكم الكناية العموم و الخصوص حكم ماتقدمها.

والعطف والاستثناء إذا أعقب جملا فهو راجع إلى جميعها ، إلا أن يكون هناك دليل يقصرها على شيء منها .

وما ورد عن الله سبحانه ، وعن رسول الله (صلی الله علیه واله) وعن الأئمة الراشدين (علیه السلام) من بعده ، على سبب أو كان جوابا عن سؤال ، فإنه يكون محكوما له بصورة لفظه ، دون القصر له على السبب المخرج له عن حكم ظاهره . (1)

وليس وروده على الأسباب بمناف لحمله على حقيقته في الخطاب في عقل أو

عرف ولا لسان.

وإنما يجب صرفه عن ظاهره لقيام دلالة تمنع من ذلك من التضاد .

في الحقيقة والمجاز

والحقائق والمجازات إنما هي في الألفاظ والعبارات، دون المعاني المطلوبات. والحقيقة من الكلام ما يطابق المعنى الموضوع له في أصل اللسان .

ص: 26


1- هذا ما يعبر عنه في المصطلح الأصولي اليوم بقاعدة (المورد لا يخصص الوارد).

والمجاز منه ما عبر به من غير معناه في الأصل، تشبيها واستعارة لغرض من

الأغراض، وعلى وجه الإيجاز والاختصار .

ووصف الكلام بالظاهر وتعلق الحكم به ، إنما يقصد به إلى الحقيقة منه . والحكم بالإستعارة فيه إنما يراد به المجاز.

وكذلك القول في التأويل والباطن، إنما يقصد به إلى العبارة عن مجاز القول واستعارته حسبما ذكرناه.

والحكم على الكلام بأنه حقيقة أو مجاز لا يجوز إلا بدليل يوجب اليقين ،ولا يسلك فيه طريق الظنون.

والعلم بذلك من وجهين: أحدهما الإجماع من أهل اللسان ، والآخر الدليل المثمر للبيان.

فأما إطلاق بعض أهل اللغة أو بعض أهل الإسلام ممن ليس بحجة في المقال

والفعال فإنه لا يعتمد في إثبات حقيقة الكلام.

فمتى التبس اللفظ فلم يقم دليل على حقيقة فيه أو مجاز ، وجب الوقف لعدم البرهان.

وليس بمصيب من ادعى أن جميع القرآن على المجاز. وظاهر اللغة يكذبه ، ودلائل العقول والعادات تشهد بأن جمهوره على حقيقة كلام أهل اللسان.

ولا بمصيب أيضا من زعم أنه لا يدخله المجاز . وقد خصمه في ذلك قوله سبحانه :

« فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ... » الكهف: 77.

وغيره من الآيات. والواجب أن يقال إن منه حقيقة ، ومنه مجاز .

الحظر والإباحة :

فأما القول في الحظر والاباحة فهو أن العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما

ص: 27

يجوز ورود السمع فيها بإباحته ، ولا بحظر ما يجوز وروده فيها بحظره، ولكن العقل لم ينفك قطر من السمع بإباحته وحظره.

ولو [ألزم] (1) الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرهم إلى موافقة ما يقبح في عقولهم من استباحة ما لا سبيل لهم الى العلم بابا حته من حظره، وإلجائهم إلى الحيرة التي لا تليق بحكمته.

القياس والرأي :

وليس عندنا للقياس والرأي مجال في استخراج الأحكام الشرعية، ولا يعرف من جهتها شيء من الصواب ، ومن اعتمدهما في المشروعات فهو على الضلال.

النسخ:

والعقول تجوز نسخ الكتاب بالكتاب ، والسنة بالسنة ، والكتاب بالسنة ، والسنة بالكتاب. غير أن السمع ورد بأن الله تعالى لا ينسخ كلامه بغير كلامه ، بقوله:

« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها » البقرة: 106.

فعلمنا أنه لا ينسخ الكتاب بالسنة، وأجزنا ما سوى ذلك.

الخبر

والحجة في الأخبار ما أوجبه العلم من جهة النظر فيها بصحة مخبرها ونفي الشك فيه والارتياب.

ص: 28


1- في النسخة: (ولو احکی) فوضعنا مکانها (ألزم) لأنها أكثر انسجاما مع المراد .

وكل خبر لا يوصل بالاعتبار إلى صحة مخبره فليس بحجة في الدين ، ولا يلزم به عمل على حال.

والأخبار التي يجب العلم بالنظر فيها على ضربين:

أحدها التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ على ذلك ، أو ما يقوم مقامه في الاتفاق.

والثاني خبر واحد يقترن إليه ما يقوم مقام المتواتر في البرهان على صحة مخبره وارتفاع الباطل منه والفساد.

والتواتر الذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة والانتشار إلى حد قد منعت العادة من اجتماعهم على الكذب بالاتفاق ، کما يتفق الاثنان أن يتواردا بالارجاف. وهذا حد يعرفه كل من عرفه العادات.

وقد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم ومخارج كلامهم ، وما يبدو في ظاهر وجوههم، ويبين من تصورهم أنهم لم يتواطئوا، ليتعذر التعارف بينهم والتشاور ، فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلا على صدقهم ورافعا للاشكال في خبرهم، وإن لم يكونوا في الكثرة على ما قدمناه .

فأما خبر الواحد القاطع للعذر فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحة مخبره ، وربما كان الدليل حجة من عقل ، وربما كان شاهدا من عرف ، وربما كان إجماعا بغير خلف. فمتي خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها على صحة خبره فإنه كما قدمناه ليس بحجة ، ولا موجب علما ، ولا عملا على كل وجه.

الإجماع:

وليس في إجماع الأمة حجة من حيث كان إجماعا ، ولكن من حيث كان

ص: 29

فيها الإمام المعصوم. فإذا ثبت أنها كلها على قول فلا شبهة في أن ذلك القول قول المعصوم، إذ لو لم يكن كذلك كان الخبر عنها بأنها مجمعة باطلا ، فلا تصح الحجة بإجماعها لهذا الوجه.

الاستصحاب :

والحكم باستصحاب الحال واجب ، لأن حكم الحال ثبت باليقين ، وما ثبت فلن يجوز الانتقال عنه إلا بواضع الدليل .

اختلاف الأخبار:

والأخبار إذا اختلفت في الألفاظ فلن يصح حمل جميعها على الحقيقة من الكلام إذا أريد الجمع بينهما على الوفاق. وإنما يصح حمل بعضها على الحقيقة ، وبعضها على المجاز ، حتى لا يقدح ذلك في إسقاط بعضها على الحقيقة ، وبعضها على المجاز . فلا بد من صحة أحد البعضين وفساد الآخر ، أو فساد الجميع .

اللهم إلا أن يكون الاختلاف فيها يدل على النسخ الذي لا يكون إلا في أخبار النبي (صلی الله علیه واله) دون أخبار الأئمة (علیه السلام)؛ فإنهم ليس لهم تبدیل شيء من العبارات ، ولا نسخ.

وقد أثبت لك- أيدك الله - جمل ما سألت في إثباته ، وأوردته مجردا من حججه ودلالته ، ليكون تذكرة لك بالمعتقد كما ذكرت، ولم أتعد فيه مضمون کتاب شيخنا المفيد رحمه الله حسبما طلبت، والحمد لله على أهل الجود والأفضال ، وصلاته على سيدنا محمد رسوله المنقذ بهدايته منالضلال، وعلى آله الطاهرين أولي الرفعة والجلال.

ص: 30

فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر الكلام

من كلام رسول الله (صلی الله علیه واله):

استرشدوا العقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا .

قوام المرء عقله ، ولا دين لمن لا عقل له.

سيد الأعمال في الدارين العقل.

لكل شيء دعامة ، ودعامة المؤمن عقله . فبقدر عقله تكون عبادته لربه .

اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محدثا ، ولا تكن الخامس فتهلك.

نضر الله امرءا سمع منا حديثا فأداه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع.

العلم أكثر من أن يحصي ، فخذ من كل شيء أحسنه.

إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته ، فإن كان خيرا فأسرع إليه ، وإن كان شرا فانته عنه.

صل من قطعك ، وأحسن إلى من أساء إليك ، وقل الحق ولو على نفسك .

اعتبروا فقد خلت المثلات فيمن كان قبلكم.

كن لليتيم كالأب الرحيم.

واعلم أنك تزرع كل [ما] تحصد.

اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت.

من كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

عليكم بالدرايات لا بالروايات. همة السفهاء الرواية ، وهمة العلماء الدراية.

ص: 31

تزاوروا وتذاكروا الحديث ، إلا تفعلوا يدرس .

أشد الناس بلاء ، وأعظمهم عناء ، من بلي بلسان مطلق ، وقلب مطبق، فهو لا يحمد إن سكت ، ولا يحسن إن نطق.

إياكم وسقطات الاسترسال، فإنها لا تستقال.

تعز عن الشيء إذا منعته لقلته ، ما صحبك إذا أعطيته .

من لم يعرف لوم ظفر الأيام، لم يحترس من سطوات الدهر ، ولم يتحفظ من

فلتات الزلل، ولم يتعاظمه ذنب وإن عظم.

وسئل عن الحرص ما هو فقال :

هو طلب القليل بإضاعة الكثير .

وقال : العاقل يستريح في وحدته إلى عقله ، والجاهل يتوحش من نفسه ، لأن

صديق كل إنسان عقله ، وعدوه جهله .

العقول ذخائر ، والأعمال كنوز ، النفوس أشكال ، فما تشاكل منها اتفق ،والناس إلى أشكالهم أميل.

من كلام الحسين عليه السلام:

قوله يوما لابن عباس :

يا ابن عباس لا تكلمن فيما لا يعنيك فإنني أخاف عليك فيه الوزر، ولا تكلمن فيما يعنيك حتى ترى للكلام موضعا ، فرب متکلم قد تكلم بالحق فييب. ولا تمارين حليما ولا سفيها ، فإن الحليم يقليك ، والسفيه يرديك. ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلا [مثل] ما تحب أن يقول فيك إذا تواريت عنه .

واعمل عمل رجل يعلم أنه مأخوذ بالاجرام ، مجزي بالاحسان، والسلام.

وبلغه عليه السلام کلام نافع بن جير في معاوية قوله : إنه كان يسكنه الحلم ،

وينطقه العلم ، فقال عليه السلام:

بل كان ينطقه البطر ، ويسكنه الحصر .

ص: 32

من کلام الإمام الصادق عليه السلام:

وعن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قوله:

الملوك حكام الناس، والعلماء حكام على الملوك .

وقوله:

أحسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله ، وانصحوا لأنفسكم، وجاهدوا في طلب ما لا عذر لكم في جهله ، فإن لدين الله أركانا لا ينفع من جهلها شدة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته ، ولا يضر من عرفها فدان به حسن اقتصار ، ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عز وجل (1) .

وقوله:

ما كل من نوى شيئا قدر عليه ، ولا كل من قدر على شيء وفق له، ولا كل من وفق له أصابه ، فإذا اجتمعت النية والقدرة والتوفيق والإصابة فهنالك تمت السعادة (2) .

وقوله في الحث على التوبة :

تأخير التوبة اغترار ، وطول التسويف حيرة ، والاعتلال على الله هلكة ، والإصرار على الذنب أمن به لمكر الله ، « فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ » (3) الأعراف: 99.

من كلام غير الأئمة عليهم السلام:

ومما ورد عن غير الأئمة عليهم السلام قول بعض علماء العرب:

العقل أمير ، والعلم نصير، والحلم وزیر .

ص: 33


1- رواه المفيد في الإرشاد ص 160.
2- رواه في المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه .

وقول بعض حکماء الهند:

العقل حاكم أمين ، والعلم له قرين ، والحلم له خدين .

وقول بعض حکماء الفرس:

العقل ملك الجوارح، والعلم له أخ صالح، والحلم له أليف ناصح .

وقول بعض حکماء الروم:

العقل مدبر آمر ، والعلم له معاضد ناصر ، والحلم منجد مؤازر .

في كتاب كليلة ودمنة:

من غلب عقله هواه نال مناه، وأعطي رضاه.

وفي كتاب بلوهر الهندي:

من اشتد في الدنيا زهده، استراح وطلع سعده .

وفي كتاب السير وسيف البدی (كذا):

من عرف نفسه لم يحقر جنسه .

في كتاب الرحمة لهرمس :

القناعة أمنع عز، والاستعانة بالله أحصن حرز .

وفي كتاب الأساس لبطلیموس:

العقل الأصل ، وقوام الأشياء بالفضل والعدل .

في كتاب الجواهر :

التواضع شرف، وقد استوجب الصفح من تاب واعترف.

في كتاب التجنيس لأرسطاطالیس :

الطبع أغلب ، والعادة أدرب.

في كتاب اللطف لأفلاطون :

نقل الطبع عسير الانتزاع.

ص: 34

في كتاب الأقسام لصبرة الفلكي :

العمر قصير ، وفي الدهر لأهله تبصير .

كتاب الاختيار لأبقراط :

التجارب إيضاح، وفيها إفادة وصلاح.

كتاب الابانة لعمرو بن بحر :

من خشع ارتفع، وعرف بما دنا منا سمع .

كتاب المعارف للكندي:

إدراك السداد بالجد والاجتهاد .

وروى الصولي عن بعضهم أنه قال:

لولا العقول المضيئة وخلائقها الرضية ، لما كان التفاضل بين الحيوان، ولما فرق بين البهيمة والانسان.

وقال إقلمون: من عدم التدبير يكون التدمير .

وقال آخر: من لم يقدم الامتحان قبل الثقة ، والثقة قبل الانس ، أثمرت مودته ندما.

قال بزرجمهر: إذا أنجز رجل وعده من معروفه ، أحرز مع فضيلة الجود شرف الصدق.

وقال بطلیموس: من قبل عطيتك فقد أعانك على البر والكرم.

قال أبقراطر: إذا أمكنك الرجل من أن تضع معروفك عنده ، فيده عندك مثل يدك عنده. وإذا [أصابه] من هم نزل به أو خوف تدفعه عنه فلم تبذل دمك دونه ، فقد قصرت بحسبك عنده. ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم إلا سوء ظنهم بالله لكان ذلك عظيما.

قال كسرى أنوشروان :

الملك بالدين يبقى ، والدين بالملك يقوى. شدة الغضب تغير المنطق ، وتقطع

مادة الحجة .

ص: 35

وقال أرسطاطالیس:

من اتخذ الصمت جنة وقي من شر ما تأتي به الألسن .

وقال: الكلام مملوك ما لم ينطق به صاحبه ، فإذا نطق به صاحبه خرج عن ملکه.

وقال أفليمون: غنيمة السكوت أكبر من غنيمة الكلام ، وندامة الكلام أكبر من ندامة السكوت.

وقال دونس: الصمت أنفع من الكلام في أكثر المواضع ، والكلام أنفع من الصمت في أقل المواضع .

وقال أفلاطون: ضبط اللسان ملك، وإطلاقه في غير موضعه هلك.

وقال: من علم أن كلامه يتصفح عليه فليتصفحه على نفسه قبل أن يتصفحه عليه غيره .

وقال آخر: البطنة تذهب بالفطنة ، وكثرة الصمت مفسدة المنطق .

وقال آخر : إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال ، ولكن اذكر من فوقك من العلاء .

أبو حنيفة مع الإمام الصادق:

فصل: ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام)، فلما رفع الصادق (علیه السلام) يده من أكله قال : الحمد لله رب العالمين ، اللهم هذا منك ومن رسولك (صلی الله علیه واله).

فقال أبو حنيفة : يا أبا عبد الله ، أجعلت مع الله شريكا ؟

فقال له : ويلك ، فإن الله تعالى يقول في كتابه:

« وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَن أغنَاهُمُ اللهِ وَرَسُولِهِ مِن فَضلِهِ » التوبة: 59.

ويقول في موضع آخر:

ص: 36

« وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ » النساء: 59.

فقال أبو حنيفة : والله ، لكأني ما قرأتها قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت.

فقال أبو عبد الله (علیه السلام): بلى ، قد قرأتهما وسمعتهما ، ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك:

«أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا » محمد: 24.

وقال:

«كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » المطففين : 14.

حديث الإمام الصادق:

أخبرني الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسين بن شاذان القمي رضي الله عنه، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه ، عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن ابراهيم بن هاشم ، عن أبيه عن ابن أبي عمير ، عن جعفر بن البحتري ، قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول:

« بلية الناس عظيمة ، إن دعوناهم لم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا »

فصل: من الاستدلال على أن الله تعالى ليس بجسم

اعلم أن الخلاف في هذه المسألة بيننا وبين المجسمة على قسمين: أحدها في

المعنى، والآخر في اللفظ .

فأما الكلام في المعنى فهو يختص بالذين يزعمون أنه جسم على صفات الأجسام، ويشابهها في بعض الصفات.

ص: 37

وأما الكلام في اللفظ فهو يختص بالذين يقولون أنه جسم لا كالأجسام، ولايشابهها بصفة من الصفات.

فأما الذي يدل على بطلان مقال الذين يزعمون أنه جسم لا كالأجسام، فهو أن الأجسام قد ثبت حدوثها ، فلو كان صانعها تعالی جسما ، أو مثلها لوجب أن يكون محدثا . ويبين ذلك أن حقيقة الجسم هي أن يكون طويلا عريضا عميقا ، فلو كان صانع الأجسام جسما لكانت هذه حقيقته ، لأن الحقيقة لا تختلف . وسوي فيها الشاهد والغائب ، وحقيقة الجسم موجبة الأبعاد، ومعطية فيها المساحة والنهايات ، وأنه مجتمع من أبعاض ، مختص ببعض الجهات، وذلك شاهد فيه بحلول الأعراض ، لأن المجتمع لا غناء به عن الاجتماع، والكائن من جهة دون غيرها لا يعري من الأكوان. فهذه كلها دلائل الحدوث.

فلو كان صانع الأجسام على هذه الصفات أو على بعضها لكان محدثا ، ولو جاز كونه عليها وهو قديم ، لكانت الأجسام كلها قديمة . وفي ثبوت الأدلة على حدوث الأجسام وقدم محدثها دلالة واضحة على أنه ليس - بجسم سبحانه وتعالى -.

دلیل ثان :

وشيء آخر وهو أن صانع الأجسام واحد في الحقيقة حسبما شهدت به الأدلة ، فلو كان جسما لحرج عن كونه واحدا، لأن الجسم مجتمع من أبعاض وأجزاء .

دليل ثالث:

وشيء آخر وهو أنه لو كان جسما لوجب كونه قادرا بقدرة ، لبطلان کون الجسم قادرا لنفسه ، ولو كان كذلك لاستحال حدوث الأجسام منه ، إذ لا يصح من القادر بقدرة أن يفعل الجسم في محل قدرته، متداولا في غيره ، مسببا أو متولدا .

ص: 38

دلیل رابع:

وهو أنه لو كان جسما في الحقيقة صح منه فعل الأجسام ، لصح من كل جسم حي قادرا أن يفعل الأجسام، فلما علمنا یقینا استحالة فعل الأجسام للأجسام ، علمنا أن فاعل الأجسام ليس بجسم على كل حال ، فقد بان لك بطلان مقال الذين يزعمون أن الله تعالى جسم على صفة الأجسام وحقيقتها .

وكما علمت أنه لا يجوز أن يشبهها في جميع الصفات، فكذلك تعلم أنه لا يجوز مشابهته لها في بعضها ، لأن كل صفة من صفات الأجسام المختصة بها دالة على حدوثها ، فلو أشبهها في شيء منها دل ذلك الشيء على أنه محدث مثلها .

ومثل هذا يعلم أيضا أنه ليس بجوهر ، لأن الجوهر متحيز في جهة ، غير عار من الأعراض الدالة على [ حدوثه ] . (1)

فأما قولهم : إنا لم نر فاعلا للأجسام [غير جسم] ، فلما كان الله تعالى فاعلا ، وجب أن يكون جسما ، فقول فاسد ، لأن الفاعل لم يكن فاعلا لكونه جسما ، ولا كل صفة رأينا الفاعل في الشاهد عليها ، يجب أن يكون الفاعل في الغائب علي نظيرها.

ألا ترى أنا لم نر في الشاهد فاعلا إلا مؤلفا لحما ودما ، ناقصا محتاجا ، ولا يصح أن يكون الفاعل في الغائب هكذا .والإستدلال

بالشاهد على الغائب إنما هو بالحقائق دون ما سواها .

وليس حقيقة الفاعل أن يكون جسما . ولو كان كذلك لكان كل جسم فاعلا، وكل فاعل جسما .

كما أن الحركة لما كان حقيقتها أن تكون زوالا ، كان كل زوال حركة ، وكل حركة زوال. فهذا هو الأصل الثابت ، الذي يجب أن يتماثل فيه الشاهد والغائب. فيجب أن يتأمله ويعتمد عليه ، فالفائدة فيه كثيرة.

ص: 39


1- في النسخة (متحيز به)، ولا يظهر ما يعود الضمير عليه ، وفي النسخة : أيضا (غير عارض الأعراض) وفيها أيضا : (حدثه).

وأما الذي يدل على بطلان مقال الذين يدعون أن الله تعالى جسم لا کالأجسام فهو أن حقيقة الجسم قد ذكرناها ، فمتى قال القائل إنه جسم أوجب الحقيقة بعينها ، فإن قال : لا كالأجسام نفي ما أوجب ، فكان ناقض .

فإن قالوا: هذا لازم لكم في قولكم: إنه شيء لا كالأشياء؟

قيل لهم : ليس الأمر كما ذكرتم ، لأن قولنا شيء ، يستفاد منه الإثبات .والمثبتات مختلفات من أجسام وجواهر وأعراض، فإذا قلنا: شيء لا كالأشياء أثبتنا معلوما مخبرا عنه ، ونفينا المماثلة بينه وبين سائر المثبتات، ولم ننف حقيقة الشيء التي هي الإثبات. وقول الله تعالى : (ليس كمثله شيء ، يدل على ما ذكرنا.

وقولنا : (جسم لا كالأجسام) أثبتنا جسما، ثم نفیناه، وهذا هو التناقض الذي ذكرناه.

وأعلم، أن التسمية إنما يحسن إجراؤها على المسمى متى ثبت له معناها ، فإن لم يثبت ذلك لم يصح إجراؤها إلا على جهة التغليب ، وبطل أن يصح فيه معنى الجسم على التحقيق ، وفسد قول من زعم أنه جسم، ولم يصح أن يسميه بهذا الاسم.

وليس لأحد أن يسمي الله عز وجل بما لم يسم به نفسه ، ولم يثبت ذلك على

جواز تسميته به .(1)

فأما من زعم أنه جسم، لأنه قائم بنفسه، وأن هذا حد الجسم عنده وحقيقته ، فغير مصیب في قوله ، واللغة تشهد بخطئه ، وذلك ، أنا وجدنا أهل اللسان يقولون (هذا أجسم من هذا) إذا زاد عليه في طوله وعرضه وعمقه ، فلولا أن حقيقة الجسم عندهم هي أن يكون طويلا عريضا عميقا لم يكن الأمر كما ذكرناه .

فإن قال القائل : أليس قد اشتهر عن أحد متكلميکم، وهو هشام من

ص: 40


1- إذ يظهر الإتفاق على أن أسماء الله تعالى توقيفية ، فلا يصح إطلاق إسم عليه إذا لم يرد فيه نص.

الحكم (1) أنه كان يقول : أن معبوده جسم على صفة الأجسام ، فكيف خالفتموه في ذلك ، بل كيف لم تتبرأوا منه وهو على هذا المقال ؟؟

قلنا : أما هشام بن الحكم (2) رحمة الله عليه فقد اشتهر عنه الخبر بأنه كان ينصر التجسيم ويقول: أن الله تعالى جسم لا كالأجسام، ولم يصح عنه ما قرفوه به من القول بأنه مماثل لها.

ويدل على ذلك أنا رأينا خصومه يلزمونه على قوله ، بأن فاعل الأجسام جسم، أن يكون طويلا عريضا عميقا ، فلو كان يرى أنه مماثل للأجسام لم يكن معنی لهذا الإلزام.

فأما مخالفتنا لهذا المقام فهو اتباع لما ثبت من الحق واضح البرهان، وانصراف عنه .

وأما موالاتنا هشاما رحمه الله فهي لما شاع عنه واستفاض منه من ترکه للقول بالجسم الذي كان ينصره ورجوعه عنه، وإقراره بخطئه ، وتوبته منه . وذلك حين قصد الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، إلى المدينة ، فحجبه وقيل له: إنه إلى أن لا يوصلك إليه ما دمت قائلا بالجسم، فقال والله ما قلت به إلا لأني طننت أنه وفاق لقول إمامي، فأما إذا أنكره علي فإنني نائب إلى الله منه ، فأوصله الإمام (علیه السلام) إليه ، ودعا له بخير.

وحفظ عن الصادق (علیه السلام) أنه قال لهشام: إن الله تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكلما وقع في الوهم فهو بخلافه . (3)

وروي عنه أيضا أنه قال:

سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو ، ليس كمثله بشيء ، وهو السميع البصير لا يحد ، ولا يجس، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحبط به شيء ، ولا هوجسم ولا صورة ولا بذي تخطيط ولا تحديد .(4)

ص: 41


1- وضعنا كتابا خاصا بإسم (هشام بن الحكم) أتينا فيه على حياة هشام وأرائه وأفكاره ، کما عرضنا له بالدراسة في كتابنا (فلاسفة الشيعة).
2- رواه المفيد في الإرشاد ص 259
3- رواه المفيد في الإرشاد ص 259
4- رواه الصدوق في كتاب التوحيد ص 85 باختلاف يسير .

أخبرني شيخي أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الواسطي رحمه الله ، قال :

أخبرني أبو محمد التلعكبري عن أبي جعفر الكليني عن محمد بن الحسن عن سهل ابن زياد عن حمزة بن محمد قال له : كتبت إلى أبي الحسن (علیه السلام) أسأله عن القول بالجسم والصورة؟

فكتب : سبحان من ليس كمثله شيء ، لا جسم ولا صورة (1).

أنشدني عمار بن محمد الطبراني رحمه الله لزينبا الرأس عيني : (2)

إن كان جسما فما ينفك من عرض *** أو جوهر فبذي الأقطار موجود

أو كان متصلا بالشيء فهو به *** أو كان منفصلا فالكل محدود

لا تطلبن إلى التكييف من سبب *** إن السبيل إلى التكييف مسدود

واستمسك الحبل حبل العقل تحظ به *** فالعقل حبل إلى باريك ممدود

نسخة كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

أما بعد فإن الهوى يضل من اتبعه ، والحرص يتعب الطالب المحروم، وأحمد العاقبتين ما هدى إلى سبيل الرشاد . ومن العجب العجيب ذام ومادح ، وزاهد وراغب ، ومتوكل وحريص. كلاما ضربته لك مثلا ، لتدبر حکمته بجميع الفهم، ومباينة الهوى ، ومناصحة النفس . فلعمري يا ابن أبي طالب ، لولا

ص: 42


1- المصدر السابق ص91
2- هو زینیبا بن إسحاق الرسعني (الرأس عيني) الموصلي النصراني نقل له في الغدير ج3 من 8 أربعة أبيات يعبر فيها عن حبه لأهل البيت (علیه السلام) ونقلها له عن جماعة منهم البيهقي في المحاسن ج11 ص106 والزمخشري في ربيع الأبرار. ومناقب آل أبي طالب ج3 ص275 وأولها : عدبي وتيم لا أحاول ذكرهم *** بسوء ولكني محب لهاشم

الرحم التي عطفتيني عليك، والسابقة التي سلفت لك، لقد كان اختطفتك بعض عقبان أهل الشام، فيصعد بك في الهواء ، ثم قذفك على دکادك شوامخ الأبصار ، فالفيت كسحيق الفهر على صن الصلابة ، لا يجد الذر فيك مرتعا . ولقد عزمت عزمة من لا يعطفه رقة الأنذار، إن لم تباين ما قربت به أملك ، وطال له طليك ، ولأوردنك موردا تستمر الندامة ، إن فسخ لك في الحياة . بل أظنك قبل ذلك من الهالكين ، وبئس الرأي رأي يورد أهله إلى المهالك، ويمنيهم العطب إلى حين لات مناص ، و قد قذف بالحق على الباطل ، وظهر أمر الله وهم كارهون، ولله الحجة البالغة والمنة الظاهرة، والسلام »

جواب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه

من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان:

أما بعد فقد أتانا كتابك بتنويق المقال، وضرب الأمثال، وانتحال الأعمال . تصف الحكمة ولست من أهلها ، وتذكر التقوى وأنت على ضدها ، قد اتبعت هواك فحاد بك عن طريق الحجة ، وألخج بك عن سواء السبيل ، فأنت تسحب أذيال لذات الفتن، وتحيط في زهرة الدنيا كأنك لست توقن بأوبة البعث، ولا برجعة المنقلب ، قد عقدت التاج، ولبست الخز وافترشت الديباج، سنة هرقلية ، وملكا فارسيا .

ثم لم يقنعك ذلك حتى يبلغني أنك تعقد الأمر من بعدك لغيرك ، فيهلك دونك فتحاسب دونه ، ولعمري لئن فعلت ذلك في ورثت الضلالة عن كلالة ، وإنك لابن من كان يبغي على أهل الدين ويجسد المسلمين.

وذكرت رحما عطفتك علي، فأقسم بالله الأعز الأجل أن لو نازعك هذا الأمر في حياتك من أنت تمهد له بعد وفاتك ، لقطعت حبله وأبنت أسبابه .

ص: 43

وأما تهديدك لي بالمشارب العربية، والموارد المهلكة ، فأنا عبد الله على بن أبي طالب ، أبرز إلي صفحتك. كلا ورب البيت ، ما أنت بأبي عذر عند القتال ، ولا عند مناطحة الأبطال. وكأني بك لو شهدت الحرب وقد قامت على ساق، وكشرت عن منظر کریه، والأرواح تختطف اختطاف البازي زغب القطا ، لصرت كالمولهة الحيرانة ، تضربها العبرة بالصدمة ، لا تعرف أعلى الوادي من أسفله. فدع عنك ما لست أهله. فإن وقع الحسام غير تشقيق الكلام. فكم عسكر قد شهدته ، وقرن نازلته ... اصطكاك قريش بين يدي رسول الله (صلی الله علیه واله)، إذ أنت وأبوك، وهو ...(1) تبع.

وأنت اليوم تهددني ، فأقسم بالله أن لو تبدي الأيام عن صفحتك لنشب فيك مخلب ليث هصور، لا يفوته فريسة بالمراوغة ، كيف وأني لك بذلك ، وأنت قعيدة بنت البكر المخدرة ، يفزعها صوت الرعد، وأنا علي بن أبي طالب الذي لا أهدد بالقتال، ولا أخوف بالنزال، فإن شئت يا معاوية فابرز والسلام.

فلما وصل هذا الجواب إلى معاوية بن أبي سفيان جمع جماعة من أصحابه ، ومنهم عمرو بن العاص، فقرأه عليهم ، فقال له عمرو قد أنصفك الرجل ، كم رجل أحسن في الله قد قتل بینکما، أبرز إليه.

فقال له : أبا عبد الله : أخطأت استك الحفرة، أنا أبرز إليه مع علمي أنه ما برز إليه أحد قط إلا وقتله ، لا والله ولكني سأبرزك إليه.

نسخة كتاب آخر

من معاوية بن أبي سفيان إلى أمير المؤمنين (علیه السلام).

أما بعد فإنا لو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض ، وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نرم به ما مضى، ونصلح ما بقى.

ص: 44


1- هنا كلمتان غير واضحتين .

وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة ، فأبيت ذلك علي ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ، ولا تخاف من الفناء إلا ما أخاف.

وقد والله رقت الأجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن جميعا بنو عبد مناف، ليس لبعضنا فضل على بعض ، يستدل به عز، ولا يسترق به حر ، والسلام .(1)

جواب أمير المؤمنين (علیه السلام)

« من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية ابن أبي سفيان.

أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض ، وإنا وإياك نلتمس غاية لم نبلغها بعد.

وأما طلبك إلى الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس.

وأما استواؤنا في الخوف والرجاء ، فلست بأمضى على الشك مني على اليقين، ولا أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.

وأما قولك: أنا بنو عبد مناف ، فكذلك نحن، لكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر ، ولا المبطل کالمحق ، وفي أيدينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز ، وبعنابها الحر ، والسلام . (2)

مسألة فقهية

وقائلة أوص الغداة فإنني *** أرى الموت قد حطت لديك ركائبه

ص: 45


1- تجد هذا الكتاب في المحاسن والمساوى ج (1) ص 81 - 83. ووقعة صفينص470 - 471.
2- تجد هذا الكتاب مرويا في الأخبار الطوال للدينوري، والمحاسن والمساوى للبيهقي ، والمروج الذهب للمسعودي. والإمامة والسياسة لابن قتيبة ، وكتاب صفين لابن مزاحم وغيرها أنظر : کتابنا: (مصادر نهج البلاغة ص233).

فقلت وقد راع الفؤاد مقالها *** وضاقت به خوف الحمام مذاهبه

لك الثمن إن حلت وفاتي فريضة *** وسائر ما يبقى فصنوك صاحبه

جوابها

تفهم فإن الفهم أكرم ملبس *** لمن شرفت أخلاقه ومذاهبه

حلیلة هذا، أمها زوجة ابنه *** كذا لكم الألغاز جم عجائبه

فابن ابنه صنو لزوجته ومن *** عزي بغريب العلم تعلو مراتبه

فميراثها ثمن وللصنو ما بقي *** كذلك يقضي من توالت مناقبه

تفسير:

هذا رجل تزوج وزوج ابنه من أمها فولدت أم امرأته من ابنه ابنة، ثم مات ابن الرجل ، وليس له ممن يرثه إذا مات غير زوجته وأخيها من أمها الذي هوا ابن أبيه الميت. وقد تقدم ذكر هذه المسألة على غير هذا الباب في الجزء الأول.

مسألة أخرى منظومة :

قد تقدم ذكرها نثرا

بابن دعيت صنو أخي فعمي *** يقول إذا رآني جاء عمي

ولا فينا بحمد الله أنثى *** ولا ذكر تدرع ثوب إثم

ولا فينا مجوسي جهول *** يحلل لابن أم وطء أم

فبين عن مسائلنا امتنانا *** فأنت إمامنا في كل علم

الجواب

ألا يا سائلا أضحى يعمي *** على المفراض خذ عني بفهم

ص: 46

أخوك لأمك الصنو المداني *** لأم أبيك زوج غير وهم

فابن أخيك منها غير شك *** أخ لأبيك تدعوه لام

فذاك إذا رآك يقول عمي *** وأنت إذا أتاك تقول عمي

تفسير

هذان رجلان قال أحدهما للآخر يا عمي أنا عمك. والسبب في ذلك هو الوجه الذي عملت عليه هذه الأبيات، أن أخاه لأمه تزوج جدته أم أبيه ، فجاءت بابن ، فهو عم الابن لامه ، والابن عمه لأمه.

وجواب ثان فيها

وهو إن رجلين تزوج كل واحد منهما أم الآخر فجاءت كل واحدة منهما بابن ، فكل واحد من الابنين عم الآخر.

حديث

حدثني الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي ، قال : حدثنا الفقيه محمد بن علي بن بابویه، رحمه الله، قال: أخبرني أبي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال حدثني أيوب بن نوح، قال: حدثني الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

« خمسة لا تطفى نيرانهم، ولا تموت أبدانهم: رجل أشرك ، ورجل عق والديه ، ورجل سعي بأخيه إلى السلطان فقتله ، ورجل قتل نفسا بغير نفس ، ورجل أذنب وحمل ذنبه على الله عز وجل .» (1)

ص: 47


1- هذا الحديث صحيح ورجال سنده كلهم موثوقون.

منام

*منام(1) :

ذكر أن شيخنا المفيد رحمه الله أبا عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه رآه وأملاه على أصحابه بلغنا أن شيخنا الفيد رحمه الله قال: رأيت في النوم كأني قد اجتزت في بعض الطرق، فرأيت حلقة دائرة ، فيها ناس كثير ، فقلت : ما هذا؟ قيل لي: هذه حلقة ، فيها رجل يقص ، فقلت : من هو؟ فقالوا : عمر بن الخطاب . فتقدمت ففرقت الناس ودخلت الحلقة ، فإذا برجل يتكلم على الناس بشيء لم أحصله ، فقطعت عليه ، فقلت: أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على ما يدعي من فضل صاحبك عتیق ابن أبي قحافة ، من قول الله تعالى : ثاني اثنين إذهما في الغار؟

فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع .

أولها : أن الله تعالى ذكر نبيه (صلی الله علیه واله) وذكر أبا بكر معه ، فجعله ثانیه ، فقال: (ثاني اثنين).

الثاني : أنه وصفهما بالإجتماع في مكان واحد ، تألیفا بينهما ، فقال : (إذ هما في الغار).

الثالث: أنه أضافه إليه بذكر الصحبة ، ليجمع بينهما فيما يقتضي الرتبة ، فقال : (إذ يقول لصاحبه).

الرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي عليه ورفقه به ، لموضعه عنده فقال: (لا تحزن).

الخامس: إعلامه ، إنه أخبره أن الله تعالى معهما على حد سواء ، ناصرا لهما، ودافعا عنهما، فقال: (إن الله معنا).

السادس : إنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر ، لأن الرسول (صلی الله علیه واله) لم تفارقه السكينة قطر، فقال: (فأنزل سكينته عليه).

ص: 48


1- عرض المفيد لشطر منه في كتاب الإفصاح ص 114- 118 وهذا الحجاج مأخوذ من هشام بن الحكم، وأيضا في الفصول المختارة ج1 ص19- 24

فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار لا يمكنك ولا غيرك الظفر فيها .

قال : المفيد رحمه الله فقلت له : قد حررت كلامك واستقصيت البيان فبه ، وأتيت بما لا يقدر أحد من الخلق أن يزيد في الاحتجاج لصاحبك عليه ، غير أني بعون الله وتوفيقه سأجمل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.

أما قولك إن الله تعالى ذكر النبي (صلی الله علیه واله) وجعل أبا بكر ثانیه ، فليس في ذلك فضيلة ، لأنه إخبار عن عدد ، ولعمري إنهما كانا اثنين ، ونحن نعلم ضرورة أن مؤمنا وكافرا اثنان، كما نعلم أن مؤمنا ومؤمنا اثنان، فليس لك في ذكر العدد طائل تعتمده.

وأما قولك أنه ، وصفها بالاجتماع في المكان فإنه کالأول ، لأن المكان يجتمع فيه المؤمنون والكفار ، كما يجتمع العدد للمؤمنين والكفار . وأيضا فإن مسجد النبي (صلی الله علیه واله) أشرف من الغار وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار ، وفي ذلك قوله تعالى (فما للذين كفروا قبلك مهطعين ، عن اليمين وعن الشمال عزین). المعارج: 19 - 20.

وأيضا فإن سفينة نوح (علیه السلام) قد جمعت النبي والشيطان والبهيمة ، فبان لك أن الإجتماع في المكان لا يدل على ما ادعيت من الفضل، فبطل فضلان.

وأما قولك إنه أضافه إليه بذكر الصحبة فإنه أضعف من الفضلين الأولين ، لأن الصحبة أيضا تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قول الله عز وجل :

« قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ». الكهف : 37.

وأيضا فإن اسم الصحبة تكون من العاقل والبهيمة ، والدليل على ذلك من كلام العرب إنهم جعلوا الحمار صاحبا فقالوا:

ص: 49

إن الحمار مع الحمار مطية *** فإذا خلوت به فبئس الصاحب (1)

وقد سموا الجهاد مع الحي أيضا صاحبا قال الشاعر :

زرت هندا وذاك بعد اجتناب *** ومعي صاح كتوم اللسان

يعني السيف. فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر ، وبين العاقل والبهيمة ، وبين الحيوان والجهاد فلا حجة لصاحبك فيها .

وأما قولك إنه قال له : (لا تحزن) فإن ذلك وبال عليه ، ومنقصة له ، ودليل على خطئه، لأن قوله (لا تحزن) نهي ، وصورة النهي قول القائل : لا تفعل ، فلا يخلو الحزن الواقع من أبي بكر من أن يكون طاعة أو معصية ، فإن كان طاعة فالنبي لا ينهي عن الطاعات ، بل يأمر بها ويدعو إليها . وإن كان معصية فقد صح وقوعها فيه ، وتوجه النهي إليه عنها ، وشهدت الآيات به ، ولم يرد دليل على امتثاله للنهي وانزجاره . (2)

وأما قولك إنه قال: (إن الله معنا) فإن النبي (صلی الله علیه واله) أعلمه أن الله معه خاصة ، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع ، فقال : « إنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون ».

وقد قيل : إن أبا بكر قال: يا رسول الله ، إن حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه ، فقال له النبي (صلی الله علیه واله) (إن الله معنا) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب.

وأما قولك إن السكينة نزلت على أبي بكر ، فإنه کفر ، لأن الذي نزلت

ص: 50


1- قائل هذا البيت هو أمية بن أبي الصلت.
2- أقول: ليس بالضرورة أن يكون حزنه طاعة أو معصية ، بل يجوز أن يكون مباحا ككثير من الانفعالات الشخصية ، كما أنه لا ينحصر أن يكون في قوله لا تحزن للتحريم ، إذ يجوز هنا أن يكون للإرشاد أو للاشفاق الذي لا يستتبع معصية كما هو واضح .

السكينة عليه هو الذي أيده الله تعالى بجنوده. كذا يشهد ظاهر القرآن في قوله : «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا » التوبة: 40.

فلو كان أبو بكر هو صاحب السكينة لكان هو صاحب الجنود . وفي هذا إخراج النبي (صلی الله علیه واله) من النبوة.

على أن هذا الموضع لو كتمته على صاحبك لكان خيرا له . لأن الله تعالى أنزل السكينة على النبي في موضعين ، وكان معه قوم مؤمنون ، فشركوه فيها . فقال في أحدهما : «أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا» التوبة : 26.

وقال في الموضع الآخر: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ» الفتح: 26.

ولما كان في الغار خصه وحده بالسكينة ، وقال : ( فأنزل الله سكينته عليه)،.

قال: الشيخ المفيد رحمه الله فلم يحر عمر بن الخطاب جوابا ، وتفرق الناس

واستيقظت.

فصل من السؤال يتعلق بهذا المقام

فإن قيل : إذا كان ما تضمنه هذا المقام صحيحا عندكم في الإحتجاج، وحزن أبي بكر معصية بدلیل توجه النهي له عند حسبما شهد به القرآن، فقد نهى الله تعالى نبيه عليه آله السلام عن مثل ذلك ، فقال : «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» النحل : 127

ونهي أم موسی (علیه السلام) عن الحزن أيضا ، فقال : «وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي» القصص:7

فهل كان ذلك لأن نبيه (صلی الله علیه واله) عصي في حزنه فنهاه ، وكذلك أم موسی (علیه السلام)؟ أم تقولون: إن بين ما ذكرناه وبين حزن أبي بكر في الغار فرقا ، فأذكروه ليحصل به البيان.

الجواب

قيل له : قد أجاب شیخنا المفيد رضي الله عنه عن هذه المسألة بما أوضح به

ص: 51

الفرق وأزاح العلة، ونحن نورد مختصرا من القول فيها ، يكون فيه بيان وكفاية ، فنقول:

إن المعارضة بحزن النبي (صلی الله علیه واله) ساقطة، لأنه عندنا معصوم من الزلات، مأمون من جميع المعاصي والخطئيات، فوجب أن يحمل قول الله تعالى: (ولا تحزن عليهم) على أجمل الوجوه والأقسام، وأحسن المعاني في الكلام ، من تخفيف الهم عنه وتسهيل صعوبة الأمر عليه ، رفقا به وإكراما وإجلالا وإعظاما له .

ولم يكن أبو بكر عندنا وعند خصومنا معصوما ، فيؤمن منه وقوع الخطأ ، وذلك أنه مع رسول الله (صلی الله علیه واله) وفي حوزته ، بحيث اختار الله تعالی ستر نبیه ، وحفظ مهجته.

هذا وقد كان (علیه السلام) يخبر من أسلم على يده بأن الله سينصره على عدوه ومعانده ، وأنه وعده إعلاء كلمته، وإظهار شريعته. وهذا يوجب الثقة بالسلامة وعدم الحزن والمخافة.

ثم ما ظهر له من الآيات الموجبة لسكون النفس وإزالة الخافة من نسج العنكبوت على باب الغار ، وتبيض الطائر هناك في الحال. وقول النبي (صلی الله علیه واله) لما رأى (...) حزنه ، وكثرة هلعه وجزعه ، إن دخلوا من ههنا وأشار إلى جانب الغار، فانخرق وظهر له البحر وببعض هذا يأنس المستوحش، وبنظره يطمئن الخائف، فلم يسكن أبو بكر إلى شيء من ذلك ، وظهر منه الحزن والقلق، (...) ولا شبهة بعد هذا البيان تعترض في قبح حزنه.

وأما حزن أم موسی (علیه السلام) فمفارق أيضا لحزنه ، لأن أحدا لا يشك في أن خوفها وحزنها إنما كان شفقة منها على ولدها لما أمرت بإلقائه في البيع. ويجوز أن يكون لم تعلم في الحال بأنه سيسلم ويعود إليها على أفضل ما تؤمل ، فلحقها ما يلحق الوالدة على ولدها من الخوف والحزن لمفارقته ، فلما قال لها : (لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)، إطمأنت عند ذلك وسكنت تصديقا للقول، وثقة بالوعد.

ص: 52

وأبو بكر قد سمع مثل ما سمعت ، ورأى أكثر مما رأت ، ولم يثق قلبه ، ولا

سكنت نفسه. فوضح الفرق بين حزنها وحزنه.

على أن ظاهر الآية تشهد بأن الله تعالى أمر أم موسی (علیه السلام) أن تلقي ولدها في اليم وسكن قلبها عقيب الأمر في قوله سبحانه :

« وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ » القصص:7

فالخوف والحزن اللذان ورد ظاهر النهي عنهما يصح أن لا يكون وقعا منها ، لأن تسكين النفس بالسلامة إشارة بحسن العاقبة ، عقيب الأمر بالإلقاء يؤمن من وقوع الهم والحزن جميعا.

وأما حزن أبي بكر فقد وقع وأجمعت الأمة على أنه حزن ، وليس من فعل كمن لم يفعل ، فلا نقض بهما من كل وجه.

مبيت علي (علیه السلام) في فراش رسول الله (صلی الله علیه واله) ليلة الهجرة

اعلم أن الذي فدى رسول الله (صلی الله علیه واله) بنفسه ، وجاد دونه بمهجته، وفعل ما لا يسمح أحد بفعله ، مما تعجبت منه ملائكة الله في سمائه ، هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

وذلك أن رسول الله (صلی الله علیه واله) لما تعاقد المشركون على مبايتته ، وأجمعوا على قتله ، أمره الله سبحانه بالخروج من ليلته ، لم ير أحد أسرع إلى طاعته ، وأصبر على الشدائد في مرضاته من أمير المؤمنين (علیه السلام)، فدعاه إليه وأعلمه الخبر الذي وقف بالوحي عليه ، وأن القوم قد اجمعوا أمرهم على أن يهجموا عليه في حجرته ، ويقتلوه على فراشه ، وأن الله سبحانه أمره بالخروج إلى يثرب، وقال له: يا علي ، إذا صليت العشاء الآخرة، فاضطجع على فراشي ، وتلف ببردتي ، ليظن المشركون إذا رأوك أني لم أخرج، فلا يجدون في طلبي ، فأقامه مقاما مهولا ، وكلفه تکلیفا عظيما ، لم يصبر على مثله إلا إسماعيل (علیه السلام) لما قال له أبوه الخليل (صلی الله علیه واله):

ص: 53

«يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ».

وقول إسماعيل له: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرينَ» الصافات: 102)

بل حال أمير المؤمنين (علیه السلام) أعظم ، وتكليفه أشق وأصعب، لأن اسماعیل أسلم لهلاك يناله بيد أبيه ، وأمير المؤمنين (علیه السلام) أسلم لهلاك يناله بيد أعدائه ، فأجابه صلى الله عليهما إلى مراده، وسارع إلى إيثاره، بنفس طيبة ونية صادقة ، واضطجع على فراشه ، ولا يشك إلا أنه مقتول في ليلته ، قد فداه بنفسه ، وجاد دونه بمهجته ، وفي مبيته على الفراش أنزل الله تعالى على نبيه : (1)

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ » (البقرة: 207).

فأين هذا من حزن أبي بكر وفرقه وخوفه وقلقه، وتوجه النهي إليه ، وتعريه من السكينة التي خص الله سبحانه بها رسول الله (صلی الله علیه واله).

أترى لو قيل له ، وهو على ما يدعي له من صحة العقيدة في الإسلام: أتحب لو كنت البائت على فراش رسول الله (صلی الله علیه واله)، والواقي له بنفسه، والذي أنزل فيه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) ولم تكن حزنت في الغار ، ووتوجه إليك النهي من النبي (صلی الله علیه واله) حتى نزلت السكينة عليه دونك ، لم يشرك فيها بينك (وبينه)، أكان يقول: لا حاجة بي إلى فضيلة الفراش، أم يقول: بودي ذلك.

ولسنا نشك إنه لو قيل لأمير المؤمنین (علیه السلام): أتحب لو كنت بدلا من نومك على فراش رسول الله (صلی الله علیه واله) و حصول فضيلته لك ونزول القرآن بمدحك ، بمكان

ص: 54


1- وهو المروي عن السدي عن ابن عباس أنظر : مجمع البيان ما ص301. وفي الجزء الثاني من دلائل الصدق للشيخ المظفر : إن الذين نقلوا نزول هذه الآية بعلي ، هم الرازي والثعلبي وصاحب ينابيع المودة وأبو السعادات في فضائل العترة الطاهرة ، والغزالي في الأحياء، والحاكم في المستدرك ، وأحمد بن حنبل في المسند أنظر : التفسير الكاشف م1 ص311.

أبي بكر في الغار، وقد وقع الحزن منك، وتوجه النهي إليك ونزلت السكينة على رسول الله (صلی الله علیه واله) دونك ، وفاز بفضيلة المواساة بالنوم على الفراش غيرك ، لقال: أعوذ بالله من ذلك ، والفرق بين الحالين مرئي للعميان . (1)

أحاديث

وقد روى الثقات عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، أنه قال: لما بات على (علیه السلام) على الفراش أوحى الله تعالى إلى ملكين من ملائكته لم يكن في الملائكة أشد ائتلافا ومؤاخاة منهما ، فقال : إني مميت أحدكما فاختارا . قال : فتدافعا الموت بينهما، وآثر كل واحد منهما البقاء ، فأوحى الله تعالى إليهما : أين انتما عن عبدي ، هذا الراضي بالموت ، البائت على فراش ابن عمه، يقيه الردی بنفسه ، أما إني قد علمت من سريرته أن تلف نفسه أحب إليه من أن تؤخذ شعرة من شعر ابن عمه ، إنزلا إليه فأحفظاه واكلآه إلى الصبح، فلم تزل عين المشركين تلحظه ، والملائكة الكرام تحفظه إلى أن كان وقت الصبح، وهجم المشركون عليه للقتل. فألقى الله تعالى في قلوبهم ، لما أراده من حياته ، أن يوقظوه من نومه، فقالوا: ننبهه ليرى أنا ظفرنا به قبل قتله ، فلما فعلوا ذلك ، وثب إليهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وفي يده سيفه ، فتولوا عنه هاربين ، فقال لهم أمير المؤمنين (علیه السلام) دخلتم وأنا نائم ، فادخلوا وأنا منتبه ، فقالوا: لا حاجة لنا فيك يا ابن أبي طالب .(2)

فصل : من روایات ابن شاذان رحمه الله

حدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان

رضي الله عنه مكة في المسجد الحرام.

ص: 55


1- هذه الذي ذكره المؤلف رحمه الله هنا أخذه من الطبري الأمامي في كتابه المسترشد ص52 - 53 .
2- هذا مروي باختصار في أسد الغابة ج4 ص25 أنظر : فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج2 ص 310.

قال: حدثني محمد بن سعيد المعروف بالدهقان ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعید ، قال : حدثنا محمد بن منصور ، قال: حدثنا أحمد بن عيسى العلوي ، قال : حدثنا حسين بن علوان عن أبي خلد ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده

الحسين بن علي ، عن أمير المؤمنين علي عليهم السلام.

« قال: دخلت على النبي (صلی الله علیه واله)، وهو في بعض حجراته ، فاستأذنت عليه فإذن لي ، فلما دخلت قال لي.

« يا علي ، أما علمت أن بيتي بيتک؟ فما لك تستأذن علي ؟ فقلت : يا رسول الله أحببت أن أفعل ذلك ، قال يا علي ، أحببت ما أحب الله ، وأخذت بآداب الله ، فقال : يا علي أما علمت أنك أخي ، أما أنه أبي خالقي ورازقي في أن يكون لي سر دونك . يا علي أنت وصبي من بعدي ، وأنت المظلوم المضطهد بعدي ، يا علي ، الثابت عليك كالمقيم معي ، ومفارقك مفارقي ، يا علي ، كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك ، لأن الله تعالى خلقني وإياك من نور واحد.»

وحدثنا الشيخ أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان ، قال :

حدثني أحمد بن محمد بن محمد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن جعفر ، قال حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا زياد بن المنذر ، قال: حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء بعدي أفضل من علي بن أبي طالب ، وإنه إمام أمتي وأميرها ، وإنه لوصي وخليفتي عليها ، من أقتدي به بعدي اهتدى، ومن اهتدى بغيره ضل وغوى ، إني أنا النبي المصطفی ، ما أنطق بفضل علي بن أبي طالب عن الهوى ، إن هو إلا وحي بوحي ، نزل به الروح المجتبى عن الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ».

وحدثنا الشيخ أبو الحسن بن شاذان قال: حدثنا محمد بن محمد بن مرة رحمه الله ، قال حدثنا الحسن بن علي العاصمي ، قال حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا جعفر بن سلمان الضبعي ، قال : حدثنا سور بن طريف

ص: 56

عن الأصبغ ، قال : سئل سلمان الفارسي رحمه الله عن علي بن أبي طالب ، قال : « سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول « عليكم بعلي بن أبي طالب ، فإنه مولا کم، فأحبوه، وكبير كم فاتبعوه، وعالمكم فأكرموه، وقائد كم إلى الجنة فعزروه، وإذا دعاكم فأجيبوه، وإذا أمر كم فأطيعوه، وأحبوه لحبي، وأكرموه لكرامتي، ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي ».

مسألة:

سألني رجل من أهل الخلاف فقال: إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، وتناظرون على ذلك ، وترددون هذا الكلام، وإطلاق هذا اللفظ منكم يضاد مذهبكم، ويناقض معتقدكم ، ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل الفضل لهما، ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه ، وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من خلال الفضل على كل حال ، لم جهلتم ذلك من معنى الكلام ؟ فإن زعمتم أن لأبي بكر وعمر وعثان قسطا من الفضل يشملهم به ، يصح به القول أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أفضلهم ، تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم، وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمين (علیه السلام) أفضل منهم.

الجواب:

فقلت له : ليس في إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين (علیه السلام) أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.

والشيعة أعرف من خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام. وذلك: أن التفضيل ، وإن كان كما وصفت يكون بين الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الآخر فيه. فقد يصح أيضا فيهما إذا اختص بالفضل أحدهما ، وعرا الآخر منه ، ويكون معنى قول القائل : هذا أفضل من هذا، أنه الفاضل دونه ، وأن الآخر لا فضل له. وليس في هذا خروج عن لسان العرب، ولا

ص: 57

مخالفة لكلامها ، وكتاب الله تعالى يشهد به ، وأن أشعار المتقدمين يتضمنه ، قال الله جل اسمه :

« أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا » الفرقان: 24.

يعني أنهم خير من أصحاب النار ، وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر، ولا خير فيهم.

ووصف النار في آية أخرى فقال:

«بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ،إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا». إلى قوله « وادعوا ثبورا » الفرقان : 11- 15 ، ثم قال:

قل: أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون، كانت لهم جزاء ومصيرا ». الفرقان: 15.

فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار .

ونحن نعلم أنه لا خير في النار.

وقال تعالى في آية أخرى:

« قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » الحج: 72. وقال: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» الروم : 27.

والمعنى في ذلك هين، لأن شيئا لا يكون أهون على الله من شيء ، فكذلك قولنا : هذا أفضل، يكون المراد به هذا الفاضل.

وليس بعد إيراد هذه الآيات لبس في السؤال يعترض العاقل ، وقد قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا رسول الله (صلی الله علیه واله) من المشركين:

هجوت محمدا برا تقيا *** وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفؤ *** فشرکما لخيركما فداء

وقد علمنا أنه لا شر في النبي (علیه السلام)، ولا خير فيمن هجاه .

ص: 58

وقال غيره من الجاهلية :

خالي بنو أنس وخال سراتهم *** أوس، فأيهما أدق وألأم

يريد فأيهما الدقيق واللئيم، وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما على صاحبه فيهما.

وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (1) قول المتنبي:

أعق خلیلیه الصفيين الائمه.

وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الآخر صاحبه فيه، مع كونهما خليلين صفيين.

وإنما المراد إن الذي يستحيل منهما عن الصفا ، فيصير عاقة لائمه .(2)

والشواهد في ذلك كثيرة. وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت ، ودلالة على أن الشيعة في قولها إن أمير المؤمنين (علیه السلام) أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، لم تناقض لها مذهبا ، ولا خالفت معتقدا، وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم، والمختص بهذا الوصف عنهم، فتأمل ذلك تجده صحيحا ، والحمد لله .

على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق الكلام، ويقول في الجملة : أنه (علیه السلام) بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) أفضل الناس. فسؤالك ساقط عنه ، إذ كان لا يلفظ بما ذكرته إلا على المجاز.

فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب، ولم يزد حرفا في هذا الباب. والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته .

ص: 59


1- أبو الفتح عثمان بن جني ولد ونشأ في الموصل وسكن وتوفي ببغداد عام(392ه-) من أكابر علماء النحو والصرف والأدب وهو من أساتذة الشريفين الرضى والمرتضى وله مؤلفات عديدة ومنها شرح ديوان المتنبي.
2- في العبارة قلق.

فصل في الرؤيا في المنام

*فصل في الرؤيا في المنام(1)

وجدت لشيخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه ، أن الكلام في باب رؤيا المنامات عزیز ، وتهاون أهل النظر به شديد ، والبلية بذلك عظيمة ، وصدق القول فيه أصل جلیل .

والرؤيا في المنام تكون من أربع جهات:

أحدها حديث النفس بالشيء والفكر فيه، حتى يحصل كالمنطبع في النفس، فيخيل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه. وهذا معروف بالاعتبار.

(الجهة الثانية) من الطبائع وما يكون من قهر بعضها البعض ، فيضطرب المزاج، ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب ، من مأكول ومشروب، ومرئي وملبوس ، ومبهج ومزعج.

وقد نرى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد ، حتى أن من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي (بما) يتخيل له من وقوعه ، ويناله من الهلع والزمع (2) ما لا ينال غيره.

ومن غلبت عليه السوداء يتخيل أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ، ويظن صحة ذلك ، حتى أنه ربما اعتقد في نفسه النبوة ، وأن الوحي يأتيه من السماء ، وما أشبه ذلك.

(الجهة الثالثة) ألطاف من الله عز وجل لبعض خلقه ، من تنبيه وتيسير وإعذار وإنذار ، فيلقي في روعة ما ينتج له تخيلات أمور ، تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة، وتزجره عن المعصية ، وتخوفه الآخرة، ويحصل له بها مصلحة وزيادة فائدة، وفكر يحدث له معرفة.

ص: 60


1- تجد الكلام على المنامات مسهبا في الجزء الثاني : ص 392 - 395 من كتاب الأمالي للشريف المرتضی .
2- هي حالة الدهش والخوف والإرتباك .

(والجهة الرابعة) أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان، ويذكره بها، أمورا تحزنه وأسبابا تغمه وتطمعه فيما لا يناله أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه، أو تخیل شبهة في دينه ، يكون فيها هلاكه . وذلك مختص بمن عدم التوفيق ، لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه .

ولن ينجو من باطل المنامات وأحلامها إلا الأنبياء والأئمة عليهم السلام، ومن رسخ في العلم من الصالحين.

وقد كان شيخي رضي الله عنه (1) قال لي: إن كل من كثر علمه واتسع فهمه قلت مناماته ، فإن رأى مع ذلك، منانا وكان جسمه من العوارض سليما ، فلا يكون منامه إلا حقا . يريد بسلامة الجسم عدم الأمراض المهيجة وغلبة بعضها على ما تقدم به البيان.

والسكران أيضا لا يصح له منام، وكذلك الممتلىء من الطعام، لأنه کالسکران، ولذلك قيل: إن المنامات قلما تصح في ليالي شهر رمضان.

فأما منامات الأنبياء صلوات الله عليهم فلا تكون إلا صادقة ، وهي وحي في الحقيقة.

ومنامات الأئمة (علیه السلام) جارية مجرى الوحي ، وإن لم تسم وحيا، ولا تكون قطر إلا حقا وصدقا . وإذا صح منام المؤمن لأنه من قبل الله تعالى كما ذكرناه .

وقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« رؤيا المؤمن جزء من سبعة وسبعين جزءا من النبوة » .

وروي عن علي (علیه السلام) قال:

« رؤيا المؤمن تجري مجری کلام تکلم به الرب عنده » .

فأما وسوسة شياطين الجن فقد ورد السمع بذكرها قال الله تعالى :

« من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس » الناس: 4-6

ص: 61


1- يريد به على الظاهر الشيخ المفيد رحمه الله .

وقال:

« وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ» الأنعام: 121.

وقال:

« شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا» . الأنعام: 112.

فأما كيفية وسوسة الجني للإنسي فهو أن الجن أجسام رقاق لطاف، فيصح أن يتوصل أحدهم برقة جسمه ولطافته إلى سمع الإنسان ونهايته ، فيوقر فيه کلاما ، يلبس عليه إذا سمعه، ويشبه عليه بخواطره، لأنه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه. ويصح أن يفعل هذا بالنائم واليقظان جميعا ، وليس هو في العقل مستحيلا.

وروی جابر بن عبد الله أنه قال:

« بينما رسول الله (صلی الله علیه واله) يخطب ، إذ قام إليه رجل ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت كأن رأسي قد قطع ، وهو يتدحرج، وأنا أتبعه ، فقال رسول الله (صلی الله علیه واله).

لا تحدث بلعب الشيطان بك.

ثم قال: إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثن به أحدا » .

وأما رؤية الإنسان للنبي (صلی الله علیه واله) أو لأحد الأئمة (علیه السلام) في المنام، فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام: قسم أقطع على صحته ، وقسم أقطع على بطلانه ، وقسم أجوز فيه الصحة والبطلان، فلا أقطع فيه على حال.

فأما الذي أقطع على صحته فهو كل منام رأى فيه النبي (صلی الله علیه واله) أو أحد الأئمة (علیه السلام)، وهو فاعل لطاعة أو آمر بها، وناه عن معصية أو مبين لقبحها وقائل بالحق أو داع إليه، أو زاجر عن باطل ، أو دام لما هو عليه .

وأما الذي أقطع على بطلانه فهو كل ما كان على ضد ذلك ، لعلمنا أن النبي

والإمام عليهما السلام صاحبا حق، وصاحب الحق بعيد عن الباطل.

وأما الذي أجوز فيه الصحة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبي أو

ص: 62

الإمام عليهما السلام، وليس هو آمرة ولا ناهية، ولا على حال يختص بالديانات، مثل أن يراه راكبا أو ماشيا أو جالسا ونحو ذلك.

فأما الخبر الذي يروي عن النبي (صلی الله علیه واله) من قوله:

« من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي » (1).

فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في حال ،ويكون المراد به القسم الأول من الثلاثة الأقسام ، لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي (صلی الله علیه واله) في شيء من الحق والطاعات.

وأما ما روي عنه (صلی الله علیه واله) من قوله:

« من رآني نائما فكأنما رآني، يقظانا »

فإنه يحتمل أحد وجهين :

أحدهما أن يكون المراد به رؤية المنام ويكون خاصا كالخبر الأول على القسم الذي قدمناه.

والثاني أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام، ويكون قوله (نائما) حالا للنبي (صلی الله علیه واله) وليست حالا لمن رآه، فكأنه قال: من رآني وأنا نائم ، فكأنما رآني وأنا منتبه.

والفائدة في هذا المقام أن يعلمهم بأنه يدرك في الحالتين إدراكا واحدا، فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن ذكره بحضرته و هو منتبه .

وقد روي عنه (صلی الله علیه واله) أنه غفا ثم قام يصلي من غير تجديد الوضوء ، فسئل عن ذلك؟ فقال: إني لست كأحدكم ، تنام عيني ولا ينام قلبي .

ص: 63


1- ورد هذا الحديث في البخاري « من رآني في المنام فقد رآني »، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ، وفي كتاب التعبير : فإن الشيطان لا يتخيل بي » وفي صحيح مسلم في كتاب الرؤيا : من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، أو لكأنما رآني في اليقظة ،لا يتمثل الشيطان بي » أنظر : (فضائل الخمسة ج1 ص52.

وجميع هذه الروايات أخبار آحاد ، وإن سلمت فعلى هذا المنهاج.

وقد كان شيخي رحمه الله يقول : إذا جاز من بشر أن يدعني في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه، مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة ، فما المانع من أن يدعي إبليس عند النائم بوسوسته له أنه نبي ، مع تمكن إبليس بما لا يتمكن من البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام.

ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمة صلوات الله عليهم ، منها ما هو حق ، ومنها ما هو باطل.

إنك ترى الشيعي يقول : رأيت في المنام رسول الله (صلی الله علیه واله) ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) يأمرني بالاقتداء به دون غيره ، ويعلمني أنه خليفته من بعده.

ثم ترى الناصبي يقول : رأيت رسول الله (صلی الله علیه واله) في النوم، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، وهو يأمرني بمحبتهم ، وينهاني عن بعضهم ، ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة، وأنهم معه في الجنة ، ونحو ذلك.

فتعلم - لا محالة- أن أحد المنامین حق والآخر باطل، فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحة ما تضمنه.

والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه.

وليس يمكن للشيعي أن يقول للناصبي : إنك كذبت في قولك: رأيت رسول الله (صلی الله علیه واله)، لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه .

وقد شاهدنا ناصبيا تشيع ، وأخبرنا في حال تشیعه بأنه يرى منامات بالضد مما كان يراه في حال نصبه.

فبان بذلك أن أحد المنامين باطل ، وأنه من نتيجة حديث النفس ، أو من وسوسة إبليس ، ونحو ذلك. وأن المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعیده على المعنى المتقدم وصفه.

وقولنا في المنام الصحيح أن الإنسان إذا رأى في نومه النبي (صلی الله علیه واله) إنما معناه

ص: 64

أنه كان قد رآه ، وليس المراد به التحقيق في اتصال شعاع بصره بجسد النبي . وأي بصر يدرك به حال نومه؟

وإنما هي معان تصورت في نفسه ، تخيل له فيها أمر لطف الله تعالى له به ، قام مقام العلم.

وليس هذا بمناف للخبر الذي روي من قوله (من رآني فقد رآني)، لأن معناه فكأنما رأني .

وليس بغلط في هذا المكان إلا عند من ليس له من عقله اعتبار .

تأويل آية (1)

إن سأل سائل عن قول الله عز وجل :

«وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا» النبأ :9

فقال: إذا كان السبات هو النوم، فكأنه قال: وجعلنا نومکم نوما. فما الفائدة في هذا ؟.

الجواب

قلنا في هذه الآية وجوه:

منها ، (أن) السبات أحد أقسام النوم، وهو النوم الممتد الطويل . ولهذا يقال فيمن كثر نومه ، أنه مسبوت ، وبه سبات. ولا يقال في كل نائم.

والوجه في الإمتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدا طويلا ظاهر .

وهو لما لنا في ذلك من المنفعة بالراحة، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبنا شيئا من الراحة ، بل يصحبهما في الأكثر الانزعاج والقلق والهموم التي هي تقلل النوم. ورخاء البال وفراغ القلب يكون معهما كثرته وإمتداده .

ومنها أن يكون المراد بذلك ، أنا جعلنا نومکم سباتا ليس موتا ، لأن النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله ، فيسمى بالسبت للفراغ الذي كان فيه ، ولأن الله تعالى أمر نبي إسرائيل بالاستراحة من الأعمال.

ص: 65


1- انظر الكلام على هذه الآية في أمالي الشريف المرتضی ج 1 ص 337 - 343.

وقد قيل: إن أصل السبات، التمدد . ويقال : سبتت المرأة شعرها ، إذا حلته من العقص .

ومنها أن يكون المراد بالسبت، القطع ، فیکون نومنا قطعا لأعمالنا ومتصرفاتنا، وهو راجع إلى معنى الراحة.

فصل:

مما روي عن لقمان من حكمته ووصيته لابنه.

يا بني أقم الصلاة فإنما مثلها في دين الله كمثل عمد فسطاط، فإن العمود إذا استقام ، نفعت الأطناب والأوتاد والظلال ، وإن لم يستقم ، لم ينفع وتد ولا طنب ولا ظلال.

أي، بنی ، صاحب العلماء وجالسهم، وزرهم في بيوتهم ، لعلك أن تشبههم فتكون منهم.

إعلم يا بني، أني ذقت الصبر وأنواع الر، فلم أر أمر من الفقر ، فإن افتقرت يوما فاجعل فقرك بينك وبين الله ، ولا تحدث الناس بفقرك، فتهون عليهم، ثم سل في الناس، هل من أحد دعا الله فلم يجبه ، أو سأله فلم يعطه .

يا بني، ثق بالله عز وجل ، ثم سل في الناس ، هل من أحد وثق بالله فلم ینجه .

يا بني ، توكل على الله ، ثم سل في الناس، من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه .

يا بني ، أحسن الظن بالله ، ثم سل في الناس ، من ذا الذي أحسن الظن بالله ،

فلم يكن عند حسن ظنه به .

يا بني ، من برد رضوان الله يسخط نفسه كثيرا ، ومن لا يسخط نفسه لا يرض ربه ، ومن لا يكتم غيظه يشمت عدوه.

يا بني ، تعلم الحكمة تشرف. فإن الحكمة تدل على الدين ، وتشرف العبد على الحر، وترفع المسكين على الغني، وتقدم الصغير على الكبير ، وتجلس المسكين مجالس الملوك ، وتزيد الشريف شرفا، والسيد سؤددا، والغني مجدا .

ص: 66

وكيف يتهيأ له أمر دينه ومعيشته بغير حكمة ، ولن يهيئ الله عز وجل أمر الدنيا والآخرة إلا بالحكمة ، ومثل الحكمة بغير طاعة مثل الجسد بلا نفس ، أو مثل الصعيد بلا ماء ، ولا صلاح للجسد بلا نفس ، ولا للصعيد بغير ماء ، ولا للحكمة بغير طاعة.

أحاديث عن أبي ذر الغفاري

أخبرني الشريف أبو منصور أحمد بن حمزة الحسيني العريضي بالرملة ، وأبو العباس أحمد بني اسماعيل بن عنان بحلب ، وأبو المرجا محمد بن علي بن طالب البلدي بالقاهرة رحمهم الله ، قالوا جميعا : أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني الكوفي ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمار الثقفي ، قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار، قال: حدثنا موسی بن جعفر بن ابراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، قال : حدثنا عبد المهيمن بن عباس الأنصاري الساعدي ، عن أبيه العباس بن سهل ، عن أبيه سهل بن سعيد، قال: بينا أبو ذر قاعد مع جماعة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه واله) ، وكنت يومئذ فيهم ، إذ طلع علينا علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فرماه أبو ذر بنظره ثم أقبل على القوم يوجهه فقال : من لكم بر جل ، محبته تساقط الذنوب عن محبيه كما يساقط الريح العاصف الهشيم من الورق عن الشجر ، سمعت نبيكم (صلی الله علیه واله) يقول ذلك له.

قالوا: من هو يا أبا ذر؟ قال : هو الرجل المقبل إليكم، ابن عم نبيكم (صلی الله علیه واله)، يحتاج أصحاب محمد (صلی الله علیه واله) إليه، ولا يحتاج إليهم .

سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول:

علي باب علمي ، ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي ، حبه إيمان ، وبغضه نفاق ، والنظر إليه برأفة ومودة عبادة .

وسمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) نبيكم يقول:

ص: 67

مثل أهل بيتي في أمتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن رغب عنها هلك:

ومثل باب حظه في بني إسرائيل، من دخله كان آمنا مؤمنا، ومن ترکه كفر .

ثم إن عليا (علیه السلام) جاء فوقف قسم ثم قال: يا أبا ذر : من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه وآخرته ، ومن أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله الذي بينه وبين عباده ، ومن أحسن سريرته أحسن الله علانيته.

إن لقمان الحكيم قال لابنه وهو يغطه ، يا بني : من الذي ابتغى الله عز وجل فلم يجده ، ومن ذا الذي لجأ إلى الله فلم يدافع عنه ، أن ذا الذي توكل على الله فلم يكفه .

ثم مضى - يعني عليا عليه السلام - فقال أبو ذر رحمه الله : والذي نفس أبي ذر بیده، ما من أمة إئتمت أو قال اتبعت ، رجلا ، وفيهم من هو أعلم بالله ودينه منه، إلا ذهب أمر هم سفالا.

مسائل في المواريث

مسألة اخوان لأب وأم، ورث أحدهما المال كله ولم يرث الآخر شيئا ،وليس بينهما خلاف في ملة :

الجواب

كان الميت ابن أحدهما ، فورثه الأب خاصة دون أخيه الذي هو عم الميت.

مسألة أخرى

إخوان لأب وأم ورثا میراثا ، كان لأحدهما ثلاثة أرباع المال، وللآخر الربع؟

جواب: الموروث امرأة تركت ابني عمها ، أحدها زوجهما ، فورث منها النصف بحق زوجته ، وورث مع أخيه نصف الباقي ، وهو الربع من جميع المال .

ص: 68

مسألة أخرى.

رجل وابنه ورثا ما فكان بينهما نصفان بالسوية؟

جواب: هذا تزوج بابنة عمه فماتت وخلفته وأباه الذي هو عمها ، فكان له بحق الزوجية النصف ، ولعمها الذي هو أبو زوجها النصف الباقي.

قضية مستطرفة لأمير المؤمنين (علیه السلام) لم يسبقه إليها أحد من الناس.

روي أن رجلين جلسا للغداء ، فأخرج أحدهما خمسة ارغفة ، وأخرج الآخر ثلاثة أرغفة ، فعبر بهما في الحال رجل ثالث، فعزما عليه فنزل فأكل معهما ، حتى (استوفوا) جميع ذلك، فلما أراد الإنصراف دفع إليهما فضة وقال: هذه لكما عوض ما أكلت من طعامكما، فوزناها فصادفاها ثمانية دراهم ، فقال صاحب الخمسة الأرغفة لي منها خمسة ، ولك ثلاثة ، بحساب ما كان لنا.وقال الآخر : بل هي مقسومة نصفين بيننا، وتشاحا ، فارتفعا إلى شرح القاضي (1) في أيام أمير المؤمنين (علیه السلام)، فعرفاه أمرهما، فحار في قضيتهما ، ولم يدر ما يحكم به بينهما ، فحملهما إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، فقصا عليه قصتهما ، فاستطرف أمرهما وقال: إن هذا أمر فيه دناءة ، والخصومة فيه غير جميلة فعليكما بالصلح فهو أجمل بکما ، فقال صاحب الثلاثة أرغفة: لست أرضى بالا بمر الحق وواجب الحكم.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : فإذا أبيت الصلح ولم ترد إلا القضاء ، فلك درهم واحد، ولرفيقك سبعة دراهم.

فقال - وقد عجب هو وجميع من حضر - يا أمير المؤمنين : بين لي وجه ذلك ، لأكون على بصيرة من أمري.

فقال : أنا أعلمك ، ألم يكن جميع مالكما ثمانية أرغفة ، أكل كل واحد منكما

بحساب الثلث رغيفين وثلثين؟

قال: بلى، قال: فقد حصل لكل واحد منكم ثمانية أثلاث، فصاحب الخمسة

ص: 69


1-

الأرغفة ، له خمسة عشر ثلثا ، أكل منهما منها ثمانية ، بقي له سبعة ، وأنت لك ثلاثة أرغفة ، وهي تسعة أثلاث، أكلت منها ثمانية ، بقي لك ثلث واحد، فلصاحبك سبعة دراهم ، ولك درهم واحد ، فانصرفا على بينة من أمرهما .(1)

شبهات للملاحدة

مسألة للملحدة

قال الملحدون :

إذا كان الله جوادا رحيما ، ولم يخلق خلقه إلا لنفعهم، وليس له حاجة إلى عذابهم ، فهلا خلقهم كلهم في الجنة ، وابتداهم بالنعمة ، وخلدهم في دائم اللذة ، وأراحهم من الدنيا ومشاقها ، وصعوبة التكليف فيها .

جواب.

يقال لهم : إن الجود والرحمة لا يكونان فيما يخرج عن الحكمة ، وربنا سبحانه لم يخلق خلقه إلا لنفعهم والمنفعة بنيل النعيم يكون على قسمين : تفضل واستحقاق .

ومنزلة الإستحقاق أعلى وأجل وأشرف من منزلة التفضل .

فلو ابتدأ الله تعالى خلقه في جنات النعيم ، لكان قد اقتصر بهم على منزلة التفضل ، التي هي أدون المنزلتين ، وفي ذلك أنه قد حرم الاستحقاق من علم من حاله أنه إن كلفه أطاع فاستحق الثواب ، وأقطعه الأصلح له ، واقتصر به على نعيم غيره أفضل منه، وذلك لا يقع من عالم حکيم جواد غير بخيل ،فوجب في الحكمة خلقهم في الدنيا ، وعمومهم بالتكليف، الذي فيه التعرض للأمر

ص: 70


1- روي ذلك في الصواعق المحرقة ص179، وفي مناقب آل أبي طالب ج1 ص329 مختصرا وفي الاستیعاب ج2 ص 462 في كنز العمال للهندي ج3 ص180 وفي الرياض النصرة ج 2 ص 199 (أنظر فضائل الخمسة ج2 ص267 - 268) ورواه البهائي العاملي في كتاب الأربعين ص126 - 127 وهو الحديث الثامن والعشرون .

الجليل، ليستحق الطائعون ما سبق لهم في المعلوم، وليس نفع المخالفة بعد التبيين والتعريف وإزاحة العلة في التكليف إلا عن جان على نفسه غير ناظر في عاقبة أمره.

وجواب ثان

ويقال لهم : لو خلق الله تعالى خلقه في الجنة لم يخل أمر هم من حالين : إما أن

يبيحهم الجهل به ، وكفر نعمته ، فليس بحكيم من أباح ذلك.

وإما أن يأمرهم بمعرفته و شکر نعمته. والحكمة توجب ذلك ، فلا بد عند الأمر بالشيء من النهي عن ضده ، ثم لابد من ترغيب فيما يأمر ووعد جميل على فعله ، وترهيب فيها نهی عنه ووعيد على فعله.

وإذا وجب الأمر والنهي والترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، فقد حصلت حالهم كحالهم في الدنيا ، ووجب أن يكون للوعيد إنجاز فينتقلوا إلى دار الجزاء ، فقد انتهى الأمر إلى ما فعله سبحانه به مما لا يقتضي الحكمة غيره.

فإن قالوا: أليس الطائعون لابد من مصيرهم إلى الجنة فألا كانت حالهم في الابتداء كحالهم في الثواب والجزاء من حصول المعرفة والشكر ؟

قلنا لهم : بين الوقتين فرق. وذلك ، إنهم إذا صاروا إلى الجنة بعد كونهم في الدنيا ، فقد تقدم لهم الأمر والنهي، وذاقوا البؤس والآلام، وعرفوا قدر النعمة ، وشاهدوا وقوع العقاب والثواب بأهلها ، فكان ذلك يقوم لهم في الترغيب في المعرفة ، والشكر والإنزجار عن ترکهما مقام الأمر والنهي والوعد والوعيد.

ولو ابتدأهم في الجنة لم يكونوا أمروا ولا نهوا ، ولا عدوا ولا توعدوا ، ولا فعل بهم ما يقوم مقام ذلك ، فكان بمنزلة من أبيح له الجهل والكفر ، تعالی الله عن ذلك علوا كبيرا.

ولا يجوز أن يخلق فيهم المعرفة به ابتداء ، لأن الغائب لا يعرف بالضرورة إلا أن يحضر .

ص: 71

كما أن الحاضر لا يعلم بالاستدلال إلا أن يغيب .

ولو جاز أن يخلقهم فيعرفون الغائب ، لجاز أن يقدرهم على ذلك ، وهذا محال.

ولا يجوز أيضا أن يخلق الشكر فيهم ، لأنه لو خلقه لهم لم يكونوا هم الشاكرين ، بل يكون هو الشاكر نفسه ، لأن الشاكر من فعل الشكر ، لا من فعل فيه ، كما أن الظالم من فعل الظلم ، لا من فعل فيه.

مسألة أخرى للملاحدة

قال الملحدون .

كيف يجوز من الحكيم الرحيم أن يخلق خلقا ثم يكلفهم ، وهو يعلم أنهم يعصون ، فيصيرون إلى العذاب الأليم، ويبقون فيه مخلدين ، وهو لو لم يخلقهم لم يكن ذلك ، أو خلقهم ولم يكلفهم لم يقع الكفر منهم.

الجواب:

قيل : لو وجب أن يكون الخلق والتبليغ قبيحا ولا حكمة لأن ذلك لو لم يكن ما استحق أحد العذاب والخلود في النار ، لكان لا شيء أوضع ولا أضر من العقل ، لأن الإنسان متى لم يكن عاقلا لم يلحقه لوم في شيء يكون منه ، ولم يلزمه عقاب ولا أدب على زلل يصدر عنه، ومتى كان عاقلا لحقه ذلك أجمع ومستحقه.

والأمم كلها ملحدها وموحدها مجمعة على اعتقاد شرف العقل وفضيلته وعلو منزلته ، وسقوط ضده ونقصه.

فإن قالوا: إن العقل ليس يدعو إلى شيء مما يوجب اللوم ، ولا يحمل عليه ، ولا يدخل فيه . بل هو ناه عن ذلك ، زاجر عنه . ولو شاء المكلف لم يكفر ، بل أطاع فاستحق بطاعته الخلود في نعيم الجنان ، كما استحق غيره من أطاع.

وبعد، ففي التكليف تعريض لأجل منازل النعيم، وهي منزلة الإستحقاق .وفيه فعل ما تقتضيه الحكمة والصلاح.

ص: 72

وشيء آخر، وهو أن التعريض لنيل الثواب الدائم والأمر بمعرفة المنعم وشكره ، وترك الجور والظلم والسقة حسن من العقل ، كما أن التعريض للعطب والأمر بالجور والسفه قبيح فاسد في العقل .

فلو كانت معصية المأمور ومصيره لسوء اختياره إلى استحقاق العذاب ، وعلم العالم بما يصير إليه من العطب والهلاك ، بقلب التعريض للخير والأمر با لحن، فيجعله قبيحا فاسدا ، لكان طاعة المأمور ومصيره بحسن اختياره إلى استحقاق المدح من العقلاء ، وعلم الآمر بما يصير إليه الأمور من السلامة واستحقاق المدح ، يقلب التعريض للعطب والأمر به فيجعله حسنا. وهذا لا يقوله أحد.

ولو كان الأمر بالخير والتمكين منه والدعاء إليه ، والتيسير له ، والإعذار والإنذار لا يكون تعريضا للخير ، إلا إذا علم أن المأمور يقبل فيسلم، لكان الأمر بالفساد والشر والدعاء إليه ، والحث عليه ، لا يكون تعريضا للمكروه والعطب والضرر إلا إذا علم أن الأمور يقبل فيعطب.

فلما كان هذا عند جمهور أهل العلم والعقل إساءة وإضرارا وتعريضا للمكروه ، سواء علم أن المأمور يقبل فيعطب ، أو يخالف فيسلم، كان الأول تعريضا للخير وإحسانا إلى العبد ، سواء علم من حاله أنه يقبل فيسلم ، أو يخالف فيعطب.

وهذا باب يجب أن يتأيد فيه المتأمل، ويكرر فيه الإطلاع ، فإنه يعلم الحق فيه إن لم يكن معه هوى يضل عنه ، والحمد لله .

فصل:

في ذكر سؤال ورد إلي من الساحل ، وجوابي عنه في صحة العبادة بالحج .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الهادي إلى الرشاد ، العالم بمصالح العباد ، ذي الحكمة البالغة ، والنعمة السابغة، وصلواته على من أزاح به العلل، وأوضح منار السبل، سید

ص: 73

الأولين والآخرين محمد خاتم النبيين وعلى آله الأئمة الطاهرين .

سألت- أيدك الله- عن الحج ومناسکه ، وصحة الأمر به، وأسباب ذلك وعلله، ورغبت في اختصار جواب يكشف لك حقيقة الصواب ، تعول عليه في الإعتقاد ، وتحسم به مواد الفساد، وتعده للخصوم عند السؤال ، وتدفع به تعجب أهل الكفر والضلال.

وقد أوردت من ذلك ما اقتضاه الإمكان لضيق الزمان وترادف الأشغال ، وهو مقنع لمن تديره وفهم فحواه إن شاء الله.

إعلم أن اختلاف العبادات مبني على المعلوم عند الله تعالى من مصالح العباد ، وليس للمكلفين طريق للعلم بتفاصيل هذه المصالح ، ولا فرض الله سبحانه عليهم ذلك. ولو فرضه لنصب لهم دليلا على العلم ، فالذي يجب اعتقاده هو أن المكلف الأمر عدل حكيم لا يقع منه الخلل ، ولا يكلف العبث ، ولا يرسل إلى خلقه من يجوز منه الكذب والأمر باللعب.

فإذا ثبت هذا الأصل لزم امتثال أوامر الحكيم الواردة على يد الصادق الأمين ، والإعتقاد أن إيراده منها إنما هو طاعته في العمل بها، وأنه لم يأمر بها دون غيرها إلا لعلمه بمصالح خلقه فيها ، وتعريضه لهم بتكليفها إلى منزلة الإستحقاق ونفاستها ، ليثبت من أطاعه فيها بالنعيم الدائم عليها .

وليس جهل العبد معرفة هذه المصالح على تفاصيلها مفسدا لما عمله ، من حكمة الأمر بها وصدق المؤدي عنه لها.

كما أنه ليس عدم علمنا بعلل تباين الناس في أفعالهم، وأسباب اختلاف ما مع الصناع من آلاتهم موجبا علينا القطع على لعبهم وعبثهم واعتقاد جهلهم ونقصهم.

فهذا أصل الكلام فيما خار الله تعالى ، وأمر ، وعليه المدار في الحجاج والنظر. ومن أتقنه استعان به في مسائل أخر.

وقد سأل أحد الملاحدة ، مولانا جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليه ، عن الطواف بالبيت الحرام ، فأجابه بما نقله عنه الخاص والعام.

ص: 74

أخبرني به الشيخ الفقيه أو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن الشاذان القمي رضي الله عنه ، عن خال أمه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولوية رحمه الله ، عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن ابراهيم بن هاشم ، عن أبيه، عن العباس بن عمران الفقيمي .

إن ابن أبي العوجاء (1) ، وابن طالوت الأعمى ، وابن المقفع (2) ، في نفر من الزنادقة كانوا مجتمعين بالموسم في المسجد الحرام ، وأبو عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) فيه إذ ذاك يفتي الناس، ويفسر لهم القرآن ، و يجيب عن المسائل بالحجج والبينات.

فقال القوم لابن أبي العوجاء : هل لك في تغلیط هذا المجالس ، وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به. فقد ترى فتنة الناس به ، وهو علامة زمانه؟

فقال ابن أبي العوجاء نعم ، ثم تقدم ففرق الناس ، ثم قال: يا أبا عبد الله ، إن المجالس أمانات، ولابد لكل من به سعال أن يسعل ، فتأذن في السؤال؟

فقال أبو عبد الله (علیه السلام) : سل إن شئت .

فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ،وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر وتهرولون هرولة البعير إذا

ص: 75


1- هو عبد الكريم بن أبي العوجاء أحد الزنادقة في أواسط القرن الثاني للهجرة كان من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد فقيل له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة ؟ فقال : إن صاحبي كان مخلطا يقول طورا بالجبر وطور بالقدر فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه ، قتله أبو جعفر محمد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة ، وقد جرت بينه وبين الإمام الصادق (علیه السلام) احتجاجات كثيرة أنظر : ترجمته في الكنى والألقاب ج1 ص196 - 198.
2- هو عبد الله بن داذويه المقفع كان مجوسيا فأسلم على يد عيسى بن علي عم المنصور العباسي، من بلغاء الدنيا المشهورين ، تخرج في البلاغة على خطب الإمام علي (علیه السلام) لذلك كان يقول : شربت من الخطب ريا ولم أضبطها رويا ، ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما ، وليس غيرها كلاما. رمي بالزندقة فقتل سنة 142ه-. قتله سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة بأمر المنصور لكتاب كتبه.

نفر ؟؟ من فكر في هذا وقدر ، علم أنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر ، فقل؛ فإنك رأس هذا الأمر وسنامه ، وأبوك أسه ونظامه.

فقال له الصادق (علیه السلام) : إن من أضله الله وأعمى قلبه ، استوخم الحق، فلن يستعذبه ، وصار الشيطان وليه وحزبه ، يورده مناهل الهلكة.

وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلة للمصلين ، فهو شعبة من رضوانه ، و طریق تؤدي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر ، وأنتهي عما زجر ، الله عز وجل المنشيء للأرواح والصور.

فقال ابن أبي العوجا : ذكرت، أبا عبد الله ، فأحلت على غائب .

فقال الصادق صلوات الله عليه : كيف يكون - يا ويلك - غائبا ، من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم، ويعلم أسرارهم ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مکان ، ولا يكون من مكان أقرب من مكان ، يشهد له بذلك آثاره، ويدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة ، والبراهين الواضحة محمد عليه السلام جاءنا بهذه العبادة ، فإن شككت في شيء من أمره فاسأل عنه أوضحه لك.

قال: فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول. فانصرف من بين يديه ، فقال لأصحابه : سألتم أن تلتمسوا خمرة فألقيتموني على جمرة. فقالوا له : اسكت ، فو الله ، لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك ، وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه.

فقال : إلي تقولون هذا. إنه ابن من حلق رؤوس من ترون، وأومی بیده إلى أهل الموسم. (1)

ص: 76


1- تجد هذا الخبر في كتاب التوحيد للصدوق القمي ص 257 - 259 مع بعض الزيادات واختلاف يسير في بعض الألفاظ، وقد رواه القمي عن الدقاق عن أبي القاسم حمزة بن القاسم العلوي عن محمد بن إسماعيل عن أبي سليمان داود بن عبد الله عن عمر بن محمد عن عیسی بن يونس .

وفي هذا الخبر كفاية لمن تديره، وغنى في هذه المسألة لمن تصوره.

وأعلم أنه لا فرق في العقول بين أن ترد العبادة بصلاة فيها رکوع وسجود و قیام وقعود ، وبين أن ترد بطوافي وسعي وهرولة أو شيء ونحو ذلك من أسباب الخشوع وأفعال الخضوع.

ولا فرق أيضا بين ورودها باغتسال وصيام، وبين ورودها بحلق الرأس والإحرام.

بل لا فرق بين المشي إلى مواضع العبادة والسجود على التكرار، وبين السعي بين الصفا والمروة ورمي الحجار .

كل ذلك على حد واحد في التجويز ، وطريق مستمر في إمكان ما يرد به التكليف.

ولسنا نجد أهل ملة ولا ذوي نحلة إلا وهم عبادات من هذا الجنس ، وإن اختلفت في الوصف .

وبعد فقد نرى العدو الشديد في بعض الأحيان يكون من التعظيم والإجلال. وذاك أن ذا المنزلة الكبيرة والرتبة الجليلة إذا رآه من دونه توجه إليه مسرعا، وعدا إليه مهرولا ، لائذا به ، مقبلا لیده ، فيكون فما فعله قد عظمة وفضله.

وسواء سعيت إلى من تريد تعظيمه فتذللت بين يديه وخضعت له ، أو سعیت إلى حيث أمرك فتذللت به وخضعت عنده ، لا يختلف ذلك في أحكام العقول، ولا يتعجب منه وبنكره إلا من فقد التحصيل وألف ترك التمييز.

على أن منكر هذه العبادة والمتعجب منها إذا لم يقر بعبادة غيرها يجانسها ، لا يقدر على إنكار ما نشاهده من العقلاء في بعض الأحيان، من الأفعال المضاهية لأفعال المجان (1) ، وهم فيها مصیبون وللمصلحة قاصدون، مثل رجل حصيف لبيب حكيم لا يحسن منه العدو الشديد ، رأى طفلا يكاد

ص: 77


1- لعله يريد به المجانين أو أصحاب المجون.

يهوي إلى بئر ، أملا في وجه لتخليصه ، وهرول غاية قدرته لإنقاذه، فحسن ذلك منه، وإن لم تجر به عادته، وكان شكورا عليه ، لصواب غرضه فيه.

ورجل دخل الماء في أذنه فاجتهد في إخراجه ، بأن وقف على إحدى رجليه وأمال رأسه إلى ناحيتها وقفز عدة دفعات عليها ، ليخرج الماء من أذنه ، ويأمن ما يخشاه من ضرره، فلا ينقصه ذلك من فضله ولا يزيله عن رتبته وعقله. بل يكون فيها فعله حكيما وبدفع المضرة عنه عليما.

وكالقاضي الذي دخلت ذبابة في ثوبه وحصلت بينه وبين جسمه، وهو بين شهوده وفي مجلس قضائه وحكمه فاضجرته بأذيتها وأقلقته بثقلها ، وأخذ يتحرك لها أنواع الحركة، ويتلوى منها إلى كل جهة ، ويكثر من توقفه واضطرابه ، ويطيل تطلعه في ثيابه ، والناس يشاهدون أفعاله ولا يعرفون ، فلما دام أمرها وطال لبثها حسن منه النهوض عن مجلسه ، والخلو لإزالتها بنفسه . فالجاهل من سارع إلى سوء الظن به، وقدم على استنقاصه في فعله . والعاقل الذي يعلم أن أمرا قد دهمه وشيئا ألجأه إلى ما ظهر منه واضطره. ونحو هذا من الأفعال العجيبة والأحوال الطريفة الذي يتفق لذوي العقول السليمة والآراء الصحيحة ، فيقع منهم أكثر مما ذكرت وفوق ما وصفت ، ويكون الواجب تصويبهم فيه ، وإن لم يعلم الأسباب الداعية لهم فيه.

قصة وقعت مع المؤلف

ولقد اضطررت يوما إلى الحضور مع قوم من المتصوفين ، فلما ضمنا المجلس أخذوا فيما جرت به عادتهم من الغناء والرقص، فاعتزلتهم إلى إحدى الجهات وانضاف إلى رجل من أهل الفضل والديانات، فتحادثنا ذم الصوفية على ما يصنعون وفساد أغراضهم فيما يتأولون ، وقبح ما يفعلون من الحركة والقيام ، وما يدخلون على أنفسهم في الرقص من الآلام. فكان الرجل لقولي مصوبا وللقوم في فعلهم مخطئا، ولم نزل كذلك إلى أن غنى مغني القوم هذه الأبيات:

وما أم مکحول المدامع ترتعي *** ترى الأنس وحشا وهي تأنس بالوحش

ص: 78

غدت فارتعت ثم اثنت لرضاعه *** فلم تلف شيئا من قوائمه الخمش

فطافت بذاك القاع وهي فصادفت *** سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

بأوجع مني يوم ظلت أنامل *** تودعني بالسدر من شبك النقش

فلما سمع صاحبي نهض مسرعا مبادرا، ففعل من القفز والرقص والبكا واللطم ما يزيد على ما فعله من قبله ممن كانيخطئه ويستجهله ، وأخذ يستعيد من الشعر ما لا يحسن استعادته ، ولا جرت عادتهم بالطرب مثله ، وهو قوله :

فطافت بذاك القاع وهي فصادفت *** سباع الفلا ينهشنه أما نهش

ويفعل بنفسه ما حكيت ، ولا يسأل من غير هذا البيت ، حتى بلغ من نفسه المجهود ووقع كالمغشي عليه من الموت.

فحيرني ما رأيت من حاله، وأخذت أفكر في أفعاله المضادة لما سمعت من أقواله .

فلما أفاق من غشيته لم أملك صبرا دون سؤاله عن أمره، وسبب ما صنعه بنفسه ، مع تجهیله من قبل لفاعله ، وعن وجه استعادته من الشعر ما لم تجر عادتهم باستعادة مثله؟

فقال لي: لست أجهل ما ذكرت، ولي عذر واضح فيما صنعت. أعلمك أن أبي كان كاتبا، وكان في برا، وعلي شفيقا ، فسخط السلطان عليه فقتله ، فخرجت إلى الصحراء لشدة ما لحقني من الحزن عليه ، فوجدته ملقى والكلاب ينهشون لحمه. فلا سمعت المغني يقول:

فكانت بذاك القاع وهي فصادفت *** سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

ص: 79

ذكرت ما لحق أبي وتصور شخصه بين عيني، وتجدد حزنه علي ، ففعلت الذي رأيت بنفسي.

فندمت على سوء ظني به وتغممت عما لحقه ، واتعظت بقصته ، وعلمت أن الله تعالى لطف لي بمشاهدة هذه الحال، والوقوف عليهم لتكون لي دلالة على الصواب في هذه المسألة وأشباهها ، وأنه محرم على كل عاقل لبيب أن يعجل بتجهيل من ثبت عنده عقله وبان له فضله ، إذا ظهر منه فعل لم يعرف فيه سببه ، ولا علم مراده منه وغرضه .

وورود مثل هذه الأمور من العقلاء كثير ، وهي حجة على من أظهر التعجب مما ورد به الشرع من التكليف ، وجعل عدم علمه بأسباب ذلك دلالة على تعقله الضعيف .

على أن الأخبار قد نقلت عن الأئمة عليهم السلام بذكر أسباب هذه العبادات ، تسمى عللا على المجاز والإتساع (1)، وجمع في ذلك علي بن حاتم القزويني (2) رحمه الله كتابا سماه کتاب العلل ، وأنا أذكر طرفا مما رواه في الحج ومناسکه وأسبابه وعلله.

قال: إن الحج هو الوفادة إلى الله عز وجل ، وفيه منافع كثيرة للدنيا والآخرة من الرغبة إلى الله تعالى ، والرهبة منه ، والتوبة إليه من معاصيه ، وطلب الثواب على تحمل المشاق فيما يرضيه ، ومنفعة أهل الشرق والغرب ومن في البر والبحر ، من تاجر وجالب ومشتر وبائع ونحو ذلك من الفوائد .

ص: 80


1- العلة الحقيقية مشروطة بأمرين: الأول أن لا يتخلف المعلول عنها ، ويدور معها وجودا وعدما ، التاني أن لا يتوسط بين العلة والمعلول إرادة فاعل مختار ، وهذان الشرطان مفقودان في جميع ما ذكر للحج من آثار و منافع، ومن هنا كانت تسمية ذلك بالعلل أو الأسباب مجازا ، وما ذكر من المنافع والآثار إنما هي باب حكمة التشريع التي لا يدور الحاكم معها وجودا ولاعدما ، بل قد تتخلف.
2- هو علي بن أبي سهل حاتم بن أبي حاتم القزويني قال النجاشي عنه : ثقة في نفسه من أصحابنا بروي عن الضعفاء . وقال الطوسي: له كتب كثيرة جيدة معتمدة نحو من ثلاثين كتابا . كان حيا في سنة 350ه أنظر (معجم رجال الحديث ج1 ص 251).

قال الله تعالى: «ليشهدوا منافع لهم »

والتلبية هي جواب نداء ابراهيم عليه السلام لما أذن في الناس بالحج .

وروي أن أمير المؤمنين (علیه السلام) سئل عن الوقوف با لحل ، يعني الوقوف بعرفات ولم لم يكن في الحرم؟ فقال: لأن الكعبة بيته، والحرم داره ، فلما قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرعون إليه.

قيل له : فالمشعر الحرام، لم صار في الحرم؟

قال: لأنه لما أذن لهم في الدخول وقفهم بالباب الثاني ، فلما طال تضرعهم به أذن لهم بتقريب قر بانهم، فلما قضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجابا بينه وبينهم أذن لهم بالزيارة على الطهارة.

قيل له : فيلم حرم الله الصيام أيام التشريق؟ (1) .

قال: لأن القوم زاروا الله تعالى وهم في ضيافته ، ولا يجوز لمضيف أن يصوم أضيافه.

قيل : فالتعلق بأستار الكعبة لأي شيء هو:

قال: مثله مثل رجل له عبد جنى جناية وذنبا فهو متعلق بثوبه ، ويتضرع إليه ويخضع له أن يتجاوز له عن ذنبه.

وروى أن الإشعار (2) إنما هو لتحريم ظهر البدنة ، وأن تقليدها (3) إنما هو

ليعرفها صاحبها .

وقال في حد الحرم: إن آدم لما أهبط من الجنة شكا إلى الله تعالى الوحشة ،

فأنزل الله علیه یاقوتة حمراء فوضعها في موضع البيت ، وكان يطوف بها ، فكان يبلغ ضوءها موضع الأعلام، يعني أطراف الحرم وحده .

وذكر في علة الطواف: إن الله لما قال للملائكة إني جاعل في الأرض

ص: 81


1- هي أيام مني وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد يوم النحر
2- هو ما يجرح به الهدي في أذنه أو رقبته كعلامة عليه.
3- هو ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدى فلا يتعرض له .

خليفة ، وقالت: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وعلموا أنهم قد أذنبوا ، لاذوا بالعرش واستغفروا الله سبعة آلاف عام، قال فبنى الله عز وجل لآدم (علیه السلام) بيتا بحذاء العرش وأمره بالطواف حوله سبعة أشواط، لكل ألف سنة طافتها الملائكة شوط واحد.

وروي في السعي بين الصفا والمروة ، أن إبراهيم (علیه السلام) لما خلف إسماعيل وأمه بمكة ومضى عظش الصبي فخرجت أمه حتى قامت على الصفا ، وكان بينه وبين المروة شجر ، فقالت : هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت: هل بالوادي من أنيس فلم تجب ، ثم رجعت إلى الصفا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، فجعل الله تعالى ذلك سنة من بعده .

وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه كان يقول: ما من بقعة أحب إلى الله تعالى من المسعى ، لأنه يذل فيه كل جبار .

وقال: إن علة رمي الجمرات أن ابراهيم عليه السلام تراءى له إبليس عندها فأمره جبرائیل برميه بسبع حصيات، وأن يكبر مع كل حصاة ، ففعل وجرت بذلك السنة.

فهذا بعض ما ذكر في علل الحج قد أوردته مما رواه علي بن حاتم القزويني وجمعه.

وأعلم - أيدك الله - أن هذه العلل المسطورة ليست بعلل موجبة وإنما منها ما هو على طريق التقريب كالتشبيه والتمثيل، ومنها ما وقع في الإبتداء فاقتضت المصلحة عند الله سبحانه أن يكون مستمرا جاريا، فصار المبتدأ سببا لما بعده وكالعلة له.

ويدل على أنها ليست بعلل موجبة ما نعلمه من أنه قد كان يجوز نسخ هذه العبادة وورود الشرع بغيرها ، فلو كانت عن علة أوجبتها لم يكن يجوز نسخها بغيرها ، وهذا واضح والحمد لله ولي كل نعمه ، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلم تسليما .

ص: 82

فصل من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام):

الفكرة مرآة صافية. والاعتبار منذر ناصح. من تفكر اعتبر. ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سلم. العجب ممن خاف العقاب فلم يكف ، ورجا الثواب فلم يعمل. الاعتبار يقود إلى الرشاد .

كل قول ليس لله فيه ذكر فلغو ، وكل صمت ليس فيه فكر فسهو ، وكل نظر ليس فيه اعتبار فلهو.

فصل :

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني ، قال: أخبرني أبوحفص عمر بن علي العتكي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي ، قال : حدثنا أحمد بن حازم بن عروة ، قال : حدثنا جعفر بن عون عن عمر بن موسى البربري عن أبيه عن عطية العوفي عن سعيد قال : قال رسول الله (صلی الله علیه واله) :

« لا ببغض عليا إلا فاسق أو منافق أو صاحب بدایع » .

وأخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه قال : حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الجعابي الحافظ ، قال : حدثنا محمد بن سهل بن الحسن ، قال : حدثنا أحمد بن عمر الدهقان ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا اسماعیل بن مسلم ، قال : حدثنا الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش ، قال : رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) على المنبر وهو يقول:

« والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي (صلی الله علیه واله) إلي، أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق ». (1)

وأخبرني شيخنا المفيد رضي الله عنه.

قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن عمر المرزباني ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، قال :

ص: 83


1- رواه النسائي في خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص 27. والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 170 رواه عن مسلم عن علي باختلاف يسير ، ورواه ابن المغازلي في مناقبه بعدة طرق ص 190-196 وهذا الحديث مروي بطرق عديدة ، حتى أن القاضي أبا بكر محمد بن عمر الجعابي المتوفي سنة 385ه ألف كتابا في طرق من روى هذا الحديت عن علي (علیه السلام) انظر : سفينة البحار م1 ص 157.

حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا النضر بن حميد عن أبي الجارود عن الحارث الهمداني ، قال : رأيت عليا (علیه السلام) جاء حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

قضى قضاء الله عز وجل على لسان النبي الأمي (صلی الله علیه واله)، « ألا لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق، وقد خاب من افتری. (1)

دليل النص بخبر الغدير على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام)

أعلم أنه مما يدل على أنه المنصوص بالإمامة عليه ، ما نقله الخاص والعام من أن رسول الله (صلی الله علیه واله) لما رجع من حجة الوداع ، نزل بغدیر خم، ولم يكن منزلا ، أمر مناديه فنادى في الناس بالإجماع، فلما اجتمعوا خطبهم ثم قررهم على ما جعله الله تعالى له عليهم من فرض طاعته ، وتصر فهم بين أمره ونهيه بقوله:

« ألست أولى بكم منكم بأنفسكم .»

فلا أجابوه بالإعتراف ، وأعلنوا بالإقرار، رفع بيد أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقال عاطفا على التقرير الذي تقدم به الكلام :

« فمن کنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره، وأخذل من خذله » (2)

فجعل لأمير المؤمنين (علیه السلام) من الولاء في أعناق الأمة مثل ما جعله الله له

ص: 84


1- المصدر نفسه دون قوله قضي قضاء الخ ودون قوله وقد خاب من افتری
2- حديث الغدير من التواتر معني وقد رواه أكثر من ماية صحابي ، وقد رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد في المسند، والرازي في التفسير وأبو نعيم في الحلية والسيوطي في الدر المنثور والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والنسائي في الخصائص، وهو مروي أيضأ في كنز العمال ومستدرك الصحيحين والإصابة وأسد الغابة والإمامة والسياسة و مشکل الآثار، وفیض القدير ومجمع الزوائد والصواعق المحرقة : أنظر : (فصائل الخمسة ج1 ص349 - 382) وفي الصواعق أنه حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد رواه ابن المغازلي في المناقب بعدة طرق انظر : ص 16- 27.

عليهم، مما أخذ به إقرارهم ، لأن لفظه مولى يفيد ما تقدم من التقرير من ذكر الأولى ، فوجب أن يريد بالكلام الثاني ما قررهم عليه في الأول، وأن يكون المعنى فيهما واحدا، حسبما يقتضيه استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم.

وهذا يوجب أن يكون أمير المؤمنين (علیه السلام) أولى بهم من أنفسهم ، ولا يكون أولى بهم إلا وطاعته فرض عليهم ، وأمره ونهيه نافذ فيهم . وهذه رتبة الإمام في الأنام قد وجبت بالنص لأمير المؤمنين (علیه السلام).

وأعلم - أيدك الله - أنك تسأل في هذا الدليل عن أربعة مواضع :

أحدها ،أن يقال لك: ما حجتك على صحة الخبر في نفسه؟ فإنا ترى من - يبطله.

وثانيها ، أن يقال لك: ما الحجة على أن لفظة مولى يحتمل أولى ، وأنها أحد أقسامها ؟

وثالثها ، إذا ثبت أنها أحد محتملاتها ، في الحجة على أن المراد بها في الخبر ،

الأولى دون ما سوى ذلك من أقسامها ؟.

ورابعها: ما الحجة على أن الأولى هو الإمام، ومن أين يستفاد ذلك في الكلام؟؟

الجواب عن السؤال الأول .

أما الحجة على صحة خبر الغدير فما يطالب بها إلا متعنت ، لظهوره وانتشاره، وحصول العلم لكل من سمع الأخبار به.

ولا فرق بين من قال ما الحجة على صحة خبر الغدير ، وهذه حاله ، وبين من قال : ما الحجة على أن النبي (صلی الله علیه واله) حج حجة الوداع، لأن ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.

وبعد، فقد اختص هذا الخبر بما لم يشرکه فيه سائر الأخبار ، فمن ذلك ، أن الشيعة نقلته وتواترت به.

وقد نقله أصحاب السير نقل المتواترین به ، يحمله خلف عن سلف ، وضمنه

ص: 85

جميعهم الكتب بغير إسناد معين ، كما فعلوا في إيراد الوقائع الظاهرة والحوادث الكائنة ، التي لا يحتاج في العلم بها إلى سماع الأسانيد المتصلة .

ألا ترى إلى وقعة بدر ، حنين ، وحرب الجمل وصفين ، كيف لا يفتقر في العلم بصحة شيء من ذلك إلى سماع إسناد ولا اعتبار أسماء الرجال ، لظهوره المغني ، وانتشاره الكافي ، ونقل الناس له قرنا بعد قرن بغير إسناد ، حتى عمت المعرفة به واشترك الكل في ذكره.

وقد جرى خبر يوم الغدير هذا المجري، واختلط في الذكر والنقل بما وصفنا ، فلا حجة في صحته أوضح من هذا.

ومن ذلك أنه قد ورد أيضا بالأسانيد المتصلة ، ورواه أصحاب الحديثين (1) من الخاصة والعامة من طرق في الروايات كثيرة ، فقد اجتمع فيه الحالان، وحصل له البيان.

ومن ذلك أن كافة العلماء قد تلقوه بالقبول ، وتناولوه بالتسليم ، فمن شيعي يحتج به في صحة النص بالإمامة ، ومن ناصبي يتأوله ويجعله دليلا على فضيلة ومنزلة جليلة.

ولم نر للمخالفين قولا مجردا في إبطاله ، ولا وجدناهم قبل تأويله قد قدموا کلاما في دفعه وإنكاره.

فيكون ذلك جاريا مجری تأويل أخباره المشتبهة ، ورواياتها بعد الإبانة عن بطلانها وفسادها ، بل ابتدأوا بتأويله ابتداء من لا يجد حيلة في دفعه ، وتوفره على تخريج الوجوه له لتوفر من قد لزمه الإقرار به.

وقد كان إنكاره أروح لهم لو قدروا عليه ، وجحده أسهل عليهم لو وجدوا سبيلا إليه.

ص: 86


1- الأولى : أصحاب الحديث .

فأما ما يحكي عن أبي داود السجستاني (1) من إنكاره له ، وعن الجاحظ (2) من طعنه في كتاب العثمانية فيه فليس بقادح في الإجماع الحاصل على صحته ، لأن القول الشاذ ، لو أثر في الإجماع ، وكذلك الرأي المستحدث لو أبطل مقدم الاتفاق ، لم يصح الاحتجاج بالإجماع، ولا يثبت التعويل على اتفاق.

على أن السجستاني قد تنصل من نفي الخبر.

فأما الجاحظ فطريقته المشتهرة في تصنيفاته المختلفة ، وأقواله المتضادة المتناقضة ، وتأليفاته القبيحة في اللعب والخلاعة ، وأنواع السخف والمجانة ، الذي لا يرتضيه لنفسه ذو عقل وديانة ، يمنع من الالتفات إلى ما يحكيه ، وتوجب التهمة له فيما ينفرد به ويأتيه.

وأما الخوارج الذين هم أعظم الناس عدواة لأمير المؤمنين (علیه السلام) فليس يحكي عنهم صادق دفعا للخبر .

والظاهر من حالهم حملهم له على وجه من التفضيل ، ولم يزل القوم يقرون الأمير المؤمنين (علیه السلام) بالفضائل ، ويسلمون له المناقب ، وقد كانوا أنصاره وبعض

أعوانه .

وإنما دخلت الشبهة عليهم بعد الحكمين ، فزعموا أنه خرج عن جميع ما كان يستحقه من الفضائل بالتحكيم، وقد قال شاعرهم:

كان علي قبل تحکیمه *** جلدة بين العين والحاجب

ولو لم يكن الخبر كالشمس وضوحا لم يحتج به أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم

الشورى ، حيث قال للقوم في ذلك المقام:

« أنشدكم الله ، هل فيكم أحد أخذ رسول الله (صلی الله علیه واله) بيده فقال : « من کنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه » اغيري ؟

ص: 87


1- هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني أحد حفاظ أهل السنة صاحب كتاب السنن المشهور ، سكن البصرة وتوفي بها سنة (275 ه).
2- أبو عثمان عمر وبن بحر بن محبوب الجاحظ الليثي البصري الأديب المعتزلي المعروف مات بالبصرة سنة (255 ه)، له مؤلفات كثيرة منها : البيان والتبيين .

فقالوا: اللهم ، لا.

فأقر القوم به ولم ينكروه، واعترفوا بصحته ولم يجحد وه .

فإن قال قائل : في باله لم يذكر في حال احتجاجه به تقرير رسول الله (صلی الله علیه واله) للناس على أنه أولى بهم منهم بأنفسهم ، ولم اقتصر على ما ذكر ، وهو لا ينفع في الاستدلال عندكم ما لم يثبت التقرير المتقدم ؟؟ وما جوابكم لمن قال إن المقدمة لم تصح وليس لها أصل. وقد سمعنا هذا الخبر ورد في بعض الروايات، وهو عار منها ، في قولكم فيها ؟

قيل له : إن خلو (مناشدة) (1) أمير المؤمنين (علیه السلام) من ذكر المقدمة لا يدل على نفيها أو الشك في صحتها ، لأنه قررهم من بعض الخبر على ما يقتضي الإقرار بجمیعه اختصارا في كلامه ، وغني بمعرفتهم بالحال عن إيراده على كماله . (2)

وهذه عادة الناس فيما يقرون به.

وقد قررهم في ذلك المقام بخبر الطائر (3) فقال : أفيكم رجل قال له رسول الله (صلی الله علیه واله) : « اللهم ابعث إلي بأحب خلقك يأكل معي » غيري .

ولم يذكر هذا الطائر ، وكذلك لما قررهم بقول النبي عليه السلام فيه ، حيث ندبه لفتح خیبر وذكر لهم بعض الكلام دون جميعه ، اتكالا منه على ظهوره بینهم واشتهاره.

فأما المتواترون بالخبر فلم يوردوه إلا على كماله ، ولا سطروه في كتبهم إلا

بالتقرير الذي في أوله.

ص: 88


1- في النسخة : (إنشاء)
2- خبر مناشدة علي (علیه السلام) يوم الشوری رواه الطبري الإمامي في المسترشد ص 57 - 62. وتجده في المناقب لابن المغازلی ص 111 - 118
3- حديث الطائر المشوي رواه أنس بن مالك، وهو أنه كان عند النبي (صلی الله علیه واله) طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطائر فجاء على (علیه السلام) فأكل معه ». ورواه الترمذي في الصحيح. وهو مروي في مستدرك الصحيحين وحلية الأولياء ، وتاريخ بغداد للخطيب وفي أسد الغابة وكنز العمال ومجمع الزوائد انظر (فضائل الخمسة ج 2 ص 189، 195). وقد روى حديث الطائر ، ابن المغازلي في المناقب بطرق عديدة أنظر : المناقب ص 156 - 175.

وكذلك رواه معظم أصحاب الحديث الذاكرين الأسانيد ، وإن كان منهم آحاد قد أغفلوا ذكر المقدمة ، فيحتمل أن يكون ذلك تعويلا منهم على العلم بالخبر ، فذكروا بعضه ، لأنه عندهم مشتهر ، فإن الأصحاب كثيرا ما يقولون : فلان يروي عن رسول الله (صلی الله علیه واله) خبر كذا، ويذكرون بعض لفظ الخبر اختصارا. وفي الجملة فإن الآحاد المتفردون بنقل بعضه لا يعارض بهم المتواترین الناقلين الجميعه على كاله.

الجواب عن السؤال الثاني :

وأما الحجة على أن لفظة مولى يحتمل أولى، وأنها أحد أقسامها فليس يطالب بها أيضا منصف كان له أدنى الإطلاع في اللغة وبعض الاختلاط بأهلها ، لأن ذلك مستفیض بينهم، غير مختلف فيه عندهم ، وجميعهم يطلقون القول فيمن كان أولى بشيء أنه مولاه.

وأنا أوضح لك أقسام مولى في اللسان لتعلمها على بيان .

أعلم أن لفظة مولى في اللغة تحتمل عشرة أقسام:

أولها ، الأولى ، وهو الأصل الذي يرجع إليه جميع الأقسام ، قال الله تعالى :

« فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (1)

یرید سبحانه في أولى بكم على ما جاء في التفسير وذكره أهل اللغة. وقد فسره على هذا الوجه أبو عبيدة معمر بن المثنى (2) في كتابه المعروف بالمجاز في القرآن، ومنزلته في العلم بالعربية معروفة ، وقد استشهد على صحة تأويله ببيت لبيد :

ص: 89


1- سورة الحديد: 15.
2- هو معمر بن المثنى التيمي من تیم قریش مولى لهم ولد سنة 114 ه وتوفي سنة 209/208/211/210 ه-. قال أبو العباسي ثعلب كان أبو عبيدة يرى رأي الخوارج ، عالما بالأخبار والأدب له مؤلفات عديدة ذكرها ابن النديم في الفهرست ص 79- 80.

قعدت كلا الفرخين تحسب أنه *** مولى الحافة خلفها وأمامها (1)

يريد أولى بالمخافة ، ولم ينكر على أبي عبيدة أحد من أهل اللغة.

وثانيها ، مالك الرق قال الله سبحانه :

« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كُلِّ عَلَى مَولاَهُ »

النحل : 75.

يريد مالكه ، وهذا القسم بغنى عن الإطالة فيه

وثالثها المعتق.

ورابعها المعتق، وذلك أيضا مشهور معلوم وخامسها ، ابن العم ، قال الشاعر :

مهلا بني عمنا مهلا موالينا *** لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا

وسادسها الناصر ، قال الله عز وجل:

« ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ » سورة محمد : 11وسابعها ، المتولي لضمان الجريرة ومن يحوز الميراث ، قال الله عز وجل :

« وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ». النساء : 33

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالموالي ههنا من كان أملك بالميراث وأولى

بحيازته ، قال الأخطل : (2)

ص: 90


1- هذا البيت من معلقة لبيد، التي أولها . عفت الديار محلها فمقامها *** بمنى تاؤد غولها فركامها
2- هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي من شعراء الدولة الأموية البارزين كان نصراني ومات سنة (92ه).

فأصبحت مولاها من الناس بعده *** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا (1)

وثا منها ، الحليف

وتاسعها ، الحار

وهذا القسمان أيضا معروفان.

وعاشرها ، الإمام السيد المطاع، وسيأتي في الجواب عن السؤال الرابع إن شاء الله تعالى.

فقد اتضح لك بهذا البيان ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام. وأن أولى أحد محتملات معاني الكلام ، بل هي الأصل ، وإليها يرجع معنی کل قسم، لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من كان لذلك مولاه، والمعتق لما كان أولى معتقه في تحمله لجريرته وألصق به من غيره كان مولاه، وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في نسبه وأولى أيضا من الأجنبي بنصرة ابن عمه كان مولى. والناصر لما اختص بالنصرة وصار بها أولى كان لذلك مولي.

وإذا تأملت بقية الأقسام وجدتها جارية هذا المجري، وعائدة بمعناها إلى الأولى.

وهذا يشهد بفساد قول من زعم أنه متى أريد بولي ، أولى كان ذلك مجازا . وكيف يكون مجازا ، وكل قسم من أقسام مولی عائد إلى معنى الأولى ، وقد قال الفراء (2) في كتابه (معاني القرآن) أن الولي والمولى في كلام العرب واحد .

ص: 91


1- وقبل هذا البيت قوله: في وجدت فيها قريش لأمرها *** أعف وأولى من أبيك وأمجدا وأوری زنادا ولو كان غيره *** غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
2- هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الديلمي الكوفي ، تلميذ الكسائي ، من أئمة العربية ، كانت له حظوة عند المؤمون العباسي ، عهد إليه تعلیم ولديه ، توفي سنة 207 ه تجد ترجمته في الكنى والألقاب ج 3 ص 14- 15 وفهرست ابن النديم ص99.

الجواب عن السؤال الثالث

فأما الحجة على أن المراد بلفظة مولى في خبر الغدير ، الأولى فهي أن من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم به التصريح ولغيره فإنهم لا يريدون بالمحتمل إلا ما صرحوا به من الخطاب المتقدم .

مثال ذلك أن رجلا لو أقبل على جماعة فقال : ألستم تعرفون عبدي فلانا الحبشي ، ثم وصف لهم أحد عبيده وميزه عنهم بنعت يخصه صرح به ، فإذا قالوا: بلى قال لهم عاطفا على ما تقدم : فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عز وجل ، فإنه لا يجوز أن يريد بذلك إلا العبد الذي سماه وصرح بوصفه دون ما سواه.

ويجري هذا المجرى قوله : فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عز وجل ، ولو أراد غيره من عبيده لكان ملغزا غير مبين في كلامه.

وإذا كان الأمر كما وصفناه وكان رسول الله (صلی الله علیه واله) لم يزل مجتهدا في البيان، غير مقصر فيه من الإمكان، وكان قد أتي في أول كلامه يوم الغدير بأمر صرح به وقرر أمته عليه ، وهو أنه أولى بهم من أنفسهم على المعنى الذي قال الله تعالى في كتابه :

« النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » الأحزاب: 6.

ثم عطف على ذلك بعدما ظهر من اعترافهم بقوله :

« فمن كنت مولاه فعلى مولاه مولاه ».

وكانت (مولاه) يحتمل ما . صرح به في مقدمة كلامه ويحتمل غيره لم يجز أن يريد إلا ما صرح به في كلامه الذي قدم وأخذ اقرار أمته به ، دون سائر أقسام مولى ، وكان هذا قائما مقام قوله : فمن کنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ، وحاشى لله أن لا يكون الرسول (صلی الله علیه واله) أراد هذا بعينه.

ص: 92

ووجه آخر

وهو أن قول النبي (صلی الله علیه واله) : فمن کنت مولاه فعلي مولاه، لا يخلو من حالين: إما أن يكون أراد (بمولى) ما تقدم به التقرير من (الأولى) أو يكون أراد قسما غير ذلك من أحد محتملات (مولى)، فإن أراد الأول فهو ما ذهبنا إليه واعتمدنا عليه.

وإن أراد وجها غير ما قدمه من أحد محتملات مولى ، فقد خاطب الناس بخطاب يحتمل خلاف مراده ، ولم يكشف لهم فيه عن قصده ، ولا في العقل دلیل عليه يغني عن التصريح بمعنی ما نحال إليه وهذا لا يجيزه على رسول الله صلى الله عليه وآله إلا جاهل لا عقل له.

الجواب عن السؤال الرابع

وأما الحجة على أن لفظة (أولى) يفيد معنى الإمامة والرئاسة على الأمة ، فهو أنا نجد أهل اللغة لا يصفون بهذه اللفظة إلا من كان يملك تدبير ما وصف بأنه أولى به ، وتصريفه وينفذ فيه أمره ونهيه.

ألا تراهم يقولون: إن السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية ، والمولى أولى بعبده ، والزوج أولى بامرأته ، وولد الميت أولى بميراثه من جميع أقاربه . وقصدهم بذلك ما ذكرناه دون غيره.

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله سبحانه : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أنه أولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم ، من حيث وجبت طاعته عليهم.

وليس يشك أحد من العقلاء في أن من كان أولى بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كل أحد منهم ، فهو إمامهم المفترض طاعته عليهم.

ووجه أحسن

ومما يوضح أن النبي (صلی الله علیه واله) أراد أن يوجب الأمير المؤمنين (علیه السلام) بذلك منزلة الرئاسة والإمامة والتقدم على الكافة فيما يقتضيه فرض الطاعة ، أنه قررهم بلفظ (أولى) على أمر يستحقه عليهم من معناها ، ويستوجبه من مقتضاها .

وقد ثبت أنه يستحق في كونه أولى بالخلق من أنفسهم أنه الرئيس عليهم ،

ص: 93

والنافذ الأمر فيهم ، والذي طاعته مفترضة على جميعهم، فوجب أن يستحق أمير المؤمنين (علیه السلام) مثل ذلك بعينه ، لأنه جعل له مثل ما هو واجب له ، فكأنه قال : من کنت أولى به من نفسه في كذا فعلي أولى به من نفسه فيه .

ووجه آخر

وهو أنا إذا أعتبرنا ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام لم نر فيها ما يصح أن يكون من أراد النبي (صلی الله علیه واله) إلا ما اقتضاه الإمامة والرئاسة على الأنام.

وذلك أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن مالكا لرق كل من ملك رسول الله (صلی الله علیه واله) رقه ، ولا معتقا لكل من أعتقه ، فيصح أن يكون أحد هذين القسمين المراد ، ولا يصح أن يريد المعتق ، لاستحالة هذا فيهما على كل حال.

ولا يجوز أن يريد ابن العم ، والناصر ، فيكون قد جمع الناس في ذلك المقام، ويقول لهم: من کنت ابن عمه فعلي ابن عمه ، أو من کنت ناصره فعلي ناصره، لعلمهم ضرورة لذلك قبل ذلك المقام.

ومن ذا الذي لم يعلم أن المسلمين كلهم أنصار من نصره النبي (صلی الله علیه واله)؟ فلا معنى لتخصيص أمير المؤمنين (علیه السلام) بذلك دون غيره .

ولا يجوز أن يريد ضمان الجرائر واستحقاق الميراث ، للاتفاق على أن ذلك لم

يكن واجبا في شيء من الأزمان.

وكذلك لا يجوز أن يريد الحليف، لأن عليا (علیه السلام) لم يكن حليفا لجميع

حلفاء رسول الله (صلی الله علیه واله).

ولا يصح أيضا أن يريد من كنت جاره فعلي جاره، لأن ذلك لا فائدة فيه ، وليس هو أيضا صحيحا في كل حال .

فإذا بطل أن يكون مراده (صلی الله علیه واله) شيئا من هذه الأقسام، لم يبق إلا أن يكون قصده ما كان حاصلا له من تدبير الأنام وفرض الطاعة على الخاص والعام، وهذه هي رتبة الإمام. وفيما ذكرناه كفاية لذي الأفهام.

ص: 94

فصل وزيادة

فأما الذين ادعوا أن رسول الله (صلی الله علیه واله) إنما قصد بما قاله في أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الغدير أن يؤكد ولاءه في الدين ، ويجب نصرته على المسلمين ، وأن ذلك على معنى قوله سبحانه:

« وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ » التوبة: 71.

وإن الذي أوردناه من البيان على أن لفظة مولى يجب أن يطابق معنی ما تقدم من التقرير في الكلام ، وأنه لا يسوغ حملها على غير ما يقتضي الإمامة من الأقسام، يدل على بطلان ما ادعوه في هذا الباب. ولم يكن أمير المؤمنين (علیه السلام) بخامل الذكر فيحتاج أن يقف في ذلك المقام، ويؤكد ولاءه على الناس، بل كان مشهورا وفضائله ومناقبه و ظهور علو رتبته وجلالته قاطعا للعذر في العلم بحاله عند الخاص والعام.

على أن من ذهب في تأويل الخبر إلى معنى الولاء في الدين والنصرة ، فقوله داخل في قول من حمله على الإمامة والرئاسة ، لأن إمام العالمين تجب موالاته في الدين ، ويتعين نصرته على كافة المسلمين. وليس من حمله على الموالاة في الدين والنصرة يدخل في قوله ما ذهبنا إليه من وجوب الإمامة، فكان المصير إلى قولنا أولى (1) .

وأما الذين غلطوا فقالوا: إن السبب في ما قاله رسول الله (صلی الله علیه واله) في يوم الغدير ، إنما هو كلام جرى بين أمير المؤمنين وزيد بن حارثة ، فقال علي لزيد : تقول هذا وأنا مولاك ، فقال له زيد: لست مولاي، إنما مولاي رسول الله (صلی الله علیه واله)، فوقف يوم الغدير فقال: (من کنت مولاه فعلي مولاه) إنكارا على زيد ، وإعلاما له أن عليا مولاه.

فإنهم فضحهم العلم بأن زيدا قتل مع جعفر بن أبي طالب في أرض

ص: 95


1- وذلك لأن النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه والعموم في جانب من حمل الحديث على الولاء في الدين، والخصوص في جانب من حمله على الإمامة ، وحمله على الثاني يشمل الأول الوجوب موالاة الإمام في الدين ونصرته ، دون ما إذا حمل على المعنى الأول فلا يشمل الإمامة.

(مؤته) من بلاد الشام، قبل يوم غدير خم مدة طويلة من الزمان ، وغدير خم إنما كان قبل وفاة النبي (صلی الله علیه واله) بنحو ثمانين يوما . وما حملهم على هذه الدعوى إلا عدم معرفتهم بالسير والأخبار

ولما رأت الناصية غلطها في هذه الدعوى رجعت عنها ، وزعمت أن الكلام كان بين أمير المؤمنين (علیه السلام) وبين أسامة بن زید . والذي قدمناه من الحجج يبطل ما زعموه، ويكذبهم فيما أدعوه.

ويبطله أيضا ما نقله الفريقان من أن عمر بن الخطاب، قام في يوم الغدير فقال : بخ بخ لك يا أبا الحسن ، أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن ومؤمنة .(1) ثم مدح حسان بن ثابت في الحال بالشعر المتضمن رئاسته وإمامته على الأنام، وتصويب النبي (صلی الله علیه واله) في ذلك:

ثم احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) به يوم الشورى ، فلو كان ما أدعاه المنتحلون حقا لم يكن لإحتجاجه علیهم به معنی ، وكان لهم أن يقولوا : أي فضل لك بهذا علينا ، وإنما سببه كذا وكذا.

وقد احتج به أمير المؤمنين (علیه السلام) دفعات، واعتده في مناقبه الشراف،وكتب يفتخر به في جملة افتخاره إلى معاوية بن أبي سفيان في قوله :

وأوجب لي الولاء معا عليكم *** خليلي يوم دوح غدير خم

وهذا الأمر لا لبس فيه.

وأما الذين اعتمدوا على أن خبر الغدير لو كان موجبا للإمامة لأوجبها الأمير المؤمنين (علیه السلام) في كل حال، إذ لم يخصصها النبي (صلی الله علیه واله) بحال دون حال ، وقولهم أنه كان يجب أن يكون مستحقا لذلك في حياة رسول الله (صلی الله علیه واله)، فإنهم جهلوا معنى الإستخلاف والعادة المعهودة في هذا الباب.

ص: 96


1- بخ بخ إسم فعل بمعني هنيئا ، رواه بلفظ بخ بخ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج8 ص290، ورواه بلفظ هنيئا كل من الإمام أحمد في المسند ج4 ص 281. والرازي في التفسير الكبير في تفسير قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) وفيض القدير ج 2ص217 انظر : (فضائل الخمسة ج1 ص384 - 387).

وجوابنا أن نقول لهم : قد أوضحنا الحجة على أن النبي (صلی الله علیه واله) استخلف علیا (علیه السلام) في ذلك المقام، والعادة جارية فيمن يستخلف أن يخصص له الإستحقاق في الحال، والتصرف بعد الحال.

ألا ترون أن الإمام إذا نص على حال له يقوم بالأمر بعده ، أن الأمر يجري في استحقاقه وتصرفه على ما ذكرناه .

ولو قلنا إن أمير المؤمنين (علیه السلام) يستحق بهذا النص التصرف والأمر والنهي في جميع الأوقات على العموم والاستيعاب، إلا ما استثناه الدليل. وقد استثنت الأدلة في زمان حياة رسول الله (صلی الله علیه واله) الذي لا يجوز أن يكون فيه متصرف في الأمة [غيره] (1) ولا آمر ناه لهم سواه ، لكان هذا أيضا من صحيح الجواب.

فإن قال الخصم : إذا جاز أن تخصصوا بذلك زمانا دون زمان ، فما أنكرتم أن يكون إنما يستحقها بعد عثمان ؟

قلنا له: إنا أنكرنا ذلك ، من قبل ان القائلين بأنه استحقها بعد عثمان مجمعون على أنها لم تحصل له في ذلك بيوم الغدير ولا بغيره من وجوه النص عليه. وإنما حصلت له بالاختيار، وكل من أوجب له الإمامة بالنص أوجبها بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) من غير تراخ في الزمان ، والحمد لله .

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني رحمه الله ، قال :

أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي ، قال : حدثنا حسين بن الحكم، قال: حدثنا حسن بن حسين ، قال : حدثنا أبو داود الطهوي عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : قام علي (علیه السلام) خطيبا في الرحبة ، وهو يقول:

« أنشد الله امرءا شهد رسول الله (صلی الله علیه واله) آخذا يدي ورفعهما إلى السماء ، وهو يقول : يا معشر المسلمين ألست أولی بكم من أنفسكم، فلما قالوا : بلى ، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والي من والاه، وعاد من عداه ، وأنصر من

ص: 97


1- في النسخة : أمره .

نصره ، وأخذل من خذله ». إلا قام فشهد بها ، فقام بضعة عشر بدريا ، فشهدوا بها. وكتم أقوام فدعا عليهم، فمنهم من برص، ومنهم من عمي ، ومنهم من نزلت به بلية في الدنيا، فعرفوا بذلك حتى فارقوا الدنيا . (1).

ومما حفظ عن قيس بن سعد بن عبادة أنه كان يقول (وهو) (2) بين يدي أمير المؤمنين صلوات الله عليه بصفين ، ومعه الراية في قطعة له، أولها:

قلت لما بغى العدو علينا *** حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البصر *** ة بالأمس والحديث يطول

وعلي إمامنا وإمام *** لسوانا أتي به التنزيل

يوم قال النبي من كنت *** مولاه فهذا مولاه خطب جلیل

إنما قاله النبي على الأمة *** حتم ما فيه قال وقيل. (3)

فصل من الوصايا والإقرارات المبهمة العويصة

* فصل من الوصايا والإقرارات المبهمة العويصة(4)

وإذا أوصى رجل باخراج شيء من ماله ولم يسم، كان الواجب إخراج

السدس مما خلفه . قال الله تبارك وتعالى :

« ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضفة ، فخلقنا المضفة عظاما ، فكسونا

ص: 98


1- تجده مرويا في مسند أحمد ج1 ص 118 و119 و 88 و84 وجه ص307 و 366 و419 وج 4ص370 وفي حلية الأولياء (ج) 5 ص26 وفي خصائص النسائي ص 23 و26 وفي كنز العمال ج6 ص397 و403 وفي الإصابة ج1 قسم 1 ص319 و 29 و169 و182 و 156 وفي أسد الغابة ج5 ص276 وج3 ص307 وغيرها، أنظر : (فضائل الخمسة ج 1ما بين ص 349 وص383) مع اختلاف في بعض ألفاظه .
2- في النسخة (فهو).
3- أنظر : الفصول المختارة ج2 ص79.
4- في النسخة : العريضة ، وهي تصحيف العويصة .

«الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ». المؤمنون :

14 -12

فخلق الله سبحانه الإنسان من ستة أشياء ، فالشيء واحد من ستة، وهو السدس .

وإذا أوصى باخراج جزء من ماله ولم يسم، وجب إخراج سبع ماله ، قال الله تعالى:

« لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ » الحجر: 44

فالجزء واحد من سبعة ، وهو السبع.

وإذا أوصى بسهم من ماله ولم يسم، فالواجب إخراج الثمن ، قال الله تعالى:

«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ» التوبة : 60

وهم ثمانية أصناف ، لكل صنف منهم سهم من الصدقات، فالسهم واحد من ثمانية وهو الثمن.

وإذا أوصى باخراج مال كثير ولم يسم وجب أن تخرج من ماله ثمانون درهما، قال الله تعالى :

« لقد نصرکم الله في مواطن كثيرة » وكانت ثمانين موطنا. وإذا قال: كل عبد لي قديم في ملكي فهو حر لوجه الله تعالى ، فالواجب أن يعتق كل عبد في ملکه ستة أشهر فما زاد ، قال الله سبحانه:

« وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ » يس: 39

وهو الذي مضى عليه ستة أشهر .

فإذا أوصى إلى رجل بدراهم، فقال: اعط زیدا نصفها ، وعمرا ثلثها ، و بکرا ربعها، فالواجب أن يعطي زيدا وعمرا ما سماه لهما، ويدفع ما بقي لبكر .

ص: 99

وإذا قال: عندي كذا دراهم ولم يبين ، فقد أقر بعشرة دراهم، على مايقتضيه اللسان. (1)

فإن قال: كذا درهما، فعشرون درهما .

فإن قال : كذا كذا درهم ، فعشر عشر درهم.

فإن قال: كذا كذا درهما، فأحد عشر درهما.

فإن قال : كذا وكذا درهما فأحد وعشرون درهما.

فإن قال : كذا وكذا كذا درهما فماية وأحد عشر درهما

فإن كان عارفا بالعربية وقال: له عنوي ماية درهم غير ثلاثة دراهم بنصب (غير) فله سبعة وسبعون درهما، لأنه استثنى من المالية ثلاثة.

فإن قال: له عندي ماية غير ثلاثة، برفع (غير)، فهي ماية كاملة، وإنما وصفها بأنها غير ثلاثة.

فإن قال : له ماية غير ثلاثة غير درهم ، ونصب (غير) فيهما جميعا ، فقد أقر بثمانية وتسعين درهما، لأنه استثنى من المالية ثلاثة فبقي سبعة وتسعون فلما استثنى مما استثناه درهما علم أن المستثنى من الماية درهمان، فكأن الذي اعترف به ثمانية وتسعون درهما .

فإن قال : له عندي ماية غير ثلاثة غير درهم، فنصب (غير) الأولة وخفض الثانية، فقد أقر بسبعة وتسعين درهما، لأنه لا نصب غير الأولة كان قد

ص: 100


1- وتفهم الإقرارات التي ذكرت من ملاحظة أمور: 1- رقم العدد المشار إليه بكذا، فقد يكون مفردا كقولك له كذا، وقد يكون مضافا إلى عدد آخر كقولك : له كذا كذا، وقد يكون مركبا تركيبا مزجيا كقولك : له كذا كذا درهما ، وقد يكون معطوفا كقولك : له كذا وكذا درهما. 2- التمييز قد يكون مفردا منصوبا كقولك: له كذا كذا درهما، وقد يكون مجرورا بالإضافة كقولك : له كذا درهم ، وقد يكون جمعا منصوبا كقولك: له كذا وكذا دراهم، وقد يكون مجرورا نحو قولك: له كذا دراهم. 3- ويؤخذ من هذه الإقرارات بالقدر المتيقن وهو أقل عدد محتمل فإذا قيل : له كذا دراهم فالمتيقن منه ثلاثة دراهم: وهكذا.

استثنى من الماية ثلاثة ، فلا خفض غير الثانية وكان قد وصف الثلاثة بأنها غير درهم، فالاستثناء على حاله ، والمال سبعة وتسعون درهما.

وكذلك ، لو قال : له عندي مائة غير ثلاثة غير درهم، بنصب غير الأولة ورفع غير الثانية، فإن له عنده سبعة وتسعون درهما، لأنه استثنى من الماية ثلاثة لما نصب غيرا، ثم وصف الماية بأنها غير درهم لما رفع غير الأخرى.

فإن هو أدخل الواو في الكلام عاطفا بها، كان استثناء معطوفا على استثناء ، والجميع يسقط من الأصل المذكور ، كقوله : له عندي ماية غير خمسة وغيرسبعة. فالخمسة والسبعة يسقطان من المائة ، فيكون له عنده ثمانية وثمانون درهما ، فافهم ذلك.

مسألة

ذكرها شيخنا المفيد رضي الله عنه في كتاب الأشراف. رجل اجتمع عليه عشرون غسلا ، فرض وسنة ومستحب ، أجزأه عن جميعها غسل واحد.

جواب

هذا رجل احتلم ، وأجنب نفسه بإنزال الماء ، وجامع في الفرج، وغسل میتا، ومس آخر بعد برده بالموت قبل تغسيله، ودخل المدينة لزيارة رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأراد زيارة الأئمة (علیه السلام) هناك. وأدرك فجر العيد ، وكان يوم جمعة ، وأراد قضاء غسل عرفة ، وعزم على صلاة الحاجة، وأراد أن يقضي صلاة الكسوف، وكان عليه في يوم بعينه صلاة ركعتين بغسل، وأراد التوبة من كبيرة على ما جاء عن النبي (صلی الله علیه واله) وأراد صلاة الإستخارة، وحضرت صلاة الاستسقاه ، ونظر إلى مصلوب، وقتل وزغة وقصد إلى المباهلة ، وأهرق عليه ماء غالب النجاسة.

فصل في ذكر هيئة العالم .

أعلم أن الأرض على هيئة الكرة ، والهواء يحيط بها من كل جهة ، والأفلاك تحيط بالجميع إحاطة استدارة ، وهي طبقات بعضها يحيط ببعض. فمنها سبعة تختص بالنيرين والكواكب الخمسة التي تسمى المتحيرة والسيارة .

ص: 101

فالنيران هما الشمس والقمر

والخمسة هي : زحل ، والمشتري ، والمريخ، والزهرة، وعطارد .

ولكل واحد منها فلك يختص به من هذه السبعة.

ففلك زحل أعلاها .

وفلك القمر أقربها من الأرض وأدناها .

وفلك الشمس في وسطها .

وتحت فلك زحل فيما بينه وبين فلك الشمس فلکان : فلك المشتري ثم فلك

المريخ .

وفوق القمر فيما بينه وبين الشمس فلکان: فلك عطارد ثم فلك الزهرة .

ويحيط بهذه الأفلاك السبعة فلك الكواكب الثابتة ، وهي جميع ما يرى في السماء غير ما ذكرنا.

ثم الفلك المحيط الأعظم المحرك جميع هذه الأفلاك.

ثم السموات السبع يحيط بالأفلاك، وهي مساكن الأملاك ، ومن رفعه الله تعالي إلى سمائه من أنبيائه وحججه علیهم السلام وللجميع نهاية . والكل على شكل الكرة، ومركزها الأرض، ومركز الأرض نقطة في وسطها جميع أجزاء الأرض، معتمدة عليها ، وهي مركز العالم كلها في الحقيقة .

ومن نهاية الأجسام الذي هو محيط الكرة إلى مركز الأرض متساو من كل جهة .

وقد قيل : إن العامر من الأرض هو ربع الكرة، والناس مستقرون على هذا الربع من كل جهة ، وإن كان بعضهم منخفضا عن بعض بالإضافة. فكل منهم، الأرض تحته والسماء فوقه ، وهو يرى أرضه التي هو عليها هي المستقيمة في الإعتدال دون غيرها.

وكل ما فارق السماء من أي جهة كان منها وذهب إلى الأرض، فهو نازل إليها ، وكل ما فارق الأرض من أي جهة كان ذهب إلى السماء ، فهو صاعد إليها. ولذلك لا تتحرك الأرض إلى إحدى الجهات، لأنها كيف ما تحركت

ص: 102

تكون صاعدة إلى السماء والأرض كالخردلة أو أصغر بالإضافة إلی عظم سعة الفلك.

والأفلاك لها حركات مختلفة ، لكن محركها مع ذلك، الفلك المحيط بها حركة واحدة ، يدور بها حول المركز في اليوم والليلة دورة واحدة.

والإنسان في أي موضع كان من الأرض یری نصف الفلك ، وقيل أنه يرى أكثر من النصف. وهذا يبين أنه لا تأثير لقدر الأرض.

وإذا طلعت الشمس بضيائها على جهة من الأرض كان ذلك نهارا لتلك الجهة ، وإذا غربت من جهة من الأرض كان الليل في تلك الجهة . وهو ظل الأرض.

وليس النهار عاما ولا الليل أيضا عاما ، وهي تطلع على قوم قبل قوم، وتغرب عن قوم قبل قوم.

والجهة التي تطلع الشمس والكواكب منها هي المشرق، وريحها يقال (له) الصبا ، والجهة التي تغرب منها هي المغرب، ويقال لريحها الدبور (1).

وإذا توجه القائم إلى جهة المشرق كانت الجهة التي عن يمينه الجنوب ، وريحها تسمى باسمها ، والجهة التي عن شماله الشمال تسمى بإسمها .

وكل ريح أنت بين جهتين فهي نكباء (2) وتسمى أيضا الثعامی (3).

والمسكون من الأرض هو المائل إلى جهة الشمال ، والربع الذي إلى جهة الجنوب غير مسكون ، ويقال : إنه ليس به حیوان ، ومنه يأتي النيل ، ولذلك لا يصل أحد إلى مبتداه.

وبقية الأرض قد غطاها الماء المالح ، وهو البحر الأعظم، الذي أطرافه يقال لها بحر المحيط. ومن هذا البحر خليجان داخلان إلى الربع العامر

ص: 103


1- لأنها تهب من مغرب الشمس ومكان إدبارها ، وهي تقابل الصبا .
2- وجمعها نكب.
3- في كفاية المتحفظ آنها الريح اليمانية ، وهي ريح الجنوب .

يتقاربان ، فنهاية أحدهما الفرماءان (1) ، ونهاية الآخر القلزم، وبينهما من المسافة قدر.

فصل: من الكلام في أن الله تعالى لا يجوز أن يكون له مكان

أعلم - أيد الله - أن المكان عندنا هو ما أحاط بالمتمكن، فلما كان الله تعالى لا يجوز عليه ذلك، لأنه يقتضي حصره وتناهيه ، علم أنه لا يجوز أن يكون في مكان.

ومن خالفنا في حد المكان قال: إنه ما تمكن عليه وتصرف فيه. وهذا لا يجوز أيضا على الله تعالى ، لأن المتمکن معتمد ومماس أيضا لمكانه ، والاعتماد والمماسة من صفات المحدثين ، والله تعالى قديم ، فعلم أنه لا يكون في مكان .

وذو المكان أيضا قد حصل له حيز فصار في جهة دون جهة ، ولا يكون كذلك إلا جسم أو بعض جسم، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم ولا بعض جسم، فعلم بطلان المكان .

ثم إنه لو كان له مكان لم يخل مكانه من حالين: إما أن يكون قديما أو محدثا .

ولا يصح أن يكون قديما ، لمشاركته لله تعالى في القدم، وقد ثبت أنه لا قديم إلا هو وحده.

ولو كان المكان محدثا ، لكان الله سبحانه قبل إحداثه لا يخلو من قسمين: إما أن يكن محتاجا إلى المكان أو مستغنيا عنه.

ولا يجوز أن يكون لم يزل محتاجا إليه ، لما في ذلك من صفة النقص الذي لا

يكون للقديم.

وإن كان غنيا عنه قبل وجوده فلا يجوز أن يحتاج إليه بعد ذلك، لأن حاجته تخرجه عن قدمه ، وتشابه بينه وبين خلقه ، فوجب نفي المكان عنه .

ص: 104


1- هكذا في النسخة

فإن قيل: أليس من قولكم أن الله تعالى بكل مكان؟

قلنا: بلى ، ومعنى ذلك أنه عالم بكل مكان وبما فيه ، حافظ له. وهذا معروف في اللغة ، يقول القائل لصاحبه: إني معك حيث كنت ، وإني لا أغيب عنك ، ويريد : لا أجهل ما تعمله ، ولا يخفي علي شيء منه ، ويقال : إن الرجل في صلاته ، وفي بناء داره. وليس المراد انه متمكن أو حالة فيها ، وإنما يريدون أنه يفعلها ويدبرها.

فإن قيل : أو ليس في القرآن ، أن له عرشا وكرسيا ؟

قلنا: هو كذلك ، والعرش المذكور في القرآن على وجهين: أحدهما قوله سبحانه : «اَلرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى» (1).

وقد قال أهل العلم في ذلك: إن العرش هنا هو الملك ، واستواؤه عليه هو استيلاؤه عليه بالقدرة والسلطان.

واستشهدوا في ذلك بشواهد ، منها قول الشاعر في ذكر العرش وانه الملك :

إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم *** وأودوا كما أودت أياد وحمير (2)

ومنها قول الآخر في ذكر الاستواء وانه الاستيلاء:

إذا ما علونا واستوينا عليهم *** تركناهم مرعی لنسر وكاسر

يريد بذلك الإستيلاء والقدرة عليهم والتمكن لهم بالقهر لهم...

والآخر تفسير قوله سبحانه:

« وَيَحمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوقَهُم يَومَئِذ ثَمَنِيَة » الحاقة: 17.

فقد قال العلماء في ذلك : إن هذا العرش بنية « خلقها الله تعالى في سمائه ، وأمر الملائكة بحملها ، لا لیکون عليها تعالى الله عن ذلك، ولكن لما رآه من الصلاح في تعبدهم بحملها وتعظيمها ، كما أنه سبحانه تعبد بني آدم بتعظيم الكعبة في الطواف حولها ، وقال إنها بيته ، لا ليسكنها تعالى الله عن ذلك.

ص: 105


1- سورة طه: 5
2- أياد وحمير قبيلتان من قبائل اليمن.

فأما الكرسي فالذي نذهب إليه فيه ، أنه العلم . روي ذلك عن العالم الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام ، قال :

« وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ » (1) يعني علمه . (2)

وقد روي أيضا في التفسير من طريق العامة عن ابن عباس ومجاهد ، والضحاك وغيرهم.

ومعنى الكلام دال عليه ، وأول الآبة تقتضيه ، لأن الله تعالى أخبر عن علمه فقال: « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ » البقرة: 255.

فوصل ذكر الكرسي بذكر العلم على طريق الوصف له ، والإبانة عنه . فكان كقوله في موضع آخر: «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ». (3)

فإن قيل: ما معنى رفعكم أيديكم نحو السماء في الدعاء ، وما معنى قوله سبحانه : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » فاطر: 10.

قلنا: الجواب عن ذلك ، أنا إنما رفعنا أيدينا نسترزق من السماء ، لقوله تعالى : «وَفِي السَّماءِ رِزقُكُم وَمَا تُوعَدُونَ » الذاريات: 22.

وإنما جاز أن يقال: إن الأعمال تصعد إلى الله تعالى ، لأن الملائكة الكرام حفظة الأعمال مسكنهم السماء .

وأيضا لأن السماء أشرف في الخلقة من الأرض ، فلذلك تعرض الأعمال فيها على الله سبحانه ، وبالتوجه إليها دعي الله تعالى . وكل ذلك اتساع في الكلام ، وليس فيه ما يوجب أن يكون الله سبحانه على الحقيقة في السماء .

ونحن نرى المسلمين يقولون للحجاج، هؤلاء زوار الله ، وإنما هن زوار بيت الله.

فإن قيل: فكيف هو؟

ص: 106


1- سورة البقرة: 255.
2- انظر : توحيد الصدوق ص 340.
3- فاطر : 7

فالجواب أن (کیف) استفهام عن حال ، والله لا تناله الأحوال. والذي ساق إليه الدليل هو العلم بوجوده سبحانه ، وأنه لا شبيه له.

جاء في الحديث أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، كان يقول إذا سبح الله تعالي ومجده:

« سبحانه من إذا تناهت العقول في وصفه كانت حائرة عن درك السبيل إليه ، وتبارك من إذا غرقت الفطن في تكييفه لم يكن لها طريق إليه غير الدلالة عليه .

- فصل -

في ذكر العلم وأهله ووصف شرفه وفضله والحث عليه والأدب فيه .

قال الله عز وجل:

« إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ » فاطر: 28.

وقال سبحانه:

« قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » الزمر: 9.

وقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.

وقال : العلم علمان : علم في القلب ، فذلك العلم النافع ، وعلم في اللسان فذلك

حجة على العباد .

وقال: العلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان .

وقال :

أربع تلزم كل ذي حجي من أمتي.

ثيل: وما هن یا رسول الله ؟

فقال : استماع العالم , وحفظه، والعمل به، ونشره.

وقال:

العلم خزائن، ومفتاحها السؤال. فسألوا يرحمكم الله ، فإنه يؤجر فيه أربعة : السائل، والمجيب، والمستمع، والمحب لهم.

ص: 107

وقال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .

وقال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم ، إتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فافتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.

وقال: من أراد في العلم رشدا فلم يزدد في الدنيا زهدا ، لم يزدد من الله إلا بعدا.

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام):

تعلموا العلم، فإن تعليمه حسنة، وطلبه عبادة ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، لأنه علم الحلال والحرام، وسبل منازل الجنة ، والأنيس في الوحشة ، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزينة عند الإخلاء ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم للخير قادة وأئمة ، تقتص آثارهم ويقتدي بفعالهم ، وينتهي إلى رأيهم. ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس ، لأن العلم حياة القلوب، ومصابيح الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف، ويبلغ بالعباد منازل الأخبار والدرجات العلى ، وبه توصل الأرحام ، ويعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل ، والعمل تابع له ، يلهمه الله أنفس السعداء ويحرمه الأشقياء .(1).

وقال:

الكلمة من الحكمة يسمع بها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة .

وقال:

تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء .

وقال:

شكر العالم على علمه أن يبذله لمن يستحقه.

وقال:

لا راحة في العيش إلا لعالم ناطق أو مستمع واع.

ص: 108


1- تجده في البحار ج 1 ص 166 کا رواه في ص 171 عن أمالي الطوسي بسنده عن علي (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه واله) بزيادة واختلاف يسبر . رواه عن أمالي الصدوق بسنده المنتهي إلى ابن نباتة .

وقال:

أغد عالما أو متعلما ولا تكن الثالث فتعطب .

وقال:

إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع .

وقال :

لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه ،

ولكنهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله وهانوا على الناس.

وقال:

العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنحو للسان والنجوم لمعرفة الأزمان.

وقال الباقر (علیه السلام):

عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد .

وقال :

من أفتي الناس بغير علم ولا هدى، لعنته ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه.

وقال الصادق (علیه السلام):

تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعرابا ، فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملا .

وقال:

العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ، لا تزيده سرعة السير إلا بعدها.

وقيل لبعض الحكماء : أيحس بالشيخ التعلم ؟

فقال : إن كان الجهالة تقبح منه فإن التعلم يحسن منه .

وقيل له : متى يحسن له التعلم ؟

فقال : ما حسنت به الحياة.

وقيل لبزرجمهر : العلم أفضل أم المال ؟

ص: 109

فقال : العلم. قيل له : فما بالنا نري العلماء علي أبواب الأغنياء ولا نکاد نري الأغنياء علي أبواب العلماء ؟

فقال : ذلک لمعرفتة العلماء منفعة المال ،و جهل الأغنياء بفضل العلم .

لبعضهم :

العلم زين و تشريف لصاحبه *** فا طلب -هديت- فنون العلم والأدبا

لا خير فيمن له أصل بلا أدب *** حتي يکون علي ما زانه حربا

کم من حسيب أخي عي وطمطمة *** فدم لدي القوم معروف اذا انتسبا

وخامل مقرف الآباء ذي ادب *** نال المعالي به والمال والنشبا

المقرف الذي تکون أمة کريمة و أبوه غير کريم .

يا طلب العلم نعم الشيء تطلبه *** لا تعدلن به ورقا ولا ذهبا

فالعلم ذکر و کنز لا يعادله *** نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا

قال الزجاجي (1) :

الهجين الذي يکون أبوه کريما و أمه غير کريمة *** والقلنفس الذي يکون أبوه و أمه غير کريمين.

وقد تقدم ذکر المقرف .

و حدثوا عن ابن جريح (2) انه قال :

خرجت في السحر فإذا ورقة تضربها الرياح ،فأخذتها فلما أضاء الصبح نظرت إليها فإذا فيها .

کن معسرا ان شئت أو موسرا *** لا بد في الدنيا من الهم

و کلما زادک من نعمة *** زاد الذي زادک في الغم

إني رأيت الناس في دهرنا *** لا يطلبون العلم للعلم

إلا مباراة لأصحابه *** وعدة للظلم والغشم

ص: 110


1- هو ابوالقاسم عبد الرحمن بن إسحاق العسمري الأصل ،البغدادي الإشتغال الشامي المسکن و الخاتمة ، أخذ عن أبي إسحاق ابراهيم بن السري بن سهل الزجاج النحوي حتي برع في النحو يقال له الزجاجي نسبة إلي استاذه الزجاج له مولفات توفي بطبرية سنة 339 ه- .
2- لم دعثر له علي ترجمة .

قال ابن جریح : فوالله لقد منعتني هذه الأبيات من أشياء كثيرة .

- مسألة -

إن سأل سائل فقال: ما وجه التكرار في سورة الكافرون ، وإعادة النفي فيها في جملة بعد جملة ، وقد كان يغني ذلك مرة واحدة ؟؟

الجواب

قد أجاب الناس عن هذه المسألة بعدة أجوبة :

ونحن نورد منها أحسنها وأكثرها فائدة.

وأحسنها ما تضمن المعاني المختلفة حتى يكون المستفاد من النفي في الجملة الأولى غير المستفاد من النفي في الجملة الثانية.

وهذا يبطل التكرار، ويبقى للسائل بقية في السؤال.

فأعرب ما يجاب به فيها ، أن لفظه (أعبد) تصلح في الكلام لشيئين مختلفين:

أحدها أن يكون بمعنى أذل وأخضع وأخشع، وهذا من العبادة، وهو مستعمل معهود ، لا يفتقر فيه إلى دليل.

وثانيهما أن يكون (أعبد) بمعنى أجحد ، وهو من العبود الذي هو الجحود . وأهل اللغة يعرفون ذلك ، يقول القائل : عبدني فلان حقي، يريد جحدني حقي ، قال الشاعر :

فلو سألت قريشا من يؤممهم *** ما ميلوا ذاك عن قومی ولا عبدوا

يعني: ولا جحدوا.

وعلى هذا المعنى ما روي عن أحد الأئمة صلوات الله عليهم في تفسير قوله تعالى:

« قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ » الزخرف: 81

نجد الكلام على ذلك في كتاب الأمالي للمرتضی ج (1) ص 120 - 123.

ص: 111

وأن معناه: فأنا أول الجاحدين ، وذلك أن الدليل قد اتضح على أن من كان له ولد لا يكون إلا محدثا ، والمحدث لا يكون إلها.

فقوله الله عز وجل في الجملة الأولى : (لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد)، إنما معناه: لا أذل ولا أخضع لأصنامكم التي تفعلون هذا لها، ولا أنتم فاعلوه أيضا لالهي الذي أنا فاعله له.

وقول جل اسمه في الجملة الثانية: « ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد » إنما معناه: ولا أنا جاحد لله تعالى الذي جحدتموه ، ولا أنتم جاحدون للأصنام التي أنا جاحدها.

فقد تضمنت الجملتان فائدتين مختلفتين ، وبان انتظام الكلام بغیر تکرار .

جواب آخر:

وهو أن يكون المراد بلفظه (أعبد) في الجملة الأولى ، الزمان الحاضر ، فكأنه قال: لا أعبد الآن ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الآن ما أعبد .

ويكون المراد بها في الجملة الثانية الزمان المستقبل ، فكأنه قال : ولا أناعابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد .

فلفظة أعبد على هذا الجواب ، وإن كانت في الجملتين بمعنى واحد، وهو العبادة، فقد اختلفت ما يراد بها من الزمان المختلف، ولا شك في أن لفظة (أفعل) تصلح للزمانين الحاضر والمستقبل. وفي هذين الجوابين غني وكفاية ، والحمد لله.

واعلم أنه يجب أن يكون السؤال على هذا مختصا بخطاب من المعلوم من حالة انه لا يؤمن.

وقد ذكر أنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين ، وهم العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة، ولأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث ، وعدي بن قيس ، ولم يؤمن منهم أحد.

ص: 112

فإن قال: فما معنى قوله في السورة: (لكم دينكم ولي ديني). وظاهر هذا الكلام يقتضي أباحتهم المقام على أديانهم ؟؟

قلنا: إن ظاهر الكلام وإن كان ظاهر الإباحة ، فإن المراد به الوعيد والمبالغة في الزجر والتهديد ، كما قال تعالى (اعملوا ما شئتم). وقال « اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ».

وقد قيل: إن المعنى فيه ، لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني، فحذف الجزاء من اللفظ لدلالة الكلام عليه.

وقيل: إن الجزاء نفسه يسمى دينا ، قال الشاعر :

إذا ما لقونا لقيناهم *** ودناهم مثلما يقرضونا

أراد جزيناهم ، فيكون المعنى في قوله: (لم دینکم ولي دين) أي لكم جزاؤكم، ولي جزائي.

- مسألة -

فإن قال السائل : في وجه التكرار في سورة الرحمن، وإعادته مع كل آية : (فبأي آلاء ربکما تکذبان).

الجواب:

قلنا : إنما حسن هذا التكرار للتقرير بالنعم المختلفة ، وتعديدها نعمة بعد نعمة أنعم بها قرر عليها ووبخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك المال ، ألم أحسن إليك بأن أمنتك من المكارة، ألم أحسن إليك بأن فعلت كذا وكذا. فيحسن منه التكرار لإختلاف ما قرر به ، وهذا كثير في الكلام ، مستعمل بين الناس.

وهذا الجواب عن وجه التكرار في - سورة المرسلات في قوله : (ويل يومئذ للمكذبين ).

فإن قيل: إذا كان الذي حسن التكرار في سورة الرحمن ما عدده من الآلاء، فقد عدد في جملة ذلك ما ليس بنعمة ، وهو قوله « يرسل علیکما شواظر

ص: 113

من نار ونحاس فلا تنتظران ». وقوله تعالى « هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ». فكيف يحسن أن يقول بعد هذا ، « فبأي آلاء ربکما تکذبان »؟؟

قلنا: الوجه في ذلك أن فعل العقاب وإن لم يكن نعمة ، فذكره ووصفه والانذار به من أكبر النعم، لأن في ذلك زجرا عما يستحق به العقاب ، وبعثا على ما يستوجب به الثواب.

وإنما أشار تعالى بقوله: « فبأي آلاء ربکما تکذبان» بعد ذكر جهنم والعذاب فيها إلى إنعامه بذكر وصفها والإنذار بها. والتخويف منها ، ولا شك في أن هذا في النعم التي يجب الاعتراف بها والشكر عليها ..(1).

کتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان

وما عملته كتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان علیه وعلى آبائه أفضل السلام، وبیان جواز تطاول الأعمار .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما هدى ، وصلاته على من اصطفی سیدنا محمد ورسوله المجتبی، وآله أئمة الهدى.

ذكرت يا أخي - أيدك الله - أنك رأيت جماعة من المخالفين ، يعتمدون في إنكار وجود صاحب الزمان صلى الله عليه ، على ما يقتضيه تاريخ مولده ، من تطاول عمره على القدر المعهود ، ويقولون : إذا كان مولده عندكم في سنة خمس و خمسين ومائین، فله إلى سنتنا هذه، وهي سنة سبع وعشرين وأربعماية ، مأتان واثنتان وسبعون سنة.

ص: 114


1- نجد الكلام على تكرار الآية المذكورة في الأمالي ج (1) ص 123 - 127.

ولسنا نرى الأعمار تتناهي إلى أكثر من مائة وعشرين سنة ، بل لا نرى أحدا يلحق عمره هذا القدر اليوم.

ويزعمون أن هذه الزيادة على الماية والعشرين دلالة على بطلان ما نذهب إليه.

وسألت في إيراد كلام عليهم يوهي عمدتهم ويبطل شبهتهم ، ويكون أصلا في يدك ، يتمسك به المستند إليك.

وأنا مجيبك إلى ما سألت ، وأبلغك منها ما طلبت بعون الله وحسن توفيقه .

اعلم ، أولا أنه إذا وجبت الإمامة ووضحت الأدلة على اختصاصها بأئمتنا الأثني عشر (علیه السلام) دون جميع الأمة ، فلا منصرف عن القول بطول عمر إمامنا وصاحب زماننا (صلی الله علیه واله) ، لأن الزمان لا يخلو من إمام، وقد مضى آباء صاحب الزمان بلا خلاف، ولم يبق من يستحق الإمامة سواه.

فإن لم يكن عمره ممتدا من وقت أبيه إلى أن يظهره الله سبحانه ، حصل الزمان خاليا من إمام. وهذا دليل مبني على ما قدمناه .

وبعد ذلك فإنه لا يصلح أن يكلمك في طول عمره من لا يقر بشريعته .

فأما من أقر بها، وأنكر تراخي الأعمار وطولها ، فإن القرآن يخصمه بما تضمنه من الخبر عن طول عمر نوح عليه السلام ، قال الله تعالی :

« فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا » العنكبوت: 14

ولا طريق إلى الإنصراف عن ظاهر القرآن إلا ببرهان.

وقد أجمع المسلمون على بقاء الخضر (علیه السلام) من قبل زمان موسی (علیه السلام) إلى الآن، وأن حياته متصلة إلى آخر الزمان ، وما أجمع عليه المسلمون فلا سبيل إلى دفعه بحال من الأحوال.

فإن قال الخصم: هذان نبیان، ويجوز أن يكون طول أعمارهما معجزا لها وكرامة

يميزان بها عن الأنام، ولا يصح أن يكون هذا العجز والإكرام إلا الأنبياء (علیه السلام).

ص: 115

فقل له: يفسد هذا عليك بما استقر عليه الاتفاق ، من بقاء إبليس اللعين من عهد آدم (علیه السلام) وقبل ذاك إلى الآن، وأنه سيبقى إلى الوقت المعلوم كما نطق به القرآن ، وليس ذلك معجزا له ولا على سببل الإكرام.

وإذا اشترك الولي والعدو في طول العمر ، علم أن السبب في ذلك غير ما ذكرت، وأنه لمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى دون العباد .

فإن أنكر الخصم إبليس وبقاءه خرج عن ظاهر الشريعة ودفع إجماع الأئمة. وإن تأول ذلك طولب على صحة تأويله بالحجة.

ولو سلمت له طول العمر معجزا للمعمر وإكراما ، ولم يذكر له إبليس و طول عمره على ممر الأزمان ، كان لك أن تقول: إن حكم الإمام عندنا كحكم النبي في الاحتجاج وجواز ظهور العجز والإكرام بما يتميز به عن الأنام، فليس بمنكر أن يطيل الله تعالى عمره على سبيل المعجز والإكرام.

وأعلم- أيدك الله - أن المخالفين لك في جواز امتداد الأعمار ممن يقر بالإسلام لا يكلمونك إلا بكلام مستعاد.

فمنهم من ينطق بلسان الفلاسفة ، فيقول : إن طول العمر من المستحيل في

العقول الذي لم يثبت على جوازه دلیل.

ومنهم من ينطق بلسان المنجمين ، فيقول : إن الكواكب لا تعطي أحدا من العمر أكثر من مائة وعشرين سنة ، ولهم هذيان طويل.

ومنهم من ينطق بلسان الأطباء وأصحاب الطبائع ، فيقول : إن العمر الطبيعي هو مائة وعشرون سنة ، فإذا انتهى الحي إليها فقد بلغ غاية ما يمكن فيه صحة الطباع وسلامتها، وليس بعد بلوغ غاية السلامة إلا ضدها .

وليس على يد أحد منهم إلا الدعوى، ولا يستند إلا إلى العصبية والهوى، فإذا عضهم الحجاج رجعوا أجمعين إلى الشاهد المعتاد ، فقالوا إنا لم نر أحدا تجاوز في العمر إلى هذا القدر ، ولا طريق لنا إلى إثبات ما لم نر .

وهذا الذي جرت به العادة ، والعادة أصح دلالة.

وجميعهم خارجون عن حكم الملة ، مخالفون لما اتفقت عليه الأمة ، ولما سلف

ص: 116

أيضا من الشرائع المتقدمة، لأن أهل الملل كلها متفقون على جواز امتداد الأعمار وطولها ، وقد تضمنت التوراة من الأخبار بذلك ما ليس بينهم فيه منازع.

وفيها أن آدم (علیه السلام) عاش تسعماية وثلاثين سنة .

وعاش شيث تسعماية واثنتي عشرة سنة.

وعاش أنوش تسعماية وخمسا وستين سنة.

وعاش قینان تسعماية سنة وعشر سنين.

وعاش مهلائيل ثمانماية وخمسا وتسعين سنة .

وعاش برد تسعمائة واثنين وستين سنة.

وعاش اخنوخ وهو إدريس . تسعمائة وخمسا وستين سنة .

وعاش متوشلح تسعمائة وتسعا وستين سنة .

وعاش ملك سبعمائة وسبعا وستين سنة.

وعاش نوح تسعماية وخمسين سنة .

وعاش سام ستماية سنة.

وعاش أرفخشاد أربعماية وثماني وتسعين سنة .

وعاش شالخ أربعمائة وثلاثا وتعسين سنة.

وعاش غابر ثمانمائة وسبعين سنة.

وعاش فالخ مأتين وتسعا وتسعين سنة .

وعاش ارغو مأتين وستين سنة.

وعاش باحور ماية وستا وأربعين سنة .

وعاش تارخ ماتين وثمانين سنة.

وعاش إبراهيم مائة وخمسا وسبعين سنة .

وعاش إسماعيل ماية وسبعا وثلاثين سنة.

وعاش اسحاق ماية وثمانين سنة .

فهذا ما تضمنته التوراة مما ليس بين اليهود والنصاري اختلاف.

وقد تضمنت نظيرة شريعة الإسلام، ولم نجد أحدا من علماء المسلمين يخالفه

ص: 117

أو يعتقد فيه البطلان، بل أجمعوا من جواز طول الأعمار على ما ذكرناه .

والمستدل يعلم جواز ذلك في العقل إذا أنعم الاستدلال، والاخبار قد تناصرت في قوم عمروا في قريب الزمان ، سوف أذكر جماعة منهم ، ليتأكد البيان، وليس المنازعة لنا بعد ذلك من ذي بصيرة وعرفان.

فإن قال قائل : إن الأعمار قد كانت يتطاول في سالف الدهر، ثم تناقضت عصرا بعد عصر حتى انتهت إلى ما نراه مما لا يجوز اليوم سواه.

قيل له: إن العاقل يعلم أن الزمان لا تأثير له في الأعمار ، وأن زيادتها ونقصانها من فعل قادر مختار يغيرها في الأوقات بحسب مما يراه من الصلاح.

ولسنا ننكر أن الله سبحانه قد أجرى اليوم بأقدار متقاربة في الأعمار، يخالف ما كان في متقدم الزمان ، غير أن هذا لا يحيل طول عمر بعض الناس ، إذا كان ذلك ممكنا من القادر المعطي للأعمار .

وقد ذكرنا أن الأخبار قد أتت بذكر المعمرين ، كانوا في قريب الزمان ، فلا طريق إلى دفع ما ذكرناه مع هذا الإيضاح .

وأما الذين استعاروا كلام الفلاسفة من المخالفين لنا في هذه المسألة ، وقولهم في العمر من المستحيل في العقول، فإنهم لم يعولوا في العلم بذلك على ضرورة يشاركهم العقلاء فيها . وإذا عدموا الضرورة فلا بد من حجة عقلية يطالبون بإيرادها ، ولا حجة معهم ينطقون بها، ولا عمدة لهم أكثر من الهوى والرجوع إلى ما يشاهد ويري. والهوى مضلة ، والإنكار لما لم يشاهد مزلة . وليس من موحد ولا ملحد إلا وهو يثبت ما لا يرى ويقر بما لم يشاهد.

فالموحد يقر بالله والملائكة وطول أعمارها ، ولم نر شيئا منها ، (...) (1).

والملحدة قد تقر بوجود جواهر بسيطة لا تجوز عليها الرؤية ، وتدعي أيضا وجود عقل (...) (2) لم ترهما، ولا رأت (...) (3) فضلا عنها.

ص: 118


1- في هذه الفراغات كلات غير واضحة.
2- في هذه الفراغات كلات غير واضحة.
3- في هذه الفراغات كلات غير واضحة.

وكل فرقة تدعي وجود أشياء لم تر. فمن زعم أنه لا يثبت إلا ما شاهد ورأى فقد أفسد على نفسه من مذهبه.

وهؤلاء في العمر ولا يدرون ما هو. والعمر هو اتصال كون الحي المحدود حيا. فهذا الاتصال إنما يكون بدوام الحياة ، والحياة فعل الله تعالى. فلیس يستحيل منه إدامتها، وكل ما جاز أن يفعله الله تعالى من طول العمر ، فإنه يجوز أن يفعل مثله في دوام الصحة والقوة وعدم الضعف والهرم.

وأما الذين استعاروا كلام المنجمين من المنازعين لنا في جواز طول العمر ، فإنهم يعتمدون الظنون دون اليقين.

والعقلاء يعلمون أن أصول المنجمين في الأحكام لا يثبت بالنظر والدليل، وبينهم من التحارب فيها والاختلاف ما لا يخفى على المتأمل .

إني وجدت في كتاب أحد علمائهم ، وهو الكتاب المعروف بابا لابن هبلى (1) في حكاية ذكرها عن معلمهم المقدم واستاذهم المفضل الذي يعولون (عليه) في الأحكام، ويستندون إلى كلامه وما يدعيه ، وهو المعروف (ما شاء الله) (2) أنا موردها ، ففيها أكبر حجة عليهم في هذه المسألة التي خالفونا فيها .

قال ما شاء الله :

الباب الأعظم من الهيلاج الذي يدل على العمر الكثير فإنه يكون المولود

ص: 119


1- هو على الظاهر تحريف عن ابن هبتني أو هبنته ، وهو منجم نصراني عاش في بغداد وألف كتابة في التجيم أسماء المغني بعد سنة 330ه - 941م، وكان الجزء التاني مه لا يزال محفوظا في مكتبة مونيخ، وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون مع اسم ابن هبنتة محرفا انظر (دائرة المعارف اللبنانية. ج 7 ص 117)
2- هو منجم يهودي واسمه میشی بن أبري، كان في زمن المنصور وعاش إلى أيام الأمون، وكان أوحد أهل زمانه في الأخبار بأمور الحدثان وله سهم قوي في سهم الغيب ، لقيه سفيان الثوري فقال له: أنت تخاف زحل وأنا أخاف رب زحل، وأنت ترجوا المشتري وأنا أرجو رب المشتري ، وأنت تند و بالاستشارة وأنا أغدو بالاستخارة فكم بيننا، فقال له ما شاء الله : كثير ما بيننا، حالك أرجى وأمرك أنجح وأحجي. له عدة مؤلفات أنظر (اخبار الحكماء ص 214).

في مثلثة إلى مثلثة وطالعه ثبوت أحد الكوكبين العلويين : زحل والمشتري ، وصاحب الطالع الكذ خذاه ، فإن كان المولود ليليا ، والهيلاج القمر ، فإن كان فوق الشمس في برج ، انثى ، وإن كان نهاريا فيكون الشمس في برج ذکر ، فإنه حينئذ يدل على بقاء المولود بإذن الله تعالى حتى يتحول القران عن مثلثة إلى أخرى، وذلك مائتان وأربعون سنة.

فأما في الزمن الأول فإن مثل هذه الدلالة كانت تدل على بقائه حتى يعود القران إلى مكانه ، وذلك بعد تسعماية وخمسين سنة. والله أعلم »

فما يقولون في كلام عالمهم (ما شاء الله)، وقد أوضح بتخصيصه في الدلالة الزمن الأول بتسعماية وخمسين سنة، أن مراده بالمأتين والأربعين من هذا الزمان ، وهو شاهد لنا على هؤلاء المعاندين المنكرين للحق الواضح البرهان .

وأما الذين اعتمدوا بكلام الأطباء وأصحاب الطبائع من قولهم : أن غاية العمر (في) الطبيعة ماية وعشرون سنة ، فإنهم لم يعتمدوا على حجة ، ولا تشبثوا بشبهة، وليس في أيديهم أكثر من دعواهم ، تبين لك بطلان مقالتهم ، أن الطبائع أعراض ، والأعراض لا يصح منها في الحقيقة أفعال ، وإنما يفعل القادر المختار . والطبائع أيضا فعل الله تعالى ، وهو الذي ارتكبها في الإنسان. فكما جاز منه أن يجعلها كلها صحيحة معتدلة مدة من الزمان، فهو قادر على أن يجعلها كذلك أضعاف تلك المدة ، فيطول عمر الإنسان ، وليس يستحيل ذلك في عقل ذي بصيرة وعرفان.

وأما المعتمدون في ذلك على العادات، فإنه (لا) حجة في أيديهم من قبل أن

العادات قد تختلف بإختلاف الأوقات وباختلاف الناس أيضا والاصقاع .

وقد سمعت من جماعة من الناس أن بلاد السند من البلاد التي تطول فيها الأعمار .

ورأيت بالرملة في جمادي الاخرة من سنة اثنتي عشرة وأربعماية شريفا من أهل السند يعرف بأبي القاسم عيسى بن علي العمري من ولد عمر ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وسألته عن ذلك؟ فقال لي هو صحيح.

ص: 120

وذكر أن الهرم عندهم قليل ، وحدثني أن ببلاد السند عندهم رجلا شريفا عمريا، وهو أمير من أمرائهم ، انه عاش (من) أن فارقه ماية وستين سنة.

قال : وهذا الشريف هو العباس بن علي بن عمر بن أحمد بن حمزة بن جعفر ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (علیه السلام).

وليس يشك العاقل في أن العادات بيد الله تعالى ، وانه يصح منه تغييرها على التدريج (أو) خرقها . وقد تناثرت الأخبار القاطعة للأعذار بحال المعمرين الذين كانوا فيما بعد وقرب من الناس ، وروى حديثهم وأشعارهم ومبلغ أعمارهم وأخبارهم أصحاب السير والآثار ، حتى جرى ذلك مجرى ما تعلق من الحوادث في الأزمان والوقائع وأخبار البلدان ، واشترك في العلم العلماء ، وحصل المنكر له كالمنكر لما سواه مما تواترت به الأخبار، وقبح في مثله الانکار ، ولو اقتصر المستدل في جواز طول العمر على هذا الوجه لأغناه من الإطالة والإكثار .

- أخبار المعمرين -

فمن المعمرين الخضر (علیه السلام) المتصل بقاؤه إلى آخر الزمان ، ومما جاء من حديثه أن آدم (علیه السلام) لما حضره الموت جمع بينه فقال:

يا بني إن الله تبارك وتعالى منزل على أهل الأرض عذابا ، فليكن جسدي معكم في المغارة، فإذا هبطتم فابعثوا بي فادفنوني بأرض الشام، فكان جسده معهم ، فلما بعث الله نوحا (علیه السلام) ضم ذلك الجسد ، وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت الأرض زمانا ، فجاء نوح حتى نزل ببابل ، وأوصى بینه الثلاثة، وهم سام ويافث وحام، أن يذهبوا بجسده إلى المكان الذي أمرهم أن يدفنوه فيه : فقالوا: الأرض موحشة ، لا أنيس بها، ولا نهتدي الطريق، ولكن نكف حتى يأمن الناس ويكثروا وتأنس البلاد وتجف ، فقال لهم: إن آدم (علیه السلام) قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة ، فظل جسد آدم (علیه السلام) حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه ، وأنجز الله تعالى ما وعده وإلى ما شاء الله أن يحيي.

وهذا حديث قد رواه مشائخ الدين وثقات المسلمين.

ص: 121

و(لقان بن عاد) الكبير أطول الناس عمرا بعد الخضر (علیه السلام). وذلك أنه عاش ألفا وخمسماية سنة.

ويقال: أنه عاش عمر سبعة أنسر ، وأنه كان يأخذ فرخ النسر الذكر فيجعله في الجبل، فيعيش النسر ما عاش ، فإذا مات أخذ آخر فرباه ، حتى كان آخرها لبد ، وكان أطولها عمرا، فقيل: طال الأبد على لبد. ولما رأى هلاکه قال: يا لبد ، اهلكتني نفسك ،.

وفيه يقول الأعشى (1).

لنفسك أن تختار سبعة أنسر *** إذا ما مضى نسر خلوت إلى نسر

فعمر حتى خال أن نسوره *** خلود ، وهل تبقى النفوس على الدهر

وقال لأدناهن إذ حل ریشه *** هلكت وأهلكت ابن عاد وما تدري

وهو الذي أراده القائل بقوله : (2)

أخنى عليها الذي أخنى على لبد .(3)

ومنهم ربیع (4) بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عبس بن قزارة ، عاش ثلاثماية سنة وأربعين سنة، وأدرك النبي (صلی الله علیه واله) ولم يسلم ، وهو الذي يقول:

ص: 122


1- مرت ترجمته.
2- هو النابغة الذبياني .
3- أوله: اضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا *** أخنى عليها الذي أخنى على لد
4- تحد أخباره وشعره في أمالي المرتضی ج 1 ص 253 وما بعدها .

ألا أبلغ بني بني ربيع *** وأشرار البنين لكم فداء

بأني قد كبرت ودق عظمي *** فلا يشغلكم عني النساء

وإن كنائني لنساء صدق *** ولا ألي (1) بني ولا أساؤوا

إذا جاء الشتاء فادفنوني *** فإن الشيخ يهدمه الشتاء

وأما حين يذهب كل قر *** فسر بال خفيف أو رداء

إذا عاش الفتى مأتين عاما *** فقد ذهب اللذادة والفتاء

وهو القائل :

أصبح مني الشباب قد حسرا *** إن ينأ عني فقد ثوى عصرا

الأبيات (2)

ومنهم المستوغر (3) بن ربيعة بن كعب ، عاش ثلاثماية سنة وثلاثا وثلاثين سنة ، وهو الذي يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها *** وعمرت من بعد السنين مئینا

مأة أتت من بعدها مأتان لي *** وعمرت وأزددت من بعد الشهور سنینا (4)

ومنهم أكثم بن صفي الأسدي التميمي ، وكان حكيما مقدما ، ولم تكن العرب تفضل عليه أحدا ، عاش ثلاثماية سنة وثلاثين سنة، وهو الذي يقول:

وإن امرءا قد عاش تسعين حجة *** إلى ماية لم يسأم العيش جاهل

ص: 123


1- بتشديد اللام وهي بمعنی قصر وهي بالتخفيف قصر أيضا:
2- تجد الابيات في الأمالي ج (1) ص 255 - 256 و هي سبعة أبيات.
3- انظر : سيرة ابن هشام ج 1 ص 93 وتجد أخبار المعمرين في إكمال الدین ج 2 ص 266-246 وفي غيبة الطوسي ص 85 - 94 وأمالي المرتضی ج 1 ص 233 وما بعدها من الصفحات.
4- وبعد البيتين كما في الأمالي للمرتضى هذا البيت: هل ما بقي إلا كما قد فاتنا *** يوم يكر وليلة تحدونا

خليت ماتان بعد عشر وفازها (1) *** وذلك من عد الليالي قلائل

وكان ممن أدرك الإسلام وآمن بالنبي (صلی الله علیه واله)، ومات قبل أن يراه، وله أحاديث كثيرة، وحكم مأثورة.

فما روي من حديثه أنه لما سمع برسول الله (صلی الله علیه واله) ، بعث إليه بابنه، وأوصاه بوصية حسنة. وكتب معه كتابا يقول فيه:

باسمك اللهم ، من العبد إلى العبد ، فإنا بلغنا ما بلغك ، فقد أتانا عنك خبر ما ندري ما أصله ، فإن كنت أريت فأرنا، وإن كنت علمت فعلمنا ، وأشركنا في كنزك والسلام.

فكتب إليه رسول الله (صلی الله علیه واله):

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد رسول الله إلى أكتم بن صفي أحمد الله إليك ، إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله ، أقولها وآمر الناس بها ، الخلق خلق الله ، والأمر كله لله ، خلقهم وأماتهم، وهو ينشر هم ، وإليه المصير ، آذنتكم بآداب المرسلين ، ولتسئلن عن النبأ العظيم ، ولتعلمن نبأه بعد حين.

فلما وصل كتاب رسول الله (صلی الله علیه واله) إليه ، جمع بني تميم ، ووعظهم وحثهم على السير معه إليه ، وعرفهم وجوب ذلك عليهم، فلم يجيبوه، وعند ذلك سار إلى رسول الله (صلی الله علیه واله) وحده ، ولم يتبعه غير بنيه وبني بنيه ، فمات قبل أن يصل إليه.

وهو أكتم بن صيفي بن رباح بن (الحرث) بن مجاشر بن شريف (بن) جروة بن

اسد بن عمرو بن تميم بن مرة.

ص: 124


1- كذا في السحة وقد تكون الكلمة : فانها ، والخطأ من الناسح، وفي غيبة الطوسي ص 87 هكذا : خلت مأتان غير ست وأربع ومثله في إكمال الدين ص 530.

ومنهم صيفي بن رباح بن أكثم المذكور ، عاش مأتي سنة وسبعين سنة ، ولا ينكر من عقله شيء.

وزعم بعض الرواة أنه ذو الحلم الذي قال له المتلمس اليشكري:

الذي الحلم قبل [ اليوم ] (1) ما تقرع العصا *** وما علم الإنسان الا لیعلما

ومنهم صبيرة بن سعيد بن سهم بن عمرو ، عاش مأتي سنة وعشرين سنة ، ولم

يشب قط ، وأدرك ولم يسلم.

روى أبو حاتم والرياشي عن العتبي عن أبيه، قال: مات صبيرة السهمي وله ماتا سنة وعشرون سنة، وكان أسود الشعر ، صحیح الأسنان ، فرثاه ابن عمه قيس بن عدي فقال :

من يأمن الحدثان بع- *** د صبيرة السهمي ماتا

سبقت منيته المشيب *** وكان میتته افتلانا

فتزودوا لا تهلكوا *** من بين أهلكم خفاتا

ومنهم دويد (2) بن زيد بن نهد القضاعي ، عاش أربعماية ستة وستا وخمسين ،

فلما حضره الموت قال:

ألقي علي الدهر رجلا ويدا *** والدهر ما أصلح يوما أفسدا

يفسد ما أصلحه اليوم غدا

وقال أيضا :

يا رب هب صالح حويته *** واليوم يكفي لدريد بيته

ورب قرن [بطل] (3) أرديته *** ورب عبل خشن لديته

لو كان للدهر بلى أبليته *** أو كان قرني واحدا كفيته

ص: 125


1- التصحيح عن غيبة الطوسي ص 87
2- تجد أخباره في أمالي المرتضی ج (1) ص 236 - 237 .
3- النصحيح عن أمالي المرتضی ج 1 ص 237.

ومنهم دريد بن الصمة الجشمي ، عاش دهرا طويلا وسقط حاجباه على عینیه.

وقيل : إنه لم يتجاوز مأتي سنة ، وأدرك الإسلام فلم يسلم ، وشهد يوم حنين

(مع) هوازن، وقتل بها، وهو القائل لما كبر:

فإن يك رأسي كالنعمامة نسله *** يطیف (بي) الولدان أحدث (...)

رهينة قعر البيت كل عشية *** كأني أرقى أو أصوب في المهد

فمن بعد فضل من شباب وقوة *** وشعر أثبت حالك اللون مسود

ومنهم عمرو بن حممة الدوسي ، عاش أربعماية سنة ، وهو الذي يقول :

كبرت فطال العمر حتى كأني *** سليم أفاع ليله غير مودع

فما الموت أفناني ولكن تتابعت *** علي سنون من مصيف ومربع

ثلاث مئين قد مررن کواملا *** وها أنا هذا ارتجي مر أربع

فأصبحت مثل النسر حل جناحه *** إذا هم تطيارا يقال له: قع

قال أبو روق: حدثنا الرياشي عن عمرو بن بكير عن الهيثم بن عدي عن مجالد بن الشعبي قال: كنا عند ابن عباس في قبة زمزم، وهو يفتي الناس ، فقام إليه رجل فقال له : أفتيت أهل الفتوى ، فأنت أهل الشعر ، قال : قل ، قال : ما معنى قول الشاعر:

لذى الحلم قبل اليوم ما يقرع العصا *** و ما علم الإنسان إلا ليعلما

فقال: ذاك عمرو بن حممة الدوسي قضى على العرب ثلاثماية سنة، فلما ألزموه، وقد رأى السادس أو السابع من ولد ولده ، قال : إن فؤادي بضعة مني ، فربما تغير علي اليوم والليلة مرارا ، وأمثل ما أكون فيهما في صدر النهار ،

ص: 126

فإذا رأيتني قد تغيرت فاقرع العصا ، فكان إذا رأى منه تغيرا أقرع العصا فيراجعه فهمه ، فقال المتلمس (1) :

لذى الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا *** وما علم الإنسان إلا ليعلما

ومنهم زهير بن جناب بن عبد الله بن كنانة بن عوف القضاعي ،(2) عاش أربعماية سنة وعشرين سنة (3) ، وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه ، وكان يقال : إنه كانت له عشر خصال لم يجتمعن في غيره عن أهل زمانه ، كان سيد قومه ، وخطيبهم، وشاعرهم ، وحكيمهم، ووافدهم إلى الملوك ، وطبيبهم - والطب في ذلك الوقت شرف- وكاهن قومه ، وفارسهم ، وله البيت فيهم ، وله العدد منهم .

ومنهم الحرث بن مضاض الجرهمي ... إسماعيل (علیه السلام)، من ولد جرهم الأكبر ، وجرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ، وهو القائل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى، نحن كنا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي والحدود العوائر

وهي قصيدة طويلة قد رواها الناس.

ومنهم عامر بن الظرب العدواني ،(4) عاش مأتي سنة، وكان من حكماء العرب، وفيه يقول ذو ذو الأصبع العدواني :

ومنا حكم يقضي *** فلا ينقض ما يقضي

ص: 127


1- هو جرير بن عبد المسيح أو (عبد العزي). شاعر جاهلي من شعراء البحرين مات سنة 580م والبيت من قصيدة يهجو بها عمرو بن هند ملك الحيرة أولها: يعيرني أمي رجال ولا أری *** أخا كرم إلا بأن يتكرما ومن كان ذا عرض کریم فلم يصن *** له حسبا كان اللئيم المذمما
2- أخباره في الأغاني ج 21 ص 148 - 160 وأمالي الشريف المرتضی ج (1) ص 238 وما بعدها.
3- في الأمالي : عاش ماتي سنة وعشرين سنة .
4- تجد أخباره في سيرة ابن هشام ج 1 ص 134.

ومنهم الحرث بن كعب المذحجي ، عاش ماية وستين سنة ، وله وصية حسنة القومه ، وكان على شريعة المسيح (علیه السلام)، وهو القائل :

أكلت شبابي فامضيته *** وأمضيت من بعد دهر دهورا

ثلاثة أهلين جاورتهم *** فبادوا وأصبحت شيخا كبيرا

قليل الطعام عسير القيام *** قد ترك الدهر خطوي قصيرا

أبيت وأرعى نجوم السماء *** أقلب أمري بطونا ظهورا .

ومنهم. الأفوه بن مالك الأودي (1)، عاش مأتين وثلاثين سنة ، وله وصية لقومه ، وقصيدته المشهورة عنه المعروفة (2) :

فينا معاشر لن يبنوا لقومهم *** وإن بني قومهم ما أفسدوا عادوا

لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم *** فالجهل منهم معا والغي ميعاد

أضحوا كفيل ابن عتر في عشيرته *** إذ أهلكت بالذي باءت به عاد

وبعده كقدار حين تابعه *** على الغواية أقوام فقد بادوا

والبيت لا يبتنى إلا له عمد *** ولا عماد إذا لم ترس أو تاد

وإن تجمع أوتاد وأعمدة *** وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا

إذا تولى سراة القوم أمرهم *** [نما] على ذاك أمر القوم فازدادوا

يلقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت *** فإن تولت فبالأشرار تنقاد

إمارة الغي أن نلقى الجميع لدى *** الأبرام (3)

كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر *** لهم عن الرشد اغلال وأقياد

أعطوا غواتهم جهلا مقادهم *** فكلهم في حبال الغي منقاد

حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا *** فيهم صلاح لمرتاد وإرشاد

فسوف اجعل بعد الأرض دونکم *** وإن دنت رحم منكم ومیلاد

ص: 128


1- هو صلاءة بن عمرو بن مالك ، والا فوه لقب ، كان من سادات العرب في الجاهلية ، وكان شاعرا فحلا وفارسا مغوارا ، وذا رأي وحزم ومات (سنة 570م).
2- في النسخة أغلاط كبيرة ونفص کلمات.
3- كلمات غير واضحة.

إن النجاة إذا ما كنت ذا بصر *** من .... أبعاد فأبعاد

وروي في قوله : (اضحوا کفیل بن عتر في عشيرته) إنهم كانوا وقد عادوا ، وأنهم خرجوا إلى البيت الحرام ليستسقوا لقومهم ، وكانوا قيل ، ولقمان ومريد وعارق ، فهم نزلوا على رجل من جرهم، فاشتغلوا عنده باللهو والطرب عن الاستسقاء، فما أفاقوا من لهوهم إلا وقد رفع الله تعالى على قومهم سحابة سوداء ، فهبت عليهم الريح العقيم فأهلكتهم ، وإن قيلا ضربه الصر فقتله ولحق بهم، وإن الثلاثة الباقين مروا فكان أطولهم عمرا لقمان بن عاد صاحب النسور ، وقد تقدم ذكره.

ومن المعمرين نضر بن دهمان بن سليم بن أشجع.

عاش ماية وتسعين سنة ، وعاوده شبابه ، وسواد شعره، وصحة عقله بعد ما مضي. وفيه يقول العباس بن مرداس السلمي:

لنضر بن ذهمان (الهنيدة) عاشها *** وتسعين حولا ثم قوم فانصاتا (1)

وعاد سواد الشعر بعد بیاضه *** وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا

وراجع عقلا بعد ما فات عقله *** ولكنه من بعد ذا كله ماتا

أتت .... الخيل من أرض حمير *** غرابيب دهما حالکات وكمتاتا

ومنهم أمية بن الاسكر الليثى .(2)

ذكر أنه عاش دهرا طويلا حتى صرت، فمر به غلام كان يرعى غنمه ، وهو يحثوا التراب على رأسه من الكبر ، فوقف ينظر إليه ، فلما أفاق أمية بصر بالغلام قائما ينظر إليه فأنشأ يقول:

ص: 129


1- فانصاتا أي استوت قامته .
2- أخباره مروية في الأغاني . أورد البيهقي منها ثلاثة أبيات .

أصبحت لهوة لراعي الضأن أعجبه *** ماذا يريبك مني راعي الضان

انعق بضانك في نجم تحضره *** من الأباطح واحبسها بحدان

انعق بضانك إني قدر رعيتهم *** بيض الوجوه بني عم وإخوان

أبني أمية ألا تحضرا کبري *** فإن عیشکما والموت سبان

إذ نركب الفرس الأحرى ثلاثتنا *** وإذ حدیثکما والعيش مثلان

وروي أن عمر بن الخطاب أخبر بخبر أمية ، فسأل عن ابنیه ، فقيل له : إن أحدهما بالبصرة، والآخر بالكوفة ، فأمر بأن يكتب فيهما بأن يردا إلى أبيهما .

وقال أمية يذكر ابنه كلابا (1)، وكان غائبا عنه.

تركت أباك مرعشة يداه *** وأمسك ما يسيغ لها شرابا

إذا هتفت حمامة بطن واد *** على إبكائها ذكرا كلابا

نمسح مهده شفقا عليه *** ونجنبه أباعرنا الصعابا (2)

ومنهم جعثم بن عوف بن خديجة عاش مأتين وخمسين سنة ، وقال:

حتى مني جعثم في الأحياء *** ليس بذي أيد ولا غناء

هیهات مسا للموت من دواء

ص: 130


1- وكلاب هو ابن امية وكان من خبار المسلمين قتل مع علي (علیه السلام) بصفين.
2- تجد هذه الأبيات في المحاسن والمساوىء ج 2 ص 361 فمن أبيات رواها البيهقی .

ومنهم أوس بن ربيعة بن کعب بن أمية الأسلمي. عاش مأتي سنة وأربع عشرة سنة ، وهو الذي يقول:

لقد عمرت حتى مل أهلي *** ثوائي عندهم وسئمت عمري

وحق لمن أتى مأتان عاما *** عليه وأربع من بعد عشر

يمل من الثواء وصح يوم *** يغادیه وليل بعد يسر

فأبلى جدتي وتركت شلوا *** وبحت بما يجن ضمير صدري

ومنهم كعب بن الردار بن هلال بن كعب.

عاش ثلاثماية سنة ، حتى مل من حياته فقال في ذلك:

لقد ملني الأدنى وأبغض رؤيتي *** وأبنائي كذا الا يحب كلامي

على الراحتين مرة وعلى العصا *** أكون مليا ما أقل عظامي

فياليتني قد سخن في الأرض قامة *** وليت طعامي كان فيه حمامي

ومنهم أنس بن نواس بن مالك ابن حبيش بن ربيعة

عاش دهرا طويلا، ونبتت أسنانه بعدما سقطت، فقال:

أصبحت من بعد البزول رباعيا *** وكيف الرباعي بعد ما عاشق بازله

ويوشك أن يلقي بنينا وإن بعد *** إلى جذع يثكل أخاكم ثواكله

إذا ما ثغرنا مرتين تقطعت *** حبال الصبا وانبت منها وسائله

ص: 131

ومنهم ثعلبة بن عبد بن کعب بن عبد الأشهل .

عاش مأتي سنة وثلاثا وثلاثين سنة، وهو جد الضحاك ، وهو القائل لما عمر :

لقد صاحبت أقواما فأمسوا *** خفاة لا يجاب لهم دعاء

وقوما بعدهم قد نادموني *** فأمسى موحشا منهم فناء

مضوا قصد السبيل وخلفوني *** فطال علي بعدهم التواء

فأصبحت الغداة رهين قبر *** وأخلفني من الموت الرجاء

ومنهم بحر بن الحارث بن امريء القيس الكلبي .

عاش ماية وخمسين سنة ، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وهو القائل :

من عاش خمسين عاما قبلها ماية *** من السنين وأضحى بعد ينتظر

وصار في البيت مثل الحلس مطرحا *** لا يستشار ولا يعطي ولا يذر

مل المعاش ومل الأقربون له *** طول الحياة، وشر العيشة الكبر.

ومن المعمرين ذو جدن الحميري

وكان ملكا يروى أنه عاش ثلاثماية سنة ، وهو القائل :

لكل جنب واقع مضطجع *** والموت لا ينفع منه الجزع

اليوم تجزون بأعمالكم *** وكل امرىء يحصد ما قد زرع

لو كان شيئا مفلتا حتفه *** أخلت منه في الجبال الصدع

ص: 132

له سماء وله أرضه *** يرفع من شاء ومن شاء وضع (1)

أخبار قس بن ساعدة الأيادي

ومن المعمر بن قس بن ساعدة الأيادي رحمه الله

عاش دهرا طويلا ، فروي أنه عاش ستماية سنة ، وروى أقل من ذلك .

وكان من عقلاء العرب وحكمائهم ، وهو أول من كتب من فلان بن فلان إلى فلان .

وهو أول من وحد الله تعالى ، وآمن به وأقر بعد له وحكمته ، وأنه خلق العباد وينشرهم بعد الممات.

وهو أول من قال: أما بعد، وأول من خطب بعصا ، وفيه يقول الأعشى قیس بن ثعلبة:

وأحكم من قس وأجرا من الذي *** بذي الفيل من خفان أصبح خادرا

ويقول الحطيئة :

وأقول من قس وأمضى إذا مضى *** من الريح إن مس النفوس نکالها

وقس الذي يقول:

هل الغيت معطي الأمن عند نزوله *** بحال مسي في الأمور ومحسن

وما قد تولى وهو (قد) فات ذاهب *** فهل ينفعني ليتني ولو أنني

وكذلك يقول لبيد :

وأخلف قسا ليتني ولو أنني *** وأعي على لقمان حكم التدبر

وكان قس أحسن الناس في زمانه عبادة ، وأفصحهم خطابة وأبلغهم عظة .

ص: 133


1- أنظر : اخباره في الأغاني ج 4 ص 67- 70، وفي سيرة ابن هشام .

وكان كثيرا ما يذكر رسول الله (صلی الله علیه واله)، ويبشر الناس به ، وآمن به قبل مبعثه .

وكان النبي (صلی الله علیه واله) يستعلم اخباره، ويستعيد من الناس مواعظه، ويترحم عليه ، ويقول: إن قسا أمة وحده

خبر قس وما قاله بسوق عكاظ

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني بمدينة الرملة في سنة عشرة وأربعماية ، قال حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن موسی بن إبراهيم البارسيري الحنظلي ، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد من ولد عمر بن الخطاب عن جعفر بن محمد عن محمد بن حسان عن محمد بن الحجاج اللخمي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال:

لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله (صلی الله علیه واله) قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة الأيادي؟ قالوا: كلنا نعرفه یا رسول الله.

قال: لست أنساه بعكاظ على جمل أحمر يخطب الناس وهو يقول :

أيها الناس اجتمعوا ، فإذا اجتمعتم فاسمعوا ، فإذا سمعتم فعوا ، قال وعيتم فقولوا : فإذا قلتم فاصدقوا:

من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبراء وإن في الأرض لعبرا.

مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور ، أقسم قس بالله قسما حقا ، لا كاذبا فيه ولا آثما ، إن كان في الأرض رضا ليكونن سخط ، إن الله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.

ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا.

ثم قال: أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه:

ص: 134

في الذاهبين الأولين *** من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا *** للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها *** يسعى الاصاغر والاكابر

لا يرجع الماضي ولا *** يبقى من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة *** حيث صار القوم صائر (1)

وروى أن رجلا حدث رسول الله (صلی الله علیه واله) فقال في حديثه.

خرجت في طلب بعير لي ضل ، فوجدته في ظل شجرة ينهش من ورقها ، فدنوت منه ، فزممته واستويت على کوره ، ثم اقتحمت واديا ، فإذا أنا بعين خرارة ،وروضة مدهامة ، وشجرة عادية ، وإذا أنا بقس قائما بين قبرین ، قد اتخذ له بينهما مسجدا. قال فلما انفتل من صلاته ، قلت له : ما هذان القبران ؟ فقال : هذان قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل معي في هذا المكان ، فأنا أعبد الله بينهما إلى أن الحق بهما.

قال: ثم التفت إلى القبرين فجعل يبكي ، وهو يقول:

خليلي هبا طال ما قد رقدتكما *** أجدكما أم تقضیان كراكما

أرى خللا في العظم والجلد منكما *** كأن الذي يسقي العقار سقاكما

ألم تعلما أني بسمعان مفرد *** ومالي بسمعان حبیب سواكما

مقيم على قبریكما لست بارحا *** طوال الليالي أو يجيب صداكما

فلو جعلت نفس لنفس فداءها *** لجدت بنفسي أن أكون فداکما (2)

ص: 135


1- خطبة قس وشعره هذا رواه الجاحظ في البيان والنبيين ج 1 ص 247- 248 والمفيد في الأمالي (المجالس) ص 201- 202.
2- تجد هذا الخبر في المجالس المفيد ص 202 - 203 مختصرا. وفي سيرة ابن هشام ج 1 ص 13.

قال: فقلت له :م لا تلحق بقومك، فنكون معهم في خيرهم وشرهم ؟ فقال : ثكلتك أمك ، أما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم ، واتبعوا الأضداد ، وعظموا الأنداد .

قلت: وما هذه الصلاة التي لا تعرفها العرب؟

فقال : أصليها لإله السماء .

فقلت : وللمساء إله غير اللات والعزى ، فامتعظ وامتقع لونه وقال : إليك عني يا أخا أياد.

إن للسماء إلها هو الذي خلقها ، وبالكواكب زينها ، وبالقمر المنير أشرقها . أظلم ليلها ، وأضحى نهارها، وسوف تعمهم من هذه الرحمة ، وأوصي بيده نحو مكة ، برجل أبلج من ولد لويء بن غالب ، يقال له محمد ، يدعوا إلى كلمة الإخلاص، ما أظن أني ادرکه . ولو أدركت أيامه لصفقت بكفي على كفه ، وسعيت معه حيث يسعی.

فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : رحم الله أخي قسا ، بحشر يوم القيامة أمة وحده.

خبر آخر عن قس يذكر فيه رسول الله (صلی الله علیه واله) والأئمة (علیه السلام) من بعده .

أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن محمد السباط (1) البغدادي، قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي الجوهري الحافظ (2) ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن لاحق بن سابق ، قال حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلي ، قال: حدثني أبي عن الشرقي بن القطامي عن تميم بن وهلة المري، قال: حدثني الجارود بن المنذر العبدي (3) وكان نصرانيا فأسلم عام الحديبية (4)، وحسن إسلامه، وكان قارئا للكتب ، عالما بتأويلها على وجه الدهر وسالف العصر ، بصيرا بالفلسفة والطب ، ذا رأي أصيل ووجه جميل ، أنشأ يحدثنا في أيام عمر بن الخطاب ، قال:

ص: 136


1- تحد هذا الخبر في كتاب مقتضب الأثر لابن عباش الجوهري ص 36 - 37 ببعض الاختلاف.
2- تحد هذا الخبر في كتاب مقتضب الأثر لابن عباش الجوهري ص 36 - 37 ببعض الاختلاف.
3- هي مكان بعيد عن مكة المكرمة على بعد تسعة أمال مما يلى طرف الحرم، وفيه كان الموادعة بين رسول الله (صلی الله علیه واله) وبين المشركين وذلك في ذي العقدة من السنة السادسة للهجرة.
4- هي مكان بعيد عن مكة المكرمة على بعد تسعة أمال مما يلى طرف الحرم، وفيه كان الموادعة بين رسول الله (صلی الله علیه واله) وبين المشركين وذلك في ذي العقدة من السنة السادسة للهجرة.

وفدت على رسول الله (صلی الله علیه واله) في رجال من عبد القيس ، ذوي أحلام وأسنان وفصاحة وبيان وحجة وبرهان ، فلما بصروا به (صلی الله علیه واله) راعهم منظره ومحضره عن بيانهم، واعتراهم الرعداء في أبدانهم.

فقال زعيم القوم لي دونك من أممت بنا أمه ، فما نستطيع أن نكلمه .

فاستقدمت دونهم إليه ، فوقفت بين يديه ، فقلت سلام عليك يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ثم أنشأت أقول:

يا نبي الهدى أتتك رجال *** قطعت قرددا وإلا فالا

جابت البيد والمهامه حتى *** غالها من طوي السري ما غالا

قطعت دونك الصحاح تهوي *** لا تعد الكلال فيك كلالا

كل دهناء يقصر الطرف عنها *** أرقلتها قلاصنا إرقالا

وطوتها العتاق تجمح فيها *** بكماة مثل النجوم تلالا

ثم لما رأتك أحسن مرأى *** أفحمت عنك هيبة وجلالا

تتقي شر بأس يوم عصيب *** هائل أوجل القلوب وهالا

ونداء لمحشر الناس طرا *** وحسابا لمن تمادى ضلالا

نحو نور من الاله وبرهان *** وبر ونعمة لن تنالا

وأمان منه لدى الحشر والنشر *** إذ الخلق لا يطيق سؤالا

فلك الحوض والشفاعة والكو *** ثر والفضل إذ ينص السؤالا

خصك الله يا ابن آمتة الخير *** إذا ما بکت سجال سجالا

أنبأ الأولون باسمك فينا *** وباسماء بعده تتلالا

قال: فأقبل علي رسول الله (صلی الله علیه واله) ، بصفحة وجهة المبارك ، شمت منه ضياء لامعا ساطعا كوميض البرق ، فقال : يا جارود ، لقد تأخر بك وبقومك الموعد،. وقد كنت وعدته قبل عامي ذلك أن أفد إليه بقومی فلم آته ، وأتيته في عام الحديبية ، فقلت : ما كان إبطائي عنك إلا أن جلة قومي أبطأوا عن إجابتي ، حتى ساقها الله إليك لما أراد لها به من الخير لديك.

وأما من تأخر عنه فحظه فات منك ، فتلك أعظم حوبة ، وأكبر عقوبة ،

ص: 137

ولو كانوا من رآك لما تخلفوا عنك ، وكان عنده رجل لا أعرفه. قلت: ومن هو ؟ قالوا : هو سلمان الفارسي ذو البرهان العظيم والشأن القديم .

فقال سلمان: وكيف عرفته أخا عبد القيس من قبل إتيانه؟

فأقبلت على رسول الله (صلی الله علیه واله) وهو يتلألأ ويشرق وجهه نورا وسرورا ، فقلت یا رسول الله ، إن قسا كان ينتظر زمانك، ويتوكف إبانك ، ويهتف باسمك وأبيك وأمك ، وباسماء لست أصيبها معك ، ولا أراها فيمن اتبعك.

قال سلمان: فأخبرنا ، فأنشأت أحدثهم، ورسول الله (صلی الله علیه واله) يسمع ، والقوم سامعون واعون.

قلت : يا رسول الله ، لقد شهدت قسا وقد خرج من ناد من أندية أياد إلى صحصح ذي قتاد وسمر وعتاد، وهو مشتمل بنجاد، فوقف في اضحيان ليلي كالشمس رافعا إلى السماء وجهه واصبعه فدنوت منه فسمعته يقول:

اللهم رب هذه السبعة الأرقعة ، والأرضين الممرعة ، و بمحمد والثلاثة المحامدة معه ، والعليين الأربعة، وسبطية التبعة الأرفعة ، والسري الألمعة ، وسمي الكليم الضرعة، والحسن ذي الرفعة ، أولئك النقباء الشفعة ، والطريق المهيعة ، درسة الإنجيل وحفظة التنزيل على عدد النقباء ، من بني إسرائيل ، محاة الأضاليل ، نفاة الأباطيل ، الصادقو القيل، عليهم تقوم الساعة ، وبهم تنال الشفاعة ، ولهم من الله فرض الطاعة.

ثم قال : اللهم ليتني مدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحياي ، ثم أنشأ يقول : متى أنا قبل الموت للحق مدرك *** وإن كان لي من بعد هاتيك مهلك

وإن غالني الدهر الحرون بقوله *** فقد غال من قبلي ومن بعد يوشك

فلا غرو أني سالك مسلك الأولى *** وشيكا ومن ذا للردي ليس يسلك

ثم آب يكفكف دمعه ويرث رنين البكرة قد بريت ببراة وهو يقول:

أقسم قس قسما *** لیس به مکتتما

لو عاش ألفي عمر *** لم يلق منها سأما

حتى يلاقي أحمدا *** والنقباء الحكما

ص: 138

هم أوصياء أحمد *** أكرم من تحت السما

يعمي العباد عنهم *** وهم جلاء للعمی

لست بناس ذكرهم *** حتى أحل الرجما

ثم قلت: يا رسول الله أنبئني أنبأك الله - بخبر عن هذه الأسماء التي لم نشهدها ، وأشهدنا قس ذكرها فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) :

يا جارود ، ليلة أسري بي إلى السماء ، أوحى الله عز وجل إلي أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا ، على ما بعثوا

فقلت لهم: على ما بعثتم ؟

فقالوا : على نبؤتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما.

ثم أوحي إلى، أن التفت عن يمين العرش، فالتفت، فإذا على والحسن والحسين وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسی بن جعفر ، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والمهدي (علیه السلام) في ضحضاح من نور يصلون.

فقال لي الرب تعالى : هؤلاء الحجج لأوليائي ، وهذا المنتقم من أعدائي .

قال الجارود: فقال سلمان: یا جارود هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور ، فانصرفت بقومي وأنا أقول:

أتيتك يا ابن آمنة الرسولا *** لكي بك اهتدي النهج السبيلا

فقلت فكان قولك قول حق *** وصدق ما بدا لك أن تقولا

وبصرت العمى من عبد شمس *** وكل كان من عمه ضليلا

وأنبأناك عن قس الايادي *** مقالا فيك ظلت به جديلا

وأسماء عمت عنا فآلت *** إلى علم و(كنت) به جهولا (1)

ص: 139


1- تحد هذا الخبر في مقتضب الأئمة ص 37- 43 وانظر البحار ج 15 ص247 ببعض الإختلاف. وذكره المؤلف في كتابه الإستصار ص 37.

فصل من الكلام في هذا الخبر

اعلم - أيدك الله تعالى - أنك تسأل في هذا الخبر عن ثلاثة مواضع :

أحدها أن يقال لك: كان الأنبياء المرسلون (علیه السلام) قبل رسول الله (صلی الله علیه واله) قد ماتوا، فكيف يصح سؤالهم في السماء ؟.

وثانيها أن يقال لك: ما معنى قولهم إنهم بعثوا على نبوته وولاية علي والأئمة من ولده عليهم السلام؟

وثالثها أن يقال لك: كيف يصح أن يكون الأئمة الاثني عشر (علیه السلام) في تلك الحال في السماء ، ونحن نعلم - ضرورة - خلاف هذا، لأن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان في ذلك الوقت بمكة في الأرض، ولم يدع قط، ولا ادعى له أحد أنه صعد إلى السماء. فأما الأئمة من ولده فلم يكن وجد أحد منهم بعد ولا ولد ، فما معنی ذلك إن كان الخبر حقا ؟؟ فهذه مسائل صحيحة، ويجب أن يكون معك لها أجوبة متعددة.

أما الجواب عن السؤال الأول فهو أنا لا نشك في موت الأنبياء (علیه السلام) غير أن الخبر قد ورد بأن الله تعالى يرفعهم بعد مماتهم إلى سمائه ، وأنهم يكونون فيها أحياء متنعمين إلى يوم القيامة.

(و) ليس ذلك بمستحيل في قدرة الله تعالى . وقد ورد عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال :

« أنا أكرم عند الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث »

وهكذا عندنا حكم الأئمة (علیه السلام).

قال النبي (صلی الله علیه واله):

« لو مات نبي بالمشرق، ومات وصيه بالمغرب لجمع الله بينهما ».

وليس زيارتنا لمشاهدهم على أنهم بها، ولكن لشرف المواضع ، فكانت غيبة الأجساد فيها ، ولعبادة أيضا ندبنا إليها ، فيصح على هذا أن يكون النبي (صلی الله علیه واله) رأي الأنبياء (علیه السلام) في السماء ، فسألهم كما أمره الله .

ص: 140

وبعد فقد قال الله تعالى :

« ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم ..» آل عمران: 169.

فإذا كان المؤمنون الذين قتلوا في سبيل الله تعالى بهذا الوصف، فكيف ينكر أن الأنبياء بعد موتهم أحياء منعمون في السماء .

وقد اتصلت الأخبار من طريق الخاص والعام بتصحيح هذا، وأجمع الرواة على أن النبي (صلی الله علیه واله) لما (خوطب) بفرض الصلاة ليلة المعراج، وهو في السماء قال له موسی (علیه السلام) إن أمتك لا تطيق ، وأنه راجع (1) الله تعالی دفعة بعد أخرى. (2)

وما حصل عليه الإتفاق فلم يبق فيه كذب.

وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن يكون الأنبياء قد أعلموا بأنه سیبعث نبيا يكون خاتمهم وناسخا بشرعه لشرائعهم، وأعلموا أنه أجلهم وأفضلهم، وأنه سيكون (له) أوصياء من بعده ، حفظة لشرعه، وحملة لدينه ، وحجج على أمته ، فوجب على الأنبياء (علیه السلام) التصديق بما أخبرو به والإقرار بجميعة .

أخبرني الشريف يحيى بن أحمد بن إبراهيم بن طباطبا الحسيني ، قال : حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي عن أبي علي بن هام عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن عبد الله بن محمد ، عن محمد بن أحمد ، عن يونس بن يعقوب ، عن عبد الأعلى بن أعين ، قال :سمعت أبا عبد الله الصادق (علیه السلام) يقول:

« ما تنبأ نبي قط إلا بمعرفة حقنا وتفضيلنا على من سوانا ».

وإن الأمة مجمعة على أن الأنبياء قد بشروا بيننا ، ونبهوا على أمره، ولا

ص: 141


1- في النسخة: راجع إلى الله.
2- خبر المعراج وقول موسی (علیه السلام) له (صلی الله علیه واله) إن امتك لا تطيق ومراجعته ، تجده في صحيح مسلم في كتاب الإيمان ، وصحيح النسائي ، انظر : فضائل الخمسة ج (1) ص 108 - 106.

يصح منهم ذاك إلا وقد أعلمهم الله تعالى به ، فصدقوا وآمنوا بالمخبر به .

وكذلك قد روت الشيعة بأنهم قد بشروا بالأئمة أوصياء رسول الله (صلی الله علیه واله) .

وأما الجواب عن السؤال الثالث فهو أنه يجوز أن يكون الله تعالى أحدث الرسوله (صلی الله علیه واله) في الحال صورا صور الأئمة (علیه السلام) ليراهم أجمعين على كمالهم . فيكون كمن شاهد أشخاصهم برؤيته مثالهم، ويشكر الله تعالى على ما منحه من تفضيلهم وإجلالهم.

وهذا في العقول من الممكن المقدور .

ويجوز أيضا أن يكون الله تعالى خلق على صورهم ملائكة في سمائه يسبحونه ويقدسونه لتراهم ملائكته الذين قد أعلمهم بأنه يكون في أرضه حججا له على خلقه ، فتتأكد عندهم منازلهم ، وتكون رؤيتهم تذكارا لهم بهم وبما سيكون من أمرهم.

وقد جاء في الحديث أن رسول الله (صلی الله علیه واله) رأى في السماء لما خرج به ملكا على صورة أمير المؤمنين (صلی الله علیه واله). وهذا خبر قد اتفق أصحاب الحديث على نقله .

حدثني به من طريق العامة الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمي ، ونقلته من كتابه المعروف بايضاح دقائق النواصب ، وقرأته عليه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعماية ، قال حدثنا أبو القاسم جعفر بن مسرور اللجام ، قال حدثنا الحسين بن محمد، قال حدثنا أحمد بن علويه المعروف بابن الأسود الكاتب الأصبهاني (1)، قال حدثني إبراهيم بن محمد ، قال حدثني عبد الله بن صالح ، قال حدثني جرير بن عبد الحميد عن مجاهد عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول:

« لما أسري بي إلى السماء ما مررت بملا من الملائكة إلا سألوني عن علي بن أبي

ص: 142


1- هو الكرماني المتوفى سنة 320 ونيف أو سنة 312 وتجاوز الماية من عمره كان لغويا أديبا كاتبا شاعرا شيعيا راويا للحديث له كتاب الاعتقاد في الأدعية، وذكر ياقوت في معجم الأدباء أن له ثمانية كتب في الأدعية من إنشائه وله شعر في مدح أمير المؤمنين ومنه النونية المسماة بالالفية والمحبرة ذكر ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي مقاطيع منها .

طالب حتى ظننت أن اسم على أشهر في السماء من اسمی ، فلما بلغت السماء

الرابعة نظرت إلى ملك الموت فقال: يا محمد ، ما خلق الله خلقا إلا أقبض روحه بيدي ما خلا أنت وعلي ، فإن الله جل جلاله يقبض أرواحكما بقدرته ، فلا صرت تحت العرش نظرت فإذا أنا بعلي بن أبي طالب ، قال لي: يا محمد ليس هذا عليا ، ولكنه ملك من ملائكة الرحمن خلقه الله تعالى على صورة على ابن أبي طالب. فنحن الملائكة المقربون كلا اشتقنا إلى وجه علي بن أبي طالب زرنا هذا الملك ، لكرامة علي بن أبي طالب على الله سبحانه »

فيصح على هذا الوجه أن يكون الذين رآهم رسول الله (صلی الله علیه واله) ملائكة على صور الأئمة (علیه السلام). وجميع ذلك داخل في باب التجويز والإمكان والحمد لله .

نرجع إلى ذكر المعمر بن.

وقد روى أن منهم سلمان الفارسي رحمه الله عليه، وأنه عاش مأتین من السنين.

وروى أن منهم عمرو بن العاص، وأنه عاش في الجاهلية والاسلام مأتي سنة ، وأنه قال حين أحس الموت:

مضت ماتا حول لعمرو وبعدها *** رمته المنايا بالسهام القواصد

فات وماحي وإن طال عمره *** على مر أيام السنين بخالد

ومنهم أمد بن لبد ،

عاش ثلاثمائة وستين سنة . وروي أن معاوية بن أبي سفيان قال: إني أحب أن ألقى رجلا قد أتت عليه سن، وقد رأى الناس يخبرنا عما رأي، فقيل له : هذا رجل بحضر موت، فأرسل إليه ، فأتاه ، فقال : ما أسمك؟ فقال أمد ، قال : ابن من؟ قال: ابن لبد، قال ما أتى عليك من السنين؟ قال: ستون وثلاثماية سنة. قال: كذبت ثم تشاغل عنه معاوية ثم قال: أخبرنا عما رأيت من الأزمان الماضية إلى زماننا هذا من ذاك.

ص: 143

قال: يا أمير المؤمنين ، وكيف تسأل من يكذب؟

قال: ما كذبتك ، ولكن احببت أعلم كيف عقلك .

قال : يوم شبيه يوم، وليلة شبيهة بليلة ، يموت ميت ، ويولد مولود ، ولولا من يموت لم تسعهم الأرض، ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الأرض.

قال: فأخبرني هل رأيت هاشما ؟

قال: نعم، رأيت رجلا طوالا حسن الوجه ، يقال : بين عينيه بركة أو غرة بركة.

قال: فهل رأيت أمية؟

قال: نعم، رأيت رجلا قصيرا أعمي ، يقال إن في وجهه آشرا وشؤما .

قال: فهل رأيت محمدا ؟ قال: من محمد ؟ قال: رسول الله .

قال: ويحك ، أفلا فخمته کما فخمه الله ، فقلت رسول الله (صلی الله علیه واله).

قال: فأخبرني ما كانت صناعتك؟

قال: كنت تاجرا ، قال : فما بلغت في تجارتك ؟

قال: كنت لا أستر عيبا ولا أرد ربحا .

قال معاوية : سلني.

قال : أسألك أن تدخلني الجنة .

قال: ليس ذلك بيدي ولا أقدر عليه .

قال: فأسألك أن ترد علي شبابي .

قال: ليس ذلك بيدي ولا أقدر عليه .

قال: فلا أرى عندك شيئا من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة، فردني من حيث جئت بي

قال: أما هذا فنعم.

ثم أقبل معاوية على جلسائه فقال: لقد أصبح هذا زاهدا فيما أنتم فيه ترغبون.

ص: 144

ومن المعمرين عبيد بن شريد الجرهمي (1).

عاش ثلاثماية سنة ، ولحق أيضا أيام معاوية بن أبي سفيان.

فروي أنه قدم عليه يوما إلى الشام، فقال معاوية : أخبرني من أعجب ما رأيت، قال: نعم، انتهيت إلى قوم يدفنون میتا لهم، فلما فرغوا منه اغرورقت عيناي وتمثلت بهذه الأبيات:

يا قلب أنك في أسماء مغرور *** فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير

قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد *** حتي جرت بك إطلاقا محاضير

ما بت فاصبر فما تدري أعاجلها *** خير لنفسك أم ما فيه تأخير

فاستقدر الله خيرا وارضين به *** فبينما العسر إذ دارت مياسير

وبينما المرء في الأحياء مغتبط *** إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير

حتى كأن لم يكن إلا تذكره *** والدهر أيتما حال دهاریر

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه *** وذو قرابته في الحي مسرور

وذاك آخر عهد من أخيك إذا *** ما الميت ضمنه اللحد الخناسير

(يعني بالخناسير الحفارین)

ص: 145


1- تجد قصة عبيد الجرهمي في اكمال الدين ص 511-512 خالية من الأبيات المذكورة وهي و قصة طويلة.

فقال لي رجل منهم: هل تدري من قال هذه الأبيات؟ قلت: لا قال: هوالذي دفناه .(1).

ومن المعمرين العوام بن المنذر الطائي .

عاش دهرا طويلا في الجاهلية ، وبقي إلى أن أدرك خلافة عمر بن عبد العزيز ، فأدخل عليه ، وقد اختلفت تر قوتاه وسقط حاجباه ، فقيل : ما أدركت ؟ فقال:

والله ما أدري أأدركت أمة *** على عهد ذي القرنين أم كنت أقدما

متى تنزعوا عني اللباس تبينوا *** اجاجي لم يكسين لحما ولا دما

ومن المعمرين أيضا.

تميم بن ثعلبة بن عطاية الربعي ، عاش مأتي سنة ومعدي كرب الحميري من آل ذي رعين، عاش مأتين وخمسين سنة.

وجعفر بن قرط الجهني ، عاش ثلاثماية سنة، وأدرك الإسلام وأسلم.

وعوف بن كنانة الكلبي ، عاش ثلاثماية سنة.

وهبل بن عبد الله بن كنانة الكلي ، عاش ستماية وسبعين سنة .

وحصين بن عتبان الزبيدي ، عاش مأتين وخمسين سنة.

وشربة بن عبد الله الجعفي من سعد العشيرة، عاش ثلاثماية سنة.

وربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم ، عاش ثلاثماية سنة وثلاثين سنة ، وأدرك الإسلام فأسلم وكان شاعرا.

وسيف بن وهب الطائي ، عاش مأتي سنة.

وعدوان بن عمرو بن قیس ، عاش مأتين وخمسين سنة . وكف بصره.

وعاش ابن يزيد الجعفي خمس وماية سنة ، وأدرك الإسلام.

وعاش مرداس بن ضييم بن زيد العشيرة مأتين وستا وثلاثين سنة .

ص: 146


1- رواه البيهقي في المحاسن والمساوىء ج 2 ص 19 مختصرا .

وعاش عمرو بن ربيعة اللخمي ثلاثماية وأربعين سنة .

فهذا ظرف من ذكر المعمرين ومختصر مما رواه أصحاب الأثر وعلماء المصنفین ، قد أوردته لك زيادة على ما تقدم، وإثباتا للحجة على من يفهم .

وإذا جاز أن يعمر الله تعالى جماعة من خلقه من أنبيائه (علیه السلام) وأوليائه والمشركين له، ويمدهم بصحة الأجساد وثبوت العقل والرأي، فما الذي ينكر من طول عمر صاحب الزمان (علیه السلام)، وهو حجة الله تعالى على العباد ، وخاتم الأوصياء من ذرية رسوله (صلی الله علیه واله)، والموعود بالبقاء ، حتى يكون على يده هلاك جميع الأعداء، ويصير الذين كله لله، لولا أن خصومنا معاندون للحق ومكابرون.

وقد ذاع بين كثير من الخصوم ما یروی ويقال اليوم من حال المعمر أبي الدنيا المغربي المعروف بالأشبح، وأنه باقي من عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طال (علیه السلام) إلى الآن، وأنه مقيم من ديار المغرب في أرض طنجة ، ورؤية الناس له في هذه الديار ، وقد عبر متوجها إلى الحج والزيارة، وروايتهم عنه حديثه وقصته، وأحاديث سمعها من أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه ، وقوله أنه كان رکابيا بين يديه ، ورواية الشيعة أنه يبقى إلى أن يظهر صاحب الزمان (صلی الله علیه واله).

وكذلك حال المعمر المشرقي، ووجوده بمدينة من أرض المشرق يقال لها سهردود إلى الآن. ورأينا جماعة رأوه وحدثوا حديثه ، وأنه أيضا كان خادما الأمير المؤمنين (صلی الله علیه واله)، والشيعة تقول إنها يجتمعان عند ظهور الإمام المهدي عليه وعلى آبائه أفضل السلام.

خبر المعمر المغربي

وهو علي بن عثمان بن الخطاب البلوي (1)

حدثني الشريف طاهر بن موسی بن جعفر الحسيني مصر سنة سبع

ص: 147


1- تجد خبره في كتاب إكمال الدين للصدوق القمي المتوفي سنة 381 ه وذلك في ص 502- 508، وفي لسان الميزان ج 4 ص 134 - 140.

وأربعماية ، قال : أخبرنا الشريف أبو القاسم میمون بن حمزة الحسيني ، قال : رأيت المعمر المغربي ، وقد أتي به إلى الشريف أبي عبد الله محمد بن اسماعیل سنة عشر وثلاثماية ، وأدخل داره ومن معه وهم خمسة رجال، وأغلقت الدار ، وازدحم الناس ، وحرصت في الوصول إلى الباب فما قدرت ، لكثرة الزحام، فرأيت بعض غلمان الشريف أبي عبد الله محمد بن اسماعيل، وهما قنبر وفرح، فعرفتهما أني أشتهي أنظره، فقالا لي : در إلى باب الحمام بحيث لا يدري بك ، فصرت إليه ، ففتحا لي سرا ودخلت ، وأغلق الباب ، وحصلت في مسلح الحمام، وإذا قد فرش له ليدخل الحمام ، فجلست يسيرا ، فإذا به قد دخل ، رجل نحيف الجسم ربع من الرجال ، خفيف العارضين ، آدم اللون ، إلى القصر أقرب ما هو ، أسود الشعر ، يقدر الانسان أنه له نحوا من أربعين سنة ، وفي صدغه أثر ، كأنه ضربة.

فلما تمكن من الجلوس، والنفر معه وأراد خلع ثيابه ، قلت : ما هذه الضربة؟ قال: أردت أناول مولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) السوط يوم النهروان ، فنفض الفرس رأسه فضربني اللجام ، وكان مخا (كذا)، فشجني .

فقلت له: أدخلت هذه البلدة قديما؟ قال: نعم، وكان موضع جامعكم الفلاني مقبلة ، وفيها قبر .

فقلت هؤلاء أصحابك ، فقال: ولدي وولد ولدي.

ثم دخل الحمام، فجلست حتى خرج ولبس ثيابه ، فرأيت عنفقته قد ابيضت ، فقلت له كان بها صباغ؟ قال: لا، ولكن إذا جعت ابيضت ، وإذا شبعت اسودت .

فقلت: قم أدخل الدار حتى تأكل فدخل الباب.

وروى الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسن (1) ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام)، أنه حج في تلك السنة (2)،

ص: 148


1- في النسخة : الحسين ، وصححناه اعتمادا على إكمال الدين ص 507 الذي نقل الرواية بطولها .
2- وفي إكمال الدين م 507: قال حججت في سنة ثلاث عشرة وثلاثماية .

وفيها حج نصر القشوري صاحب المقتدر ، قال: فدخلت مدينة الرسول (صلی الله علیه واله)، فأصبت بها قافلة البصريين ، وفيها أبو بكر محمد بن علي المادراني (علیه السلام)، ومعه رجل من أهل المغرب ، يذكر أنه رأى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه واله)، فازدحم عليه الناس ، وجعلوا يتمسحون به ، فكادوا يقتلونه.

قال: فأمر عمي أبو القاسم طاهر بن يحيى فتيانه وغلمانه أن يفرجوا عنه ، ففعلوا ودخلوا به إلى دار ابن (أبي) سهل اللطفي ، وكان طاهر يسكنها ، وأذن للناس ، فدخلوا ، وكان معه خمسة رجال، ذكر أنهم أولاده وأولاد أولاده ، فيهم شیخ ، له نيف وثمانون سنة ، فسألناه عنه ، فقال : هذا ابني.

واثنان لكل واحد منهما ستون أو خمسون سنة ، وآخر (1) ست عشرة سنة فقال: هذا ابني، ولم يكن معه أصغر منه.

وكان إذا رأيته قلت ابن ثلاثين أو أربعين سنة، أسود الرأس واللحية ، شاب ،نحيف الجسم ، آدم ربع القامة ، خفيف العارضين ، هو إلى القصر أقرب ، واسمه علي بن عثمان بن الخطاب بن (بن مزيد) (2)

فمما سمعت من حديثه الذي حدث الناس به أنه قال:

خرجت من بلدي أنا وأبي وعمي نريد الوفود على رسول الله (صلی الله علیه واله)، وكنا مشاة في قافلة ، فانقطعنا عن الناس، واشتد بنا العطش، وعدمنا الماء وزاد بأبي وعمي الضعف فأقعدتهما إلى جانب شجرة ومضيت ألتمس لهما ماء فوجدت عينا حسنة، وفيها ماء صافي في غاية البرد والطيبة، فشربت حتى ارتويت ، ثم نهضت لآتي بأبي وعمي إلى العين ، فوجدت أحدهما قد مات، وتركته بحاله ، وأخذت الآخر ومضيت به في طلب العين ، فاجتهدت أن أراها فلم أرها ، ولا عرفت موضعها، وزاد العطش به فمات ، فحرصت في أمره حتى واريته ، وعدت إلى الآخر فواريته أيضا ، وسرت وحدي إلى أن انتهيت (إلى) الطريق ، ولحقت بالناس، ودخلنا المدينة. وكان دخولي إليها في اليوم الذي

ص: 149


1- في النسخة: وإخوته ، والتصحيح عن إكمال الدين ص 507.
2- الزيادة عن إكمال الدين ص 507.

قبض فيه رسول الله (صلی الله علیه واله)، فرأيت الناس منصرفين من دفنه ، فكانت أعظم الحسرات دخلت قلبي .

ورآني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فحدثته حديثي ، فأخذني فكنت يتيمة ، فأقمت معه مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وأيام خلافته حتى قتله عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة.

قال: ولما حوصر عثمان بن عفان في داره دعاني ودفع إلى كتابا ونجيبا وأمرني بالخروج إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وكان علي غائبا بينبع في ضياعه وأمواله ، فأخذت الكتاب وركبت النجيب وسرت ، حتى إذا كنت موضع يقال له : جنان بن أبي عيابة سمعت قرآنا ، فإذا هو أمير المؤمنين (علیه السلام) يقرأ:

« أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون »

قال: فلما نظر إلى قال: يا أبا الدنيا ، ما وراءك ؟

قلت : هذا كتاب عثمان ، فقرأه، فإذا فيه :

فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي *** وإلا فأدركني ولما أمزق

فلما قرأه قال: سر ، سر ، فدخلنا المدينة ساعة قتل عثمان ، فال أمير المؤمنين إلى حديقة بني النجار، وعلم الناس مكانه فجاؤا إليه ركضا ، وقد كانوا عازمين على أن يبايعوا طلحة ، فلما نظروا إليه ارفضوا (عن) طلحة ارفضاض الغنم يشد عليها السبع ، فبايعه طلحة والزبير ، ثم تتابع المهاجرون والأنصار يبايعونه ، فأقمت معه أخدمه، وحضرت معه صفين أو قال النهروان ، فكنت عن يمينه إذ سقط السوط من يده ، فانكببت لآخذه وأرفعه إليه ، وكان لجام دابته لمخا فشجني هذه الشجة ، فدعاني أمير المؤمنين (علیه السلام) فتفل فيها وأخذ حفنة من تراب فتركها عليها ، فوالله ما وجدت ألما ولا وجعا .

ثم أقمت معه صلى الله عليه ، وصحبت الحسن (علیه السلام) حتى بالساباط وحمل إلى المدائن، ولم أزل معه بالمدينة حتى مات (علیه السلام) مسموما ، سمته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي.

ص: 150

ثم خرجت مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء ، وقتل (علیه السلام) فهربت بديني ، وأنا مقيم بالمغرب أنتظر خروج المهدي وعیسی بن مریم (صلی الله علیه واله).

قال الشريف أبو محمد الحسن بن محمد الحسيني:

ومما رأيت من هذا الشيخ علي بن عثمان ، وهو إذ ذاك في دار عمي طاهر ابن يحيى ، وهو يحدث بأحاديثه وبدء خروجه، إذ نظرت إلى عنفقته فرأيتها قد احمرت ثم ابيضت ، فجعلت أنظر إلى ذلك لأنه لم يكن في لحيته ولا رأسه ولا عنفقته بياض ، فنظر إلي أنظر إليه ، فقال : ما ترون ، إن هذا يصيبني إذا جعت ، فإذا شبعت رجعت إلى سوادها.

فدعا عمي بطعام، فأخرج من داره ثلاث موائد ، فوضعت بين يديه ، وكنت أنا ممن جلس معه عليها ، وجلس عمي معه ، وكان يأكل ويلقمه ، فأكل أكل شاب ، وعمي يحلف عليه ، وأنا أنظر إلى عنفقته تسود حتى عادت إلى سوادها وشبع.

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن ابراهيم السلمي الحراني ، وأبو عبد الله الحسين بن محمد الصيرفي البغدادي قالا جميعا أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد المعروف بالمفيد، لقرائتی علیه بحر جرايا (1)، وقال الصيرفي : سمعت منه إملاء سنة خمس وستين وثلاثماية ، قال : حدثنا علي بن عثمان بن الخطاب بن عبد الله بن عوام البلدي من مدينة بالمغرب يقال لها مزيدة، يعرف بأبي الدنيا الأشبح المعمر قال : سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول : «كلمة الحق ضالة المؤمن ، حيث وجدها فهو أحق بها». وقال حدثنا الأشبح قال سمعت علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول :

« أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما » .(2)

ص: 151


1- روى ذلك أبو علي القالي في ذيل الأمالي ص 171 وأبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيی الوشاء في الموشی ص 4 والطوسي في الأمالي ج 1 ص 374 وج 2 ص 235 وص 314. انظر : مصادر نهج البلاغة للمعلق ص 297.
2- روى ذلك أبو علي القالي في ذيل الأمالي ص 171 وأبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيی الوشاء في الموشی ص 4 والطوسي في الأمالي ج 1 ص 374 وج 2 ص 235 وص 314. انظر : مصادر نهج البلاغة للمعلق ص 297.

وقال: حدثنا الأشبح قال سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : قال النبي (صلی الله علیه واله):

« طوبى لمن رآني أو رأى من رأي من رآني ».

وقال : حدثنا الأشبح قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول: « إنه عهد إلى النبي

الأمي (صلی الله علیه واله) أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق ».

وقال : حدثنا الأشج قال : سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : قال النبي (صلی الله علیه واله):

« في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه ، ويقطع الرزق ، ويسرع الفناء.

وأما اللواتي في الآخرة فغضب الرب جل وعز ، وسوء الحساب ، والدخول في النار ».

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: سمعت

النبي (صلی الله علیه واله) يقول:

من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ».

وقال: حدثنا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول :

« لما نزلت وتعيها أذن واعية »

قال النبي (صلی الله علیه واله) : سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا علي» (1) .

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« لا تتخذوا قبري مسجدا ، ولا تتخذوا قبورکم مساجد، ولا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي حيث كنتم، فإن صلواتكم تبلغني ، وتسليمكم يبلغني ».

ص: 152


1- تجد قول النبي (صلی الله علیه واله) هذا لعلي (علیه السلام) في الطبري والكشاف ومجمع الزوائد وحلية الأولياء والدر المنثور وکنز العمال ، انظر : فضائل الخمسة ج 1 ص 272 - 274.

وقال: حدثنا الأشج قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول:

« ما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلى رسول الله (صلی الله علیه واله) الراية يوم خيبر ».

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول:

« من جلس في مجلسه ينتظر الصلاة فهو في صلاة ، وصلت عليه الملائكة ،

وصلواتهم عليه : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ».

وقال : حدثنا الأشج قال : سمعت عليا (علیه السلام) يقول:

« كان رسول الله (صلی الله علیه واله) لا يحجبه ولا يحجزه من قراءة القرآن إلا الجنابة »

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول : سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول:

« الحرب خدعة ».

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول: « قضى رسول الله (صلی الله علیه واله) في الوتر قبل الوصية ، وأنت تقرأون من بعد وصية توصون بها أو دين ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه ».

وقال أبو بكر المعروف بالمفيد: رأيت أثر الشجة في وجهه ، وقال: أخبرت أمير المؤمنين (علیه السلام) بحديثي وقصتي في سفري وموت أبي وعمي ، و(عين) الماء التي شربت منها وحدي ، فقال (علیه السلام):

« هذه عين لم يشرب منها أحد إلا عمر عمرا طويلا ، فابشر ، فإنك تعمر ، ما كنت لتجدها بعد شريك منها ».

قال أبو بكر : وسألت عن الأشج أقواما من أهل البلدة ، فقالوا: هو مشهور عندنا بطول العمر ، يحدثنا بذلك الأبناء عن آبائهم عن أجدادهم ، وقوله في أنه لقي علي بن أبي طالب (علیه السلام) معلوم عندهم ، متداول بينهم.

فأما الأحاديث التي رواها عن الأشج أبو محمد الحسن بن محمد الحسيني مما لم

يروه أبو بكر محمد بن أحمد الجرحراي فهي:

ص: 153

قال الشريف أبو محمد : حدثني علي بن عثمان العمر الأشج ، قال: حدثني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« من أحب أهل اليمن فقد أحبني ، ومن أبغضهم فقد أبغضني ».

قال: وحدثني أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: قال لي رسول الله (صلی الله علیه واله):

« أنا وأنت يا علي أبوا هذا الخلق ، فمن عقنا فعليه لعنة الله ، أمن يا علي ، فقلت: آمين يا رسول الله .

فقال: يا علي ، أنا وأنت موليا هذا الخلق ، فمن جحدنا ولاءنا ، وأنكرنا حقنا فعليه لعنة الله ، أمن يا علي ، فقلت: آمين يا رسول الله ». آخر أخبار العمر المغربي :

حديث المعمر المشرقي:

هذا رجل مقيم ببلاد العجم من أرض الجبل ، يذكر أنه رأى أمير المؤمنين (علیه السلام). ويعرفه الناس بذلك على مر السنين والأعوام.

ويقول إنه لحقه مثل ما لحق المغربي من الشجة في وجهه ، وإنه صحب أمير

المؤمنين (علیه السلام)، وخدمه.

وحدثني جماعة مختلفو المذاهب بحديثه ، وأنهم رأوه وسمعوا كلامه.

منهم أبو العباس أحمد بن نوح بن محمد الحنبلي الشافعي . حدثني بمدينة

الرملة في سنة إحدى عشرة وأربعمائة.

قال: كنت متوجها إلى العراق (للتفقه) (1) فعبرت بمدينة يقال لها شهرورد من أعمال الجبل ، قريبة من زنجان ، وذلك في سنة خمسين وثلاثماية (2) ، فقيل لي: إن ههنا شيخا يزعم أنه لقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فلو صرت إليه ورأيته لكان ذلك فائدة عظيمة.

ص: 154


1- في النسخة : للنفقة.
2- في النسخة: سنة خمسين وأربعماية ، وهو خطأ من الناسخ بقرينة ما سبق. وبقرينة أن المؤلف توفي (سنة 449 ه).

قال: فدخلنا عليه ، فإذا هو في بيته يعمل النوار ، وإذا هو شيخ نحيف الجسم، مدور اللحية ، كبيرها، وله ولد صغير ولد له منذ سنة.

فقيل له : إن هؤلاء القوم من أهل العلم متوجهون إلى العراق ، يحبون أن يسمعوا من الشيخ ما قد لقي من أمير المؤمنين (علیه السلام).

فقال: نعم، كان السبب في لقائي له، أني كنت قائما في موضع من المواضع ، فإذا أنا بفارس مجتاز ، فرفعت رأسي فجعل الفارس يمر يده على رأسي ويدعو الي، فلما أن عبر ، أخبرت بأنه علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فهرولت حتى لحقته وصاحبته.

وذكر أنه كان معه في تكريت ، وموضع من العراق ، يقال له تل فلان بعد ذلك ، وكان بين يديه يخدمه إلى أن قبض (علیه السلام)، فخدم أولاده.

قال لي أحمد بن نوح: رأيت جماعة من أهل البلد ذكروا ذلك عنه ، وقالوا سمعنا آباءنا يخبرونا عن أجدادنا بحال هذا الرجل، وأنه على هذه الصفة ، وكان قد مضى فأقام بالأهواز ، ثم انتقل عنها لأذية الديلم له ، وهو مقيم بشهرورد.

وحدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أحمد القمي رحمه الله : أن جماعة

حدثوه بأنهم رأوا هذا العمر وشاهدوه، وسمعوا ذلك عنه .

وحدثني بحديثه أيضا قوم من أهل شهر ورد ، وصفوا لي صفته ، وقالوا : هو يعمل الزنانير.

وفي بعض ما ذكرناه في هذا الباب كفاية والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد

رسوله وآله.

فصل في الكلام في الآجال :

إن سأل سائل فقال: ما حقيقة الآجال؟

فقيل له : إن الآجال هي الأوقات ، فأجل الحياة وقتها ، وأجل الموت وقته الذي يوجد فيه .

ص: 155

وكذلك الأجل في الدين إنما هو وقت وجوبه .

ويقال للإنسان: أجل لهذا الأمر أجلا ، معناه أجل لحدوثه وكونه وقتا .

فإن قال السائل : أفتقولون: إن الآجال محتومة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، أم تجيزون أن يقدمها الله تعالى ، ويؤخرها ؟؟

قيل له : الذي نقوله: إن الله قادر على تأخير أجل الموت بالزيادة في مدة الحياة ، وعلى تقديمه بالنقصان منها .

فإن قال : كيف يصح لكم القول بالتقديم والتأخير ، وما معناه، والأجل عندكم هو الوقت ؟ فأي وقت حضر موت الانسان فذلك أجله.

قيل له : المعنى في ذلك أن الوقت الذي أمات الله تعالى العبد فيه قد كان قادرا على أن لا يميته فيه ، بل يبقيه بدلا من ذلك ويحييه ، فيكون هذا هو تأخير أجله ، والزيادة في عمره.

والوقت الذي أحياه الله تعالى فيه قد كان قادرا على أن يميته بدلا من ذلك فيه ولا يحييه ، فيكون هذا هو تقديم أجله ، والنقص من عمره. وجميع ذلك. في العقل غير مستحيل، وهو المعنى الذي ذهبنا إليه.

فإن قال: فإذا علم سبحانه ، أنه يحیي عبده هذا ماية سنة ، حسبما تقتضيه عنده المصلحة ، فكيف يصج مع ذلك أن يزيد في هذا المبلغ أو ينقص ؟

قلنا: يصح أن يعلم أن المصلحة تقتضي أن يكون عمره ماية سنة ما لم يفعل شيئا معينا ، فمتى فعله اقتضت المصلحة أن يزيده على الماية عشرين سنة ، أو ينقصه منها عشرين. وهذا أيضا غير مستحيل.

فإن قال: أفليس الله تعالى عالما بأن العبد سیفعل ما تتغير المصلحة عند فعله ، أو لا يفعله ؟

قلنا: بلى ، إن الله تعالى عالم به وبكل كائن قيل كونه ، وبما لا يكون أن لو كان كيف يكون خاله .

ص: 156

فإن قال: فإذا كانت حاله معلومة له، فقد حصل عمره معلوما ، فلا معنی للزيادة والنقص ههنا.

قلنا: إنما ذلك على وجه التقدير الذي قد كان ممكنا غير مستحيل. وإن هذا الممكن لو كان كيف كانت تكون الحال من تأخير في الأجل وتقديم . وقد أخبر الله تعالى عن قوم نوح :

« یا قوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا » نوح: 10 و12.

مع علمه سبحانه وعلم نوح أنهم لا يستغفرون ولا يتوبون، وأنهم بأسرهم يغرقون .

وقال عز وجل:

« ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض » الأعراف : 96.

ولا يكون ذلك إلا وهم أحياء ، وإنما عنى أهل القرى التي أهلكها ، فأخبر أنهم لو آمنوا لأحياهم ، وأنعم عليهم ، وهو يعلم أنهم لا يؤمنون ، وأنه سيهلكهم.

وقد قال النبي (صلی الله علیه واله):

« إن صلة الرحم تزيد في العمر »

فأخبر (علیه السلام) أن عمر العبد يكون مقدرا معلوما عند الله تعالى ، وإن هو وصل رحمه زاد الله تعالى في عمره، والله تعالى عالم بأن هذا العبد إن لم يصل رحمه مات في وقت كذا، وإن هو وصلها عاش إلى وقت كذا. وهو مع هذا كله عالم بما يكون منه ، وهل يصله أم لا يصله . قال الله عز وجل :

« وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب » فاطر: 11.

فإن قال السائل : فما تقولون في المقتول لو لم يقتل ؟ أكان يجوز أن يبقى حيا أو كان منيته غير هذا أم لا؟

قيل له : كل ذلك جائز، وجوازه على قسمين:

ص: 157

أحدهما بمعنى أنا نشك فيه لعدم دليل القطع على حقيقته بما يكون منه .

والثاني بمعنى أن الله تعالى يقدر على ذلك كله ولا يستحيل منه . فهو عندنا لو لم يقتل جاز أن يبقى حيا وجاز أن يموت في الحال من غير قتل . ومهما كان من ذلك فهو معلوم قبل كونه لله تعالی.

ولو كان الظالم إنما يقتل المظلوم لأن أجله قد حضر ، ولأن حضور أجله حمله على قتله ، لم يكن ملوما ولا ظالما، بل كان محمولا على ذلك مضطرا.

وقد ضرب في معنى هذا مثل ، فقيل :

لو كان كل مقتول لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت لا محالة ، ولم يعش لحظة واحدة ، لكان من قصد إلى أغنام رجل فذبحها عن آخرها، لا يجوز أن يلومه صاحبها ، ولا يغرمه بثمنها ، بل كان يجب أن يشكره على ذبحها ، لأنه لو لم يذبحها لماتت كلها ، فكان لا ينتفع بشيء منها.

وفي صحة توجه اللوم إليه دلالة على أنه لو لم يذبحها لجاز أن تبقى كلها حية أو يبقى بعضها ، والله عالم بحقيقة أمرها .

فإن قال: أفتقولون: إن المقتول مات بأجله ، أم تقولون إن قاتله قطع أجله ؟؟

قلنا: قد ذكرنا أن حقيقة الأجل هو الوقت ، وأجل الشيء وقته . وإذا كان هذا هو الأصل ، فالوقت الذي قتل به فيه هو أجل موته ، كما هو وقت موته . وقد ذكرنا قول الله تعالى في قوم نوح، أنهم لو آمنوا لأبقاهم إلى أجل مسمى ، فلما لم يؤمنوا أهلكوا قبل ذلك الأجل ، وليس هذا بمانع من أن نقول بأنهم قد هلكوا بآجالهم ، نرید وقت حضور إهلاكهم .

فإن قال : فما معنى قوله سبحانه :

« إذا جاء لا يؤخر » (1)

وقوله :

ص: 158


1- نوح: من الآية4 : (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون).

« فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ »، الأعراف: 34.

قلنا : المراد بذلك ، الأجل الذي علم الله تعالى أنهم يبيتهم فيه ، والحمد لله .

فصل:

واعلم أنا نذهب إلى أن الله تعالى إذا علم من حال عبد من عبيده أنه إذا أبقاه آمن من كفره أو تاب من معصيته وفسقه ، فإن الواجب في حكمته عز وجل أن يبقيه ولا يخترمه.

فإن كان قد فعل به ذلك مرة فتاب وأقلع ، ثم عاد في معاصيه ونكث ، وعلم منه بعد ذلك أنه إن أبقاه تاب أيضا وأحسن ، فإن تبقيته لأجل التوبة غير واجبة ، لأن ذلك لو وجب دائما لم يكن للتكليف أجر ، وأدى للخروج من الحكمة والعبث ، تعالى الله عن كل صفة نقص .

مسألة فقهية

ذكرها شيخنا أبو عبد الله المفيد رضوان الله عليه .

امرأة ورثت أربعة أزواج، واحدا بعد واحد ، فصار لها نصف أموالهم جميعا، وللعصبة النصف الباقي .

جواب:

هذه امرأة تزوجها أربع أخوة واحدا بعد واحد ، وورث بعضهم بعضا ، وكان جميع مالهم ثمانية عشر دينارا ، لواحد منهم ثمانية دنانير، وللآخر منهم ستة دنانير، وللآخر ثلاثة ، وللآخر دينار واحد. فتزوجها الذي له ثمانية دنانير، ومات عنها فصار لها الربع مما ترك ، وهو دیناران ، وصار ما بقي بين الأخوة الثلاثة ، لكل واحد منهم ديناران، فصار لصاحب الستة ثمانية دنانير ، ولصاحب الثلاثة خمسة ، ولصاحب الدينار ثلاثة .

ثم تزوجها صاحب الثمانية ومات عنها ، فورثت منه بحق الربع دينارين، وصار ما بقي وهو ستة دنانير بين أخويه ، لكل واحد منهما ثلاثة دنانير ، فصار للذي له خمسة دنانير ثمانية دنانير، وللذي له ثلاثة سنة. ثم تزوجها صاحب

ص: 159

الثمانية ومات عنها فورثت منه الربع دينارين، وصار ما بقي لأخيه وهي ستة دنانير ، فحصل له بهذه السنة مع السنة الأولى اثنا عشر دينارا.

ثم تزوجها وهو الباقي من الأخوة وله اثنا عشر دينارا، ومات عنها ، فورثت الربع ثلاثة دنانير ، فصار جميع ما ورثته عنهم تسعة دنانير ، لأنها ورثت من الأول دينارين، ومن الثاني دينارين، ومن الثالث دينارين، ومن الرابع ثلاثة دنانير ، فذلك تسعة ، وهي نصف ما كانوا يملكونه ، والباقي للعصبة كما قلنا.

خبر ضرار بن ضمرة عند دخوله على معاوية

أخبرنا أبو المرجا محمد بن علي بن أبي طالب ، قال: أخبرني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن المطلب الشيباني الكوفي (1) قال: حدثني منصور بن الحسن بن أبي جلة بأنطاكية، قال: حدثنا محمد بن زکریا بن دینار، قال: حدثنا العباس بن بکار ، عن عبد الواحد بن أبي عمرو الأسدي ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح مولى أم هاني (2)، قال:

دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية بن أبي سفيان يوما ، فقال له: يا ضرار ، صف لي عليا . قال : أوتعفيني من ذلك ؟ قال : لا أعفيك. قال:

أما إذ لا بد ، فإنه كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة عن لسانه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته .

ص: 160


1- في فهرست الطوسي: يكنى أبو الفضل كثير الرواية حسن الحفظ ، غير أنه ضعفه جماعة من أصحابنا ، له كتاب الولادات الطيبة الطاهرة وكتاب الفرائض وكتاب المزار وعن النجاشي : كان سافر في طلب الحديث عمره أصله كوفي وكان في أول أمره ثبتأ ثم خلط ورأيت جل أصحابنا يغمزونه ويضعفونه له كتب كثيرة ، وقال الخطيب البغدادي : نزل بغداد وحدث بها عن محمد بن جرير الطبري ومحمد بن العباس اليزيدي وأمثالهم، وكان يضع الحديث الرافضة ... ولد سنة 297 وتوفي سنة 387.
2- هي أم هاني بنت أبي طالب ، أخت علي (علیه السلام) كان الأسراء من دارها ، ودخل رسول الله (صلی الله علیه واله) على أم هاني يوم الفتح وكان جائعا ، فقالت: يا رسول الله ، إن أصهارا لي قد لجأوا إلي ، وإن أخاف أن يعلم بهم علي بن أبي طالب فيقتلهم، قال (صلی الله علیه واله): قد أجرنا من أجرت يا أم هاني (سفينة البحار م1 ص 425 وم2 ص 724).

كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما جشب.

كان والله ، معنا كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ، وكان مع ذنوه لنا، وقربه منا، لا نكلمه هيبة له.

فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ النظيم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله .

أشهد بالله ، لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه ، متماثلا في محرابه ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم (1)، ويبكي بكاء الحزين ، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا ، يا دنيا ، أبي تعرضت أم إلى تشوفت ، هیهات، هيهات، غري غيري، لا حان حينك ، قد أبنتك ثلاثا . عمرك قصير ، وخيرك حقير ، وخطرك كبير ، آه آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، و وحشة الطريق .

فوکفت دموع معاوية على لحيته ، وجعل يستقبلها بكمه ، واختنق القوم جميعا بالبكاء ، وقال : هكذا كان أبو الحسن يرحمه الله . فكيف وجدك عليه با ضرار؟

فقال : وجد أم واحد، ذبح واحدها في حجرها ، فهي لا يرقى دمعها ، ولا يسكن حزنها (2)

فقال معاوية : لكن هؤلاء لو فقدوني لما قالوا ، ولا وجدوا بي شيئا من هذا.

ص: 161


1- السليم هو الملسوع من حية أو عقرب.
2- خبر ضرار مستفیض ، وقد عرض له في الاستیعاب ج 3 ص 43 من المطبوع بهامش (الاصابة) مصر سنة 1939 م - 1358 ه. والقيرواني في زهر الآداب المطبوع بهامش العقد الفريد م1 ص 47 - 48، والسبط في التذكرة ، ص 119، والمسعودي في مروج الذهب ج2 ص 433، وابن حجر في الصواعق ص 139 - 140 والقالي في الأمالي 143- 144، والبيهقي في المحاسن والمساوىء ج 2 ص 72- 73 وغيرها . أنظر كتابنا (مصادر نهج البلاغة)ص 264 - 265 .

ثم التفت إلى أصحابه فقال: بالله ، لو اجتمعتم بأسركم، هل كنتم تؤدون عني ما أداه هذا الغلام عن صاحبه؟

فيقال: إنه قال عمرو بن العاص : الصحابة على قدر الصاحب .

تروي هذه الأبيات عن أمير المؤمنين (علیه السلام):

إذا كنت تعلم أن الفراق *** فراق الحياة قریب قریب

وإن المعد جهاز الرحيل *** ليوم الرحيل مصیب مصیب

وأن المقدم ما لا يفوت *** على ما يفوت معيب معيب

وأنت على ذاك لا ترعوي *** فأمرك عندي عجيب عجیب

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

« ما زالت نعمة عن قوم، ولا غضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها . إن الله ليس بظلام للعبيد ».

بلغنا أن من كلام الله تعالى الذي أنزله على بني إسرائيل :

إني أنا الله لا إله إلا أنا ، ذو ... مفقر الزناة ، وتارك تاركي الصلاة عراة .

وقال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« أحسنوا مجاورة النعم، لا تملوها ولا تنفروها ، فإنها قل ما نفرت عن قوم فعادت إليهم » .

وقال عليه الصلاة والسلام:

« من قال قبح الله الدنيا ، قالت الدنيا: قبح الله أعصانا للرب » .

وقال عليه السلام:

« من عف عن محارم الله كان عابدا ، ومن رضي بقسم الله كان غنيا، ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلما، ومن صاحب الناس بالذي يحب أن يصاحبوه كان عدلا » .

وقال عليه السلام:

« من اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن

ص: 162

المحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات ».

فصل:مما جاء في الخصال:

قال رجل لأحد الزهاد أوصني .

فقال: أوصيك بخصلة واحدة، إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما.

ولقي حکيم حكيما فقال له: عظني وأوجز.

قال: عليك بخصلتين: لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك.

قال: زدني . قال : ما أجد للحالين ثالثة .

قال حكيم الفرس:

« ثلاث خصال لا ينبغي للعاقل أن يضيعهن ، بل يجب أن يحث عليهن نفسه

وأقاربه ومن أطاعه ».

عمل يتزوده لمعاد ، وعلم طب يذب به عن جسده ، وصناعة يستعين بها في معاشه .

وقال بعض الحكماء :

أربع خصالي یمتن القلب : ترادف الذنب على الذنب ، وملاحاة الأحمق، وكثرة مثاقبة النساء والجلوس مع الموتی .

قيل له: ومن الموتى؟

قال: كل عبد مترف فهو ميت ، وكل من لا يعمل فهو ميت .

وقال ابن عباس رحمة الله عليه :

خمس خصال تورث خمسة أشياء:

ما فشت الفاحشة في قوم قطر إلا أخذهم الله بالموت.

وما طفف قوم الميزان إلا أخذهم بالسنين.

ص: 163

وما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم .

وما جار قوم في الحكم إلا كان القتل بينهم.

وما منع قوم الزكاة إلا سلط الله عليهم عدوهم.

وقال لقمان الحكيم لابنه في وصيته :

يا بني، أحثك على ست خصال ، ليس من خصلة إلا وهي تقربك إلى رضوان الله عز وجل ، وتباعدك من سخطه .

الأولى أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا.

والثانية الرضا بقضاء الله فيما أحببت وكرهت .

والثالثة: أن تحب في الله ، وتبغض في الله .

والرابعة ، تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك.

والخامسة ، تكظم الغيظ ، وتحسن إلى من أساء إليك.

والسادسة ، ترك الهوى ، ومخالفة الردی.

وقال بعضهم : ذو المروءة الكاملة ، من اجتمع فيه سبع خصال، إذا ذكر ذكر ، وإذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا عصي غفر ، وإذا أحسن استبشر ، وإذا أساء استغفر ، وإذا وعد أنجز ويسر .

وقال بعض الحكماء:

تحصن بثمان من ثمان:

بالعدل في المنطق من ملالة الجلساء.

وبالروية في القول من الخطأ .

وبحسن اللفظ من البذاء .

وبالانصاف من الاعتداء .

وبلين الكف من الجفاء .

وبالتودد من ضغائن الأعداء.

وبالمقاربة من الاستطالة.

وبالتوسط في الأمور من لطخ العيوب .

ص: 164

وروي أن تسع خصال من الفضل والكمال، وهن داعية إلى المحبة مع ما فيها من القربة والمثوبة:

الجود على المحتاج، والمعونة للمستعين ، وحسن التفقد للجيران، وطلاقة الوجه للاخوان ، ورعاية الغائب فيمن يخلف ، وأداء الأمانة إلى المؤتمن ، وإعطاء الحق في المعاملة، وحسن الخلق عند المعاشرة ، والعفو عند المقدرة .

وأوصى أفلاطون أحد أصحابه بعشر خصال قال :

لا تقبل الرئاسة على أهل مدينتك البتة.

ولا تتهاون بالأمر الصغير إذا كان يقبل النماء .

ولا تلاح رجلا غضبانا فإنك تقلقه باللجاج.

ولا تجمع في منزلك نفسين فيتنازعان في الغلبة .

ولا تفرح بسقطة غيرك ، فإنك لا تدري متى يحدث الزمان بك .

ولا تنتفخ في وقت الظفر ، فإنك لا تدري كيف يدور عليك الزمان .

ولا تهزل بخطأ غيرك فإن المنطق لا تملكه.

وألق الخطأ من الناس بنوع الصواب الذي في جوهرك

ولا تبذلن مودتك لصديقك دفعة واحدة.

وصير الحق أبدا أمامك تسلم دهرك ولا تزال حرا .

تاویل آیة:

*تأويل آية (1):

إن سأل سائل عن تأويل قوله عز وجل :

« وجاؤا على قميصه بدم كذب ، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جمیل

والله المستعان على ما تصفون » يوسف: 18.

فقال : كيف يصح وصف الدم بالكذب ، والكذب من صفات الأقوال، لا من صفات الأجسام؟

ص: 165


1- تكلم على هذه الآية الشريف المرتضى في كتاب الأمالي م 1 ص 105 -107.

وما معنى قول يعقوب (علیه السلام): فصبر جمیل ، وكيف وصفه بذلك ، ونحن نعلم أن صبره لا يكون إلا جميلا؟؟

الجواب:

قيل له: أما كذب فمعناه في هذا الموضع ، مكذوب فيه وعليه ، مثل قولهم : هذا ماء سکب وشراب صب ، يريدون مسکوبا ومصبوبا .

وكقولهم: رجل صوم ، وامرأة نوح، والمعني صائم ونائحة . قال الشاعر :

فظل جيادهم نوحا عليهم *** مقلدة أعنتها صفوفا

أراد نائحة.

ويقولون أيضا: ما لفلان معقول ، يريدون عقلا ، قال الشاعر :

حتى إذا لم يتركوا لعظامه *** لحما ولا لفؤاده معقولا

وقد قال الفراء وغيره: يجوز في النحو ، بدم. كذبا بالنصب على المصدر ، وتقدير الكلام، كذبوا كذبا .

وإنما كان ذمة مكذوبا فيه ، لأن أخوة يوسف (علیه السلام) ذبحوا سخلة ولطخوا

قميص يوسف بدمها ، وجاؤوا أبا هم بالقميص، وادعوا أكل الذئب له ، فقال لهم يعقوب (علیه السلام): يا بني ، لقد كان هذا الذئب رفيقا حين أكل ابني ولم يخرق قميصه، وعند ذلك قالوا: بل قتله اللصوص، فقال: فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله.

وقد قيل : إنه كان في قمیص یوسف ثلاث آيات:

إحداهن حين جاؤا إليه بدم كذب، فتبينه أبوه على أن الذئب لو أكله الخرق قميصه.

والثانية ، حيث قد قميصه من دبر .

والثالثة ، حين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا.

وأما وصف الصبر بأنه جميل فلأن الصبر قد يكون جميلا وغير جميل ، وإنما

ص: 166

يكون جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى. فلا كان في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صح وصفه بالجميل.

وقد قيل إنه أراد صبرا لا شكوى فيه ولا جزع معه، ولو لم يصفه بذلك لظن مصاحبة الشكوى والجزع له.

وقد قال أهل العربية : إن ارتفاع الصبر ههنا ، إنما هو لأن المعني ، فشاني صبر جمیل ، والذي اعتقده صبر جمیل ، وقد أنشدوا :

شكا إلي جملي طول السري *** يا جملي ليس إلى المشتکی

صبر جمیل فكلانا مبتلى

معناه، فليكن منك صبر جمیل.

وقد روي أن في قراءة أبي، فصبرا جميلا بالنصب، وذلك يكون على الاغراء ، والمعنى ، فاصبري يا نفس صبرا جميلا . قال ذو الرمة :

ألا إنما مي فصبرا بلية *** وقد يبتلى الحر الكريم فيصبر

تأويل خبر:

إن سأل سائل ، فقال : ما معنى الخبر المروي عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« إن الله تعالى خلق آدم على صورته ».

أو ليس ظاهر هذا الخبر يقتضي التشبيه له تعالى بخلقه ، فإن لم يكن على ظاهره، فما تأويله ؟

الجواب:

قلنا : أحد الأجوبة عن هذا أن تكون الماء عائدة الى الله تعالى ، والمعنى أنه خلقه على الصورة التي اختارها ، وقد يضاف الشيء إلى مختاره .

ومنها أن تكون المهء عائدة الى آدم، ويكون المراد أن الله تعالى خلقه على صورته التي شوهد عليها ، لم ينتقل إليها عن غيرها کتنقل أولاده الذين يكون أحدهم نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويخلق خلقا من بعد خلق، ويولد طفلا صغيرا

ص: 167

ثم يصير غلاما ثم شابا ثم كهلا ، ولم يكن آدم (علیه السلام) كذلك ، بل خلق على صورته التي مات عليها.

وما منها ما رواه الزهري عن الحسن قال: مر النبي (صلی الله علیه واله) برجل من الأنصار وهو يضرب وجه غلام له ويقول: قبح الله وجهك ووجه من تشبهه ، فقال له النبي (صلی الله علیه واله): بئسما قلت ، إن الله خلق آدم على صورته ، يعني صورة المضروب.

وهذه أجوبة صحيحة والحمد لله.

فصل:

من الاستدلال على صحة النص بالامامة على أمير المؤمنين (علیه السلام) من قول النبي (صلی الله علیه واله): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » .

اعلم - أيدك الله تعالى - أن مما يدل على أن أمير المؤمنين (علیه السلام) المنصوص بالإمامة عليه ، ما نقله جميع الأمة، وتلقاه بالقبول الخاصة والعامة ، من قول النبي (صلی الله علیه واله) له (علیه السلام):

« أنت مني بمنزلة هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدي » (1).

فأوجب له جميع منازل هارون من موسى عليهما السلام، إلا ما خصه العرف من الأخوة، واستثناه هو (علیه السلام) من النبوة. وذلك موجب له الخلافة والإمامة ، وكاشف عن استحقاقه على الكافية فضل الطاعة.

واعلم أنك تسأل في هذا الدليل عن خمسة مواضع :

أولها أن يقال لك: ما حجتك على صحة الخبر في نفسه ، وما الذي يدفع به إنكار من أنكره؟؟

وثانيها ، أن يقال لك : إذا ثبت الخبر، في الحجة على أن المراد بمنزلة

ص: 168


1- تجده في البخاري ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، ومستدرك الصحيحين ، ومسند أحمد ، والنسائي ، وطبقات ابن سعد، وحلية الأولياء ، وتاريخ بغداد، وتاريخ الطبری، وکنز العمال ومجمع الزوائد ، والرياض النضرة وغيرها « أنظر فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 299 - 316). وتجده في مناقب ابن المغازلي مرويا بعدة عدة طرق انظر : ص 27 - 37.

هارون من موسی (علیه السلام)، المذكورة فيه ، عموم ما يستحقه منه سوى ما ذكرتموه ، وما أنكرتم أن يكون منزلة واحدة؟ وهي التفضيل المزيل لإرجاف المنافقين (في) قولهم: إن رسول الله (صلی الله علیه واله) قلاه لما خلفه في غزاة تبوك.

وثالثها ، أن يقال لك: إذا ثبت العموم، فمن أي وجه استنبطت من ذلك النص بالإمامة ، ووجوب الخلافة الأمير المؤمنين (علیه السلام)؟

ورابعها ، أن يقال لك: إذا ثبت له به الخلافة ، فما الحجة على أنه أراد استحقاقه لها بعده؟ وما أنكرتم أن يكون قصد أنه خليفته في حياته فقط، كما أن هارون إنه خلف موسى في حياته فقط ؟؟

وخامسها أن يقال لك : إذا ثبت له بذلك الخلافة بعده، فما الحجة على أنه أراد بذلك ، الفور ، فيكون خليفة الذي يليه ، دون التراخي ، فيكون خليفة بعد عثمان ؟؟

الجواب عن السؤال الأول:

أما الحجة على صحة هذا الخبر في نفسه فهي الحجة على صحة خبر الغدير بعينه ، لمماثلته له في الظهور والانتشار، وتواتر الشيعة به تواترا يقطع الأعذار ، ورواية أكثر أصحاب حديث العامة له في الصحيح عندهم من مسند الأخبار، وتلقي الكافة له مع ذلك بالتسليم والاقرار. فمن شيعي يحتج به ، وناصبي يتأوله ، وليس بينهما دافع له.

ومن قبل ذلك ، فاحتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) في يوم الشورى وغيره ، لم ينكره أحد ممن سمعه.

وكل هذا قد سلف ذكره في خبر الغدير ، فلا حاجة إلى إعادته، وهو أوضح حجة على ثبوت الخبر وصحته.

الجواب عن السؤال الثاني :

وأما الحجة على أنه أراد بقوله : (أنت مني بمنزلة هارون من موسی)، جميع منازله منه على العموم، وإن عبر عن ذلك بلفظ التوحيد إلا ما استثناه العرف والقول، فهو أنا وجدنا الناس في هذا الخبر على فرقتين لا ثالث لهما :

ص: 169

أحدهما يذهب إلى أن المراد به منزلة واحدة على التحقيق، وتدعي أن السبب في ذلك ما روي في غزاة تبوك ، وهي نفر يسير .

والفرقة الأخرى تذهب إلى عموم القول لجميع المنازل، إلا ما خصصه الدليل ، وهو قول الشيعة وأكثر الخصوم.

وإنما أنكر هؤلاء المخالفون المعترفون بأن الخبر يقتضي العموم، أن يكون موجبا لخلافة أمير المؤمنين بعد الرسول عليهما السلام، من حيث لم يثبت عندهم أن هارون لو بقي بعد موسى عليهما السلام، كان خليفة له ، ولم يهتدوا في الخبر إلى دليل على أنه أراد الاستخلاف من بعده . وإن كان منهم من قد علم ذلك، ولكن جذبه الهوى ، فأصر على الإنكار وعاند .

وإذا لم يكن في الخبر غير هذين القولين ، فلا شك في أنه متى فسد قول من

ادعي فيه الخصوص ، علم صحة قول من ذهب إلى العموم.

والذي يدل على فساد قول من قصره على منزلة واحدة ، وجود الاستثناء الظاهر فيه، الذي لا يصح إيراده إلا والمستثنى منه أكثر من واحد، لأن الاستثناء هو إخراج بعض من جملة ، لو لم يستثن لدخل فيها . والخصلة الواحدة لا يصح هذا فيها .

ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال : رأيت زيدا إلا عمرا، ويحسن أن يقال : رأيت القوم إلا عمرا. فعلم بهذا فساد مقال من قصر الخبر على منزلة واحدة .

فأما ما تعلقوا به من أن السبب في ذلك ما جرى في غزاة تبوك ، فغير صحيح، لأنا عالمون بصحة الخبر، ولسنا نعلم صحة ما ذكروه كعلمنا بالخبر، فلا طريق لنا إلى تخصيص المعلوم، بما ليس بمعلوم.

على أن الروايات قد اتصلت واشتهرت عن رسول الله (صلی الله علیه واله)، بأنه قال لأمير المؤمنين (علیه السلام) : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) في مواقف عدة ، وأماكن كثيرة، وأوقات متفرقة. فيجوز أن يكون غزاة تبوك أحدها ، ولكنه لا سبيل لنا إلى قصره عليها ، وإن كنا متي خصصناه بها لم يكن منا ما ظنه المخالف ، من أن الخبر دال على فضيلة المحبة فقط ، لا يستحيل أن تكون هي السبب ، فيقول

ص: 170

رسول الله (صلی الله علیه واله) قولا يقتضيه ، ويتضمن (عديدة) ويزيد عليه ، فيكون بما قاله قد أعلم المرجفين أنه ما قلاه، وأن منزلته عنده في المحبة والفضل وعلو القدر والخلافة له في حياته وبعد وفاته ، نظير هارون من موسی (علیه السلام). وهذا مستمر غير مستحيل.

وأما ما ورد الخبر (به) بلفظ التوحيد في قوله : (منزلة هارون من موسى)، ولم يقل منازل هارون، فقد جرت العادة بمثل ذلك من إيراد القول مضمنا ذکر منزلة ، والمراد عدة منازل، فيقولون: منزلة فلان من الأمير ، كمنزلة فلان، وهم يشيرون إلى عدة أحوال من منازل مختلفة وأسباب، ولا يكاد يقولون : منازل فلان من الأمير كمنازل فلان.

وإنما استعملوا لفظ التوحيد في هذا المكان من حيث اعتقدوا أن المنازل الكثيرة والرتب المختلفة ، قد حصل جميع ذلك له كالمنزلة الواحدة، التي هي جملة ، وإن تفرعت إلى أشياء عدة ، فعبروا عنها بلفظ التوحيد اتساعا لهذه العلة .

الجواب عن السؤال الثالث:

وأما الوجه الذي علم منه دلالة الخبر على الخلافة ، والحجة في أنه نص على أمير المؤمنين (علیه السلام) بالإمامة ، فهو أن منازل هارون من موسى عليهما السلام معروفة ، وقد حصل عليها الإجماع، ونطق بها القرآن.

فمنها أنه كان أخا بالولادة، وكان أحب الخلق إليه ، وأفضلهم لديه .

وكان شريكه في النبوة والرسالة .

وكان عضده الذي شد الله تعالى به أزره، قال الله جل اسمه :

« وَٱجعَل لِّي وَزِيرا مِّن أَهلِي ، هَارُونَ أخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْري، وَ أَشْرِکْهُ في أَمْري » طه: 29.

وكان خليفته على قومه عند غيبته قال الله تعالی :

« وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ » الأعراف: 142.

ص: 171

فلما قال النبي (صلی الله علیه واله) لأمير المؤمنين (علیه السلام)، أنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، علمنا أنه أراد جميع ما كان لهارون من موسی (علیه السلام) من المنازل، إلا ما أخرجه الاستثناء ، وأخرجه أيضا العرف من أخوة الولادة . واتضحت الحجة في أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أحب الخلق إلى رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأفضلهم عنده، وأنه عضده الذي شد الله به أزره، ووزيره في أمره، وخليفته في أمته. وهذا بین لمن تدبره.

الجواب عن السؤال الرابع:

اعلم أن الكلام في هذا السؤال هو معظم ما يدور بينك وبين المخالفين ، إذا استدللت بهذا الخبر، وفي إحكام هذا الجواب عنه ، حسم مادة ما يوردونه عليك من العتب والشغب ، لأنهم أبدا يقولون: إذا ثبت لكم بهذا الخبر ، الاستخلاف، فما الدليل على أن رسول الله (صلی الله علیه واله) ، أراد به استخلاف أمير المؤمنين (علیه السلام) في حياته وبعد مماته ، دون أن يكون مراده قصر هذا الأمر على أيام حياته فقط. ويقولون : هذا أشبه ، لأن خلافة هارون لموسى (علیه السلام) لم تكن إلا في حياة موسی.

ولو أراد بذلك النص على خلافته له من بعده ، فقال : أنت مني بمنزلة يوشع من موسی، لأن خلافة موسی (علیه السلام) من بعده كانت ليوشع ، دون غيره. فعن هذا جوابان:

أحدهما في قوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسی فوائد لا يحصل مثلها لو قال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى ، (فإنه ) (1) يدل على أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أعلى الناس قدرا (عند) رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأنه تاليه في الفضل والعلم ، كما (کان) هارون من موسی (علیه السلام)، وكان خليفته في حياته إذا غاب. ولو بقي بعد موسى لكان أحق بخلافته من يوشع .

فجمع رسول الله (صلی الله علیه واله) لأمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله : أنت مني بمنزلة هارون من

ص: 172


1- في النسخة: (وقال إنه).

موسى هذه الخصال ، فهو أعلى الناس قدرا ومحلا ، وهو تاليه في العلم والفضل ، وخليفته في حياته.

ولما بقي بعده كان أحق الناس بخلافته. ولو قال له: (أنت بمنزلة يوشع من موسی) لم يعطه من جميع ما ذكرناه إلا الخلافة من بعده فقط ، ولم يبق بعد هذا أكثر من أن نبين أن هارون لو بقي بعد موسى كان أحق بالخلافة من يوشع .

والذي يدل على ذلك أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بقوله تعالى :

« وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح »، وفي ثبوتها له في حال حياته وجوب حصولها له لو بقي بعد وفاته ، لأن خروجها عنه في حال من الأحوال مع بقائه حط له عن رتبة عالية ، كان عليها ، وصرف له عن ولاية عظيمة فوض إليه الأمر فيها ، وذلك يقتضي الضعة منه وغاية (التنفير) عنه ، لأنه خلافة النبوة ليست كالخلافة على قرية ومدينة. وإنما هي النيابة عن النبي (علیه السلام) في جميع ما كان يتولاه من أمر الأمة والقيام مقامه في إصلاح أمور الكافة ، من تعليمهم وتهذيبهم، ووعظهم وتأديبهم ، وزجرهم وتخويفهم، وتوقيفهم ، وتعريفهم.

وهذا يقتضي التدين بفرض طاعته، وغاية التبجيل والتعظيم له. فمتى حط عن هذه المرتبة بعد كونه عليها ، وأنزل عن درجة الخلافة التي رقي إليها ، زال ما كان له في النفوس من التبجيل والتعظيم. وفي ذلك ما ذكرناه من غاية التنفير .

ومن ذا الذي تكون نفسه ساكنة إلى قبول وعظ خليفة ، يعلم أو يجوز أنه سینحط عن رتبة الخلافة إلى أن يصير رعية ، ويهبط عن درجة الإمامة إلى أن يحصل من أحد الأمة ، كسكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه؟

بل كيف يصح من التابعين غاية التبجيل والتعظيم لمن يعلمون من حاله ، أو يجوزون ذلك من أمره ، أنه سيتأخر بعد مقامه ، ويصير لمن كان من أتباعه ، ومتعلما (من كان يعلمه ، ومقتديا بمن كان يقتدي به ، حتى يسقط ما كان يلزم الناس من فرض طاعته ، ويصير هو وهم طائعين لمن كان من جملة المطيعين له .

ص: 173

ومن دفع أن يكون الخروج من هذه المنزلة منفرا ، كمن دفع أن تكون القباحة في الخلق والدمامة المفرطة في الصور منفرا .

وقد أجمع معنا خصومنا من المعتزلة على أن الله تعالى يجنب أولياءه وأنبياءه عليهم السلام جميع هذا.

فبان بما ذكرنا أن منزلة هارون من موسی (علیه السلام) منزلة لا يجوز خروجه عنها ما دام حيا، وأنه لو بقي بعد موسى لكان أحق بها من يوشع وأولى .

وفي ذلك دليل على أن أمير المؤمنين (علیه السلام) يستحقها من رسول الله (صلی الله علیه واله) في حياته وبعد وفاته ، لبقائه بعده.

وليس موت هارون في حياة موسی (علیه السلام) مانع لأمير المؤمنين (علیه السلام) مما هو مستحقه ببقائه.

ألا ترى أن رجلا لو قال لوكيل له : أجر على عبدي الرومي في كل يوم جرابة ، وفي كل شهر صلة ، ثم قال بعد ذلك : إن منزلة عبدي الحبشي عندي کمنزلة ذلك الرومي، فأجره مجراه، واجعل له من الجاري والصلة نظير ما جعلت له ، ثم مات الرومي ، فمعلوم أن موته لا يقطع جرانة الباقي ، ولا يحرمه صلته .

هذا ما لا يدفعه أحد ولا ينكره.

فإن قال الخصم : فيلزمك على هذه الطريقة ، أن نقول: إن طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) كانت مفترضة على الأمة في حياة رسول الله (صلی الله علیه واله).

قيل له : كذلك نقول ، ولكن بشرط غيبته. وأما عند حضور النبي (صلی الله علیه واله) فإنه لا يجوز أن تكون الطاعة واجبة إلا له، وهذا حكم الخليفة في المتعارف والعادة .

الجواب الثاني عن هذا السؤال:

إن النبي (صلی الله علیه واله) قد أوضح مراده في كلامه لمن فهم، وأبان عن قصده من قوله لمن علم.

وذلك أنه أتي بجملة أوجب منها لأمير المؤمنين (علیه السلام) ما أراده، واستثنی

ص: 174

منها ما لم يرده، وعلق ذلك بوقت ، نفي عنه فيه ما نفى ، فوجب أن يكون هذا له فيه ما أوجب .

ولا يجوز أن يتضمن الكلام استثناء ويكون مقيدا بوقت، إلا وهو وقت المنفي منه والموجب.

مثال ذلك ، قول القائل : قام القوم إلا زيدا اليوم ، فلا يجوز أن يكون اليوم إلا وقتا للحالين. ففيه قام القوم ، وفيه بعينه لم يقم زيد ، ولولا أن الأمر كما ذكرناه لم يحسن الاستثناء وذكر الوقت ، وقد قال النبي (صلی الله علیه واله) بعدما أوجبه لأمير المؤمنين (علیه السلام)، من منازل هارون من موسی (علیه السلام): (إلا أنه لا نبي بعدي)، فعلمنا أن جميع ما أثبته له مما استحقه هارون من موسى في حياته ، وهو مثبت له من بعده، لأنه الوقت الذي قرنه بالاستثناء .

ولو كان الأمر على ما ذكره الخصم من أنه أراد بذلك أيام حياته ، لقال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي معي ، أو لا ني في حياتي . وفي نفيه لما (لم) یرده بعده ، دليل على أنه قد أثبت له ما أراده بعده ، والحمد لله .

فإن قال الخصم : ما تنكرون من أن يكون مراده (صلی الله علیه واله) بقوله : (إلا أنه لا نبي بعدي) إنما هو بعد كوني نبيا ، وذلك يقتضي حال الحياة.

قلنا: أنكرنا ذلك من قبل أن لفظة (بعد) إذا خرجت مخرج قول النبي (صلی الله علیه واله) أوجبت بالعرف والعادة حال الوفاة التي هي بعد الحياة، دون أن يوجب حالا في الحياة.

ألا ترى إلى قوله (صلی الله علیه واله) لأمير المؤمنين:

« تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين، والمارقين »

وقوله: «ستغدر بك الأمة من بعدي » .

وقوله : « ستفرق كلمتكم من بعدي ».

وقوله :

« ألا لا ترجعن بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ».

كل ذلك يفيد ، بعد وفاتي .

ص: 175

وكذلك قول القائل : فلان وصي من بعدي ، والقائم مقامي من بعدي .

فإن المعنى فيه بعد موتي . وهذا يبطل ما ظنه الخصم.

على أنه لو سلم له ما ادعاه، وبلغ منه مناه ، لم يخرج عن الحق الذي قصدناه ، لأن نفي النبوة بعده ينتظم بعد كونه نبيا في حياته وبعد وفاته وإلى آخر الأبد.

وما ثبت لأمير المؤمنين (علیه السلام) في متضمن اللفظ من المنازل التي لم تنتف بنفي النبوة ، يجب أن يثبت له في سائر أحوال النفي ، حتى يكون خليفته في حياته في كل حال غاب فيها عن أمته، وخليفته من بعده ما دامت حياته (صلی الله علیه واله)، وهذا واضح لمن تأمله.

الجواب عن السؤال الخامس:

وأما الحجة على أن الخلافة الواجبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) بنص رسول الله (صلی الله علیه واله) في هذا الخبر، تجب له بعده بغير فصل، دون أن يكون المراد بذلك وجوبها له بعد عثمان ، فهي واضحة من وجوه:

أحدها أنا قد بينا استحقاقه للخلافة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) بهذا الخبر، وأنه القائم بعده ، مقام هارون بعد موسی (علیه السلام)، وأقمنا الدليل على أن هارون لو بقي لكان خليفة لموسى من بعده، يليه بغير فصل.

والوجه الثاني أن قول النبي (صلی الله علیه واله) في الخبر : (إلا أنه لا نبي بعدي) قد أقاد أنه الخليفة بعده بما قدمنا بيانه ، وقد علمنا أن نفيه للنبوة بعده لا يتخصص بزمان دون زمان ، بل يعم جميع الأوقات والأحوال ، فيجب أن يكون الثابت لأمير المؤمنين (علیه السلام) في الخبر عاما بعده في جميع الأوقات، غير مخصص بحال دون حال ، فهو الخليفة بعده على الفور وما اتصل ببقائه الزمان ، وقد تقدم هذا القول على البيان، وإنما أعدناه لأنه جواب عن هذا السؤال ..

والوجه الثالث:

إن الناس في إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) طائفتان :

فإحداها تقول إن الخلافة إنما وجبت له بعد عثمان باختيار الأمة له، ولم

ص: 176

تجب له بهذا الخبر، ولا بغيره من الأخبار، وأن النص عليه المتضمن كونه خليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) لم يكن في حال من الأحوال.

والطائفة الأخرى تقول إن الإمامة لا تجب لأحد إلا بالنص دون الاختيار، وأن هذا الخبر من جملة النصوص (على) أمير المؤمنين بالخلافة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأنه أول خلفائه ، ومتقدم أوصيائه ، وتدبيره يلي تدبيره ، وإمامته بعد وفاته بغير فصل بينه وبينه.

وليس في الأمة من يذهب إلى غير هذين القولين. وفي ثبوت الخبر وضوح ما تضمنه من النص على أمير المؤمنين (علیه السلام) بالإمامة ، واستحقاقه لذلك بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) دلالة على بطلان مقال من ذهب إلى الاختيار، فلم يبق إذن إلا قول أصحاب النص الذين يعتقدون أنه الخليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) بغير (فصل) (1) وهذا مغن لمن كان له عقل والحمد لله.

فصل:من الحديث المسند في نقل العامة ،

الشاهد بأن رسول الله (صلی الله علیه واله) قال لأمير المؤمنين (علیه السلام): (أنت مني بمنزلة هارون من موسی)

في أوقات عدة، وأحوال مختلفة ، غير المذكور في غزاة تبوك.

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن ابراهيم بن كليب السلمي الحراني بمدينة الرملة في سنة عشر وأربعماية ، قال : أخبرني الخطيب أبو حفص عمر بن علي بن الحسن العتكي ، قال : قرأت على محمد بن ابراهيم السمرقندي ، (حدثنا) (2) محمد بن عبد الله بن حكيم قال: حدثنا سفيان بن بشر الأسدي ، قال : حدثنا علي بن هاشم، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه، عن جده أبي رافع : أن النبي (صلی الله علیه واله) جمع بني عبد المطلب في الشعب، وهم يومئذ أربعون رجلا.

قال: فجعل لهم علي (علیه السلام) فخذا من شاه، ثم ثرد لهم ثریدة، وصب عليها

ص: 177


1- في النسخة : (فرق).
2- في النسخة : (حدثكم).

المرق، وترك عليها اللحم، وقدمها فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم سقی عسا واحدا فشربوا كلهم منه حتى رووا ، فقال أبو لهب: والله ، إن منا لنفرا يأكل الرجل منهم الجفنة، ويشرب الفرق وما يرويه . وإن هذا الرجل دعانا على رجل شاة وعس من لبن ، فشبعنا، وروينا منها ، إن هذا هو السحر المبين .

ثم دعاهم فقال : إن الله عز وجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ورهطي المخلصين، وأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووارثا ، ووزيرا، ووصيا ، وخليفة في أهله.

فأيكم يبايعني على أنه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي ، ويكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

فسكت القوم، فأعاد الكلام عليهم ثلاث مرات. وقال : والله ، ليقومن قائمكم أو يكون في غيركم، ثم لتذمن.

قال: فقام علي (علیه السلام)، وهم ينظرون كلهم إليه ، فبايعه وأجابه إلى ما دعاه ، فقال له: ادن مني ، فدنا منه ، فقال : افتح فاك، ففتح فاه ، فمج فيه من ريقه ، وتفل بين كتفيه ، وتفل بين قدميه.

فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك إذ جاءك فملأت فاه بزاقا .

فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : ملىء حكما وعلما وفهما .

فقال لأبي طالب : ليهنئك أن تدخل اليوم في دين ابن أخيك ، وقد جعل ابنك مقدما عليك (1) .

وحدثني القاضي السلمي رحمه الله قال: أخبرني أبو حفص العتكي ، قال : حدثني سعيد بن محمد الحافظ، قال: أخبرني أبو حصين محمد بن الحسين الكوفي

ص: 178


1- رواه الطبري في تاريخه ج 2 ص 217 من طبعة دار القاموس للطباعة والنشر -بيروت - المصورة عن النسخة المطبوعة مصر في المطبعة الحسينية سنة 1323 ه كما في الختم الممهور عليها، وانظر: خصائص النساني ص 9 ويراجع مصادر هذا الحديث فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 19- 21 وشرح النهج لابن أبي الحديد م 3 ص 293 رواه عن أبي جعفر الاسكافي ، ولهذا الحديث مصادر كثيرة .

قراءة ، قال : حدثنا عبادة بن زیاد الأزدي ، قال : حدثنا كادح بن جعفر العابد ، عن عبد الله لهيعة ، عن عبد الرحمن بن زياد الافريقي ، عن مسلم بن يسار ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

لما قدم علي (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه واله) بفتح خیبر ، قال له رسول الله (صلی الله علیه واله):

لولا (أن) تقول فيك طائفة من أمتي ما قالت النصارى في المسيح بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالا ، لا تمر بملأ إلا أخذوا التراب من تحت قدميك ، ومن فضل طهورك، فاستشفوا به ، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ، وترثني وأرثك ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنك تبرىء ذمتي ، وتقاتل على سنتي، وأنت غدا في الآخرة أقرب الناسمني ، وأنك أول من يرد علي الحوض ، وأنك على الحوض خليفتي ، وأنك أول من يکسي معي ، وأنك أول داخل الجنة من أمتي، وأن شيعتك على منابر من نور ، مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم ، ويكونون غدا في الجنة جيراني ، وأن حربك حربي ، وسلمك سلمي ، وأن سريرتك سريرتي ، وعلانيتك علانيتي ، وأن ولدك ولدي ، وأنك منجز عداتي ، وأنك على الحوض ، وليس أحد من الأمة يعدلك عندي، وأن الحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك ، وأن الإيمان خالط لحمك ودمك ، كما خالط لحمي ودمي ، وأنه لا يرد على الحوض مبغض لك ، ولن يغيب عنه محب لك (1) حتى يرد على الحوض معك يا علي .

فخر علي (علیه السلام) ساجدا ثم قال: الحمد لله الذي من علي بالاسلام، وعلمني القرآن، وحببني إلى خير البرية ، خاتم النبيين، وسيد المرسلين ، إحسانا منه إلي، وفضلا منه علي.

فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : يا علي ، لولا أنت لم يعرف المؤمنون من بعدي (2).

وحدثني القاضي السلمي ، قال : أخبرني العتكي ، قال: أخبرني محمد بن أحمد بن صفوة المصيصي ، قال: حدثنا الحسن بن علي العلوي ، قال : حدثنا الحسن بن

ص: 179


1- في النسخة غير واضحة ، والتصحيح عن الأمالي للصدوق.
2- انظر : أمالي الصدوق ص 85 من المجلس الحادي والعشرين وتجده في مناقب ابن المغازلی ص 238 - 237 .

حمزة النوفلي ، قال : حدثنا سليمان بن جعفر الهاشمي ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال:

آخی رسول الله (صلی الله علیه واله) بين أصحابه ، فقلت: يا رسول الله ، آخيت بين أصحابك ، وتركتني فردا لا أخ لي.

فقال : إنما أخرتك لنفسي ، أنت أخي في الدنيا والآخرة ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسی.

فقمت وأنا أبكي من الجذل والسرور ، فأنشأت أقول:

أقيك بنفسي أيها المصطفى الذي *** هدانا به الرحمن من عمه الجهل

وأفديك حوبائي وما قدر مهجتي (1) *** لمن أنتمي معه إلى الفرع والأصل

ومن جده جدي ومن عمه أبي *** ومن أهله ابني ومن بنته أهلي

ومن ضمني إذ كنت طفلا ويافعا *** وأنعشني بالبر واليل والنهل

ومن حين آخى بين من كان حاضرا *** دعاني فآخاني وبين من فضلي

لك الخير إني ما حييت لشاكر *** لإحسان ما أولیت یا خاتم الرسل (2)

وحدني أيضا القاضي أبو الحسن السلمي رحمه الله، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الحنظلي الباب سیری بواسطه قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن عامر ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يونس ، قال : حدثنا أحمد بن مغا (كذا)، قال: حدثنا الأردبيلي ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب ومعاذ بن حكيم عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر عن الزهري عن عوف بن مالك المازني عن ابن عباس، قال:

رأيت أبا ذر الغفاري، متعلقا بحلقة ببيت الله الحرام، وهو يقول:

يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته باسمي ، أنا جندب الربذي الغفاري.

ص: 180


1- في النسخة كلمات غير واضحة. والتصحيح عن البحار ج 38 ص 337.
2- انظر : البحار ج 38 ص 337 نقله عن مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص 367 - 338 کما في الهامش .

إني رأيت رسول الله (صلی الله علیه واله) في العام الماضي وهو آخذ بهذه الحلقة، وهو يقول:

أيها الناس ، لو صمتم حتى تكونوا كالأوتاد ، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ،ودعوتم حتى تقطعوا إربا إربا ، ثم بغضت علي بن أبي طالب ، أكبكم الله في النار. قم يا أبا الحسن ، فضع خمسك في خمسي (يعني كفك في كفي) فإن الله اختارني وإياك من شجرة، أنا أصلها ، وأنت فرعها . فمن قطع فرعها أكبه الله على وجهه في النار. علي سید المرسلين، وإمام المتقين ، يقتل الناكثين والمارقين والجاحدين ، علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

وحدثني الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي رضي الله عنه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعماية ، قال : حدثنا القاضي المعافي بن زكريا الجريري إملاء من حفظه ، قال : حدثنا محمد بن مزيد ، قال : حدثنا أبو كريب محمد بن العلا، قال: حدثنا اسماعیل بن صبيح، قال: حدثنا أبو ادریس ، قال : حدثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر قال: قال رسول الله (صلی الله علیه واله) العلي بن أبي طالب: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، ولو كان لکنته .

ومما رواه السلمي أيضا ، وكتبه لي عن الحنظلي الباب سيري قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا محمد بن سليمان البافیدي ، قال : حدثنا جعفر بن عمر الايلي ، قال : حدثنا أربعة : ابن أبي (ذويب)، وإبراهيم بن سعد ، ويزيد بن عیاض الليثي ، ومالك بن أنس ، قالوا: حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال لسعد :

(هل) سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول لعلي بن أبي طالب حين خرج إلى غزاة تبوك: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسی إلا أنه لا نبي بعدي

قال: نعم. وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول لعلي هذه المقالة في غزاته هذه غير مرة. (1)

ص: 181


1- وتجده في مناقب ابن المغازلي ص 33 - 34.

والأخبار المروية في هذا المعنى كثيرة في نقل الخاصة والعامة. وفيما أوردته كفاية ، والله أعلم ، والحمد لله .

فصل: من آداب أمير المؤمنين (علیه السلام) وحكمه :

المرء حيث يجعل نفسه .

من دخل مداخل السوء اتهم.

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن .

من أكثر من شيء عرف به.

من مزح استخف به.

من اقتحم البحر غرق.

المزاح يورث العداوة .

من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية ، فليس لنفسه عنده من قدر .

ما ضاع امرؤ عرف قدره.

اعرف الحق لمن عرفه لك رفيعا كان أم وضيعا .

من تعدي الحق ضاق مذهبه.

من جهل شيئا عاداه.

أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنه ، ولم يثق به أحد لسوء فعله .

لا دليل أنصح من استماع الحق.

من نظف ثوبه قل همه.

الكريم يلين إذا استعطف ، واللئيم يقسو إذا لوطف.

حسن الاعتراف یهدم الاقتراف.

أخر الشر، فإنك إذا شئت تعجلته .

أحسن إذا أحببت أن يحسن إليك.

إذا جحد الإحسان حسن الامتنان.

العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم .

من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر عنها خصم.

ص: 182

لا تظهر العداوة لمن لا سلطان لك عليه.

فصل:

قال شيخنا المفيد رحمه الله :

أحد عشر شيئا من الميتة التي تقع عليها الذكاة حلال.

وهي : الشعر ، والوبر ، والصوف، والريش، والسن، والعظم، والظلف ، والقرن، والبيض ، واللبن، والأنفحة.

وعشرة أشياء من الحي الذي تقع عليه الذكاة حرام وهي : الفرث ، والدم، والقضيب، والأنثيين، والحيا، والرحم، والطحال، والأشاجع، وذات العروق .

قال: ويكره أكل الكليتين لقربهما من مجرى البول، وليس أكلها حراما .

فصل:

أملى علي شيخي رحمه الله :

إن في الرأس والجسد أربع فرايض ، وعشر سنن.

ففريضتان في الرأس وهما غسل الوجه في الوضوء ، والمسح بالرأس.

وفريضتان في الجسد ، وهما غسل اليدين ومسح الرجلين.

وأما السنن فهي سنن إبراهيم الخليل (علیه السلام)، وهي الحنيفية ، خمس منها في الرأس، وهي: فرق الشعر لمن كان على رأسه شعر ، وقص الشارب ، والسواك ، والمضمضة ، والاستنشاق.

وخمس منها في الجسد وهي : الختان، وقص الأظافير ، ونتف الإبط، وحلق العانة ، والاستنجاء.

قضية لأمير المؤمنين (علیه السلام):

روي أن امرأة علقت بغلام فراودته عن نفسه ، فامتنع عليها ، فقالت: والله لئن لم تفعل لأفضحنك فلم يفعل، فأخذت بيضة، فألقت بیاضها على ثوبها ،

ص: 183

وتعلقت به ، واستغاثت بأمير المؤمنين (علیه السلام) وقالت: يا أمير المؤمنين إن هذا الغلام کابرني على نفسي، وقد أصاب مني ، وهذا ماؤه على ثوبي .

فسأله أمير المؤمنين (علیه السلام) فبکی ، وقال : والله ، يا أمير المؤمنين لقد كذبت ، وما فعلت شيئا مما ذكرت.

فوعظها أمير المؤمنين فقالت: والله ، لقد فعل ، وهذا ماؤه.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): علي بقنبر فجيء به ، فقال له : ممر من يغلي ماء حتى تشتد حرارته ، وصوبه إلي.

فلما أتي بالماء الحار أمر أن يلقى على ثوبها ، فانسلق بياض البيض، وظهر أمره، فأمر رجلين من المسلمين أن يطعامه ويلفظاه ليقع اليقين به، ففعلا ، فرأيا بيضا ، فخلى الغلام، وأمر بالمرأة فأوجعها أدبا . (1)

مسألة في المني ونجاسته ووجوب غسل الثوب منه

إن سأل سائل فقال: ما الحكم عندكم في المني ، فهل هو طاهر أم نجس ؟؟ قيل له : المني نجس ، يجب غسل ما أصاب الثوب منه ، وإن كان قليلا ، ولا تجوز الصلاة في ثوب فيه شيء منه ، سواء كان رطبا أو يابسا .

فإن قال: ما الدليل على ذلك ؟

قيل له : نقل الشيعة بأسرهم على كثرتهم ، واستحالة التواطؤ على ذلك منهم . والخبر يتواتر بنقل بعضهم ، وقد روي جميعهم ما ذكرناه عن سلفهم عن أئمتهم (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه واله) جدهم. وفي هذا الدليل غنى عن غيره .

وبعد ذلك فقد نستدل بما روی عمار بن یاسر رحمه الله أنه قال : رآني رسول

الله (صلی الله علیه واله)، وأنا أغسل من ثوبي موضعا ،

فقال : ما تصنع یا عمار؟

فقلت : يا رسول الله ، نخمت نخامة فكرهت أنتكون في (ثوبي) (2)، فغسلتها .

ص: 184


1- رواه المفيد في الإرشاد ص 103 ، ورواه في البحار ج 40 ص 263 ص 263 عن الإرشاد وعن مناقب ابن شهر آشوب.
2- في النسخة: (ثوب).

فقال : يا عمار ، وهل نخامتك ودموع عينيك وما في أدواتك إلا سواء . إنما يغسل الثوب من البول، أو الغائط أو المني.

ووجوب غسل الثوب منه، لأن رسول الله (صلی الله علیه واله) أضاف الطاهر إلى الطاهر ، والنجس إلى النجس. فلو كان المني طاهرا لا يغسل الثوب منه ، لإضافة إلى ما ميزه بالطهارة ، ولم يخلطه بما قد علم منه النجاسة التي أوجب غسل الثوب منها في الشريعة.

فإن قال السائل : خبركم هذا الذي رويتموه عن عمار غير سالم ، لأنه قد عارضه خبر عائشة وقولها : إن رسول الله (صلی الله علیه واله) كان يصلي وأنا أفرك الجنابة من ثوبه .

وفي صلاة النبي (صلی الله علیه واله) بها وهي في ثوبه دلالة على طهارتها .

قيل له : هذا غير صحيح لما روي من أن رسول الله (صلی الله علیه واله) كان له بردان معزولان للصلاة، لا يلبسها إلا فيها .

وكان يحث أمته على النظافة ، ويأمرهم بها ، وأن من المحفوظ عنه في ذلك

قوله :

« إن الله يبغض الرجل القاذورة ».

قيل: وما القاذورة يا رسول الله ؟

قال: الذي [يتأفف] به جليسه .

ومن يكون هذا قوله وأمره، لا يجلس والمني في ثوبه ، فضلا عن أن يصلي وهو فيه.

وليس يشك العاقل في أن المني لو لم يكن من الأنجاس المفترض إماطتها لكان من الأوساخ التي يجب التنزه عنها .

وفيما صح عندنا من اجتهاد رسول الله (صلی الله علیه واله) في النظافة وكثرة استعماله للطيب - على ما أتت به الرواية - دال على بطلان خبر عائشة.

وشيء آخر، وهو أن عمارا رحمه الله قد اجتمعت الأمة على صحة إيمانه ، واتفقت على تزكيته. وعائشة قد اختلف فيها وفي إيمانها ، ولم يحصل الاتفاق

ص: 185

على تزكيتها ، فالأخذ بما رواه عمار رضي الله عنه أولى .

وشيء آخر، وهو أن خبر عار يحظر الصلاة في ثوب فيه مني أو يغسل ، و خبر (عائشة) يبيح ذلك. والمصير إلى الحاظر من الخبر أولى وأحوط في الدين .

وشيء آخر، وهو أن عمارا رضي الله عنه حفظ قولا عن رسول الله (صلی الله علیه واله) رواه ، وعائشة لم تحفظ في هذا قولا ، وإنما أخبرت عن فعلها ، وقد يجوز أن يكون توهمت أن في ثوبه جنابة ، أو رأت شيئا شبيها بها. هذا مع تسليمنا لخبرها ، فروت بحسب ظنها.

ثم يقال للخصم: إذا كانت الجنابة عندك طاهرة يجوز الصلاة (فيها)، فلم تركتها عائشة واجتهدت في قلعها ، (فألا) تركتها كما تركها عندكم رسول الله (صلی الله علیه واله) وصلى فيها ؟

فإن قال السائل : إذا كان المني نجسا ، فكيف خلق الله تعالى منه الطاهرين من الأنبياء المصطفين والعباد الصالحين؟

قيل له : هذا السؤال عائد على سائله ، وهو أن يقال له : إذا كان المني طاهرا، فكيف خلق الله تعالى النجسين من الفراعنة والشياطين والكفار والمشركين ؟

وبعد فالمني جسم، ونجاسته عرض، والأعراض تنتقل ، وقد رأينا نجسا صار طاهرا، وطاهرا عاد نجسا.

ولو قال للخصم قائل: إذا كان الدم نجسا فكيف (جعله) الله تعالى قوام جسم المؤمن وصحة كونه حيا .

وإذا كانت العذرة نجسة فكيف حملها المؤمن، واستقرت في جسمه: والسؤال عن هذه المواضع ساقط لا معنى له.

فصل:

جاء في الحديث أن قوما أتوا إلى رسول الله (صلی الله علیه واله) ، فقالوا له: ألست رسولا من الله تعالى ؟ قال لهم : بلى ، قالوا له: وهذا القرآن الذي أتيت به كلام الله تعالى ؟ قال: نعم، قالوا: فأخبرنا عن قوله :

ص: 186

«إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » (1)

إذا كان معبودهم معهم في النار، فقد عبدوا المسيح (علیه السلام)، أفنقول أنه في

النار؟

فقال (لهم) رسول الله (صلی الله علیه واله): إن الله أنزل القرآن علي بكلام العرب، والمتعارف في لغتها ، وعند العرب أن (ما) لما لا يعقل و(من) لمن يعقل ، و(الذي) يصلح (لهما) جميعا. فإن كنتم من العرب فأنتم تعلمون هذا . قال الله تعالى : (إنكم وما تعبدون)، يريد الأصنام التي عبدوها ، وهي لا تعقل، والمسيح (علیه السلام) لا يدخل في جملتها ، لأنه يعقل .

ولو قال: إنكم ومن تعبدون الدخل المسيح (علیه السلام) في الجملة . فقال القوم : صدقت يا رسول الله (2).

وفي هذا الخبر دليل على أن رسول الله (صلی الله علیه واله) كان يحاج ويناظر ، ويعارض، ويفصل ويوضح الجواب لسائله ، ويثبت الحجة على خصمه، ولا يدعو إلى التقليد ، بل يوضح التقليد بإقامة الدليل.

فإن قال قائل : إذا كان الذين عبدوا الأصنام في شركهم وكفرهم، فلأي وجه تكون الأصنام في النار معهم ، وهي لم تكفر ، ولا يصح أن يعذب أيضا ما ليس بحي؟

قلنا: إن المراد بذلك أن يرى العابدون لها أنها لم تغن عنهم شيئا، وأنها بحیث هم لا تدفع عن أنفسها لو كانت حية قادرة ، ولا عنهم.

وعلى هذا المعنى يتأول قوله سبحانه:

« وقودها الناس والحجارة »

(بأنها) الحجارة التي عبدوها ، وهي الأصنام ، قال الله تعالى حكاية عن أهل النار :

ص: 187


1- سورة الأنبياء: 98.
2- طريقة هذا الحديث في المحاورة وأسلوبها تبعد جدا أن يكون من حديث الرسول (صلی الله علیه واله) بل هو بكلام بعض علماء المسلمين أشبه.

« لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون »

سؤال عن آیات:

إن سائل فقال: ما معنى قول الله تبارك وتعالى :

« ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ » هود: 103 - 104 (1)

وقوله تعالى في موضع آخر:

« هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» المرسلات: 35 - 36.

وقال في موضع آخر:

« وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ » الصافات: 27 والطور: 25.

وظاهر هذه الآيات مختلف ، لأن بعضها ينبیء عن أن النطق لا يقع منهم في ذلك اليوم، ولا يؤذن لهم فيه .

وبعضها ينبیء عن خلافه:

فالجواب أنه تعالى إنما أراد بما نقاه، نفي النطق المسموع المقبول الذي يكون لهم فيه حجة أو عذر ، ولم ينف الذي ليست هذه حاله .

ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته، ومرادهم بذلك أنه لم يأت بحجة ينتفع بها ، وإن كان قد تكلم كلاما كثيرا.

وقولهم : حضرنا فلانا يناظر ، فلم يقل شيئا. والمراد أنه لم يأت بكلام سدید ، ولا قول صحيح، وإن كان قد قال قولا غزيرا، فأطلقوا اللفظ في الكلام ، والمراد ما ذكرناه ، وقد قال الشاعر :

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما *** سمعي وما في غيره وقر (2)

ص: 188


1- الأنبياء: 99.
2- تجد الكلام على ذلك في أمالي المرتضى م 1 ص 43 - 44.

و هذا التأويل في نفي القول، لا يمنع من وقوع التساؤل، والتلاوم بينهم الذي ليس لهم فيه حجة ، ولا يثمر فائدة.

فأما قوله سبحانه : (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) فالتأويل الحسن أن يحمل (يؤذن لهم) على معنى أنه لا يسمع منهم، ولا يقبل عذرهم.

والعلة في امتناع قبول عذرهم، هي ما قد بينا من أنهم لا يعتذرون بعذر صحيح، ولا يأتون بقول مصيب.

سؤال آخر:

فإن قال: فقد قال الله تعالى في موضع من كتابه :

«وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ » الصافات: 24.

فأوجب السؤال. وقال في موضع آخر :

« فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ» الرحمن: 15.

فنفى السؤال. وظاهره متناقض واختلاف.

فالجواب:

إن السؤال الذي أوجبه سبحانه هو سؤال المطالبة بالواجبات وتضييع المفروضات.

والسؤال الذي نفاه عز وجل هو سؤال الاستعلام. والمعنى في ذلك أن الله تعالى ، علم جميع ما فعلوه ، ولا يخفى عليه شيء مما أتوه ، فلا حاجة إلى السؤال عن ذنبهم، ولا حاجة للملائكة أيضا إلى السؤال عن المذنب منهم ، لأن الله تعالى يجعل لهم سياء يعرفون به ، وذلك قوله عز وجل:

« يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ » الرحمن : 41.

فصل مما ورد في ذكر النصف

روي أن رسول الله (صلی الله علیه واله) قال:

التودد إلى الناس نصف العقل .

وحسن السؤال نصف العلم.

ص: 189

والتقدير في النفقة نصف العيش .

وجاء في خبر آخر عنه (علیه السلام):

التقدير نصف المعيشة.

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال :

الهم نصف الهرم، والسلامة نصف الغنيمة .

وقال بعض الحكماء : الخوف نصف الموت.

وقال آخر : المخافة شطر المنية .

وقيل : الراحة نصف السلامة ، وحسن الطلب نصف العلم ، والتودد نصف الحزم، وحسن التدبير نصف الكسب.

وقال بعض الحكماء : نصف رأيك مع أخيك.

يريد بذلك وجوب المشاورة ليجتمع الرأي.

وقيل : إذا بان منك أخوك ، بان شطرك ، وإذا اعتل خليلك فقد اعتل نصفك.

وأنشد :

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم (1)

وكتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف (2):

لئن عدت بعد اليوم إني لظالم *** سأصرف نفسي حيث تبقى المكارم

ص: 190


1- البيت من معلقة زهير بن أبي سلمي ، التي أولها: أمن أم أوف--ی دمنة لم تكلم *** بحومانة الدراج فالمتثلم
2- أحمد بن يوسف من مشاهير الكتاب في عصر المأمون ومن الشعراء المجيدين ومن وزراء الأمون، يكنى بأبي جعفر أحمد بن يوسف بن صبيح وهو أخو القاسم بن يوسف بن صبيح الشاعر الشيعي ، وتجد أخبار أحمد بن يوسف في كتاب الأوراق لأبي إسحاق الصولي ص 206- 236 الذي ذكر فيه كثيرا من شعره وإنشائه ، وقد توفي سنة 213ه ورثاه أخوه بعدة أبيات.

متى ينجح الغادي إليك بحاجة *** ونصفك محجوب ونصفك نائم

ولما اتهم قتيبة بن مسلم (1) أبا مجلد قال أبو بمجلد:

أيها الأمير تثبت فإن التثبت نصف العفو.

وقيل : السفر نصف العذاب.

وقال سعيد بن أبي عمرويه (2) :

لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان، على ما فيهما من قبح المنظر وعجب الخبر ، أحب إلي من أن أكون ذا وجهين ولسانين وذا قولين مختلفين .

ولبعضهم :

بسطت لساني ثم أوثقت نصفه *** فنصف لساني في امتداحک مطلق

فإن أنت لم تنجز عدالتي تركتني *** وباقي (لسان)(3) الشكر باليأس موثق

ووجد مكتوبا على قبر:

ياقبر أنت سلبتني إلفا *** قدمته وتركتني خلفا

وأخذت نصف الروح من جسدي *** فقبرته وتركتني نصفا

وقيل: إذا اتخذت جارية فعليك بالبيضاء ، فإن البياض نصف الحسن.

لابن عيينة:

إن دنيا هي التي *** بسحر العين سافره

سرقوها نصف اسمها *** هي دنیا وآخره (4)

ص: 191


1- قتيبة بن مسلم الباهلي من أعاظم قواد الأمويين صاحب الفتوحات الكبيرة في الشرق قتله وكيع بن أبي سود سنة 97 ه.
2- هو سعيد بن أبي عروبة لا عمروية كما في البيان والتبيين ج 2 ص 122 - 123 ، وتجد كلمته في الكتاب المذكور . توفي 156 ه- أنظر : فهرست ابن النديم ص 317.
3- في النسخة : لساني .
4- كذا في النسخة.

لابن المعتز (1) في جارية له:

يا دهر کیف شققت نفسا *** فخلست منها النصف خلسا

وترکت نصفا للأسى *** جعل البقاء عليه نحسا

سقيا لوجه حبيبة *** أودعتها كنفا ورمسا

وأنشد لذي الرمة (2):

وإن امرءا في بلدة نصف قلبه *** ونصف بأخرى إنه لصبور

فصل من الأدب:

روي عن بعض الأدباء أنه قال لابنه:

اقتن من مكارم الأخلاق خمسا، وارفض ستا، واطلب العز بسبع، واحرص على ثمان، فإن فزت بتسع بلغت المدي، وإن أحرزت عشرا أحرزت الدنيا والآخرة.

فأما الخمس المقتناة ، فخفض الجانب ، وبذل المعروف، وإعطاء النصفة من

نفسك، وتجنب الأذى، وتوقي الغرم .

وأما الست المرفوضة ، فطاعة الهوي، وارتكاب البغي ، وسلوك التطاول ، وقساوة

القلب ، وفظاظة القول، وكثرة التهاون.

وأما السبع التي ينال بها العز، فأداء الأمانة، وكتمان السر ، وتأليف الجانب ، وحفظ الإخاء، وإقالة العثرة، والسعي في حوائج الناس، والصفح عند الاعتذار .

وأما الثمان التي تحرص عليها ، فتعظيم أهل الفضل، وسلوك طرق الكرم، والمواساة في ملك اليد، وحفظ النعم بالشكر ، واكتساب الأجر بالصبر ،

ص: 192


1- هو عبد الله بن محمد وقيل الزبير المعتز ابن المتوكل العباسي ولد سنة 249ه ومات قتلا سنة 296ه بويع له بالخلافة ولم يستقم أمره سوي يوم واحد، ثم أخذ هو ووزيره وحاجيه وحبس .كان من الأدباء والشعراء المجيدين وبخاصة في الوصف وهو أول من صنف في علم البديع.
2- هو أبو الحرث غيلان بن عقبة ينتهي نسبه إلى نزار من فحول الشعراء الإسلاميين ولقب بذي الرمة بالفم والكسر وهو قطعة حبل لقوله: (أشعث باقي رمة التقليد) كانت وفاته سنة 117 ه ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم وأنا ابن أربعين سنة.

والإغضاء عن زلل الصديق، واحتمال النوائب ، وترك الامتنان بالاحسان.

وأما التسع التي تبلغ بها المدي، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ، وحرز اللسان عن سقوط الكلام، وغض الطرف، وصدق النية ، والرحمة لأهل البلاء ، والموالاة على الدين ، والمسامحة في الأمور والرضا بالمقسوم.

وأما العشرة الكاملة التي تنال بها الدنيا والآخرة ، فالزهد فيما [يفنی] والاستعداد لما يأتي ، وكثرة الندم على ما فات، وإدمان الاستغفار، واستشعار التقوى، وخشوع القلب ، وكثرة الذكر الله تعالى ، والرضا بأفعال الله سبحانه ، وملازمة الصدق ، والعمل بما ينجي .

فصل في ذكر الغني والفقر

قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

ليس الغني في كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس .

وقال (صلی الله علیه واله):

ثلاث خصال من صنعة أولياء الله تعالى :

الثقة بالله في كل شيء ، والغنى به عن كل شيء ، والافتقار إليه عن كل شيء . وقال (صلی الله علیه واله):

ألا أخبركم بأشقى الأشقياء ، قالوا: بلى يا رسول الله .

قال : من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.

نعوذ بالله من ذلك.

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

الفقر يخرس الفطن عن حجته ، والمقل غريب في بلده .

من فتح على نفسه بابا من المسألة فتح الله عليه بابا من الفقر .

وقال (علیه السلام):

العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغني.

وقال: من كساه الغني ثوبه خفي عن العيون عيبه .

ص: 193

وقال: من أبدى إلى الناس ضره فقد فضح نفسه ، وخير الغني ترك السؤال، وشر الفقر لزوم الخضوع.

وقال:

استعن بالله عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ، وأفضل على من شئت تكن أميره .

وقال (علیه السلام): لا ملك أذهب للفاقة من الرضا بالقنوع.

وروي أن الماء صب على صخرة فوجد عليها مكتوبا :

إنما يتبين الفقر والغنى بعد العرض على الله عز وجل .

وقال رجل للصادق (علیه السلام) : عظني ، فقال :

لا تحدث نفسك بفقر ، ولا بطول عمر .

وقيل: ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه.

وقيل : الفقير من طمع ، والغني من قنع.

وأنشد لأمير المؤمنين (علیه السلام):

ادفع الدنيا بما اندفعت *** واقطع الدنيا بما انقطعت

يطلب المرء الغني عبثا *** والغني في النفس لو قنعت

ومن قطعة لأبي ذؤيب : (1)

والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع

لمحمود الوراق : (2)

أراك يزيدك الإثراء حرصا *** على الدنيا كأنك لا تموت

فهل لك غاية إن صرت يوما *** إليها قلت حسبي قد غنیت

تظل على الغنى أبدا فقيرا *** تخاف فوات شيء لا يفوت

وأغنى منك ذو طمرين راض *** من الدنيا ببلغة ما يفوت

وله أيضا:

ص: 194


1- مرت ترجمته.
2- مرت ترجمته.

يا عائب الفقر ألا تزدجر *** عیب الغنى أكبر لو تعتبر

من شرف الفقر ومن فضله *** على الغني إن صح منك النظر

أنك تعصي لتنال الغنی *** ولست تعصي الله إن تفتقر

لغيره:

أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا *** ولا أراهم رضوا في العيش بالعدون

فاستعن بالله عن دنيا الملوك كما *** استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

فصل في الكلام في الأرزاق

اعلم أن الرزق في الحقيقة هو التمليك، وأصل التمليك من الله تعالى ، وهو الرازق للعباد. وقد جعل بحكمته وعلمه من مصالح بريته ، أرزاقهم على قسمين:

أحدهما ما يوصله إليهم من غير سعي يكون منهم ولا اكتساب، ولا تحمل شيء من المشاق ، كالمواريث ونحوها من الأمور المتيسرات.

والآخر مشترط بحركة العبد وسعيه واجتهاده، وحرصه . فمن سعي ناله ، ومن قعد فاته ، وقد أمر الله تعالى بالاكتساب والطلبة ، قال تعالى :

« فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ » الجمعة:10.

وقال:

« إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ » العنکبوت: 17 .

فلا يجوز مخالفة أمر الله تعالى ، وترك التكسب والطلب ، وليس ذلك بمضاد

للتوكل على الله تعالى ، لأن له التعرض ومنه الطلب.

وقد أجرى العادة بأن لا يؤتى هذا القسم من الرزق إلا بعد الحركة والطلب. ومثل ذلك كثير في أفعاله تعالى التي قد أجرى العادة بأن لا يفعلها

ص: 195

إلا بعد فعل يقع من العباد قبلها ، كالولد بعد الوطء ، والنبات بعد الزرع والسقي .

وليس المجتهد في كل وقت مرزوقا ، وذلك لأن العطاء والمنع، والزيادة في الرزق ، والنقص منوط كله بالمصالح (المعلومة) عند الله تعالى .

وإنما يحسن من العاقل أن يسأل الله تعالى في الرزق بشرط أن لا يكون له مفسدا ، قال الله تعالى :

« وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ » الزخرف: 33.

وكل شيء رزقه الله تعالى للعبد فقد أباحه التصرف فيه ، قال الله تعالى :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ» البقرة: 254.

وقال: « كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ » البقرة: 267.

وقال: « قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ » ابراهيم : .31

وما رزقه الله وأباح التصرف فيه ، فإنه لا يعاتب عليه.

فأما المغتصبات فليست بأرزاق لغاصبيها ، ولا ملكهم الله تعالى إياها ، وإنما تسمى أرزاقا على المجاز ، من حيث أنها من الأشياء التي خلقها الله تعالى (ليغتذی) بها.

والدليل على أن الله تعالى لم يرزقهم ما اغتصبوه إخباره بأنهم ظالمون فيه ، وأنه يعاقبهم عليه ، قال الله تعالى :

« الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا » النساء : 10.

وأمره سبحانه بقطع يد السارق في قوله تعالى :

« وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ » المائدة : 38.

ولو كان الغاصب قد أخذ ما رزقه الله تعالى على الحقيقة ، لكان المطالب له

ص: 196

برد ما أخذه ظالما له ، ولم يجز في العدل أن يعاقب عليه في الدنيا والآخرة ، بل ان يكون ممدوحا على تصرفه فيه ، وإنفاقه له ، كما مدح الله تعالى من أنفقه من حله ، فقال :

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ » الأنفال: 2-4 .

فجعل إنفاق الرزق من صفات المؤمنين ، فلما لم يكن للغاصبين إنفاق ما اغتصبوه ، وكانوا مذمومين عليه ، معاقبين على تصرفهم فيه ، دل ذلك على أن الله تعالى لم يرزقهم إياه في الحقيقة ، وإذا لم يكن رزقا للغاصب ، فهو رزق للمغصوب منه، وإن حيل بينه وبينه.

فصل مما روي في الأرزاق

روي عن سيدنا رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

أكثروا الاستغفار فإنه يجلب الرزق.

وقال (علیه السلام):

من رضي باليسير من الرزق رضي الله عنه باليسير من العمل .

وروي أن الله تعالى أوحي إلى عيسی (علیه السلام):

ليحذر الذي يستبطئني في الرزق أن أغضب فأفتح علیه بابا من الدنيا .

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

الرزق رزقان: رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن لم تأته أتاك.

وروي عن أحد الأئمة (علیه السلام) أنه قال في الرزق المقسوم بالحركة: إن من طلبه من غير حله فوصل إليه حوسب من حله ، وبقي عليه وزره.

فالواجب أن لا يطلب إلا من الوجه المباح دون المحظور .

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال:

من حسنت نيته زيد في رزقه.

ص: 197

واعلم أن الدليل على جواز الزيادة في الأرزاق هو الدليل على جواز الزيادة في الأعمار، لأن الله تعالى إذا زاد في عمر عبده وجب أن يرزقه ما يتغذى به.

ذكروا أن ابراهيم بن هرمة انقطع إلى جعفر بن سليمان الهاشمي، فكان يجري له رزقا ، فقطعه، فكتب إليه ابن هرمة: (1)

إن الذي شق فمي ضامن *** للرزق حتي يتوفاني

حرمتني خيرا قليلا فما *** إن زادني مالك حرماني

فرد إليه رزقه وأحسن إليه.

وأنشد لبعضهم:

التمس الأرزاق عند الذي *** ما دونه إن سيل من حاجب

من يبغض التارك تسئاله *** جودا ومن يرضى عن الطالب

ومن إذا قال جري قوله *** بغير توقيع إلى كاتب

وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال:

ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم: رجل جلس عن طلب الرزق ، ثم يقول: اللهم ارزقني ، يقول الله تعالى (له): ألم أجعل لك طريقا إلى الطلب.

ورجل له امرأة سوء ، يقول : اللهم خلصني منها ، يقول الله تعالى : أليس قد جعلت أمرها بيدك.

ورجل سلم ماله إلى رجل ولم يشهد عليه به ، فجحده إياه، فهو يدعو عليه ، فيقول الله تعالى : قد أمرت بالاشهاد فلم تفعل .

لابن وكيع التنيسي:

لا تحيلن على سعدك في الرزق ونحسك *** وإذا أغفلك الدهر فذكره بنفسك

لا تعجل بلزوم بيتك ما قبل رمسك ***

ص: 198


1- هو أبو اسحاق ابراهيم بن علي بن سلمة القرشي الفهري من الشعراء المجيدين كان حيا سنة 146ه وكان معروفا بالتشيع عند الأمويين والعباسيين.

إنما یحمد حسن الرزق من جدة حسك

وروي في بعض الكتب ، أن الله تعالى يقول:

« يا ابن آدم حرك يدك أبسطر لك في الرزق، وأطعني فيما آمرك، في أعلمني ما يصلحك ».

وقيل لبعض : لو تعرضت لفلان لوصلك، فقال:

ما تلهفت لشيء من أمر الدنيا منذ حفظت هذه الأربع آيات من كتاب الله تعالى . قوله :

« مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا » سورة فاطر : 2

وقوله (تعالی):

« وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ » يونس: 107.

وقوله سبحانه:

« وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا » هود: 6.

وقوله جل اسمه :

« وَفِي السَّمَاءِ رِزقُكُم وَمَا تُوعَدُون » الذاريات: 22.

فروي أن صلة الرجل الذي قيل له : لو تعرضت له ، أتت إلى منزله من غير طلب . وأنشد لابن الاصبغ:

لو كان في صخرة في الأرض راسبة *** صماء ملمومة (ملسا) نواحيها

رزق لنفس براها الله لانغلقت *** عنه فأدت إليه كل ما فيها

أو كان بين طباق السبع مطلبها *** لسهل الله في المرقی مراقیها

حتى يلاقي الذي في اللوح خط له *** إن هي أتته وإلا سوف يأتيها

ص: 199

وروي عن رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« ما من مؤمن إلا وله باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه ، وذلك قوله تعالى :

« فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ».

فصل:

مما ذكر في تأويل قول الله عز وجل:

« فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ » الدخان: 19 (1).

اعلم أن هذه الآية نزلت في قوم فرعون الذين أهلكهم الله عز وجل ، وأورث أرضهم ونعمهم غيرهم، وفيها وجوه:

أحدها ما ورد به الخبر الذي قدمناه عن رسول الله (صلی الله علیه واله) من ذكر البابين اللذين لكل مؤمن ، يصعد من أحدهما عمله ، وينزل من الآخر رزقه ، وأنهما يبكيان عليه بعد موته . ومعنى البكاء ههنا الاخبار عن الاختلال بعده ، کما يقال : بکی منزل فلان بعده .

قال مزاحم العقيلي :

بکت دارهم من أجلهم فتهللت *** دموعي فأي الجازعين ألوم

أمستعبرا يبكي من الهون والبلى *** وآخر يبكي شجوه ویهیم

فإذا لم يكن لها ولا للقوم الذين أخبر الله تعالى ببوارهم مقام صالح في الأرض، ولا عمل كريم يرفع إلى السماء ، جاز أن يقال: فما بكت عليهم السماء والأرض.

وقد روي عن ابن عباس رحمه الله أنه قيل له : وقد سئل عن هذه الآية : أو تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال : نعم مصلاه في الأرض، ومصعد عمله في السماء .

ص: 200


1- أنظر الكلام على هذه الآية في أمالي المرتضى م 1 ص 49- 55.

والوجه الثاني من التأويل ، أن يكون تعالي أراد المبالغة في وصف القوم الذين أهلكهم بصغر القدر وسقوط المنزلة ، لأن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك ، قال : كسفت لفقده الشمس وأظلم القمر وبکاء الليل والنهار والسماء والأرض.

يريدون بذلك المبالغة وعظم الأمر وشمول المصيبة ، قال جرير (1) يرثي عمر

بن عبد العزيز :

الشمس طالعة ليست بکاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وفي انتصاب النجوم والقمر في هذا البيت ثلاثة وجوه:

أحدها أنه أراد أن الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر .لأن عظم الرزية قد سلبها ضوءها،. فلم يناف طلوعها ظهور الكواكب.

الوجه الثاني أن يكون انتصابها على معنى قوله : لا أكلمك الأبد وطول المسند (2) وما جرى مجرى ذلك ، فكأنه أخبر بأن الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وما ظهر القمري .

والوجه الثالث أن يكون نجوم الليل والقمر باكيين الشمس على هذا المفقود ، فبكهن أي غلبتهن بالبكاء ، كما يقال: باکاني عند الله فبكيته ، وكاثرني فكثرته ، أي فضلت عليه وغلبته.

والوجه الثالث من التأويل أن يكون الله تعالى أراد بقوله : فما بكت عليهم السماء والأرض، أهل السماء وأهل الأرض ، وحذف أهل ، كما قال عز وجل : (واسأل القرية)، وكما قال: (حتى تضع الحرب أوزارها)، وإنما أراد أصحابها، ويجري ذلك مجرى قولهم : السخاء سخاء حاتم.

قال الشاعر :

ص: 201


1- هو جرير بن عطية الخطفي ينتهي نسبه إلى نزار مات باليمامة عن نيف وثمانين سنة ، سنة 121ه. وهو من أشهر الشعراء الإسلاميين وأرقهم ديباجة، هاجی شعراء عصره وبخاصة الفرزدق ، وكان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى، والفرزدق بزهير ، والأخطل بالنابغة.
2- المسند: الزمان.

ماقلیل عيبه والعيب جم *** ولكن الغنى رب غفور

يريد ولكن الغني غني رب غفور.

والوجه الرابع من التأويل ، أن يكون معنى الآية ، الإخبار عن أنه لا أحد أخذ بثأرهم ، ولا أحد انتصر لهم ، لأن العرب كانت لا تبكي على قتیل إلا بعد الأخذ بثأره ، فکنی بهذا اللفظ عن فقد الانتصار والأخذ بالثأر، على مذهب القوم الذين خوطبوا بالقرآن.

والوجه الخامس من التأويل أن يكون البكاء المذكور في الآية كناية عن المطر والسقيا ، لأن العرب تشبه المطر بالبكاء ، ويكون معنى الآية ، أن السماء لم تسق قبورهم، ولم تجد بقطرها عليهم، على مذهب العرب المعهود بينهم ، لأنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم يتعشبون الزهر والرياض لمواقع حفرهم. قال النابغة :

فلا زال قبر بين تبني وجاسم (1) *** عليه من الوسمي طل ووابل

فينبت حوذانا (2) وعوفا منورا *** سأتبعه من خير ما قال قائل

وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام ومسألة الله تعالى لهم الرضوان .

والفعل إذا أضيف إلى السماء ، وإن كان لا تجوز اضافته إلى الأرض، فقد يصح عطف الأرض على السماء ، بأن يقدر فعل يصح نسبته إليها . والعرب تفعل مثل هذا، قال الشاعر :

يا ليت زوجك قد غدا *** متقلدا سیفا ورحا

بعطف الرمح على السيف ، وإن كان التقلد لا يجوز فيه ، لكنه أراد حاملا رمحا.

ومثل هذا يقدر في الآية ، فيقال: إنه تعالى أراد أن السماء لا تسقي قبورهم، والأرض لم تعشب عليها . وكل هذا كناية عن حرمانهم رحمة الله عز وجل.

ص: 202


1- موضعان بالشام.
2- الجرذان والعون نباتان لهما رائحة.

وربما شبه الشعراء النبات بضحك الأرض، كما شبهوا المطر ببكاء السماء ، وفي ذلك يقول أبو تمام حبيب بن أوس (1) :

إن السماء إذا لم تبك مقلتها *** لم تضحك الأرض عن شيء من الخضر

والزهر لا تنجلي أبصاره أبدا *** إلا إذا رمدت من كثرة المطر

ذكر مجلس

جرى في القياس مع رجل من فقهاء العامة ، اجتمعت معه بدار العلم في القاهرة.

سألني هذا الرجل بمحضر جماعة من أهل العلم، فقال: ما تقول في القياس ، وهل تستجيزه في مذهبك ، أم ترى أنه غير جائز ؟؟

فقلت له : القياس قیاسان: قياس في العقليات، وقياس في السمعيات.

فأما القياس في العقليات فجائز صحيح. وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل.

قال: فهل يتفق حدهما أم يختلف ؟

قلت : الواجب أن يكون حدهما واحدا غير مختلف.

قال: فما هو؟

قلت : القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس ، هذا هو الحد الشامل لكل قیاس ، وله بعد هذا شرائط لا بد منها ، ولا يقاس شيء على شيء إلا بعلة تجتمع بينهما.

قال: فإذا كان الحد شاملا للقياسين فلا فرق إذا بين القياس الذي أجزته ، والقياس الذي أحلته.

ص: 203


1- ينتهي نسبه إلى طيء وهو واحد عصره في ديباجة لفظه وفصاحة شعره وحسن أسلوبه ولد سنة 188 ه وتوفي سنة 272 ه له كتاب الحماسة الذي يدل على حسن اختياره وذوقه ، وله أيضا کتاب فحول الشعراء من جاهليين واسلاميين ومخضرمين، وكتاب الاختيارات من شعر الشعراء وديوان شعره وهو مطبوع عدة طبعات.

قلت: بل بينهما فروق، وإن شمل الحد.

قال: وما هي؟

قلت : منها أن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الايجاب ، وليست علة القياس في السمعيات عند من يستعمله كذلك. بل يقولون هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار .

ومنها أن العلة في العقليات لا تكون إلا معلومة، وهي عندهم في السمعيات مظنونة وغير معلومة .

ومنها أنها في العقليات لا تكون إلا شيئا واحدا، وهي في السمعيات قد تكون مجموع أشياء ، فهذه بعض الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.

قال: فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز ؟

قلت : الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، ولذلك اختلف حكمها في المتفق الصور ، واتفق في المختلف ، وورد الحظر لشيء والإباحة لمثله ، بل ورد الحكم في الأمر العظيم صغيرا، وفي الصغير بالإضافة إليه عظيما، واختلف كل الاختلاف الخارج عن مقتضى القياس.

وإذا كان هذا سبيل المشروعات، علم أنه لا طريق إلى معرفة شيء منأحكامها إلا من قبل المطلع على السرائر ، العالم بمصالح العباد ، وأنه ليس للقائسين فيه مجال.

فقال أحد الحاضرين: فمثل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف المبائن للقياس.

قلت: هو عند الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال، ولكني أورد منه طرفا لموضع السؤال.

فمنه أن الله عز وجل أوجب الغسل من المني ولم . يوجبه من البول والغائط ، وليس هو بأنجس منهما ، وأكثر العامة يروون أنه طاهر .

وألزم الحائض قضاء ما تركته من الصيام، وأسقط عنها قضاء ما تركته

ص: 204

من الصلاة ، وهي أوكد من الصيام.

وفرض في الزكاة أن يخرج من الأربعين شاة، شاة، ولم يفرض في الثمانين شاتين ، بل فرضها بعد كمال الماية والعشرين، وهذا خارج عن القياس.

ونهانا عن التحريش بين بهيمتين، وأباحنا إطلاق البهيمة على ما هو أضعف منها في الصيد.

وجعل للرجل أن يطأ من الإماء ما ملكته يمينه، ولم يجعل للمرأة أن تمكن من نفسها من ملكته يمينها .

وأوجب الحد على رمي غيره بفجور ، وأسقطه عن من رمي بالكفر ، وهو أعظم من الفجور.

وأوجب قتل القاتل بشهادة رجلين ، وحظر جلد الزاني الذي يشهد بالزنا عليه ، إلا أن يشهد بذلك أربعة شهود ، وهذا كله خارج عن سنن القياس.

وقد ذكروا عن ربيعة بن عبد الرحمن (1) أنه قال : سألت سعید بن المسيب (2) فقلت: كم في اصبع المرأة؟

قال: عشر من الإبل .

قلت: كم في اصبعين ؟

قال: عشرون.

قلت: كم في ثلاث؟

قال: ثلاثون.

قلت: كم في أربع ؟

قال: عشرون .

قلت : حين عظم جرحها ، واشتدت مصیبتها نقص عقلها ؟

فقال سعيد: أعرابي أنت؟

قلت: بل عالم مثبت ، أو جاهل متعلم.

ص: 205


1- في فهرست ابن النديم ص 285 ربيعة بن أبي عبد الرحمن ويعرف بر بيعة الرأي ، من الموالي ويكنى أبا عثمان أخذ عن أبي حنيفة ، وكان بليغا وخطيبا، توفي بالأنبار سنة 136 ه.
2- هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن من التابعين جمع بين الحديث والفقه والنسك والتعبير . ولد سنة 13 وتوفي سنة 94 ه.

قال: هي السنة يا ابن أخ.

ونحو ذلك مما لو ذهبت إلى استقصائه لطال الخطاب ، وفيما أوردته كفاية لذوي الألباب.

قال السائل : فإذا كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحا، ولم يكن في الضرورات التي هي أصولها مستمرا ولا صحيحا ، فما تنكرون أن يكون كذلك الحكم في السمعيات ، فيكون القياس في فروعها المسكوت عنها صحيحا ، وإن لم يكن في أصول المنطوق بها مستمرا ولا صحيحا ؟

فقلت: أنكرت ذلك من قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف القياس مما ذكرناه ، فوجب أن يكون ما تفرع عنها جاريا مجراها .

ولسنا نجد أصول المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس ،وإنما امتنع القياس فيها ، لأنها أصول لا أصول لها، فوضح الفرق بينهما .

ومما يبين لك ذلك أيضا أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت فيه أصول الشرعیات ، وليس بجائز أن يتعبد بخلاف أصول العقليات التي هي الضرورات ، فلا طريق إلى الجمع بينهما .

قال: فما تنكرون على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الأصول في السمعيات وفروعها ، فنص لنا على الأصول وعرفنا بها ، وأمرنا بقياس الفروع عليها ، ضربا من التعبد والتكليف ، ليستحق عليه الأجر والثواب.

قلت : هذا مما لا يصح أن يكلفه الله تعالى للعبادة لأن القياس لا بد فيه من استخراج علة يحمل عليها الفروع على الأصول، ليماثل بينهما في الحكم. والأحكام الشرعية لو كانت مما توجبه العلل، لم يجز في المشروعات النسخ. وفي جواز ذلك في العقل دلالة على أنها لا تثبت بالعلل.

وقد قدمنا القول بأن علل القائسين مظنونة ، والظنون غير موصلة إلى إثبات ما تعلق بمصالح الخلق ، ولا مؤدية إلى العلم بمراد الله تعالى من الحكم.

ولو فرضنا جواز تكليف العباد ، القياس في السمعيات، لم يكن بد من

ص: 206

ورود السمع بذلك في القرآن أو في صحيح الأخبار . وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن الله تعالى لم يكلفه خلقه.

قال: فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الأخبار ، قال الله عز وجل : « فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ » الحشر: 2.

فأوجب الاعتبار ، وهو الاستدلال والقياس.

وقال:

« فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ». المائدة: 95.

فأوجب بالمماثلة المقايسة .

وروي أن النبي (صلی الله علیه واله) لما أرسل معاذا إلى اليمن ، قال له : بماذا تقضي؟ قال: بكتاب الله.

قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟

قال: بسنة رسول الله .

قال: إن لم تجد في سنة رسول الله ؟

قال : أجتهد رأي.

فقال (علیه السلام): الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله .

وروي عن الحسن بن علي (علیه السلام) أنه سئل فقيل له : بماذا كان يحكم أمير المؤمنين (علیه السلام)؟

قال : بكتاب الله ، فإن لم يجد فسنة رسول الله (صلی الله علیه واله)، فإن لم يجد ، رجم فأصاب.

وهذا كله دليل على صحة القياس والأخذ بالاجتهاد والظن والرأي.

فقلت له : أما قول الله عز وجل: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف، لأن تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على أنفسهم في تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ما يستدل به على حق رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأن الله أمده بالتوفيق ونصره، وخذل عدوه، وأمر الناس باعتبار ذلك (ليزدادوا) بصيرة في الإيمان.

ص: 207

وليس هذا بقياس في المشروعات، ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الأحكام.

وأما قوله سبحانه : (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس ، وإنما تعبد الله سبحانه عبادة بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علماه من نص الله تعالى .

ولو كان حكمهما قياسا لكانا إذا حكما في جزاء النعامة بالبدنة قد قاسا ، مع وجود النص بذلك. فيجب أن يتأمل هذا.

وأما الحبران اللذان أوردتهما فهما من أخبار الآحاد التي لا يثبت بهما الأصول المعلومة في العبادات. على أن رواة خبر معاذ مجهولون، وهم في لفظه أيضا مختلفون.

ومنهم من روى أنه لما قال: اجتهد رأيي قال له (علیه السلام): لا أحب إلى (أن)

أكتب إليك.

ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لأحتمل أن يكون معنى قوله : أجتهد رأيي، أني أجتهد حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة.

وأما ما رويته عن الحسن (علیه السلام) من حكم أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، ففيه تصحیف ممن رواه . والخبر المعروف أنه قال: فإن لم يجد في السنة زجر فأصاب .

يعني بذلك القرعة بالسهام، وهو مأخوذ من الزجر والفال.

والقرعة عندنا من الأحكام المنصوص عليها ، وليست بداخلة في باب القياس. فقد تبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الآيات والأخبار.

فقال أحد الحاضرين : إذا لم يثبت للقائسين نص في إيجاب القياس ، فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن ولا أخبار، فقد تساويا في هذه الحال.

فقلت له : قد قدمت من الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعیات ، وما يستغنی به متامله عن إيراد ما سواه.

ص: 208

ثم إن الأمر بخلاف ما ظننت ، وقد تناصرت الأدلة بحظر القياس من القرآن وثابت الأخبار قال الله عز وجل :

« وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ » المائدة : 44.

ولسنا نشك في أن الحكم بالقياس حكم بغير التنزيل ، قال الله عز وجل :

« وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ » النحل : 116

ومستخرج الحكم في الحادثة بالقياس لا يصح له أن يضيفه إلى الله ولا إلى رسول الله (صلی الله علیه واله).

وإذا لم يصح إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره ، وهو المحلل والمحرم في الشرع بقول من عنده، وكذب وصفه بلسانه ، فقال سبحانه:

« وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا » الإسراء : 36

ونحن نعلم أن القائس معول على الظن دون العلم ، والظن مناف للعلم. ألا ترى أنها لا يجتمعان في الشيء الواحد. وهذا من القرآن كاف في إفساد القياس .

وأما المروي في ذلك من الأخبار فمنه قول رسول الله (صلی الله علیه واله):

« ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي، قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام ».

وقول أمير المؤمنين (علیه السلام):

« إياكم والقياس في الأحكام، فإنه أول من قاس إبليس ».

وقال الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام):

إياكم وتقحم المهالك باتباع الهوى والمقاييس، قد جعل الله تعالى للقرآن أهلا ، أغناكم بهم عن جميع الخلائق ، لا علم إلا ما أمروا به ، قال الله تعالی :

ص: 209

« فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون »

إيانا عني.

وجميع أهل البيت (علیه السلام) أفتوا بتحريم القياس .

وروي عن سلمان الفارسي رحمه الله أنه قال:

« ما هلكت أمة حتى قاست في دينها ».

وكان ابن مسعود يقول: « هلك القائسون »

وفي هذا القدر من الأخبار غني عن الإطالة والإكثار .

وقد روي هشام بن عروة عن أبيه قال:

إن أمر بني إسرائيل لم يزل معتدلا ، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فأضلوهم.

قال ابن عيينة :

فما زال أمر الناس مستقيما حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة ، وأبو حنيفة بالكوفة ، وعثمان البني بالبصرة، وأفتوا الناس ، وفتنوهم ، فنظرنا فإذا هم أولاد سبايا الأمم.

فحار الخصم والحاضرون مما أوردت ، ولم يأت أحد منهم بجرف زائد على ما

ذكرت والحمد لله.

ذكر مجلس

جرى لشيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضوان الله عليه ،

مع بعض خصومه في قولهم:

« إن كل مجتهد مصیب ».

قال شيخنا المفيد رضي الله عنه:

كنت أقبلت في مجلس على جماعة من متفقهة العامة ، فقلت لهم: إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ الاختلاف، يحظر عليكم المناظرة، ويمنعكم من

ص: 210

الفحص والمباحثة، واجتماعكم على المناظرة يناقض أصولكم في الاجتهاد ، وتسويغ الاختلاف.

فإما أن تكونوا مع حكم أصولكم، فيجب أن ترفعوا النظر فيما بينكم، وتلزموا الصمت .

وإما أن تختاروا المناظرة، وتؤثروها على المتاركة ، فيجب أن تهجروا القول بالاجتهاد ، وتتركوا مذاهبكم في الرأي وجواز الاختلاف، ولا بد من ذلك ما أنصفتم وعرفت طريق الاستدلال.

فقال أحد القوم : لم زعمت أن الأمر كما وصفت ، ومن أين وجب ذلك؟

قال شيخنا رضي الله عنه فقلت له:

علي البيان عن ذلك، والبرهان عليه حتى لا ... على أحد من العقلاء .

أليس من قولكم أن الله تعالى سوغ خلقه الاختلاف في الأحكام للتوسعة عليهم، ودفع الحرج عنهم رحمة منه لهم، ورفقا بهم، وأنه لو ألزمهم الاتفاق في الأحكام، وحظر عليهم الاختلاف لكان مضيقا عليهم، (معنتا) لهم، والله يتعالى عن ذلك، حتى (أكدتم) هذا المقال بما رویتموه عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال :

« اختلاف أمتي رحمة »

وحملتم معنى هذا الكلام منه على وفاق ما ذهبتم إليه في تسويغ الاختلاف.

قال: بلى ، فما الذي يلزمنا على هذا المقال؟

قال شيخنا رحمه الله قلت له:

فخبرني الآن عن موضع المناظرة ، أليس إنما هو التماس الموافقة ، ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال إلى موضع الحجة ، وتتغير له عن الإقامة على ضد ما دل عليه البرهان ؟

قال: لا، ليس هذا موضوع المناظرة ، وإنما موضوعها لإقامة الحجة والإبانة عن رجحان المقالة فقط.

قال الشيخ : فقلت له:

وما الغرض في إقامة الحجة والبرهان على الرجحان ، وما الذي يجر انه إلى

ص: 211

ذلك ، والمعنى الملتمس به ، أهو تبعید الخصم من موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حجها ، أم الدعوة إليها بذلك ، واللطف في الاجتذاب إليها

به؟؟

فإن قلت: إن الفرض للمحتج التبعيد عن قوله بإيضاح الحجة عليه والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه ؟ قلت قولا يرغب عنه كل عاقل ، ولا يحتاج معه لتهافته إلى كسره.

وإن قلت: إن الموضح عن مذهبه بالبرهان داع إليه بذلك ، والدال عليه بالحجج البينات يجتذب بها إلى اعتقاده ضرب بهذا القول- وهو الحق الذي لا شبهة فيه - إلى ما أردناه ، من أن موضوع المناظرة إنما هو للموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة .

وإذا كان ذلك كذلك ، فلو حصل الفرض في المناظرة وما أجرى بها عليه لارتفعت الرحمة ، وسقطت التوسعة ، وعدم الرفق من الله تعالى بعباده ، ووجب في صفة العنت والتضييق، وذلك ضلال من قائله. فلا بد على أصلك في الاختلاف من تحريم النظر والحجاج، وإلا فمتى صح ذلك ، وكان أولى من ترکه فقد بطل قولكم في الاجتهاد ، وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.

فاعترض رجل آخر في ناحية المجلس فقال:

ليس الغرض في المناظرة الدعوة إلى الاتفاق، وإنما الغرض فيها إقامة الغرض من الاجتهاد.

فقال له الشيخ رضي الله عنه:

هذا الكلام كلام صاحبك بعينه في معناه ، وأنتما جميعا حائد ان عن التحقيق والصواب. وذلك أنه لا بد في فرض الاجتهاد من غرض، ولا بد الفعل النظر من معقول.

فإن كان الغرض في أداء الفرض بالاجتهاد ، البيان عن موضع الرجحان، فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق والإيناس بالحجة الى المقال.

وإن كان الغرض فيه التعمية والالغاز فذلك محال، لوجود المناظر

ص: 212

مجتهدا في البيان التحسين مقاله بالترجيح له على قول خصمه في الصواب.

وإن كان معقول فعل النظر ومفهوم غرض صاحبه ، الذب عن نحلته والتنفير عن خلافها ، والتحسين لها، والتقبيح لضدها ، والترجيح لها على غيرها ، وكنا نعلم ضرورة أن فاعل ذلك لا يفعله للتعبيد من قوله ، وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه ، فقد ثبت بما قلناه.

ولو كان الدال على قوله الموضح بالحجج عن صوابه ، المجتهد في تحسينه وتشييده ، غير قاصد بذلك إلى الدعاء إليه، ولا مزيد للاتفاق عليه ، لكان المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه ووهنه داعيا بذلك إلى اعتقاده، ومرغبا به إلى المصير إليه.

ولو كان ذلك كذلك لكان إلزام الشيء مدحا له، والمدح له ذما له ، والترغيب في الشيء ترهیبا عنه ، والترهيب عن الشيء ترغیبا فيه ، والأمر به نهيا عنه ، والنهي عنه أمرا به ، والتحذير منه إيناسا به، وهذا ما لا يذهب إليه سليم.

فبطل ذلك ما توهموه، ووضح ما ذكرناه في تناقض نحلتهم على ما بيناه ، والله نسأل التوفيق.

قال شيخنا رضي الله عنه:

ثم عدلت إلى صاحب المجلس فقلت له:

لو سلم هؤلاء من المناقضة التي ذكرناها - ولن يسلموا أبدا من الله - لما سلموا من الخلاف على الله فيما أمر به ، والرد للنص في كتابه ، والخروج عن مفهوم أحكامه با ذهبوا إليه من حسن الاختلاف وجوازه في الأحكام، قال الله عز وجل:

« وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ » آل عمران: 105.

فنهى الله تعالى نهيا عاما ظاهرا، وحذر منه وزجر عنه ، وتوعد على فعله بالعقاب ، وهذا مناف لجواز الاختلاف، وقال سبحانه :

ص: 213

« وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا » آل عمران: 103.

فنهى عن التفرق، وأمر الكافة بالاجتماع، وهذا [يبطل] قول مسوغ الاختلاف، وقال سبحانه :

« وَلاَ يَزالُونَ مُختَلِفِينَ إِلاَّ مِن رَحِمَ رَبِّك » هود : 118.

فاستثنى المرحومين من المختلفين ، ودل على أن المختلفين قد خرجوا بالاختلاف عن الرحمة ، لاختصاص من خرج عن صفتهم بالرحمة ، ولولا ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل، وهذا بين لمن تأمله.

قال صاحب المجلس: أرى هذا الكلام كله يتوجه على من قال: إن كل مجتهد مصیب . فما تقول فيمن قال: إن الحق في واحد ولم يسوغ الاختلاف.

قال الشيخ رضي الله عنه فقلت له:

القائل بأن الحق في واحد ، وإن كان مصيبا فيما قال على هذا المعنى خاصة ، فإنه يلزمه المناقضة بقوله: إن المخطيء للحق معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه ، واعتماده في ذلك على أنه لو أوخذ به للحقة العنت والتضييق. فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الأولين فيما عليهم (من) المناقضة ، ولزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة ، وإن كان القائلون بإصابة المجتهدين الحق يزيدون عليه في المناقضة ، وتهافت المقالة ، بقول الواحد لخصمه قد أخطأت الحكم مع شهادته له بصوابه فيما فعله مما به أخطأ الحكم عنده. فهو شاهد بصوابه وخطئه في الإصابة ، معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافة ، مأجور على مباينته ، وهذه مقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها ، وتكشف عن قبح باطنها بطاهرها ، وبالله التوفيق.

ذكروا أن هذا الكلام جرى في مجلس الشيخ أبي الفتح عبيد الله بن فارس (1) قبل أن يتولى الوزارة.

ص: 214


1- ورد ذكره في كتاب: (تثبيت دلائل النبوة) ص 557 - 558 للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفي سنة 415ه باسم: أبو القيح بن فراس ، لا فارس وقال عنه: كان أبو الفتح بن فراس الكاتب وهو أحد الشيع ومن كبار الإمامية ... إليه ترجع الشيع في الرواية ويعرض عليه شعراؤهم شعر هم مثل أبي الحسن الناشئ.

مسألة:

إن سأل سائل فقال: ما معنى قول رسول الله (صلی الله علیه واله) :

« اختلاف أمتي رحمة » .

الجواب:

قيل له : المراد بذلك اختلاف الواردين من المدن المتفرقة على رسول الله (صلی الله علیه واله) في وقته، وعلى وصية القائم مقامه من بعده، ليسألوا عن معالم دينهم ، ويستفتوا فيما لبس عليهم، فذلك رحمة لهم، ( إذ يعودون إلى قومهم فينذرونهم) (1)، قال الله سبحانه:

« فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » التوبة: 122.

وليس المراد بذلك اختلاف الأمة في اعتقادها ، وتباينها في دينها ، وتضاد أقوالها وأفعالها.

ولو كان هذا الاختلاف لها رحمة ، لكان اتفاقها - لو اتفقت - سخطا عليها ونقمة.

وقد تضمن القرآن من الأمر بالاتفاق والائتلاف والنهي عن التباين والاختلاف ما فيه بیان شاف.

فصل : من الاستدلال بهذه الآية على صحة الإمامة والعصمة

قال الله تعالى :

« فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » التوبة : 122:

ص: 215


1- في النسخة جملة مشوشة وهي : (ولم يعودون إليه بنذورهم من قومهم) فصححناها بما ذكرنا انسجاما مع المعنى المقصود .

فحث سبحانه وتعالى على طلب العلم ورغب فيه، وأوجب على من به نهضة أن يلتمسه ويسارع إليه ، وهذا لازم في وقت رسول الله (صلی الله علیه واله) وبعده. ولا يضح أن يتخصص به زمان دون غيره ، لأن التكليف قائم لازم، والشرع شامل دائم.

وقد علمنا ومن خالفنا أن النافرين للتفقه في الدين أيام النبي (صلی الله علیه واله ) کانوا إذا وردوا عليه أرشدهم إلى الحق بعينه ، وهداهم إلى قول واحد من شرعه ودينه ، فرجعوا إلى قومهم متفقين ، وعلى شيء واحد مجتمعين ، لا يختلفون في تأويل آية ، ولا في حكم فريضة ، حلالهم واحد، وحرامهم واحد، ودينهم واحد ، فثبتت بهم الحجة ، وتتضح للمسترشدين المحجة ، وينال الطالب بغيته ، ويدرك المستفيد فائدته.

والناس بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) مكلفون من شرعه بما كلفه من كان في وقته ، فوجب في عدل الله وحكمته وفضله ورحمته أن يزيح علل بريته، ويقيم لهم في كل زمان عالما أمينا، حافظا مأمونا ، لا تختلف أقواله ، ولا تتضاد أفعاله ، وتثق النفوس بكماله ومعرفته ، وتسكن إلى طهارته وعصمته ، ليكون النفير (1) إليه، والتعويل في الهداية عليه . ولولا ذلك، لكان الله تعالى قد أمر بالنفير الى المختلفين وسؤل المتباينين المتضادين ، والتعويل على المرجحين الظانين ، الذين بحار بينهم المستجير، ويضل المسترشد، ويشك الضعيف ، وهذا عنت في التكليف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

سؤال في الغيبة يتعلق بما ذكرناه:

إن قال قائل : إذا كانت علل المكلفين في الشريعة ، لا تنزاح إلا بحافظ للأحكام ينصب لهم ، مميز بالعصمة والكمال منهم ، يقصده المسترشدون، ويعول على قوله السائلون. وكان الإمام (علیه السلام) اليوم على قولك غائبا لا يوصل إليه ،ومستترا عن الأمة لا يقدر عليه ، فعلل المكلفين إذن غير مزاحة في الشرع،

ص: 216


1- الأولى النفر لا النفير .

ووجود الحافظ لم يغن ، لكونه بحيث لا يقدر عليه الخلق ، فإلى من حينئذ يفزع الراغبون ، ومن يقصد الطالبون ، وعلى من يعول السائلون ، ومن الذي ينفر إليه المسترشدون ؟؟؟

الجواب:

قلنا: إن الله سبحانه قد أزاح علل المكلفين في هذا العصر ، كما أزاح علل الأمم السابقة من قبل، الذين بعث فيهم أنبياءه فكذبوهم وأخافوهم، وشردوهم ، وظفروا بكثير منهم فقتلوهم.

ولم يرسلهم الله تعالى إليهم إلا ليقيموا أحكامه بينهم ، وينفذ أوامره فيهم، ويعلموا جاهلهم وينبهوا غافلهم، ويجيبوا سائلهم، وينفر إليهم الراغب ، ويقتبس منهم الطالب ، فحال بينهم وبين ذلك الظالمون ، ومنعهم مما بعثواله الآفكون ، وقطعوهم عن الإبلاغ، وحرموا أنفسهم الهداية منهم والإنذار، فكانوا في قتلهم أنبيائهم كمن قصد إلى نفسه وأعمى بصره عن النظر إلى سبيل النجاة ، ووقر سمعه عن استماع ما فيه هداه ، ثم قال: لا حجة الله علي ، ولا هداية منه وصلت إلى ، يقول الله عز وجل:

« أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ » البلد: 9.

فلله الحجة البالغة على الناس ، ولو شاء لمنعهم من الضلال منع اضطراری ولأخرجهم بالجبر عن سنن التكليف والاختيار، تعالى الله الحكيم فيما قضى، الحليم عمن عصاه.

والذي اقتضاه العدل والحكمة في هذا الزمان من نصب الإمام الأنام، فقد أزاح الله سبحانه العلة فيه، وأوجده، ودل عليه بحجة العقل الشاهدة في الجملة بأنه لا بد من إمام كامل معصوم في كل عصر ، وبحجج النصوص على التعيين ، المأثورة عن رسول الله رب العالمين ، وعن الأئمة من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، في التعريف بصاحب هذا الزمان (علیه السلام) ، بنعته ونسبه اللذين يتميز بها عن الأنام، ولكن الظالمين سلكوا سنن من كان قبلهم في قصدهم لا هلاك هداتهم، وحرصهم على إطفاء نور مصابيحهم ، فقصدوا قصده

ص: 217

فأخافوه، وانطوت نباتهم على قتله متى وجدوه . فأمر(ه) الله بالاستتار ، (لما) علمه من مباينة حاله لحال كل نبي وإمام أبدى شخصه فقتلهم الناس، إذا كانت مصلحة الأمة بعد آبائه صلوات الله عليهم ، مقصورة على كونه إماما لهم، وأن غيره لا يقوم مقامه في مصلحتهم ، وسقط عنهم فرض التصدي للسائلين لعدم الأمن والتمكن، فكانت الحجة الله تعالى على الظالمين الذين (وجدوا) سبيل الهداية ، وأرشدوا إليها ، فمنعوا أنفسهم سلوكها ، وآثروا الضلالة عليها ، (فكانوا) كمن شد عينه عن النظر إلى مصالحه، وسد سمعه عن استماع مناصحته ، ثم قال: لو شاء الله هداني ، قال الله سبحانه فيمن ماثلت أحواله الحاله:

« وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ » فصلت: 17.

تعالى الله ذو الكلمة العليا والحجة المثلى.

ولسنا مع ذلك نقطع على أن الإمام (علیه السلام) لا يعرفه أحد ، ولا يصل إليه ، بل قد يجوز أن يجتمع به طائفة من أوليائه تستر اجتماعها به وتخفيه.

فأما الذي يجب أن يفعله اليوم المسترشدون ويعول عليه المستفيدون فهو الرجوع إلى الفقهاء من شيعة الأئمة ، وسؤالهم في الحادثات عن الأحكام ، والأخذ بفتاويهم في الحلال والحرام. فهم الوسائط بين الرعية وصاحب الزمان عليه السلام، والمستودعون أحكام شريعة الاسلام، ولم يكن الله تعالى يبيح [لحجته] صلى الله عليه ، الاستتار إلا وقد أوجد (للأمة) من فقه آبائه (علیه السلام) ما تنقطع به الأعذار ، وليس الرجوع إليهم كالرجوع إلى القائسين ، ولا التعويل عليهم بمائل للتعويل على المستحسنين ، المفتين في الشريعة وبالظن والترجيح ، وإنما هو رجوع إلى ما استودعوه من النصوص (المفيدة) للعلم واليقين ، وتعويل على ما استحفظوه من الآثار المنقولة من فتاوى الصادقين ، التي فيها علم ما يلتمسه الطالبون، وفيه ما يقتبسه السائلون. ومن أخذ من هذا المعدن فقد أخذ من الإمام صلى الله عليه ، لأنها علومه ، وأقوال آبائه صلوات الله عليهم وسلامه .

وكثيرا ما يقول لنا المخالفون عند سماعهم منا هذا الكلام :

ص: 218

إذا كنتم قد وجدتم السبيل إلى علم ما تحتاجونه من الفتاوى في الأحكام،

المحفوظة عن الأئمة المتقدمين (علیه السلام)، فقد استغنيت بذلك عن إمام الزمان.

وهذا قول غير صححيح، لأن هذه الآثار والنصوص في الأحكام موجودة مع من لا يستحيل منه الغلط والنسيان، ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان.

وإذا جاز ذلك عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلا بوجود معصوم يكون من ورائهم، شاهد لأحوالهم، عالم بأخبارهم، إن غلطوا هداهم، أو نسوا ذكر هم ، أو كتموا علم الحق منه دونهم .

وإمام الزمان (علیه السلام)، وإن كان مستترا عنهم ، بحيث لا يعرفون شخصه ، فهو موجود بينهم ، يشاهد أحوالهم، ويعلم أخبارهم ، فلو انصرفوا عن النقل ، أو ضلوا عن الحق ، لما وسعته التقية ولأظهره الله سبحانه ، ومنع منه إلى أن يبين الحق، وتثبت الحجة على الخلق.

ولو لزمنا القول بالاستغناء عن الإمام فيما وجدنا الطريق إلى علمه من غير جهته ، للزم مخالفينا القول بالاستغناء عن النبي (صلی الله علیه واله) في جميع ما أداه مما علم بالعقول قبل أدائه ، وفي إطلاق القول بذلك خروج عن الإسلام وأحكامه. وقد ورد في جواب هذا السؤال ما فيه بلاغ للمسترشدين وهداية ، والحمد لله.

تأویل آیة:

إن سأل سائل فقال: ما عندكم في تأويل قول الله سبحانه :

« ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم » (1).

وظاهر هذه الآية يقتضي أنه لم يشأ أن يكون الناس أمة واحدة متفقين على الهدى والمعرفة.

ص: 219


1- هود: 118 وتجد الكلام على هذه الآية في الأمالي للمرتضی ج 1 ص 70- 75.

وما معني قوله :(ولذلک خلقهم) و ظاهره يقتضي أنه خلقهم للاختلاف ، ولو کان عني به الرحمة لقال :ولتلک خلقهم ،لأن الرحمة مونثة ،ولفظة ذلک لا يکني بها إلا [عن] مذکر.

وأما الرحمة فإنا لا نعرفها إلا رقة القلب و الشفقة ، وهذا لا يجوز علي الله سبحانه .

الجواب :

أما قوله تعالي : (ولو شاء ربک لجعل الناس أمة واحدة) فإنما عني به المشيئة التي يقارنها الإلجاء والاضطرار ، ولم يعن بها المشيئة التي تکون معها علي الحکم الاختيار.

ومراده سبحانه في الآية أن يخبرنا عن قدرته ، وأن الخلق لا يعصونه علي سبيل الغلبة له ، وأنه قادر علي إلجائهم و إکرامهم علي ا أراده منهم .

فأما لفطة (ذلک) في الآية فحملها علي الرحمة أولي من حملها علي الاختلاف ، لدليل العقل و شهادة اللفط .

فأما دليل العقل فمن حيث علمنا أنه سبحانه کره الاختلاف في الدين و نهي عنه و توعد عليه ،ولا يجوز أن يخلفهم لأمر يکرهه، ويشاء منهم ما نهي عنه و حظره.

و أما شهادة اللفط فلأن الرحمة أقرب إلي المذکورين إليها أولي في لسان العرب من حمله علي الأبعد.

وأما قول السلائل :إن الرحمة مونثة ،و لفطة ذلک لا يکني بها إلا مذکر، ففاسد، لأن تأنيت الرحمة غير حقيقي ، وإذا کني بها بلفظ التذکير ،کانت الکناية علي المعني ،لأن معني الرحمة هو الانعام والتفضل ، وقد قال الله سبحانه :

« هذا رحمة من ربي ».

ولم يقل : هذه، وإنما أراد هذا فضل من ربي .

ص: 220

قال امرؤ القيس:

برهرهة رودة رخصة *** كخربوعة البانة المنفطر

فقال: المنفطر ولم يقل المنفطرة، لأنه عنى الغصن فذكره.

وقال آخر:

قامت تبكيه على قبره *** من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار ذا غربة *** قد ضاع من ليس له ناصر

فقال: ذا غربة ، ولم يقل : ذات غربة ، لأنه عني شخصا ذا غربة.

والمراد بالاختلاف المذكور في الآية إنما هو الاختلاف في الدين ، والذهاب عن الحق فيه بالهوى والشبهة.

وقد ذكر بعضهم في قوله (مختلفين) وجها غريبا ، وهو أن يكون معناه ، أن خلف هؤلاء الكافرين يخلف سالفهم في الكفر ، لأنه سواء قولك خلف بعضهم بعضا ، وقولك اختلفوا، كما أنه سواء قولك قتل بعضهم بعضا، وقولك اقتتلوا ، ومنه قولهم : لا أفعل كذا وكذا ما اختلف العصران والجديدان، أي جاء كل منهما بعد الآخر.

وأما الرحمة فليست رقة القلب والشفقة ، لكنها فعل النعم والإحسان ، يدل على ذلك أن من أحسن إلى غيره وأنعم عليه ، يوصف بأنه رحيم به، وإن لم تعلم منه رقة قلبه عليه وشفقته ، بل وصفهم بالرحمة من لا يعهدون منه رقة القلب أقوى من وصفهم الرقيق القلب بذلك ، لأن مشقة النعمة والإحسان على من لا رقة عنده ، أكثر منها على الرقيق القلب.

وقد علمنا أن من رق عليه أو امتنع من الافضال والإحسان لم يوصف بالرحمة، وإذا أنعم وصف بها، فوجب أن يكون معناها ما ذكرناه ، وقد يجوز أن يكون معنى الرحمة في الأصل الرقة والشفقة ، ثم انتقل بالتعارف إلى ما بلغ

هذا آخر ما وجدنا من کتاب کنز الفوائد .

ص: 221

ص: 222

نصوص مفقودة من نسخة الكتاب المطبوعة

هناك طائفة كبيرة من نصوص هذا الكتاب مفقودة ، وجدناها في عدة مؤلفات نقلها أصحابها عن كنز الفوائد ، رأينا إدراجها في خاتمة هذا الكتاب ، تتمة للفائدة .وهذه النصوص هي:

1- قال المحدث الشيخ عباس القمي في كتابه : الأنوار البهية: ص 134 - 135 .

« وعن كنز الفوائد قال:

جاء في الحديث أن أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئا على يد الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال رجل يقال له رزام مولى خالد بن عبد الله : من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد أمير المؤمنين على يده؟

فقيل له : هذا أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام). فقال: إني والله ما علمت لوددت أن خد أبي جعفر نعل لجعفر . ثم قام فوقف بين يدي المنصور ، فقال له: سل يا أمير المؤمنين ، فقال له المنصور : سل هذا.

فالتفت رزام إلى الإمام جعفر بن محمد (علیه السلام) فقال: أخبرني عن الصلاة

وحدودها ، فقال الصادق (علیه السلام):

للصلاة أربعة آلاف حد، لست تؤاخذ بها، فقال: أخبرني بما لا يحل ترکه ولا تتم الصلاة إلا به.

فقال أبو عبد الله (علیه السلام):

ص: 223

لا تتم الصلاة إلا لذي طهر سابغ (1)، واهتمام بالغ ، غير نازغ ولا زائغ ، عرف فوقف ، وأخبت (2) فثبت ، فهو واقف بين اليأس والطمع ، والصبر والجزع، كأن الوعد له صنع ، والوعيد به وقع ، بذل عرضه و تمثل غرضه ، وبذل في الله المهجة (3)، وتنكب غير الحجة ، مرتغما بارغام (4)، يقطع علائق الاهتمام ، يعين من له قصد وإليه وفد ، وفيه استرفد ، فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها أمر ، وعنها أخبر، وإنها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر .

فالتفت المنصور إلى أبي عبد الله (علیه السلام) فقال له:

يا أبا عبد الله ، لا تزال من بحرك نغترف ، وإليك نزدلف (5)، تبصر من العمي، وتجلو بنورك الطخياء غير نازغ ولا زائغ.

النزغ الظن والاغتياب والافساد والوسوسة ، والزيغ الميل، والطخياء في قول المنصور الظلمة ، وتعوم أي تسبح. ففي الخبر: علموا صبيانكم العوم ، أي السباحة ، وسبحات وجه ربنا ، جلاله وعظمته ، وقيل : نوره، وطما البحر امتلأ . فانظر إلى أعدائهم أقروا بفضلهم هل فوق ذلك فخر .

2- قال ابن طاووس في كتابه: (فرج الهموم في تاريخ علماء النجوم) ص 60- 76 ما يلي:

فصل:

وقال الشيخ الفقيه العالم الفاضل العارف بعلم النجوم، المصنف بها عدة مصنفات، أبو الفتح محمد (6) بن عثمان الكراجكي رحمه الله في كتاب (کنز الفوائد) في الرد على من قال إن الشمس والقمر والنجوم علل موجبات ما هذا لفظه :

ص: 224


1- الوافي التام.
2- أخبت إلى الله أطمئن إليه تعالى وخشع له .
3- أي الدم والنفس.
4- أي ذل وخضع.
5- أي نقترب.
6- سقط من النسخة كلمة (علي) إذ هو محمد بن علي .

« اعلم أنهم سئلوا عن مسألة حيرتهم، وأظهرت عجزهم وأخرستهم ، فقيل لهم : إذا كان سائر ما في العالم من النفع والضرر والخير والشر ، وجميع أفعال الحلق، والشمس والقمر والنجوم واجبة ، وهي علته وسببه، وليس داخل الفلك غير ما أثرت، ولا فعل لأحد ، يخرج به عما أوجبت ، فما الحاجة إلى الاطلاع على الأحكام ، وأخذ الطوالع عند المواليد ، وعمل الزوايج وتحويل السنين .

قالوا: الحاجة إلى ذلك حصول العلم [بما] سيكون من حوادث السعود والنحوس.

قيل لهم : وما المنفعة بحصول هذا العلم ؟ فإن الإنسان لا يقدر أن يزيد فيه سعدا ، ولا ينقص منه نحسا، مما أوجبه مولده ، فهو كائن لا مغير له.

فمنهم من استمر على طريقه ، وبني على أصله ، فقال : ليس في ذلك أكثر من فضيلة العلم بالحادثات قبل کونها.

فقيل له : ما هذه الفضيلة المدعاة في علم ، لا ينال به مکتسبه نفعا ، ولا يدفع به عن نفسه ولا عن غيره ضرا، وما هذا العناء في اكتساب ما لا ثمر له ؟ والجاهل به كالعالم في عدم المنفعة منه.

وسئلوا أيضا عن هذا الاكتساب وسببه؟ وهل الفلك موجبه أو غير موجبه؟

فلم يرد منهم ما يتشبث العاقل به .

ومنهم من تعذر عليه عند توجه الإلزام، فأنزله الاحجام درجة عن قول أصحاب الأحکام، فقال: بل للعلم تأثير في اكتساب نفع كثير، وهو أن يتعجل الانسان بالسعادة، ويتأهب لها، فیکون في ذلك مادة فيها، ويتحرز عن النحاسة ويتوقاها ، فيكون بذلك دفعا لها أو نقصا منها .

فقيل له : ما الفرق بينك وبين من عکس عليك قولك ، فقال : بل المضرة باكتساب هذا العلم حاصلة ، والأذية إلى معتقده واصلة ، وذلك أن متوقع السعادة والمساءة، معه قلق المتوقع ، وحرقة الانتظار، ففكره منقسم، وقلبه

ص: 225

معذب ، يستبعد قرب الساعات، ويستطیل قرب الأوقات، شوقا الى ما يرد ، وتطلعا إلى ما وعد ، وفي ذلك ما يقطعه عن منافعه ، ويقصر به عن حركاته في مطامعه ، اتكالا على ما يأتيه، وتعويلا على ما يصل إليه ، وربما أخلف الوعد، وتأخر السعد ، فليست جميع أحكامكم تصيب ، ولا الغلط منكم بعجيب ، فتصير المضرة حسرة، والمنفعة مضرة.

فأما متوقع المنحسة فلا شك أنه قد تعجلها لشدة رعبه بقدومها ، وعظم هلعه بهجومها ، فهو لا ينصرف بفكره عنها ، فيجعلها أكبر منها . فحياته منغصة ، ونفسه متغصصة ، وقلبه عليل، وتغمده طويل ، لا يهنيه أكل ولا شرب، ولا يسليه عذل ولا عتب ، ضعیف النبضات، فاتر الحركات، إذا احترز لا ينفع ، وربما كان باحترازه لا ينتفع.

فهذا القول أشبه بالحق مما ذكرتم، وهو شاهد يلزمكم الاقرار به إن أنصفتم.

ونحن الآن نعترف في مقابلتكم به ، ولا نطالبكم بشيء من موجبه ، ونعود الى دعواتكم التي ذكرتموها فنقول سائلين لكم عنها : أخبرونا عن هذه المسرة التي تحصل للعالم والتأهب الزائد في السعد الواصل، وعن هذا الاحتراز من المنحسة والتأتي من المضرة والمهلكة ، هل جميع ذلك مما توجبه وتقضي به الكواكب ، أم هو عن أحكامها خارج مضاف في الحقيقة إلى اختيار الحي القادر ؟؟

فرأوا أنهم إن قالوا مما توجبه الكواكب ، وتقضي بكونه أحكام الفلك في العالم.

قيل لهم: فيكون ذلك، سواء اطلع الانسان على أحكام النجوم أم لم يطلع ، وسواء عليه اهتم لمولده و تحویل سنته أم لم يهتم ؟

فعرجوا عن هذا وقالوا : إن أفعالنا منفصلة عما يوجبه الفلك فينا ، فتصح بذلك الزيادة والنقص الذي قلنا .

قلنا لهم: لقد نقضتم أصولكم، وخرجتم عن قوانین علمائکم فيما أقررتم به من جواز أفعال يحيط بها الفلك ، ليست حادثة من جهته ، ولا من تأثير كواكبه ،

ص: 226

وما نراكم قنعتم بهذا الإقرار حتى جعلتم الأفعال البشرية واقعة لما توجب الأقضية النجومية ، ومانعة مما تؤثر الحركات الفلكية بقولكم: إن الإنسان يمكن أن يحترز من المنحسة فيدفعها ، أو ينقص منها ما سلطته لها. فلولا أن فعله أقوى، واحترازه أمضى لم يرفع عن نفسه سوءا.

ثم سئلوا أيضا ، فقيل لهم: إذا سلمتم أن أفعال الإنسان مختصة بهم، وليست مما توجبه النجوم فيهم ، وأنتم مع هذا تقولون للانسان: احذر على مالك من طروق سارق ، فقد أقررتم أن حذره من تأثير المختص به ، فأخبرونا الآن عن طروق السارق، وما الموجب له ؟ فإن قلتم: النجوم رجعتم عما أعطيتم ، ورددتم إليها أفعال العباد ونافيتم، وإن قلت إن طروق السارق مختص به ولا موجب له غير اختياره أجبتم بالصواب ، وقيل لكم: فما نرى للنجوم تأثيرا في هذا الباب.

واعلم - أيدك الله - أنهم لم يبق لهم ملجأ إلا أن ينزلوا عن قول أصحابهم درجة أخرى، فيقولون: إن النجوم دالة ، وليست بفاعلة ، وعلامة غير ملجئة ، فإذا قالوا ذلك ، انصرفوا عمن يقول إنها موجبة قادرة ، وأبطلوا دعواهم أنها مدبرة، وقيل لهم: أفتقولون كل أمر تدل عليه فإنه سيكون لا محالة ؟

فإن قالوا: نعم نقضوا ما تقدم، وإن قالوا: قد يجوز أن يحرم تداولها ، ويحرم ما دلالته عليه منها ، لم تبق بعد هذا، درجة ينتهون إليها ، واقتصروا على مقالة لا يضرك مناقشتهم فيها .

وأنا أخبرك بعد هذا، بطرق من بطلان أفعالهم، ونكت من إفساد استدلالهم ، والأغلاط التي تمت عليهم ، فاتخذوها أصولا لأحكامهم.

اعلم: أن تسمية البروج الاثني عشر ، بالحمل والثور والجوزاء إلى آخرها ، لا أصل لها ولا حقيقة ، وإنما وضعها الراصدون لهم، متعارفا بينهم، وكذلك جميع الصور التي عن جني منطقة البروج الاثني عشر وغيرها ، والجميع ثمان وأربعون صورة ، عندهم مشهورة، وعلماؤهم معترفون بأن ترتیب هذه الصور وتشبيهها ، وقسمة الكواكب عليها ، وتسميتها ، صنعه متقدموهم، ووضعه حذاقهم الراصدون لها.

وقد ذكر أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي ذلك، وهو من جلتهم ،

ص: 227

وله مصنفات لم يعمل مثلها في علمهم ، وقد بينه في الجزء الأول من كتابه (المعمول في الصور)، وقد ذكر رصد الأوائل منهم الكواكب ، وأنهم رتبوها في المقادير والعظم لست مراتب ، وبين أنهم الفاعلون لذلك، ما أنا مبينه على حقیقته ، وناقله من كتابه ، وهو : أنهم وجدوا من هذه الكواكب التي رصدوها تسعاية وسبعة عشر كوكبا، ينتظم منها ثمان وأربعون صورة ، كل صورة تشتمل على كواكبها ، وهي الصور التي أثبتها بطلموس في كتابه (المجسطي)، بعضها في النصف الشمالي من الكرة، وبعضها على منطقة البروج التي في طريقة الشمس والقمر والكواكب السريعة السير ، وبعضها في النصف الجنوبي .

ثم سموا كل صورة باسم الشيء المشبه لها ، بعضها على صورة الانسان مثل كواكب الجوزاء ، وكواكب الجاثي على ركبتيه.

وبعضها على صورة الحيوانات البرية والبحرية، مثل الحمل والثور ، والسرطان، والأسد ، والعقرب، والحوت، والدب الأكبر، والدب الأصغر .

وبعضها خارج عن شبه الإنسان وسائر الحيوانات، مثل الاكليل ، والميزان، والسفينة .

وليس ترتيبهم لها وتسميتهم إياها ، وما فعلوه فيها لدليل . وذكر عذرهم في ذلك، فقال: وإنما أنهوا هذه الصور وسموها بأسمائها ، وذكروا كوكبا من كل صورة ، ليكون لكل كوكب اسم يعرف به إذا أشاروا إليه ، وذكروا موضعه من الصورة، وموقعه في فلك الأبراج، ومقدار عرضه في الشمال والجنوب على الدائرة التي تمر بأوساط البروج، لمعرفة أوقات الليل والنهار ، والطالع في كل وقت ، وأشياء عظيمة المنفعة ، تعرف بمعرفة هذه الكواكب.

وهذا آخر الفصل من كلامه في هذا الموضع ، وهو دليل واضح على أن الصور والأشكال والأسماء والألقاب، ليست على سبيل الوجوب واستحقاق، وإنما هي اصطلاح واختيار ، ولو عزب عن ذلك الى تشبيه آخر لأمكن وجاز .

ثم إنهم بعد هذا الحال جعلوا كثيرا من الأحكام مستخرجا من هذه الصور والأشكال، ومنتسبا إلى الأسماء الموضوعة والألقاب ، حتى إنهم على ما ذكروه

ص: 228

على نحو واجب ، ودليل عقل ثابت، فقالوا: إن الحكم على الكسوف، على ما حكاه ابن هبنتي عن بطلیموس ، أنه إن كان البرج الذي يقع فيه الكسوف من ذوات الأجنحة ، مثل العذراء والرامي، والدجاجة ، والنسر الطائر وما أشبهها ، فإن الحادث في الطير الذي يأكل الناس، وإن كان الحيوان مثل السرطان والولين فإن الحادث في الحيوانات البحرية أو النهرية.

وهذه فضيحة عظيمة ، وحال قبيحة، أفما يعلم هؤلاء القوم أنهم هم الذين جعلوا ذوات الأجنحة بأجنحة، والصور البحرية بحرية ، وأنهم لولا ما فعلوه لم يكن شيء مما ذكروه، فكيف صارت أفعالهم التي ابتدعوها وتشبيهاتهم التي وضعوها ، موجبة لأن حكم الكسوف مستخرجا منها ، وصادرا عنها. وهذا يؤدي إلى أنهم المدبرون للعالم ، وأن أفعالهم سبب لما توجبه الكواكب .

فصل:

ولم يقنع ابن هبنتي (1) بهذه الجملة حتى قال في كتابه المعروف (بالمغني)،وهو کتاب نفيس عندهم ، قد جمع فيه عيون أقوال علمائهم، وذوي الفضيلة منهم ، رأيته بدار العلم في القاهرة بخط مصنفه قال فيه:

إن وقع الكسوف في المثلث أي في الدرج التي تحتوي عليه دل ذلك على فساد أصحاب الهندسة والعلوم اللطيفة.

وهذا المثلث - أيدك الله - هو من كواكب على شكل مثلث، لأن في السماء عدة مثلثات ومربعات ، مما هو داخل الصورة التي ألفوها وخارج عنها ، فكيف صار الحكم مختصا هذا دونها، وما نرى العلة فيه إلا تسميتهم له بذلك ، فكان سببا لوقوع أهل الهندسة في المهالك.

ص: 229


1- هبنتي بالماء والباء والنون والتاء وألف تكتب ياء وألفا عن محاضرات علم الفلك طبعة مصر ص 185، وابن هبنتي منجم نصراني عاش ببغداد وألف كتابا في التنجيم أسماء المغني بعد سنة 330 - 941م وكان الجزء الثاني لا يزال محفوظا في مكتبة (موينخ) وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون مع إسم ابن هبنته محرفا أنظر دائرة المعارف اللبنانية ج7 ص 117.

قال ابن هبنتي : وإن كان الكسوف في الكاس ، دل على فساد الأشربة .

وهذا أعحب من الأول، وذلك أن الكأس عندهم من سبعة كواكب شبهوها بالكأس وبالباطية أيضا.

فإن كان الحكم الذي ذكروه إنما اختص بذلك من أجل التشبيه والتسمية ،فإن هذه الكواكب بأعيانها قد شبهتها بالمعلف ، وسميتها بهذا الاسم، فكيف صار تشبيه المنجمين وتسميتهم لها بالكأس أولى من أن يكون تشبيه العرب لها بالمعلف ، وتسميتهم لها بهذا الاسم موجبا لانصراف الحكم فيها الى الدواب . اللهم إلا أن يقولوا إن المعول على تشبيهها للمنجمين دونهم فلا اعتراض .

قال ابن هبنتی: وقد شاهدنا بعض الحذاق من أهل هذه الصناعة قد نظر في مولد إنسان من الأصاغر ، فوجد النسر الطائر في درجة وسط السماء ، فقال : يكون بإزاء دار الملك ، وزعم أن الأمر كما ذكر .

وهذا يؤكد ما ذكرناه من تعويلهم على الأسماء والصور المدونة من اصطلاح البشر.

فصل : وقد اطلعت أنا في مولد فوجدت فيه الكواكب التي يقولون إنها النسر الطائر في وسط السماء ، فلم يدل من حال صاحبه على نظيرها .

قال ابن هبنتي: وكان هذا الرجل فقيرا فأثري، ولم أره قط إلا ماقتا الأنواع الطير، غير مقيد بشيء منها في حالتي الفقر والغنى.

فإن صدق ابن هبنتي فيما ذكر ، فما هو إلا عن شيء لا أصل له ، يصح بعضه

فيوافق الظنون، ويبطل بعضه فلا يكون ، فإن كان اختلافه في حال لا يدل على بطلان حكمهم ، فاتفاقه في حال أخرى لا يدل على صحة حكمهم وجزمهم .

ومن هذيانهم أيضا الموجود في عيون كتبهم والمأثور من أحكامهم ، قولهم : إن الحمل والثور يدلان على الوحوش وكل ذي ظلف ، والجدي مشترك بينهما ، والأسد والنصف الأول من القوس يدلان على كل ذي ناب و مخلب.

وإنما ذكروا نصف القوس ، لأن صورته التي ألفوها وشبهوها صورة دابة وإنسان، فجعلوا النصف الأول للوحوش، والنصف الآخر للناس.

ص: 230

قالوا: والسرطان والعقرب يدلان على حشرات الأرض، والثور للفرس، والسنبلة للبذر .

وهذا كله قياس على الصور والأسماء التي لم يوجبها العقل ، ولا أتاهم بها خبر من الله تعالى في شيء من النقل . وإنما هو شيء من اختيارهم. وقد كان يمكن غيره ، ويجوز خلافه.

قالوا: ومن يولد برأس الأسد يكون فتن الغم.

فمن شبه تلك الكواكب بصورة الأسد غيركم، ومن سماها بهذا الاسم سواكم ؟

وكيف لم تقولوا: إنها الكلب ، أو تشبهوها بغير ذلك من دواب الأض.

هذا - أيدك الله - والصور عندهم لا تثبت في مواضعها ، ولا تستقر على إقامتها .

فصورة الحمل التي يقولون إنها أول البروج، قد تنتقل إلى أن تصير البرج الثاني ، ويصير البرج الأول الحوت.

وهذا عندهم هو القول الصحيح ، لأن الكواكب عندهم كلها تتحرك إلى جهة المشرق ، بخلاف ما يتحرك بها الفلك ، والخمسة المضافة الى الشمس والقمر هي السريعة السير ، وحركاتها مختلفة في الإبطاء والسرعة. وبقية الكواكب تتحرك عندهم بحركة واحدة خفيفة بطيئة، ولخفاء حركتها سموها الثابتة ، وهي على رأي بطليموس ومن قبله في كل مائة سنة تتحرك درجة واحدة .

وعلى رأي أصحاب (سمين) ومن رصد في أيام المأمون، وحسب في كل ست

وستين سنة درجة.

والصوفي يقول في كتاب (الصور):

إن مواضع هذه الصور التي كانت على منطقة فلك البروج كانت منذ ثلاثة آلاف سنة، على غير هذه الأجسام، وأن صورة الحمل كانت في القسم الثانيعشر، وصورة الثور كانت في القسم الأول.

ص: 231

وكان يسمى القسم الأول من البروج ، الثور ، والثاني الجوزاء ، والثالث السرطان. ولما جددت الأرصاد في أيام طيموخارس وجدوا صورة الحمل قد انتقلت إلى القسم الأول من القسم الثاني عشر الذي هو بعد منطقة التقاطع، فغيروا أسماءها ، فسموا القسم الأول الحمل ، والثاني الثور ، والثالث الجوزاء .

قال: ولا يخالفنا أحد في أن هذه الصور تنتقل بحركاتها على مر الدهور من أماكنها حتى تصير صورة الحمل في القسم السابع الذي للميزان، والميزان في القسم الأول الذي هو الحمل ، فيسمى أول البروج الميزان، والثاني العقرب.

ثم مر في كلامه موضحا عما ذكرناه من تنقلها الموجب لتغير أسماء بروجها ، وهم مجمعون على أن الكوكبين المتقاربين المعروفين بالشرطين على قرني الحمل ، هما أول منازل القمر ، فيجب أن يكون أول البروج الاثني عشر.

ومن امتحنهما في وقتنا هذا (وهو سنة ثمان وعشرين وأربعماية للهجرة) الموافقة لسنة ألف وثلاثماية وثمان وأربعين لذي القرنين ، وجد أحدهما في عشرين درجة من الحمل، والآخر في إحدى وعشرين منه، أعني من البرج الأول، ويعرف ما ذكرته من كانت له خبرة وعناية بهذا الأمر.

فأي برج من البروج الاثني عشر يبقى على صورة واحدة ، وكيف ثبت الحكم الأول بأنه دال على الوحوش وعلى كل ذي ظلف ، وقد انتقلت إليه أكثر صورة الحوت ، وكذلك حال جميع البروج ، فافهم هذا، فإنه طريف.

فصل:

ومن عجيب غلطهم في الأسماء الدالة على عدم معرفتهم بمعانيها ، أنهم سمعوا العرب التي تسمي الكواكب التي عن جنوب التوأمين، الجوزاء ، فلم يفهموا هذا الاسم، وظنوا أنه مشتق من الجوز الذي يؤكل ، فرأوا من الرأي أن يسموا النسر المواقع مع الكواكب الغربية من اللوز ، قياسا على الجوزاء ، وهذا من الغاية في الجهل والعناد ، وليس تقوله إلا شيوخهم ومصنفو الكتب منهم. ومن اطلع في ذكرهم الصور الثمان والأربعين ، وقف على صحة ما حكيته عنهم. فهل سمع أحد قط بأعجب من هذا الأمر؟

ص: 232

فصل:

وإنما سمت العرب هذه الكواكب بالجوزاء ، التوسطها إذا ارتفعت ، أو لأنها تشبه رجلا في وسطه منطقة ، فاشتقوا لها اسما من التوسط، يقولون : (جوز الفلا) يعنون وسطه.

ومن قولهم الدال على فساد أحكامهم، أن كل درجة من درج الفلك ، ستون دقيقة ، وكل دقيقة ستون ثانية، وكل ثانية ستون ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ولكل هذه الأجزاء التي لا تنحصر حكم مختص به ، ولا ينضبط، فكيف يصح الحكم على هذا الأصل ، وليس في أيديهم إلا الجمل التي تفاضلها يختلف.

وقد ولد لي ولدان توأمان ، ليس بين ظهورهما من الفرق والزمان بقدر ما يبين الاسطرلاب، فاشتركا في درجة واحدة من طالع واحد في نصبه، ولم يدرك فيهما التغيير، ولو قلت: إنهما اشتركا في الدقيقة لصدقت ، فلما رأيت ذلك ، قلت : هذه حالة في الجملة قد اتفقت فيها النصبة ، وفي غاية ما يمكن إدراكه بالآلة ، فإن الحكم على الحمل يوجب أن تكون حالة هذين المولودین متماثلة. فلا والله ما تماثلت صورتهما ولا أحوالها ولا صحتهما من سقمها، ولقد مات أحدهما بعد ولادته بأيام، ومات الآخر وامتدت بعمره الأيام، أسأل الله السعد التام.

ولقد سألت بعضهم عن هذا الحال ، فقال لي : (النمودار) (1) يخرج لك الفرق بين المولودين .

فقلت له : الذي عرفت من علمائكم أنهم لا يقولون على النمودار إلا عند عدم الرصد ، فمتى حصل الرصد أغنى عنه ، ويوضح ذلك أنكم تقولون في عمل النمودار ، خذ ساعات الجزر ولا يكون الجزر إلا عند عدم الرصد ، وإذا كان الرصد ههنا لم يخط الحقيقة ، ولا أتاه الفرق، فبان بأن لا يعطيه النمودار بعد الرصد .

ص: 233


1- النمودار هو أخذ درجة الطالع من أقرب درجة إليه بالتخمين. (عن الهامش).

وقلت له أيضا: لست أشك في كثرة الاختلاف بينكم في كل أصل وفرع، وعلى كل وجه فإنما يعمل النمودار بين الساعات، سواء كانت عند رصد أو جزر. وقد كانت ولادة هذين التوأمين في ساعة واحدة ، لم يصح فيها الفرق ، فما الحيلة في هذا الأمر، فخلط في ذلك ولم يأت بشيء يفهم.

فصل :

واعلم أيدك الله - أن (نمودار) واليس يخالف نمودار بطلیموس ، و نمودار الفرس يخالفهما جميعا . وليس في ذلك ما يتفق عليه ، ولا يؤدي إلى أمر متفق ، ولا يدل على صحة واحد منها العقل ، وجميعها دعاوي لا يعلم لها أصل . ولو تتبعت مواضع اختلاطهم، وذكرت ما أعرفه من تناقض أصولهم المبطلة لأحكامهم، لخرجت عن الغرض في الاختصار . وفيما أوردته غني عن الإكثار .

فصل:

وأنا أذكر لك بعد هذا، مقالتنا في النجوم، وما نعتقده فيها ، لتعرف الطريقة في ذلك ، فتعتمد عليها .

اعلم - أيدك الله - أن الشمس والقمر والنجوم أجناس محدثة من جنس هذا العالم مؤلفة من أجزاء تحلها الأعراض، وليست فاعلة في الحقيقة، ولا ناطقة ، ولا حية قادرة.

وقال شيخنا المفيد رضوان الله عليه : إنها أجسام نارية ، فأما حركاتها فهي فعل الله تعالى فيها ، وهو المحرك لها ، وهي من آيات الله الباهرة لخلقه ، وزينة في سمائه ، وفيها منافع لعباده لا تحصى ، وبها يهتدي (1) السائرون برا وبحرا، قال الله تعالى:

« وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ». النحل : 19.

ص: 234


1- في النسخة: (لا يهتدي) وهي خطأ بزيادة (لا).

وفيها للخلق مصالح لا يعلمها إلا الله تعالى .

فأما التأثير المنسوب إليها ، فإنا لا ندفع كون الشمس والقمر مؤثرين في العالم ، ونحن نعلم أن الأجسام ، وإن كان لا يؤثر أحدها بالآخر إلا مع مماسة بينهما بأنفسهما ، أو بواسطة، فإن للشمس والقمر شعاعا متصلا بالأرض وما عليها يقوم مقام المماسة ، وتصح به التأثيرات الحادثة.

ومن ذا الذي ينكر تأثير الشمس والقمر ، وهو شاهد وإن كان تأثير الشمس أظهر للحس وأبين من تأثير القمر في الأزمان والبلدان والنبات والحيوان.

وأما غيرهما من الكواكب فلسنا نجد لها تأثيرا يحس، ولا نقطع وجوبه بالعقل ، وهو أيضا ليس من الممتنع المستحيل ، بل هو من الجائز في العقول ، لأن لها شعاعا متصلا في الأرض، وإن كان من دون شعاع الشمس والقمر . فغير منكر أن يكون لها تأثير خفي على الحس خارج عن أفعال الخلق. فإن كان لها تأثير كما يقال، فتأثيرها مع تأثير الشمس والقمر في الحقيقة ، من أفعال الله تعالى ، وليس يصح إضافته إليها إلا على وجه التوسع والتجور ، كما نقول : أحرقت النار ، وبرد الثلج، وقطع السيف ، وشج الحجر ، وكذلك قولنا : أحمت الشمس الأرض، ونفعت الزرع، وفي الحقيقة أن الله أحمي لها ونفع.

ومما يدل على أن الله تعالى يشغل شيئا بشيء قوله سبحانه :

« هو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه إلى بلد میت ، فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات، وكذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ».

وليس فيما ذكرناه رجوع إلى قول أصحاب الأحكام، ولا قول بما أنكرناه عليهم في متقدم الكلام، لأنا أنكرنا عليهم إضافة تأثيرات الشمس والقمر إليها من دون الله سبحانه ، وقطعهم على ما جوزناه من تأثيرات الكواكب بغير حجة عقلية ولا سمعية ، وإضافتهم إليها جميع الأفعال في الحقيقة ، مع دعواهم لها الحياة والقدرة .

ص: 235

وأنكرنا أن تكون الشمس أو القمر أو شيء من الكواكب موجبا لشيء من أفعالنا ، بشهادة العقل الصحيح .

فإن أفعالنا لو كانت مخترعة فينا ، أو كانت عن سبب أوجبها من غيرنا ، لم تصح بحسب قصودنا وإراداتنا، ولا كان فرق بينها وبين جميع ما يفعل فينا من صحتنا وسقمنا، وتأليف أجسامنا، وحصول الفرق لكل دلالة على اختصاصها بنا وبرهان واضح بأنها حدثت من قدرتنا، وأنه لا سبب لها غير اختيارنا .

وأنكرنا عليهم قولهم ان الله تعالى لا يفعل في العالم فعلا إلا والكواكب دالة عليه. فإن كل شيء يدل عليه لا بد من كونه ، - وهذا باطل - يثبت لها تأثيرا أو دلالة ، فإن الله أجرى تلك العادة ، وليس يستحيل منه تغير تلك العادة لما يراه من المصلحة، وقد يصرف الله تعالى السوء عن عبده بدعوة ، ويزيد في أجله بصلة رحم أو صدقة ، فهذا الذي ثبتت لنا عليه الأدلة ، وهو الموافق للشريعة، وليس هو بملائم لما يدعيه المنجمون والحمد لله.

وأنكرنا عليهم اعتمادهم في الأحكام على أصول مناقضة ، ودعاوی مظنونة متعارضة ، وليس على شيء منها بينة.

فإن كان لهذا العلم أصل صحيح على وجه يسوغ في العقل ويجوز ، فليس هو ما في أيديهم، ولا من جملة دعاويهم.

وقد قال شيخنا المفيد رضوان الله عليه ، إن الاستدلال بمحركات النجوم على كثير مما سيكون ليس يمتنع العقل منه، ولا يمنع أن يكون الله عز وجل علمه بعض أنبيائه وجعله علما على صدقه ».

قال ابن طاووس: هذا آخر ما ذكره الكراجكي رضوان الله عليه في كتابه ، ونعتقد أنه اعتمد عليه.

ص: 236

3- ونقل في البحار ج 4 ص 54 عن (کنز جامع الفوائد) (1) الذي جاء فيه :

روى أبو جعفر محمد الكراجكي في كتابه «کنز الفوائد » حديثا مسندا ، يرفعه إلى سلمان الفارسي قال:

« كنا عند النبي (صلی الله علیه واله) في سجده، إذ جاء أعرابي ، فسأله عن مسائل في الحج وغيره ، فلما أجابه قال له:

یا رسول الله ، إن حجيج قومي مما شهد ذلك معك ، أخبرنا أنك قمت بعلي ابن أبي طالب (علیه السلام) بعد قفولك من الحج، ووقفته بالشجرات من (خم)، فافترضت على المسلمين طاعته ومحبته ، وأوجبت عليهم جميعا ولايته ، وقد أكثروا علينا من ذلك. فبين لنا يا رسول الله ، أذلك فريضة علينا من الأرض ، لما أدنته الرحم والصهر منك ؟ أم من الله ، افترضه علينا ، وأوجبه من السماء ؟

فقال النبي (صلی الله علیه واله): بل الله افترضه وأوجبه من السماء ، وافترض ولايته على أهل السموات وأهل الأرض جميعا .

يا أعرابي ، إن جبرئیل (علیه السلام) هبط علي يوم الأحزاب وقال:

إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: إني قد افترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السموات وأهل الأرض ، فلم أعذر في محبته أحدا ، فمر أمتك بحبه ، فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه ، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه .

أما إنه ما أنزل الله تعالى كتابا ، ولا خلق خلقا إلا وجعل له سبدا ، فالقرآن سید الكتب المنزلة ، وشهر رمضان سید الشهور ، وليلة القدر سيدة الليالي ، والفردوس سيد الجنان ، وبيت الله الحرام سيد البقاع، وجبرئیل (علیه السلام)

ص: 237


1- هو کباب ما زال مخطوطأ ، لمؤلفه الشيخ علم بن سيف بن منصور المجفي الحلي ، كما في نسخته التي كتبت سنة 1083ه في 15 ذي العمدة والموجودة في مكتبة السيد حسن الصدر بخط درویش بن محمد المجفي ، بعنوان: (كنز جامع الفوائد). أما في النسخة المخطوطة الأخرى . والمحتمل أمها بخط المؤلف الموجودة بمكتبة المولى محمد على الخوانساري والمخطوطة سنة (937ه) فهي باسم: (جامع الفوائد ودافع المعاند) من دون كلمة : (كنز). والكتاب مختصر ومنتخب من كتاب (تأويل الآيات الظاهرة) للسيد شرف الدين الاسترابادي. (انظر : الذريعة ج5 ص 66، وج 18 ص 149).

سيد الملائكة ، وأنا سيد الأنبياء ، وعلي سيد الأوصياء ، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، ولكل امرئ من عمله سید ، وحبي وجب على علي بن أبي طالب سيد الأعمال وما تقرب به المتفربون من طاعة ربهم.

يا أعرابي ، إذا كان يوم القيامة نصب لابراهيم منبر عن يمين العرش ، ونصب منبر لي عن شمال العرش ، ثم يدعى بكرسي عالي يز هر نورا ، فينصب بين المنيرين ، فيكون إبراهيم على منبره، وأنا على منبري، ويكون أخي علي على ذلك الكرسي، فما رأيت أحسن منه حبيبا بين خليلين.

يا أعرابي ، ما هبط على جبرئیل (علیه السلام) إلا وسألني عن علي، ولا عرج إلا

وقال: اقرأ على علي مني السلام ».

ص: 238

فهرس الجزء الثاني

الأدلة على أن الصانع واحد ...5

فصل من کلام رسول الله (صلی الله علیه واله)...10

فصل من فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) ....12

من كلامه (علیه السلام) وآدابه في فصل الصمت ...14

مختصر التذكرة بأصول الفنه ...15

فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر الكلام ...31

من كلام رسول الله (صلی الله علیه واله) ...31

من کلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ...31

من كلام الحسين (علیه السلام) ...32

من كلام الإمام الصادق (علیه السلام) ....33

من كلام غير الأئمة ....33

أبو حنيفة مع الإمام الصادق ...36

حديث الإمام الصادق ...37

فصل من الاستدلال على أن الله تعالى ليس بجسم ...37

حول هشام بن الحكم ....40

أببات لزينبا ...42

رسائل متبادلة بين الإمام علي وبين معاوية ...42

مسألة فقهية منظومة وجوابها ...45

مسألة أخرى منظومة وجواها ...45

میام للمفيد حول قضية الغار ...48

كلام للمؤلف حول قضية العار ....51

مبيت علي (علیه السلام) في فراش رسول الله (صلی الله علیه واله) ليلة الهجرة ...53

أحاديث ...55

من روايات أبن شاذان ...55

مسألة وجوابها ...57

فصل في الرؤيا في المنام ...60

أحاديث عن أبي ذر ...67

مسألة في المواريث ...68

قضية مستطرفة لأمير المؤمنين (علیه السلام) ...69

شبهات للملاحدة وجوابها ...70

سؤال ورد للمؤلف من الساحل وجوابه ...73

قصة وقعت للمؤلف ...78

فصل من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ...83

أحاديث في فضله (علیه السلام) ...83

دليل النص بخبر الغدير على إمامته (علیه السلام) والمناقشة حوله ....84

فصل من الوصايا والا قرارات المبهمة

العويصة ...98

فصل في ذكر هبئة العالم ...101

ص: 239

فصل في العلم وأهله ...107

مسائل و جوابها ...111

رسالة للمولف حول طول الأعمار و عمر

صاحب الزمان والمعمرين ...114

صبفي ...124

خبر قس بن ساعدة الأيادي ...............134

خبر المعمر المغربي ...147

حديث المعمر الشرقي ...154

فصل في الكلام في الآجال ... 155

مسألة فقهية ....159

خبر ضرار بن ضمرة ...160

فصل: ما جاء في الخصال ...163

تأويل آية ...165

تأويل خبر : إن الله خلق آدم على صورته ...167

فصل من الاستدلال على صحة النص

بالإمامة ...168

فصل في حديث رسول الله (صلی الله علیه واله): «أنت

مني بمنزلة هارون من موسی ...» ...177

أحاديث في ذلك ...178

أبيات لعلي (علیه السلام) ...180

من آدابه (عليه السلام) ...182

قصة له (عليه السلام) ...183

مسألة في المني و نجاسته ... 184

فصل حول قوله تعالي :« إنکم وما تعبدون من دون...» ...186

سوال عن ثلاث آيات و جوابه ... 188

فصل مما ورد في ذکر النصف ...189

فصل من الأدب ...192

فصل في الغني والفقر ...193

فصل في الکلام في الأرزق ... 195

فصل في تأيل قوله تعالي :« فما بکت عليهم السماء...» ... 200

ذکر مجلس للمولف في القياس و إبطاله ...203

ذکر مجلس للمفيد ...210

مسألة حول قوله (صلي الله عليه واله وسلم): (اختلاف أمتي رحمة) ...215

فصل من الاستدلال علي صحة الإمامة والعصمة ...215

سوال في الغيبة ...216

تأويل آيه :« ولو شاء ربک لجعل الناس أمة وتحدة ...» ...219

نصوص مفقودة ...223

مراجع الكتاب ...239

ص: 240

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.