الامام المهدي حقيقة وجوده، معالم دولته، و كيفية انتظاره

اشارة

الامام المهدي

حقيقة وجوده، معالم دولته،

وكيفية انتظاره

إِضَاءَةٌ جَدِيدَةً لمفکَّرینِ رائِدينِ للأسُسِ التأصيليةَ للعقيدةِ المهدويَّةِ ، وللأُسُسِ العمليَّة لحركة الإنتظارِ الشَّرْعِيَّةِ ، وانعكاسُهَا عَلَى الْوَاقِعِ الاجتماعي مِنْ خِلَالِ نموذجِهِ الأَدبي.

المرجع الإسلامي الشهيد

السيد محمد باقر الصدر

بحث حول المهدي

(النص الكامل)

العلامة الدكتور الشيخ

عبد الهادي الفضلي

في انتظار الإمام

( النص الكامل)

في لجة الانتظار

«نصوص في الأدب المهدوي الحديث»

إعداد: حسين الموسوي

دارالمرتضي

بیروت

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

Printing -Publishing - Distributing Lebanon -Beirut

PO Box: 155/25 Ghobiery

Tel-Fax: 009611840392

E-mail: mortada14@hotmail.com

printed in lebanon

الطبعة الأولى

1426 هجرية

2004 ميلادية

طباعة ونشر وتوزيع

لبنان-بیروت، ص.ب: 25/100 الغبيري

هاتف فاكس : 9611840392..

E-mail: mortada14@hotmail.com

جميع حقوق الطبع والاقتباس محفوظة

ولا يحق لأي شخص أو مؤسسة طباعة

أو ترجمة الكتاب أو جزء منه إلا بإذن

خطي من المؤلف والناشر

ص: 4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم

المقدمة

اشارة

انتظارنا : إِضَاءَةٌ جَدِيدَةً لمفکَّرینِ رائِدينِ للأسُسِ التأصيليةَ للعقيدةِ المهدويَّةِ ، وللأُسُسِ العمليَّة لحركة الإنتظارِ الشَّرْعِيَّةِ ، وانعكاسُهَا عَلَى الْوَاقِعِ الاجتماعي مِنْ خِلَالِ نموذجِهِ الأَدبي.

ص: 5

ص: 6

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم

المقدمة

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى مُحَمَّدٍ خاتم الْأَنْبِیاءِ وَالْمُرْسَلینَ و عَلَی آلِهِ الطَّیِّبِینَ الطَّاهِرِینَ وعلى الممهدين لظهور خاتم الأوصياء منذ غَیبَتِهِ حتى ظهوره الشريف و علی الْمُسْتَشْهَدينَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَ مُحِبِّیهِ وأَنْصَارِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

تحتوي هذه المجموعة التي بين يديك - عزيزي القاريء - والتي عنوتها ب(انتظارنا : إِضَاءَةٌ جَدِيدَةً لمفکَّرینِ رائِدينِ للأسُسِ التأصيليةَ للعقيدةِ المهدويَّةِ ، وللأُسُسِ العمليَّة لحركة الإنتظارِ الشَّرْعِيَّةِ ، وانعكاسُهَا عَلَى الْوَاقِعِ الاجتماعي مِنْ خِلَالِ نموذجِهِ الأَدبي) على ثلاثة أقسام :

بحث حول المهدي:

القسم الأول : يضم کتاب (بحث حول المهدي) للشهيد الأول من آل الصدر والمرجع الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر الذي كان في حقيقته مقدمة خطها قلمه الشريف لكتاب (موسوعة الإمام المهدي) للشهيد الثاني من آل الصدر وتلميذه المخلص

ص: 7

والسائر على خطاه في أرض الشهادة والمقدسات المرجع السيد محمد الصدر .

وكان الشهيد الصدر قد کتب تلك المقدمة عام 1397 ه تناول فيها قضية الإمام المهدي من خلال طرح أسئلة حول القضية من قبيل (كيف تأتي للمهدي هذا العمر الطويل؟) و(لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمره؟) و(ما فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرر لها؟ ... وإلى آخره من مسائل حول القضية.

ولتميز قلم الشهيد الصدر الإبداعي، استلت تلك المقدمة من الموسوعة لتطبع في كراس خاص يضاف إلى مكتبة العقيدة الإسلامية فيساهم في الدفع المعنوي والروحي لجيل ناشیء في أفق يهيمن عليه المناخ المادي في تفسير الأشياء وفي النظرة إلى الحياة؛ مما دعا سیدنا الشهيد إلى معالجة الموضوع معالجة عقلية علمية تدلل على أن الشرع الشريف هو (سيد العقلاء) فتحرك في بحثه وفق الإطار المطلوب و أبرز ملامح هذا التحرك تظهر في محاولة بيان أسباب غيبة الإمام وطول عمره ومنفعة الإمام نفسه من تجربة العمر الطويل والغيبة فكان السبب الأول نفسياً ليرى الإمام عليه السلام تهاوي القوى الطاغوتية التي ولدت صغيرة ثم تعملقت ثم آن حین رحيلها وزوالها.

والسبب الثاني كان من أجل الاعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية التي سيستثمرها الإمام في اليوم الموعود.

بالإضافة إلى غيرها من أسباب تعرض لها الكتاب الثاني الآتي

ص: 8

ذكره في القسم الثاني من هذه المجموعة والجدير ذكره أن السببين آنفي الذكر قد دلل عليهما السيد الشهيد بقصة أهل الكهف ونستشعر من هذا الربط أن السيد الشهيد يريد أن يقول لنا إن المسألة ترتبط بتربية الله سبحانه وتعالى لعباده وبعنايته بهم وهو رب العالمين) والرحمن الرحيم، ولا يستثنی مخلوق من ربوبية الله تعالى له ومن حاجته لتربيته، والمعصوم نبياً كان أم رسولاً أم إماماً يقع في دائرة تربية الباري ما دام له عبداً وما دام الله له ربًّا.

ويمكن الاستدلال على حاجة المعصوم وحاجته للتربية الإلهية بقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال «أدَّبَنِي رَبِّي فأحسَنَ تأدِيبي» وبقوله تعالی مخاطباً رسوله الكريم في سورة هود: «وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ» [هود : 120]، وبقوله تعالى في سورة الفرقان : «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا » [الفرقان : 32]

فلا تعني كلمة تثبيت الفؤاد سوى تهيئة صاحب الدعوة الجديدة نفسياً ودعمه من خلال سرد قصص الأنبياء والرسل الذين نصرهم الله على أعدائهم في نهاية المطاف ليكتسب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والی شحنة نفسية تقوي جلده وصموده ليسير قدماً في تبليغ الدين الجديد.

وهذا هو الذي عناه السيد الشهيد في حق الإمام المهدي (عج)، فدور النبي كان صعباً فاحتاج إلى تثبيت الفؤاد لأنه كان دوراً تأسيسياً في ختمه للنبوة وفي ارتكازه على الاعجاز الفكري المتمثل في القرآن

ص: 9

الكريم وفي اعتماده بعد التوكل على الله، على العزم البشري وعلى الطاقة الإيمانية في نشر الدعوة وفي جهاد الأعداء بالأمور الطبيعية (السيف / الخيل) تلك الأمور التي حلت محل (عصا موسى وما سخر لسليمان) وما شابه من معاجز مادية كانت محور النصر في النبوة غير الخاتمة... ودور الإمام المهدي عليه السلام سيكون صعباً أيضاً و استثنائياً؛ لأنه سيقوم بتطبيق الدين على كافة أرجاء المعمورة تطبيقاً عادلاً يرضى به الكل وتقربه الأعين وتنبع عدالته من موضوعيته وتنبثق قوته منها، لا من تزويق إعلامي أو من ترسانة عسكرية ترضخ لها الرقاب مجبورة بالتعايش مع هذا اللون من تلك الهيمنة الفوقية الغيرية، بيد أن هذه الهيمنة تزول وتضمحل فور زوال القوة السلطوية الجبروتية التي تدعمها وتنفخ في هيكلها الحياة، فالملاحظ على مدى التاريخ نشوء قوي تتقاسم السيطرة على العالم أو انفراد قوة واحدة في السيطرة لكنها سرعان ما تتهاوى وتزول؛ لأنها لا ترتكز على قيمة العدل الملامسة لفطرة الإنسان وروحه وشغاف قلبه، فالعدل مطمح بشري وهو أساس الحكم، ولا تنبثق قيمة العدل إلا من مرجعية ذات فكر فريد، فكر في غاية العمق والأصالة ، فکر مصدره رباني، وحامله أمين حكيم يتفكَّر ويترصَّد تحقق الظرف الموضوعي الذي يسمح بتطبيقه بنجاح في الواقع الخارجي على مستوى الكون.

اشتراك خاتم الأنبياء وخاتم الأئمة بإيمانين مماثلين:

ويشترك النبي الخاتم والإمام المهدي الخاتم بتحليهما بإيمانين

ص: 10

مماثلين، لاشتراكهما بدورين صعبين، دور تأسيسي ودور تطبيقي كما تقدم، والإيمانان المشتركان هما:

1- الإيمان الغيبي غير الحضوري .

2- الإيمان الاطمئناني الحضوري .

أماالإيمان الأول الغيبي فمثاله بالنسبة للنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم هو سرد قصص الأنبياء وانتصاراتهم من قبل الله تعالى عليه، فهو صلی الله علیه و آله و سلم آمن بغيب لم يكن شهده، مفاده أن الله تعالى ينصر انصاره ويخذل أعداءه، وبالنسبة للإمام المهدي عليه السلام هو إيمانه بالإسلام وبنزول القرآن وبنبوة محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فهو لم يكن معاصراً لزمن البعثة النبوية الشريفة ليؤمن بمحمد عن رؤية، ولم يكن نبياً حتى يتسنى له رؤية جبريل المقتصرة رؤيته على الأنبياء والرسل.

وأما الإيمان الثاني الاطمئناني، فمثاله بالنسبة للرسول صلی الله علیه و اله و سلم هو رؤيتُهُ العينية لشخصية جبريل الذي نزل عليه بالقرآن، فإيمانه بجبريل الذي جاء بالقرآن كان عن رؤية بصرية مثل إيمان إبراهيم حين رأى بعينيه كيف يخلق الله فاطمأن قلبه ، وانتقل تصديقه من حيز الغيب إلى حيز الحضور، وهكذا القرآن بالنسبة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبالنسبة للإمام المهدي عليه السلام فإيمانه الاطمئناني كان متمثلاً بطول عمره الذي جعله يرى بعينيه سقوط الفراعنة والطغاة طول مدة عمره الشريف، وكيف كان الله تعالى ينصر أنصاره في بعض المواقع وفي بعض الأزمنة فتتراكم تلك الحقيقة لتشكل رقماً كبيراً عاصره الإمام عن تجربة ورؤية واقعية تجعله مطمئناً اطمئنان إبراهيم لقدرة الله على الخلق واطمئنان الرسول الخاتم صلی الله علیه و آله وسلم فان بأن القرآن من الله تعالی...

ص: 11

فتثبیت فؤاد النبي بسرد قصص الأنبياء والرسل السابقين انطلق من القرآن الذي سمع آياته ورأى مشهد نزوله من الله تعالی بواسطة جبريل، وسرد القصص يعبر عن مفهوم إيماني غيبي لكن هذا المفهوم انطلق من مصداق اطمئناني حضوري، وهو القرآن الكريم النازل على محمد صلی الله علیه و اله وسلم وبهذا اللحاظ کان سرد القصص مثبتاً لقلبه صلی الله علیه و اله و سلم.

ومعايشة الإمام المهدي عليه السلام؛ بسبب عمره الطويل لمصادیق المفهوم القرآني المتمثلة بتدحرج عروش الطغاة على مر التاريخ تمثل الإيمان الاطمئناني الحضوري في الخارج والذي يؤكد عملياً صدق النبوة وصدق القرآن وأن مصدره الوحي الإلهي وحين يحمل الإنسان المفهوم ویری مصادیقه تتحقق أمام عينيه في الخارج، يكون في أعلى المراتب الروحية وفي أوج النشوة الإيمانية التي تنفعه في ممارسة الدعوة بنجاح.

هذا هو ما عناه سیدنا الشهيد الصدر، ويبقى أن محاولة استكناه حكمة التشريع أمر مطلوب، ومن مصادیق دعوة القرآن الكريم إلى التفكر والتدبر والعلم والمعرفة كما أن التقليد في العقائد أمر مذموم ومنهي عنه في الشرع، فيتعين الاجتهاد، ومسألة المهدي بكل تفاصيلها ترتبط بالعقيدة التي يجب الإيمان بها عن علم وبصيرة ودليل لا عن تقليد واتباع.

تفسير معنى أن الله يصلح المهدي في ساعة:

أما ورود بعض الروايات التي تقول إن الله يصلح المهدي في

ص: 12

ساعة، فالمقصود بها إعلان الإمام عن حركته أمام المجتمع البشري في تلك الساعة باعتبار أن شروط الظهور قد اكتملت وتحققت، فحينما أعلن ميخائيل غورباتشوف عن حل الاتحاد السوفياتي، فإن هذا الاعلان لم يكلفه سوى المدة التي استغرقت في قراءته للقرار ، وهي مصداق كلمة (ساعة) في عصر التشريع. ومن البين أن مجموعة عوامل سياسية واقتصادية معقدة بدأت منذ زمن طويل لتصل إلى ذروتها التي دفعت غورباتشوف ليعلن عن تفكيك الاتحاد السوفياتي ، وليست (ساعة) قراءة الاعلان هي المسؤولة عن ذلك.

فاعلان المهدي عن حركته حين الظهور هو نتيجة لحركة تمهيد طويلة حققت شروط الإعلان عنها من قبله عليه السلام في (ساعة).

تفسير معنى أن أمر المهدي غيب من غيب الله:

وأما بعض العبارات الواردة التي تقول بأن أمر المهدي (غيب من غيب الله) - بلحاظ دلالتها المانعة من التماس التعقل أو الحكمة والتعليل - والقول بایکال الأمر إلى أهله، فمعارضة بكثير من الروايات التي تدعو إلى التوطئة والتمهيد وتعلل أن عدم تحقق الظهور كان بسبب أخطاء المنتظرين ومخالفتهم للتشريع وللالتزام الصحيح؛ مما يضع المسألة في دائرة السببية الاجتماعية والسنن التاريخية، فيخرجها من أفق الغيب إلى أفق الحضور، ومع ذلك، فإن ظروف صدور مثل هذا الوصف للقضية المهدوية بأنه (غيب من غيب الله) - إن صح صدوره عن المعصوم -، لم تصلنا، فلعل ملاحظة شأن السائل هي التي اقتضت مثل هذا الجواب، ونحن غير

ص: 13

ملزمین بالأخد به على الاطلاق، وهو مخالف في مدلوله للمضامین الإسلامية الثابتة في الكتاب والسنة على كل حال .

في انتظار الإمام:

القسم الثاني من هذه المجموعة يحتوي على كتاب (في انتظار الإمام) للمفكر الإسلامي الفقيه الشيخ عبد الهادي الفضلي - دامت أفضاله، وهو عمل قد فرغ من كتابته في النجف الأشرف في 1384/5/1 ه، ونحن الآن في سنة 1424 ه يصادف مرور أربعين عاماً على تأليف الكتاب، وهو يحمل ريادة في هذا المجال تلك الميزة التي تجعله يحمل نكهته الخاصة، ولجدة موضوعه ووضوحه وسلاسته رغم اشتماله على بحث فقهي متخصص في مجال الفقه السياسي، الذي عالج مسألة الدولة الإسلامية بكل أبعادها و متعلقاتها من المشروعية إلى التكوين، ودور الأمة في تحقيقها وفق الأساليب المشروعة والمتاحة، كان وما زال محل طلب القراء المتطلعين إلى يوم الظهور والراغبين إلى التحلي بفكر يصحح أود المسيرة، ويؤدي إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور.

إنه عمل يدعو إلى الانتظار العملي الممهد والموطىء لظهور الإمام (عج)، ولأن تلك الدعوة هي الغاية من تأليفه، كما هو الواضح من عنوانه (في انتظار الإمام)، قمت بادراجه في القسم الثاني من هذه المجموعة : (إنتظارنا : إضاءة جديدة لمفرین رائدین للأسس التأصيلية للعقيدة المهدوية، وللأسس العملية لحركة الانتظار الشرعية، وانعكاسها على الواقع الاجتماعي من خلال

ص: 14

الأدبي) لأن العمل الأول (بحث حول المهدي) کان خالصاً للاستدلال المثبت لعقيدة المهدي، وهي مسألة عالجها كتاب (في انتظار الإمام) في قسمه الأول، وأترك للقارىء الكريم المقارنة بين هذا القسم منه وبين (بحث حول المهدي) المشتركين في بحث ذات الموضوع، ليصل إلى حقيقة أن الاستدلال على أصول العقائد بحث متحرك متنوع نام، يتماشى ومسيرة العلم المتطورة، وليزداد في ترسيخ عقيدته بالإمام عليه السلام ، فإن الهدى والإيمان يزيدان، كما هوصریح عبارات القرآن.

ولأن الدعوة إلى انتظار الإمام مترتبة على أساس إثبات وجود الإمام أولاً، فقد جاء ترتیب (في انتظار الإمام) في القسم الثاني من المجموعة رغم صدوره تاريخياً قبل (بحث حول المهدي) - ليتبع خطة صاحب الانتظار في اثبات عقيدة المهدي في القسم الأول من عمله، ثم الانتقال في القسم الثاني إلى الدعوة إلى التمهيد لظهور الإمام عليه السلام ...

و يتميز هذان العملان بعمقهما ووضوحهما وابتكارهما-كما عودتنا مدرسة الشهيد الصدر على ذلك - وسيأتي الحديث عن ملامح تلك المدرسة ومميزاتها، من خلال التطواف في بعض أعمال العلمين الكبيرين الصدر والفضلي.

وكما استل (بحث حول المهدي) من (موسوعة الإمام المهدي) الذي كان في حقيقته مقدمة لها، فطبع في كراس خاص، وكررت طبعاته في أكثر من دار، وفي أكثر من بلد...

كان كتاب (في انتظار الإمام) كذلك، فقد طبع مراراً في العراق

ص: 15

ولبنان وترجم إلى الفارسية في إيران ليطبع طبعات كثيرة للناطقين باللغة الفارسية تحت عنوان (در إنتظار إمام)، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تعطش شباب الأمة الإسلامية إلى الكتاب الإسلامي، وإلى التزود بالفكر الإسلامي العظيم، رغم كل الظروف المعاصرة التي نالت منه وحاربته وشوّهته ، وأرهبت الشباب ليبتعدوا عنه، تمهيداً لصهرهم بفكر دخیل، غير أن الأقلام الواعية من مفكري الأمة، وقفت لذلك بالمرصاد، فتصدت لكل مدفوع وضليّل، وكمَّمت أفواه من يريدون ليطفئوا نور الله الذي خطف أبصار العباد .

فبعد أن أخذت دعوة الانتظار العملي بعدها في الواقع المعاصر، فتحولت من فكرة مخدرة - كما يراد لها، ويظن بها - إلى فكرة مثورة، من سكون في الوجود الذهني إلى حركة في الوجود الخارجي، من غيب مأمول إلى حاضر معمول ۔ ظهرت هنا وهناك كتابات معروفة الخلفية، تشكك بأصل الإمامة والعقيدة المهدوية ، لتقطع دابر التمهيد النشط، باسقاطها المسألة من الأساس.

مثل تلك الكتابات المعروفة دوافعها ومنطلقاتها في زمن اليقظة والصحوة وتأجج مشعل حماسة التوطئة والتمهيد، تدعونا إلى تفعيل الثقافة المهدوية في الساحة، ودعمها بمختلف الأصعدة والنشاطات ، لرد كيد الأعداء ومواجهة من يكره من الله تعالى على المستضعفين وإرادته في جعلهم الأئمة الوارثين .

التعليق على قول المودودي:

وأحب أن أعلق على قول المودودي في شأن حديث الرايات

ص: 16

السود: «ذكر الرايات السود من قبل خراسان، مما يدل دلالة واضحة على أن العباسيين ادخلوا في هذه الرواية من عند أنفسهم، ما يوافق أهواءهم وسياستهم، لأن اللون الأسود كان شعاراً للعباسيين، وكان أبو مسلم الخراساني هو الذي مهد الأرض للدولة العباسية»(1)

وأقول: إن شيخنا الفضلي استدل بالحديث نفسه على وجوب التمهيد والتوطئة لظهور الإمام فارورده مثبتاً لفظ (الرايات السود) ولفظ (المشرق) بدل (خراسان)(2)

فقد يكون العباسيون استغلوا ذكر اللون الأسود في الحديث فجعلوا شعارهم السواد ليوهموا بأنهم هم المقصودون في الحديث الشريف، كما لقب أحد رجالهم نفسه ب(المهدي) فصار يعرف ب(المهدي العباسي) فلفظا (المهدي والرايات السود) مذكوران ومعروفان في الأحاديث قبل قيام دولة بني العباس .

تفسير لفظ (المشرق) الوارد في حديث الرايات السود:

بقي أن أشير إلى أن لفظ (المشرق) في الحديث الذي استدل به شيخنا الفضلي - دامت افضاله - على وجوب التمهيد، قد ينطبق على (خراسان) فيما بعد، باعتبارها من المشرق، وقد ينطبق على غيرها من شرق البلاد الإسلامية أو شرق جزيرة العرب، وقد تتسع دلالة (المشرق) فتعني كل الشرق الذي يقابل (الغرب) كله في عصرنا،

ص: 17


1- راجع: في انتظار الإمام، القسم الثاني من المجموعة، ص189.
2- م.ن ص218 - 219.

كما يحتمل أن يصدق (المشرق) على كل من يحمل الثقافة المشرقية الإسلامية والشرق مصدر النبوات، فينطبق على الممهدين في أي بقعة من بقاع العالم، وقد يكون هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب إلى مراد شيخنا الفضلي الذي ذكر الحديث للدلالة على وجوب التمهيد، ومقتضى الاطلاق وجوبه على كل مسلم يعتقد بأن الإسلام نظام شامل للحياة، ويحمل الثقافة المهدوية إذ لا يحق لمن يعيش في المغرب أن يترصد بزوغ رايات المشرق، فيعفي نفسه من المسؤولية وهي واجبة بمقتضى الاطلاق على كل مسلم ومسلمة .

مدرسة الشهيد الصدر وتكوين نسق أولي الألباب:

ينقل القرآن الكريم بكل أمانة وثقة بنفسه أقوال الكفار والمشركين وأهل الكتاب، التي تحدثت بسلبية عن الذات الإلهية والتوحيد والنبوة ورسالة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، كما ينقل سلبيات حركة الدعوة في مجتمع الرسالة، فيناقشها بموضوعية وبأدب جم، ويضع الرأي السليم والقول الحق المتفق مع العقل والحكمة والفطرة. ثم يعرض طريقة جماعةٍ هدفها الوصول إلى الحقيقة وإلى الأخذ بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، جماعة ليس في قلوب أصحابها زيغ ولا مرض أو انحراف، بل هي جماعة تبحث عن الأصوب والأسلم والأحسن من القول الذي تنتفع به في مسيرتها، هذه الجماعة امتدحها خالقها الحكيم بقوله الكريم : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» [الزمر: 18]

ص: 18

فالظاهر من التوصيف الايجابي من قبله تعالى لتلك الجماعة ، هو دعوتنا لنتمثل طريقتها في الاختيار والاتباع، وهذا الأمر لا يتأتی لنا كمتلقين للمفاهيم الإسلامية إلا إذا توفرت لنا المقاییس والمرتكزات التي تجعلنا نستطيع من خلالها أن نميز بين القبيح والحسن من القول وبين الحسن والأحسن منه، وهذا هو دور العالم المبدع الذي أعطاه الإمام المعصوم الحجية العلمية التي تؤهله لصناعة النسق المذكور ليبرهن على حجيته الوصفية التعينية المنبثقة من وظيفته العلمية باعتباره نائباً عاماً عن الإمام .

حجية العلماء وصفية تعينية:

العالم نائب عن الإمام إذن، ولأن نیابته عامة ؛ فهي تعينية الاتصاف، لا تعيينية مشيرة إلى شخص في الخارج كالنيابة الخاصة، فيتعين - والحال هذه - كون النيابة العامة - متعينة زمنياً وطول فترة الغيبة الكبرى فيمن يحقق في علمه وفكره الحجية العلمية في زمنه بلغة زمنه وعلى أهل زمنه، لقوله عليه السلام «فهُم حُجّتِي عليكُم وأنا حُجّةُ اللهِ» فسياقياً وكما تفرضه القواعد اللغوية تكون دلالة حجيتهم (العلماء) مستمدة من دلالة حجيته (الإمام) عليه السلام في السعة، وبما أن حجيته علیه السلام على الناس كافة فإن حجيتهم تكون كذلك، ومثل تلك الدلالة السياقية المستوحاة، استدلالنا بمولوية الإمام علي الولايتية من خلال اقترانها لغوياً بمولوية النبي صلی الله علیه و اله و سلم الولايتية في قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ ». غير أن نائب الإمام غیر معصوم، فتتعين حجيتُهُ من خلال ابتكاره الاجتهادي وعطائه

ص: 19

العلمي والفكري الذي يكون حجة في زمنه على التيارات الفكرية الأخرى في زمنه، بلحاظ أحسنية الفكر الذي أنتجه أو أبدعه في الواقع البشري الذي يحتاج إلى عالم ينير وعامل يستنير . وهذه هي وظيفة العلماء الحجج في عصر الغيبة التي تتمظهر في أعلى درجات تمظهرها في صناعة (النسق الألبابي) فما هي ملامح وعناصر هذا النسق؟

عناصر النسق الألبابي:

إن دراسة جادة ومستقلة هي الكفيلة بأن تلم بتلك العناصر، فتضرب الأمثلة وتستجلي صورة النسق وتقف على ملامحها وأدبياتها بكل وضوح ... إنها دراسة مطلوبة ومرغوبة، قد تفيد من التجارب العلمية السابقة المهتمة بماهية الابداع والابتكار وصناعتها نفسياً وتربوياً كما يمكنها أن تستفيد - بكل تأكيد - من كنوز الشريعة الحقة المودعة في الكتاب والسنة، ومن تجارب أعلام الأمة المبدعين ...، وفيما يلي جملة من ملامح وعناصر هذا النسق الألبابي الإبداعي:

1- الوضوح.

2 - العمق .

3- لغة العصر .

4 - استقراء الآراء وعرضها بموضوعية .

5- خلق مجال حرية الاختيار لدى المتلقي.

6- الجو الذي يخلقه الكاتب المبدع هو الذي يجعل القاريء

ص: 20

المتلقي قادراً على انتخاب الرأي الأصوب والقول الأحسن على حد تعبير الآية الكريمة.

7- حين يتدخل الكاتب ويبدي رأيه ؛ فإنه يضعه في مقابل الآراء الأخرى، باعتباره رأياً صادراً عن مخاض فكري، وعن حركة اجتهادية، من حقه أن يذكر موضوعياً مجرداً عن سلطوية خطابية مفروضة لا تستمد قوتها من ذاتية الرأي نفسه .

8- لا وقوف في حركة (النسق الألبابي) الذي يرى أن التحجر وإيقاف الحركة الفكرية الاجتهادية لصالح رأي يمثل جسماً غريباً سرعان ما يلفظه ويرفضه، مما يضع هذا النسق في عجلة قطار الابداع الذي لا يتوقف، والذي يستمد وقوده ومرتكزاته من الكتاب والسنة.

9- الأصالة - بلحاظ المقروء - والعصرية - بلحاظ القراءة - هما سمنا هذا النسق.

وأي مدرسة تنطلق منه فانها تعبر عن أصالتها وعصرنتها في الوقت نفسه، وتحمل شروط بقائها وديمومتها الفكرية والاجتهادية في ظل التشريع الذي جاءت به النبوة الخاتمة.

رأي الشيخ الفضلي في التجديد والمنهج المقترح:

وقبل أن أذكر بعض الأمثلة التي يمكن أن تعد شاهداً على مجمل عناصر النسق المتقدمة أحب أن أذكر هنا نقاطاً حول المنهج المقترح للتجديد في الفكر الإسلامي، اقترحها شيخنا الفضلي في حوار معه

ص: 21

حول تجديد الفكر الإسلامي المعاصر:

«1 - أن نعتمد أصول البحث في دراساتنا الإسلامية .

2 - أن نعيد النظر في جميع ما كان من فكرنا الإسلامي مرتبطاً بواقع من ظروف وغيرها قد تغير وتبدل إلى واقع آخر يختلف كليَّاً أو جزئياً عن الواقع السابق، وذلك لكي نكون بهذا مع متطلبات الحياة المعاصرة.

3- أن نعيد النظر في لغة فكرنا الإسلامي ونُغَيِّر فيها إلى ما يلتقي ولغتنا المعاصرة ألفاظاً وأساليب .

4- أن نحاول الاستفادة من تجارب الآخرين في طريقتي الدرس والعرض.

5- أن يكون هدفنا خدمة قضايا الفكر والعقيدة، وأن لا نتهيب ذوي المواقف السلبية من التجديد من أولئك الذين هم ليسوا بمستوى فهم الإسلام كنظام حياة، أو أنهم ضالعون في خدمة أعداء الإسلام وتحت ستار المحافظة على الإسلام»(1)

الشيخ محمد جواد مغنية (سهولة العبارة وعمق المطلب):

يقول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (أصول الفقه في ثوبه الجديد) : «أما الغاية من كتابي هذا فهي نفس الغاية من كتاب فقه

ص: 22


1- محفوظ، محمد (حوار مع الدكتور عبد الهادي الفضلي، حول التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر)، السنة الأولى، العدد (4) صيف 1994م/1415 ه-مجلة الكلمة ص101.

الإمام : البساطة والتيسير وتمهيد الطريق الواضح أمام الطالب والراغب، لا الظهور أو الاظهار بالتبحر والتعمق، على أنه يبرز أعمق الأفكار وأشدها صعوبة، بل ويناقشها أيضاً بأسهل عبارة وأيسرها على الافهام»(1)

لغة الفتاوی الواضحة الجديدة (السبب والحاجة):

ويبين الشهيد الصدر سبب كتابة فتاواه باسلوب جديد واضح من خلال موقعه كفقیه و مرجع معاصر: «فاللغة المستعملة تاريخياً في الرسالة العملية كانت تتفق مع ظروف الأمة السابقة إذ كان قراء الرسالة العملية مقصورين غالباً على علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقهين لأن الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة لم تكن متعلمة، وأما اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الأمة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ إذ كتب بلغة عصره وفقاً لأساليب التعبير الحديث فكان لا بد للمجتهد المرجع أن يضع رسالته العملية للمقلدين وفقاً لذلك»(2)

إننا نلمح عنصر الوضوح بادياً فيما نقلنا من كلام الشيخ مغنية والشهيد الصدر في حديثهما عن عمليهما المذكورين، وقد ذكر الشيخ مغنية أن الوضوح لا يعني عدم العمق بل (أنه يبرز أعمق الأفكار) والعمق هو العنصر الثاني من عناصر النسق المذكور.

ص: 23


1- مغنية، محمد جواد، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، دار التيار الجديد/ دار الجواد، بیروت، لبنان، ط3، 1408ه- 988م. انظر المقدمة.
2- الصدر، محمد باقر، الفتاوی الواضحة، دار التعارف للمطبوعات، بیروت لبنان، ط8 1403 ه - 1983م، ص96.

ولكم يتفق أن يغطي الضحالةَ والسطحيةَ الغموضُ والتعقيدُ على طريقة قول الفرزدق الذي عده البلاغيون شاهداً على مخالفة الفصاحة:

و ما مِثْلُهُ في النَّاسِ إلاَّ مُمَلََّكاً*** ابو أمِّهِ حَيٌّ أبوهُ يُقَارِبُه

فحين نفك العبارة المعقدة نكتشف أننا ضيعنا وقتنا في الوصولإلى معنی مبتذل أو لا معنى له ولا يستحق التأمل والتفكير .

وقد يكون الوضوح ناتجاً عن عدم عمق كقول الآخر:

كأننا والماء من حولنا*** قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ

على أن السطحية في هذا البيت مقصودة لغرض النكتة والظرف، فتقبل بهذا اللحاظ، ولا تقبل في النتاجات الفكرية والعلمية .

لقد تناغم الشهيد الصدر مع الحقيقة الثقافية الجديدة لأبناء أمته (فقد أصبح عدد كبير من أبناء الأمة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ...) كما يقول رضوان الله عليه فأنتج (الفتاوی الواضحة) في الأحكام الفقهية التي يعتمد المكلف المقلِّد في العمل بها شرعياً على دليل إجمالي ولكن إذا توسعت الأفهام والمدارك لدى الطبقة المثقفة، وصار بامكانها أن تهضم الدليل التفصيلي للأحكام الشرعية، ولا يسعفها في تحقيق تلك الرغبة غير قيام فقيه أو مجموعة من الفقهاء بانتاج كتاب فقهي استدلالي منظم يعتمد الوضوح والعمق وعناصر النسق الالبابي المتقدم، وإذا كان من الممكن القيام بمثل هذا العمل فهل يقف أمام القيام به عائق أو محذور شرعي؟

ص: 24

رأي جملة من الفقهاء في تعميم فقه الدليل التفصيلي:

في الحقيقة إن تاريخ التشريع الإسلامي يسعفنا برأي فقهي یری محذورية عدم القيام بمثل هذا العمل فقد «جاء في كتاب (معالم الدين) للشيخ العاملي - في موضوع الاجتهاد والتقليد - ما نصه : «أكثر العلماء على جواز التقليد لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد، سواء كان عامياً، أو عالماً بطرف من العلوم.

وعزا في (الذكرى) إلى بعض قدماء الأصحاب، وفقهاء حلب منهم، القول بوجوب الاستدلال على العوام».

وهذا يعني أن القائل بوجوب الاجتهاد العيني ليس المذكور وحده، وإنما إلى صفه فقهاء آخرون، وهم يمثلون - فيما يظهر منه - تطور الحركة العلمية في حلب حيث بلغت مستوى المدرسة أو المذهب العلمي من جهة النضج وإبداء الرأي»(1)

وقد صرح الشيخ الكمباني بقول بعض الإمامية بحرمة التقليد: «فَالْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْأَصْحَابِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ وَ الْمَنْسُوبُ إِلَى بَعْضِهِمْ تحریمه»(2) ومقتضى القول بتحريم التقليد، القول بوجوب الاجتهاد العيني.

ص: 25


1- الفضلي، الدكتور عبد الهادي، تاريخ التشريع الإسلامي، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، [بدون مکان] ط1، 1414ه - 1993م، ص338.
2- بحر العلوم، عزالدين، التقليد في الشريعة الإسلامية، دار الزهراء، بیروت لبنان، ط 2، 1400ه، 1980م، ص38.

«وانشطر القائلون بهذا إلى قسمين، يفصلهم فارق بسيط :

1- ما نسب إلى القدرية، وعلماء حلب، وبعض علماء الإمامية بأن الاجتهاد واجب عيني على كل مكلف، واكتفوا فيه بمعرفة الاجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع، أو النصوص الظاهرة، أو أن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة مع فقد نص قاطع في متنه ودلالته .

2 - ما نسب إلى معتزلة بغداد، وذهب إليه بعض الأخباريين من الوجوب العيني لكن بفارق بسيط عما تقدم، وذلك بالنسبة للبعض تجب بالطريق المتعارف بين المجتهدين. أما بالنسبة للباقين فيجب أن يرجع العامي إلى العارف العادل ليوضح له مدارك الأحكام وأدلة المسألة، فإن لم يفهمها ترجمها المجتهد بالمرادف من اللغة، وإذا كانت الأدلة متعارضة ذكر له المتعارضين، ونبهه على طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ، والعام على الخاص، والمطلق على المقيد، ومع تعذر الجمع يذكر له أخبار العلاج، ولو احتاج إلى بيان حال الراوي ذكر له حاله »(1)

توجيه رأيهم في المسألة:

وعلى كل حال، فإن القائلين بوجوب الاجتهاد العيني، هم

ص: 26


1- بحر العلوم، محمد، الاجتهاد أصوله وأحكامه ، دار الزهراء، بیروت لبنان، ط1، 1397 ه، 1997م، ص154.

فقهاء أجلاء لا يقولون بغیر مستند ولا يذهبون إلى رأي بغیر دلیل، فلاينبغي أدبياً توهین ما ذهبوا إليه أو رفضه دون نقاش أو تأمل. وإذا كان النقاش حول تحقق صورة هذا الاجتهاد العيني في الخارج، والسؤال عن حدها أو ماهيتها، فإن القدر المتيقن هو أن يأخذ المكلف الحكم مدعماً بالدليل في صورته البسيطة غير المثقلة باشكالات أهل الاختصاص والرد عليها والرد على الرد، فهذا هو حد الاجتهاد العيني الذي يمكن أن نلتمسه لمن يقول به في ابسط صوره الممكنة، والكتابة الفقهية على تلك الصورة أو بأكثر منها بقليل أخضعت للتجربة تطبيقياً في مدارس بعض الدول العربية والإسلامية في الكتب الفقهية المنهجية المقررة من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية في المدارس الرسمية العامة .

يروى أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مرَّ بامرأة عجوز فسألها: بم عرفت ربك؟ فقالت : بمغزلي هذا... فبما أن مغزلها له صانع، فلا بد أن يكون لهذا الكون الكبير صانع، فحكم العلماء بأن هذا الدليل الذي يرجع إلى قانون السببية كافٍ للقول بشرعية إيمان هذه المرأة؛ لأنه حقق صورة الاجتهاد العيني الواجب إجماعاً في العقائد، وإن كان هذا الاجتهاد في أبسط صورة الكافية ، ولا يجب التخصص في علم الكلام والفلسفة لرد شبه الزنادقة والملحدين التي هي من وظيفة المتفرغين من أهل الاختصاص. فلعل القول بالاجتهاد العيني في الفروع يكفي تحققه بممارسة أبسط صوره مثل الصورة المتقدمة للاجتهاد العيني في الأصول.

ص: 27

تطبيق تجربة فقه الدليل

وردم الهوة المزعومة بين الفقيه والمثقف:

غير أن مدرسة الشهيد الصدر تأبى إلا أن تزودنا بأعمال فقهية استدلالية واضحة في عمقها وعميقة في وضوحها يمكن أن تعد المنجز العملي لردم الهوة المتسعة بين الفقيه والمثقف في عصر اتسعت فيه الطبقة المثقفة وتنوعت أطيافها و درجات ثقافتها، فهناك طبقة تحمل ثقافة مدرسية، وأخرى ذات ثقافة جامعية، وهما من أوسع طبقات الثقافة المعاصرة، كما أن هناك طبقة ليست بالقليلة ممن يحمل أصحابها شهادات الدراسات العليا، مما يستدعي الأخذ بعين الاعتبار التغير المعاصر في هيكلية المجتمع الثقافية التي تغيرت فكسرت الثنائية الحدية التاريخية التي كانت تقسم المجتمع إلى مطلق عوام و مطلق خواص، واستصحاب مثل هذا التقسيم ترفضه مدرسة الشهيد الصدر التي تناويء النزعة الاستصحابية.

ففي مجال الفقه عندنا عملان فقهيان للفقيه الفضلي الذي يعد من أبرز أعلام مدرسة الشهيد الصدر - إن لم يكن أبرزها - .

العمل الأول بعنوان : مبادىء علم الفقه تحققت فيه ملامح وعناصر النسق الألبابي غير أن الاستدلال فيه بسيط لأن مؤلفه أعده ليكون حلقة أولى للمتفقهين في الدين والعمل الثاني بعنوان : دروس في فقه الإمامية، وهو حلقة ثانية تستوفي كل عناصر النسق الألبابي، وتعرض الأدلة التفصيلية للاحكام الفقهية بصورة موسعة. والأصل في هذين العملين أنهما كتبا مقررین لطلبة العلوم الدينية، غير أنني

ص: 28

أتصور أن القارىء غير المتخصص الحائز على ثقافة جامعية أو حتى مدرسية جيدة، ولم يقطع صلته بالثقافة والكتاب، من السهل اليسير عليه، ومن غير الصعب معرفة وهضم مضامينهما وتلك ميزة تنسحب على كل كتابات مدرسة الشهيد الصدر في مختلف مجالاتها الفقهية والعقائدية والفكرية، والتجربة خير دليل وبرهان.

العمل الأول: مبادىء علم الفقه، والتمثيل منه

ب(موضوع علم الفقه):

أقتطف من مبادىء علم الفقه، للتمثيل كلام شيخنا الفضلي - دامت أفضاله - عن موضوع علم الفقه ، قال - حفظه الله تعالى -: «موضوعه : من أجل أن نعین موضوع علم الفقه تعییناً منهجياً، علينا أن نمهد لذلك الفرق في تحديد موضوع العلم بين المنهج القديم والمنهج الحديث ، فنقول:

- في المنهج القديم :

قالوا: إن موضوع كل علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية .

ولتوضيح هذا بالمثال نقول: إننا في علم الطب - مثلاً - نبحث عن المرض والصحة، وهما من العوارض الذاتية التي تعرض لجسم الإنسان.

وتسمى العوارض الذاتية التي يبحث فيها العلم - منطقياً أو منهجياً - ب (المسائل) وعليه يكون جسم الإنسان هو موضوع علم

ص: 29

الطب ؛ لأنه محط عروض المرض والصحة اللذين يبحث فيهما علم الطب ... ويكون المرض والصحة مسائل علم الطب .

فالبحث العلمي - وفق المنهج القديم - يكون في المسائل، لكنها ليست هي موضوع العلم، وإنما هو - أعني الموضوع - ما تعرض له تلك المسائل.

- وفي المنهج الحديث :

موضوع العلم هو ما ينصب ويجري فيه بشكل مباشر .

ففي مثالنا المتقدم يكون المرض والصحة موضوع علم الطب لا جسم الإنسان. وبتعبير مختصر : ما يعرف بمسائل العلم قديماً هو موضوع العلم حديثاً.

وتطبيقاً لهذا على علم الفقه نقول: إن علم الفقه يبحث - كما تقدم في تعريفه - في الأحكام الشرعية الفرعية . وهو يبحث فيها من حيث عروضها على (أفعال المكلفين) وتعلقها بها.

فعلى هدي المنهج القديم تكون الأحكام الشرعية الفرعية مسائل العلم، وتكون أفعال المكلفين موضوعه؛ لأنها محل عروض تكلم الأحكام. وفي ضوء المنهج الحديث تكون الأحكام الشرعية الفرعية موضوع علم الفقه ؛ لأنها التي يبحث فيها العلم بشكل مباشر .

وللقارىء الكريم أن يقارن ويوازن ثم يختار .

ولنا أن نقول: إن هيئة كلمة (موضوع) من صيغ اسم المفعول، وهي مع مادتها تعرب عن أن الموضوع هو الذي وضع ليقع الفعل عليه، وهو هنا البحث.

ص: 30

وهذا يعني أن (الأحكام الشرعية الفرعية) هي موضوع علم الفقه، كما يقول المنهج الحديث ؛ لأنها التي يبحث فيها علم الفقه »(1)

فقد لاحظت - عزيزي القاريء - وضوح لغة شيخنا الأستاذ الفضلي - دامت أفضاله - وشموليتها في عرض وتغطية الرأي العلمي في المسألة قديماً وحديثاً، وكيف ترك الحرية للقارىء ودعاه للموازنة والإختيار «وللقارىء الكريم أن يقارن ويوازن ثم يختار» ثم صرح برأيه وفق طريقة النسق المذكور ...

العمل الثاني: دروس في فقه الإمامية

والتمثيل منه بموضوع: (التطهر بالماء القليل):

ومن كتاب دروس في فقه الإمامية نقتطف بحثه - أطال الله بقاءه - في مسألة التطهر بالماء القليل :

«التطهر بالماء القليل من سائر النجاسات:

الأقوال:

لفقهائنا قولان في كيفية تطهير البدن المتنجس بعیر البولف هما:

ص: 31


1- الفضلي، العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي ، مبادىء علم الفقه، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، بيروت لبنان ، ط1، جمادى الأول 1416ه، ج1، ص 17 - 18.

1 - الاكتفاء بغسل الموضع المتنجس مرة واحدة فيما ورد فيه نص بذلك ، ومرتين فيما لم يرد فيه نص .

2 - الاكتفاء بغسل الموضع المتنجس مرة واحدة مطلقاً، أي فيما ورد فيه نص، وما لم يرد فيه نص .

الدليل:

1 - إستدل للقول الأول بما يلي :

أ- إن النجاسات التي ورد فيها نص يفاد من إطلاقه كفاية الغسلة الواحدة في التطهير منها - هنا -، يحكم في تطهيرها بالاكتفاء بالغسلة الواحدة، وهي أمثال : الكلب والخنزير، للوارد فيهما:

- عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه الیسلام عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرجل؟

قال : تغسل المكان الذي أصابه .

- وعن محمد بن مسلم أيضا قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكلب السلوقي؟

قال : إذا مسسته فاغسل يدك.

-وعن علي بن رئاب عن أبي عبد الله عليه السلام ... وما على من قلب (يقلب) لحم الخنزير؟

قال : يغسل يده .

ب - إن النجاسات التي لم يرد فيها نص يفاد من إطلاقه كفاية الغسلة الواحدة، لا يكتفي فيها بالغسلة الواحدة، وذلك للشك

ص: 32

بعد الغسلة الواحدة في زوال النجاسة وبقائها فيستصحب بقاء النجاسة.

واتفقت كلمتهم على أنه بالغسلة الثانية يزول الشك فيرتفع الاستصحاب، فيحكم في مثله بوجوب الغسل مرتين .

ا- واستدل للقول الثاني بالتمسك بإطلاق النصوص الخاصة في مواردها كالتي تقدمت في الكلب والخنزير .

ولما لم يرد فيه نص خاص «بإطلاق ما دل على مطهرية الماء، والعمدة فيه النبوي الذي رواه المؤالف والمخالف - كما عن السرائر - (خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته) لدلالته على حصول الطهارة بالماء مطلقاً» .

الموازنة:

إنه مع وجود النص الذي يمكن الرجوع إليه في المقام - وهو هنا الحديث النبوي الشريف المذكور في أعلاه - لا تصل النوبة إلى الاستدلال بالاستصحاب، والرجوع إليه، كما هو مقرر أصولياً، فتكون:

النتيجة:

كفاية الغسلة الواحدة في تطهير الموضع - من البدن - المتنجس بغير البول»(1)

ص: 33


1- الفضلي، العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي، دروس في فقه الإمامية، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، بيروت لبنان/ قم، إيران، [بدون ذكر رقم الطبعة ]، رجب 1415ه - 1995م، ج1 ص707 - 709.

اقتصادنا - في فقه النظرية - وهو مثال ثالث على طريقة النسق الالبابي:

وفي فقه النظرية ابتكر الشهيد الصدر - رضوان الله تعالى عليه - المذهب الاقتصادي الإسلامي، بعد أن عرض شرحاً ونقداً - المذهبين الاقتصاديين المهيمنين على العالم الماركسي والرأسمالي فقارن المذهب الاقتصادي الإسلامي الذي ابتكره معهما ليصل إلى بیان فسادهما وصلاحيته العادلة النابعة من ذاته الموضوعية للمجتمع البشري.

قدم عمله الابداعي هذا تحت عنوان «إقتصادنا» بلغة عمقها واضح، ووضوحها عميق، وبريادة واثقة، وفكر مصلح، وقلب رحیم، ينذر العالم من أخذه بالمذهب الماركسي أو الرأسمالي، ولم يؤد وظيفة الانذار فينسحب، بل يتبعها ببشارة، بمذهب اقتصادي بديل يدفع المفاسد ويجلب المنافع... نقتطف من هذا العمل العملاق بعض الشذرات، لنقف على الأسلوب، ويتحقق بالمثال المطلوب:

التمثيل من العمل الثالث (اقتصادنا) ب

«لماذا وضعت منطقة الفراغ؟

ص: 34

والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ هذه، تقوم على أساس : أن الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوضعها علاجاً موقوتاً، أو تنظيمياً مرحلياً، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شکل آخر من أشكال التنظيم. وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. فكان لا بد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستیعاب، أن ينعكس تطور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدرة على التكيف وفقاً لظروف مختلفة»(1)

منطقة الفراغ ليست نقصاً:

ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً ، وإنما حددت للمنطقة أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصلية، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية ، حسب الظروف. فاحياء الفرد للأرض مثلاً عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقاً لمقتضيات الظروف.

ص: 35


1- الصدر، محمد باقر، اقتصادنا، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط16، 1402ه- 1982 م ص 722.

الدليل التشريعي:

والدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه، لملء منطقة الفراغ، هو النص القرآني الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]

وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات أولي الأمر، تضم في ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح تشريعياً بطبيعته فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه ... يسمح لولي الأمر باعطائه صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراماً، وإذا أمر به، أصبح واجباً.

وأما الأفعال التي تثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام، كالربا مثلاً، فليس من حق ولي الأمر، الأمر بها. كما أن الفعل الذي حکمت الشريعة بوجوبه، كانفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة . فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكل منطقة الفراغ.

نماذج:

وفي النصوص المأثورة نماذج عديدة، لاستعمال ولي الأمر صلاحياته في حدود منطقة الفراغ. وهذه النماذج تلقي ضوءاً على طبيعة المنطقة، وأهمية دورها الايجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية .

ص: 36

ولهذا نستعرض فيما لي قسماً من تلك النماذج مدعماً بالنصوص»(1).

ننتخب نموذجاً من النماذج التي عرضها قلمه الشريف (نموذج الإمام علي عليه السلام وتحديد الأسعار):

«جاءت في عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر أوامر مؤكدة بتحديد الأسعار، وفقاً لمقتضيات العدالة. فقد تحدث الإمام إلى واليه عن التجار، وأوصاه بهم، ثم عقب ذلك قائلاً: «وَاعْلَمْ - مَعَ ذلِكَ - أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ. وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ. فَامْنَعْ مِنَ الاِْحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مَنَعَ مِنْهُ. وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْل، وَ أَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ.». .

ومن الواضح فقهياً : أن البائع يباح له البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع الشريعة منعاً عاماً عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. فأمر الإمام بتحديد السعر، ومنع التجار عن البيع بثمن أكبر ... صادر منه بوصفه ولي الأمر.

فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبناها الإسلام»(2) .

ص: 37


1- ن.م ص 725 - 726.
2- ن.م ص 728.

العمل الرابع، مثالاً على طريقة النسق الالبابي: (الأسس النطقية للاسقراء) والتمثيل ب(الكلمة الأخيرة):

ومن (الأسس المنطقية للاستقراء) الذي قدم من خلاله اتجاهاً إبداعياً جديداً في نظرية المعرفة، وسد ثغرة الدليل الاستقرائي وفق نظرية الاحتمال التي جعل منها أساساً منطقياً له، ليبرهن على «أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها إثبات الصانع المدبر لهذا العالم»(1) - ننتخب (الكلمة الأخيرة) من الكتاب، مثالاً واصفاً إبداعاً غير مسبوق وعملاً يرتكز في منطقة على (لغة العصر) التي ترفض منطق الفلسفة المرتبط بمرحلة ما قبل الثورة الصناعية، وتحتكم بكل معطياتها الحضارية الجديدة إلى منطق العلم، فاستدل به - رضوان الله تعالى عليه - على اثبات وجود الله تعالى، وإنه هو خالق الكون، ليثبت بهذا الدليل الحجة على أهل زمانه الذين لا يقبلون إلا به ولا يتعقلون سواه، وهو مثال يستجلي أبرز عنصر من عناصر النسق الألبابی، وهو (لغة العصر) ليكون مع اقتصادنا) ثانی اثنين في التمثيل على هذا العنصر البارز وما عداه من العناصر الأخرى التي تقدم التمثيل لها:

ص: 38


1- الصدر، محمد باقر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ط4، ص507.

الكلمة الأخيرة:

إن هذه الدراسة الشاملة التي قمنا بها كشفت عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي الذي يضم كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة واستطاعت أن تقدم اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة يفسر الجزء الأكبر منها تفسيراً استقرائياً مرتبطاً بتلك الأسس المنطقية التيكشف عنها البحث.

وتبرهن هذه الدراسة في نفس الوقت، على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقائدية. وهي الهدف الحقيقي الذي توخَّينا تحقيقه عن طريق تلك الدراسة.

وهذه الحقيقة هي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على اثبات الصانع المدبر لهذا العالم، عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبر، فإن هذا الاستدلال - كأي استدلال علمي آخر - استقرائي بطبيعته، وتطبيق للطريقة العامة التي حددناها للدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه.

فالإنسان بين أمرين: فهو إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل، وإما أن يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي.

ص: 39

وهكذا نبرهن على أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن - من وجهة النظر المنطقية للاستقراء - الفصل بينهما.

وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي، والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة، قد يكون هو السبب الذي أدى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوعة على إثبات الصانع، تأكيداً للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على إثبات الصانع.

فإن القرآن الكريم - بوصفه الصيغة الخاتمة الأديان السماء - قد قدر له أن يبدأ بممارسة دوره الديني مع تطلع الإنسان نحو العلم، وأن يتعامل مع البشرية التي أخذت تبني معرفتها على أساس العلم والتجربة، وتحدد بهذه المعرفة موقفها في كل المجالات. فكان من الطبيعي - على هذا الأساس - أن يتجه القرآن الكريم إلى دليل القصد والحكمة - بوصفه الدليل الذي يمثل المنهج الحقيقي للاستدلال العلمي، ويقوم على نفس أسسه المنطقية -، ويفضله على سائر الصيغ الفلسفية للاستدلال على وجود الله تعالى. هذا إضافة إلى أن الدليل التجريبي على وجود الله - الذي يضع هذا الكتاب أساسه المنطقي - أقرب إلى الفهم البشري العام، وأقدر على ملء وجدان الإنسان - أي إنسان - وعقله بالإيمان من البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجردة التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم.

«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ

ص: 40

يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» [فصلت : 53]»(1)

خلاصة الكلام في مدرسة الشهيد الصدر:

وبعد كل هذا التطواف، ألا ترى - عزيز القاريء - أن الإمام - عجل الله تعالی فرجه الشریف - لو كان حاضراً في زمننا هذا كحضور آبائه الأطهار في أزمانهم، ولم يكن في عصر الغيبة - ألا ترى أنه سيواجه ملحدي عصرنا والشاكين في الله تعالى والطالبين دلياً مثبتاً به تطمئن قلوبهم، بدليل يرتكز على منطق عصرنا هذا وينطلق منه في الاثبات وفي إلقاء الحجة، كما كان آباؤه من أئمة أهل البيت المعصومين يواجهون ملاحدة زمانهم وزنادقة ذلك الزمن بحجج وأدلة تنطلق من المرتكزات التي يؤمنون بها ولا يناقشون في صحتها؟

بالتأكيد سيكون الجواب منك - عزيزي القارىء - بالايجاب ؛ لأن سيرتهم علیهم السلام في مواجهة شبهات عصرهم بالطرق العلمية الطبيعية، كاشفة عن تحرکه (عج) وفق تحركهم عليهم السلام المحكوم بالسياق العلمي والثقافي للعصر، ومقتضى ذلك أن تتعين حجية العالم العلمية ونيابته العامة في عصر الغيبة في الشخص الذي يلقي الحجة على عصره ويدحض شبهات واشکالات أهل زمانه ليكشف بذلك عن قيامه بالوظيفة التي يقوم بها نيابة عن الإمام المعصوم في الشكل الذي يقوم به الإمام نفسه إذا كان حاضراً متصدياً لوظيفة الإمامة اجرائياً في زمانه .

ص: 41


1- ن.م ص 507، 508.

وهل تتأمل - عزيز القاريء - قوله تعالى في سورة يونس : «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْيُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» [يونس : 35]

لتعرف أن الملحوظ في اتباع من يهدي هو ما يحمله من هدی، باعتباره سبباً وطريقاً للهداية بدليل قوله تعالى : « أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ»[الأنعام: 90].

وقد مر عليك أن لأولي الألباب طريقة تتمثل في كونهم «يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» قد امتدحهم الله بها وأخبر عن هدايته لهم «أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ» ولو تأملت قليلاً لشاركتني في القول بأن وصول أولي الألباب إلى الحق واليقين والنجاة، كان من خلال طريقة استماع القول واتباع أحسنه فالطريقة هذه هي هداية الله تعالى لهم، وأما إحرازهم الحق واليقين والنجاة فما هو إلا معمول الطريقة وثمرتها والنتيجة التي صدرت عنها.

وعليه، ألا ترى أن العالم الحق هو الذي يتخلق بأخلاق الله ، فيزود الناس بالطريقة التي بها يهتدون، وهذا هو الدور الذي يقوم به العلماء الواعون والمبدعون الحقيقيون، وهو الدور الذي مارسته بجدارة واخلاص مدرسة الشهيد الصدر، فكونت نسق أولي الألباب فيما أنتجته من أعمال، يشهد لتميزها الشاهدون، والله على ما أقول شهيد.

في لجة الانتظار:

أما القسم الثالث والأخير من هذه المجموعة، فيحتوي على

ص: 42

نصوص في الأدب المهدوي الحديث، جمعتها في ملف تحت عنوان «في لجة الانتظار : نصوص في الأدب المهدوي الحديث». وكانت خلفية اختيار النصوص مشروطة من ناحية المضمون بتمثلها فكرة الانتظار العملي الممهد الموطىء الذي يضع في حسابه المسؤولية الكبرى على عواتق المنتظرين... وأدب في مثل هذا الوصف ۔ بحسب اطلاعي - يمثل الجدة والحداثة في الرؤية المتناغمة مع حركة الصحوة الإسلامية، وما انتجته أقلام روادها وأعلامها من فکر تنویري تأسيسي وترشيدي، يرنو إلى جعل الإسلام نظاماً شاملاً للحياة في الواقع التطبيقي .

ولقد بلغت حركة الصحوة الإسلامية أوجها على الصعيد العلمي في مدرسة الشهيد الصدر الابداعية - كما سلف الحديث عنها -، وفي خصوص الأدب المهدوي، تمثل الشعراء والأدباء الواعون، فکر الدعوة الإسلامي النير، فانفعلوا به وانطلقوا منه في تكوين حلقة جديدة من حلقات الأدب الولائي الصادق في كونه مع أهل البيت علیهم السلام في صدقهم في الدعوة إلى الله تعالى وفي تبليغ رسالاته، وأبلغ درجات الولاء أن يكون الموالي ناصراً في التمهيد وممهداً للنصر، مؤمناً بحبرٍ على ورق - على حد تعبير الحديث - مضحياً بالغالي والنفيس في سبيل تحقيق رؤى إيمانه ، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله تعالى، ولو كره المشركون.

من هنا جعلت هذا الملف قسماً ثالثاً في المجموعة، ليكون مثالاً حيّاً لتفعيل جانب من طاقات الأمة الكبيرة والكثيرة -على الصعيد الأدبي - في السير العملي (في انتظار الإمام)، والشعر طاقة

ص: 43

خطيرة وعظيمة استثمرها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته الكرام منذ بزوغ فجر الدعوة، وطوال فترة حضورهم عليهم السلام، واتصل الاستثمار بعصر الغيبة حتى يومنا هذا، بفضل ترغيبهم وارشاداتهم الكثيرة، ودعوتهم لإحياء أمرهم بالسبل والوسائل التي تقرب الناس من الدين وتزهدهم في سلوك طريق المخرفين. فكان للشعر حظ من دعواتهم ونصيب في أخبارهم وإرشاداتهم. فقد ورد في الخبر قول الإمام الصادق عليه السلام: «مَن قالَ فِينا بَيتَ شِعرٍ بَنَى اللّه ُ تعالى لَهُ بَيتا في الجَنَّةِ». وغيرها من الأخبار التي تشي بأهمية الأدب والشعر ودوره في الدعوة وإحياء الأمر وترسيخ الفكر الإسلامي السليم ...

ويأخذ الأدب المهدوي الحديث جدته وحداثته من وضوح الرؤية وصدق التجربة وعمق التفاعل، وشفافية الانفعال، وهو مع كل ذلك أصيل في ارتكازه على العقيدة الصافية الخالية من شوائب الدس والإفتراء، فحداثته متواصلة مع أصالتها الإسلامية، وهي غير منبتة عنها ولم تنبثق إلا منها، فما هي ملامح هذا الأدب المهدوي الجديد، أدب الانتظار العملي إذن؟

ملامح أدب الانتظار:

يطمح أدب الانتظار إلى صناعة السياق المهدوي الذي يختزل ۔ من حيث شروط التكوُّن وملامح التكوين والتوصيف - العناصر والنقاط التالية :

1 - نقد الذات المنطلق من النفس اللوامة التي أقسم الله تعالی

ص: 44

بها في القرآن الكريم .

2 - الوقوف ضد النزعات القطرية والمناطقية التعصبية والتمييز العنصري والقومية البسماركية .

3- قراءة أدبيات الاستكبار ومجاهدتها بشتى السبل.

4 - قراءة عوامل تشكل نسق الطغيان، والعمل على وأدها السريع .

5 - نصرة المستضعفين عالمياً والوقوف إلى جانب دعاوی تظلمهم.

6- الدعوة إلى تحقيق فكرة العدل العالمي والنظم العالمية التي تحرر الإنسان من عبودية المستکبرین .

7 - التفكير ببعد کوني ومراقبة الانتاج الأدبي ذاتياً من منطلق هذا البعد.

8- الارتكاز على مرجعية الثقافة المهدوية : مصادر وقراءاتٍ، بأبعادها العقيدية والتفسيرية والتأويلية .

9- عدم تمثل النتاجات الأدبية السابقة على نحو الاطلاق، ومحاولة التفكيك بين ابداعها فنياً وبين ما ترتكز عليه من رؤى واتجاهات فكرية .

10 - اعتبار النص المعصوم کتاب وسنةٌ (مما روي بلفظه ومعناه) المثل الإبداعي الأعلى ومحاولة تمله والإئتمام به في المبنى والمعنى وفي المضامين والأساليب؛ لتماس الأسلوب مع المضمون من حيث الدلالة في النص المعصوم. والمطلوب تمثل الثاني

ص: 45

تسالماً، مما يشي بمطلوبية تمثل الأول مبدئياً، وبغيةً للنجاح في التأثير .

11 - الإلتفات إلى أهمية التجربة الذاتية لغرض الاضافة، وعدم الخلط بين الثوابت والمتغيرات في قراءة التجارب الأخرى .

12 - الحرية المشروعة للقراءة المتسعة لنص المعصوم التي لا تتعارض مع خطوطه العامة أو مقاصده .

13 - الأفق المرجعي الرحب في صالح المبدع، بلحاظ التجاوز القرائي الذي يسمح به النص المعصوم مبدأ الأديب المهدوي، ما يشکل ميزة على المبادىء الوضعية التي تتكلس فتقف عقبة إزاء حرية الأديب - وهي القلب النابض للأدب الحي -؛ لأن المبدأ الوضعي يلتقي مع ما نتج عن المبدأ المعصوم باعتبارهما ممارستين بشریتین ، فيمكن تجاوز الثاني - وفق حركة الاجتهاد - باعتباره قراءة منبثقة من وضعيها الزماني والمكاني، بينما يصعب تجاوز الأول لكونه يلتقي مع مبدأ المعصوم في الاعتبار، خصوصاً إذا صدر عن سلطة أو مؤسسة تكسبه تلك الصفة .

14 - الثقة بالنفس في إرادة تغيير الواقع المنحرف لا الوقوع فی شراکه، وعدم التأثر بما تبثه الأقلام النقدية المناوئة والمهيمنة، والإصرار على خلق تيار يلفت الحركة النقدية في تمیزه و تمایزه وتعاظمه، ويستولد تیاراً نقدياً جديداً يلبي شروط قراءته.

15 - التركيز على فعل الإنسان والطاقة المودعة فيه باعتباره

ص: 46

محور الكون بالشهادة والاستخلاف.

16 - التحلي بصبر نوح في صنع السفينة فوق اليابسة، وتحمل استهزاء المستهزئين وسخرية الساخرين؛ فإن الطوفان آتٍ إن شاء الله تعالى، ولكنه بأيدي المنتظرين العاملين هذه المرة.

ويمكن لنا أن نستوحي العناوين الكثيرة التي يمكن لها أن تخرج من رحم ملامح أدب الانتظار وعناصره المتقدمة، فتندرج تحتها، وإليك - عزيز القاريء - بعض العناوين المستوحاة منها مع شيء من الأمثلة من نصوص الأدب المذكور :

أ- النقد الذاتي: ويشمل تعرية النفس ومحاسبتها على الصعيدين الفردي والاجتماعي ورصد كل العيوب والعراقيل والمعوقات التي تصيب محيط المنتظرين، فتساهم في شل حركة الانتظار العملي، فمن ألوان النقد الذاتي:

ا- کشف عيوب المنتظرین : ومن أمثلته قول السيد محمد حسين فضل الله من قصيدة له بعنوان «أنناجيك» ينادي فيها إمامه المنتظر ويناجيه كاشفاً عيوب المنتظرین :

«أي شيء نرجو، أنرجوك للحق فها نحن جيشه المخذول أي لم نهفو إليه؟ ألم يقتل لدينا حلم الحياة النبيل ربما نرتجيك أن تقهر الزيف فهذا شعارنا المحمول من تری زیف الحقيقة فينا أنه عندنا العظيمُ الجليلُ دمعُهُ يملأ الجفون، وإن شاء اصطياداً فبسمة تستميل حسبه من سذاجة الناس أن يجري لديه التكبير والتهليل

ص: 47

ويعيش المزيفون على اسم الحقِّ والحقُّ بينهم مقتول مقتول ...(1)

وإلى هذا المعنى يشير الشاعر الشيخ يحيى الراضي من قصيدة له بعنوان «على صحارى الانتظار» فيعلن براءته من الزيف الذي يمارسه بعض المدعين ،فيخاطب إمامه بقوله :

«لم أتخذك على المنابر سلعة***تبدي الخشوع لتبهر الأسواقا»(2)

وإلى عيوب التشتت والتفرق وأمراض الذات تتحدث قصيدة «خلاص» للشاعر حسن خليفة :

«فما غاب الإمام ونحن غبنا*** وغيبتنا شتاتٌ في الصفوفِ

وغيبتنا حضورٌ في فسادٍ*** تفشی، بل وإغراء العفيف

وغيبتنا سفاسفُ جمعتنا***لنيل من مهاب أو شريف

وغيبتناصراغ ليس إلا***على لقب يحاك من الحروف ...»(3)

وإلى المعنى نفسه (غياب المنتظرين) يعود الشاعر حسن خليفة ليؤكده في قصيدة أخرى تحمل عنوان «غيبة» وإلى لوم النفس والحياء من فعلها يقول الشيخ مروان خليفات والسيد غیاث الموسوي في مجموعتهما: «مزامير الانتظار المقدس» من نص بعنوان (قطف المعالي):

ص: 48


1- سماحة آية الله العظمی فضل الله، السيد محمد حسین، قصائد للإسلام والحياة (ديوان شعر)، دار الملاك، بیروت، ط2، 1421ه - 2001م ص 113 - 116.
2- الراضي، يحيى، أقدس الخطايا (ديوان شعر)، بدون مکان، ط1، 2000م ص13 - 18.
3- خليفة ، حسن، قصيدة (خلاص)، مخطوطتي الخاصة

«ماذا قدمنا؟ ماذا جهزنا

إني اغتسل بالخجل حين يرد على لساني

كلمة «إمامي»

«إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به»

أوليس مدهشاً أن تجلبنا السماء هذه النعمة؟!

أوليس تعاسة أن نطعن هذه النعمة؟!...»(1)

وفي قصيدة «فتح الانتظار» ينتقد حسين خليفة الانتظار السلبي للمنتظرين، وانزواءهم عن الساحة وهجرهم للقرآن الكريم، فيحاول اجتثاث الدرن السرطاني المحيط بجو الانتظار :

«أجتث أدران الخنوع، أعشق الرجوع

إلى صليل حيث يغدو زيدي القتيل

دمي الذي يسبح فيه زروق الأمل

يسير ، يعدو، يقذف الظروف

والحر والبرد وفقه العطلة الكبيرة

ويخرج القرآن من مهجرة الظلام

ومن قلوب لم تكن تعرف غير الرين

يقرأ فيه سورة النصر

وألف وجه ثائر شهيد

ص: 49


1- خليفات / الموسوي، مروان، غیاث، مزامير الانتظار المقدس (نصوص مشتركة)، إعداد دار الفردوس للثقافة والاعلام [بلا مكان]، [بلا رقم طبعه]، 2001م. 1422ه، ص61.

حمزة، حجرً، میثمً، حسین ..»(1)

2 - الوقوف ضد الغلو من حيث عرقلته حركة الانتظار:

قد تدرج تلك الفقرة تحت عنصر (الارتكاز على مرجعية الثقافة المهدوية) في جانبها العقيدي وتحت عنوان (المذهب الكلامي) منه ، غير أنني وضعتها تحت عنوان (النقد الذاتي) هنا؛ بسبب انطلاق هذا الوباء (الغلو) من داخل المحيط المهدوي، ليحاربه من الداخل، وإن كان تشكيله ودعمه من الخارج، ليقوم بشل حركة الانتظار واغتيالها ووأدها من خلال إضفاء الصفات الإلهية على الإمام المهدي، والزعم بأنهعلیه السلام يملك التصرف بالوجود تکوینیاً، فيستطيع بنفخة من فمه إفناء معسكر الكفر كله بل يستطيع أن يدمر الكون إذا أراد، ويزيل الكرة الأرضية عن صفحة الوجود، وهو مفوض من قبل الله تعالى بأن يخلق ويرزق... وإلى آخره من قائمة الافتراءات على الدين والمذهب البري منها، والتي يراد لها ولأهداف سياسية حاقدة على الإسلام والمسلمين، أن تشيع لتصادر فكرة الانتظار العملي وتلغيها من الوجود؛ فإذا كان الإمام يستطيع أن يتصرف بنواميس الكون ويستطيع أن يخلق، فلماذا التمهيد، ولماذا كل هذا التعب من جانب المنتظرين الذين لا يعرفون قدر الإمام؟! إنه يقدر على خلق الانصار من الرجال فما الحاجة إلى أنصار قادة ينتظرهم، وهم بعدد أهل بدر كما تروي الأحاديث لماذا كل هذا؟!

ص: 50


1- خليفة ، حسین، قصيدة (فتح الانتظار)، نسختي المخطوطة .

اههذا هو الهدف العملي لتيار الغلو المشبوه الذي يريد تخدير الأمة وإيقاعها في وحل التخلف والخرافة .

ويستحسن - هنا - أن نعود بعقارب الساعة إلى الوراء لنعرف بعض الشيء عن حركة الغلو والغلاة :

الغلاة نواصب، وللتاريخ الكلمة:

1- رأي الشيخ القرشي:

يقول الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه (موسوعة الإمام الصادق):

«وأجمعت الشيعة على تكفير الغلاة، وإلحادهم، ومروقهم من الدين، وأن من مهازل الآراء وأبعدها عن الحق إلحاق الغلاة بالشيعة، وإضافة هذه الفرقة الضالة إلى أتباع أهل البيت عليهم السلام الذين دانوا لله بالوحدانية وتبرأوا من كل من لا يؤمن بالله ، ولا باليوم الآخر، وأعلنوا حرمة مخالطة الغلاة وأفتى الأئمة علهم السلام بنجاستهم وعدم جواز غسل موتاهم، ودفنهم في مقابر المسلمين، ولم يجوزا للغالي أن يتزوج بالمرأة المسلمة، ولا المسلم أن يتزوج بالغالية ، ولا يرثون المسلمين، وقد أجروا عليهم حكم الكفار، وبعد هذه الاجراءات القاسية عليهم كيف يحكم بأنهم من فرق الشيعة؟»(1)

فمن الغلاة الذين حاربهم الإمام الصادق عليه السلام ولعنهم وحذر

ص: 51


1- القرشي، باقر شریف، موسوعة الإمام الصادق، عصر الإمام الصادق، دار الأضواء، بیروت لبنان، ط1، 1913 - 1992، ج7، ص223 - 229.

منهم وأشار إلى مصادرهم المشبوهة (المغيرة بن سعيد)، يقول الشيخ القرشي: «أما المغيرة فهو من أرجاس البشرية، ومن شرار الخلق، وكان ملحداً، صاحب بدع ومنکرات، ومن بدعه الغلو، قد تبرأ منه الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: «لعن الله المغيرة بن سعيد، لعن الله يهودية كان يختلف إليها، يتعلم الشعر والشعبذة والمخاريق. إن المغيرة كذب على أبي، وإن قوماً كذبوا علي، ما لهم أذاقهم الله حَرَّ الحديد، فوالله ما نحن إلا عبید خلقنا الله ، واصطفانا ما نقدر على ضرٍّ ولا نفع إلا بقدرته، إن رحمنا فبرحمته، وإن عذبنا فبذنوبنا، لعن الله من قال فينا: ما لا نقول في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا، وإليه مآبنا، ومعادنا، وبيده نواصينا».

لقد أبدى الإمام عليه السلام تذمره الشديد من المغيرة الذي يقول عليه بالباطل، وقد احتفت به عصابة من المجرمين، فكانوا يستعيرون له كتب الحديث والأخبار التي أملاها الإمام الباقر وولده الإمام الصادق عليهم السلام على تلاميذهم، فكان يدس فيها أخبار الغلو، وقد التفت الإمام الصادق عليه السلام إلى هذه الجهة فأمر علیه السلام بما يلي:

1- روی هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال :كانَ المُغَيرةُ بْنُ سَعيدٍ يَتَعَمَّدُ الكِذْبَ عَلَى أبي، وَيَأخُذُ كُتُبَ أصْحَابِهِ وَكانَ أصْحابُهُ المُتسَتِرونَ بأصْحابِ أبي فَيَدْفَعُونَها إلى المُغَيرَةِ، فَكانَ يَدُسُّ فِيها الكُفْرَ وَالزَّنْدَقَةَ، وَيُسْنِدُها إلى أبي ثُمَّ يَدْفَعُها إلى أصْحَابِهِ فيَأمُرُهُم أنْ يَبُثُّوها في الشِّيْعَةِ، فَكُلَّ ما كانَ في كُتُبِ أبِي مِن الغُلُوِّ

ص: 52

فَذَاکَ مَا دَسَّهُ المُغَيرَةُ بْنُ سَعيدٍ في كُتُبِهِم».

2- قال علیه السلام لأصحابه : لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة، وتجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعید دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها، فاتقوا الله ، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا.

وقد فوت الإمام الصادق عليه السلام بعرض الأخبار على الكتاب والسنة، والتثبت فيها ما كان يرومه المغيرة من إفساد عقيدة الشيعة.

وأكبر الظن أن السلطة هي التي دفعت المغيرة إلى القيام بهذا العمل الخطير للنكاية بالشيعة، وإفساد معتقداتهم، وتشويههم أمام الرأي العام»(1).

فإذا كان النصب هو العداء لأهل البيت علیهم السلام فإن من يتخذ الغلو طريقاً وإسلوباً لتشويه خطهم وضرب عقيدتهم تنفيذاً لرغبة أعدائهم النواصب من السلاطين، يعد ناصبياً في غلوه المسرحي، ومغالياً في نصبه الحقيقي للحق وأهله زهداً بالدين حباً بمتاع الدنيا القليل :

كم من مغالي فيكم لم يعتقد***فيما يقول ودينه الدينار

بث الغلو فيا له من ناصب**یرتاب منه الثعلب المكار

مثل المغيرة وظفته طغمة***خابت و سعي الخائبين بوار

2- رأي السيد هاشم معروف الحسني:

ويؤكد السيد هاشم معروف الحسني على تورط الغلاة

ص: 53


1- م. س.

وارتباطهم بحكام الجور الذين اتبعوا عدة وسائل في محاربة أهل البيت وتحجيم شعبيتهم وتشويه سمعتهم الطيبة بين المسلمين، وذلك في كتابه (سيرة الأئمة الاثني عشر) فيقول: «لعل من أبرز المشاكل التي واجهت جامعة أهل البيت مشكلة أولئك المندسين بين أصحابه بقصد التشويه والتخريب فوضعوا عشرات الألوف من الأحاديث بين الأحاديث التي رواها الثقات عنه ونسبوا إليه بعض الآراء التي لا تتفق مع أصول الإسلام ومبادئه وبالتالي أظهروا الغلو فيه وجعلوه فوق مستوى البشر وأعطوه جميع صفات الآلهة وأضافوا إلى ذلك أنهم وكلاؤه ورسله إلى الناس، وأكثر هؤلاء كانوا من الموالي والعناصر التي دخلت في الإسلام بقصد التخريب والتضليل وبعضهم ينفذ رغبات الحكام الذين أقلقهم وجود الإمام الصادق واتساع صيته وزعامته الدينية التي اكتسحت جميع الزعامات، ولعل من أولئك وهب بن وهب المعروف بأبي البختري الذي فتح الحكام له صدورهم وولوه القضاء لأنه كان يكذب على الإمام الصادق عليه السلام ويضع الأحاديث تلبية لرغباتهم، وقد وقف الإمام عليه السلام أمام تلك المشكلة موقفاً حاسماً تلافياً لأخطارها فأعلن للملا الإسلامي براءته من تلك الفئات المنحرفة وانحرافها عن الدين والإسلام، فقال على ملأ من أصحابه :

والله ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره وبما لم نقله في أنفسنا.

وقال في مناسبة ثانية : إن الناس قد أولعوا بالكذب علينا، وإني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير

ص: 54

وجهه، وذلك أنهم كانوا لا يطلبون بأحاديثنا ما عند الله، وإنما يطلبون الدنيا، وكل يحب أن يكون رأسا»(1).

هكذا يتبين لنا - عزيزي القاريء - أن أفضل طريقة استخدمتها السلطات الجائرة لاغتيال سمعة الإمام الصادق الناصعة وصيته اللامع وزعامته الواسعة التي تهدد نفوذهم، كان باستحداث فريق إعلامي مضلل مأجور يحارب أهل البيت علیهم السلام بطريقة ذكية ظاهرها حبهم وباطنها بغضهم والتنفير منهم وتشويه سمعتهم...

ما أشبه الليلة بالبارحة:

ما أشبه الليلة بالبارحة فإن يومنا هذا الذي يشهد الصحوة الإسلامية المباركة التي ظهر بها للناس فكر أهل البيت بصورته المشرقة الجذابة في حركتيه العلمية والعملية، يشهد أيضاً استمراراً النفس الدور الذي أداه الظالمون في مواجهة أهل البيت علیهم السلام، ، صيحات غلو - هنا وهناك-صدرت من تیار جدید وطارىء على التشيع، ومعروف النشأة والمرامي، وهو تيار «الشيخية» المغالي الذي يريد مصادرة الصحوة في عمقها، وتابعته أصوات تحمل بصماته في تمثلها غلوه لترتد إليه في وحدة الهدف، وفي مغزی تشويه منجز الصحوة، وتخدير الوعي ومصادرة حركة التمهيد ...

ولكن هيهات العقيق، وإن تربصوا بنا الدوائر، فإن علماءنا الإعلام

ص: 55


1- الحسني، هاشم معروف، سيرة الأئمة الاثني عشر، دار القلم، بیروت-لبنان، ط3، 1981م، ص258 - 259.

بفكرهم النير وبجهادهم المخلص وقفوا وما زالوا يقفون لهم بالمرصاد، يذبون عن الدين ويميتون البدع ويدافعون عن شريعة سيد المرسلين(1)،

وأمثل بنص بعنوان «تمهيد» يشير إلى المنجز الإلهي والنقلة النوعية المتمثلة بإنسان النبوة الخاتمة المنتصر بفكر «القرآن الكريم» وباستثمار الطاقة العظيمة المودعة فيه والمطلوب منه استظهارها في الواقع كمنجز ينوب عن المعاجز المادية التي كانت ضرورية في مراحل إنسان النبوة غير الخاتمة لفارق النضج المرحلي بين مجتمعها ومجتمع إنسان النبوة الخاتمة، هذا الإنسان الذي يريد له الغلاة المرتبطون أن يعود إلى الوراء ليكفر بالمنجز الإلهي العظيم ويرتد عن موقعه المتقدم ووظيفته الجديدة :

«يقولون إنك تأمر الريح

وإنك تملك عصا موسی

وكل ما سخر لسليمان

وإنك تغير نواميس الكون...

وأقول: إنك أكبر مما يقولون

بسيرة خاتم الأنبياء تسير

بسيرة جدك العظيم

بصبرك

بالطاقة المودعة فيك

ص: 56


1- راجع مبحث نشأة الشيخية (في ذكرى أبي) ضمن كتاب هكذا قرأتهم، للشيخ الفضلي، اصدار دار المرتضی، ط1، 1422 ه بیروت.

بفكرك تهتدي ألف بلقيس

ولا تحتاج إلى جلب عرشها

ولا إلى الشياطين المسخرة

يا ابن النبوة الخاتمة

ويا خاتم الأوصياء

تجاهد کرسول الله

کعلي

بذي الفقار

لا بعصا موسی

وتطلب الانصار

تنتظرهم

ونحن ننتظرك

ونمهد لك الطريق

یا خاتم الأوصياء

وإنسان النبوة الخاتمة»(1)

وقد نجد في بعض النصوص ملامح تنطبق على أكثر من عنصر من العناصر المذكورة، وهدفي هنا، هو الإشارة إلى عنصر من العناصر بالتمثيل النصي الذي لا يتقصد القراءة النقدية التحليلية التي تقف على كل شيء في النص وتغنيه بحثاً، وهو أمر لا تتوخاه المقدمة ولا تتسع لمثله وغاية ما تريده لا يخرج عن نطاق العرض البسيط للنصوص الموجودة بين يدي، متمنياً أن أحصل على نماذج

ص: 57


1- خليفة ، حسین، قصيدة (تمهید)، مخطوطتي الخاصة

أخرى لمجموعة من الشعراء، تستوفي شروط أدب الانتظار العملي، ليكون العمل عليها جميعاً متجاوزاً اسلوب العرض ومائلاً إلى التحليل النقدي التخصصي إن شاء الله تعالی.

ومن الأمثلة التي تلتقي مع العالمية والنزعة الكونية ومجانفة النزعة القطرية والتعصبية ويمكن ادراجها تحت عنوان :

العالمية وتجاوز النزعة القطرية:

1- قصيدة «وطن الانتظار» التي تقول:

«وطني التعارف والسلافة لذتي***وغدي بكأسي تستزيدُ دناني

وزماني المحدود غير محدَّدٍ***ومودتي في العالمين حصاني

وطني الخريطة لم يحدد رسمُها***وخريطتي ما فاض من وجداني

وطني أنا اجتث كل عفونةٍ***فرضت علي من العُتُلَّ الفاني

أمضي بفأسي حاطماً قطريةً***هي لات دهري والظلام الثاني ...»(1)

3- وفي «نجوم الانتظار» نقرأ:

«من لا يحمل هم التغيير

يناويء من يحمل هم التغيير

ویبدِّدُ طاقته في تكريس التطييف ...

آیته أن لا يتوخى تغيير العالم

ص: 58


1- خليفة، الحسنان، تحته كنز لهما (ديوان شعر مشترك)، دار الهادي، بیروت، ط1، 1422ه. 2001م، ص70.

ویناویء من يتوخاه

قاتَلَهُ الله عظيمَ الإثمِ

قاتله الله

والعبرة حين الرمي بتسديد السهم

أهل الحق التغييريون سينتصرون

ودونهم الدون...»(1)

3- ومن قصيدة «سباحة الانتظار» نقرأ:

«سعادتنا إذ نقتدي بذوي العبا***إلى من به شع المبارك شعبان

بتمهيدنا نرتاد دیناً بنورِهِ***يحفزنا، كفء النيابة أكوان

نحاول عزا أو نحوز شهادةً***بغير هما الإيمانُ لفظٌ وعنوانُ»(2)

4-وفي قصيدة «هجران» يسأل الشاعر حسن خليفة :

«هل أخلعُ الأرضَ التي في تربها***منزولُ مَن مِن تربِها مصعودُ

فاهيمُ لاحدُّ يهينُ مسافتي***طلقاً .. وكيف تحرُّر محدودُ..»(3)

وإذا كانت نصوص (وطن الانتظار/نجوم الانتظار / هجران) لم تتطرق لذكر الإمام المهدي (عج) بالاسم، فإنها تتصل به من حيث صناعة الأرضية المهدوية وبناء الروحية العالمية المنبتة عن السياق القطري الحاكم على واقع المنتظرين، وتهيئة الجو العام لقبول تلك

ص: 59


1- خليفة، حسین، قصيدة (نجوم الانتظار)، مخطوطتي الخاصة
2- خليفة، حسین ، قصيدة (سباحة الانتظار)، مخطوطتي الخاصة
3- خليفة، الحسنان، تحته كنز لهما (ديوان شعر مشترك) دار الهادي ، بيروت ، ط1، 1422-2001 ص 71.

الروحية، فدعوة الناس في زمن التمهيد إلى ما يدعو به الإمام المهدي عليه السلام نفسه في زمن الظهور، هي من صميم العمل التمهيدي وهي لب لباب أدب الانتظار . ومن المسلم به فنیَّاً أن تحلي النص الأدبي بروحية (النماذج العليا) ونطقه الظلي بها، يكشف عن عمق النص، وعن ثراء تجربة مبدعه، والنقاد يضربون مثلاً بقصيدة (أنشودة المطر) للسياب في ضوء تحليلها اسطوريَّاً عند من يرى فيها الامكانية تلك.

ويشير الناقد الدكتور على زيتون إلى ما يقترب من هذا المعنى في قراءته لفلسفة الانتظار في ديوان الحسنین « تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا» فيقول: «والانتظار سلوك بشري مؤسس على الإيمان بالحجة المنتظر القائد الذي تقوم قيادته على القداسة التي لا تخلص الوجود البشري على الأرض من جرثومة الظلم فحسب، ولكنها تخلص الذات البشرية من كل شوائبها. وإن لم تكن جميع قصائد الانتظار متصلة بهذه الشيفرة الثقافية بشكل مباشر إلا أنها تتصل بها من ألف طريق؛ لأنها محاولة لإيجاد إنسان الانتظار الذي يؤسس لدولة العدالة ويمهد لنجاحها...»(1).

عالمية الدعوة واطلاق الأدلة:

فاطلاق الأدلة في مصادر التشريع يؤكد على عالمية الدعوة

ص: 60


1- زیتون، الأستاذ الدكتور علي الحسنان توأمان شعربان متمایزان، قراءة في ديوان الحسنین «تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا»، مقال منشور في موقع الرسالة، شبكة الانترنيت: ( WWW.arresalah.net )

الإسلامية، وعلى وجوب تبليغ الرسالة الإسلامية إلى كل انحاء العالم، فالاطلاق يشمل زمن الغيبة كما يشمل زمن الحضور، وقد يقال : إذا تحقق ذلك على الصعيد العملي في زمن الغيبة وعمت الدعوة كل البسيطة فما الحاجة إلى ظهور الإمام؟

ويجاب عن ذلك بأن الحكم الإسلامي في زمن الغيبة إذا وقع في بقعة من بقاع الأرض أو حتى إذا شملها كلها، فإنه حکم ظاهري يعتمد على الاجتهاد، فتبقى الحاجة إلى المعصوم لأن حكمه واقعي، وإذا كان لا يبعد اصابة الحكم الظاهري للحكم الواقعي، وإذا كانت نسبة الإصابة غير معلومة، فقد يكون تحقق تلك النسبة (الحكم الظاهري) مقدمة ضرورية لظهور الإمام عليه السلام: لزوال العقبات الكثيرة، ولألفة الناس للحكم الإسلامي، ولاثبات صدقيتهم العملية بمباشرتهم الحكم الإسلامي نيابةً، مما يؤدي إلى مَنَّ الباري تعالى عليهم بإظهار الإمام المعصوم الذي يطبق الحكم الإسلامي بصورته الواقعية .

علامة الظهور تصنع ولا تنتظر:

جاء في قصيدة «صناعة الانتظار» لحسین خليفة :

علامة الظهور

يجهد في تغييبها

المترف من تغييبها

والواعظ الغرور

علامة الظهور أتا نخل العلامة

ص: 61

نصنع جؤ سيد الدهور

لدرك الإمامة»(1)

خروج اليماني

(قراءة جديدة):

ونحن إذا قرأنا الرواية التي تخبر بظهور رجل يسمى ب(اليماني) قبل ظهور الإمام المهدي ورأينا الرواية تصف راية اليماني وتقول عنها بأنها (أهدی راية) فاننا لا ينبغي أن لا نلتفت إلى أن الرواية معللة توضح بسبب تفضيل راية اليماني في الهداية لتعلل بأن زعيمها اليماني يدعو إلى صاحبكم (المهدي). وإذا كان لسان الرواية خبرياً فيمكن القول بأن دلالتها إنشائية ، ليشمل وجوب الدعوة إلى المهدي كل المنتظرين والدعوة إلى تحقيق ما يدعو إليه المهدي هي في حقيقتها دعوة إلى المهدي نفسه علیه السلام فهذا هو المفهوم الدلالي للروايات المتحدثة عن التوطئة والتمهيد والممهدين كما أشار إلى ذلك شيخنا الفضلي - دامت أفضاله - أثناء حديثه عن دلالة تلك الروايات في كتابه (في انتظار الإمام) .

رأي المرجع الشيخ إبراهيم الجناتي في عالمية الدعوة:

وهذا الفهم يدعم حركة التهيد، ويشكل مرجعية أساسية لأدب الانتظار العملي ولتأكيد فكرة عالمية الدعوة في عصر الغيبة، نستهدي فقهياً بقول الفقيه المرجع الشيخ إبراهيم الجناتي، جاء في

ص: 62


1- خليفة، الحسنان ، تحته كنز لهما (دیوان مشترك) دار الهادي، بيروت، ط1، 1422ه - 2001م ص 58.

بحثه المعنون ب«خصائص المجتهد المثالي»: «لا يمكن للمسلمين أن يقبلوا بأن تنحصر أفكار ورؤى ونظرة المجتهد وتتحدد ببعض جوانب الحياة أو تتأطر ضمن مكان ومجتمع خاص ومعين، بل لا بد أن تكون نظرته غير محدودة وشمولية وتتسع لتشمل كل العالم مثله مثل الحكومة الإسلامية ذات الطابع العالمي. كذلك ينبغي أن تكون الآراء والنظرات الفقهية موجهة ومستدلة طبقا للمصادر الشرعية المعتبرة ويستسيغها أبناء العالم وأن تعرض بشكلها الشمول العالمي، وأن لا تطرح بشكل غير موجه وضعيف لأنها قد تكون لها آثار وعواقب لا تتناسب مع الحكومة الإسلامية»(1).

الإنسانوية السيلوية أم الانسانوية المهدوية ومن أولى الناس بإبراهيم؟

جاء في كتاب (دلیل الناقد الأدبي) للكاتبين الدكتور ميجان الرويلي والدكتور سعد البازعي حديثهما عن الإنسانوية الحديثة (السيلوية) (New Humanism-Siloism) نسبة إلى سيلو (Silo) الاسم المستعار لمؤسس الحركة الأرجنتيني (ماربوليس رودريغوي کوبوس) ونقلا توصیف جماعة الإنسانوية العالمية لها بأنها فرقة دينية خطيرة تستغل «النشيء من ذوي التوجهات المثالية والمؤسسات التقدمية لاقامة دولة كونية شمولية» ثم أضافا: «والمتتبع لنشاط

ص: 63


1- آية الله جناتي، الشيخ محمد إبراهيم، خصائص المجتهد المثالي، العارف للمطربعات بیروت، [بلا رقم طبعة ]، [بلا تاریخ]، ص25، 26.

و تاریخ نشاط الحركة يجد أنها نشأت في عام 1969 تحت مسمى «جمعية مساواة وتطوير الإنسان» ثم أعيدت التسمية في بداية السبعينات لتصبح «الجمعية الدينية»، ثم في عام 1978 م أعيدت تسميتها مرة أخرى لتصبح «الجمعية». وأنشأت في عام 1984 م «الحزب الإنسانوي» ليكون البديل السياسي للحزب الأخضر، ولها أتباع في كثير من دول العالم خاصة في أمريكا اللاتينية»(1)

نقلت هذا الكلام المتضمن جمعيتين عالميتين معاصرتين، لأقول: إن النزعة العالمية في وقتنا الراهن، في عالم القرية الواحدة» هي نزعة عامة تلتقي مع السيرة العقلائية للمجتمع البشري في هذا العصر، مما يعني أن العقل يحكم بها، فيلتقي مع الثقافة المهدوية ومع أصل التشريع الإسلامي، وإذا كان الأمر هكذا، فنحن كمسلمين، أولى من غيرنا في حمل فكرة عالمية الدعوة، وفي الحماسة لتفعيلها في الخارج ابتغاء رضوان الله تعالی ولتحصیل السعادة في الدارين .

والحديث عن (الحركة السيلوية) في (دليل الناقد الأدبي) يعني أن أصحاب تلك الحركة جندوا كل طاقاتهم وكل ما يملكون من قوة في سبيل الترويج لحركتهم، والطاقة الأدبية من ضمنها كما هو واضح، فعليه، ولكي لا نعيش ازدواجية الواقع والمعتقد، يجب ويتحتم على الأدباء الإسلاميين أن يعملوا على ردم الهوة بين الواقع والعقيدة وينهلوا من مصادر الثقافة المهدوية المفعمة بالشعرية

ص: 64


1- الرويلي / البازعي، د. ميجات / د. سعد (کتاب مشترك)، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بیروت، ط3، 2002م، ص57.

والإنسانية الحقة، ليخدموا أنفسهم وأمتهم وإنسانيتهم بما ينتجون من أدب، كما أنهم سيحققون بذلك مجداً أديباً يضعهم في مصاف كبار الأدباء ، من الناحية الفنية الصرفة التي يتمتع بها العمل الأدبي .

ويترتب على هذا الكلام طرح التساؤل التالي :

طبقة أدباء تموزين أم طبقة أدباء مهدويين؟

ارتبطت حركة الشعر الحديث بظاهرة خاصة، ولا أقول (تقنية) وهي ظاهرة توظيف الأساطير الإغريقية والفينيقية والبابلية، وأهم مصدر استقى منه شعراء قصيدة التفعلية وعلى رأسهم بدر شاكر السياب كتاب (الغصن الذهبي) الذي صدر في اثني عشر مجلداً للانتروبولوجي الانجليزي السير (جمیس فریزر).

السياب وتوظيف الإسطورة:

ولعل تخصص السياب في الأدب الإنجليزي هو الذي قاده إلى تقليد الشعراء الغربيين العالميين بحسب تصنيف النقد الغربي والاستعلائي الذي كان سخياً كل السخاء في توزيع صفة العالمية على فلاسفته وأدبائه وشعرائه - فدعا ذلك السياب ورفاقه من الرواد إلى استنساخ تجربة توظيف الاسطورة الموظفة في الأدب الغربي طمعاً وطموحاً إلى اكتساب صفة العالمية، حتى أن السياب صار يردد - وبدون وعي - الأسباب والمعاذير التي رددها الغربيون تبريراً منهم للجوئهم إلى توظيف الأسطورة التي قد تقف عائقاً بينهم وبين جمهورهم في مسألة التلقي والتفاعل الحيوي مع نصوصهم والتبرير

ص: 65

الذي قدموه يقول: إن الإنسان والقيم الإنسانية ماتت عندنا، فأصبحنا نعيش في زمن الزيف في عالم الإنسان المتوحش الآلي الذي فقد عنصر الدهشة والروح الشعرية ولجوء الأديب المعاصر إلى العالم الاسطوري ما هو إلا محاولة تعویض و تبديل عالم بعالم يتوخى استعادة المفقود في عالم الإنسان الميكانيكي المعاصر.

رأي السياب:

يقول السياب: «هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث : هو اللجوء إلى الخرافة والاسطورة، إلى الرموز، ولم تكن الحاجة إلى الرمز، إلى الاسطورة، أمس مما هي اليوم. فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية، والكلمة العليا للمادة لا للروح. وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها، أن يحولها إلى جزء من نفسه، تتحطم واحداً فواحداً، أو تنسحب إلى هامش الحياة. إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعور لن يكون شعراً فماذا يقول الشاعر إذن؟ عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءاً من هذا العالم. عاد ليستعملها رموزاً، وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد. كما أنه راح من جهة أخرى، يخلق أساطير جديدة، وإن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن»(1)

ص: 66


1- السباب، بدر شاكر، دیوان بدر شاكر السياب ، دار العودة، بیروت، [بلا رقم طبعة] 1995م ص (ددد) المقدمة.

تعليق ناجي علوش على رأي السياب:

ويعلق ناجي علوش مقدم ديوان السياب على قوله آنف الذكر «والحقيقة أن عدم تحديده لوظيفتها بوعي من جهة واعتبارها نقيضاً للواقع من جهة ثانية، جعله غير قادر على الاستفادة منها دائماً. إن الأسطورة التي تغني الشعر يجب أن تكون قادرة على استثارة المتلقي، بينما حشد السياب من أساطير الهند والصين واليونان وأوروبا ما لا يثير في القارىء العربي أي إحساس. وإذا كان إليوت يستخدم مثل هذه الأساطير فهو يستخدمها لقاريء هي جزء من حضارته وتاريخه، وتثير فيه أحلاماً بالبطولة والبراءة، في عالم «الذهب والحديد» الذي ذكره بدر . إن هذا العالم ليس عالمنا، وإن هذه الأساطير ليست أساطيرنا. وما زال في واقعنا غني يغنينا عن غني الاسطورة»(1)

من أكثر انبعاثاً وتحدياً؟!

نعم إن في واقعنا غني يغنينا عن غنى الاسطورة ... فمن هو الأكثر خصباً وانبعاثاً وتحدياً في واقعنا المعاصر، تموز وعشتار أم محمد باقر الصدر وبنت الهدی؟ ! برومثوس أم الفقيه الناطق والليث الأبيض (ذو الكفن) المتحدي السيد محمد الصدر ؟! وإذا كانت

ص: 67


1- علوش، ناجي، مقدمة ديوان بدر شاكر السياب، ن. م، ص ه ه ه - وور).

اللعبة الفنية ترتكز في واقعها على تقنية التوظيف التي تستحضر الموضوعة (التيمة) وتهدف بها إلى الرمز عن معنی معین، فلماذا - والحال هذه - يحصر الأديب المعاصر ذلك في توظيف الاسطورة، حتى صار الانصراف في بدايات التيار الشعري الحديث حين يتحدث عن الرمز يتجه إلى الاسطورة لشدة التكالب على توظيفها، فأخذ النقاد يكتبون عن (طبقة الشعراء التموزیین) و (طبقة الشعراء البروميثيين).

الابداع في عملية التوظيف لا في خصوص توظيف الاسطورة:

إن الإبداع في هذا الشأن يتمحور في عملية التوظيف نفسها ولا ينحصر في توظيف الأسطورة، بل أن الشاعر الذي يلجأ إلى توظيف شخصيات حقيقية يكتسب نصه شعرية فائقة ويشمل الشعري فضاء الرمز والمرموز على حد سواء إنني حين أذكر أسماء أعلام مثل: علي/ الحسين / زينب / کربلاء/ العباس/القاسم/ زید/ يحيى/ المهدي.

.. فإنها بمفردها وخارج فضاء النص الشعري تتمتع بشعرية عالية، و بحرارة متدفقة وحيوية فذة، وإذا أدخلتها في عملية التوظيف فإنها تكسب النص تلك الحرارة وتعطيه الصبغة الجماهيرية مع احتفاظه بنخبويته التي تعطي النقاد المتخصصين ما يريدون.

ومَن مِنَ الشعراء لا يطمح - وما زلت اتحدث على الصعيد الفني الصرف - أن يحقق نصه الابداعي النجاحين والصيتين الجماهيري والنخبوي معاً؟!

ص: 68

مظفر النواب، رموزه الإسلامية وترنمه بالقرآن:

مَن مِن الأدباء لا يشتهي ذلك؟! فهذا مظفر النواب - وهو المحسوب حزبياً على اليساريين - يبرر عدم استخدامه لتلك الأساطير، وانحيازه إلى استخدام الرموز الإسلامية (علي / الحسين / کربلاء/ أبو ذر الغفاري) ويقول في حديث صحفي في إحدى الاذاعات العربية إن هذه الرموز الإسلامية حاضرة بشعريتها وتعيش في الوجدان الشعبي، وإن رسالة الشاعر وهدفه يحتمان عليه أن يتوسل بكل ما من شأنه أن يؤثر على جمهوره ولقد بلغ بالشاعر النواب ذلك الانحياز إلى حد التماهي بالمرجعية العربية الإسلامية التي يستقي منها رموز أدبه وشعره فيقول:

«یا حامل مشکاة الغيب

بظلمة عينيك

ترنم باللغة القرآن

فروحي عربية »(1)

ولعل تلك الروح العربية المعتزة بتراثها والمنطلقة منه هي من أهم الأسباب التي أكسبت النواب جماهيرية شعرية فائقة لا ينازعه فيها أحد، ولا تقتصر على بلد دون بلد.

«فهل نكون انبهاريين لنتأبط كتاب (الغصن الذهبي) ليكون

ص: 69


1- شریم، جلال حسین، (صراع الأصالة والحداثة في شعر «الحسنین»، «سیف الشعر» ضد «وحش العولمة» مجلة الوحدة الإسلامية ص81، السنة الثانية ، العدد الخامس، شباط 2003 - ذي القعدة . ذي الحجة 1423ه.

مرجعيتنا في عملية التوظيف حتى يعدنا بعض الاستصحابيين حداثيين؟! إن الحداثة تكمن في نفس عملية التوظيف لا في توظيف الاسطورة ذاتها، فلماذا لا نوظف القرآن بقصصه وشخوصه ومعطياته، وشخصياتنا التاريخية الإنسانية، فلقد شبعنا إلى حد التخمة من تردید شخصیات اسطورية كتموز وعشتار وإيکاريوس وبرو مثيوس، فقد استهلكت تلك الأساطير الموظفة وماتت في وعينا ولم تعد تختزل الشعرية، وقد حفظناها كما يحفظ الأطفال أناشيدهم، وأضحت على مستوى الرمز والمرموز تؤدي الخطابية النافرة الفجة حتى مع فرض النجاح في عملية توظيفها.

سعدي يوسف ورأيه في توظيف الأسطورة:

فهذا سعدي يوسف يقول: «الاسطورة لم تستخدم في الشعر العربي الجديد بصورة عضوية و ظلت تشبه جسماً غريباً مزروعاً في جسم القصيدة الجديدة، وإذا اعتبرنا السياب أكثر الشعراء المحدثین استخداماً للاسطورة فإنه من النادر أن نجد لديه اسطورة ذاتية في نسيج القصيدة» 177/ قامات النخيل

السياب، البداية كانت تقية:

ذلك لأن السياب نفسه لم تكن العملية الشعرية الصرفة هي التي دعته إلى توظيف الأسطورة البابلية والاغريقية والفينيقية بل الهدف كان «تقية» من السلطة الحاكمة في العراق ؛ لأن القصيدة ستكون غامضة باحالاتها الاسطورية ولا تتضح إلا لمن له ثقافة اسطورية،

ص: 70

والسلطة الحاكمة لا تعرف تموز وعشتار ولا سيزيف كما يقول السياب من خلال لقاء أجراه معه صديقه الأديب الأستاذ کاظم خليفة نشر القسم الأكبر منه في صحيفة صوت الجماهير البغدادية في 63/10/26 وأعيد نشره کاملاً في جريدة المرفأ البصرية في العدد (19) 20 كانون الأول 76. يُراجع كتاب السياب النثري، ومواقف في شعر السياب. فكانت المسألة «تقية» في البداية ثم تحولت إلى عنوان كبير لحداثة الشعر، وفي نفس اللقاء يعلن السياب إعراضه عن توظيف تلك الأساطير خصوصاً غير العربية. وقد أبدع السياب حين ابتكر شخصياته ووظفها أو استقاها من مجتمعه وبيئته وتراثه، فمن منا يذكر السياب ولا يقرن ذكره ب(جیکور وبویب و وفيقة وأم البروم) حتى صار السياب يعرف بجیکور لا بالبصرة ولا بالعراق بل صارت البصرة والعراق يعرفان بجیکور لمن يدخلهما من بوابة السياب»(1)

طموح بولادة طبقة الأدباء المهدويين:

وعلى ضوء ذلك، فإنني أطمح بأن تتكون عندنا (طبقة الأدباء المهدوپین) والمكتبة المهدوية أغنى بكثير من كل ما في العالم مما يتعلق بالأساطير ، ففي مكتبتنا الإسلامية مئات الكتب و العناوين من مصادر ومراجع ومفاهيم الثقافة المهدوية وفي هذا العصر يتحفنا الشهيد السيد محمد الصدر بعمل ضخم استوفي عدة مجلدات تحت عنوان (موسوعة الإمام المهدي) يعالج الموضوع تفسيرياً وتأويلياً،

ص: 71


1- ضاهر، رحاب، (حوار مع الشاعرين التوأمين الحسنين خليفة)، منشور في الانترنيت في موقع الرسالة ( WWW.arresalah.net

ويقابله من الاصدارات المعاصرة كتاب (معجم أحاديث الإمام المهدي)(1) في عدة مجلدات أيضا يضم كل ما فسر من كتاب في الإمام المهدي، وكل ما قيل من سنة فيه، ومن مصادر الفريقين ... كما أن هناك أعمالاً كثيرة جداً صدرت في نفس الموضوع ومنها عملا العَلَمين : الشهيد الصدر والشيخ الفضلي في هذه المجموعة.

فجدير بنا أن نغترف من تلك الثقافة وننهل من هذا المعين الثر المليء بالامكانات الواسعة التي يمكن للأدب الحدیث استغلالها ۔ وكثير منها ما زال بكراً - لرفد النتاجات الابداعية الجديدة لاكسابها الفضاء الفسيح المدهش وإعطائها النكهة المميزة الخاصة والفرادة النوعية المتوخاة .

إمكانات الترميز الأدبي الموضوعي

في معطيات الثقافة المهدوية:

ا- الترميز الظاهري للموضوعة : ومثاله قول الشاعر حسن خليفة في قصيدة (جامع الغائبين).

«يصطک سقف الأرض بالعراق

ونزل البشر

كالصيب المنهال يوم ريح

جل العراقيين

ص: 72


1- إصدار الهيئة العلمية، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، ط1 1411ه.

والعراق کالمسيح

شبه مصلوباً لمن رآه بالعينين

کابن سامراء ما مات وما هلك ...

یا سر من رآه

والأكوا بالفلك

سجادة يفرشها الشرقي كالبراق

تزهر ما بين يدي وليد سامراء

في الجامع / العراق»(1)

2- الترميز الخفي للموضوعة : ومثاله قصيدة بعنوان «علامات» للشاعر علي جعفر آل إبراهيم، وقد ضمن في علاماته كلمة (يوم الظهور) بتقطيع حروفها وتوزيعها على فقرات القصيدة :

إذا قامت الياء تدعو الصعاليك.

أعدت لها الواؤ حصى الزبرجد

أخضر

ورشفت الميم بيض الخيول

وألفها الألف

إذا أبدت اللام لاماتها

الفاخرة

إذا شاءت الظاء أن تمنح

الوارثين

ظلاً ظليلاً

ص: 73


1- خليفة، حسن، قصيدة (جامع الغائین)، نسختي المخطوطة

وأذن الهاء بالهول مأمورة

ستعلنها الواو واحدة

من سنی الظلام الأخيرة

وبالرعد؛ تمحقها الراء

والفرحة الآتية »(1)

3- الترميز الإحالي التام : كقول حسن خليفة من قصيدة له بعنوان «کتب»

«في انتظار الإمام

أكثر من طريقة

طريقتي الوحيدة

في انتظار الإمام ...»(2)

والنص هنا - يحيل إلى كتاب (في انتظار الإمام) ليؤدي بالاحالة التامة معناه، ويعبر عن مراده .

4 - الترميز الحشدي للموضوعات (الثيمات):

إن استلهام تقنية حشد الرموز مستفادة من القرآن الكريم، ومن الحسن أن يستلهم الأديب المسلم كل ما في القرآن، الذي صاغته اليد الإلهية وفق معرفتها بالمخلوق البشري المكلف تشريعاً بهذا الدين العظيم المعتمد على الاعجاز الفكري متمثلاً بالقرآن الكريم

ص: 74


1- آل إبراهيم، علي جعفر، مع الورد والقمر (دیوان شعر)، [بدون مکان]، (بدون طبعة]، 1418ه، ص167 - 170 .
2- خليفة، الحسنان، تحته كنز لهما (ديوان شعري مشترك)، دار الهادي، بیروت، ط1، 1422ه. 2001م ص100.

والكتاب المنير، وعليه فإن قارىء القرآن بتدبر قد يسأل عن الأساليب المستخدمة فيه، هل هي لمجرد إقامة الحجة بالاعجاز البلاغي أم أنها جاءت من الرحمن البديع لتتواءم في تأثيرها والروح البشرية التي خلقها الله تعالى، وتتماس مع النفس الإنسانية التي يريد لها خالقها أن تسمو وترتفع وتحلق في آفاق الروح...

ونستوحي هنا تقنية الحشد من سورة القمر التي احتوت على (55 آية) قصيرة في ثلاث صفحات، فذكرت قوم نوح وعاد وثمود ولوط وآل فرعون والنبي (موسی) بصورة سريعة موجزة بالاضافة إلى مستهل السورة الذي تضمن الحديث عن قرب الساعة، واعراض المكذبين لرسالة السماء وصولاً إلى دعوة النبي إلى التولي عنهم «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » في الآية السادسة من السورة فشکلت تقنية حشد الشخصيات النبوية وعلاقتها مع أقوامها بصورة مختزلة مضموناً يصب في هذا المغزى من الحشد والاختزال، ويحقق الغرض والغاية، وهو تقوية موقف النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم واتباعه وتطمينهم بحتمية النصر لمن ينصر الله والخسران لمن يحارب الله ورسوله، ولم يؤثر الحشد على عملية التلقي بل أداها بإحكام ووضوح وصفاء على المستويين الجماهيري والنخبوي، بحيث قام تكثيف ذکر الشخصيات بعملية إحالة المتلقي على مواردها المستفيضة في سور أخرى من القرآن الكريم، وعلى أحاديث القصص القرآني في المأثور النبوي المرتكز في وعي الأمة عامة وخاصةً، وإن كان أهل الاختصاص يملكون أفقاً أكثر سعة من المخزون الثقافي والفكري المتنوع مما يؤهلهم لانتاج قراءة متنوعة للنص القرآني، وبعبارة

ص: 75

أخرى إن الرمز المختزل أو الشخصية المختزلة صارت تؤدي وظيفة المثل جماهيرياً ونخبوياً على صعيد الضرب والاستعمال، ويختلف المتخصص عن غيره في تلك المسألة من جهة أنه يحيط بقصة المثل تاريخياً ويقرأ نشأته واستمراره على المسارين الاجتماعي والفكري.

ومن أمثلة النصوص التي استعملت تقنية حشد الرموز قصيدة (قراية عراقية) للشاعر حسن خليفة جاء فيها:

والذي خاله في اليمين سيأتي

التميمي يحمل رايته

واليماني يعرف قبلته

الفرات يقول لنا سوف يأتي

النخيل تقول لنا سوف يأتي

القباب تقول لنا سوف يأتي

الشموع التي في أكف الجياع تقول لنا سوف يأتي

البخور، النذور، الأضاحي الهزيلة في السنوات العجاف تقول لنا سوف يأتي

الدموع تقول لنا سوف يأتي

الذي سوف يأتي يقول لنا

سوف آتي...»(1)

ومنها أيضاً قصيدة «مسيرة الشمس» للشاعر نفسه،وقد قامت على سرد شخصيات أهل البيت الأئمة الاثني عشر وقرأت شخصية

ص: 76


1- مجلة القصب، العدد التاسع عشر، السنة الخامسة، خریف 1420 - 1999م ص 147. 148.

الممهد الموطىء على ضوء تأسيه بأئمته الأطهار، جاء فيها:

«نعم (الممهِّدُ) حسبي فيه ذكرَّني***محمداً جدَّهُ المختار تمثيلا

وحیدراً يدُهُ اليمنى تَعشَّقَهَا***من ذي الفقار يُشيدُ العدل مصقولا

وحكمة الحسن الزاكي معبّأةً***صف النِّضالِ ليستلَّ الهدی جیلا

وثورة لحسينٍ لم یزل دَمُهُ***عن كلِّ حريَّةٍ حمراءَ مسؤولا...»(1)

وتمثل قصيدة «رحلة الانتظار» لحسین خليفة مثالاً آخر على حشد الرموز فقد ارتكزت على القصص القرآني من خلال سرد شخصياتها التي كانت عنصراً ممهداً لظهور النبوة الخاتمة مما يصل ذلك التمهيد بتمهيدنا لظهور خاتم الأئمة :

أؤمن حتى لو كان الدربُ إليك دهوراً

وكما ظل يسوفه نفرٌ

هل کشف الغيب؟!

أؤمن أن التمهيد يدل عليه

يمسكه أن ينأى أكثر

يجعل هرولة الوجع النازف نحو الحتف رياحاً تقتحم الغدر يصیرها داوداً يقصف بالحجر الطائر جالوتاً

يلوي حول رقاب الجالوتين السيف

ويجعل إيماني أكثر:

أن الرحلة من رحلة نوح في الطوفان

ص: 77


1- خليفة، حسن، قصيدة (مسيرة الشمس)، نسختي المخطوطة

إلى موسى يلقيها تلتهم السحر

إلى جن سليمان

إلى يحيى ينهض من دمه يقطع في أفئدة هامات الخشية

تنحسر الأسطورة عن وجه الطاغوت

إلى عيسى لم يقتله الحقد الإسرائيلي، ولا أدرکه الصلب، يطوف بسامق نور الكعبة ،

يهبط مؤتماً بالحجة يوم الفتح ...(1)

(المذهب الكلامي) : من الاستدلال المثبت للقضية المهدوية إلى الاستدلال على وجوب الانتظار العملي:

شاع في تاريخ النقد الأدبي القديم مصطلح (المذهب الكلامي) ويراد منه الاستدلال على العقيدة من خلال الشعر ، وقد كتب النقاد و مؤرخو الأدب كتباً ضمت هذا اللون من الشعر، فصار يدرس فيما بعد لدى المتخصصين في الأدب العربي في الجامعات والكليات الأكاديمية من خلال مادتي (أدب الفرق الإسلامية) و(الشعر الإسلامي والأموي) وهي تتعرض إلى دراسة شعر الشيعة والمعتزلة والخوارج والأمويين والزبيريين، في إطار عصرها التاريخي.

غير أن التشيع بقي مستمراً إلى يومنا هذا، فكان شعراؤه، وما زالوا يمدون مكتبة الأدب الإسلامي بالكثير من القصائد والدواوين الشعرية، والمجاميع الشعرية الخاصة في ذكر أهل البيت علیهم السلام وفي الدفاع عنهم وعن العقيدة الإسلامية التي تتشيع وتنتصر وتنحاز

ص: 78


1- خليفة ، حسین، قصيدة (رحلة الانتظار)، نسختي المخطوطة

لآل البيت استجابة لوصية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حديث الثقلين الذي دعا إلى التمسك بالكتاب والعترة وأمن المتمسکین بهما من الضلال وضمن لهم الهداية .

الهاشميات أحدث مجموعة شعرية قديمة:

وإذا كان الجو الأدبي الراهن قد أفرز تطوراً في صناعة الكتاب الشعري، فصار الشاعر المعاصر ينتخب مجموعة قصائد من شعره تجمعها فكرة معينة، فيضع لها اسماً ليخرجها إلينا في كراس خاص، بدلاً من طبع كل شعره في ديوان واحد كما هو شائع ومألوف، فإن تلك الصناعة الجديدة، لا تخلو من سبق تاريخي يطالعنا به شاعر عربي كبير، وهو الكميت الأسدي من خلال مجموعته الشعرية العقيدية «الهاشميات» المتمحضة للدوران في فلك (المذهب الكلامي)، والجدير ذكره أن مؤرخي الأدب يجمعون على شعرية الكميت وعلى غزارة انتاجه وأن له مئات القصائد والنصوص غير (الهاشميات).

هذا في العصر الأموي، وفي العصر العباسي، يرفع الشاعر دعبل الخزاعي لواء نصرة التشيع لآل البيت، ويتطرق للقضية المهدوية في تائيته المذهبة الخالدة فيصل إلى قوله - وهو في محضر الإمام الرضا علیه السلام-:

خروج إمام لا محالة خارج***يقوم على اسم الله والبركات

يميز فينا كل حق وباطل***ويجزي على النعماء والنقمات

فيقول له الإمام علیه السلام: يا خزاعي نطق روح القدس على

ص: 79

لسانك بهذين البيتين(1)

وتستمر الكتابة الشعرية حول القضية المهدوية استمرار التشيع والولاء لأهل البيت علیهم السلام، لكن المسار في هذا المجال تفرع إلى خطين :

أ- الخط الأول : وهو ممارسة اثبات صحة القضية المهدوية ، والمبرر لاستمرار هذا الخط هو ظهور شبه ودعوات جديدة تشكك في القضية وهي لم تكن قد عولجت من قبل، فيشمر الشعراء المهدويون عن سواعدهم للذب عن عقيدتهم المهدوية رداً على الشبهات الجديدة المثارة أو الجنوح إلى ابتكار أو اكتشاف أدلة جديدة تدعم الإيمان بالقضية وترسخها في القلوب.

الاستدلال على ولادة المهدي

بحديث الثقلين، وتفسير معنی (العترة)، إشكال ورد، ونموذجان شعريان:

فقد استدل على وجود المهدي بحديث الثقلين الذي قرن ذكر أهل البيت بالقرآن وصرح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأنهما لن يفترقا حتى یردا على الحوض، مما يعني القول بحتمية وجود إمام من أهل البيت في كل عصر، فنستنتج من ذلك وجود الإمام المهدي الذي ينبغي الإيمان به .

لكنه قد استدل بنفس حديث الثقلين على عدم دخول نساء النبي

ص: 80


1- الهيئة العلمية، معجم أحاديث الإمام المهدي، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة ط1، 1411ه ق، ج5، 127.

في (أهل البيت) بلفظ العترة الوارد في الحديث «وعترتي» ؛ لأن العترة لغوياً تعني القرابة القريبة ليثبت بعد ذلك أن أهل البيت الذين نزلت فيهم آية التطهير في زمن النبي صلی الله علیه و اله و سلم هم أهل الكساء (فاطمة وعلي والحسن والحسين) بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهم قرابة رسول الله القريبة، والزوجة تصبح أجنبية عن زوجها بعد الطلاق.

ويستفاد أيضاً من لفظ «وعترتي» أن السادة الموجودين الآن في عصرنا هم من ذرية رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وليسوا هم من (أهل البيت) لأن بينهم وبين الرسول مئات السنين، وهم ليسوا من القرابة القريبة للرسول كالحسن والحسين عليهم السلام. فكيف يكون المهدي عليه السلام الذي يعيش في عصرنا الحاضر من (العترة) ومن القرابة القريبة للرسول صلی الله علیه و اله و سلم؟! هنا يأتي دور النص الشعري العقيدي من نوع الخط الأول فيجيب على السؤال بقوله:

«وعترتي» دَلَّت على كونه***مهديَّ خلقِ اللهِ من آلهِ

لأنه في نسل خیر الورى***أقربهم في العصر من آلهِ»

أو قوله:

«وعترتي» دلَّت على أَنَّهُ***المولودّ والغائبّ للوعدِ

أقربُ مِن ذريَّةِ المصطفى***في عصرناله هو المهدي»

فإذا ظهر في عصرنا المهدي سيكون بينه وبين رسول الله عشرة آباء، بينما سيكون بين السادة من ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبينه عشرات الآباء، فالمهدي بهذا الاعتبار سيكون من القرابة التربية في عصرنا لرسول الله مما يعني صدق لفظ (العترة) عليه علیه السلام وهو المعنى الذي أراد النص الشعري توصيله إلينا.

ص: 81

ومن أمثلة هذا الخط الأول من الشعر المعاصر قصيدة (الأرجوزة المهدوية) للأديب الشاعر الدكتور السيد جودت القزويني ردَّ بها على أطروحات وإشكالات و شبه معاصرة صدرت حول القضية المهدوية، جاء في مقدمتها:

«أفتتح النظم بشكر المنعم***مصلياً على النبي الأكرم

وآله الأطياب معدن الكرم***يحير وصفاً في علاهم القلم

وبعد: إن السيد (القزويني)***(جودت) من آل (مغز الدين)...

وتحت عنوان (القول في المبشرين بالمهدي قبل ولادته) يقول:

وجاء عن (مشيخة) (السَّرادِ)***(الحسن المحبوب) خیر هاد

أن الإمام (القائم) الثاني عشر***قد ورد النص عليه بالخبر

و (فضل شاذانٍ) لخير من نَقَل***حديث أهل البيت من دون زَلَل

ثم (عليٌّ) من حواري الهادي)***ذاك (ابن مهزیار) شيخ النادي

أفاض بالنقل عن (الهداة)***حديثهم عن ثقة الثقات...»

وقد قرض السيد حسين الشامي ارجوزة القزويني مستهلاً قوله ب:

«أبدأ بسم الخالق المعين***رسالةً (لجودت القزويني)

مقضرضاً أشعاره الجميلة***وهو إمام (الروض) و(الخميلة)...

إلى أن يصف قضية الإمام المهدي عليه السلام بأنها:

«قضية وإن بدت (نقلية)***لكنها قضية (عقلية)

فقصه الخلاص للإنسان***مطبوعة في الفكر والوجدان

دانت بها الأجيال عبر الزمن***حتى غدت سلاحها في المحن

ص: 82

(فالانتظار) أفضل العبادة***مافاقه شيء سوى (الشهادة)

والعالم اليوم غدا معتركا***من بؤسه صار يعيش الضنكا

ينتظر (المنقذ) كل ساعة***يشكو له أساه أو ضياعه

ففكرة (المهدئ) من نور السما***ولا يراها من أصيب بالعمى...»(1)

ب - الخط الثاني من المذهب الكلامي: وهو الاستدلال على وجوب الانتظار العملي وترسيخ فكرة التوطئة والتمهيد لظهور الإمام من قبل المنتظرين، ومن الأمثلة على ذلك :

1- رباعية للشيخ الفضلي تقول:

«أنا في انتظارك طال أو قصر المدى***لا البعد یيوسني ولا جور العدا

مايومك الموعود إلا نسمةٌ***روحيةٌ نطفي بها لهب الصدا

قسماً بسيف أبيك حيدرة الوغى***نحن العطاشى الطالبو ورد الردی

ما ضر من شرب الولاء معتَّقاً***أن لا يرى في خمرهِ إلاّ الفدا»(2)

فالملاحظ في تلك الرباعية ، استخدامها اسلوب الخطاب المتجه من المنتظِر إلى المنتظَر، يؤكد فيه المنتظر العامل لإمامه المنتظر على عدم يأسه من حقيقة انتصار الإسلام وتطبيقه على كل البسيطة، لأن المنتظر شخصية يراد لها أن تؤدي دوراً بهذا المستوى، وبما أن

ص: 83


1- القزويني، الدكتور السيد جودت، (الأجوزة المهدوية) مع تقريض السيد حسين الشامي، نسختي المخطوطة.
2- الشخص، محمد هاشم، أعلام هجر، مؤسسة البلاغ، بیروت، ط1، 1410ه - 1990 م ج 1، ص423

المنتظر يحمل العقيدة نفسها، فإن تحرکه سیكون وفقها وبقدرها، والموانع الكبيرة بطبيعة الحال نابعة من تحمل السير في خط هذا الهدف الكبير ، وهي لعظمها تسبب اليأس والإحباط بحسب العادة، لكن المنتظر يتحلى بإيمان متين يجعله طليقاً من قيود اليأس والاحباط، ولم يكن عدم اليأس من الفكرة المجردة القابعة في الوجود الذهني، بل كان عدم اليأس من الممارسة الاجرائية من قبل المنتظر لتلك الفكرة في الوجود الخارجي فقوله: (ولا جور العدا) ما هو إلا دالة لغوية على المعنى المتقدم، فالمنتظر هنا سائر في التمهيد لتحقيق اليوم الموعود، وهذا الهدف يشكل عنده (نسمة روحية) تشحنه عاطفياً وفكرياً ليستطيع مواصلة الدرب، وهذا الموقف الفكري والحراك العملي لم ينطلق من نزعة ترفية بل هو خيار جاء نتيجة (عطش) من جانب المنتظر الذي يجعله يعدو بكل ما عنده من طاقة في اتجاه (الورد) الذي يروي ذلك (العطش)، ثم إن عشق هذا المطلب وارادة تحقيقه من قبل المنتظر نابعٌ من ذاته، وهو في اصراره على تحقيق هذا الأمر يقتحم المهالك ولا يخاف المخاطر، وولاؤه المنعكس على فعله يلتقي مع فعل الخمرة في عقل السكران التي تجعله كالمجنون في الحركة، والمجنون لا يخاف من شيء ولا يبالي ولا يتهيب أحداً... إن هذا الولاء الاسکاري يذكرنا بعابس الشاكري الذي ركض في ميدان المعركة لنصرة الحسين مجرداً من السلاح، فقيل له هل جننت حتى تضع نفسك عرضة للمهالك؟! فقال وهو يركض ويحمل على الأعداء كلمته الشهيرة «حُبُّ الحُسَین أجَنَّنِی». إن العمل التمهيدي الكبير يحتاج إلى تضحية بالمستوى

ص: 84

الجنوني العشقي المذكور ..، ولعل لغة الرباعية وهي تتحدث بلسان شخص منتظر، وباسلوب الخطاب، انطلقت من واقع مهول مثقل بتخرصات الأعداء وبميوعة المتذبذبين وضعاف النفوس، فكان أداؤها اللغوي يحمل تلك الدلالة الرادة على واقع من هذا القبيل، فألغت التعقل المصنوع ليكون (الفداء) قراراً نهائياً نابعاً من رؤية خمرية تذهب العقل المستعار المتلبس بلبوس الأفعى في ملمسها الناعم، وفي لسعتها القاتلة .

2 - من قصيدة بعنوان (دليل الإجماع) تقول:

« أيرضى إمام العصر - وهي أمانة-***إذا غاب يرعاها من الناس أسفل

وهل ذو حجاً يعطي مفاتیح بيته***ليحفظه ما غاب في الفسق أدخل

أم الأمر يلفي كالشيوعي حالماً***يرى الحكم من كل البسيطة بأفل؟!

لقد وضح الأمر الذي كان خافياً***وعَسعَس عن صبحٍ تنفِّس أليلُ

فما هي إلا أن يُحَكَّم دينُنا***وإلا فدين الكفر ما شاء يفعل»(1)

فهل يرضى الإمام المهدي - عج - لمنتظريه أن يتركوا الحكم للسفلة من الطغاة وإذا كان العاقل حين يسافر أو يغيب عن بيته يترك مفتاح البيت أمانة عند المؤمن الأمين، فهذا يعني عقلائياً أن الإمام حين غاب عن الحكم في الغيبة الكبرى، لا بد أن يكون قد عين بديلاً عنه يحكم ويقيم العدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وهو نائبه الفقيه العادل - كما سيأتي البرهان على ذلك في كتاب (في

ص: 85


1- خليفة، حسین، قصيدة (دليل الإجماع)، نسختي المخطوطة

انتظار الإمام)، ومن البداهة أن المسلم لا يعتقد عقيدة الماركسيين في المرحلة الشيوعية، وعليه فإن القول بعدم وجوب الحكم الإسلامي في عصر الغيبة لا يخلو إما أن يكون البديل الحكم الكافر عملياً أو تكون المرحلة الشيوعية المزعومة هي البديل، وكلا الخیارین باطلان، فيتعين القول بوجوب الحكم الإسلامي وهو المطلوب.

فالمذهب الكلامي في خطه الثاني جلي الوضوح على لغة النص المتقدم في اتخاذه طريقة الاستدلال الكلامية .

3 - من قصيدة بعنوان (کشف الانتظار):

«رأيتك أجلى والمدى موحشٌ قفر***تضاحك فيه الشوك والحنظل المر

ففي ساحة لم ينجبوك كأنما***سيخبرهم جبريل ما اليوم والشهر

وفي جهة لم ينكروك وإنما***بتسويفهم إياك أن تظهر النكر

كأن لم يرد أن الظهور مباغت***ليسترجع التمهيد ما أفسد الدهر ...»(1)

من المعروف أن هناك رؤيتين في مسألة المهدي الأولى : تقول بولادته والثانية : تقول بأنه سيولد في آخر الزمان.

يناقش نص (کشف الانتظار) أصحاب الرؤية الثانية، ويفيد أنهم إذا قالوا إن الإمام سيولد في آخر الزمان فانهم لا يعلمون الغيب فلا يستطيعون نفي كونهم في آخر الزمان ولا نفي أن المهدي ولد وشبَّ

ص: 86


1- خليفة، حسن/حسين، لساناً وشفتين (ديوان شعر مشترك)، دار المحجة البيضاء، بيروت ط1، 1418ه، 1998 م ص 38.

وهو مستعد للظهور - وظهوره بغتة - إجماعاً وعليه، فالأحوط أن يحتملوا ولادته وقرب ظهوره ويعيشوا حالة طواريء تمهيدية واستعدادا تاماً مثلهم مثل من يعتقدون ولادته من أصحاب الرؤية الأولى لكن قسماً من أصحاب الرؤية الأولى يسوفون ظهوره ويقولون ربما يظهر بعد ألف عام أو الفي عام ليقولوا للناس بعد ذلك ما شأنكم والتمهيد، ليقضوا على حركة التمهيد وحركة الانتظار العملي، والنص يناقش هؤلاء وينتصر لرؤيته التمهيدية .

4 - نص (اليقظة الكبرى) للشيخ خليفات

والسيد الموسوي جاء فيه:

إن لم نكن جنوده الآن:

فلماذا نتمنى ما لا نستحقه

من رضاه عنا؟!!

تلك هي الحقيقة الكبرى

تنادينا

إن لم تعرفوه بأفئدتكم

فلن تبصر أنظاركم منه

غير جدران أجفانها الداخلية

(وإذا لم يستيقظ القلب ، سقطت

جوارحها كلها، في بحور غفوتها

الكئيبة والمخيفة)

ومن العجب:

ص: 87

أن ينتظر البعض منا ظهوره

وهو ينام على فراش مذلته

إلى ما لا يدري ...»(1)

فالعجب ممن يعيش الانتظار السلبي (ينام على فراش مذلته) يدعي انتظار ظهور المهدي، ولا يكون الانتظار الشرعي العقلي الذي لا يثير العجب إلا بالعمل التمهيدي وهو الانتظار الايجابي الكاشف عن صدق انتظار المنتظر لإمامه ... فالنص يطرح شريحة الانتظار السلبي ليناقشها ويبطل دعواها، لتتعين دعوته إلى الانتظار الايجابي الممهد.

5- ونص (استسهال الانتظار)

يرفض تحبيط السلبيين والرهبانية التي رفضها الإسلام، ويقرر مواصلة الانتظار الايجابي ونبذ الانتظار السلبي :

«يحبطني الميسور قارون عصره***وبازار شاهٍ في عظيم المتاجر

ومن خلفه الرهبان عاشوا بماله***پرون انحراف الوضع تقدير قادر

بهم يأخذ الدهقان صك براءة***وتأتيهم الأرزاق تسعی کطائر

يريدونني أحيا انتظاراً مداهناً***وأترك صعباً قانعاً بالمصائر

«لأستسهلن الصعب أو أدرك المني***فما انقادت الآمال إلا لصابر»(2)

ص: 88


1- خليفات الموسوي، مروان/ غیاث، مزامير الانتظار المقدس (نصوص مشتركة)، الفردوس للثقافة والاعلام، [بدون ذكر رقم الطبعة)، 2001م - 1422 ه ص 65.
2- خليفة، حسین، قصيدة (استهال الانتظار)، نسختي المخطوطة

6- وفي قصيدة (لهجة الانتظار):

«وانتظاري يصح في نبذي النبذ لا بنبذ أقاسي

لأرى الأرض أخصبت بعد جدب***تشرب الغيث نشوةً كالنؤاسي

فمقامي بأن أكون شهيداً*** أتزکی من دَسَّةِ الأحلاس

أنا جزء الطباق في الطرف الأعلى***وثوبي مطهَّرٌ مِن جناسِ...»(1)

التركيز على طاقة الإنسان المنتظر ومسؤوليته،

بلغة المنتظرين:

لقد أشرت في سالف القول إلى أن الأمثلة الشعرية والنصوص التي قدمتها تحت عناوينها من عناصر أدب الانتظار العملي، قد تصلح أن تدرج تحت عناوين أخرى؛ لتغطية بعضها ملامح أكثر من عنوان، ولاحتوائها على محمولات أكثر من عنصر، ففي مثال الخط الثاني من عنوان المذهب الكلامي مثلت برباعية الشيخ الفضلي، ولاحظت في التمثيل أخذها بالانتظار العملي المؤدي إلى رفض الانتظار غير العملي مما يضعنا في جدل مع الفكرة وضدها من الفكر الآخر، والجدل والنقاش الإسلامي الداخلي هو عمدة المذهب الكلامي، وأساسه الموضوعي والتكويني ... والرباعية نفسها تصلح لأن تدرج تحت هذا العنوان الأخير بلحاظ المتكلم وهو نموذج الإنسان المتلبس بحركة الانتظار العملي، إلا أن الاعتبار الأول هو ما

ص: 89


1- خليفة، حسین، قصيدة (لهجة الانتظار)، نسختي المخطوطة

دعاني لادراجها تحت العنوان السابق .

أما كيف تحدث المنتظرون عن انتظارهم وبأية لغة عبروا، فإن أمثلة من بعض النصوص المختارة كفيلة باطلاعنا على نشوة الانتظار ومكابدات ومعاناة المنتظرين وعلى مشاعرهم الصادقة والمتدفقة :

1- من قصيدة (حماسة) للشاعر حسن خليفة تقول:

«لا تيأسي نفسي وتوبي***عن کل سالفة الذنوب

وتأسي بالأخيار حبل الله واعتصمي وطيبي

بالطيبين محمد وبآله***ذوبي وغيبي

وبنجله المهدي مولده أتی مسك الطيوب...»(1)

إن شحذ النفس بالروحية العالية وتعبئتها بالفكر المتأسي بأهل البيت علیهم السلام كان مراد القصيدة وهدفها، لتقوية موقف الإنسان المنتظر الذي لا يعرف لليأس محلاً و«اليأس كفر بالحجا/ بالسائرين على الدروب...» ولأن الإنسان المنتظر يركز على تفعيل مسؤوليته واستظهار الطاقة الإيمانية المودعة فيه، قام النص بتحصين النفس من (اليأس) الذي يعد من أهم معوقات الطاقة، بل إنه إذا حل في النفس يصيبها بالشلل التام، والحركة هي قوام المنتظر العملي، ولذلك كان هم النص هو إزالة العوائق التي تحول الحركة إلى سكون، والصبر الفاعل إلى تأوهات وشجون.

2 - من قصيدة «وحي الانتظار» لحسین خليفة :

ص: 90


1- خليفة ، حسن، قصيدة (حماسة)، نسختي المخطوطة

«أستوحي بابن العسكري إرادة***ماكل منتكس تشتت باله

وأقول للاهين ما لغة الأسى***بمصيبة ومصيبة أغلالُهُ

فإلى متى هذا التباكي ضحكةً***حتى البكا شغفاً تغير حاله»(1)

فالملاحظ في الأبيات تركيزها على فعل الإنسان المنتظر الإرادي، واستلهامه الإرادة من (ابن العسكري) المنتظر علیه السلام، والانطلاق إلى الفعل الحركي الذي من شأنه أن يغير الواقع، لا أن يحول ما يصيب المجتمع المنتظر من ظلم الظالمين وطغيان الجائرين إلى ولولة وبكائيات لا تغير من واقع الأمر وتبقي على ثنائية (المستضعف/ المستكبر) وكأنها جبرية لا يمكنها أن تزول، وإلى غير رجعة تؤول.

3- وفي نص (سعي الانتظار) يقول المنتظر :

«كثير من الرهباني عباد غيهم***وأقنان طاغوت ومرتع إذلال

سعوا نحو صدي عن کریم معيشةٍ***فصار انتظار العدل أرطال أغلال

«ولكنني أسعى لمجد مؤثلٍ***وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي»(2)

4 - وفي نص (لن تخلو الأرض من نورها) يقول الشيخ خليفات والسيد الموسوي :

«... ولأن الأفئدة لا تبدع ارتقاءاتها ما لم تنجح

في دروس اختبارات صبرها القاسي

ص: 91


1- خليفة، الحسنان، تحته كنز لهما (مجموعة شعرية مشتركة)، دار الهادي ، بیروت، ط1، 1422ه- 2001م ص67.
2- ن.م ص 55.

في انتظارها للفرج

كان لا بد للشمس

أن تسمح للغيوم الغبية

بحجب أضوائها

حتى يحصدوا (الحكمة) من تعب مسيرة الجهاد

بالامتحان الكريم...»(1)

فالواضح - هنا - هو تركيز النص على الصبر الايجابي القاسي في تحمل تبعات الجهاد في مسيرة الانتظار العملي، وهو يربط شرط الظهور بسبب الغيبة و(فعل الإنسان هو أداة الربط بينهما.

5- وقولهما في نص (نعمة الاختيار) موجهين خطابهما إلى إمامهما المنتظر علیه السلام:

«إننا نحتضن الألم لأجلك

إن كان هو سر تکاملنا سنعشقه حباً لك

يحاصرنا الاختبار

شفقة علينا

يلاحق كل فرد، يلتقط ضعفه

ويعرضه أمامه،

ليضع منه قبضة

ص: 92


1- خلیفات / الموسوي، مروان/ غیاث، مزامير الانتظار المقدس (نصوص مشتركة)، الفردوس للثقافة والاعلام، [بدون ذكر رقم الطبعة ]، 2001۔ 1422ه ص24.

ارادة تحطم اليأس ...»(1)

6 - من قصيدة بعنوان (صاحب الزمان) للشيخ عفيف النابلسي يتحدث فيها واصفاً شخصية ممهد، نذرت حياتها للدعوة واستهلكتها في طريق التمهيد، فكان صاحب تلك الشخصية :

«رحیم کریم کفه تهطل الندا***وقورٌ صبورٌ صبرُهُ لعجيب

خلوقٌ سموح باسمٌ متوسمٌ*** صفوحٌ وفي وجه العدوِّ غضوبُ

بوطي للمهدي دولته التي***على الكون بعد الرافدين تجوب»(2)

7- وفي قصيدة (بيت الكوفة) يقول الشاعر حسن خليفة :

«سیدور التقويم... صديقي

ويعود لبيت الكوفة

أهل البيت ...»(3)

والإمام المهدي عليه السلام هو الوحيد في عصرنا الذي يمكن أن يدخل في عنوان (أهل البيت) فهي قصيدة تعد بعودة المعصوم بعد مكابدات المنتظرين العاملين، وقد ورد في الروايات أن (الكوفة) هي عاصمة المهدي عليه السلام؛ ولذلك ربط الشاعر خليفة ذكره علیه السلام بالكوفة، كما ذكر في النص السابق الشيخ عفيف النابلسي أن دولة المهدي : «على الكون بعد الرافدين تجوب».

ص: 93


1- م . س ص 46.
2- النابلسي، الشيخ عفيف، شعر الخلود، هديل في أزاهر أمير المؤمنين عليه السلام ويليه الهاشميات، دار البلاغة، بیروت ط1، 1422ه-2001م ص 91 - 94.
3- خليفة، حسن قصيدة (بيت الكوفة)، نسختي المخطوطة

فليس المقصود بالأمكنة لمن يشكل على ذكر الروايات لأمكنه الشرق على وجه الخصوص، وكأن البشر الموجودين في الغرب وفي بقية بقاع العالم غير معنيين بعملية التمهيد، أو حتى غير مكلفين بالتشريع الإلهي - أقول ليس المقصود اختصاص المسؤولية بالشرقيين دون من سواهم من البشر، بل المقصود هو خصوص تلك الامكنة الدينية لتعم فتشمل المتدينين في كل العالم لخصوصيتهم الدينية بالمعنى التبليغي والأولوي كما تشمل بقية الناس بالمعنی الابتدائي للدعوة الإسلامية، ومن الوضوح بمكان، أن لا أحد يزعم أن اختصاص أهل مكة بها دون غيرهم من البشر، بل أن خصوصيتها تشمل الكل مسلمين ومدعوين لدخول الإسلام مثل نبوة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم التي جاءت للناس كافة، للمسلمين ولمن ينبغي لهم أن يسلموا من بقية البشر، وليس هو صلی الله علیه و اله و سلم بخاص بالعرب أو بقريش، والمهدي مثله في إمامته، وكل ما يتعلق به من مكان مثله . كما أن الملحوظ بالمكان هو رمزيته الدالة على فعل الإنسان وعمله، ولذلك يمكن قراءة الأمكنة من خلال رمزيتها الدالة على فعل الإنسان، وعلى ضوء ذلك ينحل الإشكال ؛ لأن المطلوب هو فعل الإنسان.

بقيت نصوص أخرى لم أعرضها للتمثيل في المقدمة، وسأكتفي باثباتها في القسم الثالث من هذا الكتاب مع مجموعة النصوص التي أشرت إليها، وعلى مثلها يقاس ما سواها .

***

ص: 94

ختام المقدمة وتوجيه دعوة إلى الأدباء:

وهكذا تكتمل أقسام المجموعة وفق خطتها المرسومة، وكلي أمل بأن أكون قد وفقت في اطلالتي البسيطة التي لا تخلو من عيوب على وضع ملامح يمكن لها أن تكون أساساً لولادة أدبية جديدة ا-(لطبقة الشعراء المهدويين) على شرط العلمين الكريمين الصدر والفضلي في إضاءتهما للأُسُسُ التأصيلية للعقيدة المهدوية وللأسس العملية لحركة الانتظار المشروعة والمطلوبة.

وإنني من هذا المنبر الكريم أدعو الأدباء الذين يكتبون النص الابداعي بمختلف الألوان الأدبية ليساهموا في صناعة مستقبلهم المشرق وفي (العودة إلى الذات) والنزول بقوة إلى (حلبة الأدب) متسلحين بثقافة مهدوية ثرية يستقونها من مصادرها الصافية ومن قراءات أعلامها الوافية ... تلك هي خصوصيتنا التي ينبغي الاعتزاز بها، والمعروف نقدياً أن الخصوصية هي بوابة العالمية ومَن مِنَ الأدباء من شعراء وقصاصين وروائيين ومسرحيين لا يحب أن يكون أدبه عالمياً؟!

وفي عقيدتي أننا سنكون متميزين ما دمنا سائرين وفق کینونتنا الفكرية، وأقول للمجادلين والمشككين : «أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ هَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» [الأعراف: 71]

ص: 95

مسك الختام: (التوقيع الشریف)

وأخيراً أتشرف بأن أختم المقدمة بتوقيع صادر عنه عليه السلام، المناسبته لمقتضى الحال، ولاتساقه مع أجواء المجموعة التي بين يديك - عزيزي القاريء - قال الشيخ الطبرسي في الاحتجاج: «وَمِما خَرَجَ عَنْ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ رَدّاً عَلَى الْغُلَاةِ مِنَ التَّوْقِيعِ جَوَاباً لِكِتَابٍ كُتِبَ إِلَيْهِ عَلَى يَدَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ هِلَالٍ الْكَرْخِيِ» قال علیهم السلام: «يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ تَعَالَى اللَّهُ وَ جَلَ عَمَّا يَصِفُونَ* سُبْحَانَهُ وَ بِحَمْدِهِ، ليسَ نَحنُ شُرَكاءَهُ في عِلمِهِ ، و لا في قُدرَتِهِ، بَل لَا يَعلَمُ الغَيبَ غَيرُهُ كَمَا قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ «قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» [النمل: 65] وأنا وجميع آبائي من الأولين : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النبيين، ومن الآخرين محمدٌ رسول الله وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممن مضى من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، إلى مبلغ أيامي ومنتهی عصري، عبيد الله عز وجل، يقول الله عز وجل : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴿124﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ﴿125﴾ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» [طه: 124 - 126] یا محمد بن علي قَدْ آذانا جُهَلاءُ الشّیعَةِ وَحُمَقاؤُهُمْ، وَمَنْ دینُهُ جِناحُ الْبَعُوضَةِ أَرْجَحُ مِنْهُ، فَاشْهَدْ الله الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ کَفَى به شَهِيداًً، ورسوله محمداً صلی الله علیه و آله و سلم ، وَمَلَائِكَتَهُ وَ أَنْبِيَاءَهُ وأَوْلِیَاءِهُ عَلَیْهِمْ السلام، وأَشْهَدُك، وأَشْهَدُ كُلُّ مَن سَمِعَ كتابي هذا أَنِّي بَرِيءٌ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَنُشَارِكُه

ص: 96

في ملكه، أو يحلنا سوى المحل الذي رضيه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدى بنا عما فسَّرتُه لك، وبينته في صدر كتابي. وأشهدكم أن كل من نبرأ منه فإن الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياؤه، وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه أن لا يكتمه لأحد من موالي وشيعتي، حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي، لعل الله عز وجل يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحق، وينتهون عما لا يعلمون منتهى أمره، ولا مبلغ منتهاه، فكل من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته فقد حلت عليه اللعنة من الله وممن ذكرت من عباده الصالحين»(1).

حسين الموسوي

***

ص: 97


1- الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف، [بدون رقم طبعة] ، 1386 ه -1966م، ج 2، ص 288 - 289. وراجع: الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلامية، معجم أحادیث الإمام المهدي عليه السلام مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، ط1، 1411 ه. ق، ج 4، ص 328 - 329.

ص: 98

القسم الأول: بحث حول الإمام المهدي عليه السلام بقلم: السيد الشهيد محمد باقر الصدر

اشارة

ص: 99

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»

ص: 100

المقدمة

ليس المهدي تجسيداً العقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري، أدرك الناس من خلاله -على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض، تحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير، وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المحدودة للإنسان على مر التاريخ استقرارها وطمأنينتها، بعد عناء طويل .

بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتد إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشد الإيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات، کالمادية الجدلية التي فسرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود، تصفى فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام. وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانية على مر الزمن، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين أفراد الإنسان.

ص: 101

وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام، ويؤكد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلىء قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوة.

فهو مصدر عطاء؛ لأن الإيمان بالمهدي إيمان يرفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلها، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب؛ لأنه بصیص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمت الخطوب وتعملق الظلم؛ لأن اليوم الموعود يثبت أن بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بناءه من جديد، وأن الظلم مهما تجبر وامتد في أرجاء العالم وسيطر على مقدراته، فهو حالة غير طبيعية، ولا بد أن ينهزم. وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمة مجده، تضع الأمل كبيراً أمام كل فرد مظلوم، وكل أمة مظلومة، في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء .

وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه ، فإن معالمها التفصيلية التي حددها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكل الطموحات التي انشدت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني، وأغنى عطاء، وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين

ص: 102

والمعذبين على مر التاريخ. وذلك لأن الإسلام حول الفكرة من غيب إلى واقع، ومن مستقبل إلى حاضر، ومن التطلع إلى منقذ تتمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاًٌ، وتطلعه مع المتطلعين إلى اليوم الموعود، واكتمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم. فلم يعد المهدي فكرةً ننتظر ولادتها، ونبوءة نتطلع إلى مصداقها، بل واقعاً قائماً ننتظر فاعليته، وإنساناً معيناً يعيش بيننا بلحمه ودمه، نراه ويرانا، ويعيش مع آمالنا وآلامنا، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، ويشهد كل ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين، ويكتوي بكل ذلك من قريب أو بعيد، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمد يده إلى كل مظلوم، وكل محروم، وكل بائس، ويقطع دابر الظالمين.

وقد قدر لهذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه، ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أنه يعيش معهم انتظاراً للحظة الموعودة.

ومن الواضح أن الفكرة بهذه المعالم الإسلامية، تقرب الهوة الغيبية بين المظلومين كل المظلومين والمنقذ المنتظر، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيراً مهما طال الانتظار .

ص: 103

ونحن حينما يراد منا أن نؤمن بفكرة المهدي ، بوصفها تعبيراً عن إنسان حي محدد يعيش فعلاً كما نعيش، ويترقب كما نترقب ، يراد الإيحاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم و جور التي يمثلها المهدي، تجسدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم كما في الحديث، وأن الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له.

وقد ورد في الأحاديث الحث المتواصل على انتظار الفرج، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يكونوا بانتظاره. وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية، والصلة الوجدانية بينه وبين القائد الرافض، وكل ما يرمز إليه من قيم، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إيجاد ما لم يكن المهدي قد تجسد فعلاً في إنسان حي معاصر .

وهكذا نلاحظ أن هذا التجسيد أعطى الفكرة زخماً جديداً، وجعل منها مصدر عطاءٍ وقوة بدرجة أكبر، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من الام الظلم والحرمان، حين يحس أن إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسس بها فعلاً بحكم كونه إنساناً معاصراً، يعيش معه وليس مجرد فكرة مستقبلية.

ولكن التجسيد المذكور أدى في الوقت نفسه إلى مواقف

ص: 104

سلبية تجاه فكرة المهدي نفسها لدى عدد من الناس، الذين صعب عليهم أن يتصوروا ذلك ويفترضوه .

فهم يتساءلون!

إذا كان المهدي يعبر عن إنسان حي، عاصر كل هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون، وسيظل يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة، فكيف تأتي لهذا الإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كل إنسان أن يمر بمرحلة الشيخوخة والهرم، في وقت سابق على ذلك جداً، وتؤدي به تلك المرحلة طبيعياً إلى الموت؟ أوليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية؟

ويتساءلون أيضاً!

لماذا كل هذا الحرص من الله - سبحانه وتعالى - على هذا الإنسان بالذات؟ فتعطل القوانين الطبيعية، ويفعل المستحيل الإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود، فهل عقمت البشرية عن إنتاج القادة الأكفاء؟ ولماذا لا يترك اليوم الموعود لقائد يولد مع فجر ذلك اليوم، وينمو كما الناس، ويمارس دوره بالتدريج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً؟

ويتساءلون أيضاً!

ص: 105

إذا كان المهدي اسماً لشخص محدد هو ابن الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت علیهم السلام الذي ولد سنة (256 ه) وتوفي أبوه سنة (260 ه)، فهذايعني أنه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه، لا يتجاوز خمس سنوات، وهي سن لا تكفي للمرور بمرحلة إعداد فکري وديني كامل على يد أبيه، فكيف وبأي طريقة يكتمل إعداد هذا الشخص لممارسة دوره الكبير، دينياً وفكرياً وعملياً؟

ويتساءلون أيضاً!

إذا كان القائد جاهزاً، فلماذا كل هذا الانتظار الطويل مئات السنين؟ أوليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرر بروزه على الساحة وإقامة العدل على الأرض؟

ويتساءلون أيضاً !

كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهدي، حتى لو افترضنا أن هذا ممكن؟ وهل يسوغ الإنسان أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أو شرعي قاطع؟ وهل تكفي بضع روایات تنقل عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم لا نعلم مدى صحتها للتسليم بالفرضية المذكورة؟

ويتساءلون أيضاً بالنسبة إلى ما أعد له هذا الفرد من دور في

ص: 106

اليوم الموعود!

كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسم في حياة العالم؟! مع أن الفرد مهما كان عظيماً لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ، ويدخل به مرحلة جديدة، وإنما تختمر بذور الحركة التاريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها، وعظمة الفرد هي التي ترشحه لكي يشكل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية، والتعبير العملي عما تتطلبه من حلول؟

ويتساءلون أيضاً!

ما هي الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتم على يد ذلك الفرد من تحول هائل وانتصار حاسم للعدل ورسالة العدل على كل كيانات الظلم والجور والطغيان، على الرغم مما تملك من سلطان ونفوذ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير، وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية؟

هذه أسئلة قد تتردد في هذا المجال وتقال بشكل وآخر، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب، بل هناك مصدر نفسي لها أيضاً، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً، وضآلة أي فرصة لتغييره من الجذور، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مر الزمن هذا الشعور، تتعمق الشكوك وتترادف التساؤلات. وهكذا تؤدي الهزيمة والضالة

ص: 107

والشعور بالضعف لدى الإنسان إلى أن يحس نفسياً بإرهاق شديد، لمجرد تصور عملية التغيير الكبرى للعالم التي تفرغه من كل تناقضاته، ومظالمه التاريخية، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحق والعدل ، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسبب وآخر.

ونحن الآن نأخذ التساؤلات السابقة تباعاً، لنقف عند كل واحد منها وقفة قصيرة بالقدر الذي تتسع له هذه الوريقات .

***

ص: 108

المبحث الأول: كيف تأتي للمهدي هذا العمر الطويل؟

هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة، أي حوالي (14) مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمر بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة؟

كلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معان: الإمكان العملي، والإمكان العلمي، والإمكان المنطقي أو الفلسفي.

وأقصد بالإمكان العملي، أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك، أو لإنسان آخر فعلاً أن يحققه، فالسفر عبر المحيط، والوصول إلى قاع البحر، والصعود إلى القمر، أشياء أصبح لها إمكان عملي فعلاً. فهناك من يمارس هذه الأشياء

ص: 109

فعلاً بشكل وآخر .

وأقصد بالإمكان العلمي: أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عملياً لي أو لك، أن نمارسها فعلاً بوسائل المدنية المعاصرة، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرز رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً الظروف ووسائل خاصة، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك، وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسوراً لي أو لك؛ لأن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلا فارق درجة، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلا مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن لم يكن ممكناً عملياً فعلاً. وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإنه غير ممكن علمياً، بمعنى أن العلم لا أمل له في وقوع ذلك، إذ لا يتصور علمياً، وتجريبياً إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس، التي تمثل أتوناً هائلاً مستعراً بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.

وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي : أن لا يوجد لدي العقل وفق ما يدرکه من قوانين قبلية - أي سابقة على التجربة - ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته.

ص: 110

فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطقي؛ لأن العقل يدرك - قبل أن يمارس أي تجربة - أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي؛ لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً، فتكون فرداً وزوجاً في وقت واحد، وهذا تناقض، والتناقض، مستحيل منطقياً. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية ، أذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وإنما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.

وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.

ولا شك في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقياً؛ لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية ، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض؛ لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع، ولا نقاش في ذلك.

كما لا شك أيضاً ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكناً إمكاناً عملياً، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى

ص: 111

قاع البحر أو الصعود إلى القمر، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصاً على الحياة وقدرة على تسخیر إمكانات العلم، لا يتاح لهم من العمر إلا بقدر ما هو مألوف.

وأما الإمكان العلمي فلا يوجد علمياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية. وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان، فهل تعبر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه - بعد أن تبلغ قمة نموها - أن تتصلب بالتدريج وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل، إلى أن تتعطل في لحظة معينة ، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي؟ أو أن هذا التصلب وهذا التناقض في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية، نتيجة صراع مع عوامل خارجية کالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف؟ أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر؟

وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه، وهو جاد في الإجابة عنه، ولا بزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي

ص: 112

فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة، فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً، إذا غزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعينة، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.

وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحية نفسها، بمعنی أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.

أقول:

إذا أخذنا بوجهة النظر هذه، فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي، بل هو - على افتراض وجوده - قانون مرن؛ لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية ؛ ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنية، قد تأتي مبكرة، وقد تتأخر ولا تظهر إلا في فترة متأخرة، حتى إن الرجل قد يكون طاعناً في السن ولكنه يملك أعضاء لينة، ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نص على ذلك الأطباء. بل إن العلماء استطاعوا عملياً أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض، فأطالوا عمر بعض

ص: 113

الحيوانات مئات المرات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية؛ وذلك بخلق ظروف و عوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة .

وبهذا يثبت علمياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف و عوامل معينة أمر ممكن علمياً، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان، فليس ذلك إلا لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان، سواء فسرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانوني طبيعي للخلية الحية نفسها يسير بها نحو الفناء.

ويتلخص من ذلك: أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن علمياً، ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً، إلا أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.

وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب، ونلاحظ :

إنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً، وثبت أن العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى

ص: 114

إمكان عملي تدريجاً، لا يبقى للاستغراب محتوى إلا استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.

وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام - الذي صمم عمر هذا القائد المنتظر - حركة العلم في مجال هذا التحويل؟

فالجواب : أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم.

أوليست الشريعة الإسلامية ككل قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة؟

أولم تنالي بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلا بعد مئات السنين؟

أولم تأت بتشريعات في غاية الحكمة، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلا قبل برهة وجيزة من الزمن؟

أولم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان، ثم جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟

فإذا كنا نؤمن بهذا كله، فلماذا نستكثر على مرسل هذه

ص: 115

الرسالة - سبحانه وتعالى - أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟ وأنا هنا لم أتكلم إلا عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسها نحن بصورة مباشرة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحدثنا بها رسالة السماء نفسها.

ومثال ذلك أنها تخبرنا بأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والإسراء إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية، فهو يعبر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يحققه إلا بعد مئات السنين، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول صلی الله علیه و آله و سلم التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد، قبل أن يتاح للعلم تحقیق ذلك.

نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء.

ولكن!

أوليس الدور التغييري الحاسم الذي أعد له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس، وما مرت بهم من تطورات التاريخ؟

ص: 116

أوليس قد أنيط به تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل؟

فلماذا نستغرب إذا اتسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً، لا يفوق بحال غرابة الدور العظيم نفسه الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخياً على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمرة مناظراً له في حياتنا المألوفة؟

ولا أدري!

هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكل منها عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟

أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو النبي نوح، الذي نص القرآن الكريم على أنه مکث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، وقدر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد.

والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي

ص: 117

مکث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد.

فلماذا نقبل نوحاً الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي؟

***

ص: 118

المبحث الثاني: المعجزة والعمر الطويل

وقد عرفنا حتى الآن أن العمر الطويل ممكن علمياً، ولكن لنفترض أنه غير ممكن علمياً، وأن قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم، ولا على خطها الطويل أن تتغلب عليه، وتغير من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن إطالة عمر الإنسان - کنوح أو كالمهدي - قروناً متعددة ، هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة عطلت قانوناً طبيعياً في حالة معينة للحفاظ على حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ على رسالة السماء، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها، أو غريبة على عقيدة المسلم المستمدة من نص القرآن والسنة، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشد صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم

ص: 119

الأقل حرارة حتى يتساويا، وقد عطل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم علیه السلام حين كان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون. فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ» [الأنبياء: 19] فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذىً، إلى كثير من القوانين الطبيعية التي عطلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض، ففلق البحر لموسى، وشبه للرومان أنهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبي محمد صلی الله علیه و اله و سلم من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلت ساعات تتربص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم. كل هذه الحالات تمثل قوانین طبيعية عطلت لحماية شخص، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.

وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو أنه كلما توقف الحفاظ على حياة حجة الله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي أعد لها، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون الإنجاز ذلك، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي أعد لها ربانياً فإنه سيلقى حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية .

ص: 120

ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن أن يتعطل القانون؟ وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلا مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية ؟!

والجواب: إن العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي، وتوضيح ذلك : إن القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو أنه كلما وجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصمیم تلك وذاتها؛ لأن الضرورة حالة غيبية، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلم إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث يؤكد أن القانون الطبيعي - كما يعرفه العلم - لا يتحدث عن علاقة ضرورية، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.

والحقيقة أن المعجزة بمفهومها الديني، قد أصبحت في

ص: 121

ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية .

فقد كانت وجهة النظر القديمة تفترض أن كل ظاهرتين اطرد اقتران إحداهما بالأخرى فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أن من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية .

وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدي إلى استحالة.

وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة، في أن الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرين، ولكنا نرى أنه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك حكما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة.

ص: 122

المبحث الثالث: لماذا كل هذا الحرص على اطالة عمره

ونتناول الآن السؤال الثاني، وهو يقول :

لماذا كل هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتعطل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض عنه المستقبل، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فیبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر .

وبكلمة أخرى : ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرر لها؟

وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، فنحن نؤمن بأن الأئمة الاثني عشر مجموعة فريدة لا يمكن التعويض عن أي واحد منهم، غير أن هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، على ضوء

ص: 123

الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلبات المفهومة لليوم الموعود.

وعلى هذا الأساس نقطع النظر مؤقتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفرها في هؤلاء الأئمة المعصومين ونطرح السؤال التالي:

إننا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدخر عاملاً من عوامل إنجاحها، وتمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟

ونجيب عن ذلك بالإيجاب ، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي:

إن عملية التغيير الكبرى تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها، مشحوناً بالشعور .. بالتفوق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعد للقضاء عليها، وتحويلها حضارياً إلى عالم جديد.

فبقدر ما يعمر قلب القائد المغير من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساس واضح بأنها مجرد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسية

ص: 124

على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدها حتى النصر .

ومن الواضح أن الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.

ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالمٍ مليء بالظلم وبالجور، تغييراً شاملاً بكل قيمة الحضارية وكياناته المتنوعة ، فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدالها حضارة العدل والحق بها؛ لأن من ينشأ في ظل حضارة راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها؛ لأنه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة.

وخلافاً لذلك، شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الأخرى ثم تداعت وانهارت، رأى ذلك

ص: 125

بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاریخ ...

ثم رأي الحضارة التي يقدر لها أن تكون الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين ..

ثم شاهدها وقد اتخذت موقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر ..

ثم عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة أخرى...

ثم واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدرات عالم بكامله، فإن شخصاً من هذا القبيل عاش كل هذه المراحل بفطنة وانتباه کاملين ينظر إلى هذا العملاق - الذي يريد أن يصارعه - من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسه لا في بطون كتب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) إلى الملكية في فرنسا، فقد جاء عنه أنه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ؛ لأن (روسو) هذا نشأ في ظل الملكية، وتنفس هواءها طيلة حياته، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ، فله هيبة التاريخ، وقوة التاريخ، والشعور المفعم بأن ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من

ص: 126

أيام التاريخ، تهيأت له الأسباب فوجد وستتهياً الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وأن الأعمال التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلا أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل .

هل قرأت سورة الكهف؟

وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى ؟ وواجهوا کياناً وثنياً حاكماً، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك، فضاقت نفوسهم ودب إليها اليأس وسدت منافذ الأمل أمام أعينهم، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول، وكبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحق ويصفى كل من يخفق قلبه للحق.

هل تعلم ماذا صنع الله تعالی بهم؟

إنه أنا مهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين في ذلك الكهف، ثم بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوته وظلمه قد تداعی وسقط، وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرك ساكناً، كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.

ص: 127

ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكل ما تحمل من زخم وشموخ نفسيين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مد حياتهم ثلاثمائة سنة ، فإن الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة، والإعصار وهو مجرد نسمة.

أضف إلى ذلك أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارة المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود؛ لأنها تضع الشخص المدخر أمام ممارسات كثيرة للاخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة، ومن ألوان الخطأ والصواب . وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقييم الظواهرالاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها، وكل ملابساتها التاريخية .

ثم إن عملية التغيير المدخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيته بناء كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدر لليوم الموعود أن يحاربها.

وخلافاً لذلك، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه

ص: 128

الحضارة وتتفتح أفكاره ومشاعره في إطاره، فإنه لا يتخلص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغييرية ضدها.

فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدخر بالحضارة التي أعد لاستبدالها، لا بد أن تكون شخصيته قد بنيت بناء كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون شخصيته قد بنيت بناء کاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون في الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته.

***

ص: 129

المبحث الرابع: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل : كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلا خمس سنوات تقريباً؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لانضاج شخصية القائد، فما هي الظروف التي تكامل من خلالها؟

والجواب: إن المهدي عليه السلام خلف أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنه كان إماماً بكل ما في الإمام من محتوىً فكري وروحي في وقت مبكر جداً من حياته الشريفة.

والإمامة المبكرة ظاهرة سبقه إليها عددٌ من آبائه، فالإمام محمد بن علي الجواد علیه السلام تولى الإمامة وهو في الثامنة من عمره، والإمام علي بن محمد الهادي تولي الإمامة وهو في التاسعة من عمره، والإمام أبو محمد الحسن العسكري والد القائد المنتظر تولى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره،

ص: 130

ويلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد، ونحن نسميها ظاهرة لأنها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي عليه السلام تشكل مدلولاً حسياً عملياً عاشه المسلمون، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن تطالب بإثباتٍ لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمة . ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية :

1- لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مرکزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن، ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميين، وخلافة الخلفاء العباسيين، وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي، والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام، وقيادته على أسس روحية وفكرية.

ب - إن هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق علیهم السلام، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكل تیاراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي، يضم المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ، حتى قال الحسن بن علي الوشا: إني دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه

ص: 131

تسعمائة شيخ كلهم يقولون حدثنا جعفر بن محمد.

ج- إن الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي، تؤمن بها وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرف على كفاءته للإمامة، شروط شديدة؛ لأنها تؤمن بأن الإمام لا يكون إماماً إلا إذا كان أعلم علماء عصره.

د- إن المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة ؛ لأنها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكل خطاً عدائياً، ولو من الناحية الفكرية على الأقل، الأمر الذي أدى إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرار تقريباً حملات من التصفية والتعذيب، فقتل من قتل، وسجن من سجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. وهذا يعني أن الاعتقاد بإمامة أئمة أهل البيت كان يكلفهم غالياً، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحس به المعتقد أو يفترضه من التقرب إلى الله تعالى والزلفي عنده .

ه- إن الأئمة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها، ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلا أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدثين عن كل واحد من

ص: 132

الأئمة الأحد عشر، ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصریه ، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمون الديار المقدسة من كل مكان لأداء فريضة الحج، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.

و-ان الخلافة المعاصرة الائمة کانت تنظر الیهم و الی زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدراتها، وعلى هذا الأساس بذلت كل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرها تأمین موقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرة للأئمة أنفسهم على الرغم مما يخلفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.

إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك، أمكن أن نخرج بنتيجة وهي: أن ظاهرة الإمام المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الأوهام؛

ص: 133

لأن الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة كل ذلك التيار الواسع، لا بد أن يكون على قدر واضح وملحوظ بل وكبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته، مع ما تقدم من أن الأئمة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم وللأضواء المختلفة أن تسلط على حياتهم وموازين شخصيتهم. فهل ترى أن صبياً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو على مرأى ومسمع من جماهير قواعده الشعبية، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلف نفسها اكتشاف حالة، وبدون أن تهزها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبي الإمام؟ وهب أن الناس لم يتحركوا لاستطلاع المواقف، فهل يمكن أن تمر المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبياً في فكره وعلمه حقاً ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟

وإذا افترضنا أن القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يتح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم

ص: 134

تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبي صبياً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية. فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدرٍ كبير من ثقافة عصره لتسلم الإمامة ، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.

إن التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة، هو أنها أدركت أن الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.

والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتأريخ يحدثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها، بينما لم يحدثنا اطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة أو واجه فيه الصبي الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه .

وهذا معنی ما قلناه من أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية في

ص: 135

حياة أهل البيت وليست مجرد افتراض، كما أن هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتد عبر الرسالات والزعامات الربانية .

ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكرة في التراث الرباني لأهل البيت، يحيى عليه السلام إذ قال سبحانه وتعالى : «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» [مريم: 12]

ومتی ثبت أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت لم يعد هناك اعتراض فيما يخص إمامة المهدي عليه السلام وخلافته لأبيه وهو صغير .

***

ص: 136

المبحث الخامس: كيف نؤمن بأن المهدي قد وجد؟

ونصل الآن إلى السؤال الرابع وهو يقول : هب أن فرضية القائد المنتظر ممكنة بكل ما تستبطنه من عمر طويل، وإمامة مبكرة، وغيبة صامتة، فإن الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً.

فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي؟ وهل تكفي بضع روایات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المألوف؟ بل كيف يمكن أن تثبت أن للمهدي وجوداً تاريخياً حقاً وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس؟

والجواب: إن فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم

ص: 137

عموماً، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصاً، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك . وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم من طرق إخواننا أهل السنة، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان أكثر من ستة آلاف رواية، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة.

وأما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام فهذا ما توجد مبررات كافية وواضحة للاقتناع به.

ويمكن تلخيص هذه المبررات في دليلين :

أحدهما إسلامي.

والآخر علمي.

فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر .

وبالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية .

أما الدليل الإسلامي :

فيتمثل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة من أهل البيت، والتي تدل على تعيين المهدي وكونه

ص: 138

من أهل البيت .

ومن ولد فاطمة ..

ومن ذرية الحسين..

وأنه التاسع من ولد الحسين ..

وأن الخلفاء اثنا عشر.

فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، وهي روایات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفظ الأئمة واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام، وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته. وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها، بل هناك إضافة إلى ذلك مزایا و قرائن تبرهن على صحتها، فالحديث النبوي الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وأنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً - على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة - قد أحصي بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين، ويلاحظ هنا أن البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري، وفي ذلك مغزىً كبير؛ لأنه يبرهن على أن هذا

ص: 139

الحديث قد سجل عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمة الاثني عشر فعلاً، وهذا يعني أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الإثني عشري وانعكاساً له؛ لأن الأحاديث المزيفة التي تنسب إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أن الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الاثني عشر، وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أن هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى، فقال : «إن الخلفاء بعدي اثنا عشر». وجاء الواقع الإمامي الاثنا عشري ابتداءً من الإمام علي وانتهاءً بالمهدي؛ ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.

وأما الدليل العلمي:

فهو يتكون من تجربة عاشتها أمة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى . ولتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى .

إن الغيبة الصغرى تعبر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد

ص: 140

المنتظر عليه الصلاة والسلام، فقد قدر لهذا الإمام منذ تسلمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام ويظل بعيداً باسمه عن الأحداث وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله، وقد لوحظ أن هذه الغيبة إذا جاءت مفاجئة حققت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الأمة الإسلامية ؛ لأن هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام في كل عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حل المشاكل المتنوعة، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأةً وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية، سببت هذه الغيبة المفاجئة، الإحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله، فكان لا بد من تمهيد لهذه الغيبة ؛ لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهدي عن المسرح العام، غير أنه كان دائم الصلة بقواعده وشیعته عن طريق وكلائه ونوابه والثقات من أصحابه الذين يشكلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي. وقد شغل مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة من أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم كما يلي:

1- عثمان بن سعيد العمري.

2- محمد بن عثمان بن سعيد العمري .

ص: 141

3- أبو القاسم الحسين بن روح.

4 - أبو الحسن علي بن محمد السمري.

وقد مارس هؤلاء الأربعة مهام النيابة بالترتيب المذكور، وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهدي علیه السلام .

وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض مشاكلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريرية في كثير من الأحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتصالات غير المباشرة. ولاحظت أن كل التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهدي عليه السلام بخط واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً، وكان السمري هو آخر النواب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنواب معينين، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معينون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة ، وقد عبر التحول من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمتها؛ لأنها حصنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيف وضع الشيعة على أساس الغيبة، وتعدهم بالتدريج

ص: 142

لتقبل فكرة النيابة العامة عن الإمام، وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصين إلى خط عام، وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدین تبعاً لتحول الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى .

والآن بإمكانك أن تقدر الموقف في ضوء ما تقدم، لكي تدرك بوضوح أن المهدي حقيقة عاشتها أمة من الناس، وعبر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين، ولم يلحظ عليهم أحد كل هذه المدة تلاعباً في الكلام، أو تحايلاً في التصرف، أو تهافتاً في النقل. فهل تتصور - بربك . أن بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاماً ، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتفقون عليها، ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ویرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشك، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويكسبون من خلال ما يتصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدعون أنهم يحسونها ويعيشون معها؟!

لقد قيل قديماً : إن حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل، وكل هذه المدة، وضمن كل تلك العلاقات والأخذ والعطاء، ثم تكسب ثقة جميع من حولها.

ص: 143

وهكذا نعرف أن ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي، والتسليم بالإمام القائد بولادته وحياته وغيبته، وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد.

ص: 144

المبحث السادس: لماذا لم يظهر القائد إذن؟

لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة؟ وإذا كان قد أعد نفسه للعمل الاجتماعي، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذٍ أبسط وأيسر، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قوية، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطور العلمي والصناعي؟

والجواب: إن كل عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلا عندما تتوفر تلك الشروط والظروف .

ص: 145

وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية ؛ لأن الرسالة التي تعتمدها عملية التغير هنا ربانية، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف. ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبي محمد صلی الله علیه و اله و سلم؛ لأن الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.

والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يشكل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف، ومنها ما يشكل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية .

فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها - مثلاً - لينين في روسيا بنجاح، كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الأولى وتضعضع القيصرية، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية و محدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة، إذ لو كان قد اتفق له أي حادث

ص: 146

يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح.

وقد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلا ً في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلا بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قروناً من الزمن.

فعلى الرغم من قدرة الله - سبحانه وتعالى - على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربانية وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب؛ لأن الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الرباني أن يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع من تدخل الله - سبحانه وتعالى - أحياناً فيما يخص بعض التفاصيل التي لا تكون المناخ المناسب وإنما قد يتطلبها أحياناً التحرك ضمن ذلك المناخ المناسب ، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالی الأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم، وإذا بيد اليهودي الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبي صلی الله علیه و اله و سلم و تشل وتفقد قدرتها على الحركة، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيمات الكفار والمشرکین

ص: 147

الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب، إلا أن هذا كله لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب، والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم قد تكون بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية.

وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي عليه السلام لنجد أن عملية التغيير التي أعد لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقت وفقاً لذلك. ومن المعلوم أن المهدي لم يكن قد أعد نفسه لعمل اجتماعي محدود، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك ؛ لأن رسالته التي ادخر لها من قبل الله - سبحانه وتعالى - هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، وإخراج البشرية كل البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح وإلا لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً، وجواً عاماً مساعداً، يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.

فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عامة أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبل رسالة العدل

ص: 148

الجديد، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسخ من خلال التجارب الحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنی، مدركاً حاجاته إلى العون، متلفتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.

ومن الناحية المادية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر کعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كله، وذلك بما تحققه من تقريب المسافات، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مرکزي لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة .

وأما ما أشير إليه في السؤال من تنامي القوى والأداة العسكرية التي يواجهها القائد في اليوم الموعود كلما أجل ظهوره، فهذا صحيح، ولكن ماذا ينفع نمو الشكل المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كل تلك القوى والأدوات؟ وكم من مرة في التاريخ انهار بناءٌ حضاري شامخ بأول لمسة غازية ؛ لأنه كان منهاراً قبل ذلك، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه .

ص: 149

المبحث السابع: وهل للفرد كل هذا الدور؟!

ونأتي إلى سؤال آخر في تسلسل الأسئلة المتقدمة، وهو السؤال الذي يقول: هل للفرد مهما كان عظيماً القدرة على إنجاز هذا الدور العظيم؟ وهل الفرد العظيم إلا ذلك الإنسان، الذي ترشحه الظروف ليكون واجهةً لها في تحقيق حركتها؟

والفكرة في هذا السؤال ترتبط بوجهة نظر معينة للتاريخ تفسره على أساس أن الإنسان عامل ثانوي فيه، والقوى الموضوعية المحيطة به هي العامل الأساسي، وفي إطار ذلك لن يكون الفرد في أفضل الأحوال إلا التعبير الذكي عن اتجاه هذا التعامل الأساسي.

و نحن قد أوضحنا في مواضع أخر من كتبنا المطبوعة أن التاريخ يحتوي على قطبين : أحدهما الإنسان، والآخر القوى

ص: 150

المادية المحيطة به. وكما تؤثر القوى المادية وظروف الإنتاج والطبيعة في الإنسان، يؤثر الإنسان أيضاً فيما حوله من قوی وظروف، ولا يوجد مبرر لافتراض أن الحركة تبتديء من المادة وتنتهي بالإنسان إلا بقدر ما يوجد مبرر لافتراض العكس، فالإنسان والمادة يتفاعلان على مر الزمن، وفي هذا الإطار بإمكان الفرد أن يكون أكبر من ببغاء في تيار التاريخ، وبخاصة حين ندخل في الحساب عامل الصلة بين هذا الفرد والسماء . فإن هذه الصلة تدخل حينئذٍ كقوة موجهة لحركة التاريخ. وهذا ما تحقق في تاريخ النبوات، وفي تاريخ النبوة الخاتمة بوجه خاص، فإن النبي محمداً و بحكم صلته الرسالية بالسماء تسلم بنفسه زمام الحركة التاريخية، وأنشأ مداً حضارياً لم يكن بإمكان الظروف الموضوعية التي كانت تحيط به أن تتمخض عنه بحال من الأحوال، كما أوضحنا ذلك في المقدمة الثانية للفتاوى الواضحة.

وما أمكن أن يقع على يد الرسول الأعظم يمكن أن يقع على يد القائد المنتظر من أهل بيته الذي بشر به ونوه عن دوره العظيم .

ص: 151

المبحث الثامن: ما هي طريقة التغيير في اليوم الموعود

ونصل في النهاية إلى السؤال الأخير من الأسئلة التي عرضناها، وهو السؤال عن الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتم على يد ذلك الفرد من انتصار حاسم للعدل، وقضاء على كيانات الظلم المواجهة له.

والجواب المحدد عن هذا السؤال يرتبط بمعرفة الوقت والمرحلة التي يقدر للإمام المهدي عليه السلام أن يظهر فيها على المسرح، وإمکان افتراض ما تتميز به تلك المرحلة من خصائص وملابسات لكي ترسم في ضوء ذلك الصورة التي قد تتخذها عملية التغيير، والمسار الذي قد تتحرك ضمنه، وما دمنا نجهل المرحلة ولا نعرف شيئاً من ملابساتها وظروفها فلا يمكن التنبؤ العلمي بما سيقع في اليوم الموعود، وإن أمكنت

ص: 152

الافتراضات والتصورات التي تقوم في الغالب على أساس ذهني لا على أسس واقعية عينية .

وهناك افتراض أساسي واحد بالإمكان قبوله على ضوء الأحاديث التي تحدثت عنه والتجارب التي لوحظت لعمليات التغيير الكبرى في التاريخ، وهو افتراض ظهور المهدي عليه السلام في أعقاب فراغ كبير يحدث نتيجة نكسة وأزمة حضارية خانقة . وذلك الفراغ يتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتد، وهذه النكسة تهيىء الجو النفسي لقبولها، وليست هذه النكسة مجرد حادثة تقع صدفة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وإنما هي نتيجة طبيعية لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله - سبحانه وتعالى - التي لا تجد لها في نهاية المطاف حلاً حاسماً فتشتعل النار التي لا تبقي ولا تذر، ويبرز النور في تلك اللحظة ؛ ليطفىء النار ويقيم على الأرض عدل السماء .

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وقد وقع الابتداء في كتابة هذه الوريقات في اليوم الثالث عشر من جمادی الثانية سنة 1397 ه، ووقع الفراغ منها عصر اليوم السابع عشر من الشهر نفسه .

والله ولي التوفيق .

محمد باقر الصدر - النجف الأشرف

ص: 153

ص: 154

القسم الثاني: في انتظار الإمام بقلم : الدكتور عبدالهادي الفضلي

اشارة

يعالج قضية الإمام المنتظر علیه السلام

ومسألة الحكم الإسلامي اليوم

ص: 155

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

«وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ».

ص: 156

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفی ...

في الكتاب : مسائل تاريخية ... وأخرى فقهية ...

حاولت أن أبلور الأولى من خلال بحوث السابقين، وعلى ضوئها، غير تغيير يسير في منهجة البحث وقولبته، وتغيير يسير في جلوة الموضوع، وإيضاح الفكرة.

وحاولت أن أكون من أوائل الرواد في بحث الثانية، من خلال بحوث وعروض مبعثرة، هنا وهناك، لا تعدو كونها مسائل متفرقة، وآراء شاردة.

كان أهمها: مسألة الحكم في عصر الغيبة، ومسألة الحاكم الأعلى للمسلمين بعد الإمام، ومسألة الدعوة إلى إقامة الحكم الإسلامي اليوم.

ص: 157

ولست أدري مدى توفيقي فيها، وهي فكر معمقة ومتشابكة.

والذي أدريه : هو أني وضعت بين يدي القارىء والباحث، الخطوط العريضة ، ورؤوس الخيوط، مما يمهد للبحث فيها بشكل أعمق وأوسع.

وقد أعود ثانية إلى الموضوع، إذا تفضل قارئي الكريم، بإبداء ملاحظات ذات أهمية ، وبنقد نزيه بناء.

والله تعالى ولي التوفيق

النجف الأشرف 1384/5/1

عبد الهادي الفضلي

ص: 158

في الصميم

ونحن إذا أعدنا النظر في تصميم الإسلام الجوهري، نجده منسجماً في جميع مصادره، فلا نجد فرقاً بين الشيعة والسنة في جوامع الآراء المدونة في كتبهم .

۔ صدر الدین شرف الدين

تمذهب القضية:

إن كثيراً من قضايانا العقائدية صبغت بطابعٍ مذهبي أو طائفي، بسبب عوامل معينة، طرأت عليها، فقولبتها في إطار ذلك المذهب، أو نطاق تلك الطائفة .. مما أفقدها طابعها العام، بصفتها عقيدة إسلامية عامة .

وراحت تتغلغل في تمذهبها نتيجة دفع كثير من الدراسات والبحوث، غير المقارنة، أو غير الموضوعية، التي تدور حول القضية على اعتبار انها من عقائد مذهب معين، أو طائفة معينة .

ص: 159

وقضيتنا هذه (قضية المهدي المنتظر)، إحدى تلكم القضايا التي حولتها العوامل الطارئة، إلى قضية خاصة، فقولبتها في إطار مذهب الشيعة، وقوقعتها في نطاق هذه الطائفة من طوائف المسلمين .

القضية إسلامية عامة:

في حين أن دراسة هذه القضية أو بحثها بشيء من الوعي والموضوعية، ينهي بنا حتماً إلى أنها قضية إسلامية، قبل أن تكون مذهبية، شيعية أو غيرها.

وقد رأيت - في حدود مراجعاتي حول القضية - أن باحثي موضوع المهدي المنتظر، من سنيين وشيعيين، يمتدون بجذور المسألة إلى أحاديث صادرة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم ثبت صحة صدورها، إما لأنها متواترة - كما سيأتي - أو لأنها أخبار آحاد توفرت على شرائط الصحة .

وإذا كانت المسألة التي ينتهي بها إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم -والجميع يؤمنون بأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم في سنته المقدسة هو عدل القرآن الكريم في الارشاد إلى العقيدة الحقة، وفي تشريع - الأحكام - لا تعد مسألة إسلامية، فإذن ما هي المسألة الإسلامية؟!

ص: 160

ورأيتنا أننا متى أبعدنا من حسابنا الانفعال العاطفي، والرواسب الفرقية التي خلفتها وعمقتها أفاعيل الحكام المنحرفين من المسلمين، والحكام المستعمرين من الكافرين، .. ودخلنا المسألة بذهنية العالم الموضوعي، الذي ينشد معرفة الواقع، مستمداً من مصادره الإسلامية الأصيلة ، وعلى ضوء المقاییس الإسلامية المعتبرة ... وقفنا أمام مسألة إسلامية حتى فيما نعتقده أو نخاله مذهبياً منها.

تواتر أحاديثها عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم:

وذلك أن الأحاديث في المسألة الواردة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، قد قال بتواترها غير واحد من العلماء...

وهي - في حدود ما وقفت عليه - على طوائف ثلاث هي:

1- القول بتواترهاعند المسلمين .

2 - القول بتواترها عند أهل السنة .

3- القول بتواترها عند الشيعة(1).

ص: 161


1- للوقوف على الأقوال يقرأ: إسماعيل الصدر، محاضرات في تفسير القرآن الكريم، ص 131 وما بعدها. محمد أمین زین الدین، مع الدكتور أحمد أمين في حديث المهدي والمهدوية ، ص 16 وما بعدها، السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج4 ق3، سيرة الإمام المنتظر علیه السلام

والقول بالتواتر لدى طائفتي المسلمين - في واقعه - قول بالتواتر عند المسلمين عامة.

وقال بصحة صدورها من لم يصرح بتواترها من العلماء ، أمثال : أبي الأعلى المودودي .. قال : «غير أن من الصعب - على كل حال - القول بأن الروايات لا حقيقة لها أصلاً، فاننا إذا صرفنا النظر عما أدخل فيها الناس من تلقاء أنفسهم، فإنها تحمل حقيقة أساسية، هي القدر المشترك فيها، وهي : إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعیم، عامل بالسنة، يملأ الأرض عدلاً، ويمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان، ويعلي فيها كلمة الإسلام، ويعم الرفاه في خلق الله »(1).

طوائف أحاديثها:

وبغية الانتهاء إلى النتيجة التي أشرت إليها آنفاً : لا بد لنا من دراسة الأحاديث المشار إليها، دراسة مقارنة وموضوعية، ولو بشيء من الإيجاز :

إن الأحاديث في المسألة على طوائف هي :

ص: 162


1- البيانات ص 116.

1- ما لم يصرح فيها بذكر المهدي .

2 - ما صرح فيها بذكر المهدي .

وقد حمل العلماء القسم الأول من الأحاديث (وهي التي لم يصرح فيها بذكر المهدي) لأنها مطلقة، على القسم الثاني (وهي التي صرح فيها بذكر المهدي) لأنها مقيدة .

يقول المودودي : «قد ذكرنا في هذا الباب نوعين من الأحاديث : أحاديث ذكر فيها المهدي بالصراحة، وأحاديث إنما أخبر فيها بظهور خليفة عادل بدون تصريح بالمهدي.

ولما كانت هذه الأحاديث من النوع الثاني تشابه الأحاديث من النوع الأول في موضوعها، فقد ذهب المحدثون إلى أن المراد بالخليفة العادل فيها هو المهدي»(1)

وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف أيضا هي:

أ- ما صرح فيها بأنالمهدي من الأمة.

ب - المهدي من العرب .

ح- المهدي من كنانة .

د - من قريش.

ه - من بني هاشم .

ص: 163


1- البيانات ص 161.

و - من أولاد عبد المطلب .

وإلى هنا يحمل المطلق منها على المقيد، نظراً إلى عدم وجود ما يمنع من ذلك، فتكون النتيجة هي: ما تصرح به الطائفة الأخيرة - رقم و - (المهدي من أولاد عبد المطلب).

وهي تنقسم إلى طائفتين أيضاً هما: -

ا- ما صرح فيها بأن المهدي من أولاد أبي طالب.

2- ما صرح فيها بأن المهدي من أولاد العباس.

وهنا نظراً لتكافؤ الاحتمالين وهما: احتمال حمل المطلق المتقدم (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد عبد المطلب)، على القسم الأول (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد أبي طالب)، .. واحتمال حمله على القسم الثاني (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد العباس)،.. لا يستطاع تقييده بأحدهما إلا مع ثبوت المرجح.

وحيث قد ثبت أن الأحاديث التي تضمنت أن المهدي من أولاد العباس موضوعة - كما سيأتي بيانه مفصلاً في البحث عن عوامل الغيبة الصغری - تبقى الأحاديث من القسم الأول (وهي التي تضمنت أن المهدي من أولاد أبي طالب) غير معارضة، فيقيد بها إطلاق ما قبلها، فيحمل عليها .. فتكون النتيجة : هي أن المهدي من أولاد أبي طالب.

ص: 164

وهي - أعني الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد أبي طالب - تنقسم إلى طوائف أيضاً هي:

1- المهدي من آل محمد صلی الله علیه و اله و سلم

2- من العترة علیهم السلام

3 - من أهل البيت علیهم السلام

4 - من ذوي القربي علیهم السلام

5- من الذرية.

6- من أولاد علي علیه السلام .

7- من أولاد فاطمة علیهم السلام .

والأخيرة - في هذا السياق - تقید ما قبلها فتحمل عليها . و هي تنقسم إلى طائفتين هما:

أ- المهدي من أولاد الإمام الحسن علیه السلام .

ب - المهدي من أولاد الإمام الحسين عليه السلام .

وهنا نعود فنقول: نظراً لتكافؤ الإحتمالين (احتمال حمل المطلق على القسم الأول، واحتمال حمله على القسم الثاني)، لا يمكن حمل المطلق المتقدم على أحدهما من غير مرجح.

ولما كانت الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد الحسن موضوعة، لما يشابه العوامل السياسية التي حملت بني

ص: 165

العباس على وضع أحاديث المهدي من أولاد العباس، يحمل المطلق المتقدم على القسم الثاني، فيقيد بها.. فتكون النتيجة : المهدي من أولاد الإمام الحسين عليه السلام .

ولا أقل من أن أحاديث القسم الأول لضعفها وقلتها، لا تقوى على مناهضة أحاديث القسم الثاني لصحتها وكثرتها.

وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف هي:

1- المهدي من أولاد الإمام الصادق عليه السلام

2 - من أولاد الإمام الرضا علیه السلام

3 - من أولاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام(1)

وشأن هذه الطوائف الأربع الأخيرة، في حمل المطلق منها على المقيد، شأن ما تقدمها من طوائف.

النتيجة:

وفي النهاية تكون النتيجة الأخيرة هي :

المهدي المنتظر، هو: (ابن الإمام الحسن العسكري) عليه السلام .

ص: 166


1- للوقوف على متون الأحاديث في جميع هذه الطوائف پراجع: السيد صدر الدين الصدر، (المهدي).. والمودودي، (البيانات).

محاولة الرجوع بالقضية إلى واقعها العام:

وهذا اللون من المحاولة في الدراسة والبحث لإرجاع المسألة إلى واقعها العام، والخروج بها عن الأطر المذهبية الضيقة، أمثال : اعتبارها شيعية خاصة - كما يذهب البعض - أو اعتبارها سنية . كما يذهب الشيخ ناصف في كتابه (غاية المأمول) فيما نقل عنه-(1)

أقول: إن هذا اللون من المحاولة يتطلب منا الرجوع إلى أصول عامة في بحث الحدیث، توفر للعالم الأجواء الكافية للدراسة المقارنة والبحث الموضوعي

أمثال : أن نعتبر الشرط الأساسي في توثيق الراوي هو: کونه مسلماً، صادقاً، معاصراً لن ينقل عنه بلا واسطة، قادراً على الإتصال به، مشافهة، أو تحريراً مع توفر شروط الأمانة في التدوين والنقل.

عوامل التمذهب:

وإلى هنا.. ربما يتساءل عن العوامل التي حولت قضية المهدي المنتظر إلى قضية طائفية ؟!

ص: 167


1- يقرأ: السيد اسماعيل الصدر، ص 133 .

إن الذي يبدو لي : أن العوامل التي ساعدت على ذلك نوعان هما: -

1- العامل السياسي: ويتمثل في استغلال العباسيين القضية لصالح ملكهم الخاص - كما سيأتي بيانه مفصلاً في موضوع عوامل الغيبة الصغرى -، وفي استغلال الحسنيين القضية أيضاً، بغية التوصل إلى الحكم، كما مرت الإشارة إليه-.

2 - العامل الطائفي : ويتمثل في لون من الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، وهو الذي كان يقوم على أساس غير موضوعي، وإنما على الرواسب والنزعات الطائفية، وفي إطار الانفعالات العاطفية، التي وسعت فجوة الخلاف بين الطائفتين، فحولت كثيراً من المسائل العامة إلى قضايا خاصة.

وعليه :

فالبحث حول المسألة - في واقعه - ليس بحثاً ترفياً، أو حول مسألة تجريدية قليلة الجدوى .. وإنما هو بحث عن العقيدة الإسلامية .. وفي الصميم.

***

ص: 168

الإمام

إبني محمد هو الإمام الحجة بعدي، من مات ولم يعرفه، مات ميتة جاهلية .

(الإمام العسكري)

نسبه:

هو: محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسی بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب .. علیهم السلام .

ولادته:

ولد الإمام المنتظر علیه السلام بسامراء من مدن العراق، ليلة النصف من شهر شعبان عام (255 ه) خمسة وخمسين ومئتين للهجرة.

وكان الولد الوحيد لأبيه علیه السلام .

ص: 169

إمامته:

ولي أمر الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري عليه السلام عام (260 ه)، وهو ابن خمس سنين.

وهنا.. ربما يتساءل استغراباً :

كيف يجعل إماماً وهو في هذه السن من الطفولة المبكرة؟!

ويرتفع هذا النوع من الاستغراب حينما نعلم أن الإمامة هبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده، ممن تتوافر فيه عناصر الإمامة وشروطها، شأنها في ذلك شأن النبوة.. وهو ما برهن عليه في مجاله من مدونات وكتب الإمامة عند الشيعة بما يربو على التوفية.

يقول السيد صدر الدين الصدر : «إن المهدي المنتظر قام بالإمامة، وحاز هذا المنصب الجليل، وهو ابن خمس سنين، طفل لم يبلغ الحلم .. فهل يجوز ذلك؟!... أم لا بد في النبي - والرسول والخليفة أن يكون بالغاً مبلغ الرجال؟!

هذه مسألة كلامية، ليس هنا محل تفصيلها، ولكن على - وجه الإجمال، نقول : - بناءً على ما هو الحق من أن أمر الرسالة والإمامة والنبوة والخلافة بيد الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد من الناس فيها اختيار - يجوز ذلك عقلاً، ولا مانع منه مع دلالة

ص: 170

الدليل عليه، لأن الله سبحانه وتعالى قادر أن يجمع في الصبي جميع شرائط الرسالة والإمامة»(1).

على أن إمامة الإمام المنتظر علیه السلام تكن الحدث الوحيد من نوعها، فقد أوتي النبي يحيى علي الحكم صبياً : «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا »(2)، وجعل عیسی بن مریم علیه السلام نبياً وهو في المهد رضيعاً: «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(3).. كما هو صریح القرآن الكريم.

وكان جده الإمام محمد الجواد علیه السلام ، وجده الإمام علي الهادي عليه السلام، ولي كل منهما الإمامة وهو ابن ثماني سنوات، .. وكان أبوه الإمام الحسن العسكري عليه السلام وليها وهو ابن عشرين عاماً.

وواقع هؤلاء الأئمة علیهم السلام في علمهم بالشريعة، وتطبيقهم لأحكامها، في سلوكهم، ومختلف مجالات حياتهم الذي سجله التاريخ باكبار - بالإضافة إلى الدليل العقائدي الذي أشرت إليه - يكفينا في رفع ذلكم النوع من الاستغراب ... وبخاصة حينما نعلم أن الأئمة عليهم السلام كانوا «مصحرين بأفكارهم وسلوكهم

ص: 171


1- ص 107.
2- الآية 12 من سورة مريم.
3- الآيتان 29 و 30 من سورة مريم

وواقعهم تجاه السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم، وتعريضهم لمختلف وسائل الإغراء والاختبار، ومع ذلك فقد حفل التاريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها بإكبار .

ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة، وبخاصة مع الإمام الجواد، مستغلين صغر سنه عند تولي الإمامة.

وحتى لو افترضنا سکوت التاريخ عن هذه الظاهرة، فإن من غير الطبيعي أن لا يحدث أكثر من مرة تبعاً لتكرار الحاجة إليها، وبخاصة وأن المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية .

وطريقة إعلان فضيحة الشيعة بإحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى - لو أمكن ذلك - أيسر بكثير من تعريض الأمة إلى حروب قد يكون الخليفة من ضحاياها أو تعريض هؤلاء الأئمة إلى السجون والمراقبة، والمجاملة أحياناً»(1).

ولعل من روائع ما سجله التاريخ في هذا المجال : شهادة أحمد بن عبيد الله بن خاقان، عامل المعتمد العباسي على الخراج والضياع بكورة (قم)، ... وكان معروفاً بانحرافه عن أهل البيت عليهم السلام ، في معرض حديثه مع جماعة حضروا

ص: 172


1- محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 183.

مجلسه في شهر شعبان من سنة (278 ه)، بعد وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام بثماني عشرة سنة، وقد جرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسامراء، ومذاهبهم، وصلاحهم، واقدارهم عند السلطان(1).

يقول: «ما رأيت ولا أعرف بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه، وسكونه ، وعفافه، ونبله، وكرمه عند أهل بيته والسلطان وبني هاشم كافة، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، .. وكذلك حاله عند القواد والوزراء والكتاب وعامة الناس.

كنت يوماً قائماً على رأس أبي - وهو يوم مجلسه للناس - إذ دخل حجابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب.

فقال - بصوت عال -: إئذنوا له.

فتعجبت منه، ومنهم، من جسارتهم أن يكنوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يكن عنده إلآ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنی.

فدخل رجل أسمر، أعين، حسن القامة، جميل الوجه ، جيد البدن، حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.

فلما دنا منه عانقه، وقبل وجهه وصدره ومنكبيه، وأخذ

ص: 173


1- يراجع: السيد محسن الأمين، ص 317.

بيده، وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه، مقبلاً عليه بوجهه ... وجعل يكلمه، ويفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب، فقال : جاء الموفق - وهو أخو المعتمد الخليفة العباسي -.

وكان الموفق إذا دخل على أبي تقدمه حجابه، وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين الدار سماطين، إلى أن يدخل ويخرج.

فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد، يحدثه، حتى نظر إلى غلمان الموفق، فقال له - حينئذٍ -: إذا شئت -جعلني الله فداك - أبا محمد...

ثم قال لحجابه : خذوا به خلف السماطين، لا يراه هذا (يعني الموفق).

فقام، وقام أبي، فعانقه، ومضى.

فقلت لحجاب أبي وغلمانه : ويحكم.. من هذا الذي کنیتموه بحضرة أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟!

فقالوا: هذا علوي، يقال له : الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا.

فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً، متفكراً في أمره، وأمر أبي، وما رأيته منه، حتى كان الليل، وكانت عادته

ص: 174

أن يصلي العتمة، ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات، وما يدفعه إلى السلطان.

فلما صلی وجلس، جئت فجلست بين يديه ، فقال : ألك حاجة؟

قلت : نعم .. فإن أذنت سألتك عنها..

قال : قد أذنت ..

قلت : من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة، وفديته بنفسك وأبويك؟!

فقال : يا بني .. ذاك إمام الرافضة، الحسن بن علي، المعروف بابن الرضا.. .

وسكت ساعة .. .

ثم قال : لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله، وعفافه، وصيانته، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه، وصلاحه .. ولو رأيت أباه، رأيت رجلا ًجزلاً، نبیاً، فاضلاً.

فازددت قلقاً، وتفكراً، وغيظاً على أبي، وما سمعته منه فيه، ورأيته من فعله به.

فلم تكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره، والبحث عن أمره.

ص: 175

فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحل الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشائخه ..

فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً، إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه »(1)

وكان الإمام المنتظر علیه السلام خاتم الأئمة الاثني عشر، أوصياء نبينا محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

غيبته:

للإمام المنتظر علیه السلام غيبتان : صغری و کبری .. رأيت أن استعرضهما بشيء من الإيجاز، موضحاً أهم عواملهما، وأبرز ملابساتهما، في حدود ما يرتبط بموضوعنا (في انتظار الإمام) وبالمقدار الذي يمهد له.

الغيبة الصغرى:

بدأت الغيبة الصغرى بولادة الإمام المنتظرعلیه السلام عام (255 ه).

ص: 176


1- الشيخ المفيد، الإرشاد، ص 309 و 310.

وانتهت بوفاة سفيره الرابع والأخير علي بن محمد السمري - قده - سنة (328 ه أو 329 ه).

فامتدت أربعاً وسبعين سنة.

وكان الإمام المنتظر علیه السلام خلال الفترة المشار اليها يتصل بأتباعه وشیعته اتصالاً سرياً، دقيقاً في سريته، وعاماً لجميع حلقات ووسائل الاتصال، وعن طريق المخلصين كل الإخلاص من أصحابه ، والذين يدعون ب(السفراء) وهم:

ا- عثمان بن سعيد العمري الأسدي، المتوفى ببغداد، والذي كان قبل سفارته عن الإمام المنتظر علیه السلام، وكيلاً عن جده الإمام علي الهادي عليه السلام ، ثم عن أبيه الإمام الحسن العسكري عليه السلام .

2- محمد بن عثمان بن سعيد العمري، المتوفى عام (305 ه أو 304 ه) ببغداد.

3- الحسين بن روح النوبختي المتوفي عام (320 ه) ببغداد.

4- علي بن محمد السمري المتوفي عام (328 ه أو 329 ه) ببغداد

ص: 177

عوامل الغيبة الصغرى:

فيما أخاله أن أهم عامل في غيبة الإمام المنتظر علیه السلام، وفي اختفائه منذ الولادة، هو موقف الحكام العباسيين الموقف المعادي منه ، ويتلخص بالآتي:

إعتقاد وإيمان الشيعة - آنذاك - بأن الإمام المنتظر الذي بشرت جميع الأديان الإلهية بفكرته الإصلاحية(1)، وبشرت بدولته العالمية، والقاضية على كل حكم قائم آن انبثاقها، هو الإمام محمد بن الحسن العسكري علیه السلام.

وشيوع الروايات الواردة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم في تجسيد فكرة المصلح المنتظر بالإمام محمد بن الحسن عليه السلام ، وتطبيق شخصية المصلح المنتظر عليه، بين علماء المسلمين في حينه : عقیدیين وفقهاء ومحدثين، بما تضمنته من دلائل وإشارات، وبما احتوته من تصريحات باسمه وأوصافه الخاصة المميزة.

وربما كان أهمها: الروايات الحاصرة للأئمة في اثني عشر خليفة كلهم من قريش، والتي تدور على ألسنة المحدثین والمؤرخين آنذاك.

ص: 178


1- يقرأ: محمد أمین زین الدین، موضوع (المصلح المنتظر في أحاديث الأديان).

كالتي رواها البخاري - المعاصر للإمام الحسن العسكري -:

عن «جابر بن سمرة، قال : سمعت النبي صلی الله علیه و اله و سلم يقول :یکونُ اِثْنی عَشَرَ اَمیراً .. فَقالَ كَلِمَةً لَم أسمَعها ، فَقالَ أبي : إنَّهُ قالَ : كُلُّهم مِن قُرَيشٍ»(1)

وفي رواية الإمام أحمد بن حنبل : «أن جابر قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول : یَکُونُ لِهَذِهِ الاُمَّةِ اثْنَا عَشَرَ خَلِیفَةً»(2)

وكالتي رواها مسلم «عن جابر عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال : لاَ يَزَالُ اَلدِّينُ قائماً حَتَّى تَقُومَ اَلسَّاعَةُ وَ يَكُونُ عَلَيْهِمُ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»(3)

وكالتي رواها الحمويني الشافعي في فرائد السمطين عن «اِبْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ و آله و سلم: أنَا سَيِّدُ النَّبِيّينَ ، وعَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ سَيِّدُ الوَصِيّينَ، إنَّ أوصِيائي بَعدِي اثنا عَشَرَ : أَوَّلُهُمْ عَلِى بْنُ أَبِى طَالِبٍ وَآخِرُهُمُ الْقَائِمُ المهدي»(4)

وعنه أيضاً: «قال قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إن خُلَفَائِی

ص: 179


1- محمد تقي الحكيم، ص 177
2- اسماعيل الصدر، ص 150.
3- م.ن.
4- نجم الدين الشريف العسكري: علي والوصية، ص 196.

وأوصيائي حجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر »(1)

«وقد تواتر مضمون الخبرين (الأولين) في كتب الخاصة والعامة، أما بهذا اللفظ أو قريب منه، وقد جمع بعض المعاصرين هذه الأخبار فكانت 271، وقد رواها أكابر حفاظ أهل السنة»(2)

متى أضفنا اليها: أن العباسيين كانوا يعلمون أن الإمام الذي يخلف الإمام الحسن العسكريعلیه السلام هو الإمام الثاني عشر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، لعلمهم بأن الإمام العسكري عليه السلام هو الإمام الحادي عشر.

وربما كانت هذه الروايات وأمثالها من الأحاديث المثيرة لقلق الحكام واضطرابهم باعثاً إلى أبعد من هذا، وهو تتبع آل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى قتل الإمام المنتظر علیه السلام.

وإننا لنلمس هذا المعنى في بعض ما ورد عن الأئمة علیهم السلام .. ففي حديث للإمام الصادق عليه السلام يقول فيه: «... أما مولد موسى علیه السلام، فإن فرعون لما وقف على أن

ص: 180


1- صدر الدين الصدر، ص 232.
2- اسماعيل الصدر، ص 150.. ويراجع المصدر نفسه لمعرفة من يرويها من أكابر حفاظ أهل السنة

زَوالَ مُلكِهِ على يدِ موسى أمرَ بإحضارِ الكَهَنَةِ ، فدَلُّوهُ على نَسَبِهِ وأ نّهُ مِن بَني إسرائيلَ، حتّى قَتَلَ في طَلَبِهِ نَيّفاً و عِشرينَ ألفَ مَولودٍ ، وتَعَذّرَ علَيهِ الوُصولُ إلى قَتلِ موسى علیه السلام بحِفظِ اللّه تباركَ وتَعَالَى إِيَّاهُ، كَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ،وَ بَنُو الْعَبَّاسِ،لَمَّا وَقَفُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِ الْأُمَرَاءِ وَ الْجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَى يَدِ الْقَائِمِ مِنَّا، نَاصَبُونَا الْعَدَاوَةَ، وَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ و سلم، وَ إِبَادَةِ نَسْلِهِ، طَمَعاً مِنْهُمْ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْقَائِمِ، وَ يَأْبَى اللَّهُ - عَزَّ وَ جَلَّ أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(1)

وفي حديث آخر عن الإمام الرضا عليه السلام: «قَدْ وَضَعَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو العَبَّاسِ سُيُوفَهُمْ عَلَيْنا لِعِلَّتَينِ:

إحداهما: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعلَمونَ لَيسَ لَهُم فِي الخِلافَةِ حَقٌّ ، فَيَخافونَ مِنِ ادِّعائِنا إيّاها وتَستَقِرُّ في مَركَزِها .

وثانيهما: أنَّهُم قَد وَقَفوا مِنَ الأَخبارِ المُتَواتِرَةِ، عَلى أنَّ زَوالَ مُلكِ الجَبابِرَةِ وَالظَّلَمَةِ عَلى يَدِ القائِمِ مِنّا، وكانوا لا يَشُكّونَ أنَّهُم مِنَ الجَبابِرَةِ وَالظَّلَمَةِ، فَسَعَوا في قَتلِ أهلِ بَيتِ رَسولِ اللّه ِ صلی الله علیه و آله و سلم، وإبادَةِ نَسلِهِ، طَمَعًا مِنهُم فِي الوُصولِ إلى مَنعِ

ص: 181


1- لطف الله الصافي : منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر علیه السلام ص 359، 360.

تَوَلُّدِ الْقَائِمِ عليه السلام ، أو قَتلِهِ ، فَأَبَى اللّه ُ أن يَكشِفَ أمرَهُ لِواحِدٍ مِنهُم، إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(1)

كل ذلكم وأمثاله، كان يربك الحكومة العباسية حول مستقبلها عند ظهور الإمام محمد بن الحسن علیه السلام ، إذ ربما تمثلت فيه عقيدة الشيعة، وصدقت فيه أحاديث جده النبي محمدصلی الله علیه و اله و سلم ، وما روي عنه فيه.

فكانت تعد ما في إمكانياتها من العدة للعثور عليه، والوقوف على أمره، لتطمئن على مستقبلها السياسي، وبخاصة وأن حركات الشيعة أيام جده الإمام علي الهادي علیه السلام، وأبيه الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، ضد الحكومة العباسية، كانت في زيادة مدها النضالي، ووفرة نشاطها السياسي، لقلب نظام الحكم العباسي والإطاحة به، بما كان يقلق الحكومة العباسية، - ويتعبها إلى حد، في إخمادها، أو إيقافها على الأقل.

فعلى الأقل: ربما تمخضت الحركة الشيعية عن الثورة المبيدة للحكم العباسي على يد الإمام محمد بن الحسن علیه السلام .

فوضع الحكام العباسيون - فيما يحدث المؤرخون- مختلف العيون والجواسيس أيام حياة الإمام الحسن

ص: 182


1- المصدر السابق ، ص 291.

العسكريعلیه السلام بغية معرفة الإمام من بعده، وبخاصة ابنه الذي نوهت به وأشارت إليه تعريفات المصلح المنتظر .

يقول السيد الأمين : «وقد تضافرت الروايات على أن السلطان طلبه - يعني الإمام المنتظر - وفتش عليه أشد الطلب والتفتيش ليقتله، لما شاع من قول الإمامة فيه ، وانتظارهم له، ولما سبق من آبائه من وصية السابق إلى اللاحق»(1)

وقال الصدوق: «وبعث السلطان إلى داره (أي دار الإمام العسكري) من يفتشها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاءوا بنساء لهن معرفة بالحبل، فدخلن على جواريه ، فنظر إليهن، فذكر بعضهن : أَنَّ هُنَاكَ جَارِيَةً بِهَا حَمْلٌ، فأمر بها فَجُعِلَتْ فِي حُجْرَةٍ وَ وُكِّلَ (نحرير) الْخَادِمُ وَ أَصْحَابُهُ و نِسْوَةٌ مَعَهُمْ.

ثم قال : فلَمَّا دُفِنَ (أي الإمام العسكري)، وَ تَفَرَّقَ النَّاسُ اضْطَرَبَ السُّلْطَانُ وَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِ وَلَدِهِ، وَ کَثُرَ التَّفْتِیشُ فِی الْمَنَازِلِ وَ الدُّورِ وَ تَوَقَّفُوا عَنْ قِسْمَةِ مِیرَاثِهِ .

ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا فيها الحبل ملازمین لها سنتين أو أكثر، حتى تبين لهم بطلان

ص: 183


1- ص 330.

الحبل.. فقسم میراثه بين أمه وأخيه،.. وادعت أمه وصيته ، وثبت ذلك عند القاضي ..

والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده، .. وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً»(1)

وقال الشيخ المفيد: «وخلف (يعني الإمام العسكري) ابنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده، وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده عليه السلام في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته، وتولى جعفر بن علي - أخو أبي محمد - أخذ ترکته، وسعى في حبس جواري أبي محمد علیه السلام، واعتقال حلائله، وشنع على أصحابه بانتظارهم ولده، وقطعهم بوجوده، والقول بأمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم.

وجرى على مخلفي أبي محمد علیه السلام بسبب ذلك كل عظيمة، من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذل .. ولم يظفر السلطان منهم بطائل.

وحاز جعفر - ظاهراً - تركة أبي محمد عليه السلام ، واجتهد في

ص: 184


1- السيد الأمين، ص 336.

القيام عند الشيعة مقامه، ولم يقبل أحد منهم ذلك، ولا اعتقده فيه»(1)

وهذا النص الأخير - وهو لكبير من أعلام علماء الشيعة-يلمسنا واقع الغيبة، في أنها بدأت بولادة الإمام المنتظر علیه السلام، حيث أخفي خبر الولادة عن الجمهور، وستر أمر الإمام المنتظرعلیه السلام إلا على المخلصين من أصحاب أبيه علیه السلام، للعامل السياسي الذي أشرت إليه.

وحينما يكون هذا هو واقع الغيبة، يجدر بنا أن نسائل أولئكم الحانقين والمغفلين عن موقع السرداب المزعوم من حوادث القصة !!..

وأبعد من هذا.. فقد وضع الحكام العباسيون على ألسنة بعض المحدثين أحاديث نسبوها إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وضمنوها: أن المهدي المنتظر من آل العباس، بغية صرف العامة عن انتظاره في آل علي، أمثال :

1- المهدي من ولد العباس عمي(2).

2- یا عباس، إن الله فتح هذا الأمر بي، وسيختمه بغلام

ص: 185


1- ص 316.
2- محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ص 93.

من ولدك، يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً، وهو الذي يصلي بعیسی(1)

3- ألا أبشرك يا أبا الفضل، إن الله - عز وجل - افتتح بي هذا الأمر، وبذريتك يختمه(2).

4 - قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلام: إذا رأيتُمُ الرَّاياتِ السُّودَ قد جاءَت مِنْ قِبَلِ خُرَاسانَ ، فأْتُوها فإِنَّ فيها خليفَةُ اللهِ المهدِيِّ(3)

ولكي نقف على قيمة هذه الأحاديث، وعلى واقعها، وهو أنها موضوعة، علينا أن نقرأ ما يقوله علماء الحديث والناقدون حولها :

فحول الحديث الأول، يقول الدار قطني: «غریب، تفرد به محَمَّدُ بْنِ الْوَلِيدِ مولى بني هاشم»(4).

ويعلق عليه الألباني - بعد عده الحديث في سلسلة الموضوعات - بقوله: «قلت : وهو (يعني محمد بن الوليد) متهم بالكذب. قال ابن عدي : «كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ»، وقال أبو

ص: 186


1- م. ن.
2- المصدر السابق، ص 94
3- المودودي، ص 161.
4- الألباني، ص 93.

عروبة : «كذاب»، وبهذا أعله المناوي في «الفيض»، نقلاً عن ابن الجوزي، وبه تبين خطأ السيوطي في إيراده لهذا الحديث في «الجامع الصغير»...

قلت : ومما يدل على كذب هذا الحديث أنه مخالف لقوله صلی الله علیه و آله و سلم: ( المهدي من عترتي من ولد فاطمة).. أخرجه أبو داود (2/ 207 - 208)، وابن ماجة (2/ 519)، والحاكم (4/ 557)، وأبو عمر والداني في «السنن الواردة في الفتن» (99 - 100)، وكذا العقيلي (139 و300) من طریق زیاد بن بیان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة مرفوعاً.

وهذا سند جید، رجاله كلهم ثقات، وله شواهد كثيرة، فهو دليل واضح على رد حدیث «المهدي من ولد العباس»(1)

وحول الحديث الثاني يقول الألباني - بعد أن عده في الموضوعات أيضاً -: «أخرجه الخطيب في «تاریخ بغداد» (4/ 117) في ترجمة أحمد بن الحجاج بن الصلت قال : حَدَّثَنَا سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا خلف بْنِ خليفة عن مُغيرَة عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَمَّارٍ بْنِ یاسر مَرْفُوعًا.

قلت: وهذا سند رجاله كلهم ثقات، معروفون، من رجال

ص: 187


1- م.ن.

مسلم، غير أحمد بن الحجاج هذا، ولم يذكر فيه الخطيب جرحاً ولا تعديلاً، وقد اتهمه الذهبي بهذا الحديث فقال: «رواه باسناد الصحاح مرفوعاً، فهو آفته!.. والعجيب أن الخطيب ذكره في تاريخه ولم يضعفه، وكأنه سكت عنه لانتهاك حاله»، ووافقه الحافظ في «لسان الميزان».

والحديث أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» من حديث ابن عباس ونحوه، وقال : «موضوع. المتهم به الغلابي»(1)

ويقول - أعني الألباني - حول الحديث الثالث - «موضوع. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 135) من طريق لاهز بن جعفر التيمي ... وقال : «تفرد به لاهز بن جعفر، وهو حديث عزیز».

قلت : وهو متهم، قال فيه ابن عدي : « بغدادي مَجْهُول يحدث عَن الثِّقَات بِالْمَنَاكِيرِ»(2).

ويقول أيضاً - تعليقاً على الحديثين الأخيرين -: «إذا علمت حال هذا الحديث والذي قبله، فلا يليق نصب الخلاف بينهما وبين الحديث الصحيح المتقدم قريباً : (المهدي من ولد فاطمة) لصحته وشدة ضعف مخالفه»(3)

ص: 188


1- المصدر السابق ، ص93، 94.
2- م.ن.
3- م. ن.

وحول الحديث الرابع يقول المودودي: «ذكر الرايات السود من قبل خراسان، مما يدل دلالة واضحة على أن العباسيين أدخلوا في هذه الرواية من عند أنفسهم، ما يوافق اهواءهم وسياستهم، لأن اللون الاسود كان شعاراً للعباسيين، وكان أبو مسلم الخراساني هو الذي مهد الأرض للدولة العباسية »(1)

الغيبة الكبرى:

بدأت الغيبة الكبرى بوفاة السفير السمري - ره - سنة (328 ه) أو (329 ه).

وستبقى مستمرة حتى يأذن الله تعالی.

وربما كان نهاية امدها هو حينما تتمخض الظروف الاجتماعية عن الأجواء الملائمة لثورة الإمام المنتظر علیه السلام، التي حددتها جملة من الأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم السلام .. والتي نستطيع أن نصنفها إلى طائفتين :-.

1- الطائفة التي حددت خروج الإمام المنتظر علیه السلام بعد ملء الأرض ظلماً وجوراً. أمثال: «لاَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ حَتَّى تُمْلَأَ

ص: 189


1- الشيخ المفيد، ص 332.

الْأَرْضُ ظُلْماً وَ جَوْراً وَ عُدْوَاناً ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَنْ يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً ».

2 - الطائفة التي أشارت إلى أن الإمام المنتظر عليه السلام سيأتي بأمر جديد، بعد اندثار معالم الإسلام، وابتعاده عن الواقع الاجتماعي والواقع الفكري وانحساره عن مجالهما.

أمثال ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام :

أ- قال: إذا قام القائم عليه السلام دعا الناس إلى الإسلام جديدا، وهداهم إلى أمر قد دثر فضل عنه الجمهور، ... وإنما سمي القائم عليه السلام مهديا، لأنه يهدي إلى أمر قد ضلوا عنه، وسمي بالقائم لقيامه بالحق(1).

ب - قال: إذا قام القائم جاء بأمر جديد، كما دعا رسول الله صلي الله عليه و آله في بدو الإسلام إلى أمر جدید(2)

ولعلنا بهذا أيضا نستطيع أن نوجه أو نفسر عدم ظهور الإمام المنتظر عليه السلام قبل هذا الآن الذي أشارت إليه الأحاديث المذكورة وأمثالها، ... وذلك بعدم تحقق ظروف ثورته عليه السلام والأجواء الملائمة لها.

وهنا.. ربما يفهم مما تقدم : أن قيام الامام

ص: 190


1- ص 115.
2- المصدر السابق ، ص 333.

المنتظر عليه السلام بالدعوة الإسلامية لا بد وأن يسبق بشمول الباطل والكفر لكل أطراف الحياة، وانحسار الحق والإسلام من كل مجالاتها..!

غير أن ما يفاد من النصوص في هذا المجال هو بقاء الإسلام مستمرا لدى طائفة من الأمة، حتى ظهور الإمام المنتظر عليه السلام ، كما سنقف عليه في المواضع الآتية(1)، وكما يشير إليه أمثال الحديث الآتي:

عن رسول الله صلي الله عليه و آله : لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال(2).

«وَفِي رِوَايَةُ : عِصَابَةُ مِنْ أُمَّتِي »(3).

ص: 191


1- يقرأ موضوع (انتظار الإمام) وموضوع (الدعوة إلى الدولة) من هذا الكتاب.
2- السيد صدر الدين الصدر، ص 191.
3- م. ن.

وجود الإمام

اشارة

المهدي من ولدي، اسمه إسمي، وكنيته کنيتي، أشبه الناس بي خلقا وخُلقاً، تكون له غيبة وحيرة، تضل فيه الأمم، ثم يقبل کالشهاب الثاقب فيملاها عدلا وقسطا، كما ملئت ظلما وجوراً . النبي محمد صلي الله عليه و آله

منهج البحث:

اشارة

إن منهجية البحث حول موضوع وجود الإمام المنتظر عليه السلام، وحول محاولة الاجابة على السؤال التالي:

كيف يعيش الإمام المنتظر عليه السلام هذه المدة الطويلة من السنين؟!..

تتطلب منا - عادة - البحث أولا عن إمكان مسألة بقاء الإنسان حيا مدة طويلة من السنين تتجاوز الحدود الاعتيادية لعمر الإنسان ... فالبحث ثانيا عن وقوع المسألة، وبقاء الإمام المنتظر عليه السلام حيا هذه المدة الطويلة من السنين .

ص: 192

1- حول الإمكان:

فيما أخاله : أن مسألة إثبات إمكان بقاء الإنسان حيا عمرا طويلا من السنين تقتضينا الحديث عنها على الصعيدين الفلسفي والعلمي تمشيا مع مناهج البحث حول المسألة قديما وحديثا: -

أ. على الصعيد الفلسفي :

من المعلوم أن الاستحالة ما لم ترجع إلى البداهة لا تعد استحالة .

وبتعبیر فلسفي : أن الاستحالة إذا لم ترجع بالنهاية إلى اجتماع النقيضين لا تعد استحالة.

وهنا في مسألتنا : من البداهة بمكان أن بقاء إنسانٍ ما حيا آلاف السنين يتمتع بعمر فوق الاعتيادي؛ وكون أناس آخرين لا يتمتعون بعمر فوق الاعتيادي لا يلزم منه اجتماع النقيضين، وذلك لاختلاف موضوع كل من القضيتين ..

فمثلا : اعتبار خالد في هذا الآن غير موجود، واعتبار محمد في الآن نفسه موجودا، لا يلزم منه اجتماع الوجود وعدمه في انسان واحد، وذلك لاختلاف ومغايرة موضوع القضية الأولى وهو خالد لموضوع القضية الثانية وهو محمد..

ومن المعلوم بالضرورة أن من أوليات شروط التناقض وحدة موضوع كل من القضيتين.

ص: 193

ب - على الصعيد العلمي:

ومن المعلوم أيضا أن العلم يستند -عادةً - في إعطاء نتائجه حول قضية ما إلى التجربة.

والتجربة حينما تجري على موضوع معين في ظروف وملابسات معينة، لا يصح تعميم نتائجها إلى نفس الموضوع، حينما يكون في ظروف وملابسات أخرى غير تلكم الظروف والملابسات التي اكتنفته حين التجربة ..

وهو - أعني عدم صحة التعميم في أمثال هذه القضايا - من الأصول المسلمة والشروط البديهية لدى العلماء.

فمثلا : حينما تجري التجربة على (خالد) - بصفته إنسانا ۔ وهو في ظروفه الاعتيادية لمعرفة مدى بقائه حيا، ومدی مقاومته لعوادي الطبيعة التي من شأنها القضاء عليه، فتنهينا التجربة إلى أنه ليس باستطاعة مثل هذا الإنسان أن يعيش أكثر من (120) سنة، لا يصح أن تعمم نتيجة هذه التجربة لكل انسان حتى من يكون في غير الظروف الاعتيادية التي أحاطته حالة التجربة، إذ من الجائز أن يبقى انسان آخر، أو خالد نفسه، حياً أطول بكثير من المدة المذكورة، إذا كان في ظروف أخرى غير ظروفه الاعتيادية. كما سنرى ذلك واضحاً في نتائج تجارب الدكتور كارل فيما يأتي :

ص: 194

فالنتيجة - على ضوء ما تقدم - هي:

إن مسألة بقاء الإنسان حياً مدة طويلة من السنين ليست مستحيلة، لا فلسفيا ولا علميا، وإنما هي من المسائل الممكنة.

2- حول الوقوع:
اشارة

وبعد أن انتهينا إلى أن مسألة بقاء الإنسان حيا طويلا من السنين أمر ممكن.. لننتقل إلى الإجابة على السؤال المتقدم، عارضين أهم الأدلة الناهضة باثبات ذلك، وهي:

1- الدليل النقلي:

وأعني به النصوص الواردة في الموضوع، وهي على طوائف، أهمها ما يأتي :

أ- ما يدور منها حول عدم خلو الأرض من حجة، أمثال :

«لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّةِ اللَّهُ ، إِمَّا ظَاهَرَ مَشْهُورٍ ، وَ إِمَّا خَائِفٍ مَغْمُورٍ ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَ بَيِّنَاتُهُ»..

ب - ما يدور منها حول حصر الامامة في اثني عشر إماما كلهم من قریش، أمثال : «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِي فِيهِ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةَ كُلُّهُمْ مِنْ قریش ».

ح - ما يدور منها حول تعيين الإمام المنتظر باسمه

ص: 195

وصفاته، أمثال : «الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدَيَّ ، اسْمُهُ اسْمِي ، وَ كُنْيَتِهِ کنیتي ، أَشْبَهَ النَّاسِ بِي خَلْقاً وَ خُلُقاً ، تَكُونُ لَهُ غَيْبَةُ وَ حَيْرَةُ ، تَضِلُّ فِيهِ الْأُمَمِ ، ثُمَّ يُقْبِلُ کالشهاب الثَّاقِبِ ، فَيَمْلَأَهَا عَدْلًا وَ قِسْطاً ، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً ».

د- ما يدور منها حول عدم قيام الساعة حتى ينهض الإمام المنتظر عليه السلام ، أمثال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَمْلَأَ الْأَرْضِ ظُلْماً وَ جَوْراً وَ عُدْوَاناً ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَنْ يَمْلَأُهَا قِسْطاً وَ عَدْلًا ، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ عُدْوَاناً ».

ه- - ما يدور منها حول وجود إمام في كل زمان، أمثال: « مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ».

ومتى حاولنا التوفيق بين الطوائف المشار إليها وأمثالها،تنتهي حتما إلى أن الإمام المنتظر هو محمد بن الحسن علیه السلام .

وفي عقيدتي : أن التوفيق بينها حيث ينتهي إلى النتيجة المذكورة في مجال من الوضوح يغنينا عن تفصيل البيان.

وهذه «الْأَخْبَارُ فِي أَنَّ الْمَهْدِيَّ هُوَ ابْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ ، وَ أَنَّهُ حَيُّ مَوْجُودُ ، يَظْهَرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ ، مُتَوَاتِرَةُ مِنْ طُرُقِ أَصْحَابِنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ »(1).

على أن مسألة حياة الإمام المنتظر عليه السلام ، بعد إثبات

ص: 196


1- السيد الأمين، ص 388.

إمكانها، نستطيع أن ندرجها ضمن قائمة المسائل الغيبية في الشريعة الإسلامية، التي لا تقتضينا في مجال الاعتقاد بها أكثر من إثبات إمكانها عن طريق العقل، وإثبات وقوعها عن طريق النقل، کمسألة (المعاد) و نظائرها.

ولا أخال أن هذه الوفرة من النقول الواردة عن النبي صلي الله عليه و آله ؛ بمختلف طرقها وأسانيدها شيعية وسنية غير كافية،.. أو أن هناك من لا يراها كافية، وبخاصة حينما يثبت تواترها، كما أشرت إليه.

2- الدليل التاريخي :

ويتلخص في أن التاريخ يثبت وجود نظائر للإمام المنتظر عليه السلام في طول العمر، أمثال : النبي نوح عليه السلام الذي عاش ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو قومه «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ»(1)، كما يؤرخ القرآن الكريم لهذه الفترة من حياته (2)

3- الدليل العقائدي :

وخلاصته : إن إرادة الله تعالى وقدرته، التي أعدته ليومه

ص: 197


1- الآية 14 من سورة العنكبوت .
2- للاستزادة، يقرأ: محمد أمین زین الدین، ص 68 وما بعدها.

الموعود، هي التي تعطيه البقاء وتمنحه العمر الطويل .

4-الدليل التشريعي:

من أوليات خصائص الدعوة الإسلامية أنها دعوة عالمية.

ومن أوليات التشريع الإسلامي وجوب حمل رسالة الإسلام إلى العالم كله على رئيس الدولة المعصوم عن طريق الجهاد أو غيره، لأن الإسلام نظام اجتماعي ثوري، جاء لإذابة واستئصال جميع النظم الاجتماعية القائمة.

ومن الوضوح بمكان أن عملية الهدم والبناء في عالم الثورة، تتطلب فترة طويلة من الزمن، ينطلق فيها الثوار مندفعين بكل إمكانياتهم إلى اقتلاع رواسب النظم الاجتماعية المطاح بها، من نفسيات أبناء الجيل الذي عاشها متجاوبا معها، وإلى إنشاء جيل جديد، خال من رواسب الماضي، ومنصهر كل الانصهار بفكرة النظام الجديد.

ومن الواضح بمكان: أن من أهم ما يشترط في القائمين على تطبيق النظام الجديد، خلوهم ومن أية راسبة تعاكس مفاهيم وأحكام النظام الجديد، وانصهارهم بالنظام الجديد انصهارا من أقرب معطياته صياغة شخصياتهم في جميع خصائصها، ومختلف جوانبها وفق النظام الجديد.

ونحن نعلم أن النبي محمداً صلي الله عليه و آله ما لم تمتد به الأيام إلى

ص: 198

انهاء عملية الهدم والبناء فالتطبيق الكامل.

ونعلم - أيضا أن ليس في المسلمين من يتوفر فيه الشرط المذكور غير الإمام أمير المؤمنین علیه السلام.

ولعل إلى هذا المعنى يشير المعنيون ببحوث الامامة، حينما يستدلون على خلافة الإمام علي عليه السلام بعد النبي صلي الله عليه و آله مباشرة، بالآية الكريمة : «وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(1).

ونعلم - أيضا أن الإمام عليا عليه السلام كذلك هو الآخر لم ينه العملية للملابسات والظروف السياسية التي سبقت خلافته أو رافقتها.

وإن أبناءه المعصومين هم الآخرون لم يستطيعوا القيام بمهمة إنهاء تلكم العملية للعوامل والظروف السياسية والاجتماعية التي واكبت أيامهم.

وإن النوبة قد انتهت إلى الإمام المنتظر عليه السلام ، فلا بد من إنهائها على يديه، لأنه خاتمة المعصومين عليه السلام ، فيحقق ما أخبر به القرآن الكريم بقوله : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(2)

ص: 199


1- الآية 124 من سورة البقرة.
2- الآية 33 من سورة التوبة . و28 من سورة الفتح و9 من سورة الصف .

- وربما إليه كان يشير مفسرو الآية الكريمة بالإمام المنتظر عليه السلام - وهو شيء يتطلب استمرار حياته لهذه الغاية النبيلة.

وربما على ضوئه نستطيع أن نستدل على لزوم وجوده معاصرا لأبيه الإمام العسكري عليه السلام، واستمراره بعده، منطلقين من البدء، وكأنا لم نفترض المفروغية من إثبات ولادته، بما حاصله :

وهو اننا إن لم نلتزم بمعاصرة الإمام المنتظر عليه السلام لأبيه العسكري عليه السلام، وتلقيه ما تتطلبه مهمته كمشرع ومطبق، لا بد أن نلتزم بأحد أمرين :-

1- اما بتلقيه ذلك عن طريق الوحي.

2- واما بادراکه الأحكام عن طريق الاجتهاد المعروف.

والالتزام بأي من الأمرين المذكورين يصادم عقیدتنا، وذلك لأن الالتزام منا بتلقي الإمام عليه السلام الأحكام عن طريق الوحي يصادم عقيدتنا باختتام الوحي بالنبي محمد صلي الله عليه و آله .

والالتزام بإدراكه عليه السلام الأحكام عن طريق الاجتهاد يصادم عقیدتنا في علم الإمام، وإدراكه الأحكام الواقعية جميعها وبواقعها، والاجتهاد قاصر - عادة - عن إدراك الكثير من الأحكام الواقعية كما هو معلوم.

ص: 200

وعند بطلان هذين لا بد من القول بمعاصرة الإمام المنتظر عليه السلام لأبيه عليه السلام واستمرار حياته منتظرا تمخض الظروف عن ساعة خروجه وثورته المباركة.

5- الدليل العلمي:

و موجزه: إن جماعة من العلماء المحدثين أمثال : الدكتور الکسیس کارل، والدكتور جاك لوب، والدكتور ورن لويسي وزوجته، وغيرهم، قاموا باجراء عدة تجارب في معهد (روكفلر) بنيويورك على أجزاء الأنواع مختلفة من النبات والحيوان والإنسان.

وكان من بين تلكم التجارب ما أجري على قطع من أعصاب الإنسان وعضلاته وقلبه وجلده وكليتيه ... فرؤي : أن هذه الأجزاء «تَبْقَى حَيَّةً نَامِيَةً مَا دَامَ الْغِذَاءِ اللَّازِمُ مَوْفُوراً لَهَا »وما دامت لم يعرض لها عارض خارجي، وإن خلاياها تنمو وتتكاثر وفق ما يقدم لها من غذاء.

واليك نتائج تجارب الدكتور كارل التي شرع فيها بكانون الثاني سنة 1912م:

1-«إِنَّ هذِهِ الْأَجْزَاءِ الخلوية تَبْقَى حَيَّةً مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا عَارِضُ يميتها إِمَّا مِنْ قِلَّةُ الْغِذَاءِ ، أَوْ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ المكروبات

ص: 201

2- إِنَّهَا لَا تَكْتَفِيَ بِالْبَقَاءِ حَيَّةً بَلْ تَنْمُو خلاياها ، وتتكاثر ، كَمَا لَوْ كَانَتْ باقِيَةً فِي جِسْمِ الْحَيَوَانِ

3 - إِنَّهُ يُمْكِنُ قِيَاسِ نموها وتكاثرها ، وَ مَعْرِفَةِ ارْتِبَاطِهِمَا بِالْغِذَاءِ الَّذِي يُقَدَّمُ لَهَا

4 - إِنَّهُ لَا تَأْثِيرَ للزمن . . أَيْ أَنَّهَا لَا تشيخ وَ لَا تُضَعِّفُ بِمُرُورِ الزَّمَنِ ، بَلْ لَا يَبْدُو عَلَيْهَا أَقَلَّ أَثَرِ للشيخوخة ، بَلْ تَنْمُو وتتكاثر هَذِهِ السُّنَّةِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ تَنْمُو وتتكاثر فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَ مَا قَبْلَهَا مِنَ السِّنِينَ .

وَ تَدُلُّ الظَّوَاهِرِ كُلِّهَا عَلَى أَنَّهَا ستبقى حَيَّةً نَامِيَةً ، مَا دَامَ الباحثون صَابِرِينَ عَلَى مراقبتها وَ تَقْدِيمِ الْغِذَاءِ الْكَافِي لَهَا ».(1)

ويقول الأستاذ ديمند وبرل من أساتذة جامعة جونس هبکنس، تعليقا على نتائج الدكتور کارل: «إِنْ كُلُّ الْأَجْزَاءِ الخلوية الرئيسية مِنْ جِسْمُ الْإِنْسَانِ ، قَدْ ثَبَتَ إِمَّا أَنْ خلودها بِالْقُوَّةِ صَارَ أَمْراً مُثْبَتاً بالامتحان ، أَوْ مرجحا ترجيحا تَامّاً لِطُولِ مَا عاشته حَتَّى الْآنَ »(2).

و «أَكَّدَ تَقْرِيرِ نشرته الشِّرْكَةِ الوطنية الجيوغرافية : أَنْ

ص: 202


1- تقرأ : مجلة المقتطف «هل يخلد الإنسان في الدنيا»مج 59 ج3 ص 238-240. والسيد صدر الدين الصدر، ص 134.
2- نفس المصدر .

الإنسان يستطيع أن يعيش (1400) سنة، إذا ما خدر مثل بعض الحيوانات لينام طيلة فصل الشتاء.

ويقول التقرير الأنف الذكر : «إن التخدير أثناء فصل الشتاء يطيل حياة الحيوان الذي يتعرض للتخدير عشرين ضعفا بالنسبة لحياة الحيوانات المماثلة التي تبقى ناشطة طيلة فصول السنة»(1).

ولعل من الواضح: أن أمثال هذه التجارب العلمية، التي يحاول العلماء عن طريقها معرفة ما يمد في عمر الإنسان إلى أكثر من العمر الاعتيادي، تنهينا إلى النتيجة التالية :

وهي: ليس هناك تحديد يقرر - في نظر العلم - حدا طبيعيا العمر الإنسان .. وما التحدیدات التقريبية التي يفيدها الإنسان من مشاهداته وملاحظاته إلا تحدیدات للعمر الاعتيادي.

ولعل امتداد عمر الإنسان إلى ما فوق سني الأعمار الاعتيادية له - كالذي مررنا به في الدليل التاريخي من أمثال عمر النبي نوح عليه السلام - يدعم ما انتهي إليه من عدم وجود حد طبيعي لعمر الإنسان.

وبخاصة وأن العلم - اليوم - قطع مراحل هامة في إعطائه نتائج كبرى حول المسألة.. من أهمها: أن الأخذ بالتعاليم

ص: 203


1- جريدة الثورة البغدادية ، العدد 785.

الصحية والالتزام بها يوفر للإنسان جوا ملائما للمحافظة على حياته ولاستمرار عوامل بقائها.

وما قلة انتشار الأمراض السارية - الآن - وانخفاض نسبة الوفيات، في كثير من المجتمعات المتمدنة، والآخذة في طريقها إلى التحضر، إلا أوضح شاهد على ذلك.

ومتى أضفنا إلى هذه النتيجة نتيجة أخرى هي: أن عامل الموت هو (الأجل)، وليس الأمراض أو الطواريء الأخرى - كما هو رأي بعض علماء الشريعة - ترتبط مسألة امتداد العمر ارتباطا وثيقا، بتوفر الجو الصحي الملائم، وبتأخر الأجل.

وتوفر الجو الصحي الملائم يعود إلى الإنسان نفسه، .. ومن أرعى من الإمام عليه السلام لذلك، وهو يعلم أنه معد لمهمته الإلهية الكبرى ..

وتأخر الأجل يعود إلى الله تعالى، ومتى اقتضت إرادته ذلك -كما تقدم في الدليل العقائدي - توفرت شرائط البقاء والعمر الطويل .

ص: 204

دولة الإمام

اشارة

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا»«قرآن کریم»

لماذا الحديث؟

اشارة

قد يثير هذا العنوان (دولة الإمام) شيئا من التساؤل حول التطرق لموضوعه، وبخاصة وأن دولة الإمام المنتظر عليه السلام بعد لما تقع، ولما تعش الواقع التاريخي..

فلماذا الحديث حول الموضوع اذن؟!

بيد أن طبيعة مخطط الموضوع (في انتظار الامام) حسبما رسمته منهجة البحث، تتطلب ذلك بالنظر إلى النتيجة التي سأنتهي إليها في حديثي الآتي حول (انتظار الامام) وهي :

ص: 205

الإلزام بمسؤولية التمهيد لدولة الإمام المنتظر عليه السلام .

ومن الواضح: أن التمهيد للدولة يتطلب - طبيعيا التعرف عليها ولو مجملا:

دولة الامام هي دولة الإسلام:

إلى دولة الإمام المنتظر عليه السلام هي دولة الإسلام.. تلك الدولة التي تتجسد في واقعها الموضوعي تطبيقات التشريع الإسلامي كاملة عادلة، وفي مختلف مجالات الحياة : لدى الفرد، وفي الأسرة، وفي المجتمع، وفي الدولة ...

والتي تمثلت في حكم نبينا محمد صلي الله عليه و آله ، حينما أقام الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة .

بين دولة النبي ودولة الإمام:

وهنا.. قد يتساءل : إن الظروف - زمانا ومكانا- التي عاشتها دولة النبي صلي الله عليه و آله ، وأحاطت بها، ولابستها، ربما اختلفت وظروف دولة الإمام المنتظر عليه السلام ، ألا يستدعي هذا النوع من الاختلاف، شيئا من الاختلاف بين الدولتين؟. .

وهو تساؤل ينطوي على كبير من الوجاهة، وبخاصة وأن التشريع الإسلامي المدون لم يحتو في الكثير من أنظمته

ص: 206

التفاصيل الوافية في بيان وسائل وأساليب التطبيقات للأحكام التشريعية في مجال الدولة.. ولم يتضمن في كثير من مواده - دستورية ونظامية - إلا الأحكام الكلية والخطوط العامة .

وإن الحياة قد قفزت في تطوراتها المدنية، قفزات هائلة وبعيدة، عادت معها تلكم الوسائل والأساليب للقرون السالفة غير ذات أهمية ونفع.

أقول: إنه تساؤل وجيه لما تقدم.. غير أننا متى أدركنا أن للامام وظيفة التشريع كما هي للنبي، وليست المسألة لديه مسألة اجتهاد قد يصيب الواقع وقد يخطىء... وإنما هي مسألة إدراك الأحكام الشرعية بواقعها (1)

و لعله إلى هذا تشير الأحاديث المتضمنة دعوة الإمام المنتظر عليه السلام الناس إلى الإسلام جديدا، وهديهم إلى أمر قد دثر فضل عنه الجمهور(2)

إننا حينما ندرك ذلك لا يبقى لدينا أي مجال الأمثال هذا التساؤل...

على أن الوسائل والأساليب خاصة، هي موضوعات، والموضوعات تختلف تبعا لتطور الحضارة والمدنية، فتتغير

ص: 207


1- يقرأ: محمد تقي الحكيم، ص 184.
2- يقرأ: موضوع (الغيبة الكبرى) من الكتاب .

أحكامها وفقا لتغيرها.. وتغير الحكم تبعا لتغير الموضوع شيء طبيعي في كل تشريع، إسلامي أو غير إسلامي.

نعم.. هناك فرق واحد بين دولة النبي صلي الله عليه و آله و ودولة حفيده الإمام المنتظر عليه السلام، يرجع إلى طبيعة الظروف أيضا،ومساعدتها في إعداد الأجواء الكافية للتطبيق، وهو في اتساع نفوذ الدولة السياسي ..

ففي دولة النبي صلي الله عليه و آله . لم يتسع نفوذها السياسي اتساعا يشمل كل العالم، وإن كانت دولة النبي صلي الله عليه و آله عالمية في أهم خصائصها، إلا أن الأجواء الاجتماعية والسياسية آنذاك لم تواتها ظروفهما لتحقيق عالميتها.

عالمية النفوذ السياسي:
اشارة

أما في دولة الإمام المنتظر عليه السلام ، فالذي نفرؤه في الأحاديث التنبؤية عن المعصومين عليهم السلام: إنها سيشمل نفوذها السياسي العالم كله، تحقيقا لوعد الله تعالى بعالمية الإسلام، في أمثال الآية الكريمة التالية :

1-«وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ »

2-«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

ص: 208

الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا»

3-«هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُدىٰ وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ».

ففي المروي عن الإمامین زین العابدين والباقر عليهماالسلام : «إِنَّ الْإِسْلَامِ قَدْ يُظْهِرَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَائِمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ».

وفي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه الإمام الباقر عليه السلام : « لَمْ يَجِي ءْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ (يعني قوله تعالی : «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» وَ لَوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا سیری مِنْ يدرکه مَا يَكُونُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ ، وليبلغن دین مُحَمَّدِ صَلِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَا بَلَغَ اللَّيْلِ ».

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضا: «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ الْمَهْدِيُّ لَا تَبْقَى أَرْضٍ إِلَّا نُودِيَ فِيهَا شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنْ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ »

وليست عالمية النفوذ السياسي هي وحدها أبرز معالم دولة الإمام المنتظر عليه السلام فهناك من خصائصها ومعالمها البارزة ، غير هذا، مما نقرؤه في النصوص التنبؤية الواردة عن المعصومين عليهم السلام.

ص: 209

وربما كان أهمها ما يأتي :

1۔ عالمية العقيدة الإسلامية

(عقيدة التوحيد)، وعمومها لكل فرد من البشر، وتطهير الأرض من كل عقائد الشرك والكفر والضلال والنفاق.

فمما يروى في هذا المجال :

أ- ما عن محمد بن مسلم : قال : قلت للباقر عليه السلام : ما تأويل قوله تعالى في الأنفال : «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ»؟

قال : لم يجيء تأويل هذه الآية، فإذا جاء تأويلها يقتل المشركون، حتى يوحدوا الله - عز وجل - وحتى لا يكون شرك، وذلك في قيام قائمنا.

ب . وما عن رفاعة بن موسی: قال : سمعت جعفر الصادق عليه السلام يقول في قوله تعالى :«وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَکرْهاً»..قال : إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها شهادة : ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

ح . ما عن عمران بن میثم عن عباية : أنه سمع أمير المؤمنين - عليه السلام يقول :«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»..أظهر بعد ذلك؟..

ص: 210

قالوا: نعم...

قال : كلا .. فوالذي نفسي بيده، حتى لا تبقى قرية إلا وينادي فيها بشهادة : ألا إله إلا الله ، بكرة وعشيا.

2- عموم العدل والأمن والرخاء.

ومن النصوص المشيرة اليه ما يلي:

أ- إذا قام القائم عليه السلام حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كل حق إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام، ويعترفوا بالإيمان.

أما سمعت الله - سبحانه - يقول : «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَکرْهاً وَإِلَیهِ یرْجَعُونَ»..

وحكم بين الناس بحکم داود عليه السلام وحکم محمد صلي الله عليه و آله.

فحينئذ تظهر الأرض كنوزها، وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعا لصدقته، ولا بره، الشمول الغني جميع المؤمنين.

ب - يقاتلون حتى يوحد الله ، ولا يشرك به شيئا، وتخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا يؤذيها أحد، ويخرج الله من الأرض نباتها، وينزل من السماء قطرها.

ص: 211

ح. إذا قام قائمنا قسم بالسوية، وعدل في الرعية، فمن أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد عصى الله.

3 - انتشار الثقافة والعلم.

ومما يشير إليه من النصوص :

ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث له: «وَ تُؤْتُونِ الْحِكْمَةَ فِي زَمَانِهِ ، حَتَّى أَن الْمَرْأَةَ لتقضي فِي بَيْتِهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسْنَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ »..

وحدة سيرة الإمام والنبي:

ومما تقوله النصوص في هذا المجال : وحدة سيرة الإمام المنتظر عليه السلام في دعوته، وسيرة جده الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله من في دعوته، بسبب تشابه ظروف الدعوتين الاجتماعية ، في طريق التمهيد لتأسيس الدولة ...

ومن تلكم النصوص ما يأتي :

أ- عن عبد الله بن عطاء المكي عن شيخ من الفقهاء (یعني أبا عبد الله الصادق عليه السلام):

قال : سألته عن سيرة المهدي : كيف سيرته؟ ..

فقال : يصنع كما صنع رسول الله صلي الله عليه و آله يهدم ما كان قبله،كما هدم رسول الله أمر الجاهلية، ويستأنف الإسلام جديدا.

ص: 212

ب - عن عبد الله بن عطاء: قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام .. فقلت : إذا قام القائم بأي سيرة يسير في الناس؟..

فقال : يهدم ما قبله كما صنع رسول الله صلي الله عليه و آله ويستأنف الإسلام جديدا.

ح. وعن أبي بصير ، قال : سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول : في صاحب هذا الأمر شبه من أربعة أنبياء: شبه من موسى، وشبه من عيسى، وشبه من يوسف، وشبه من محمد صلي الله عليه و آله ...

فقلت : ما شبه موسی؟ ..

قال : خائف، يترقب ..

قلت: وما شبه عیسی؟...

فقال : يقال فيه ما قيل في عیسی..

قلت: فما شبه يوسف؟...

قال : السجن والغيبة ..

قلت : وما شبه محمد صلي الله عليه آله ؟..

قال : إذا قام سار بسيرة رسول الله صلي الله عليه و آله ، إلا أنه يبين آثارمحمد.

ص: 213

د. وفي حديث عبد الله بن عطا مع الإمام الباقر عليه السلام : قلت : بما يسير؟.. .

فقال : بما سار به رسول الله صلي الله عليه و آله هدر ما قبله واستقبل .

ص: 214

انتظار امام
اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».«قرآن کریم»

توطئة:

في ضوء ما تعطيه اللغة لمعنى (الانتظار) حين تحدده بالترقب والتوقع... قد يتوهم: أن علينا أن نعيش في فترة الغيبة مترقبين لليوم الموعود الذي يبدؤه الامام المنتظر عليه السلام بالقضاء على الكفر، وبالقيام بتطبيق الإسلام لتعيش الحياة تحت ظلاله في دعة وأمان، غير متوفرين على القيام بمسؤولية تحكيم الإسلام في حياتنا وفي كل مجالاتها، وبخاصة مجالها السياسي بدافع من إيماننا بأن مسؤولية تحكيم الإسلام في كل مجالات الحياة هي وظيفة الإمام المنتظر عليه السلام، فلسنا بمكلفين بها الآن.

ص: 215

وقد يتوهم بأنها من عقيدة الشيعة، فتتحول عقيدتنا بالإمام المنتظر فكرة تخدير عن القيام بالمسؤولية المذكورة بسبب هذا التوهم.

إلا أننا متى حاولنا تجلية واقع الأمر بما يرفع أمثال هذه الألوان من التوهم، نجد أن منشأ هذه المفارقة هو محاولة عدم الفهم، أو سوء الفهم في الواقع.

وذلك لأن ما يفاد من الانتظار في إطار واقعه کلازم من لوازم الاعتقاد بالإمام المنتظر عليه السلام يتنافى وهذه الألوان من التوهم تمام المنافاة، لأنه يتنافى وواقع العقيدة الإسلامية التي تضم عقيدة الإمامة كجزء مهم من أجزائها .

يقول الشيخ المظفر: «ومما يجدر أن نعرفه في هذا الصدد: ليس معنی انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،...

بل المسلم أبدا مكلف بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة اليها حقيقة ، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما تمكن من ذلك وبلغت إليه قدرته (ككلم

ص: 216

راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

ولا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإن هذا لا يسقط تکلیفا، ولا يؤجل عملا، ولا يجعل الناس هملا كالسوائم»(1).

ويقول الصافي الكلبايكاني: «وليعلم أن معنى الانتظار ليس تخلية سبيل الكفار والأشرار، وتسليم الأمور اليهم، والمراهنة معهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاقدامات الإصلاحية.

فإنه كيف يجوز إيكال الأمور إلى الأشرار مع التمكن من دفعهم عن ذلك، والمراهنة معهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المعاصي التي دل عليها العقل والنقل وإجماع المسلمين.

ولم يقل أحد من العلماء وغيرهم باسقاط التكاليف قبل ظهوره (يعني الإمام المنتظر)، ولا يرى منه عين ولا أثر في الأخبار ...

نعم.. تدل الآيات والأحاديث الكثيرة على خلاف ذلك، بل تدل على تأكدرالواجبات والتكاليف والترغيب إلى مزيد الاهتمام في العمل بالوظائف الدينية كلها في عصر الغيبة .

ص: 217


1- عقائد الشيعة، ص 58.

فهذا توهم لا يتوهمه إلا من لم يكن له قليل من البصيرة والعلم بالأحاديث والروايات »(1).

فإذن ما هو الانتظار؟

إن الذي يفاد من الروايات في هذا المجال، هو أن المراد من الانتظار هو: وجوب التمهيد والتوطئة لظهور الإمام المنتظر عليه السلام.

أمثال :

1- ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله قال: «يَخْرُجُ رَجُلُ يوطىء ( أَوْ قَالَ : يُمْكِنُ ) لآِلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا مَكَّنْتَ قریش لِرَسُولِ اللَّهِ صَلِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصَرَهُ ( أَوْ قَالَ : إِجَابَتِهِ ) ...»

2 - ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله أيضا: «يَخْرُجُ نَاسُ مِنَ الْمَشْرِقِ فيوطئون لِلْمَهْدِيِّ».

3- ما روي عنه صلي الله عليه و آله أيضا: «يَأْتِي قَوْمُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، وَ مَعَهُمْ رَايَاتُ سُودُ ، فَيُسْأَلُونَ الْخَيْرِ فَلَا يُعْطُونَهُ ، فيقاتلون فينصرون ، فَيُعْطُونَ مَا سَأَلُوهُ ، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يدفعوها إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَيَمْلَأُهَا قِسْطاً ، كَمَا ملأوها جَوْراً ، فَمَنْ

ص: 218


1- منتخب الأثر في الامام الثاني عشر علیه السلام ، ص 499۔ 500 هامش .

أدرك ذلك منكم فليأتهم؛ ولو حبوا على الثلج»(1).

والروايتان : الأولى والثالثة، صريحتان في ذلك حيث تفیدانه بمنطوقهما.. أما الثانية، فالذي يبدو لي: إننا نستطيع استفادة ذلك منها من مدح النبي صلي الله عليه و آله للموطئين للامام المنتظر عليه السلام .

ويستفاد من الرواية الثالثة أيضا : إن التوطئة لظهور الإمام المنتظر عليه السلام تكون بالعمل السياسي، عن طريق إثارة الوعي السياسي، والقيام بالثورة المسلحة.

ولا أظن أن التوطئة لظهور إمام مصلح يؤسس مجتمعا جديدا، ويقيم دولة جديدة، تفيد معنى غير العمل السياسي، إما بإثارة الوعي السياسي وحده، حيث لا يقدر على الثورة المسلحة،.. وإما مع الثورة حين يكون مجالها.

وعلى أساس ما تقدم ننتهي إلى النتيجة التالية وهي:

أن الانتظار ليس هو التسليم..

وإنما هو واجب آخر يضاف إلى قائمة الواجبات الإسلامية. وهنا.. قد يثار تساؤل وجيه، هو:

في ضوء عقيدتنا بأ الإمام المعصوم هو الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية، وهو الآن غائب .

ص: 219


1- النعماني، کتاب الغيبة ، ص 174.

وفي ضوء ما انتهينا إليه من نتيجة وهي أن الواجبات لا تزال قائمة زمن الغيبة، ولا نزال مكلفين بها:

فمن هو الحاكم الأعلى، نيابة عن الإمام المعصوم علیه السلام ؟...

وما هو شكل حكومته؟ .

ضرورية الحكم الإسلامي زمن الغيبة:

وقبل أن أجيب على هذين السؤالين، أود أن أشير إلى مفارقة منهجية في بعض البحوث التي دونت حول موضوع الحكم زمن الغيبة ، وهي محاولة الاستدلال على وجوب قیام حكومة إسلامية زمن الغيبة، وبخاصة عند المحدثين - كما في بحث العلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي -.

في الوقت الذي يعتبر وجوب قيام حكم إسلامي زمن الغيبة من ضروريات الدين التي لا تحتاج إلى محاولة إثبات أو تجشم استدلال.

يقول الفيض الكاشاني: «فوجوب الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والافتاء، والحكم بين الناس بالحق، وإقامة الحدود

ص: 220

والتعزيرات، وسائر السياسات الدينية، من ضروريات الدين، وهو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبين، ولو تركت لعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفتنة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وخرجت البلاد، وهلك العباد، نعوذ بالله من ذلك»(1).

ويقول الشيخ صاحب الجوهر: «و بالجملة .. فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة»(2).

ويقول السيد البروجردي: «اتفق الخاصة والعامة على أن يلزم من محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدير أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام»(3).

ولعل ما يترتب على ترك امتثال هذا الوجوب من محاذير شرعية، يكفي في لفت النظر إلى ضروريته الدينية.

وربما كان أهمها ما يلي:

1- تعطيل التشريع الإسلامي في أهم جوانبه، وهو الجانب السياسي

ص: 221


1- مفاتیح الشرائع، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2- جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 617.
3- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، ص 52.

وحرمته من الوضوح بمكان؛ نظرا إلى أنه تشريع عطل؛ وإلى ما ينجم عن تعطيله من ارتكاب المحارم، وانتشار الجرائم، وشيوع الموبقات وأمثالها ..

يقول العلامة، في تعطيل الحدود - وهي فرع من فروع التشريع السياسي - : «إن تعطيل الحدود يفضي إلى: ارتکاب المحارم، وانتشار المفاسد؛ وذلك مطلوب الترك في نظر الشرع»(1).

ويقول الشهيد الثاني : «فإن إقامة الحدود ضرب من الحكم، وفيه مصلحة كلية، ولطف في ترك المحارم، وحسم لانتشار المفاسد»(2).

2 - الخضوع للحكم الكافر

- وهو مما ينجم عن تعطيل التشريع السياسي الإسلامي أيضا، وأفردته بالذكر هنا نظرا لأهميته ولوضوحه .

لأنه ليس وراء عدم الخضوع للحكم الإسلامي ممن يعيش في بقعة جغرافية سياسية، إلا الخضوع للحكم الكافر، لأنه لا

ص: 222


1- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- مسالك الأفهام إلى شرح شرائع الاسلام، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

ثالث للإسلام والكفر؛ إذ الحكم حكمان : حكم الله وحكم الجاهلية.

والذي يبدو لي : أن اتخاذ القدامى من فقهائنا هذا المنهج من الاستدلال، إنما هو لما حكي عما يستظهر من السيد ابن زهرة الحلبي، والشيخ ابن إدريس الحلي، من ذهابهما إلى عدم وجوب إقامة الحدود زمن الغيبة.

والتحقيق في الوقوف على وجهة نظر هذين العلمين حول المسألة - حسبما حرره الفقيه صاحب الجواهر - هو خلاف ما حكي عن ظاهرهما.

يقول - قدس سره -: «لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكي عن ظاهر ابني زهرة وادريس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه، إذ قد سمعت سابقا معقد إجماع الثاني منهما (يعني به ابن إدريس) الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم (یعني الأئمة المعصومين عليهم السلام)، فيكون حينئذ إجماعه عليه، لا على خلافه »(1).

والذي يشير إليه - هنا - بقوله «إذ قد سمعت سابقا»هو ما يحكيه عن كتاب (الغنية) للسيد ابن زهرة، وكتاب (السرائر) للشيخ ابن ادریس، في موضوع عدم جواز إقامة الحدود إلا من

ص: 223


1- ص 616.

قبل الإمام، أو من نصبه ،...

قال - قدس سره -: «وعلى كل حال : فلا خلاف أجده في الحكم - هنا - بل عن الغنية والسرائر : «الاجماع عليه، بل في المحكي عن الثاني (يعني السرائر): دعواه من المسلمين، قال (يعني ابن إدریس): والإجماع حاصل منعقد من أصحابنا، ومن المسلمين جميعا : إنه لا يجوز إقامة الحدود، ولا المخاطب بها إلا الأئمة، والحكام القائمون باذنهم في ذلك»(1).

توجيه:

والذي أخاله - في ضوء ما تقدم -: إن من يتوهم ذهابه من الفقهاء إلى إنكار الوجوب، إنما هو نتيجة سوء فهم لما يريده، إذ ربما كان ذلك الفقيه يقصد سقوط امتثال الوجوب لا إنكار الوجوب، وذلك لعدم القدرة على القيام بامتثاله بسبب وجود موانع سیاسية أو غيرها.

على أنه لا يحتمل ذهاب فقيه إلى القول بانکار الوجوب؛ لأنه قول بما يخالف الضرورة من الدين، ولاستلزامه جوازالخضوع للحكم الكافر، وهو محرم بالضرورة أيضا.

وسیقف القاريء الكريم - فيما بعد - على محاولة عرض

ص: 224


1- ص 615.

معالجة أمثال هذه الموانع - متى تثبت - کمشكلة من مشاكل تطبيق النظام .

فصل الدين عن السياسة:

وأود أن أنبه إلى شيء آخر أيضا، وهو: إننا ربما عدنا - من تاحية منهجية -بسبب ما نعانيه اليوم من انتشار الذهنية الغربية التي تؤمن بفصل الدين عن السياسة لدى الكثير من أبناء أمتنا.

أقول: ربما عدنا ملزمين بأن نشير في مداخل بحوثنا حول الحكم الإسلامي إلى ما في هذه النظرة من مفارقة تبعدنا تماما عن واقع الإسلام الذي لا يعترف بفصل الدين عن السياسة ، وإنما يعتبر السياسة جزءا من الدين، والذي يعد ذلك من ضروریاته التي لا تحتاج - بطبيعتها - إلى أكثر من الالتفات والتنبه اليها.

ولعل ما نلمسه من واقع ذلك. باستقراء التشريع الإسلامي، وبقراءة تاريخ الحكومات الإسلامية كاف في لفت النظر إليه ، وفي التنبه عليه.

على أن فقهاءنا - وبخاصة المعاصرين منهم - أكدوا كثيرا على جانبي: اشتمال الإسلام على النظم الكاملة التي منها النظام السياسي، ولزوم القيام بتطبيقها كاملة .

ص: 225

ولعله لما يرونه من شيوع هذه الذهنية الغربية لدى أبناء المسلمين.

يقول السيد الحكيم جوابا للسؤال التالي الذي وجه لجملة من مراجع التقليد بتاريخ (3/26/1379 ه-) حينما حاول أعداء الإسلام إثارة الغبار حول توفر الإسلام على نظام کامل للحياة ، مستغلين فرصة عدم تطبيقه، وعدم فهم الأمة له نتيجة فصله عن الدولة، وإبعاده عن مناهج التربية والتعليم.

والسؤال هو:

«هل في الإسلام نظام متكامل شامل، يتناول جميع مظاهر الحياة بالتنظيم، وجميع مشاكل الإنسان بالحل الصحيح الناجع، ويعنى بشؤون الفرد والمجتمع عناية تامة في مختلف وشتى مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها؟»«وهل الدعوة إلى تطبيق هذا النظام الإسلامي واجبة على المسلمين؟..»(1) يقول - دام ظله العالي -: «نعم.. في الإسلام النظام الكامل على النهج المذكور في السؤال، ويتضح ذلك بالسبر والنظر في الأوضاع التي كان عليها المسلمون في العصور الأولى»..

ص: 226


1- مخطوطة لدى المؤلف .

«وتجب الدعوة إلى هذا التطبيق»(1).

ويقول السيد میرزا عبد الهادي الشيرازي جوابا للسؤال المتقدم: «لا ريب في أن دين الإسلام هو النظام الأتم الأكمل، لما فيه الحل الصحيح لجميع مشاكل الإنسان في جميع الأعصار والأدوار».

«ويجب الدعوة إلى تطبيقه»(2).

ويقول السيد میرزا مهدي الشيرازي جوابا للسؤال المتقدم أيضا: «نعم.. الإسلام نظام متكامل شامل لجميع مظاهر الحياة، ويحل جميع مشاكل الإنسان، بأفضل حل، لم يسبقه في ذلك سابق، ولا يلحقه فيه لاحق، صالح للتطبيق في جميع الأزمنة والأمكنة، قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا».

«والدعوة إلى تطبيق الإسلام واجبة على جميع المسلمين، قال الله تعالی : «ادعُ إِلىٰ سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ۖ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ»...

ويقول السيد البروجردي: «لا يبقى شك لمن تتبع قوانین

ص: 227


1- نفس المصدر .
2- مخطوطة لدى المؤلف

الإسلام وضوابطه، في أنه دين سياسي اجتماعي، وليست أحكامه مقصورة على العباديات المحضة المشروعة لتكميل الأفراد، وتأمين السعادة في الآخرة، بل يكون أكثر أحكامه مربوطة بسياسة المدن، وتنظيم الاجتماع، وتأمين سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحسنيين، ومرتبطة بالنشأتين، وذلك كأحكام المعاملات والسياسات من الحدود والقصاص والديات والأحكام القضائية المشروعة لفصل الخصومات، والأحكام الكثيرة الواردة لتأمين الماليات التي يتوقف عليها حفظ دولة الإسلام کالأخماس والزكوات ونحوها.. ولأجل ذلك اتفق الخاصة والعامة على أنه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدبر أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام»(1).

ويقول - قدس سره - أيضا: «لا يخفى أن سياسة المدن وتأمين الجهات الاجتماعية في دين الإسلام لم تكن منحازة عن الجهات الروحانية، والشؤون المربوطة بتبليغ الأحكام وإرشاد المسلمين، بل كانت السياسة فيه من الصدر الأول مختلطة بالديانة ومن شؤونها، ..

فكان رسول الله صلي الله عليه و آله و بنفسه يدبر أمور المسلمين، و ويسوسهم، ويرجع إليه في فصل الخصومات، وينصب الحكام

ص: 228


1- ص 52.

للولايات، ويطلب منهم الأخماس والزكوات ونحوهما من الماليات.

وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده من الراشدين وغيرهم، حتى أمير المؤمنين عليه السلام فإنه بعدما تصدى للخلافة الظاهرية، كان يقوم بأمر المسلمين، وينصب الحكام والقضاة للولايات.

وكانوا في بادىء الأمر يعملون بوظائف السياسة في مراكز الإرشاد والهداية كالمساجد، فكان إمام المسجد بنفسه أميرا لهم،.. وبعد ذلك كانوا يبنون المسجد الجامع قرب دار الإمارة، وكان الخلفاء والأمراء بأنفسهم يقيمون الجمعات والأعياد، بل ويدبرون أمر الحج أيضا، حيث إن العبادات الثلاث مع كونها عبادات قد احتوت على فوائد سياسية، لا يوجد نظيرها في غيرها كما لا يخفى على من تدبر .

وهذا النحو من الخلط بين الجهات الروحية والفوائد السياسية من خصائص دين الإسلام وامتيازاته»(1)

ص: 229


1- ص 53.
رئيس الدولة
اشارة

إن أولى الناس بالأنبياءأعلمهم بما جاءوا به . «الإمام أمير المؤمنین»

نائب الإمام (أو الحاكم الأعلى زمن الغيبة)
اشارة

وهنا.. وبعد أن انتهيت من الحديث حول المفارقة -المنهجية التي أشرت اليها، يأتي دور الاجابة على أول السؤالين المتقدمين، لنتعرف على الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية، الذي يقوم بوظيفة النيابة عن الإمام المنتظر عليه السلام، في فترة الغيبة :

متى حاولت أن أبحث المسألة بحثا موضوعيا لأعطي - الجواب صورة تامة المعالم والملامح، أراني ملزما من ناحية منهجية بعرض جميع الأقوال في المسألة، فالاشارة إلى دليل

ص: 230

كل منها، محاولا المقارنة بينها ..

ربما كانت الأقوال في النيابة عن الإمام، أو في الحاكم الأعلى عصر الغيبة، ترجع إلى ما يلي :

ا- من يعينه المسلمون.

2 - الفقيه العادل .

3- الأعلم.

ص: 231

1- الحاكم الأعلى هو من يعينه المسلمون حصيلة الاستدلال:
اشارة

وحصيلة الاستدلال على هذا القول بما يلي :

إن الآيات القرآنية الكريمة التي تضمنت الأوامر الإلهية بتطبيق النظام الإسلامي، تعمم الخطاب إلى المسلمين كافة، أمثال :

1-«أَقِيمُوا الصَّلاةَ»[الأنعام: 72]

2-«وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ »[البقرة : 195].

3-«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»[البقرة : 183].

4-«وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ] [آل عمران : 104]

5-«جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ»[المائدة : 35]

6- ووجهوا في البر حق جهاده که [الحج: 78].

7-«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا »[النور: 2.]

8-«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»[المائدة : 38]

ص: 232

9-«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ»[البقرة : 179]

10-«وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ»[الطلاق: 2]

11-«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا »[آل عمران :103]

12-«أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ»[الشوری : 13]

13-«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»[آل عمران: 144].

يضاف إليه :

إن المستفاد من جميع الآيات المذكورة أعلاه: «إن الدين صبغة اجتماعية، حمله الله على الناس، ولا يرضى لعباده الكفر، ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم»(1).

وفي زمان النبي صلي الله عليه و آله ، حيث أنيطت المسؤولية الأولى لتطبيق النظام به صلي الله عليه و آله ، وامتثل هذا التكليف من قبله صلي الله عليه و آله ، وتحققت الغاية من تشريعه ، سد مجال التكليف(2).

وكذلك في زمان حضور الإمام المعصوم، وبخاصة عند

ص: 233


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج4 ص 130.
2- يقرأ: الطباطبائي، ص 130.

توليه السلطة .

وفي زماننا (زمن الغيبة) حيث لم يسد مجال التكليف من قبل الإمام المعصوم المنصوص عليه، وهو الإمام المنتظر عليه السلام ، وذلك لغيبته، يبقى الامتثال مفروضا على عامة المكلفين.

يقول السيد الطباطبائي: «أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي صلي الله عليه و آله ، وبعد غيبة الإمام - كما في زماننا الحاضر - إلى المسلمين من غير إشكال ..

والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك: إن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلي الله عليه و آله ، وهي سنة الإمامة، دون الملوكية والامبراطورية، والسير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير، والتولي بالشورى في غيرالأحكام من حوادث الوقت والمحل - كما تقدم -.

والدليل على ذلك كله : جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي(1) صلي الله عليه و آله.. مضافة إلى قوله تعالى :«وَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي

ص: 234


1- الآيات هي: أ- أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. (التغابن 12). ب - لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ... (النساء 105). ح. النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.. (الأحزاب 6). د-قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... (آل عمران 31). يراجع: الطباطبائي، ص 129. الطباطبائي، ص 132.

رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»[الأحزاب 121].(1)

ويناقش هذا الاستدلال بما خلاصته:

1- إن الدليل المذكور - على تقدير تماميته - لا يؤخذ بما أنهي إليه إلا عند عدم ثبوت نيابة الفقيه العادل عن الإمام عليه السلام - وهو القول الثاني - أو ثبوت حكومة الأعلم - وهو القول الثالث-.

أما عند ثبوت نيابة الفقيه العادل عن الإمام عليه السلام ، أو حكومة الأعلم، حيث يسد مجال التكليف بقيامه بمسؤولية الحكم، فيؤخذ بما أنهي إليه الدليل المذكور عند عدم وجود الفقيه العادل أو الأعلم فقط، كما هو الأمر في النبي صلي الله عليه و آله ، والإمام عليه السلام ..فيلتقي هنا - في الواقع - مع ما يفيده دلیل (الحسبة) حيث يلزم بقيام عدول المؤمنين بتطبيق النظام .. .

وعلى أقل تقدير فيما يفيده : هو قيامهم بتطبيقه في المجالات التي يتوقف عليها تقویم وحفظ كيان المجتمع

ص: 235


1- الطباطبائي، ص132.

الإسلامي، والذي يقطع بغضب الله تعالى وسخطه عند تعطیله فيها.

2 - إن الدليل المذكور - على تقدير تماميته - يرد عليه : إن الطريقة التي يتبعها المسلمون في تعيين الحاكم الأعلى لم تبين بلسان الشرع.

وفي مثله - عادة - يرجع إلى العقل وما يحكم به.

والذي يبدو : إن طريقة تعيين الحاكم الأعلى من قبل المسلمين - هنا - منحصرة في الانتخاب .

وهو (أعني الانتخاب) على نحو الاتفاق الكامل من جميع المسلمين متعذر .

والعقل - هنا - لا يستطيع أن يرجح أي لون من ألوان الانتخاب المحتملة، أمثال :

- احتمال الأخذ برأي الأكثرية .

- احتمال الأخذ برأي الأقلية ..

- احتمال إشراك النساء..

- احتمال عدم إشراكهن ..

وما شاكل.

وذلك لتكافؤ الاحتمالات، وعدم وجود قدر متیقن في البين، غير الاتفاق الكامل، وهو متعذر هنا - كما أشرت إليه ..

ص: 236

2 - الحاكم الأعلى هو الفقيه العادل
منهج البحث لدى الفقهاء:
اشارة

يمنهج الفقهاء - رضوان الله عليهم - البحث حول موضوع الحكم الإسلامي في عصر الغيبة إلى جانبين هما:۔

أ- البحث حول أصل مسألة الحكم الإسلامي زمن الغيبة .

ب - والبحث حول نيابة الفقيه العادل عن الإمام المنتظر عليه السلام صاحب الحق الشرعي في رئاسة الدولة .

وربما كان ذلك تمشيا على ضوء طريقتهم المنهجية المتبعة في البحث الفقهي الاستدلالي وهي : الاستدلال - أولا - على أصل المسألة، فالبحث - ثانيا - عن تفريعاتها.

وربما كانت في مقابل من يتوهم منه الانكار لأصل المسألة - كما ألمحت اليه -.

وأيا كانت دواعيهم - رضوان الله عليهم -، فالذي أراه مناسبا هو استعراض المسألة على ضوء منهجهم.. وإن كانت المنهجة الأصيلة تأبى ذلك، وتعتبره مفارقة منهجية، بعد ثبوت المسألة بالضرورة من الدين - كما أشرت إليه في مدخل البحث-.

غير أني سأحاول إدخالها في قائمة الأدلة على الجانب

ص: 237

الثاني من البحث، وهو نيابة الفقيه العادل، لصلاحيتها للاستدلال بها على ذلك، ولأجل المحافظة على أصالة المنهج..

أدلته:

وهي كما يلي:

1- الدليل الاجتماعي التاريخي:

وهو الدليل الذي استدل به على لزوم قيام حكومة إسلامية في مجتمع المسلمين زمن الحضور ..

وخلاصته :

إن الحكومة ظاهرة اجتماعية، فرضتها حاجة المجتمع إلى الأمن وحفظ الحقوق وإشاعة العدالة.

وإن المجتمع الإسلامي ليس بدعا من المجتمعات البشرية في طبيعة ما يستلزمه تنظيم علاقاته من تشريع نظام اجتماعي بغية تحقيق الأمن وحفظ الحقوق وإشاعة العدالة بين أفراده، وقيام حكومة تقوم على تنفيذ ذلك النظام لتحقيق الغاية من تشريعه .

ولو كان مجتمع المسلمين يختلف عنها في طبيعة حاجته إلى ذلك، لكان النبي صلي الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام أولى وألزم ببيان

ص: 238

ذلك والتنبيه عليه.

وحيث لم ينبها على ذلك، فهو إذن . أعني مجتمع المسلمين - كبقية المجتمعات البشرية في لزوم قيام حكومة فيه .

بهذا الدليل نفسه يستدل على وجوب إقامة دولة إسلامية زمن الغيبة، على اعتبار أن مجتمع المسلمين زمن الغيبة هو الآخر لا يختلف عن المجتمعات البشرية في طبيعة حاجته إلى النظام، وإلى الحكومة، لتقوم على تنفيذه لتحقيق الغاية من تشريعه .

يقول السيد البروجردي: «إن في الاجتماع أمورا لا تكون من وظائف الأفراد ولا ترتبط بهم، بل تكون من الأمور العامة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام الإجتماع، مثل: القضاء، وولاية الغيب والقصر، وبيان مصرف اللقطة والمجهول المالك، وحفظ الانتظامات الداخلية، وسد الثغور، والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء، ونحو ذلك مما يرتبط بسياسة المدن.

فليست هذه الأمور مما يتصدى لها كل أحد، بل تكون من وظائف قيم الاجتماع، ومن بيده أزمة الأمور الإجتماعية، وعليه أعباء الرياسة والخلافة»(1)

ص: 239


1- ص 52.

ويضاف إليه :

إن العقل يحكم - بعد تسليم هذه المقدمة المذكورة لثبوتها بما برهن عليه في محله - بدوران الأمر - بسبب لزوم حاجة المجتمع المسلم إلى الحكومة - بین :

قیام حكومة إسلامية أو قيام حكومة كافرة لأنه لا ثالث للكفر والإسلام.

فيتفرع عليه : وجوب قيام حكومة إسلامية لحرمة الخضوع للحكم الكافر - كما سيأتي -.

كذلك يحكم العقل - هنا - بدوران الأمر - بعد ثبوت وجوب قيام حكومة إسلامية - بین اعتبار الحاكم هو من تختاره الأمة مطلقا، وبين الفقيه العادل .

ولما كان اعتبار الفقيه العادل حاكما ثابت - كما سيأتي - و اعتبار من تختاره الأمة حاكما موضع شك.. يتعين اعتبار الفقيه العادل حاكما.

2 - الدليل العقائدي:

ويتلخص :

بأن العقيدة الإسلامية تملي على المسلم وجوب القيام بتطبيق الإسلام في حياته .

ص: 240

والإسلام - كما هو واقعه - وكما يستفاد من استقراء أحكامه وتشريعاته - نظام كامل على جميع التشريعات التي تتطلبها الحياة في مختلف مجالاتها: فردية وجماعية .. اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها.

ومن البديهي أن قسما من هذه التشريعات أمثال : التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا يتم تطبيقها إلا عن طريق السلطة الحاكمة. وعليه .. فلا بد من قيام دولة إسلامية عصر الغيبة .

ومن هنا عادت الحكومة الإسلامية من ضروريات الدين أيضا.

وهنا .. نقول أيضا: إن المسألة تدور بين أن يعود أمر الحكومة الإسلامية : إلى الأمة وإلى اختيارها .. أو إلى الفقيه العادل نيابة عن الإمام المنتظر عليه السلام صاحب الحق الشرعي في رئاسة الدولة.

وحيث قد ثبت الثاني - كما سيأتي - يكون هو المتعین .

3- الدليل العقلي:

وموجزه:

إن العقل الحاكم بلزوم نصب الإمام حاكما للدولة

ص: 241

الإسلامية والرئاسة العامة بعد النبي صلي الله عليه و آله لأجل حفظ الإسلام بصفته مبدأ، ورعاية شؤون المسلمين بصفتهم أمة ..

إنه نفسه يحكم بلزوم نصب من يقوم مقامه حال غيبته للغاية نفسها.. وليس هو إلا الفقيه العادل لثبوت نیابته عن الإمام - كما سيأتي -.

يقول صاحب الجواهر في الاستدلال على وجوب إقامة الحدود من قبل الفقهاء: «إن المقتضي لإقامة الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه يعني به الإمام عليه السلام) قطعا، فتكون عائدة إلى مستحقه،وإلى نوع المكلفين (يعني الأمة)..

وعلى التقديرين لا بد من إقامته مطلقا.

وثبوت النيابة لهم (يعني الفقهاء) في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع.. .

بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب ؛ فإن كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم والمراد به نائب الغيبة في سائر المواضع..

قال الكركي - في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة -:

«اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع الشرائط

ص: 242

الفتوى - المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية - نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل»(1).

على أننا - فيما يبدو لي - إذا لم نلتزم بثبوت حكم العقل بلزوم نصب حاكم عام للدولة الإسلامية زمن الغيبة، يكون الدليل المشار إليه قاصرا عن إثبات الإمامة ...

ويترتب عليه ما يلي:

1- انحصار دليل الإمامة بالنص (النقل).

2 - صحة الرأي الأول - على تقدير تمامية دليله - القائل برجوع أمر الحكومة في غير موارد النص - كما في زمن الغيبة - إلى المسلمين .

3- أو نقول: إن الغاية من نصب الإمام بعد النبي صلي الله عليه و آله عقلا، هي: قيام الإمام بمهمة إتمام عملية التغيير الاجتماعي الشامل الذي استهدفه الإسلام بصفته حركة اجتماعية ثورية ؛ وذلك لانهاء فترة الانتقال حيث تتم فيها عملية التغيير الاجتماعي الشامل إن تم دليل هذا الرأي -.

وفي ضوئه:

يعود أمر تشريع قضية الحكومة إلى الإمام الذي ستنتهي

ص: 243


1- ص 118.

على يديه فترة الانتقال بانهاء عملية التغيير الاجتماعي الشامل .

إلا أنه حيث لم توات الظروف التاريخية الأئمة عليهم السلام لقيام بمهمة إنهاء فترة الانتقال يعود الأمر إلى التماس الحكم من النصوص إن كانت،.. وإلا فمن العقل(1) .

ولما كان الدليل العقلي المشار إليه ثابتا - كما هو مبرهن عليه في محله - فلابد من الأخذ بما ينهي إليه، وهو : حكم العقل بلزوم نصب حاكم للمسلمين زمن الغيبة ؛ وليس هو إلا الفقيه العادل .

وذلك لدوران الأمر بين عدم النصب أو نصب الفقيه العادل .

حيث ثبت بطلان الأول (وهو عدم النصب) بالدليل العقلي المشار إليه، يتعين الثاني (وهو نصب الفقيه العادل).

4 - الدليل النقلي:

استدل بنصوص من الكتاب والسنة .. أهمها ما يلي :

أ- من الكتاب :

استدل بأن الخطابات القرآنية الواردة في أمثال قوله تعالی :

ص: 244


1- الرأي المشار إليه لأستاذي الجليل العلامة المحقق السيد محمد تقي الحكيم. تراجع: محاضراته في التاريخ الإسلامي على طلبة كلية الفقه .

في آية حد الزني(1) ، وقوله تعالى : (فاقطعوا) - في آية حد السرقة -(2)، مطلقة تشمل زماني الحضور والغيبة(3).

ولم يرد ما يدل على تقييدها بزمن الحضور ...

فإذن على عامة المسلمين امتثالها.

إلا أنه مع صدور الإذن من الأئمة عليهم السلام للفقهاء بتطبيق كثير من جوانب النظام الاجتماعي العام - التي هي من وظائف وصلاحيات الحاكم العام(4) - الذي يفاد منه الإذن بالجميع؛ وذلك للقطع الذي يستفاد من سيرة الأئمة عليهم السلام، وحرصهم الشديد على القيام بأداء مسؤوليتهم من تبليغ الأحكام وتطبيقها ..

يكون على الفقهاء القيام بامتثالها.

فيتعين - على ضوئه - نصب الفقيه العادل حاكما عاما للمسلمين من قبل الأئمة عليهم السلام .

يقول الفيض الكاشاني: «وكذا إقامة الحدود والتعزیرات وسائر السياسات الدينية، فإن للفقهاء المؤمنين إقامتها في الغيبة بحق النيابة عنه عليهم السلام ...

ص: 245


1- الآية 2 من سورة النور .
2- الآية 38 من سورة المائدة .
3- يراجع: الجواهر، ص 617.
4- للتعرف على تلك الموارد المأذون فيها يقرأ: السيد المراغي،ص353.. والسيد آل بحر العلوم، ص 384.

لأنهم مأذونون من قبلهم عليهم السلام في أمثالها كالقضاء والإفتاء وغيرهما ..

ولاطلاق أدلة وجوبها...

وعدم دليل على توقفه على حضوره عليه السلام »(1)

ويقول السيد البروجردي: «إنه لما كان هذه الأمور والحوائج الاجتماعية مما يبتلى بها الجميع مدة عمرهم غالبا، ولم يكن الشيعة في عصر الأئمة متمكنين من الرجوع اليهم عليهم السلام في جميع الحالات، كما يشهد بذلك - مضافا إلى تفرقهم في البلدان - عدم كون الأئمة مبسوطي اليد، بحيث يرجع اليهم في كل وقت، لأي حجة اتفقت ، فلا محالة يحصل لنا القطع بأن أمثال: زرارة، ومحمد بن مسلم، وغيرهما من خواص الأئمة، سألوهم عمن يرجع إليه في مثل تلك الأمور العامة البلوى، التي لا يرضى الشارع بإهمالها، بل نصبوا لها من يرجع إليه شيعتهم إذا لم يتمكنوا منهم عليهم السلام ، ولا سيما مع علمهم عليهم السلام بعدم تمکن أغلب الشيعة من الرجوع اليهم، بل عدم تمكن الجميع في عصر غيبتهم التي كانوا يخبرون عنها غالبا، ويهيئون شيعتهم لها..

وهل لأحد أن يحتمل أنهم عليهم السلام نهوا شيعتهم عن

ص: 246


1- كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرجوع إلى الطواغيت وقضاة الجور، ومع ذلك أهملوا لهم هذه الأمور، ولم يعينوا من يرجع إليه الشيعة في فصل الخصومات، والتصرف في أموال الغيب والقصر، والدفاع عن حوزة الإسلام، ونحو ذلك من الأمور المهمة، التي لا يرضى الشارع باهمالها؟..

وكيف كان .. فنحن نقطع بأن صحابة الأئمة غير عليهم السلام سألوهم عمن يرجع إليه الشيعة في تلك الأمور مع عدم التمكن منهم عليهم السلام، وإن الأئمة عليهم السلام أيضا أجابوهم بذلك، ونصبوا للشيعة مع عدم التمكن منهم عليهم السلام أشخاصا يتمكنون منهم إذا احتاجوا..

غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة والأجوبة من الجوامع التي بأيدينا، ولم يصل الينا إلا ما رواه عمر بن حنظلة وأبو خديجة .

وإذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم عليهم السلام ، وانهم لم يهملوا هذه الأمور المهمة، التي لا يرضى الشارع باهمالها - ولا سيما مع إحاطتهم بحوائج شيعتهم في عصر الغيبة - فلا محالة يتعين الفقيه لذلك إذا لم يقل أحد بنصب غيره.

فالأمر يدور :

بين عدم النصب ..

وبين نصب الفقيه العادل ..

ص: 247

وإذا ثبت بطلان الأول - بما ذكرنا - صار نصب الفقيه مقطوعة به ..

ويصير مقبولة ابن حنظلة من شواهد ذلك ..

وإن شئت ترتیب ذلك على النظم القياسي، فصورته هكذا: إما أنه لم ينصب الأئمة عليهم السلام أحدا لهذه الأمور العامة البلوي ..

وإما أن نصبوا الفقيه لها..

لكن الأول باطل، فثبت الثاني ..

فهذا قياس استثنائي مؤلف من قضية منفصلة حقيقية، وحملية دلت على رفع المقدم، فينتج وضع التالي .. وهو المطلوب (1)

ويناقش بما خلاصته :

بأن الإذن من الأئمة عليهم السلام للفقهاء ببعض التصرفات العامة لا يستلزم الإذن بالجمعي، لما سيأتي في مناقشة هذا الرأي بصورة عامة، من أن العقل - هنا - يستبعد نصب كل فقيه عادل لرئاسة الدولة لما يترتب عليه من محاذير .

ب - من السنة :

ص: 248


1- ص 55، 56، 57.

استدل بروايات عدة، وعلى طوائف مختلفة ..

وربما كان أهمها ما يلي:

ا- مقبولة عمر بن حنظلة، وهي: «قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟

فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له، فإنما يأخذ سحتا، وإن كان حقه ثابتا؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت، وقد أمر الله - عز وجل - أن يكفر به ..

قلت : كيف يصنعان؟...

قال : انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما بحكم الله أستخف، وعلينا رد، والراد علينا راد على الله، وهو على حد الشرك بالله »(1).

وخلاصة الاستدلال بها:

إن قوله عليه السلام: «فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً» ظاهر في

ص: 249


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تفصيل أحكام الشريعة، مج3، کتاب القضاء، باب أنه يشترط فيه الإيمان والعدالة

إعطاء الولاية العامة للفقيه العادل ، وذلك أن قوله عليه السلام : «جعلته»يفيد نصب الفقيه العادل من قبل الإمام عليه السلام ...

وإن قوله عليه السلام: «حاكما»ظاهر في إفادة الولاية العامة لمختلف المجالات والشؤون الاجتماعية العامة، حيث إن الحاكم - فيما يفهم من مدلول الكلمة -: «هو الذي يرجع إليه في جميع الأمور العامة الاجتماعية التي لا تكون من وظائف الأفراد، ولا يرضى الشارع - أيضا - باهمالها، ولو في عصر الغيبة، وعدم التمكن من الأئمة عليهم السلام»(1).

ويناقش بما حاصله:

أولا : إن الرواية واردة في القضاء، كما هو ظاهر السؤال حيث إنه يدور حول المنازعة في دين أو ميراث، فتعميم مدلولها إلى القضاء وسائر شؤون الحكم يفتقر إلى دليل؛ وبخاصة وأن الرواية في ملابساتها التاريخية واردة في نوع من القضايا التي تقع زمن الحضور من الأمور التي يستطيع الشيعة أن يستقلوا بها عن الرجوع إلى القضاة الرسميين والحكام آنذاك .

وفي ضوئه : فالتفكير من قبل الشيعة بأن يستقلوا بحكومة

ص: 250


1- البروجردي، ص57.

خاصة يرأسها الفقيه العادل بعيد جدا.

ولعوامل أخر منها :

وجود الإمام ...

ولما يبدو من الملابسات التاريخية للسؤال، حيث إنهم (أعني الشيعة) أمام أمر واقع من نفوذ سلطان الحكومات القائمة آنذاك، الشيء الذي يدعوهم إلى محاولة التخلص والخروج من عهدة التكليف ولو بهذه الصورة التجزيئية من التطبيق.

وأجيب عنه:

بأن التشريع الإسلامي لا يفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) فقد رأينا النبي صلي الله عليه و آله، ورأينا خلفاءه أمثال: الإمام أمير المؤمنین عليه السلام يجمعون بين السلطات الثلاث، كما يثبت التاريخ ذلك، وكما هو ظاهر «من بعض الأخبار أنه كان شغل القضاء ملازما عرفا لتصدي سائر الأمور العامة البلوى، كما في خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا عليه السلام : وعن الرجل يموت بغير وصية وله ورثة صغار وكبار،.. أيحل شراء خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك؟...»(1).

ص: 251


1- م.ن.

فحمل الرواية على إرادة القضاء، وحده يتطلب إثبات استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وذلك بعيد جدا..

إلا أنه يرد:

بأن التشريع الإسلامي لا يفصل بين السلطات في منصب الخلافة، على اعتبار أن الجمع بين السلطات من حق الخليفة بصفته خليفة ..

أما القاضي أو الفقيه العادل الذي نحاول إثبات نیابته العامة بأمثال هذه الرواية لا نستطيع الذهاب إلى أن التشريع الإسلامي لا يفصل بين السلطات في منصبه على اعتبار أنها من حقوقه بصفته قاضيا أو فقيها؛ لأنه لا دليل على ذلك.

بل لعل ما يفيده التاريخ الإسلامي هو استقلال القاضي بوظيفة القضاء وحده، أو بها وببعض الأمور التنفيذية التي ترتبط إلى حد كبير بالقضاء - وهي التي أشير اليها في خبر اسماعيل المتقدم - كما هو ظاهر سيرة القضاة المنصوبين من قبل الخلفاء .

وثانيا : بأن الظاهر من الحاكم هو «من له وظيفة الحكم بين الناس، فيختص بفصل الخصومة، أو مطلقا فيشمل الفتوى، كما يناسبه العدول عن التعبير بالحكم إلى التعبير بالحاكم،

ص: 252

حيث قال عليه السلام: فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاکما»(1).

وبخاصة وإن كلمة (حاکم) لم يثبت استعمالها بمدلولها الواسع زمن صدور الرواية .

2- مقبولة أو مشهورة أبي خديجة .. وهي: «قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام اياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه»(2).

وأستدل بها:

وأستدل بها على نصب الفقيه العادل حاكما عاما من قبل الإمام عليه السلام بما تضمنته من تحذير الإمام عليه السلام ونهيه أن يتحاكم إلى أهل الجور، ومن أمره عليه السلام بالرجوع إلى الفقيه ، وبتصريحه بجعله قاضيا ليتحاكم إليه، ولا فصل بين القضاء وبقية شؤون الحكم الأخرى في التشريع الإسلامي - كما تقدم -.

وفي ضوئه: فنصبه عليه السلام الفقيه قاضيا لا يعني إرادة

ص: 253


1- الإمام الحكيم، نهج الفقاهة، ج 1 ص 300.
2- الحر العاملي، المصدر السابق .

القضاء وحده، بعد علمنا بعدم الفصل بين سلطتي القضاء والتنفيذ.

ونوقش بما يلي:

بأن الجمع بين السلطات من حقوق الخليفة، وليس من حقوق القاضي - كما مر في مناقشة الرواية قبلها -، فجعل الفقيه قاضية «إنما يقتضي أن يكون له وظيفة القضاة من فصل الخصومة فقط، أو ما يعمه وبعض الأمور الأخر، مثل الولاية على أخذ الحق من المماطل، وحبسه، وبيع ماله، والتصرف في مال القصير، ونصب القيم عليه، ونحو ذلك مما يثبت كونه من وظائف القضاة في عصر صدور الرواية المذكورة»(1).

3- التوقيع الشريف الصادر من الإمام المنتظر عليه السلام إلى الشيخ المفيد .. وهو: «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله تعالى»(2).

ص: 254


1- الإمام الحكيم، المصدر السابق .
2- الجواهر، ص 617... وفيما يرويه السيد صدر الدين الصدر «وأنا حجة الله عليهم» تقرأ: ص 182.

وملخص الإستدلال به:

إن الرواية ظاهرة في إرادة كون الفقيه حجة فيما فيه الإمام عليه السلام حجة الله على المسلمين، ومنها - كما هو بديهي - تولي شؤون الحكم العامة(1).

هذا على المشهور من متن الرواية المتضمن عبارة (حجتي) ..

أما على ما في بعض الكتب حيث تضمنت الرواية عبارة (خليفتي) بدل (حجتي)(2)، تكون «أشد ظهورا، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفا، نحو قوله تعالى : «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(3)

ونوقش:

بأن «إجمال الحوادث المسؤول عنها مانع من التمسك به، إذ من المحتمل أن يكون المراد منها الحوادث المجهولة الحكم» .

ص: 255


1- يراجع: الجواهر، ص 617.
2- يقرأ: الجواهر، ص 617.
3- م.ن.

والذي يؤخذ على هذا القول بصورة عامة :

هو أن الاطلاقات القرآنية التي استدل بها - هنا - لا تدل على أكثر من وجوب تطبيق النظام من قبل عامة المسلمين.

وإن النصوص التي استدل بها على نصب الفقيه العادل لتكون مقيدة لإطلاقات القرآن غير وافية بذلك.

يضاف إليه :

إن نصوص السنة - على تقدير تمامية دلالتها على نصب الفقيه العادل - تدل على نصب مطلق الفقيه العادل ، ... فتكون رئاسة الدولة - على ضوئه - من حق كل فقيه ..

وهو أمر أقل ما ينجم عنه الفوضى في إشغال المنصب والقيام بالتطبيق - كما سألمح إليه - .

وكذلك الأدلة الأخرى (العقلي والعقائدي والاجتماعي التاريخي) لا تدل على أكثر من لزوم وجود حكومة إسلامية زمن الغيبة، لما فيها من إطلاق يشمل زماني الحضور والغيبة ،.. .

وذلك لأن اعتبار الفقيه العادل حاكما موقوف على تمامية دلالة ما تد نصوص السنة على ذلك، لتكون مقيدة لذلك الاطلاق، وهي غير ناهضة : لقصور ظهورها في إعطاء الولاية العامة للفقيه العادل ..

ص: 256

ولما يرد عليها من محذور - إن تمت دلالتها - كما أشرت إليه ..

فإذن .. لا بد من التماس مقيد لتلكم الاطلاقات ينهض بتعيين الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية،.. وهو ما سنقف عليه في القول الاتي.

3- الحاكم الأعلى هو الأعلم
اشارة

يعني بالأعلم - هنا - الأعلم المطلق، وهو (الأفقه).

ويشترط فيه : توفره على العدالة ؛ لأنها شرط أساسي في أمثال منصب الرئاسة العامة .

وخلاصة ما استدل به لهذا القول:

إن إطلاق الأدلة الأربعة المتقدمة في القول الثاني(الاجتماعي التاريخي، والعقائدي، والعقلي، والاطلاقات القرآنية) - التي مر ثبوت تمامية دلالتها على إلزام المسلمين بإيجاد حكومة إسلامية زمن الغيبة ..

إن إطلاقها يقيد بالنص الوارد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، والذي يفيد تعيين (الأعلم) المطلق حاكما عاما، وهو:

ص: 257

«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ »(1).

ونوقش:

بأن الأولوية في النص مجملة فلا يستطاع الأخذ بهما.

وردت:

بأن الأولوية - هنا ظاهرة في قيام الأعلم مقام الأنبياء في منصب رئاسة الأمة، لمناسبة الحكم للموضوع.

على أنه إذا لم يوقف على نص خاص يوضح للمسلمين كيفية امتثال هذا التكليف، يرجع في أمثاله - عادة - إلى حكم العقل ..

والصور التي يراها العقل محتملة - هنا - هي ما يلي :

1- أن يراد الامتثال من الجميع .

2 - أن يراد الامتثال من كل فرد من أفراد المسلمين.

وبعبارة أوضح: أن يجعل الامتثال - هنا - من حق كل فرد من المسلمين.

3- أن يراد الامتثال من البعض فقط .

ص: 258


1- نهج البلاغة، مج 4 ص 283.

وهذه الصورة الأخيرة تتفرع إلى ما يلي : -

أ- أن يسند الامتثال من يختاره المسلمون عامة ؛ لأن الخطاب بالامتثال موجه اليهم جميعا.. (وهو القول الأول).

ب - أن يسند الامتثال إلى الفقيه العادل لثبوت نیابته عن الإمام عليه السلام في الجملة .. (وهو القول الثاني).

ح- أن يسند الامتثال إلى الأعلم، لأنه القدر المتيقن -هنا .. (وهو القول الثالث).

وفي الصورة الأولى: لا يتحقق الامتثال ، إما لاستحالته من الجميع، أو لعسره على أقل تقدير .

وفي الصورة الثانية : إن أقل ما ينجم عن الامتثال من محذور يمنع من تحققه هو شيوع الفوضى،.. وهو واضح.

وفي الفرع الأول من الصورة الثالثة : يؤخذ عليه ما تقدم في المناقشة خوله عند الحديث عن القول الأول ..

وفي الفرع الثاني من الصورة الثالثة : يؤخذ عليه ما سلف في المناقشة حوله عند الحديث عن القول الثاني ..

فيتعين الفرع الثالث لبطلان ما عداه ، وانحصار الامتثال به، بوصفه قدرا متيقنا في البين.

ويدعمه الدليل العقلي الذي يلزم بتقليد الأعلم للاطمئنان بتوفر المؤمن والمعذر بالرجوع إليه.

ص: 259

تكوين الدولة
اشارة

وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق : حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لالفتهم، وعزا لدينهم.

فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة - إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي اليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، - واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

تشكيلات الحكومة في التشريع:

إن الذي أعنيه - هنا - بكلمة (دولة) هو (الحكومة)، وهو الذي سيدور حوله الحديث عن (تكوين الدولة).. .

والمعنى هذا هو أحد معني الكلمة .. وربما تطرقت عابرا

ص: 260

في خاتمة الحديث إلى معناها الآخر، وهو (الأرض والأمة والحكومة):

ربما انتظرنا من التشريع الإسلامي - هنا - أن يزودنا بتفاصيل وافية عن تشكيلات الحكومة في عصر الغيبة.

إلا أننا حينما نفهم أن التشكيلات - هنا - تعني الوسائل والأساليب التي تتخذ وتتبع في إدارة ورعاية شؤون الأمة .. نفهم أنها موضوع وليست بحكم.

وذلك ، أن الأساليب أنواع من سلوك الإنسان وأعماله ..

ومن الواضح: أن سلوك الإنسان وأعماله في موضوعات تتوجه إليها الأحكام، لتوجيه السلوك الإنساني في الوجهة التي ينبغي أن يسير عليها .. .

وإن الوسائل وسائط في تحقيق الامتثالات..

ومن الواضح أيضا : أن الوسائط - هنا - موضوعات لا أحكام، لأنها لا تختلف في مجال تحقيق الامتثال عن الأساليب ، إلا بما يتنوع به السلوك من صدوره عن الإنسان بلا مساعد ومباشرة، ومن صدوره بمساعد ومن غير مباشرة..

فهي - أعني الوسائل هنا - جزء متمم لما يحقق الامتثال في المجال الذي يفتقر فيه إلى الواسطة .

وفي ضوئه :

ص: 261

لا ينتظر من التشريع أن يحدد لنا تشكيلات الحكومة، فيعين الوسائل والأساليب، وذلك أن تحديد الموضوعات لا يعود اليه - عادة -، وإنما وظيفته - بصفته تشريعا - وضع الأحكام المناسبة للموضوعات بما يحقق المصلحة للناس، ويبعد المفسدة عنهم..

يضاف إليه :

إن خضوع الموضوعات للتغيرات الزمانية والمكانية، وللتطورات الحضارية والمدنية، مما يقف دون إعطاء تحديد - ثابت لها.

الخط العام للحكومة:

نعم.. هناك شيء ينتظر من التشريع أن يقوله، لأنه يتمشی مع طبيعة الموضوعات في مختلف تطوراتها وتغيراتها.. وهو: إعطاء حكم يحدد نوعية الوسائل والأساليب هنا...

وبعبارة ألصق بالحديث :

وضع خط عام للحكومة في تشكيلاتها .

وهذا اللون من الحكم لا نعدمه في التشريع الإسلامي،فقد فرض على المسلم - بصفته فردا . وعلى المسلمين - بصفتهم مجتمعا ودولة - أن يتخذوا الوسائل وينتهجوا الأساليب

ص: 262

في إطار الأحكام الإسلامية العامة .

أعني : إنه فرض عليهم تحديد الموضوع أولا - وسيلة كان أو أسلوبا - والتماس حكمه الشرعي ثانيا .

فمتى ما حدد الموضوع والتمس حكمه المسوغ لاتخاذه أو اتباعه، عد وسيلة إسلامية أو أسلوبا إسلاميا ..

ويعرف ذلك بالبداهة والعكس بالعكس من طبيعة التشريع الإسلامي.

وعلى هدیه :

يلاحظ دائما في وضع تشكيلات الحكومة متطلبات الظروف والملابسات المحيطة بالدولة - أمة وحكومة - في مجال ما يحقق لها المصلحة العامة، وفي إطار الأحكام الإسلامية العامة .

مستثنیات:

فقط ... استثنی التشريع الإسلامي بعض الوسائل والأساليب فحددها بصورة خاصة.

أمثال :

1. تعيين المسؤول العام للدولة من قبل التشريع - كما لمسناه في موضع رئيس الدولة - حيث أعطى التشريع الإسلامي

ص: 263

كلمته فيه، وأناط به المسؤولية الكبرى في مجال الحكم.

2- تقييد الدولة بدستور موضوع.

3- تقييد تعيين الحكام بتوفر شروط معينة فيهم، أمثال: الكفاءة والعدالة(1)، وغيرهما من إمكانيات الحكم وضماناته.

وذلك لأن طبيعة الاحتياط فيما يجعل التشكيلات الحكومية تحقق للإمة والحكومة مصلحتهما العامة تفرض ذلك فرضا.

ومنه نستطيع أن ندرك مدى اهتمام التشريع الإسلامي للمسألة، حيث حسب للتطور كل الحساب، وأخذه بنظر الاعتبار التام، فلم يضع التفاصيل لئلا تصطدم بالتطور، ولم يهمل وضع التعاميم احتياطا عن انحراف القضية .

السلطات الثلاث:
اشارة

وفي ضوء ما انتهينا إليه من اعتبار الفقيه الأعلم حاكما عاما للمسلمين، ورئيسا أكبر للدولة الإسلامية.. ومن أن التشكيلات الحكومية تعود إلى طبيعة متطلبات الظروف ومقتضيات الأحوال المحيطة بالأمة والحكومة والملابسة لهما يكون توزيع السلطات الثلاث، بالشكل الذي يعطي المخطط

ص: 264


1- وفي حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «لا تقبلن فِي اسْتِعْمَالِ عُمَّالِكَ وأمرائك شَفَاعَةَ إِلَّا شَفَاعَةَ الْكِفَايَةِ وَ الْأَمَانَةِ »

العام للحكومة كما يلي:

أ- السلطة التشريعية:
اشارة

تعود إلى الفقهاء العدول، تحت إشراف الفقيه الأعلم (رئيس الدولة).. .

فتشكل اللجان والهيئات التشريعية منهم وباشرافه ..

ووظيفتها تتلخص بما يأتي :

1- بیان الأحكام

والأحكام : هي التي شرعت بنص خاص من الكتاب والسنة أو ثبتت بالضرورة من الدين، أمثال : وجوب الزكاة والخمس وتعيين مصارفهما، وإعداد القوة قدر المستطاع الإرهاب عدو الله ....

ونستطيع أن نصطلح عليها ب- (الدستور).

2- وضع التعاليم

والتعاليم : هي الأحكام التي لم تشرع بنص خاص، وإنما أوكل أمر استنباطها إلى اجتهاد الفقهاء داخل إطار الأحكام الإسلامية العامة، نظرا لتطورها، تبعا لتغير الظروف والأحوال ، مثل: وجوب التدريب العسكري في هذا العصر، نظرا لتطور وسائله وأساليبه إلى ما يفرض ذلك من باب المقدمة للدفاع

ص: 265

الواجب .. ومثل : تحديد مقدار ضريبة الخراج والجزية وما - شاكل.

ونستطيع أن نصطلح عليها ب-(النظام).

ب - السلطة التنفيذية:

تعود إلى الأمناء من أبناء الأمة، ممن تتوفر فيهم إمكانيات القيام بمسؤولية التنفيذ وضماناته الشرعية.

ويرجع أمر تعيينهم إلى رئيس الدولة، واللجان التي أعدها وشكلها لذلك، ممن تتوفر فيهم الخبرة الكافية للقيام بمثل هذا العمل.

ووظيفتها تتلخص بما يأتي :

1 - القيام بتطبيق الدستور والأنظمة .

2- تشكيل لجان وهيئات علمية، تختار أفرادها من مختلف الاختصاصيين: سياسيين واقتصاديين وعسكريين وتربويين واجتماعيين ... الخ.

ممن تتوفر فيهم الضمانات الشرعية ..

توكل اليهم مهمة القيام بدراسة مجالات التطبيق، ومعرفتها معرفة كاملة بشتی ظروفها وملابساتها وأحوالها وجميع علاقاتها، .. وبتقديم نتائج الدراسة إلى السلطة التشريعية،

ص: 266

لتقوم هي بدورها بتزويد السلطة التنفيذية بالأحكام الخاصة لهذه الموضوعات

أمثال : تكوين علاقات سياسية مع دولة أخرى، أو عقد اتفاقية تجارية، أو فتح مشاريع زراعية وصناعية وثقافية وصحية واجتماعية وما شاكلها.

لتقوم هي - أعني السلطة التنفيذية - بعد أخذ أحكامها من السلطة التشريعية - بدورها في تطبيقها .

ج- السلطة القضائية:

وتعود إلى الفقهاء أيضا.

ويرجع أمر تعيينهم إلى رئاسة الدولة .

ووظيفتها:

القضاء بين المواطنين، وحل الخصومات، سواء كانت قائمة في نطاق ما يسمى اليوم ب-(الأحوال الشخصية)، أو في غيره من نطاقات الحياة المختلفة ..

وذلك لأن الإسلام لا يحتوي نوعين من القضاء : مدنيا وشرعيا، وإنما كل القضايا من وجهة نظره، سواء كانت من نوع ما يسمى - اليوم - بالقضايا المدنية أو القضايا الشرعية، يعود أمر حلها إلى القانون الإسلامي ووفق أحكامه.

ص: 267

لأن القوانين المدنية من وجهة نظر الإسلام لا تعتبر قوانین للتطبيق، ولا يسوغ بحال من الأحوال الأخذ بها.

شكل الحكومة:

ونستطيع بعده أن نخلص إلى أن شكل الحكومة الإسلامية زمن الغيبة هو أنها: حكومة دستورية، يرأسها الفقيه الأعلم العادل، وتدار من قبل أجهزة كافية من الاختصاصيين العدول، وباشراف الرئاسة العادلة .

مبدأ الحق الإلهي:

وهنا.. أود أن أشير إلى مفارقة وقع فيها بعض الكتاب حول الموضوع، وهي اعتبارهم أمثال هذا الحكم من نوع (الحق الإلهي) ...

وفي عقيدتي : أن منشأ المفارقة هو عدم التفرقة بين الحق الإلهي، الفكرة المعروفة في التاريخ، والتي تمثلت في حكم الفراعنة بمصر القديمة، وفي حكم الملوك في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوربا، وخاصة في فرنسا(1). وبين الحق

ص: 268


1- يقرأ: دكتور محمد طه بدوي ودكتور محمد طلعت الغنيمي، النظم السياسية والاجتماعية ، ص 259.

الإلهي الذي يتبناه التشريع الإسلامي.

ذلك أن الأولى تؤمن بالحق الإلهي تكوينا ..

ومعناه : أن الحاكم إن لم يكن إلها كالفراعنة يتصرف بمر بوبيه كيف يشاء .. فالله تعالی سلطه على الناس بالشكل الذي لا يسوغ لهم بحال من الأحوال محاسبته أو معارضته، لأن تسلطه شيء لا بد وأن يقع، ..

ولعلنا ندرك ذلك أيضا من تسميته ب-(التفويض الإلهي) أيضا.

وإن الإسلام يؤمن بالحق الإلهي تشريعا.. .

ومعناه : أن الله تعالى - بصفته مشرعا للدستور - منح الحاكم نبيا أو إماما أو غيرهما ممن تتوفر فيه شروط الحاكم المسلم حق الحكم بين الناس قانونيا«لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ»(1)

ومن فرض التشريع الإسلامي على الأمة مراقبة الحاكم المراقبة التامة، ومحاسبته المحاسبة الشديدة، وعزله حين المخالفة والاصرار عليها، يفهم بذلك بوضوح. والتاريخ

ص: 269


1- الآية 105 من سورة النساء .

الإسلامي مملوء بوفرة من شواهد محاسبة الأمة للحكام المسلمين(1) .

دور الأمة في المراقبة:

أما دور الأمة في مراقبة الحكومة ومحاسبتها وعزلها،فنستطيع أن نوجزه بما يأتي :

هو أن على الأمة - كل الأمة - ملاحظة الجهاز الحاكم في مجالات التشريع والتنفيذ والقضاء، الملاحظة المستوعبة والدقيقة، فمحاسبته عند وقوع أي خطأ تشريعيا كان أو تنفيذيا أو قضائيا.. « ککلم رَاعٍ وَكَلَكُمْ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ »(2).

«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(3)

والأسلوب الذي تتبعه الأمة في المحاسبة والعزل هو:أولاً-أن تتبع الأساليب اللاعنفية، ومعالجة القضية بالطرق السلمية .

ص: 270


1- يقرأ للاطلاع على بعض الشواهد: الميرزا النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملة
2- حدیث شریف
3- الآية 72 من سورة التوبة

وثانيا : عند عدم الجدوى تتبع الأساليب العنفية، وتعالج القضية بالطرق الثورية .

ويراعى في اتباع الطرق الثورية الاحتياط التام في وقوع الضرر الأقل، وبمقدار ما تقتضيه الضرورة.

الدولة في مجالها الواسع:

وفي ختام الحديث - هنا - أعود لأفي بما وعدته من التطرق عابرا إلى الدولة في مجالها الواسع، وهو :

1- الأرض، والتي تعني (الوطن).

2- والأمة، والتي يريدون بها (المواطنين).

3- والحكومة، والتي يقصدون منها (السلطة).

فالأرض أو الوطن الإسلامي - اليوم - هو: كل بقعة من الأرض كانت خاضعة سياسيا إلى حكم إسلامي، سواء بقيت بأيدي المسلمين، أو سلبت منهم كفلسطين واسبانيا.

ويعني هذا: أن على الدولة الإسلامية - عند قيامها في أي بقعة من الأرض كانت - استرجاع ذلك الوطن الإسلامي، بقسميه : الباقي بأيدي المسلمين، والمسلوب منهم، وإخضاعه للنفوذ السياسي الإسلامي.

والمراد بالأمة والمواطنين : كل من توفرت فيه شروط

ص: 271

المواطنة، وفق تعليمات التشريع الإسلامي في المجال السياسي.

أما الحكومة أو السلطة .. فقد مر الحديث عنها.

ص: 272

الدعوة إلى الدولة
اشارة

وَ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ : النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ ، وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ .

الإمام أمير المؤمنین علیه السلام

وجوب الدعوة:

إن وجوب الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية - الآن - على المسلمين من الوضوح بالموضوع الذي لا يحتاج إلى مزيد بیان.

ونحن إذا عدنا نقرأ مرة ثانية ما سبق من الحديث عن ذلك في موضوع (انتظار الإمام) ألفيتنا غير مفتقرين - من ناحية منهجية - إلى العودة إلى استعراض المسألة مرة أخرى.

أسلوب الدعوة:

أما أسلوب الدعوة أو أسلوب العمل من أجل إقامة دولة

ص: 273

إسلامية الآن.. فيتنوع - شأنه شأن أي أسلوب آخر يهدف من ورائه إلى إقامة دولة - إلى نوعين هما: -.

1- الثورة(1): ويعنى بها الثورة المسلحة، وهي: استعمال القوة في القضاء على الحكم الكافر في الوطن الإسلامي واستبداله بالحكم الإسلامي.

والثورة - هنا - مشروطة شرعيا - بتوفر شروطها وتهيؤ أجوائها ومجالاتها.

2 - التدرج(2) : ويعني به اتباع الطرق السلمية، أمثال : القيام بتوعية الأمة سياسيا، وتثقيفها فرديا وجماعيا، خاصا وعاما، فنقوم:

1- بفتح المدارس في مختلف مراحلها: الروضة والابتدائية والثانوية والعالية، وللجنسين، شريطة أن تكون مناهجها وكتبها إسلامية خالصة، تستمد من حضارتنا الأصيلة النقية، هادفين منها إلى تغذية أبنائنا بالثقافة الإسلامية البناءة التي تحول من المسلم حركية فعالة في طريق تكوين المجتمع الإسلامي، وأن يكون القائمون على الإدارة والتربية فيها

ص: 274


1- لمعرفة معنى هذين المصطلحين أكثر، يقرأ: المؤلف، ثورة الحسين عليه السلام، ص 6.
2- المؤلف، حضارتنا في ميدان الصراع، ص 14، 15، 16.

مسلمين مبدئين .

2- باصدار المجلات والصحف بمختلف ألوانها: يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية ... شعبية وخاصة، شريطة أن تمون بالفكر الإسلامي الخلاق الهادف.

3- بنشر الكتب مفردة ومتسلسلة ... شعبية وخاصة ، ناشدين من ورائها تعميم الثقافة الإسلامية المبدعة الهادفة .

4- بایجاد المكتبات بأقسامها المختلفة: المتجولة والثابتة، والريفية والمدنية، مزودة بجميع ما تتطلبه مستوياتها ومجالاتها من الكتب والمؤلفات الإسلامية .

5 - بتأسيس النوادي : ثقافية ورياضية، شريطة أن تكون جادة، وفي صدد غرس الروح الإسلامية وتنميتها وإثمارها.

6- بتكوين الجمعيات للخدمات الاجتماعية على ضوء ما يأمر به الإسلام من أعمال البر والإحسان والتكافل، وما شاكلها.

7 - التكتل السياسي، شريطة أن تتبع الأساليب في إطار الأحكام الإسلامية ..

8- وبما يماثلها»(1)

ص: 275


1- يقرأ: المؤلف، حضارتنا في ميدان الصراع .

وبعد أن تستيقظ الأمة، وتدرك بسبب مفعول التثقيف أن مسؤوليتها أمام الله تعالى في أن تطبق الإسلام، وأن سعادتها في تطبيقه .. وهو أمر لا يتأتى إلا عن طريق إقامة الدولة الإسلامية ، تحقق ذلك وبيسر .

شبهة:

وهنا أود أن أقف قليلا عند شبهة ، كثيرا ما تثار حول العمل عن طريق التكتل السياسي، محاولا کشف المفارقة فيها، بغية إزالتها.

والشبهة تتلخص في أن الإسلام لا يقر العمل الحزبي، ..والتكتل السياسي - بطبيعته - لا يخرج عن كونه عملا حزبيا، سواء كان علنيا أو سريا .

ومنشأ هذه الشبهة - فيما أعتقد - هو التخدير الاستعماري الذي لعب دوره الفعال في تعميق فكرة فصل الدين عن السياسة بأذهان أبناء أمتنا الإسلامية، حتى عاد كل ما يتصل بالسياسة ليس من الإسلام(1)

إلا أننا متى حاولنا فهم معنى الحزب، وما تعنيه الكلمة في لغة القانون والسياسة تتبين المفارقة فتزول الشبهة.

ص: 276


1- م.ن.

إن مفهوم حزب يعني: المنظمة السياسية التي تعمل وفق أيديولوجية معينة، هادفة إلى تسلم السلطة، فتحقيق غاياتها المتوخاة عن وسيلتها .

وهذا المفهوم للحزب - بطبيعته - يعني أن الحزب ما هو إلا وسيلة أو أسلوب.

ومر أن أوضحت قبل هذا - أن الوسائل والأساليب موضوعات وليست بأحكام.

والموضوعات - وهو أمر بديهي - تختلف أحكامها باختلاف ظروفها وأحوالها، وتتبدل بتغيرها..

فقد يكون الحزب في ظرف معين أو حال معين محكوما بالحرمة، كما لو كان الحكم الإسلامي قائما وعادلا ، كما في عهد النبي صلي الله عليه و آله .

وقد يكون الحزب في ظرف معين آخر وحال معين كذلك محكوما بالوجوب، كما لو كان مقدمة لواجب، أمثال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل، وإقامة الحكم الإسلامي.

وربما كانت الآية الكريمة «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»(1) ترشد إلى ذلك، حيث تعطي أن حزب الله تعالى وهم الجماعة

ص: 277


1- الآية 56 من سورة المائدة .

المناصرة لله هي الغالبة ..

والغلبة - طبيعيا - لا تتأتى إلا نتيجة صراع، والصراع كما يكون حول قضايا نظرية، وأخرى عملية ، من نوع غیر سیاسي، يكون حول أمثالها من نوع سياسي، ومنها قضية الحكم.

وليس الحزب - في واقعه - متى قام على أساس من أيديولوجية إسلامية إلا تلك الجماعة التي تشير إليها الآية الكريمة .

والخلاصة:

إن مسألة الحزب - فيما أفهمه . هي مسألة موضوع يرتبط بما ينهي اليه اجتهاد المفتي من حكم : حرمة كان أو وجوبا أو غيرهما، متی تنقح معناه لديه.

وليست هي مسألة تهويلات المضللين من أتباع الأحزاب الكافرة، وأذناب المستعمر الكافر، ومن سار في ركابهما شاعرا- أو مخدوعا.

تقييد الدعوة:

ويقيد جماعة من فقهائنا الدعوة إلى إقامة حكم إسلامي بالأمن من الخطر .

ص: 278

والذي أخاله : أن العمل وفق هذا الرأي يلزمنا - عادة -بتحديد موضوع هذا القيد:

فيما يبدو لي: إن أمثال هذا التقييد لا يتأتى مع اتباع أسلوب الثورة، وذلك لتوفر القوة الكافية التي تبعد وقوع الخطر الذي يشير إليه القيد، والذي لا ينهي - عادة - إلى تحقيق واجب آخر أهم من التضحية.

وكذلك لا يتأتي هذا التقييد مع اتباع أسلوب التدرج، لا في مراحله الأولى، لأن العمل - بطبيعة أيديولوجيته التنظيمية - لا يهدف إلى صراع سياسي ولا يقوم به .. ولا في مراحله النهائية، لأن العمل يبلغ فيها استكماله القوة الكافية اجتماعيا وسياسيا، إلى التوصل إلى تحقيق الواجب.

نعم.. يتأتى هذا التقييد في اتباع أسلوب الثورة قبل استجماع القوة الكافية، وفي اتباع أسلوب التدرج حينما يقوم العمل بالصراع السياسي في المراحل الأولى .. إذا لم تكن الظروف - بطبيعتها - تتطلب التضحية كوسيلة نهائية حاسمة في الاحتجاج أمام الكفر والانحراف(1).

على أننا إذا لاحظنا : أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينقسم باعتبار ظروفه إلى قسمين : -

ص: 279


1- يقرأ : المؤلف، «أهداف ووسائل ثورة الطف» الأضواء 1/3 ص 68.

1- في ظرف وجود حكم إسلامي عادل .

2 - في ظرف وجود حکم کافر، أو حكم إسلامي منحرف لا يقضى عليه إلا بالتضحية.

وأن هناك من فقهائنا الأعلام من يذهب إلى أن خوف الضرر الذي هو أحد شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقتصر اشتراطه على الأمربالمعروف والنهي عن المنكر من نوع القسم الأول، .. أما بالنسبة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نوع القسم الثاني، فيسقط هذا الشرط، وتلزم التضحية بالنفس والمال للاطاحة بالحكم الكافر، أو المنحرف، وإقامة الحكم الإسلامي(1) شريطة

ص: 280


1- هذا الرأي للفقيه الأكبر مرجع المسلمين العام السيد محسن الحكيم - دام ظله العالي جاء جوابا للسؤال التالي: «لقد جاء في رسالتكم العملية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : (أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس أو في العرض أو في المال) ولقد رأينا جملة من المؤمنين الصالحين العاملين قد أمروا بمعروف ونهوا عن منكر، وقد لاقوا ما لاقوه من قوى الشر والضلال.. فهل أن عملهم هذا غير صحيح؟!. الجواب : إن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ذكرناها وذكرها الفقهاء - رضوان الله عليهم - إنما هي شرائط للنهي عن المنكرات المتعارفة، کترك الصلاة وشرب الخمر وأكل أموال الناس أو أعراضهم، ونحو ذلك، مما لا يمس أساس الدين وبيضة الاسلام. أما المنكرات التي يخشى من وقوعها على أساس الدين، فيجب مكافحتها والتضحية في سبيل المحافظة على أصل الدين وأساسه بكل غال ورخيص، وبالنفس والنفيس، كما وجب الجهاد في كثير من الأعصار والأمصار، حفظا لبيضة الاسلام وكيان الدين. وما قام به هؤلاء المؤمنون الصالحون من تضحيات، وما لاقوه من قوی الشر والضلال، من هذا النوع». تقرأ: الأضواء 3/2ص 59.

أن تؤثر التضحية، ولو تأثيرا ضئيلا إذا كان مما يعتد به .

أقول: إننا إذا لاحظنا ذلك يضيق مجال ذلكم التقييد كثيرا.

وفيما أظنه : أن من يشترط الأمن من الخطر من الفقهاء، لا يلزم به من يقطع بأن أمثال هذه التضحيات تنهي إلى تحقيق الواجب.

على أن المسألة - فيما أعتقد - لا تحتاج إلى هذا، بعد أن أثبت تاريخ الشهداء، وتاريخ مختلف الأحزاب السياسية، أن التضحيات هي سبيل الاطاحة بحكم وإقامة حكم آخر على أنقاضه.

شبهة أخرى:

وهي شبهة تقتضيني منهجة البحث أن أقف عندها ولو

ص: 281

قليلا، لأكشف موضع المفارقة فيها، محاولا رفع الالتباس، لأنها تدور حول سقوط الدعوة:

ربما يبدو للبعض أن قضية الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية ،تدور بين أمرين كل منهما مسقط لوجوب الدعوة .. وهما:

أ- أما أن تكون البشرية الآن، على استعداد تام لتقبل الإسلام .. .

ب - أو لا تكون على استعداد لتقبل الإسلام ...

فإن كانت البشرية الآن على استعداد تام لتقبل الإسلام،فلا بد حينئذ من ظهور الإمام المنتظر ، لأن مثل هذا الظرف بما فيه استعداد تام يحتم عليه الظهور، وعند ظهوره فأمر الدعوة يعود إليه.

وإن كانت البشرية ليست على استعداد تام لتقبل الإسلام، فسيكون نصيب الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية عدم النجاح، فلا فائدة - إذن - بالدعوة.

والمفارقة في هذا الرأي تكمن في أنه ينطوي - في واقعه - على خلط بين الدولة التي أنيطت مسؤولية إيجادها بالإمام المنتظر ، وبين الدولة التي ألقيت مسؤولية العمل من أجل قيامها على عاتق المسلمين .

فإن الأولى - أعني دولة الإمام - عالمية، ولعلها من أبرز

ص: 282

خصائصها - كما تقدم - .

والثانية لا يشترط فيها أن تكون عالمية حيث لم يدل على ذلك دليل من النصوص الشرعية، ولا من العقل مع عدم القدرة.

فنحن متى التفتنا إلى موضع المفارقة في هذا الرأي، وهو ذلكم الخلط بين دولة الإمام ، التي من أوليات شروطها أنها عالمية .. وبين الدولة التي يجب على المسلمين العمل من أجل إقامتها.

أقول: متى التفتنا إلى موضع المفارقة سهل علينا معرفة موقع الالتباس في أمثال هذه الشبهة.

على أنه لا يحتمل أن فقيها ما، لا يفتي بوجوب قيام دولة إسلامية في قطر ما، إذا كان ذلك القطر مستعدا ومهيئا لقيامها نتيجة الوعي السياسي الإسلامي الذي شمله.

ولست أدري ما يقول من برسل مثل هذا الرأي، لو قدر أن بلادا ما، من بلدان المسلمین سادها الوعي السياسي الإسلامي، وامتلك أهلها زمام أمورهم السياسية، ورفعوا أمرهم إلى الفقيه المتوفر على شروط الحاكم المسلم، يطلبون منه أن يحكمهم بالإسلام، وكان الأمر في وضعية من الخطورة بحيث إذا لم يحكمهم، ويوكل الموضوع اليهم أنفسهم، يقعون في مخالفات

ص: 283

شرعية كثيرة، لجهلهم بالأحكام ومواضع التطبيق .

أيؤمن بشيء آخر غير إجابة الفقيه لهؤلاء؟..

لا أحتمل أن أحدا ممن له أدنى معرفة بالتشريع الإسلامي يحتمل عدم جواز الإجابة .

أحاديث قيام دولة قبل الإمام:

يضاف إليه :

أن هناك من الأحاديث المروية - والتي سبق وأن استعرضتها - ما يشير إلى قيام دولة إسلامية غير عالمية، قبل ظهور الإمام المنتظر عليه السلام يسلمها أصحابها إلى الإمام عند ظهوره عليه السلام .

وهو مما يلقي الضوء على المسألة.. أمثال :

1- ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله: «يَأْتِي قَوْمُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، وَ مَعَهُمْ رایات سُودُ . فَيُسْأَلُونَ الْخَيْرِ فَلَا يُعْطُونَهُ ، فيقاتلون فينصرون ، فَيُعْطُونَ مَا سَأَلُوهُ ، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يدفعوها إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَيَمْلَأُهَا قِسْطاً كَمَا ملأوها جَوْراً ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فليأتهم وَ لَوْ حَبْواً عَلَى الثَّلْجِ ».

2 - وما روي عن الإمام الباقر عليه السلام : «كَأَنِّي بِقَوْمٍ قَدْ خَرَجُوا بِالْمَشْرِقِ ، يَطْلُبُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطُونَهُ ، ثُمَّ يَطْلُبُونَهُ فَلَا

ص: 284

يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقيموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبکم (یعني الإمام المنتظر عليه السلام)، قتلاهم شهداء».

رفع التباس:

وهنا .. قد يبدو للبعض أن قيام مثل هذه الدولة يكون مجالا لظهور الإمام المنتظرعليه السلام.

قد يكون ذلك فيما إذا كانت الدولة متوفرة على شروط الظهور .

وقد لا يكون، وهو فيما إذا كانت غير متوفرة .. فتسهم في هذه الحال بالتمهيد لخروجه عليه السلام.

عجل الله تعالی فرجه، ورزقنا نصرته، والشهادة بين يديه ،إنه سميع مجيب.

ص: 285

وفي الختام

«رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»«قرآن کریم»

رجاء:

وفي الختام .. .

أستودعك قارئي العزيز ..

راجيا أن أجد في ملاحظاتك القيمة، ما يساعدني على العودة إلى الحديث مرة ثانية، وبلورته وتنقيحه.

ورافعا كف الضراعة اليه تعالی ب- :

دعاء المناسبة:

«اللَّهُمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ ، تُعِزُّ بِهَا الْإِسْلَامَ وَ أَهْلَهُ ، وَ تُذِلُّ بِهَا النِّفَاقَ وَ أَهْلَهُ ، وَ تَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى

ص: 286

طَاعَتِكَ ، وَ الْقَادَةِ إِلَى سَبِيلِكَ ، وَ تَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ » .

تنبيه:

أغفلت الإشارة إلى مصادر بعض الأحاديث في هامش الكتاب لأنها لا تخرج عن المراجع المذكورة .

والحمد لله رب العالمين

النجف الأشرف 1384/5/1 ه-

عبد الهادي الفضلي

ص: 287

المراجع

1- القرآن الكريم .

2 - نهج البلاغة.. (مصر: دار الكتب العربية الكبرى) المجلد . الرابع.

3- الألباني، محمد ناصر الدين - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعةوأثرها السيء في الأمة، (دمشق: مطابع دار الفكر)، المجلد الأول، الجزء الأول.

4 - الأمين العاملي، السيد محسن - أعيان الشيعة (...: مطبعة كرم 1373 ه) الطبعة الثانية ، الجزء الثاني، القسم الثالث.

5 - بحر العلوم، السيد محمد - بلغة الفقيه (ایران: مطبعة عالیان مشهدي، حجر، الأصفهاني 1329 ه).

6- بدوي، دكتور محمد طه . ودكتور محمد طلعت الغنيمي - النظم السياسية والإجتماعية، (القاهرة : دار المعارف بمصر 1958م)، الطبعة الأولى.

7- البروجردي، الحاج أقا حسين الطباطبائي - البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر «تقریرات بحثه بقلم تلميذه حسینعلي المنتظري النجف آبادي»، (قم: مطبعة الحكمة 1378 ه).

ص: 288

8- الحر العاملی، محمد بن الحسن - وسائل الشيعة إلى تفصيل أحكام الشريعة (ایران : الطبعة الحجرية 1288 ه) المجلد الثالث، کتاب القضاء .

9- الحكيم، السيد محسن الطباطبائي - «الإمام الحكيم يوضح مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»الأضواء،3/2 «ربيع الثاني 1382 ه-».«فتوى»(النجف: مخطوطة لدى المؤلف).

نهج الفقاهة (النجف: المطبعة العلمية 1371 ه) الجزء الأول .

10 - الحكيم، محمد تقي - الأصول العامة للفقه المقارن (بیروت: مطابع دار الأندلس 1963م).

- محاضرات في التاريخ الإسلامي على طلبة كلية الفقه ، (مخطوطة).

11 - جريدة : الثورة، البغدادية «1961/12/25»العدد 785.

12 - زین الدین، محمد أمين - مع الدكتور أحمد أمين في حديث المهدي والمهدوية (النجف : مطبعة دار التأليف والنشر 1371ه-)

13 - السبزواري، المولی محمد باقر - كفاية المقتصد (النجف : مخطوطة مكتبة كلية الفقه).

14 - الشهيد الثاني، زين الدين العاملي - مسالك الأفهام إلى شرح شرائع الإسلام (ایران: حجر، 1310 ه) كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

15 - الشيرازي، السيد میرزا عبد الهادي الحسيني «فتوی»،

ص: 289

في انتظار الامام (ع)

15 - الشيرازي، السيد میرزا عبد الهادي الحسيني «فتوی»، (النجف : مخطوطة لدى المؤلف).

16 - الشيرازي، السيد میرزا مهدي الحسيني «فتوی»، (النجف :مخطوطة لدى المؤلف).

17 - صاحب الجواهر، الشيخ محمد حسن النجفي - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام (ایران: حجر، الخونساري 1305ه-)، کتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

18 - الصافي، لطف الله الكلبايكاني - منتخب الأثر في الامام الثاني عشر عليه السلام، (طهران بوذر جمهري مصطفوي 1373 ه).

19 - الصدر، السيد إسماعيل - محاضرات في تفسير القرآن الكريم ( النجف: مطابع النعمان).

20 - الصدر، السيد صدر الدين - المهدي (طهران: مطبعة عالي).

21 - الطباطبائي، السيد محمد حسين - الميزان في تفسير القرآن(طهران : دار الكتب الإسلامية 1376ه-) الجزء الرابع .

22 - العسكري ، نجم الدين الشريف - علي والوصية (النجف :مطبعة الاداب).

23 - العلامة الحلي، الحسن يوسف - مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، (ایران : حجر) كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

24 - الفضلي، عبد الهادي، «أهداف ووسائل ثورة الطف»الأضواء 1/3«15 محرم الحرام 1380 ه-.»

ثورة الحسين عليه السلام (النجف : مطبعة النجف 1383 ه-).

ص: 290

25 - الفيض الكاشاني، محمد بن مرتضى المدعو بمحسن - مفاتیح الشرائع، (النجف: مخطوطة مكتبة كلية الفقيه).

26 - مجلة، المقتطف، المصرية، المجلد التاسع والخمسون، الجزء الثالث.

27 - المراغي، السيد فتاح الحسيني - العناوين (ایران : حجر ، الأروجنی 1297 ه).

28 - المظفر، محمد رضا - عقائد الشيعة (النجف: المطبعة الحيدرية 1381 ه).

29 - المفيد، محمد بن محمد بن النعمان - الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد (ایران: الكيلاني 1317 ه).

30 - المودودي، أبو الأعلى - البيانات (ذخائر الفكر الإسلامي) تعريب : محمد عاصم الحداد.

31 - النائيني، محمد حسين الغروي - تنبيه الأمة وتنزيه الملة (النجف : خاصة مكتبة كلية الفقه) «تایب».

32 - النجف آبادي، حسينعلي المنتظري، البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر.. «تقدم».

33 - نشرة، الأضواء، النجفية.. «تقدم».

34 - النعماني، محمد بن ابراهيم المعروف بابن أبي زينب - کتاب الغيبة ، (تبریز : کتابفروشي صابري 1383 ه).

ص: 291

ص: 292

القسم الثالث: في لجة الإنتظار«نصوص في الأدب المهدوي الحديث»

اشارة

ص: 293

ص: 294

انناجيك...

في ذكرى مولد الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف)

انُنَاجيك ، والنَّجَاوي تَطُولُ * * * حَسَبُهَا مِنْكَ أَنَّكَ المامُولُ

لَوْعَةَ نَحْنُ ، ها هُنَا ، وَ جَرَّاحٍ * * * تَتَنَّزى فِيَّ وَ عَيْناً ، وَ تَسِيلُ (1)

كُلَّمَا امْتَدَّتْ الحياه وَ طَالَ الدُّرِّ * * * ، بُ وَ اشْتَدَّ بِالسُّؤَالِ ، السَّؤُولُ

وأطالوا الْحَدِيثَ فِي السِّرِّ والإع- * * * عَلَّانٍ ، ماذا قَالُوا ؟ وماذا نَقُولُ

وَحَكَينَا لَهُمْ أَحَادِيثَ مَنْ عَا * * * شُوا طَوِيلًا . . . إِنْ قِيلَ عُمَرٌطَوِيلُ

رَدَّنَا للحقيقة الْبِكْرِ وحيٌ * * * خَالِدُ ، شَدَّ آیه التَّنْزِيلِ

أَنْتَ كَالشَّمْسِ فِي هَدَانَا وَ إِنْ * * * ضَلَّتْ بمعناك ، فِي الدياجي ، الْعُقُولُ

أنناجيك ، كَيْفَ يَسْمُو بِنَا القو * * * لِ ، وماذا ؟ إِذَا دهانا المُحُولُ (2)

أَيْ لَفْظَ لَمْ يبتذل(3) ، أَيْ مَعْنَى * * * لَمْ يتاجر بِهِ خؤون جَهُولُ

أَيُّ دَمْعٍ فِي الْأَعْيُنِ الْحُمُرِ لَمْ يس-* * * فح رِيَاءٍ ، إِنَّ أغوزتنا الْحُلُولِ

ص: 295


1- تتنزی : تسيل وتخرج بعض الإفرازات.
2- المحول : جمع المحل، ألشدة، الجدب، انقطاع المطر ويبس الأرض.
3- يبتذل : يفقد طرافته وقيمته.

أَيْ فِكرِ لَمْ نَهدُر الطَّاقَةِ الكُب- * * * رَيَّ بِهِ للطغاة حِينَ يَجُولُ

أنناجيك للشكاوى الَّتِي تَل- * * * تاعُ فِينَا وترتجي ، وَ تَمِيلُ

بَيْنَ شكوي تهزنا بِحَدِيثِ الظُّلْمِ * * * طَوْراً يَخْبُو ، وَ طَوْراً يَصُولُ

وشكاوى تنعي لَكَ الدِّينِ وَ الدَّنِّ- * * * يا ، وَ يَشْتَدُّ بالنعي الْعَوِيلُ

أَيْ شَكْوَى لَمْ تضطنعها خَطَايَا * * * نا ، وَ لَمْ تَجْرِ فِي مَدَاهَا الْخُيُولُ

أَيُّ ظُلمِ لَمْ تَنْتَصِرُ فِيهِ للظّا * * * لَمْ مِنَّا ، أَسَنَّة وَ نُصُولَ

مَنْ هُمُ الظَّالِمُونَ ؟ مِنْ أَيْنَ جاؤوا * * * أَيْنَ كَانُوا ؟ وَ مَنْ هُوَ المسؤولُ

نَحْنُ سَوْطِ الطُّغْيَانِ ، نَحْنُ سُيُوفِ * * * الْبَغْيُ ، يستلها الدَّعِيُّ الدَّخِيلُ (1)

كَانَ فَرْداً وِجَاءُ زَيْدٌ وَ عَمْرُوٌ * * * حَوْلَهُ ، ثُمَّ عَامِرٍ وَ عَقِيلُ

ثُمَّ أَ غُرِّى بِالْمَالِ كُلِّ ضَعِيفٍ * * * حُلْمُهُ فِي الْمَدَى ، عَطَاءُ جَزِيلُ

ثُمَّ مَدَّ السماط (2)، وَ امْتَدَّتِ الْأَبِ * * * دِي ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَادُ المُنيلُ

ثُمَّ أَهْوَى بِالسَّوْطِ يُلْسَعُ فِيهِ * * * كُلُّ حُرُّ لَا يَنْحَنِي أَوْ يَزُولُ

فَإِذَا بِالنِّفَاقِ ، فِي مهرجان الشع- * * * ر ، يَزْهُوَ بمذحه وَ يَطُولُ

هُوَذَا الْمُصْلِحِ الْكَبِيرِ فَمَنْ ذَا * * * يتحدى الْإِصْلَاحِ ، أَيْنَ العَذُولُ ؟

وَ تَعُودَ السياط تَهْوِي عَلَيْهِ * * * فَهِيَ تَدْرِي أَنِ النِّفَاقِ ذَلِيلُ

وَ تَدُورُ الدُّنْيَا ، فَهَذَا الَّذِي * * * صَفَقَ للظم وَ هُوَ غَرَّ (3) عَلِيلُ

هُوَ ذَا فِي السُّجُونِ يغضي (4) ع * * * لِى الذِّلَّةِ ، وَ هُوَ المُعَذَبُ المَغلولُ

ص: 296


1- الدعي: المتهم نسبه .
2- السماط : جمع سُمُط ما يُبسط ليُوضع عليه الطَعامُ .
3- غِرُّ: جاهل وغافل عن أموره.
4- يغضي : يطبق جفنيه

وَ يُنَادِي : عَجِّلْ لَنَا الْفَرْجِ الأك * * * بَرَ ، إِنَّ الْحَيَّاة عبء ثَقِيلُ

هُوَ عبء الْحَيَاةِ أَثْقَلُ دنیا * * * ها فَعَاشَتْ ، بِالزَّيفِ ، هَذي الفُلُولُ

نَحْنُ نَرْجُوكَ مِنْ جَدِيدٍ ، لِكَيْ * * * تَظْهَرُ فِينَا ، لِيَسْتَرِيحَ الْقَبِيلُ

لترينا أَنْ العقيدة لَمْ تش * * * رَقَّ لِيَقَتادَهَا جَبَانٌ دَخیلُ (1)

أَوْ ليَلهو بِها دَعِيَ يَعِيشُ ال * * * عُمَرُ جَهْلًا ، كَمَا يَعِيشُ الكَسُولُ

أَوْ ليستام وخيها تاجر يَلِ * * * هث فِي السُّوقِ حِلْمُهُ المَعسُولُ (2)

أَوْ لتحيا لَهَا جَلَّالًا وَ جَاهاً * * * يلتقينا بِهِ الصراع الطَّوِيلُ

فَإِذَا بِالَّذِينَ يختضنون ال * * * حَقُّ وَحْياً يَسْمُو بِهِ جبریلُ

عَادَت الْأُمْنِيَّاتِ تَلْعَبُ فِيهِمْ * * * فَهِيَ ډين لَهُمْ وَ دُنْيَا تدولُ

أَيُّهُمْ يُمْسِكُ الذری بيدیه * * * فَهُوَ ذَاكَ الْعَظِيمِ ، وَ هُوَ الأصيلُ

أَيْمُ يَنْشُرِ اسْمُهُ كُلَّمَا أُمٍّ * * * تِدْ بِهِ الْعُمُرِ ، فَهُوَ ذَكَرُ جَمِيلُ

أَيُّ شَيْ ءٍ نَرْجُو ، أَ نَرْجُوكَ * * * لِلْحَقِّ فَهَا نَحْنُ جَيْشُهُ المخذولُ

أَيُّ حِلْمُ نهفو إِلَيْهِ ؟ أَلَمَ يق * * * تَلٍّ لَدَيْنا حِلْمُ الْحَيَاةِ النَّبِيلُ

رُبَما نرتجيك أَنْ تَقْهَرُ الزِّيِّ * * * فَ ، فَهَذَا شِعَارُنَا الْمَحْمُولُ

مِنْ تری زَيْفِ الْحَقِيقَةِ فِينَا * * * أَنَّهُ عِنْدَنَا الْعَظِيمَ الْجَلِيلُ

دَمْعَهُ يملا الْجُفُونِ ، وَ إِنْ شا * * * ء اصْطِيَاداً ، فبسمة تستميلُ

حَسْبُهُ مَنْ سذاجة النَّاسَ أَنْ يج * * * رَيَّ لَدَيْهِ التَّكْبِيرُ وَ التَّهْلِيلُ

وَ يَعِيشُ المزيفون عَلَى اسْمِ ال * * * حَقُّ ، وَ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ مَقْتُولُ

ص: 297


1- دخيل : الغريب المستعمر .
2- پستام: يقطف .

نَحْنُ نَرْجُوكَ مِنْ جَديِّدُ ، لِكَيْ * * * تَظْهَرُ فِينَا فَقَدْ أُضِيعُ السَّبِيلُ

إِنَّهَا حِكْمَةِ الْإِلَهُ ، فَلَا تَب * * * لُغُ أسرارها لَدَيْنا الْعُقُولُ

غَيْرَ أَنَّا نهفو اليك وَ فِي الرو * * * ح حنَيْنٍ وَ فِي الْحَيَاةِ ذُهُولُ

نحن فِي وَحْشَةِ الطَّرِيقِ حياري * * * وَ لَدَيْكَ الْهَدْيِ وَ أَنْتَ الدَّلِيلُ

ص: 298

خلاص

«إلى الحاضر بين الغائبين إمامنا المهدي عليه السلام»

اُحاشي شِبْلٍ غطريف الطُّفُوفِ * * * وَ مَنْ عِنْدِ الْوَغَى أَسَدِ الْوُقُوفِ

اُحاشیه وآباءاً اباء * * * تُورِثُ مِنْهُمْ ضَرْبِ السُّيُوفِ

اَيَصْدَأُ سَيْفَهُ ؟ كَلاَّ ، وَ لَكُنَّ * * * قُلُوبُ فِي الصُّدُورِ لَدَى الْأُلُوفِ

أَحَقّاً نَحْنُ - شِيعَتَكَ - اخْتَلَفْنَا * * * وَ خَلْفِنَا عَنِ الرَّأْيِ الحصيفِ

وَ مَا اخْتَلَفَ الألى نَصَرُوا حُسَيْناً * * * وَ مَا هانوا وَهْمُ شَمِّ الْأُنُوفِ

وَ صِنْفنا إِلَى شَبِعَ ، وَ مِنَّا * * * مصنفنا وَ ذُو الهدف المخيفِ

فماغاب الْإِمَامِ ، وَ نَحْنُ غَبْناً * * * وغیبتنا شَتَاتِ فِي الصُّفُوفِ

وغیبتنا حُضُورِ فِي فَسَادُ * * * تفشی ، بَلْ وَ إِغْرَاءً العفيفِ

وغيبتنا سفاسف جمعتنا * * * لنيل مِنْ مَهَابِّ أَوْ شریفِ

وغيبتنا صراع لَيْسَ إِلَّا * * * عَلَى لَقَبُ يحاك مِنَ الْحُرُوفِ

وغيبتنا مفاخرة بِمَالٍ * * * وَ قَصَّرَ رائع فخم منیفِ

وغيبتنا تقيتنا قَوِيّاً * * * وَ فَتَكَ بِالْفَقِيرِ وَ بِالضَّعِيفِ .

ص: 299

من قصيدة بعنوان «صاحب الزمان»

لِحُبِّكَ فِي قَلْبِي الْجَرِيحِ لهيب * * * وَ أَنْتَ طبيبي وَ الْإِمَامُ طَبِيبٍ

وَ ذِكْرُكَ يُحْيِي النَّاسِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ * * * ويخضر مِنْهُ الرِّبْعِ وَ هُوَ جَديبُ

تناثر مِنْهُ الْمِسْكِ فِي كُلَّ بُقْعَةٍ * * * وهش لَهُ بَيْنِ الْأَنَامِ قُلُوبِ

فَلَا تَصْلُحُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ وجودكم * * * وَ لَا الْعَيْشِ يحلو وَ الْحَيَّاتِ تَطَيَّبَ

حَبَاكُمُ إِلَهَ الْعَالَمِينَ مناقبا * * * تَحَيَّرَ فِيهَا عَاقِلُ ولبيبُ

وحسب الْعُلَى فَخْراً بِأَنَّ ولاءَكم * * * عَلَى النَّاسِ حَتْمُ لَازِمُ وَ وُجُوبِ . . .

وَكَّلَ بِلَادِ تَهْتَدِيَ مِنْ سنائكم * * * وَ يُسَكِّنُ فِيهَا لِلنَّبِيِّ حَبِيبُ

رماها الْعِدَى فِي كُلِّ يَوْمٍ بنكبة * * * وَ كَانَ لَهَا مِنْ ذِي السِّهَامَ نَصِيبُ

فتلك ربوع الرافدين لحبكم * * * تَهْجُرَ مِنْها أَهْلَها وأصِيبوُا

مدارس أَهْلِ الْعِلْمِ قفري وَ ذُو النَّهْيِ * * * بِجَنْبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ غَرِیبُ . . .

ستبقى بِوَجْهِ الْكُفْرِ أَمْنَعُ قُلِعَتْ * * * وَ يَرْتَدُّ عَنْهَا الْكُفْرِ وَ هُوَ مُخِيبُ

وفيها إِمَامٍ أَعْظَمَ اللَّهُ شَأْنَهُ * * * حَبِيبُ لِقَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ قَرِيبُ

رحیمٌ کریمٌ كفُهُ تهطل الندا * * * وَقُورٌ صَبُورٌ صَبْرُهُ لِعَجِيبُ

ص: 300

خَلُوقٌ سموحٌ بِاسْمٌ متوسمٌ * * * صفوحٌ وَفِيُّ وَجْهِ الْعَدُوِّ غَضوبُ

بوطیء لِلْمَهْدِيِّ دَوْلَتِهِ الَّتِي * * * عَلَى الْكَوْنِ بَعْدَ الرافدين تَجُوبُ

ص: 301

من قصيدة «على صحارى الانتظار»

يا أَيُّهَا الْمَحْجُوبِ خَلْفَ غَمَامَةُ * * * شَحَّتْ لتمطر عَتَمَةٍ وَ مُحَاقًا

حاشاك مَا بِخَلَّت يَدَاكَ فملؤها * * * طوفان نُوحٍ حفز الإِغرَاقَا

فتوضأت مِنْهُ الْجِبالُ وتمتمت * * * رَدّاً وصلی عطره عباقَا . . .

یا وَاضِحاً مِثْلَ الغموض وَ غَامِضاً * * * مَثَلُ الْوُضُوحِ يُعَمَّقَ الأعمَاقَا

کالنور إِذْ يَغْشَى الْعُيُونِ فَلَا يَرَى * * * كالعشق حِينَ يَذُوِّبُ العِشاقَا

أَشُعْلت آلَافِ الشموع لِكَيْ أَرى * * * مَفْهُومُ سِرْ يَكْشِفُ المِصدَاقَا . . .

آمَنْتُ بِالْغَيْبِ السماوي الَّذِي * * * أَحْيَا النُّفُوسِ وهذب الأخلاقَا . . .

سأكبل الشَّكِّ الْجُمُوحِ لينحني * * * کبر التمرد فِي السُّرَى إطرَاقَا

يا أَنْتَ ياغدى المجنح يَا أَنَا * * * ألوي لإرهاصاته أعنَاقَا

لم اتَّخَذَكَ عَلَى الْمَنَابِرِ سِلْعَةُ * * * تُبْدِي الْخُشُوعِ لتبهر الأسوَاقَا

إني اتخذتك مبدأ متحررا * * * يُلْقِي عَلَى دُنْيَا الخنوع طَلَاقاً

ص: 302

وحي الانتظار

صَدَقُ الْمَحَبَّةَ للحبيب وصاله * * * وَ الصِّدْقِ أَصْدَقُ أَنْ تُرَى أَحْوَالُهُ

فَإِذَا قَسَا الْحِلِّيُّ فِي استنهاضه * * * فتدلل وَ النَّاظِرُونَ عيالُهُ

هي شطحة فِي الْوُدُّ لَا تَنْتَابُ مَنْ * * * أَلْهَاهُ عَنْ سَفَرِ الْعَدَالَةِ مالُهُ

قد يَشْغَلُ الْخَدِّ ابْنِ عشاق أَلمَهَا * * * ويحيله عهن النوافش خالُهُ

ولقد شَغَلْتَ بِأَنْ تَكُونَ جَمِيلَةَ * * * وَ يَظَلَّ يغمرنا الْوُجُودِ جَمَالِهُ

أستوحي بَابُ الْعَسْكَرِيِّ إِرَادَةٍ * * * ماكل منتكس تَشَتُّتَ بالُةُ

وأقول للاهين مَا لُغَةِ الْأَسَى * * * بِمُصِيبَةٍ وَ مُصِيبَةٍ أغلالُهُ

فإلى مَتى هذَا التَّبَاكِي ضَحِكْة * * * حَتَّى البكا شغفا تَغَيَّرَ حَالُهُ

ص: 303

مَسِيرَةُ الشَّمْسُ

نِعمَ ( الممهد ) حَسْبِيَ فِيهِ ذَكَرَنِي * * * محمدأ جَدِّهِ الْمُخْتَارِ تَمثِيلا

وحيدرا يَدَهُ الْيُمْنَى تعشقها * * * مِنْ ذِي الْفَقَارِ يشيد الْعَدْلِ مَصقُولا

وَ حِكْمَةِ الْحَسَنِ الزاكي معبأة * * * صَفَّ النِّضَالَ ليستل الهدی جِیلا

وثورة لِحُسَيْنٍ لَمْ يَزَلْ دَمِهِ * * * عَنْ كُلِّ حُرِّيَّةُ حَمْرَاءَ مسؤولا

وَ عَذبَ صَوْتَ لسجاد مرتلة * * * صَحَائِفُ العشق مِزْمَاراً وانجِيلا

وَ بَاقِرِ الْعِلْمِ طَافَ الْعَقْلِ تَلْبِيَةُ * * * بكعبتيه فاغنی فکرة قِيلاً

وَ جَعْفَراً هَذِهِ تَتْرَى مدارسه * * * فَأَيُّ عَلِمَ لهاما کان مَعْلُولًا

وَ كَاظِمُ الْغَيْظِ لَمْ يَظْفَرْ بشانئه * * * إِلَّا عَفَا لِيُعِيدَ السِّيرَةِ الأولَى

وحنكة لِلرِّضَا فِي شَأْنٍ أُمَّتِهِ * * * لَمْ تخترق ، وَ يُصِيبُ السَّمِّ مَفْعُولاً

وَ شِيمَةُ لجواد كُلِّ مُفْتَقِرُ * * * لراحته يَعِيشُ الدَّهْرِ مَكفُولا

وَ هَادِياً مَا مَشَى فِي خَطَّهُ أَحَدُ * * * إِلَّا وَ كَانَ مَعَ الناجين مَشْمُولًا

وعسكريا لَهُ جُنْدُ مُسَخَّرَةُ . . * * * لوشاء يُرْسِلُهَا طَيْراً أبابيلا

وَ صَاحِبُ الْأَمْرِ مَهْدِيّاً سُرِّيَّتَهُ * * * تَسِيرُ وَ الرُّعْبَ يَعْدُو قَبْلَهَا مِيلًا

وَ كُنْتَ فِي كُلُّ هَذَا أَمَةً عكست * * * فِيكَ الرِّسَالَاتِ لِمَا ثِرتَ قِنْدِيلًا

ص: 304

أَنَارَ دربا عَشِيًّا شيي ء نَسْلُكُهُ * * * تولولا فَتَمَشَّينا تَهَاليلا

وَ مَا استراب بِهِ إِلَّا أَخُو خطل * * * يُدِيرُ للرشد ظَهْراً جُنَّ مَخْذُولاً

كَمَا يُشَكُّ مَعَانِي لُجَّةِ غَرَقاً * * * بِكَفٍّ نُوحٍ ، وَ يَأْتِي عُرْسُهُ النيلا

وَ مَنْ تَطَلَّعَ للعلياء ساوره * * * شَكَّ الْيَقِينِ سِوَى الْمُرْتَابِ ضليلا

يُحَاذِرُ الْفَوْتَ إِدْرَاكاً بِهِ أَمَلاً * * * وَ يُدْرَكُ الْفَوْتَ مغرورا ومجفولا

تعشق الْحَقِّ قَلْبِ كُلِّ سِيرَتِهِ * * * عَنْ لآ تجانف لَا فِعْلًا وَ لَا قِيلًا

مَسِيرَةِ الشَّمْسِ (حَادِي الْعَدْلِ ) سَارَبِنَا * * * وَ تَخْلَعَ الشَّمْسَ مِنْ نُورِ أكاليلا

ص: 305

من قصيدة بعنوان (سباحة الانتظار)

أذوب بِأَهْلِ الْبَيْتِ مَا ذَابَ عَنْهُمْ * * * بِنَارٍ خَمِيسٍ مارقون وأعوانُ

أروض فِي وَضْعِ نُفُوساً تضعضعت * * * سِوَاهَا سَقَاهَا حنتم الْيَأْسُ قطرانُ

ونألف أَنَا صابرون وَ نَتَّقِي * * * لَظَى أَلَّفْة الْوَضْعِ الَّذِي اعْتَادَ غلفانُ

بإخمادها ماحرها وَ زَفِيرَهَا * * * وواحدنا فِي شَرَعْة اللَّهِ بردانُ

ويرجع بِالْخُفَّيْنِ إِبْلِيسَ آیسا * * * وَ مَا اصْطَادَ مِنْ أَبْنَاءِ آدَمَ لَا كَانُوا

وَ لَا كَانَ فِقْهُ بالهزيمة مُرَهَّقُ * * * يُرَاوِحُ فِي مرساه يزبد حَيْرَانَ

يُحَاوَلُ قَتَلَ الرَّفْضِ فِينَا وَ فِطْرَةُ * * * منورة مَا دَامَ لِلَّهِ عبدانُ

وفينا کتاب اللَّهِ وَ الْعِتْرَةِ الَّتِي * * * لَها خَضَعَ السيفان عَمْرِو ونعمانُ

كثيرون مِنذ آبَتْ برهط ذَلِيلَةُ * * * عَنِ الْآلِ هَبُوا للتباهل نجرانُ

تكسرت الْأَقْلَامُ عاجت عيلهم * * * وعاجوا يصيدون الرَّدَى وَ هُوَ ختلانُ

سعادتنا إِذْ نَقْتَدِي بِذَوِي الْعَبَا * * * إِلَى مَنْ بِهِ شع الْمُبَارَكِ شَعْبَانَ

بتمهيدنا نرتاد دینا بِنُورِهِ * * * يحفزنا ، كُفْ ءِ النِّيَابَةِ أكوانُ

نحاول عِزّاً أَوْ نحوز شَهَادَةُ * * * بِغَيْرِهِمَا الْإِيمَانِ لَفْظٍ وَ عُنْوَانِ

ص: 306

هجران

سياني إِنْ عُتْبَت عَلِيِّ البيد * * * أَوْ إِنْ عُتْبَت ، مَغْرِبِ مفرودُ

متوحد وَ الْأُفُقِ أَخْلَفَ هَالَةَ * * * فِي نخلتي وحاصلي مبلودُ

أمسوم فِي السَّاجِدِينَ وَ لَمْ يُثَبْ * * * وَ عَلَى فِتْيَت فُؤَادِهِ مسجودُ

وَ مَخْلَدٍ فِي مَا النوی أَبْوَابِهِ * * * مغلوقة فِي قَعْرِهِ مخلودُ

حتى إذاحفت بِطَائِفٍ خَانَهُ * * * قَدَمَاهُ وَ هُوَ بِطَائِفٍ محشودُ

فَكَأَنَّهُ الْمَوْجُودِ إِلَّا أَنَّهُ * * * كالميت مِنْ حَرَكَاتِهِ مجرودُ

هَلْ أَخْلَعَ الْأَرْضِ الَّتِي فِي تَرْبُهَا * * * مَنْزُولٍ مَنْ مِن تِرْبُهَا مصعودُ

فاهيم لَا حَدَّ يهين مَسَافَتِي * * * طِلْقاً . . . وَ كَيْفَ تَحَرَّرَ محدودُ

أم آكُلُ الصَّبْرَيْنِ أَكْلُهُ صَائِمُ * * * عيديه عقبی صَوْمَهُ مردودُ

عجلان مَا ذُبُلَ الْهِلَالَ وغائل * * * کالدهر لَيْسَ كَمِثْلِهِ مَشْهُودُ . . .

ص: 307

وطن الانتظار

وَطَنِي التَّعَارُفِ والسلافة لَذَّتِي * * * وغدي بكاسي تستزيد ډِناني

وَ زَمَانِي الْمَحْدُودِ غَيْرِ مُحَدَّدُ * * * وَ مَوَدَّتِي فِي الْعَالَمِينَ حَصانِي

وطني الخريطة لَمْ يُحَدِّدُ رَسَمَهَا * * * وخريطتي مَا فَاضَ مِنْ وِجدَانِي

وَطَنِي أَنَا أجتث كُلِّ عُفُونَةٍ * * * فُرِضَتْ عَلَيَّ مِنِ الْعُتُلِّ الفَانِي

أمضي بفأسي حاطما قطرية * * * هِيَ لَاتَ دَهْرِي وَ الظَّلَامُ الثَّانِي

وَ يَعُوقَ شِرْكُ عَاقُّ صائلة النَّهْيِ * * * عَنْ لَذَّةِ التَّوْحِيدِ فِي الإِنسَانِ

أمضي بفأسي ثُمَّ أَتْرُكَ نشوتي * * * تَخْتَالَ مائسة لَدَى الأكوَانِ

تستشرف الْوَطَنِ الْبَعِيدَ وَ إِنْ دَنَا * * * لُغَةِ دُنُوِّ الْحَقِّ فِي العرفانِ

وطني التَّعَارُفِ لَا خُطُوطُ سِيَاسَةَ * * * تفني وَ شَأْنِي فِي الْمَحَبَّةِ شَأْنِي

ص: 308

لهجة الإنتظار

أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ تَلُومُونَ صدقي * * * وصریحي مشعشعا فِي الأماسِي

ما أَنَا الْبَغْيِ طَائِفاً حَوْلَ عَجِّلْ * * * لَا وَ لَا السَّامِرِيُّ أخشی مَساسِي

لهجتي لَهْجَةً النَّسِيمُ عَلِيلًا * * * وَ لِسَانِي يَنَمْ عَنْ إِحسَاسي

وَ انْتِظَارِي يَصِحُّ فِي نبذي النب-* * * ذ عَلَى النَّهْجِ لَا بنبذ أُقَاسِي

لَأَرَى الْأَرْضِ أَخِصْبَت بَعْدَ جَدْبٍ * * * تَشْرَبِ الْغَيْثَ نشوة كَالنؤاسي

فمقامي بِأَنْ أَكُونُ شَهِيداً * * * أتزكی مِنْ دَسة الْأَحْلَاسَ

أَنَا جُزْءُ الطباق فِي الطُّرَفِ الأع- * * * لِي وَ ثَوْبِي مُطَهَّرُ مِنْ جِنَاس

لَا أَ مَارِيُّ وَ لَا أَدَّاهُنَّ خَوْفاً * * * مُدْهُنِ النَّاسِ مُثْقِلِ الْوَسْوَاسِ

لحظةُ الحبِّ حين تصدقُ تأبى*** أن تَلظّى أسيرةَ الخنّاس

كلُّ صمتِ بُعيدَ أن يُلحظَ الحق-*** قُ مُهيماً كنظرةِ الإختلاس

والذي يُرزقُ المعينَ مِن الما*** ءِ فترتيبُ غُسلهِ ارتماسي

لا يجوز القياسُ في لغةِ الفِق-***هِ و وفي العشق مذهبٌ للقياسِ

قد تحمَّستُ للهدی مهدوياً** لست أهوى التلوُّنَ الدبلماسي

ص: 309

حماسة

لا تيأسي نَفْسِي وَ تُوبِي عَنْ کل سالفة الذُّنُوبِ وتأسي بِالْأَخْيَارِ حَبْلُ اللَّهِ واعتصمي وطيبي بِالطَّيِّبِينَ مُحَمَّدِ وبآله ذوبي وغيبي وبنجله الْمَهْدِيِّ مَوْلِدِهِ أُتِيَ مِسْكُ الطيوب لَا تيأسي وَهْماً يُقَالُ الْيَأْسُ مِنْ طَبَعَ الْأَدِيبُ الْيَأْسُ كُفرٌ بالحجا بالسائرين عَلَى الدروب بالحاملين الْفِكْرِ بِنَاءِ بآمال الشعوب بِالْحُجَّةِ الْمَهْدِيِّ يَنْهَضُ لِلْقِيَامِ وللوثوب وَ يَرُوحُ لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ الْقُدُسِ فِي الْبَلَدِ السليب وَ يَقُومُ فَوْقَ الْمِنْبَرِ المحروق ياله مِنْ خَطِيبٍ لِيَرُدَّ عَادِيَةَ الْعَدُوِّ وَ يُحْرِقُ الْعِلْمِ الصليبي

ص: 310

غيبة

عَلَيْكَ قَصَّرْتَ الشَّعْرِ وَ هُوَ شَرَابِي * * * وَ خُمْرَةٍ عشقي وانتشاء لبابي

عَلَيْكَ فَأَنْتَ الْحَبِّ وَ السِّرِّ كُلَّهُ * * * مراياك ياعدل الْكِتَابِ كِتَابِي

وَ ما كُنْتَ مِمَّنْ يرقب اللَّيْلِ ناضدا * * * فراقده فِي زینب ورباب

ولكن بِأَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتِي مَصْرَعِ * * * وَ رُبَّ غَنَاءَ مِنْ جوى وَ عَذَابِ

توشل صَبْرِي فاستفز صوابي * * * بِمَا تنطوي نَفْسِي عَلَيْهِ ومابي

من الْوَجَعِ الموروث تبلی مَرَاحِلَ * * * مِنَ الْعُمُرِ لَا يبلی جُناحَ غرابي

تَرَصَّدَ طَرَفَيِ مارنا ، مَلَّ نكسه * * * لتنقض أظلاف عَلَى أهدابي

وقف أُنَاجِي اللَّهِ وَقَفْتَ يُونُسَ * * * يَخِيطُ ظَلَامِ اللجتين ثيابي

أليل اكتمال الْبَدْرِ أعشو يلومني * * * توهج شَوْقِي واشتعال حرابي

أَبَا أَمَلي لَمْ يَبْقَ إلآك أرتجي * * * فُراتاً ، فَقَدْ أنضبت كُلِّ قرابي

وأشفق تجفوني يفاعة صهوتي * * * فأكبو ، وَ لَيْلٍ العاشقين مرابي

وإن كُنْتُ أَبْكِي مَا أَنَا فِيهِ مِنْ جوى * * * فَما أَنْتَ فِيهِ فَاقَ كُلِّ نِصَابٍ

تَحَمَّلْتُ مِنْ دُنْيَاكَ يَا الصَّبْرُ كُلَّهُ * * * تُصَاحِبِ دَهْراً وَ هُوَ شَرُّ صحاب

لقد جِئْتُ أَدْرِي أَنَّنِي غَيْرُ حَاضِرُ * * * وَأَنْ نشيدي لَهُوَ مَحْضٍ سَرَابٍ

ص: 311

وَ أَدْرِي بِأَنِّي شاعِرُ عِنْدَ حَرْفٍ * * * عَزِيمَتُهُ وَ الْفِعْلِ لَيْسَ بدابي

وأدري بانا نحن سردابه الَّذِي * * * يَغِيبُ شَمْسِ الْحَقِّ خَلْفَ حِجَابٍ

وَ لَكِنَّنِي أَدْرِي هَوَاكَ تَطْلُعُ * * * وَ إِنْ غِبْتَ فِي أفقيك كَانَ غيابي

ص: 312

کشف الانتظار

رَأَيْتُ أَجْلَى وَ الْمَدَى موحش قِفْ * * * تُضَاحِكُ فِيهِ الشَّوْكِ وَ الْحَنْظَلِ المر

ففي سَاحَةً لَمْ ينجبوك كَأَنَّمَا * * * سيخبرهم جِبْرِيلَ مَا الْيَوْمِ وَ الشَّهْرُ

وَفِيُّ جِهَةِ لَمْ ينكروك وَ إِنَّمَا * * * بتسويفهم إِيَّاكَ أَنْ تَظْهَرَ النكر

كأن لَمْ يُرِدْ أَنِ الظُّهُورِ مباغت * * * ليسترجع التمهيد مَا أَفْسَدَ الدهر

كأن ، وَ مَا للمرجئين سِوَى الدَّنِيَّ * * * وَقَدْ رُجِمُوا الْغَيْبِ ، الْوِلَادَةُ فاغتروا

وَ مَثَلُهُمْ مِنْ سوفوا ، جَرَمَ كُلِّهِمْ * * * بِأَنَّ قَتَلُوا التحفيز ، مَوْلَاهُمْ الْكُفْرِ

أرادوها دُنْيَا مَا انْتِظَارُ إِمَامُهُمْ * * * بمستعذب وَالِدَيْنِ مَا شعشع التبر

أرادوا ، وَ لَكِنَّ المریدین عدلكم * * * قَلِيلُونَ عَدَا فِي مودتكم كثر

توزعوا فِي الْآفاقِ ، لكِنِ هديكم * * * يُوَحَّدَ وَ الْفُرْقَانِ مَا جَمَعَ الشر

يعدون مَا اصطاعوا للقياكم بِهِ * * * وَقَدْ يَكْشِفُ الْإِعْدَادَ مَا خَبَأَ السَّتْرَ

ص: 313

ثمار الانتظار

أَحْبِبْ هَوَاكَ فَإِنَّهُ مَحْبُوبٍ * * * وَ اطْلُبْ نَدَاكَ فانه مطلوبُ

جاوز جُنُونُ الِاضْطِرَابُ مطببا * * * تَمْضِي إِلَى سَكَنَ عَلَيْكَ يطيبُ

متوخيا سعدى اللَّيَالِي والربی * * * الْخَضْرَاءِ تمرح فِي دناك تؤوبُ

ثمر انتظارك سَوْفَ يَنْضَجُ فِي الْمَدَى * * * عِزّاً وَ دِيمَةً راحتیك سكوبُ

ويقول هیهات العيق سِوَاكَ مِنْ * * * شَغَلَتْهُ عَنْ نَهِلَّ الْغَدِيرِ ذُنُوبَ

وتحمدل الْحَمْدُ اللَّذِيذِ سَمَاعَهُ * * * صِدْقاً لَدَيْهِ تَقْشَعِرُّ قُلُوبِ

تَزْهُوَ كَمَا يَزْهُوَ بلیلی فیسها * * * طربا وينسی زَهْوُهُ المَطروبُ

متألقا فِي الْحَبِّ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى * * * فَخْرُ طُلَّابِ سلافه الْمَكْرُوبُ

لیلاك نَظَرْةُ مِنْ براك تطلعا * * * وَ حَرَاكٍ كُدِحَ وَ اللِّقَاءُ قَريبُ

هي منجر الْمَعْنَى المراډ وُجُوبِهِ * * * يَبْدُو إِلَيْكَ كَأَنَّهُ مَنْدُوبُ

هِيَ عشقك الْمَاضِي وحاضرك الَّذِي * * * يزری بِهِ وَ مَجِيئَكَ الْمَحْجُوبِ

لَا بُدَّ أَنْ تلفى جِمَاعٍ مفاتن * * * طوعي فتسفر وَ الْحِجَابُ يغيبُ

ويسيل مَنْ فَرَّطَ اللذاذة خَدِّهَا * * * عَسَلًا وَ قَلْبَكَ فِي الصَّعِيدِ يَذُوبُ

فَالْحَبُّ جُنَّةُ مِنَ تجنن عَاقِلًا * * * عَقْلًا ذريعي المكوث يَخِيبُ

ص: 314

تَكْفِيكَ أَيَّامِ الزَّوَالِ تعاقبت * * * فِي غَفْلَةٍ ووجودك الْمَسْلُوبَ

لَا تَبْتَئِسْ فالأربعاء قُضِيَة * * * وَ الْوَقْتِ مَنْ فَعَلَ الْفُتِيِّ مَرْغُوبُ

فَارِغَب وَ رَغِبَ فِي النَّوَالِ شبيبة * * * فِي قبلتيك وَ خَصْمُكِ المَرعوبُ

لتصاحب الْمَهْدِيِّ أَسْعَدُ نَاظِرٍ * * * وَ يَكُونُ بَهْجَةٍ بِذَلِكَ المَصحُوبُ

ص: 315

قراية عراقية

للعراق الذي صوت نهج البلاغة

والشعر والأمنيات الفرات

للعراق الذي بدعة نزفه

لبراق الحسين الذي شاءه

تربة من نجيع البطولات

تهزأ من ظنهم أن أرضا جرى دمه في رباها موات

إن دم الحسين هنا نخلة

نخلة في الزمان المكان ...

وليس بستين يوما وأسألك الدعوات

اسألوا...

عن وصاوص نسوانكم

والمحيض

وعما خفي

واسألوا...

يسأل الله مليون مؤودة في ضريح الحسين غداة إنكشاف النقاب ، کفی ...

ص: 316

إن مريم عفتها عفة

والذي خاله في اليمين سيأتي

التميمي يحمل رايته

واليماني يعرف قبلته

الفرات يقول لنا سوف يأتي

النخيل تقول لنا سوف يأتي

القباب تقول لنا سوف يأتي

الشموع التي في أكف الجياع تقول لنا سوف يأتي

البخور، النذور، الأضاحي الهزيلة في السنوات العجاف

تقول لنا سوف يأتي

الدموع تقول لنا سوف يأتي

الذي سوف يأتي يقول لنا

سوف آتي

انتظرني على باب كوفان

حيث علي هناك

أراك على مقبض السيف متكئا

لا على ما أراك

يهوذا الذي فيك من خصلة الدم يخشی

فعل هذا النجيع العراقي تنسی

أيا روزخون؟!

المنابر ليست لكم..

والحسين بريء من الرائدين مطامحه في الشجون

ص: 317

الحسين هنا

في العراق الذي جاءه

والذي شاءه

في القلوب التي رفضت عفلقا

في النحور التي انتفضت

والحسين قلادتها

لم يمت أيها الروزخون الحسين العراق

العراق الحسين...

وذاك الذي ألف طف خلقتم له

حزنه ألف نوح

فألف طريق قطعتم عليه

طريق العراق له

فالطريق لمن خطه

وعلي يخط الكتاب الذي خطه كوفة ...

يوم من كل حدب وصوب يثوب الهداة إليها

كما يمسك الطفل ذیل عباءة أم

يجيء الهدی ممسكا بالسواد العباءة

یا لابسا كل هذا السواد

سلام عليك

الحسين يقبل ما بين عينيك

وليخسأ الخاسؤون...

ص: 318

رحلة الانتظار

أؤمن حتى لو كان الدرب إليك دهورا

وكما ظل يسوفه نفر

هل کشف الغيب؟!

أؤمن أن التمهيد يدل عليه

يمسكه أن ينأى أكثر

يجعل هرولة الوجع النازف نحو الحتف رياحا تقتحم الغدر

يصيرها داودا يقصف بالحجر الطائر جالوتا

يلوي حول رقاب الجالوتيين السيف

ويجعل إيماني أكثر:

أن الرحلة من رحلة نوح في الطوفان

إلى موسى يلقيها تلتهم السحر

إلى جن سلیمان

إلى يحیی بنهض من دمه يقطع في أفئدة هامات الخشية

تنحسر الأسطورة عن وجه الطاغوت

إلى عيسى لم يقتله الحقد الإسرائيلي، ولا أدر که الصلب يطوف بسامق نور الكعبة

ص: 319

يهبط مؤتما بالحجة يوم الفتح

إبراهيم يحطم أوثان القوم ولا تحرقه نار النمرود

لرسول الله الخاتم كانت توطئة

والرحلة تبقى تتحدى لججا مائجة

لا ملل يقعدها أبدا، لا يوهنها صخب البحر

لا تخشی مخلب تیار، يغريها الأمل الموعود

و نطوف نطوف ونبحر لا ملل

نبحر نحيا كل صنوف القهر

وصد سبيل الله المتسلل من لحية دوسي، أو عسل أموي، أو مكر أبتر

نحيا ها ننتظر الحجة بالتمهيد ولكن نحيا أكثر

ص: 320

بيت الكوفة

حين بلغت الكوفة سُکنی

سكنتني الشهوة للمعنی

سكنتني السكنی ...

ومشيت على وجهي

لا وجهة لي...

غلبتني النخله في الصبر

طرحت عذوقي

أسأل عنك الكوفة

عنها/ عما بين العاشق والمعشوق

أفي كتب التاريخ معنی ... وجدتني

أتعقب آثار عروقي ...

وجدت قريشا قد أناخت رکابها بواد يبيس بعد کوثی وأورها

وأن أبا جدي علي وأحمد مصلاه في أرض السواد وطورها

ومولده ما اختار کوثاه حیدر حنين قديم للعراق ودورها

أولئك آبائي، وتلك قبابهم تشع على كل العراق بنورها

فما شأن تكريت التي لا فصاحة ولا شرعة بالرافدين وسورها

ص: 321

لقد صلحت كوفان يوم تشرفت بكوخ علي لا بجور قصورها ففي كتب التاريخ معني... وجدته

معنى يلبسني وأهيم

ما أخطأت طريقي

سیدور التقويم... صديقي

ويعود لبيت الكوفة

أهل البيت

وتمر على سكك الكوفة أغنية الريل :

«مرینه بیکم حسن

واحنه بغطار اللين

واسمعنه خطبة علي

وشمينه چف کمیل ...»

حلوة ...

والكوفة أحلى : طهرني الله وأهلي من میشیل سكنتني الكوفة أغنية :

واحنه بغطار الليل ...!!

ص: 322

نجوم الأنتظار

من لا يحمل هم التغيير

يناويء من يحمل هم التغيير

ويبدد طاقته في تكريس التطييف

يغالي في رفع دعاة متأسین

يتعنت في إطلاق فتاوى التكليف الفردي

يتنطع حتى تستوحش منه الفطرة

يتعبقر في الصد

صورته واحدهٌ في عمق التاريخ إلى اليوم وفي التصنيف

کالأفعى في اللدغ وفي الملمس

في ضحكة لحيته يتقدس

آیته أن لا يتوخى تغيير العالم

و یناویء من يتوخاه

قاتله الله عظيم الأثم

قاتله الله

والعبرة حين الرمي بتسديد السهم

ص: 323

أهل الحق التغييريون سينتصرون

ودونهم الدون

ستافل أنجمهم كاذبة

وتشع نجوم صادقة

في يوم آت

في يوم...

ص: 324

حريق الإنتظار

كان بالزقوم واليحموم والأفيون محفوفا وبالطحلب درب الانتظار

كان ذاك الزمن الشاغر مثل الجوهر الفرد الذي لا يتجزأ

كان شيئا غير كل الكون في سحنته

كان مشغوفا بإفلاطون لا يعشق غير الانبهار يا زمانا

كان - إن حققت في واقعه الممجوج - أفيون الشعوب قاتل الله زمان الانتحار

غير أن اليوم ما عاد لإفلاطون فينا من وجود

شبهة الأكل والمأكول ماتت

وهدى الإسلام أحيا الأفئدة

أحرق الأفيون في كل القفار

ولسان النار شلالا غدا ينعش درب الانتظار

وإذا بالحق يجتاح جميع الأصعدة

وإذا الأحبار أحلاس البيوت

عصفتهم أعين الناس

كما يعصف بالنفخة بيت العنكبوت

ص: 325

فتح الانتظار

أعيش أحيا ذلك البقاء

ما زلت أهوى باسمه الحياة

ما زلت لولاه لتقت الموت

ولم يزل يعبق في النوز

يلفني يقتل في اليأس والنفاق والفجوز

يحدو بناقتي ولا يتركها تنوخ

يملؤني حضور

مثل حضور جدتي أرهقها الزمان

شابت ولم يشب بعينيها دعاء العهد

تتلوه حتى جاءها اليقين

يا صوت جدتي وأمي ذلك الحنين

يجعلني أهوى ولا أهوى انتظار الموت

... صوت يسليني فأنسی وطأةالدهور

أجتث أدران الخنوع، أعشق الرجوع

إلى صليل حيث يغدو زيدي القتيل

دمي الذي يسبح فيه زورق الأمل

ص: 326

يسير، يعدو، يقذف الظروف

والحر والبرد وفقه العطلة الكبيرة

ويخرج القرآن من هجرة الظلام

ومن قلوب لم تكن تعرف غير الرين

يقرأ فيه سورة النصر

وألف وجه ثائر شهيد

حمزة، حجر، میثم، حسین

یحیی، حبیب، باقر، سعيد

ويقرأ السورة مرتين

ليبلغ الفتح الذي ينتظر الإمام

يقرأ حتى مطلع الفجر

وتشرق الشموس من جديد

ص: 327

إنتفاع الإنتظار

أحرث الأرض وأغري ديمي

بهطول لذ مثل النغم

أحرث الأرض فتهتز السماء

طربا والودق دمع الفرح

تأنس الديمة أن تلثم محراثي الصبور

وأنا أحرث أرضي وانتظاري مرحي

أبصر الديمة في جو التلاقي، والسحاب

شرعت تهزج في ركب النزول

أتلقاها ليخضر ترابي

وأرى الشمس بلا غيم تنير

لم أزل أرمق فيها قدري

لم أزل أبدعه لحن انتظار في الطلول

في جبال الصمت

في لجة شك

في ارتياب

ص: 328

أتوخي في المدى وجه انتفاعي، والدعاء

لغة القلب وتغريد الطيور

في مهب الريح تبني عشها العالي

لتحيا بالأهازيج العصور

ص: 329

كُتُب

فاتحة:

حيث كنت معه في الربذة

في العراء، كان معنا أبو ذر

بنى له الشيخ قصيدة : .

-قطعت إليك البيد يحدو بي الشوق

أيا ثائرا لله غايته الحق...»

بنيت لها عتبة :

- نفيت لعمري كل نفي إشارة

إلى النصر كالغيث المشير له البرق ...

في الأنفس /في الآفاق

كان أبو ذر

والبيوت في القصيدة

ونحن على العتبة

الكتب:

(1)

في الهج

ص: 330

قَالَ عَلِيُّ :

لَوْ كانَ الْفَقْرَ رَجُلًا لَقَتَلْتَهُ

مُشْكِلَةُ الْفَقْرَ أَنَا نَعْرِفُهُ جَيِّداً

وَ لَا نَعْرِفُ عَلِيّاً

حَسَبَ مَا قَرَأْتُ

فِي مُشْكِلَةُ الْفَقْرَ

(2)

لم أنتبه

منذ الصبا

على قراءة مختصر النحو

في زمن السنين

حيث الصدى ما زال :

أنح هذا النحو

یا دولي...

في جامع البصرة

وقعت عيني عليه

والفراهيدي له عين

كالدولي الأول

وصاحب مختصر النحو

على علاقة بالعين ...

للعين في علم النحو سر

ص: 331

کما للنحو سر في العين ...

(3)

- متن :

قالوا:

إن مبادىء علم الفقه

رسالة عملية..

وجده قراءة عملية

بين كل مليون كاتب

قاری واحد

ولكن لا يشعرون..!!

-حاشية :

الذين يكتبون يصفون حجر

الذين يقرأون يتركون أثر...

(4)

في انتظار الإمام

أكثر من طريقة

طريقتي الوحيدة

في انتظار الإمام...

ص: 332

(5)

في مباحث الألفاظ

يعتقلون اللغة

في زنازين الفلسفة .

... الإنسان هو الأسلوب/ اللغة

كما قال بوفون والقرآن من قبله قال :

«كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ »

بتفسير مغنية ،

وتباسط الشيخ مع لغته العزيزة

في دروس

في أصول فقه «العالمية» .

۔ لفظ المباحث بغيضة

خاصة مع الألفاظ

کالزنازين الأعجمية ...

خاتمة :

لي أستاذ واحد

هو الفضلي

لكنه أكثر من أستاذ

لذا أنا

أكثر من عالم...

ص: 333

انتظار طوعي

إبريق طوعی زمزمي

و بيت طوعي البيت

وخاطري يطوف

يطوف حول البيت عل مسلماً

يخرج لا يذبح

لا تكون كربلاء

ويخذل الحسين

یا ظل طوعي عد إلينا يا خرير الماء

ولتسق في أعماقنا براعم الإباء

علم هوانا كيف يهوى، يعشق الحسين

وكيف يسقي مسلما

يهزأ بالمدى

يقزم الأقزام لا يصغي لغير الله

يحيا الحسين مثل طوعي لا حياة الآه

ينتظر الإمام لا بالليت

بل مثل طوعي حين آوت ضيفها في البيت

ومثلها حين سقته شربة من ماء

ص: 334

وقرعت وليدها تنتظر الإمام...

لا كالذي عاش انتظار النور في السرداب

وغلق الكوة بعد الباب

يهمس اللهم إنا نرغب

إليك في دول... لة كريمة

لا هم عنا فرج الهموم، والضجر

يدعو،

فتغزو قبوه المقموع تنعب

أغنية الملهى التي تضج ... «لا خَبَر».

ص: 335

غريب الانتظار

في حضم الترهبن بين المحاريب والأقبية

في لزوم الصوامع دهرا

في ارتداء المهانة زهدا

في انتظار یعزز سطو الطغاة

يصادر حرية المؤمنين

يسلب أرزاقهم،

كل ثرواتهم

يصير أرواحهم في أيادي العلوج

جاء يقلب منقلب الضعف والمسكنة

حاملا عز إسلاميه

کانسا ذلة منتنة

طائفا في الديار

يردد أنشودة لانتظار عجیب

لانتظار يعيد العلؤ الإلهي من سمة الالتزام

يذيق الملايين طعم التدين حلوا

يملكون البلاد، الجبال، المنابع، ثرواتهم، والسهول

ص: 336

فيدفعهم شوقهم لانتظار الإمام

يعدون ما اسطاعوا من قوة

ورباط الخيول.

ص: 337

نشيد الانتظار

هذا الدم المسفوك يرسم في عيونك حبه

هذا الدم المسفوك يرقص في يديك

هذاالدم المسفوك يرسم في يديك العشق بيعة

وهواك سافر في عروقه سرمديا عبه

وطفت على أمواجه تسعى لنورك ألف شمعة

ورحي الزمان تدور تطحن أضلع الشلو الأخير

وتهشم القطب المعرق في أيادي الدائرين

فهوی رمادا فيه من عرق المخالب والنتن

أثر، وآثار الأضالع ياسمين

حملتها أنسام الرياح تشمها ومتى تشاء

هي نشوة الراح العتيقة وهي عود من بخور

لعب الأوار بها فغيبها الأنين

فاستيقظت ويداك تنشرها عبيرا من ولاء

ووراء تلك الريح أفئدة مجنحة تطير

ص: 338

خلعت جسومها للمخالب والزبد

وتألفت سربا يشق طريقه نحو الأبد

هي لم تعد عمياء مذ خلعت جسومها لا تراك

عرفت طريق الورد فامتعط الخريف

فتحجرت في نبتة الزقوم موعظة الدنس

وتعرت الأوراق من شجر البطانة مات ساقيها بأحماض السلس

وسري لمنبعه النجيع فلم يعد يشكو الوهن

فتراقص الدم في ترابك والقلوب في راحتيك غفت يناغيها الغدير

ويغرد الدم حين ادرك دربه :

ولی زمان الكبت مذ بعج الخريف

ولی و جعجعة الرحى مثل الحفيف

فارفع عن القطب المهشم یا أبا جهل يديك

واغرب فكل الرمل أججه الإباء

والرمل والدم والأزاهر والقلوب

كفروا بفقه الشاي والرز الملون والدجاج

كفروا بفقه الاستكانة

فتساقطت كل اللحى كالثلج من أبراج عاج

والمرجفون تنافروا

يبكون حظهم كما تبكي النعاج

ص: 339

وتحول الحجر الذي ألقمته حجرا حمامة

طارت تحلق في سماء الإنتظار

تشدو لكي يهتز إسرافيل من طرب يثور

ويهم يعزف من جديد لحنه فجرا لينطلق القطار

هي هكذا بثت أهازيج انتظارها في النجوم

ليبث إسرافيل في صور الهوى نغم القدوم

فتموت في جذع السقيفة كل ذرات السدیم

وتطوق الحجر المقدس والمنائر والحطيم

وتشع في الآفاق أنوار الهداية والإمامة

هو هكذا أضحي نشيد الإنتظار

وهكذا أضحت تغنيه الحمامة

ص: 340

ابتهال

نورا،

يستمد قدسيته من «عرش المسرة السماوية».

ومن موضع

«رحمة الرب»

في معالي كبريائه

الكريمة،

تتوقد في هذا الكون وفي، عالمي

هذا المكبل بظلمات الظالمين

وتمنحني «عشقي لك»

من أجل أن اغتسل

بطهره، من مذلة

عثراتي الآثمة

فأتنصل عن

غواياتي، وضلالة

الغابات المدلهمة بالانحطاط

ص: 341

والتمزق والوحشية !

يا سيدي المعلم «الحبيب»

إن لم أكن أستظل ببركاتك،

فأي شيء يغطيني ويبعد

عني

هجير الوحشة اللاهبة؟!

أنت - عنواني

- أنت - هويتي

وذكرك بيتي الكبير

وتعاليمك

بصیرتي التي بها أنظر

إلى الحياة من حولي وفي داخلي،

بوضوح جريء

لا يخطىء غاياته

في مسيراتها إلى الأعالي العظيمة!

عندما عشقك قلبي

انفجر سراجا يضيء

أعماقي الحائرة!

ولما أحبتك روحي

انفلقت عن

ص: 342

كنوز أسرارها الطيبة

واعطت

لوجودي

معنی متوهجأ

بالشجاعة

وبالجمال

الساحر

السلام عليك

أيها المخلص

السلام عليك

أينما كنت

مستوحدا في مأواك

المجهول عنوانه

أو -

تحت لهيب الشمس في

نهاراته المحرقة في هذا

العالم الجهنمي

أو محاطا بالعتمة

في ليالي غربتك

المعبأة بالهموم

والألم

حيث تؤدي

ص: 343

صلاتك في أحد محاریبك

المنحوتة من الفضاء

الكبير ...

ص: 344

الرؤيا المباركة

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»[التوبة: 33]

السماء تمطر نورا، فتمرع الأرض بالخلاص

التنفض عن وجهها الظلمات الخائنة

وبعد أن غرق أكثر الناس بآثامهم!

صحا الفضاء من الغبار الذي أوجع آفاقه المتسعة..

وانتفض الضمير واقفا من رقاده

وتدفقت الرؤى - من بصائرها المغروسة

في النفوس المتعبة، بالفرح المقدس .

وصدحت البشارة من أعماق مستقبلهاالمشرق،

اشربي خطاياك يا ليالي المحنة، واغتسلي يا أرض بعبق القادم من

ص: 345

جبين السماوات - متألقا يحمل

سیفه

زيتونة من الضوء القاطع،

التذبح بعنفوانها - الباطل من جذوره

الخرساء.

وهناك

على دكة الخلود: میعاد لقاء جنود الله

الأشاوس حيث المنقذ يتقدمهم عندما

يبتدئون مسيرة المسرات الأبدية

في احتفالية «المستضعفين»وقد

«أورثهم الباریء سبحانه»

أرضه

ممهورة بعصر «بقية الله العظمی»:

وهي ترفل بالمجد الباسل .

ص: 346

لن تخلو الأرض من نورها

قال أمير المؤمنين عليه السلام

«اللَّهُمَّ بَلِيَ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وبینانه »(1)

من كرم العرش العلوي : تألقت الأرض بأنوار

هداها، وارتشفت الإنسانية مبادئها السامية .

ولكي يحتفظ الوجود - بحياته ، انتقى (الباریء)

سبحانه من (لوحه المحفوظ) - بقيته العظمی

منتقاة من أطهر صلب نوراني مقدس.

فلو لم تكرم السماء - بهادیها (عجل الله تعالي فرجه الشريف)

ص: 347


1- نهج البلاغة : 3/178. وقريب منه في: مجموعة مؤلفات الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب : 3/32 نقلا عن إعلام الموقعين .

المطلسم بغيبته، لتلاطمت الأفلاك ببعضها،

تيها وضلالا، وانتحر الزمن البشري.

كان الصراع هائلا، بين الحق المتجلي

بهداته القدسيين، وبين الإعصار الآثم

الأعمى الذي اجتمع فيه الشيطان بباطله

وظلماته وعميانه الحاقدين على شمس الهداية الكبري.

وزحفت جحافل المؤمنين الشجاعة - فوق الردي :

وركبت غدر وعورة الطريق التي تصب في فرادیس الحق .

سقت بيادر الإيمان بشموخها النازف

عزما ووجعا

وإذا بالأنهار شرایین دماء زكية

تطهر الدروب من خذلان العابثين فيها.

وإذا ... بذلك الكائن السماوي المتجسد

بشرا، هاديا - منار يضيء للتاريخ الإنساني

شمم ملاحمه

المبجلة

وإذا بفلول الطواغيت - دخان يتشظى بهلع،

فوق أنفاس فرسان الحق المقدس

وهم - يرسمون للتقوی صباحا لا ينفد

ص: 348

ضوؤه .

ويرتقون الخلود - خلف (حجة الله (عجل الله فجه الشيف))

جنودا أمناء.

ولأن الأفئدة لا تبدع إرتقاءاتها ما لم تنجح

في دروس اختبارات صبرها القاسي

في انتظارها

للفرج.

كان لا بد للشمس

أن تسمح للغيوم الغبية

بحجب أضوائها

حتى يحصدوا (الحكمة) من تعب مسيرة الجهاد

بالامتحان الكريم.

و... هناك ...

في مكان ما من الأرض :

يبصر منقذنا العظيم جنوده

المخلصين، فيمسح الدموع الخائنة عن

عيون المستضعفين ...

ويوقد

في قلوب الطيبين (دعواته المستجابة)

بالصبر المبارك ...

و...

لن يكسب أحدنا الحظ العظيم

ص: 349

الا

من عظمة

صبره، الذي .. يتهشم اليأس

تحته حفنة من غبار وسدی .

ص: 350

العشق الأرضي الْمَقْدِسِ

قال الإمام علي عليه السلام

«لَولَا الْحِجَّةِ لَسَاخَتْ الْأَرْضِ بِأَهْلِهَا »

هذا هو الحلم

يتدلى من ذيل السحابة : جرحا جريئا،

ينزف بآلامه ويبتسم ...

والطرق:

غمرتها أتربة عواصف الجور، حتى غابت

عن الرؤية مداراتها!!

وبدأ الإنسان يخشى أن يشي للوحوش ظله

على ما في دفائن قلبه النبية من

رؤى شجاعة..

اختلط وجه الضحى، بالرماد ...

ونشيج الفضيلة

يتعالى من أحشاء كل مؤمن

ص: 351

لا يريد أن يستسلم للونی

ونعاسة الخائن

وتدفقت الدماء - من شر ایینها، سيلا من التحدي :

يدك على الكفر

أركانه السوداء !

وضاع أكثر الناس

في طوفان الدياجير

التي هجمت على الفضاء بعد إشراقته

الطالعة

خلف الغمام...

وانطلقت ثلة الأتقياء - نحو معالى غاياتها

البعيدة ،

متنفعة بصبرها اللاذع، تتقي به

هجير المتاهات القبيحة!

و توقف الزمن

بعد أن أصابه الظلم الفادح

بالاختناق و الصدأ!

ولم تنشق الأرض

تحت أقدام أهلها :

فهناك في واحدة من بقاعها

المباركة

يقيم «بقية الله ، العظمى»

ص: 352

حيث أنوار دعواته

المقدسة تشد الوجود البشري

إلى الحياة،

يقرأ أعمال جنوده الأباة،

ویبار کهم

بالشفاعة والنجاة .

والدنيا - تتأرجح ما بين الخطيئة والخطيئة :

مما يقترفه من الشوك منافقوها .

اتسخت ثياب

عشاق السماء :

بالعذابات فانتفضوا ليغسلوها بالشهادة، ورفع

بعضهم قلوبهم مصابيح في الذری

واستبدلها البعض الآخر

بجراحاتهم

وطال بقافلة الشمس

انتظارها

المتألق بحسنات سجاياهم

البيضاء، فلم يقنطوا من أملهم العظيم

فاستحال (الانتظار) للفرج - إلى

مسيرة متجددة بجهادها العقائدي

ص: 353

كانوا يبصرون

قائدهم... لا بالعيون الدامعة ،

ولكن بالأفئدة التي تنبض

بعشقها الأبدي : للمجد والسنا

والرجاء.

ص: 354

نعمة الاختيار

قال الإمام الباقر عليه السلام

«وَ اللَّهُ لتميزن ، وَ اللَّهُ لَتُمَحَّصُنَّ وَ اللَّهِ لَتُغَرْبَلُنَّ ، كَمَا يغربل الزوان مِنِ الْقَمْحُ »(1)

أقبلت رياح التعصب

وضربت أزهار المودة

سنوات وقرون عدة، وهي تحاول

نزع الزهور عن حديقتها

عذبوها،

اتهموها،

قاطعوها،

إنها

تقاوم، تتوهج، فالمنتظر يحول

ص: 355


1- بحار الأنوار : 52/114.

جراحها إلى سيل من التحدي

في وجه العتمة .

واستيقظت القلوب

من رقدتها، فركضت نحوه

مسرعة، تدعوه ليمسح عنها غبار الماضي الفوضى

تشتد - وتكاد السماء تطبق

على الأرض لهول ما فيها،

إننا نحتضن الألم لأجلك

إن كان هو سر تکاملنا سنعشقه حبا لك .

يحاصرنا الاختبار

شفقة علينا

يلاحق كل فرد، يلتقط ضعفه

ويعرضه أمامه،

ليصنع منه قبضة

إرادة تحطم اليأس

نعمة الاختيار

إشارات بزوغ الفجر تحركت من مسكنها

التفت النهر

للاتي، ازالت الأرض

التعب عن جبينها،

ص: 356

تبسمت الشمس ، المخلوقات تصلي والأحباب

تلفعوا بالانتظار

وصاروا ينحتون الفرج على صدر الزمن

ص: 357

بضميره يبصر التقي مستقبله الجميل

قال أمير المؤمنين عليه السلام

«الْمُنْتَظَرُ لِأَمْرِنَا ، کالمتشحط بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »(1)

تحت وطأة العتمات الوحشية :

تلتقي بيادر النفوس الظامئة

للطمأنينة ، بالنور السماوي السائر على الأرض

والمتجسد بشرا مخلصا .

والمختلط بزحام

السعادة حتى مشرق الشمس

فترتوي الأرواح من سلسبیله الرائق،

ويمدها هو، من نزف قلبه باليقظة .

تتراكض العصور،

مخنوقة بآثام خائنيها

ص: 358


1- إكمال الدين : 2/645.

فوق صدور الأمناء على حبهم اللانهائي

لله سبحانه

ثقيلة تجرح القلوب

بالأسي.

وفي كل مرة.

يخترق عشاق «العرش العظيم »

سقوف الدياجي

المتدلية كالسنة الشياطين

على البشر،

وإذا ما وصلوا

إلى «الساحة المقدسة»

يشرح نفوسهم، عبير الأمان ،

ويحتضنهم أريج الطهر النبوي

وفيما هم :

يرتشفون إنتشاءاتهم الروحية

والفكرية ، المترعة باللذائذ من شتى صنوفها

الفردوسية

بضمائرهم

تتطاير الأبصار :

في شوق غامر ،

الرؤية مخلصهم العبقري، فلا تقنص

ص: 359

من ملامحه

غير

إلهام «قرآنهم الناطق

المغيب عن العيون»

يدعوهم للتلاحم .

و...

جسدا واحدا، يتقدم التقاة

في طرق امتحاناتهم العسيرة

يركبون فوق متون

الردی شموسا إذا شاؤوا

ويذیبون كياناتهم

مطرا خيرا

فوق منعطفات التاريخ

المروعة :

ليبتكروا

أجمل التضحيات

رغبة في الفوز بما

وعدهم «الله»

على يدي «بقيته العظمى»من نصر مبین

وبأجر جناته الكريمة .

بينما خدم الطاغوت

ص: 360

المذعورون:

ينتشرون في فيافيهم القاحلة ،

حجرا ومرايا عمياء

يغطسون في وحول عواقبهم

المرعبة،

يطلبون النجدة

فلا يجيبهم غير صوت

انخساف الأرض وتصدعها

من تحت أقدامهم

الموحلة،

لینهاروا جميعا في فوهة جهنم.

ويواصل التقاة :

مسيرتهم الصعبة

فوق وعورات اختباراتهم

المؤلمة

ينتقلون من درس إلى درس

أشد حكمة

بنجاح شهي ...

حتى إذا وقفوا

على الشاطيء الآخر

من دنیاهم :

ص: 361

نزعوا ثيابهم المتسخة

بالتعب والمواجع

والقسوة،

واغتسلوا أمام قائدهم المقدس

بأنوار الرحمة - من

جراحهم النازفة

وليتقدموا خلفه

بعد مهرجان

«الفتح المبارك»

نجوما،

إلى غاياتهم العليا ...

يسبحون لله تعالی

بنبض أفئدتهم

العامرة بالهدی ...

ويستظلون

«بخيمة وليهم»المعطرة

بالمسرات

ويقتحمون المنايا القاتمة :

بإيمانهم الذي

يتلاشى أمام توهجه الكبير

الليل الحاقدين على

الهداية ، الزاحف إلى هاوية اللعنة

ص: 362

قطف المعالی

قال الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف):

«وَ لَوْ أَنَّ أَشْيَاعِنَا وَفِّقْهُمْ اللَّهِ لِطَاعَتِهِ عَلَى اجْتِمَاعِ مِنَ الْقُلُوبِ فِي الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ ، لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهُمْ الْيَمَنِ بلقائنا ولتعجلت لَهُمْ السَّعَادَةِ بمشاهدتنا عَلَى حَقِّ الْمَعْرِفَةِ وَ صَدَقَهَا مِنْهُمْ بِنَا »(1)

الآن...

حيث زوبعة الأفكار تبتلع الساحة

يمضي الاتباع عبر وسائل شتی

في طرق مختلفة

الهم يجمعهم،

إنا نمتلك الجوهر

مشروع نهضتك العظمى يدعوهم...

المشروع كبير،

ص: 363


1- الاحتجاج : للطبرسي ج2.

للإنسان،

للأرض

ماذا قدمنا؟ ماذا جهزنا

إني اغتسل بالخجل حين يرد على لساني

كلمة «إمامي»،

و«إنما جعل الإمام ليؤتم به »

أوليس مدهشا أن تجلببنا السماء هذه النعمة؟!

أوليس تعاسة أن نطعن هذه النعمة؟ !

انه يدعونا

للالتفات، للانتظار،

انتظار يتخذ الوعي جناحين

يحلق بهما، لقطف المعالي

ويبتكر فكرة،

ويزرعها

لتنبت حضارة،

تستل الاحباطات التي يتنفسها الإنسان

وتسقيه العزم

هكذا الانتظار!

و الا

«فإنه لا يكفي حتى نصير

مثل الشمس أن نقف

ص: 364

وننظر إليها ! »

مدة طويلة ابتعدنا عنه

فلماذا لا نقترب

منه؟!

ص: 365

اليقظة الكبرى

قال الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف)

«فَإِنَّا نحبط عِلْماً بأنبائكم وَ لَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْ ءُ مِنْ أَخْبارَكُمْ . . . إِنَّا غَيْرِ مُهْمَلِينَ لمراعاتكم وَ لَا نَاسِينَ لَذِكْرُ كَمْ فَلْيَعْمَلْ كُلِّ امرىء مِنْكُمْ مَا يَقْرَبُهُ مِنَ مَحَبَّتِنَا وَ يَتَجَنَّبُ مَا يدنيه مِنْ کراهتنا وسخطنا »

تمتزج في أرواحنا: صورته الأرضية المتجسدة من نور الباریء الكريم، بحقيقة وجوده الربانية بينما تعاليمه تتقدمنا في مسالك المعالي .

أما حضوره الممجد

فهو يحدق بالعالم من

كل اتجاهات الرؤية ،

ولا يغيب عن عينيه الكريمتين :

إنتشارنا في

الآفاق...

ولا يخفى على إلهامه :

قطرة من

ص: 366

أعمالنا ومكابداتنا في مسيرة

الحج الأكبر نحو

الكرامة السماوية

وفي هذا الزمن : الذي أغرقنا الغدر الكافر

بحقد طوفاناته الرهيبة ، ورحنا نفتتح

النصر بعد النصر - و تحدينا للغزاة الشياطين،

وصعودنا في معراج ارتقائنا الباسل إلى

الأعالي، حيث باستطاعتنا هناك

أن نركل الظلمات ، فندفع

بها إلى جحورها مهزومة !

ونثابر في التقدم الجهادي إلى

نهاياته المباركة المكللة

باليمن

والسعادة

فليس

يضرنا عدم رؤية أعيننا

لوهج ملامحه القدسية

فإننا

أدركناه ، ببصائرنا، وقلوبنا،

ونفوسنا،

نعرف بوجوده قريبا منا.

يلهمنا المدد من دعواته السخية

ص: 367

المستجابة ،

ونتحسس أنفاسه العطرة

بأرواجنا

ويظل يقيننا به

يرتفع باستمرار

دائم إلى فضاءات نائية

في مدارات أفلاكها

القصية ...

كلنا

نعمل في حرمه الكبير ،

وهو يقف

على منبره الأشم:

ينثر علينا

بركاته، ويزيح متاعبنا

بمواساته لنا، ويمنعنا من

الانحناء لعواصف الظلم

بهيبة شموخه الراسخ،

فنثق بانتصارنا الأخير

وإذا هبط من منبره،

يملأ نفوسنا

بعظمة معانيه التي تدلنا على

منابع الضوء

ص: 368

مراجع ومصادر المقدمة والقسم الثالث من المجموعة

أولا - الكتب:

1- بحر العلوم، عزالدين، التقليد في الشريعة الإسلامية، دار الزهراء، بیروت، لبنان، ط 2، 1400ه-. 1980م.

2- بحر العلوم، محمد، الاجتهاد أصوله وأحكامه، دار الزهراء، بیروت، لبنان، ط1، 1397 ه-- 1997م.

3- آية الله جناتي، الشيخ محمد إبراهيم، خصائص المجتهد المثالي، مؤسسة العارف للمطبوعات، بیروت لبنان، [بلاطبعة ]، [بلا تاریخ].

4 - الحسني، هاشم معروف، سيرة الأئمة الاثني عشر، دار القلم،بیروت، لبنان، ط3، 1981م.

5- الشخص، محمد هاشم، أعلام هجر، مؤسسة البلاغ، بیروت،ط1، 1410ه. 1990 م ج 1.

6- الصدر، محمد باقر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط4.

7 - الصدر، محمد باقر، إقتصادنا ، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط16، 1402 ه 1982.

ص: 369

8- الصدر، محمد باقر، الفتاوی الواضحة، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط16، 1402 ه 1982.

9- الرويلي / البازعي، د. ميجان/ د. سعد [کتاب مشترك]، دلیل :الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 2002م.

10 - الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف، [بلاطبعة] 1386 ه- 1966م، ج2.

11 - الفضلي، الدكتور عبد الهادي، تاريخ التشريع الإسلامي،مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، [بلا مکان]، ط1، 1414ه 1983م.

12 - الفضلي، العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي ، دروس في فقه الإمامية، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، بيروت، لبنان/ قم، إيران، [بلا طبعة]، رجب 1415 ه - 1995، ج1.

13 - الفضلي، العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي، مبادىء علم الفقه، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، بيروت، لبنان، ط1، جمادى الأولى 1416 ه ج 1.

14 - القرشی، باقر شریف، موسوعة الإمام الصادق، عصر الإمام الصادق، دار الأضواء، بیروت، لبنان، ط1، 1413ه. 1992م، ج7.

15 - مغنية، محمد جواد، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، دار التيار الجديد/ دار الجواد، بیروت، لبنان، ط3، 1408-1988م.

ص: 370

16 - الهيئة العلمية، معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، ط1، 1411 ه. ق، ج 4.

ثانيا - دواوين الشعر:

1- آل إبراهيم، علي جعفر، مع الورد والقمر، [بلا مکان]، [بلا طبعة)، 1418 ه.

2- خليفات / الموسوي، مروان/ غیاث، مزامير الانتظار المقدس [نصوص مشتركة]، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط1، 1418ه - 1998م.

4- خليفة، الحسنان، تحته كنز لهما [دیوان مشترك،] دار الهادي ، بیروت، ط1، 1422ه. 2001م.

5 - الراضي، يحيى، أقدس الخطايا، [بلا مکان]، ط 1، 2000م.

6- السياب، بدر شاكر، دیوان بدر شاكر السياب، دار العودة، بیروت، [بلا طبعة ] 1995م.

7- سماحة آية الله العظمی فضل الله ، السيد محمد حسین، قصائد للإسلام والحياة ، دار الملاك، بيروت، ط 2، 1421 ه-2001م.

8- القزويني، د. السيد جودت، الأرجوزة المهدوية، مخ.

9- مجموعة قصائد مخطوطة لعدة شعراء، من مختصات معد المجموعة حسين الموسوي .

ص: 371

10 - النابلسي، الشيخ عفیف، شعر الخلود، هديل في أزاهير أمير المؤمنين عليه السلام

ويلية الهاشميات، دار البلاغة، بيروت، ط1، 1422ه . 2001.

ثالثا – المجلات:

1 - مجلة الكلمة، العدد الرابع، صيف 1994م/ 1415ه، (تصدر في بيروت .]

2- مجلسة القصب، العدد التاسع عشر، السنة الخامسة - خريف 1420-1999م [تصدر في بيروت .]

3- مجلة الوحدة الإسلامية، السنة الثانية، العدد الخامس، شباط 2003 - ذي القعدة 1423ه [تصدر في بيروت ].

رابعا - شبكة الانترنيت

1- موقع الرسالة، الشيخ النابلسي، بيروت، لبنان.WWW.arresalah.net

ص: 372

الفهرس

الصفحة

الموضوع المقدمة ...5

بحث حول المهدي ...7

اشتراك خاتم الانبياء وخاتم الأئمة بإيمانين مماثلين ... 10

معنى أن الله يصلح المهدي في ساعة ... 12

معنى أن أمر المهدي غيب من غیب الله ...13

في انتظار الامام ... 14

(المشرق) في حديث الرايات السود ... 17

ملامح أدب الانتظار ... 44

علامة الظهور تصنع ولا تنتظر ... 61

خروج اليماني ... 62

الاستدلال على ولادة المهدي ...81

ص: 373

القسم الأول

بحث حول المهدي (السيد محمد باقر الصدر)

المقدمة ... 101

المبحث الأول : كيف تأتي للمهدي هذا العمر الطويل ...109

المبحث الثاني: المعجزة والعمر الطويل ...119

المبحث الثالث : لماذا كل هذا الحرص على اطالة العمر ... 123

المبحث الرابع: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟ ...130

المبحث الخامس : كيف نؤمن بان المهدي قد وجد؟ ... 137

المبحث السادس : لماذا لم يظهر القائد إذن ...145

المبحث السابع : وهل للفرد كل هذا الدور ... 150

المبحث الثامن : ما هي طريقة التغيير في اليوم الموعود ... 152

القسم الثاني

في انتظار الإمام (الدكتور عبد الهادي الفضلي)

المقدمة ... 157

تمذهب القضية ... 159

القضية إسلامية عامة ... 160

تواتر أحاديثها عن النبي صلي الله عليه و آله ...161

طوائف أحاديثها ...161

ص: 374

النتيجة ... 166

محاولة الرجوع بالقضية إلى واقعها العام ...167

عوامل التمذهب ...167

الإمام ... 169

نسبه ... 169

ولادته ... 169

إمامته ... 170

غيبته ... 176

الغيبة الصغرى ... 176

عوامل الغيبةالصغرى ... 178

الغيبة الكبرى ... 189

وجود الإمام ... 192

منهج البحث ... 192

1-حول الإمكان ... 193

2- حول الوقوع ... 195

3- الدليل النقلي ... 195

4- الدليل التاريخي... 197

5 - الدليل العقائدي ... 197

6- الدليل التشريعي... 197

دولة الامام ... 205

لماذا الحديث؟ ... 205

دولة الامام هي دولة الاسلام ... 206

ص: 375

بين دولة النبي ودولة الامام ... 206

عالمية النفوذ السياسي ... 208

1- عالمية العقيدة الاسلامية ... 210

2- عموم العدل والامن والرخاء ... 211

3 - انتشار الثقافة والعلم ... 212

وحدة سيرة النبي والامام ... 212

انتظار الامام ...215

توطئة ... 215

ما هو الانتظار؟ ... 218

ضرورة الحكم الإسلامي في زمن الغيبة... 220

توجيه ... 224

فصل الدين عن السياسة ... 225

رئيس الدولة ... 230

نائب الامام ... 230

1- الحاكم الأعلى يعينه المسلمون حصيلة الاستدلال .. 232

مناقشة هذا الاستدلال ... 235

2 - الحاكم الأعلى هو الفقيه العادل ... 237

منهج البحث لدى الفقهاء ... 237

1 - الدليل الاجتماعي التاريخي ... 238

2 - الدليل العقائدي ... 240

3- الدليل العقلي ... 241

ص: 376

خلاصة الإستدلال ... 249

3- الحاكم الأعلى هو الأعلم ... 257

خلاصة ما استدل به لهذا القول... 257

تكوين الدولة ... 261

تشكيلات الحكومة في التشريع ... 261

الخط العام للحكومة ... 262

مستثنیات ... 263

السلطات الثلاث ... 264

أ- السلطة التشريعية ...265

1- بیان الاحکام ... 265

2 - وضع التعاليم ... 265

ب - السلطة التنفيذية ... 266

ج - السلطة القضائية ... 267

شكل الحكومة ... 268

مبدأ الحق الإلهي ... 268

دور الأمة في المراقبة ...270

الدولة في مجالها الواسع ... 271

الدعوة إلى الدولة ... 273

وجوب الدعوة ... 273

اسلوب الدعوة ... 273

تقييد الدعوة ... 278

احادیث قيام دولة قبل الإمام... 284

ص: 377

الختام ... 286

المراجع ... 288

القسم الثالث

في لجة الانتظار «نصوص في الأدب المهدوي الحديث »

اناجيك (في ذكرى مولد الامام المهدي)، خلاص، صاحب الزمان، علی صحارى الانتظار، وحي الانتظار، مسيرة الشمس، سياحة الانتظار، هجران، وطن الانتظار، لهجة الانتظار، حماسة، غيبته، کشف الانتظار، ثمار الانتظار، قراية عراقية، رحلة الانتظار، بیت الكوفة، نجوم الانتظار، حريق الانتظار، فتح الانتظار، انتفاع الانتظار، كتب، انتظار طوعي، غريب الانتظار، نشيد الانتظار، ابتهال، الرؤيا المباركة، لن تخلو الأرض من نورها، العشق الأرضي المقدس، نعمة الاختيار، بضميره يبصر التقي مستقبله الجميل، قطف المعالي

اليقظة الكبرى ... 295

مصادر ومراجع المقدمة والقسم الثالث من المجموعة ... 369

ص: 378

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.