فاطمة عليها السلام في نهج البلاغة المجلد 1

اشارة

فاطمة (عليها السلام) في نهج البلاغة الجزءُ الأول

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 1351 لسنة 2016

مصدر الفهرسة: IQ – KaPLI ara IQ –KaPLI rda

رقم الاستدعاء: 2017 H37 F3.BP38.09

المؤلف: الحسني، نبيل قدوري ، 1965 -. مؤلف.

العنوان: فاطمة في نهج البلاغة : مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله /

بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني.

بيانات الطبعة: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2017 / 1438 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد ؛

سلسة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ؛ سلسلة الدراسات والبحوث العلمية ( 12 ).

تبصرة ببليوغرافية : يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة- 40 هجريا – احاديث

-- دراسة تحليلية.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء(سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – فضائل – احاديث.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – مصائب.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء )سلام الله عليها(، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – الوفاة والدفن.

مصطلح موضوعي: فقه اللغة العربية.

مصطلح موضوع: احاديث الشيعة الامامية -- دراسة تحليلية.

مؤلف اضافي: مستخلص ل (عمل) : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة -- جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الدرسات والبحوث العلمية (12)

وحدة فقه اللغة وفلسفتها - اللسانيات

فاطمة في نهج البلاغة : مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله / الجزءالأول

تألیف : السيد نبيل الحسني الکربلائي

مؤسسة علوم نهج البلاغة، للعتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الاولى

1439 ه/ 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل: 07815016633

ص: 4

بسم الله مبتدأ

ولقارئ كتابي مخاطبا:

يا سائلاً عن فاطمٍ وما جرى*** هاكَ حديث بعلها مزلزلا

لا تسألنَّ عن مسند أو مرسلٍ*** إن الوصي صوته مجلجلا

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى بقية الله الذي جعله الله خيراً للبشرية والحياة فقال عز وجل «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »إلى من أوكل الله إليه ملئ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً إلى المظهر حق أمه المظلومة الشهيدة أهدي كتابي هذا .

ص: 7

ص: 8

مقدمة الكتاب

خير ما نبتدأ به في مقدمة كتابنا هذا هو ذكر الله عز وجل كما ذكرته سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت مفتتحة خطبتها الاحتجاجية في مسجد أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع من المهاجرين والأنصار، فقالت:

«الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها وتمام منن أولاها، جم عن الاحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أحدها، وتفاوت عن الادراك ابدها »، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أما بعد:

فقد احتوى كتاب نهج البلاغة(1) على علوم جليلة ومعارف عديدة كانت منهلًا

للباحث ومورداً للعالم ومقصداً للدارس ومما ورد فيه من هذه المعارف ما اختص بسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام.

ص: 9


1- قام الشريف الرضي المتوفى سنة ( 406 ه) بجمع بعض من خطب الإمام علي عليه السلام وأسماه ب (نهج البلاغة).

ولأجل إعمام الفائدة وإيصال مادة البحث إلى مرحلة من البيان والتوضيح تكون عوناً لطلاب العلم والمعرفة بما أفصح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن هذه الشخصية الرسالية المرتبطة بالسماء ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبه عليه السلام حيث كانت عرسه وسكنه وأم سبطي النبوة الحسن والحسين عليهما السلام فضلاً عما ارتبط بها من شؤون الدين والدنيا خلال فترة حياتها القصيرة التي عاشتها مع الإمام علي عليه السلام، حيث لم تبقَ بعد أبيها إلا خمسة وسبعين يوماً كما ورد عن ابنها الإمام جعفر الصادق عليه السلام. وقد مضت إلى ربها شهيدة أثر جملة من الاعتداءات التي جرت عليها بعد حادثة السقيفة التي تمت فيها البيعة لأبي بكر وما اقتضته سياسة الحكم الجديد الذي ظهر في مجموعة من الأفعال التي كان من أبرزها أحداث بيت فاطمة عليها السلام التي تدرجت بين جمع الحطب على بابها وحرقه واقتحامه وعصرها بين الباب والحائط وقتل ولدها المحسن عليه السلام.

ولذا: فقد قصدنا في هذه الدراسة ميدان فقه اللغة وفلسفتها التي انبثقت منها التداولية والتي كانت نتاج ابحاث الفلسفة التحليلية التي اتخذت على عاتقها دراسة وظائف المنطوقات وخصائصها.

فهذا الكتاب الصادر عن الامام علي امير المؤمنين (عليه السلام) في فاطمة (عليها السلام) لمليء بالمعارف والمفاهيم المكنونة في قصديات الخطاب والتي اكتنزت القيم النفسية والمؤثرات التواصلية جيلا بعد جيل منذ صدور النص والى يومنا هذا.

فما زالت الافعال الكلامية ومتضمنات القول والمضمرات منهلاً خصباً ومعيناً نضباً للمعارف والحقائق التي ارتبطت بفاطمة )عليها السلام).

ولعل إيرادنا بشاهدين في هذه المقدمة تكفي اللبيب والمنصف في فهم ما جرى على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ماتت وهي غاضبة على

ص: 10

من ظلمها؛ وتمهد للولوج الى ميدان هذه الدراسة في مقاربة مقاصدية منتج النص (عليه السلام) وما كشفته الافعال الكلامية وتفاعل المتلقي من حقائق تغني الباحث والدارس عن الرجوع الى المصادر التاريخية و الحديثية في اثبات هذه الحقيقة

المرّة والفاجعة العظيمة والرزية الكبرى التي احلّت بالإسلام وما تمخض عنها من آثار سلبية وارتدادات قوية تضعضعت لها اعمدة الملّة؛ فمن ترك الصحابة جثمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو لم يبرد بعد يتسابقون الوصول الى الخلافة الى حرق بيت النبوّة ونكث بيعة الوصي الى دفن فاطمة في الليل وقد عُفِّيَ ثراها حقائق كشفتها مقاصدية النص ومقبوليته ودلالته وإن عمد الرواة والحفّاظ على تجنيب مصنّفاتهم من ذكرها وكتمها وتضييعها إلا أن تجدد العلوم وتنوع المعارف وتغيير سبل البحث والدراسة كانت لهم بالمرصاد ومنها هذا الحقل المعرفي.

أما الشواهد التي تمهد للولوج الى هذه الدراسة فهي:

الشاهد الأول: أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة الكوفي وابن عبد البر، وابن أبي عاصم، وأحمد بن حنبل، والذي تضمن إقراراً من عمر بن الخطاب بحرق دار بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخرجه ابن أبي شيبة الكوفي وغيره باللفظ الآتي:

(عن زيد بن أسلم عن أبيه أسلم أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال:

يا بنت رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم ما من أحد أحب إلينا من أبيكِ،وما من أحدً أحب إلينا بعد أبيكِ منكِ، وأيم الله ما ذلك بمانعي أن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يُرق عليهم البيت!!!

ص: 11

قال: فلما خرج عمر جاؤوها فقالت:

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقنّ عليكم البيت!!!

وأيم الله ليمضين لما حلف عليه فانصرفوا راشدين، فروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ .»

فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر)(1).

والشاهد الثاني: تضمن إقراراً من أبي بكر في اقتحامه لبيت فاطمة سيدة نساء أهل الجنة(2)؛ وذلك الإقرار كان حينما حضرته الوفاة فتمثل أمامه ما وقع منه إزاء بيت النبوة كما يروي الطبري والطبراني والذهبي وغيرهم عن حميد بن عبد الرحمن

بن عوف:

(إن عبد الرحمن بن عوف دخل على أبي بكر في مرضه الذي قُبض فيه فرآه مفيقاً،فقال عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً)؛ ثم يسوق الحديث إلى أن يصل إلى قوله مقراً ومعترفاً بهذه الجريمة:

(أما اللاتي وددت أني تركتهنّ، فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوا على الحرب)(3).

ص: 12


1- المصنف لابن أبي شيبة: ج 8 ص 572 ؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91 ؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3 ص 975 ؛ فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 1 ص 364 طبعة مؤسسة الرسالة؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17 ص 167 .
2- فضائل سيدة النساء لأبن شاهين: ص 25 ؛ الاستيعاب لأبن عبد البر: ج 4 ص 1895 ؛ تاريخ ابن عباس: ج 42 ص 134 .
3- الأموال لابن زنجويه: ج 1 ص 387 حديث 364 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 1 ص 62 ؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 353 ؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 3 ص 118 ؛ تاريخ ابن عساكر: ج 30 ص 418 ؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 1 ص 290 ، طبعة دار القلم وغيرهم.

وهذان الشاهدان أوردناهما لغرض إيصال القارئ إلى طبيعة الأحداث والمجريات التي مرت بها سيدة النساء عليها السلام ومن ثم فإن هذه الأحداث العصيبة بدون ريب قد تركت آثارها وآلامها على قلب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتركت في نفسه جروحاً عميقة وهو ما تجلى في مقاصد النص ومقبوليته لدى المتلقي وتفاعله وتأثره به مما اعطى صورة جليّة عن تلك المرحلة المهمة في تاريخ الاسلام فضلا عن بيانه لحقائق ومعارف عديدة ارتبطت بسيدة نساء العالمين وبه (عليهما السلام) وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالحياة

الاسلامية في جوانبها الاجتماعية والعقدية والثقافية وغيرها كما سيمر في الكتاب.

وبناءً عليه:

فقد شغل النص الأول من نصوص نهج البلاغة في فاطمة (عليها السلام) الحيز الاكبر من الدراسة وذلك لاختصاصه بتلك الاحداث التي وقعت بعد وفاةرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأدت الى تلك الرزية العظيمة في استشهاد فاطمة (عليها السلام).

أما منهجنا في الدراسة فهو كالآتي:

ص: 13

ص: 14

منهج البحث:

اعتمدنا في دراسة النص على المنهج الوصفي والتحليلي وقد تناولنا المقاطع في النص الشريف والمفردات وما اكتنزته من قوة انجازية سواء في بيان القصدية أو التفاعلية لدى المستمع بالدراسة والتحليل ايضاً، وذلك: ان النص الذي بين ايدينا

هو نص مقدس له من الآثار الانجازية والمصداقية ما للنص القرآني بفعل ما يفرضه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي »

ومن ثم:

فقد فرض علينا البحث الدوران حول المفردة ليقيننا القاطع ان هذه المفردات تكتنز معانٍ عديدة ومفاهيم كثيرة مما استلزم الرجوع الى المعاجم اللغوية والشواهد القرآنية والثوابت العقدية وغيرها تجنباً من الوقوع فيما لا يصح للنص الشريف، فضلاً عن التحرز من القطع بما قصده المعصوم (عليه السلام) عيناً وواقعاً، وانما

سعينا للوصول الى مقاربة قصدية المعصوم (عليه السلام) بحكم ما تفرضه مكونات المفردة من معانٍ ومدلولات ومفاهيم اعتمدها العرب في كلامهم ومنطوقاتهم.

ولذا: كان الاتكاء على مكنون هذه المفردات والخطاب بلحاظ أن اللغة هي الوسيلة الأساس في بناء الفهم والتواصل والانجاز لما يريد بني البشر.وعليه:

فقد سرى التحليل في معظم مفردات منتج النص (عليه السلام) وبعض النماذج من متلقيه ايضاً، فقد اخضعت المقبولية التي جاءت في بعض النماذج التي تم

ص: 15

اختيارها للتحليل والدراسة بغية الوقوف على جوانب التفاعلية لدى المتلقي فضلاً عن الوصول الى فهم المتلقي للمقاصدية التي اكتنزها النص الشريف وذلك ان المقبولية هي الصورة الكاشفة عن ايصال المعنى الخفي الذي قصده منتج النص،

ومن ثم فهي انعكاس للقصدية التي سعى الى معرفتها الباحث بكونه متلقي رابط بين منتج النص والمتلقي للنص وانه يمثل اداة جديدة لإظهار قصدية النص الحقيقية وليس مقبوليته فقط.

بمعنى جديد: «مقاصدية المقبولية »

إذ يسعى البحث الى اضافة عنصر جديد وهو انتزاع حقيقة المقاصدية من فحوى منتج النص الجديد الممثل بالمقبولية عند المتلقي، ومن ثم فنص المقبولية هو بحاجة الى كاشفية المقاصدية والمقبولية، فقد يحاول المتلقي إحادة المقصدية في عينة البحث عن عين مقاصدية منتج النص ومراده من اللفظ وغايته فيه ومبتغاه منه وهو ما دفعنا الى اخضاع مقبولية ابن ابي الحديد المعتزلي الى التحليل وكشف قصديته في احادة مقاصدية منتج النص (عليه السلام) ومن ثم خلق حالة جديدة من المقبولية لدى المتلقي المراقب الذي يقرب قصدية منتج النص من جهة، وقصدية متلقيه من جهة اخرى -كما سيمر- من خلال البحث في مقبولية النص الشريف الخاص بدفن سيدة نساء العالمين (صلوات الله وسلامه عليها).

وعليه:

فقد اضافت الدراسة عنصراً جديداً مرتبطاً بتحليل نص المتلقي وتفاعله وتأويله للنص المرتبط بشخص ما وهو ما يعرف بمنتج النص.

إذ توصلت الدراسة الى ان المتلقين للنص هم بحاجة ايضاً الى دراسة نصوصهم التي كشفوا فيها عن تفاعلهم وتأثرهم بالنص الشريف الذي تناولته الدراسة.

وهذا التفاعل يؤثر على المتلقين الجدد في تغيير مبتغى عينة النص عن مقصدها

ص: 16

الحقيقي مما يؤدي الى قتل النص وجموده وازهاق روحه وقوته التأثيرية في المتلقين.

وهذا الامر اكثر مما يلاحظ وجوده وتحققه في النصوص القرآنية والنبوية، فقد انبرى المفسرون الى اعطاء آرائهم وتفسيراتهم في بيان مقاصدية النص او مقاصد الشريعة عن وجهتها الحقيقية ومن ثم تغيير مراد الحكم ومساره الذي يكون مطابقاً لعين الواقع الذي اراده الله تعالى من خلال النص القرآني والنبوي والذي نعني به

(قول رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم » وعترته اهل بيته «عليهم السلام » وهم عدل القرآن والثقل الاصغر في الأمة).

وهذه الحقيقة: «مقاصدية المقبولية » توصلت اليها الدراسة من خلال تحليل قول المتلقي في مقبوليته وتفاعله مع النص العلوي -عينة البحث-.

اقتضى المنهج الذي اعتمدناه في الدراسة بالتتبع لما ورد عن امير المؤمنين (عليه السلام) في بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نهج البلاغة مقرنين الاستقراء بمنهج التحليل لهذه النصوص الشريفة والمنهج الوصفي بغية تقديم دراسة متماسكة عما يكنه أمير المؤمنين عليه السلام عن حليلته وأم بنيه فضلاًعن فهم الأحداث وآثارها على الإسلام والمسلمين وعلى آل النبوة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

وعليه: تضمنت الدراسة تمهيد شمل التأصيل العلمي للمصطلحات الواردة في الدراسة ومجموعة من المباحث انضوت تحت بابين، الباب الاول خُصص لما رواه الشريف الرضي (رحمه الله) في خطاب امير المؤمنين (عليه السلام) لرسول الله

(صلى الله عليه وآله) عند دفنه لفاطمة (عليها السلام) وقد تفرع الباب الى فصلين، خصص الاول لدراسة مقاصدية النص وتحليله واستكناه دلالاته، وكان الثاني مخصصاً لمقبولية النص لدى المتلقين والذين تفاوتت فيما بينهم التوجهات الفكرية

والعقدية والزمنية، في حين كان الباب الثاني مشتملاً على دراسة ما رواه الشريف

ص: 17

الرضي (رحمه الله) من وصية امير المؤمنين (عليه السلام) في امواله وتوليته لأبني فاطمة (عليهم السلام) على هذه الاموال وقد تفرع الباب الى فصلين، كان الاول في دراسة مقاصدية النص، وخصص الثاني لمقبوليته عند المتلقين؛ ثم ارفدنا هذان الفصلان بفصل ثالث تضمن ما رواه الشريف الرضي لكتاب امير المؤمنين (عليه السلام) الذي تضمن ردوداً لما ادّعاه معاوية من شبهات؛ وقد تضمن الكتاب الشريف ذكر سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) ومن ثم تناولت الدراسة في هذا الفصل مقاصدية النص ضمن المبحث الأول، ومقبوليته ضمن المبحث الثاني،

وبه نكون قد اكملنا هذه الدراسة التي نأمل من خلالها مقاربة قصدية المعصوم (عليه السلام) (منتج النص) في بيان كثير من المفاهيم والحقائق والدلالات التي اكتنزها النص الشريف ومفرداته التي لم ندخر جهداً في معرفة معانيها والغورفي مضامينها مستعيناً بذلك بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) واهل بيته لاسيما سيدي ومولاي وامامي امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وحليلته البضعة المحمدية (صلوات الله وسلامه عليها وعلى ابيها وبعلها وبنيها)، فما زالت

-بأبي وأمي- تحنو على ولدها باللطف والعون والتسديد.

﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّ بِاللَّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾(1).

﴿وَالَحمْدُ لَّله رَبِّ الْعَالِمينَ)(2).

«السيد نبيل بن السيد قدوري بن السيد حسن الحسني »

كان الشروع في هذا الكتاب يوم ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

17 /ربيع الأول/ 1437 ه

ص: 18


1- سورة هود، الآية ( 88 ).
2- سورة الأنعام، الآية ( 45 ).

مبحث تمهيدي في مصطلحات الدراسة

اشارة

ص: 19

ص: 20

يمتاز الخطاب الوارد عن الامام علي (عليه السلام) عن غيره بأنه خطاب مقدس وذلك بكينونة ما يفرضه حديث رسول الله (صلى الله عليه واله) في بيان شأنية عترته (عليه السلام) فقال:

«يا ايها الناس اني تركت فيكم ما أن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(1) ؛ وفي لفظ اخر أنه (صلى الله عليه واله وسلم) قال:

«اني تارك فيكم الثقلين احدهما اكبر من الاخر، كتاب الله وعترتي اهل بيتيفأنظروا كيف تخلفوني فيهما فانهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، ثم قال: ان الله مولاي... » (2).

ومقتضى الحديث الملازمة بين النصين والخطابين، النص القرآني وخطابه والنص النبوي وخطابه -اي: العترة المحمدية (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين)-.

وعليه:

فقد تصدرت الدراسة منهجية المقاربة لقصدية المعصوم (عليه السلام) في خطابه وذلك -وكما مرَّ ذكره في المقدمة- تجنباً من الوقوع في الإثم والإدعاء بانطباقية قصدية الخطاب أو منتج النص مع نتائج البحث، على الرغم من أن الدراسة لم تخرج عن المنهجية المتسالم عليها عند الفقهاء والأصوليين في الدوران بين معنى اللفظ ومفهومه ومصداقه وأرتكازه في روح الخطاب واللسان العربي.

ص: 21


1- سنن الترمذي: ج 5 ص 328 .
2- فضائل الصحابة للنسّائي: ص 15 .

فكانت الدراسة تسير مع الوصف المفهومي والدلالي للمفردة، بغية الوصول الى مكنونات الخطاب العلوي وقوته الانجازية سواء الظاهرة منها أو الخفية -وهو ما سيمر- في نظرية الافعال الكلامية؛ ومن ثم الوصول الى روح الحدث وعناصره، وروح الاسلام وذواته المحمدية دون الحاجة الى المرويات التاريخية والسيرية، أو

الرواة وجرحها وتعديلها للتثبت فيما يقوله الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في شأن بضعة المصطفى وقرة عينه (صلى الله عليها وعلى بعلها وبنيها) لاسيما فيما جرى عليها.

ولذا:

صدّرت الدراسة والكتاب بهذين البيتين موجزاً ومغتزلاً فيهما ما خلصت إليه هذه الدراسة، فقلت مخاطباً المتلقي لكتابي هذا:

يا سائلاً عن فاطمٍ وما جرى*** هاك حديث بعلها مزلزلا

لا تسألنَّ عن مسندٍ أو مرسلٍ***إنَّ الوصي صوته مجلجلا

ولا شك ان صوت الوصي كان مجلجلا في إلقاء الحجة على كل مسلم يصل اليه هذا الخطاب المخصوص فيما نزل ببضعة الهادي الأمين (صلى الله عليه وآله) إن كان للعربية متقناً ولها فاهماً.

إذ (قد تدل نغمة الصوت على فعل كلامي معين بفضل الاختلافات النغمية، فالنغمة الصاعدة والنغمة الهابطة تحدد مثلاً الأسلوب الكلامي، فالخبر يستعمل المتكلم معه نغمة هابطة، ويستعمل مع الاستفهام نغمة صاعدة)(1).

ص: 22


1- الافعال الكلامية في القرآن -سورة البقرة- اطروحة دكتوراه: ص 3 من التمهيد، للباحث محمد حدّور- جامعة الحاج الخضر- الجزائر.

وبناءً عليه:

فقد تضمنت الدراسة بعض المصطلحات العلمية التي كان معين لها في الوصول الى نتائج الدراسة ومجريات البحث وهي فيما يلي:

أولاً: مفهوم الخطاب

اشارة

ان مجال الدراسة هو خطاب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه الصلاةوالسلام) الذي جمعه الشريف الرضي (رحمه الله) (المتوفى 400 ه) في مجموعه الذي أسماه «نهج البلاغة » وقد ضمنه في محاور ثلاثة:

1- الخطب والأوامر.

2- الكتب والرسائل.

3- الحكم والمواعظ.

وقد جرى بنا البحث أن تكون مادة الدراسة قد شملت المحور الأول والثاني، فكان منهما مادة البحث والدراسة فيما ورد فيهما من ذكرٍ لفاطمة (عليها السلام).

فقد كانت مادة الباب الاول من الدراسة ما روي عنه (عليه السلام) من الخطاب عند قيامه -بأبي وامي- بدفن فاطمة (عليها السلام)، فحول وجهه لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخاطباً اياه بتلك الخطبة التي سيمر البحث فيها.

وكانت مادة البحث في الباب الثاني من محور كتبه ورسائله وقد شمل نصين،الأول كان في كتابه الذي أشتمل على وصيته (عليه السلام) في أمواله وتولية ابني فاطمة (عليهم السلام) والعلة في ذلك.

وأما النص الثاني فقد أشتمل على كتابه الذي أرسله الى معاوية بيد أبي مسلم

ص: 23

الخولاني؛ وقد ورد فيه ذكر (خير نساء العالمين) (عليها السلام).

ومن ثم: فمما احتاجته الدراسة التعريف ب(الخطاب) ومفهومه، وهو:

الف - الخطاب لغة

يذهب الفراهيدي (المتوفى سنة 175 ه) الى اختصار الدلالة ويوجز في البيان إلى اختصار الدلالة ويوجز في البيان فيقول في معنى (الخطاب)، (مراجعة الكلام)(1).

وهي عند الجوهري (المتوفى 393 ه): (وخاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً)(2)،ويفهم منه ما أراده الفراهيدي، أي: مراجعة الكلام بين المتكلم والسامع.

في حين يظهر أحمد بن فارس (المتوفى 395 ه) معنى أوضح لهذا اللفظ، فقال: (خطب): الخاء والطاء والباء أصلان أحدهما الكلام بين اثنين يقال خاطبه يخاطبه خطاباً، والخطبة من ذلك(3).

وقريب منه قال الزمخشري (المتوفى 538 ه):

خطب: خاطبه أحسن الخطاب وهو ا لمواجهة بالكلام، وخطب الخطيب خطبة حسنة، وخطب الخاطب خطبة جميلة، وكثر خطابها)(4).

وقد حاول ابن منظور (المتوفى 711 ه) الجمع فيما قاله أهل اللغة من قبله فقال:

(والخطاب والمخاطبة: مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً،

ص: 24


1- كتاب العين للخليل الفراهيدي: ج 4، ص 224 .
2- الصحاح للجوهري: ج 1، ص 121 .
3- معجم مقاييس اللغة: ج 2، ص 198 .
4- أساس البلاغة للزمخشري: ص 239 .

وهما يتخاطبان؛ والخطبة مصدر الخطيب، وخطب الخاطب على المنبر، واختطب يخطب خطابة، واسم الكلام: الخطبة؛ قال أبو منصور: إن الخطبة مصدر الخطيب، لا يجوز إلاّ على وجه واحد، وهو أن الخطبة اسم للكلام، الذي يتكلم به الخطيب فوضع موضع المصدر)(1).

ويمكن الخروج بمعنى واحد لهذه الأقوال وهو: الكلام الذي يخرج من فم المتكلم إلى السامع غالباً إذ قد يتوجه المتكلم بالكلام إلى العجماوات، ومن ثم لم يقدم أهل اللغة دلالة تفيد تمام المعنى في ذهن القارئ، إذ لا دلالة لقولهم: مراجعةالكلام بدون قرينة توضح معنى المراجعة وعليه: ينصرف الذهن إلى أنها محصورة بما يتكلم به المتكلم وهو على المنبر أو مكان مرتفع أو في جمع من الناس قلوا أو كثروا.

وهذا المعنى لا يوصل القارئ إلى المعنى الحقيقي للفظ (الخطاب) ولذا لابد من الرجوع إلى كتاب الله تعالى وما ورد فيه لهذه اللفظة التي يتكشف معناها من خلال سياق النص القرآني الكريم. وهو ما نحاول الوصول إليه في باء.

باء - الخطاب في القرآن الكريم

ورد في القرآن الكريم بعض الاستعمالات لمادة (خطب) فكانت على خمسة موارد، منها اثنان بلفظ: (الخطاب) وثلاثة منها هي: (خاطبهم) و(تخاطبني) وقد جاءت مرتين، وهي بحسب الذكر الحكيم كانت كالآتي:

ص: 25


1- لسان العرب لابن منظور: ج 1، ص 360 .

أ- قال تعالى: «...فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِ فِی الخطَابِ»(1).

قال الشيخ الطوسي: (أي غلبني في محاورة الكلام)(2).

وعند الصنعاني هي: (قهرني في الخصومة)(3).

وعند النحاس: (قهرني لأنه أعز مني)(4).

وهذه الأقوال الثلاثة قريبة من المعنى اللغوي القائل بأن الخطاب: مراجعة الكلام بين الاثنين، في حين يستفاد من سياق الآية ودلالتها بأن الخطاب بيان الحجة والإقناع أو الغلبة في الكلام.

ب- قال تعالى: «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الِحكْمَةَ وَفَصْلَ الِخطَابِ»(5).

والآية المباركة اختلف في تفسيرها المفسرون وتعددت الأقوال في معنى «فَصْل َالْخطَابِ »، على النحو الآتي:

1- قال مقاتل بن سليمان: (وأعطيناه فصل القضاء، البينة على المدعي واليمين على من أنكر)(6).

2- قال سفيان الثوري: (فصل الخطاب): (فصل القضاء)(7).

ص: 26


1- سورة ص، الآية ( 23 ).
2- التبيان: ج 1، ص 468 .
3- تفسير الصنعاني: ج 3، ص 163 .
4- معاني القرآن للنحاس: ج 2، ص 219 .
5- سورة ص، الآية ( 20 ).
6- تفسير مقاتل بن سليمان: ج 3، ص 115 .
7- تفسير الثوري: ص 257 .

3- وقد جمع ابن جرير الطبري مجموعة من الأقوال، فقال:

(واختلف أهل التأويل في معنى ذلك: فقال بعضهم: عني به أنه القضاء والفهم به، قال ابن عباس: أعطيناه الفهم، وعن مجاهد: إصابة القضاء وفهمه، وعن السدي: علم القضاء وعن ابن زيد: الخصومات التي يتخاصم الناس إليه فصل ذلك الخطاب الكلام والفهم، وإصابة القضاء والبينات، وقال آخرون: بل معنى ذلك وفصل الخطاب، بتكليف المدعي البينة واليمين على المدعى عليه وعن

الشعبي: أنه قال: قول الرجل: أما بعد.

ويذهب الطبري بعد عرضه لهذه الأقوال إلى القول:

(وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب والفصل هو القطع، والخطاب هو المخاطبة).

ثم يعترض على هذه التأويلات وذلك لعدم ورود خبر فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخلص إلى القول في ذلك، (فالصواب أن يعمّ الخبر كما عمّه الله فيقال: أوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب)(1).

في حين: نجد أن المعنى الألصق لما جاءت به الآية المباركة في بيان معنى فصل الخطاب ما بيّنه السيد العلامة الطباطبائي فقال: (وفصل الخطاب: تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره وتمييز حقه من باطله وينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم)(2).

وهذه الأقوال لم توصل المعنى إلى المستوى الذي ينكشف فيه (فصل الخطاب)

ص: 27


1- جامع البيان للطبرسي: ج 23 ، ص 167 .
2- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 17 ، ص 190 .

وقد جعله الله تعالى من ضمن سلم المنح ومراتبه التي تفضل بها على الأنبياء (عليهم السلام)، كما يشير سياق الآية المباركة، فكان فصل الخطاب استحقاقاً رتبيّاً كشد الملك، والحكمة؛ وهذه الرتبة، أي الحكمة يتحدث عنها القرآن في بيان دلالي يرشد

إلى حجم فضلها فيمن اختصه الله بها فيقول سبحانه:

1- «يُؤْتِی الِحكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الِحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِی خَيْرا كَثيِرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلِا أُولُو الأَلْبَابِ»(1).

فهذا الخير الكثير يتحدث عنه الإمام الصادق عليه السلام فيقول في بيان معنى الآية:

«الحكمة ضياء المعرفة، وميراث التقوى، وثمرة الصدق، وما أنعم الله على عبد من عباده نعمة أعظم وأنعم وأجزل وأرفع وأبهى من الحكمة للقلب، قال تعالى:«يُؤْتِی الِحكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الِحْكْمَةَ فَقَدْ أُوتِی خَيْرا كَثِيرًا»(2) .

2- «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الِحكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لَّله»(3).

فكان إيتاؤه الحكمة ملازمة للشكر لله.

وقد جاء في معنى الآية عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام):

«الفهم والعقل .»(4).

ص: 28


1- سورة البقرة، الآية ( 269 ).
2- مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق عليه السلام: ص 198 ؛ البحار للمجلسي: ج 1،
3- سورة لقمان، الآية ( 12 ).
4- تحف العقول للحراني: ص 386 .

وعليه:

لم يستطع المفسرون تقديم بيان يكشف معنى «فَصْلَ الْخطَابِ » وسمته التي نالها داود النبي عليه السلام، فضلاً عن ذلك فقد أشارت الروايات الشريفة إلى أنها من بين السمات التي خص الله بها رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أهل بيته عليهم السلام، لاسيما أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليهما السلام؛ فمما كان منها على سبيل الاستشهاد:

1- عن أبي الطفيل، قال: (قام أمير المؤمنين علي عليه السلام على المنبر فقال: «إنّ الله بعث محمداً بالنبوة واصطفاه بالرسالة، فإياك والناس وإياك، وعندنا أهل البيت مفاتيح العلم، وأبواب الحكمة، وضياء الأمر، وفصل الخطاب، ومن يحبنا أهل البيت ينفعه إيمانه، ويتقبل منه عمله، ومن لا يحبنا أهل البيت لا ينفعه إيمانه ولا يتقبل منه عمله، وإن أدأب الليل والنهار لم يزل .»(1).

2- وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

«أنا قسيم الله بين الجنة والنار، لا يدخلها داخل إلاّ على حد قسمي، وأنا الفاروق الأكبر، وأنا الإمام لمن بعدي، والمؤدي عمن كان قبلي، لا يتقدمني أحد إلا أحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإني وإياه لعلى سبيل واحد إلا أنه هو المدعو باسمه ولقد أعطيت الست: علم المنايا، والبلايا، والوصايا، وفصل الخطاب، وإني لصاحب الكرات، ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم، والدابة التي تكلم الناس .»(2).

ص: 29


1- المحاسن للبرقي: ج 1، ص 200 ؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج 3، ص 9.
2- الكافي للكليني: ج 1، ص 198 .

3- ومما رواه الصدوق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لفاطمة (عليها السلام) حينما حضرته الوفاة ورآها تبكي فأخذ يحدثها عن مناقب آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يذهب عنها الهم والحزن.

والرواية عن سلمان الفارسي عليه الرحمة والرضوان، قال:

(كنت جالساً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه التي قبض فيها، فدخلت فاطمة (عليها السلام) فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ما يبكيك يا فاطمة؟ .»

قالت:

«يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك .»فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء، ثم قال:

«يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا وأنه حتم الفناء على جميع خلقه، وأن الله تبارك وتعالى أطلع إلى الأرض إطلاعة فاختارني من خلقه فجعلني نبيا ثم أطلع إلى الأرض إطلاعة ثانية فاختار منها زوجك وأوحى إلي أن أزوجك إياه وأتخذه وليا ووزيرا وأن أجعله خليفتي في أمتي فأبوك خير أنبياء الله ورسله، وبعلك خير الأوصياء، وأنت أول من يلحق بي من أهلي، ثم أطلع إلى الأرض إطلاعة ثالثة فاختارك وولديك، فأنت سيدة نساء أهل الجنة، وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة، كلهم هادون مهديون، وأول الأوصياء بعدي أخي علي، ثم حسن، ثم حسين، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي، وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله من

ص: 30

درجتي ودرجة أبي إبراهيم، أما تعلمين يا بنية أن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي، وخير أهل بيتي، أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما .»

فاستبشرت فاطمة عليها السلام وفرحت بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم قال:

«يا بنية إن لبعلك مناقب: إيمانه بالله ورسوله قبل كل أحد، فلم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي، وعلمه بكتاب الله عز وجل وسنتي وليس أحدٌ من أمتي يعلم جميع علمي غير علي عليه السلام وإن الله عز وجل علمني علما لا يعلمه غيري وعلم

ملائكته ورسله علما فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه وأمرني الله أن أعلمه إياه ففعلت فليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي وفهمي وحكمتي غيره، وإنك يابنية زوجته، وابناه سبطاي حسن وحسين وهما سبطا أمتي، وأمره بالمعروف ونهيه

عن المنكر، فإن الله جل وعز آتاه الحكمة وفصل الخطاب، ويا بنية إنا أهل بيت أعطانا الله عز وجل ست خصال لم يعطها أحدا من الأولين كان قبلكم، ولم يعطها أحدا من الآخرين غيرنا، نبينا سيد الأنبياء والمرسلين، وهو أبوك، ووصينا سيد الأوصياء وهو بعلك وشهيدنا سيد الشهداء وهو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك .»

قالت (عليها السلام):

«يا رسول الله هو سيد الشهداء الذين قتلوا معه؟ .»

قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«لا بل سيد شهداء الأولين والآخرين ما خلا الأنبياء والأوصياء، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة مع الملائكة وإبناك حسن وحسين سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة، ومنا والذي نفسي بيده مهدي هذه الأمة الذي يملأ

ص: 31

الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما .»(1).

والحديث الشريف له تكملة إلا أننا ذكرنا هذا المقدار ففيه الكفاية لبيان ما اختص الله به محمد وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم فكان مما آتاهم فصل الخطاب.

ومن ثم لا يعد المعنى الذي أشار إليه المفسرون في بيان «فَصْلَ الْخطَابِ » هو: (أما بعد، أو البينة على المدعي واليمين على من أنكر، أو علم القضاء، أو غير ذلك من مراتب فضال الأنبياء ومختصاتهم التي فضلهم الله بها على الناس) لاسيما ونحن

نشهد اليوم كثرة المحاكم والقضاة في مختلف البلاد والتشريعات.

إذن:يلزم أن يكون فصل الخطاب من السمات التي انحصر وجودها في النخبة المصطفاة من قبل الله تعالى مما يلزم أيضاً أن يكون له معنى آخر أرقى بكثير مما نطق به المفسرون لهذه الآية لاسيما وأنها قدمت الملك، والحكمة لفصل الخطاب فكان من مقتضيات شخصية داود النبي (عليه السلام).

بمعنى:

إن فصل الخطاب هو ملكة راسخة في النفس مختصة بالكلام مع الناس وإقناعهم والتأثير فيهم ومعرفة كوامن منطقهم فإن حاججوا خصموا وإن خاطبوا أبلغوا، وإن استمعوا فهموا، وإن حاوروا أعلموا؛ ولولا ذلك لما كلفوا بالرسالة والنذارة والبشارة وغيرها من وظائف الرسالة الإلهية إلى الخلق.

كما دلت الروايات الواردة عن عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المعنى.

ص: 32


1- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ص 263 .

أما بقية النصوص القرآنية التي حملت مادة (خطب) فكانت كما في الفقرة جيم.

ج- قال تعالى: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الَجاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا»(1).

وقد ذهب الزمخشري إلى معنى الآية بقوله: (حادثوهم بما فيه سفه وسوء جهالة)(2).

وقال الشيخ الطبرسي: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الَجاهِلُونَ» بما يكرهونه أو يثقل عليهم «قالوا » في جوابه «سلاما»(3).

د- قال تعالى: ﴿...وَلا تُخاطِبْنِي فِی الَّذِينَ ظَلَمُوا...»(4).

قال الشيخ الطوسي في بيان معنى ﴿وَلا تُخاطِبْنِي﴾: (نهي لنوح عليه السلام أن يراجع الله تعالى ويخاطبه ويسأله في أمرهم بأن يمهلهم، ويؤخر إهلاكهم لأنه حكم بإهلاكهم وأخبر بأنه سيغرقهم، فلا يكون الأمر بخلاف ما أخبر به)(5).

ويفيد هذا القول للشيخ الطوسي بأن المعنى المراد ب «ولا تخاطبني » مراجعة الله تعالى في الكلام؛ وهو لا يخرج عن المعنى الذي ذهب إليه اللغويون.

ولذا: نجد أن الطبري وغيره من المفسرين، لم يخرج عن هذا المعنى فقال: أي، ولا تراجعني، قال: تقدم أن لا يشفع لهم عنده(6).

ص: 33


1- سورة الفرقان، الآية ( 63 ).
2- الكشاف للزمخشري: ج 3، ص 283 ، ط دار الكتب العلمية.
3- مجمع البيان للطبرسي: ج 7، ص 310 .
4- سورة هود، الآية ( 37 ).
5- التبيان للشيخ الطوسي: ج 5، ص 482 .
6- تفسير الطبري: ج 12 ، ص 45 ؛ تفسير السمرقندي: ج 2، ص 149 .

ه- قال تعالى: ﴿...الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا)(1).

وفي معناها يقول الزمخشري: (والملائكة لا يملكون التكلم بين يديه، فما ظنك بمن عداهم من أهل السماوات والأرض)(2).

أي: لا يخرج قول المفسرين عن المعنى الذي أراده اللغويون، ومن ثم يبقى المعنى منحصراً في مراجعة الكلام وهو غاية ما ذهب إليه أهل اللغة والتفسير في بيان معنى (الخطاب).

جيم - ما هي الخطابة؟

عُرّفت الخطابة: بأنها فن نثري غايتها التأثير في نفس السامع وهي مصدر خطب يخطب، أي صار خطيباً، وهي على هذا صفة راسخة في نفس المتكلم يقتدر بها على التصرف في فنون القول، لمحاولة التأثير في نفوس السامعين، وحملهم على ما يراد

منهم بترغيبهم وإقناعهم(3).

ولذا:

فإن كل الأمم في حاجة إلى الخطابة، وكانت العرب من أحوج الأمم إليها ولذلك ارتقت في الخطابة مرتقى فاقت فيه على غيرها من سائر الأمم إذ لا يخفى ما كانت عليه العرب أيام جاهليتهم من الأنفة والتفاخر بالأحساب والأنساب والمحافظة

على شرفهم وعلو مجدهم وسؤددهم حتى حدث ما حدث بينهم من الوقائع العظيمة.

ص: 34


1- سورة النبأ، الآية ( 37 ).
2- تفسير الكشاف للزمخشري: ج 4، ص 210 .
3- الخطابة أصولها وتاريخها، تأليف: أحمد أبو زهرة: ص 150 ، ط دار الفكر العربي لسنة 1934 ،القاهرة.

ولا شك أن كل قوم لهم مثل ذلك هم أحوج الناس إلى ما يستنهض هممهم ويوقظ أعينهم ويقيم قاعدهم ويشجع جبانهم ويشد جنانهم ويثير أشجانهم ويستوقد نبارهم صيانة لعزهم أن يستهان ولشوكتهم أن تستلان وتشفياً بأخذ الثأر وتحرزاً من عار الغلبية وذل الذمار وكل ذلك من مقاصد الخطب فكانوا أحوج

الناس إليها بعد الشعر لتخليد مآثرهم وتأبيد مفاخرهم؛ ولقد كان لكل قبيلة من قبائلهم خطيب كما كان لكل قبيلة شاعر)(1).

وهذا الموروث المعرفي والاجتماعي قد ترك أثراً في رسم معالم معنى (الخطاب) لدى الإنسان العربي فضلاً عن المسلم وذلك لتبني النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته صلوات الله عليهم وأصحابه هذا النمط في الحديث مع الناس في مختلف المناسبات الدينية والاجتماعية وما يتعلق بالسلم والحرب وغيرها من شؤون الأمة.

وكيف إذا أخذنا بعين الاعتبار ما شرعه الإسلام من أعمال خاصة ليوم الجمعة فكان سنامها خطبة الجمعة وما تتضمنه من عرض لقضايا الإسلام والمسلمين فعمل ذلك على ترسيخ مفهوم واحد في أذهان المسلمين حول (الخطاب) وهو ما ينطق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام أو الواعظ في جمع من المسلمين وسمي هذا الكلام بالخطاب.

دال - تطور الدراسات اللغوية من (نحو الجملة) الى (نحو النص) .

اهتم العلماء باللغة اهتماماً كبيراً وتناولوها ضمن مجالات معرفية عديدة كالنحو والصرف والبلاغة ثم المعنى والدلالة والقصد، وسرى الاهتمام بها عند المناطقة

ص: 35


1- نفح الطيب في الخطابة والخطيب لمعروف الرصافي: ص 5- 6، ط مطبعة الأوقاف الإسلامية بدار الخلافة العلية لسنة 1917 م، الطبعة الأولى.

والفلاسفة والاجتماعيون فنتج عن ذلك حقلين معرفيين خصبت فيهما الابحاث والدراسات وكانا مقصداً للباحثين والدارسين قديماً وحديثاً.

فكان الحقل الاول يعرف ب(نحو الجملة) وهو (الترابط الرصفي) وموضوعه النظام النحو الافتراضي.

واما الثاني فهو الترابط المفهومي، وموضوعه النحو الدلالي (نحو النص)؛ ونحو النص يستدرك ما لا يدركه نحو الجملة من القدرة على تشخيص المعنى وفهمه في الخطاب؛ وذلك بتوافر المعايير النصية التي حددها دي بوجراند حين عرّف النص بأنه:

(حدث تواصلي يلزم لكونه نصاً تتوافر له سبعة معايير للنصية ( seven standards of text quality ) مجتمعة ويزول عنه هذا الوصف اذا تخلف واحد من هذه المعايير، وهي:

(السبك، والحبك، والتناص، والقصدية، والمقبولية، والإعلامية، والموقفية)(1).

ومجال دراستنا هو الثاني، اي: نحو النص، وموضوعه (النحو الدلالي) ضمن معياري (القصدية والمقبولية).

ثانياً: أثر الفلسفة التحليلية في تكوين التداولية

اشارة

إنَّ من البداهة بمكان عند المشتغلين بنحو النص ان يفهم العلاقة بين الفلسفة التحليلية والفكر التداولي فقد كانت نشأته في مطلع القرن العشرين والى يومنا هذا.

ص: 36


1- تطبيقات معياري القصدية والمقبولية في النص في معهود الخطاب عند العرب، عثمان الكنج،ص 21 ، مجلة الدراسات اللغوية والادبية، العدد الثاني لسنة 2015 شهر ديسمبر؛ اللساني العربي: ص 38 ، د. مسعود صحراوي، طبع دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ط 1، 2005 م.

وذلك أن «الفلسفة التحليلية » تعد (من أبرز الاتجاهات الفلسفية المعاصرة التي تعبر عن الروح العلمية التي تجلت في العلوم الرياضية والعامة ككل؛ وهي تضم عدداً من المذاهب المتجانسة مثل الواقعية الجديدة ومؤسسها الفيلسوف الانجليزي

«جورج مور » والذي سار في طريقها بعد ذلك «برتراند راسل »، وكذلك الوضعية المنطقية التي ظهرت اولاً على يد «موريس » ثم حمل لوائها بعد ذلك «آير وكارناب .»

إلا أن أشهر من عبّ عن هذا الاتجاه العام للفلسفة التحليلية هو «برتراند راسل » إذ جمع في فلسفته احدث التطورات الرياضية، وآخر الكشوف العلمية الذرية، مما جعل الباحثين يطلقون على فلسفته اسم «الفلسفة التحليلية أو الرياضية»(1) .

وتتحدد ماهية الفلسفة التحليلية من خلال اعتمادها على آليه التحليل ومعناه

-أي: التحليل- في اللغة هو:

(الفتح، وحل العقد يحلها حلاً، فتحها ونقضها فانحلت)(2).

وهذا الحل والتفكيك لما هو مربوط ومعقد وشائك يسري مجراه في النظر والفكر والتأمل ويوضح هذه الجزئيات التي تكون فيها هذا الامر الشائك، وهو ما نجده في (المجال الفلسفي، فتفيد كلمة «تحليل » الفك أو رد الفك أو رد الموضوع الذي نتناوله بالبحث الى مصادره أو عناصره الاولية، سواء كان ذلك الموضوع فكرة أو قضية او عبارة من عبارات اللغة.

والواقع أن معنى التحليل في الفلسفة المعاصرة اصبح اشد ارتباطاً بالتوضيح فهو يبرز ويوضح ما نعرفه بشكل غامض، فالتوضيح يأتي عن طريق ابراز عناصر الموضوع الذي نحلله، بحيث يصبح امكانية تحقيق العبارة اللغوية مرتبطاً

ص: 37


1- التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية لظاهرة الافعال الكلامية في التراث.
2- لسان العرب لابن منظور: ج 16 ص 169 ، مادة حلل.

بمتطابقاتها لما ترسمه أو تصوره من وقائع العالم الخارجي)(1).

وهذا يدفعنا الى تحقيق الهدف من وجود الفلسفة التحليلية وهو (الرجوع الى العناصر الاولية البسيطة والوحدات الجزئية الانسانية التي يقوم عليها الفكر والوجود، والتي يبدأ منها العلم والمعرفة، لأن هذا التحليل يوضح حقيقة تلك العناصر والجزئيات كما يبين العلاقات التي تربطها بعضها ببعض بهدف تأكيد قيمة تلك العناصر الاساسية والوحدات الجزئية، وابراز اهمية العلاقات عامة

وبيان قيمتها الحقيقية)(2).

وتعرف الفلسفة التحليلية بأنها (عملية يراد بها اكتشاف عناصر موضوع معين، من اجل خاص، وهذا يعني ان الغرض من التحليل هو تقليل درجة الغموض في المركبات بتوجيه الانتباه الى الاجزاء المتعددة)(3).

ومن هذه العملية التي كان غرضها التوضيح وازالة درجات الغموض -اي: الفهم الكلي- (لأنها تمثل تلك الفلسفة التي ترى ان التحليل الفلسفي للغة كفيل بإيصالنا الى تحليل فلسفي للفكر، وتفسير الفكر كفيل بإيصالنا الى الفهم الكلي للكون، فهذا الاتجاه هو طرح بديل في تفسير الجدلية لطروحات في تفسير الكون،

والغاية منه بناء تصور دقيق حول الكون والسبيل الى ذلك هو اللغة)(4).

ص: 38


1- محاضرات في اللسانيات التداولية، د. خديجة بوخشة، ص 3، المحاضرة الاولى.
2- الاشراف التربوي واتجاهاته المعاصرة، أ. د. طارق عبد احمد الدليمي ص 193 ؛ مركز ديبونو لتعليم التفكير، ط 1 لسنة 2016 ، عمان- الاردن.
3- المصدر السابق.
4- محاضرات في اللسانيات التداولية، د. خديجة بوخشة ص 3، المحاضرة الاولى.

من هنا:

اتخذت الفلسفة التحليلية ثلاثة اتجاهات برز فيها بعض الفلاسفة فغذوها بأفكارهم ورؤاهم فكان منها -اي: هذه الاتجاهات- ما هو ملاصق للفكر التداولي بل الاساس في نكزه وظهوره وتطوره لتصبح معه التداولية موضوع اهتمام اهل فلسفة اللغة واللسانيات، ومنها ما هو بعيد عن التداولية.

وهذه الاتجاهات الثلاثة في الفلسفة التحليلية هي:

1-الوضعانية المنطقية ( Positivisme Logique)

يرتكز هذا الاتجاه الفلسفي على نقض ما جاءت به فلسفة (الميتافيزيقيا)، اي: (ماوراء الطبيعة)، او (علة الموجودات واعتمادها على الرياضيات والمنطق في معرفة الاشياء.

والوضعية المنطقية اسم اطلق عام 1931 م على الحركة الفلسفية المنبثقة عن جماعة من الباحثين في مجالات متعددة من العلوم والفلسفة كالرياضيات والفيزياء والاجتماع والاقتصاد والادارة وغيرها من العلوم، وكان مقر هذه الجماعة في العاصمة السويسرية (فينّا) ومنها عرفت هذه الجماعة بهذا الاسم فأُطلق عليها (حلقة فينّا) وقد صدر لها مجموعة من الاصدارات.

وتسمى ايضاً:

ب)التجريبية المنطقية(Logical Empiricis)

و(التجريبية العلمية(Scientific Empiricism)

(وكان الظهور الفعلي للمدرسة مع (شليك) الذي كان يقود حلقة البحث في

ص: 39

حلقة فينّا، وتزامن هذا مع ظهور كتيب لها يعرض برنامجها بعنوان (حلقة فينّا، النظرة العلمية للعالم)؛ ثم بدأت (مجلة المعرفة) بالظهور في العالم التالي وحلّت محلها في عام 1931 م (مجلة العلم الموحد)، وقد تعاقبت مؤتمرات للمدرسة، الواحد منها

بعد الآخر)(1)

وكانت هذه المؤتمرات في مجموعة من البلدان والعواصم الاوربية تلاها مجموعة من الاصدارات لهذه المجموعة البحثية.

إلا أن ظهور الحركة النازية وتمددها في أوربا ادّت الى تفكيك هذه الجماعة وتلاشيها.

(فقد دعا رودولف كارناب(2) Rudolph carnap -وهو العضو الفعال في هذه الجماعة او الحلقة- الى (تحليل اللغة تحليلاً منطقياً، ولكنه لاحظ ان اللغة الطبيعية (العادية) تسيء الى الواقع لاتصافها بالاعتباطية والغموض وحتى التناقض في

بعض الاحيان، لذلك لابد من استبدالها بلغة منطقية صارمة، فسعى الى تكوين لغة صارمة تتسم بالصرامة والمنطقية والدقة وهي بحسبه من معتقدات اللغة الطبيعية، فاستفادوا باكتشاف الثغرات التي تتصف بها اللغة الطبيعية من اجل بناء تصور

علمي صارم للغة الاصطناعية)(3).

ص: 40


1- الفلسفة المعاصرة في أوربا، إ. م بوشنسكي، ترجمة د. عزت قرني، عالم المعرفة ص 82 ، مجلة ضمن (سلسلة كتب ثقافية شهرية)؛ لشهر سبتمبر عام 1992 م- الكويت.
2- كانت ولادته في المانيا سنة 1891 م وتوفي سنة 1970 م، صدر له عام 1959 م كتاب (الميتافيزيقيا عبر التحليل المنطقي للغة) والذي دعا الفلاسفة من خلاله الى البحث في اللغة واتخاذها مادة فلسفية و(البناء المنطقي للعالم)، و(موجز المنطق الرياضي) و(مدخل الى علم المعاني) و(الفلسفة والبناء المنطقي) وغير ذلك من الابحاث؛ للمزيد ينظر: (اعلام الفكر الفلسفي المعاصر)، فؤاد كامل: ص 89 .
3- المقاربة التداولية، فرانسواز ارمينيكو، ترجمة سعيد علوش، ص 34 ، نشر مركز الانماء القومي-مصر.

2- الظاهراتية اللغوية (Phenomenology du Language )

في الاتجاه الثاني الذي سارت به الفلسفة التحليلية هي الظاهراتية والتي نشأت ايضاً في مطلع العشرينات في الوقت الذي تزامن فيه ظهور جماعة فينّا أو حلقة فينّأ كما مرّ، وأن كانت جذور الظاهراتية تعود الى القرن الثامن عشر.

و(تعتبر الظاهراتية أحدى الافكار الأساسية في فلسفة القرن العشرين، وما يجمع بين المفكرين الداعين لها هو لجوئهم الى المسعى الفكري نفسه اكثر مما تجمعهم وحدة المعتقد.

والواقع أن الظاهراتيين يرمون الى معالجة المشكلات الفلسفية من خلال وصف كبريات انواع التجارب الانسانية؛ والفكرة الاساس التي تقوم عليها الظاهراتية ان لكل تجربة من تجاربنا شكلاً خاصاً تقتضيه طبيعة الشيء الذي هي بصدد تناوله، بحيث يكون بوسعي وانا احلل بنية تجربة معينة الوصول الى خطاب قابل لان

يجيب على التساؤلات المطروحة حول الشيء المذكور)(1).

وقد عرفت هذه الفلسفة ب(الفينومينولوجيا) وقد اتسمت ب(سمتين اساسيتين فهي منهج في المحل الاول، وهو منهج ينحصر في وصف الظاهرة، اي ما هو معطى مباشرة، ومن الجهة الاخرى فإن الفينومينولوجيا باعتبارها منهجاً، غض النظر

عن العلوم الطبيعية اي لا تنسب الى نتائجها، وبالتالي فإنها تتعارض مع المذهب التجريبي)(2).

ص: 41


1- الظاهراتية، فليب هونيمان، استل كوليش، ترجمة: حسن الطالب، ص 108 .
2- التصور الفينومينولوجي للغة، قراءة في فلسفة اللغة عند ادموند هوسرل، ص 17 ، اطروحة دكتوراه للباحث مخلوف سيد احمد، جامعة وهران- كلية العلوم الاجتماعية- الجزائر لسنة.2012 .

(فالفينومينولوجيا تختص بصيغة صور الظواهر من خلال اخفاء المعاني والدلالات عليها واكسابها ماهيات تعبر عن خصوصياتها وتميزها؛ ومراحل الصياغة والدلالة هي مراتب الالتقاء بين الوعي والاشياء الكائنة خارجة.

ويشكل المعنى من التوجه الذي يباشره الوعي اتجاه موضعه، وهو ما يسميه«هوسرل » بالقصدية، وهو نمط من العلاقة التي تربط الوعي بمضمون الظاهرة انها القدرة التي يمتلكها الوعي في رصد الموضوع، او بالأحرى كينونة الوعي كانفتاح على الموضوع.

وبما ان «هوسرل » قد اختار ان يعرف القصدية والفهم بوصفهما حدثين غير زمانيين فقد تمكن من تحويل الاتصال مع بقية البشر الى مجموعة الشروط المنطقية التي تتعلق بالمعنى والتعابير الخالية من اي احتمال، وبذا يعد عرضه للمعنى منطقياً.

ومما يلاحظ على هذا الاتجاه انه يبحث في اطر فكرية اعم من الكينونية اللغوية اذ يبحث فيه صاحبه في العلاقات والتصورات السابقة عن اللغة وهي في غاية التجريد كما انه بمنظوره هذا في الوعي والدلالة لا يأخذ بعين الاعتبار مقتضيات الاستعمال اليومي، والذي يتغير ويتنوع بحسب الاطارات الزمانية والمكانية

المختلفة التي تقتضيها اللغة العادية)(1).

وقد ابتعد هذان الاتجاهان عن جوهر التداولية وروحها بينما شكل الاتجاه الثالث -الذي سيمر بيانه- الاساس لظهور التداولية وتطورها على يد جملة من الفلاسفة لاسيما فلاسفة اكسفورد.

ص: 42


1- محتضرات في اللسانيات التداولية، د. خديجة بو خشة، ص 7.

3-فلسفة اللغة العادية (Philosophie du Langage )

إنَّ دراسة هذا الاتجاه من الفلسفة التحليلية يقضي الى نتيجة مفادها أن العالم الالماني (لودفيغ فتغشتاين، -1889) (Wittgen stein 1951 ) هو الرائد في تكوين هذا الاتجاه ضمن كتابه الموسوم ب(رسالة منطقية) التي جمع فيها دراسته وابحاثه حول الفلسفة وحاول الاجابة من خلاله على حل المشكلات التي وقعتفيها الفلسفة وذلك بعد تأثره بآراء وافكار زميله (رسل) وذلك حسبما يفهم من خلال رسائله التي كان يبعثها اليه وهو اسيراً في السجن.

(لقد كان لفتغشتاين تصوراً جديداً للغة فانه ينظر إليها بوصفها نشاطاً ينحصر في استخدام الكلمات كأدوات، واصبحت النظرية الجديدة في المعنى تقرر أن معنى اية كلمة لا يتمثل في اي موضوع قد يفترض في الكلمة انها تقوم مقامه، واللغة وفق

التصور الجديد البرجماتي وتبعاً للغة الحياة اليومية تجعل منها اكثر من مجرد وسيلة لتصوير الواقع)(1).

اي ان اللغة التي يريدها فتغشتاين (ينبغي أن تكون بسيطة منزوعة الاقنعة الفلسفية والعلمية، وقد كان يريد لغة بسيطة ببساطة الحياة اليومية، وهي تحقق التواصل بين مستعمليها)(2)

وقد شكلت هذه الرؤية الفلسفية للغة فتحاً جديداً لفلاسفة اكسفورد، فقد أولوه اهتماماً كبيراً وقاموا بتطويره؛ (ومنهم على الخصوص «اوستن Austin ، وسيرل »Searle وما نلاحظه على هذا الاتجاه انه استطاع رواده ان يقدم فلسفة تحليلية للغة تهتم بالمضامين والمقاصد في العملية التواصلية.

ص: 43


1- التحليل في فلسفة فتغشتاين، رافد قاسم هاشم؛ مجلة جامعة بابل للعلوم الانسانية، المجلة 19 ، العدد 2 لسنة 2011 م.
2- الافعال المتظمنة في القول بين الفكر المعاصر والتراث العربي: ص 49 ، ط دار الطليعة- بيروت.

إذ قدم (أوستن) افكاراً قيمة ضمن هذا الاساس، وبالخصوص (مسلمة القصدية) التي توسع في دراستها ضمن شبكة من المفاهيم المترابطة منها على وجه الخصوص:

- مبدأ التعاقد.

- مبدأ القضاء.

- مبدأ الاستراتيجية.

- الصريح والضمني.

- نمط تنظيم الخطاب.

- نمط النصوص)(1).

وقد خرجت التداولية في اولى نظرياتها على يد (أوستن) ضمن معتقد يرى (أن الوحدة الصغرى للاتصال الانساني ليست الجمل، ولا أيّة عبارة اخرى، بل هي انجاز بعض انماط من الافعال)(2).

ومن هذا المعتقد كانت ولادة نظرية الافعال الكلامية، ثم يليه في هذه النظرية ودراستها وتحليلها تلميذه (جون سيرل J. searl ) مقدماً في ذلك رؤيته الفلسفية التي ترتكز على فصل الافعال الانجازية الى افعال تمريرية وتأثيرية فيقول:

(إنَّ تميزنا الأول هو بين الفعل التمريري (الانجازي) الذي هو الهدف الحقيقي من تحليلنا، والفعل التأثيري الذي له علاقة بالنتائج الأخرى، الآثار المرتبطة على أفعالنا)(3).

ص: 44


1- محاضرات في اللسانيات التداولية: د. خديجة بوخشة ص 8.
2- محاضرات في فلسفة اللغة، د. عادل فاخوري: ص 108 طبع دار الكتب الجديدة المتحدة بيروت.
3- العقل واللغة والمجتمع، الفلسفة في العالم الواقعي، جون سيرل، ترجمة د. سعيد الغنامي: ص 102 ؛ منشورات الاختلاف- الجزائر لسنة 1427 - 2006 ط 1.

ثم لينتقل البحث في التداولية وتطويرها على يد (بول غرايس) ليتفرد في طرحه عن الفلاسفة الذين عكفوا على تطوير التداولية فقد قدم (طريقة جديدة في فهم التداوليةومسألة التواصل، وتمثل الإسهام الرئيسي ل(غرايس) على المستوى النظري في أنه

أدخل مفهوم الاستلزام الحواري الذي مكن من فهم اختلاف المألوف بين دلالة الجملة والمعنى الذي يبلغه القول، وعلى مستوى التواصل أقترح مبدأ التعاون الذي يلزم افتراضاً أن السامع قد أحترمه حتى يتمكن من تأويل ما يريد المتكلم قوله)(1).

ومن هذه الرؤية الفلسفية شقت التداولية طريقها كحقل معرفي جعل من اللغة مادته للإجابة على كثير من الاسئلة التي تبحث الفلسفة التحليلية عن اجابات لها فكانت الموضوع الاساس في تطور هذه الفلسفة وتقديم رؤيتها الجديدة ضمن التداولية؛ فما هي التداولية؟

ثالثاً: التداولية . Pragma Tigue

1-مفهوم التداولية

إن تعدد المجالات التي شغلتها التداولية كالفلسفة واللسانيات والاجتماع وغيرها جعل من المفهوم متشعباً ومتعذراً حصره في وحدة بيانية معرفية جامعة.

(فحقل التداولية بوصفه كياناً غامضاً، أو قُل: جراباً جديداً توضع فيه الاعمال الهامشية التي لا تنتمي الى الاختصاصات المؤسسية، وهي اللسانيات، وعلم الاجتماع، والانثروبولوجيا، وعلم النفس الاجتماعي، والدلائلية وغيرها نحو المشاكل التي اثارتها هذه الاختصاصات ولم تتوصل الى معالجتها بشكل مرضي)(2)

ص: 45


1- القاموس الموسوعي للتداولية، جاك مورشلا، آن ريبول؛ ترجمة مجموعة من الاساتذة: ص 212 ط 2 لسنة 2010 م، نشر منشورات دار سيناترا- المركز الوطني للترجمة/ تونس.
2- التداولية من اوستين الى غوقمان، فليب بلانشيه: ص ، ترجمة صابر الحباشة طبع دار الحوراء- سوريا، ط 1 السنة 2007 م.

والسبب الاخر الذي ساهم في تعذر اخراج مفهوم جامع التداولية هو أنها مجموعة من ثلاثة نظريات، وهي نظرية أفعال الكلام، ونظرية حكم المحادثة، ونظرية الملائمة.

2-تعريف التداولية في اللغة

يشير لفظ (دول) في المعجم اللغوي الى الانتقال والتحول، ومنه الإدالة، ومنه جاء القول في انتقال الأنسان من الحياة الى الموت في علاقته مع الارض؛ قال الفراهيدي (ت 175 ه) عن الحجاج:

(إنَّ الأرض ستدال منا كما أدلنا منها، أي نكون في بطنها كما كنا على ظهرها)(1).

وهذا المعنى المعجمي نجده مستخدم في الحرب، وفي استخدام المال بين الناس، فهم يداورونه ويتناقلونه فيما بينهم فيدال بين أيديهم.

قال الجوهري (ت 395 ه):

الدولة في الحرب: أن تدال إحدى الفئتين على الاخرى؛ يقال: كانت لنا عليهم الدولة؛ والجمع الدوال.

والدُولة بالضم في المال ويقال: صار الفيء دولة بينهم يتداولونه، يكون مرة لهذا ومرة لهذا؛ والجمع دولات ودول)(2).

ص: 46


1- كتاب العين: ج 8 ص 70 .
2- الصحاح للجوهري: ج 4 ص 1699 .

وذهب ابن فارس (ت 395 ه) الى أن أصل المعنى في اللفظ يدل على تحول شيء من مكان الى مكان، فقال أهل اللغة: اندال القوم إذا تحولوا من مكان الى مكان، ومن هذا الباب تداول القوم الشيء بينهم اذا صار من بعضهم الى البعض(1).

والتداولية تدرس تحول اللغة فيما بين الناس في امرين:

1- التواصل المفهومي والتفاعلي فتتم خلاله مداولة اللغة فيما بينهم.

2-القوة الانجازية لصدور الافعال فيما بينهم.

3 - نشأة مصطلح التداولية (Pragmatic)

إنَّ الرجوع الى نشأة المصطلح ( Pragmatic ) تفيد بأن (الفيلسوف الامريكي (شارلس موريس) هو أول من استخدم هذا المصطلح عام 1938 م، عندما قام بتميز علم الدلالة عن علم التداولية)(2).

في مقالته (اسس نظرية العلامات) وعرفها بأنها: العلم الذي يدرس علاقة العلامات بمستعمليها.

(اما ميلاد التداولية فكان سنة 1955 م عندما ألقى (جون أوستن) محاضراته بجامعة هارفارد وعنوانها ( Willism gomes lectures ) أما بداية البرنامج المعرفي للتداولية فكان مع (شومسكي) و (ميلر) و (نوال) و(سيمون) و (مينكي) و (ماك كولوك)(3).

ص: 47


1- معجم مقاييس اللغة: ج 2 ص 314 .
2- التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ربول، وجاك موشلار، ص 28 و 29 ، ترجمة سيف الدين دغفوس، ط دار الطليعة- لبنان- ط 1 لسنة 2003 م.
3- المصدر السابق.

4 - تعريف التداولية في الإصطلاح والدراسات المعاصرة

مثلما تعددت المفاهيم في بيان معنى التداولية لتداخلها مع مجموعة من العلوم الاخرى -كما مر انفاً- كذلك حالها في التعريف الاصطلاحي، فقد عرّفها موريس بتعريف أشتمل على العمومية والشمولية وذلك لكونها -أي التداولية- كانت في صراع مع الرؤى الفلسفية التي مرّ ذكرها سابقاً ولم تنضج بعد كعلم مستقل لاسيمافي مجال فلسفة اللغة.

ومن التعريفات الاخرى في التداولية التي جاءت بعد هذا التعريف لتقدم تعريفا يساهم في تحديد هويتها ووظيفتها، فكان منها:

أ- تعريف (ماري ديير) و (فرانسو ريكافاني):

التداولية هي دراسة استعمال اللغة في الخطاب، يشاهده في ذلك على مقدرتها الخطابية)(1).

ب- تعريف (فيرشون)، فقد عرّفها قائلاً:

(تدرس التداولية والسلوك اللفظي الانساني، والبعد الذي تدرسه التداولية هو الصلة بين اللغة وحياة الانسان بشكل كامل)(2)

ج- تعريف (فردناند هالين) وقد جاء من خلال تحديد هدفها، إذ(تهدف التداولية الى بلورة نظرية لأفعال الكلام، أي نماذج مجردة، أو مقولات تصدق على السلوكيات الملموسة والشخصية التي ننجزها ونحن نتكلم)(3).

ص: 48


1- المقاربة التداولية، فرانسواز ارمينيكو، ص 8، ترجمة سعيد علوش، طبع ونشر مركز الانماء القومي (د ت. دط).
2- ما التداولية، د. مجيد الماشطة، مجلة الاديب- بغداد- السنة الثانية- شباط 2005 م.
3- التداولية، فردناند هالين، ص 155 ، ترجمة وبّا محمد، مجلة الفكر والنقد، العدد 24 - السنة الثالثة، لسنة 1999 م.

ومن اللسانيين العرب الذين جاءوا بتعريفات للتداولية:

1- فقد استخلص طه عبد الرحمن المغربي تعريفه من خلال مركوز المعنى اللغوي والبلاغي للفعل تداول، فيقول:

(تداول الناس كذا بينهم يفيد معنى متناقله الناس واداروه بينهم، ومن المعروف أيضا أن مفهوم النقل والدوران مستعملان في نطاق اللغة الملفوظة كما هما مستعملان في نطاق التجربة المحسوسة، فيقال:

«نقل الكلام عن قائليه » بمعنى رواه عنه، ويقال: دار على الألسن، بمعنى: جرى عليها، فالنقل والدوران يدلان في استخدامهما اللغوي على معنى التواصل وفي استخدامها التجريبي على معنى الحرمة بين الفاعلين، فيكون التداول جامعاً

بين اثنين، هما: التواصل والتفاعل بمقتضى التداول، اذن: يكون القول موصولاً بالفعل)(1).

2- عرفها الدكتور مسعود صحراوي: (هي ايجاد القوانين الكلية للاستعمال اللغوي والتعرّف على القدرات الانسانية للتواصل

اللغوي، وتصير (التداولية) من ثم جديرة بان تسمى: علم الاستعمال اللغوي)(2).

3- وقد عرفها الدكتور محمود نحلة بشكل موجز فقال:

(أوجز تعريف للتداولية وأقربه الى القبول هو: دراسة اللغة في الاستعمال (Inuse) أو في التواصل ( in interactiation ) اللغة بين المتكلم والسامع في

ص: 49


1- تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، ص 28 ، المركز الثقافي العربي- ط 2- الدار البيضاء.
2- التداولية عند العلماء العرب- دراسة تداولية لظاهرة الافعال الكلامية في التراث اللساني العربي-،د. مسعود صحراوي: ص 16 - 17 ، طبع دار الطليعة بيروت لسنة 2012 م ط 1.

سياق محدد (مادي، واجتماعي، ولغوي) وصولاً الى المعنى الكامن في كلام ما)(1).

يمكن تن نستخلص مما مضى: ان التداولية هي دراسة اللغة التواصلية الانجازية للإنسان مع ما يحيط به؛ ولا ينجز الانسان حتى يفهم ولا يفهم حتى يدرك المعنى.

وبناءً على هذه التعريفات يمكن أن نستخلص:

أن التداولية هي دراسة اللغة التواصلية الانجازية للإنسان مع ما يحيط به، ولا ينجز الإنسان حتى يفهم، ولا يفهم حتى يدرك المعنى، ومن ثم من خلال اللغة نتعرف على انفسنا وعلى الاخرين ونعرّفها لهم فيكون التواصل؛ واقل ما ينجز في ذلك هو القدرة على التعامل مع الكلمة وتحرير ما في النفس.

5 - اتجاهات التداولية

اشارة

إنَّ معرفة الإتجاهات التي تسلكها التداولية والتي تمكّن الباحث من الاحاطة بهذه الفلسفة التي حاولت أن تجد من اللغة اداة للوقوف على معرفة ما يعترض ذهن الانسان من تساؤلات كثيرة فلعله في بعض منها سينال الاجابة من خلال فلسفة اللغة التي تكمن في هذه المعرفة لهذه الاتجاهات.

فقد حددها «جورج يول »George Yule »(2) في كتابه التدريسي (التداولية) بأربعة اتجاهات:

ص: 50


1- أفاق جديدة في ابحث اللغوي المعاصر؛ د. محمود احمد نحلة، ص 14 ، مكتبة الادب، القاهرة ط 1 سنة 2002 .
2- واحد من ألمع أساتذة اللغة، وقد توافر على تدريس علم اللغة في العديد من الجمعات المرموقة، وله مؤلفات عديدة- إضافة الى التداولية- ابرزها: Explaining English Grammar و The Study Of Language Discourse Analysis (بالاشتراك مع جليان بروان) ؛ ينظر: (مقدمة المترجم لكتاب التداولية ص 14 و 15 ).
أ - دراسة المعنى الذي يقصده المتكلم

فالتداولية تختص بدراسة المعنى كما يوصله المتكلم (أو الكاتب)، ويفسره المستمع (أو القارئ).

لذا: فإنها مرتبطة بتحليل ما يعنيه الناس بألفاظهم اكثر من ارتباطها بما يمكن ان تعنيه كلمات او عبارات هذه الالفاظ منفصلة.

ب - دراسة المعنى السياقي

يتضمن ميدان الدراسة هذا بالضرورة تفسير ما يعنيه الناس في سياق معين وكيفية تأثير السياق فيما يقال؛ كما يتطلب ايضاً التمعن في الآلية التي ينظم من خلالها المتكلمون ما يريدون قوله وفقاً لهوية الذي يتكلمون اليه، واين، ومتى،وتحت أي ظرف.

ج - دراسة كيفية ايصال اكثر مما يقال

يدرس هذا المنهج الكيفية التي يصوغ من خلالها المستمعون استدلالات حول ما يقال للوصول الى تفسير المعنى الذي يقصده المتكلم.

ويبحث نوع الدراسة هذا في كيفية ادراك قدر كبير لها لم يتم قوله على انه جزء مما يتم ايصاله.

بإمكاننا القول انه دراسة المعنى غير المرئي.

د - دراسة التعبير عن التباعد النسبي

يثير هذا المنظار التساؤل حول ما يمكن أن يحدد ما يقال ومالم يتم قوله.

ويرتبط الجواب الرئيسي بمفهوم التباعد ( Distance ) ينطوي القرب المادي أو

ص: 51

الاجتماعي أو المفاهيمي على خبرة مشتركة حيث يحدد المتكلمون مقدار ما يحتاجون قوله بناءً على افتراض قرّب المستمع أو بعّده».(1)

وعليه:

فقد أتسعت التداولية بأتساع هذه الاتجاهات ومجالات دراستها، وهي بذاك قد فتحت أمام الباحثين حقلاً معرفياً يساهم في معرفة الانسان وما يحيط به من شؤون حياته.

رابعاً: القصدية .Intentionality

اشارة

يمكن لنا الوصول الى مفهوم القصدية من خلال تعريفها في اللغة والاصطلاح وما ذكره البلاغيون من استعمالات ودلالات ومعنى للقصد في كتبهم، ومن ثم نقف عند تعريف اهل الاختصاص في علم النص والمنشغلون باللسانيات وما توصلوا اليه في الدراسات الحديثة في مجال علم النص.

أ - تعريف القصد في اللغة

إنَّ المستفاد من معنى مفردة (قصد) في اللغة، وهو أصابة المعنى في اللفظ والوصول اليه؛ قال الفراهيدي (ت 175 ه):

(القصد: استقامة الطريق، والقصد في المعيشة أن لا تسرف ولا تقتر؛ وقد جاء في الحديث: ما عال مقتصد، ولا يعيل)(2).

وقال ابن فارس (ت 395 ه):

ص: 52


1- التداولية، جون يول، ترجمة قصي مهدي العتابي: ص 19 - 20 ، نشر الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، ط 1 لسنة 2010 م.
2- كتاب العين: ج 5 ص 54 .

قصد: القاف، والصاد، والدال؛ أصول ثلاثة يدل احدهما على اتيان شيء وأمه، والاخر على كسر وانكسار، والاخر على اكتناز في الشيء؛ فالأصل: قصدته قصداً ومقصداً.

ومن الباب: أقصد السهم إذا اصابه فقتل مكانه وكأنه قيل ذلك لأنه لم يحد عنه)(1).

وهذا يكشف عن دلالة القصد في النص: أي اصابة المعنى الذي عناه منتج النصكما يصيب السهم الهدف ويصل اليه.

قال الأعشى:

(فأقصدها سهمي وقد كان قلبها*** لأمثالها من نسوة الحي قانصاً)(2).

وفي الأصل الثالث الذي ذكره ابن فارس يحدد وظيفة القصد في اللفظ، اي أن النص يكون متمثلاً ومكتنزاً للمعاني والدلالات فتكون وضيفة المتلقي اخراج هذه المعاني التي اكتنزها اللفظ.

ولذا قيل:

(الناقة القصيد: المكتنزة الممتلئة لحماً.

قال الأعشى:

قطعت وصاحبي سرح كناز*** كركن الرعن ذعلبة قصيد

ص: 53


1- معجم مقاييس اللغة: ج 5 ص 95 .
2- المصدر السابق.

ولذا سميت القصدية من الشعر قصيدة لتقصيد أبياتها، ولا تكون أبياتها إلا تامة الابنية)(1).

وأَظهر ابو هلال العسكري (ت 395 ه):

(إنَّ المعنى: القصد الذي يقع به القول على وجه، وقد يكون معنى الكلام في اللغة ما تعلق به القصد.

وقيل: إنَّ المعنى هو القصد، ما يقصد اليه من القول، فجعل المعنى: القصد لأنه مصدر)(2).

وقد كان لابن جني بياناً موفقاً في تحديد موقع اللفظ واصله، اي (القصد) فيكلام العرب وهو: (الاعتزام، والتوجه، والنهود، والنهوض، نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور.

هذا اصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، الا ترى وانك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل اخرى، فالاعتزام والتوجه شامل لها جميعاً)(3).

وهذا يرشد الى أنَّ القصد يراد به في الاصل في كلام العرب حينما تتم المقارنة مع النظرية التداولية وتحديداً في معيار المقصدية هو التوجه بالمعنى والنهوض به نحو الشيء الذي عناه منتج النص مرتكزاً على الاعتدال في توجيه المعنى بغية احراز

التفاعل مع المتلقي.

ص: 54


1- معجم مقاييس اللغة: ج 5 ص 96 .
2- الفروق اللغوية: ص 505 .
3- لسان العرب لابن منظور: ج 3 ص 355 .

ب - القصدية في الاصطلاح

يمكن الوقوف على معنى القصدية في الاصطلاح من خلال المفاهيم التي تناولت اللفظ في بعض العلوم، فالقصدية في الفلسفة هي:

(اتجاه الذهن نحو موضوع معين وادراكه له ويسمى القصد الاول، وتفكيره في هذا الادراك سمي القصد الثاني)(1).

في حين عرَّفها علماء الظاهراتية (الفينومينولوجيا): هي مبدأ كل معرفة، وتعني: أنَّ المعنى يتكون من خلال الفهم الذاتي والشعور القصدي الآتي بإزائه)(2).

ج - القصدية في التراث البلاغي العربي

يتضح اهتمام البلاغيون العرب في تتبع قصد منتج النص من خلال اهتمامهم بالمعنى وفهم كلام القائل وقدرته على افهام السامع وهو ما يعنيه اللسانيون في دراستهم لمعياري القصدية والمقبولية.

فقد أظهر ابو هلال العسكري مفهوم القصدية في بيانه لمفهوم مفردة المعنى ودلالتها فيقول:

(المعنى هو القصد الذي يقع به القول على وجه دون وجه فيكون معنى الكلام ما تعلق به القصد)(3).

ص: 55


1- معجم المصطلحات في اللغة والادب، تأليف مجدي وهبة وكامل المهندس: ص 288 ، ط 2 مكتبة لبنان.
2- هي مدرسة فلسفة تعتمد على الخبرة الحسية للظواهر كنقطة بداية (اي ما تمثله هذه الظاهرة في خبراتنا الواعية) ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل هذه الظاهرة واساس معرفتنا بها. للمزيد ينظر: ويكيبيديا العربية، علم الظواهر.
3- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص 504 .

ثم يأتي بمثل في بيان حقيقة القصد ومراده فيقول:

(والكلام لا يترتب في الاخبار والاستخبار وغير ذلك إلا بالقصد فلو قال قائل: (محمد رسول الله -صلى الله عليه وآله-) ويريد جعفر بن محمد بن جعفر كان ذلك باطلاً)(1).

ثم يأتي الى بيان الغرض الذي أراده منتج النص في خطابه، فيقول:

(والغرض هو المقصود بالقول أو الفعل بإضمار مقدمة)(2).

وبين السبب في تسميته بالغرض (تشبيهاً بالغرض الذي يقصده الرامي بسهمه وهو الهدف)(3).

وتظهر مفاهيم العملية التواصلية في التراث البلاغي من خلال تعريفهم للبيان كماجاء عن الجاحظ والقيرواني (ت 453 ه) والظهار ان القيرواني نقل هذا التعريف عن الجاحظ، فيقول:

(والبيان اسم جامع بكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب حتى يفضي السامع الى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان من اي جنس كان ذلك الدليل لأن مدار الامر والغاية التي اليها يجري القائل والسامع انما هو الفهم

والافهام فبأي شيء بلغت الافهام واوضحت عن المعنى فذاك هو البيان في ذلك الموضع)(4).

ص: 56


1- المصدر السابق.
2- الفروق اللغوية: ص 504 .
3- الفروق اللغوية: ص 504 .
4- البيان والتبيان: ص 55 ؛ زهر الآداب للقيرواني: ج 1 ص 149 .

ويظهر مدار العملية التواصلية في معياري القصدية والمقبولية في قوله:

(والغاية التي يجري اليها القائل والسامع انما هو الفهم والافهام) ومن ثم يكون الخطاب التواصلي بين الناس ثمرة وهي (البيان).

ويتجلى اعتماد البلغاء والشعراء القصدية في بيانهم للمعنى المنظوم والموزون في الشعر، قال ابن جني:

(سمي قصيداً لأنه قصد واعتمد)(1).

وقال الجوهري: (سمي قصيداً لان قائله احتفل له فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار واصله من القصيد)(2)

وقيل: (سمي الشعر التام قصيداً لان قائله جعله من باله فقصد له قصداً ولميحتسّه حسياً على ما خطر بباله وجرى على لسانه بل روى فيه خاطره واجتهد في تجويده ولم يقتضبه اقتضاباً فهو فعيل من القصد، وهو الأُم)(3).

(من أجل ذلك كان النقاد وشراح الشعر العربي القدامى يستحضرون مناسبة القصدية، والوصول الى قدر اكبر من الثقة في تحقيق معنى النص، ولذلك يمكن القول:

أن مفهوم القصدية في التراث النقدي والبلاغي كان حاضراً في مظهرين رئيسيين:

أولهما: النية؛ حيث سمي الشعر التام قصيداً لان قائله جعله من باله فقصد له قصداً؛ إضافة الى تعريفهم للشعر بأنه يقوم بعد النية على اربعة اشياء، وهي:

ص: 57


1- لسان العرب: ج 3 ص 354 .
2- المصدر السابق.
3- لسان العرب: ج 3 ص 354 .

اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر لأن من الكلام موزوناً مقفّى وليس بشعر لعدم القصد والنية، بل اشترط بعضهم في الشعر أن يكون اكثر من بيت احترازاً عما يقع في سطر واحد بوزن الشعر دون القصد.

اما المفهوم الثاني للقصد: فيتمثل في المصطلحات التي استعملها القدامى للدلالة على المراد من النص او الكلام، مثل: المعنى، والغرض، والهدف، والحاجة، والغاية التي يريد أن يبلغ اليها المتكلم، بل لعل تعريفهم للبلاغة يتضمن جانباً من القصدية

حيث ينشطرون لتحقق بلاغة النص او الكلام وضوح القصد للسامع)(1).

د - القصدية في الدراسات اللسانية

للوصول الى مفهوم القصدية في مجال لسانيات النص فلابد أولاً من الرجوع الىواضع المعايير السبعة في التداولية.

فقد ذهب (دي بوجراند) في بيان قصدية اي نص بأنها تكمن في (تحديد اتجاه منتج النص الى ان تؤلف مجموعة الوقائع نصاً متضامناً متقارناً ذا نفع عملي في تحقيق مقاصده، اي نشر معرفة او بلوغ هدف يتعين من خلال خطة ما)(2)

ويتحدد بلوغ الهدف لدى منتج النص في القصدية من خلال (الشيء الذي يبتغيه المتكلم، او الكاتب من عملية التواصل مع المتلقي باستعمال وسائط لغوية سائدة، اي: انها باختصار: مقصد المتكلم الذي ينبغي ان يتضح لدى المتلقي)(3).

وكي يتضح مقصد المتكلم لدى المتلقي فلا بد من معرفة دلالة النص وفهمه؛

ص: 58


1- القصدية والمقبولية في التراث النقدي والدرس اللساني، د. اياد نجيب عبد الله، و أ. ميلود مصطفى عاشور: ص 353 ، مجلة جامعة المدينة العالمية، العدد السابع عشر -يوليو- 2016 م.
2- مدخل الى علم النص، دي بوجراند: ص 132 طبع دار الكتاب، ط 1 مطبعة القاهرة.
3- التحليل اللغوي للنص، برينك كلاوس: ص 122 ، ط مؤسسة مختار للنشر، ط 1

ف(الدلالة تعني ضرورة توافر قصد الواصل من قبل المرسل، والفهم يعني الاعتراف من قبل المتلقي بقصد تواصل المتلقي)(1).

ولذلك يرى كثير من علماء التداولية (ان المقاصد هي المعاني، وان الالفاظ انما وضعت من اجل الوصول الى معانٍ معينة، فكانت وسيلة لإدراكها؛ فالمعنى هو المقصود)(2).

ولذا:

كان همنا في دراسة هذه النصوص الشريفة هو الوقوف على هذه المعاني المعينة والوصول اليها وادراكها واظهارها للقارئ لاسيما وأن منتج النص (عليه السلام)هو أمير اللغة وفارسها.

إلّا أن ذلك لا يمكّن المتلقي -بسهولة- الاحاطة بقصدية منتج النص؛ وذلك ان (معرفة الانظمة اللغوية المعهودة لا تغني المرسل اليه عن السياق ودوره في الكشف عن قصد المرسل؛ اذ ان بؤرة الاهتمام ماذا يعني المرسل بكلامه لا لماذا تعنيه اللغة؛ فقد يكون الخطاب واضحاً في لغته ولكن لا تدرك معناه دون معرفة قصد المرسل الذي يمكن ان يتجاوز المعنى الحرفي للخطاب الى مقاصد اخرى)(3).

وهذا ما يحدد اثر القصد في معرفة المعنى الذي جاء به الخطاب واستخلاص المغزى منه وغاية منتج النص، فقد يصاغ الخطاب في (تمثيل تدرك معانيه الحرفية، ولكنها غير كافية لإدراك المغزى واستخلاص العبرة، وعلى هذا فإن النص لا يتمظهر في شاكلة واحدة وانما في كيفيات مختلفة وراءها مقصدية المرسل، ومراعاة المرسل

ص: 59


1- تحليل الخطاب الشعري، مفتاح، ص 140 ، طبع المركز العربي، ط 2 الدار البيضاء.
2- استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري: ص 195 - 196 .
3- استراتيجيات الخطاب: ص 191 .

المخاطب، والظروف التي يروح فيها النص وجنس النص، وهذه الماورائيات نفسها تؤدي الى اختلاف استراتيجية التأويل من عصر الى عصر، ومن مجموعة الى مجموعة، ومن شخص الى شخص، بل ان الممارسة التأويلية الشخصية دينامية)(1).

من هنا:

نجد ان وظيفة الدرّاس في لسانيات النص ترتكز بالأساس على فهم معنى مفردات النص والغوص في هذه المعاني لاستخراج المكنون منها؛ آخذاً بذاك روح النص وزمان صدوره ومكان القائه او كتابته والظروف المحيطة به والجهة التيقصدها منتج النص.

يضاف له تفاوت مستويات المتلقي فعليها الاعتماد في بث الروح في النص ونمائه وتقديم ثماره، وهو هدف منتج النص وغايته في خطابه ولولا ذاك لما تكلم المتكلمون ولا اضمر الناصّون معانٍ ارادوها ودرر أبطَونَا في قوالب المفردات.

وبذلك يمكن الوصول الى حقيقة مقاصدية منتج النص ومراده وغرضه ومبتغاه التي لا تقف عند حد معين لاسيما اذا كان النص له خصوصية الحياة والتجدد والنماء وهو ما ينحصر في النص المعصوم الصادر عن الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وعترته اهل بيته (عليهم السلام).

اي: عدم انحصار (النص المعصوم) بقصدية واحدة وانما يكتنز النص القرآني والنبوي على مقاصد جمة لا يمكن حصرها إلّا من خلال الرجوع الى نفس جهة صدورها وهو المعصوم الذي احصى الله فيه كل شيء لقوله عز وجل:

﴿وَكُلَّ شَیءٍ أحْصَيْنَاهُ فِی إِمَامٍ مُبِينٍ﴾.

ص: 60


1- المصدر السابق: ص 212 .

وعليه:

تتوقف القصدية على فهم المتلقي وقدرته في قراءة النص وتفكيكه وهو ما يدعو الى دراسة أدوات القراءة وتحديد مستوياتها؛ بل دراسة القارئ ايضا مما يفتح الباب على استخراج مقاصد جديدة تنتقل بين مقاصد منتج النص ومقاصد المتلقي في

عرضه وبيانه لمقاصد النص الذي عكف على دراسته وتحليله وتقديمه مرة اخرى الى مستويات جديدة من القرّاء.

وهذا ما سنلاحظه في عرضنا للمقبولية في فصول الدراسة التي تكشّفت فيها مقاصد منتج النص عند المتلقي الاول أو الثاني او الثالث، فضلاً عن ظهور مقاصدية المتلقي في صرف قصدية منتج النص من خلال تقديم صورة مغايرة لما قصده المعصوم (عليه السلام) او محاولة الالتفاف على المعاني وصرف وجهة الدلالة وصرف ذهن المتلقي الجديد والقرّاء عن مقاصد المعصوم (عليه السلام) وهو ما سيمر في دراسة مقبولية النص خلال الدراسة.

ومما يعين على استخراج مكنون اللفظ والوصول الى مقاصدية النص هو دراسة الأفعال الكلامية، وهو ما عرف في اللسانيات بنظرية الافعال الكلامية.

خامساً: نظرية الافعال الكلامية

اشارة

إنَّ انبثاق التداولية من رحم الفلسفة التحليلية ادى الى نتاج فكري جديد تمثل في استخراج نمط جديد لفهم النص وغرضه وتفاعله وقوته التواصلية.

(ويعد أوستن »Austin« أول من أسس لنظرية الافعال الكلامية، ومركوز هذه النظرية يقوم على رفض ما ذهب اليه اصحاب الفلسفة الوضعية من ان وظيفة اللغة هي وصف العالم الخارجي وهو ما اطلق عليه أوستن تسمية المغالطة الوصفية

ص: 61

(Desctoiptive Fallacy)؛ إذ لا تكمن وظيفتها في وصف العالم الخارجي أو التعبير عن الافكار؛ لكن وظيفة اللغة -كما ذهب اوستن- هي تحويل الأفعال في بناء سياقي معين؛ لأن الاقوال التي تتم في إطار معين تصبح أفعالاً منجزة بمجرد النطق بها).

وينتج عن ذلك أنَّ أوستن يرى اللغة ليست وصفاً وإنما هي الافعال التي تؤثر في السامع او المتلقي وتحركه نحوها مستجيباً لقوتها الانجازية ومن ثم فهو ينجز أمراً حددته هذه الافعال.

وبناءً على ذلك فقد القسم (اوستن) الفعل الكلامي الى ثلاثة أنواع وأنها تنجز في آن واحد اثناء التكلم وتأثر في القول(1)، وهو كالاتي:

1-فعل القول (Lacte locatoire)

ويراد به إطلاق الالفاظ في جمل مفيدة ذات بناء نحوي سليم، وذات دلالة، ففعل القول يتمثل بالضرورة على افعال لغوية فرعية، وهي المستويات للسانية المعهودة: المستوى الصوتي، المستوى التركيبي، المستوى الدلالي، ولكن أوستن يسميها أفعالاً وصنفها كالاتي:

أ-الفعل الصوتي: وهو التلفظ بسلسلة من الاصوات المنتمية الى لغة بعينها.

ب- الفعل التركيبي: ويؤلف من مفردات طبقاً لقواعد لغة معينة.

ج- الفعل الدلالي: وهو توظيف هذه الافعال حسب معاني واحالات محددة)(2).

ص: 62


1- التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن روبول وجاك مورشلار، ترجمة سيف الدين دغموش ومحمد الشيباني: ص 31 ، طبع دار الطليعة- بيروت ط 1 لسنة 2003 م
2- التداولية عند العلماء الهرب، مسعود صحراوي: ص 41 و 42 زعلى طبع دار الطليعة- بيروت،ط 1 لسنة 2005 م.

2- الفعل المتضمن في القول (Lacte Illocutoire)

هو الفعل الانجازي الحقيقي، إذ أنه عمل ينجز بقول ما، وهو الذي يدل على العمل الذي ينجم عنه الحديث، والذي يمارس قوة على المتخاطبين؛ وهذا الصنف من الافعال هو المقصود من النظرية كلها؛ ولذا اقترح اوستن تسمية الوظائف اللسانية الثانوية خلف هذه الافعال: «القوة الانجازية .»(1).

3-الفعل الناتج عن القول (Lacte Perlocutoire)

هو الفعل التأثيري حيث يقول أوستن عن هذا الفعل: لكي ننجز فعل الكلام ومن ثم الفعل الغرضي (قوة فعل الكلام) لابد أن ننجز نوع اخر من الأفعال.

فحين نقول شيئاً ما قد يترتب عليه احياناً أو في العادة حدوث بعض الآثار على مشاعر المخاطب أو افكاره أو تصرفاته.

كما يستلزم ذلك نتائج قد تؤثر على المتكلم وغيره من الاشخاص الآخرين وقد يقع أن نتعمد احداث هذه الاثار أو النتائج عن قصد أو نية أو هدف ما(2).

ثم صنف (أوستن) الافعال بحسب قوتها الوظيفية الانجازية الى ما يلي:

أ- الأفعال الدالة على الحكم والقرارات.

وهذه المتعلقة بالأحكام واتخاذ القرارات كالتعيين أو الفصل أو المقاطعة.

ب- أفعال الممارسة.

ص: 63


1- المصدر السابق.
2- التداولية عند العلماء العرب: ص 43 .

وهي الأفعال التي تكون لها قوة في فرض واقع جديد كالاحتجاج والاعتراض والانتخاب.

ج- أفعال الوعد والتعهد والقسم.

د- أفعال العرض.

كالإثبات والنفي والوصف والتعريف.

فهذه الاسس التي جاء بها (اوستن) في بناء مفهوم نظرية الافعال الكلامية التي كانت مادة خصبة في حقل فلسفة اللغة ومهدت الطريق امام باحث جديد وظف هذه المفاهيم لبناء هذه النظرية ضمن سياقات معرفية جديدة.

وهو (جون سيرل) ( John Searle )؛ فقد أعاد النظر في نظرية الأفعال، وألتفت الى أن الهدف في الفعل الكلامي هو الذي يتحكم في القوة الانجازية للفعل فقام بتقسيم الأفعال الكلامية الى أربعة اقسام، وهي:

1- الفعل التلفظي حال النطق.

2- الفعل القضوي أو المحتوى القضوي.

3- الفعل الانجازي.

4-الفعل التأثيري.

ثم قام بعد ذلك بالتفريق بين الأفعال الكلامية الى أفعال كلامية مباشرة وغير مباشرة وذلك بحسب القوة الانجازية للفعل، واتجاه المطابقة، وشروط الاخلاص فكانت على النحو الآتي:

ص: 64

1-الاخباريات، التأكيدات، التقريريات ( Asswrtives ) ويراد بها: (تعهد المرسل بدرجات متنوعة بأن شيئاً ما هو واقعة حقيقية وتعهده كذلك بصدق قضية ما)(1).

2-التوجيهات- الأوامر ( Dire Ctives ): وتقوم على توجيه السامع أو المتلقي الى فعل شيء ما وقد تتعدد الصيغ الى تحقيق هدف المتكلم بين النصح أو الاغراء، أو الشدة، أو الاصرار على تنفيذ الامر.

3- الاتزاميات ( Commissive ): ويرتكز مفهوم الالتزاميات على تعهد المتكلم بفعل شيء ما في المستقبل مبني على شرط الاختصاص ومطابقة العالم الى الكلمات.

4- التعبيريات ( Expressives ): ويتحدد الغرض الانجازي فيها بتعبيرالمتكلم عن مشارعه ووضعه النفسي؛ اي: «التعبير عن حالة سيكولوجية محددة .»(2).

ومن أمثلة هذه الافعال الشكر، الحزن، الفرح، التهنئة، النقد، الامتعاض وغيرها من الكواشف عن الحالات الوجدانية للمتكلم.

5-التصريحيات، الاعلانيات، الإيقاعيات ( Declarations ): وتتميز هذه الافعال بمطابقة محتواها القضوي مع العالم الخارجي وهو ما جعل ادائها ناجحاً وقادراً على التغيير في الوضع القائم.

ثم اتبع (سيرل) هذا التصنيف للأفعال معتمداً في ذلك على قوتها الانجازية

ص: 65


1- استراتيجيات الخطاب، عتد الهادي بن ظافر الشهري: ص 123 ، دار الكتاب الجديد- المتحدة بيروت- ط 1 لسنة 2004 م.
2- التحليل اللغوي عند مدرسة اكسفورد، صالح اسماعيل عبد الحق: ص 234 ، تنوير لبنان- ط 1 لسنة 1993 م.

في المنطوق الواحد، إذ يمتلك هذا المنطوق أكثر من قوة أنجازية قصدها المتكلم فتوصل الى (أن القوة الانجازية التي يمكن أن تواكب العبارات اللغوية قوتان:

الأولى: قوة انجازية حرفية، والثانية قوة انجازية مستلزمة؛ وتظل القوة الانجازية الحرفية ملازمة للعبارة، أما القوة الانجازية المستلزمة فهي مربوطة مقامياً بحيث لا يتم تولدها الا في طبقات مقامية معينة، والقوة المستلزمة يتوصل اليها عبر عمليات

ذهنية استدلالية)(1).

وهذا التفريق بين القوة الانجازية في المنطوق مكّن (سيرل) من استخلاص نظرية الافعال الكلامية الى قسمين بحسب القوة الانجازية فيها الى افعال كلامية انجازية مباشرة، وافعال كلامية انجازية غير مباشرة وقد هدف هذا التقسيم الى بيان الاثارالتي تخلقها اللغة في العملية التواصلية بين منتج النص ومتلقيه وتفاعله وقبوله.

وهو ما افرد له (دي بوجراند) معياراً مستقلاً اسماه ب(المقبولية).

سادساً: المقبولية . Acceptability

اشارة

تعد (المقبولية) بحسب تصنيف (دي بوجراند) هي المعيار الرابع من معايير النصية، وبحسب ما جاء عنه فإن المراد من المقبولية او (التقبلية) هو (تقبلية المستقبل للنص بوصفه متضاماً متقارناً ذا نفع للمستقبل، او ذا صلة به)(2).

وللوقوف على مفهوم المقبولية وتعريفها فلا بد من المرو بما يلي:

ص: 66


1- آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصرة، د. محمود احمد نحلة: ص 21 ، ط دار المعرفة الجامعية لسنة 2002 م.
2- الصحاح: ج 5 ص 1795 .

أ - تعريف المقبولية في اللغة

قال الجوهري (ت 393 ه): (القبول بالفتح مصدر، ويقال: على فلان قبول، إذا قبلته النفس)(1).

وهذا يدل على الرضا والانسجام بين الشخص الناظر والمنظور اليه وهذا هو جوهر معيار المقبولية في اللغة؛ أي: عملية التفاعل والقبول بما يصدر عم منتج النص.

والى هذا المعنى المعجمي قال ابن منظور (ت 711 ه):

(ثم يوضع «له القبول في الارض »(2)، وهو بفتح القاف: الرضا بالشيء وميل

النفس اليه.

وفي التنزيل قال تعالى: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ» أي: بتقبل حسن، ولكن قبولاً محمول على قوله قبلها قبولاً حسناً.

يقال: قبلت الشيء قبولاً إذا رضيته)(3).

ب - تعريف المقبولية في الاصطلاح

ترتبط المقبولية في الاستعمال اللغوي حينما يكون هذا الاستعمال مقبولاً من حيث النحو والصرف حينما يكون متطابقاً مع ما نصت عليه القواعد اللغوية المعمول بها.

أما في الاستعمال التواصلي فهي ترتبط بالدرجة الاساس بالمتلقي ومدى تأثره

ص: 67


1- الصحاح: ج 5 ص 1795 .
2- وهو مأخوذ من حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ينظر: صحيح مسلم ج 8 ص 40 باب: اذا احب الله عبداً.
3- لسان العرب: ج 11 ص 540 .

فيما يرد عليه من جمل ومنطوقات يخضعها لفهمه ومعطياته الثقافية والاجتماعية والعقدية فيكون الخطاب عنده مقبولاً وفق هذا الفهم والمعطيات او مرفوضاً.

وهو ما ذهب اليه بعض الدارسين في الالسنية في تعذر (الحسم في مقبولية جملٍ ما، بنعم او لا؛ لكونها حدسية في اللغة كما تملك استقلالاً دلالياً بحيث تظل الجمل غير المقبولة دالة في تواصلها)(1).

ج - تعريف المقبولية في التراث الادبي

ان النظر في التراث الادبي يرشد الى ان (المقبولية) تسير جنباً الى جنب مع (القصدية) في نظم الشعر والقائه، فقد حرص الشعراء على اثارة السامع والمتلقي لجمالية المعاني ومغزى الشاعر وقصده ومن ثم الوصول الى رضاه وقبوله لما سمع

من شعر او نثر.

ولذلك نجدهم قد اهتموا بمطلع القصيدة وخاتمتها حرصاً على احراز المقبولية لدى المتلقين لاسيما اذا كان المتلقي من طبقة الامراء أو الوجهاء أو فحول الشعراء وهو امر تسالم عليه أهل الشعراء في التراث، وفي ذلك يقول ابن رشيق:

(وللشعراء مذاهب في افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب، واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل، والميل الى اللهو والنساء، وأن ذلك استدراج الى ما بعده)(2).

وهو امر دأب عليه الشعراء حتى اولئك الذين كتبوا في مدح النبي (صلى الله عليه

ص: 68


1- معجم المصطلحات الدبية المعاصرة، سعيد علوش، ص: 172 ، طبع دار الكتاب اللبناني، ط لسنة .1985 .
2- العمدة في محاسن الشعراء وآدابه ونقده لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: ج 1 ص 225 ، طبع دار الجيل- بيروت، ط 2 لسنة 1981 م.

وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

فقد افتتحوا قصائدهم بالغزل لهذا الغرض والقصد، اي شد انتباه السامع واستدراجه لما بعد هذه الابيات لما تحمله من مشاعر وجدانية كما هو الحال ايضاً في المبالغة بلحاظ كونها احد الاساليب التي اعتمدها الشعراء في استمالة قلوب السامعين وشد اذهانهم لما سيقولون وإن اختلف فيه مستوى التلقي، الا ان القصد فيه استحصال المقبولية.

يقول ابن رشيق في بيان هذه الصفة الواردة في الشعر: (المبالغة هي ضروب كثيرة، والناس فيها مختلفون:

منهم من يؤثرها ويقول بتفضيلها ويراها الغاية القصوى في الجودة، وذلك مشهور من نابغة بني ذبيان، ومنهم من يعيبها، ومنهم من ينكرها ويراها عيباًوهجنة في الكلام؛ قال بعض حذاق الشعر:

المبالغة ربما احالت المعنى ولبسته على السامع، فليست لذلك من احسن الكلام ولا أفخره، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه)(1).

ولم يقتصر هذا البيان للمقبولية في موروث الشعر والشعراء بل كان ضابطة من ضوابط البلاغة وقوامها، فقد ربط الجرجاني المقبولية لدى المتلقي بفهم النص وادراك قصدية المتكلم، فيقول:

(شرط البلاغة أن يكون المعنى مفهوماً واللفظ مقبولاً)(2).

وهذا الشرط هو الذي اهتم به فلاسفة اللغة وجعلوه من ضمن معايير نحو النص

ص: 69


1- المصدر السابق.
2- دلائل الاعجاز، عبد القادر الجرجاني: ج 1 ص 430 ، بتحقيق: محمد رضوان وفايز الداية، طبع دار الفكر- دمشق- ط 1 لسنة 2008 م.

وخلق العملية التواصلية بين المرسِل والمرسَل اليه، أي: بين منتج النص ومتلقيه.

د - مفهوم المقبولية وتعريفها في اللسانيات

ذهبت كثير من الدراسات اللسانية الى التركيز على عنصر سبك النص وانسجامه في تحقيق المقبولية لدى المتلقي فبهما تتفاوت نسب قابلية الفهم للمعنى وذلك لعونهما المتلقي على الاستمرارية في معرفة الدلالات التي تظهر في مجموعة من

المفاهيم والعلاقات فيما بين الكلمات داخل النص.

وذلك: ان المتلقي تبدأ لديه عملية قبول النص حينما يساهم تماسك النص وانسجامه في استجلاء قصدية المتكلم وخلق العملية التواصلية عند ذلك من خلال التفاعل مع النص إذ ان (التواصل الانساني يعتمد بشكل حاسم على مقدرةالمتلقي على استخلاص فهم اكثر دقة للمعنى المقصود)(1)

وبناءً عليه:

يتحدد مفهوم المقبولية بقدرة المتلقي على الفهم لما ابتغاه المتكلم في خطابه المسموع او المقروء ولا يتضح الفهم الا بادراك مكامن المعنى ودلالة اللفظ واستيعاب مغزاه وصولاً الى قصد المتكلم وهو روح العملية التواصلية ونموها وديموميتها في النص

وهو ما يتمخض عن تنوع القراء ونوعية التلقي ومستوياته.

سابعاً: نظرية التلقي ومستويات القراءة

اشارة

لم تزل الفلسفة التحليلية والظاهراتية هي المنهل الذي افاد منه الفلاسفة في نتاجهم حول العلاقة التواصلية بين النص والقارئ ضمن المعايير النصية التي

ص: 70


1- الترجمة وعلوم النص، ألبرت نيوبرت، وغريغيوس شريف، ترجمة محيي الدين حمدي، ص 129 ؛ طبع جامعة الملك سعود، ط 1 لسنة 2003 م.

جاء بها (دي بوجراند) الى جهود (ادموند هوسرل) في نظرية الافعال الكلامية الى اهتمام مدرسة كونستانس في المانيا ممثلة ب(هانز روبرت) و (فولفغانغ إيزر) في الاهتمام بالقارئ بوصفه الطرف التكاملي في العملية الابداعية للنتاج الانساني في

مجال المنطوق وتحقيق التواصل ضمن (نظرية التلقي).

ولذا: فقد كان الهدف الذي تسعى اليه نظرية التلقي هو (ادراك نظرية عامة للتواصل ذات اختصاصات متداخلة، وهي نظرية تتكون من جميع الاختصاصات وتتكون فيها نفس الوقت)(1).

1-مصطلح التلقّي

اما المصطلح (التلقي) فهو يشير الى (مجموعة من المبادئ والاسس النظرية التي شاعت في المانيا منذ منتصف السبعينيات على يد -جامعة- كونستانس، تهدف الىالثورة ضد البينوية والوصفية، واعطاء الدور الجوهري في العملية النقدية للقارئ،

باعتبار ان العمل الادبي منشأ حوار مستمر مع القارئ .»(2).

ويخلص من ذلك:

إن (مصطلح التلقي) يرتكز على دور القارئ في فهمه لمعنى النص وتأويله واظهار نتائج هذا الفهم والتأويل؛ ومن ثم يصبح القارئ هو المعني الاول في هذه النظرية، فبه تظهر قيمة النص وقوته في الانسان.

ص: 71


1- نظرية التلقي (مقدمة نظرية)، روبرت سي هولب: ص 99 ؛ ترجمة: خالد التوازني والجلالي، طبع منشورات علامات، ط 1 لسنة 1999 م.
2- قاموس مصطلحات النقد الادبي المعاصر، سمير سعيد حجازي، ص 145 ، طبع دار الآفاق العربية- مصر- ط 1، لسنة 2001 م.

ولذلك ذهبت بعض الدراسات العربية المعاصرة مستندة في ترجمة المصطلح الى تسميته ب(الاستقبال)، إلا ان روح النظرية ومقتضياتها ومركوزها لا تنسجم مع دالة (الاستقبال) لتجردها عن اظهار دور المتلقي الذي هو موضع قيام نظرية المتلقي، فمفهوم استقبال النص غير مفهوم تلقي النص.

وبناءً عليه:

ترتكز نظرية المتلقي على ثلاثة اسس، الاول: القارئ ومستويات القراءة، والثاني: المعنى، والثالث: أٌفق التوقعات فكانت كالاتي:

2- مستويات القراءة أنواع القراء

اشارة

2- مستويات القراءة أنواع القراء .(1)

اهتمت الدراسات اللسانية في مجال معيار المقبولية بالملتقي مثلما اهتمت بالنص وذلك أن الغرض المحقق للعملية التواصلية هو القارئ المستقبِل للخطاب المكتوب او المقروء، وقد قام المشتغلون باللسانيات بدراسة المستوى الذي تنتمي اليه القراءة

الى مستويات أربعة، وهي كالاتي:

أ- القراءة الابتدائية وتسمى أيضا بالقراءة التمهيدية.

وصاحب هذا المستوى يكون قد المَّ بقواعد القراءة والكتابة دون الاهتمام بمقام النص ولعله، اي هذا المستوى غرضه فقط معرفة القراءة والكتابة.

ب- القراءة التصفحية.

وتعتمد هذه القراءة على عنصرين اساسيين، الاول: عامل الزمن فالمتصفح يضع نصب عينيه عامل الوقت كي يستطيع ان ينجز بعض الصفحات قارئاً لما ورد فيها

ص: 72


1- لمزيد من الاطلاع على هذه المستويات ينظر: كيف تقرأ كتاباً، آدلر، موريتمر، دورن، تشارلز فان، ص 30 - 35 ؛ ترجمة طلال الحمصي، طبع الدار العربية للعلوم- بيروت- لسنة 1995 م.

من امور اساسية، والعامل الثاني: الحصول على كمية محددة من المعاني الواردة في بعض النصوص المقروءة.

ج- القراءة التحليلية.

تعتمد هذه القراءة بالدرجة الاساس على النص ونوعيته، فالقارئ هنا يكون قد حدد النص الذي عزم على تحليله ودراسته وفهم مضامينه وصولاً الى المعلومة التي اكتنزها النص.

والقارئ هنا لا يراعي بالدرجة الاساس عامل الوقت وانما يراعي المعلومة.

د- القراءة الموجهة وتسمى ايضاً بالقراءة المرجعية.

وهي من افضل المستويات التي تحقق ثمرة العملية المعرفية وذلك بإرجاع القارئ الى مناهل مرجعية عديدة بغية الوصول الى الافادة المعرفية الجديدة مما يفرض على القارئ جهداً كبيراً ووقتاً واسعاً كي يصل الى نتائج هذه القراءة بين بطون المصادر والمراجع مقتدراً على الاستقراء والتحليل والمقارنة فيما حددوه لهذه المراجع المعرفية.

ولا شك ان هذه المستويات قد افرزت انواعاً من القرّاء، فكانت الدراسات اللسانية معنية بدراسة هذه الانواع من القرّاء فهم المقصد والهدف من معيار المقبولية، فكانت هذه الانواع على النحو الآتي:

3- أنواع القرّاء

اشارة

تَدارس اصحاب نظرية التلقي الاساسيون، وهم (فولفغافع ايزر)، (اميرتو إيكو)، (ميشيل ريفاتير)، (اورين وولف)، (ستانلي فيش) القارئ وذلك لما يشكله من عنصر اساس في العملية الابداعية ليكون بذاك موازياً من حيث قيام هذه العملية للنص وجماليته وقوته او للفن ومتلقيه، ومن ثم افرزت هذه النظرية

ص: 73

تحديداً لأنواع من القرّاء معتمدة في ذلك على تلك الفلسفية لأصحاب هذه النظرية فكانت انواع القرّاء كالاتي:

أ- القارئ الضمني (Implied Reader)

ويقوم هذا النوع على اساس المفهوم الذي جاء به (فولفغانغ ايزر) وهو (بنية نصية تتوقع حضور متلقٍ دون ان تحدده بالضرورة، ان هذا المفهوم يضع بنية مسبقة للدور الذي ينبغي ان يتبناه كل متلقٍ على حدة)(1).

ب- القارئ الانموذج (Mode Reader)

خلص الى ايجاد هذا النوع من القرّاء (أمبرتو إيكو) ومركوز هذا المفهوم في القارئ الانموذج هو تمتعه برصيد كبير من المعارف اللغوية سواء على مستوى النحو والصرف او سواء على مستوى تركيب الجملة، وقد اطلق (أمبرتو إيكو) على هذا المستوى المعرفي اللازم توافره عند القارئ الانموذج ب(الموسوعة القرائية)

وبذاك يكون (أمبرتو) قد اسس استراتيجية محددة لدى القارئ فهو بهذه الطريقة والمنهج يكون -اي: القارئ- يكتب لطبقة محددة ومختصة بهذا الحقل المعرفي كييثمر نتاجه القرائي في حقله المعرفي المحدد وتفسيراته الممكنة(2).

ج- القارئ الاعلى (Super Reader)

ويعتمد هذا النوع من القرّاء بالدرجة الاساس على الاسلوبية ولذا: فقد عدّه (ميثيل ريفاتير) بالقارئ الاسلوبي والذي يلزم ان تتوفر فيه شدة الانتباه والدهشة

ص: 74


1- ينظر: فعل القراءة، فوافغانع ايزر: ص 30 ، ترجمة حميد الحميداني، طبع منشورات مكتبة المناهل- فارس المغرب، ط 1 لسنة 1995 م.
2- ينظر: القارئ وبنية النص، ابو سمادة: ص 285 ، مجلة العلوم الانسانية- جامعة محمد خضير- كلية الآداب، العدد ( 10 ) لسنة 2006 م.

لما يكتنزه النص من انزياحيات اسلوبية ينبغي التوقف عندها.

ومن ثم فإن ظهور هذا النوع من القراء يعتمد على ثراء النص وقدرته التأثيرية بفعل الاسلوبية في القارئ بغية الوصول الى جملة من الاحكام الصادرة عن هذا القارئ والكاشفة عن تلك المؤثرات التي احدثها المكنوز الاسلوبي داخل النص(1).

د- القارئ المقصود (Intended Reader )

يكتنز هذا النوع من القرّاء عند (اورين وولف) على اظهار العلاقة بين المؤلف والقارئ ضمن مجموعة المفاهيم المشتركة بينهما، ولذا: فالقارئ هنا تخيلي في النص، أي: يتخلل في تلك المفاهيم التي بينها المؤلف فهما معاً يمثلان توجهات وتقاليد الناس والمعاصرون لكلاً منهما والعمل على هذه المفاهيم والتقاليد(2).

ه- القارئ المخبر (Informed Reader )

ذهب (ستانلي فيش) الى دراسة ردود افعال القارئ عند قراءته للنص، وخلص أنَّ الى هذه الافعال التي تظهر عند القارئ ترتكز على الفهم الذي تبين بواسطته معنى النص، متدرجاً ضمن مستويات من ردود الافعال بين البنية السطحية لفهم معنى النص وصولاً الى البنية العميقة؛ ولا شك ان ردود الافعال تكون متفاوتةومتباينة لذى القراء تبعاً لفهم معنى النص(3).

وعليه:

إنَّ هذه الانواع من القرّاء تؤسس لثبوت العلاقة الوشيجة بين معياري القصدية والمقبولية وبث الروح في العملية التواصلية بين النص ومتلقيه سواء كان النص

ص: 75


1- ينظر: القارئ وبنية النص، ابو سمامة، ص 280 - 281 .
2- ينظر: فعل القراءة، فولغانغ ايزر، ص 28 - 29 .
3- المصدر السابق

ملقىً او مدوناً، مسموعاً ام مقروءً، ومركوز جميع ذلك على المعنى وفهمه ايصالاً وتوصيلاً.

ولذا:

كان المعنى هو الاساس الثاني في تكوين نظرية التلقي، وهو كما يلي:

4 - بناء المعنى لدى المتلقي

ينصب اهتمام اقطاب نظرية التلقي لاسيما (فولفغانغ ايزر) على كيفية تكوين المعنى عند القارئ فهو يرى (أن المعنى بوصفه نتيجة للتفاعل بين النص والقارئ، اي بوصفه اثراً يمكن ممارسته، وليس موضعاً يمكن تحديده)(1).

وقد وصف (ايزر) العلاقة بين النص والقارئ ضمن كتاب اسماه ب(القارئ الضمني) بيَّ فيه اثر التفاعل بينهما ضمن هذا المصطلح الذي يبينه بقوله (إنَّ المصطلح يدمج كلاً من عملية تشيد النص للمعنى المحتمل، وتحقيق هذا المعنى المحتمل من خلال عملية القراءة، ان جذور القارئ الضمني مغروسة بصورة

راسخة في بنية النص، إنه بنية نصية تتطلع الى حضور متلقٍ ما)(2).

ولذلك نجده -أي: أيزر- يشدد على اهمية التلقي، وذلك لفعاليته في تحديد الموضوع الجمالي، وذلك ان النص حينما يكون بعيداً عن المتلقي وعن ردود فعله وتفاعله معه سيتحول -اي: النص- الى قالب بدون روح يبحث عن اثرٍ يبعث فيه هذه الروح ويحركه ويخلق منه عملية تواصلية، وهذا لا يحدث إلّا بوجود القراءة

ص: 76


1- نظرية التلقي، روبرت هولب: ص 202 ، ترجمة: عز الدين اسماعيل، طبع النادي الادبي والثقافي- جدة لسنة 1994 م.
2- ينظر المصدر السابق: ص 204 - 205 .

ودور القارئ في تحسس هذه الروح فهو الشيء الاساسي في حياة النص.

ولذا يقول فو (لفغانغ ايزر) في بيان التفاعل الذي يحدثه القارئ (إنَّ الشيء الأساسي في قراءة كل عمل أدبي هو بين بنيته ومتلقيه، لهذا السبب نبهت الفينومينولوجيا بإلحاح الى أن دراسة العمل الادبي يجب ان تهتم، -ليس فقط بالنص الفعلي بل كذلك وبنفس الدرجة- بالأفعال المرتبطة بالتجاوب مع ذلك النص؛ فالنص ذاته لا يقدم إلّا «مظاهر خطاطية » يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص بينما يحدث للإنتاج الفعلي من خلال فعل التحقق.

ومن هنا: يمكن أن نستخلص أن للعمل الادبي قطبين، قد نسميها القطب الفني؛ والقطب الجمالي، فالاول هو نص المؤلف، والثاني هو ذاته لا يمكن ان يكون مطابقاً للنص ولا لتحققه، بل لابد ان يكون واقعاً في مكان ما بينهما)(1).

وعليه: يبقى المعنى وبنائه هو العنصر الاساس في حياة كل نص، وهو المادة التي تغذي العملية والتواصلية بين الانسان والانسان بوصفه منتجاً متجدداً لاسيماً حينما يكون التعامل مع النصوص الواردة عن القرآن او النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) او عترته (عليهم السلام)؛ هو الدافع والهدف لهذه الدراسة، اي: اظهار معنى النص الوارد عن امير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب نهج البلاغة المخصوص بالبضعة النبوية فاطمة (عليها السلام) ودلالاته وصولاً الى مقاربة قصديته وبيان آثار هذه المعاني على المتلقي وتأثره بها وتفاعله معها واظهار مستويات القراءة والقرّاء بوصفهم المتلقين لهذه النصوص مظهرين في ذلك بناء العملية التواصلية

المتجددة لهذه النصوص الشريفة وأثارها في استجلاء المعرفة المكنونة في المتلقي عند تعامله مع النص كما سيمر في دراستنا لمعيار مقبولية النص.

ص: 77


1- فعل القراءة، فولفغانغ ايزر، ص 12 ، مكتبة المناهل.

فضلاً عن الركن الأساس في هذه الدراسة وهو قدرة منتج النص (عليه السلام) في زج العديد من الحقائق التاريخية والمعارف الانسانية في هذه النصوص مما دفعنا للتوقف عنها ملياً، فكانت بهذه المستوى الذي بين يدي القارئ الكريم.

نسأل الله تعالى أن يتقبله منا، ويعفو عنا في تقصيرنا فهذا ما وسعناه بفضل الله، وفضل رسوله (صلى الله عليه وآله) وهذا مقدار رزقنا وتوفيقنا.

«وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»

«وَسَلَامٌ عَلَی الُمرْسَلِيَن * وَالَحمْدُ لِله رَبِّ الْعَالِمينَ».

ص: 78

الباب الأول: ما رواه الشريف الرضي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) عند دفنه فاطمة (علیها السّلام)

اشارة

ص: 79

ص: 80

توطئة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق اجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يشتمل الباب الاول الذي تم تخصيصه لما رواه الشريف الرضي (رحمه الله) عن امير المؤمنين (عليه السلام) عند دفنه بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء (عليها السلام) على فصلين:

الفصل الاول: دراسة النص للوصول الى مقاربة قصدية منتجه، أي الامام علي (عليه السلام) واستكناه دلالة اللفظ وتحليله.

والفصل الثاني: لدراسة مقبولية المتلقي لهذا النص وتفاعله معه واستنطاق هذه المقبولية ومدى انطباقها مع قصدية منتج النص.

أما النص المخصوص بهذا الباب الوارد في نهج البلاغة فهو كالآتي:

قال «عليه الصلاة والسلام » بعد ان وارى فاطمة (عليها السلام) الثرى مخاطباً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الكلمات:

ص: 81

«السلام عليك يا رسول اهل، عني، وعن ابنتك، النازلة ي جوارك، والسريعة اللحاق بك، قلَّ يا رسول اهل عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلدي، ألا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعزِّ.

فلقد وسدتّك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنّا وإنا إليه راجعون.

فلقد استرجعت الوديعة، واخذت الرهينة، أما حزي فسرمد، وأما ليلي فمسهّد إلى أن يختارالله لي دارك التي أنت ها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فاحفها السؤال واستنجرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر.

والسلام عليكما سلام مودع لاقالّ و سَئِم، فإن انصرف فلا عن ملالة، وإن أقُم فلا عن سوء ظن بما وعدالله الصابرين »(1) .

ص: 82


1- نهج البلاغة، بتحقيق صبحي الصالح: ص 319 .

الفصل الأول: قصدية النص في دفنه فاطمة (علیه السّلام)ودلالته وتحليله

اشارة

ص: 83

ص: 84

توطئة:

بسم الله الرحمن الرحيم

اشتمل النص الشريف على مقاصد عدّة اكتنزها اللفظ حتى اصبح هذا النص من حيث محتواه ودلالته اوسع ما جاء في هذه الدراسة، وذلك يعود لجملة من الاسباب:

1-إنّ النص متعلق بحدث في غاية الاهمية وعلى مستوى كبير من الخطورة ألا وهو استشهاد بضعة النبوة (عليها السلام) مما استلزم تضمين العديد من الدلالات والحقائق حول هذا الحديث.

2-إنّ الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) ولما كان يمر به من ظروف خاصة ارتبطت بالحدث -أي وفاة فاطمة (عليها السلام)- ومقدماته وما ارتبط بالسقيفة ومواراة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانشغاله به فضلاً عن تسارع الصحابة للرئاسة وتغيير مسار الاسلام، واضطراب الناس وتخليهم عن وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) في اهل بيته فكانوا بين منتهز للأحداث مقلّب للأمور وبين خائف وحائر لا يدري ماذا يصنع مما استلزم ايضاً ان يكون النص مكتنزاً لهذه المقدمات التي ادت الى حياة اسلامية مختلفة عن حياة النبي (صلى الله عليه وآله) على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية فكان النص في قصديته كاشفاً عن جميع ذلك.

ص: 85

3- إن من الدوافع الاساس التي جعلت النص الشريف مشفراً وبحاجة قوية الى التفكيك واستخراج درره هو ظلامة امير المؤمنين (عليه السلام) واستضعافه وتركه وحيداً دون ناصرٍ او معين وهو يرى حقه منهوباً ومال بنت النبي (صلى الله عليه وآله) مسلوباً، وارثها ممنوعاً ومن ثم فالتصريح يدفع الجناة الى المزيد من الظلم.

4- ان تقديم الاسلام والحفاظ على ما جاء به النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) وتغليبه على جميع الشؤون والمصالح والمصائب كان هو الهدف الاساس في جعل منتج النص (عليه السلام) لا يصرح بالأسماء والجناة وما وقع منهم في ظلم النبي وآله وامته وذلك ان التصريح بأسمائهم سيزيد من شتات الناس وتضييع الاسلام.

ولذا: كان هذا النص -وبفعل ما توصلت اليه الدراسة- من اخصب النصوص في معيار القصدية واعظمها اكتنازاً للحقائق واكثرها جمعاً للحوادث التي مرَّ بها الاسلام من حين وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى وقت صدور النص.

وعليه:

كان هذا النص الشريف -وبدون مبالغة- مكتبة اسلامية شملت التاريخ والسيرة واللغة والسياسة والاجتماع وعلم النفس والفقه والعقائد والفلسفة والانثروبولوجيا وغيرها كما سيمر في مباحث هذا الفصل والله الموفِق لكل خير.

ص: 86

المبحث الأول: سبب صدور النص الشريف عنه(علیه السّلام)

اشارة

ص: 87

ص: 88

المسألة الأولى: زمان صدور النص ومكانه
اشارة

إن دراسة زمان صدور النص ومكانه يقدم لنا معطيات فكرية حول هذا النص وبيان المعاني والآثار التي نتجت عنه ومن ثم إظهار حقائق عديدة أراد الإمام علي عليه السلام بيانها.

أولاً: تحديد زمان صدور النص

لم ترد في كتب أبناء العامة والجماعة التي تناولت حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا النص وإنما انحصر وجوده في كتب الخاصة من أتباع عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم: لم نعثر على شواهد في كتبهم تساعد على

بيان زمان هذا النص ومكانه، ولعل الأحداث التي حفت ببيت النبوة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي المانعة من ذكر هذا النص وغيره.

ومن هنا: كان القصد من بيان الزمان والمكان وتحديدهما هو اطلاع القارئ الكريم على حقيقة ما عصف بالأمة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منأحداث كانت السبب في تغيير مسار الإسلام عن جادّته التي رسمها القرآن والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولعل تفرق المسلمين وتمذهبهم وتقاتلهم وما نشبت وتنشب بينهم من حروب وسفك للدماء وضياع خيراتهم لتدفع اللبيب إلى التأمل طويلاً علّه يجد ما يمكنه من النجاة في الآخرة.

ص:89

وعليه:

فإن دراسة زمان صدور النص ومكانه تضع القارئ في جو الأحداث التي لازمت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ما دفعنا إلى تتبع مصادر أخرى تعيننا على تحديد زمانه ومكانه ومنها كتب مدرسة العترة النبوية فهم المعنيون ببيان ما جرى على بيت النبوة وما صدر عنه وارتبط به من تكاليف شرعية وعقدية وغيرها.

ولذا: فقد أخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) بسنده عن الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، قال:

«لما قبضت فاطمة عليها السلام دفنها أمير المؤمنين سراً وعفا على موضع قبرها، ثم قام فحول وجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله... .»(1).

ثم ساق الحديث

أما الشيخ الطوسي (رحمه الله) (المتوفى 460 ه) فقد اخرج النص باللفظ الآتي:

عن علي بن الحسين عن ابيه الحسين (عليهما السلام)، قال: «لما مرضت فاطمة بنت محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصت الى علي بن ابي طالب (عليهالسلام) ان يكتم امرها، ويخفي خبرها، ولا يؤذن احد بمرضها، ففعل كما وصت به، كما حضرتها الوفاة وصت امير المؤمنين (عليه السلام) ان يترك امرها ويفنها ليلاً ويعفي قبرها، فتولى ذلك امير المؤمنين (عليه السلام) ودفنها وعفى موضع قبرها فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن، وحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلى

ص: 90


1- الكافي، باب: مولد الزهراء عليها السلام: ج 1، ص 458 .

الله عليه وآله) فقال:... »(1).

وهذا النص يقطع الطريق على الظنون في انصرافها الى تحديد زمان آخر لصدور قول أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ قد يتوهم البعض أنه (عليه السلام) قال هذا القول في فترة من فترات حياته المباركة ومن ثم فقدان معرفة الدافع الذي دفع الإمام علي (عليه السلام) إلى هذا القول وما انضوى تحته من حقائق ومعارف كثيرة

أراد أمير المؤمنين تبليغها إلى الناس.

إذن:

تحدد الرواية التي أخرجها الشيخ الكليني (رحمه الله) الزمان الذي قال فيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام( هذا القول، وهو بعد دفن فاطمة (عليها السلام) مباشرة، لذا: نجد حرارة الآلام تنبض في هذه الكلمات.

ثانياً: تحديد مكان صدور النص

يتضح بشكل واضح أن مكان صدور هذا النص الشريف هو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحديداً الروضة الشريفة وذلك لورود بعض القرائن في هذا النص الذي أخرجه الكليني (رحمه الله) أو النص الذي اخرجه غيره وصولاُ الى ما رواه الشريف الرضي (رحمه الله) كما سيمر بيانه لاحقاً عند إيرادنا لألفاظ النص في المسألة الثانية؛ كقوله (عليه السلام):

«والبائتة في الثرى ببقعتك .»

ص: 91


1- آمالي الطوسي: ص 109 ، (ت 460 ه)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية- مؤسسة البعثة، سنة الطبع: 1414 ، الناشر: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع- قم، ط 1

وقوله (عليه السلام):

«النازلة بجوارك .»

ومن ثم: فهو يفتح الباب لدراسة مسألة عقائدية وتاريخية مرتبطة بموضع دفن سيدة نساء العالمين صلوات الله عليها وتحديد مكان قبرها كما سيمر بيناه عند دراسة الفاظ هذا النص الشريف وتحليله.

وعليه:

إن ما أراده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من اختيار هذا المكان يمكن الوقوف عليه بواسطة النقاط الآتية:

إشهاد الملائكة الحافين بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما سيقول.

مخاطبة الأول بهذا المصاب الذي ألمّ به وبالإسلام ولذلك نجد أن هذا النص قد تضمن الفاظاً للمناداة والتخاطب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الحاضر بين يديه لا المغيّب تحت الثرى.

إشهاد من حضره في هذا المكان من أهل بيته وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قلّ عددهم فكانوا ثلاثة أو أربعة وهم كعمّر وسلمان وأبي ذر (عليهم الرحمة والرضوان).

إن اختيار هذا المكان لكشف التظلم وبيان الظلم الذي وقع عليه سيكون نفسه محلاً لنشر العدل والقصاص في ظهور المهدي ابن فاطمة (صلوات الله عليهما وعلى الأئمة أجمعين).

لا شك أن اختياره (عليه السلام) لهذا المكان سيكون له أثر في نفس كل من

ص: 92

قصده زائراً ومتقرباً إلى الله تعالى وهو مؤمن بحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته أهل بيته.

بمعنى آخر: قرن (عليه السلام) بين المكان والمصاب الذي ألمّ ببضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم لا ينفلت قلب المؤمن من التفجّع لما نزل على عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبث شكواه لنبيه كما فعل أمير المؤمنين

(عليه السلام) عند دخوله الروضة النبوية.

وعليه:

يصبح المصاب قائماً بقيام المكان وبقائه ومن ثم يصبح الزمن بهذه الحالة ينبض بالحدث في كل حين.

فكم من أحداث وقعت في أماكن عدة مات فيها الزمان وانقضى بانقضاء مكان وقوعها، وهو أمر بدى جلياً اليوم لدى أهل الاختصاص في العلوم النفسية والاجتماعية والقضائية والجنائية فلا يحتاج إلى مزيد من البيان.

المسألة الثانية: تعدد ألفاظ النص في مصادر الإمامية
أولاً: تعدُد ألفاظ النص يكشف عن حقائق كثيرة، ويوصِل الى مقاربة قصدية منتجه (علیه السّلام)
اشارة

ورد هذا النص الشريف بألفاظ متعددة في مصادر مذهب آل البيت (عليهم السلام)، ومن ثم فإن بيان هذه الألفاظ يمَكّن الباحث من معرفة الغرض الذي أراده أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذكرها ومقاربة قصده.

ص: 93

فضلاً عن معرفة كثير من المعارف التي اكتنزتها هذه الألفاظ والتي تحدد مجتمعة جملة من الحقائق التي أراد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إظهارها، فكانت ألفاظ الحديث أو النص الشريف على النحو الآتي:

أ - رواية الشيخ الكليني رحمه الله (المتوفى سنة 329 ه)

أخرج الكليني (رحمه الله) الرواية بسنده عن الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) قال:

لما قُبضَت فاطمة (عليها السلام) دفنها أمير المؤمنين سراً، وعفا على موضع قبرها، ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال:

«السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي، إلا أن لي التأسي بسنتك في فرقتك موضع تعزّ، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت نفسك بين نحري وصدري، بلى وفي كتاب الله لي أنعمُ القبول – إنا لله وإنا إليه راجعون – قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، وأخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهد، وهمٌّ لا يبرح من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد مقيح وهمّ مهيّج، سرعان ما فرق بيننا وإلى الله أشكو، وستنبئك بتظافر أمتك على هضمها، فاحفها السؤال، واستنجرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين،

سلام مودع لا قال ولا سئم، فإن انصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين واه واهاً، والصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية فبعين الله

ص: 94

تدفن ابنتك سراً وتهضم حقها وتمنع إرثها ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر وإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك يا رسول الله أحسن العزاء صلى الله عليك وعليها السلام والرضوان .»(1).

ب - رواية محمد بن جرير الطبري (الإمامي) (رحمه الله) (المتوفى 400 ه)

فقد أخرجها بسنده عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: قال لي أبي الحسين بن علي (عليهما السلام) لما قبضت فاطمة (عليه السلام) دفنها أمير المؤمنين (صلوات الله

عليه)، وعفى على موضع قبرها بيده، ثم قال: فحول وجهه إلى قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:

«السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عن ابنتك وزائرتك، والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي، إلا أن لي في التأسي بسنتك في فرقتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت نفسك بين صدري ونحري، بلى وفي كتاب الله أنعم القبول، إنا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء.

يا رسول الله، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، ولا يبرح ذلك من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت بها، كمد مبرح وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، فإلى الله أشكو.

وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال،

ص: 95


1- الكافي للكليني: ج 1 ص 459 .

فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا، فستقول وبحكم الله، وهو خير الحاكمين.

والسلام عليك سلام مودع لا قال ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملال، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.

آه آه لولا غلبة المستولين لجعلت هنا المقام، والتزمت لزاما معكوفا، ولأعولت إعوال الثكلى على الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سرا، وتهضم حقها، وتمنع إرثها،ولم يبعد بك العهد، ولا اخلولق منك الذكر، فإلى الله - يا رسول الله - المشتكى، وفيك أجمل العزاء، صلوات الله عليك وعليها معك، والسلام .»(1).

ج - رواية الشيخ المفيد (رحمه الله) (المتوفى سنة 413 ه)

أخرجها (رحمه الله) بسنده، عن علي بن محمد المهرزاني، عن علي بن الحسين، عنأبيه (عليهم السلام)، قال: لما مرضت فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وعليها السلام)، وصّت إلى علي (صلوات الله عليه) أن يكتم أمرها، ويخفي قبرها، ولا

يؤذن أحد بمرضها، ففعل ذلك، وكان يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس (رحمها الله) على استسرار بذلك كما وصت به.

فلما حضرتها الوفاة وصت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتولى أمرها ويدفنها ليلاً، ويعفى قبرها؛ فتولى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) دفنها، وعفى موضع قبرها؛ فلما نفض يده من تراب القبر، هاج به الحزن، فأرسل دموعه على خديه، وحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:

«السلام عليك يا رسول الله مني، والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة

ص: 96


1- دلائل الإمامة للطبري: 138 .

عينك، وزائرتك، والبائتة في الثرى ببقعتك والمختار الله لها سرعة اللحاق بك،قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيدة النساء تجلدي، إلا أن في التأسي لي بسنتك والحزن الذي حل بي بفراقك موضع التعزي، فلقد وسدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي، نعم وفي كتاب الله أنعم القبول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله! أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد مقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، وإلى الله أشكو.

وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك علي وعلى هضمها حقها، فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول، ويحكم الله وهو خير الحاكمين.

سلام عليك يا رسول الله سلام مودع، لا سئم ولا قال، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين، [ و ] الصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما، وللبثت عنده معكوفا، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سرا، وتهتضم حقها قهرا، وتمنع إرثها جهرا، ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، فإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك أجمل العزاء، وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته»(1).

ص: 97


1- الآمالي للمفيد: ص 281 .
د - رواية الشريف الرضي (محمد بن الحسين بن موسى) (رحمه الله) (المتوفى سنة 406 ه)

فقد رواه بحذف السند فقال: (ومن كلام له روي عنه أنه قال عند دفن سيدة النساء فاطمة – كالمناجين به رسول الله صلى الله عليه وآله عند قبره-:

«السلام عليك يا رسول الله عني، وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسرعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلدي، إلا أن في التأسي لي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزّ، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ف (إنا لله وإنا إليه راجعون) فلقد استرجعت

الوديعة، واخذت الرهينة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فاحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودع لا قالٍ ولا سئم فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن

سوء ظن بما وعد الله الصابرين .»(1).

ه - رواية الشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت 460 ه)

أخرج (رحمه الله) الرواية بسنده الى علي بن محمد الهرمزداني، عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، عن ابيه الحسين (عليه السلام)، قال:

«لما مرضت فاطمة بنت محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصت إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يكتم أمرها، ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك، وكان يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس (رحمها

ص: 98


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 319 .

الله) على استمرار بذلك، كما وصت به، فلما حضرتها الوفاة وصت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يترك أمرها ويدفنها ليلا ويعفي قبرها، فتولى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ودفنها وعفى موضع قبرها، فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن، وأرسل دموعه على خديه، وحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله

عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك وحبيبتك، وقرة عينك وزائرتك، والثابتة في الثرى ببقعتك، المختار الله لها سرعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيدة النساء تجلدي، إلا أن في التأسي لي بسنتك والحزن الذي حل بي لفراقك لموضع التعزي، ولقد وسدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي، نعم وفي كتاب الله نعم القبول، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله! أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار الله لي دارك التي فيها أنت مقيم، كمد مقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتظاهر أمتك علي وعلى هضمها حقها،

فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا، وستقول ويحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

سلام عليك يا رسول الله، سلام مودع لا سئم ولا قال، فان أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين، الصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما، والتلبث عنده معكوفا، ولا عولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن بنتك سرا، ويهتضم حقهاقهرا، ويمنع إرثها جهرا، ولم يطل العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله يا رسول الله

ص: 99

المشتكى، وفيك أجمل العزاء، فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته »(1).

ثانياً: مقابلة ألفاظ الحديث وصولاً إلى الصيغة النهائية

للوصول إلى الصيغة النهائية للنص الشريف ينبغي مقابلة هذه الألفاظ فضلاً عن بيانها لحقائق كثيرة ارتبطت بعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل عام وما ارتبط بفاطمة صلوات الله وسلامه عليها بشكل خاص، وقد وضعنا معقوفتين للألفاظ التي لم ترد في نهج البلاغة، فكانت الصيغة النهائية بعد جمع الفاظ الحديث على النحو الآتي:

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام):

«السلام عليك يا رسول الله عني، [والسلام عليك](2) عن ابنتك، [وحبيبتك،

وقرة عينك](3)، [وزائرتك](4)، النازلة في جوارك، [والبائتة في الثرى ببقعتك](5)، والسريعة اللحاق بك، [والمختار الله لها سرعة اللحاق بك](6)، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، [وعفا](7)، [وضعف عن سيدة نساء العالمين تجلدي](8)، إلا أن لي في التأسي [بسنتك](9) بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك، [والحزن الذي حل بي

ص: 100


1- امالي الطوسي (رحمه الله): ص 109 - 110 .
2- لم ترد في نهج البلاغة، ووردت في المصادر الأخرى.
3- انفرد بها الطوسي.
4- أوردها الشيخ الكليني والطبري والطوسي.
5- أوردها الكليني والطبري والطوسي.
6- أوردها الكليني والطبري والطوسي.
7- وردت في الكافي.
8- أوردها الكليني والمفيد والطوسي.
9- أوردها الكليني والطوسي والمفيد في أماليه.

لفراقك](1) موضع تعزّ [لموضع التعزي](2)

فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك(3)

[وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي](4)، [بلى وفي كتاب الله أنعم القبول](5)، إنا لله وإنا إليه راجعون.

فلقد استرجعت الوديعة، واخذت الرهينة، [واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء](6).

[يا رسول الله](7)، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، [لا يبرح الحزن من قلبي](8)، [كمد وهم لا يبرح من قلبي](9)، إلى أن [أو]) (10)يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، [سرعان ما فرق بيننا فإلى الله أشكو](11).

وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك [علي](12)، وعلى هضمها [حقها](13)، فاحفها

ص: 101


1- الامالي للطوسي.
2- المصدر السابق.
3- أوردها الشيخ الكليني والمفيد والطوسي [على صدري].
4- أوردها الشيخ المفيد في الأمالي وكذا الطوسي في أماليه.
5- أوردها الكليني في الكافي والطوسي والمفيد في أماليهما.
6- أوردها الشيخ الكليني في الكافي والمفيد في أماليه والطوسي في أماليه والطبري في الدلائل.
7- لم ترد في النهج وأوردها العلماء في كتبهم.
8- أورده الشيخ المفيد في أماليه، والطوسي في أماليه.
9- أورده الشيخ الكليني في الكافي.
10- أوردها الشيخ المفيد والطوسي في أماليهما.
11- أوردها الشيخ الكليني والمفيد والطوسي والطبري.
12- أوردها الشيخ المفيد في أماليه وكذا الشيخ الطوسي.
13- المصدر السابق.

السؤال، واستخبرها الحال [فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً،وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين](1).

[والسلام عليك (يا رسول الله)(2)(والسلام عليكما)(3) سلام مودع لا قال، ولا سئم، فإن انصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين(4)، (الصبر أيمن وأجمل)(5).

(آه آه)(6)، (واه واهاً)(7)، لولا غلبة المستولين (علينا)(8) لجعلت المقام (عند قبرك)(9) لزاماً، (والتلبث معكوفاً)(10)، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية،فبعين الله تدفن ابنتك سراً، وتهضم حقها (قهراً)(11)، ويمنع إرثها جهراً، ولم يتباعد

ص: 102


1- أوردها الشيخ الكليني في الكافي، والمفيد في الأمالي، والطوسي في الأمالي، وابن جرير الطبري في دلائل الإمامة
2- أوردها المفيد والطوسي في اماليهما.
3- وردت في نهج البلاغة.
4- الى هنا انتهى النص في نهج البلاغة وبهذا المقدار اكتفى الشريف الرضي (رحمه الله)، أما البقية فقد اوردها الشيخ الكليني والشيخ ابن جرير الطبري، والشيخ المفيد والشيخ الطوسي (عليهم الرحمة والرضوان).
5- المصدر السابق.
6- الطبري في الدلائل.
7- الكافي للكليني.
8- أوردها المفيد والطوسي في أماليهما.
9- المصدر السابق.
10- المصدر السابق.
11- أوردها الشيخ المفيد والطوسي في أماليهما.

(يبعد) (يطل)(1) بك العهد ولم يخلق (يخلولق)(2) (يخل)(3)، منك الذكر، فإلى الله يا رسول الله المشكى وفيك أجمل (أحسن)(4)، العزاء.

(صلى الله عليك، وعليها السلام والرضوان)(5)؛ (فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته)(6)، (صلوات الله عليك وعليهما معك، والسلام)(7)])(8)

والظاهر من خلال هذه المقارنة بين المصادر التي أُخرجت هذا الحديث أن الشريف الرضي (رحمه الله) قد تصرف في هذا النص فحذف منه بعض ألفاظه وذلك لجملة من الاسباب، منها:

1- لما ارتبط بخصوصية الحادثة والأشخاص الذين تسببوا بها، لا سيما وأن هذه المصادر هي أقدم منه بقرنين، وبعضهما بقرن من السنين، فضلاً عن جلالة قدر أصحابها.

2- إن الشريف الرضي (رحمه الله) قد يكون أخذ هذه الرواية من طريق آخر لم يرد ذكره في هذه المصادر فكان بهذا الاختصار.

ص: 103


1- ورت في النهج.
2- أوردها الطبري في دلائل الإمامة.
3- وردت في نهج البلاغة في موضع غير هذا عند قوله (عليه السلام) «فأحفها السؤال واستخبرها الحال وهذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر.. .»
4- الكليني في الكافي.
5- الكليني في الكافي.
6- أورده الشيخ المفيد والطوسي في أماليهما.
7- أورده الطبري في دلائل الإمامة.
8- هذه الإضافة بين المعقوفتين [ ] أوردها الشيخ الكليني في الكافي: ج 1 ص 459 ؛ والمفيد في الأمالي ص، والطوسي في الأمالي: ص 110 ؛ والطبري في دلائل الإمامة: ص 138 .

3- أو أنه كان يحرص على المحافظة على هدف الكتاب وهو ايصال خطاب امير المؤمنين (عليه السلام) الى مكتبة المخالفين لعلي (عليه السلام) دون ان يثير فيحفيظتهم.

أما هذا النص بعد مقارنته ومقابلته فقد أضاف إلى الدراسة العديد من المعارف الإسلامية والحقائق العقدية والتاريخية التي ستكون بلطف الله مادة جديدة تضاف إلى المكتبة الإسلامية، لاسيما حقل الدراسة ومجالها، أي: فلسفة اللغة ولسانيات النص ضمن الفكر التداولي ومعياري القصدية والمقبولية، والله الموفق لكل خير،

ومنه اللطف والتسديد.

ص: 104

المبحث الثاني: الأفعال الكلامية المباشرة في النص الشريف

اشارة

ص: 105

ص: 106

اشتمل النص الشريف على جملة من الافعال المباشرة والتي تفيد بحسب مقتضيات نظرية الافعال عن نسبة من الكاشفية عن قصدية منتج النص، وذلك وبحسب دراستنا للنظرية أن الأفعال المباشرة تفيد في تحقيق العملية التواصلية الانجازية بالدرجة الاساس، أما كاشفيتها عن قصدية منتج النص فهي نسبية،

بلحاظ أن الفعل المباشر يفهم منه ظهور القصد الإنجازي، وهذا بعكس الافعال الغير المباشرة التي تستلزم البحث في مقتضايات الخبر والانشاء المعتمدة في النص والكامنة بين ثناياه.

بل وجدنا -من خلال الدراسة- إنّ متضمنات القول هي الألصق بمعيار القصدية ومقتضى البحث عنها ودراستها وإظهارها للقارئ لاسيما المضمر من القول؛ ولولا أن الدراسة قد حددها المنهج في تتبع معياري القصدية والمقبوليةلكانت المتضمنات القولية هي الاقرب الى الإهتمام والبحث والدراسة.

ولذلك:

لم نشر الى المتضمنات القولية من حيث التخصيص الموضوعي، وانما ادخلت في البحث ضمن معيار القصدية واظهار مكامن النص ومعناه ودلالته وتحليله.

وبناءً عليه:

فإن النص الشريف تضمن مجموعة من الافعال المباشرة فكانت كالآتي:

ص: 107

المسألة الأولى: الاخباريات (Assertives )

وتسمى ايضاً ب(التأكيدات) و(التقريريات) والاختلاف في ذلك يعود للترجمة.

ويراد بها: (تعهد المرسل بدرجات متنوعة بأن هناك شيئاً ما هو واقعة حقيقية،وتعهده كذلك بصدق قضية ما)(1).

(ويطلق اتجاه المطابقة فيها من الملفوظات الى العالم)(2)؛ ولذلك فإن (الخبر يتقسم الى اثبات ونفي، والاثبات يقتضي مثبتاً ومثبتاً له، والنفي يقاضي منفياً ومنفياً له)(3).

وقد جاءت الاخباريات في النص الشريف كالآتي:

1-زيارتها (عليها السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد جاء ذلك في قوله (عليه السلام):

«والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك »، وفيه اخبار من امر الزيارة وسيمر -ان شاء الله تعالى- بيان قصدية النص ودلالة زيارتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبره وروضته.

2-بياتها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقد اخبر امير المؤمنين (عليه السلام) عن هذا الفعل في قوله (عليه السلام):«والبائتة في الثرى ببقعتك »، ولهذا الاخبار مقاصديات عديدة سيمر بيانها في مبحث مستقل.

ص: 108


1- استراتيجيات الخطاب، عبد الهادي بن ظافر، ص 123 .
2- نظرية الافعال الكلامية بين فلاسفة اللغة المعاصرين: ص 30 .
3- دلائل الاعجاز: ج 1 ص 344 .

3- توسيده (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبره.

وهذا الإخبار عن توليه (عليه السلام) لدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتوسيده في قبره جاء في قوله:

«فلقد وسدتك في ملحودة قبرك .»

4-نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) تفيض بين صدر علي (عليه السلام) ونحره.

وقد أخبر أمير المؤمنين عن هذه الحادثة، أي: هذه اللحظات الأخيرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيض نفسه المقدسة بين نحره وصدره في قوله (عليه السلام):

«وفاضت نفسك بين نحري وصدري »، وقد اكتنز هذا اللفظ الكثير من الحقائق التاريخية والعقدية وغيرها والتي جاءت ضمن قصدية هذا اللفظ وتحليله واستكناه

دلالاته.

5-سرعة التفريق بينه وبين فاطمة (عليهما السلام).

يخبر الإمام علي (عليه السلام) عن هذا الفعل الكاشف عن السرعة في الفريق بينه وبين بضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) في قوله (عليه السلام):«سرعان ما فرق بيننا .»

6-دفن الزهراء (عليه السلام) سراً.

جاء هذا الاخبار في دفن الزهراء (عليها السلام) سراً في قوله (عليه السلام):

ص: 109

«فبعين الله تدفن ابنتك سراً »، ولا شك أنه قصد في هذا الاخبار عن جملة من الأحداث التي دعته الى ان يدفن بنت النبي (صلى الله عليه وآله) سراً، وهو ما دعانا الى تخصيص مبحث في ذلك ضمن قصدية النص.

7- هضمهم لبنت النبي (صلى الله عليه وآله).

من الحقائق التي اكتنزها النص وأخبر عنها الامام علي (عليه السلام) دون التصريح بالأسماء والاشخاص هي حقيقة هضم الصحابة لحق فاطمة (عليها السلام)، فقال (عليه السلام):

«وتهضم حقها قهراً .»

ولذا: كان لقصدية اللفظ مسائل عدّة.

8-منعهم لإرث فاطمة (عليها السلام).

جاء هذا الاخبار عن القضية التي كانت منذ وقوعها ولم تزل موضع بحث ودراسة بين مؤيدٍ ونافٍ، إلا أن صاحب الشأن والشاهد على ما جرى هو الأدرى بجميع جزئيات الحدث الذي اخبر عنه في تلك الكلمات القليلة قائلاً:

«ومنع إرثها جهراً .»

9- وقوع هذه الرزايا والمصائب بزمن قصير بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).فقد أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الحقيقة في قوله الذي أخرجه ابن جرير الإمامي (رحمه الله):

«ولم يبعد بك العهد .»

ص: 110

وفي لفظ الكليني (رحمه الله):

«ولم يتباعد بك العهد .»

وفي لفظ الشيخ المفيد (رحمه الله):

«ولم يطل العهد »؛ وسيمر ان شاء الله تعالى قصدية النص وما يتعلق بهذا القول ودراسته وبيان حقائق اهل اللغة.

10- الاخبار عن وقوع هذه الجريمة مع وجود الموانع الشرعية وقد جاء ذلك في قوله (عليه السلام):

«ولم يخل منك الذكر .»

وفي لفظ الكليني:

«ولا اخلولق منك الذكر .»

ومن ثم فإن هذه الاخباريات التي تضمنها النص الشريف كانت مليئة بالحقائق والمعاني والدلالات العديدة كما سيمر بيانه في مقاصدية النص.

11- الاعلان عن أنّ فاطمة (عليها السلام) ستكشف لأبيها ما جرى عليها.

فبعد بيانه (عليه السلام) لما جرى على بنت النبي (صلى الله عليه وآله) ينتقل (عليه السلام) الى الاعلان عن أمر في غاية الخطورة وهو ارتفاع المانع في سكوت فاطمة (عليها السلام) وعدم كشفها لما جرى عليها من المصائب وما سيترتب على ذلك من أمور قضائية عديدة، كما جاء في قوله (عليه السلام):

«وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين .»

ص: 111

المسألة الثانية: التوجيهيات (Directives )

وتسمى أيضاً ب(الأمريات) و(الطلبيات)، وتقوم هذه الافعال بتوجيه السامع أو المتلقي الى فعل شيء ما، وقد تتعدد الصيغ الى تحقيق هدف المتكلم بين النصح أو الاغراء، أو الشدة أو الاصرار على تنفيذ الامر.

ويبرز الغرض الانجازي فيها بهذا التوجيه، واتجاه المطابقة (يكون من العالم الى الكلمات، والسؤول عن ذلك هو المخاطب، وشرط الاخلاص يتمثل في الارادة والرغبة الصادقة)(1).

وقد تضمن النص الشريف بعض الافعال الكاشفة عن طلبه (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي طلبات قليلة جداً، فقد اكتفى أمير المؤمنين (عليه السلام) بطلبين فقط، وهذا يكشف عن خلقة وتأدبه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيف لا، وهو أديب رسول الله (صلى الله عليه وآله

وسلم) كما ورد في الحديث الشريف.

وعليه: فقد كانت الطلبيات او التوجيهات في فعلين فقط، وهما:

1- في طلبه (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحف السؤال من فاطمة (عليها السلام) وقد جاء هذا الفعل الطلبي واضحاً في قوله (عليه السلام):

«فأحفها السؤال .»

وقد تناولت اللفظ في قصدية منتج النص وبحثت في معناه وتتبع دلالاته فوجدت أنّه مليء بالأخبار والكشف عن الاحداث التي وقعت عليها (عليه السلام).

ص: 112


1- تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية، عمر بلخير ص 71 ، طبع منشورات الاختلاف- الجزائر، ط 1 لسنة 2003 م.

2- في الطلب لاستخبار فاطمة (عليها السلام).

أما التوجيه الثاني أو الطلب الثاني الذي ورد في النص عنه (عليه السلام) فقد كان بخصوص حال فاطمة ومعرفة ما جرى عليها، ولذا: يطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يستخبرها عن حالها، ولا شك أنّه يردف هذين الطلبين ببيان العلة التي تكمن وراء ذلك، كما سيمر في قصدية قوله (عليه السلام):

«واستخبرها الحال .»

المسألة الثالثة: الالتزاميات (Commissive )

ويرتكز مفهوم الالتزاميات على تعهد المتكلم بفعل شيء ما في المستقبل وهذا الفعل مبني على شرط الاخلاص ومطابقة العالم الى الكلمات.

يعرض لنا النص القوة الانجازية في الالتزاميات من خلال الأفعال الآتية:

1- المقام عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وقد جاء هذا الفعل الذي يظهر ملازمة الامام علي (عليه السلام) لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله:

«لولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً »

فقد بين النص الشريف المانع في تحقق الملازمة سواء في وقت صدور النص ام في المستقبل وهو وجود المستولين.

وقد كشفت قصدية منتج النص عن الكثير من المعارف التي ارتبطت بالقبر النبوي ومشروعية الزيارة وغير ذلك.

ص: 113

2- اتخاذ القبر النبوي موضعاً للاعتكاف.

وهذا الالزام ايضاً جاء تبعاً لما قبل في بيان هذه الحقيقة المتصلة بالقبر النبوي فيقول (عليه السلام):

«والتلبث معكوفا .»

المسألة الرابعة: التصريحات (Declorations )
اشارة

وتسمى ايضاً ب(الإيقاعات) و(الاعلانيات)، وتتميز هذه الافعال بمطابقة محتواها القضوي مع العالم الخارجي وهو جعل أدائها ناجحاً وقادراً على التغيير في الوضع القائم، وهذه الافعال جاءت في النص الشريف في مواضع ثلاثة كشف البحث فيها في معيار القصدية عن معارف كثيرة وحقائق عديدة -كما سيمر-.

وقد وردت هذه الافعال التصريحية أو الاعلانية فيما يلي:

1- الإيداع

في إيقاع الفعل، الإيداع وما يترتب عليه من مسائل فقهية؛ فقد جاء ذلك في قوله (عليه السلام):

«لقد استرجعت الوديعة » ولا يخفى عن اهل العلم أنّ هذا التصريح في ارجاع الوديعة واسترجاعها، كما جاءت بصيغة الاستفعال له من الكواشف الفقهية والعقدية ما يجعل المتلقي يقف مليئاً عند قصدية منتج النص (عليه السلام).

2-الرهن

في فعل أخذ الرهينة وما يتعلق به من مسائل فقهية بين المتعاقدين كشفتها القوة الانجازية بين الطرفين مما يرشد الى معانٍ عديدة كما سيمر في قصدية النص في قوله (علیه السّلام):

ص: 114

«وأُخذت الرهينة .»

3- الاختلاس

وهو الإيقاع الثالث الذي ورد في النص الشريف وقد اختزن العديد من الدلالات التي سيمر بيانها في قصدية اللفظ في قوله (عليه السلام):

«واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء .»

المسألة الخامسة: التعبيرات (Expressives )
اشارة

وتسمى ايضاً ب(البوحيات)؛ وتختص هذه الافعال ببيان الحالة الشعورية عند المتكلم سواء كان تعبيره عن نفسه او وصفه لما سيشعر به من احاسيس ومشاعر الآخرين، اي:

(التعبير عن حالة سيكولوجية محددة)(1).

وقد تضمن النص الشريف العديد من الافعال التعبيرية التي يصف فيها منتج النص (عليه السلام) الحالة الشعورية له او لسيدة نساء العالمين (عليه السلام) فكانت كالآتي:

1-قلّة الصبر

يصف لنا الامام علي (عليه السلام) حالتة الشعورية والآمه لفقد بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى المستوى الذي يصف فيه هذا الشعور، بقوله:

«قل يا رسول الله عن صفيتك صبري .»

ص: 115


1- التحليل اللغوي عن مدرسة اكسفورد: ص 234 .

ولا يخفى أنَّ منتج النص هنا له من الشأنية ما تجعله محاطاً بالحكم الشرعي والعقدي، ومن ثم فقد كشفت قصدية اللفظ عن معانٍ عديدة سيمر بيانها.

2-ضعف التجلد

يردف منتج النص الحالة الوجدانية والشعورية في فقده لفاطمة (عليها السلام)بعد إيراده لقلة الصبر ب(ضعف التجلد) وهذا مستوى آخر من الألم والمشاعر اتجاه هذا الحدث، فيقول (عليه السلام):

«وصعف عن سيدة نساء العالمين تجلدي .»

3- التأسي والتصبّر

ينتقل منتج النص بعد بيان تلك المشاعر وما كان يمر به من الألم بفعل هذه الرزية التي لم يجد في الاستعانة عليها غير التأسي والتصبر بما هو أعظم من فقد سيدة نساء العالمين (عليها السلام) ألا وهو فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال (عليه

السلام):

«إلّا أنّ التأسي لي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك [والحزن الذي حل بي بفراقك] موضع تعزٍ .»

4-الرضا بقضاء الله تعالى

بعد بيانه للوسيلة التي استعان بها على مصيبته يظهر منتج النص (عليه السلام) حالة وجدانية ونفسية اخرى في مواجهة هذه المصيبة وهي الرضا بقضاء الله وقدره، فيقول (عليه السلام):

«بلى، وفي كتاب الله لي أنعُم القبول إنا لله وانا اليه راجعون »(1)

ص: 116


1- الكافي للكليني: ج 1 ص 459 .
5-انقباض النفس لعظم المصيبة

يشير النص الشريف الى حجم ما تركته المصيبة التي أحلّت ببيت النبوة وفقده لفاطمة (عليها السلام) وما جرى عليها من الامة، ولا شك أنّ لهذه الأحداث أثرها الكبير على نفس منتج النص (عليه السلام) فقد أصبحت نفسه لعضم المصيبة منقبضة عن خضراء الدنيا وغبرائها، فضلاً عن بيانه لحجم حبه لأُم عياله، فيقول:«واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء .»

والنص مليء بالمعارف والدلالات المرتبطة بحقيقة الحدث وبحقيقة ما كان لفاطمة من الخصائص والصفات والشأنية كما سيمر بيانه في قصدية النص.

6- الحزن الدائم في النفس

من المشاعر النفسية التي تضمّنها النص هو الحزن الدائم على رحيل بضعة النبي (صلى الله عليه وآله)، فيقول (عليه السلام):

«اما حزني فسرمد .»

وسيمر بيان دلالة هذا الحزن وسرمدية بقائه في قصدية النص.

7-قلة النوم وطول السهر

يورد منتج النص في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشكواه اليه ما سيؤول اليه حاله بعد هذه المصيبة العظيمة، فيقول:

«وأمّا ليلي فمسهد » ثم ليتبعه بعد ذلك كما في الفعل التعبيري الآتي عن الهم الذي سيلازم قلبه.

8-ملازمة الهموم لقلبه الى آخر حياته

وهذا الجانب من البوحيات التي كشفها الإمام لرسول الله (صلى الله عليه وآله)

ص: 117

له من الآثار الكبيرة على تفاعل المتلقي مع النص وتثير في ذهنه العديد من الاسئلة، فأي مصيبة تلك التي جعلت قلب علي بن ابي طالب يلازمه الحزن والهموم الى آخر ايام حياته؟

9- الشكوى الى الله تعالى

كي لا ينصرف ذهن القارئ الى اتجاهات مهلكة فينسب لأمير المؤمنين (عليه السلام) من الأفعال ما تتعارض مع منزلة العصمة والامامة قام (عليه السلام) فعبّر عن الآلية الوجدانية والإيمانية والنفسية التي تعامل بها مع هذه المصائب فبيَّن ان هذه المشاعر النفسية والخلجات العاطفية مقيدة باللجوء الى الله تعالى، فيقول:

«سرعان ما فرّق بيننا والى الله أشكو »(1).

10-تشابك الآلام وحرقتها

ينتقل الامام علي (عليه السلام) من بيان مشاعره وخلجات نفسه الى البوح لرسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حال الزهراء (عليها السلام) وما أصاب نفسها من تشابك الآلام وحرقتها في صدرها، فيقول (عليه السلام):

«فأحفها السؤال واستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها .»

11-كتمان الهموم والآلام

لاشك أن هذه المشاعر النفسية والوجدانية التي مرت بها الزهراء (عليه السلام) تبعتها اسباب زادت في تعاظمها وهو ما ضمنه منتج النص في بيانه لحال الزهراء

ص: 118


1- لم ترد هذه الجملة في النص الذي اخرجه الشريف الرضي (رحمه الله) وانما اخرجها الشيخ الكليني (رحمه الله) في الكافي: ج 1 ص 459 ، وكذلك اخرجها الشيخ المفيد (رحمه الله) في الامالي: ص 281 وغيرهما.

(عليه السلام( لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيقول:

«لم تجد الى بثه سبيلا .»

وهو أمر يكشف عن معانً ودلالات وحقائق سيمر بيانها في قصدية النص.

12-التأوه والتصبر

لقد جاء بيانه (عليه السلام) لهذه الحالة الشعورية كي ينقل المتلقي الى بيان عدد المصائب التي أحلّت به (عليه السلام)، فضلاً عن المصائب المتعلقة بفاطمة (عليه السلام)، ولذا يعبر عن ذلك في قوله (عليه السلام):

«آه آه- [وآها وآها] لولا غلبة المستولين...].

13- الصراخ المفجع

إنَّ من المسائل العجيبة المرتبطة في شد مشاعر المتلقي والتأثير فيه هو تدرج الامام علي (عليه السلام) في بيان مستوى المصيبة العظيمة، وحجم اضرارها النفسية، فينقل هذه المشاعر الى القارئ والسامع حتى يصل به الى هذا المستوى الذي يعيش فيه المتلقي مع منتج النص (عليه السلام) فيصرخ كما في قوله (عليه السلام):

«ولأعولت أعوال الثكلى على جليل الرزية .»

14-التعزيّ برسول الله (صلى الله عليه وآله).

يختم أمير المؤمنين(عليه السلام) خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيان آلية جديدة في الاستعانة على المصيبة وتجاوزها وذلك من خلال التعزي بسيد الخلق (صلى الله عليه وآله) فيقول:

«والى الله يا رسول الله المشتكى وفيك أحسن العزاء .»

ص: 119

وعليه:

فهذه مجموعة الافعال الخاصة في التعبيرات والكاشفة عن حجم المصيبة والرزية التي أحلّت به (عليه السلام)، فضلاً عن اكتنازها للعديد من الحقائق والمعانِ والدلالات التي تقدم مجموعة من المعارف في مجريات الأحداث والشخصيات وما ارتبط ببضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وبه (عليه السلام)؛ وما تبع هذه الاحداث من تحولات فكرية واجتماعية وتربوية سنعرض لها من خلال قصدية النص الشريف.

أما ما يتعلق بالافعال الكلامية الغير مباشرة فقد تركت البحث فيها لتداخلها مع مقتضيات معيار القصدية في النص فسيجدها القارئ ضمن مباحث النص الشريف وتحليله واظهار معانيه فهي دليلنا الى مقاربة قصدية المعصوم (عليه السلام).

فنسأل الله التسديد والعون، والعفو والمغفرة ان اخفقنا في بعض مطالب الدراسة، إنه هو الغفور التواب الرحيم.

ص: 120

المبحث الثالث: المقاصدية في تحويل وجهه (علیه السّلام) الى قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ومخاطبته

اشارة

ص: 121

عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) قال لي أبي الحسين بن علي (علیه السّلام) لما قبضت فاطمة (علیه السّلام) دفنها أمير

المؤمنين سراً وعفا على موضع قبرها، ثم قام فحول وجهه إلى قبر رسول (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

ص: 122

توطئة:مخاطبة رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بين التشريفات الإلهية والمحاذير الشرعية .
اشارة

أُحيطَ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بجملة من التشريفات الإلهية والمحاذير الشرعية التي حددت كيفية التعامل معه صلى الله عليه وآله وسلم على كافة المجالات سواء ما كان يرتبط بشخصه الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) من

قبيل محادثته، ومناداته، ومناجاته، والامتثال لأمره ونهيه، وتعظيم حرمته وتوقيره واجلاله، واتساع دائرة هذه الحرمة الشرعية فيما يرتبط به كعترته (عليهم السلام) وذريته، فلحمه لحمهم، ودمه دمهم، وموالاتهم موالاته، ومعاداتهم معاداته.

فضلاً عما فرضه القرآن على أزواجه من حدود كثيرة تكشف عن جلالة منزلته عند الله، وعظيم حرمته، فقد حرم الله عليهن الزواج من بعده، فجعلهم بمنزلة الأمهات اللاتي حرم على الأبناء زواجهن فقال عز وجل: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ »(1).

ومن ثم فقد أحاط القرآن الكريم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجملة من التشريفات الإلهية والحدود الشرعية التي لم ينلها أحداً من الأنبياء والمرسلين.

وعليه:

أراد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أن يذكّر المسلمين بهذه الحرمة التي

ص: 123


1- سورة الأحزاب، الآية ( 6).

جاء بها القرآن الكريم وأحاطها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مخاطبته حياً وميتاً وهو ما سنعرض له خلال مسائل المبحث.

المسألة الأولى: قصدية الالتزام بمنهج القرآن الكريم في مخاطبة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
اشارة

يبين القرآن الكريم عدد من القوانين والحدود الشرعية فيما يتعلق بالحديث مع النبي (صلى الله عليه وآله) ومخاطبته وهو -كما أسلفنا- ما لم تسنّه الشريعة الإلهية مع أحدٍ من الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) فكانت هذه المحاذير كالآتي:

أولاً: تحذير المسلمين من آثار رفع أصواتهم فوق صوت النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
أ - إنَّ رفع الصوت بحضرته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يحبط العمل

يورد القرآن الكريم في سورة الحجرات مجموعة من الآيات التي تبين حدود مستوى الصوت في حديث المسلمين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وَسَنّ التأدب بحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحد الذي يؤدي فيه هذاالتجاوز في رفع الصوت إلى إحباط العمل وهدمه ومن ثم تكون النتيجة هلاك من

يرفع صوته في الدنيا والآخرة وهذه الخصوصية لم تكن لأحد من خلق الله، لا لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مرسل، قال تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ »(1).

ص: 124


1- سورة الحجرات، الآية ( 2).
ب - الملازمة بين غض الصوت وتقوى القلوب

يشكل قلب الإنسان الموضع الأكثر اهتماماً في الشريعة الإسلامية، فقد حظي باهتمام علماء الأخلاق والفلاسفة والعرفانيين وغيرهم، فضلاً عما ناله من الآيات والأحاديث النبوية الصادرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن عترته (صلوات

الله عليهم أجمعين) حتى بات هذا الموضع هو المحدد لمصير الإنسان في الدنيا والآخرة.

ففي الدنيا كان للقلب الأثر الأساس في رسم طريق التعامل مع الله تعالى، فهو موضع الأصول التي قام بها الإسلام: كالتوحيد والنبوة والعدل والإمامة والمعاد.

فضلاً عن أثر القلب في رسم الأخلاق تحديدها والتعامل مع الإنسان الآخر وبناء العلاقات الاجتماعية والتواصل والتوادد وغيرها.

بل كان القلب ولم يزل الموضع الذي تستقيم به الحياة الدنيوية في حب الخير للخلق سواء أكانوا من البشر أم الشجر أم الدواب، فإن كان القلب رحيماً مشفقاً مسامحاً ودوداً صادقاً كان الأمن والأمان، وإن كان جاحداً قاسياً منافقاً كان الخراب والدمار والإرهاب هو سِمة الحياة في جميع مفاصلها.وإما أثر القلب في الآخرة فيكفي بقوله تعالى:

«يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ »(1).

خير شاهد ودليل على أثر القلب على مصير الإنسان في الآخرة.

من هنا: أراد الله تعالى أن يروض قلب الإنسان على التقوى الذي كما أسلفنا تُحدّد

ص: 125


1- سورة الشعراء، الآية ( 88 - 89 ).

به نتيجة الإنسان ومصيره في الدنيا والآخرة.

وامتحان القلب وترويضه كان له أكثر من آلية وأداة عرضها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، منها:

إحياء الشعائر، فقال تعالى:

«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(1).

وتقوى القلوب المرتبط بتعظيم الشعائر شيء، وامتحان القلوب بالتقوى شيء آخر، بمعنى تكون الشعائر وتعظيمها وسيلة لحصول التقوى في القلب، فيكون الأمر أقرب إلى نوع من الرياضة القلبية كي يصل القلب إلى هذه الرتبة فتحلّ فيه التقوى.

وأما غض الصوت في حضرته (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مركز التقوى، بمعنى من لا يعظم الشعائر لا يصل إلى التقوى القلبية فيكون القلب خاملاً.

أما غض الصوت فهو كاشف عن وجود التقوى القلبية في الأساس.

ومن ثم أصبح غض الصوت بحضرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) آلية لإمتحان القلوب وكشفها وتصنيفها إلى قلب متقي أم قلب فاجر، ولذا أعدّ الله تعالى لأصحاب هذه القلوب مغفرة وأجر عظيم.

أما من لم يغض صوته بحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أعدّ الله تعالى له، بمقتضى هذه الآية الكريمة وما قبلها الحرمان من المغفرة وإحباط العمل والعذاب الأليم، قال تعالى:

ص: 126


1- سورة الحج، الآية ( 32 ).

«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ »(1).

ثانياً: القرآن يفرض المال على من أراد أن يخاطب رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
اشارة

لم يكتف القرآن ببيان نتيجة رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في سعيه لتأديب المسلمين وتسيسهم على حدود التعامل مع أشرف ما خلق الله (عز وجل) فضلاً عن إظهاره لشأنيته وسموّ مقامه وعلو منزلته عند الله تعالى؛ كما جاء في قوله عزّ شأنه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ »(2).

ولذا: ينتقل القرآن الكريم إلى ترويض آخر للمسلمين ففرض عليهم ضريبة الأموال عند حديثهم معه (صلى الله عليه وآله) وسلم وهو منهاج جديد يكشف عن جملة من الامور منها:

أ - تحريك الجانب الغيبي

إنّ الظاهر في هذه السياسة التأديبية أنها جاءت بعد بيان القرآن لمرحلة رفع الصوت وما يرتبط به من عواقب وخيمة؛ وهو بهذه الحالة يركز على تحريك الجانب الغيبي، أي الإيمان بالغيب والاعتقاد باليوم الآخر القائم على الخوف من الله وسوء العاقبةوالثواب والعقاب، فمن رفع صوته وهو غير عامدٍ في ذلك وإنما ما تفرضه الطبيعة الصحراوية وقساوة البيئة وما نشأ عليه أبناء مكة من طبيعة جافة أن يتكلم أحدهم فيرفع صوته ومن ثم تكون النتيجة هي الخسران في الآخرة.

ص: 127


1- سورة الحجرات، الآية ( 3).
2- سورة الحشر، الآية ( 12 ).

إلا أن تحريك الجانب الإيماني ينفع من اتصف به، أي بالإيمان لقوله تعالى:

«وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الُمؤْمِنِينَ»(1).

أما من لم يكن من أهل الإيمان وجاء إلى الإسلام ليأمن على نفسه وتجارته أو لحربه، كالمنافقين وغيرهم من المؤلفة قلوبهم والطلقاء فإن هذا النوع من التأديب والتسيس لهم في رسم الحدود الشرعية لا يؤتي ثماره معهم.

ولذلك: ينتقل القرآن إلى نوع آخر من السياسة التأديبية لهم في تعاملهم مع أشرف خلق الله تعالى (صلى الله عليه وآله وسلم) فيفرض عليهم ضريبة دفع المال وهو العصب الحياتي والوجودي وتحريكاً للمشاعر النفسية حينما يجدون أن هذه الضريبة ستفرض عليهم التأدب والحذر فقد يكون الأمر في القادم من الأيام

أصعب وأعظم كلفة.

ب - فرز المسلمين وتصنيفهم إلى فئتين

إنّ هذه الضريبة الجديدة جاءت لكي تقوم بفرز المسلمين وتصنيفهم إلى فئتين، فئة صادقة في إيمانها وبما فرضه الله تعالى عليهم من فريضة التصدق وتحملهم لها؛ وبين الفئة الثانية التي لم يتجاوز الإسلام سوى شفاههم ومن ثم يكون القرآن قد

كشفهم إلى الناس وأظهر زيف ادعائهم.

ج - إنّ هذه الضريبة كانت على بعض المسلمين أشد من المطاعنة بالرماح

قد كشفت النصوص التاريخية إن هذه الضريبة كانت أشد على الناس من الجهاد وحمل السيوف والمطاعنة بالرماح والسبب في ذلك أن هذه الحروب هي مما اعتادت عليه العرب، بل كانت خير فرصة لهم لإظهار بطولاتهم والتباهي برجولتهم، وهو

ص: 128


1- سورة الحجرات، الآية ( 55 ).

أمر كان عندهم من أنفس مصاديق الحسب الذي يتباهون به ويتفاخرون فيما بينهم.

ومن ثم فهذه الحروب لم تشكل عائقاً أو رادعاً لهم في تليين نفوسهم وضبطها وتأديبها وترويضها ولم يكن لها ذلك التأثير الذي يفرضه المال.

ولذا: يخاطبهم الله تعالى بصيغة الاستفهام:

«أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَم تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّه وَرَسُولَهُ وَاللَّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(1).

وهذا لِبيان ثقل هذه الضريبة التأديبية والترويضية لهم.

د - إنّ علي بن أبي طالب (علیه السّلام) هو الوحيد الذي عمل بهذه الضريبة المالية من بين المسلمين جميعاً

ترشد النصوص الحديثية التي أخرجها الحفاظ، ومنهم الترمذي وابن أبي شيبة والحاكم، أن الآية المباركة لما نزلت بعث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) خلف الإمام علي (عليه السلام) وشاوره في مقدار هذه، الصدقة وهذا نص الرواية:

أ- رواية الترمذي من طريق سالم بن أبي الجعد عن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

(«لما نزلت «يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً»، قال لي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما ترى؟ دينار؟

قلت: لا يطيقونه.

قال: فنصف دينار؟

ص: 129


1- سورة المجادلة، الآية ( 13 ).

قلت: لا يطيقونه.

قال: فكم؟

قلت: شعيرة.

قال: إنك لزهيد.

قال: فنزلت «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ».

قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة .»

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه؛ ومعنى قوله شعيرة، يعني: وزن شعيرة من ذهب)(1).

أقول وأخرج الحديث من هذا الطريق الحافظ ابن أبي شيبة الكوفي في المصنف(2)،(3) وعبد بن حميد في المنتخب من مسنده(4)، والنسائي في السنن(5)، والموصلي(6)، وابن حبان(7)، وغيرهم، والحديث يكشف عن أمور منها:

1-إن بعث النبي (صلى الله عليه وآله) خلف الإمام علي (عليه السلام) لكي يشاوره في هذه الآية يكشف عن اختصاصه بكونه الوزير كما دلت عليه النصوص

ص: 130


1- سنن الترمذي، سورة الحشر: ج 5 ص 81 .
2- المصنف: ج 7 ص 505 .
3- منتخب مسند عبد بن حميد: ص 60 برقم 90 .
4- منتخب مسند عبد بن حميد: ص 60 .
5- السنن الكبرى: ج 5 ص 152 .
6- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 1 ص 322 .
7- صحيح ابن حبان: ج 15 ص 390 .

الكثيرة، ومنها حديث المنزلة:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي .»

ولا يخفى أن هارون كان له مناصب ومسؤوليات منها الوزارة؛ فكان لعلي (عليه السلام) ما كان لهارون؛ بل ويفوقه بكثير من المسؤوليات، ومنها الخلافة والوصاية والإمامة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2- إن تحديد الأحكام في فروعها يعود للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فالآية قد جاءت بأصل الحكم أما تفريعه ووضع احكامه الشرعية فكان بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا الحال له شواهد في جميع مفاصل الشريعة وتحديد مقاصدها.

3- إن الله تعالى قبل من علي (عليه السلام) هذا التحديد في الصدقات فحفف الله به (صلوات الله عليه) عن هذه الأمة التي لم تحفظ له هذا الإحسان.

4-إن الصحابة على الرغم من تخفيف الله تعالى عنهم هذه الضريبة إلا أنهم اشفقوا وامتنعوا عن بذلها لله تعالى، ومن ثم لم ينالوا الطهارة القلبية وحُرموا من الخير الكثير الذي أعدّه الله لهم فيما لو عملوا بهذه الصدقة، لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْر لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾

5- إن الإمام علي (عليه السلام) لما أشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم قدرتهم على الامتثال لهذا الامر الإلهي وتخفيف ما حدده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدينار إلى الشعيرة ولعله عشر وزن الدينار من الذهب يكشف عن تبحره بأمور هذه الأمة وعلمه بأحوال أهلها فكان كما أشار (عليه السلام).

ص: 131

6- إن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ليس فقط عمل بآية النجوى -كما تفيد النصوص الحديثية-، وإنما هو الوحيد الذي عمل بالمقدار الذي حدده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد أخرج ديناراً كما قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فباعه بعشر دراهم فكان يتصدق عند كل حديث يتحدث به مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى نفذت الدراهم العشرة وكأنّ الله تعالى لم ينزل الآية إلا لإظهار منزلة علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) وبيان حقيقة أنه هو الوحيد الذي يمتثل لكل أمر ينزل من السماء.

7- إن هذه الآية والعمل بها اظهرت حب الامام علي (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطهارته؛ فهو ممّن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فكان هذا العمل من سنخ طبعه وقلبه.

أما ما رواه الحفّاظ في تفرده (عليه السلام) بهذه الآية فمنهم الحاكم النيسابوري، والزيلعي، وابن مردويه، والشوكاني، والسيوطي، وغيرهم وهي كالآتي:

روى الحاكم النيسابوري عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: (قال علي بن أبي طالب -عليه السلام- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ لفي كتاب الله آية ما عم بها من أحد ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى «أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾؛ قال: «كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبي صلى الله عليه وآله، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نُسخت فلم

يعمل بها أحد فنزلت «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ .»

ص: 132

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(1).

ثالثاً: الملازمة بين مناداة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من وراء الحجرات والعقل

إن التأمل في سياق الآيات المباركة المرتبطة بآلية الخطاب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تكشف عن التنوع في السياسات التأديبية للمسلمين وترويضهم على هذا المنهج القرآني الكاشف عن حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعظيم منزلته ووجاهته عند ربه.

فبعد مرحلة التحذير برفع الصوت بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم المرتبط بالجانب الغيبي والإيمان باليوم الآخر فبينّ لهم الله نتيجة رفع أصواتهم في الآخرة وهو حبط العمل والخسران المبين.

انتقل الوحي إلى بيان مرحلة أخرى وهي فرض ضريبة دفع المال، والظاهر أنها لم تعمل على ترويضهم ودفعهم للعمل بهذه الحدود وإنما كان اتجاهها في كاشفيتها للمسلمين وتصنيفهم وتميز الإمام علي بن ابي طالب (عليه الصلاة والسلام) عليهم،

فكان صاحب هذه المنقبة الاوحد الذي لم يشترك بها معه أحد.

ثم ينتقل القرآن الكريم إلى آلية جديدة في بيان سياسة التأديب والتعامل مع سيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) فميزهم في هذه المرة على التفاوت بين العقل والجهل ومن ثم أراد بذلك بعض الأمور منها:

التخفيف عن رسول الله صلى الله (عليه وآله وسلم) فبيّن له أن هؤلاء الذين

ص: 133


1- المستدرك على الصحيحين: ج 2 ص 482 ؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 3 ص 340 ؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2 ص 213 ؛ الدر المنثور للسيوطي: 2 ص 313 ؛ فتح الغدير للشوكاني: ج 5 ص 191 ؛ تفسير الآلوسي: ج 28 ص 31 ؛ مناقب علي بن أبي طالب لانب مردويه: ص 332 .

ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون فهم جهّال ومن ثم يتطلب الأمر مداراتهم وتحملهم والصبر عليهم وهو ما يصب في تعظيم حرمته (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنزلته عند الله تعالى.

تمييزهم بين المسلمين ضمن صفة الجهّال وذلك لمحذورية التعامل معهم.

وسيلة رادعة لمن أرتكز قيامه الاجتماعي والأسري والطبقي في المجتمع على اعتبارات مادية أو حسبية وعشائرية، ومن ثم فهو حريص على حفظ هذا الجاه وصونه من التقويض حينما ينسب إليه صفة الجهل فيندفع إلى التأدب بآداب الوحي التي تروض على خفض الصوت بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم ومنع مناداته

من وراء الحجرات، قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الُحجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(1).

«وَلَوْ أَنَّهمْ صَبَروا حَتَّى تَخرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرا لَهمْ وَاللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ»(2).

والآية تكشف عن ضرورة تقديم حب النبي على حب النفس كي يندفع الإنسان حينها إلى الصبر فيكون خيراً له، وينال المغفرة والرحمة الإلهية.

فضلاً عن ترويض النفس وتأديبها، وذلك لما له من الإيمان كما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام فقال:

«الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان .» (3).

ص: 134


1- سورة الحجرات، الآية ( 4).
2- سورة الحجرات، الآية ( 5).
3- الكافي للكليني: ج 2 ص 87 .

وهذا كله يكشف عن التشريفات الإلهية في مخاطبة سيد الأنبياء والمرسلين وخير رسل رب العالمين (صلى الله عليه وآله أجمعين) الذي لم تنحصر حرمته في حياته وإنما هي سارية في الأمة بعد مماته (صلى الله عليه وآله) وسلم وهذا ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: حرمة مخاطبته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حياً كحرمته ميتاً
اشارة

إن دراسة هذه الخصوصيات النبوية ترشد القارئ والباحث إلى بيان الحكمة في وقوف الإمام علي (عليه السلام) بعد دفنه فاطمة (عليها السلام) وهو يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مفتتحاً كلامه بالسلام عليه ثم أفرد سلام ابنته عن سلامه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومما لا شك فيه أن في ذلك حكمة أراد الإمام علي (عليه السلام) بيانها إلى الناس، ومنها أن حرمته (صلى الله عليه وآله وسلم) حياً كحرمته ميتاً.

فما يجري من الآداب والآثار والتشريفات والحرمة في مخاطبته حياً كذلك يجري في مخاطبته ميتاً، ولذلك أظهر الإمام علي (عليه السلام) بهذا الحديث هذه الحرمة والتشريفات، وهي كالآتي:

1-غض الصوت.

2- الابتداء بالسلام.

3- مناجاته.

-3-الشكوى إليه.

4- اشهاده (صلى الله عليه وآله) على ظلامته وظلامة ابنته.

ص: 135

وهذا الأسلوب الكاشف عن حرمته (صلى الله عليه وآله وسلم) حياً كحرمته ميتاً قد دلّت عليه نصوص كثيرة، فمنها ما جاء به الوحي وصرح به القرآن الكريم، ومنها ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم يخرج عن الحد الذي أقره القرآن الكريم بوصفه:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الَهوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(1).

ومن هذه النصوص الكاشفة عن الملازمة بين الحياة والممات في ثبوت حرمته (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يلي:

أولاً: مقام الشهودية

1-قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَی النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(2).

وهنا يقتضي النص المبارك شهوديته على الأمة ودوام هذه الشهودية حياً وميتاً مثلما يقتضي كون هذه الأمة هي الشاهدة على الأمم، فمقتضى الحال يلزم أن تكون هذه الشهودية متجددة ودائمة في كل زمان ولا ينحصر الأمر بزمانه (صلى الله عليه

وآله وسلم)، وإلا لتعطل مرادها وغايتها.

2- قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(3).

﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهمُ الْارْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه

ص: 136


1- سورة النجم، الآية ( 3- 4).
2- سورة البقرة، الآية ( 143 ).
3- سورة النساء، الآية ( 41 ).

حَدِيثًا)(1).

والآيتان المباركتان واضحتان في بيان هذه الخصيصة النبوية للمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام الشهودية حياً كان أو ميتاً إذ لو كان الأمر محصوراً بزمانه لانعدم مفهوم الآية ومصداقها وهي تنص بوضوح على انه هو الشاهد على الامم

السابقة واللاحقة في كل مكان وزمان حتى انقضاء عمر الدنيا، ولذا بين الله تعالى حال الذين كفروا وعصوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة.

من هنا: نجد أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو يُشهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما جرى عليه وعلى أهل بيته، وما نزل بهم من الظلم والجور؛ وهي خصوصية انفرد بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) فهم شهداء على أممهم ما داموا فيهم، ولكن بعد موتهم ينقطع عنهم مقام الشهودية، وهذه الحقيقة أظهرها القرآن الكريم في بيان حال نبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام)، قال تعالى:

﴿مَا قُلْتُ لَهمْ إلِا مَا أَمَرْتَنيِ بهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّه رَبِّ وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّ تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَی كُلِّ شَیءٍ شَهِيدٌ)(2).

في حين يكشف القرآن الكريم عن حال مختلف للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى:

﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(3).

ص: 137


1- سورة النساء، الآية ( 42 ).
2- سورة المائدة، الآية ( 117 ).
3- سورة النساء، الآية ( 41 ).

وقوله تعالى:﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِی كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بكِ شَهِيدًا عَلَی هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَیءٍ وَهُدًى وَرَحْمةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(1).

وغيرها من الآيات التي تظهر مقام الشهودية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان حرمته (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً، قال تعالى:

ثانياً: مراقبة الاعمال ورؤيتها

جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالُمؤْمِنُونَ وَسَتُردُّونَ إِلَا عَالِم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَ كُنْتُمْ تَعْمَلُون)(2).

والآية كاشفة عن مقام المراقبة والمتابعة للأعمال الصادرة عن هذه الأمة وإن هذه الأعمال التي هي بمشهد منه ومسمع تعرضها الملائكة بين يديه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مماته كما عرضتها عليه في حياته.

من هنا:

يتضح القصد في وقوف الإمام علي (عليه السلام) في الروضة النبوية، ومخاطبته رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واشهاده على ما جرى، والشكاية إليه، ومطالبته له (صلى الله عليه وآله وسلم) بسؤال فاطمة (عليها السلام) واستخبارها، وهو:

كل ذلك يدل على الملازمة بين حرمته حياً وحرمته ميتاً، وإن هذه التشريفات الإلهية والحدود الشرعية سارية في الحالين.

ص: 138


1- سورة النحل، الآية ( 89 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 105 ).
ثالثاً: إن القول ببدعة الشكوى إليه وزيارته بعد موته هو مخالفة صريحة للقرآن الكريم

إنّ ما يدعوا إليه الفكر السلفي الوهابي في بدعة الشكوى إليه (صلى الله عليهوآله وسلم) بعد موته، والتوسل به، ومناجاته، وزيارته، هو مخالفة صريحة للقرآن الكريم –كما سيرد تفصيله– فهذا الفكر المرتكز على جملة من المعطيات المنحرفة هو غاية التجري على الله تعالى؛ إذ يدفع بالأمة إلى الانحراف عن جادة الشريعة المحمدية فها هي الآيات الكريمة التي تنص بوضوح على شهوديته ومراقبته ورؤيته لأعمال الأمة تسري بها الملائكة إلى الروضة النبوية فتعرضها عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تعرج بها إلى الله تعالى، ومن ثم تعاد الكرة مرة آخرى في كل

عام في ليلة القدر كما نص قوله تعالى:

﴿تَنَزَّلُ الَمائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)(1).

فعلى من تنزل ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ في هذه الليلة؟

وعليه:

فقصدية هذه الشكوى من الامام علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومناجاته بهمومه وتظلمه وهو خير السلف بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقف بين يديه في قبره، يشكو إليه، ويبث حزنه وتظلمه، وهذا خير دليل على بطلان هذا القول والفكر؛ ومن ثم: فإن اصحاب هذه الدعوى بأي سلف

يتمسكون؟ ولأيِّم يتبعون في قولهم (ببدعة) زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومناجاته بعد موته!؟

ص: 139


1- سورة القدر، الآية ( 4).

ص: 140

المبحث الرابع: مقاصدية السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن نفسه وعن فاطمة (علیها السّلام)

اشارة

ص: 141

قوله (عليه السلام) «السَّلامَ علَيكْ ياَ رسَوُلَ اللَّه عنَّي،

والسَّلامَ علَيكْ عنَ ابنْتَكِ »َ

ص: 142

للوقوف على القصدية في إفراد الإمام علي (عليه السلام) في مخاطبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (السلام عن نفسه) وتخصيصه للسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن فاطمة (عليها السلام) فقال:

«والسلام عليك عن ابنتك » وفي لفظ «عني وعن ابنتك » يلزم الوقوف عند بعض المسائل التي تقتضيها الدراسة، فكانت كالآتي:

المسألة الأولى: دلالة لفظ السلام في اللغة
اشارة

يتناول ابن منظور لفظ (السلام) أو (سلم) في لسان العرب في عرض مستفيض يظهر فيه دلالة هذه اللفظة عند العرب معتمداً في ذلك على القرآن الكريم واشعارهم فكانت على النحو الآتي الذي نبتغي من وراءه المقاربة الى قصدية منتج النص (عليه السلام):

1- البراءة.

(قال: السلامُ والسلامة: البراءة:

قال سيبويه: وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الَجاهِلُونَ قَالُوا سَلا مَا﴾ معناه: تسلماً وبراءة ولا خير بيننا وبينكم ولا شر، وليس على السلام المستعمل في التحية لأن الآية مكية ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين.

وإن أبا ربيعة كان يقول: إذا لقيت فلاناً فقل: سلاماً، أي: تسلماً.

ص: 143

ومنهم من يقول: سلامٌ، أي: أمري وأمرك المبارأة والمتاركة)(1).

2- المسالمة من التعدي

ويأتي (السلام) في كلام العرب ليدل على المسالمة من أن يتعدى أحدهم على الآخر أو يتأثمان فيقع الإثم بينهم، وهذه أقوالهم في هذه الدلالة:

قال ابن عرفة: قالوا سلاماً، أي: قولاً يتسلّمون فيه ليس فيه تعدّ ولا مأثم.

وكان العرب في الجاهلية يحيُّون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحاً، وأبيت اللعن؛ ويقولون سلام عليكم، فإنه علامة المسالمة وأنه لا حرب هنالك.

ثم جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام وأمروا بإفشائه.

وقوله سبحانه:

﴿قَالُوا سَلامًا)(2).

قال ابن عرفة: (أي، سلّموا سلاماً، فأمري سلام لا أريد غير السلامة)(3).

3- التحيّة

قال ابن قتيبة: يجوز أن يكون السلام والسلامة لغتين كاللذاذ واللذاذة، وأنشد:

يحيي بالسلامة أم بكرٍ*** وهل لك بعد قومك من سلامُ

وقال أيضاً: ويجوز أن يكون السلام جمع السلامة.

ص: 144


1- لسان العرب: ج 12 ص 289 .
2- سورة الفرقان: الآية ( 63).
3- لسان العرب: ج 12 ص 290 .

وقال أبو الهيثم: السلام والتحية ومعناهما واحد)(1).

4- السلامة

وهذه الدلالة مشتقة من اسم الله (السلام) الذي ورد ضمن اسماء الله الحسنى كما في قوله تعالى:﴿هُوَ اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَملِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الُمؤْمِنُ الُمهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الَجبَّارُ

الُتتَكَبّر سُبْحَانَ اللَّه عَمَّا يُشْركُونَ»(2).

وسمي به نفسه سبحانه لسلامته من النقص والعيب والفناء.

وقيل معناه أيضاً: أنه سلم مما يلحق الغير من آفات الغير والغناء، وأنه الباقي الدائم الذي تُفنى الخلق ولا يفنى، وهو على كل شيء قدير، والسلام في الأصل السلامة.

ومنه قيل للجنة: دار السلام، لأنها دار السلامة من الآفات(3).

5-التسليم.

وقد اخذت هذه الدلالة من قوله تعالى:

﴿...فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَ نَفْسِهِ الرَّحْمةَ...»(4).

فضلاً عن قوله سبحانه في تخصيص الصلاة والسلام على رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال سبحانه:

ص: 145


1- المصدر السابق.
2- سور ة الحشر، الآية ( 23 ).
3- لسان العرب: ج 12 ص 291 .
4- سورة الأنعام، الآية ( 54 ).

﴿إِنَّ اللَّه وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَی النَّبِيِّ يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾(1).

وهذه الدلالات للفظ (السلام) في اللغة ستفيد في بيان قصدية منتج النص في فصل (السلام) عنه وعن فاطمة (عليهما السلام)، وستظهر ايضاً قصدية تأخير منتج النص للضمير (عليك) عن لفظ (السلام)، وذلك من خلال العرض القرآني لموارد السلام ودلالاته، وهو ما سنعرض له في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: دلالة لفظ (السلام) في القرآن الكريم
اشارة

قد ينصرف ذهن القارئ والباحث إلى أن الإمام علي (عليه السلام) قد ابتدأ خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسلام عليه دون قصد منه، أو لعله مجاراة للعرف السائد بين المسلمين لا سيما وأنه تحية الإسلام.

أو لأن الله تعالى قد سلّم على الأنبياء وخصهم بذلك حيث أشار القرآن إلى جملة من ذلك فذكر بعضهم فسلم عليهم لبيان طريقة التعامل معهم، فقال سبحانه:

﴿سَلَامٌ عَلَی نُوحٍ فِی الْعَالِمينَ﴾(2).

﴿سَلَامٌ عَلَی إِبْرَاهِيمَ﴾(3).

﴿سَلَامٌ عَلَی مُوسَى وَهَارُونَ﴾(4).

ص: 146


1- سورة الأحزاب، الآية ( 56 ).
2- سورة الصافات، الآية ( 79 ).
3- سورة الصافات، الآية ( 109 ).
4- سورة الصافات، الآية ( 120 ).

﴿سَلَامٌ عَلَی إِلْ يَاسِينَ﴾(1).

وقد سلّم عيسى ابن مريم (عليهما السلام) على نفسه فقال كما ورد في سورة مريم: ﴿وَالسَّلامُ عَلَّی يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(2).

وهذه الآيات المباركة وإن كانت قد خصت الأنبياء بالسلام إلا أنها في الوقت نفسه تفيد بخلوها من الضمير فقد جاءت بلفظ (السلام) من دون (السلام عليك)، في حين نجد أن القرآن الكريم قد أورد لفظ السلام مع الضمير في آيات أخر فهل هناك فرق بين المقامين؟ وما هي الحكمة في ذلك؟

أولاً: ورود لفظ (السلام) مجردة عن الضمير (المفرد) أو (الجمع) في القرآن الكريم
اشارة

إن لفظ (السلام) جاء في القرآن الكريم منفرداً عن الضمير ومضافاً إليه، فقد ورد بلفظ ﴿سَلامًا﴾، ﴿سَلاٌم عَلَيْكَ﴾، ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ ولبيان المقاصدية التي أوردتها الآيات المباركة سنقوم بإيرادها على النحو الآتي:

﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ...﴾(3).

﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾(4).

﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الْنَهارُ خَالِدِينَ

ص: 147


1- سورة الصافات، الآية ( 130 ).
2- سورة مريم، الآية ( 33 ).
3- سورة يونس، الآية ( 10 ).
4- سورة هود، الآية ( 69).

فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهمْ تَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾(1).

﴿تَحيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهمْ أَجْرًا كَرِيمًا)(2).

وقد سلّم الله سبحانه على الأنبياء –كما مر آنفاً-.

﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾(3).

﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾(4).

﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾(5).

﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الَجاهِلُونَ قَالُوا سَلَمًا﴾(6).

ولا شك أن للقرآن الكريم مقاصدية في ذلك والتي يمكن اجمالها بأربعة قصديات، هي:

الف- التحية.

وقد ورد هذا المعنى صريحاً في هذه الآيات كما في قوله تعالى في بيان حال أهل الجنة:

ص: 148


1- سورة إبراهيم، الآية ( 23 ).
2- سورة الأحزاب، الآية ( 44 ).
3- سورة الزخرف، الآية ( 88 - 89 ).
4- سورة الذاريات، الآية ( 25 ).
5- سورة القدر، الآية ( 5).
6- سورة الفرقان، الآية ( 63 ).

﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ...﴾.

﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الْنْهارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهمْ تَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾.

﴿تَحيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾.

﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ...﴾

﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الْنْهارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهمْ تَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾

﴿تَحيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾

باء- البراءة.

وقد جاء هذا المقصد ويستدل عليها في قوله تعالى: ﴿وَقيِلهِ يَا رَبِّ إنِّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾.

وهنا قد تبرأ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والملائكة منهم؛ وكذا حال المؤمنين حينما يخاطبهم الجاهلون.

جيم- المسالمة من التعدي.

ويمكن أن يستدل عليه في بيان القرآن الكريم لحال إبراهيم الخليل (عليه السلام) حينما دخل عليه الملائكة مستنكرين بهيئة الآدميين فاستنكر حالهم ولمعرفتهم بما دخل عليه منهم ابتدئوه بقولهم ﴿سَلَامًا﴾ كما جاء في قوله تعالى:

ص: 149

﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ..﴾(1).

-1 ﴿.. قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾(2).

دال- السلامة.

ويمكن أن نستدل على هذه القصدية من خلال هذه الآيات:

في بيان صفة ليلة القدر فقال ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾(3).

وفي تبيان حال الجنة فقال عز وجل ﴿لَهمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾(4).

والملاحظ: إن هناك تسالماً في انطباق معاني المعجم اللغوي مع القرآن الكريم في قصدية لفظ (السلام)، أما قصدية اضافة ضمير المفرد والجمع الى لفظ (السلام) سنتناوله فيما يلي.

ثانياً: المقاصدية في ورود لفظ )السلام) مضافاً إلى ضمير المفرد (عليك) وضمير الجمع (عليكم) في القرآن الكريم.
اشارة

لم ترد صيغة (السلام) مضافة إلى ضمير المفرد إلا في موضع واحد وهو عند حديث إبراهيم الخليل عليه السلام مع عمه آزر كما ورد في قوله تعالى:

﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّی إِنَّهُ كَانَ بِی حَفِيًّا﴾(5).

أما الآيات التي ورد فيها لفظ )السلام) مضافاً إلى ضمير الجمع(عليكم) فهي:

ص: 150


1- سورة هود، الآية ( 69 ).
2- سورة الذاريات، الآية ( 25 ).
3- سورة القدر، الآية ( 5).
4- سورة الأنعام، الآية ( 127 ).
5- سورة مريم، الآية ( 47 ).

﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَی نَفْسِهِالرَّحْمةَ﴾(1).

﴿وعَلَی الْاعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الَجنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَم يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾(2).

﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهمْ وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾(3).

﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الَملائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الَجنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(4).

﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الَجاهِلِينَ﴾(5).

﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهمْ إِلَی الَجنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُها وَقَالَ لَهمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾(6).

وللوقوف على مقاصدية الآيات المباركة وبيان الحكمة في مخاطبة الإمام علي (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ب(السلام عليك) فيلزم أن نقرنها بالمعنى اللغوي ودلالته عند العرب، وهي كالآتي:

ص: 151


1- سورة البقرة، الآية ( 54 ).
2- سورة الأعراف، الآية ( 46 ).
3- سورة الرعد، الآيتان ( 24 - 25 ).
4- سورة النحل، الآية ( 32 ).
5- سورة القصص، الآية ( 55 ).
6- سورة الزمر، الآية ( 73 ).
القصدية الأولى: المبارأة والمتاركة.

وقد ورد هذا المعنى في مقصد الآية المباركة التي تحدثت عن حال نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام في دعوته عمه آزر إلى التوحيد ونبذ عبادة الأوثان فلما وجده عاكفاً على الوثنية تبرّأ منه وتركه، وجاء ذلك في قوله تعالى:

﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّ إِنَّهُ كَانَ بِی حَفِيًّا﴾(1).

القصدية الثانية: الإذن في الدخول.

وقد جاء هذا المقصد صريحاً في آيتين مباركتين وهو يكشف عن الاستئذان في الدخول، وهما كالآتي:

قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الَملَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الَجنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(2).

ونلاحظ هنا أن الملائكة تستقبل الطيبين فتلقي (عليهم السلام) إيذاناً منها لهم بدخولهم الجنة إذ لا يعلم القادم هل يؤذن له بالدخول أَم أن ورائه مسائل اخرى قبل دخوله الى الجنة.

وهنا أرادت الملائكة أن تطمئن هؤلاء الطيبين بحصول الإذن لهم في الدخول إلى الجنة فقالت لهم ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الَجنَّةَ﴾.

قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهمْ إِلَی الَجنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُها وَقَالَ لَهمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾(3).

ص: 152


1- سور ة مريم، الآية ( 47 ).
2- سورة النحل، الآية ( 32 ).
3- سورة الزمر، الآية ( 73 ).

وهنا في هذه الآية المباركة لا يختلف الحال عن إظهار القصدية في حصول الإذن للذين اتَّقوا ربهم في دخولهم الجنة كما هو صريح في قول الملائكة ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾.

القصدية الثالثة: البراءة.

كما جاء في قوله تعالى:

﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الَجاهِلِينَ﴾(1).

القصدية الرابعة: السلامة.

جاءت هذه القصدية في بعض الآيات، منها:

﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَی نَفْسِهِ الرَّحْمةَ﴾(2).

﴿وَعَلَی الْاعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الَجنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَم يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾(3).

وغيرها من الآيات المباركة، إلا أن الذي نحن بصدده هو القصدية الثانية، وهو طلب الإذن بالقول، فهو الذي قصده الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حينما حوّل بوجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:

ص: 153


1- سورة القصص، الآية ( 55 ).
2- سورة الأنعام، الآية ( 54 ).
3- سورة الأعراف، الآية ( 46 ).

«السلام عليك يا رسول الله عني والسلام عليك عن ابنتك .»

فقد أراد الإذن في الدخول إلى حضرته الفردوسية -كما سيمر مزيداً من البيان في هذه الدراسة-.

ثالثاً: قصدية تأخير الضمير على لفظ (السلام) فقال: «السلام عليك يا رسول الله » ولم يقل «عليك السلام .»

لم يكن أمير المؤمنين، الإمام علي (صلوات الله وسلامه عليه) غير مدرك لمن يخاطب ويحادث بل كان عارفاً وهو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترجمان الوحي أنه يخاطب سيد الخلق وأشرفهم، ومن ثم فهو يظهر منالخصائص والمقامات والدرجات التي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم يكن تعداده يسيراً، فالناظر إلى هذه المفردات وما اكتنزته من معان ودلالات لتجعله محتار فيها، ومنها تأخير الضمير في (السلام) وعدم تقديمه، فقال (عليه السلام):

«السلام عليك يا رسول الله » ولم يقل عليك السلام يا رسول الله.

والعلة فيه هي:

لقد اعتادت العرب في كلامها وخطابها مع الآخر أن تقدم لفظ (السلام) في حالة التسليم والتحية على الأحياء، أما تقديم الضمير فيقولون (عليك السلام) فهو عند مخاطبتهم الموتى وإلقاء التحية عليهم.

قال ابن منظور: (وهذه الإشارات إلى ما جرت به عاداتهم في المراثي، كانوا يقدمون ضمير الميت على الدعاء كقوله:

عليك سلام من أمير، وباركت*** يد الله في ذاك الأديم الممزق

ص: 154

وكقول آخر:

عليك سلام الله قيس بن عاصم*** ورحمته ما شاء أن يترحما

وإنما فعلوا ذلك لأن المسلم على القوم يتوقع الجواب وأن يقال له: (عليك السلام) فلما كان الميت لا يتوقع منه جواب جعلوا السلام عليه كالجواب)(1).

(إنَّ العرب اعتادت ايضاً أن تقدم (السلام( على الضمير في الخير والدعاء والمدح، أما في الشر والذم فيقدم الضمير على (لفظ السلام)(2).

وقد جرى القرآن الكريم على عادتهم في تقديم الضمير في الذم والشر، كقوله تعالى:﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَی يَوْمِ الدِّينِ﴾(3).

﴿..عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ..﴾(4).

وعليه: فإن قيام أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام بتقديم لفظ السلام على الضمير في مخاطبته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن حول وجهه إلى قبره الشريف إنما كي: يفهم المتلقي لهذا الخطاب، أي: السامع والقارئ والباحث أنه

يخاطب حياً من الأحياء، وليس ميتاً توارى تحت الثرى، بل إنه حياً يسمع سلامه ويرد جوابه ويتألم لتألمه وتظلمه وشكواه.

ولذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يشكو إليه ما نزل به وبفاطمة (عليها السلام)

ص: 155


1- لسان العرب لابن منظور، مادة: سلم، ج 12 ص 290 .
2- المصدر السابق: ص 291 .
3- سورة ص، الآية ( 77 ).
4- سورة الفتح، الآية ( 6).

من أصحاب السقيفة وأشياعهم وأتباعهم كما سيمر بيانه.

أما ما ورد في السُّنة من مخاطبته (صلى الله عليه واله وسلم) أموات المسلمين بقوله:

«سلام عليكم دار قوم مؤمنين .»(1).

فلا شك هو مخصوص بدار الآخرة وفئة خاصة، وهم المؤمنون، وهو في مقام الدعاء والمدح، لا في مقام التحية التي تقتضي الجواب، ما خلا الشهداء فهم أحياء عند ربهم يرزقون كما ورد في محكم التنزيل.

ولكن ما زال هناك سؤال يطرح في البحث وهو: لماذا فصل الإمام علي (عليه السلام) سلامه على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن سلام فاطمة (عليها السلام) فقال:

«السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك .»(2).

كما رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة، ورواه الشيخ الكليني بلفظ:

«السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عليك عن ابنتك .»(3).

هذا ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثالثة: القصدية في قوله (علیه السّلام) «عني وعن ابنتك . »
اشارة

تظهر قصدية منتج النص (عليه السلام) في فصل سلامه عن سلام فاطمة (عليها السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال بعض المعطيات

ص: 156


1- مسند أحمد: ج 2 ص 300 .
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 319 .
3- الكافي: ج 1 ص 459 .

الفكرية، وهي كالآتي:

أولاً: القرآن الكريم يمنع الناس من الدخول إلى بيت النبي إلا بإذن منه .

إن من التشريعات الإلهية في بيان شأنية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرمته عند الله تعالى أن شرّع للمسلمين أحكاماً تحدد لهم كيفية التعامل مع سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان منها ما ارتبط في الدخول إلى

بيوته (صلى الله عليه وآله)، فقال سبحانه:

﴿أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ..﴾(1).

وبيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفقه الاسلامي هي (وقف عين) في حياته وبعد مماته على حدٍ سواء، فلا يجوز لأحدٍ أن يدخل بيوت النبي (صلى الله عليه وآله) إلا أن يأذن له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذه البيوت بناها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي غرف تسعَ، فأنزل فيها أزواجه، فلما توفي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقت هذه الوقفية محصورة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تنقل لأزواجه، فلا يحق لأحد منهن أن تتصرف في هذه البيوت، أو تدخل عليه أي شخص كان كما فعلت عائشة! إذ أدخلت أبيها وصاحبه عمر بن الخطاب إلى بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مخالفة صريحة للقرآن الكريم!

وعليه:

اتَّبَع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في سلامه على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أمر به القرآن الكريم في أخذ الإذن في الدخول من خلال السلام كما مرّ

ص: 157


1- سورة الأحزاب: الآية ( 53 ).

بيانه في المسألة الأولى التي عرضنا فيها الآيات الكريمة التي أشارت إلى أن استعمال لفظ السلام مقروناً بالضمير (عليك) يراد به الإذن في الدخول

ثانياً: أخذ الإذن في الدخول إلى الروضة النبوية لفاطمة (علیها السّلام)

إن القصدية في فصله (عليه السلام) بين سلامه على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلام فاطمة (عليها السلام) هو لأخذ الإذن لها في الدخول على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في روضتة الفردوسية؛ ولذا تراه قال:

«السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عليك عن ابنتك .»

إلا أن ثمة سؤال آخر لماذا يأخذ الإمام علي (عليه السلام) الإذن لفاطمة (عليها السلام) وهي ابنته، فهل هي بحاجة إلى أن يأخذ علي (عليه السلام) لها الإذن في الدخول؟

وللإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى جملة من القرائن التي تثبت أن فاطمة (عليها السلام) مع ما لها من شأنية وخصوصية وكينونية، فهي ابنته وقرة عينه وحبيبته، لكنها غير مستثناة من هذا القانون الذي يلزم كل من أراد الدخول

على سيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستأذن منه.

فكيف يتم الاستئذان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته؟ ولماذا الإمام علي (عليه السلام)؟ وجوابه:

لأن الإمام علي (عليه السلام) هو وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)،

ص: 158


1- ينظر ورود النص بهذا اللفظ:الامالي للصدوق: ص 354 ؛ شرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد: ج 3 ص 231 ؛ العثمانية للجاحظ: ص 293 ؛ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 179 .

وحصر الإذن فيه يكون أمراً بديهياً كما هو ثابت في أحكام الوصية والموصى إليه.

لأنه (عليه السلام) هو خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) من بعده بالنص الإلهي(1) الذي يتهافت أمامه كل نص اقتضته المصالح العامة، أو الاستحسانات العقلية، أو

الأعراف الاجتماعية، أو القواعد العشائرية.

إنَّ الإمام علي (عليه السلام) هو مولى كل مؤمن ومؤمنة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما نص عليه في يوم غدير خم فقال (صلى الله عليه وآله):

«من كنت مولاه فهذا علي مولاه .» (2).

إنَّ امير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما نص عليه الوحي في محكم التنزيل في آية المباهلة(3)، ونصت عليه النصوص الواردة عنثقل القرآن وترجمانه والناطقين به عترته أهل بيته (عليهم السلام)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً(4).

فهذه القرائن وغيرها من النصوص الشريفة كلها تفيد في بيان قصدية منتج النص في فصله (عليه السلام) في سلامه عن سلام فاطمة (عليها السلام) في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كما أمر الوحي ونص عليه في محكم التنزيل، فضلاً

عن ذلك فالإمام علي (عليه السلام) يريد من هذا السلام ليس انحصار أمر دخول فاطمة (عليها السلام) إلى الروضة النبوية فقط، وانما الدخول إلى بيته الذي حوى في داخله قبره الشريف.

ص: 159


1- الامالي للصدوق: ص 354 .
2- مسند احمد: ج 1 ص 84 .
3- سورة آل عمران، الآية ( 61 ).
4- سورة الاحزاب، الآية ( 33 ).

ومن ثم لم يكن دوره (عليه السلام) منحصراً في كونه الخليفة والوصي وانما هو الوحيد من له الحق في ادخال المسلمين إلى بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

بمعنى الحال يجري مجراه والحكم ثابت في الدنيا والآخرة فلا يحق لأحد أن يدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة إلا أن يأخذ بذلك صك بإذن الدخول من علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ولعل تتبع النصوص وإيراد القرائن ليخرج البحث عن مساره ومنهاجه ولكن نكتفي بقوله (صلى الله عليه وآله) الذي أخرجه ابن المغازلي الشافعي (المتوفى 483 ه) بسنده إلى ابن عباس أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):«إذا كان يوم القيامة أمر الله جبرائيل أن يجلس على باب الجنة فلا يدخلها إلا من

معه براءة من علي بن أبي طالب .» (1).

فإذا كان هذا حال سيدة نساء العالمين وبضعة الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تدخل إلا أن يأخذ لها أمير المؤمنين عليه السلام الإذن في الدخول على أشرف الخلق وسيدهم وحبيب رب العالمين.

فكيف حال من أبغض علياً وناصبه العداء وجاهر في حربه وقتاله وقتال أهل بيته وشيعته ومحاربتهم!!؟.

إنه سؤال يحتاج إلى إعادة النظر في الحياة وتقرير المصير فإما إلى الجنة وإما إلى النار.

ص: 160


1- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لابن المغازلي: ص 118 .

المبحث الخامس: المقاصدية في إيراد منتج النص لفظ: (إبنتك، وقرةّ عينك، وزائرتك)

اشارة

ص: 161

قوله (عليه السلام) «واَلسَّلام علَيكْ عنَ إبِنْتَكِ،َ وحَبَيبتَكِ،َ وقَرةّ عيَنْكِ،َ وزَائرِتَكِ،َواَلنازِلَةَ في جِوارِكَ »

ص: 162

ينتقل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد البدء بالسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطلب الإذن له ولفاطمة في الدخول إلى حضرته المقدسة -كما يفيد البحث الذي مرّ آنفاً- إلى بيان معطى فكري ومادة معرفية جديدة فيقول:

«والسلام عليك عن ابنتك، وحبيبتك، وقرة عينك، وزائرتك، والنازلة فی جوارك .»

والذي نحن بصدده في هذه الدراسة مقاربة قصدية منتج النص (عليه السلام) في ايراده لهذه الصفات المرتبطة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذه النسبة التي بينه وبين فاطمة (عليها السلام)، ولذا: يخاطبه بها، أي بهذه الصفات، فهذه ابنته وقرة

عينه وزائرته، ومن ثم يبقى السؤال قائماً والبحث ملازماً:

ماهي قصدية منتج النص باختياره لهذه الصفات دون غيرها وهي: «ابنتك، وقرّة عينك، وزائرتك، والنازلة في جوارك ».

فما هو هذا النزول؟ وأي مجاورة يقصد؟.

أما ما سبقه من البيان الكاشف عن منزلتها (عليها السلام) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ينصرف ذهن القارئ الكريم إلى أنه لا حتاج إلى تدليل أو شواهد، فلقد علم كل من كان له أدنى اطلاع على السيرة النبوية أن يدرك ما لفاطمة (عليها السلام) من الشأن وعند رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 163

فهي ابنته، وقرة عينه، وحبيبته؛ في حين أنه في الواقع يحتاج إلى بيان وبحث وتأمل أيضاً فهو لا يقل أهمية عن (المجاورة) و (النزول) الذي حمله النص الشريف.

وعليه:

يلزم بيان هذه المفردات الثلاثة ضمن مسائل يتخللها بعض الفقرات التي يقتضيها البحث، وهي كالآتي:

المسألة الأولى: القصدية في إيراد لفظ (إبنتك) وكاشفية بنوة غيرفاطمة (علیها السّلام)
اشارة

يُعد أمر كون الزهراء (صلوات الله عليها) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) من المسائل البديهية الثابتة بثبوت الرسالة المحمدية، فلماذا يورد الإمام علي (عليه السلام) هذه النسبة والصفة في سلامه على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول:

«عني وعن ابنتك .»

في حين قد تسالم الحال والعرف الإيماني أن يخاطب الشهيد والميت الذ شُهد له بالتقوى أن يحمل السلام إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخاطبه أهله وخواصه ويحمّلونه سلامهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن

في حال فاطمة (عليها السلام) وجدنا العكس، فقد حمل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) سلامها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومقتضى الحال كان يلزم أن يحملها الإمام علي (عليه السلام) سلامه إلى أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله

وسلم)؟

فضلاً عن ذلك نجده (عليه السلام) في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يردف سلام فاطمة بنسبتها فيقول:

ص: 164

«والسلام عليك عن ابنتك .»

وعليه:

فما هو مراده من ذلك؟ لاسيما: وأنّ مقتضى الحال الذي يقتضيه النص الشريف أن يكون إيراد لفظ «ابنتك » متسالماً وواضحاً، ومن ثم فأن مير المؤمنين علي (عليه السلام) لا يأتي بالألفاظ دون أن يكون لإتيانها معانٍ ومعارف عديدة.

وهذا ما نحاول أن نقف عنده بحسب ما يعيننا التوفيق واللطف الإلهي ومايسعفنا به النص الروائي والشواهد والقرائن.

أولاً: هل للنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ابنة غير فاطمة (علیها السّلام)

إن الإجابة على هذا السؤال عند معظم المسلمين والباحثين منهم والمشتغلين بالسيرة والتاريخ واضحة بالإيجاب؛ فللنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بنات ثلاث غير فاطمة (صلوات الله عليها) كما تفيد النصوص التاريخية وهن (زينب، ورقية، وأم كلثوم).

وقد حظي عثمان بن عفان باثنين منهن، وهما (رقية وأم كلثوم)، وعلى أثر ذلك لقب عثمان بن عفان ب (ذي النورين) وشاع ذلك في الآفاق.

أما (زينب) فقد تزوجها أبي العاص بن الربيع، قبل النبوة(1)، وقيل بعدها(2)،

وقد أسلمت بينما بقي زوجها على شركه.

إلا أن التحقيق والدراسة في سيرتهن التي تناولتها المصادر الإسلامية المختصة بالسيرة النبوية والتاريخ والتراجم قد خلصت الى حقيقة كونهنَّ لسنَ بنات

ص: 165


1- طبقات ابن سعد: ج 8، ص 140 ، من رواية الواقدي.
2- سير أعلام النبلاء للذهبي، قسم السير والتراجم: ج 3، ص 501 .

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لما احتوته هذه السيرة من نصوص مخالفة للثوابت الشرعية والعقلية، ولقد تناولنا هذا الموضوع بدراسة مكثفة في كتابنا (خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة) حيث تم تخصيص الجزء الأول من الكتاب لدراسة وتحقيق سيرة بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثلاثة (زينب، ورقية، وأم كلثوم) وخلصت الدراسة إلى أنهنّ ربائبه ولسنَ بناته، ومن ثم لا صحة لنسبتهنّ إلى بنوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلبية والنسبية.

ثانياً: إن فاطمة (علیها السّلام) هي وحيدة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وليس له بنتاً غيرها
اشارة

إن كتب التاريخ، والسيرة، والحديث. قد حوت بين متونها الشواهد العديدة التي تخبر: بأن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الصهر الوحيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذه الشواهد تمثلت بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقوال بعض الصحابة.

أما الشواهد فهي كالآتي:

أ - أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد

روى أبو سعيد في شرف المصطفى، والطبري في الرياض النضرة: «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام):

«أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا، أوتيت صهراً مثلي ولم أوت أنا مثلي.. وأوتيت صدّيقة مثل ابنتي، ولم أوت مثلها زوجة.. وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما.. ولكنكم مني وأنا منكم »(1).

ص: 166


1- « مخطوطة » شرف المصطفى للخركوشي: الورقة 173 جهة اليمين، ترقد في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق برقم: «1887» ؛ وأورده المحب الطبري في الرياض النضرة: ج 3، ص 160 .

وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أوتيت ثلاثاً، لم يؤتهن أحد ولا أنا .»

دليل قاطع على حصر هذه الأمور الثلاثة في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقط.

فلو كان هناك صهر آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، لما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«لم يؤتهن أحد ولا أنا .»

ب - قول ابن عمر: زوَّجه ابنته!!

وروى أحمد بسند صحيح عن ابن عمر نحوه أنه قال: (ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم.

ثم يذكر أولى الخصال وهي: (زوّجه رسول الله ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر)(1).

وهذا الحديث وإن كان يدل على فضل فاطمة (عليها السلام) إلا أنه يدل أيضا على أنه الصهر الوحيد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو كان عنده صهرٌ غيره لما ذكر ابن عمر بن الخطاب هذه المصاهرة لتكون عنده أحب من حمر النعم.

ولما قال: زوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «ابنته »، في حين زوَّج

ص: 167


1- مسند أبي يعلي الموصلي: ج 9، ص 453 ، ط دار المأمون؛ أحمد في المسند: ج 2، ص 26 ؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 180 .

رسول الله (صلى الله عليه وآله) عثمان بن عفان اثنين من بناته، فلماذا يتمنى ابن عمر مصاهرة النبي ويراها محصورة في علي (عليه السلام)؟!.

ج- بيت علي في وسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون عثمان.

عن سعيد بن عبيدة، قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن عثمان فذكر له محاسن عمله.

ثم سأله عن علي -عليه السلام- فذكر محاسن عمله، قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال، أي: عبد الله بن عمر للسائل: لعل ذاك يسوؤك، قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فأجهد على جهدك(1).

هذا الحديث يدل على عدة نقاط:

1. أن السائل جاء إلى عبد الله بن عمر، ليسأله عن عثمان بن عفان، وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ويبدو أن عبد الله بن عمر قد عرف قصد هذا الرجل والغاية من وراء سؤاله فلذا قال له: بعد أن ذكر له مكانة بيت علي بن أبي طالب من بيوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«لعل ذاك يسوؤك .!؟»

فاعترف الرجل فقال: أجل، فرد ابن عمر: فأرغم الله أنفك.

2. هذا الحوار يكشف عن وجود بعض المسلمين الذين كان قصدهم إشعال الفتنة

ص: 168


1- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: مناقب المهاجرين، ج 4، ص 208 ؛ الرياض النضرة: ج 3، ص 153 ؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 59 .

في المجتمع الإسلامي، والإيقاع بشخصيات من الصحابة بعد أخذ الصفة الشرعية في أفعالهم من أفواه بعض صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فلذلك جاء هذا الرجل يسأل عبد الله بن عمر دون غيره.

3. كما يدل أيضاً على وجود المنافقين الذين دلَّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال قاعدة وضعها للمسلمين يتم الاستدلال بها عليهم.

وقد اعتمد عبد الله بن عمر على هذه القاعدة فاستدل على أن هذا السائل هو من المنافقين.

والقاعدة هي: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):«يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق .»(1).

ومن هنا:

نجد أن هذا الرجل قد ساءه سماع منقبة من مناقب الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام).

4. نلاحظ هنا.. أن عبد الله بن عمر قد ترك الإشارة إلى العديد من مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، واكتفى بذكر منقبة واحدة دون غيرها، وهي «بيته .»

وذكره لبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومكانته من بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دليل على أن الإمام علياً (عليه السلام) هو الصهر

ص: 169


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 1، ص 19 ؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 39 ، ص 251 ؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 42 ، ص 278 ؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 87 ، ح 168 ؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 2، ص 189 ؛ كشف الخفاء للعجلوني: ج 2، ص 383 .

الوحيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا سيما أن السائل كان يسأل عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب (عليه السلام).

فلماذا يذكر ابن عمر عمل عثمان ولا يذكر مصاهرته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويكتفي بذكر بيت الإمام علي عليه السلام دون غيرها من المناقب؟!

ألا يدل هذا على أن عبد الله بن عمر يعلم جيداً أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الصهر الوحيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأن له بهذه المصاهرة ما لبيوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن عثمان ممنوع عليه ذلك فضلاً عن اختصاص علي (عليه السلام) بالمكوث في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذا هو وسط هذه البيوت.

د - نفاسة صهرية رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

عن مالك، عن الزهري: إن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه، قال: اجتمع ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، قالا والله لو بعثنا هذين الغلامين «قالا لي وللفضل بن عباس » إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلماه على هذه الصدقات؛ فوقف علي بن أبي طالب عليه السلام عليهما فذكروا له ذلك.

فقال علي بن أبي طالب -عليه السلام-:

«لا تفعلا فو الله ما هو بفاعل .»

فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلاَّ نفاسة منك علينا فو الله لقد نلت صهر رسول الله فما نفسناه عليك.

ص: 170

قال علي أرسلوهما، فانطلقا واضطجع علي فما هي إلى لحظات فرجعا وقد ردهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يفعل(1).

ومن خلال هذا الحديث نرى أن القوم قد صرّحوا بشكل لا يقبل الشك أن الإمام علياً (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي نال الصهريّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو كان غيره قد نال هذه الصفة، لصرّح بها القوم، ولو من باب النفاسة.

هذه بعض الشواهد التي تشير إلى اعتقاد الصحابة باختصاص الإمام علي (عليه السلام) بصهرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتفرده بها.

أما بقية الشواهد فقد تركنا البحث عنها لبلوغ ما يرمي إليه الكثير من الباحثين،وعشاق الحقائق من التعرف إليها، واستخراجها من بحور الكتب.

وعليه:

يرشدنا النص ومقتضى حاله ودلالته إلى أن الإمام (عليه السلام) حينما أورد لفظ «وابنتك » أراد بيان خصوصية كونها بنته الوحيدة التي ليس له غيرها؛ ومن ثم فإن ذلك له من الآثار النفسية والروحية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

بمعنى آخر: إن حجم الألم الذي أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما جرى عليها من الظلم والاعتداء والقتل لعظيم جداً على قلبه، وإن هذا الألم له ما يقابله عند الله تعالى من العقاب فكلما عظم الألم والأذى عظم معهما العقاب والجزاء، كما نصت عليه الكثير من الآيات المباركة، منها:

ص: 171


1- صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب « ،51 ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكل الصدقة » حديث 167 ..( 2107 )؛ الإلزامات والتتبع للدار قطني: ص 155 ؛ شرح صحيح مسلم للنووي: ج 7، ص 183 .

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَّرا يَرَهُ)(1).

وقال سبحانه:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه فِی الدُّنْيَا وَالْاخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا)(2).

المسألة الثانية: قصدية منتج النص في «وقرّة عينك » استحقاق وجداني، أم تقوائي ؟
اشارة

لقد أشار أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى صفة من صفات الزهراء (عليها السلام) وسمة من سماتها فبيّ أنها « قرة عين » رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقد جرى العرف الاجتماعي والمفهوم لهذه الصفة لا سيما عند العرب أنها تستخدم في بيان أثر هذا الشيء على الإنسان في مقابل المدح والسرور أو العكس في حالة الرفض والذم والشرور.

فيقال: أقرّ الله عينك أو لا أقرّ الله عينك.

ويقال في بيان النعمة: قرّة عين، كما ورد في القرآن الكريم في بيانه لسيرة الكليم عليه السلام، قال تعالى:

﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فرِعَوْنَ قُرَّةُ عَيْن لِی وَلَكَ لَل تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)(3).

ومرادها: أن يكون لي ولك نعمة تدخل السرور والعون لنا، وهو ما دلّ عليه أهل

ص: 172


1- سورة الزلزلة، الآية ( 7- 8).
2- سورة الأحزاب، الآية ( 57).
3- سورة القصص، الآية ( 9).

اللغة:

قال ابن فارس (المتوفى 395 ه):

(نَعْمَّ، وتعني عين، ونعمة عين، أي: قرّة عين.

ونَعْمَّ الشيء من النعمة؛ وقرَّ فلان أولاده ترفهم)(1).

قال ابن الأثير (المتوفى 606 ه):

(ونعمة عين: أي قرّة عين؛ يعني أقرّ عينك بطاعتك واتباع أمرك، يقال نعْمَةُ عين، بالضم، ونعم عين، ونعمى عين.

ويقال للداخل عند زيارته تعبيراً عن السرور بقدومه، والفرح بلقائه: (ما أنعمنابك)، أي ما الذي أسرنا وأفرحنا وأقر أعيننا بلقائك ورؤيتك)(2).

وبالنظر إلى هذا البيان يصبح وصف أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لفاطمة بأنها (قرّة عين) استحقاقاً وجدانياً وتقوائياً وذلك لما يلي:

أولاً: كون فاطمة (علیه السّلام) قرّة عين لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالاستحقاق الوجداني
اشارة

وهذا ما لا شك فيه ففاطمة (عليها السلام) موضع ادخال السرور والفرح على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي نَعْمَّ النَعْمَة التي رزق بها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك كونها:

ص: 173


1- معجم مقاييس اللغة: ج 5 ص 446 .
2- النهاية في غريب الحديث: ج 5 ص 84 .
أ - خلقت من ثمار الجنة يشمها النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ويأنس بعطرها .

إنّ خلق فاطمة (عليها السلام) من ثمار الجنة قد تضافرت فيه النصوص الواردة عن عترة النبي (صلى الله عليه وآله سلم) وأنه كان يشمها ويكثر تقبيلها مما أثار غيرة عائشة فبادرته بالسؤال عن كثرة تقبيله لابنته فاطمة (عليها السلام) والذي ارتكز

على كثرة اشتياقه إلى ريح الجنة وثمارها التي أكلها في الإسراء والمعراج فخُلِقت منها فاطمة (عليها السلام).

وهذه المسألة، أي خلق فاطمة (عليها السلام) من ثمار الجنة وإن كانت تخالف توجهات بعض حفّاظ أهل السنة والجماعة لا سيما ابن الجوزي(1)، وذلك لتمسّكهم بالرواية التي تتحدث عن سَنة الإسراء والمعراج ووقوعها بعد ولادة فاطمة (عليها السلام) بحسب ما يزعمون، وهم بذلك يعارضون روايات عترة آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين هم أعلم بشأن أمهم فاطمة (عليها السلام) وتاريخ ميلادها(2).

وعليه:

فقد روى الشيخ الصدوق رحمه الله في الأمالي، عن أبي الصلت الهروي في حديثه مع الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: «لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل عليه السلام فأدخلني الجنة، فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت

ص: 174


1- الموضوعات: ج 1 ص 412 - 413 .
2- لمزيد من الاطلاع ينظر كتابنا الموسوم ب(هذه فاطمة عليها السلام): ج 1 ص 338 - 347 .

رائحة ابنتي فاطمة .»(1).

ومن ثم كيف لا تكون فاطمة (عليها السلام) قرّة عين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأي سرور أعظم على قلب كل إنسان وهو يشم رائحة الجنة.

ب - إنها كوثر ذريته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

إن من الحقائق التي أثبتتها النصوص وقطع بها العقل أن فاطمة (عليها السلام) هي الكوثر النبوي الذي جعلها الله تعالى مصدراً لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأن الله تعالى جعلها أداة لغيظ أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين نعتوه بالأبتر بعد وفاة ولداه القاسم وعبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي:

(دعوه إنه أبتر)(2)، وهو بذاك شنئه أي: انتقصه، فلمّ رُزق النبي الأعظم (صلى الله

عليه وآله وسلم) بفاطمة (عليها السلام)، جعلها الله كوثر ذريته الذي استحق أن يقدّم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من اجله الى الله تعالى الصلاة شكراً له على هذه النعمة، وتقديم القرابين، فقال عز وجل:

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْابْتَر﴾(3).

ومما يدل عليه: ما صرح به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان اختصاص فاطمة (عليها السلام) بذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال:

روى الطبراني عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

ص: 175


1- الأمالي: ص 546 ؛ علل الشرائع للصدوق: ج 1 ص 184 ؛ دلائل الإمامة للطبري: ص 148 .
2- البداية والنهاية لابن كثير: ج 3 ص 130
3- سورة الكوثر.

«كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » (1).

روى ابن عساكر وغيره عن عبد الله بن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

«إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وأن الله جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب »(2).

روى ايضاً، عنه (صلى الله عليه وآله):

«لكل بني أب عصبة ينتمون إليه إلا ولد فاطمة أنا عصبتهم .»(3).

فكيف لا تكون فاطمة قرة عين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي كوثر ذريته وأم الأئمة النجباء.

ثانياً: كون فاطمة (علیها السّلام) قرّة عين للنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالاستحقاق التقوائي

في ازاء ذلك، أي ما مرّ بيانه في أولاً فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قرّة عين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستحقاق التقوائي، وقد أشارت النصوص الشريفة إلى هذا الاستحقاق في موارد كثيرة سواء على المستوى العام المرتبط بين الآباء والأبناء أو سواء على المستوى الخاص المرتبط بشخص فاطمة (عليها السلام).

ص: 176


1- المعجم الكبير للطبراني: ج 3 ص 44 ؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 4 ص 224 ؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 2 ص 278 ؛ كنز العمال للهندي: ج 12 ص 16 .
2- تاريخ دمشق: ج 42 ص 259 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 3 ص 44 ؛ مناقب علي (عليه السلام) لابن المغازلي: ص 61 .
3- تاريخ دمشق: ج 36 ص 313 ؛ نيل الأوطار للشوطاني: ج 6 ص 139 .

فعلى المستوى العام ذكر القرآن الكريم بعض الآيات الكاشفة عن أثر النفوس لدى الأبناء على الآباء ليكون بذاك قرة عين ونَعْمَّ عين لهم في الدنيا والآخرة فضلاً عن ذلك فإن الأبناء في حال افتقادهم للتقوى يكونون بذلك مصدر وبال وحزن وألم وأذى على الوالدين، بل قد يكونوا من الأعداء الذين يجرون بالوالدين إلى

الهلاك، قال تعالى:

﴿آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾(1).

﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2).

﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(3).

ومن ثم ليس كل من ولد له ولد كان قرة عين له، بل قد يكون نقمة وليس نعمة.

ولذا: فإن فاطمة (عليها السلام) هي قرة عين لأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستحقاق التقوائي فضلاً عن الاستحقاق الوجداني وذلك لما يلي:

لأنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين كما نص عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(4).

سيدة نساء أهل الجنة(5).

ص: 177


1- سورة النساء، الآية ( 11 ).
2- سورة التغابن، الآية ( 14 ).
3- سورة التغابن، الآية ( 14 - 15 ).
4- مستدرك الحاكم: ج 3 ص 156 .
5- مسند أبي يعلى: ج 12 ص 313 .

إنها خير نساء الجنة(1).

إنها من أفضل نساء الجنة(2).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وآسية بنت مزاحم وفاطمة بنت محمد(3).

من افضل نساء العالمين.

وغيرها من الأحاديث الشريفة الكاشفة عن منزلتها وتقواها وشأنيتها وجاهها عند الله تعالى كما جعل عيس بن مريم وجيها عنده وأمه فكيف لا تكون فاطمة وابيها من الوجهاء عند الله تعالى؟!!

وعليه:

فقول أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) ( «وقرة عينك » لم يكن قوله مستنداً إلى كونها ابنته حالها في ذلك حال كل فتاة لأبيها ومن ثم ينصرف الذهن حينها إلى تجريد اللفظة من معانيها المكنونة؛ ففاطمة عليها السلام ليست ككل امرأة كانت

قرة عين لأبيها، فهي نعمة ما بعدها نعمة فأنّى لمثل فاطمة في الحياة الدينا؟!

المسألة الثالثة: القصدية في زيارة فاطمة (علیها السّلام) النبي ) (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهي في قبرها
أولاً: السياق الدلالي للألفاظ يؤكد قصدية وقوع الزيارة

ينقلنا النص الشريف من بيان معنى السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودلالته المرتكزة على طلب الاستئذان من رسول الله (صلى الله عليه وآله

ص: 178


1- مستدرك الحاكم: ج 3 ص 154 .
2- مسند أحمد: ج 1 ص 322 .
3- سنن الترمذي: ج 5 ص 367 .

وسلم) في الدخول إلى الروضة الفردوسية التي حل فيها، وانحصار أخذ الإذن في الدخول بشخص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) -كما مر بيانه سابقاً– ينقلنا النص إلى إثبات هذه الدلالة مرة أخرى وذلك من قول منتج النص

(عليه الصلاة والسلام) «وزائرتك :»

ولا يخفى على أهل العلم والمعرفة إن الزائر يحتاج إلى حصول الإذن في الدخول، ومن دخل إلى مكان ما، أو على شخص ما من دون اذنه، يكون دخوله مخالفاً للشريعة والآداب والأعراف؛ فضلاً عن كونه غير مرحبٍ به.

أما لو حدث هذا في عالمنا اليوم، أو في غيره من القرون السابقة، أو اللاحقة لا سيما الدخول على الملوك أو الحكام أو الخلفاء أو الأمراء أو الوزراء أو غيرهم لكان أمر الدخول ينقلب على الداخل وبالاً وهلاكاً.

وعليه:

أراد عليه (الصلاة والسلام) بيان هذه الحقيقة: أن فاطمة (عليها السلام) جاءت زائرة إلى سيد الخلائق، وحبيب جبار السماوات والأرض، ومن ثم فالمكان يعج بالآلاف من الملائكة الشداد، الذين وقفوا عند باب الروضة النبوية ويتشرفون بخدمة صاحبها (صلى الله عليه وآله)، فأي مخلوق يريد الدخول الى حضرته المقدسة وهو غير مصرح له بالدخول من وصيه وخليفته ووزيره الإمام علي بن أبيطالب (عليه السلام) ستمنعه الملائكة من الدخول.

وذلك أنَّ السياق الدلالي للألفاظ في قوله (عليه الصلاة والسلام):

«السلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك عن ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك .»

ينص على هذه الحقيقة التي مرّ ذكرها آنفاً.

ص: 179

ثانياً: إنَّ مقتضى حال فاطمة (علیها السّلام) يستدعي زيارة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لها، لا العكس، فما هي قصدية منتج النص؟

إن مقتضى الحال الذي عليه فاطمة (صلوات الله عليها) من مرضها، وكسر ضلعها، واسقاط جنينها، ولطمها على وجهها، وترويعها بالسوط، وحرق دارها واقتحامه وتفتيشه، وترهيب ولديها، حتى ماتت من علتها صابرة ومحتسبة وشهيدة.

فهذا الحال كان يقتضي من الناحية الوجدانية والأبوية أن يكون الزائر هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن النص الشريف عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يخبرنا بالعكس كما هو واضح في قوله (عليه السلام): «وزائرتك .»

وجواب ذلك:

إن من وقع عليه الظلم والجور والاعتداء لا بد أن يتوجه إلى الحاكم ليشكو إليه أمره ويضع بين يديه ظلامته ويطالب بإقامة القصاص على الجناة والمجرمين، وإن كان حاله على مرضٍ أو علةٍ أو ضعفٍ وهذا المعنى الذي قصده منتج النص (عليه السلام) ودلّ عليه الواقع الحياتي والعرف السائد عند أصحاب المظالم الذين

يرفعون أمر ظلامتهم إلى القضاة والحكام لغرض أخذ حقهم من الجناة.

ثالثاً: هل كل مسلم بعد موته يزور رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

يرشدنا النص الشريف عنه (عليه الصلاة والسلام) إلى أن امكانية زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في روضته بعد وفاته ممكنة؛ ولكن ليس لكل مؤمن أن ينال هذا الشرف العظيم وأن ينال الإذن في هذه الزيارة والدخول، وذلك لجملة من الأسباب منها:

لا شك أن الوصول إلى هذا الشرف والرتبة يحتاج إلى مؤهلات لا يمتلكها إلا

ص: 180

من كان ذا حظ عظيم، قد حفت به العناية الإلهية من قبل أن تنعقد نطفته وغذائه في رحم أمه، وسيرة والديه وتقواهما ثم ما بعد ولادته وطفولته وشبابه وشيخوخته ومماته، فكل هذه السنين والمراحل التي يمر بها الإنسان في رحلته الدنيوية ما لم

يشملها اللطف الإلهي فمئالها إلى الخسران والسقوط والحرمان.

إن الإنسان في الحياة الدنيا محجوب عنه حقائق الغيب فهو غير شاهد لها، لكنه بعد مماته تنكشف له الحجب فيرى ما خفي عنه، حينها يدرك أن مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس كما صوره له البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وغيرهم مما اخرجوه في كتبهم من تسابقه مع عائشة او تبوله وهو واقف –والعياذ بالله- أو أن يضرب بين يديه بالدف وصويحبات عائشة بين يديه فيدخل عمر فيهرب الشيطان وغير ذلك من الأكاذيب.

بل يرى –إذا أذن له أن يرى- إن اللطف والفضل الإلهي الذي قال الله عنه في محكم كتابه:

﴿وَاسْأَلُوا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ﴾(1).

﴿أَمْ يَحسُدُونَ النَّاسَ عَلَی مَا آَتَاهُمُ اللَّه مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالِحكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾(2).

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَروا فَيُعَذِّبُهمْ عَذَابًا أَلِيمً وَلَل يَجِدُونَ لَهمْ مِنْ دُونِ اللَّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(3).

ص: 181


1- سورة النساء، الآية ( 32 ).
2- سورة النساء، الآية ( 54 ).
3- سورة النساء، الآية ( 173 ).

فهذا الفضل هو من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما نص عليه الوحي في محكم كتابه، قال تعالى:

﴿وَلَوْ أَنَّهمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه سَيُؤْتِينَا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَی اللَّه رَاغِبُونَ)(1).

﴿يَحلِفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَمِهِمْ وَهَّموا بِمَا لَم يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرا لَهمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهمُ اللَّه عَذَابًا أَلِيمًا فِی الدُّنْيَا وَالْاخِرَةِ وَمَا لَهمْ فِی الْارْضِ مِنْ وَلِّی وَلَا نَصِيرٍ﴾(2).

قد أقرنه الله تعالى برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وان ملائكة الله سبحانه مسخّرة بين يديه هبوطاً وعروجاً ينزلون باللطف ويصعدون بالعمل، وجبرائيل ظهيراً له ونصيراً، فكيف تستحق روح الميت هذا الفضل في زيارتها لرسول الله

(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد امتلأت صحيفته بالآثام والذنوب والبغض لآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) لا سيما وقد ورد من الأحاديث الشريفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان خطورة الذنوب والآثام، وحجبها الإنسان من دخول الجنة، فمنها:

روى مسلم النيسابوري «لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من كبرياء .(3)

»روى الثعلبي والزمخشري وخرجه الزيلعي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله،

ص: 182


1- سورة التوبة، الآية ( 59 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 74 ).
3- صحيح مسلم، باب من مات لا يشرب بالله، ج 1 ص 65 .

ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة »(1).

ولذا: فمثل فاطمة عليها السلام وبعلها، وبنيها يزورون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مماتهم وكالأنبياء والمرسلين؛ أما ما عداهم فلم يَرِد فيه نص من النصوص، إذ اقتصرت هذه النصوص في بيان فضل زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته أو بعد مماته في روضته وقبره.

رابعاً: قصدية زيارتها تكشف عن مخالفة بعض المسلمين للسنة النبوية .

لم يخالف هذه السنة من المسلمين عدا ابن تيمية ومن انتهج بنهجه وسار على سبيله وأءتم به، فقد قال في فتاويه: (ليس في زيارة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- حديث حسن ولا صحيح بل عامة ما يروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة)(2).

وقد ردَّ على هذه الأقوال سواء صدرت عن ابن تيمية، أو غيره مجموعة من علماء أبناء العامة والجماعة سواء من كان منهم قد عاصره، أو جاء بعده، لا سيما وأن اتباع ابن تيمية قد تلاقفوا هذا الظلال وكفروا به المسلمين، فكان ممن ردَّ على هذا الضلال والبدع التيمية:

1- قال الحافظ الذهبي (المتوفى سنة 748 ه) في بيان بدعية هذه الفتاوى كما ورد فيسيره:

(فمن وقف عند الحجرة ذليلاً مسلماً مصلياً على نبيه، فيا طوبى له فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلل والحب، وقد اتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في

ص: 183


1- تفسير الثعلبي: ج 8 ص 314 ؛ الكشاف للزمخشري: ج 3 ص 467 ؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 3 ص 238 .
2- الفتاوى الكبرى: ج 573 .

صلاته، إذ الزائر له أجر الزيارة واجر الصلاة عليه والمصلي له في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، فمن صلى عليه واحدة صلى الله عليه عشراً؛ ولكن من زاره – صلوات لله عليه وآله – وأساء الأدب الزيارة، أو للقبر أو فعل ما لا يشرع، فهذا فعل حسناً وسيئاً،

فيعلم برفق، والله غفور رحيم.

فو الله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبل الجدران، وكثرة البكاء إلا وهو محب لله ورسوله صلى الله عليه-وآله- وسلم، فحبه المعيار والفارق بين الجنة وأهل النار.

فزيارة قبره من أفضل القرب، وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء، لئن سلمنا غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه -وآله- «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد »

فشد الرحال إلى نبينا صلى الله عليه –وآله- مستلزم إلى شد الرحال إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلى حجرته، إلا بعد الدخول إلى مسجده، فليبدأ بتحية المسجد ثم بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله وإياكم ذلك، آمين)(1).

2- ذهب الحافظ تقي الدين السبكي (المتوفى سنة 756 ه) إلى تصنيف كتاب خصصه لهذا العنوان فسماه ب(شفاء السقام في زيارة خير الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم) فابسط فيه الكلام واوضح في البيان في التقرب إلى الله تعالى بزيارة قبر حبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو بذاك يرد على ظلال ابن تيمية ومن جاء بعده كالوهابية)(2).

أما ما روي عن آل البيت عليهم السلام في فضل زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكثيرة، ومنها:

ص: 184


1- سير أعلام النبلاء: ج 4 ص 485 .
2- سيرد في مباحث الدراسة المزيد من البيان في معالجة هذه المسائل العقائدية وذلك لورود اكثر من لفظ مرتبط بقبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والاستغاثة به والشكوى اليه وغيرها من الالفاظ التي ضمنها منتج النص (عليه السلام) في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).

أخرج الحميري القمي (المتوفى سنة 304 ه) في قرب اسناده إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن ابيه (عليه السلام): أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«من زارني حياً وميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة .» (1).

اخرج الكليني (رحمه الله) عن المعلى أبي شهاب قال، قال الحسين (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«يا أبتاه ما لمن زارك؟ .»

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«يا بني من زارني حياً وميتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك، كان حقاً عليَّ أن أزوره يوم القيامة وأُخلصهُ من ذنوبه .»(2).

وأخرج الصدوق (رحمه الله) بسنده إلى العلاء بن المسيب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن ابيه علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: قال الحسين

(صلوات الله عليه):

«ما لمن زارنا؟ »

قال:

«يا بني من زارني حياً وميتاً، ومن زار أباك حياً وميتاً، ومن زار أخاك حياً وميتاً، ومن زارك حياً وميتاً، كان حقيق عليَّ أن أزوره يوم القيامة، واخلصه من ذنوبه، وأدخله الجنة .» (3).

ص: 185


1- قرب الاسناد: ص 65 .
2- الكافي: ج 4 ص 548 .
3- ثواب الاعمال للصدوق: ص 82 .

والحديثان يكشفان عن بعض الأمور، منها:

إن الزائر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أي واحدٍ من عترته فجزاءه على الله تعالى، وإن المكافئ له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

إن الزائر يناله في زيارة أحدهم من الأجر والثواب وغفران الذنوب وغيرهما ما يناله الزائر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)سواء بسواء.

إن الزيارة لهم في حياتهم لها نفس الأجر بعد مماتهم.

الملاحظ في الرواية إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يذكر فاطمة (عليها السلام) والسبب يعود إلى ما يلي:

لأن زيارتها بعد وفاتها (عليها الصلاة والسلام) في قبرها غير متحققة وذلك لإخفاء قبرها كما أوصت هي بذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).

كما أن زيارتها في حياتها متعذرة وذلك لما يرتبط بالنساء من حدود وأحكام شرعية. ولذا لم يورد اسمها في الرواية.

ولأن الصحابة وازواجهم قد قاطعوا بيت النبوة وحاربوه بكل الوسائل ومنهاالحرب الاجتماعية، فلم تقم الصحابيات بزيارة فاطمة (عليها السلام) إلا مرّة واحدة بعد ان انتشر خبر مرضها الشديد، فجئن لعيادتها.

ص: 186

المبحث السادس: مقاصدية نزول فاطمة (علیها السّلام) بجوار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بين النزول البر زخي والارتقاء الفردوسي

اشارة

ص: 187

قوله (عليه السلام) «النَّازِلَة فيِ جِواَرِكَ »
اشارة

ص: 188

يكتنز هذا اللفظ على جملة من المعارف كغيره من ألفاظ هذا النص الشريف وهو أمر قد تسالم عند أهل العلم والمعرفة بحديث ثقل القرآن وأهله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

فقول منتج النص (عليه السلام):

«النَّازِلَةِ فِ جِوَارِكَ .»

ينقسم إلى قسمين من المعارف المتعلقة بشأن فاطمة (عليه السلام) وشأن أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فأما ما يتعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله) وسلم فسيُبحث في المبحث القادم.

وأما ما يتعلق بفاطمة (عليها السلام) فهو ينضوي تحت معنى قوله «النازلة » ودلالته، فهل هو (الاستنزال المرتبي)؟؛ أو أراد بذلك النزول الذي يفيد معنى(العلو والسفل)، أي من الأعلى إلى الأسفل ويراد به: (الإنزال)؛ او أراد بالنزول المعنى الذي يفيد (الحلول(؛ أو أنه يفيد معنى (الانتقال) من عالم إلى عالم آخر فهذه

المعاني هي الأظهر من غيرها ولا شك أن البحث في معاني اللفظ واستنطاقه يرشد إلى معان ودلالات أخرى؛ ومن ثم ينبغي دراسة هذه الدلالات كي نصل الى مقاربة قصدية منتج النص (عليه السلام) كما سيلي في المسائل القادمة.

ص: 189

المسألة الأولى: دلالات (النزول) ومعانيه
اشارة

يرتكز البحث في المفردة على مجموعة من المعاني التي سنتناولها ضمن ما يلي:

أولاً: «النازلة » بمعنى الاستنزال المرتبي

وهذا المعنى يراد به تعيين منزلة الشخص وصفته، كما هو الحال في السلم الوظيفي في الدائرة الحكومية، أو الوزارة، أو المراكز والمؤسسات وغيرها.

فالنزول المرتبي: أن يتم إنزال رتبة المرء من كونه مديراً عاماً إلى معاون أو أقل رتبة ودرجة، وكذا حال المشتغلين في السلك العسكري، فإما يتم تنزيل المرتبة من صفة إلى أخرى كالعقيد إلى المقدم، أو يكون الترفيع والترقية من مقدم إلى عقيد وهكذا

يقال في هذه الحالات (استنزال فلان، أي حط عن مرتبته)(1).

وهنا في قوله (صلوات الله عليه): «النازلة في جوارك » لا ينطبق على هذا المعنى أي (النزول المرتبي)، وذلك أن مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعلوه مقام ناله مخلوق قط، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ ومن ثم لا يتحقق معنى النزول المرتبي.

ففاطمة (عليها السلام) لم تكن في معرض استنزال المرتبة فتحط من شانها ومنزلتها، بل على العكس فقد أراد الإمام علي (عليه السلام) بيان علو هذه المرتبة،ولكن يبقى السؤال قائماً ما المراد من (النزول) في قوله (عليه السلام) «النازلة .»

ثانياً: «النازلة » بمعنى الإنزال المكاني والموضعي، من العلو إلى السفل

وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في آيات عديدة وهي تفيد بيان نزول الكتاب، والوحي، والأمر الإلهي، والملائكة، والروح وغيرها من الآيات، وكلها

ص: 190


1- الصحاح للجوهري: ج 5 ص 1828 .

تفيد معنى الإنزال من السماء إلى الأرض أو من محل إلى محل آخر.

ففي مقام بيان نزول الكتاب قال تعالى:

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالَحقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِی الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾(1).

﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالَحقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْن يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْاِنْجِيلَ﴾(2).

﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّه وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَی رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ..)(3).

﴿وَبِالَحقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالَحقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّ مُبَشِّرا وَنَذِيرًا﴾(4).

وفي بيان نزول والوحي قال تعالى:

﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْامِينُ * عَلَی قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الُمنْذِرِينَ﴾(5).

وفي بيان النزول من السماء إلى الأرض، قال سبحانه:

﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْارْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّه..)(6).

ص: 191


1- سورة البقرة، الآية ( 176 ).
2- سورة آل عمران، الآية ( 3).
3- سورة النساء، الآية ( 136 ).
4- سورة الإسراء، ( 105 ).
5- سورة الشعراء، الآيتان ( 193 - 194 ).
6- سورة العنكبوت، الآية ( 63 ).

﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكتِابِ أَنْ تُنزَّلَ عَلَيْهِمْ كتِابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ..)(1).

﴿تَنَزَّلُ الَملَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)(2).

وفي بيان الانتقال من محل إلى آخر قال عزّ وجل:

﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الُانْتَهَى﴾(3).

فكان الإخبار عن نزول جبرئيل (عليه السلام) من محل إلى محل آخر وهو سدرة المنتهى وغيرها من الآيات المباركة والتي تفيد معنى الانتقال من العلو إلى الأسفل كالسماء والأرض أو من محل إلى آخر.

وهذا المعنى: ينسجم مع معنى قول منتج النص (عليه السلام): «النازلة بجوارك » أي الانتقال من على سطح الأرض إلى باطنها، وهو ما يفهم من انتقال الميت إلى داخل قبره، ولكن هذا المعنى لا يكشف عن مراده (عليه السلام) وقصديته في هذا النزول، أي: من سطح الأرض إلى بطنها كما حال القبور، وذلك أن هذا البيان لا يضيف مادة معرفية جديدة في بيان شأنية الزهراء فاطمة (عليها السلام)، لا سيما وأنه (صلوات الله عليه) أراد من خلال مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا الخطاب هو بيان جملة من الأمور والحقائق؛ ومن ثم لا ينشغل (عليه السلام)

بتعريف ما هو معرّف، أي: أن يكون معنى «النازلة بجوارك » هو انتقالها إلى قبرهامن سطح الأرض إلى باطنها وهو أمر بديهي عند كل مسلم أو كتابي.

ولذا: فالنص يفيد معنى آخر، فما هو؟؟

ص: 192


1- سورة النساء، الآية ( 153 ).
2- سورة القدر، الآية ( 4).
3- سورة النجم، الآيتان ( 13 - 14 ).
ثالثاً: «النازلة » بمعنى الحلول المكاني

وهذا المعنى دلّ عليه القرآن في مواضع كثيرة واعتاده العرب في كلامهم واشعارهم وكل ذلك يفيد معنى الحلول المكاني ومنه سمي الدار منزلاً إذا أحل الإنسان فيه.

وفيما ورد في محكم التنزيل قال سبحانه وتعالى:

﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهمْ لَهمْ جَنَّاتٌ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الْنْهارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلً مِنْ عِنْدِ اللَّه وَمَا عِنْدَ اللَّه خَيْر لِلْابْرَار﴾(1).

﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَانَتْ لَهمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)(2).

﴿أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الَمأْوَى نُزُلً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(3).

﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِ أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا﴾(4).

وهذه الآيات المباركة كما هي واضحة الدلالة في بيان معنى النزل هو: الحلول المكاني، وقد جاء في قوله تعالى:

﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْر المُنْزِلِين)(5).

ما يقتضي تطابق معنى قوله (عليه الصلاة والسلام): «النازلة في جوارك »، انتقالها وحلولها بجوار رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الروضة النبوية الفردوسية.

ص: 193


1- سورة آل عمران، الآية ( 198 ).
2- سورة الكهف، الآية ( 107 ).
3- سورة السجدة، الآية ( 19 ).
4- سورة الكهف، الآية ( 102 ).
5- سورة المؤمنون، الآية ( 29 ).

وهذا يدفع إلى بيان معنى آخر وقصدية اخرى، وهو النزول البرزخي والحلول الفردوسي.

رابعاً: النزول البرزخي والحلول الفردوسي

ورد لفظ البرزخ في القرآن الكريم في قوله تعالى:

﴿..وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَی يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(1).

وهو لبيان المرحلة الانتقالية ما بين الدنيا والآخرة، بمعنى آخر: ما بين انقضاء عمر الدنيا وبداية عمر الآخرة، وهو المكان الذي تحل فيه روح الميت وجسده بعد الموت والمعروف بالقبر.

وهذا المعنى ورد كذلك في المعاجم اللغوية والتي تفيد: (ما بين كل شيئين، والميت في البزخ لأنه بين الدنيا والآخرة، وبرازخ الإيمان ما بين الشك واليقين، وما بين الظل والشمس برزخ)(2) بمعنى الحائل أو الحاجز ما بين عالمين أو مكانين.

أما ما ورد في الأحاديث الشريفة حول أثر البرزخ على الإنسان في رحلته للعبور من الدين إلى الآخرة فكثيرة وخطيرة أيضاً، ومنها:

قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«القبر أما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران .»(3).

2- أخرج الزيلعي عن أنس مرفوعاً، عنه (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:

ص: 194


1- سورة المؤمنون، الآية ( 100 ).
2- كتاب العين: ج 4 ص 338 ، ط دار ومكتبة الهلال.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 6 ص 275 .

«إذا مات أحدكم قامت قيامته »(1)

أما ما يخص برزخ فاطمة (عليها السلام) والذي نزلت فيه وحلت عنده فهو في حقيقته عملية انتقال من عالم الدنيا إلى عالم جديد بين الدنيا والآخرة وهو عالم البرزخ وهو النزول البرزخي الذي ورد في قوله (عليه السلام): «النازلة »، اي: النازلة الى هذا العالم.

إلا إنها بعد هذا النزول البرزخي تبعه انتقال آخر، وهو الانتقال الارتقائي للحلول في روضة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

بمعنى: كي تصل فاطمة (عليها السلام) إلى هذه المنزلة والشأنية وهي مجاورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عالم البرزخ فلا بد من نزولها إلى محل هذا العالم وهو البرزخ ثم لتنتقل إلى محل آخر ضمن هذا العالم لتحل بمجاورة رسول

الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي عرّفه النبي (صلى الله عليه وآله) للناس فقال: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة .»(2).

وفي لفظ: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة .»(3).

وفي لفظ: «ما بين منبري وحجرتي روضة من رياض الجنة »(4).

وهذا يدل على بيان منزلته (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكانه في عالم البرزخ؛ ومن ثم فهذا العلو والشأنية تحتاج إلى إرتقاء يلزم أهل هذا العلم حينما يؤذن لهم

ص: 195


1- تخريج الاحاديث للزيلعي: ج 1 ص 436 ؛ كنز العمال للهندي: ج 5 ص 548 .
2- المصنف لابن ابي شيبة: ج 7 ص 413 .
3- مسند احمد: ج 2 ص 236 .
4- مسند احمد: ج 2 ص 412

بالوصول إلى هذا المكان والمنزلة، كما هو حال سيدة نساء العالمين (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) فقد حلّت بجوار هذه الروضة التي هي من رياض الجنة.

وهي حقيقة قرآنية، أي: انتقال المؤمن بعد موته إلى الجنة البرزخية أو النار البرزخي، فمن كان قد محض الإيمان محضاً كما أخبر القرآن عن حال المنذر الذي أنذر أهل القرية في سورة يس، قال تعالى:

﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَی الَمدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الُمرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْألَكُمْ أجَرًا وَهُمْ مُهْتدَونَ * وَمَا لَی لَا أعَبدُ الذَّي فَطرَنِی وَإلِيَهْ تُرْجَعُونَ * أأَتَّخذِ مِنْ دُونِهِ آَلَهةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُّر لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾(1).

فلما قُتل ومضى إلى ربه شهيداً وانتقل من عالم الشهادة إلى عالم الملك استقبلته الملائكة بقولها:

﴿قِيلَ ادْخُلِ الَجنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِي مِنَ الُمكْرَمِينَ﴾(2).

والآية المباركة واضحة الدلالة والبيان في انتقال المؤمن إلى الجنة البرزخية مباشرة بعد دخوله ونزوله إلى عالم البرزخ.

كما أخبر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في مخاطبته رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «والنازلة بجوارك .»

ولكن ثمّة سؤال آخر: لماذا قال (عليه السلام) «بجوارك »؟ ولم يقل بروضتك؟، مامعنى أن تكون بجواره؟، وما هي قصديته في هذه المجاورة التي اراد بيانها للمتلقي؟

ص: 196


1- سورة يس، الآية ( 20 - 23 ).
2- سورة يس، الآية ( 26 - 27 ).
المسألة الثانية: دلالة مجاورة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هل هي مكانية أم سكانية؟

جاء لفظ (الجار) في كلام العرب على معان عدة –لا مجال لذكرها هنا- حتى قالوا: إن الوصول المعنى الدال على الملاحقة المكانية وقرب أحد الجارين من الآخر فيقال له: الجار يحتاج إلى قرينة تدل عليه(1).

إذ قد يقال لمن سكن المحلة الواحدة أو المدينة الواحدة مجاوراً لا سيما إذا كانت هذه المدينة تمتاز بمعالم واضحة للناس كمسجد كبير أو ضريح من أضرحة الأولياء أو بيت الله الحرام، ولذا:

ورد في كتب الفقهاء في أحكام الاعتكاف، والمجاورة، وحق الجار، من الألفاظ ما يدل على اطلاق صفة المجاورة على العموم، ومنه ذهب إمام المالكية إلى أن الاعتكاف والجوار سواء؛ (فمن نذر جوار مكة يجاور النهار وينقلب الليل إلى منزله فمن، جوار مثل هذا لجوار فليس عليه في جواره صيام، فالجوار على هذا أعم

من الاعتكاف لأنه لا يكون في المسجد وفي غيره مع الصيام وبدونه)(2).

من هنا: جاء في لفظ الفقهاء ومصطلحاتهم أن معنى (الجوار) هو: (الملاصقة في السكن)(3).

ومنه يفهم قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في أن المراد بالمجاورة هو الملاصقة بالسكن بقرينة وصفه لأهل القبور فيقول:

«وشيد بالتراب بناءها، فمحلها مقترب، وسكنها مغترب، بين أهل محلة موحشين،

ص: 197


1- لسان العرب: ج 4 ص 154 .
2- المدونة الكبرى لمالك بن أنس: ج 1 ص 232 ؛ معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية لمحمود عبد الرحمن: ج 1 ص 546 .
3- معجم مصطلحات الألفاظ الفقهية لمحمود عبد الرحمن: ج 1 ص 545 .

وأهل فراغ متشاغلين، لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل ا يرلجان، على ما بينهم من قرب الجوار، ودنو الدار، وكيف يكون بينهم تزاور، وقد طحنهم بكلكه البلى، وأكلتهم الجنادل والثرى »(1).

ويرشد النص الشريف إلى بيان معنى المجاورة ودلالتها التي تفيد القرب والدنو بين الدارين والملاصقة بين السكنين.

ومنه جاء معنى الجار والمجاورة، فيقال: (جاور الرجل مُاورةً وجِواراً وجُواراً،بالكسر أفصح، أي: ساكنة)(2).

وعليه:

يدل قوله (عليه الصلاة والسلام) في مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«النازلة بجوارك .»

أي الملاصقة في محل سكنها البرزخي مع محل سكنى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا صحة لمعنى أنها المجاورة السكانية، فينسب لأهل المحلة الواحدة أو المدينة الواحدة صفة المجاورة كمن جاور مكة أو الحرم النبوي وغيرها من الأماكن المقدسة.

فحال الزهراء (عليها السلام) في البرزخ ومحل ضريحها وقبرها هو الملاصقة لضريح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبره، وإنهما في الروضة فما هي حدود الروضة النبوية؟

ص: 198


1- نهج البلاغة: تحقيق صبح الصالح
2- لسان العرب: ج 4 ص 153 .

المبحث السابع: مقاصدية بيات فاطمة (علیه السّلام) في ثرى بقعة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

ص: 199

قوله (عليه السلام) «البْاَئتِة فيِ الثَّرىَ ببِقُعتَكِ »َ
اشارة

ص: 200

إنَّ السياق الدلالي لكلامه (عليه السلام) بعد الابتداء بالسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والانتقال إلى سلامها على أبيها (صلى الله عليهما) ثم بيان شأنيتها ومنزلتها عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مروراً بإظهار ورودها

على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زائرة ومجاورة، لينتقل أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى إظهار محلها البرزخي، ثم تحديد موضع قبرها وبيان مكان وجوده، وانكشاف زيف دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عائشة.

إن هذا السياق الدلالي يرتكز على إظهار جملة من الأمور، منها:

بيان منزلتها عليها السلام التي جهلها المسلمون.

بيان شأنية سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، وتكشَّف هذه الشأنية للمسلم بعد وفاته ورؤيته لحقائق الأمور، ومن ثم تحريك الحس الإيماني المرتكز على الإيمان بالغيب واليوم الآخر.

كشف الريب عن موضع قبرها (عليها السلام) بالضميمة والاستتار بتلك القبور الرمزية التي وضعها الامام علي (عليه السلام) بعد دفنه فاطمة (عليهاالسلام) وامتثالاً لما أوصت به عليها السلام في اعفاء موضع قبرها فلا يكون لهذا القبر علامة موضعية يأتي إليه الزائر.

دحض الإدعاءات الكاذبة حول دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت عائشة، فلو صح هذا القول لما تمكّن الإمام علي (عليه السلام) من دفن فاطمة في هذا الموضع، وذلك لما تكنّه عائشة من أحاسيس أتجاه فاطمة وبعلها وولديها(علیها السّلام)

ص: 201

ويكفي في ذلك دليلاً على هذه الأحاسيس ونوعها خروجها لحرب علي (عليه السلام) في الجمل وخروجها لمنع الإمام الحسين (عليه السلام) وبني هاشم من دفنهم الإمام الحسن (عليه السلام) في الروضة النبوية ومناداتها لهم: (ما لي ولكم،

تريدون ان تدخلوا بيتي من لا أحب)(1).

فمن الإجهار بالحرب وتجيش المسلمين لقتال الإمام علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) إلى الإجهار بعدم الحب وما يقتضيه ذلك من الاستبدال بالنقيض وهو البغض، فمن لا يحب لا يمكنه إلا أن يبغض، وهي حالة وجدانية (سايكلولجية) لا تحتاج إلى تدليل.

وعليه:

يفيد هذا السياق الدلالي من سلامها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بياتها في ثرى بقعة النبي (صلى الله عليه وآله) يكشف هذه الأمور الخاصة بشأنية فاطمة وإظهار منزلتها المتلازمة تلازماً لا ينفك من شأنية سيد الخلق (صلى الله

عليه وآله).

ومن ثم سنرى –كما سيمر لاحقاً- انتقاله (عليه السلام) إلى سياقات دلاليةأخرى يظهر فيها جملة جديدة من الحقائق، وهو ما سنقارب به قصديته (عليه الصلاة والسلام) في قوله:

«والبائتة في الثرى ببقعتك .»

وهو كالآتي:

ص: 202


1- الارشاد للمفيد (رحمه الله): ج 2 ص 17 ؛ ولمزيد من الاطلاع على مجريات الحدث وتحليله، ينظر كتابنا الموسوم ب(وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وموضع قبره): ص 295 - 390 .
المسألة الأولى: قصدية البيات في الثرى النبوي بين تغيّب قبرها وحظوره
اشارة

يأخذنا النص الشريف هنا إلى حقائق جديدة على اختصار اللفظ الشريف، فقد تدرج (عليه السلام) من تحديد زمان قوله ومخاطبته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الكلمات إلى بيان موضع قبرها، ثم شأنية ثرى البقعة النبوية، ووصولاً إلى تحديد هذه البقة، وانتهاءً بفضح المبطلين في النبي (صلى الله عليه وآله) في بيت عائشة، فضلاً عن بيان شأنية فاطمة (عليها اسلام) وهو جوهر السياق الدلالي من بدء حديثه (عليه السلام) إلى هنا، فقد كانت قصدية منتج النص هي مراعاة هذه الحرمة التي لو راعها المسلمون لما فجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه

المصيبة.

من هنا:

فقد كشف النص عن هذه الحقائق وغيرها، وهي كالآتي:

أولاً: قصدية البيات بدلالته الزمانية، وارتكازه بوصيتها لعلي (علیه السّلام)

يفيد معنى البيات لغةً تحديد الزمان الذي يمر على الإنسان (فكل من أدركه الليل فقد بات، نام أم لم ينم)(1).

وهذا يدل على قصدية منتج النص (عليه السلام) في اظهار وقت دفنه لفاطمة(عليها السلام)، اي: تحديد الزمان الذي وقف فيه أمير المؤمنين على بن أبي طالب (عليه السلام) يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن ادركه الليل وقبل طلوع الفجر.

وإنّ دفن فاطمة (عليها السلام) كان في هذا الوقت كما هي أوصت بذلك إلى علي (عليه السلام)، و إنَّ اركاز قصدية منتج النص في بيان التزامه (عليه السلام)

ص: 203


1- لسان العرب لابن منظور: ج 2 ص 16 .

لما جاء في وصيتها له في كيفية دفنها وتجهيزها والصلاة عليها، وتحديد زمان ذلك ومن يقوم به؛ فقالت له:

«يا بن العم إنه قد نعيت إلى نفسي وإنني لا أرى ما بي، إلا إنني لا حقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي .»

قال لها (عليه السلام):

«أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .»

فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثم قالت:

«يا بن العم ما عهدتني كاذبة، ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني .»

فقال (عليه السلام):

«معاذ الله، أنت أعلم بالله، وأبرّ وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله، أن أوبخك بمخالفتي، قد عزّ علي مفارقتك وفقدك إلا أنه أمر لا بد منه، والله قد جددتِ عليَّ مصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما افجعها، وألمّها، وأمضاها، وأحزنها، هذه والله مصيبة لا عزاء لها، ورزية لا خلف لها .»

ثم بكيا جميعاً ساعة، وأخذ علي (عليه السلام) رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال:«اوصيني بما شئت، فإنك تجديني فيها أمضي كما أمرتني به، واختار أمرك على أمري .»

ص: 204

ثم قالت:

«جزاك الله عني خير الجزاء، يا ابن عم رسول الله، أوصيك في نفسي وهي أحب الأنفس إلي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذا أنا متّ فغسلني بيدك وحنطني، وكفنّي، وادفني ليلاً .»

ثم قالت لعلي (عليه السلام):

«إن لي إليك حاجة يا أبا الحسن .»

فقال (عليه السلام):

«تقضى يا بنت رسول الله (صلى لله عليه وآله وسلم) .»

قالت:

«ناشدتك بالله، وبحق محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن لا يصلي عليَّ أبو بكر وعمر، فإني لا أكتمك حديثاً .»

فقالت:

«قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يا فاطمة! إنك أول من يلحق بي من أهل بيتي، فكنت أكره أن أسوءك .»

ثم قالت:

«أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقّي، فإنهم عدوي وعدو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا تترك أن يصلي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل، إذا هدأت العيون، ونامت الأبصار .»(1).

ص: 205


1- بحار الأنوار: ج 43 ص 191 - 192 ، بيروت، ج 29 ص 112 ، الطبعة الحجرية؛ مستدرك الوسائل للنوري: ج 2 ص 290 ؛ روضة الواعظين للفتال: ص 181 ؛ ناسخ التواريخ: ص 201 ؛مسند فاطمة عليها السلام لحسين شيخ الإسلام: ص 480 ؛ موسوعة هذه فاطمة للمؤلف: ج 7 ص 310 - 313 .

وهذا القسم من وصيتها لعلي (عليه السلام) والذي تعلق بوصيتها بنفسها ومناشدتها أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في أن لا يحضر جنازتها أبو بكر وعمر ولا أحد ممن ظلمها، وأن تدفن في الليل إذا هدأت العيون، ونامت الأبصار، وهو الذي يتسق مع دلالة قوله (عليه السلام):

«البائتة في الثرى ببقعتك .»

فالبِيَاتْ هنا بمعنى: إدراكها الليل وهي في بقعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّ وقت مخاطبته (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) هي بعد انقضاء شطراً من الليل وقُبيل طلوع الفجر وهذا في بيان معنى «البيات » بدلالته الزمانية.

أما دلالته المكانية فهي تفيد معنى آخر كما سيأتي في ثانياً.

ثانياً: قصدية البيات بدلالته المكانية

يفيد (البَياتْ) أو (البائِتْ) في بيان الدلالة المكانية لمن يبيت، ف(البائِتْ) وهو (الغائب)(1) لمن لا يكون له ظهور في المكان؛ فمن يبيّت أمراً في نفسه غيّبه من الظهور ومن كان بائت في داره يكون غائباً عن الأنظار في خارج الدار.

وهنا يفيد معنى قوله (عليه السلام):

«البائتة في الثرى ببقعتك .»

أي: الغائبة في الثرى؛ بمعنى: أن الثرى الذي غيّب فيه جسد الزهراء فاطمة (عليها السلام) هو بقعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وثراه وليس في

ص: 206


1- لسان العرب لابن منظور: ج 2 ص 16 .

ثرى آخر ولا في مكان آخر، بل هي تحديداً في بقعته (صلى الله عليه وآله) وهذا يقطع الطريق على الظنون في كونها دفنت في مكان آخر.

وهذا ما سنعرض له في المسألة الآتية.

المسألة الثانية: قصدية البيات في ثرى البقعة النبوية بتحديد مكان
اشارة

إن الاختلاف في موضع قبر بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرده إلى قيام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) بتنفيذ وصيتها (عليها السلام) في اعفاء موضع قبرها وأن لا يشهد جنازتها أحد ممن ظلمها، فلم يؤذن بها أبو بكر وعمر بن الخطاب خاصة(1)، ولذا دفنها (عليه السلام) في الليل(2).

ولذلك اصبح قبرها واخفاؤه وتغيّبه عن المسلمين من الخصائص التي اختصت بها سيدة نساء العالمين (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) على بنات ونساء الأنبياء والمرسلين، بل حتى الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين فقد

ص: 207


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1 ص 491 ، وجاء فيه (لم يعلم أبا بكر وعمر بذلك)؛ الإصابة لابن حجر: ج 8 ص 60 ، طبعة دار الجبل، وجاء فيه (إن علياً صلى عليها ودفنها بليل بعد هداة)؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 3 ص 369 ؛ سبل السلام للصنعاني: ج 2 ص 236 ؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 6 ص 554 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22 ص 398 ؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1 ص 137 ، باب 23 ، وقال: (ولم يؤذن بها أبا بكر)؛ المغني لابن قدامة: ج 3 ص 503 ؛ وفاء الوفاء للسمهودي: ج 3 ص 901 - 902 ؛
2- المصنف لابن أبي شيبة: ج 3 ص 31 برقم 11827 ؛ المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 3 ص 521 برقم 6554 ؛ حاشية ابن القيم: ج 8 ص 309 ؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج 4 ص 31 برقم 6702 ؛ معرفة الثقات للعجلي: ج 2 ص 458 ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8 29 ؛ المغنيلابن قدامة: ج 2 ص 218 ؛ المدونة الكبرى لمالك بن انس: ج 1 ص 186 ؛ تهذيب الكمال للمزي:ج 35 ص 252 .

كانت لهم قبور معروفة واضرحة مشهودة كما هو حال قبورهم في بيت المقدس وغيره من الأماكن والمدن كالنجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكوفة والمدينة المنورة ومكة.

فمن حجر نبي الله اسماعيل إلى قبر إبراهيم الخليل مروراً بقبر سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها شواهد حق تطالب بمعرفة اختفاء قبر فاطمة وتغيّبه وهي ابنة خاتم الأنبياء وأشرفهم وسيدهم، فضلاً عن كونها من أفضل النساء الأربعة وخيرهم وسيدتهم جميعاً، كما مرّ بيان بعض الأحاديث الشريفة في شأنها سابقاً في كونها قرة عين رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم).

ولذا:

فقد اختلف المسلمون على اختلاف مشاربهم العقدية ومدارسهم الفقهية في تحديد موضع قبرها (عليها السلام) وذلك للعلة التي مرّ ذكرها.

وعليه:

يمكن لنا ان ندرج الأقوال في تحديد موضع قبرها لإظهار قصدية منتج النص (عليه السلام) في قوله «البائته في الثرى ببقعتك » كالآتي:

أولاً: إن قبر فاطمة (علیها السّلام) في دارها الذي كان ملاصقاً للحجرة النبوية

وقد دلت عليه بعض الروايات الشريفة الواردة عن أئمة آل البيت (عليهم السلام)، وهي:

1- أخرج الحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الإمام أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: (سألته عن فاطمة بنت رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ): أيّ مكان دفنت؟ فقال:

ص: 208

«سأل رجل جعفر(1)(عليه السلام) عن هذه المسألة، وعيسى بن موسى حاضر، فقال له عيسى: دفنت في البقيع، فقال الرجل ما تقول؟ فقال: قد قال لك، فقلت له أصلحك الله ما أنا وعيسى بن موسى؟ أخبرني عن آبائك؟ فقال (عليه السلام): دفنت في بيتها .»(2).

-2-وأخرج الكليني والصدوق، عن ابن أبي نصر قال:(سألت الرضا (علیه السّلام) عن قبر فاطمة (علیها السّلام)؟ فقال:

«دفنت في بيتها، فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد .» )(3).

3- أخرج الشيخ الكليني عن عبد بن رزين قال: (كنت مجاوراً بالمدينة، مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان أبو جعفر (عليه السلام) يجيء في كل يوم مع الزوال إلى المسجد فينزل في الصحن ويصير إلى رسول الله (صلى الله عليه

وآله وسلم) ويسلّم عليه ويرجع إلى بيت فاطمة (عليها السلام) فيخلع نعليه ويقوم فيصلي).(4)

ثانياً: إنه في الروضة التي بين منبر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقبره

1- روى الصدوق عن أبي بصير، عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين قبري ومنبري روضة من رياض

ص: 209


1- أي: الامام الصادق (عليه السلام)
2- قرب الإسناد للحميري: ص 367 ، وص 160 ؛ مستدرك الوسائل: ج 10 ، ص 211 .
3- الكافي للكليني: ج 1، ص 461 ؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 229 ؛ تهذيب الأحكام:ج 3، ص 355 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1، ص 311 ؛ معاني الأخبار: ص 268 ؛وسائل الشيعة: ج 14 ، ص 369 .
4- الكافي للكليني: ج 1، ص 493.

الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنة لأن قبر فاطمة (عليها السلام) بين قبره ومنبره وقبرها روضة من رياض الجنة وإليه ترعة من ترع الجنة .»(1).

2- أخرج الطوسي في زيارة فاطمة (عليها السلام) فقال:

(إنك تأتي الروضة فتزور فاطمة (عليها السلام) لأنها مدفونة هناك)(2).

3- ويستفاد من وصية الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أنها مدفونة في الروضة فقد جاء في وصيته لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام): «يا أخي إني أوصيك بوصية فاحفظها فإذا أنا مت فهيئني، ثم وجهني إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأحدث به عهداً، ثم اصرفني لأمي فاطمة، ثم ردني فأدفني بالبقيع، واعلم أنه سيصيبني من الحميراء ما يعلم الناس من صنيعها .»(3).

4- أخرج ابن جرير الطبري (الشيعي) عن إبراهيم بن محمد بن جبرائيل قال: (رأيت الحسن بن علي وقد استسقى ماء فأبطأ عليه الرسول فاستخرج من سارية المسجد ماء فشرب وسقى أصحابه ثم قال:

«لو شئت لسقيتكم لبنا وعسلا؟ قلنا: فاسقنا، فسقانا لبنا وعسلا من سارية المسجد مقابل الروضة التي فيها قبر فاطمة عليها السلام .)» (4).

5- روى السيد ابن طاووس في الإقبال عن أبي الحسن إبراهيم بن محمد الهمذاني قال: كتبت إليه، أي الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام: (إن رأيت أن تخبرني عن

ص: 210


1- معاني الأخبار: ص 267 .
2- تهذيب الأحكام: ج 6، ص 9.
3- وسائل الشيعة: ج 3، ص 164 .
4- دلائل الإمامة للطبري: ص 66 .

بيت أمك فاطمة أهي في طيبة، أو كما يقول الناس في البقيع فكتب؟:

«هي مع جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) .»(1).

6- قال السمهودي: المقصورة اليوم دائرة عليه وعلى حجرة عائشة، والمحراب الذي ذكره ابن النجار إنه في بيت فاطمة يكون خلف حجرة عائشة من جهة الزور، بينه وبين موضع تحترمه الناس ولا يدوسونه بأرجلهم يذكر أنه موضع قبر فاطمة)(2).

ثالثاً: إنه في البقيع

ولقد أشارت جملة من الروايات على أن قبرها (عليها السلام) كان في البقيع، فمنها:

1-قال المراغي: إنه في البقيع(3).

2- قال ابن شبة النميري: إن قبر فاطمة (عليها السلام) وجاه زقاق نبيه، وإنه إلى زاوية دار عقيل أقرب)(4).

3- وقد أشار بعض أبناء العامة إلى أنه في البقيع عند قبور أبناءها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)(5).

ص: 211


1- مستدرك الوسائل: ج 10 ، ص 210 .
2- وفاء الوفاء للسمهودي: ج 2، ص 469 .
3- تحقيق النصرة للمراغي: ص 126 .
4- تاريخ المدينة لابن شبة النميري: ج 1، ص 105 .
5- تاريخ بغداد: ج 1، ص 138 ؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، ص 392 ؛ الطبقات لابن سعد:ج 8، ص 29 ؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 4، ص 125 ؛ نزهة الناظرين للبرزنجي: 114 .

إلاّ أن الذي عليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) إنها مدفونة في بيتها فهي في داخل الروضة النبوية المقدسة، وفي ذلك أشار الشيخ الطوسي فقال: (وقد اختلف أصحابنا في موضع قبرها، فقال بعضهم: إنها دفنت بالبقيع، وقال بعضهم: إنها

دفنت بالروضة، وقال بعضهم: إنها دفنت في بيتها، فلما زاد بنو أمية (لعنهم الله) في المسجد صارت من جملة المسجد، وهاتان الروايتان كالمتقاربتين، والأفضل عندي أن يزور الإنسان من الموضعين جميعا، فإنه لا يضره ذلك ويجوز به أجرا عظيما، وأما

من قال إنها دفنت بالبقيع فبعيد من الصواب، والذي روي في فضل زيارتها أكثر من أن يحصى)(1).

فضلاً عن ذلك فإن دلالة قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مخاطبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله سلم): «والبائتة في الثرى ببقعتك .»

تكشف النقاب عن حقيقة موضع قبرها (عليها السلام) فهي في ثرى بقعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وروضته الفردوسية، وأن ما ورد عن الأئمة (عليهم السلام) في أنها دفنت في دارها فهو محمول على كون دارها واقعاً في الروضة وأن قوله (صلى الله عليه وآله):

«ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة .»(2).

هو يشمل حجرتها التي عاشت فيها وولدت أولادها وماتت فيها وأن باب بيت فاطمة هو الباب الذي استثناه رسول الله (صلى اله عليه وآله وسلم) من الإغلاق

ص: 212


1- تهذيب الأحكام للطوسي: ج 6، ص 9.
2- المصنف لابن ابي شيبة الكوفي: ج 7 ص 413 .

حينما أمره الله تعالى بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد(1).

وعليه:

فإن قبرها في ثرى بقعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي دُفن فيها وهي روضة من رياض الجنة وترعة من ترعها.

لكن ثمة سؤال آخر..

إذا كان الإمام علي (عليه السلام) قد دفن فاطمة (عليها السلام) في ثرى بقعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف تمكن من ذلك، وعائشة تقول أنه دفن في دارها؟!!

وكيف يتحقق عمل الإمام علي (عليه السلام) بدفن فاطمة في الليل كما اوصته بذلك وأن يدفنها سراً، والنبي مدفون في بيت عائشة؟!، ألا ينافي ذلك مع تحقق غرض الدفن في الليل وسرية هذا العمل واخفاء قبرها؟!!

إنها أسئلة تبحث عن الإجابة، وجوابها في المسألة القادمة.

المسألة الثالثة: دلالة بياتها (علیها السّلام) في ثرى النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يكشف اكذوبة دفن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في بيت عائشة، وانها قصدية سبقت وقوع الحدث

إن من الحقائق التي تكشف حجم الظلم الذي أنزله بعض الرموز الإسلامية في تغيير وجه الإسلام وحرفه عن مساره هي حقيقة موضع قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحديد مكانه.

ص: 213


1- للمزيد من الاطلاع ينظر: ظاهرة الاستقلاب في النص النبوي والتاريخي، للمؤلف.

والنص الشريف الوارد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مخاطبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله):«والبائتة في الثرى ببقعتك .»

يدفع إلى البحث عن معرفة موضع قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لما هو ثابت عند المسلمين من أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دُفن في بيت عائشة ومن ثم تم دفن أبي بكر وعمر في بيتها، وقد ورد عنها في ذلك بعض

الأحاديث كما روي عن غيرها كذلك، ومنها:

1- أخرج ابن سعد في الطبقات، عن عائشة أنها قالت: (ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي حتى دُفن عمر، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جداراً)(1).

2- ولما طُعن عمر بن الخطاب وأدرك أنه هالك من هذه الطعنة أرسل إلى عائشة يطلب منها أن يُدفن إلى جنب صاحبه أبي بكر فقال لها: (إن كان لا يضرك ولا يضيق عليك، فإني أحب أن أُدفن مع صاحبي)(2).

3-ولما دُفن عمر في بيت عائشة قامت ببناء جدار، ففصلت بين قبر أبي بكر وعمر والقبر الوهمي الذي صنعته، فنسبته للنبي (صلى الله عليه وآله) لتثبت في أذهان الناس أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد دُفن في بيتها وإلى جواره دُفن أبيها وصاحبه عمر بن الخطاب فقامت فبنت جداراً بين هذه القبور فقسمت البيت إلى قسمين، وفي ذلك يقول مالك بن أنس: (قُسّم بيت عائشة باثنين، قمس كان فيه القبر، وقسم كأن تكون ناحية عائشة وبينهما حائط، فكانت عائشة ربما دخلت

ص: 214


1- الطبقات الكبرى: ج 3 ص 264 ؛ وفاء الوفاء للسمهودي بتحقيق السامرائي: ج 2 ص 301 .
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3 ص 99 برقم 4519 .

حيث فصلاً، فلما دُفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها(1).

والسؤال المطروح:

إذا كانت عائشة قد أظهرت للمسلمين بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دُفن في بيتها، وأن قبره (صلى الله عليه وآله) وقبر أبيها وصاحبه في جهة من البيت، وأنها قامت ببناء جدار بفصل البيت عن هذه القبور!

فكيف قام الإمام علي (عليه السلام) بدفن فاطمة في ثرى بقعة النبي (صلى الله عليه وآله) دون علم عائشة بذلك؟!!

وعليه فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أنّ الإمام علي (عليه السلام) قد دفن فاطمة (عليها السلام) في ثرى البقعة التي دُفن فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون علم عائشة ومعرفتها بذلك، وهذا محال لا سيما وأنه عليه السلام قد

دفن فاطمة (عليها السلام) في الليل كما هو ثابت في المصادر الإسلامية التي أجمعت على ذلك فلم ولن نجد رواية تخبر عن أن علي (عليه السلام) قد دفن فاطمة (عليها السلام) في النهار وفي علم من الناس وشهود منها لجنازتها ومدفنها.

وأما الخيار الآخر وهو أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دُفن في مكان آخر غير بيت عائشة، وهو الصحيح الذي أثبتناه من خلال الدراسة الموسومة ب(وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره وروضته بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه).

وقد خلصت الدراسة إلى أمور عدة، منها:

ص: 215


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 364 ؛ وفاء الوفاء للسمهودي بتحقيق السامرائي: ج 2 ص 301 .

1- إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد تولى تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويعينه في ذلك ثلّة ممن ثبت ولم يذهب إلى سقيفة بني ساعدة لغرض التحزب لأحد الطرفين المتنازعين في تولي

السلطان والإمارة.

2-إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دفنه الإمام علي (عليه السلام) حيث قبض، وهي حجرته الخاصة التي اعتزل نساءه فيها شهراً، وهي الموضع الذي كان يعتكف فيه، ومرّض فيه مرضه الذي توفي بسببه، ومات فيه، ودُفن فيه وأنه في الروضة النبوية داخل المسجد.

3- إنَّ أبا بكر وعمر دُفنا في بيت عائشة فيكونا بذلك خارج حدود المسجد النبوي فهما لم ولن يكونا في روضته (صلى الله عليه وآله وسلم).

4-إنَّ هذا القبر الذي في بيت عائشة والذي نُسب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو قبر رمزي ومختلق وكذبة من أكاذيب السلطة والإمارة(1) التي انبثقت يوم انعقاد مجلس سقيفة بني ساعدة.

فهذا الثرى الطاهر والبقعة النبوية ما هي إلا روضة من رياض الجنة قد أنشئها الله تعالى بلطفه وسابق علمه لسيد خلقه وأشرف أنبيائه ورسله، فكيف يحل فيها غيره وهي روضة الحبيب المصطفى المطهر من الرجس، فلا يحل فيها إلا المطهرون

وهم الذين نص عليهم القرآن وجللهم النبي (صلى الله عليه وآله) بالكساء اليماني، وهم: فاطمة وابوها وبعلها وبنوها.

ص: 216


1- هاتان المفردتان وردتا على لسان عمر بن الخطاب في يوم السقيفة حينما كان يتجاذب الحديث بينه وبين الأنصار فقال: (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته)، تاريخ الطبري:: ج 2 ص 457 ؛ نهاية الإرب للنويري: ج 19 ص 34 .

إنه ثرى خاص في بقعة خاصة ليس لها نظير إلا من كان طاهراً كطهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا يظهر قصدية منتج النص (عليه السلام) التي سبقت وقوع الحدث في ادعاء عائشة بأن النبي دفن في بيتها وان بيتها في الروضة لتجعل من دفن ابيها وصاحبه شأنية وقدسية لهما وهو اكذوبة فوضتها حقيقة دفن فاطمة (عليها السلام) في بقعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ما يعد اعجازاً ومن المغيبات التي تحدَّث عنها منتج النص قبل وقوعها، فبين دفن ابي بكر ومدعى عائشة لسنوات.

فضلاً عن ذلك فقد اكتنز النص قصديات جديدة تكمن في بيان التلازم بين عمل الانسان وشأنيته وموضع قبره، بل ان هناك تلازماَ بين ثرى القبر والطينة التي خلق منها الانسان.

ولذا:

بِمَ تختلف هذه البقعة النبوية والثرى الذي باتت فيه بضعته فاطمة صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها؟!

هذا ما سنتناوله في المبحث القادم.

ص: 217

ص: 218

المبحث الثامن: المقاصدية في إيراده لفظ «ببقعتك » وإلحاق

اشارة

ص: 219

قوله (عليه السلام) «النَّازِلَة فيِ جِواَرِكَ البْاَئتِة فيِ الثَّرىَ ببِقُعتَكِ »َ
اشارة

ص: 220

ينقلنا منتج النص (عليه السلام) في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى معارف متجددة تبين مكنون لفظ (الثرى) ودلالته الى مكنون لفظ (بقعتك) ودلالاتها حقائق عديدة يفرضها النص على المتلقي تقوده الى التأمل والبحث والدراسة في مقاربة قصدية منتج النص (عليه السلام) حينما اتبع لفظ الثرى بلفظ (البقعة) وإن كان مؤداها الدلالي والمعرفي في بادئ الامر هو واحد: فالمقصود في ذلك ان فاطمة (عليها السلام) قد دفنت في جوار النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذه هي القوة الانجازية لفعلي (النزول والبيات)، اي: قوله (عليه السلام):

«النازلة في جوارك والبائتة في الثرى ببقعتك »؛ فالمؤدى التواصلي فيما بين منتج النص والمتلقي قد تحقق وظهر غرضه في تحديد موضع قبرها و أين دفنها (عليها السلام).

لكن السؤال: لماذا اردف لفظ (الثرى) ب(البقعة) والصاقها بالضمير فخصصها به (صلى الله عليه وآله)؟

في حين لو تم الاكتفاء بلفظ الثرى والنزول بالمجاورة لتحقق الغرض في بيان الموضع الذي وقفت فيه فاطمة (عليها السلام)، كأن يقول -مثلاً-: «النازلة في جوارك والبائتة في ثراك » لكنه جاء بلفظ آخر عضّد به حقيقة جديدة فكانت له فيها قصدية محددة.

وفي هذا المبحث نحاول ان نقارب قصدية منتج النص (عليه السلام) في ايراده للفظ البقعة وذلك فيما نتناوله في المسائل الآتية.

ص: 221

المسألة الأولى: قصدية التلازم بين خلق طينة ابدان العترة النبوية والمثلية في القرآن الكريم

إنّ المقاربة الاولى لقصدية منتج النص (عليه السلام) في ايراده لفظ «بقعتك » هو اظهار الملازمة بين خلق طينة ابدان العترة النبوية (عليهم السلام) وبين المثلية التي نص عليها القرآن الكريم، فالبقعة هنا هي طينة قبر النبي (صلى الله عليه وآله)

وخصوصية العلاقة فيما بينها وبين ابدان العترة النبوية وذلك لبيان التخصيص في كون هذه البقعة روضة من رياض الجنة، ومن ثم فإن لبيات فاطمة فيها علاقة بالطينة التي خلقت منها ابدانهم.

وعليه:

فإن حقيقة أبدان العترة الطاهرة ليست كأبدان الآدميين، وهي حقيقة لم تختص بالمدرسة الإمامية وإنما تناولها أئمة مدرسة السنة والجماعة في كتبهم، منها الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، قال النبي (صلى الله عليه وآله

وسلم): «إني لست كهيئتكم »(1).

وإن الاختلاف بين هيئة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أي بدنه الشريف وبين أبداننا يعود إلى الطينة التي خلق منها محمد (صلى الله عليه وآله

ص: 222


1- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الصوم، باب الوصال: برقم ( 1836 )، وج 2، ص 242 ، ط دار الفكر؛ وأخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الصوم باب النهي عن الوصال، برقم ( 1105 )، وج 3، ص 134 ، ط دار الفكر، بيروت؛ وسوف نورد المزيد من مصادره في باب: خلقها من ثمار الجنة؛ المجموع للنوري: ج 6، ص 356 ؛ كتاب الموطأ لمالك: ج 1، ص 300 ؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 64 ، ص 252 ؛ مسند احمد بن حنبل: ج 2، ص 128 .

وسلم) وعترته الطاهرة فهي غير الطينة التي خلق منها بني آدم، فطينة النبي وعترته (عليهم السلام) كانت من السماء وطينة جميع الناس من الأرض.

وشتان بين عالم السماء الذي يسمى بعالم الأمر وبين عالم الخلق وهو الأرض، فكل عالم له خصائصه وأحواله التي تختلف كلياً عن العالم الآخر.

فعالم الأمر لا كثافة لمادته التي تتكون منها الأشياء؛ وفي نشوئها لا تحتاج إلى مدة زمنية؛ لأنها تظهر بأمر الله عزّ وجلّ، أمّا عالم الخلق والجسمانيات فالأشياء فيه لا تتكون إلاّ من مادة، ولا تستغني عن الزمن، والإنسان جمع الله فيه عالم الأمر وعالم

الخلق، فالروح من عالم الأمر والجسد من عالم الخلق، والروح لا تتدرج في النمو إنما الذي ينمو هو البدن وهو الذي يتدرج.

وعالم الروح طاهر نوراني، وعالم البدن مركب ظلماني، والروح باقية، والبدن فانٍ، والمتوفى الذي حضر أجله لا تموت فيه الروح إنما في الحقيقة الذي يموت هو البدن لخروج الروح منه. وهذا يعني أن الأشياء التي مصدرها عالم الأمر كالروح فهي باقية حيّة وتبعث الحياة في الأجسام التي خلقت من عالم الخلق وما الحياة في عالم الخلق إلاّ لحلول جزء من عالم الأمر فيها وهي الأرواح فإذا تركت الروح الجسد عاد الجسد إلى عالمه الذي خلق منه وأخذ حالته وصفته وطبعه الذي جعله الله فيه؛ومن طباع عالم الخلق الفناء والاضمحلال والزوال.

ومن هنا: نجد أن نبي الله الخضر عليه السلام كان إذا جلس على جذع يابس اخضر وإذا مشى على الأرض الميتة اخضرت، ولهذا سمي (بالخضر)، والسر في ذلك وعلته، إنه عليه السلام شرب من ماء الحياة، وماء الحياة هو ماء من عالم الأمر الذي تكون الأشياء فيه باقية حية وتبعث الحياة في الأجسام الميتة بإذن الله تعالى،وهي حقيقة نص عليها القرآن في قوله تعالى:

ص: 223

﴿وَإذِ قَالَ مُوسَى لفِتاَهُ لَا أبَررَحُ حَتىَّ أبَلُغَ مَمْجعَ البْحَرَيْنِ أوَ أمَضِی حُقُباً * فَلَمَّ بَلَغَا مَمْجعَ بَينْهِمَا نَسِياَ حُوتُهمَا فَاتَّخذَ سَبيِلَهُ فِ البْحَرِ سَربًا * فَلَمَّ جَاوَزَا قَالَ لفِتاَهُ آتَنِاَ غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِيناَ مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إذِ أَوَيْناَ إلِی الصَّخْرَةِ فَإنِّ نَسِيتُ الُحوتَ

وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخذَ سَبِيلَهُ فِی الْبَحْرِ عَجَبًا)(1).

وسبب تعجّب وصيّ موسى (عليه السلام) هو عودة الحياة للسمكة المجففة اليابسة حينما لامست ماء الحياة فأخذت تجري فيها.

وهكذا هي الأجسام التي خلقت من عالم الملك فإنها إذا اتصلت بشيء من عالم الأمر عالم السماء ظهرت فيها الحياة بإذن الله، وإذا فارقتها ماتت وفنيت؛ لأنها تخضع لقانون وحالة من حالات عالم الخلق.

فحقيقة الموت هو إرجاع كل جزء إلى عالمه فالروح تعود إلى عالمها الذي خلقت منه وهو عالم الأمر بعد مراحل تمر بها وهي القبر ثم البرزخ ثم المحشر ثم الحساب ثم إما إلى النار -والعياذ بالله- وإما إلى الجنة حيث تنقاد هذه الروح إلى قوانين ذلك العالم وطبيعته ومنها البقاء والخلود، أما الجسد فيعود إلى عالمه فتنحل مادته وتنصهر خلاياه وهو آخر أمره.

أما قبل هذه المرحلة فإن الأجسام بعد تحلل مادتها تعاد مرّة أخرى كما ينصهر الذهب، ويعاد شكله من صورة إلى أخرى فقد تعود بعض ذرات هذه الثمرة إلى ذلك البدن الإنساني أو الحيواني، بعد أن يمزج الجميع في التربة، أما عند يوم البعث فإن الأجساد تعود إلى نواتها فتتجمع الذرات حول نواة الأجسام وتعاد إلى هيئاتهاوصورها التي خلقها الله تعالى شأنه.

ص: 224


1- سورة الكهف، الآية ( 60 - 63 ).

ويتعارف الناس بصورهم وهيئاتهم التي خلقوا عليها باستثناء العلل التي كانت في هذه الأبدان في الحياة الدنيا؛ إذ يتخلص البدن من جميع عيوبه وعلله في يوم البعث من القبور، يوم النشر والحشر.

ومن هنا:

فإنّ بدن النبي الأعظم والإمام علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) تختلف عن أبدان الخلق أجمعين؛لأن الطينة المقدسة التي خلقوا منها هي من عالم الأمر والسماء، من عالم النور، فهي بذلك طاهرة لطيفة لا كثافة فيها مع أن الأبصار تدركها والحواس تحسها.

بمعنى آخر:

أن الله تبارك وتعالى جمع في بدن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) المثلية البشرية كما نص عليها قوله تعالى:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَر مِثْلُكُمْ)(1).

فهو يأكل مما يأكله البشر ويتزوج كما يتزوجون وله ولد كما لهم وإنه ولد من أبوين وغيرها من المظاهر والأفعال البشرية التي تنزهه عن الغلو وتجعله في مصاف البشرية الآدمية.

إلا أن هذه المثلية التي نص عليها القرآن الكريم قد جمع الله معها آثار النور والروح والطينة التي خلق منها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي أشارت الأحاديث الشريفة إلى مواضعها من السماء.

ص: 225


1- سورة الكهف، الآية ( 110 ).

فكان للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخصائص النبوية التي تفرد بها عن أنبياء الله مع ما له من المثلية البشرية التي جاء بها القرآن الكريم، وبعضاً منها شاركهم فيها، وهذه الخصائص النبوية هي كالآتي:

1- لا يقع على بدن النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا على ثيابه الذباب والبعوض(1).

2-لا يشم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رائحة كريهة(2).

3- لا يصيبه حر ولا برد(3).

4- إن النبي الأكرم يكون طاهر الحدثين، يعني طاهر البول والغائط(4).

5- إن دمه (صلى الله عليه وآله وسلم) طاهر(5).

6- إن جسد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تأكله الأرض فهو لا يبلى(6).

7- لا يرى ما يخرج منه عند الاختلاء فالأرض تبتلع ما يخرج منه(7).

ص: 226


1- الخصائص النبوية للقسطلاني: ص 85 ؛ تاريخ الخميس للدياربكري: ج 1، ص 219 ؛ الشفا للقاضي عياض: ج 1، ص 368 .
2- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 108 ؛ البحار للمجلسي: ج 16 ، ص 176 .
3- سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسيد العلامة الطباطبائي: ص 403 .
4- الشفا بحقوق المصطفى للقاضي عياض: ج 1، ص 63 .
5- طهارة آل محمد للسيد علي عاشور: ص 210 .
6- سنن النبي للعلامة الطباطبائي: ص 86 ؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 4،ص 560 ؛ سنن السجستاني: حديث 1531 .
7- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 171 ؛ الفضائل لابن شاذان القمي: ص 29 ؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 8، ص 21 ؛ الصفا بحقوق المصطفى للقاضي عياض: ج 1، ص 63 ؛ أخبار اصبهان للحافظ الاصبهاني: ج 1، ص 211 .

8- لا تصيبه الجنابة من الاحتلام فالشيطان لا يقربه، ولذا فهو لم يحتلم قط(1).

9- ليس للنبي الأكرم ظل، أي إذا وقف في الشمس أو في أي ضوء فلا يرى له ظل(2).

10- إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسمع في منامه كما يسمع في انتباهه(3).

11-لا ينتقض وضوؤه بالنوم(4).

12- إن العود اليابس يخضر في يديه (صلى الله عليه وآله وسلم)(5).

13- ولد مختونا ومقطوع السرة(6).

14-خرج يوم ولدته آمنة ولم يكن به قذر(7).

15- كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى في الظلمة كما يرى في الضوء(8).

16-غوص قدميه في الصخر إذا مشى(9).

17- إنه حي في قبره ويصلي(10).

ص: 227


1- الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2، ص 571 .
2- امتاع الأسماء للمقريزي: ج 10 ، ص 308 ؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي: ج 2، ص 90 .
3- سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للطباطبائي: ص 408 .
4- السنن الكبرى للبيهقي: ج 1، ص 202 .
5- مصباح الكفعمي: ص 733 .
6- الخصائص النبوية للقسطلاني: ص 85 .
7- المصدر السابق.
8- عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني: ج 5، ص 254 ؛ الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: ج 1، ص 68 .
9- الخصائص النبوية للقسطلاني: ص 90 .
10- الخصائص النبوية للقسطلاني: ص 189 .

18-إن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه، وقد تناقلت هذه الحقيقة صحاح أهل السنة والجماعة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إني لأراكم من وراء ظهري .»(1).

وغيرها من الخصائص النبوية التي تفرد بها (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي خلاف ما عليه البشر وتتقاطع مع المثلية معهم.

إذن:

تنص الآية المباركة ﴿قُلْ إنِّمَا أَنَا بَشَر مِثْلُكُمْ)(2) على أن هذه المثلية البشرية مقيدة بقيود، هذه القيود حددت من اطلاق المثلية التي نصت عليها الآية وقد تمثلت

بتلك الخصائص التي ليس لبشر أن حظي بها سوى الانبياء والمرسلين وعترته أهل بيته الذين خلقهم الله تعالى من نوره ونور حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن طينتهم واحدة كما نصت عليها الأحاديث الشريفة.

وعليه:

فإن بدن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدن فاطمة، وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب والحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين من طينة واحدة، ولذا كان بيت فاطمة وعلي (عليهما السلام) في مسجد رسول الله يحل لهما فيه ما يحل لرسول

الله (صلى الله عليه وآله) وان خلقها من عالم الامر يجعلها متجانسة مع «بقعتك ،»

ص: 228


1- صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة: ج 1، ص 108 ؛ مسند أحمد: ج 2، ص 303 ، من رواية أبي هريرة.
2- سورة الكهف، الآية ( 110 ).

أي: مع البقعة التي دفن فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا: اعادها الامام علي (عليه السلام) الى موطنها فباتت في روضة من رياض الجنة.

المسألة الثانية: قصدية الملازمة بين طينة بدن فاطمة وطينة بدن النبي وانهما من الجنة، ومن بقعة واحدة
اشارة

تقتضي احادث خلق طينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته اهل بيته (عليهم السلام) ودلالة لفظ (بقعتك) وتخصيصها لمكان محدد من الثرى على الملازمة بين وحدة المنشأ والموضع والبقعة التي اخذت منها ابدان النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) اهل بيته الذين اذهب الله عنهم الرجس، وهي حقيقة نصت عليها العديد من الاحاديث الشريفة، منها:

أولاً: (إنها من جنة الفردوس)

عن عبيد الله بن يحيى، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن جده الحسن بن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إن في الفردوس لعيناً أحلى من الشهد وألين من الزبدة، وأبرد من الثلج، وأطيب من المسك، فيها طينة خلقنا الله عزّ وجلّ منها وخلق شيعتنا منها، فمن لم يكن من تلك الطينة فليس منّا ولا من شيعتنا، وهي الميثاق الذي أخذ الله عزّ وجلّ عليه

ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .»(1).

ص: 229


1- الأمالي للطوسي: ص 308 ، ح 620 / 67 ؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 42 ، ص 65 ؛ بشارة المصطفى للطبري: ص 318 ، ح 32 .
ثانياً: (إن هذه الطينة من عليين)

1-محمد بن عيسى بن أبي الحجاج قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام):

«يا أبا الحجاج إن الله خلق محمداً وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من طينة عليين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينة دون ذلك، وخلق قلوبهم من طينة عليين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد »(1).

2- قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «خلقنا من عليين، وخلق أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من عليين

وخلق أجسامهم من دون ذلك، فمن أجل القرابة التي بيننا وبينهم قلوبهم تحن إلينا »(2).

قال العلامة المجلسي رحمهُ الله: الحنين: شوق وتوقان النفس، نقول منه الله حنّ إليه يحن حنيناً فهو حان.

3-عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنّ الله خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم ممن دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية: ﴿كَلَّ إِنَّ كِتَابَ الْابْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ»(3).(4)

ص: 230


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 34 ؛ البحار للمجلسي: ج 25 ، ص 8، ح 12 ؛ مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي: ج 6، ص 623 .
2- بصائر الدرجات للصفار: ج 1، ص 19 ، وص 40 ، ح 10 ؛ الكافي للكليني: ج 1، ص 389 ، ح 1؛علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 117 ، ح 15 ؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 58 ، ص 44 ، ح 21 .
3- سورة المطففين، الآية ( 18 ).
4- بصائر الدرجات للصفار: ص 35 .

4- عن جابر بن عبد الله الجعفي قال: (كنت مع محمد بن علي عليهما السلام، فقال (عليه السلام):«يا جابر خلقنا نحن ومحبينا من طينة واحدة بيضاء نقية من أعلى عليين فخلقنا

نحن من أعلاها وخلق محبونا من دونها فإذا كان يوم القيامة التفّت العليا بالسفلى وإذا كان يوم القيامة ضربنا بأيدينا إلى حجزة نبينا وضرب أشياعنا بأيديهم إلى حجزتنا، فأين ترى يصيّ الله نبيه وذريته، وأين ترى يصيّ ذريته محبيهم .»

فضرب جابر يده على يده فقال: دخلناها ورب الكعبة، ثلاثاً)(1).

5-عن الصادق (عليه السلام) قال:

«إنّ الله عزّ وجل خلقنا من عليين، وخلق محبينا من دون ما خلقنا منه، وخلق عدونا من سجين وخلق محبيهم مما خلقهم منه فلذلك يهوي كل إلى كل »(2).

6-عن فصيل بن الزبير عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:

«أما علمت أن رسول الله قال: إنّا أهل بيت خلقنا من عليين وخلق قلوبنا من الذي خلقنا منه وخلق شيعتنا من أسفل من ذلك وخلق قلوب شيعتنا منه، وإن عدونا خلقوا من سجين وخلق قلوبهم من الذي خلقوا منه، وخلق شيعتهم من أسفل من ذلك وخلق قلوب شيعتهم مما خلقوا منه فهل يستطيع أحد من أهل

عليين أن يكون من أهل سجين، وهل يستطيع أهل سجين أن يكونوا من أهل عليين »(3).

ص: 231


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 36 .
2- بصائر الدرجات للصفار: ص 36 و 37 .
3- بصائر الدرجات للصفار: ص 38 .
ثالثاً: (إنها من طينة تحت العرش)

1- ابن عيسى عن ابن محبوب عن بشر بن أبي عقبة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قال:

«إن الله خلق محمداً من طينة من جوهرة تحت العرش، وإنه كان لطينته نضح فجبل طينة أمير المؤمنين من نضح طينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لطينة أمير المؤمنين عليه السلام نضح فجبل طينتنا من نضح طينة أمير المؤمنين عليهالسلام وكان لطينتنا نضح فجبل طينة شيعتنا من نضح طينتنا، فقلوبهم تحن إلينا وقلوبنا تعطف عليهم، تعطّف الوالد على الولد، ونحن خير لهم، وهم خير لنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير لنا، ونحن له خير .»(1).

2-عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

«إنّ الله عزّ وجل خلق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعترته من طينة العرش، فلا ينقص منهم واحد، ولا يزيد منهم واحد »(2).

3-عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: سمعته يقول:

«خلقنا الله من نور عظمته ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فأسكن ذلك النور فيه فكنا خلقاً نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيباً وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا، وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة ولم يجعل الله لأحد في مثل ذلك الذي خلقهم منه نصيباً إلا الأنبياء

ص: 232


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 34 ؛ البحار للمجلسي: ج 15 ص 12 ؛ مستدرك علم رجال الحديث للشيخ علي النمازي: ج 2، ص 27 ، ح 2097 .
2- بصائر الدرجات للصفار: ص 38 .

والمرسلين، فلذلك صرنا نحن وهم الناس، وصار سائر الناس همجاً في النار وإلى النار »(1).

رابعاً: (إنها من طينة قبر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

عن وهب بن منبه، وابن عباس إنهما قالا: لما أراد الله أن يخلق محمداً قال لملائكته: إني أريد أن أخلق خلقاً أفضله وأشرفه على الخلائق أجمعين، وأجعله سيد الأولين والآخرين وأشفعه فيهم يوم الدين، فلولاه ما زخرفت الجنان، ولا سعرت النيران، فاعرفوا محله وأكرموه لكرامتي، وعظموه لعظمتي فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا

وما اعتراض العبيد على مولاهم سمعنا وأطعنا، فعند ذلك أمر الله تعالى جبرائيل وملائكة الصفيح الأعلى وحملة العرش فقبضوا تربة رسول الله من موضع ضريحه وقضى أن يخلقه من التراب ويميته في التراب ويحشره على التراب فقبضوا من تربة نفسه الطاهرة قبضة طاهرة لم يمشِ عليها قدم مشت إلى المعاصي فعرج بها الأمين جبرائيل فغسلها في عين السلسبيل حتى نقيت كالدرة البيضاء فكانت تغمس في كل يوم في نهر من أنهار الجنة، وتعرض على الملائكة فتشرق أنوارها فتستقبلها الملائكة بالتحية والإكرام، وكان يطوف بها جبرائيل في صفوف الملائكة فإذا نظروا إليها قالوا: إلهنا إن أمرتنا بالسجود سجدنا، فقد اعترفت الملائكة بفضله وشرفه قبل خلق آدم عليه السلام(2).

ص: 233


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 389 ؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 4، ص 414 ؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 283 .
2- البحار للعلامة المجلسي (قدس سره): ج 15 ص 26 - 27 ، نقلًا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري، وهو مخطوط لم أوفق في العثور عليه، لكن عثرت على الحديث بشكل مختصر في (مخطوط): (جلاء الأبصار والبصائر لابن قضيب البان)، باب: مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أعقبه المصنف بقوله: أورده أبو نصر فتح بن موسى بن حماد المغربي في كتابه: (الوصول إلى السؤول في مولد الرسول) ناقلاً إياه من كتاب شفاء الصدور لابن سبع والمخطوط يرقد في مكتبة الأسد بدمشق ويحمل الرقم ( 12529 ).
خامساً: أن هذه الطينة مأخوذة من الجنة والأرض
اشارة

عن علي بن عطية الزيات يرفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال، (قال علي بن أبي طالب (عليه السلام):

«إنّ لله نهراً دون عرشه، ودون النهر الذي دون عرشه نور من نوره وإن في حافتي النهر روحين مخلوقين، روح القدس وروح من أمره، وأن لله عشر طينات، خمس من نفح الجنة وخمسة من الأرض، وفسر الجنان وفسر الأرض، ثم قال: ما من نبي ولا من ملك من بعد جبله إلا نفخ فيه من الروحين وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إحدى الطينتين .»

قلت لأبي الحسن )عليه السلام(: ما الجبل؟،

قال:«الخلق غيرنا أهل البيت، فإن الله خلقنا من العشر الطينات جميعاً، ونفخ فينا من الروحين جميعا فأطيبهما طيباً .»(1).

وروى غيره، عن أبي الصامت قال: طين الجنان: جنة عدن، وجنة المأوى، وجنة النعيم، والفردوس، والخلد؛ وطين الأرض: مكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والحائر)(2).

إذن:

قد تبين لنا من خلال هذه الروايات ما يلي:

ص: 234


1- الكافي للكليني: ج 1 ص 389 ؛ بصائر الدرجات للصفار: ص 39 .
2- المصدر السابق.
1- إنهم من طينة واحدة

إن الطينة التي خُلقت منها البضعة الطاهرة سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء البتول (صلوات الله عليها) هي نفس الطينة التي خلق الله منها حبيبه الأكرم محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي نفسها التي خلق منها الإمام علي بن أبي طالب والحسن

والحسين والأئمة من ولد الحسين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) سواء كانت هذه الطينة التي خلقوا منها من جنة الفردوس، أو عليين، أو من العرش، أو من ضريح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومما يدل عليه أيضاً:

أ- عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام):

«ألا أبشرك يا علي قال: بلى بأبي وأمي يا رسول الله، قال: أنا وأنت وفاطمة والحسن والحسين خلقنا من طينة واحدة وفضلت منها فضلة فجعل منها شيعتنا ومحبينا، فإذا كان يوم القيامة دعي الناس بأسماء أمهاتهم ما خلا نحن وشيعتنا ومحبينا فإنهم

يدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم »(1).

ب- روى ابن قولويه (رضي الله عنه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال:

«.. أشهد أنكم كلمة التقوى، وباب الهدى، والعروة الوثقى، والحجة البالغة على من فيها ومن تحت الثرى، وأشهد أن أرواحكم وطينتكم من طينة واحدة، طابت وطهرت من نور الله، ومن نور رحمته .»(2).

ص: 235


1- بحار الأنوار: ج 7، ص 240 241 ؛ وقريب من هذا اللفظ تجده في: شرح الأخبار للمغربي:ج 3، ص 495 ؛ الارشاد للمفيد: ج 1، ص 445 ؛ الأمالي للطوسي: ص 79 .
2- كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه: ص 524 .

ج- روى (رحمه الله) عن زيد الشحام، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيهما أفضل الحسن أو الحسين؟، قال:

«إن فضل أولنا يلحق فضل آخرنا، وفضل آخرنا يلحق فضل أولنا، فكل له فضل .»

قال: قلت له: جعلت فداك وسع عليّ في الجواب، فإني والله ما أسألك إلا مرتاداً(1)؟ فقال:

«نحن من شجرة برأنا الله من طينة واحدة، فضلنا من الله، وعلمنا من عند الله، ونحن أمناء الله على خلقه، والدعاة إلى دينه، والحجاب فيما بينه وبين خلقه، أزيدكيا زيد؟ .»

قلت: نعم، فقال:

«خلقنا واحد، وعلمنا واحد، وفضلنا واحد، وكلنا واحد عند الله عزّوجل .»

فقلت: أخبرني بعددكم؟، فقال:

«نحن اثنا عشر هكذا حول عرش ربنا جل وعزّ في مبتدأ خلقنا، أولنا محمد،وأوسطنا محمد، وآخرنا محمد »(2).

2-عدم وجود تعارض بين آية ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ وبين أحاديث الطينة

لقد مرّ في الأحاديث السابقة أن أصل الطينة التي خُلق منها النبي (صلى الله عليه

ص: 236


1- مرتاداً، أي: طالباً للحق.
2- كتاب الغيبة للشيخ النعماني: ص 88 المحتضر للحلي: ص 277 ؛ خاتمة المستدرك للنوري: ج 1،ص 126 .

وآله وسلم) وعترته هي من عالم الأمر، بينما نجد أن القرآن ينص على أن خلق الإنسان كان من عالم الملك أي الأرض لقوله تعالى:

﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)(1).

وفي الحقيقة أنه لا يوجد تعارض بين الآية والأحاديث؛ لأن قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو من عالم الأمر وليس من عالم الخلق لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة .»(2).

وهذا الحديث يدل على أن طينة ضريح قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي من عالم الأمر أصلاً، أما كيفية حصول ذلك يمكن معرفته من أمرين:الأمر الأول: رفع طينة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء.

وهو ما جاء في الحديث الرابع الذي أوردناه في أحاديث الطينة المسعودة المباركة المشرفة، وقد جاء فيه: إن الله عزّ وجلّ أمر جبرائيل وملائكة الصفيح الأعلى بأخذ قبضة من ضريح قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفعها إلى السماء ثم غمسها في

عين السلسبيل حتى نقيت، وتنقيتها هي خلوصها من الكثافة والعوارض الظلمانية وتحولها إلى طبيعة عالم الأمر لتكون بذلك شفافة لطيفة نورانية، فكانت كالدرة البيضاء لخلوها من الكثافات الترابية فكانت تشرق أنوارها للملائكة لتكون مزاراً وموضعاً يعرج إليه جبرائيل والملائكة أجمعون يطوفون من حولها كطواف الحجيج

ص: 237


1- سورة طه، الآية ( 55 ).
2- مصباح المتهجد للطوسي: ص 710 ، ح 790 / 59 ؛ من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 568 ،ح 3158 ؛ مسند احمد بن حنبل: ج 3، ص 64 ؛ التاريخ للطبري: ج 1، ص 392 ، ح 250 .

حول الكعبة المشرفة التي حوت حجراً أسود وأنى للحجر الأسود أن يضاهي شرافة الطينة الدرّية النورانية التي خلق الله منها بدن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وما استقبال الملائكة لها بالتحية والإكرام والرغبة بالسجود إلاَّ تعظيمٌ لله بتكريمها وتشريفها بحلول روح الشريعة الإلهية والنواميس الربانية فيها.

الأمر الثاني: أن تكون الطينة قد أنزلت من السماء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أو قد يكون نزول هذه الطينة المشرفة إلى الأرض ووضعها في ضريح قبر خاتم الأنبياء والمرسلين كان قبل خلق بدنه المقدس فيكون بذلك توافق بين الآية الكريمةالتي أخبرت عن أصل خلق الإنسان، وبين أحاديث الطينة التي دلت على أنها من السماء؛ وذلك من خلال حمل الآية على قوله (صلى الله عليه وآله):

«بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة .»

3-العلاقة بين الطينة وموضع القبر

ربما قد لاح في فضاء ذهن القارئ سؤال مفاده: ما هي العلاقة بين الطينة التي يخلق منها الإنسان وموضع قبره؟ أو بمعنى آخر هل هناك ترابط بين الطينة التي يخلق منها الإنسان وبين القبر الذي سوف يدفن فيه؟

والجواب: لقد ورد في بعض النصوص التي تخبر عن خلق طينة الإنسان،أنها تكون من تراب قبره، وهو ما جاءت به الآية على نحو الخصوص في﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ أي من طينة القبر ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾.

ص: 238

وعليه فإن قبر فاطمة (صلوات الله عليها) وقبور الأئمة المعصومين الطاهرين كلها روضة من رياض الجنة، وذلك أن بدن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبدان عترته من طينة واحدة، وأنها أخذت من عالم السماء فلا بد أن تعاد إلى موضع تتوفر فيه طبيعة العالم الذي أخذت منه هذه الطينة وخواصه مما يلزم أن يكون قبر النبي

(صلى الله عليه وآله وسلم) وقبور عترته الطاهرة روضة من رياض الجنة.

وقد روى الشيخ الكليني (رضي الله تعالى عنه) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم أنه قال:

«... وإن لله عشر طينات، خمسة من الجنة وخمسة من الأرض .»

ولقد روى عنه أبي الصامت أن هذه الطينات هي:

«طين الجنان: جنة عدن وجنة المأوى، وجنة النعيم، والفردوس، والخلد؛ وطينالأرض: مكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والحائر »(1).

وبهذا يكون مصداقاً قوله تعالى:

﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)(2).

ص: 239


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 390 ، ح 3.
2- سورة طه، الآية ( 55 ).

ص: 240

المبحث التاسع: المقاصدية في الاختيار الإلهي لها في الوفاة، وخصوصية سرعة اللحاق بأبيها (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

ص: 241

قوله (عليه السلام) «والمْخُتَارِ اللَّه لَهاَ سرُعْةَ اللَّحاَق بكِ »َ
اشارة

ص: 242

وردت هذه اللفظة (المختار) في النص الشريف في موضعين وهما في بيان سرعة اللحاق برسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم فلم تبق بعد ابيها (صلوات الله عليها) إلا أياماً معدودة؛ والموضع الثاني في بيان تفجعه وتألمه لما نزل به برحيل فاطمة عليها السلام فقال (عليه السلام):« لا يبرح الحزن من قلبي إلى إن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم »

وفي لفظٍ آخر: «أو يختار اهل لي دارك التي انت ها مقيم ».

وفي كلاهما يبين (عليه الصلاة والسلام) أن أمر الموت هو أختيار من الله تعالى، ولكن لماذا اختار الله تعالى لفاطمة (عليها السلام) سرعة اللحاق برسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟، وما هو مبتغى منتج النص من ذلك وقصده الذي يريد ان يوصله الى المتلقي؟

جوابه فيما يلي من المسائل.

المسألة الأولى: قصدية الاختيار الإلهي لها (علیها السّلام) في الوفاة
اشارة

إن من البداهة أن يكون أمر الموت والحياة بيد الله تعالى وهي من الثوابت التي عليها العقيدة الإسلامية ومن ثم أن قوله (عليه السلام):«والمختار اهل لها سرعة اللحاق بك ».

لا يراد منه بيان أمرٍ بديهي للناس وإنما لإظهار أمرٍ قد خفي عن كثير من الناس، ولذا لا بد من البحث في بعض الأمور، منها:

ص: 243

أولاً: معنى الاختيار لغة

جاء معنى (الاختيار) في اللغة في مباحث لفظ (الخير) وهو نقيض الشر، ومن (خار الشيء) اختاره، أي: انتقاه قال تعالى:

1-﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِميقَاتِنَا..)(1).

2- ﴿وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهمُ الِخيَرةُ..)(2).

3- ﴿وَمَا كَانَ لُمؤِمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذِا قَضَی اللَّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهمُ الِخيَرةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلًا مُبِينًا)(3).

وتدل الآيات المباركة على حصر أمر الاختيار الواقع بين أمرين بيد الله عز وجل. فقوله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لَهمُ الِخيَرةُ..﴾، أي ليس لهم أن يختاروا)(4).

وكذا في قوله تعالى: ﴿أَنْ يَكُونَ لَهمُ الِخيَرةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلًا مُبِينًا﴾، فهذا الامر محسوم ولا يحق لأحدٍ أن يختار أمراً بعد وقوع الأمر الإلهي وذلك لعدم وجود أمر جديد بعد هذا الأمر الإلهي، فمن (خيّته بين الشيئين، فوضت إليه الخيار بين الشيئين، وتخيّر الشيء اختاره، ومنه في بيان منزلة

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خيرته من خلقه .»(5).

وفي حال فاطمة (صلوات الله عليها) فإن الله تعالى قد اختار لها سرعة اللحاق

ص: 244


1- سورة الأعراف، الآية ( 155 ).
2- سورة القصص، الآية ( 68 ).
3- سورة الأحزاب، الآية ( 36 ).
4- لسان العرب لابن منظور: ج 4 ص 266
5- المصدر السابق.

بأبيها لعللٍ عدّة أراد بيانها منتج النص (عليه السلام) وذلك بدفع المتلقي الى قراءة هذه الفترة الزمنية التي عاشتها فاطمة (عليها السلام) فكانت السبب وراء اختيار الله لها الشهادة واللحاق برسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثانياً: ما جرى عليها من المصائب يدفع إلى الرحيل عن الدنيا دون البقاء فما الذي جرى؟
اشارة

إن المستفاد من كثرة المصائب والابتلاءات الواقعة على فاطمة (عليها السلام)والتي تناقلتها أقلام المصنفين من أعلام الشيعة والسنة والجماعة لتكشف عن عظم هذه الأحداث فكانت مصائب جليلة وخطوب عظيمة ويكفي في بيان آثارها على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما روي عنها (عليها السلام) في

وصف هذه المصائب، فقالت:

صبُّت عليَّ مصائبٌ لو أنها*** صبُّت على الأيامِ صرِن لياليا(1)

وللوقوف اجمالاً ها هنا على بعض هذه المصائب التي حلّت بفاطمة (عليها السلام) حيث سنتناولها بمزيد من التفصيل عند مقاصدية منتج النص (عليه السلام) في قوله: «ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر »، اما هنا فسنورد بعض هذه المصائب واثرها في كاشفية سرعة وفاتها والتحاقها برسول الله (صلى الله عليه وآله) وسندرجها بحسب وقوعها الزمني ليتضح للقارئ أن هذه الأحداث شكلت حرباً مفتوحة على بيت النبوة لم تزل قائمة منذ وقوعها وإلى يوم خروج ابن فاطمة، مهدي هذه الأمة الذي أخبر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علامات آخر

ص: 245


1- بحار الأنوار: ج 79 ص 106 .

الزمان(1)، ولتكون بذاك أطول حرب يشهدها التاريخ الانساني.

أ - جمع الحطب حول دارها وتهديدها بحرق الدار بمن فيه بعد وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأيام قليلة

لقد تناولنا في المقدمة لهذه الدراسة رواية ابن ابي شيبة الكوفي، وابن عبد البر، وابن أبي عاصم وغيرهم، وهنا نوردها ايضاً لغرض بيان تتابع الاحداث والمصائب عليها مما عجّل في استشهادها؛ فعن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: (إنه حيث بويع

لأبي بكر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشاورانها ويرتجعون في أمرهم فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال: (يا بنت رسول

الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ما منن أحد أحب إلينا من أبيك وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منكِ، وأيم الله ما ذاك بمانعي أن أجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت)

قال: فلما خرج عمر جاؤوها، فقالت:

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه فانصرفوا راشدين مروا رأيكم ولا ترجعون إليّ »(2).

ص: 246


1- عن ام سلمة (رضي الله عنها) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المهدي من ولد فاطمة » ينظر: سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1368 ؛ وبلفظ: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة » ينظر: سنن ابي داود: ج 2 ص 310 ؛ وبلفظ: ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) المهدي فقال: «هو من ولد فاطمة » ينظر: مستدرك الحاكم النيسابوري: ج 4 ص 557 .
2- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 572 ؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91 ؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3 ص 975 ؛ فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 1 ص 364 .

وفي رواية أخرى جاء التهديد بحرق دار فاطمة (عليها السلام) بمن فيه صريحا، وهو ما أخرجه بن قتيبة الدينوري قائلاً: (وإن أبا بكر تفقد قوماً عن بيعته عند علي –عليه السلام- فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا

فدعا بالحطب، وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجن (أو لأحرقنّها على من فيها) فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة، فقال: وإن)(1).

ولا شك أن هذا التهديد بالحرق وجمع الحطب على باب دارها والتصريح بحرقها وإن كانت فيها فاطمة (عليها السلام) لأول المصاب وبداية إعلان الحرب على فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها).

وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حذّر من إخافة أهل المدينة بعمومها، فكيف بإخافة بضعته وسبطيه الحسن والحسين وهم صغاراً فضلاً عن جمع من المهاجرين الذين كانوا في دار فاطمة (عليها السلام).

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أخاف أهل المدينة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين »(2).

فضلاً عما أخرج البخاري وأحمد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا تقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»(3).

ص: 247


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 19 ؛ مسند فاطمة للسيوطي: ج 31
2- عمدة الأخبار في مدينة المختار للعباسي: ص 90 - 91 ؛ فضائل المدينة للجنيدي المكي: ص 30 طبعة الفكر.
3- صحيح البخاري، كتاب فضائل المدينة: برقم 1870 ؛ مسند أحمد: ج 4 ص 55 حديث 16622 .
ب - الهجوم على الدار واقتحامه ومواجهة فاطمة (علیه السّلام) للمهاجمين

روى اليعقوبي وغيره في بيان الأحداث التي وقعت على بيت فاطمة (عليها السلام) فقال: (وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي ابن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار،

وخرج علي ومعه السيف فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت:

«والله لتخرجنّ أو لأكشفنّ شعري ولأعجنّ إلى الله .»(1).

ولا شك أن حال الزهراء (عليها السلام) الذي كشفته الرواية لا يحتاج إلى شرح وبيان فهو كافٍ لمعرفة حجم الألم والأذى والمصاب الذي لحق بها (سلام الله عليها)من خلال هجوم عمر بن الخطاب وعصابته، وكأنهم لم يسمعوا بالأمس القريب

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يخاطبهم:

«من آذى فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزّ وجل .»(2).

والله سبحانه يقول في بيان الآثار التي تلحق الإنسان عند قيامه بأذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِی الدُّنْيَا وَالْاخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)(3).

ص: 248


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 226
2- بحار الأنوار: ج 29 ص 157 ؛ الفصول المختارة للشيخ المفيد، ص 88 .
3- سورة الأحزاب، الآية 57 .
جيم - كسر ضلعها وضرب بطنها فأسقطت جنينها المسمى ب (المحسن) فسرّع ذلك في موتها

إن مما تبع جمع الحطب وحرقه واقتحام بيت فاطمة (عليها السلام) من الجرم والظلم الذي نزل بآل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو كسر ضلع بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد نصت الروايات الشريفة عن آل البيت (عليهم السلام) على بيان هذه الظلامة وما تبعها من آثار جسيمة على الإسلام، لم تزل تلقي بثقلها على مساره وتفرق أهله واتباعه إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها تدّعي الصواب والسير على الجادة التي أرادها

الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولذا:

فقد جاءت هذه الروايات الكاشفة عن تفعيل الحدث بين أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وأتباع مدرسة السقيفة بين الوضوح في عرض الحدث وتضليله بشتى الوسائل كي لا يتعرف المسلم على مجريات الأحداث التي وقعت بعد وفاة

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيّرت مساره.

فكانت الروايات الواردة عن أصحاب المصاب وهم آل البيت (عليهم السلام) ما أخرجه الشيخ الصدوق (المتوفى 381 ه) في حديث طويل عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

«وإني لما رأيتها(1) ذكرت ما يُصنع بها بعدي، كأني بها وقد دخل الذلُّ بيتها، وانتهكت حرمتها، كأني بها وقد دخل الذي بيتها وانتهكت حرمتها، وغصبت

ص: 249


1- أي: فاطمة (عليها السلام).

حقها، وضعت إرثها، وكُسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه، فلا تُاب، وتستغيث فلا تُغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية...الخ .»(1).

وغيرها من الأحاديث.

وأمّا ما جاء في كتب أبناء مدرسة السقيفة فقد توزع بين الإشارة والعبارة الصريحة إلا أن هذه الصراحة جوبهت بالتكذيب والتجريح والاتهام بالرفض، ونكتفي في ذلك ما ذكره الحافظان شمس الدين وابن حجر العسقلاني في ترجمة (أحمد بن محمد

السري بن أبي دارم المحدث الكوفي) الذي نعَتهُ الذهبي ب(الكذاب الرافضي)(2).

وذلك لكونه ممن قال في ظلامة فاطمة ورواية ما نزل بها على يد عمر بن الخطاب وعصابته الذين اقتحموا عليها دارها، فلاحظ قول الذهبي فيه لهذا السبب، في حين أن الرجل برئ من هذه التهم التي قالها الذهبي؛ ومما يدل عليه:

1- روى عنه الحاكم وقال: ثقة.

2- قال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ بعد أن أرخ موته (كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه أن عمر رفس فاطمة حتى اسقطت بمحسن)(3).

ولا يخفى على الباحث وكل ذي ذوق سليم أن استخدام الذهبي وابن حجر العسقلاني وغيرهما لهذا المنهج في تسقيط من يقول بتلك الجريمة بشكل خاص، والمثالب بشكل عام، هو لغرض منع القارئ أو الباحث من الأخذ بهذه الأقوال

ص: 250


1- الآمالي: ص 176 ، وقد رواه الحمويني (المتوفى سنة 730 ه) بسنده في فرائد السمطين عن ابن عباس.
2- ميزان الاعتدال للذهبي: ج 1 ص 283 ، برقم 551 .
3- سيرة اعلام النبلاء للذهبي: ج 15 ص 578 .

أو التصديق بها ونشرها، ومن ثم فهم يمنعون ما أنزل الله من التكاليف في إنصاف المظلوم وفضح الظالم(1).

وهذه المصائب وغيرها -التي لا مجال لذكرها كي لا يخرج البحث عن منهجه وعنوانه-، تقود إلى الاعتقاد بأنها (عليها السلام) ايضاً قد اختارت اللحاق بربها وبأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتدعوا الله في ذلك، كما ثبت في الروايات الشريفة عنها بعد فراق أبيها ونزول هذه المصائب بها فاستجاب الله لها

سرعة اللحاق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو كما في ثالثاً.

ثالثاً: إكثارها من الدعاء إلى الله تعالى في سرعة اللحاق بأبيها (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

إنَّ مما يرشد إلى قصدية قوله (صلوات الله عليه) في سرعة لحاقها بالله تعالى، وإن هذا الالتحاق كان باختيار من الله لها، هو كثرة دعائها (عليها السلام) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما لحق بها من المصائب التي مرّ ذكر جانباًمنها أنفاً.

فقد روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار عن كتاب مصباح الأنوار عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال:

«( إن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستين يوماً، ثم مرضت فاشتد عليها فكان دعائها في شكواها:

«يا حي يا قيوم،برحمتك أستغيث فأغثني، اللهم زحزحني عن النار وأدخلني الجنة، والحقني بأبي (محمد صلى الله عليه وآله)

ص: 251


1- لمزيد من الاطلاع ينظر كتابنا الموسوم ب(هذه فاطمة: ج 7 ص 143 - 151 ).

فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول لها:

«يعافيك الله ويبقيك .»

فتقول:

«يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق بالله .»(1).

وقد استجاب الله تعالى دعائها فاختار لها سرعة اللحاق به وبحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم تبقَ بعده إلا أياماً معدودات. فمضت إلى ربها مظلومة شهيدة.

رابعاً: إنَّ النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد سأل الله أن تلحق به فاطمة سريعا

إنَّ إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) أنها أسرع أهل بيته لحوقاً به قد تناوله كثير من المصنفين في كتبهم وعلى اختلاف مذاهبهم،

والظاهر في سبب شهرة هذه الرواية يعود لأمور، منها:

1- إنَّ الأسلوب الذي اتبعه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعوا إلى التساؤل ويحث الجالسين لا سيما نسائه أمهات المؤمنين على معرفة ماذا أسرّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليه السلام) حينما أدناها منه كما سيمر

بيانه في مجريات الحدث.

2- إنَّ من الأسباب أيضاً التي عملت على شهرة الرواية هو تكرار إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة في سرعة اللحاق به، وهذا بحد ذاته له أسباب أيضاً، منها:

ص: 252


1- بحار الأنوار: ج 43 ص 217 ؛ مستدرك الوسائل: ج 2 ص 134 .

أ- كثرة تفجّع فاطمة (عليها السلام) وتلوّعها على حال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تخبر به الرواية الآتية التي تتحدث عن دخول فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه

فأخبرهم بأمور عدة –سيمر بيانها لاحقاً- ثم أخرجهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبقى فاطمة (عليها السلام) ليحدثها بأمور خاصة كما تفيد الرواية الآتية:

(لما خرج الحسنان (عليهما السلام) استقبلت عائشة الإمام علي (عليه السلام) فقالت له: لأمر أخرج وخلا بابنته دونه؟

فقال (عليه السلام):

«عرفتِ الذي خلا بها له، وهو بعض الذي كنت فيه وأبوك وصاحباه .»(1).

ب- ومن ثم فقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهون عليها مصابها وحزنها عليه ويُطمْئن قلبها بأنها لن تبقى بعده طويلاً، بل هي أياماً معدودات، وإن فراقها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصيرٌ جداً.

ج- تفيد الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في مرضه يكشف لفاطمة ما يرتبط بعلي من جهة، وبولديها من جهة، وبها من جهة أخرى،من المحسن والمصائب، وفي كل إخبار لهذه الأحداث كان يخبرها (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن محنتها وابتلائها لي يدوم طويلاً، ولذا تعَدّدَ إخباره (صلى الله عليه

وآله وسلم) لها بسرعة اللحاق، فكانت الروايات على النحو الآتي ونأخذ منها شاهدين:

ص: 253


1- الصراط المستقيم للعاملي البياضي: ج 2 ص 93 ؛ البحار للمجلسي: ج 22 ص 490 .

الشاهد الأول: ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) فقال:

(وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في مرضه:

«ربِّ سلّم أمّة محمّد من النار ويسّر عليهم الحساب .»

فقالت أم سلمة: (يا رسول الله، ما لي أراك مغموماً متغير اللون؟ فقال:

«نعيت إليّ نفسي هذه الساعة، فالسلام لك في الدنيا فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمد أبداً .»

فقالت أم سلمة واحزناه، حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمداه.

ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أدع لي حبيبة قلبي وقرة عيني فاطمة تجيئ .»

قال أبو ذر الغفاري: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه الذي توفي فيه فقال:

«يا أبا ذر إئتني بابنتي فاطمة .»

قال: فقمت ودخلت عليها وقلت: يا سيدة النسوان أجيبي أباكِ.

قال: فلبسَت جلبابها، وخرجت حتى دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انكبّت عليه وبكت وهي تقول:

«نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء يا أبتاه، ألا تكلمني كلمة فإني أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا وأرى عساكر الموت تغشاك شديداً .»

ص: 254

فقال لها:

«يا بنيتي إني مفارقكِ فسلام عليكِ مني .»

وبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبكائها، وضمها إليه، ثم قال: «يا فاطمة لا تبكي فداك أبوك فأنت أول من تلحقين بي مظلومة، مغصوبة وسوف تظهر بعد حيكة النفاق، ويسمل جلباب الدين، أنت أول من يرد عليَّ الحوض »(1).

الشاهد الثاني: وفي رواية أخرى:

(ثم أذن للنساء فدخلن عليه فقال لابنته:

«أدني مني يا فاطمة .»

فأكبّت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك فتعجبانا لما رأينا فسألناها فأخبرتنا أنه نعى إليها نفسه فبكت، فقال لها:

«يا بنية لا تجزعي فإني سألت الله أن يجعلك أول أهل بيتي لحاقاً بي فأخبرني أنه قد استجاب لي فضحكت »(2).

والحديث لا يحتاج إلى توضيح فقد كشف النقاب عن السبب في اختيار الله لفاطمة (عليها السلام) سرعة اللحاق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 255


1- الأمالي للصدوق: ص 636 ، كفاية الأثر، للخزاز: ص 5.
2- كشف الغمة للأربلي: ج 1 ص 18 ؛ المحجة البيضاء للفيض الكاشاني: ج 8 ص 278 ؛ البحارللمجلسي: ج 8 ص 278.
المسألة الثانية: القصدية في تحديد المدة الزمنية التي عاشتها بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فأسرعت في لحاقه؟
اشارة

اختلفت الروايات في عدد الأيام والشهور التي عاشتها بعضة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن الذي اتفق عليه أنها كانت سريعة اللحاق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فكانت كما أخبرها بأنها أول أهل بيته لحاقاً به وأسرعهم إليه.

وهذا الإسراع في اللحاق به (صلى الله عليه وآله وسلم) يكشف عن أن مجموع ما بقته فاطمة (صلوات الله عليها) – وبحسب التفاوت في الروايات – لم يتعدَ الثمانية اشهر، وهي قليلة وسريعة فيما لو قيست بصغر سنها، مما يدفع إلى أنها خرجت من الدنيا تحت تأثير الهجوم على دارها وما لحقها بسبب ذلك من أضرار كبيرة في بدنها فحرجت من الدنيا شهيدة.

وهو ما نصت عليه الأحاديث الشريفة الواردة عن ائمة أهل البيت (عليهم السلام) قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه المعصومين):

«إن فاطمة عليها السلام صديقة شهيدة »(1).

أما كم بقت بعد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان كالآتي:

أولاً: إنها بقت خمسة وسبعين يوما

وهذه الفترة الزمنية هي الثبت عند مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي كما نصّت عليها الروايات الآتية:

ص: 256


1- مسائل علي بن جعفر عليهما السلام: ص 326 .

1- روى الكليني عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «عاشت فاطمة عليها السلام بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس، فتقول: ها هنا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ها هنا كان المشركون .»(1).

2- روى الكليني (رحمه الله): (عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «إن فاطمة عليها السلام مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوماً وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان يأتيها جبرئيل عليه السلام فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها وكان علي عليه السلام يكتب ذلك .»(2) .

ثانياً: إنها بقت ثلاثة أشهر

روى الحاكم في المستدرك: (عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام):

«إنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أشهر .»(3).

ثالثاً: أنها بقيت بعد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) بستة أشهر

وهذا القول هو أشهر الأقوال عند أهل السنة والجماعة، ولعل العلة في ذلك

ص: 257


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 228 ؛ وسائل الشيعة: ج 3، ص 223 .
2- الكافي للكليني: ج 1، ص 458 .
3- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 176 ؛ مجمع الزوائد: ج 9، ص 212 ؛ فتح الباري: ج 7، ص 105 ؛تحفة الأحوذي: ج 10 ، ص 250 ؛ شرح النووي على صحيح مسلم: ج 12 ، ص 77 ؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 128 ؛ صفة الصفوة: ج 2، ص 15 ، ط دار العرفة؛ الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 28 .

اعتماد مسلم النيسابوري لهذا القول في صحيحه فتبعه على ذلك بقية الحفاظ(1).

رابعاً: إنها بقت بعد أبيها (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ثمانية أشهر

وقد ذهب إلى هذا القول بعض أهل السنة والجماعة(2)، وهو مع غيره من الأقوال

التي مرّ ذكرها مخالفة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ فهم فضلاً عن كونهم حجج الله على خلقه، الأدرى بحال أمهم وكم عاشت بعد وفاة جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

خامساً: تاريخ وفاتها (صلوات الله عليها) وتحقق قصدية سرعة اللحاق

مثلما اختلفت الروايات في تحديد الفترة التي عاشتها بعد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) فكذاك اختلفت في تعيين اليوم الذي توفيت فيه وكذلك الشهر، وهي كالآتي:

1- إن المشهور الذي عليه أتباع أهل البيت (عليهم السلام) أنها توفيت في اليوم الخامس عشر من شهر جمادي الأولى، وذلك للرواية التي ترويها علماء الإمامية عن الإمام الصادق (عليه السلام) بأنها ماتت بعد أبيها بخمسة وسبعين يوماً، وذلك

أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت وفاته في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر.

ص: 258


1- صحيح مسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نورث: ج 5، ص 154 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22 ، ص 298 ؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22 ، ص 97 ؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 80 ؛ مجمع الزوائد: ج 9، ص 34 ؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، ص 365 ؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 65 ؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1894 ؛ الإعلام للزركلي: ج 5، ص 132 ؛ إمتاع الأسماع: ج 1، ص 547 ؛ وسيلة الإسلام لابن قنفذ: ص 63 ؛ السيرة النبوية للنووي: ص 30 ؛ لباب الخيار: ص 112 ؛ الحادي للفتاوي: ج 2، ص 186 .
2- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1894 ؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 65 ؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، ص 13 .

2- روى السيد ابن طاووس والشيخ الطوسي وغيرهما:

أن يوم وفاتها كان في الثالث من جمادي الآخرة(1).

3-اعتمد بعض أهل السنة على أنها توفيت في شهر رمضان في اليوم الثالث منه(2).

سادساً: عمرها حين الوفاة

ذهب كثير من محدثي أهل السنة والجماعة إلى أنها توفيت ولها من العمر ( 28 ، 29 ، 30 ) سنة(3).

وقال ابن منظور في المختصر: (ماتت ولها إحدى وعشرين سنة)(4).

في حين أن المعتمد عند الإمامية هو أن عمرها حين الوفاة كان ثمانية عشر سنة، وذلك أنها ولدت في السنة الخامسة من البعثة النبوية وتوفيت في السنة الحادية عشر من الهجرة النبوية، أما سبب اعتماد أهل السنة على ما سبق ذكره فلكونهم يقولون:

بأنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات وهو ما لا يصح؛ وذلك أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أدرى بميلاد أمهم فاطمة (صلوات الله عليها).

ص: 259


1- المتهجد: ص 793 ؛ إقبال الأعمال: ص 623 ؛ مصباح الكفعمي: ص 511 .
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 136 ؛ التنبيه والأشراف للمسعودي: ج 1، ص 106 ؛ تاريخ ابن الأثير:ج 1، ص 365 .
3- تاريخ القضاعي: ص 233 .
4- مختصر تاريخ دمشق لابن منظور: ج 1، ص 242 .

ص: 260

المبحث العاشر: مقاصدية كونها صفية سيد الأنبياء والمرسلين (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ودلالة قلّة صبره

اشارة

ص: 261

قوله (عليه السلام): « قَلَّ ياَ رسَوُلَ اللَّه عنَ صفَيِّتكِ صبَرْي »
اشارة

ص: 262

ينتقل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هنا إلى قسم آخر من البيان والكشف للحقائق المرتبطة بشأن الزهراء وشأنه (عليهما السلام)، فيمازج في هذا المورد من خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين شخص الزهراء فاطمة وشخصه (عليهما السلام).

ويظهر في آن واحد علة قلة صبره على ذهاب صفية النبوة وهو أمر يوازي صبر الوصي ومن ثم كان القصد منه بيان حجم الخسارة والمصيبة التي نزلت به وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ولذا:

يأخذنا النص الشريف عنه (صلوات الله عليه) إلى حقل معرفي آخر وقد لا نبالغ حينما نقول (حقل معرفي) وإن كان حديثه (صلوات الله عليه) عن بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيدة النساء فاطمة (عليها السلام) إلا أن الحديث عنها يتفرع إلى حقول معرفية كثيرة لما ارتبط بها من روابط عقدية وتشريعية

وتكوينية وغيرها، وهي مع هذا لا يمكن الإحاطة بمعرفتها وقد نص الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في بيان دلالة اسمها وتسميتها بفاطمة:

«إن الخلق فطموا عن معرفتها »(1).

لكننا هنا نرتاد مدينة علم النبوة وبابها (عليه السلام)؛ وعليه:

ص: 263


1- تفسير فرات الكوفي: ص 581 ؛ البحار للمجلسي: ج 43 ص 65 .

ينقلنا منتج النص إلى منهج جديد من علومه النبوية فيقدم لنا مادة جديدة فيخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المحل من خطابه فيبين أنها صفية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولم يقل هنا ابنتك، أو حبيبتك، أو قرة عينك، كما مرّ في أول خطابه وحديثه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ كما إنه لم يختر من كُناها شيئاً فلم يقل على سبيل المثال: قلّ عن أم الحسن والحسين صبري ولم يختر من ألقابها واسمائها سوى

هذه الصفة وهي (صفية) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي المقطع الآخر الذي ليلي هذا المقطع من حديثه يختار صفة أخرى وهي سيدة نساء العالمين فيقول:

«وضعف عن سيدة نساء العالمين تجلدي .»

ومن ثم فهو يكشف عن جانب من جوانب هذا العالم الرحب فينقلنا إلى أنها (عليها السلام) صفوة النبوة والرسالة، فما دلالة هذا اللفظ وما هو مبتغاه وقصده؟

المسألة الأولى: الاصطفاء في القرآن
اشارة

قبل الولوج في مبحث دلالات لفظ (الصفوة) ومعناه لغةً، نعرض للقارئ والباحث ما دلّ عليه القرآن الكريم في بيان معنى الصفوة واختصاصها ببعض الأشياء لننتقل بعد ذلك إلى بيان دلالات اللفظ لغة، كي يتضح للقارئ علّة اختياره(عليه السلام) لهذه الصفة في مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن بيان شأنية فاطمة (صلوات الله عليها) ومنزلتها عند الله تعالى.

وعليه:

فقد بيّن القرآن جريان الاصطفاء في بعض الأشياء فكانت بحسب العرض القرآني كالآتي:

ص: 264

1-اصطفاء دين الإسلام على بقية الأديان

يظهر القرآن أن سنة الاصطفاء جرت في أهم الأشياء وأكثرها قصدية عند الله تعالى ألا وهو الدين، أي: دينُ الله وشريعته فقال (عزّ وجل) في معرض حديثه عن إبراهيم (عليه السلام) ووصيته لأبنائه وكذا هو حال نبي الله يعقوب (عليه السلام):

﴿وَوَصَّی بِها إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَموتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1).

2-اصطفاء بعض الأنبياء (علیهم السّلام) وآلهم على العالمين

ومن الأشياء التي شملها الاصطفاء الإلهي هم بعض الأنبياء (عليهم السلام) وآلهم على العالمين وهي حقيقة في غاية الأهمية وذلك أن أصل السنّة -أي سُنّة الاصطفاء- جارية في الأنبياء، فهم المصطفون من بين الخلق لرتبة النبوة ومن ثم

فإن الآية المباركة تكشف عن حقيقة إجراء هذه السُنّة في الأنبياء لأخذ الصفوة منهم فكانوا كما بينتهم الآية، قال عز وجل:

﴿إِنَّ اللَّه اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَی الْعَالِمَينَ)(2).

فآدم ونوح من المصطفين على العالمين، ثم تبين أن من الآل من نالهم هذا الشرف هم آل إبراهيم وآل عمران.

والآل هنا بمعنى العموم وهم ذرية إبراهيم الصالحون وذرية عمران الصالحون وبمعنى الخصوص فهم محمد وعترته (صلوات الله عليهم أجمعين) وهم آل إبراهيم

ص: 265


1- سورة البقرة، الآية ( 132 ).
2- سورة آل عمران، الآية ( 33 ).

وفي المقابل فإن مريم ابنة عمران، وابنها نبي الله عيسى هم الآل المصطفون من آل عمران.

3-اصطفاء الأشخاص

ثم يمض القرآن ليبين خصوصية هذا الاصطفاء للأشخاص فقال عز وجل:

أ- ﴿قُلِ الَحمْدُ لَّله وَسَلَامٌ عَلَی عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّه خَيْر أَمَّا يُشْركُونَ)(1).

ب- ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِی الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِی الْاخِرَةِ لِمنَ الصَّالِحينَ)(2).

ج- ﴿اللَّه يَصْطَفِي مِنَ الَملاَئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(3).

د- ﴿وَإِذْ قَالَتِ الَملائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَ نِسَاءِ الْعَالِمينَ)(4).

وعليه: فهذه السنة الإلهية التي يظهرها القرآن والتي جرت في الأشياء -كما مرّ بيانه- ترشد إلى حقيقة مرتبطة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وهي أنهم خيرة الخيرة، وصفوة الصفوة من الخلق اجمعين.

بمعنى أنَّ عملية الفرز والاختيار لخلاصة الشيء من لخلق جميعاً خلص منهم الأنبياء، ثم من الأنبياء المرسلين، ثم من المرسلين أولي العزم، وهم خمسة أشخاص:

ص: 266


1- سورة النمل، الآية ( 59 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 130 ).
3- سورة الحج، الآية( 75 ).
4- سورة آل عمران، الآية ( 42 ).

(نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم) ثم اصطفى الله منهم شخص واحد وهو حبيبه أبي القاسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فسماه (المصطفى) على الخلق أجمعين.

فكان شخصه المصفّى من بين شخوص الأنبياء والمرسلين وصفوهم وخيرتهم وسيدهم، وخير ما خلق الله تعالى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن الله تعالى قد اختار دينه على الأديان جميعاً، إذ هو صفوة الأديان ومنتقاها.

واختار من آل الأنبياء (عليهم السلام) آله فطهرهم من الرجس، فكانوا خِيرة الخلق من بعده، وصفى من النبوة شخص واحد وهو بضعته فاطمة التي قصدها أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري .»

ومن ثم لا بد أن يكون هناك دلالات في اللغة ارتبطت بمعنى (الصفوة) ترشد إلى جملة من المعاني التي تظهر شأنية فاطمة (عليها السلام) ومنزلتها عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فضلاً عن ارشادها إلى حجم المصيبة التي نزلت على قلب أمير المؤمنين ومولى الموحدين بعد النبي الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، تلك المصيبة التي أقلت صبره؛ وهذا ما سنعرض له في المسألة القادمة.

ص: 267

المسألة الثانية: دلالات لفظ (الصفوة) ومعانيه في اللغة
اشارة

الصِّفوة: بالكسر، خيار الشيء وخلاصته وما صفا منه.

والصّفاء: مصدر الشيء الصافي.

وإذا أخذ صفوَ ماءٍ من غدير قال: استَصفيتُ صَفوةً.

وصفوتُ القدر: إذا أخذتَ صفوَتَا.

وصفا الجَوُّ، لم تكن فيه لطخةُ غيمٍ.

ويومٌ صافٍ وصفوانٍ، إذا كان صافي الشمس لا غيم فيه ولا كدر وهو شديد البرد.

والصفي من الغنيمة: ما اختاره الرئيس من المغنم واصطفاه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيفٍ أو غيره، وهو الصفية أيضاً، وجمعه صفايا واستصفيت الشيء: إذا استخلصته.

والاصطفاء: الاختيار، افتعال من الصفوة، ومنه: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صفوة الله من خلقه ومصطفاةُ: والأنبياءُ المصطفون، وهم من المصطفين إذا اختيروا وهم المصطفون إذا اختاروا، وهذا بضم الفاء)(1).

وهذه المعاني المفردة (الصفوة) تكمن فيما يلي من الدلالات:

1- خيار الشيء.

2- ما صفا منه.

ص: 268


1- لسان العرب لابن منظور: ج 14 ص 463 ، فصل الصاد المهملة.

3-المستخلص، فهو الخلاصة.

4-الخالي من الشوائب فهو النقي.

5- الاختيار من الأشياء.

وهذه الدلالات اجتمعت في قالب واحد وهو (الصفوة) وهي مجتمعة في فاطمة (عليها السلام) ولبيان ذلك فإنا نوردها بحسب تلك الدلالات الآتية:

أولاً: دلالة كونها خيار النبوة

إن الملازمة بين الأمر الإلهي والأمر النبوي في الحرمة والطاعة والامتثال واحدة، جاء في والقرآن الكريم عدد من الآيات المباركة تبين هذه الملازمة وذلك من قبيل:

1-قوله تعالى: ﴿..وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..)(1).

2- وقوله عز وجل: ﴿.. وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُبِينًا)(2).

3- قوله سبحانه: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِی يُحبِبْكُمُ اللَّهُ..﴾(3).

4- قوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّه وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّه لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)(4).

وهذه الآيات وغيرها ترشد إلى تقنين العلاقة بين المسلم ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ومن ثم فإن فعله وقوله وتقريره (صلى الله عليه وآله وسلم) متلازم مع رضا الله وغضبه، ولا يخفى على أهل العلم والمعرفة أن رضا الله سبحانه

ص: 269


1- سورة الحشر، الآية ( 7).
2- سورة الأحزاب، الآية ( 36).
3- سورة آل عمران، الآية ( 31 ).
4- سورة آل عمران، ( 32 ).

لا يكون إلا بما أراد وأمر وشرّع وإن غضبه عز وجل لا يكون إلا بمخالفة أمره وشرعه.

وعليه:

يكون تعامله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأشياء خاضعاً ومنقاداً لهذا القانون الإلهي، فحبه ناتج عن حب الله ورضاه وغضبه ملازم لرضا الله وغضبه وبهذا يكون اصطفائه (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) متلازماً مع اصطفاء الله تعالى لها لا فرق بين الاصطفاءين؛ بل إن ما يرشد إلى معرفة اصطفاءالله تعالى يكون من خلال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والسبب في ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيد من اصطفاهم الله وأشرفهم، وهذه السيادية والشرّفية التي جعلها الله تعالى لرسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)

تقتضي أن يكون اختيار الله تعالى متلازماً مع اختياره صلى الله عليه وآله وسلم: وهنا: نحن بين امرأتين قد اصطفاهما الله على العالمين، وهما مريم بنت عمران وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليهم وسلم)، ومريم أخبر عنها الوحي في قوله تعالى:

﴿..يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَی نِسَاءِ الْعَالِمَينَ)(1).

واصطفاء مريم يقتضي أن يكون متلازماً مع اصطفاء سيدها ومولاها وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلة كونه سيد الخلق أجمعين وأشرفهم، وهذه السيّدية والشرّفية تقتضي يكون أمر الاصطفاء إليه.

وبما أن الوحي قد أخبر عن الملازمة بين أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين

ص: 270


1- سورة آل عمران، الآية ( 42).

أمر الله تعالى؛ فيكون مرجع الأمر والاختيار الذي هو عين اختيار الله تعالى يعود إلى حبيبه وسيد خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم).

فكان قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري .»

يدل على أنَّ هذا الاصطفاء كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنها مصطفاة على مريم (عليها السلام) فكانت فاطمة (عليها السلام) بهذا الاصطفاءالنبوي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.

وقد ورد في هذه الدلالة والبيان أكثر من حديث صريح، منها:

-1 أخرج الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن المفضل بن عمر قال، قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فاطمة أنها سيدة نساء العالمين، أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال:

«ذاك لمريم، كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين »(1).

2- وفي حديث آخر له (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد تحدث به في محضر أزواجه في أيامه الأخيرة وقد بعث خلف فاطمة (عليها السلام) ليظهر للحاضرين منزلتها، وليرشد بذلك إلى أهمية الموضوع ويدل على خطورته الأخروية وذلك أن الإنسان في لحظاته الأخيرة يقدم أهم الأشياء وأخطرها في حياته فكيف بسيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يرى مصلحة أمته ويقدمها على كل مصلحة؛

ص: 271


1- معاني الأخبار للصدوق: ص 107 ؛ دلائل الإمامة للطبري: ص 54 .

بل وانحصار هذه المصلحة ببيان منزلة عترته أهل بيته، والحث على التمسك بهم، والتحذير من التعرض لهم أو التخلف عنهم فإن كل ذلك يجر إلى الهلاك والخسران المبين.

ولذا: لما دخلت عليه فاطمة (عليها السلام) في مرضه وأيامه الأخيرة وقد أخبره جبرئيل (عليه السلام) أنه لاحق بربه عز وجل، فقال لها في هذا المحضر من أزواجه وبعض النساء من أرحامه:

« يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء هذه الأمة وسيدةنساء المؤمنين »(1).

3- وفي حديث آخر أخرجه البخاري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: « أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين »(2).

ومما لا ريب فيه: أن الجنة فيها مريم وخديجة وآسيا وغيرهن من المؤمنات.

وعليه: تكون فاطمة (صلوات الله عليها) سيدتهنَّ جميعاً وخيار النبوة من بينهنَّ، فهي صفوتهنَّ، وما صفا منهنَّ، فكانت هي النتيجة النهائية التي تم اختيارها من بين أربع نساء، هنَّ خلاصة نساء العالمين، وأفضلهنَّ جميعاً، كما ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه الترمذي، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خير نساء العالمين أربع، مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم، وخديجة بنت

ص: 272


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3 ص 156 ؛ الفردوس للديلمي: ج 3 ص 145 ؛ الإصابة لابن حجر: ج 8 ص 56 ؛ الاستيعاب لابن عبد البر؛ ج 4 ص 1893 ح 1895 .
2- صحيح البخاري: باب علامات النبوة، ج 4 ص 183 .

خويلد، وفاطمة بنت محمد »(1).

فكانت قصدية منتج النص (عليه السلام) ودلالة قوله «صفيتك » هو أنها خيار النبوة على هؤلاء النساء الثلاثة، فهي سيدتهنَّ جميعاً، وهي سيدة نساء أهل، الجنة وما ذاك إلا بفعل اختيار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثانياً: قصدية الفرق بين الاختيار للشيء وخياره ودلالته في اظهار شأنية فاطمة (علیها السّلام)

مرّ في الدلالة السابقة أن خيار الشيء يكون هو النتيجة النهائية لمجموعة مختارة ومنتقاة، فكانت فاطمة هي خيار النساء جميعاً وسيدة المفضلات منهنَّ وخيرهنَّ،ثم جرى بينهنَّ استخلاص فكانت فاطمة (عليها السلام) هي المستخلصة منهنّ.

لكن هذه الخيرة من نساء العالمين من الأولين والآخرين لا بد أن تنال الإقرار من سيدهنّ ومولاهنّ وأشرف من خلق الله تعالى، وذلك أنه المفوَّض إليه من قبل الله تعالى النظر والاختيار، بدلالة عرض الأعمال عليه سواء أعمال أمته، أو غيرها من الأمم لقوله تعالى:

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالُمؤْمِنُونَ..)(2).

وهذا العرض في الأعمال غير مقيد بهذه الأمة التي أدركته (صلى الله عليه وآله) وآمنت به بل بالأمم جميعاً لقوله تعالى:

﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِيدً)(3).

ص: 273


1- سنن الترمذي: ص 62 ح 3878 ؛ السمط الثمين للطبري: ص 34 ؛ درر السمط في خبر السبط لابن الأبار: ص 77 ؛ وسيلة الإسلام بان قنفذ: ص 56 .
2- سورة التوبة، الآية ( 105 ).
3- سورة النساء، الآية ( 41 ).

ومقام الشهودية يقتضي عرض الأعمال لجميع هذه الأمم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكونه سيد الأنبياء والمرسلين، ولا بد أن يعرض المأموم عمله على الإمام، ومن الإمام تعرض على الله تعالى وهو الشاهد على كل شيء، وكفى به شهيداً ورقيباً وحسيباً جلت قدرته.

وهنا:

يكون الفرق بين الاختيار للشيء وخياره، هو أن الاختيار مسبوق بمرحلة على الخيار، فيصبح بذلك نتيجة لتصفية جرت في الأشياء ليكون النتيجة النهائية.ومن ثم: فقد تم اختيار فاطمة (عليها السلام) بعد التصفية بين نساء جميع الأمم فرجح منها أربعة نسوة، ثم كانت فاطمة (عليها السلام) المختارة من بينهنّ فهي

خيارهنّ، وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.

وبه تتضح قصدية منتج النص (عليه السلام) في بيان ان فاطمة (عليها السلام) هي خيار النبي (صلى الله عليه وآله) وخيرته من بين النساء الاربعة اللاتي فُضِّلنَ على نساء العالمين، فكانت كل واحدة منهنَّ سيدة نساء عالمها، أي: إنها خيرة الخيرة،

ومن ثم كيف لا يقل صبره على فقدها وهي بهذه الشأنية المحددة بمنزلتها بين نساء العالمين، أما من حيث شأنيتها من النبوّة بقصدية الصفوة منها فهو ما سنتناوله في ثالثاً والذي ينكشف لنا من خلاله قصدية منتج النص في قلّة صبره المرتكزة على شأنية الصفوة؛ فصلى الله على فاطمة وابيها وبعلها وبنيها بعدد ما احاط به علمه.

ثالثاً: القصدية في أنّها المستخلصة من النبوة ودلالته في قلّة صبره

من الدلالات الأخرى التي ارتبطت بقوله (عليه الصلاة والسلام):

«قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري .»

ص: 274

إنَّ (الصفوة) تدل على أنها المستخلصة من النبوة؛ والمراد بالنبوة هنا: (نور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت المستخلصة من هذا النور والمختارة منه، وهو ما كشف عنه الحديث الشريف الذي رواه ابن شاذان القمي بإسناده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: «ليلة أسري بي إلى الجليل جل جلاله أوحي إليّ ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾

قلت: والمؤمنون.

قال: صدقت يا محمد، من خلفت في أمتك؟ قلت: خيرها، قال: علي بن أبيطالب؟

قلت: نعم يا رب، قال: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسما من أسمائي، فلا أذكر في موضع إلا ذكرت معي، فأنا المحمود وأنت محمد (صلى الله عليه وآله)، ثم اطلعت الثانية فيها فاخترت منها عليا، وشققت له اسما من أسمائي، فأنا الأعلى وهو علي.

يا محمد إني خلقتك وخلقت عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من سنخ نور من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات وأهل الأرضين، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين، يا محمد

لو أن عبدا من عبيدي عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثم أتاني جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتى يقر بولايتكم، يا محمد تحب أن تراهم؟

قلت: نعم يا رب، فقال لي: التفت عن يمين العرش.

ص: 275

فالتفت: فإذا أنا بعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والمهدي في ضحضاح من نور قيام يصلون وفي وسطهم

المهدي يضئ كأنه كوكب دري، فقال: يا محمد هؤلاء الحجج والقائم من عترتك، وعزّتي وجلالي له الحجة الواجبة لأوليائي وهو المنتقم من أعدائي، بهم يمسك الله السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنه» (1).

وهذا الاختيار الإلهي في الاطلاعة الأولى كان لِيرة الخلق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم كانت الاطلاعة الثانية لاختيار خير الأمة وخليفة خير خلق الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ثم كانت النتيجة المستخلصة من الاختيار الأول والثاني هم: فاطمة وولدِها الأئمة المعصومين حجج الله على خلقه وخلفاء نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم استخلص منهم أي من فاطمة وولدها الإمام المهدي (صلوات الله عليه وعلى آبائه) فكان في وسطهم يضيء كأنه كوكب دري، كما نصت الرواية فهو المستخلص من هذا النور الإلهي الذي كان من سنخ نور الله ورسوله ووليه وحججه على خلقه.

ولذا: فقد دلّ قوله «صفيتك » على أنها المستخلصة لحمل نور من يملئها قسطاًوعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً فهو من يخلّص العباد والبلاد من كل جور فهو (المخلص ابن المستخلص من نور الله تعالى).

ص: 276


1- ايضاح دوافن النواصب لابن شاذان: ص 11 - 12 ؛ بحار الأنوار: ج 27 ص 199 - 200 .
رابعاً: دلالة كونها ما صفا من النبوة

هذه الدلالة اشارت إليها بعض الأحاديث الواردة عنه (صلى الله عليه وآله) والكاشفة عن خصوصية فاطمة وشأنها عند الله تعالى ورسوله الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكونها ما صفا من نور النبوة ما أخرجه ابن جرير الطبري الإمامي والخصيبي وغيرهم، عنه سلمان المحمدي عليه الرحمة والرضوان في حديث طويل، إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«يا سلمان خلقني الله من صفوة نوره، ودعاني فأطعت، وخلق من نوري علياً فدعاه فأطاعه، وخلق من نوري ونور علي فاطمة فدعاها فأطاعته .»(1).

والحديث يكشف عن مراحل خلق الني وعلي وفاطمة (صلوات الله عليهم أجمعين) فكان خلق النبي (صلى الله عليه وآله) من صفوة نور الله تعالى وما جرى من الدلالات التي مرّ ذكرها في بيان قوله (عليه السلام):

«قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري .»

يجري هنا في كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صفوة نور الله (عزّ وجل) فهو (المصطفى) ليس من بين الخلق فتم اختياره كما في حديث (الإطلاعة إلى الخلق) وإنما لاصطفائه من نور الله فهو صفوة نوره (عز وجل).

ولتقريب معنى الحديث يمكن أن نمثل في ذلك أثر المصباح الكهربائي الكبيروالشديد في الإضاءة والنورانية فمرة يأخذ من نوره من خلال وضع مرآة تعكس لنا جزء من نور المصباح إلا أن شدة هذا النور المنعكس وتفاوته تختلف عن اجتماع

ص: 277


1- دلائل الإمامة: للطبري: ص 448 ؛ الهداية الكبرى للخصيبي: ص 375

النور في حزمة واحدة لترتكز في نقطة محددة، فإن هذه الحزمة المأخوذة من المصباح ستكون في الصفاء والنقاوة والإضاءة أكثر بكثير من النور المنعكس من خلال المرآة.

وهكذا حال النور الذي خلق منه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن نوره (صلى الله عليه وآله وسلم) خلق علياً (عليه السلام) فهو من نور واحد وهو صفوة نور الله تعالى، ومن ثم كانت فاطمة (عليها السلام) ما صفا من هذا النور وذاك، وذلك لاجتماعه فيها.

فكانت المصطفاة فهي (صفية النبي صلى الله عليه وآله وسلم).

خامساً: دلالة كونها النقية من نور النبوة

وهذه الدلالة الأخيرة التي ارتبطت بكونها صفية النبوة والتي تفيد معنى الخالية من الشوائب فهي النقية قد دلت عليها بعض الأحاديث الشريفة التي تناولت خلق نور محمد وآله (صلى الله عليهم أجمعين) ولا سيما خلق نور فاطمة (عليها الصلاة

والسلام) فضلاً عن أن أصل اصطفائها وكونها صفية النبوة التي وردت في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) كلها مرتبطة بنور فاطمة )صلوات الله عليها).

فهي المختارة من نور المصطفى (صلى الله عليه وآله) وخيار النساء وخيرتهنَّ، والمستخلصة من نور النبوة وخلاصته، وما صفا منه، ونقيته.

فهذه الدلالات كلها مرتبطة ببيان شأنها النوراني وآثاره على الكون وتلازمه معنور الله تعالى، ونور نبيه (صلى الله عليه وآله)، ونور وصيه (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 278

وفي هذه الدلالة روى الاسترآبادي (المتوفى سنة 965 ه) والمجلسي، والبحراني، عن انس بن مالك قال: (صلى بنا رسول الله في بعض الأيام صلاة الفجر، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم، فقلت له: يا رسول الله إن رأيت أن تفسر لنا قوله تعالى:

﴿..فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(1).

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أما النبيون فأنا، وأما (الصديقون) فأخي علي. وأما (الشهداء) فعمي حمزة، وأما (الصالحون) فابنتي فاطمة وأولادها الحسن والحسين .»

قال: وكان العباس حاضراً فوثب وجلس بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: ألسنا أنا وأنت وعلي وفاطمة والحسن والحسين من نبعة واحدة؟

قال: «وما ذاك يا عم؟ .»

قال: لأنك تعرّف بعلي وفاطمة والحسن والحسين دوننا؟

قال: فتبسم النبي وقال:

«أما قولك: يا عم ألسنا من نبعة واحدة فصدقت، ولكن يا عم إن الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الله آدم، حين لا سماء مبنية، ولا أرض مدحية، ولا ظلمة، ولا نور، ولا شمس، ولا قمر، ولا جنة، ولا نار .»

فقال: العباس: فكيف كان بدء خلقكم يا رسول الله؟

فقال: «يا عم لما أراد الله أن يخلقنا تكلم بكلمة خلق منها نورا، ثم تكلم بكلمة

ص: 279


1- سورة النساء، الآية 69 .

أخرى فخلق (منها) روحا، ثم مزج النور بالروح، فخلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين، فكنا نسبحه حين لا تسبيح، ونقدسه حين لا تقديس، فلما أراد الله تعالى أن ينشئ الصنعة فتق نوري فخلق منه العرش، فالعرش من نوري ونوري

من نور الله ونوري أفضل من العرش.

ثم فتق نور أخي علي، فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور علي، ونور علي من نور الله، وعلي أفضل من الملائكة.

ثم فتق نور ابنتي فاطمة، فخلق منه السماوات والأرض، فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة، ونور ابني فاطمة من نور الله، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض.

ثم فتق نور ولدي الحسن وخلق منه الشمس والقمر، فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن، ونور الحسن من نور الله، والحسن أفضل من الشمس والقمر.

ثم فتق نور ولدي الحسين، فخلق منه الجنة والحور العين، فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين، ونور ولدي الحسين من نور الله، وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين.

ثم أمر الله الظلمات أن تمر على سحائب النظر فأظلمت السماوات على الملائكة فضجت الملائكة بالتسبيح والتقديس وقالت:

إلهنا وسيدنا منذ خلقتنا وعرفتنا هذه الأشباح لم نر بؤسا، فبحق هذه الأشباح إلا ما كشفت عنا هذه الظلمة، فأخرج الله من نور ابنتي فاطمة قناديل، فعلقها في بطنان العرش، فأزهرت السماوات والأرض، ثم أشرقت بنورها.

فلأجل ذلك سميت (الزهراء).

ص: 280

فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا لمن (هذا النور الزاهر) الذي قد أشرقت به السماوات والأرض؟ فأوحى الله إليها: هذا نور اخترعته من نور جلالي لآمتي فاطمة ابنة حبيبي، وزوجة وليي وأخ نبيي وأبو حججي (على عبادي).

أشهدكم ملائكتي أني قد جعلت ثواب تسبيحكم وتقديسكم لهذه المرأة وشيعتها ومحبيها إلى يوم القيامة »(1).

وعليه: كيف لا يقلّ صبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على فقدها وهي المستخلصة والمنتقاة من نور المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت (صفوة الصفوة مننور الله تعالى).

ولذا: يظهر (عليه الصلاة والسلام) في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفجعه وقلة صبره مع بيان شأنها النوراني في آن واحد فقال:

«قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري .»

وهو أمر يوازي صبر الوصي ومن ثم كان القصد منه بيان حجم الخسارة والمصيبة التي نزلت به مع ما آتاه الله من صفات وكمالات نفسانية، فهو (عليه السلام) الذي يأنس بالموت استئناس الرضيع بمحالب أمه، وهو الذي حمل من الصبر ما يوازي

شأنه ومنزلته؛ فيالها من خسارة عظيمة لفقده الصفوة النبوية.

ص: 281


1- تأويل الآيات الظاهرة لشرف الدين الحسيني الاستر آبادي: ج 1 ص 138 ؛ مدينة المعاجر للبحراني: ج 3 ص 223 و 422 ؛ البحار للمجلسي: ج 37 ص 82 - 84 ؛ تفسير كنز الدقائق للحويزي، ص 525 .

ص: 282

المحتويات

مقدّمة الكتاب...9

منهج البحث...15

مبحث تمهيدي في مصطلحات الدراسة ...19

أو لا:ً مفهوم الخطاب...23

الف- الخطاب لغةً...24

باء- الخطاب في القرآن الكريم ...25

جيم- ما هي الخطابة؟...34

دال- تطور الدراسات اللغوية من (نحو الجملة) الى (نحو النص) ...35

ثانياً: أثر الفلسفة التحليلية في تكوين التداولية ...36

ثالثاً: التداولية Pragma Tigue ...36

رابعاً: القصدية 52.........Intentionality .

خامساً: نظرية الافعال الكلامية... 61.

سادساً: المقبولية 66............. Acceptability .

سابعاً: نظرية التلقي ومستويات القراءة ... 70.

ص: 283

الباب الأول: ما رواه الشريف الرضي عن امير المؤمنين(علیه السّلام) عند دفنه فاطمة (علیها السّلام)

الفصل الأول: قصدية النص في دفنه فاطمة ودلالته وتحليله .

المبحث الأول: سبب صدور النص الشريف عنه (علیه السّلام)

المسألة الأولى: زمان صدور النص ومكانه ... 89.

أولاً: تحديد زمان صدور النص... 89.

ثانياً: تحديد مكان صدور النص... 91.

المسألة الثانية: تعدد الفاظ النص في مصادر الإمامية ... 93.

أولاً: تعدُد ألفاظ النص يكشف عن حقائق كثيرة، ويوصِل الى مقاربة قصدية منتجه (علیه السّلام) ...93

ثانياً: مقابلة ألفاظ الحديث وصولاً إلى الصيغة النهائية ... 100.

المبحث الثاني: الأفعال الكلامية المباشرة في النص الشريف

المسألة الأولى: الاخباريات (.Assertives .)...108

المسألة الثانية: التوجيهيات (Directives . ) ...112

المسألة الثالثة: الالتزاميات ) 113...... )Commissive .

المسألة الرابعة: التصر حات ) 114.......... )Declorations ي .

المسألة الخامسة: التعبيرات ) 115............. )Expressives .

ص: 284

المبحث الثالث: المقاصدية في تحويل وجهه (علیه السّلام) الى قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ومخاطبته

المسألة الأولى: قصدية الالتزام بمنهج القرآن الكريم في مخاطبة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...124

أولاً: تحذير المسلمين من آثار رفع أصواتهم فوق صوت النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ...124

ثانياً: القرآن يفرض المال على من أراد أن يخاطب رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ...127

ثالثاً: الملازمة بين مناداة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) من وراء الحجرات والعقل ...133

المسألة الثانية: حرمة مخاطبته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حياً كحرمته ميتاً ...135

أولاً: مقام الشهودية...136

ثانياً: مراقبة الاعمال ورؤيتها ... 138.

ثالثاً: إن القول ببدعة الشكوى إليه وزيارته بعد موته هو مخالفة صر حة للقرآن الكريم ...139

المبحث الرابع: مقاصدية السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) عن نفسه وعن فاطمة (علیه السّلام)

المسألة الأولى: دلالة لفظ السلام في اللغة ... 143.

المسألة الثانية: دلالة لفظ (السلام) في القرآن الكريم ... 146.

المسألة الثالثة: القصدية في قوله (علیه السّلام) عني وعن ابنتك...156

أولاً: القرآن الكريم يمنع الناس من الدخول إلى بيت النبي إلا بإذن منه ... 157.

ثانياً: أخذ الإذن في الدخول إلى الروضة النبوية لفاطمة (علیه السّلام)...158

ص: 285

المبحث الخامس: المقاصدية في إيراد منتج النص لفظ: (إبنتك، وقرةّ عينك، وزائرتك)

المسألة الأولى: القصدية في إيراد لفظ (إبنتك) وكاشفية بنوة غير فاطمة (علیها السّلام)...164

أولاً: هل للنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ابنة غير فاطمة (علیها السّلام) ...165

ثانياً: إن فاطمة (علیها السّلام) هي وحيدة النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وليس له بنتاً غيرها ...166

المسألة الثانية: قصدية منتج النص في «وقرّة عينك » استحقاق وجداني، أم تقوائي؟...... 172.

أولاً: كون فاطمة (علیها السّلام) قرّة عين لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )بالاستحقاق الوجداني ... 173.

ثانياً: كون فاطمة (علیها السّلام) قرّة عين للنبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالاستحقاق التقوائي ....... 176.

المسألة الثالثة: القصدية في زيارة فاطمة(علیها السّلام) النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهي في قبرها ... 178.

أولاً: السياق الدلالي للألفاظ يؤكد قصدية وقوع الزيارة ....178

ثانياً: إنَّ مقتضى حال فاطمة (علیها السّلام) يستدعي زيارة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) لها، لا العكس...... 180.

ثالثاً: هل كل مسلم بعد موته يزور رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ...180

رابعاً: قصدية زيارتها تكشف عن مخالفة بعض المسلمين للسنة النبوية .... 183.

المبحث السادس: مقاصدية نزول فاطمة (علیها السّلام) بجوار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بين النزول البرزخي والارتقاء الفردوسي

المسألة الأولى: دلالات (النزول) ومعانيه...190

أولاً: «النازلة » بمعنى الاستنزال المرتبي...190

ثانياً: «النازلة » بمعنى الإنزال المكاني والموضعي، من العلو إلى السفل ..... 190.

ثالثاً: «النازلة » بمعنى الحلول المكاني ... 193.

رابعاً: النزول البرزخي والحلول الفردوسي .. 194.

المسألة الثانية: دلالة مجاورة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) هل هي مكانية أم سكانية؟..... 197.

ص: 286

المبحث السابع: مقاصدية بيات فاطمة (علیها السّلام) في ثرى بقعة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

المسألة الأولى: قصدية البيات في الثرى النبوي بين تغيّب قبرها وحظوره ... 203.

أولاً: قصدية البيات بدلالته الزمانية، وارتكازه بوصيتها لعلي (علیه السّلام) ...203

ثانياً: قصدية البيات بدلالته المكانية... 206.

المسألة الثانية: قصدية البيات في ثرى البقعة النبوية بتحديد مكان قبرها (علیه السّلام)...207

أولاً: إن قبر فاطمة (علیها السّلام) في دارها الذي كان ملاصقاً للحجرة النبوية ..... 208.

ثانياً: إنه في الروضة التي بين منبر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وقبره ........ 209.

ثالثاً: إنه في البقيع...211

المسألة الثالثة: دلالة بياتها (علیها السّلام) في ثرى النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يكشف اكذوبة دفن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في بيت عائشة ... 213.

المبحث الثامن: المقاصدية في إيراده لفظ «ببقعتك » وإلحاق البضعة (علیها السّلام) بهذا التخصيص

المسألة الأولى: قصدية التلازم بين خلق طينة ابدان العترة النبوية والمثلية في القرآن الكريم ... 222.

المسألة الثانية: قصدية الملازمة بين طينة بدن فاطمة وطينة بدن النبي وانهما من الجنة، ومن بقعة واحدة .. 229.

أولاً: (إنها من جنة الفردوس)...229

ثانياً: (إن هذه الطينة من عليين)...230

ثالثاً: (إنها من طينة تحت العرش) ... 232.

رابعاً: (إنها من طينة قبر النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...233

خامساً: أن هذه الطينة مأخوذة من الجنة والأرض ...234

ص: 287

المبحث التاسع: المقاصدية في الاختيار الإلهي لها في الوفاة ، وخصوصية سرعة اللحاق بأبيها (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

المسألة الأولى: قصدية الاختيار الإلهي لها (علیها السّلام) في الوفاة ...243

أولاً: معنى الاختيار لغة...244

ثانياً: ما جرى عليها من المصائب يدفع إلى الرحيل عن الدنيا دون البقاء فما الذي جرى؟... 245.

ثالثاً: إكثارها من الدعاء إلى الله تعالى في سرعة اللحاق بأبيها (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ...251

رابعاً: إنَّ النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قد سأل الله أن تلحق به فاطمة سريعاً .... 252.

المسألة الثانية: القصدية في تحديد المدة الزمنية التي عاشتها بعد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فأسرعت في لحاقه؟ ... 256.

أولاً: إنها بقت خمسة وسبعين يوما... 256.

ثانياً: إنها بقت ثلاثة أشهر... 257.

ثالثاً: أنها بقيت بعد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) بستة أشهر .... 257.

رابعاً: إنها بقت بعد أبيها ) i( ثمانية أشهر . .... 258.

خامساً: تاريخ وفاتها (صلوات الله عليها) وتحقق قصدية سرعة اللحاق ..... 258.

سادساً: عمرها حين الوفاة .... 259.

المبحث العاشرمقاصدية كونها صفية سيد الأنبياء والمرسلين (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ودلالة قلّة صبره

المسألة الأولى: الاصطفاء في القرآن .... 264.

المسألة الثانية: دلالات لفظ )الصفوة( ومعانيه في اللغة . 268.

أولاً: دلالة كونها خيار النبوة .... 269.

ثانياً: قصدية الفرق بين الاختيار للشيء وخياره ودلالته في اظهار شأنية فاطمة (علیه السّلام)...273

ثالثاً: القصدية في أنها المستخلصة من النبوة ودلالته في قلّة صبره ....... 274

رابعاً: دلالة كونها ما صفا من النبوة..... 277.

خامساً: دلالة كونها النقية من نور النبوة .....278

ص: 288

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.