الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ 4 : َجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ

اشارة

اِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاِصْلاحِ في اُمّهِ جَدّي

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

مَجَلةٌ فَصلِیّةُ مُتخَصِّصَةُ في النّهضَةِ وَ تُعنیَ بالدِّرَاسَّاتِ الدِّینِیَّةِ

تصدر عن مركز الدراسات التخصصية

في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف

قسم الشؤون الفكرية

العتبة الحسينية

العدد الرابع

.السنة الأولی(1434ه_.2013م)

ص: 1

اشارة

الاِصلَاحُ الحُسَینيُّ

تصدر عن مركز الدراسات التخصصية

في النهضة الحسينية/ النجف الأشرف

قسم الشؤون الفكرية

العتبة الحسينية

رئيس التحرير ................*

الشيخ قيصر التميمي

مدير التحرير................*

الشيخ صباح عباس الساعدي

هيئة التحرير................*

د. السيد حاتم البخاتي

الشيخ مشتاق الساعدي

الشيخ رافد عساف التميمي

المقابلة وتقويم النص..........*

الشيخ عدنان الطائي

الشيخ عصام السعيد

الشيخ مصطفى الدالي

التصميم....................*

عبد الزهرة الطائي

الإشراف العام: ................*

سماحة الشيخ علي الفتلاوي

إدارة المركز: ...................*

الشيخ باقر الساعدي

معاونية المركز: ................*

الشيخ عباس الحمداوي

الإخراج الفني.................*

مركز الهاشمي للإبداع

ص: 2

هوية المجلّة:

مجلّة علمية فصلية تخصصيّة تعنى بالبحوث المتخصّصة في مجال النهضة الحسينيّة، وكذا الدراسات العلمية في حقول المعرفة الدينيّة. تصدر عن مركز الدراسات التخصصيّة في النهضة الحسينيّة في النجف الأشرف، التابع لقسم الشؤون الفكريّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة.

اهتمام المجلّة:

تهتم المجلّة بنشر معالم وآفاق الفكر الحسيني وتسليط الضوء على تاريخ النهضة الحسينيّة وتراثها، وكذا إبراز الجوانب الإنسانية والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة.

كما تهتم المجلّة أيضاً باستقطاب ونشر البحوث والدراسات الدينيّة التخصّصية ذات الجوانب التجديديّة والإبداعيّة، وذلك في كافّة الحقول والمجالات، فتمتدّ لتشمل الدراسات القرآنية والعقديّة والفكريّة والتاريخيّة والفقهيّة، وكذا ما يرتبط بالتراث الديني، من الأدعية والزيارات والنصوص الدينيّة بشكل عام.

فالمجلّة تتطلّع لاستيعاب جميع المجالات المهمّة والحسّاسة في أبواب العلوم والمعارف الدينيّة، شريطة أن تكون البحوث والدراسات متضمّنة لجوانب من الإبداع والحداثة والتجديد، مع حفظ روح الأصالة والتأسيس.

ص: 3

أهداف المجلّة:

١ _ إعطاء رؤية واضحة حول معالم النهضة الحسينيّة من خلال البحوث والدراسات.

٢ _ نشر أهداف وثقافة النهضة الحسينيّة.

٣ _ إحياء التراث الديني والحسيني.

٤ _ فتح نافذة علميّة لتفعيل جانب الإبداع والتجديد والتأصيل الفكري في كافة حقول المعرفة الدينيّة.

٥ _ الانفتاح على الواقع العلمي والفكري لدى العلماء والأساتذة والمفكرين.

٦_ استثمار الأقلام الرائدة، وتطوير الطاقات العلمية الواعدة، واستقطاب البحوث والدراسات والمقالات العلميّة القيّمة لنشرها تعميماً للفائدة.

٧ _ فسح المجال أمام الباحثين والمفكرين لنشر بحوثهم ودراساتهم، لتكون المجلّة رافداً من روافد تزكية العلم والمعرفة.

٨ _ التصدّي للإجابة عن الشبهات والإشكاليات والقراءات غير الموزونة حول الدين بصورة عامّة والنهضة الحسينيّة بصورة خاصّة.

ص: 4

ضوابط النشر

تدعو المجلة العلماء والأساتذة والباحثين وكل من لديه اهتمام في مجال الكتابة والتحقيق إلى رفدها بنتاجاتهم القيّمة، على أمل ملاحظة الأُمور التالية:

*أن تكون البحوث مرتبطة باختصاص المجلّة وأركانها.

*ألاّ تكون منشورة أو بصدد النشر في كتاب أو مجلّة.

*أن تكون ضمن المناهج العلمية المتبعة.

*أن تكون بحوثاً مبتكرة وبلغة معاصرة.

*أن يكون البحث على قرص ليزري فيما لو كان منضداً.

*حقوق النشر محفوظة.

*الأفكار المطروحة لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلّة.

*لا تعاد البحوث لأصحابها نشرت أم لم تنشر.

*يخضع ترتيب البحوث لاعتبارات فنية.

*إجراء التعديلات والتلخيصات اللازمة من صلاحيات المجلة.

*للمجلة حق إعادة نشر البحث أو المقال في كتاب أو ضمن كتاب منفصل، مع الحفاظ على نصه الأصلي.

*كل ٢٥٠ كلمة تحسب صفحة واحدة.

*المجلة تتبع نظام المكافآت لأصحاب البحوث.

*تعتبر الأولوية في المجلّة للمقالات والبحوث الحسينية.

*المجلة غير ملزمة بنشر ما يقل عن ١٥ صفحة أو يزيد عن ٣٠ صفحة.

*تنويه: للمجلة فرع في مدينة قم المقدسة.

ص: 5

مراكز النشر:

* النجف الأشرف: المعرض الدائم للروضة الحيدرية.

* كربلاء المقدسة: المعرض الدائم في العتبة الحسينية المقدسة.

* البصرة: العشار _ مكتبة الإمام الهادي علیه السلام .

* إيران _ قم المقدسة: صفائية _ سوق الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف _ مكتبة فدك.

* إيران _ قم المقدسة: سوق كذرخان _ مكتبة الهاشمي.

ص: 6

المُحتَوَیات

مقال التحرير

الأسباب والمبررات العقدية والتراثية للت_فري_ط

بالأهداف والمبادئ السياسية للنهضة الحسينية

الشيخ قيصر التميمي... ١١

دراسات في آفاق النهضة الحسينية

دفاع عن زيارة عاشوراء

آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي... ٣٤

الدراسة الواعية للنهضة الحسينية

د.الشيخ علي حمود العبادي...٥٧

النهضة الحسينية وحفظ المبادئ والمظاهر الدينية

الشيخ رافد التميمي... ٧٩

دراسات في تاريخ وتراث النهضة الحسينية

نجوم في سماء الحسين علیه السلام

(عبد الله بن يقطر وقيس بن مُسهَّر الصيداوي)

د.السيد حاتم البخاتي... ١٢١

ص: 7

الخرافة والتحريف ودعوى وقوعهما في الشعائر الحسينية

د.الشيخ كاظم البهادلي... ١٥١

الإمام الحسين علیه السلام في تراث الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

د. هادي عبد النبي التميمي...167

مقتل الأصبغ بن نباتة التميمي الكوفي

أقدم المقاتل الحسينية

الشيخ عامر الجابري...209

دراسات في فقه النهضة الحسينية

أفضل البقاع/ القسم الأول

الشيخ اسكندر الجعفري...243

توسعة مرقد الإمام الحسين علیه السلام وإشكالية الأملاك الشخصية

الشيخ مشتاق الساعدي...271

دراسات دينية

قاضي التحكيم _ مشروعية وشروط

د. فلاح الدوخي ...297

المصطلح واستخدامه في غير معناه عند الأصوليين

الشيخ صباح عباس الساعدي... ١٣٣

الهدف من الخلق

قراءة في فكر الشهيدين مرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر

الشيخ حيدر خماس الساعدي...349

ص: 8

مَقَالُ التَحرِير

اشارة

الأسباب والمبررات العقدية والتراثية للت_فري_ط

بالأهداف والمبادئ السياسية للنهضة الحسينية

ص: 9

ص: 10

الأسباب والمبررات العقدية والتراثية للتفريط بالأهداف والمبادئ السياسية للنهضة الحسينيةالشيخ قيصر التميمي

اشارة

تحدثنا في العدد السابق عن الأهداف والدوافع السياسية للنهضة الحسينية، وكان الباعث لذلك هو الوقوف على أهم الأسباب التي أدّت إلى الإهمال والضمور في دراسة وتحليل تلك الأهداف في المشروع الحسيني، مع أنها تشغل حيّزاً كبيراً في نصوص وتراث النهضة الحسينيّة.

وقد عرضنا للقارئ الكريم في مقال سابق، لقطات سريعة وموجزة عن الأهداف والمبادئ الحسينيّة السياسيّة مع بعض شواهدها؛ وذلك بغية تشكيل صورة إجماليّة ننطلق من خلالها لمعرفة أسباب التغافل والإعراض عن الدراسات التحليليّة في هذا المجال.

ص: 11

وكان من جملة الأهداف السياسية المهمّة التي استعرضناها:

١- الإطاحة بالنظام الحاكم وإسقاط الحكومة الأُمويّة الظالمة؛ لعدم شرعيتها.

٢- إعلاء معالم الدين، والتصدّي للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل في إطار التغيير والإصلاح الاجتماعي، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإجراء الحدود الإلهية، والالتزام بالقوانين والأحكام الشرعية.

٣- إقامة حكم الله في الأرض، وتشكيل حكومة الإسلام الشرعيّة.

وخلصنا إلى كون هذه الأهداف من أهم الدوافع التي دعت الإمام الحسين علیه السلام لأن يخرج وينتفض بوجه الطغاة، وهي التي أثارت حفيظة الدولة الأُموية وأقضّت مضاجع الساسة والحُكّام على مرّ الزمان.

ولكن ما يُثير فينا الدهشة والاستغراب هو أننا وجدنا شريحة واسعة _ ممن كتب حول أهداف النهضة الحسينية _ حاولت إسقاط تلك الأهداف العظيمة من القائمة، وبنت على أن الحسين علیه السلام إنما خرج ليستشهد فحسب «وأن الله سبحانه وتعالى قد عهد للإمام الحسين علیه السلام وأمره _ عن طريق النبي صلى الله عليه و آله _ بتنفيذ مشروع ينتهي باستشهاده واستشهاد من معه، وجميع ما حدث من مآس وفجائع»(1).

وأن هذه الشهادة المباركة والعملية الاستشهادية الربّانيّة هي الغاية الكبرى التي تترتب عليها المصالح الإلهية الغيبية وإصلاح المجتمع، فليس في النهضة برمّتها إلّا

ص: 12


1- السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، فاجعة الطف: ص١٤.

دم لا بدّ أن يُراق، دم زكي طاهر كدم الحسين بن علي علیهماالسلام ، يستيقظ على صوته ضمير الأُمة، وتهتزّ لصرخته عروش الظالمين، وتُحفظ به «شجرة الإسلام التي كادت أن تجف لولا أن سقاها بذلك الدم الطاهر»(1)، وهذا هدف عظيم وكبير وسام، وقد تحقق بالفعل حينما قُتل الحسين علیه السلام (2).

وقد وجدنا أن بعض الأعاظم من الأعلام قد صرّح بأن الإمام الحسين علیه السلام لم يُبال بسلامته ولا سلامة من معه، فضلاً عن أن يكون ساعياً لتحقيق النصر العسكري، بل كان علیه السلام يُمهّد لشهادته، ويهيّئ الظروف لمصرعه، ويُعين الأعداء على قتله!! حيث يقول: «كانت نتيجة اتفاقه علیه السلام مع الحرّ أن وصل إلى مكان بعيد عن الكوفة، قريب من نهر الفرات، حيث الماء والزرع والقرى، وحيث يسهل تجمّع الجيوش لقتاله، ويصعب أو يتعذّر على من يريد نصره الوصول إليه»(3).

ويقول أيضاً (حفظه الله) بعد استعراض جملة من النصوص والشواهد لإثبات هذا الرأي: «فإن ملاحظة هذه الأمور بموضوعية وإنصاف تشهد بتصميمه علیه السلام على أن يصل إلى موضع مصرعه الذي وعد به، وعدم تشبّثه بأسباب السلامة، فضلاً عن أن يسعى للانتصار العسكري»(4).

ولعل السبب والمنشأ لتبنّي هذا الرأي وهذه النظرية البعيدة عن كثير من

ص: 13


1- القره غولي، كاظم، إقدام المعصوم على ما فيه قتله المعلوم: ص٢٢٦.
2- أشار بعض الباحثين إلى من تبنّى هذه النظرية قديماً وحديثاً، فلاحظ: حماسه حسينى، تحليلى درباره اهداف قيام امام حسين (باللغة الفارسية) الأُستاذ مهدي مهريزي: ص٢٧ وما يليها.
3- السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، فاجعة الطف: ص٣٣.
4- المصدر السابق: ص٣٦.

مفردات الثورة ونصوصها وأحداثها، هو أن أصحاب هذا الرأي قد واجهوا مجموعة من الإشكالات المستعصية على الحلّ بنظرهم، فاستسلموا لها وأقرّوا بها، وأنكروا الأهداف السياسية للنهضة، وأوّلوا نصوصها وأحاديثها الصريحة، وحملوها على وجوه واحتمالات يستغرب الباحث من صدورها عن علماء ومفكرين شقّوا الشعر في متشابهات العلوم!!

ونحن وإن كنا لا ننكر ما ذكروه، ولكن لا نقبل منهم حصر أهداف النهضة الحسينية بالشهادة، وما ترتب عليها من آثار إيجابية ومظاهر للصحوة الإسلامية.

ونحاول في مقالنا هذا أن نستعرض بنحو الإيجاز أهم الأسباب والإشكاليات التي أدّت إلى التغاضي عن الأهداف السياسية للنهضة الحسينية، مع إيراد بعض الحلول والإجابات.

وفي الحقيقة، تتوزَّع تلك الأسباب والإشكاليات بين العقدية والتراثية والتاريخية، ومنها ما يرتبط بالواقع الذي نعيشه، وهي بنحو الإجمال كالتالي:

١- الأهداف السياسية تتنافى مع علم الإمام وعصمته (أسباب عقدية)

من الأسباب التي تُطرح عادةً للتشكيك في الأهداف السياسية للنهضة هو كونها تتنافى مع علم الإمام وعصمته المطلقة؛ وذلك باعتبار أن الإمام الحسين علیه السلام لو كان خروجه لأجل إسقاط الحكم الأُموي وإقامة حكم الله في الأرض _ مع أنه سوف لا يتحقق هذا الهدف في علم الله تعالى _ فإن معنى ذلك أن الإمام علیه السلام لم يكن عالماً بمصيره ومصير نهضته، وهذا ما لا يقبله أحد ممن يؤمن بإمامته وولايته، فهو

ص: 14

وليّ الأمر المحيط بعلم الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء، وهو عَيْبَةُ علم الله وخازن وحيه، العالم بالمنايا والبلايا ومصير الأُمم على مرّ الدهور والعصور، فكيف لا يعلم بمصيره؟!

حتى قال بعض الباحثين: «الحسين علیه السلام خرج وهو على بينة من أمره، وما يصير إليه هو وأنصاره وأهل بيته ممن يبقى معه، وإنما خرج امتثالاً لأمر أمره به أبوه وجدّه عن السماء، وملاحظة منه للمصالح التي ستترتب على هذا الخروج المبارك... وإني لا أميل إلى تبنّي النظر القائل: إنه علیه السلام سار إلى الكوفة؛ لأن ظواهر الأُمور كانت تحكي عن أنه سيصير إلى نصر مؤزّر على جيش أعدائه، يؤول إلى أن تأخذ الإمامة دورها من خلال التصدّي المباشر للحكم وقيادة الأُمة... وكيف كان، فإن الحسين علیه السلام عالم بكل ذلك باطناً وظاهراً، ومع ذلك سار إلى محلّ قتله»(1).

ثم يضيف قائلاً: «فمن خصائص شهادة الحسين علیه السلام أنه أقدم على ما يكون فيه شهادته... بل إن الحسين علیه السلام أخذ النساء لتؤسر وقد تعلّقت بذلك الإرادة الإلهية... التي علم بها الإمام قبل التحرك»(2).

إذن كان الحسين علیه السلام يعلم علم اليقين بأنه مقتول شهيد، والنصوص المتضافرة شاهدة على ذلك، كما سيأتي.

فكيف يخرج الإمام علیه السلام _ والحال هذه _ لإقامة حكم الله تعالى؟! ولو خرج علیه السلام للعمل على تحقيق مثل هذا الهدف لكان منافياً لعصمته؛ إذ لا يعقل أن يخرج المعصوم

ص: 15


1- القره غولي، كاظم، إقدام المعصوم على ما فيه قتله المعلوم: ص٢٠٤- ٢٠٥
2- المصدر السابق: ص٢٠٧- ٢٠٨.

الحكيم لأهداف وغايات غير ممكنة ولا قابلة للحصول والتحقّق في أرض الواقع، بل هي تتقاطع وتتنافى مع الإرادة والمشيئة الإلهيّة.

الإجابة عن هذه الإشكالية:

اشارة

ما ينبغي الالتفات إليه قبل الإجابة هو: أننا نقبل تماماً حديث الشهادة وأهدافها، ولكن ما نرفضه هو إسقاط الأهداف السياسية من رصيد الثورة، والاقتصار على الدم الحسيني الطاهر كهدف وحيد لها.

ونكتفي في مقام الإجابة عن هذه الإشكالية بذكر إجابتين بنحو الإجمال:

الإجابة الأُولى: علم الإمام وحقيقتا البداء والقضاء

إن المعصومين من أئمة أهل البيت علیهم السلام مع علمهم الواسع بكل ما خلق الله تعالى، فهم عَيْبَة علم الله عَزوجَل، ومخزن الأسرار والمعارف الإلهية، ولكنهم علیهم السلام مع ذلك كلّه لا يقطعون ولا يجزمون على الله تعالى بشيء؛ لأنهم يعلمون بأنه تبارك وتعالى يداه مبسوطتان وقدرته واسعة ومشيئته الذاتية حاكمة على كل شيء، فله أن يُغيّر ما يشاء بما يشاء كيف يشاء.

وهذا ما يرتبط إجمالاً بفكرتي البداء والقضاء: فإن البداء تارة يكون على مستوى الوقوع والتحقق الخارجي الفعلي، ونُطلق عليه اصطلاح (البداء الوقوع)، وأُخرى يكون على مستوى إمكانية الوقوع والتحقق، ونصطلح عليه (البداء الإمكان)(1).

ص: 16


1- مرادنا من الإمكان هنا الإمكان العام.

أما على المستوى الأول من البداء، فقد يكون مختصاً بعالَم المحو والإثبات فما دون، وعلم أهل البيت علیهم السلام في مراتبه العليا هو أعلى وأشرف من ذلك بما لا يُحصى ولا يُقاس.

وأما على المستوى الثاني، فإن لله المشيئة في كل علم مخلوق، ولعل هذا هو تفسير أن أول ما خلق الله المشيئة، لأنها تبدأ كصفة ذاتية للنور الأول، ثم تتنزّل في عوالم الوجود، فكل علم أفاضه الله على خلقه في أي مرتبة من مراتب الخلقة تكون له تعالى فيه المشيئة الفعلية المخلوقة، وفوق ذلك كلّه المشيئة الإلهية الذاتية التي هي عين الذات المقدّسة وحاكمة على كل شيء.

ومن هنا؛ نجد أن أهل البيت علیهم السلام لأجل علمهم بذلك _ ولقدرة الله الواسعة على تغيير كل شيء _ لا يجزمون عليه تعالى بشيء أبداً.

وللتوضيح أكثر نقول: إن صفة المشيئة كصفة العلم، من الصفات الإلهية التي تنقسم إلى ذاتية هي عين الذات(1)، وفعلية منسوبة إلى الذات الإلهية وإلى فعلها(2)، وهذه المشيئة الإلهية الفعلية، تُعدّ من الصفات الذاتية لأول مخلوق خلقه الله تعالى، وهو العقل والنور الأول، الذي هو نور محمد صلى الله عليه و آله وآل محمد علیهم السلام ، وبالنور الأول والمشيئة الفعلية الأُولى خلق الله كل خير، يبتدئ بالنزول من عوالم الغيب العليا،

ص: 17


1- تُعدّ هذه المسألة من المسائل الخلافية جدّاً، وقد كثرت فيها الأقوال والآراء، وما ذكرناه هنا هو ما نختاره في هذه المسألة الشائكة والمعقّدة
2- هذا ما نتبنّاه في المسألة، ولا نؤمن بأن الصفات الفعلية عين الفعل، كما عليه مشهور المعاصرين، ونؤمن أيضاً بأن أغلب الصفات المعروفة تنقسم إلى ذاتية وفعلية: كالخالقية، والرازقية، والرحمانيّة، والرحيمية، والجواديّة، والرؤوفيّة، وغيرها، على خلاف ما هو المعروف والمشهور أيضاً

فيتجلّى قلماً ولوحاً وعرشاً وكرسيّاً، وهكذا يستمرّ بالنزول حتى ينتهي بعالمنا الدنيوي المادّي.

والبحث هنا في الأعم من المشيئة الذاتية لله تعالى _ التي هي عين ذاته المقدسة _ ومن المشيئة الفعلية المخلوقة. والمشيئة الفعلية الأُولى حاكمة على ما دونها من المخلوقات، بالتبديل والتغيير والتحويل، فمنها البداء والإبداء، وهذه حكومة إلهية كبرى جعلها الله تعالى للنور الأول، ما فوقها حكومة، إلّا حاكمية الله تعالى، والله  حاكم بمشيئته الذاتية على النور الأول ومشيئته؛ ومن هذا تعرف أن جميع الأُمور محكومة بالمشيئة الإلهية الذاتية، فلا يخرج عن إرادة الله ومشيئته الذاتية إمكانية تغيير الأشياء وتبديلها.

ونقول أيضاً: إن الأُمور الكائنة بحسب قدَرِها وقضائها ووقوع البداء فيها على مراحل وأقسام، وهي بنحو الإجمال كالتالي:

١_ ما يكون له مقادير وشرائط محدّدة قد قدّرها الله تعالى، ولكن من دون أن يصل بتلك المقادير والشرائط إلى مرحلة القضاء، فلم يُقض به بعدُ، وهذا القسم هو المعروف في أكثر النصوص والكلمات بوقوع البداء فيه، ومعروفيّته بذلك من جهة أنه الأكثر عرضة للبداء والتغيير، حيث تكون جهات البداء والتغيير فيه كثيرة جدّاً، فقد يكون التغيير من جهة استبدال المقادير وتغييرها، وقد يكون من جهة اختلاف أنواع العلل أو تخلّفها، وقد يكون من جهة أُمور حاكمة على علله، كما قد يكون أيضاً من جهة حياديته تجاه المشيئة الإلهية الفعلية، بالإضافة إلى حاكمية المشيئة الإلهية الذاتية عليه، فدائرة البداء فيه أوسع.

ص: 18

وقد يُسمّى العالم الذي تتغير فيه الأُمور بهذا المعنى بعالم المحو والإثبات؛ لما يُمحى فيه من مقادير ويثبت فيه من مقادير أُخرى مختلفة.

ومجال صناعة المستقبل وتحديد ما ينبغي أن يكون عليه القدر في الآتي، مفتوح على مصراعيه ومن جميع جوانبه في هذا العالم، فهو قدر ومصير بيد البشر دراسته وتغييره وتحويله، وهو ما اصطلحنا عليه عنوان (البداء الوقوع).

٢_ ما يصل إلى مرحلة القضاء، ولكن لا يكون قضاؤه محتوماً، وتكون جهات البداء فيه أقل وأضيق دائرة من جهات القسم السابق؛ حيث تكون المقادير والشرائط تامّة ومقضيّ بها، فلا تغيير ولا بداء من جهتها، مع احتمال التغيير من الجهات والجوانب الأُخرى، كالعلل أو ما يكون حاكماً عليها أو من جهة المشيئة الإلهية الفعلية والذاتية، فيقع فيه البداء من جهاته الأُخرى، دونما جهة المقادير، من قبيل إحراق النبي إبراهيم علیه السلام بالنار، الذي تمّت جميع مقاديره وشرائطه، ولكن علّة الإحراق والاحتراق وهي النار لم تؤثر أثرها بأمر الله تعالى، فاستطاع إبراهيم علیه السلام أن يقرّر مصيره وأن يصنع لنفسه بإيمانه واعتقاده مستقبلاً جديداً، حيث تمرّد على المستقبل الذي رسمه له الطغاة.

ولكن قابلية التغيير في هذا القسم أضيق دائرة وأبعد وقوعاً من القسم السابق كما ذكرنا، ويقع هذا النحو من التغيير أيضاً في عالم المحو والإثبات فما دون، ونُسمّي إمكانية حصول البداء فيه أيضاً ب_(البداء الوقوع).

٣_ ما يصل إلى مرحلة القضاء، ويكون قضاؤه محتوماً، ولكنه من القضاء المحتوم

ص: 19

الذي قد يُردّ ويُبدّل، وتكون جهات البداء والتغيير المستقبلي فيه أضيق دائرة وأشدّ بُعداً من القسم السابق؛ لأن ردّه وتبديله لا من جهة شرائطه ولا من جهة اختلاف أو تخلّف علله، وإنما من جهة أُمور أُخرى قد تكون حاكمة على علله، من قبيل: الصدقة، والدعاء، وصلة الرحم، وغيرها من الأُمور التي قد تردّ القضاء وإن أُبرم إبراماً، وكذلك قد يتغيّر من جهة المشيئة الإلهية. وهذا النحو من التغيير أيضاً يكون في عالم المحو والإثبات، وهو أيضاً من أشكال وصور البداء الوقوعي.

٤_ ما يصل إلى مرحلة القضاء، ويكون قضاؤه محتوماً، ودرجة الحتم فيه غير قابلة للردّ والتغيير والتبديل، ولكن مع ذلك كلّه يبقى لله فيه المشيئة، فليس هناك سبب للتغيير إلّا من جهة المشيئة الإلهية، فقد يشاء الله تعالى التغيير وقد لا يشاء، ولم تستقر المشيئة الإلهية الفعلية _ لحكمة_ على طرف معين، سلباً أو إيجاباً، وذلك من قبيل الوعيد الإلهي بالعذاب يوم القيامة، فلا بداء فيه إلّا من جهة المشيئة الإلهية الفعلية، وكذا الذاتية، فيبقى أمل التغيير فيه مفتوحاً، ولكنه بعيد جدّاً، يكاد ألّا يقع، وهو معنى حتميته، مضافاً إلى كونه حتميّاً بالنسبة إلى ما دون المشيئة الفعليّة العليا، وبلحاظ هذه الحتمية نُسمّي البداء فيه ب_(البداء الإمكان)، وموضعه أعلى من عالم المحو والإثبات بمراتب.

٥_ ما يصل إلى مرحلة القضاء ويكون قضاؤه محتوماً، ودرجة الحتم فيه غير قابلة للردّ والتغيير، وقد شاء الله تعالى ألّا يُغيره، فهو تعالى قد أعمل مشيئته الفعلية بعدم التغيير، وهذا هو ما يُسمّى بالميعاد الذي لا خُلف له، من قبيل الوعد بإدخال الأنبياء والأولياء والصالحين إلى الجنة.

ص: 20

ولكن هذا القسم أيضاً يبقى محكوماً بالمشيئة الإلهية الذاتية. وبلحاظ محكوميته بهذه المشيئة يكون البداء فيه إمكانياً أيضاً، والإمكان كما هو معلوم لا يستلزم الوقوع.

من ذلك كلّه يتضح: أن جميع الأشياء والمخلوقات يطالها البداء وإمكانية التغيير، ولكن دوائر ذلك البداء تختلف بحسب مرتبة المخلوق ودرجته في عالم الخلقة، فحتى علم المخلوق الأول ومشيئته محكومتان بالمشيئة الإلهية وإمكانية التغيير كما بيّنا.

وبهذا البيان نختلف مع ما ذكره العلامة الطباطبائي في رسالة علم النبي صلى الله عليه و آله والإمام علیه السلام ، حيث يؤكّد فيها على أن علم المعصومين علیهم السلام لا يحتمل البداء ولا التغيير أبداً، وجعل ذلك هو السبب والعلّة في عدم تأثير علمهم في أفعالهم علیهم السلام ؛ حيث قال: «علمهم بالحوادث علم بها بما أنها واجبة التحقق، ضرورية الوقوع، لا تقبل بداء ولا تحتمل تخلّفاً كما في الأخبار، والعلم الذي هذا شأنه لا أثر له في فعل الإنسان»(1). ونحن قد عكسنا الأمر تماماً، وأثبتنا أن علمهم علیهم السلام لكونه محكوماً بالمشيئة الإلهية الذاتية، فهو مفتوح على جميع الاحتمالات، وقابل للتغيير والتبديل، فلا ينبغي الاستسلام لنتائجه، بل لا بدّ من مواصلة المسير، والعمل بالوظائف والتكاليف التي تتناسب مع عالمنا، ويبقى بيد الله تعالى إمكانية التبديل والتغيير.

وفي ضوء ما بيّناه من تفصيل؛ يتضح _ في محلّ بحثنا _ أن الإمام الحسين علیه السلام مع علمه الواسع بمُلك وملكوت السماوات والأرض، لكنه لا يجزم على الله تعالى بشيء؛ لأن له عَزوجَلإمكانية البداء، وبيده تحويل وتغيير كل شيء، وهو علیه السلام يعلم في هذه الحالة بأنه ليس عليه إلّا القيام بوظيفته المكلف بها، وعواقب الأُمور الحتمية

ص: 21


1- الطباطبائي، الرسائل الأربعة عشر: ص٣٨٥- ٣٨٦.

وخواتيمها النهائية بيد الله تعالى، وله تعالى القدرة والمشيئة في أن يُغير مجاري الأُمور ويقلب المعادلة ويجعل النصر العسكري حليف الحسين علیه السلام ، فيُقام على يده المباركة حكم الله تعالى في الأرض، وهذا هو الجانب الذي ألمحنا إلى كونه مرتبطاً بالأُمة، ولكن الأُمة قد أساءت التصرّف ورفضت التغيير وتنكّرت للإصلاح الحسيني.

ويشهد لما بيّناه _ من عدم وجود علم مخلوق مستقبلي قطعيّ بالنسبة إلى المشيئة الإلهية _ طوائف كثيرة من نصوص النهضة الحسينية وتراثها:

منها: ما يرويه ابن شهرآشوب في المناقب عن مسير الإمام الحسين علیه السلام إلى العراق، حيث يقول: «فلما نزل شقوق(1) أتاه رجل، فسأله عن العراق، فأخبره بحاله، فقال: إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وربنا تبارك كل يوم في شأن، فإن نزل القضاء، فالحمد لله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يبعد مَن الحق نيّته»(2).

وفي نص الفتوح لابن أعثم الكوفي: «وسار الحسين حتى نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل عليه، فسلّم، ثم دنا منه فقبَّل يده، فقال الحسين: من أين أقبلت يا أبا فراس؟ فقال: من الكوفة يا بن بنت رسول الله. فقال: كيف خلّفت أهل الكوفة؟ فقال: خلفت الناس معك وسيوفهم مع بني أُمية، والله يفعل في خلقه ما يشاء! فقال: صدقت وبررت، إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وربنا تعالى كل يوم هو في شأن، فإن نزل القضاء بما نحب؛ فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على

ص: 22


1- شُقوق: جمع شِق أو شَق، وهو الناحية، منزل بطريق مكة بعد موضع واقصة من جهة الكوفة. اُنظر: الحموي، معجم البلدان: ج٣، ص٣٥٦
2- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٤٦.

أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد مَن كان الحق نيّته»(1).

وهذا النص الشريف صريح فيما بيناه؛ إذ إنه واضح في أن كل الأُمور والحوادث متوقفة على المشيئة الإلهية، ولم يجزم الإمام علیه السلام على الله تعالى بشيء، فقد ينزل القضاء الإلهي بما يحبّه ويرجوه، وهو النصر وإقامة حكم الله في الأرض، وهذه نعمة إلهية عظيمة تستحقّ الحمد والشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، واستُشهد علیه السلام ، فإنه شهيد الحق والحقيقة، وليس معتدياً أو بعيداً عن الله تعالى، بل هو حيّ عنده يُرزق.

ومنها: قول الإمام الحسين علیه السلام في طريقه إلى الكوفة: «أما والله، إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا قُتلنا أم ظفرنا»(2).

إذن؛ كانت حسابات الإمام الحسين علیه السلام _ بموجب هذا النص _ مفتوحةً على كلا الاحتمالين، النصر أو الشهادة، وليست المسألة محتومة ولا محسومة بالشهادة كما قد يُصوّره البعض؛ فيبقى الأمر بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويقضي ما يريد، وإن كانت الإرادة والمشيئة الإلهية ستكون متطابقة مع ما علم به الإمام الحسين علیه السلام من أمر الشهادة كما سيأتي.

نعم؛ الخير والبركة والمصلحة والحُسن في كلا الاحتمالين (النصر أو الشهادة)، وينبغي ألّا نختلف في هذا الأمر.

ومنها: قول الإمام الحسين علیه السلام للطرماح بن عدي، بعد أن قدّم له النصيحة بعدم

ص: 23


1- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج٧، ص٧١.
2- الطبري، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠٦.

الذهاب إلى الكوفة، والاحتماء بقبيلة طي: «جزاك الله وقومك خيراً، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأُمور في عاقبهِ»(1).

وفي نص آخر _ وبالمضمون نفسه _ ينقله ابن نما الحلّي: «إن بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم، فإن يدفع الله عنا؛ فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لا بدّ منه؛ ففوز وشهادة إن شاء الله»(2).

وهذان النصان قريبان في مضمونهما من النص السابق، فإنْ دفع الله تعالى الخطر وحظي الإمام علیه السلام بالنصر، فهو من نعمه وكرمه جلّ شأنه، وإن كان المصير هو القتل والموت الذي لا مفرّ منه، فهو فوز بالشهادة في سبيل الحق. ثم يُعلّق الإمام علیه السلام ذلك كلّه على المشيئة الإلهية، وهذا هو ما بيّناه في مستهلّ كلامنا.

الإجابة الثانية: تعدد مراتب علم المعصوم بحسب تنوع عوالم وجوده

تُثبت الآيات والروايات المتضافرة عظمة شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والمعصومين من أهل بيته علیهم السلام ، وأنها شخصيات كبيرة وضخمة وممتدّة في عمود عوالم الخلقة، من أول مخلوق وهو النور الأول، ومروراً بالعوالم المتنزّلة (القلم، واللوح، والعرش، والكرسي، وأُم الكتاب و... والمحو والإثبات وغيرها) إلى أن يستقرّ وجودهم الطاهر في هذا العالم المشهود، فهم علیهم السلام النور الأول في مرتبة أوّل مخلوق، وهم القلم في عالم القلم، واللوح في عالم اللوح، والعرش في مرتبة العرش، والكرسي في الكرسي، وهم

ص: 24


1- المصدر السابق: ص٣٠٧.
2- الحلّي، ابن نما، مثير الأحزان: ص٢٨.

المحو والإثبات في عالم المحو والإثبات، وهم الوجودات المادّية المشهودة المقدّسة في عالمنا هذا.

وتختلف صفاتهم وأسماؤهم وخصائصهم الوجودية المقدّسة باختلاف العوالم التي تتجلّى فيها وجوداتهم وشخصياتهم الطاهرة، فحياتهم وعلمهم وقدرتهم وسائر صفاتهم وأسمائهم _ وهم في منزلة النور الأول _ تختلف عمّا لهم من تلك الأسماء والصفات في عالم القلم؛ لأن ما في النور الأول أجلّ وأقدس وأعظم ممّا هو في القلم، فما في القلم رقيقة الحقيقة التي في النور الأول، وهكذا الحال حينما تتنزّل عوالم الوجود في مراتبها الدنيا، فما في القلم أعظم مما هو في اللوح، وما في اللوح أعظم مما في العرش، وهكذا...

وعلمهم علیهم السلام الذي لا يعزب عنه شيء هو علمهم الذاتي في النور الأول، وهو عين ذاتهم النورية الأحدية القدسية، وهذا العلم لا حاكم عليه بالتغيير والتبديل إلّا المشيئة الإلهية الذاتية، ثم يبدأ هذا العلم بالتنزّل والتجلّي للعوالم الأدنى، وعندما يصل إلى عالم المحو والإثبات يُصبح علماً متغيراً ومحكوماً بالعوالم الأعلى والإرادات والمشيئات الفوقانية المحيطة به، فيقع فيه البداء والتحويل، والتبديل والتغيير.

وعلى هذه المرتبة العلمية _ في عالَم المحو والإثبات _ تُحمل أغلب الروايات التي تُثبت وقوع البداء في علومهم علیهم السلام التي أخبروا بها أصحابهم وأتباعهم، من قبيل الرواية المعتبرة والمشهورة التي يرويها الكليني، بسنده عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام ، قال: «مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه و آله فقال: السام عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله : عليك. فقال أصحابه: إنما سلّم عليك بالموت! قال: الموت عليك! قال النبي صلى الله عليه و آله : وكذلك رددت.

ص: 25

ثم قال النبي صلى الله عليه و آله : إن هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله. قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثم لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله : ضعه. فوضع الحطب، فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال: يا يهودي، ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا احتملته، فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله : بها دفع الله عنه. وقال: إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان»(1)، فما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله لم يكن كذباً ولا جهلاً ولا خطأ، وإنما أخبر أصحابه بمعلومة من عالم المحو والإثبات أو مما هو دونه، وهذه المرتبة العلمية مشروطة ومحكومة بما فوقها، وقابلة للتغيير والتبديل كما بيّنا، ويبقى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في عوالم القلم واللوح وأُم الكتاب عالماً بالنتائج النهائية الثابتة غير المحكومة بشيء، إلّا بالمشيئة الإلهية الذاتية.

وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى المرتبة والدرجة العلمية لهم علیهم السلام في عالمنا المشهود، والتي سُمّيت قديماً في كلمات علمائنا بالعلم العادي للمعصوم، فإن هذه المرتبة العلمية أيضاً يقع فيها البداء والتغيير والتبديل، وعلى هذه النتيجة تُحمل طوائف كبيرة وكثيرة من الروايات التي تتحدث عن علومهم علیهم السلام العادية، من قبيل المعتبرة المشهورة التي يرويها الكليني أيضاً بسنده عن عبد الحميد بن سعيد، قال: «بعث أبو الحسن علیه السلام غلاماً يشتري له بيضاً، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلما أتى به أكله، فقال له مولى له: إن فيه من القمار. قال: فدعا بطشت فتقيأه»(2).

ويترتب على هذا البيان فهم طبيعة ما يفعله المعصوم في عموم حياته اليومية،

ص: 26


1- الكليني، الكافي: ج٤، ص٥.
2- المصدر السابق: ج٥، ص١٢٣.

فيُقدم على الجهاد في لهوات الحرب، ويُثاب عليه بأعظم الثواب، بل يعدل قتاله وجهاده عبادة الثقلين، وكذا يخشى المعصوم الله  أكثر من غيره، حتى يُغمى عليه في الصلاة، ويرهق من كثرة العبادة؛ لأنه الأعلم بقدرته تعالى على تغيير كل شيء، وتحويل المخلوقات من حال إلى آخر، فيبكي ويدعو ويتضرّع؛ لئلا يُخرجه الله تعالى من واسع رحمته، وألّا يُدخله النار، وألّا ينتزع منه نعمته وفضله وعطاءه و... وهو يدرك أنه تعالى قادر على ذلك كلّه، ومشيئته حاكمة في جميع تلك الأُمور.

وبما بيّناه أيضاً تتضح حقيقة علمهم علیهم السلام الإشائي في هذا العالم، وأنهم متى شاؤوا أن يعلموا علموا أو أعلموا(1)، فواحدة من معانيه الصحيحة أنهم علیهم السلام وهم في هذه النشأة المادية متى ما أرادوا الاتصال بوجوداتهم القدسية في العوالم العليا فإنهم قادرون على ذلك، فينهلون علوماً من تلك العوالم متى شاؤوا، وتكون المرتبة العلمية المقيّدة بمشيئتهم علیهم السلام هي مرتبة علمهم في هذا العالم، وليس المقصود تقييد العلم بالمشيئة في جميع مراتبهم العلمية بجميع عوالمهم القدسية، وإن كان جميعها مقيّد بالمشيئة الإلهية الذاتية.

قال العلامة الطباطبائي في رسالة له حول علم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والإمام علیه السلام بالغيب: «وأما الأخبار، فقد تكاثرت عن النبي صلى الله عليه و آله وأئمة أهل البيت علیهم السلام ؛ أن نور النبي صلى الله عليه و آله أول ما خلقه الله، وأن نورهم ونور النبي صلى الله عليه و آله واحد، وأن الله آتاه علم ما كان وما يكون وما هو كائن وحْيَاً، وأنهم علیهم السلام أخذوه عنه صلى الله عليه و آله بالوراثة. وقد ورد في بعضها _ وسياقه سياق التفسير لسائرها _ أنهم علیهم السلام إذا شاؤوا علموا وإذا لم يشاؤوا لم يعلموا.

ص: 27


1- اُنظر: المصدر السابق: ج١، ص٢٥٨ وما بعدها.

ويتحصل به: أن لهم بحسب مقام نورانيتهم علماً بالفعل بكل شيء، وأما بحسب الوجود العنصري الدنيوي، فهم إذا شاؤوا علموا بالاتصال بمقام النورانية بإذن الله، وإذا لم يشاؤوا لم يعلموا؛ وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض القصص والسير المأثورة عنهم ممّا ظاهره أنهم ما كانوا على علم بما كان يستقبلهم من الحوادث، فلا تغفل»(1).

بعد هذا البيان الموجز لحقيقة علم المعصومين علیهم السلام وشخصياتهم المقدّسة في العوالم المختلفة، نقول:

ينبغي علينا أن لا نُحجّم شخصية الإمام الحسين علیه السلام الإلهية الضخمة بمستوى واحد من عوالم الوجود؛ لأن شخصيته علیه السلام ممتدّة في تلك العوالم المتنوعة، فالإمام علیه السلام في مرتبة القلم واللوح وأُم الكتاب لا يتغير علمه ولا تطاله يد البداء من الناحية الوقوعية، وإن أمكن فيه التغيير من جهة المشيئة الإلهية الذاتيّة، وهو علیه السلام في مرتبة المحو والإثبات قد يتغير علمه وقوعاً، وكذا الحال في هذا العالم الدنيوي؛ حيث تكون علومه علیه السلام في عالمنا متغيرة ومشروطة بمشيئة العوالم العليا، وهذا أمر طبيعي ومقبول كما بيّنا.

والحاصل: إننا لا نرى في ضوء ما بيّناه أيّ مشكلة عقدية في أن يسير الإمام الحسين علیه السلام في نهضته للإصلاح بموجب معطيات الواقع وظروف المرحلة، وبما يتناسب مع مرتبة علمه ووجوده المقدّس في هذا العالم الأرضي، بتزاحماته ومتغيّراته، وملابساته الماديّة الدنيوية، فينهل من علوم الوحي والمغيبات على قدر ما يتناسب ويتماشى مع طبيعة عالمنا الدنيوي. ولا يسير في ضوء علوم الغيب في عوالم الوجود

ص: 28


1- الطباطبائي، الرسائل الأربعة عشر: ص٣٨٥- ٣٨٦

العليا بتمامها(1)، فيعمل علیه السلام بموجب وجوده الأرضي، لا بموجب عوالمه الأُخرى، وإن كانت له علیه السلام درجات سماوية عليا تتسنّم علياء النور الأول.

ولعل العبارة المعروفة عن السيد المرتضى _ في كتابه تنزيه الأنبياء _ ترمي إلى ما ذكرناه؛ حيث يقول في صدد التوفيق بين المواقف الحسنية والمواقف الحسينية: «وهذا [أي الإمام الحسين] علیه السلام لمّا قوي في ظنه النصرة ممن كاتبه ووثق له، ورأى من أسباب قوة نصّار الحق وضعف نصّار الباطل؛ ما وجب معه عليه الطلب والخروج»(2).

وكذا قول المفيد: «فأما علم الحسين علیه السلام بأن أهل الكوفة خاذلوه، فلسنا نقطع على ذلك؛ إذ لا حجّة عليه من عقل ولا سمع»(3).

وهذا ما قد يُسمّيه البعض بعلم الظاهر، أو العلم العادي للمعصوم كما أشرنا.

ولا يتنافى هذا البيان أبداً مع النصوص الآتية التي تؤكد علم الإمام علیه السلام بما سيجري عليه وعلى صحبه وأهل بيته من القتل والسبي؛ لأنه:

أولاً: قد أشرنا إلى أن هذا العلم الغيبي محكوم بالإرادة والمشيئة الإلهية، فلا يقين مطلق من جميع الجهات بوقوع ذلك وإن كان محتوماً؛ لأن الحتم نسبي، كما أوضحنا.

وثانياً: ذكرنا بأن الإمام علیه السلام إنما يتعامل في هذا العالم بما يتناسب معه من درجات العلم، ولا يتعامل فيه بما يتناسب مع العوالم الأُخرى من درجات ومراتب علمية متفاوتة.

ص: 29


1- بل نعتقد باستحالة ذلك، لكونه خلف الفرض، بالإضافة إلى كونه مخالفاً للسنن الإلهية في عالم الخلقة، فكيف يكون اللوح قلماً والعرش لوحاً والمادّي مجرّداً في آن وفرض واحد؟!
2- المرتضى، تنزيه الأنبياء: ص١٧٥.
3- المفيد، المسائل العكبرية: ص٧١.

٢- خرج الحسين بأمر إلهي ليستشهد (أسباب تراثية)

اعتمد بعض المنكرين للأهداف السياسية للنهضة على بعض النصوص والروايات التي تؤكد على أن الإمام الحسين علیه السلام مقتول لا محالة، وأنه إنما خرج ليستشهد، كما أنه كان مأموراً بذلك.

ونحاول فيما يلي أن نستعرض بعض تلك النصوص مع بيان كيفية الاستدلال بها على دعوى المنكرين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الإجابة عنها بنحو عام:

منها: إخبارات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأهل بيته علیهم السلام المتواترة والمتنوعة _ عن جبرئيل عن الله تعالى _ بمقتل الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء، وأنه مأمور بذلك من قبَل الله، وهي كثيرة جدّاً، مروية من طرق الفريقين، ولا داعي لاستعراضها(1).

ويدّعي أصحاب هذه الإشكالية: أن تلك الطوائف من الروايات والنصوص النبوية الشريفة تكشف بوضوح عن كون القضية الحسينية معلومة النتائج ومحسومة سلفاً، والحسين علیه السلام يعلم علم اليقين _ عن طريق هذه الإخبارات الوحيانية_ بأنه خارج ليُقتل، لا لينتصر ويُقيم حكم الله في الأرض.

ومنها: ما رواه الصدوق في الأمالي، حينما استعرض مسير الإمام الحسين علیه السلام إلى الكوفة، حيث قال: «ثم سار حتى نزل الرهيمة(2)، فورد عليه رجل من أهل الكوفة، يُكنى أبا هرم، فقال: يا بن النبي، ما الذي أخرجك من المدينة؟ فقال: ويحك يا أبا

ص: 30


1- اُنظر على سبيل المثال: ما جمعه المجلسي في البحار بهذا الصدد: ج٤٤، ص٢٢٣ وما بعدها
2- الرهيمة: ضيعة أو عين ماء قرب الكوفة.

هرم! شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وايْمُ الله، ليقتُلنّي، ثم ليُلبسنّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليُسلّطن عليهم مَن يذلهم»(1).

فالإمام الحسين علیه السلام يشرح مظلوميته لهذا الرجل الكوفي، ويُقسم له بأن بني أُمية سيقتلونه لا محالة، ومن كانت هذه حاله كيف يُتصور أنه قد خرج لإسقاط الحكم الأُموي واستلام مقاليد الحكم؟!

ومنها: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن الحسين بن علي علیهماالسلام ، قال: «والذي نفس حسين بيده، لا ينتهي بني أُمية مُلكُهم حتى يقتلوني، وهم قاتلي»(2).

وهذا النصّ أيضاً صريح بأن الإمام الحسين علیه السلام كان عالماً علماً يقينياً بأنه مقتول، وأن بني أُمية هم الذين سيرتكبون جريمة قتله، وقد أقسم الإمام علیه السلام على حصول ذلك.

ومنها: قوله علیه السلام لأُم سلمة حينما نصحته بألّا يخرج إلى العراق: «إني _ والله _ مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً، وإن أحببت أن أُريكِ مضجعي ومصرع أصحابي. ثم مسح بيده على وجهها؛ ففسح الله عن بصرها حتى أراها ذلك كلّه، وأخذ تربةً فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورة أُخرى، وقال علیه السلام : إذا فاضتا دماً فاعلمي أني قُتلت»(3).

ويُكرّس هذا النصّ أيضاً مضامين النصوص السابقة، وهي القَسم بأنه علیه السلام

ص: 31


1- الصدوق، الأمالي: ص٢١٨.
2- ابن قولويه، كامل الزيارات: ص١٥٦.
3- الكراجكي، الخرائج والجرائح: ج١، ص٢٥٣_ ٤٥٢.

مقتول من دون شك، وأنه سوف يُقتل على كل حال، توجّه للكوفة أم لم يتوجّه.

ومنها: قوله علیه السلام أيضاً لأُم سلمة: «يا أُماه قد شاء الله  أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون، فلا يجدون ناصراً ولا مُعيناً»(1).

إذن؛ النتيجة معلومة، والمشيئة الإلهية قد تعلّقت سلفاً بأن يُقتل الحسين علیه السلام ظلماً وعدواناً، وأن يلاقي رهطه وحرمه وأطفاله علیه السلام آلام الأسر والظلم والقتل، ولا يلوح في الأُفق أيّ هدف سياسي قابل للتحقّق على أرض الواقع آنذاك.

ومنها: ما رواه الصفار في البصائر بسنده، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبدالله علیه السلام ، قال: «ذكرنا خروج الحسين وتخلُّفَ ابن الحنفية عنه، قال: قال أبو عبد الله: يا حمزة، إني سأحدثك في هذا الحديث، ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا، إن الحسين لما فصل متوجهاً، دعا بقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى بني هاشم، أما بعد، فإنه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلَّف لم يبلغ الفتح. والسلام»(2).

فالطريق الحسيني طريق شهادة وتضحية، وأصحاب الفتح هم الشهداء، لا القادة السياسيون.

ومنها: خطبته علیه السلام المشهورة التي قال فيها: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، وصلى الله على رسوله وسلم، خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخيْرَ لي مصرع أنا لاقيه، كأني

ص: 32


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج٤٤، ص٣٣١-٣٣٢.
2- الصفار، بصائر الدرجات: ص٥٠١.

بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملأَنَّ منَّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً»(1). فكان الحسين علیه السلام يرى تفاصيل ما سيجري عليه من القتل والهتك والسلب، فكيف يُعقل أن يخرج ساعياً لإقامة الحكومة الإلهية على هذه الأرض؟!

ومنها: ما أخرجه الكليني بسنده عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام ، في حديث طويل حول الوصية وميراث النبوة وخواتيم الأوصياء، جاء فيه قوله علیه السلام : «فلمّا تُوفّي الحسن ومضى، فَتَحَ الحسين علیه السلام الخاتم الثالث، فوجد فيها أنْ قَاتِلْ فاقتُل وتُقتَل، واخرُج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلّا معك. قال: ففعل علیه السلام »(2). فالوصاية الحسينية مختومة بالقتل، لا بالقيادة والحكم والرئاسة.

«وذلك بمجموعه يكشف عن أنه علیه السلام قد أقدم على تلك النهضة عالماً بمصيره»(3).

هذه هي أهم النصوص والأحاديث التي تُذكر _ عادة _ لإثبات أن الإمام الحسين علیه السلام كان عالماً علماً قطعياً بأنه مقتول مسلوب، وأنه إنما خرج طلباً للشهادة؛ ليكون فاتحاً ومنتصراً بدمه الطاهر، ولم يخرج لإسقاط حكم جائر وإقامة حكومة إلهية عادلة(4).

ويتحصّل من مجموعها ما يلي:

أولاً: إن الإمام الحسين علیه السلام كان عالماً علم اليقين بمقتله على كل حال، وكان عالماً أيضاً بتفاصيل ما سيجري عليه.

ص: 33


1- المجلسي، بحار الأنوار: ج٤٤، ص٣٦٦-٣٦٧.
2- الكليني، الكافي: ج١، ص٢٧٩-٢٨٠.
3- السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، فاجعة الطف: ص٢٦.
4- وقد أحصى بعض العلماء مجموعة من النصوص الأخرى التي لا تخرج عن مضمون ما أحصيناه، انظر: فاجعة الطف، السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم: ص١٦- ٤٦

ثانياً: إن القضية الحسينية معلومة النتائج ومحسومة سلفاً، عن طريق الإخبارات الوحيانية، فالحسين علیه السلام خرج ليستشهد، لا لينتصر ويُقيم حكم الله في الأرض.

ثالثاً: إن المشيئة الإلهية قد تعلّقت بشهادة الحسين علیه السلام وشهادة وُلده وأصحابه وسبي عياله.

رابعاً: إن الفتح الحسيني فتح بالمظلومية والشهادة، لا بالقيادة.

وفي ضوء هذه النتائج قرّر بعض الباحثين شطب الأهداف السياسية من قائمة أهداف النهضة الحسينية.

الإجابة عن هذه الإشكالية:

اشارة

بغضّ النظر عن البحث في أسانيد هذه النصوص ومدلولاتها، فإنَّ إجابتنا عن هذه الإشكالية تعتمد على ما بيناه وأوضحناه في الإجابة عن الإشكالية السابقة؛ لأنها تبتني أيضاً على استيضاح العلاقة بين البداء والقضاء وبين مراتب ودرجات علم المعصوم، وفيما يرتبط بالمقام نؤشّر الإجابات التالية:

الإجابة الأُولى: علم الحسين علیه السلام بشهادته لا يتنافى مع الأهداف السياسية للنهضة

إن علم الإمام الحسين علیه السلام المسبق بشهادته ومقتله لا يتقاطع أبداً مع ما ذكرناه من المبادئ السياسية للنهضة، وذلك لوجهين:

ص: 34

الوجه الأول: إن هذا العلم _ كما بيّنا _ مهما كان قطعيّاً ومحتوماً ومأخوذاً من علوم النور الإلهي الأوّل، فإنه يبقى محكوماً بالإرادة والمشيئة الإلهية الذاتية، ويبقى علماً وقطعاً نسبيّاً بالنسبة إلى ما دونها، وتبقى الحتميّة فيه حتميّة بالنسبة إلى العوالم الأدنى، فهو علم قطعي وقضاء حتمي لا يتأثر ولا يتبدّل ولا يتغير بما دونه من العوالم الوجوديّة، لكنه قابل للتغيير والتبديل إذا لوحظ منسوباً إلى المشيئة الإلهية الذاتية؛ لأنها حاكمة على كلّ شيء، وهذا هو ما أسميناه بالبداء الإمكاني في علوم ومعارف النور الأوّل(1).

وحينئذٍ نقول: إن علم الإمام الحسين علیه السلام بمقتله وشهادته حتى لو كان يقينيّاً وقطعيّاً وحتميّاً، بل حتى لو كان انكشافاً حضوريّاً ومشاهدة لما سيقع في مستقبل الأيام، فإن حصوله ووقوعه في عمود التسلسل الزمني يظل محكوماً بالمشيئة الإلهية الذاتية، وهذا هو معنى ما ذكرناه: من أن المعصوم لا يجزم على الله بشيء، فقد تنقلب المعادلة وتتغير الأُمور، وتختلف الحسابات إذا شاء الله تعالى ذلك.

ويبقى على الإمام الحسين علیه السلام أن يعمل بتكليفه ووظيفته الإلهية، وإلى الله ترجع الأُمور كلّها، ومن وظائفه علیه السلام وتكاليفه الإلهية الثابتة بالنصوص المتضافرة _ كما ألمحنا في مقال سابق _ هو محاربة الحكومة الأُموية الظالمة، والعمل على إسقاطها، وإقامة حكم الله في الأرض، وتشكيل الدولة الإلهية العادلة، وعلمه علیه السلام المحكوم بالمشيئة لا يُغيِّر من واقع تلك الوظيفة شيئاً، وقد يتمّ تحقيقها وإنجازها في أرض الواقع إذا شاء الله تبارك تعالى.

ص: 35


1- ويفتح لنا هذا البيان باباً مهماً من أبواب نظرية المعرفة الدينية والوحيانية.

ولا ننسى أن ذلك كلّه تابع لإرادة الأُمة، إذا اختارت التغيير وانقلبت على حكّامها الظالمين والمتجبّرين، وكثيراً ما كان يربط الإمام الحسين علیه السلام نهضته المباركة بإرادة الأُمّة والوعود والعهود والمواثيق التي قطعتها على نفسها، وكان يحترم المواثيق الكوفيّة، علّها تؤتي أُكُلَها وتُغيّر الموازين وتقلب المعادلات، لو سارت الأُمور بالاتجاه الصحيح.

الوجه الثاني: ما أشرنا إليه سابقاً: من أن الإمام الحسين علیه السلام بوجوده الأرضي المقدّس إنما يتعامل في هذا العالم الدنيوي بما يتناسب معه من درجات العلم والمعرفة، ولا يتعامل فيه أبداً بالعلوم العُليا التي تُناسب العوالم الأُخرى، وإن كان عالماً بها ومطّلعاً عليها بوجوده ومقامه الملكوتي الأعلى، لا بوجوده الأرضي، فالعلم بما في العالم العُلْوي إنما يناسب ذلك العالم، ولا يعني الجري بمقتضاه في عالمنا الدنيوي، بل لعالمنا علومه المتغيرة والمحدودة التي تناسبه كما بيّنا، وهذه هي طبيعة التفاوت في خصائص وصفات عوالم الخلقة.

الإجابة الثانية: المشيئة الإلهية الفعلية لا تعني حسم الأُمور

صرّحت بعض النصوص المتقدّمة بكون المشيئة الإلهية قد تعلّقت بشهادة الإمام الحسين علیه السلام ، وشهادة وُلده وأصحابه، وسبي عياله ظلماً وعدواناً؛ حيث قال علیه السلام : «قد شاء الله  أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيدين، وهم

ص: 36

يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً». وقد استُنتج من ذلك كون الشهادة والسبي أمراً محسوماً، ولا معنى في هذه الحال لوجود أهداف سياسية للنهضة.

ولكن في مقام الإجابة عن ذلك نقول: لقد بيّنا _ مفصّلاً _ بأن المشيئة الإلهيّة تنقسم إلى مشيئة ذاتية هي عين الذات الأحديّة المقدّسة، ومشيئة فعلية منسوبة إلى الذات الإلهية وإلى أفعالها ومخلوقاتها، والذي يُفهم من هذا النصّ الشريف أن المشيئة الإلهية المذكورة فيه هي المشيئة الفعلية؛ وذلك لما ذكر فيه من تعلّقها بالشهادة والسبي، والمشيئة الفعلية هي التي تُعيّن جانباً على حساب جانب آخر، أي تختار طرفاً بالفعل وهو الشهادة والسبي دون الأطراف الأُخرى المحتملة.

وأما المشيئة الذاتية، فهي مطلقة وواسعة ومفتوحة على جميع الاحتمالات وكافّة الأطراف المتصوّرة، فكل شيء ممكن وقابل للحصول والتحقّق بالنسبة إليها.

والمشيئة الفعلية بجميع مراتبها وعلى اختلاف وتنوّع عوالمها الوجوديّة محكومة بالمشيئة الإلهية الذاتية، فهي قابلة للتغيير والتبديل إذا نُسبت إلى إرادة ومشيئة الذات الإلهية، فالعلم بها لا يعني أبداً أن أمر الشهادة والسبي محسوم، وأن احتمال النصر والظفر مفقود، بل يبقى رجاء الإصلاح موجوداً، وأمل التغيير قائماً، وفي ضوئه خرج الإمام الحسين علیه السلام للإصلاح، وهو القائل كما تقدّم: «إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وربنا تبارك كل يوم في شأن، فإن نزل القضاء؛ فالحمد لله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء؛ فلم يبعد مَن الحق نيّته».

والحاصل: إن المشيئة الإلهية الفعلية التي أخبر عنها الإمام الحسين علیه السلام ، لا تغلق

ص: 37

الأبواب أمام إمكانية تحقيق النصر العسكري، ولا تُلغي الأمل والرجاء في إصلاح الأُمة وإسقاط الحكومة الظالمة، وإقامة حكومة إسلامية عادلة بديلة عنها؛ ولذا خرج الحسين علیه السلام بأمل ورجاء تحقيق وإنجاز تلك الأهداف والمصالح والغايات السامية.

وفي نهاية المطاف، ينبغي أن نُميّز بين النصوص الصادرة في أوائل أيام النهضة، وبين ما صدر في نهاياتها، حينما أصبح الإمام الحسين علیه السلام على مشارف الكوفة، وبعد انقلاب أهلها؛ لأن ما صدر في الأيام الأخيرة كان أقرب إلى الشهادة من النصر. وجملة من النصوص التي ذكرت في هذه الإشكالية، هي من نصوص الأيام واللحظات الأخيرة للنهضة(1).

يضاف إلى ذلك كلّه: أن النصوص المذكورة في هذه الإشكالية، لا يخلو أكثرها من المناقشات السندية والدلالية، كما هو واضح، لكننا أعرضنا عن ذكرها لكفاية ما استعرضناه من أجوبة(2).

وبما بيّناه تتضح الإجابة أيضاً على جملة من الإشكالات والنقوض التي أوردها بعض المحقّقين من الأعلام على الأهداف السياسية للثورة الحسينية(3).

هذا ما يرتبط بالأسباب والإشكاليات العقدية والتراثية، التي أدّت إلى إنكار الأهداف السياسية للنهضة الحسينية، وقد استعرضناها وأجبنا عنها بالنحو الذي

ص: 38


1- انظر تفاصيل هذه النقطة في كتاب: شهيد جاويد (الشهيد الخالد) صالحي نجف آبادي، الفصل الثاني: من ص١١٠ إلى ص١٨٦
2- قام بعض المحققين بالمتابعة التفصيلية لأسانيد ومداليل تلك النصوص. انظر: شهيد جاويد (الشهيد الخالد) صالحي نجف آبادي: من ص٣٦٧ إلى ص٤٣٨
3- السيد الشهيد محمد الصدر، أضواء على ثورة الحسين علیه السلام: ص٩٢- ٩٣

يتناسب مع المقام، تاركين التفاصيل إلى بحوث أوسع وأعمق.

وأما بالنسبة إلى الأسباب والإشكاليات التاريخية وكذا الإشكاليات المرتبطة بالواقع الفعلي الذي نعيشه، فسوف نؤجّل الحديث عنها إلى مقال لاحق إن شاء الله تعالى.

ومن الله نستمدّ العون والتوفيق

ص: 39

ص: 40

دِرَاسَاتٌ في آفَاقِ النَهضَةِ الحُسَينِيَّة

اشارة

*دفاع عن زيارة عاشوراء

*الدراسة الواعية للنهضة الحسينية

*النهضة الحسينية وحفظ المبادئ والمظاهر الدينية

ص: 41

ص: 42

دفاع عن زيارة عاشوراء آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي

اشارة

قرأت أخيراً كتاباً لبعض الأعلام المحققين (حفظه الله) يُشكك فيه بسند زيارة عاشوراء المعروفة، ويجزم بأنّ الفقرة الواردة في نهاية الزيارة والخاصة بلعن خمسة أشخاص _ أربعة منهم غير مذكورين في متن الزيارة، والخامس مصرح به وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان لعنه الله _ قد أُضيفت إلى النص الذي يرويه الشيخ الطوسي في المصباح، ولم تكن في نسخة الأصل.

علماً بأن هذه الفقرة لم ترد في النص الذي يرويه ابن قولويه رحمة الله في كامل الزيارات، وإنما وردت في النسخ المطبوعة من مصباح المتهجد فقط.

وقد حقَّق المؤلف (حفظه الله) في هذا المطلب تحقيقاً واسعاً، من خلال تتبع النسخ المخطوطة للمصباحين _ المصباح الكبير والمصباح الصغير الذي اختصره الشيخ أبو جعفر رحمة الله من المصباح _ فانتهى إلى أنها من الإضافات التي أُدخلت على

ص: 43

المصباح، ولم يذكرها الشيخ الطوسي في نسخة الأصل.

وعندما قرأت شطراً من الكتاب المذكور تساءلت: لماذا يسعى المؤلف المحقق (حفظه الله) إلى التشكيك في سند هذه الزيارة؟

وليس في هذه الزيارة شيء من الفقه؛ لنبحث عن الحجة في المسألة الفقهية.

وليس في هذه الزيارة شيء يخالف الثابت من عقائدنا، أو يخالف الكتاب وما ثبت من السنة؛ لنتحرَّ عن وجه الدليل والحجة.

وأما مسألة تخصيص الخمسة باللعن، وما يؤدي إليه من إثارة الفتنة بين المسلمين، فقد نفاه المؤلف من خلال تتبع نسخ المصباح المخطوطة عبر القرون، وهذه المسألة التي نفاها المؤلف لا تتطلب نفي الزيارة رأساً.

وقد ألِف الناس هذه الزيارة الشريفة، وتوارثوها جيلاً بعد جيل. والمؤلف لم ينفِ الزيارة ولم يَدَّعِ أنها موضوعة مجعولة، وإنما شكك في السند فقط، ولكن عامة الناس من غير أصحاب الاختصاص يفهمون من هذا التحقيق أن الزيارة موضوعة، وهو ما لا يريده المؤلف قطعاً؛ إذ فرق بين ضعف السند وعدم وصول الرواية بطريق معتبر، وبين دسّ الرواية ووضعها، كما لا يخفى على أهل الاختصاص.

فلماذا يسعى المؤلف إلى إثارة هذا التشويش على نص شريف مبارك معروف، يتوارثه المؤمنون جيلاً بعد جيل؟! وقد وجدوا أن كبار العلماء كانوا يحرصون على قراءته والتوصية به وإعظامه. وهو _ في إجماله وتفصيله _ متطابق مع عقائدنا التي ورثناها عن

ص: 44

أهل البيت علیهم السلام ، بما في ذلك البراءة من أعداء آل محمد علیهم السلام ولعن قتلة الحسين علیه السلام ، وقد أعلنهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إعلاناً في أكثر من موضع، ولا سبيل لأحد للمناقشة في صحة هذا اللعن وهذه البراءة بالتأكيد، ومعظم المسلمين يشاركونا فيهما معاً.

مناهج البحث في زيارة عاشوراء

اشارة

فيما يأتي من هذا المقال، نحاول أولاً_ إن شاء الله _ أن نُلقي نظرة إلى سند هذه الزيارة لإثبات اعتبار هذه الزيارة من ناحية السند. ونحاول ثانياً أن نثبت صحة هذه الزيارة بالقرائن الموجودة في أسانيدها الخمسة عند الشيخين ابن قولويه وأبي جعفر الطوسي، حتى مع افتراض عدم اعتبار سند هذه الزيارة.

إذن؛ نتناول دراسة هذه الزيارة إن شاء الله في هذه المقالة ضمن منهجين:

المنهج الأول: إثبات اعتبار رواة الزيارة، وهو ما يُسمى ب_(مبنى الوثاقة).

المنهج الثاني: إثبات اعتبار الزيارة نفسها، عن طريق القرائن الموجودة في أسنادها، بغض النظر عن اعتبار الرواة وعدم اعتبارهم، وهو ما يسمّى ب_(مبنى الوثوق بالصدور).

المنهج الأول: تصحيح أسناد زيارة عاشوراء
اشارة

رويت زيارة عاشوراء بعدة روايات وأسانيد وطرق مختلفة، تصل إلى خمسة طرق عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق علیهماالسلام ، منها:

ص: 45

الرواية الأُولى: رواية الشيخ عن محمد بن خالد الطيالسي

روى الشيخ في المصباح، عن محمّد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة، قال: «خرجت مع صفوان بن مهران الجمّال _ وعندنا جماعة من أصحابنا _ إلى الغري بعدما خرج أبو عبد الله علیه السلام ، فسرنا من الحيرة إلى المدينة، فلمّا فرغنا من الزيارة صرف صفوان وجهه إلى ناحية أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، فقال لنا: تزورون الحسين علیه السلام من هذا المكان من عند رأس أمير المؤمنين علیه السلام . من ها هنا أومأ إليه أبو عبد الله الصادق علیه السلام وأنا معه، قال: فدعا(1) صفوان بالزيارة التي رواها علقمة بن محمّد الحضرمي عن أبي جعفر علیه السلام في يوم عاشوراء، ثم صلّى ركعتين عند رأس أمير المؤمنين علیه السلام ، وودّع في دبرها أمير المؤمنين، وأومأ إلى الحسين بالسلام منصرفاً وجهه نحوه وودّع. وكان فيما دعا في دبرها: يا الله يا الله يا الله، يا مجيب دعوة المضطرين...»(2).

سند الرواية:

الكلام في سند هذه الرواية يقع أولاً في طريق الشيخ إلى محمد بن خالد الطيالسي، ومن ثمّ في الطيالسي ومَن روى عنهم.

طريق الشيخ إلى محمد بن خالد الطيالسي

في طريق الشيخ أبي جعفر الطوسي إلى محمّد بن خالد الطيالسي يقع أحمد بن

ص: 46


1- يعني طلب صفوان الزيارة التي رواها علقمة. ويمكن أن تكون (دعا) بمعنى زار تجوزاً، أو لما في زيارة عاشوراء من الدعاء، ولكن المعنى الأوّل أظهر. أو يكون المعنى: فطلب صفوان متن الزيارة، وهو احتمال ضعيف
2- الطوسي، مصباح المتهجد: ص٧٧٧. المجلسي، بحار الأنوار: ج١٠١، ص٢٩٦ _٣٠٠

محمد بن يحيى.

توثيق أحمد بن محمد بن يحيى

يقول الشيخ في الفهرست في ترجمة محمّد بن خالد الطيالسي: «له كتاب رويناه عن الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه عن محمّد بن عليّ بن محبوب عنه»(1).

وقد انتهى الأُستاذ السيّد الخوئي قدِّسَ سِرُّه في كتابه الكبير (المعجم) إلى جهالة الرجل؛ لعدم ورود توثيق فيه(2).

ولكن المشهور كما يصرح به الأُستاذ رحمة الله هو الاعتماد عليه(3).

وقد وثّقه العلامة رحمة الله في الفائدة الثامنة من خاتمة الخلاصة، ووثّقه الشهيد الثاني في الدراية، وكذلك السماهيجي، والشيخ البهائ(4).

وكتب أبو العبّاس السيرافي إلى النجاشي في تعريف طرقه إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي، فقال: فأمّا ما عليه أصحابنا والمعوّل عليه ما رواه عنهما: (الحسين والحسن ابنا سعيد الأهوازيان)(5)، فذكر طريقين، وفي الطريق الثاني يقع أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار...

ص: 47


1- الطوسي، الفهرست: ص٦٣٤.
2- الخوئي، معجم رجال الحديث: ج٣، ص١٢٢.
3- المصدر السابق: ج٣، ص١٢١.
4- المصدر السابق: ج٣، ص١٢١.
5- اُنظر: المصدر السابق: ج٣، ص١٢٢.

وهذا كلام ظاهر في توثيق الرجل، وإن شكّك سيّدنا الأُستاذ رحمة الله في دلالته على التوثيق ب_ «أن ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن يحيى، لكنه ليس كذلك، بل إن الكتب المعول عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح... ولعلّ ذكر الطريق الآخر إنّما هو لأجل التأييد»(1).

ولكنه خلاف الظاهر من كلام السيرافي؛ فإن¬ّ ظاهر كلامه: أن¬ المعول عليه من كتب (الحسين والحسن ابني سعيد الأهوازيين) هو ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى (الطريق الأوّل)، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي (الطريق الثان)...

وإليك نص كلام النجاشي والسيرافي:

يقول النجاشي رحمة الله _ في ترجمة الحسين بن سعيد بن حماد بن مهران وفي تسمية كتب الحسين وأخيه الحسن بن سعيد _: «أخبرنا بهذه الكتب غير واحد من أصحابنا... منها ما كتب إليَّ به أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن نوح السيرافي رحمة الله في جواب كتابي إليه، يقول: والذي سألت تعريفه من الطرق إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي . فقد روى أبو جعفر أحمد بن خالد البرقي، والحسين بن الحسن بن أبان، وأحمد بن محمد... فأمّا ما عليه أصحابنا، والمعوّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمّد بن عيسى، أخبرنا الشيخ الفاضل أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن سفين (سفيان) البزوفري فيما كتب إليَّ في شعبان سنة (٣٥٢ ه_) قال: حدّثنا أبو عليّ الأشعري، أحمد بن إدريس بن أحمد القمّي، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد بكتبه الثلاثين كتاباً...

ص: 48


1- المصدر السابق: ج٣، ص١٢٢.

وأخبرنا أبو علي أحمد بن يحيى العطّار القمّي، قال: حدّثنا أبي وعبد الله بن جعفر الحميري وسعد بن عبد الله جميعاً، عن أحمد بن عيسى» (1).

وهو كلام ظاهر في توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي.

فإنّ السيرافي يقول: إن¬ّ تعويلهم _ أي أصحابنا _ وتعويله هو في تسمية هذه الكتب بهاتين الروايتين، وفي إحداهما يقع أحمد بن محمد بن يحيى العطّار... وهو كما ذكرنا كلام ظاهر في المطلوب.

ولكن سيّدنا الأُستاذ رحمة الله يناقش مع ذلك في دلالة هذه الرسالة على توثيق الرجل، فيقول: «ويردّه:

أوّلاً: ما عرفت من أن اعتماد القدماء على رواية شخص لا يدلّ على توثيقهم إيّاه؛ وذلك لما عرفت من بناء ذلك على أصالة العدالة التي لا نبني عليها.

وثانياً: إن¬ّّ ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن محمّد بن يحيى، لكنه ليس كذلك. بل إن تلك الكتب المعوّل عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح، وهو الطريق الأوّل الذي ينتهي إلى أحمد بن محمّد بن عيسى. ولعلّ ذكر طريق آخر إنّما هو لأجل التأييد»(2).

والإيرادان الواردان في كلام سيّدنا الأُستاذ رحمة الله موضع تأمّل وتوقف.

أما الإيراد الأوّل: فإنّ التعويل على رواية، إخبار عن توثيق الرواة بالملازمة، فلا

ص: 49


1- رجال النجاشي: ص٤٤.
2- الخوئي، معجم رجال الحديث: ج٣، ص١٢٢.

يصح التعويل من غير الوثوق إلّا أن يثبت خلافه بالاعتماد في التعويل على أصالة العدالة، وهذا إخبار من قبل أصحابنا ومن ناحية ابن نوح بتوثيق الرواة الذين ورد ذكرهم في هذين الطريقين.

فإن¬ّ الظاهر من التعويل هو التوثيق، واحتمال أن يكون التعويل والاعتماد قائماً على أصالة العدالة لا التوثيق لا يعتنى به ما لم يعلم بذلك، ولا شكّ في أن مثل هذا العلم منتفٍ في المورد.

كما أن الظاهر من التوثيق هو الاعتماد على الحس أو الحدس القريب من الحس، وليس على الحدس والاجتهاد البحت، كما يقول سيّدنا الأُستاذ نفسه رحمة الله في مقدمة كتابه: «قلنا: إنّ هذا الاحتمال لا يُعتنى به بعد قيام السيرة على حجّية خبر الثقة فيما لم يُعلم أنّه نشأ من الحدس، ولا ريب في أنّ احتمال الحس في إخبارهم، ولو من جهة نقل كابر عن كابر وثقة عن ثقة موجود وجداناً»(1).

نعم، إذا عرفنا من شخص أن اعتماده على راوٍ، يبتنى على أصالة العدالة عندئذٍ لا نأخذ باعتماده وتعويله. وأنّى لنا مثل هذا العلم؟!

كيف؟! ومعظم ما لدينا من التوثيقات من القدماء رحمهم الله في الفهارس والرجال والتراجم، وقد بلغت كتب القدماء في التوثيق والتجريح إلى عهد الشيخ رحمة الله نيفاً ومائة كتاب، كما يظهر من الشيخ والنجاشيرحمهماالله.

ولو كان دأْب القدماء _ أو غالبهم _ اعتماد أصالة العدالة في التعويل والاعتماد على الرواة لم يكتب القدماء هذا العدد الكبير من كتب التوثيق والتجريح، وما الحاجة

ص: 50


1- المصدر السابق: ج١، ص٤١.

إلى مثل هذا الجهد الكبير في التوثيق؟!

يقول الشيخ رحمة الله _ في (العدّة) في آخر فصل (في ذكر خبر الواحد)_: «وممّا يدل أيضاً على صحة ما ذهبنا إليه: إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، فوثّقت الثقات منهم، وضعّفت الضعفاء، وفرّقت بين مَن يُعتمد على حديثه وروايته وبين مَن لا يُعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذمّوا المذموم. وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مختلط في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي. وغير ذلك من الطعون التي ذكروها.

وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال(1) من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أن واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعف بروايته، هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم»(2).

هذه كلمات الشيخ رحمة الله عن دأب الطائفة في التعامل مع الرواة على أساس التوثيق، ورغم أن كلامه رحمة الله ليس في هذا السياق، إلّا أنه واضح وصريح في أن منهج القدماء هو التحرّي والتوثيق، وليس البناء على أصالة العدالة، كما يقول سيّدنا الأُستاذ قدّس الله نفسه.

ويقول الشيخ رحمة الله أيضاً في (العدّة): «فأمّا ما اخترته من المذهب، فهو أن¬ّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا.. وكان ممّن لا يُطعن في روايته ويكون سديداً

ص: 51


1- قال العالم المحقق خليل بن الغازي القزويني في شرح (واستثنوا الرجال): «أي التصانيف التي رواها الرجال مثل ما روي عن ابن الوليد أنه قال: ما تفرد به محمّد من كتب يونس لا يُعتمد عليه»
2- الطوسي، العدة: ج١، ٣٦٦. بشرح القزويني وتحقيق الشيخ محمد مهدي نجف.

في نقله جاز العمل به... حتى أن واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا يُنكر حديثه سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. وهذا عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده من الأئمة علیهم السلام ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام الذي انتشر العلم عنه، وكثرت الرواية من جهته»(1).

هذا صريح كلام الشيخ رحمة الله ، وهو شيخ القدماء وخبير علم الرجال، وهو صريح في أن التعويل والاعتماد في الفتاوى والروايات على الموثوق من الروايات والرواة، وبغير ذلك لا تصح الفتاوى، ولا يسكتون عنها، ثم يصرّح بأن هذا ديدنهم في أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده من الأئمة علیهم السلام ، وأحاديث الصادق جعفر بن محمد علیه السلام إلى عهد الشيخ. ولو كان المتقدّمون  يعوّلون على الراوي بناءً على أصالة العدالة _ إذا ثبت إيمانه _ ولم يثبت عليه طعن لما صحّ هذا الكلام كلّه.

ويقول الحر العاملي رحمة الله _ في خاتمة الوسائل في الفائدة التاسعة في الوجه الرابع عشر _: «فإن أجابوا بأصالة العدالة، أجبنا بأنه خلاف مذهبهم، ولم يذهب إليه منهم إلّا القليل. ومع ذلك يلزمهم الحكم بعدالة المجهولين والمهملين، وهم لا يقولون به، ويبقى اشتراط العدالة بغير فائدة»(2).

وبناءً على ذلك؛ فإنّنا نعتمد تعويل القدماء واعتمادهم على الرواة، ونعتقد أن الظاهر من الاعتماد والتعويل هو التوثيق.

ص: 52


1- المصدر السابق: ص٣٣٧ _ ٣٣٨.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج٢٠، ص١٠٢.

ولا شكّ في أنّنا نعمل بتوثيق القدماء ممّن كان في عصر السيرافي ابن نوح، كما نعمل بتوثيقات الشيخ والنجاشيرحمهماالله. وقد كان ابن نوح في عصر النجاشي، وموضع ثقة النجاشي، يعتمده ويراسله ويطلب منه التعريف بالرجال والكتب(1).

وأما الإيراد الثاني الذي أورده الأُستاذ رحمة الله على دلالة كلام ابن نوح على توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى: «أن ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن محمّد بن يحيى، لكنه ليس كذلك... ».

أقول: هذا هو الظاهر من كلام ابن نوح، وغيره خلاف الظاهر.. فلو قال أحد: إنّه يعوّل على خبر ما برواية فلان وفلان، فإن¬ّ الظاهر من الكلام هو أن كلاً من الروايتين، والراويين موثوقان عنده... وأنّه يعوّل فيه على كلّ واحد منهما بانفراد واستقلال.

والمرجع في هذا الظهور هو العرف العام للناس في التحاور، وهذا العُرف ببابك.

ومع قيام هذا الظاهر؛ فلا شكّ في أنّ الناس لا يعبأون بالاحتمالات المخالفة للظاهر، ويردونها بالظاهر، ولو كنّا نأخذ بالاحتمالات المخالفة للظاهر، لم يسلم لنا ظاهر في التحاور بين الناس. وقد أمضى الشارع هذا الأُسلوب الذي يجري عليه الناس في محاوراتهم اليومية.

بناءً عليه؛ فإنّ كتاب ابن نوح السيرافي إلى الشيخ النجاشي ظاهر في توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي، وهذا هو الذي اختاره المحقّق الشيخ عبد الله

ص: 53


1- ومن ذلك ما ذكره الشيخ النجاشي رحمة الله في ترجمة أحمد بن عيسى؛ حيث ينقل عن ابن نوح كتبه، فيروي له ابن نوح كتبه، وفي سند ابن نوح أحمد بن محمّد بن يحيى أيضاً. اُنظر: رجال النجاشي: ص٦٠

المامقاني رحمة الله ، قال في ترجمة أحمد بن يحيى العطّار القمّي: «وممّا يشير إلى جلالة الرجل ما كتبه ابن نوح إلى النجاشي في جواب كتابه الذي سأله فيه تعريف الطرق إلى ابني سعيد الأهوازي (الحسن والحسين): أمّا ما عليه أصحابنا والمعوّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمّد بن عيسى... وحدّثنا أبو علي أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي، قال: حدّثنا...»(1).

وبذلك يسلم لنا طريق الشيخ رحمة الله إلى محمّد بن خالد الطيالسي، والذي وقع في سلسلة سند زيارة عاشوراء.

محمّد بن خالد الطيالسي

لم يرد فيه ذم وجرح من أحد من القدماء والمتأخرين، على الإطلاق.

وقد روى عنه جملة من أجلاّء أصحابنا، مثل محمّد بن علي بن محبوب، وعلي بن الحسن بن فضال، وسعد بن عبد الله، وحميد بن زياد، وهم جميعاً من ثقات الأصحاب.

قال الشيخ في الفهرست: «محمّد بن خالد الطيالسي، له كتاب رويناه عن الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن محمّد بن علي بن محبوب عنه»(2).

وقال عنه الشيخ في (الرجال) _ فيمن لم يرو عنهم علیهم السلام _: «محمّد بن خالد الطيالسي، روى عنه حميد أُصولاً كثيرة»(3).

ص: 54


1- الماماقاني، تنقيح المقال: ج٢، ص٩٥، الطبعة الحجرية.
2- الطوسي، الفهرست: ص٢٢٨.
3- الطوسي، رجال الشيخ: ص٤٩٩، في مَن لم يرو عن الأئمة علیهم السَّلام رقم ٥٤.

وحميد هذا هو حميد بن زياد، وثّقه الشيخ في الفهرست(1)، والنجاش(2)، والعلامة(3)، وابن شهرآشوب(4). وقد عرفت اهتمام حميد به وروايته عنه أُصولاً كثيرة.

وهذا يحقّق _ من دون ريب _ مرتبةً من مراتب (الحُسْن) الذي يبعث في النفس الاطمئنان إلى رواياته.

يقول المحقّق المامقاني في ترجمته: «وظاهرها كونه إمامياً، ويمكن اتصافه بأدنى درجات الحُسن باعتبار رواية الأجلّة عنه»(5).

وبالنظر إلى النقطتين الآتيتين نستريح إلى الأخذ برواياته:

النقطة الأُولى: عدم ورود أي تجريح _ أو طعن فيه _ في الفهارس وكتب الرجال.

النقطة الثانية: رواية الأجلّاء عنه من الذين عُرفوا بالوثاقة، وشهدت بوثاقتهم المدوّنات الرجالية. ومنهم مَن عُرف عنه أنّه قلّ ما يروي عن الضعفاء مثل: علي بن حسن الفضال، فقد قالوا: إنّه لم يرو عن أبيه(6)، ومثل محمّد بن علي بن محبوب الذي يقول عنه النجاشي: «ثقة، عين، فقيه»(7). وسعد بن عبد الله الذي صرّح الشيخ بوثاقته(8).

ص: 55


1- الطوسي، الفهرست: ص١١٤.
2- النجاشي، رجال النجاشي: ص١٣٢.
3- خلاصة الأقوال، العلامة الحلي: ص ٤٣٦.
4- معالم العلماء، ابن شهرآشوب: ص ٧٩.
5- تنقيح المقال ج٣، ص١١٤، الطبعة الحجرية.
6- معجم رجال الحديث، السيد الخوئي: ج ١٢، ص ٣٦٢.
7- رجال النجاشي، النجاشي: ص ٣٤٩.
8- الفهرست، الشيخ الطوسي: ص ١٣٥.

وأمّا حميد بن زياد، فقد روى عنه _ كما يقول الشيخ _ أُصولاً كثيرة. وقد وثّقه _ كما قلنا _ الشيخ والنجاشي والعلامة وابن شهرآشوب.

وهذه النقطة وتلك تجعل الإنسان يستريح إلى رواياته، ويطمئن إلى أن الرجل لم يكن وضّاعاً أو مخلّطاً، وإلّا لم يكن يأخذ برواياته الأجلّاء الموثقون من الرواة المتقدّمين.

وقد قال المحقّق المامقاني رحمة الله في ترجمة السكوني: «إن كثرة الرواية عنه من قبَل الأصحاب أمارة على وثاقته»(1). وإذا توقفنا في دلالتها على الوثاقة، فلا أقلّ من الدلالة على حسنه وقوّته.

وقد كان القدماء من أصحابنا الأجلّاء يحترزون عن الرواية عن الضعفاء والمخلطين مباشرةً ومن غير واسطة. نعم، كانوا يتسامحون في الرواية عنهم بالواسطة، وكانوا يرون في الرواية عن الضعفاء مثلبةً(2).

ص: 56


1- مقباس الهداية للمحقق المامقاني (ملحق بكتاب الرجال:ص ٧٨، الطبعة الحجرية).
2- لقد نصّ النجاشي بأنّه يتجنّب الرواية عن الضعفاء في مواضع من كتابه. منها قوله في ترجمة أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن عياش: «رأيت هذا الشيخ وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو عنه شيئاً وتجنبته، وكان من أهل العلم والأدب القوي...» رجال النجاشي:ص ٦٣. وقال في ترجمة محمّد بن عبد الله بن عبيد الله بن البهلول: «وكان في أوّل الأمر ثبتاً ثمّ خلط ورأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه... إلى أن يقول: رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً، ثم توقفت عن الرواية عنه إلّا بواسطة بيني وبينه». رجال النجاشي: ص٢٨٢. وهذه النقطة وإن كانت من خصائص الشيخ النجاشي رحمة الله وبعض أصحابنا، إلّا أنّها تعكس لنا عن منهجيّة الثقات والرواة الأجلّاء من القدماء في التحرز عن الروايات عن الوضّاعين والضعفاء والمخلطين، وقد يذهب بعض إلى وثاقة مشايخ الثقات مطلقاً، إلّا من يثبت له خلافه. وهذا مبنى ضعيف، بلا شك، ولكن عدم توقف ثقات الرواة عن الرواية عن شخص، وإكثار الرواية عنه يكشف عن حُسن حال الراوي، وهذا المقدار يكفي في الرواية عنه، إلّا أن يثبت خلافه بدليل، والشواهد على ذلك عديدة في الرواة. يقول السيد محسن الأعرجي الكاظمي _ في كتابه (عدة الرجال) في الأمارات على الوثاقة _: «ومنها كثرة تناول الأجلاّء منه وروايتهم عنه، بل إكثار الجليل المستخرج فی روايته عنه». عدة الرجال: ص١٣٤

ومهما يكن من أمر؛ فإنّا نستريح إلى روايات محمّد بن خالد الطيالسي في زيارة عاشوراء وغيرها؛ بناءً على هاتين النقطتين، ونرى أنّهما يكفيان في التحسين، إن لم يكفيا في التصحيح، والعمل بالروايات الحسان أمر شائع معروف مقبول عند علمائنا كالصحاح؛ بناءً على تقسيم العلامة وشيخه أحمد بن طاووس .

سيف بن عميرة النخعي

وهو ثقة، قاله النجاش(1)، والشيخ في الفهرست(2)، وابن شهرآشوب(3)، والعلامة في الخلاصة(4).

صفوان الجمال

وهو صفوان بن مهران بن المغيرة الأسدي الجمال كوفي ثقة، كما يقول النجاشي: «روى عن أبي عبد الله علیه السلام كان جمّالاً. له كتاب يرويه جماعة...» (5).

ص: 57


1- النجاشي، رجال النجاشي: ص١٨٩.
2- الطوسي، الفهرست: ص١٤٠.
3- ابن شهرآشوب، معالم العلماء: ص٩١.
4- العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: ص١٦٠.
5- اُنظر: النجاشي، رجال النجاشي: ص١٩٨.

وفي الفهرست روى كتابه بطريق إليه عن السندي بن محمد عنه(1).

فرواية الشيخ الطوسي عن محمد بن خالد الطيالسي رواية معتبرة.

الرواية الثانية: رواية الشيخ عن ابن بزيع
اشارة

روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في المصباح بسنده، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة، عن علقمة بن محمد الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام (2).

طريق الشيخ إلى ابن بزيع

يقول أُستاذنا السيد الخوئي عن طريق الصدوق إليه: «والطريق صحيح كطريق الشيخ، وإن كان في بعضها ابن أبي جيد»(3).

محمد بن إسماعيل بن بزيع

أمّا محمد بن إسماعيل بن بزيع، فقد قال عنه النجاشي: «من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم»(4). وقال عنه الشيخ: «ثقة، صحيح» (5).

صالح بن عقبة

وهو مجهول لم يرد فيه توثيق.

ص: 58


1- الطوسي، الفهرست: ص١٤٧.
2- الطوسي، مصباح المتهجد: ص٧٧٢_٧٧٣.
3- الخوئي، معجم الرجال: ج١٥، ص١٠٠.
4- النجاشي، رجال النجاشي: ص٣٣٠.
5- الطوسي، رجال الطوسي: ص٣٦٤.
سيف بن عميرة النخعي

تقدم الكلام فيه.

علقمة بن محمد الحضرمي

وهو من أصحاب الإمام الباقر والصادق علیهماالسلام . له موقف مع زيد بن علييرويه الكشّي، يدل على حُسن حاله(1). لم يرد في توثيقه شيء.

فالسند تام _ إذن _ إلّا من ناحية علقمة بن محمد، ولا يضر وجود صالح بن عقبة في السند؛ لوجود سيف بن عميرة معه.

ولكن الرواية الأُولى المتقدمة عن الشيخ لزيارة عاشوراء _ وهي رواية صفوان بن مهران الجمال _ تشهد بصحة رواية علقمة.

فإن سيف بن عميرة يقول: «إنّ صفوان دعا بالزيارة التي رواها علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر علیه السلام في يوم عاشوراء» كما تقدّم.

وهي تدل على صحة رواية علقمة في هذا السند. ولا إشكال في بقية رجال السند، ولا في طريق الشيخ إلى محمد بن إسماعيل بن بزيع.

بل في هذه الرواية _ التي يرويها الشيخ في المصباح، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة، عن صفوان _ ما يدل على جلالة شأن (علقمة بن محمد)؛ فقد ورد في آخر الرواية: أنّ صفوان لما قرأ عليهم دعاء الزيارة، قال له سيف بن عميرة:

ص: 59


1- الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج٢، ص٧١٤.

إنّ علقمة بن محمد الحضرمي لم يأتنا بهذا عن أبي جعفر علیه السلام ، إنّما أتانا بدعاء الزيارة. فقال صفوان: وردت مع سيدي أبي عبد الله علیه السلام ... إلخ. وكأنّ سيف بن عميرة يقول لصفوان: إن كان هذا الدعاء وارداً بعد الزيارة لرواه لنا علقمة بن محمد، وهو يدل على درجة عالية من وثوق سيف بن عميرة برواية علقمة بن محمد الحضرمي، فيشرح له صفوان أنه سمع هذا الدعاء من أبي عبد الله الصادق علیه السلام مباشرة.

وكيفما كان، فإنّ اعتبار رواية الطيالسي يؤدي إلى اعتبار السند الثاني الذي يذكره الشيخ في المصباح لزيارة عاشوراء ودعائها.

المنهج الثاني:منهج الوثوق بالصدور بتجميع القرائن
اشارة

يمكن إثبات صدق الرواية بالقرائن الموجودة في إسنادها، حتى على افتراض عدم ثبوت اعتبار الرواة، ولا منافاة بين نفي الاعتبار عن الرواة وصدق الرواية.

إذن؛ الفرق بين المنهجين أننا نتحدث عن وثاقة واعتبار الرواة في المنهج الأول، وعن صدق الرواية وصدورها في المنهج الثاني.

وقبل أن ندخل المنهج الثاني؛ ولأننا نستعمل كلمة (الاستبعاد) في هذا المنهج بصورة متكررة لا بد من توضيح لهذه الكلمة والعلاقة بينها وبين (الاطمئنان).

معنى الاطمئنان والاستبعاد

الاطمئنان حالة نفسية متاخمة للعلم يتعامل معها العقلاء معاملة (العلم)؛ ولأن الشارع لم يُلغ هذا الاعتبار العقلائي يكون الاطمئنان حجةً كالعلم، ويترتب عليه ما

ص: 60

يترتب على العلم من الحجية.

ومعنى الاطمئنان هو ركون النفس إلى ثبوت شيء.

وبخلافه (الاستبعاد)، فهو بمعنى ركون النفس إلى انتفاء احتمال الخلاف إلى حدود متاخمة للصفر؛ بحيث لا يعبأ به العقلاء ويلغونه من الحساب في مقام العمل، فهما متلازمان ووجهان لقضية واحدة.

فإذا دخلنا إلى بناية مشيّدة قوية البنيان نطمئن إلى حالة الأمن والسلامة في البناء إلى حدود متاخمة للعلم، ونستبعد حدوث الخطر إلى حدود متاخمة للصفر؛ بناءً على حساب الاحتمالات، وهو حساب علمي عقلائي يبني عليه العقلاء ويرتبون عليه الأثر إيجاباً أو سلباً.

ولا إشكال في أنّ الركون إلى انتفاء احتمال الخلاف يختلف عن حالة العلم بالانتفاء، ولكن العقلاء يتعاملون معه معاملة العلم بانتفاء احتمال الخلاف، وهو بمعنى إلغاء احتمال الخلاف في مقام العمل.

وكل منهما حجة عند العقلاء وعند الشارع.

أما الحجية العقلائية؛ فلأن العقلاء يتعاملون معهما معاملة العلم بالثبوت والعلم بانتفاء احتمال الخلاف.

وأمّا الحجية عند الشارع؛ فلأن الشارع لم يُلغ هذا الاعتبار العقلائي فيهما معاً، وعدم الإلغاء في أمثال هذه الموارد بمعنى الإمضاء، فهو بمثابة العلم عند الشارع ويترتب عليه ما يترتب على العلم من الحجية.

ص: 61

تحديد موضوع البحث

لسنا أمام مسألة فقهية؛ فليس في زيارة عاشوراء حكم فقهي. ولا مسألة عقائدية، ولو كانت مسألة عقائدية لم ينفعنا خبر الواحد، إلّا إذا كان محفوفاً بقرائن توجب القطع أو الاطمئنان.

ولسنا بصدد أن نعرف النص الكامل الصحيح الصادر عن الإمام أبي جعفر علیه السلام ؛ فإن إضافة كلمة أو نقصانها أو جملة لا تخلّ بالزيارة، وتحصل بها الزيارة، كما هو الشأن في اختلاف النسخ في سائر الزيارات والأدعية، وليس ذلك بمانع لنا من أن ندعوا الله تعالى بها أو نزور بها المعصومين علیهم السلام ، ما لم تُدخلنا الزيادة في بدعة أو مخالفة للكتاب والسنة، وما لم تكن النقيصة مخلّة بالغاية من الزيارة. وليس في زيارة عاشوراء شيء من ذلك.

وأما مسألة اللعن، فلا يوجد في النص الذي يرويه ابن قولويه رحمة الله ، والذي ورد من ذلك في المصباح، فقد تتبع المؤلف (حفظه الله) النسخ الخطية له، فلم يجد فيها هذه الجملة.

وعليه؛ فإن المسألة المهمة عندنا في هذا البحث أن نعرف هل أنّ نص الزيارة الواردة في كامل الزيارات ومصباح المتهجّد مجعول أم لا؟

ولمعرفة هذه المسألة لا بد أن نحصر الأشخاص الذين يمكن أن نتّهمهم بالوضع والجعل ممّن ورد ذكرهم في إسناد هذه الرواية لدى الشيخين ابن قولويه وأبي جعفر الطوسي رحمهماالله.

ص: 62

فنقول: أمامنا طرق خمسة إلى هذه الزيارة من خلال استعراض أسناد هذه الزيارة في كامل الزيارات والمصباح، وإليك هذه الأسانيد:

أسانيد الزيارة عند الشيخ الطوسي رحمة الله

١_ محمد بن إسماعيل بن بزيع ← عن صالح بن عقبة ← عن أبيه ← عن أبي جعفر الباقر علیه السلام .

٢_ محمد بن إسماعيل بن بزيع ← عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة ← عن علقمة بن محمد الحضرمي ← عن أبي جعفر الباقر علیه السلام .

٣_ محمد بن خالد الطيالسي ← عن سيف بن عميرة ← عن صفوان الجمال ← عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام .

أسانيد الزيارة عند ابن قولويه رحمة الله

١_ حكيم بن داود وغيره ← عن محمد بن موسى الهمداني ← عن محمد بن خالد الطيالسي ← عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة ← عن علقمة بن محمد الحضرمي ← عن أبي جعفر الباقر علیه السلام .

٢_ حكيم بن داود ← عن محمد بن موسى الهمداني ← عن محمد بن خالد الطيالسي ومحمد بن إسماعيل ← عن صالح بن عقبة ← عن مالك الجهني ← عن أبي جعفر الباقر علیه السلام .

ص: 63

الرواة الذين لم يرد توثيقهم في هذه الأسانيد

١_ صالح بن عقبة.

٢_ عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة (والد صالح).

٣_ علقمة بن محمد الحضرمي.

٤_ محمد بن خالد الطيالسي.

٥_ محمد بن موسى الهمداني.

٦_ مالك الجهني.

وهؤلاء لم توجه إلى أي منهم تهمة الجعل والوضع والكذب عدا (محمد بن موسى الهمدان).

ومع ذلك، نحن ننطلق في هذه المطالعة الجديدة لأسانيد زيارة عاشوراء من منطلق افتراض أنّ كل واحد من هؤلاء الستة يمكن أن يكون عاملاً في انتحال هذه الزيارة؛ لنرى هل يصح هذا الافتراض أم لا؟

وإذا ثبت امتناع هذا الافتراض _ أو استبعاده إلى حدود الامتناع العادي _ في جميعهم أو جملة منهم تثبت بذلك صحة الزيارة.

وإذا انتهينا إلى إمكان هذا الافتراض توقفنا عن تصحيح الزيارة بهذا المنهج واكتفينا بالمنهج الرجالي المتقدم في إثبات صحة زيارة عاشوراء.

ص: 64

السند الأول والثاني عند الشيخ الطوسي

أقول: في السند الأول من الأسناد الثلاثة التي يذكرها الشيخ أبو جعفر رحمة الله لزيارة عاشوراء لا يمكن أن نتهم صالح بن عقبة بالوضع؛ لأن صالحاً يروي الزيارة بالاشتراك مع سيف عن علقمة في السند الثاني؛ فإنّ محمد بن إسماعيل يروي الزيارة في السند الثاني عن صالح وسيف معاً عن علقمة، ولا إشكال في وثاقة الراوي والمروي عنه وهما: (محمد بن إسماعيل وسيف)، وصالح شريك سيف في الرواية عن علقمة والتحديث بها لمحمد بن إسماعيل.

فلماذا ينتحل هذه الرواية، وقد سمعها حقاً عن علقمة.

ولا ريب في أن صالحاً قد سمع الرواية التي يرويها علقمة عن الإمام الباقر علیه السلام ، حتى لو اتهمناه بالوضع، إذ من الممتنع أن ينتحل هذه الزيارة، وهو لم يسمعها من علقمة مباشرة أو بواسطة، ثم يتطابق النص الذي انتحله، بعد فترة مع النص الذي يرويه علقمة عن أبي جعفر الباقر علیه السلام .

وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن انتحال هذا النص عمل عبثي، لا داعي إليه، ولماذا يكذب (صالح) وينتحل وله طريق حقيقي إلى رواية الزيارة عن علقمة بلا واسطة أو بواسطة؟!

فلا بد أن نصحح هنا رواية صالح، ونصدّقه في روايته، سواء وثّقناه أم لم نوثقه.

وأما أبوه، وهو عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، فمن المستبعد جداً تواطؤه مع سائر الرواة _ الذين رووا هذه الرواية عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله

ص: 65

الصادق علیهماالسلام _ على انتحال هذه الزيارة بصيغة واحدة، وهم أربعة على الأقل، وهم (والد صالح)، وعلقمة بن محمد الحضرمي، ومالك الجهني، عن أبي جعفر علیه السلام ، وصفوان عن الإمام الصادق علیه السلام .

ومن المستبعد جداً أن يتفقوا على انتحال نص بالكامل، ثم ينسبونه إلى أبي جعفر وأبي عبد الله علیهماالسلام .

نعم، قضايا الانتحال كثيرة، ولكننا لا نعرف جماعة يتواطؤون على انتحال نص ونسبته إلى مصدر معين.

ولو صح ذلك لكان أمراً خطيراً للغاية، ويعني وجود عصابات في سلاسل الرواة يتفقون على انتحال النصوص وينسبونها إلى المعصومين علیهم السلام ، ويتواطؤون على روايتها عنهم.

ولو كان كذلك لافتضح أمرهم، وشهّروا بهم وأسقطوهم، ومن غير الممكن اختفاء أمرهم على حفاظ الحديث وشيوخ الرواية وأصحاب الجرح والتعديل الحريصين على ودائع النبوة والإمامة، ومن غير الممكن السكوت عنهم وعدم التحذير من رواياتهم..

إنّ احتمال حصول تواطؤ بين عدد من المحدثين على صياغة نصوص موحّدة في الأدعية والزيارات وغيرهما مثلاً، ونسبتها إلى المعصومين والتحديث بها أمر في غاية الاستبعاد.

ص: 66

وعليه؛ فإننا إذا وجدنا أنّ (علقمة بن محمد الحضرم)، و(عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة)، و(مالك الجهن)، و(صفوان بن مهران) يروون نصاً واحداً، باختلافات يسيرة عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله علیهماالسلام ، لا نحتمل أنّهم قد تواطؤوا على ذلك.

ولو كان يحصل شيء من هذا القبيل في زيارة عاشوراء من خلال شبكة منظّمة متواطئة على الوضع والجعل والانتحال بصورة جماعية، لم يقتصر أمرهم على زيارة عاشوراء، ولتوسّعوا في الجعل والوضع في الفقه والتفسير والعقائد والأدعية والزيارات، ولو وقع شيء من هذا القبيل من خلال مجموعة متواطئة من الرجال في أسانيد الأحاديث؛ لافتضح أمرهم بالضرورة، ولكثر التحذير منهم، والتشهير بهم، من خلال علماء الجرح والتعديل الحريصين على ودائع الوحي والنبوّة.

السند الثالث عند الشيخ الطوسي

وأما السند الثالث في المصباح _ الذي يتصدره محمد بن خالد الطيالسي، برواية الشيخ عنه _ فقد تبين رأينا في اعتبار رواياته. ومن غير الممكن التشكيك في روايته هذه؛ حتى بناءً على الرأي الآخر، وهو سلب الاعتبار عن رواياته؛ إذ لا يمكن اتهامه بوضع هذه الرواية على لسان سيف بن عميرة؛ فإن سيف بن عميرة يروي هذه الرواية حقاً عن علقمة بن محمد عن الإمام أبي جعفر علیه السلام ، كما في السند الثاني، وهو ثقة في روايته..

فإن كان محمد بن خالد الطيالسي لا يعلم برواية سيف بن عميرة للزيارة عن

ص: 67

علقمة، عن الإمام أبي جعفر علیه السلام ، فوضع هذه الزيارة فتطابقت تماماً مع النص الذي يرويه سيف بن عميرة _ من باب الصدفة _ فهو يكاد يكون مستحيلاً ممتنعاً؛ لاستحالة أن يضع محمد بن خالد الطيالسي نصاً ينسبه إلى سيف بن عميرة، ويصادف أنّ سيف بن عميرة يروي النص نفسه بالتمام عن علقمة عن أبي جعفر علیه السلام ، ومحمد بن خالد لا يعرف بذلك، وإن كان يعلم برواية سيف للزيارة عن علقمة، ثم يبادر إلى وضعها على لسان سيف _ بالألفاظ نفسها في سند آخر _ فهو أمر غير عقلائي جداً. ولا داعي إلى ذلك غير تكثير طرق الزيارة وهو سبب ضعيف جداً، لا يعبأ به العقلاء في محاوراتهم وإخباراتهم اليومية.

ولو كان محمد بن خالد الطيالسي بهذه المثابة من الاستهانة بأمر الوضع والجعل، والإقدام على الوضع بأدنى سبب لاشتهر أمره بين أرباب الجرح والتعديل.

وقد عرفنا أنّ الرجل لم يرد فيه أي جرح في المصادر الرجالية.

وعليه؛ فلا سبب يدعو إلى التوقف في قبول رواية محمد بن خالد الطيالسي في السند الثالث الذي يذكره الشيخ أبو جعفر. وسائر رجال السند موثوقون، وقد نصّ الأصحاب على وثاقتهم.

سندا كامل الزيارات

وفي السند الأول والثاني في كامل الزيارات يُتَّهمُ محمد بن موسى الهمداني بالوضع، ولكننا نستبعد _ حسب المنهجية السابقة _ أن يكون قد عمد إلى انتحال

ص: 68

نص هذه الزيارة على لسان محمد بن خالد الطيالسي ومحمد بن إسماعيل بن بزيع(1)؛ فإن محمد بن إسماعيل بن بزيع يروي هذا النص عن (صالح بن عقبة وسيف بن عميرة جميعاً) عن علقمة، والسند فيما عدا علقمة تام.

ومحمد بن موسى الهمداني مطلع بالتأكيد على النص الذي يرويه محمد بن إسماعيل عن صالح وسيف جميعاً عن علقمة لتطابق النصين في كثير من فقراتهما، (وإن اختلفا في بعض الفقرات).

ومن الممتنع عادة ألاّ يكون محمد بن موسى مطلعاً على هذا النص، فيضع نصاً على لسان (محمد بن خالد ومحمد بن إسماعيل)، متطابقاً مع النص الذي يرويه محمد بن إسماعيل، صدفة.

وهذا أمر مستبعد جداً إلى حدود الامتناع العادي.

واذا قبلنا أن محمد بن موسى الهمداني كان مطلعاً على رواية محمد بن إسماعيل بواسطة أو من غير واسطة، فليس هناك من داع إلى انتحال الرواية؛ فمن الممكن أن يرويها عنه بواسطة أو من غير واسطة. إلّا أن تكون غايته تكثير طرق النص، وهو أمر بعيد جداً، إلّا أن استبعادنا هنا أخفّ من استبعادنا ذلك في رواية محمد بن خالد الطيالسي.

وأما الكلام عن (مالك الجهن) الذي يروي نص الزيارة عن الإمام الباقر علیه السلام ،

ص: 69


1- نحن نحتمل ما يرجّحه المؤلف (حفظه الله) من أن مقصود الشيخ ابن قولويه من قوله: وكذلك محمد بن إسماعيل، عطف محمد بن إسماعيل على محمد بن خالد الطيالسي؛ نظراً لتناسب الطبقة بينه وبين محمد بن خالد الطيالسي وعدم تناسب الطبقة بينه وبين الشيخ ابن قولويه

فنقول _ وفق المنهجية التي تحدثنا عنها من قبل في تصديق رواية علقمة _: إننا نستبعد جداً تواطؤ هؤلاء الثلاثة (عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة)، و(علقمة بن محمد)، و(مالك الجهن) على انتحال رواية عن الإمام الباقر علیه السلام . وقد عرفنا أنّ في رواية سيف بن عميرة عن صفوان تصحيحاً وتأكيداً لرواية علقمة عن الإمام الباقر علیه السلام .

وبعبارة أُخرى نقول: ليس بين أيدينا أكثر من حالتين ممكنتين ثبوتاً، وسائر الحالات افتراضات ضعيفة جداً:

الحالة الأُولى: أن يتواطأ الراويان _ أو يتواطأ الرواة _ على انتحال نص في الدعاء، أو الزيارة، أو حكم شرعي، أو حدث تاريخي وغير ذلك، وهذا المعنى وإن كان ممكناً ثبوتاً، ولكنه مستبعد جداً من الجهة الإثباتية، فلو كان شيء من هذا القبيل يحصل في طرقنا ورواياتنا لما أمكن التكتُّم عليه؛ ولاشتهر أمره في كتب الجرح والتعديل؛ ولبادر علماء الرجال والجرح والتعديل إلى نَبْذه والتشهير بمَن يقوم به، ولا يمكن السكوت عنه.

وعليه؛ فإن عدم تصريح علماء الرجال من المتقدمين والمتأخرين بحالات من أمثال ذلك يساوق عدم وجوده؛ أي عدم الثبوت يساوي ثبوت العدم.

الحالة الثانية: أن ينفرد كل واحد منهم بوضع النص، فيتطابق النصّان أو النصوص صدفة.. وهذا الاحتمال بموجب حساب الاحتمالات، أبعد من الاحتمال الأول، حتى مع وجود اختلاف يسير بين النصوص، كما في زيارة عاشوراء، فهناك اختلاف بين

ص: 70

النص الذي يرويه ابن قولويه في الكامل والنص الذي يرويه الشيخ في المصباح.

أما سائر الحالات، فهي ضعيفة جداً أو يؤول أمرها أخيراً إلى واحدة من الحالتين اللتين حكمنا عليهما بالاستبعاد بمعنى إلغاء احتمال الخلاف رأساً عند العقلاء وفي الشرع.

أقول: وعليه؛ فإنَّ الغاية في الدراسات السندية لأمثال هذه النصوص إثبات أنّ النص ليس منتحلاً بالكامل، كالزيارة المفجعة، ودعاء (حُبّ)، ودعاء (كنز العرش) من الأدعية المجعولة على ما يذكره المحدث الشيخ عباس القمي رحمة الله في مفاتيح الجنان؛ حيث يشكو بمرارة من انتحال الأدعية والزيارات.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنّ بعض ما ذكرنا هنا يكفي للاطمئنان إلى أنّ النص الذي يرويه علقمة وغيره من الأصحاب في زيارة الحسين علیه السلام يوم عاشوراء قد ألقاه وأملاه الإمام الباقر علیه السلام ، بل والصادق علیه السلام أيضاً على أصحابهم وشيعتهم في زيارة الحسين علیه السلام يوم عاشوراء، وليس بمزوَّر ولا مُنتَحل ولا موضوع.

ثمَّ من المؤكَّد أن هذه الزيارة قد شاعت شياعاً واسعاً في أجواء المؤمنين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، ويواظب عليها علماء الطائفة، ولم تكن تخفى عليهم الملاحظات التي تُذكر، ولن يهابوا الناس في نفيها، إلّا أنهم كانوا لا يعبأون بهذه الملاحظات لسببين:

السبب الأول: النقاط التي أوردناها في هذه المقالة على تلك الملاحظات.

ص: 71

والسبب الآخر: عدم جدوى إثارة التشويش حول هذه المسائل، ما لم تتضمن بدعة في الدين، أو مخالفة للكتاب والسنة. وقد علمنا أن هذه الزيارة لا تتضمن شيئاً من ذلك..

وأما مسألة اللعن، فقد ناقشها المؤلف بتفصيل، بل خصص لها أغلب صفحات كتابه.

على إننا إذا تجاوزنا ذلك كله، فقد وردت روايات صحيحة، من دون شك في استحباب زيارة الحسين علیه السلام مطلقاً، في يوم عاشوراء بصورة خاصّة، من دون التقييد بنصّ خاص، ومن ذلك:

ما يرويه الصدوق في عيون أخبار الرضا والأمالي، بسنده عن الريان بن شبيب _ خال المعتصم _ قال: «دخلت في أول يوم من المحرم على الرضا علیه السلام ، فقال لي:...يا بن شبيب، إن سَرّك أن تلقى الله  ولا ذنب لك فزر الحسين»(1). والرواية صحيحة.

وما يرويه الشيخ في التهذيب، بسنده عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «مَن زار قبر أبي عبد الله علیه السلام يوم عاشوراء عارفاً بحقه كان كمَن زار الله تعالى في عرشه»(2).

وزيارة عاشوراء المعروفة واحدة من مصاديق زيارة الحسين علیه السلام ، فهي مشمولة بما ورد في الروايات المطلقة من الأجر والثواب، ومستحبّة، ويصح التعبد بها، كأي

ص: 72


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا علیه السَّلام: ج١، ص٢٦٨_٢٦٩. الشيخ الصدوق، الأمالي: ص١٩٢_١٩٣
2- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: ج٦، ص٥١.

نصّ آخر، إلّا أن يكون في النص ما يخالف الكتاب وما صحّ من السنّة الشريفة، وليس في زيارة عاشوراء شيء من ذلك.

والتحقيق الواسع الذي أجراه المؤلف في النصّ الذي يرويه الشيخ في المصباح يرفع الشبهة التي يتوقف عندها المؤلف.

فليس من سبب للتوقف في استحباب هذا النصّ وإيجابه للأجر والثواب الذي يبتغيه المؤمنون منه.

ص: 73

ص: 74

الدراسة الواعية للنهضة الحسينية د. الشيخ علي حمود العبادي

اشارة

لقد تميّزت النهضة الحسينية المباركة بقائدها الكبير وأهدافها ودوافعها الرسالية المتنوّعة، فحملت بذلك كل مقومات العظمة والكبرياء، وكان لها تأثيرها البالغ في هداية المجتمع الإسلامي، وإيصاله إلى أهدافه الحقيقية التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية والعقل السليم.

وفي هذا الضوء ينبغي أن تُقرأ هذه النهضة العظيمة قراءة واعية، وتُدرس دراسة جادّة؛ كي يُمكن الاستفادة منها بالشكل الصحيح والمطلوب. ونرى أن من الضروري في هذا المجال الالتفات إلى جملة من الأمور، أهمّها:

١_ أن تُلاحظ واقعة عاشوراء بما هي مقطع تاريخي ضمن سلسة حوادث مترابطة يتأثر بعضها ببعض، ويكشف بعضها عن أسرار بعضها الآخر.

٢_ أن يُنظر إلى واقعة عاشوراء بنظرة شمولية، فلا تُلاحظ الجنبة العسكرية

ص: 75

بمعزل عن المعطيات الفكرية والثقافية، أو الأخلاقية والفقهية، وهكذا.

٣_ أن تُلاحظ كيفية إدارة الإمام الحسين علیه السلام لواقعة عاشوراء من بداية الانطلاق وحتى الاستشهاد، كحادثة واحدة ممتدة في عمود الزمان.

٤_ أن تُدرس أحوال المجتمع الإسلامي قبل واقعة كربلاء، بشكل دقيق، وتُلاحَظ الظروف المؤثرة آنذاك، والتي انبثقت في قلبها تلك الواقعة العظيمة والأليمة.

وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على النقطة الأخيرة، ونُشير إلى بعض ملامح المجتمع الإسلامي قبل واقعة عاشوراء، منذ نشوء الانحراف وإلى وقت الاستشهاد.

شكر النعمة أو كفرانها

يُعدّ المجتمع الإسلامي _ الذي حمل آخر مشاعل الهداية للبشرية _ كباقي المجتمعات التي احتضنت الشرائع السماوية السابقة، من جهة إمكان تعرُّضه للانحراف والضياع؛ من هنا نجد أنّ التعاليم الدينية تؤكّد على هذه الحقيقة وتُحذّر أفراد المجتمع من مواجهة هذه العاقبة السيئة، قال تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ »(1)، فهذه الآيات المباركة تُبيِّن بوضوح أنّ الإنسان مهما كانت النعمة مُغدقة عليه، إلَّا أنّه يبقى في معرض الانحراف والتّيه، وفي معرض الغضب والضلال، وهذه سُنّة إلهية جارية في كافة المجتمعات، لا ينجو منها إلَّا مَن استقام وهداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم.

والمجتمع اليهودي _ كما في بعض النصوص الروائية_ من مصاديق«الْمَغْضُوبِ

ص: 76


1- الفاتحة : ٧.

عَلَيْهِمْ»(1)؛ مع أنّ الله تعالى قد أنعم عليهم، كما جاء ذلك في قوله :«يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ »(2). لكنهم كفروا بنعمة الله تعالى، وكانوا يحاربون الأنبياء والمرسلين، فنالهم الغضب الإلهي.

وأمّا «الضَّالِّينَ » فهم النصارى؛ إذ أنّهم لمّا أنعم الله عليهم، تمرَّدوا وضلّوا.

هذه هي حال المجتمعات، فكلما تمسّكت بطريق الحقّ؛ هداها الله، وكلما ابتعدت؛ غضب الله عليهم، وجعلهم من الضّالين.

والمجتمع الإسلامي ليس بمعزل عن هذه السنن الإلهية، فقد أنعم الله عليه بالإسلام وبنبي الرحمة، فمَن شكر كان من المهتدين، ومَن كفر بهذه النعمة كان من الضّالين أو من المغضوب عليهم، وعندما نلاحظ حالة المجتمع الإسلامي بعد رحيل الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ؛ نجد أنّ تلك السُّنّة قد تكرّرت بأجلى صورها، وبلغت الانحرافات أقصاها، وهو ما تنبّأ به الرسول العظيم صلّى الله عليه وسلّم ، حينما قال: «لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبراً شبراً، وذراع بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ تبعتموهم»(3). وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «لما قتل الحسين اشتد غضب الله على أهل الأرض»(4).

ص: 77


1- اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: ج١، ص ٣١٩
2- البقرة:٤٠.
3- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج٨، ص١٥١. واُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص٢٦٦
4- الكافي، الكليني: ج١، ص ٣٦٨.

المجتمع الإسلامي بعد رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله

عندما نلاحظ حالة المجتمع الإسلامي بعد رحيل الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ؛ نجد أنّه قد واجه مجموعة كبيرة من الانحرافات والضلالات، وهناك شواهد عديدة أثبتها التاريخ، تُبيّن عمق المأساة التي آل إليها المسلمون بعد فقد النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم ، وابتدأت بوادر الانحراف تظهر في عدّة مستويات، سواء العقائدي منها، أو الثقافي، أو الأخلاقي، أو الاقتصادي، وهنا نحاول أن نُسلّط الضوء على بعض الانحرافات الاقتصادية التي أدّت إلى تفكيك المجتمع الإسلامي، وتقسيمه إلى طبقة غنيّة فاحشة الثراء، وطبقة مسحوقة تُعاني أشدّ الحرمان، والشواهد على ذلك كثيرة، نحاول أن نذكر بعضها توثيقاً لما قُلناه، وخصوصاً ما ظهر من الأمثلة التي برزت في الرَّعيل الأول من الصحابة، والتي تُبيِّن كيف كان حال الخواصّ على امتداد السنوات التي أعقبت رحيل النبي الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ، بحيث آلت الأُمور إلى المستوى الذي تزعزعت فيه القيم الإسلامية، وهي تعكس حالة الترف التي صار إليها الصحابة، بعد أن كانوا لا يملؤون بطونهم من الخبز:

المثال الأول: ما جاء في أحوال طلحة بن عبيد الله، قال رجل ذات يوم في مجلس سعيد بن العاص _ وهو من الولاة الأُمويين الذين عيَّنهم عثمان _ :«ما أجود طلحة!». فقال سعيد: «إنّ مَن له مثل النشاستج لحقيقٌ أن يكون جواداً». وكانت النشاستج ضيعة كبيرة قرب الكوفة يملكها الصحابي طلحة بن عبيد الله، الذي كان يعيش حينذاك في المدينة، ثمّ أردف قائلاً: «والله، لو أنّ لي مثله؛ لأعاشكم الله به عيشاً رغداً»(1).

ص: 78


1- اُنظر: ابن الأثير، عزّ الدين أبي الحسن، الكامل في التاريخ: ج٣، ص١٣٨.

وبمقارنة بسيطة بين الحالة التي كان عليها صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زمنه وبين التي عليها طلحة _ كما في هذا الخبر _ تجد الفرق الفاحش بين الحالين، فأين حال أصحاب الصفّة وغيرهم من هذا الثراء الفاحش؟!

المثال الثاني: ما جاء في ذكر أحوال أبي موسى الأشعري والي البصرة، وهو صاحب الموقف الشهير في قضية التحكيم، حيث ارتقى المنبر ذات يوم حينما كان والياً على البصرة، وكان الناس يستعدّون لإحدى الغزوات، فنادى في الناس وحضّهم على الجهاد، وذكر شيئاً في فضل الجهاد مشياً، فترك نفرٌ دوابّهم وأجمعوا أن يخرجوا رجّالةً طمعاً في الثواب، إلَّا أنّ جماعة آخرين من العقلاء فضّلوا التّأمل ومشاهدة حقائق الأُمور، وقالوا: لا نعجل في شيء حتى ننظر ما يصنع؛ فإن أشبه قوله فعله، فعلنا كما يفعل.

ثمّ نقل لنا التاريخ أنه: «لمّا خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلاً» (1). فقد أخرج معه ممتلكاته الثمينة، وهي بهذا الحجم والكم الهائل من النفائس والسلع الثمينة، التي لا يمكنه أن يتخلى عنها، ولا يأمن إن تركها في مكانها أن يعود إليها؛ لأنّ الأُمور متغيرة والسياسة متلوّنة، لذلك لم يكن لديه حلٌّ إلَّا أن يصطحب أمواله معه، وهي بهذا الحجم والمقدار.

فلمّا خرج جاءه قوم وتعلَّقوا بعنانه، وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب في المشي كما رغّبتنا. فضرب القوم بسوطه؛ فتركوا دابّته ومضى(2).

ص: 79


1- ابن الأثير، عزّ الدين أبي الحسن، الكامل في التاريخ : ج٣، ص٩٩.
2- اُنظر: المصدر السابق: ج٣، ص١٠٠.

وهذا الموقف _ كسابقه _ باعث على الدهشة والحَيرة؛ ويؤكّد عمق المأساة التي يمرّ بها المجتمع الإسلامي على الصعيد الاقتصادي والمالي.

المثال الثالث: ما نقله التاريخ لنا فيما كان يملكه الزبير بن العوّام؛ فإنّه قد قُسِّمت أمواله التي هي الدراهم والدنانير إلى أربعين ألف ألف(1). وفي نقلٍ آخر أنّ ميراثه قُسِّم على خمسين ألف ألف ومائتي ألف ونيف(2).

كانت هذه أمثلة بسيطة لما كانت عليه أحوال الخواصّ من الصحابة، ولو نقّب شخص في التاريخ لعثر على آلاف الأمثلة التي تطفح بها المصادر التاريخية، هذا ما يخصّ الجانب الاقتصادي، وأمّا بقية الجوانب، فإن لم يكن الانحراف فيها أكثر فليس هو بأقل من هذا الجانب.

والملاحظة الجديرة بالذكر: أنّ الأمثلة المتقدمة كلها تُشير إلى حالة الخواصّ من الأُمّة، الذين هم من صحابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعايشوه وعاينوه عن قرب، فهم من الشخصيات البارزة في المجتمع الإسلامي، والسؤال هو: إذا كان هذا حال الخواصّ في تجميع الأموال والتهافت على الدنيا وملذاتها، فما يكون حال العوام، مع ملاحظة أنّ الناس على دين ملوكهم؟!

ولهذا؛ فإنّ من أخطر الأُمور على كل مجتمع هو انحراف الطبقة المتميزة فيه، وهي طبقة الخواص؛ إذ بتبعها تنحرف بقية الطبقات، فيصبحون من المغضوب عليهم أو من الضالين.

ص: 80


1- اُنظر: الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج٣، ص٣٦١.
2- اُنظر: ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين، فتح الباري: ج٨، ص ١٦٣.

حالة المجتمع في عهد الأُمويين

ورث الأُمويون مجتمعاً نخرت جسمه وهدّت تماسكه الانحرافات على مختلف المستويات، فبوادر الانحرافات الفكرية والعقائدية وبروز الطبقيّة كانت تتنامى وتتّسع، ولم يحاول أحد الوقوف بوجهها، وإصلاح ما أفسدته السياسات الخاطئة والمُغرضة، إلَّا أربع سنوات خاض خلالها الإمام علي علیه السلام ثلاثة حروب داخلية، وهي وإن كانت مدّة قصير نسبةً بالزمن الذي نشأت وترعرعت فيه تلك الانحرافات والتحريفات، إلَّا أنّها كانت مليئة بالإصلاحات والتصحيح في مسار المجتمع الإسلامي.

من هنا؛ خاض الأُمويون وبقيادة ابن آكلة الأكباد حرباً جديدة ضدّ مبادئ الدين، ولكن هذه المرّة بصورة ممنهجة ومقنّنة وعلى كافّة المستويات، لتدمير آخر معقل للمسلمين، وإزالة آثار الدين المبين، وبذلك تتحقق أُمنية الشيطان الرجيم، في إطفاء نور ربّ العالمين.

بعض أهداف بني أُميّة

١_ الحطّ من منزلة أهل البيت علیهم السلام ؛ حيث سخّرت السلطة جميع أجهزتها السياسية والاقتصادية، وسائر إمكانياتها الأُخرى لتغيير الحقيقة التي أكّد عليها القرآن الكريم، وهي فرض مودّة أهل البيت علیهم السلام ، وتحويل ذلك إلى حقد وبُغض، وقد استخدمت لتحقيق مبتغاها الخبيث والخطير كافّة أجهزة الوعظ والإرشاد، وأجهزة القمع والترهيب والترغيب وغيرها، بحيث أصبح سبّ علي علیه السلام سُنّة على منابر المسلمين، وفرضاً واجباً يُحاسب مَن لا يلتزم به.

ص: 81

٢_ تغييب _ بل وتغيير _ إحدى أهمّ الوظائف الإلهية للفرد المسلم، وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من خلال نشر ثقافة إطاعة الأمير برّاً أو فاجراً، من دون أي نقاش أو نقد، كلّ ذلك حتى يتسنّى لهم تمرير أهدافهم الشيطانية.

٣_ نشر الجهل والأُمّية في المجتمع الإسلامي؛ حتى يكون عامّة الناس من الهمج الرعاع، الذين لا يمكنهم تحريك ساكن بإبطال باطلٍ أو إحقاق حقّ، وهم مَن وصفهم أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: «الناس ثلاثة: فعالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع، أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق»(1).

وإذا وصل الحال بعامّة المسلمين هكذا، فمن السهل جدّاً أن يتسلّط عليهم باسم الدين مَن ليس له أي صلة بالدين، بل هو أبعد ما يكون عنه، وإلّا كيف يمكن أن يتصور عاقل أنّ يزيد الفاسق الفاجر شارب الخمر، وفاعل المنكر، وتارك الواجب، يُسمّى بأمير المؤمنين؟! إنّه لشيءٌ عجيب. إلّا أنّه مع الجهل تكثر العجائب.

وبذلك يمكن توجيه عامّة الناس بسهولة، وركوبهم كمطيّة للوصول إلى الغايات الشيطانية. قال أمير المؤمنين علیه السلام : «إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرّقوا لم يعرفوا»(2).

هذه بعض الشواهد التي تُبيِّن تأسيس بني أُميّة لِحَرْف المجتمع الإسلامي أكثر فأكثر عن مساره الصحيح، ونحن لا نريد الاستغراق في ذلك؛ لأنّه من الأُمور الواضحة لمَن نظر إلى التاريخ بعينٍ صافية، وبقليل من الإنصاف.

ص: 82


1- محمد عبده، شرح نهج البلاغة، الخطبة (١٤٧): ج٤، ص٣٥ _ ٣٦.
2- المصدر السابق: ج٤، ص٤٦.

وقد تنبّأ أمير المؤمنين علیه السلام _ ببصيرته الصادقة والثاقبة _ بحال المسلمين بعد استيلاء بني أُميّة على الحكم، وتحويل الأُمّة إلى عبيد وأتباع لهم؛ حيث قال علیه السلام : «وايْمُ الله، لتجدنَّ بني أُميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالناب الضروس... لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلَّا نافعاً لهم أو غير ضائرٍ بهم، ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلَّا كانتصار العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، وقطعاً جاهلية، ليس فيها منار هدى، ولا علم يُرى...» (1).

ويقول علیه السلام أيضاً: «والله، لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرماً إلَّا استحلّوه، ولا عقداً إلَّا حلّوه، وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلَّا دخله ظلمهم، ونبا به سوء رعيهم، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باكٍ يبكي لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه، وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه، وحتى يكون أعظمكم فيها غناء أحسنكم بالله ظنّاً»(2).

فقد أكّد علیه السلام بأنّ الأُمّة ستشهد تلك الأوضاع المأساوية، كنتيجة حتميّة لاستسلامها ووقوعها فريسة ولقمة سائغة في أفواه بني أُميّة، ولعلَّ من أسوأ الظروف التي مرّت على الأُمّة الإسلامية هي فترة هلاك معاوية وتولي يزيد أمر الأُمّة، وهو شابّ لاهٍ اعتاد مُسامرة القرود، وشرب الخمور، وفعل الفجور، وارتكاب كلّ منكر ومعصية، وهي فترة كفيلة بأن تنمحي معها آثار الإسلام ومبادئ الإيمان؛ لأنّ هذه المرّة لم يكن التغيير بصورة ماكرة حذرة كما كان عليها فيما سبق، وإنّما كان بشكل سافر صارخ، وكأنّ الطير على رؤوس هذه الأُمّة التي تنظر إلى عِزّها يتمزّق، وإلى

ص: 83


1- محمد عبده، شرح نهج البلاغة، الخطبة (٩٣): ج١، ص١٨٣_ ١٨٤.
2- المصدر السابق: ١٩٠ _ ١٩١.

كرامتها تُهان على يد طغمةٍ حاكمةٍ فاجرة، وكاد الأمر أن يتحقق، وما بدأه أبو سفيان وابنه معاوية وجميع ما أسس له بنو أُمية كاد أن يُثمر، لولا أنّ رجال الله _ وهم قليلون _ قد تصدّوا لهذا المخطط الشيطاني، فكانت كربلاء، صراع الخير كلّه بوجه الشرّ كلّه.

تشخيص الإمام الحسين علیه السلام للمرض الذي ألمّ بالأُمّة

بين كلّ تلك التجاذبات والانحرافات والممارسات الظالمة التي مُورست لعقود من الزمن، وبين جميع تلك المآسي والآهات التي تمرّ بها أُمّة الإسلام، نجد أنّ الإمام الحسين علیه السلام _ وهو الرجل الإلهي الذي اختارته السماء لقيادة الأُمّة، تخليصاً لها من ظلمات الشر والبطلان، وإيصالها إلى برّ الأمان _ قد شخّص المرض الذي أخذ ينخر في جسد الأُمّة، ووضع له العلاج الناجع، الذي تمثّل بصرخة مدويّة في أرجاء العالم الإسلامي، تهزّ ضمائر المسلمين هزّاً عنيفاً، وتبعث في نفوسهم الحياة والإحساس بالمسؤولية، وتكسر عنهم طوق الخوف والرعب الذي كان يملأ نفوسهم آنذاك، وتُعيد إليهم ثقتهم بالله، ثمّ بأنفسهم.

ومن هذا المنطلق؛ يتّضح أنّ إقدام الإمام علیه السلام على الخروج والثورة على النظام الأُموي، والمواجهة والمجابهة لم يكن لرفض البيعة، وإعلان هذا الرفض فحسب، وإنّما كان أيضاً لتحريك المسلمين، وجعلهم يستشعرون المسؤولية، ولإعلان الموقف الشرعي، ودعوة المسلمين إلى المجابهة والمعارضة، والتمرّد على السلطة الأُموية.

فحركة الإمام علیه السلام لم تكن حالة انفعالية يمرّ بها ثائر مظلوم، وإنّما هي حالة علاج لمجتمع مُهان أهدرت كرامته حكومات ظالمة وسياسات مستبدّة، أرادت له الخنوع

ص: 84

والخضوع ونسيان التاريخ الحافل بالبطولات، لأُمّة فتية أُريد لها أن تحمل آخر رسالة سماوية في الأرض، لذلك فهذه الواقعة الأليمة إنّما هي مرحلة مهمّة، بل من أهمّ مراحل الصراع الدائم بين الخير والشرّ.

خيارات أُخرى رفضها الإمام الحسين علیه السلام

ربما يحاول البعض أن يصور لنا بأنّ الإمام الحسين علیه السلام قد أُجبر على القتال والشهادة، وأنّه لو لم يُجبر على ذلك لتنحّى عن ممارسة العمل الإصلاحي في المجتمع، مستشهداً ببعض النقولات التاريخية التي فسّرها بشكل ناقص وخاطئ، مع أنّ الأمر ليس كذلك جزماً؛ لأنّ ثورة الإمام الحسين ثورة إصلاحية، ابتدأها الإمام علیه السلام لتغيير الواقع المرير الذي واجهته الأُمّة، والشاهد على ذلك هو وجود الخيارات الأُخرى، التي كان يمكن للإمام علیه السلام أن يختار أحدها ويسلم من القتل، إلَّا أنّه علیه السلام رفضها جميعاً، ومن تلك الخيارات:

الخيار الأول: أن يبايع يزيد بن معاوية، كما طلبوا منه أول مرّة، وكان يمكن للإمام علیه السلام أن يبايع الخليفة الجديد من خلال واليه في المدينة، ويحقن دمه ودم أهل بيته، إلَّا أنّ الإمام علیه السلام رفض ذلك أشدّ الرفض، وقد نقل لنا التاريخ الكلمات الخالدة للإمام علیه السلام بهذا الصدد:

منها: ما قاله علیه السلام لأخيه محمد بن الحنفية: «يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ، ولا مأوى، لما بايعت _ والله _ يزيد بن معاوية أبداً»(1).

ص: 85


1- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج٥، ص٢١.

ومنها: خطبته علیه السلام يوم عاشوراء في جيش بني أُميّة، حيث قال: «ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة، من أن تُؤثر طاعة الّلئام على مصارع الكرام»(1).

ومنها: ما قاله علیه السلام لأخيه عمر الأطرف عندما دعاه إلى تجنب مجاهدة يزيد: «لا أُعطى الدنية عن نفسي أبداً، ولتلقينّ فاطمة أباها شاكيةً ما لقيت ذريتها من أُمّته، ولا يدخل الجنّة أحدٌ آذاها في ذريتها» (2).

ومنها: عندما خرج علیه السلام يوم عاشوراء للقتال، وهو يرتجز ويقول:

القتل أولى من ركوب العار***والعار أولى من دخول النار(3)

وهذه النصوص تكشف عن عمق النهضة التي أسّس لها الإمام علیه السلام ، وأنّ الأمر ليس شخصياً، يُكتفى فيه بحفظ النفس، وإنّما هي مسألة إلهية متجذّرة منذ بداية الخلق، وممتدّة إلى قيام الساعة.

الخيار الثاني: وهو الخيار الذي اقترحه الأُمويون على الإمام علیه السلام ، وهو أن يخرج إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ويترك الساحة السياسية والاجتماعية، ويبتعد عن الكلمات المندّدة ببني أُميّة، حتى لا يكون خطراً على الحكم الأُموي؛ لأنّ الإمام علیه السلام قد وضعهم

ص: 86


1- ابن طاووس الحسيني، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص٥٩.
2- المصدر السابق: ص ٢٠.
3- المصدر السابق: ص٧١. اُنظر: ابن نما الحلّي، نجم الدين محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص٥٤

في موقف محرج، فإن سكتوا فسوف تفضحهم مواقفه وكلماته علیه السلام المناهضة لهم، وإن قتلوه فقد باؤوا بعارها وشنارها، وبتبع ذلك سوف تضعف دولتهم شيئاً فشيئاً. لذلك كان الحلّ الأسلم لهم هو إبعاد الإمام علیه السلام عن الساحة السياسية والاجتماعية.

ويشهد لذلك ما يرويه الطبري عن عقبة بن سمعان، وعقبة هذا كان قد رافق الحسين علیه السلام من المدينة إلى كربلاء، قال: «صحبت حسيناً، فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أُفارقه حتى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلَّا وقد سمعتها، ألا والله، ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أنّه يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ولكنّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس»(1).

فقوله: «ولا أن يسيروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين» يُشير إلى هذا الخيار.

وما يشهد لذلك أيضاً ما قاله الإمام علیه السلام في كربلاء، أمام جيش ابن سعد: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرُّ فرار العبيد»(2).

فقوله: «فلا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل»، أي: لا أُعطيهم البيعة، وهو الخيار الأول _ الذي تحدّثنا عنه _ وقوله: «لا أفرُّ فرار العبيد» هو إشارة إلى الخيار الثاني الذي اقترحه عليه بنو أُميّة؛ لإلغاء دوره، وتعطيل موقفه عن خبثٍ ومكر.

ص: 87


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص ٣١٣.
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج٢، ص٩٨.

إشكال وجواب:

ربما يُدّعى ويُقال: إنّ قول الإمام علیه السلام المتقدّم وهو: «دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس» _ الوارد في كلام ابن سمعان _ يعني أنّه علیه السلام أراد أن يعتزل الأمر ويذهب بعيداً عن دائرة النزاع، وهذا يعني أنّه لم يكن قاصداً لما وقع، بل أُجبر عليه، وإلَّا لو خُلّي الإمام علیه السلام ونفسه لما ذهب إلى كربلاء ولما وقعت تلك الحادثة الأليمة.

الجواب: إنّ الإمام علیه السلام أراد بقوله هذا إلقاء الحجّة على بني أُميّة وأتباعهم، لا أنّه أراد أن يعتزل الأمر، وإلَّا فالإمام علیه السلام قد أصرَّ على رفض بيعة يزيد، هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام علیه السلام يعلم أنّ بني أُميّة لا يرضون إلَّا بأن يبايع الإمام علیه السلام يزيد أو يُقتل، وهذا ما كشف عنه الإمام علیه السلام حينما أراد الخروج من الحجاز إلى العراق بقوله: «وايم الله، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، ووالله، ليعتدُنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت»(1).

وفي رواية أُخرى يرويها الشيخ المفيد في الإرشاد عن الإمام علیه السلام بنفس المضمون: «والله، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم، حتى يكونوا أذلّ فرق الأُمم»(2).

فإن قلت: إنّ هذا يتعارض مع ما تقدم من اقتراح بني أُميّة على الإمام علیه السلام أن يذهب إلى ثغرٍ من ثغور الإسلام؟

ص: 88


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج ٤، ص ٢٨٩.
2- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد :ج٢، ص٧٦.

قلت: إنّ الظاهر من اقتراحهم هو أن يتخلّى الإمام علیه السلام عن كلّ شيء، وأن لا يعارضهم بشيء، وإنّما يكون كباقي النكرات التي تعيش على فتات الولاة والطغاة، وهذا ما يرفضه الإمام علیه السلام قطعاً؛ لذلك فهم لا يرضون إلَّا بقتله علیه السلام .

الخيار الثالث: وهو الخيار الذي اقترحه عليه بعض الناصحين له، وهو أن يبتعد الإمام علیه السلام عن ساحة المعركة، ويعتزل الناس، ويذهب بعيداً إلى اليمن، أو إلى بعض شعاب الجبال، ويحتجب عن الناس فيكون قد حقّق الغاية، وهو الامتناع عن البيعة ليزيد، دون أن يُعرِّض نفسه وأهل بيته وأصحابه للأذى والمهالك من قِبل يزيد وولاته وعُمّاله.

يقول ابن الأثير: لمّا عزم الحسين علیه السلام على الخروج من الحجاز إلى العراق، جاءه ابن عباس، فقال: «يا بن عمّ، إنّي أتصبّر، ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال... فإن أبيت إلَّا أن تخرج فسِر إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة...»(1).

وكان ممَّن يحمل هذا الرأي أيضاً أخوه محمد بن الحنفية؛ إذ جاء الحسين علیه السلام لمّا عزم على مغادرة المدينة بأهل بيته، فقال له: «يا أخي، أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم عليّ، ولست أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق أحقّ بها منك، تنحّ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث رسلك إلى الناس، وادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقض الله بذلك دينك ولا عقلك... قال الحسين: فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة فإن اطمأنّت بك

ص: 89


1- ابن الأثير، عزّ الدين أبي الحسن، الكامل في التاريخ: ج ٤ ص ٣٨ _ ٣٩.

الدار فبسبيل ذلك، وأن نأت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلدٍ إلى بلد، حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس»(1).

وفي العراق اقترح الطرمّاح بن عدي على الإمام علیه السلام أن يمتنع عن جيش يزيد بن معاوية بمعاقل طي المنيعة، فقال للإمام علیه السلام : «فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به، حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا، الذي يُدعى (أجأ) امتنعنا _ والله _ به عن ملوك غسّان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذلّ قط، فأسير معك حتى أنزلك القرية»(2).

إلَّا أنّ الإمام ردَّ هؤلاء جميعاً من دون تردّد، لا لأنّه كان يشك في صدقهم ونصحهم له، ولا لأنّهم كانوا موضع ارتياب وشك عند الإمام؛ ولكن لأنّ هؤلاء لم يكونوا يفهمون الإمام ورأيه وموقفه بالشكل الصحيح، فلم يكن همّ الإمام علیه السلام ألّا يبايع يزيد وألّا يضع يده بيد ابن معاوية فحسب، ويقتصر في أمر رفض البيعة على هذا الحدّ السلبي، الذي كان لا يرفع التكليف الشرعي والمسؤولية عن عاتقه، بل كان الإمام علیه السلام يُصرُّ على أن يُترك لشأنه ليذهب _ كما يقول عقبة بن سمعان في كلمته _ في هذه الأرض العريضة مُعلناً عن رأيه في يزيد، ورفضه لبيعته، وعاملاً بتكليفه الشرعي في الحكم الأُموي، وهذا ما كان يرفضه بنو أُميّة رفضاً قاطعاً.

الإمام علیه السلام يريد سحب الشرعية من حكّام بني أُميّة

الشيء الأهمّ، والذي كلّف الإمام أن يُضحّي بنفسه وأهل بيته وأصحابه

ص: 90


1- المصدر السابق: ج٤، ص١٦_ ١٧.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص ٣٠٦ _ ٣٠٧.

وشيعته، هو إعلان هذا الرفض على الملأ من المسلمين، وهذا الإعلان هو الذي أغضب بني أُميّة وأثارهم، فقد اعتبروه تحدّياً صارخاً لسلطانهم وحكمهم، وبداية تزلزل دولتهم.

وكان الإمام الحسين علیه السلام يتوخّى من هذا الإعلان مطلباً سياسياً لم يكن يتحقّق لولا إعلان الرفض، وهو إسقاط شرعيّة خلافة بني أُميّة في نظر عامّة المسلمين.

فقد كانت الخلافة رغم كلّ السلبيات التي أحاطت بها إلى هذا الحين تتمتّع بالشرعية في نظر الأكثرية من المسلمين، وكانت هذه الشرعية تمكّن بني أُميّة من رقاب المسلمين، وتشلّ عمل ودور المعارضة، وتُعطي للنظام الأُموي قوّة ومقاومة كبيرة. وأخطر من هذا كلّه، أنّ هذه الشرعية هي الورقة الرابحة التي كان يلعب بها بنو أُميّة؛ بحيث مكّنتهم من إدخال الانحرافات الخطيرة في الشريعة الإسلامية، سواء في الأحكام أو العقائد أو الثقافة العامّة أو غير ذلك.

لأجل ذلك فإنّ المجتمع الإسلامي كان يعيش المأساة والخطر على مستويين:

الأول: على مستوى حياتهم ونظام أمورهم.

والثاني: على مستوى دينهم، وهو أخطر وأكبر من الأول بكثير.

فإنّ الانحراف بدأ يتعمّق في الأُمّة وفي تعاليم الإسلام، من داخل قصور بني أُميّة؛ نتيجة ما يقترفونه من موبقات، وما يمارسونه من لهوٍ وفساد وظلم. وقد أشار الإمام علیه السلام إلى ذلك في كلامه مع مروان بن الحكم، عندما نصحه ببيعة يزيد، بقوله: «على الإسلام السلام؛ إذ بُليت الأُمّة، براعٍ مثل يزيد. ولقد سمعت جدّي رسول

ص: 91

الله صلى الله عليه و آله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان»(1).

وهذا ما عمد إليه الإمام الحسين علیه السلام عندما رفض البيعة، ورفض أن يُخفي موقفه السلبي، ويعتزل الوسط السياسي إلى بعض الشعاب والوديان والجبال؛ ليسلم بنفسه وأهل بيته وأصحابه من ملاحقة حكّام بني أُميّة.

الشواهد على سحب الشرعية من بني أمية

أولاً: إنّ الإمام علیه السلام خرج من المدينة إلى مكة سائراً على الجادّة التي يسلكها الناس، وهي الطريق العام والرسمي بين البلدين، فقال له ابن عمه مسلم بن عقيل: لو عدنا عن الطريق وسلكنا غير الجادّة، كما فعل عبد الله بن الزبير كان عندي الرأي، فإنّا نخاف أن يلحقنا الطلب، فقال له الحسين علیه السلام : «لا والله يا بن عمي، لا فارقت هذا الطريق أبداً، أو أنظر إلى أبيات مكة، أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى»(2).

ثانياً: الكيفية التي دخل بها علیه السلام مكة، فإنّه دخلها بصورة علنيّة، متحدّياً بذلك سلطان بني أُميّة، وقد وصف الخوارزمي نزول الحسين علیه السلام بمكة بقوله: «وكان قد نزل بأعلى مكة، ضرب هناك فسطاطاً ضخماً... ثمّ تحوّل الحسين إلى دار العباس، حوّله إليها عبد الله بن عباس... فأقام الحسين مؤذناً يؤذن، رافعاً صوته، فيصلّي بالناس»(3). وتجمّع الناس حوله علیه السلام اجتماعاً كبيراً، يقول ابن أعثم: «دخل الحسين إلى مكة ففرح به أهلها فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّة، واشتدّ ذلك

ص: 92


1- ابن طاووس الحسيني، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص١٨.
2- الكوفي، أحمد بن أعثم، كتاب الفتوح: ج٥، ص٢٢.
3- الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الخوارزمي: ص٢١٧.

على عبد الله بن الزبير؛ لأنّه قد كان طمع أن يبايعه أهل مكة، فلمّا قدم الحسين شقّ ذلك عليه...، لكنّه يختلف إليه، ويُصلّي بصلاته، ويقعد عنده، ويسمع من حديثه، وهو مع ذلك يعلم أنّه لا يبايعه أحد من أهل مكة والحسين بن علي بها؛ لأنّ الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير»(1).

وكان عمرو بن سعيد الأشدق يومئذٍ عامل يزيد على مكة، فهاب الحسين علیه السلام ، وهرب إلى المدينة، وكتب إلى يزيد بأمر الحسين، يقول الخوارزمي: «وهاب ابن سعيد أن يميل الحجّاج مع الحسين، لما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق، فانحدر إلى المدينة وكتب بذلك إلى يزيد» (2).

ثالثاً: الكيفيّة التي وقّت بها خروجه علیه السلام ؛ حيث إنّه خرج يوم التروية، وهو يوم الثامن من ذي الحجة، فبينما كان الحجّاج يتهيؤون للتوجّه إلى عرفات لأداء ركن الحج الأعظم، كان الإمام علیه السلام متوجهاً إلى مكانٍ آخر أعظم من عرفة، ألا وهو مكان النحر المقدّس (وفديناه بذبحٍ عظيم).

وقد أثار خروج الإمام علیه السلام في هذا التوقيت انتباه واستغراب عامّة الحجّاج الذين كانوا قد أمّوا البيت الحرام من مختلف الآفاق. فهذا ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحلّ من العمرة، ويغادر مكة في وقتٍ يتوجّه فيه الحجاج إلى عرفات لأداء الحج(3).

إلى غير ذلك من الشواهد التي تُثبت المطلوب.

ص: 93


1- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج ٥، ص٢٣.
2- الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الخوارزمي: ص٢١٧.
3- انظر: ابن طاووس الحسيني، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص٣٨

وفي الختام:

يجدر التذكير بأنّ الإنسان لا يقف على التطورات والتحولات الاجتماعية إلَّا بعد مرور وقت طويل، وهذا ما يوجب علينا توخّي أقصى درجات الدّقة والحذر والمراقبة في مسيرة الحياة؛ لكي لا ننزلق نحو التعلق بأهداب الحياة الدنيا التي هي رأس كلّ خطيئة؛ لأنّه إذا انعدم الحذر سوف ينحدر المجتمع تدريجياً نحو التخلّي عن القيم، ويبلغ مرحلة لا تبقى له سوى القشرة الخارجية، وقد يأتيه على حين غرّة ويفاجئه ابتلاءٌ شديد، كالابتلاء الذي تعرّض له المجتمع في أيام ثورة الحسين علیه السلام ، ومن ثمّ لا يمكن لهذا المجتمع أن يخرج ظافراً.

علينا أن نستذكر الواقعة الشهيرة التي وقعت لعمر بن سعد، حينما عُرضت له ولاية الريّ، وكانت الريّ في ذلك الوقت ولاية شاسعة وغنيّة، ولم يكن منصب الإمارة في عهد بني أُميّة كمنصب المحافظ في الوقت الحاضر، فالمحافظون اليوم موظّفون حكوميون يتقاضون مرتّبات ولهم صلاحيات محدودة، ولم يكن الأمر حينذاك على هذا النحو؛ لأنّ الشخص الذي يُنصَّب والياً يكون مطلق اليد في التصرف بجميع الثروات الموجودة في تلك المدينة، يتصرّف فيها كيف يشاء، بعد أن يُرسل مقداراً منها إلى عاصمة الخلافة؛ ولهذا كان لمنصب الوالي أهمّية عُظمى.

لكنّهم شرطوا تولّيه الريّ بمحاربة الحسين علیه السلام ، ومن الطبيعي أن الإنسان النبيل وصاحب القيم لا يتردّد لحظة في رفض مثل هذا العرض. وما قيمة الرّي

ص: 94

وغير الرّي؟! فلو وضعت الدنيا بين يديه لما عبس بوجه الحسين! فما بالك بالنهوض إلى محاربة عزيز الزهراء’، وقتله هو وأطفاله؟!

هكذا يقف الإنسان الذي يحمل قيماً، ولكن حينما يكون المجتمع خاوياً ومجرّداً من القيم، وحينما تضعف هذه المبادئ الأساسية بين أفراد المجتمع، ترتعد الفرائص عند ذلك، وأكثر ما يستطيع المرء عمله في مثل هذا الموقف هو أنّه يستمهلهم ليلة واحدة للتفكير في الأمر. وحتى لو فكّر سنة كاملة لوصل إلى نفس النتيجة، ولاتّخذ نفس القرار؛ إذ لا قيمة لمثل هذا النمط من التفكير، لقد فكّر ابن سعد في الأمر ليلة، وأعلن في اليوم التالي عن موافقته على ذلك العرض. إلَّا أنّ الله تعالى لم يُمكّنه من بلوغ تلك الغاية.

فلا بُدّ من اليقظة والحذر في كل وقت، وقراءة التاريخ والحاضر قراءة واعية ومدروسة؛ حتى لا تتكرر المأساة.

ص: 95

ص: 96

النهضة الحسينيّةوحفظ المبادئ والمظاهر الدينيّة الشيخ رافد التميمي

اشارة

تعدّ نهضة الإمام الحسين علیه السلام إحدى أهمّ حلقات الإصلاح التي استطاعت أن تغيّر مجريات الأحداث، وأن تضع بصماتها الخالدة على جبين التاريخ، فقد أحكمت وثبّتت المبادئ والقيم الدينيّة _ بل الإنسانيّة _ من دون أن تتأثّر بعاملي الزمان والمكان؛ ما أعطاها الشموليّة والبقاء، وجعل عطاءها دائماً ومستمراً.

تلك النهضة الأبيّة بقائدها العظيم حفظت أركان الدين الإسلامي، بعد أن عمل الشيطان على زعزعتها وزلزلتها بواسطة أجِنْدته الخبيثة، والذي يمثّل خطّ الشرّ اللئيم الذي كان _ وما يزال _ يتحيّن الفُرص لضرب خطّ الإسلام ونهج الحقّ، ذلك الدين الخاتم، والمشعل الأخير في طريق الهداية المنير.

هذه النهضة التي كانت في واقعها حرباً ضد المظاهر الشيطانيّة، والانحرافات الفكرية، والتردّيات الأخلاقيّة والسلوكيّة، التي كانت كفيلة بمحق الدين الإسلامي إذا ما انتشرت وتوسّعت، ولم تُردع من قِبَل رجال الله العظماء.

ص: 97

ولذا؛ فإنّ عاشوراء الإمام الحسين علیه السلام إحدى أهمّ حلقات سلسلة الخير والإصلاح الممتدّة من آدم علیه السلام إلى يوم القيامة.

طلائع الانحرافات الفكريّة والسلوكيّة

مرّ العالم الإسلامي بمرحلة خطيرة جداً، ودخل في نفق مظلم مارست فيه الدولة الأُمويّة شتّى الوسائل للقضاء على الإسلام؛ من خلال تغيير مبادئه الأساسيّة أو تغييبها، ولم تقتصر هذه الممارسات على بعض الأعمال والأفعال المحرّمة في الشريعة _ كشرب الخمر، وصرف الأموال في غير موضعها، وقتل النفس التي حرّم الله تعالى _ بل شملت ترويج العقائد الباطلة، والانحرافات الفكريّة التي كان الهدف من تقنينها وترويجها ضرب الدين الإسلامي، واقتلاعه من الجذور.

ولم تكن الدولة الأُمويّة _ التي أسسها معاوية _ وليدة ساعتها، بل تُعتبر ثمرة الانحراف الذي حصل بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ، فهي الوليد الشرعي لسقيفة بني ساعدة، فمنذ ذلك الزمان بدأت الانحرافات الفكريّة بالظهور، وتبعتها _ بطبيعة الحال _ الانتهاكات العمليّة والسلوكيّة، فإنّه بعد أن حُرِّف مبدأ النصّ على الخليفة الشرعي، وأُهملت أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله ، بل وصدرت العقوبات ضد مَن يرويها أو يكتبها بأمر المستفيد الأول من هذه العمليّة، صاحب المقولة المشهورة والبدعة المشؤومة: «حسبنا كتاب الله»(1)، هذه المقولة التي انتهكت حرمة الدين، وحرمة الرسول الأمين صلى الله عليه و آله بشكل واضح، وأبعدت السنّة النبويّة في وقت كان المسلمون بأمسّ الحاجة إليها، وأهمّ ما فيها الأحاديث المعروفة والمشهورة عن الرسول

ص: 98


1- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج٥، ص١٣٨.

الأعظم صلى الله عليه و آله ، كحديث الثقلين، والغدير، والمنزلة، وحديث عليّ مع الحقّ، وغيرها الكثير، هذه الأحاديث التي كانت تمثِّل رأي السماء فيما لا بدّ أن يحصل، وهي بمثابة خارطة طريق للواقع الإسلامي، وبهذا الإقصاء والتحريف دخل الحديث النبوي في نفق مظلم، ومُنع من التدوين والنشر، فأُقصي عن الساحة الإسلاميّة الشريان الثاني للتعاليم الإلهية التي تفوّه بها مَنْ لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى.

فنتيجةً لتغييب السنّة من جهة، ولأنّ القرآن الكريم كان يهتمّ بالخطوط العريضة للدعوة الإسلاميّة _ إلّا في بعض الموارد اليسيرة _ من جهة أُخرى؛ وُجدت فسحة واسعة لأصحاب الرأي الانتهازيين؛ لكي يتحرّكوا في جزئيات المسائل.

وكان الهدف الأساس من وراء كلّ ذلك هو تغييب الولي الشرعي عن هذا الدين، ممّا يسهّل لبعض الانتفاعيين التلاعب بمقدرات الأُمّة، ورسم طريقها كما تشتهيه نفوسهم المريضة.

من هنا؛ واجه المسلمون إشكاليّات كبرى ومواقف حرجة، أثّرت على مسيرة الإسلام بكاملها، ومن هذه الإشكاليّات:

أولاً: تحديد المرجِع في بيان العقائد، سواء بعض العقائد الأصلية أم الفرعية، ومَن الذي يدافع عنها ويردّ الشبهات حولها؟ وتتأكّد أهمّية هذه الإشكالية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الأُمّة حديثة عهد بهذا الدين، ولم تتأصّل مبادئه فيها بعد، هذا بالإضافة إلى دخول مختلف الأُمم في الإسلام، والتي كانت تحمل معها مختلف الأفكار والثقافات والرؤى.

ص: 99

ثانياً: تحديد المرجِع بعد الرسول صلى الله عليه و آله في بيان الأحكام الشرعيّة، سواء في تطبيقات الأحكام أم في مستحدثات المسائل، أو في شرح كلام الرسول صلى الله عليه و آله ، بتعميمه، أو تخصيصه، أو معرفة ناسخه ومنسوخه، وما إلى ذلك.

وبسبب بقاء هذه الإشكاليّات من جهة، ووجود الضرورة الملحّة لإعطاء الأجوبة في مختلف المجالات _ وإلّا فسوف تتعطّل الحياة الإسلاميّة _ من جهة أُخرى؛ راح كلٌّ يدلو بدلوه، وأصبح الإفتاء بيد كلّ مَن هبّ ودبّ، وأخذ كلّ شخص يُجيب حسب رغبته، ويعيّن ما يريده حسب ما تقتضيه مصلحته، وإذا أضفنا إلى ذلك الضغوطات السياسيّة والمصالح الحزبية والفئوية، والظروف العصيبة التي مرّت بها الدولة الإسلاميّة؛ تكون النتيجة ظهور مذاهب فقهيّة عديدة، واتجاهات عَقَديّة عجيبة وغريبة، تبتدئ من تجسيم الإله وتنتهي بتأليه الجسم.

هذا الفراغ الواسع الحاصل بسبب تغييب المرجعيّات الدينيّة السياسيّة والعقَديّة والفقهيّة، كان هو السبب الكبير في سيطرة الدولة الأُمويّة على زمام الأُمور؛ لأنّه بتغييب الحقّ يصبح للباطل متنفسٌ، ويجد له أعواناً ومكاناً.

وبعد الضربة القاصمة التي تعرَّض لها معسكر الحقّ باستشهاد أمير المؤمنين علي علیه السلام ، وقبول الإمام الحسن علیه السلام بالصلح _ تقديماً للمصلحة الإسلامية العليا _ رجحت كفّة الباطل، وتسنّى لمعاوية الانفراد بقيادة الأُمّة الإسلاميّة التي أتعبتها الانحرافات والضلالات.

سياسة معاوية في هدم الدين

كانت السياسة التي اعتمدها معاوية تصبّ في صالح إقصاء الحقّ تماماً، وتثبيت

ص: 100

دعائم الباطل لمحو الدين الإسلامي الخاتم، فإنّ المتتبع _ بدقّة _ يرى أنّ معاوية كان يمارس سياسة الشيطان، فهو الممثل الشرعي والناطق الرسمي باسم الشيطان في تلك الحقبة التي مرّت بها الأُمّة الإسلاميّة، وقد وصف الإمام الصادق علیه السلام ممارسات معاوية بالشيطانية؛ حيث قال: «تلك النكراء! تلك الشيطنة! وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»(1).

ولكن المشكلة الأساسية التي كانت تواجه هذا الخطّ الشيطاني، هي كيفيّة تغيير أحكام الشريعة وظواهرها؛ فإنّ كلّ عقيدة صحيحة، وكلّ حكم شرعي صرخة في وجه الانحراف والظلم والفساد، والتوحيد هو الحقّ الذي يدمغ الشيطان دائماً، والطاعة لله هي الأمر الذي يُنهكه، وبهذه الأُمور يضعف الخطّ الشيطاني، كما أقرّ ذلك القرآن الكريم: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا »(2).

ثمّ أضف إلى ذلك، المفاهيم التي ترسّخت في أذهان المسلمين واعتادوا عليها، وصار من الصعب حذفها، كمفهوم: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ »(3)؛ فإنّ التصدّي لتغييرها _ بشكل مباشر _ سيؤدّي إلى نتائج خطيرة، وهي معراج المؤمن(4)، والحجّ عبادة ووفاء(5)، والزكاة والخمس تمنع الطبقيّة

ص: 101


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج١، ص١١.
2- النساء: آية٧٦.
3- العنكبوت: آية٤٥.
4- اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٧٩، ص٣٠٣.
5- ورد عن أبي عبد الله علیه السَّلام، أنه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى لماّ أخذ مواثيق العباد، أمر الحجر فالتقمها؛ ولذلك يقال: أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته؛ لتشهد لي بالموافاة». الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج٤، ص١٨٤

والانحرافات الاقتصادية، والصوم تزكية وطهارة(1)، إلى غيرها من المبادئ الحقّة التي جاء بها الدين الإسلامي، كل هذه الأُمور ليس من السهل حذفها من الذهنيّة المسلمة؛ لأنّها ممارسات اعتاد عليها المسلمون؛ فيكون التصدّي لتغييرها بشكل مباشر مؤدّياً إلى نتائج عكسيّة في المعسكر الشيطاني.

من هنا؛ عمل معاوية _ وبجديّة _ مع إرشادات شيطانية(2) على تفريغ هذه المبادئ من روحها وحقيقتها، وجعلها ممارسات بلا هدف، بحيث تكون طقوساً خالية المعنى، ومجرَّد ممارسات فرديّة لا تصلح للوقوف بوجه الغايات والمشاريع المشؤومة، إلّا أنّ معاوية _ من جهة أُخرى _ لم يجرؤ على المساس بالمظاهر الإسلاميّة؛ حفاظاً على صورته من التشويه أمام الرأي العامّ بصفته أميراً للمؤمنين! لذلك نجده ينصح ابنه يزيد:

«انصب نهاراً في طلاب العُلى***واصبر على هجر الحبيب القريب

حتى إذا ال_ليل أت_ى بالدُجى***واكتحلت بالغمض عينُ الرقيب

ف__ب_اشر ال__ليل ب_ما تش_تهي***ف_إنّ_ما ال_ل_ي_ل ن_ه__ار الأري___ب

ك__م ف_اس__قٍ تحسب_ه ناسكاً***ق__د ب_اش_ر الليل بأمر عجيب»(3)

ص: 102


1- إشارةً إلى أنّ الصوم مدعاة إلى صحّة البدن وتخليصه من الأمراض، قال رسول الله|: «صوموا تصحّوا». المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٥٩، ص٢٦٧
2- مضافاً إلى مكر معاوية ودهائه، فقد اتّخذ له مستشارين يعينونه على حياكة المكائد، كسرجون بن منصور الرومي النصراني، وعمرو بن العاص. اُنظر: ابن خياط، خليفة، تاريخ خليفة بن خياط: ص١٧٣. والطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٤٣
3- ابن كثير، إسماعيل، البداية والنهاية: ج٨، ص٢٥٠.

ممارسات معاوية في تحريف المبادئ الإسلاميّة

إنّ الانحراف الذي حصل بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ولّد فراغاً كبيراً في مجالي الفقه والعقائد؛ مما فسح المجال واسعاً لمعاوية لملء هذه الفراغات، وتقنين ما يخدم مصالحه وغاياته من عقائد وأحكام، مستعيناً في ذلك ببعض الشخصيات الخاملة التي كانت لها سمعة صحبة النبي صلى الله عليه و آله أو من التابعين، أمثال: أبي هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعروة بن الزبير(1)، وغيرهم؛ فظهرت في هذه الحقبة انحرافات فكريّة خطيرة، كان لها التأثير البالغ على واقع الأُمّة الإسلاميّة، منها:

١_ جعل منصب الدين والمسائل الفقهيّة بمعزل عن منصب الحكم والسياسة، فمَن يريد الدين فعليه الذهاب إلى المسجد، وأمّا السياسة، فهي للأمير في قصره، وليس من حقّ الدين أن يتدخّل في أُمور السياسة(2).

٢_ نشر عقيدة الجَبْر، والتثقيف عليها، وأنّ الإنسان مجبور على عمله، وعليه

ص: 103


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج٤، ص٦٦، فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذمّ عليّ علیه السَّلام
2- وُضِعت أحاديث كثيرة لفصل الدين عن السياسة، روتها كتب العامّة، منها: ما اُدُّعي من أنّ حذيفة روى عن رسول الله| أنّه قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتُطيع للأمير، وإن ضرَبَ ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع». النيسابوري، مسلم بن الحجّاج، صحيح مسلم: ج٦، ص٢٠. وروي عن معاوية بن أبي سفيان يوماً، أنّه قال: «إني _ والله _ ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا؛ إنّكم لتفعلون ذلك. وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون». أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص٤٥.

التسليم لذلك، وحتى الحاكم، فهو مجبور لأن يحكم المجتمع، ولا يحقّ لأحد الاعتراض عليه؛ لأنّه مجبور، فظهرت الفتاوى التي تأمر بالصلاة خلف الحاكم سواء كان برّاً أم فاجراً؛ تبعاً للأحاديث التي وضعها الجهاز الإعلامي الأُمو(1).

٣_ تشويه عقيدة التوحيد، التي هي أساس العقائد الإسلاميّة؛ من خلال روايات التجسيم، وجعل الله تعالى جسماً له وجه ويد ورجل(2).

٤_ تشويه صورة أعظم شخصيّة في الإسلام، وهي شخصية الرسول محمد صلى الله عليه و آله ؛ بجعله يُخطئ ويشتبه كثيراً(3)، بل وينسى أكثر حتى من المعتاد(4)، بل ويمكن أن

ص: 104


1- أخرج الدارقطني والبيهقي في سننيهما، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله|، قال: «صلّوا خلف كلّ برّ وفاجر». الدارقطني، علي بن عمر، سنن الدارقطني: ج٢، ص٤٤. البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى: ج٤، ص١٩
2- وردت عدّة روايات في صحاح أهل السنّة، تُثبت بأنّ الله جسم، وله وجه ويد ورِجل، منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه في حديث طويل جاء فيه، أنّ الله سبحانه يقول لعباده يوم القيامة: «أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً. مرتين أو ثلاثاً؛ حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق، فلا يبقى مَن كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلّا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى مَن كان يسجد اتقاءً ورياءً إلّا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه، ثمّ يرفعون رُؤسَهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرّة». النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج١، ص١١٥_ ١١٦
3- روى مسلم في صحيحه: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقِّحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح. قال: فخرج شيصاً، فمرّ بهم، فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم». النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج٧، ص٩٥
4- ورد في نسيان النبي| _ في كتب أهل السنة _ ما روته عائشة، أنّها قالت: «سمع النبي رجلاً يقرأ في المسجد، فقال: رحمه الله؛ لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا».البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج٣، ص١٥٢. واُنظر: النيسابوري، مسلم بن الحجّاج، صحيح مسلم: ج٢، ص١٩٠

يذنب في بعض الأحيان، ويتداخله الشيطان، حتى أنّه يُغويه(1)، وإظهار الرسول صلى الله عليه و آله متسامحاً في أمر الدين من الحلال والحرام، كأنْ يسمع الغناء ويحضر مجالس اللهو(2)، والغريب أنّ الرسول صلى الله عليه و آله يرتدع عن مثل هذه الممارسات إذا جاء عنده أحد الخلفاء! والأغرب من ذلك أنّ ضاربات الطبول يخجلن ويرتدعن عن عملهن هذا إذا حضر الخليفة الثاني الحريص على أُمور الدين، ولم يعبأْن بحضور الرسول صلى الله عليه و آله من قَبل! والأشدّ غرابة أنّ الشيطان يخاف من هذا الخليفة ويهرب، ولكنّه مع وجود الرسول صلى الله عليه و آله يلهو ويلعب!!(3) إلى غيرها من الشواهد المبثوثة في صحاحهم، والتي

ص: 105


1- جاء في روايات أهل السنّة: «أنّ رسول الله| قرأ بمكة سورة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى»، ألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العُلى، وأن شفاعتهن لترتجى). قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم. فسجد وسجدوا. ثمّ جاءه جبرئيل بعد ذلك، قال: أعرض عليَّ ما جئتك به. فلمّا بلغ: (تلك الغرانيق العُلى وأن شفاعتهن لترتجى). قال له جبرئيل: لم آتك بهذا، هذا من الشيطان. فأنزل الله: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ...». السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الدرّ المنثور: ج٤، ص٣٦٦
2- أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن عائشة، قالت: «دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش، وحوَّل وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعهما. فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا». البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج٣، ص٢٢٨
3- أخرج الترمذي في سننه، بسنده عن بريدة، قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله، إنّي كنت نذرت _ إن ردّك الله سالماً _ أن أضرب بين يديك بالدفّ وأتغنّى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنتِ نذرت فاضربي، وإلّا فلا. فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثمّ دخل عليٌّ وهي تضرب، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب، ثمّ دخل عمر؛ فألقت الدفّ تحت استها، ثمّ قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر». الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج٥، ص٢٨٤

كان الهدف الأساس منها هو المساس بشخص الرسول صلى الله عليه و آله ؛ لأنّ بضربه تُضرب الرسالة الإسلاميّة.

٥_ نفي العدل الإلهي من خلال نفي مسألة الحُسن والقبح العقليين، وما يترتّب على ذلك من نتائج خطيرة على مستوى الفكر والعقيدة.

٦_ تزييف عقيدة المعاد، وإفراغها من محتواها وفلسفتها الوجوديّة، والغاية المتوخاة منها، بجعل المعاد والثواب والعقاب ليس على أعمال البشر واختيارهم، بل هو أمر بيد الله تعالى، ويمكن أن يدخل المطيع النار ولو كان نبياً، ويدخل العاصي والكافر الجنّة ولو كان شيطانيّاً، إلى غيرها من الانحرافات التي أسس لها معاوية من خلال جهازه الإعلامي الأجير الذي بناه على شراء الذمم، أو ممَّن حمل الحقد الدفين على الدين الإسلامي وأهله.

وبذلك يكون معاوية خَطَا الخطوة الأُولى _ في زمنه _ في محقّ الدين، من خلال ضرب محتواه وأهمّ ركائزه؛ وحينئذٍ سوف يسهل التخلّص من المظاهر الإسلاميّة بالكامل.

ولا نريد أن ندّعي أنّ معاوية لم يكن يمارس الفسق والفجور، بل مارسه بشدّة، ولكن في نطاق محدود ومع مُقَرَّبِي البلاط، كما في شربه الخمر(1)، أو إضافته أُموراً للدين ليست منه(2)، أو تجويزه ارتكاب المحرّم(3)، وغيرها من الأُمور.

ص: 106


1- اُنظر: ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بن حنبل: ج٥، ص٣٤٧. وابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج٢٧، ص١٢٧
2- الشافعي، محمد بن إدريس، كتاب الأُمّ: ج١، ص٢٠٨.
3- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، الدرّ المنثور: ج٢، ص١٣٧.

وبذلك يكون معاوية قد عبّد الطريق لخَلَفِهِ يزيد بأن يضرب ضربته القاضية؛ لينهي الدين الإسلامي الذي أنهكته الاختلافات والانحرافات الفكريّة والعقديّة، وأتعبته الطبقيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بحيث راح الفرد المسلم لا يتذوّق معنى أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أو أنّها معراج المؤمن، ولا يُدرك أنّ الصوم تزكية وطهارة؛ لأنّ الشريعة فقدت روحها ومضمونها في دولة معاوية.

الإعلان السافر لانتهاك حرمة الإسلام

بعد أن أخذ معاوية البيعة ليزيد، مبتدعاً بذلك طريقة جديدة في الحكم، وهي طريقة التوريث، والتي سار عليها مَن جاء بعده، محيياً بذلك سنن الجاهلية وحكومة الشيطان، وبعد أن هلك الطاغية معاوية، أصبح الطريق سالكاً أمام يزيد؛ ليحقق غاية الشيطان المعهودة.

من هنا؛ راح يزيد يرتكب أبشع الجرائم، وينتهك حرمة أعظم المقدّسات الإسلاميّة، ويقمع الرموز الدينيّة، ويتجاهر _ بشكل سافر _ بالفسق والفجور، وارتكاب أنواع المحرّمات، وترك الواجبات؛ فصار معروفاً بشرب الخمر، وعَقدِ مجالس اللهو والطرب، واللعب مع القردة والخنازير، وأصبحت هذه الممارسات شعاراً له، وراح يُعرَف بها، وعندما أراد أن يصفه الإمام الحسين علیه السلام وصفه بهذه الكلمات: «ويزيد رجلٌ فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، مُعلِنٌ بالفسق والفجور»(1).

ص: 107


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٤٤، ص٣٢٥. واُنظر: ابن أعثم الكوفي، أحمد، كتاب الفتوح: ج٥، ص١٤

وقد أكّد هذا المعنى جملة من المؤرِّخين بقولهم: وكان يزيد بن معاوية من المتّصفين بشرب الخمر واللهو والصيد(1)، بل إنّه فاسق مدمن الخمر(2).

وروى المسعودي أنّ يزيد «أقبل على ساقيه فقال:

اسقني شربةً ت__روي مُشاشتي***ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زياد

صاحب الس_رّ والأمانة عندي***وللتسديد مغنمي وجهادي

ثمّ أمر المغنّين فغنّوا به»(3).

ولم تقف ممارسات يزيد المنحرفة عند هذا الحدّ، وإنّما راح يظهر ما كان يضمر من كفر وإلحاد وحقد على بيت الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ، فها هو يتمثّل بهذه الأبيات _ بعد قتل الإمام الحسين علیه السلام _:

«ليت أشياخي ببدر ش_هدوا***جزع الخزرج من وقع الأس_ل

لأه_لّ_وا واس_ت_ه_لّ_وا فرحاً***ث_مّ ق_ال_وا ي__ا ي_زيد لا تُشل

لستُ من خندف إن لم أنتقم***م_ن بني أحم_د ما كان فعل»(4)

وفي نقل آخر _ في ضمن هذه الأبيات _ قال:

«لع_ب_ت ه_اشم بالمُلك فلا***خبر جاء ولا وحي نزل»(5)

ص: 108


1- اُنظر: الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين، تاريخ الإسلام: ج٥، ص٥.
2- الأتابكي، ابن تغري بردي الحنفي، النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة: ج١، ص١٦٣
3- المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج٣، ص٦٧.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٤٥، ص١٥٧.
5- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٨، ص١٨٨.

فلم يكن يعتقد بدين ولا شرع، بل كلّ ما عنده هو الحقد الدفين على أحمد وآله الطاهرين.

حالة المجتمع الإسلامي قَبل النهضة الحسينيّة

انطلاقاً من القول المعروف: (الناس على دين ملوكهم)؛ فإنّ الحالة التي كان يمرّ بها المجتمع الإسلامي حالة مزرية جداً، فقد كان المجتمع في تيه فكري، وضلال عقدي، وفراغ فقهي، صار الانحراف هو الأصل، والمؤمن غريب في الوسط الإسلامي، ذلك الإسلام الذي أفرغه معاوية من محتواه، وحرَّف مبادئه وقتل روحه، إلى أن جاء دور الابن الفاجر يزيد؛ ليُعلن النهاية العمليّة والظاهريّة لهذا الدين الخاتم، وبذلك تتحقق غاية الشيطان في الأرض: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ »(1)، منتقماً بذلك من جميع الأنبياء والأوصياء الذين يمثّلون خطّ الرحمن على هذه البسيطة.

وها هو المسعودي _ المؤرِّخ المعروف _ يصف حالة المجتمع في تلك الأيام المظلمة بقوله: «وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستُعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الخمر، وكان له قرد _ يُكنى بأبي قيس _ يُحْضِرُه مجلس منادمته، ويطرح له متكأ...»(2).

وهذا يعكس الفجوة الكبيرة التي حصلت بين المجتمع الإسلامي ومبادئ الدين الحنيف.

ص: 109


1- سورة ص: آية٨٢_٨٣
2- المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج٣، ص٦٧.

رياح التغيير

وفي خِضَمِّ هذه الأحداث، وهذه الوقائع المؤلمة التي كان يمرّ بها المجتمع الإسلامي _ آنذاك _ أعلن الإمام الحسين علیه السلام ثورته الخالدة بوجه هذا الواقع المرير، وضد هذه الأحداث المؤلمة والانحرافات الخطيرة والكبيرة، التي لا تميّز بين الموافق والمخالف، ولا بين الموالي وغيره، بل هدفها الأصلي ضرب الدين ومحو رسالة ربّ العالمين.

ومن هنا؛ جاءت كربلاء الكرامة لتعلن للعالم ضرورة الحفاظ على المبادئ الإسلاميّة والقيم الدينيّة، والأحكام الشرعية؛ حفظاً لخاتم الأديان الذي هو آخر مشعل لهداية البشرية، وبذلك يتجلّى القول المشهور للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّ الحسين علیه السلام : «مصباح هدًى وسفينة نجاة»(1)، فقد حذّر الإمام الحسين علیه السلام _ من خلال شعارات ثورته المباركة، ومن خلال خطبه العديدة _ من الخطر العظيم الذي كان يحوم حول الأُمّة وقِيَمها، فقال: «...وإنّي لم أخرُج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي...»(2)، ومبيّناً الممارسات المنحرفة والضالّة التي كان يمارسها يزيد بن معاوية، بقوله: «...ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»(3)، ومشجعاً المسلمين على النهضة والانتفاضة بوجه هذه الانحرافات والضلالات.

ص: 110


1- الصدوق، محمّد بن علي، عيون أخبار الرضا علیه السَّلام: ج١، ص٦٢.
2- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٤٤، ص٣٢٩.
3- المصدر السابق: ج٤٤، ص٣٢٥.

الإصلاح الحسيني

إنّ الإصلاح الذي كانت تسعى إليه كربلاء على مستويين:

المستوى الأول: الإصلاح الداخلي في البيت الشيعي الذي يحمل المبادئ الصحيحة، والعقائد الحقّة القويمة؛ لتقديمها إلى المسلمين بشكلها الصحيح، فنرى الشيعة استطاعوا _ ومن خلال الاستهداء بنور الإمام الحسين علیه السلام _ أن يقدِّموا للعالم الإسلامي الوجه الحقيقي للإسلام وتعاليمه السمحاء المتمثّلة برفض الظلم والخنوع، وفي الوقت نفسه العمل على لَمّ شمل المسلمين وصيانة وحدتهم، وهذا ما ينطق به كلّ منبر حسيني، وتنادي به كلّ حُسينيّة شامخة، ويشهد بها كل خطيب ألمعي.

نعم، إن لم نقل: كلّ ما عندنا من الحسين علیه السلام ، فلا أقلّ جُلّ ما عندنا منه علیه السلام .

فاليوم، صوت المنبر الحسيني يعلو في كلّ بقاع العالم، والمعالم الحسينيّة منتشرة في أرجاء المعمورة، وهذا هو انتصار الدم على السيف، وانتصار الحقّ على الباطل، وما كلّ هذا إلّا ثمرة من ثمار تلك النهضة العظيمة.

المستوى الثاني: الإصلاح العامّ، والحفاظ على المظاهر الإسلاميّة في المجتمع الإسلامي بصورة عامّة، فإنّ النهضة الحسينيّة قد حافظت على تلك الظواهر ومنعتها من الاندراس، وهذا يعني أنّ عطاء هذه النهضة المباركة لم يقتصر على دائرة الخواصّ من الشيعة الموالين، بل إنّ عطاءها أثرى البيت الإسلامي ككلّ، ومنع المخطط الشيطاني الذي كان يسعى لمحو الدين.

ص: 111

فإن قال القائل: ما أهمية حفظ المظاهر والشعارات إذا كانت المبادئ محرَّفة، وروح القيم مغيّبة؟

فيمكن الجواب عن ذلك: بأنّ الحفاظ على هذه الأُمور له الأهمّية البالغة في موارد عديدة، لعلّ من أهمّها:

١_ إنّ حفظ المظاهر والشعارات الدينيّة يُساهم في الحفاظ على الدين من الانحراف بالكامل عن قواعده وأساسياته ومبادئه؛ فإنّ تغيير روح تلك المبادئ والقوانين وتفريغها من محتواها وواقعها، وإن كان بدرجة من الخطورة والسلبية، إلّا أنّه لا يمكنه إزالة الدين من الأساس؛ لذلك نجد أنّ الخطّ الشيطاني يرى أنّ ما قام به معاوية لم يكن مكتملاً، فسعى جاهداً لتكميله من خلال موبقات يزيد ولهوه وانحرافاته، إلّا أنّ النهضة الحسينيّة كانت المانع الأكبر من تحقيق هذه الغايات الشيطانية المشؤومة.

٢_ مع الحفاظ على هذه المظاهر والشعارات سوف تكون الدائرة التي يمكن أن يتحرّك فيها المؤمنون أوسع، وإمكان الحفاظ عليهم ورعايتهم، وتسهيل أُمورهم وممارسة أعمالهم يكون أفضل ممّا لو لم تكن هذه المظاهر من الأساس؛ فإنّ المؤمنين تكون غربتهم أقلّ في مثل هذه الأوساط.

٣_ إنّ كلّ مظهر من تلك المظاهر الدينيّة يحمل في واقعه روحاً من الدين، ومعنى من معانيه وإن كان ضئيلاً، إلّا أنّه _ بالنتيجة _ يُعتبر صاحبه معتَنِقاً لذلك الدين، وهو يشكّل رقماً في قبال الديانات الأُخرى، وهذه نقطة إيجابيّة ومهمّة أيضاً.

ص: 112

٤_ إنّ مَن كانت عنده تلك المظاهر فهو للهداية أقرب من غيره؛ لأنّه _ على كلّ حال _ قد خطا الخطوة الأُولى على الطريق الصحيح، أو لا أقلّ لا يتطلّب منه الأمر_ عند إرادته الهداية _ كثيراً من التغيير الظاهري، وهذه النقطة مهمّة جداً، خصوصاً عند ملاحظة حالات الاستبصار لمئات الآلاف من المعتنقين الجُدد لخط أهل البيت علیهم السلام الذي يمثِّل الإسلام الحقّ.

إلى غير ذلك من الفوائد المهمّة لهذه المسألة.

كسب الرأي العامّ

إنّ التغيير لا يمكن أن يتحقق إلّا من خلال كسب الرأي العامّ أو تغييبه، والأول: هو عادة المصلحين وقيادات طريق الخير؛ فإنّهم دائماً يسعون إلى كسب الرأي العامّ من خلال الإرشادات والمواعظ الحسنة، وبيان الأدلّة الخطابية أو البرهانيّة لعموم الناس.

والثاني: هو أُسلوب قيادات الشرّ، وأتباع الشيطان الذين طالما يؤكّدون ويحرصون على تغييب الرأي العامّ وتجهيله، أو ظلمه وإقصائه؛ حتى تتسنّى لهم الفرصة لتمرير مآربهم الشيطانيّة.

وعادة ما يكون كسب الرأي العامّ من أحد طريقين:

الأول: من خلال السيطرة الثقافية، وحرّية البيان، ونشر الحقائق وبيانها بوجهها الناصع، عِبْرَ عرض الأدلّة والبراهين، وكما هو واضح، فإنّ هذا الطريق لكسب

ص: 113

الرأي العامّ لم يكن ميسوراً للإمام الحسين علیه السلام ؛ لأنّ السلطة _ وقتئذٍ _ كانت ظالمة حاقدة متهتّكة، ولا تسمح بالتنوير وهداية الآخرين بأي وجهٍ كان.

الثاني: من خلال المظلوميّة والمأساة، فإنّ مثل هذه الحالات لها التأثير البالغ في كسب الرأي العامّ؛ وذلك لأنّ المظلوميّة تُثير المشاعر والأحاسيس، وإذا هاجت المشاعر تحرّكت النفس بالسؤال عن الأسباب والدوافع، وإذا جاء السؤال أمكن للمعرفة أن تأتي، وأمكن للنور أن ينتشر، وللجاهل أن يتعلَّم، ومع العلم يتحرّك الرأي العام وسواد الأُمّة، نافضاً غبار سُباته، محاولاً الوقوف بوجه الانحراف والانحطاط، والحدّ من الوقوع في مستنقعات الضلال.

ومن هنا؛ نجد أنّ كربلاء حملت في كل لحظة منها مأساةً ومظلوميّةً، وفي كلّ موقف صورةً مفجعةً وحزينةً، وكلّما وقفنا على مقطع نجده هو الأعظم مظلوميّةً والأشدّ مأساةً، وكلّما تحوّلنا إلى صورة أُخرى في كربلاء نجدها الأعظم والأشدّ؛ فإنّ المظلومية في كربلاء، والمأساة في عاشوراء لم تقتصر على صنف معين من الناس، بل شملت جميع الطبقات، رجالاً ونساءً، وشيوخاً وأطفالاً، وسادةً وعبيداً، فكانت في خطاهم ومواقفهم أعظم صور التضحية والفداء، والوفاء والشجاعة، والغيرة والكرم، والمنافسة على الخير، والإخلاص في العبادة، وحُسن الطاعة.

فما أجمل صورة العباس علیه السلام وهو واقف في وسط ماء الفرات متذكِّراً عطش الإمام علیه السلام ! وما أجمل صورة علي الأكبر_ وهو شبيه المصطفى خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً _ وهو يقاتل ويستشهَد بين يدي إمامه وأبيه! وكم هي رائعة صورة (العريس) الشاب، وهو مخضّب بدمه الطاهر! وما أروع صورة عبد الله الرضيع، ودمه النازف من نحره،

ص: 114

يُرمى إلى السماء فلا يسقط إلى الأرض! وكم يحتار العقل ويتيه الفكر ويقف عاجزاً عندما يسمع صوت الإمام المظلوم: «إلهي خذ حتى ترضى»! وكم هي الصور جميلة، وكم هي كثيرة، وكم هي عظيمة زينب، وهي تقول: «ما رأيت إلّا جميلاً»(1)!

ثمار كربلاء

إنّ كربلاء بعد أن غيّرت الرأي العامّ، وكان لها الأثر البالغ على الساحة الإسلاميّة، قد تدلّت أغصانها وأينعت ثمارها وأتت أُكُلها، ومن تلك الثمار المباركة:

١_ كسر حاجز الخوف وهاجسه، وسحق هيبة الدولة التي فرضها معاوية بالقوّة والعنف، وبالترهيب والترغيب والتزوير والخداع؛ لذلك تعالت الأصوات الرافضة لسياسة بني أُميّة، واشتدّت أكثر فأكثر، ونتج عن ذلك ثورات عديدة قوّضت حكم بني أُميّة، وزلزلت عروشهم، من قبيل: ثورة التوابين، وثورة المختار، وثورة زيد بن علي علیه السلام ، وغيرها من الثورات التي قادها نبلاء الأُمّة وأبطالها، والتي تعكس الوعي الذي خلّفته النهضة الحسينيّة في أوساط الأُمّة الإسلاميّة.

٢_ التغيير الثقافي الذي أحدثته كربلاء؛ فإنّ هذه النهضة المباركة فضحت الممارسات الخبيثة التي كان عليها يزيد اللعين، وبيّنت بأنّه قاتلٌ مجرمٌ، لم يراعِ حتى حرم رسول الله صلى الله عليه و آله ، وهو نبي هذه الأُمّة، والرسول الذي جاء بهذا الدين الحنيف، ورسالة الإسلام الخالدة، وبتبع ذلك _ ومن خلال الشعارات التي رفعتها هذه النهضة المباركة _ وثِّقت ممارسات يزيد غير الأخلاقية؛ الأمر الذي أدّى بكثيرمن

ص: 115


1- الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص٧١. والمجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٤٥، ص١١٦

أبناء السنّة ومن متعصبيهم إلى ذمّ يزيد ولعنه، وتوثيق جرائمه وفسقه وفجوره، فها هو ابن الجوزي _ وهو معدود من المتعصبين _ قد ألّف كتاباً في ذمّ يزيد ولعنه، وأسماه: (الردّ على المتعصب العنيد المانع من ذمّ يزيد)، وكان الدليل الأبرز عنده في ذمّ يزيد ولعنه، هو ما ارتكبه هذا المجرم في يوم عاشوراء، من قتل سبط النبي المصطفى صلى الله عليه و آله ؛ حيث روى في كتابه هذا: «وُضِع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة، فجعل يزيد ينكت بالقضيب على فيه، ويقول: نفلقن هاماً... فقال أبو برزة: ارفع قضيبك؛ فوالله، لربما رأيت فاه رسول الله صلى الله عليه و آله على فيه يلثمه»(1).

وروى في موضع آخر: «جيء برأس الحسين بن علي، فوُضِع بين يدي يزيد بن معاوية، فتمثّل بهذين البيتين:

ليت أشي__اخي ببدر ش_هدوا*** ج_زع الخزرج م_ن وقع الأس_ل

لأه_لّ_وا واس_ت_ه_لّ_وا فرحاً***ث_مّ ق_ال_وا ي__ا ي_زيد لا تُشل»(2).

إلى غيرها من الشواهد التي يذكرها ابن الجوزي، الموجِبة لذمّ يزيد ولعنه، وهي وقائع وثّقها مؤرِّخو الأُمّة الإسلاميّة بمختلف اتجاهاتهم، أمثال: الطبري في تاريخه، وابن مسعود في تاريخه، وابن الأثير في الكامل، وابن كثير في البداية والنهاية، وغيرهم؛ الأمر الذي يعكس الفضيحة التي تعرّض لها يزيد بن معاوية، وكلّ مَن تبع أو يتبع سياساته، ولم يبقَ مجال لأتباع الخطّ الأُموي للدفاع عن قائدهم يزيد إلّا النفي والإنكار، ولم يمكنهم القبول؛ وذلك لأنّ دم الحسين علیه السلام لا يمكن أن يُباح،

ص: 116


1- ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، الردّ على المتعصب العنيد المانع من ذمّ يزيد: ص٥٨
2- المصدر السابق: ص٥٩.

ولا يرضى أي فرد من المسلمين بإراقته وهتكه، مهما كان اتجاهه وعقيدته ومذهبه، فدم الحسين علیه السلام كان العقبة الكبرى التي لم يتمكّن الخطّ الأُموي والمدّ الشيطاني أن يتخطّاها ويَعبُرها، فما بقي لهم إلّا النفي والإنكار، وهو الأمر الذي برع فيه ابن تيمية كعادته في نفي الواضحات وإنكار الثابتات، فنفى مثل هذه الجرائم عن سيّده يزيد(1).

وبذلك كانت كربلاء الرافد الأعظم في دعم المسيرة الإسلاميّة، سواء في الوسط الشيعي الخاصّ أم على المستوى الإسلامي العامّ؛ فإنّ هذه النهضة المباركة دعمت مبادئ الإسلام وقِيَمه وثبتتها، وجعلت مشعل الهداية الإلهية متوهجاً ومُشِعّاً في الأرض، وعلى مدى الدهور والأعصار، وكذلك حافظت على مظاهر الدين الإسلامي وشعاراته ولافتاته، وكانت المانع القوي والدرع الحصين في وجه سياسة الشيطان، التي كان يؤدّيها بنو أُميّة لضرب المبادئ الإسلاميّة والمظاهر الدينيّة؛ للقضاء على آخر سبل الهداية الإلهية:«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2)

فكان الإسلام محمديّ الوجود حسينيّ البقاء، وتجلّت _ بوضوح _ مقولة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله : «حسين مني وأنا من حسين»(3).

ص: 117


1- اُنظر: ابن تيمية، منهاج السُنّة: ج٤، ص٥٥٧.
2- التوبة: آية٣٢.
3- الكوفي، ابن أبي شيبة، المصنّف: ج٧، ص٥١٥. الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج٣، ص١٧٧

ص: 118

دِرَاسَاتٌ في تاريِخ وَتُرَاثِ النَهضَةِ الحُسَينِيَّة

اشارة

*نجوم في سماء الحسين علیه السلام

*الخرافة والتحريف ودعوى وقوعهما

في الشعائر الحسينية

*الإمام الحسين علیه السلام

في تراث الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

*مقتل الأصبغ بن نباتة التميمي الكوفي

أقدم المقاتل الحسينية

ص: 119

ص: 120

نجوم في سماء الحسين علیه السلام

عبد الله بن يقطر وقيس بن مُسهَّر الصيداويد. السيد حاتم البخاتي

اشارة

لم يقتصر عطاء الشهادة في النهضة الحسينية على ما قدمته من قرابين في عرصات كربلاء في اليوم العاشر من المحرم، بل كان هناك شهداء أبرار كتبوا أسماءهم في هذا السفر الخالد بمداد دمائهم الزاكية، وأبوا إلّا أن يكون لهم هذا الشرف والسؤدد الذي لا يضارعه شرف آخر، فسقطوا شهداء في سبيل نهضة الحسين علیه السلام في الكوفة على يد عبيد الله بن زياد وجلاوزته، والحسين بأبي وأمي ما زال في طريقه إلى كربلاء.

إن الشهداء الذين استُشهدوا قبل واقعة عاشوراء الدامية باستثناء الشهيد مسلم بن عقيل وهاني بن عروة لم يأخذوا حقهم من التبجيل والتأبين والذكر الجميل، وإن كانوا في غنى عنه، بعد تبجيل الله سبحانه وتقديره لهم، وعدم تسليط الأضواء عليهم لعل مردّه إلى أن وهج عاشوراء الساطع وما حصل فيه من مآس ومآثر تُذهل كل شخص وتشغله عن غيره من الأحداث.

ص: 121

ولكن الواجب يحتم علينا أن نقف إجلالاً وتقديراً لهؤلاء الأفذاذ والقمم الشامخة في البذل والعطاء؛ لسببين مهمين:

أولهما: أنّ من سمات الأُمم الحية والمتطورة هو تقديرها واحترامها لعظمائها والمضحين والباذلين أنفسهم في سبيل المبادئ التي يؤمنون بها؛ لإدامة زخم هذا العطاء عند الأجيال اللاحقة وإبقاء جذوته متّقدة.

وثانيهما: وفاءً منّا للدَّين الذي في أعناقنا لهؤلاء الشهداء الأبرار، الذين ضحوا لأجل الدين، ولولا تضحياتهم الجسام لما وصل إلينا هذا الدين نقيَّاً مصاناً من كيد الأعداء والمضلّين.

ومن بين شهداء النهضة الحسينية المباركة _ الذين رووا شجرة التضحية بدمائهم _ هما الشهيدان عبد الله بن يقطر الحميري، وقيس بن مُسهَّر الصيداوي.

إن الذي دعانا للحديث عن هذين الشهيدين مجتمعين هو التشابه الكبير بين قصتي استشهادهما من جانب، وحصول الخلط والتردد وعدم الجزم عند كثير من المؤرخين وأصحاب السير في أحداث قصتيهما من جانب آخر؛ فإن هناك اختلافاً كبيراً وخلطاً عجيباً بين قصتي هذين الرجلين، بل قد تجد في الكتاب الواحد قصتين مختلفتين عن أحدهما، وسوف نحاول التوفيق بين هذه الأقوال والخروج برؤية موحدة.

التعريف بالشهيدين
١_ عبد الله بن يقطر

لا تتوافر معلومات كافية عن نسبه وقبيلته ونشأته سوى نُتف هنا وهناك، فقد

ص: 122

تحدث قطب الدين الراوندي عنه قائلاً: «عبد الله بن يقطر بن أبي عقب الليثي، من بني ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة»(1)، وكان من موالي أهل البيت علیهم السلام ؛ فأبوه يقطر كان خادماً عند رسول الله صلى الله عليه و آله ، وأُمه ميمونة تعمل في بيت أمير المؤمنين علیه السلام (2).

وأهم ما اشتهر به عبد الله هو كونه رضيع الحسين علیه السلام ، وهو ما جاء في مصادر عديدة(3)، من جهة أن أُمه ميمونة قد ولدته قبل ولادة فاطمة’ الحسين بثلاثة أيام؛ فيبدو أنها أرضعت الحسين مع ابنها(4)، كما أرضعته علیه السلام أُم الفضل لُبابة بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب(5)، ولكن بعضاً يرفض أن يكون الحسين علیه السلام قد رضع من ثدي امرأة أُخرى غير أُمه فاطمة’ وإبهام رسول الله صلى الله عليه و آله . وميمونة وأُم الفضل إنما تولتا حضانته وتربيته؛ فجاز أن يُعدّا ممن أرضع الحسين علیه السلام (6).

وقد ذكره ابن حجر من الصحابة(7)، فيكون ممن رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمع حديثه، وهو أمر ليس ببعيد؛ لأنه كان قرين الإمام الحسين علیه السلام في السن؛ ولذا يعبر عنه: لدة الحسين، واللدة مثلك في السن(8).

ص: 123


1- الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج٢، ص٥٥٠.
2- السماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين علیه السَّلام: ص٩٣. السيد البراقي، تاريخ الكوفة: ص٣٢١_٣٢٤
3- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٥٩. ابن حبان، الثقات: ج٢، ص٣١٠. الشيخ الطوسي، رجال الطوسي: ص١٠٣. ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٤٣. ابن حجر، الإصابة: ج٥، ص٨. ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج٣، ص٣٤٦. وغيرها من المصادر
4- السيد البراقي، تاريخ الكوفة: ص٣٢١.
5- ابن نما الحلي، مثير الأحزان: ص ٧.
6- السيد البراقي، تاريخ الكوفة: ص٣٢١. السماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين علیه السَّلام: ص ٩٣
7- ابن حجر، الإصابة في تميز الصحابة: ج٥، ص٨.
8- الخليل الفراهيدي، العين: ج٨، ص٧١.

ويبدو أن عبد الله بن يقطر كان من حواريي الإمام الحسين علیه السلام والمقربين لديه وموضع ثقته واعتماده؛ فقد وقع عليه اختيار الإمام لحمل رسالته إلى أخيه وابن عمه مسلم بن عقيل، كما أنه حاز على درجة سامية في الإيمان واليقين أهّلته لتحمُّل هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر.

بقي أن نُشير إلى أن هناك خلافاً في ضبط اسم والده، فهل هو بالباء أم بالياء؟ والراجح أنه يقطر بالياء، كما ورد في أكثر المصادر(1)، وضبطه العلامة في الخلاصة، قائلاً: «عبد الله بن يقطر، بالقاف الساكنة بعد الياء المنقطة تحتها نقطتين، والطاء المهملة، والراء»(2)، ومثله النراقي في عوائد الأيام(3).

نعم، ورد في بعض المصادر أن اسمه عبد الله بن بقطر بالباء(4).

قيس بن مُسهَّر الصيداوي

وهو من خُلّص أصحاب الإمام الحسين علیه السلام ومن رُسل أهل الكوفة الأوائل الذين وفدوا على الحسين بالكتب والرسائل التي تدعوه للقدوم إلى الكوفة؛ فإن أهل الكوفة، بعد أن أرسلوا أول كتاب لهم مع عبد الله بن مسمع الهمداني وعبد الله

ص: 124


1- المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٧٠. الطوسي، رجال الطوسي: ص١٠٣. الراوندي، قطب الدين الخرائج والجرائح: ج٢، ص٥٥٠. ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٣٢. ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج٣، ص٣٤٦
2- العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: ص١٩٢.
3- المحقق النراقي، عوائد الأيام: ص٨٦٧.
4- ابن حبان، الثقات: ج٢، ص٣١٠. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠٠. ابن كثير، البداية والنهاية: ج٨، ص١٨٢. وغيرها من المصادر

بن وال، وأمروهما بأن يُسرعا، فخرجا مُسرعَين حتى قدما على الحسين علیه السلام بمكة، لعشر مضين من شهر رمضان، لبثوا يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مُسهَّر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وعمارة بن عبد السلولي إلى الحسين علیه السلام ، ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة(1).

وقيس هو ابن مُسهَّر بن خليد، بن جندب بن منقذ، بن جسر بن نكرة، بن نوفل بن الصيداء(2)، من قبائل بني أسد، والصيداوي نسبةً إلى الصيداء، وهي بطن من أسد، ويبدو من ثنايا أحداث قصته أنه كان في الذّروة العالية من درجات الإيمان والإخلاص، كما يصفه بذلك الميرزا النور(3).

واستجابة من الحسين علیه السلام إلى مطالب أهل الكوفة وكتبهم بعث إليهم أخاه وابن عمه وثقته من أهل بيته مسلم عقيل، وأختار معه قيس بن مسهر؛ لعلمه بشجاعته وإخلاصه وخبرته مع بعض الصحابة المخلصين، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجَّل إليه بذلك. فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول الله وودّع مَن أحب من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به يتنكَّبان الطريق، فضلّا وأصابهم عطش شديد؛ فعجزا عن السير، فأومآ له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك، فسلك مسلم ذلك السنن ومات الدليلان عطشاً. فكتب مسلم بن عقيل من الموضع المعروف بالمضيق مع قيس بن مسهر، يُخبره بالأمر ليرى رأيه، فكتب إليه الإمام علیه السلام يأمره بالمضي قُدماً في مهمته(4).

ص: 125


1- اُنظر: المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٣٧.
2- البلاذري، أنساب الأشراف: ج١١، ص ١٦٤. ابن حزم، جمهرة أنساب العرب: ص١٩٥
3- النوري، ميرزا حسين، خاتمة المستدرك: ج٨، ص٣٢٦.
4- اُنظر: المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٣٩_٤٠. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٦٣–٢٦٤

يتبيَّن لنا من الكلام المتقدم _ الذي أورده الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبري في تاريخه _ أن قيساً هو مَن حمل رسالة مسلم إلى الإمام يُخبره بموت الدليلين، وما تعرّضوا له من أهوال، ولكن لم يخبرانا صراحة عن الشخص الذي أرسله الإمام حاملاً ردّه على كتاب مسلم، فهل هو قيس بن مُسهَّر أيضاً، مما يعني أنه قد رافق مسلماً إلى الكوفة(1)، أم أنه شخص آخر وأن الإمام علیه السلام قد استبقى قيساً معه في مكة؟ وهذا ما سنتناوله بشيء من البحث لاحقاً إن شاء الله.

بعد أن بدأ مسلم بن عقيل رحلته من مكة إلى الكوفة سفيراً للإمام في مهمة تاريخية عظيمة، كان لابد له من التواصل مع القيادة الشرعية المتمثلة بالإمام علیه السلام ، وإطلاعه على ما يحصل له وما يُعاينه عن كثب من أُمور، ويأخذ رأيه في ذلك، كما أن الإمام علیه السلام كان ينتظر ما يأتي من أخبار الكوفة ويحتاج إلى التواصل مع سفيره وقواعده بشكل متوال، فكان لا بد له من قناة للاتصال، وهو ما يتم عبر الرسائل والكتب التي ينقلها الأشخاص بين الطرفين، وفعلاً فقد حصلت مراسلات بين مسلم بن عقيل وبين الإمام علیه السلام ، شارك في حملها اثنان من خُلّص أصحاب الإمام والمتفانين في الدفاع عن عقيدتهم، ولا يخشون ما يصيبهم في سبيل ذلك، وإن كلفهم حياتهم.

وهذان الرسولان هما: الشهيدان عبد الله بن يقطر، وقيس بن مُسهَّر الصيداوي رضوان الله عليهما.

وقبل أن نعرف مهمة كل واحد من هذين الشهيدين، وما هي الرسالة أو الرسائل التي كُلّفا بحملها نروم التفصيل شيئاً ما في الرسائل المتبادلة بين مسلم بن عقيل والإمام الحسين علیه السلام ، وبعدها نعمل على تشخيص مهمة كل منهما.

ص: 126


1- ذهب إلى هذا الرأي السماوي في كتابه إبصار العين في أنصار الحسين، ص١١٢
المراسلات بين الإمام الحسين علیه السلام ومسلم بن عقيل

بالاعتماد على ما وصل إلينا من روايات وأخبار وبعض الأقوال والنقولات يمكننا أن نتصور ستّ أو خمس رسائل متبادلة بين الإمام علیه السلام ومسلم بن عقيل، سنتعرض إليها بغض النظر عمّن كان يحمل هذه الرسائل:

الرسالة الأُولى: وهي الرسالة التي أرسلها مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين علیه السلام ، وهو في الطريق إلى الكوفة، بعد أن هلك الدليلان ونجا مسلم ومَن معه، فبعث برسالة يخبره الخبر ويطلب منه أن يعفيه من المهمة، وجاء في هذا الكتاب «أما بعد، فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلّا واشتدَّ علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء، فلم ننجُ إلّا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيّرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام»(1).

ونحن نتحفَّظ على ما جاء في مضمون هذه الرسالة، من أن مسلماً يتطيّر ويتشاءم، مع ورود روايات عديدة تنهى عن التطير والتشاؤم، ومسلم بن عقيل هو ربيب بيت الوحي والرسالة، فمن البعيد جداً أن تصدر منه مثل هذه الأُمور، كما يُستبعد أيضاً أن يطلب إعفاءه من هذه المهمة الرسالية لخوف أو شيء آخر، وهو الذي ضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والبسالة، وهو يقاتل بمفرده قوات كبيرة في الكوفة حين تخلّى عنه أهلها وأسلموه إلى جلاوزة عبيد الله بن زياد.

ص: 127


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٦٣. المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٣٩_٤٠

الرسالة الثانية: وهي الرسالة الجوابية التي بعثها الإمام علیه السلام ردّاً على رسالة مسلم التي ذكرناها آنفاً، وورد في هذه الرسالة الثانية: «أمّا بعد، فقد خشيت ألاّ يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلّا الجبن، فامض لوجهك الذي وجهتك له، والسلام عليك»(1). ولنا ملاحظة أيضاً على مضمون هذه الرسالة التي ربما يتناقض مضمونها مع ما قاله الإمام علیه السلام بحق مسلم بن عقيل، حين بعثه إلى أهل الكوفة قائلاً: «وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي»(2)، فإذا كان مسلم بن عقيل ثقة الإمام _ وهو كذلك _ فكيف تهتزّ هذه الثقة بتلك السرعة؟!

الرسالة الثالثة: وهي عبارة عن الكتاب الذي جاء من مسلم بن عقيل بعد اطّلاعه على الأوضاع في الكوفة، ورأى أن الأُمور تسير في صالح الثورة على الدولة الأُموية، كتب إلى الإمام: «إن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف رجل، فأقدم؛ فإن جميع الناس معك، ولا رأي لهم في آل أبي سفيان»(3).

وفي نص ابن أعثم في الفتوح: أن عدد مَن بايعه من أهل الكوفة نيف وعشرون ألفاً(4). وهذا الكتاب لا بد أنه قد وصل إلى الإمام الحسين علیه السلام وهو لا زال في مكة؛ طبقاً للمصادر الكثيرة، وأن مسلماً بعثه قبل استشهاده بسبعة وعشرين يوماً(5)، واستُشهد مسلم بن عقيل لثلاث خلون من ذي الحجة(6)، فيمكن أن يكون قد بعثه

ص: 128


1- المصدر السابق.
2- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٤٢.
3- الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص٢٤٣. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٨١. وقريب منه ما نقله البلاذري في الأنساب: ج٣، ص١٦٧. إلا أنه لم يذكر عدد المبايعين
4- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج٥، ص٤٠.
5- المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٧٠.
6- الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص٢٤٢.

في أوائل ذي القعدة. وعلى إثر هذا الكتاب بعث الإمام برسالة جواباً عنه، وهو في طريقه إلى الكوفة، بينما الذي ورد في الفتوح ومقتل الخوارزمي والمناقب(1) أن ابن زياد استطاع الحصول على هذا الكتاب قبل وصوله إلى الحسين. وهذا خلاف المشهور تاريخياً، وسيأتي مزيد من الحديث لاحقاً.

الرسالة الرابعة: وهي من أشهر الرسائل وأكثرها تداولاً في المصادر التاريخية، وهي التي عنونها الإمام الحسين علیه السلام إلى أهل الكوفة عموماً، وليس إلى مسلم بن عقيل فقط، وذلك عندما وافاه كتاب مسلم يخبره فيه بأن أهل الكوفة قد بايعوه، وأن الناس كلهم معه، وليس مع بني أُمية، فكتب الإمام علیه السلام : «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو.

أما بعد: فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبر فيه بحُسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا(2) في أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه. والسلام عليكم ورحمة الله»(3). وكتب هذا الكتاب قبل وصول خبر مقتل مسلم إليه علیه السلام ، وذلك عندما بلغ الحاجز من بطن الرمة، وذكر ذلك في الكتاب، كما

ص: 129


1- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج٥، ص٤٥. الخوارزمي، مقتل الحسين علیه السَّلام: ص٢٩٣_٢٩٤. ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٤٣
2- أي: أسرعوا.
3- المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٧٠. البلاذري، أنساب الأشراف: ج٣، ص١٦٧. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٩٧

ينقل الدينوري «... وكتابي إليكم من بطن الرمة، وأنا قادم عليكم...»(1)، والحاجز من بطن الرمة منزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، بها يجتمع أهل الكوفة والبصرة(2).

الرسالة الخامسة: وهي رسالة محتملة لا توجد عليها أدلة وشواهد واضحة، وفحوى هذه الرسالة هي أن مسلم بن عقيل بعد أن رأى انقلاب الأوضاع في الكوفة، وحصول الانهيار السريع والمفاجئ في القاعدة العريضة التي التفَّت حوله، ولم يبقَ له في الكوفة من نصير، أشفق على الركب الحسيني المبارك القادم إلى الكوفة، ومسلم رضوان الله عليه يشعر أنه أحد أسباب هذا القدوم حين كتب إلى الإمام يحثُّه على الإقبال سريعاً، فهنا أراد أن يُخبره بما آلت إليه الأُمور حتى لا يعرّض نفسه وأهل بيته إلى هذا المأزق الخطير.

وقد حرص مسلم _ بأبي وأُمي _ أشدَّ الحرص على أن يوصل هذه الرسالة إلى عميد الأُسرة الهاشمية، وهو يجوب الفيافي قادماً إلى الكوفة، فأراد أن يثنيه عن ذلك، وقد قام الشهيد مسلم بن عقيل بمحاولتين في سبيل أيصال هذه الرسالة، كانت المحاولة الأُولى حين وقع في الأسر وتشدَّق محمد بن الأشعث بإعطائه الأمان، فردَّ عليه مسلم قائلاً: «إني أراك _ والله _ ستعجز عن أماني، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلغ حسيناً؟ فإني لا أراه إلّا قد خرج إليكم اليوم مقبلاً أو هو خارج غداً وأهل بيته، ويقول له: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم، لا يرى أنه يُمسي حتى يُقتَل، وهو يقول: ارجع فداك أبي وأُمي بأهل

ص: 130


1- الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص٢٤٥.
2- الأسترابادي، رضي الدين، شرح شافية ابن الحاجب: ج٤، ص١٠.

بيتك... فقال ابن الأشعث: والله، لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قد آمنتك»(1).

والمحاولة الثانية عندما جيء به إلى مجلس ابن زياد وتصفَّح وجوه القوم فرأى عمر بن سعد، فقال له: يا عمر، إن بيني وبينك قرابة دون هؤلاء، ولي إليك حاجة. ومما طلب منه أن يبعث إلى الحسين من يرده(2)، ولعل إحدى المحاولتين قد أفلحت في إيصال كتاب إلى الإمام علیه السلام عند وصوله إلى زبالة، فأخرجه للناس وقرأ عليهم ما جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن بقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمَن أحب منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام. قال: فتفرَّق الناس عنه تفرقاً...»(3).

الرسالة السادسة: وهي لم تكن بين الإمام علیه السلام ومسلم، بل كانت من الإمام إلى بعض أهل الكوفة وجعلناها تحت عنوان ما حصل بين الإمام ومسلم من مكاتبات تغليباً، فقد أورد ابن أعثم في الفتوح رسالةً أرسلها الإمام علیه السلام إلى أشخاص بعينهم من أهل الكوفة، ممن كانوا قد بعثوا إليه الكتب يستقدمونه إلى الكوفة، وكان وقت كتابة هذه الرسالة بعد وصول ركب الإمام علیه السلام إلى كربلاء، بعد أن ضيّق عليه الحر بن يزيد بجيشه بأمر ابن زياد، فعندما نزل الإمام في كربلاء ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس، دعا الحسين بداوة وبياض وكتب إلى أشراف الكوفة، ممن كان يظن أنه على رأيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن وال، وجماعة المؤمنين.

ص: 131


1- المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٥٩_٦٠. الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص٦٦
2- اُنظر: الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص٦٧.
3- اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠٠.

أما بعد! فقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و آله قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام أو تاركاً لعهد الله ومخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه و آله فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يُغير عليه بقول ولا فعل كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله، وقد علمتم أن هؤلاء لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله.

وأنا أحق من غيري بهذا الأمر؛ لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه و آله ، وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رُسلكم ببيعتكم أنكم لا تخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم؛ فقد استوفيتم حقكم وحظكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم، وأهلي ووُلدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم فيّ أُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ومواثيقكم وخلعتم بيعتكم؛ فلعمري، ما هي منكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي، هل المغرور إلّا مَن اغتر بكم، فإنما حقكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم، ومَن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم. والسلام»(1).

وبعض مضامين هذا الكتاب ذُكر في بعض المصادر، على أنه خطبة قالها الإمام الحسين علیه السلام في الجمع المتكون من أصحابه وأصحاب الحر في منطقة قريبة من كربلاء، تُدعى البيضة(2).

عبد الله بن يقطر وقيس بن مُسهَّر رسولا الإمام الحسين علیه السلام

تذكر المصادر التاريخية والأخبار الكثيرة: أن عبد الله بن يقطر وقيس بن مسهر

ص: 132


1- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج٥، ص٨١_٨٢. واُنظر: الخوارزمي، مقتل الحسين علیه السَّلام، ص٣٣٥_٣٣٦، وابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص٤٥–٤٧
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠٤.

الصيداوي هما اللذان وقع اختيار الإمام الحسين علیه السلام عليهما؛ فاختارهما لأنْ يكون لهما السهم الأوفر في القيام بمهمة السفارة بينه وبين ابن عمه وسفيره مسلم بن عقيل؛ لما يمتلكان من شجاعة وصبر، وإيمان وخبرة، ودراية في أداء مثل هذه المهام الجسام، وقد دفعا _ وهم يؤديان هذا التكليف الإلهي _ نفسيهما ليمضيا شهيدين سعيدين في سبيل الله تعالى، وليكونا من طلائع شهداء النهضة الحسينية المباركة، قبل أن تقع الفاجعة الكبرى في يوم عاشوراء.

ولكننا حينما نطالع مصادر التاريخ نجد التباساً كبيراً في قضية هذه المراسلات، لا سيما في تحديد شخصية الحامل لبعض تلك الرسائل التي ذكرناها آنفاً، فتارةً تُنسب هذه المهمة إلى عبد الله بن يقطر، وأُخرى إلى قيس بن مسهر، وثالثة يُتردد بينهما ولا يُقطع في المسألة؛ مما جعل الصورة غير واضحة في معرفة مهمة ودور كل من هذين الشهيدين الرسولين؛ وبالتالي لا يتسنى لنا الوقوف على معرفة كيفية نيلهما لدرجة الشهادة الرفيعة.

وقد ذكرت عدة سيناريوهات وكيفيات لتحديد مهمة كل منهما؛ ولكثرة الاختلاف في قصة الرجلين في المصادر التاريخية قد لا يجد الباحث مصدراً يستند إليه في إثبات دعواه.

نعم، هناك بعض الرسائل لم يحصل خلاف في حاملها. وسوف نستعرض الرسائل المذكورة لنتعرف من خلال تشخيص حاملها على طبيعة التكليف المناط بكل من الشهيدين، ونحاول أن نصور سيناريوهاً معيناً لقصة كل منهما؛ استناداً إلى الدلائل المتوفرة.

ص: 133

قيس ابن مُسهَّر والمهمة الأُولى

اذا ما استثنينا ما قام به قيس، من حمله لرسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين علیه السلام ؛ فسوف تكون مهمته الأُولى هي مرافقة مسلم بن عقيل إلى الكوفة مروراً بالمدينة، وقد تقدم الحديث عن أن مسلماً قد بعث قيساً إلى الإمام حاملاً رسالته الأُولى إليه، يخبره فيها بموت الدليلين، ويطلب منه أن يعفيه من هذه المهمة، على حدّ ما جاء في مضمون الرسالة، ويُخبره بما لاقوه من مصاعب ومعاناة في طريقهم.

ويذهب مشهور المؤرخين إلى أن قيساً هو من اختير لإبلاغ الإمام علیه السلام برسالة مسلم، وقد جاء ذلك في أُمهات المصادر التاريخية(1)، إلّا أن الدينوري خالف في ذلك، وذكر _ في كتابه الأخبار الطوال _ أنّ مسلم بن عقيل استأجر دليلاً من أهل ذلك الماء؛ ليخبر الإمام علیه السلام بخبره وخبر الدليلين(2)، غير أن هناك مَن يستبعد هذا الرأي لمخالفته لمشهور النقل أولاً، ولحساسية القضية وخطورتها؛ ما يستدعي ضرورة عدم اطلاع الغرباء عليها ثانياً؛ فيكون قيس بن مُسهَّر هو حامل هذا الكتاب وليس شخصاً آخر.

وما أن جاء كتاب مسلم إلى الإمام يحمله قيس بن مسهر، حتى ردّ الإمام برسالة جوابية مشدداً فيها على مواصلة السير مهما كانت الظروف والأسباب، وهي الرسالة الثانية في ترتيبنا المتقدم.

ص: 134


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٦٣. المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٣٩_٤٠
2- اُنظر: الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص٢٣٠.
هل صحب قيس مسلم بن عقيل إلى الكوفة؟

من هنا تبدأ أُولى حلقات الغموض في سلسلة فصول قصة الشهيد قيس بن مُسهَّر الصيداوي، فهل استأنف قيس رحلته التي بدأها مع مسلم بن عقيل بأمر الإمام علیه السلام ، أم أنه بقي مع الإمام في مكة بعد عودته حاملاً كتاب مسلم؟ فلو اعتقدنا أنّ الشخص الذي حمل الرسالة الثانية الجوابية من الإمام علیه السلام إلى مسلم هو قيس بن مسهر، وهو ما لم تصرح به المصادر التاريخية التي اطلعنا عليها؛ فيكون قيس حينئذ قد استكمل طريقه برفقة مسلم إلى الكوفة، وهو أمر يترتب عليه كثير من المسائل ويرسم صورة المشاهد القادمة من فصول القصة، وربما يستند مَن يرى ذلك إلى أن المتعارف في الرسائل المتبادلة أن الرسالة الجوابية المستعجلة تكون مع الرسول نفسه؛ ليضمن بذلك سرعة الوصول، ولعل ذلك كان مستند الشيخ السماوي حين يقول: « فلما وصل قيس إلى الحسين بالكتاب، أعاد الجواب لمسلم مع قيس، وسار معه إلى الكوفة»(1). أو يكون دليله ما ذكره الدينوري، من أنّ رسول مسلم إلى الإمام علیه السلام كان شخصاً استأجره مسلم من أهل تلك المنطقة. والله أعلم.

وأما لو بنينا على أن قيساً لم يكلفه الإمام علیه السلام بحمل الرسالة الثانية إلى مسلم، وإنما بعث شخصاً آخر؛ فيكون قيس قد بقي مع الإمام في مكة وصحبه في مسيره إلى العراق؛ مدّخراً إيّاه لمهمات أُخر أكثر أهمية وخطورة، وهو الشخص الخبير العارف بجغرافيا العراق، وهذا ما سيتضح في المطالب اللاحقة.

ص: 135


1- السماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين علیه السَّلام: ص١١٢.
مسلم بن عقيل في الكوفة لتقييم الواقع ونقل الصورة

يصل سفير الإمام الحسين علیه السلام مسلم بن عقيل _ بعد رحلة شاقة ومضنية _ إلى الكوفة المتشوقة إلى قدوم الإمام الحسين، فينزل دار المختار بن أبي عبيدة، وهي التي تُدعى دار سلام بن المسيب، فأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين علیه السلام وهم يبكون، وبايعه الناس حتى بايعه ثمانية عشر ألفاً(1)؛ فرأى مسلم أن بشائر النصر قد لاحت، والأُمور تسير في صالح أهل البيت علیهم السلام ، فأراد أن ينقل هذه الصورة المتحركة أمامه إلى الإمام الحسين علیه السلام ، ويحثُّه على الإسراع إلى الكوفة لاستثمار هذه المعطيات؛ لتحقيق الهدف الإلهي في إقامة حكم الله في الأرض، وإصلاح واقع البلاد والعباد، فكتب مسلم كتاباً واضحاً ومهمّاً، نقلنا مضمونه في الرسالة الثالثة حسب ترتيبنا، وكان لا بد لهذه الرسالة من رسول كبير، يكون بحجم المهمة الكبيرة والمصيرية، فمَن هو يا تُرى؟ هل هو قيس بن مسهر، أو عبد الله بن يقطر، أو شخص ثالث؟

حصل خلاف أيضاً في تشخيص حامل هذه الرسالة. وقد ذكرت ثلاثة احتمالات في هذا الصدد:

الاحتمال الأول: أن يكون حامل الرسالة هو عبد الله بن يقطر، وهو ما أورده ابن أعثم في الفتوح(2)، والخوارزمي في مقتله(3)، وابن شهرآشوب في المناقب(4).

ص: 136


1- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص١٧٣.
2- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج٥، ص٤٥.
3- الخوارزمي، مقتل الحسين: ص٢٩٣_٢٩٤.
4- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٤٣.

ويضعف هذا الاحتمال: أن هذا الكتاب الذي يخبر فيه مسلم بحصول بيعة أهل الكوفة للإمام قد وقع في يد عبيد الله بن زياد، في حين أن أغلب المصادر التاريخية تؤكد وصول هذا الكتاب إلى الإمام الحسين علیه السلام . فربما يكون مكلفاً بحمل كتاب آخر غير هذا الكتاب.

الاحتمال الثاني: أن يكون الرسول هو عابس بن أبي شبيب الشاكري، وهو ما جاء في تاريخ الطبري من أن مسلم بن عقيل حيث تحوَّل إلى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفاً، قدَّم كتاباً إلى الحسين علیه السلام مع عابس بن أبي شيبب [أو ابن شبيب] الشاكري قال فيه: «أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر...»(1).

الاحتمال الثالث: أن مسلم بن عقيل قد بعث كتابه مع عابس وقيس بن مسهر، وهو ما أورده ابن نما الحلي في مثير الأحزان؛ إذ قال: «وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين علیه السلام كتاباً، أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله... وحمله مع عابس بن أبي شبيب الشاكري، وقيس بن مُسهَّر الصيداوي»(2).

إن الاحتمال الأقرب من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الثاني، وهو أن يكون عابس هو مَن أتى بالكتاب؛ اعتماداً على نقل الطبري لهذا الخبر، وإن كان الاحتمال الثالث لا يبعد أيضاً.

ص: 137


1- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٨١.
2- الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص٢١. الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص٣٨
تفاعل الإمام الحسين علیه السلام مع أخبار الكوفة

فيما كان الإمام الحسين علیه السلام يترقّب أخبار الكوفة وتطورات الأحداث فيها، يوافيه كتاب مسلم بن عقيل، حاملاً أخبار الكوفة السارة، وحاثَّاً للإمام على المجيء، فيتجهز الإمام للخروج تاركاً مكة، وميمّماً وجهه صوب العراق في موكب ملائكي مهيبٍ، وهو في طريقه لا يدع فرصة إلّا استثمرها في سبيل الدعوة إلى نصرته، فالتحق به عدد من الناس، وفي هذه الأثناء لا شك في أن تصل أخباره إلى أسماع السلطة، لاسيما بعد تدهور الأوضاع في الكوفة، وانقلابها لصالح عبيد الله بن زياد فيها؛ ولهذا عندما بلغه إقبال الحسين علیه السلام بعث الحصين بن نمير التميمي، وكان على شرطته، فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح، فينظم ما بين القطقطانة(1) إلى خفان(2)، «فيمنع مَن أراد النفوذ من ناحية الكوفة إلى الحجاز إلّا مَن كان حاجاً أو معتمراً، ومَن لا يُتّهم بممالاة الحسين»(3).

وعندما توسّط الإمام علیه السلام الطريق وبلغ الحاجز من بطن الرمة(4)، قرّر أن يردّ برسالة جوابية على كتاب مسلم، ويُعطي الأوامر والتوجيهات اللازمة في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرُّ بها المنطقة بشكل عام، والكوفة بشكل خاص، وهي الرسالة

ص: 138


1- مكان قريب من الكوفة.
2- اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠٣.
3- الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص٢٤٣.
4- الحاجز: اسم أرض ومنزل على الطريق من مكة إلى العراق، وملتقى طريقي الكوفة والبصرة عند المسير إلى المدينة، ومعناه: الموضع الذي يحجز فيه الماء. السيد شرف الدين، هامش كتاب المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: ص٢١٦. وفي معجم البلدان: بطن الرمة... واد معروف بعالية نجد، وقال ابن دريد: الرمة قاع عظيم بنجد، تنصب إليه أودية. الحموي، معجم البلدان: ج١، ص٤٤٩

الرابعة وِفْق ما تقدم؛ فكان على الإمام علیه السلام أن ينتدب لهذه المهمة رجلاً يكون على قدر المسؤولية، وبحجم المهمة الملقاة عليه، فهل هو الشهيد قيس بن مُسهَّر الأسدي الصيداوي، أو الشهيد عبد الله بن يقطر الحميري؟

رسالة الإمام الحسين علیه السلام وتداخل مهمة الشهيدين

كان الخلاف بين المؤرخين والباحثين هو العلامة الفارقة في تشخيص هوية الرسول الذي أناط به الإمام علیه السلام مهمة حمل كتابه إلى مسلم بن عقيل وأهل الكوفة، ودار الأمر بين الشهيد قيس بن مُسهَّر والشهيد عبد الله بن يقطر، وتنقسم أقوال المؤرخين والعلماء والباحثين على ثلاثة أصناف: صنف جزم بأنه قيس بن مُسهّر، وصنف رأى أنه عبد الله بن يقطر، والصنف الثالث إما تردد ولم يرجح أيَّاً منهما، أو ذكر أحد الأمرين على نحو القيل أو الاحتمال، وسنذكر نماذج لكل صنف ولا نبغي الاستقصاء، فممن ذهب إلى أن رسول الإمام الحسين علیه السلام كان قيس بن مُسهَّر هو: الدينوري في الأخبار الطوال(1)، وابن سعد في ترجمة الإمام الحسين من طبقاته(2)، والبلاذري في الأنساب(3)، والطبري في تاريخه(4)، وابن مسكويه في تجارب الأُمم(5)، وابن شهرآشوب في المناقب(6)، وابن نما الحلي في مثير الأحزان(7)، وابن الأثير في تاريخه(8).

ص: 139


1- الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص٢٤٦.
2- ابن سعد، ترجمة الإمام الحسين علیه السَّلام من طبقات ابن سعد: ص٦٨.
3- البلاذري، أنساب الأشراف: ج٣، ص١٦٦.
4- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٢٩٧.
5- الرازي، أحمد بن محمد مسكويه، تجارب الأُمم: ج٢، ص٦٠.
6- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٤٥.
7- الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص٣٠.
8- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج٤، ص٤١.

بينما ذكر بعض أن الرسول هو عبد الله بن يقطر، ومنهم البلاذري في الأنساب(1)، ويظهر ذلك أيضاً مما رواه الطبري عن أبي مخنف؛ إذ قال: «كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلّا اتبعوه، حتى انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة مقتل عبد الله بن بقطر، وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق، وهو لا يدرى أنه قد أُصيب، فتلقاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية، فسرّح به إلى عبيد الله بن زياد، فقال: اصعد فوق القصر...»(2)، وسرد قصة شبيهةً بقصة استشهاد قيس، وهو مذهب ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة(3).

وذكرت كتب الرجال أن عبد الله بن يقطر هو رسول الإمام الحسين علیه السلام ، وأنه رمي به من فوق القصر، فتكسر، فقام إليه عمرو الأزدي فذبحه، ويقال: بل فعل ذلك عبد الملك بن عمير اللخم(4). وما يُعزز هذا الرأي أن عدداً من المؤرخين ذكروا أنه قد وصل خبر مقتل عبد الله بن يقطر وهانئ ومسلم وهو في زبالة؛ مما يعني أنه كان قد أرسله بتلك المهمة فقُبض عليه ونال الشهادة(5).

ونظراً لهذا الاختلاف نجد الصنف الثالث من العلماء إما يتردد، أو يذكر كلا الأمرين، ومن بين هؤلاء: المفيد في الإرشاد(6)، والفتال النيسابوري في روضة

ص: 140


1- البلاذري، أنساب الأشراف: ج٣، ص١٦٨.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠٠.
3- ابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ج٢، ص٨٠٦.
4- اُنظر: الطوسي، رجال الطوسي: ص١٠٣. العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: ص١٩٢
5- اُنظر: المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٧٥. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠١. البلاذري، أنساب الأشراف: ج٣، ص١٦٨
6- المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٧٠.

الواعظين(1)، والطبرسي في إعلام الورى(2).

وبعد هذا العرض السريع لآراء المؤرخين والعلماء يجد الباحث نفسه أمام مسألة شائكة ومتداخلة، يصعب معها الخروج بنتيجة واضحة، ومما يزيد الأمر إرباكاً وغموضاً أيضاً هو تصريح بعض المؤرخين وأصحاب السير: بأنّ عبد الله بن يقطر كان من شهداء الطف في يوم عاشوراء! ومن الذين ذكروا ذلك الطبري في تاريخه(3)، وابن حبان في الثقات(4)، وابن الجوزي في المنتظم(5)، وابن كثير في البداية والنهاية(6)، وغيرهم.

وكذلك ورد اسمه في عداد شهداء عاشوراء في الزيارة الرجبية المختصة بشهداء كربلاء(7).

وعلى كل حال؛ ينبغي الركون إلى رؤية معينة تكون أقرب إلى الواقع؛ اعتماداً على بعض الشواهد والمستندات.

السيناريو المتصور في مهمّتي الشهيدين

إن هذا الخلاف العريض في المصادر التاريخية وغيرها يُعطي هامشاً كبيراً في تكثّر

ص: 141


1- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص١٧٧.
2- الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى: ج١، ص٤٤٦.
3- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٥٩.
4- ابن حبان، الثقات: ج٢، ص٣١٠.
5- ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك: ج٥، ص٣٤٠.
6- ابن كثير، البداية والنهاية: ج٨، ص٢٠٦.
7- ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج٣، ص٣٤٦.

الآراء والأقوال في هذه المسألة؛ ولكي لا نثقل على القارئ بكثرة الاحتمالات، ولا نُبرمه بتعدد الفرضيات نذكر له كيفية واحدة _ حسب تصورنا _ لمهمة كل من الشهيد قيس والشهيد عبد الله بن يقطر، والتي تشمل كل ما قاما به من شرف السفارة للإمام الحسين علیه السلام .

لا ينكر أحد أن كلاً من الشهيدين كان على درجة عالية من الإيمان والإخلاص، والتقوى والشجاعة أهّلتهما أن يكونا من حواريي الإمام علیه السلام وخُلّص أصحابه وموضع سرّه ومحلّ ثقته؛ فجعل هذه المهمة إلى أحدهما أو تلك إلى الآخر لا يعني بأي حال الحط من قيمة أحدهما _ والعياذ بالله _ بل إن ما نقوم به تُمليه علينا سياقات البحث العلمي وأساليبه، فحينئذ نقول:

إن الشهيد قيس بن مُسهَّر الصيداوي كان من الأوائل الذين حمّله بعض وجهاء الكوفة وأشرافها الرسائل والكتب التي يدعون فيها الإمام إلى القدوم إليهم، ثم توالت بعده الرُّسل، حتى اجتمع منها عند الإمام عدد كبير، فبادر الإمام إلى بعث ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وسيّر معه قيس بن مُسهَّر في مهمته الأُولى من قبَل الإمام علیه السلام ، وفي الطريق يعود حاملاً كتاب مسلم إلى الإمام علیه السلام يخبره بما حلّ بهم في الطريق على تفصيل مرّ ذكره.

وحينما يُجيب الإمام على رسالة مسلم يظهر بعض الغموض حول من تولَّى إيصالها إلى مسلم، فلو كان شخصاً غير قيس؛ فهذا يعنى أن قيساً لم يرافق مسلم بن عقيل إلى الكوفة، بل بقي مصاحباً الإمام في مكة، وإذا قبلنا أن قيساً هو صاحب الرسالة الثانية بترتيبنا؛ فهذا بطبيعة الحال يقضي بأنه صاحب مسلم بن عقيل وهو

ص: 142

في طريقه إلى الكوفة، ولكنا مع هذا الفرض نعتقد أنّ قيساً عاد إلى مكة؛ إما برفقة عابس بن أبي شبيب الشاكري، حين بعثهما مسلم بالرسالة الثالثة التي يخبر فيها الإمام الحسين علیه السلام بمبايعة أهل الكوفة له، كما ينقل ذلك الطبري كما تقدم، وإما أنه قد جاء بمفرده بالكتاب.

وعلى تقدير أنه لم يذهب مع مسلم _ أو أنه ذهب ولكنه عاد _ فيكون قيس بن مُسهَّر قد صحب الإمام علیه السلام في مسيره من مكة إلى الكوفة، وهذا هو مختارنا في هذا المقطع من المهمة.

وأما في الجانب الثاني من المشهد _ أعني قصة عبد الله بن يقطر _ فهو بحكم أن عبد الله قد تربى مع الإمام في المدينة ومن المقربين لديه؛ فسيكون في ركب الإمام القادم من المدينة إلى مكة، ومن ثم إلى العراق.

وحين يصل الإمام علیه السلام إلى الحاجز من بطن الرمة، ويعزم على أن يجيب عن رسالة مسلم بن عقيل، فيكتب رسالة يخبر مسلم ومَن معه من أهل الكوفة: بأنه قد شخص إليهم من مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة، ويوصيهم بحُسن التدبير ريثما يصلهم.

وهنا تبرز المعضلة في تعيين حامل هذه الرسالة الرابعة حسب ترتيبنا؛ لكثرة ما رأيناه من الاضطراب والاختلاف في الأقوال، بيد أننا نظن أن مبعوث الإمام في هذه المهمة هو عبد الله بن يقطر، وليس قيس بن مُسهَّر الصيداوي؛ لقرينتين اثنين، مضافاً إلى عدم رجحان كفة الأقوال التي في صالح قيس:

القرينة الأُولى: إن بعض المصادر التي تذكر قصة إلقاء القبض على قيس بن

ص: 143

مُسهَّر من قبل الحصين بن نمير في منطقة القادسية، تشير إلى أنه كان يحمل كتاباً فيه أسماء أشخاص بعينهم من أهل الكوفة، ويحرص قيس على عدم البوح بها، وإن كلفه ذلك حياته، ففي مثير الأحزان: أن قيس بن مُسهَّر الصيداوي أقبل بكتاب الإمام علیه السلام حتى انتهى إلى القادسية، فأخذه الحصين بن نمير وبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فأخرج الكتاب ومزقه، فلمّا حضر بين يدي عبيد الله، قال: مَن أنت؟ قال: رجل من شيعة أمير المؤمنين علیه السلام . قال: فلماذا مزقت الكتاب؟ قال: لئلا تعلم ما فيه. قال: ممن الكتاب؟ وإلى مَن؟ قال: من الحسين علیه السلام إلى قوم من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم. فغضب ابن زياد...(1)، في حين أنه لا توجد أسماء في الكتاب، وإنما فيه «من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم...» وقد تقدم نص الكتاب.

في حين أننا لا نشاهد هذا التفصيل في قصة اعتقال عبد الله بن يقطر على يد الحصين. وهذا نتيجة الخلط بين مهمة عبد الله بن يقطر في حمله هذا الكتاب ووظيفة قيس بن مُسهَّر في إيصال الرسالة السادسة المشار إليها سابقاً، والتي سنتحدث عنها في القرينة الثانية.

القرينة الثانية: وهي من أهم الأدلة التي اعتمدنا عليها في مختارنا، وبها ينحل التداخل والخلط بين القصتين، فقد روى ابن أعثم في الفتوح، والخوارزمي في مقتل الحسين علیه السلام ، والسيد ابن طاووس: أن الحسين علیه السلام بعد أن التقى به الحر بن يزيد الرياحي وسايره حتى انتهى بهم المقام في أرض كربلاء، كتب علیه السلام كتاباً إلى أشخاص من أهل الكوفة، وذكرهم بأسمائهم، وبعثها مع الشهيد قيس بن مسهر، وهي الرسالة

ص: 144


1- اُنظر: الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص٣٠–٣١.

السادسة التي نقلناها؛ مما يدلّ على أن قيساً قد بقي مع الإمام كل هذه المدة حتى وصل إلى كربلاء، وأن الذي بُعث من الحاجز من بطن الرمة هو الشهيد عبد الله بن يقطر.

ثم يتابع ابن أعثم في روايته، فيذكر: أنه بعد وصول قيس إلى مشارف الكوفة _ وكان عبيد الله بن زياد قد وضع المراصد على الطرق _ لقيه الحصين بن نمير السكوني، فما لبث قيس أن أخرج الكتاب سريعاً فمزقه عن آخره، فقبضوا عليه، وأخذوا الكتاب ممزقاً، حتى أتوا به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله بن زياد: مَن أنت؟ قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين الحسين بن علي، قال: فلم خرّقت الكتاب الذي كان معك؟ قال: حتى لا تعلم ما فيه! قال: وممن كان هذا الكتاب؟ وإلى مَن كان؟ فقال: كان من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.

فغضب ابن زياد غضباً عظيماً. ثم قال: والله، لا تفارقني أبداً أو تدلني على هؤلاء القوم الذي كُتب إليهم هذا الكتاب، أو تصعد المنبر فتسب الحسين وأباه وأخاه، فتنجو من يدي أو لأُقطعنك.

فقال قيس: أما هؤلاء القوم فلا أعرفهم، وأما لعنة الحسين وأبيه وأخيه فإني أفعل _ وفي رواية ابن طاووس: فقال قيس: أما القوم، فلا أُخبرك بأسمائهم، وأما لعن الحسين علیه السلام وأبيه وأخيه فأفعل(1) _ فأمر به، فأُدخل المسجد الأعظم، ثم صعد المنبر، وجمع له الناس؛ ليجتمعوا ويسمعوا اللعنة، فلما علم قيس أن الناس قد اجتمعوا وثب قائماً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على محمد وآله، وأكثر الترحم على عليّ ووُلده، ثم لعن عبيد الله بن زياد ولعن أباه، ولعن عتاة بني أُمية عن آخرهم، ثم دعا

ص: 145


1- اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس: ص٤٦.

الناس إلى نصرة الحسين بن علي. فأخبروا بذلك عبيد الله بن زياد؛ فأُصعد على أعلى القصر، ثم رُمي به على رأسه؛ فمات رحمة الله عليه(1).

وفي ضوء هذه الرواية يتضح المبرر الذي دفع قيس بن مُسهَّر أن يمزق الكتاب ويتلفه؛ لئلا يطلع الأعداء عليه، بينما لا يتضح السبب في تمزيق الرسالة الرابعة التي لا يوجد فيها أسماء معينة.

ولعل الخلط بين القصتين جاءت من عدة جهات، منها: أن كلا الشهيدين هما من سفراء الإمام الحسين علیه السلام وحملة رسائله. ومنها: أن الحصين بن نمير أو أحد من أعوانه وشرطته هو مَن تولى اعتقالهما. ومنها: أن كلا الشهيدين استُشهد بإلقائه من أعلى القصر، والله العالم.

وأما ما ورد في الفتوح _ أيضاً _ ومقتل الخوارزمي ومناقب ابن شهرآشوب من أنّ مالكاً أو عبد الله بن يربوع التميمي وجد عند عبد الله بن يقطر كتاباً يخبر فيه مسلم الإمام الحسين علیه السلام بأن أهل الكوفة قد بايعوه، وسلّم هذا الكتاب إلى عبيد الله بن زياد، مع عبد الله بن يقطر ما تسبب في استشهاده(2)، فإننا سبق وقلنا: إن عدم وصول هذا الكتاب إلى الإمام الحسين علیه السلام مخالف للمشهور، وكون الرسول هو عبد الله بن يقطر أيضاً يعدّ خبراً شاذاً لا نعوّل عليه، فلربما بعث مسلم بن عقيل _ أو غيره ممن أوصاهم _ شخصاً آخر حاملاً كتاباً يطلب فيه من الإمام عدم مواصلة السير والقدوم إلى الكوفة بعد انقلاب الأوضاع، وهو مضمون الرسالة الخامسة بترتيبنا، والتي تقدم الكلام عنها.

ص: 146


1- انظر: الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي: ج ٥ ص ٨٢ – ٨٣.
2- اُنظر: الكوفي ابن أعثم، الفتوح: ج٥، ص٤٥، والخوارزمي، مقتل الحسين علیه السلام: ص٢٩٣_ ٢٩٤. وابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج٣، ص٢٤٣
يقين وصمود وشهادة
اشارة

قد لا يستغرب المرء من مواقف الشهيدين السعيدين، حين يعلم أنهما خرّيجا مدرسة الإباء والثبات والتفاني في سبيل المبدأ، هذه المدرسة التي وضع منهجها واختط طريقها الإمام الحسين علیه السلام .

فمَن أراد أن يتعرف على بعض عطاءات النهضة الحسينية، فليأت إلى ما قدّمه لنا هذان الشهيدان من دروس وعبر عديدة، نأخذ منها درسين في غاية الأهمية:

الدرس الأول: اليقين الراسخ بالمبدأ والعقيدة

فالشهيدان _ وبغض النظر عمّا حدث من ملابسات تاريخية في بيان مهمتيهما _ علَّما الأجيال درساً في علاقة الإنسان المؤمن بعقيدته ومبدئه، القائمة على أساس الإيمان الراسخ، والاعتقاد الجازم غير المتزلزل، مهما داهمته الخطوب والملمات؛ فحين يُقبض على أحدهما، ويُرسَل إلى عبيد الله بن زياد، ويعاين الموت المحقق لا نراه يهتز أو يرتعد، بل يواجه الطاغية بكل جبروته وطغيانه بصلابة الإيمان، ولما يأمره بسبّ الحسين وأباه، يصعد القصر الذي صيّره منبراً لإبلاغ رسالته على أتم وجه، وبعد أن يحمد الله سبحانه ويُثني عليه، يقول: أيُّها الناس، إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله بن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأنا رسوله إليكم؛ فأجيبوه. ثم يلعن ابن زياد وأباه، ويستغفر لعلي علیه السلام ويصلي عليه، فيأمر به عبيد الله؛ فيرمى من فوق القصر إلى الأرض(1).

ص: 147


1- المفيد، الإرشاد: ج٢، ص٧٠_٧٢

وفي نَصٍّ آخر، ورد في حق الشهيد قيس، يكشف فيه هذا الشهيد عن إيمان يُطاول الجبال الراسيات في ثباته وقوته، فلا يتردد من إجابة الطاغية الفرعوني حين يسأله عن هويته: مَن أنت؟ فيُجيبه _ جواب الواثق المطمئن _: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين الحسين بن علي. ومن ثم يسأله عن سبب خرقه للكتاب فيجيبه قائلاً:خوفاً؛ حتى لا تعلم ما فيه. إنه جواب كالصاعقة التي أفقدت ابن زياد توازنه.

كم نحن بحاجة _ في زماننا وفي كل زمان _ إلى مثل هؤلاء الأماثل الأفذاد؛ لنرتشف من أكف عطائهم معاني التمسك بالمبدأ والعقيدة.

الدرس الثاني: الصمود والثبات على المبدأ حتى النهاية

لا ريب في أن رسوخ الإيمان بالعقيدة وتجذُّره يُثمر عن ثبات لا يتغير رغم كل شيء، وهذا ما حصل فعلاً في قصة استشهاد الشهيدين قيس وعبد الله، فلم يُرهبهما وقوعهما في الأسر وما أيقنوه من نهاية حتمية؛ فلذا لم يُبال أحدهما في ردّة فعل الطغاة، بل راح يحثُّ الناس على نصرة الإمام علیه السلام ، ويُثني على أهل البيت علیهم السلام ، ويلعن ابن زياد وأباه، وهذا حال مَن يخطو إلى بلوغ درجات الشهادة العالية بكل عنفوان وشمم.

سمو الشهيدين وخسّة الأعداء

لعل هناك مقولة _ ربما يسندها الواقع التاريخي _: تفيد أنه كلما علت مكانة الشهيد وسمت منزلته، كلما كان قاتله متسافلاً ومنحدراً من الجهة الأخلاقية والاجتماعية والقيمية، فالشهيدان مع ما لهما من علو المكانة وسمو الروح وسلامة الطوية وصفاء النفس، نجد قتَلَتهم وأعداءهم على درجة من الخسة والانحطاط، فعبيد الله بن زياد لا يحتاج إلى عناء الحديث عن ظلمه وجوره، وخروجه عن ربقة الإنسانية، فضلاً

ص: 148

عن الدين والتقيّد بتعاليمه.

وأما مَن تولى ذبح أحد الشهيدين _ بعدما رمي به من القصر وتكسرت عظامه وبقي فيه رمق _ فهو رجل يقال له: عبد الملك بن عمير اللخمي والذي عيب عليه حينما أقدم على هذا الفعل الشنيع، قال: أردت أن أُريحه!!(1).

وسِجِلُّ هذا الرجل طافح بالإجرام والانحراف عن سبيل الحق، قال عنه الشيخ المفيد: «فأما عبد الملك بن عمير، فمن أبناء الشام، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين علیه السلام ، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته، ولم يزل يتقرّب إلى بني أُمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن في أمير المؤمنين علیه السلام حتى قلّدوه القضاء، وكان يقبل فيه الرُّشا، ويحكم بالجور والعدوان، وكان متجاهراً بالفجور والعبث بالنساء...»(2).

ولشناعة ما فعله بالشهيدين _ أو أحدهما من الإجهاز عليه وهو لا زال حياً _ أراد بعض أن ينفي الفعلة عنه ويلصقها بشخص آخر، فقد رأوها لا تليق بقاضي الدولة الأُموية وراوية أحاديثهم، فجاء في تاريخ الطبري عن «هشام حدثنا أبو بكر بن عياش عمن أخبره، قال: والله، ما هو عبد الملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جعد طوال يُشبه عبد الملك بن عمير»(3).

وستبقى هذه المعادلة سارية المفعول في كل زمان وفي كل جيل، فحلبة الصراع بين الحق والباطل لم يأن لها أن تتوقف بعد، حتى يرث الله الارض ومَن عليها.

ص: 149


1- المصدر السابق: ج٢، ص٧١.
2- المفيد، الإفصاح: ص٢٢٠.
3- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج٤، ص٣٠٠.

تأبين الإمام الحسين علیه السلام للشهيدين

يستطيع الباحث في سيرة هذين العلمين أن يتعرف على علو قدرهما وحُسن عاقبتهما _ بالإضافة إلى ما سجله التاريخ من عظيم إيمانهما ورفعة منزلتهما _ من خلال ما قاله الإمام الحسين علیه السلام عنهما مؤبناً لهما بعبارات تدل على المكانة التي يحظيان بها عند الإمام الذي لم يكتف بإطلاق تلك الكلمات فحسب، بل مزجها بدموعه الكريمة، فلما يصله خبر استشهاد أحدهما مع ما عليه من يقين راسخ وبصيرة نافذة تترقرق عينا الحسين علیه السلام ، ولا يملك دمعه فيقول: «منهم مَن قضى نحبه، ومنهم مَن ينتظر وما بدلوا تبديلاً. اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نُزلاً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك»(1).

وورد في خبر آخر أن الحسين علیه السلام حين يبلغه نبأ استشهاد قيس بن مُسهَّر الصيداوي يستعبر باكياً، ثم يقول: «اللهم، اجعل لنا ولشيعتك منزلاً كريماً عندك، واجمع بيننا وإياهم في مستقر رحمتك، إنك على كل شيء قدير»(2).

فهنيئاً لهذين الشهيدين السعيدين هذا التأبين والإطراء والدعاء من إمام الأُمة وسيد شباب أهل الجنة. فسلام عليهما يوم ولِدا، ويوم استُشهدا، ويوم يُبعثان حيين مع محمد وآله الطاهرين.

ص: 150


1- المصدر السابق: ج٤، ص٣٠٦.
2- المصدر السابق: ج٤، ص٣٠٦.

الخرافة والتحريف ودعوى وقوعهما في الشعائر الحسينيةد. الشيخ كاظم البهادلي

اشارة

قد تستولي على فردٍ أو جماعةٍ عاداتٌ وتقاليد لا صلة لها بالواقع؛ وذلك لأسباب عديدة، مثل سيطرة القوة الواهمة، أو تعطيل التحليل العقلي للأُمور، أو كثرة التصورات غير الشعورية، والجامع لهذه الأسباب هو الخرافة التي تُنتجها القوة المخيلة بنحو ما، أو تحريف بعض الأُمور الواقعية عمّا كانت عليه أوّلاً، وجعلها شيئاً آخر.

ولا أحد من العقلاء وأُولي الألباب يُنكر وقوع ذلك في بعض الموارد، وأمثلته كثيرة ومدونة في كتب السير والتاريخ، إلّا أن هناك مَن تمادى في رمي الكثير من الحقائق والواقعيات بتلك الصفة، ومن بين ذلك بعض الطقوس الدينية المرتبطة بإحياء ذكرى سيد الشهداء؛ حيث نعتت بالخرافة والتحريف، وكأن الداعي لهذا هو ما يُزعم من وجود نحوين من الشعائر:

ص: 151

الأول: ما كان طروه وحصوله نتيجة التلاعب والتحريف من قِبَل المغرضين.

والثاني: ما كان مستنداً إلى سيرة أهل البيت علیهم السلام وأخبارهم.

وقبل النظر فيما ادُّعي وقوعه من تحريف وخرافات في الشعائر الحسينية، ينبغي لنا تسليط الضوء على الخرافة والتحريف في اللغة والاصطلاح.

الخرافة لغةً:

الخَرِف _ بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء _ صفة مشبهة من خرف الرجل خرفاً من باب تعب، إذا فسد عقله لكبره(1)، وفي لسان العرب: «خرف: الخَرَفُ، بالتحريك: فَسادُ العَقْلِ من الكِبَرِ. وقد خَرِفَ الرجُل، بالكسر، يَخْرَفُ خَرَفاً، فهو خَرِفٌ: فَسَدَ عَقْلُه من الكِبَرِ، والأُنثى خَرِفةٌ، وأَخْرَفَه الهَرَمُ»(2).

الخرافة اصطلاحاً:

ذكر بعض الباحثين بأن الخرافة هي: «نسبة ما ليس من الدين إليه»(3)، أو: «الكلام الذي لا صحة له»(4)، وتطلق على أيّ شيء وهميّ أو تخيّليّ، أو الذي لا يَمتّ إلى حقيقة واقعية أو حسّيّة، فأيّ شيء يُمليه الوَهم أو تمليه المخيلة من دون أن يكون له مطابق حقيقيّ في الواقع _ لا عقليّ ولا حسّيّ _ يُسمّى خرافة.

ص: 152


1- اُنظر: الاسترابادي، رضي الدين، شرح شافية ابن الحاجب: ح٤، ص١٥٦.
2- ابن منظور، لسان العرب: ج٩، ص٦٢.
3- الكوراني، علي، الانتصار: ج٩، ص٤٣٧.
4- قلعجي، محمد، معجم لغة الفقهاء: ص١٩٤.

وقيل في منشأ تسمية هذه الأُمور بالخرافة: إنّ خرافة كان رجلاً من بني عذرة أو من جُهينة، اختطفته الجن ثمّ رجع إلى قومه، فكان يحدِّث بأحاديث عمَّا رأى يعجب منها الناس، فكذَّبوه. فجرى على ألسن الناس وقالوا: «حديث خرافة». وهو من الألفاظ التي لا تدخلها الألف واللام، إلّا أن يُراد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل، أجروه على ما يكذّبونه من الأحاديث وعلى كلّ ما يُستملَح ويُتعجَّب منه(1).

التحريف لغة:

يُطلق التحريف والانحراف في اللغة ويراد منه الميل والعدول، قال الجوهري: «انحرف عنه وتحرّف واحرورف، أي: مال وعدل»(2).

التحريف اصطلاحاً:

وأمّا التحريف اصطلاحاً، فيُطلق ويُراد منه وجوه مختلفة:

منها: تحريف مدلول الكلام، أي تفسيره على وجه يوافق رأي المحرّف، سواء أوافق الواقع أم لا، والمهم أنه يدعمُ عقيدته، فهو يأخذ بعنان الكلام، ويميل به إلى جانب هواه.

ومنها: النقص والزيادة في الحركة والحرف في كلام الغير؛ لنفس السبب المتقدم.

ومنها: تبديل كلمة مكان كلمة مرادفة لها؛ بحيث يختلُّ كلام الغير ويؤدي إلى معنىً فاسد يتمكن الآخرون من إيراد الإشكال عليه، إلى غيرها من معان ذكرها الأعلام(3).

ص: 153


1- اُنظر: إسحاق بن راهويه، مسند ابن راهويه: ج٣، ص٨٠١.
2- الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج٤، ص١٣٤٣.
3- اُنظر: السبحاني، جعفر، موسوعة طبقات الفقهاء: ج١، ص٣٧_ ٣٨.

تساؤل وجوابه

قد يطرأ سؤال في أذهان البعض، وهو: أنّ الله تبارك وتعالى إنما وهب لنا العقل لأجل تمييز الواقعي عن الوهمي والخرافي، فلماذا تنطلي علينا الخرافات والتخيلات إذن؟! خصوصاً مع ورود النصوص الشرعية المهمة التي فيها دلالة واضحة على قوة العقل وسلطنته، بل وأنه أحب الخلق إلى الله تعالى، كما في قول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم لأمير المؤمنين علیه السلام : «يا علي، العقل ما اكتسبت به الجنة، وطلب به رضى الرحمن. يا علي، إنَّ أول خلق خلقه الله  العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، بك آخذ، وبك أُعطي، وبك أُثيب، وبك أُعاقب»(1).

إلّا أن هذا السؤال يندفع فيما لو عرفنا أنّ ما يحصل للإنسان ليس هو من خطأ العقل الذي يسير وفق الموازين، حتى يرد هذا الإشكال والتساؤل، وإنما هو من خطأ الحس، ومن المعلوم أنّ الحسّ ليس معصوماً على الدوام؛ إذ قد يتطرّق إليه الخطأ، وإن كان الحسّ إجمالاً من منابع البديهيّات، كما وأن العقل منبع جملة من أقسام البديهيّات، فليس كلّ ما لا يُدرَك بالحسّ هو ليس بحقيقة؛ لأنّ كثيراً من الأشياء موجودة وحقيقيّة، مع أنّها لا تُدرك بالحسّ.

وعلى كلّ حال، فاقتناص الحقيقة يكون إمّا بأداة العقل، أو بأداة الحسّ، أو بأداة القلب فيما يُعاينه من العلوم الحضوريّة، وفي قبال هذه الحقائق يوجد هناك خرافات ووهمٌ وخيال؛ فيكون التمييز بينها وبين الحقائق على بعض الأشخاص أمراً صعباً.

ص: 154


1- الصدوق، محمد بن بابويه، مَن لا يحضره الفقيه: ج٤، ص٣٦٩.

دعوى وقوع التحريف في مراسم عاشوراء

اشارة

بعد أن اتضح لنا معنى الخرافة والتحريف، نقول: إن من بين الأُمور التي حاول أعداء الإمام الحسين علیه السلام _ ولا زالوا يحاولون _ تحريفها ورميها بالخرافة هي قضية كربلاء؛ ليتسنّى لهم تشويه النهضة وتضعيفها، وزرع الشك والريب في قلوب أتباع أبي عبد الله علیه السلام ؛ من خلال رمي جانب كبير من جوانب النهضة الحسينية بالتحريف والخرافة، ونذكر فيما يلي نماذج لذلك:

النموذج الأول: الغناء حين تأدية العزاء

لقد حاول البعض أن يرمي العزاء والرثاء الحسيني _ الذي يؤديه ناعية الحسين بلحن وطريقة خاصة_ بتهمة الانحراف عن الرثاء والعزاء في زمن المعصومين إلى الطريقة الغنائية، وأنّ ما يصنعه روّاد منبر سيد الشهداء علیه السلام داخل في الغناء! وبهذا تترتب النتيجة تلقائياً؛ إذ الغناء محرّم ببديهة الشرع، فصنع لنا قياساً بديهي الإنتاج. ولعل الذي شبَّه على غير المغرضين ممن يدعو لتنزيه الرثاء هو أن الأئمة علیهم السلام لم يقيموا العزاء والرثاء بهذه الكيفية المألوفة في زماننا، وإنما كان مرادهم علیهم السلام الشعر الرثائي على سيد الشهداء علیه السلام ، ولكن بمرور الزمان انحرف المسار من العزاء الذي ندب له أهل البيت علیهم السلام إلى الكيفية الخاصة في زماننا.

وأيّ خرافةٍ أشد؟! وأيّ تحريفٍ آكد من صرف قضية العزاء والرثاء إلى الغناء؟!

وهذه التهمة التي ألصقت بالعزاء الحسيني ليست شيئاً جديداً، بل يعود تاريخها إلى زمان ليس بالقريب، وقد طرقت هذه الأصوات أسماع الموالين من علمائنا، كما

ص: 155

سوف يتبين لنا في مقام الإجابة عن هذا الادعاء الباطل.

الجواب عن النموذج الأول

وما نريد قوله في مقام الجواب هو:

١_ إن المتعارف عن العزاء في زمن الأئمة أنه يُقرأ بطريقة خاصة تختلف عن إلقاء القصائد الشعرية على منصة الشعر، وهذا ما يفيده بعض الأوامر الصادرة عن الأئمة علیهم السلام لبعض الشعراء عندما طلبوا منهم قراءة العزاء؛ كما ورد عن أبي هارون المكفوف، قال: «قال أبو عبد الله علیه السلام : يا أبا هارون، أنشدني في الحسين علیه السلام . قال: فأنشدته، فبكى. فقال: أنشدني كما تُنشدون _ يعني بالرقة_ قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين*** فقل لأعظمه الزكية»(1).

وهذا الأمر من الإمام علیه السلام دليل ومؤشر واضح على وجود طريقة خاصة غير طريقة الإنشاء المعهود للشعر، وفي الوقت نفسه مغاير للكيفية الغنائية.

٢_ إن هناك فرقاً واضحاً بين الغناء والعزاء لا يغفل عنه أحد من العقلاء؛ إذ إن الغناء له كيفيته الخاصة التي يطرب بها المستمع، كما عرّفه أئمة الفقه(2)، وأما العزاء المتداول بين المؤمنين فلا يحصل منه ذلك، وهذا ما ذكره جملة من علمائنا، فقد ذكر الشيخ جعفر الكبير قدِّسَ سِرُّه _ جواباً عن هذه الإشكالية الواهية _ قائلاً: «والعرف فارق بينهما [بين النائح والنائحة من جهة، وبين المغنّي والمغنّية من جهة أخرى]؛ للفرق بين

ص: 156


1- ابن قولويه، كامل الزيارات: ص٢٠٨.
2- اُنظر: الأنصاري، مرتضى، كتاب المكاسب: ج١، ص٢٩١.

الأصوات المهيّجة للأحزان لفراق الأرحام والإخوان، وبين ما يهيّج حرق الأشواق ويضرم النار في قلوب العشّاق، أين صرخة المحزون من تطريب العاشق المفتون؟! فلو طرق السمع من داخل الدار أو محلّ بعيد عن الأبصار صوت النداء عُرف أنّه من الغناء أو العزاء. فبعد التأمّل في البين، وظهور الفرق بين القسمين؛ لم يكن من الاستثناء من الغناء...، وهذا هو الذي جرت عليه سيرة الإمامية على مرّ الأعصار متلقّين له بالقبول دون الإنكار...»(1).

وقريب من هذه العبارة ما ذكره بعض المراجع المعاصرين، حيث يقول: «وقد عرفت أنَّ النياحة المتعارفة في مجالس العزاء لا تدخل في عنوان الغناء؛ لعدم كونها صوتاً لهوياً مناسباً لمجالس أهل الفسوق والعصيان، فكأنهم رأوا للغناء معنى عاماً يشمل كلّ صوت حسن _ كما يظهر من بعض أهل اللغة _ فذكروا هذا مستثنى عنه، أو استثناء الحداء وغيره أيضاً من هذا القبيل. وفيه ما عرفت: من أنها ليست كلّ صوت حسن، بل صوت خاص»(2).

النموذج الثاني: التحريف في أحداث عاشوراء من قبل قرَّاء العزاء

من الموارد التي ادُّعي بأنها طالتها يد التحريف والتشويه، هي الوقائع والمصائب التي جرت على الإمام الحسين علیه السلام وأهل بيته وأصحابه في واقعة الطف، فقد ذكروا أن قراء المنبر الحسيني وأرباب العزاء يتفننون في نقل المشاهد المروعة والمأساوية غير

ص: 157


1- كاشف الغطاء، جعفر بن الشيخ خضر الجناجي، شرح القواعد (كتاب المتاجر): ج١، ص٢٠١_ ٢٠٢
2- الشيرازي، ناصر مكارم الشيرازي، بحوث فقهية مهمة: ص٧٦.

القابلة للتعقل من دون الاستناد إلى مصدر تأريخي، كل ذلك بغية استدرار الدمعة من السامعين، وهل هذا إلّا حرف للحقائق الثابتة، ونقلها للأجيال اللاحقة مقلوبة مزورة؟! ولهذا النموذج مصاديق كثيرة يطول الكلام بذكرها، وقد جمعها بعض المحققين في كتاب مستقل، أصبح محلاً للردّ أو القبول(1).

الجواب عن النموذج الثاني

إن رمي المؤمن بالتُّهم من الأُمور المحرمة جزماً أيّاً كانت هذه التهمة، فضلاً عن التهمة التي تطعن في الدين والتقوى، ناهيك عن اتهام الرموز الدينية، وحماة نهضة أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، كالخطباء وأرباب العزاء المتكفّلين بإجابة دعوة الإمام الصادق علیه السلام بإحياء أمرهم(2)، وفي مقام الجواب عن هذه الإشكالية نقول:

١_ إن ما يعتبره المستشكل تحريفاً في النصوص _ وقلباً للحقائق في مقام إبداء مظلومية أهل البيت علیهم السلام _ كلها مستندة إلى مصادر تأريخية وغير مبالغ فيها، إلّا أن المستشكل لم يطلع على ذلك، وعدم اطلاعه لا يعني أنهم يتعمدون التحريف في النقل كما يدعي القائل.

٢_ كثير من النقولات التي يعتمدها أرباب المنابر تتصدّرها عبارة توحي إلى الحاضرين بأنها مجرد لسان لحال المرثي، وهو أمر جائز ومسوغ لدى فقهائنا(3)، فإن

ص: 158


1- اُنظر: المطهري، مرتضى، تحريفات عاشوراء.
2- انظر: الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد: ص٣٢. وأيضاً: الصدوق، محمد بن علي، مصادقة الإخوان: ص٣٢. وأيضاً: الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج١٠، ص٩٢
3- اُنظرعلى سبيل المثال لا الحصر: الخوئي، أبو القاسم، صراط النجاة: ج٢، ص٤٤٣. الموقع الرسمي للسيد السيستاني، في الأسئلة التي طُرحت حول الشعائر.

الخطباء وروَّاد المنبر لا يروون الوقائع التي جرت على الحسين علیه السلام وأهل بيته بما هي عين الواقع الذي جرى على أهل البيت علیهم السلام ، مع أن معظمها مروي في مصادر تأريخية متسالم على النقل منها، وهذا الاحتياط من قبل القرَّاء ينمُّ عن ورعهم وتقواهم.

٣_ لو فرض _ وفي حالات نادرة جداً_ صدور فعل من بعض المتلبّسين بثوب القرّاء والخطباء، فهذا لا يعني أن نرمي الجميع بذلك، ونشيع في الذين آمنوا الفاحشة، لمجرد حالات شاذة لا تكاد تُذكر.

النموذج الثالث: التمسك بالبكاء على الحسين علیه السلام ونسيان أهدافه السامية

من بين التُّهم التي أُلصقت بالشعائر الحسينية _ الثابتة بالأدلة الكثيرة والمتواترة _ هو أن البكاء على الحسين علیه السلام وعرض المشاهد المروعة والمأساوية في ثورته باتت أمراً أساسياً وهدفاً مستقلاً _ بل منفرداً أيضاً _ لدى روّاد المآتم؛ فأنتج اعتناؤهم بذلك نسيان المبادئ والقيم السامية التي قاتل الحسين من أجلها؛ بل ولَّد في نفوس الناس حالة من الخنوع والتذلل تحت وطأة الجبابرة، فصار أفيوناً للناس، وهذا أمر لا يرتضيه الإمام باعتبار أنه فاتح رسالي همُّه الرئيس هو نشر أهدافه، ومن أهمها الوقوف بوجه السلطان المستبد.

الجواب عن النموذج الثالث

هذه الشبهة وإن كانت من أوضح الشبهات بطلاناً إلّا أننا نُجيب عنها بأُمور:

١_ إن الإبكاء والتذكير بالمصائب التي حلت بأهل البيت في واقعة عاشوراء هدف من الأهداف المهمة التي ذكرها الإمام علیه السلام بقوله: «أنا قتيل العبرة، لا يذكرني

ص: 159

مؤمن إلّا استعبر»(1)، بل دعا لذلك الأئمة من بعده أيضاً، كما في قول الإمام الصادق علیه السلام : «اللهم... فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، وارحم تلك الأعيُن التي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا»(2).

٢_ إن الكلام الذي ذكره صاحب الشبهة مجرد دعوى بلا دليل، بل إن الدليل على خلافه تماماً؛ إذ إن مجرد الاستماع إلى المنابر وما تطرحه من مواضيع بناءة للمجتمع تُشكِّل لنا صورةً معاكسةً لما يُقال تماماً، فصحيح أن كل منبر يبتدئ بالبكاء ويختم به أيضاً، إلّا أن مجموع البكاء يتخلله الحديث الهادف، والكلمة الحسنة، والموعظة الهادية، والنقد البنَّاء للحالات والتصرّفات السيئة المستشرية في المجتمعات عموماً.

٣_ لو كانت المنابر التي تُقام على سيد الشهداء مدعاة للخنوع والخضوع تحت وطأة حكّام الجور والظلم، لما حوربت من قِبَل المتجبرين على مرِّ العصور، ولما كانت مؤرقةً لهم، فهي التي حفظت لنا شعلة الإصلاح التي أرادها الإمام الحسين علیه السلام على مرِّ العصور، وكل هذا من الواضحات التي لا ينكرها أحد ولا تحتاج إلى إقامة الدليل.

٤_ إن إبداء مظلومية أبي عبد الله علیه السلام هي التي جعلت من كل مصلح يريد القيام بنهضة ضد الظالم والظلم يستعين ويقتدي بها؛ كي ينتصر، كما في قول الثائر الهندي غاندي: «تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر»(3).

ص: 160


1- ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص٢١٥.
2- المصدر السابق: ص٢٢٩.
3- قول مشهور عنه.
النموذج الرابع: تهمة اختراع بعض الطقوس غير المستندة إلى دليل

تتجاذب ألسنُ المغرضين والغافلين بعضَ الطقوس والمظاهر الصادرة عن بعض الموالين، والتي تُعبِّر عن حزنهم وتضامنهم مع أهل البيت علیهم السلام ؛ فيُرمى كثير منها في حقول الخرافة أو الحقائق المشوهة المعالم، ومن الأمثلة التي تُذكر في المقام هي ما يُسمى ب_ (ركظة طويريج)؛ إذّ أنها تصرُّف عفوي صادر عن مجموعة من الناس، ثم تطورت بعد ذلك بعد أن أضفى عليها بعض العلماء مشروعية إبَّان مشاركته فيها، مع أن حالها واضح من حيث المبدأ.

الجواب عن النموذج الرابع

ما نريد قوله في الإجابة عن الشبهة المذكورة هو:

١_ إن هذه الموارد من الشبهات التي لها نحو عُلقة بما يردده الجموديون من الموسومين باسم الدين؛ حيث يرمون كل شيء لم ينصَّ عليه بتهمة الخرافة، بل يعتقدون بإن بعضها أمر مبتدع موجب لخروج صاحبها عن الدين، مع أنهم غافلون عن كيفية التدرج في السعي وراء الدليل لكل شيء يراد الحكم عليه بالحرمة أو الوجوب، أو السلب والإيجاب، فكل أمر يُراد النظر في مصيره الشرعي يُنظر إلى أدلته الخاصة، وهذا أمر نتَّفق معهم عليه، ولكن ما لم يلتفت إليه المُستشكل في المقام هو مرحلة البحث عن وجود أدلة تشمل _ بعمومها أو إطلاقها _ موضوعة البحث، وهي مرتبة متأخرة عما ذكرناه آنفاً، وهذه النكتة المهمة ساعد الالتفات إليها _ من قبل فقهائنا _ على إعطاء النتائج الإيجابية في كثير من المسائل التي تُعدُّ مَعْلَماً من معالم الدين

ص: 161

وشعيرة من شعائره، وخصوصاً في بعض الشعائر والطقوس الحسينية _ التي تُرمى من قِبَل بعض دعاة الحداثة والتجدد بالخرافة والتحريف _ فأفتوا باستحباب الموارد التي تتّصف بالجواز في حدّ نفسها، فيما لو طرأ عليها عنوان الشعائرية وأصبحت مَعْلَماً من معالم الشعائر(1).

٢_ مع غض النظر عما تقدم في الإجابة الأُولى، فإن أداء بعض الأفعال والطقوس من دون أن ينسبها فاعلها أو المنظّر لها إلى شخص المعصوم مما لا إشكال فيه، فيما لو كان يوصل فكرةً هادفةً إلى المشاهدين أو السامعين، وبما أن كثيراً من الموارد التي تُقام، لم تُنسب للشارع المقدس بصفة دلالة الأدلة الخاصة عليها، فأيُّ مشكلة في أدائها؟ إما على نحو اندراجها تحت مضمون الدليل العام، أو بعنوان كونها مُعبّرة عمّا هو مكنون في ضمير فاعلها من مشاعر تجاه النهضة الحسينية المباركة، فيُبيِّن _ من خلال أفعاله هذه _ تضامنه مع إمامه الحسين علیه السلام .

النموذج الخامس: حصول الاختلاط المحرّم بين الجنسين حين العزاء

ذهب بعض إلى أن إحدى مفردات المراسم العاشورائية الخرافية هي خروج مواكب العزاء واللطم؛ حيث تحولت المراسم الحسينية من كونها شعيرةً عباديةً، وفاجعة محرقة للقلوب إلى مسيرة ترفيهية تؤدِّي إلى الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، ولا ينكر ما لهذا الأمر من أثر سلبي ومفسدة للفرد والمجتمع، وقد نهى

ص: 162


1- فقد ذكر ذلك _ مفصلاً _ الشيخ السند في كتابه الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد، وقد أفاد في صفحة ٦٦ منه قائلاً: «وعمومات إحياء أمرهم التي طُبّق أكثر من واحد منها على العزاء الحسيني، وهي تشمل بإطلاقها المستجدّ منه. وطرق هذه الطائفة من الروايات تربو على العشرين، كما ظهر ذلك لنا في مراجعة سريعة لها».

الشرع المقدس عنه وشدد فيه أيّما تشديد، فعن محمد بن الطيار، قال: «دخلت المدينة وطلبت بيتاً أتكاراه، فدخلت داراً فيها بيتان بينهما باب وفيه امرأة، فقالت: تكاري هذا البيت. قلت بينهما باب وأنا شاب. فقالت: أنا أغلق الباب بيني وبينك. فحوّلت متاعي فيه، وقلت لها: أغلقي الباب. فقالت: يدخل عليَّ منه الروح، دعه. فقلت: لا، أنا شاب وأنت شابة أغلقيه. فقالت: اقعد أنت في بيتك فلست آتيك ولا أقربك. وأبت أن تُغلقه، فلقيت أبا عبد الله علیه السلام فسألته عن ذلك؟ فقال: تحوّل منه؛ فإنَّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان»(1).

وكأن المدعي لحصول الاختلاط في مواكب العزاء يعتقد أن هذه المواكب التي تخرج في زماننا لم يكن لها جذور وأساس، فهي خرافة لا مساس لها بالدين.

الجواب عن النموذج الخامس

١_ إنّنا نسلم بحرمة الاختلاط المحرم بين الجنسين، ولكن ما لا نسلم به ولا نقبله هو دعوى حصول الاختلاط المحرم بين الجنسين في مجالس أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، فكيف يُتفوَّه بهذا الكلام ومجالس العزاء تُبثُّ في هذه الأيام على الفضاء ليلاً نهاراً، ولم نرَ ولم نسمع بهذا الاختلاط المحرم.

٢_ لو فرضنا حصول الاختلاط المحرم _ في بعض الأحيان _ من بعض ضعيفي النفوس من الناس، فهذا لا يوجب ترك الشعائر والعبادات؛ وإلّا لزم ترك الكثير من الواجبات والسنن، وقد ورد النهي عن ترك الطاعات والعبادات بسبب ما يصاحبها

ص: 163


1- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج١٩، ص١٥٤، ح١.

من المنكر والباطل، فعن زرارة قال: «حضر أبو جعفر علیه السلام جنازة رجل من قريش وأنا معه وكان فيها عطاء، فصرخت صارخة، فقال عطاء: لتسكتن أو لنرجعن. قال: فلم تسكت؛ فرجع عطاء. قال: فقلت لأبي جعفر: إنَّ عطاء قد رجع. قال: ولِمَ؟ قلت: صرخت هذه الصارخة، فقال لها: لتسكتن أو لنرجعن. فلم تسكت فرجع. فقال: امض، فلو أنا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقض حق مسلم...»(1).

٣_ لا أحد ينكر ما يقع من الاختلاط _ في بعض الأحيان _ في حج بيت الله الحرام، في الطواف وغيره، فلو كان مجرد الحضور في مكانٍ واحد وبناية واحدة يوجب التحريم، للزم حرمة الطواف والرمي الذي يوجب الاختلاط، بل والتَّماس بين الجنسين في أحيان كثيرة! والحال أنه لا قائل بالتحريم من الفقهاء، ولم يُفت أحد من المسلمين بحرمة الطواف والحج بصورة عامة.

٤_ ليس المناط في تبنِّي فعل من الأفعال الشعائرية أن يكون مدعوماً بدليل خاص في مورده فقط، بل يكفي أن تناله يد العمومات المقررة لشرعنة إحياء أمرهم، والتذكير بالمصائب التي جرت عليهم، كما تقرَّر في محله(2)، شريطة أن تكون سالمة من شوائب الحزازة والمبغوضية التي تودي بها إلى دائرة المحرمات، وهذه النكتة من الأُمور المهمة التي تخفى على دعاة الإصلاح أو يتغافلها المغرض منهم، فيرمي كل مَعْلَم من معالم الدين بتهمة الخرافة أو التحريف، فيما لو لم يظفر بدليله الواضح لعينه المكفوفة.

ص: 164


1- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج٣، ص١٤٠، ح١.
2- كما تقدم الكلام عنه في الجواب الأول عن النموذج الثالث.
النموذج السادس: اشتمال العزاء على التمثيل المحرّم

ومن الموارد التي ادُّعي أنها انحرفت عن مسارها الطبيعي، والتي طرأ عليها التحريف؛ لغرض صدّ الناس عن مجالس الذكر ومواساة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم بسبطه الحسين علیه السلام ، هو بعض مراسم العزاء التي تشتمل على التمثيل المحرم؛ وفي أغلبها ما يوجب السخرية والاستهزاء بالمذهب الحق والمراسم الحسينية المقدّسة!

الجواب عن النموذج السادس

١_ إن الحرمة التي يدعيها المُستشكل في هذه الظاهرة غير مستندة على أي دليل ينتصر به لدعواه، بل ما ذكره الفقهاء المسلمون من جواز تمثيل الشخصيات والرموز المقدسة _ مع الاجتناب عما يعد مسيئاً للشخصية التي يُراد تمثيلها _ دليل دامغ لدحض دعواه.

٢_ إنّ مجرد الاستهزاء والسخرية بالشعائر والعبادات لم يكن مُبرّراً في يوم من الأيام لتحريم شيءٍ أبداً، وكيف يكون مبرّراً لذلك، وقد سُخر من الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم ، وأهل بيته علیهم السلام ، ولا زال أعداء أهل البيت علیهم السلام يسخرون منا ومن شعائرنا، أفهل يعقل أن نترك شعائرنا لمجرد السخرية والاستهزاء، وقد حثَّ الإمام الصادق علیه السلام شيعته على عدم ترك مراسمهم في جواب شكوى أحد أصحابه من قوم سخروا منه حين زيارته قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، وقد وصفهم الإمام بأنهم شرار الأُمة، كما جاء على لسان جده المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ، فقد روى أبو عامر، عن الإمام الصادق علیه السلام ، عن أبيه، عن جدّه عن الحسين علیه السلام أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي علیه السلام : «يا أبا الحسن، إنَّ الله تعالى

ص: 165

جعل قبرك وقبر وُلدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإنَّ الله تعالى جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده تحنُّ إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمّرون قبورَكم ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلى الله ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنة.

يا علي، مَن عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومَن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أُمه. فأبشر، وبشّر أولياءك ومحبيك من النعم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ولكن حُثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم بزيارتكم، كما تُعيَّر الزانية بزناها، أولئك شرار أُمتي لا نالتهم شفاعتي، ولا يردون حوضي»(1).

٣_ إن السخرية من قِبَل الجهلة والمغرضين حاصلة في بعض الواجبات والفرائض التي فرضها الله تعالى؛ وخير مثالٍ على ذلك هو شعيرة ونُسك رمي الجمرات وغيرها في مناسك الحج والزيارة، ومع ذلك لم ينثن المسلمون قاطبة عن أداء هذا النُّسك، بل لم تُعدّ مبرّراً ولا مسوغاً لتركها على مرِّ العصور.

وهناك نماذج أُخرى لدعاوى الخرافة والتحريف مما يرتبط بعاشوراء الحسين تركناها روماً للاختصار.

ص: 166


1- الطوسي، تهذيب الأحكام: ج٦، ص٢٢.

الإمام الحسين علیه السلام في تراث الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمة الله د. هادي عبد النبي التميم

اشارة

*د. هادي عبد النبي التميم(1)

تمهيد:

إن من أعظم النهضات التي شهدها التاريخ العالمي هي نهضة الإمام الحسين الإصلاحية، إن لم نقل: أعظمها على الإطلاق، فضلاً عن عظمتها في الواقع الإسلامي؛ لذلك نجد أن هذه الحركة المباركة قد أخذت حيّزاً واسعاً من البحث والتنقيب والتحليل في كتابات العلماء والمحققين والفضلاء، سيما قائدها الشهيد الحسين بن علي علیهماالسلام .

من هنا؛ سوف نُسلط الضوء على تراث أحد العلماء الكبار وبالمقدار الذي يختصّ بنهضة الإمام الحسين علیه السلام ، ألا وهو تراث الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وفي البدء لا بد من إطلالة تعريفية بهذا العالم الجليل، فنقول:

ص: 167


1- أُستاذ مساعد في الكلية الإسلامية الجامعة _ النجف الأشرف.

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

اشارة

ولِدَ الشيخ محمد حسين بن الشيخ علي، بن محمد رضا، بن موسى، بن الشيخ جعفر الكبير، بن الشيخ خضر، بن يحيى، بن سيف الدين في النجف الأشرف عام ١٢٩٤ه_/ ١٨٧٧م(1).

وينتسب الشيخ محمد إلى عائلة عربية يمنية، هاجر جدها الأعلى _ الشيخ خضر بن يحيى _ إلى النجف الأشرف منذ ثلاثمائة سنة تقريباً من جناجة(2) جنوب الحلة(3). وقد أُطلق على أُسرته اسم (کاشف الغطاء) نسبة إلى كتاب (کشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرَّاء)، وهو كتاب في الفقه والأحكام، ألّفه أحد علماء أُسرته وهو الشيخ جعفر بن الشيخ خضر(١١٤٩ه_/ ١٧٣٦م _ ١٢٢٣ه_/ ١٨٠٨م)، صدر سنة ١٢٠٥ه_/ ١٧٩٠م(4).

توفرت للشيخ محمد بيئتان علميتان: بيئة علمية خاصة، والتي تمثلت بأُسرته التي كانت ذات توجّه علمي دين(5)، ولا سيما والده الشيخ علي الذي تولّى تربيته

ص: 168


1- آل كاشف الغطاء، عبد الحليم، مقدمة كتاب في السياسة والحكمة: ص١٠.
2- قرية من قُرى الحلة، يقال لها قديماً: قناقية، ويلفظها العرب جناجية على قاعدتهم في إبدال القاف جيماً. اُنظر: آل كاشف الغطاء، جعفر، مقدمة كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء: ص١_ ٦
3- اُنظر: كاشف الغطاء، محمد حسين، العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية: ص١٢. كاشف الغطاء، مقدمة كتاب في السياسة والحكمة: ص١٠
4- اُنظر: كاشف الغطاء، العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية: ص٥٥. السيد سلمان، حيدر نزار عطية، الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء ودوره الوطني والقومي: ص٣١_٣٢
5- اُنظر: محبوبة، محمد جعفر، ماضي النجف وحاضرها: ص٣_١٨٣. وللاطلاع على توجه أُسرة آل كاشف الغطاء وعلمائها ينظر: التكريتي، منير بكر، أساليب المقالة في الأدب العراقي الحديث والصحافة العراقية: ص٢٦١

وتعليمه(1). وبيئة علمية عامة، تمثلت بالوسط الحوزوي في مدينة النجف الأشرف، الذي كان الشغف بالعلوم أبرز ميزاته؛ لا سيما وقد شهدت النجف في فترة نبوغ الشيخ حركة علمية وفكرية، وثقافية وأدبية واسعة النطاق، ووصلت إليها الكثير من الأفكار

الحديثة التي تأثرت بها الطبقة المثقفة في المدينة، وساعدت المجلات الصادرة في مصر وسوريا وبعض البلدان الإسلامية في نشر ثقافة جديدة مهّدت لنهضة فكرية في هذه المدينة المقدسة(2)، ولعل الأمر الأهم الذي جعل هذه الظروف المساعدة عامل بناء حقيقي في شخصية الشيخ هو نشاطه وهمَّته في تلقِّي العلم، والتعلُّق بأهل الفضل، والاستزادة من الحكمة والخير؛ وقد وصف لنا هذا العامل الذاتي بيراعه البليغ، فقال: «إني منذ عرفت ليلي ونهاري، وميزت بين خشونة رأسي ونعومة أظفاري لم أصبُ ولم أتعلّق إلّا بمدارسة الكتب ومزاولة العلم والتعلم، واللصوق بأهل الفضل والفضائل، والمثول بين يدي الأكابر والأماثل، اقتباساً من فوائدهم، وتطفلاً على موائدهم»(3).

ص: 169


1- اُنظر: الخاقاني، علي، شعراء الغري (النجفيات): ص١٠_١٠٠؛ السيد سلمان، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: ص٣٤
2- اُنظر: السيد سلمان، الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء: ص٥٠. ومما له دلالته على الحركة العلمية والثقافية التي نشطت في النجف بتأثير النهضة الحديثة تأسيس جماعة من الأهالي عام ١٣٢٧ه_/ ١٩٠٩م هيئة علمية، اشترك فيها علماء الدين وعدد من التجّار، أخذت على عاتقها إنشاء مدارس لتدريس العلوم الحديثة واللغات الأجنبية، ولا ريب في أن لذلك دوراً كبيراً في حركة التجديد ونشر الأفكار الحديثة. اُنظر: الأسدي، حسن، ثورة النجف: ص٧٩
3- كاشف الغطاء، محمد حسين، الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية: ص١_٢٠.
شخصيته العلمية

من الطبيعي أن تنعكس هذه المؤثرات على شخصية الشيخ وتُساهم في إعداده، حيث انفتح منذ نعومة أظفاره على الثقافة المعاصرة _ فضلاً عن الثقافة الحوزوية(1) _ وانعكس ذلك على نشاطه المبكر في حقل اللغة والأدب، والسياسة والقانون فيما ألّف، وناقش كبار المفكرين المعاصرين في مختلف فروع المعرفة، بفضل الصحافة والمؤتمرات والمقابلات، واضطلع بمهمات ثقافية وإسلامية... بما يخدم الحقيقة والإسلام، ليس هذا فحسب، بل نشط في ميدان التحرك الاجتماعي والسياس(2).

فكان بالإضافة إلى الواجبات الدينية والعلمية مثل صلاة الجماعة والخطبة والوعظ والتدريس والتأليف والإفتاء، يندمج في حياة الناس، ويشفع لدى المسؤولين في قضاء حوائجهم، أو المطالبة بالإصلاحات الاجتماعية(3). وكان له دور مُشرّف في الأحداث الوطنية، جسدت تفاعله مع الساحة العراقية، وسعيه الحثيث لتحرير العراق، وزيادة وعي أبنائه(4)، ناهيك عن مواقفه الشجاعة في دعم القضية الفلسطينية التي أخذت من

ص: 170


1- تعلم الشيخ أيام صباه وشبابه _ كما هي الطريقة الجارية في مدينة النجف _ النحو والمنطق، وعلم البلاغة، والفقه وأُصوله، والحكمة والكلام، والرياضيات، وتوسَّع في العربية: من شعر ونثر وخطب، وحضر على أكثر مشاهير عصره من الأعلام. اُنظر: كاشف الغطاء، مقدمة كتاب في السياسة والحكمة: ص١١
2- اُنظر: هيدان، نوره كطاف، الفكر السياسي للشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد: ص٢٤.
3- كاشف الغطاء، مقدمة كتاب في السياسة والحكمة: ص٧_٨.
4- لمزيد عن نشاطه الوطني اُنظر: السيد سلمان، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: ص٧٩ _١٣٠. هيدان، الفكر السياسي: ص٢٨_٣٢

نشاطه وهمته الكثير(1).

وقد انسجم هذا التوجه المتنوع والمتنور مع ما كان يؤمن به من أن «وظيفة العالم لا تنحصر في الفتوى فقط، بل أهم وظائفه الإرشاد والإصلاح... والعلماء ورثة الأنبياء والأوصياء؛ فيجب أن يقتدوا بهم في التزكية والتهذيب»(2).

وكان هذا العالم العامل يقول: إذا كان الوعظ والإرشاد والنهي عن الفساد، والنصيحة للحاكمين بل لعامة العباد، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار والاستعباد، ووضع القيود والأغلال عن البلاد وأبناء، البلاد، من السياسة فأنا غارق فيها إلى هامتي وهي من واجباتي، وأراني مسؤولاً عنها أمام الله والوجدان؛ فإن الله قد أخذ على العلماء ألّا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم(3).

كاشف الغطاء والتقريب

قد انطلق الشيخ كاشف الغطاء للتقريب بين المسلمين بجميع مذاهبهم، ودعا المسلمين للتخلّي عمّا يُثير الآخر، والتوقُّف عن إثارة المسائل الخلافية التي تزيد الفرقة، وتقوي الشقاق بين أبناء الدين الواحد(4).

ص: 171


1- فضلاً عن دفاعه المستميت عن القضية الفلسطينية، فقد أفتى بوجوب الجهاد في فلسطين بالأرواح والمال؛ لتخليصها من الاحتلال الصهيوني سنة ١٣٦٨ه_، ١٩٤٨م، وأبرق للحكومة الإيرانية داعياً إياها للوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية. اُنظر: كاشف الغطاء، محمد حسين، الخطب، جمعها: عبد الحليم كاشف الغطاء: ص٧٧ _ ٧٩. كاشف الغطاء، في السياسة والحكمة: ص١٥، ص٤٩، ص٦٠، ص٦٥ _ ٦٦
2- كاشف الغطاء، الخطب: ص١٥١.
3- اُنظر: كاشف الغطاء، محمد الحسين، المُثل العليا في الإسلام لا في بحمدون: ص٨٦_٨٨
4- اُنظر: السيد سلمان، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: ص١٥٥. واُنظر: خطبة الشيخ في المؤتمر الإسلامي الباكستاني المنعقد في كراتشي العاصمة الباكستانية سنة ١٣٧٢ه_/ ١٩٥٢م: ص٢_ ٨

وكانت جهود الشيخ في هذا المضمار تلقى ترحيباً ودعماً شعبياً واسعاً؛ فعندما ذهب الشيخ كاشف الغطاء إلى القدس؛ لحضور المؤتمر الإسلامي العام سنة١٣٥٠ه_ _١٩٣١م اجتمع عدد غفير من أهالي فلسطين في المسجد الأقصى، يبلغ عددهم نحو عشرة آلاف نسمة، ومعهم أعضاء المؤتمر البالغ عددهم (١٥٠) عضواً من أعيان العالم الإسلامي، فطلب مُفتي فلسطين السيد أمين الحسيني من الشيخ كاشف الغطاء أن يتقدم إماماً لصلاة العشاء؛ فأجاب طلبه وخطب بعد الصلاة خطبة طويلة، عُرِفت بالخطبة التاريخية، وكانت صلاة الجماعة هذه بذرة للتقارب والأُلفة بين المذاهب الإسلامية(1)، وقد نشرت الصحف العالمية هذا الحدث، وعندما رجع الشيخ من سفره استقبله الناس بحفاوة بالغةٍ، ونظمت القصائد بحقه، وقد أُحصي ما قيل فيه؛ فوجد أنه يزيد على العشرة آلاف بيت، وهو الآن موجود في مكتبته(2).

كاشف الغطاء وموقفه من الصهيوأمريكية

من المواقف الصلبة للشيخ هو رفضه الدعوة التي وجهتها إليه جمعية أصدقاء الشرق الأمريكية؛ لحضور مؤتمر في (بحمدون _ لبنان) لمناقشة القيم الروحية في الدين الإسلامي والمسيحي وتأثيرات الأفكار الشيوعية، وبعد رفض حضور المؤتمر(3)، ألّف كتابه (المُثل العليا في الإسلام لا في بحمدون)؛ كوثيقة ضد المؤتمر،

ص: 172


1- اُنظر: كاشف الغطاء، مقدمة كتاب في السياسة والحكمة: ص١٤_١٥. الغريري، سامي، محمد الحسين كاشف الغطاء أحد روَّاد التقريب، بحث منشور في كتاب الحوزة العلمية العراقية والتقريب: ص٢١٣
2- اُنظر: الغريري، محمد الحسين كاشف الغطاء أحد روّاد التقريب، ص٢١٣.
3- اُنظر: جواب الشيخ كاشف الغطاء في الوثيقة المنشورة ضمن كتاب المُثل العليا في الإسلام: ص٩٩

وداعياً فيها إلى مقاطعته، وقد عدَّ الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية هي الخطر الأكبر الذي يُهدد العرب والمسلمين والإنسانية(1).

وقد عد الناس الشيخ كاشف الغطاء رجلاً شجاعاً معبِّراً عن شعورهم وآلامهم، وممثلاً عن آرائهم ومصالحهم، وقد نوّهتْ بالكتاب عدد من الصحف العراقية واللبنانية بما يستحقه من الإطراء(2)، ووردت إلى سماحته رسائل كثيرة، وبرقيات يُبدي أصحابها سرورهم لصدور الكتاب واستحسانهم موقفه المشرف من المستعمرين، وإعجابهم ببلاغته وأصالة آرائه التي أبداها بصراحة ووضوح(3).

كاشف الغطاء والعطاء العلمي

ترك الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء تراثاً كبيراً أغنى المكتبة العربية والإسلامية، وقد تنوعت مصنفاته، وجال فكره الثاقب في شتّى ميادين العلوم؛ فترك ما يربو على الثمانين مؤلّفاً(4)، في مجال التاريخ، والفقه، والسياسة، والدين، والأخلاق، فضلاً عن المؤلفات ذات الطابع الإصلاحي العام(5).

ص: 173


1- اُنظر: المصدر السابق.
2- مثل صحيفة الاستقلال، وصوت الأهالي، والأخبار، والزمان، والشعب، والحساب، والوادي في العراق، والعرفان، والهدف، والتلغراف، وبيروت المساء، والصرخة في لبنان
3- اُنظر: نصوص تلك المقالات والرسائل التي وصلت إلى الشيخ ضمن ملحقات كتاب المُثل العليا في الإسلام لا في بحمدون، تحت عنوان: صدى الكتاب في العالم العربي والإسلامي: ص١٠٢_ ١١٩
4- ذكر نجل الشيخ (محمد شريف آل كاشف الغطاء) أن مؤلفات والده تزيد على الثمانين مؤلفاً. اُنظر: مقدمة الطبعة الرابعة عشرة لكتاب، أصل الشيعة وأُصولها مقارنة مع المذاهب الأربعة: ص٤
5- ومما يُشار إليه في المقام هو أن بعض مؤلفات الشيخ رحمة الله مفقود ولم يُعثر عليه. اُنظر استعراض مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة، كما وردت لدى السيد سلمان، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: ص٥٧_٦٥.

كانت مؤلفات الشيخ على قسمين: فمنها ما كان ينصرف فيه للتحضير والإعداد والمراجعة، ومن ذلك: مؤلفاته الفقهية، والأُصولية، والكلامية، والأدبية، مثل شرح العروة الوثقى(فقه استدلال)، وتقريرات وبحوث في الأُصول والدين والإسلام وغيرها كثير؛ وهناك قسم آخر من تآليفه، يؤلف على أساس حاجةٍ ماسة، أو نتيجة طلب وإلحاح من ذوي الفكر والمثقفين، أو ردّ بعض الأقلام التي تطغى عليها النزعة المذهبية؛ فتحفزه وتضطره إلى التأليف ودفع الشبهات، ورد الطعون(1)، ومن ذلك: كتاب (أصل الشيعة وأُصولها مقارنة مع المذاهب الأربعة) الذي جاء ردَّاً على الأقلام التي أخذت تطعن بالإمامية عن جهل، وقد وصف الشيخ هذا الدافع بقوله: «ولم تبرح أقلام الأساتذة المصريين في كل مناسبة تطعن بالشيعة، وتنسب إليهم الأضاليل والأباطيل التي كانت تُنسب إليهم في العصور المظلمة والقرون الوسطى»(2).

فقد ذكر أحمد أمين أن التشيع كان مأوًى يلجأ إليه كل مَن أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومَن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية(3)، وقد اتخذ باحثون آخرون ذلك منطلقاً للإساءة إلى معتقدات الشيعة جميعاً.

وقد أقام الشيخ كاشف الغطاء الدليل في هذا الكتاب على صحة معتقدات الشيعة، ودفع الشبهات عن أُصول عقائدهم مع «اللباقة في التصرف، ومع التألق في الدفع بالتي هي أحسن، ومع التلطف في عدم إثارة الحفائظ»(4).

ص: 174


1- اُنظر: آل كاشف الغطاء، مقدمة الطبعة الرابعة عشرة لكتاب أصل الشيعة: ص٤
2- أصل الشيعة وأُصولها: ص١٥.
3- اُنظر: أمين، أحمد، فجر الإسلام، ط٧، القاهرة، ١٣٧٥ه_/ ١٩٥٥م، ص ٢٧٦، وينظر: ص١١١ _ ١١٢، ص ٢٧٤ _ ٢٧٥، ص٢٧٧ _ ٢٧٨
4- ورد هذا التقويم في رسالة العلامة أحمد زكي التي أرسلها من القاهرة إلى ناشر كتاب (أصل الشيعة وأُصولها) السيد عبد الرزاق الحسيني. اُنظر: أصل الشيعة وأُصولها: ص٢١

الإمام الحسين علیه السلام في تراث الشيخ كاشف الغطاء

اشارة

كان للإمام الحسين علیه السلام حيز واسع في تراث الشيخ كاشف الغطاء، وإن ظل ما كتبه عن هذه الشخصية الفذة دون طموحه؛ إذ حالت دونه حوادث الأيام، وتقلبات الصروف(1).

وسنعرض فيما يأتي أبرز المؤلفات التي وصلت من تراث الشيخ كاشف الغطاء بخصوص الإمام الحسين علیه السلام :

١_ الأرض والتربة الحسينية

وهو كتيّب صغير أو كما سُمِّي ب_(الرسالة)، يتألف من(٦٤) صفحة من القطع الصغير؛ وقد ألَّفه الشيخ بعد أن عرضت عليه رغبة أحد المستشرقين بالحصول على تاريخ حقيقي شامل لجميع نواحي التربة الحسينية؛ لإدراجه في دائرة المعارف الإنجليزية(2)، فلم يتوان جهده في اغتنام الفرص والعمل الجادّ حيال الواجب الديني، وقد توسّع فيه إلى البحث عن مطلق الأرض وخيراتها وأركانها وقدسيتها، بنحو ديني أدبي تاريخي، ثم تعرّض إلى التربة الحسينية.

ص: 175


1- ذكر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في نهاية كتابه: نبذة من السياسة الحسينية، ص٣٤. ما نصه: «لقد كنت أتمنّى منذ عشرين سنة أن أنتهز من عمري فرصةً وآخذ من مزعجات أيامي مهلةً لأكتب كتاباً في دقايق السياسة الحسينية وأسرار الشهادة بما لم يكتبه كاتب، ولاحام حول شيء منه مؤلف، ولا تفوّه ببعضه إلى اليوم خطيب، ولكن حوادث الأيام وتقلُّبات الصروف لا تزال تدفعني، من محنة إلى محنة، ومن كارثة إلى كارثة»
2- اُنظر: نص رسالة أحمد بدران، مترجم مديرية الميناء الذي عرض على الشيخ رغبة المستشرق، كما وردت في مقدمة كتاب: الأرض والتربة الحسينية: ص٨ _ ٩.

ومن بديع استنباطاته حول بركة الأرض _ بعد أن أورد الأحاديث النبوية الشريفة التي تُشير إلى تكريم الأرض _ قوله: «أفلا يتبيَّن من هذا سرّ أمر الباري جل شأنه للملائكة جميعاً أن يسجدوا لآدم الذي خلقه من تراب وأنشأه من الأرض، وأودع فيه جميع خواصها وعناصرها.. فليسجدوا لآدم عبادةً لله؛ وتقديساً وتكريماً للأرض ذات الخيرات والبركات، والمحيا والممات»(1).

ومن ذلك تدرّج إلى الاستنتاج بأن هذا هو سرُّ امتناع إبليس المخلوق من النار عن السجود لآدم المخلوق من الأرض، والعداء والنفرة بين النار والأرض ف_«الأرض مُجمعة والنار مفرقة؛ والجمع قوة والفرقة ضعف، الأرض باردة معتدلة والنار محرقة مشتعلة، الأرض نمو وزيادة والنار إفناء وإبادة، الأرض يعيش بها كل حيٍّ والنار يهلك بها كل حيٍّ، إذاً؛ فليسجد الملائكة لآدم، وليسجد أبناؤه لله على الأرض؛ فإنها أُمهم البرّة الحنون»(2).

وقد أشار الشيخ إلى أن الأرض مع وحدتها وتساوي بقاعها وأجزائها ظاهراً، إلّا أنها في الحقيقة مختلفة في البقاع والطباع والأوضاع؛ ففيها الطيبة والخبيثة، والحلوة والمالحة، والسبخة والمرَّة، ولا شك في أن الطيب النافع هو الحري بالكرامة والتقديس، ولا يبعد أن تكون تربة العراق على الإجمال من أطيب بقاع الأرض في دماثه طينتها وسعة سهولها، وكثرة أشجارها ونخيلها، وجريان الرافدين عليها، ثم لو تحرَّينا هذه السهول العراقية وجدنا من القريب إلى السداد القول: إن أسمى تلك البقاع، أنقاها تربةً، وأطيبها طينةً، وأذكاها نفحة هي تربة كربلاء الحمراء الزكية؛ فكان من صميم

ص: 176


1- المصدر السابق: ص٢٢.
2- المصدر السابق: ص٢٢_٢٣.

الحق أن تكون أطيب بقعة في الأرض مرقداً وضريحاً لأكرم شخصية في الدهر، وبهذا ينضمُّ إلى شرف تربة كربلاء الجوهري «باعتبارها أكرم مادة، وأطهر عنصراً، وأصفى جوهراً، من سائر البقاع» ينضم إليها طيبها العنصر(1).

وقد ناقش الشيخ كاشف الغطاء قضية السجود على الأرض _ إذ لا يجيز الفقهاء السجود إلّا على الأرض أو ما ينبت منها، غير المأكول والملبوس _ وأفضلية السجود على التربة الحسينية، وحاول أن يجد بعض ما لم يسبق إليه في هذا المجال؛ فأضاف إلى ما ورد من فضلها في الأخبار، وأنها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الأراضي، فقال: «لعل من جملة الأغراض العالية والمقاصد السامية، أن يتذكر المُصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الإمام بنفسه وآل بيته والصفوة من أصحابه، في سبيل العقيدة والمبدأ، وتحطم هياكل الجور والفساد والظلم والاستبداد؛ ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة _ وفي الحديث: أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد _ مناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية أُولئك الذين وضعوا أجسامهم عليها ضحايا للحق، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى؛ ليخشع ويخضع، ويتلازم الوضع والرفع، ويحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة»(2).

وقد تطرّق الشيخ _ بعد أن عدّ مزايا الأرض والتربة الحسينية _ إلى ما ورد في الكثير من الأخبار والآثار، في أن الشفاء قد يحصل من تربة الحسين علیه السلام ؛ ويتساءل: «أفلا يجوز أن تكون في تلك الطينة عناصر كيمياوية تكون بلْسماً شافياً من جملة

ص: 177


1- المصدر السابق: ص٢٩_٣١.
2- المصدر السابق: ص٣٣.

الأسقام، قاتلةً للميكروبات؟»(1).

ثم مزج هذا التساؤل برجاء _ لا يزال يتوانى عن تحقيقه باحثونا ودارسونا إلى اليوم _ فقال: «ولعل البحث والتحرّي والمثابرة سوف يوصل إليها، ويكشف سرَّها، ويحل طلسمها، كما اكتُشِف سرُّ كثير من العناصر ذات الأثر العظيم، مما لم تصل إليه معارف الأقدمين»(2).

وقد تضمن هذا الاحتمال طعناً على كل مَن يُبادر إلى إنكار أهمية تربة الحسين علیه السلام للاستشفاء دون أن يُقيم برهاناً على إنكاره.

ومما لم يغفله الشيخ كاشف الغطاء في رسالة الأرض والتربة الحسينية، الرد على قول «بعض مَن يحمل أسوأ البغض للشيعة: إن هذه التربة التي يسجدون عليها صنم يسجدون له. هذا مع أن الشيعة لا يزالون يهتفون ويُعلنون في ألسنتهم ومؤلفاتهم أن السجود لا يجوز إلّا لله تعالى، وأن السجود على التربة سجود له عليها، لا سجود لها»(3).

ويمكن القول: إن الشيخ كاشف الغطاء قد قدّم عرضاً حسناً لهذا الموضوع، مع ما فيه من الجدة والطرافة، وحَرَصَ على ذِكْرِ نواحٍ أُخرى تتعلَّق بالأرض تشريعية أو تكوينية، مع عدم إغفاله للنقد لبعض ما ورد عن خلق الأرض وفي كتب الشيعة أنفسهم، مما قد يكون أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة النافعة(4)؛ مما يعكس جديةً في

ص: 178


1- المصدر السابق: ص٣٤.
2- المصدر السابق: ص٣٤.
3- المصدر السابق: ص٣٥_ ٣٦.
4- ومن أمثلة ذلك: أن الأرض يحملها حوت أو ثور، ويضعها على قرنه، فإذا شاء أن تكون في الأرض زلزلة حرك قرنه؛ فتزلزل الأرض. اُنظر: ما ذكره من شواهد لهذا وأمثاله في الكتب الشيعية، المصدر السابق: ص٤٥_ ٤٧.

البحث، وموضوعيةً في الرأي، ورغبةً في تحقق النفع واستقصاء الحق.

٢_ مقتل الحسين علیه السلام

ويبدأ من ليلة العاشر من محرم الحرام، ويسرد وقائع تلك الليلة باختصار؛ إذ يبدو أنه يختصر هذا الكتاب المطبوع الذي يصل فيه إلى حين مقتل الحسين علیه السلام من كتاب أوسع؛ فقد ذكر في الصفحة الأُولى قائلاً: «اختصرناه من مقتل لنا صغير أوسع مما كتبناه هنا»(1).

ولم يُعثر على ذلك المقتل الواسع في تراث الشيخ كما يذكر ذلك نجلُه(2)، ويبدو للباحث أن ذلك المقتل المفقود ما هو إلّا (المجالس الحسينية) التي بدأ بتحقيقها أحمد بن علي بن مجيد الحلي في شهر رجب سنة ١٤٢٨ه_/ ٢٠٠٧م، والتي تسنّى للباحث أن يطّلع عليها، وبعد دراستها ومقارنتها بكتاب مقتل الحسين وجدنا أن كتاب المقتل المطبوع هو جزء من (المجالس الحسينية)، ويبدأ من المجلس الثالث بالتحديد، والذي يذكر وقائع ليلة عاشوراء(3)، فضلاً عن أن المقتل _ الذي صرح الشيخ أنه صغير أصلاً _ لا يمكن أن يكون أوسع من ذلك إلّا إذا أُضيفت إليه تفاصيل الوصول إلى كربلاء، كما في (المجالس الحسينية).

ص: 179


1- كاشف الغطاء، محمد حسين، مقتل الحسين علیه السلام : ص١٠.
2- اُنظر: كاشف الغطاء، محمد شريف، مقدمة كتاب مقتل الحسين: ص٥.
3- اُنظر: كاشف الغطاء، محمد حسين، المجالس الحسينية، (مخطوطة) تم تحقيقها على يد: أحمد بن علي بن مجيد الحلي سنة ١٤٢٨ه_/ ٢٠٠٧م، ولم يتم طبعها لحد الآن وهي موجودة في مكتبة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء: ورقة ٢٦_٦٤. ومن الجدير بالملاحظة أن المحقق لم يذكر أن تلك المجالس قد تكون هي المقتل الكبير الذي ذكره الشيخ

ومما يؤكد هذا الاستنتاج؛ أن الشيخ كاشف الغطاء كان يرتّب واقعة الطف على عشرة مجالس مختصرة؛ لتُقرأ في كل يوم من أيام العشرة الأُولى من محرم الحرام، في مشهد حافل بالناس، في الدار الكبيرة حسب العادة في ذلك الحين، وفي اليوم العاشر يقرأ هو بنفسه واقعة الطف ومصرع سيد الشهداء علیه السلام (1).

وهذا الأمر يوافق ترتيب (المجالس الحسينية) التي تبدأ من ذكر أهمية البكاء على الحسين علیه السلام ، ثم تفاصيل خروجه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، مفصّلاً في سياسة عبيد الله بن زياد في الكوفة واستشهاد مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وهي تفاصيل تستوعب حوالي تسعة أيام أو أكثر، إذا أراد الخطيب ذلك، ثم ذكر تفاصيل ليلة عاشوراء، وهي في (المجالس الحسينية) كما في كتاب (مقتل الحسين علیه السلام ) نصاً، ودون إضافات أو اختلاف، وأبرز كرامات الحسين علیه السلام أثناء المعركة، وقد ركَّز على خطب الحسين علیه السلام في المعسكر المعادي، وخطب أصحابه ومقاتلهم وأهل بيته علیهم السلام ، ثم استشهاد الحسين علیه السلام ، وختم المقتل بفجيعة السيدة زينب’ بأخيها، وخروجها نادبةً له(2)، وقد كان المقتل في كلا الكتابين عبارة عن سرد تاريخي خالٍ من التعليقات إلّا ما ندر، ومن ذلك تعليقه على خطب الحسين علیه السلام في المعسكر المعادي بالقول: «وكانت تلك الخطب المتقدمة قبل الشروع في الحرب، لا للإعذار والإنذار وإتمام الحجة فقط، ولا تفادياً من الحرب، وخوفاً من الموت، وركوناً إلى حب الحياة _ معاذ الله _ ولكنه سلام الله عليه بما أنه باب الوسيلة، ومفتاح خزائن الرحمة، وينبوع مجاري النجاة، لا جَرَمَ أن غرائز الحنان والرحمة كانت تدفعه إلى مدافعة ذلك الخلق المتعوس

ص: 180


1- اُنظر: كاشف الغطاء، محمد شريف، مقدمة كتاب مقتل الحسين: ص٤_٥.
2- اُنظر: مخطوطة المجالس الحسينية: ورقة ٢٦ _ ٦٤. كتاب مقتل الحسين: ص١٠_٧٧

عما حاولوه، وصمموا عليه من قتله، الذي فيه هلاكهم المؤبد»(1).

لقد كانت تلك المدافعة عبر المواعظ والحجج التي ساقها الحسين علیه السلام ، بغية توعية الجيش الزاحف لحربه، لعلها تترك أثرها فيهم.

لقد اعتصم الإمام بالمنطق في التحاجج؛ مطالباً أهل الكوفة من الذين شحذوا سيوفهم لقتله وقتل أصحابه، بأن يستخدموا ما أعطاهم الله من عقل وفكر، وأن لا ينساقوا كالهمج الرعاع، وبذلك وضع الإمام يده على الجرح عندما أراد أن يُحرّرهم من استبداد الطغاة والدعاية المضللة والفكرة الخاطئة، وأن يمنحهم قوة الشخصية؛ لكي يفكروا ويتساءلوا ويبحثوا عن الحقيقة بأنفسهم، ولم ينسَ أن يستخدم أُسلوب العتاب وتأنيب الضمير علاجاً لكثير من الحالات الانهزامية والشلل النفسي والازدواجية(2).

وقد رجع الشيخ في كتابيه (المجالس الحسينية)، و(مقتل الحسين)، إلى عدة مصادر كان يذكرها أحياناً في متن الحديث مثل(3):

* التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام .

* آمالي الشيخ الصدوق(ت ٣٨١ه_/٩٣٠م).

* مروج الذهب، للمسعود(ت٣٤٦ه_/ ٩٥٧).

ص: 181


1- كاشف الغطاء، مقتل الحسين: ص٣٨.
2- الكرمي، ناصر، الإمام الحسين كما رأيت: ص٣٩٦.
3- اُنظر: كاشف الغطاء، مخطوطة المجالس الحسينية، ورقة: ١،٣،٤،٨،١٢،١٣،٣٢. كاشف الغطاء، مقتل الحسين: ص١٠، ص٥٣

* الإرشاد، للشيخ المفيد(ت٤١٣ه_/ ١٠٢٢م).

* الكامل في التاريخ، لابن الأثير(ت٣٦٠ه_ _ ١٢٣٢م).

* اللهوف، لابن طاووس(ت٦٦٤ه_/ ١٢٦٥م).

وغير ذلك من المصادر، وكان يُعرض أحياناً عن ذكر المصدر مكتفياً بالقول: «قال أرباب المقاتل»(1)، أو «روى جميع أرباب المقاتل وأثبات المؤرخين الأفاضل»(2). وهو بذلك يفرز بعض الروايات التي عليها إجماع المؤرخين ومؤلفي كتب المقاتل.

ومما تنبَّه إليه محقق المجالس الحسينية: أن الشيخ كاشف الغطاء يختم روايته لمقتل الحسين( علیه السلام ) بالقول: «ونادى شمر (لعنه الله): ويلكم ما تنتظرون بالرجل؟ فلم يجسر عليه أحد، فنزل هو إليه بنفسه. وكان ما كان من إنفاذ مسطور، ولا حول ولا قوة إلّا بالله»(3).

فقال المحقق معلقاً على ذلك: «وانقطع قلم المؤلف رحمة الله ؛ لعظم الخطب الجسيم، ولبشاعة ما جرى على إمامنا الحسين علیه السلام وأهل بيته وصحبه من مصائب جسام.. فلذا أودُّ أن أُذكّر إخوتي من خطباء المنبر الحسيني، بأن يقتصروا على ذكر مصرع سيد الشهداء علیه السلام في يوم عاشوراء فقط، وينتهجوا نهج المؤلف رحمة الله ؛ وذلك لئلا يهون الخطب وتتعوَّد عليه مسامع بني البشر»(4).

ص: 182


1- مقتل الحسين: ص٦٢.
2- المصدر السابق: ص٦٨.
3- مخطوطة المجالس الحسينية: ورقة٦٤. مقتل الحسين: ص٧٦.
4- مخطوطة المجالس الحسينية: ورقة ٦٤، هامش التحقيق: رقم٢٢١.

ولعل المحقق أدرك ذلك لما عرف عن الشيخ كاشف الغطاء من اهتمام بإصلاح المنبر الحسيني؛ لأنه الآلية التي أخذت موقع الصدارة في ذكرى ثورة الإمام الحسين علیه السلام ، ومسؤولية الخطيب تقتضي التعريف بمفاهيم الإسلام، وطرح الفكر الإسلامي الواعي؛ لغرض توعية الأُمة الإسلامية فكرياً وسياسياً، وتوطيد أواصر الوحدة الثقافية بين المسلمين.

ولهذا؛ ينبغي أن تتوفر مواصفات مهمة في شخصية الخطيب، منها: الوعي الناضج في توجيه الجماهير، وامتلاك عُدَّة كافية من الفكر والثقافة والتاريخ؛ لأن المنبر أضحى في المجالس الحسينية المركز الرئيسي الذي تلتفُّ حوله الجماهير الشعبية، وتستمع بإذعان إلى ما يقوله الخطيب، الذي يناقش قضايا وأفكاراً تمسّ الواقع الإسلامي؛ لذا أضحى المنبر ذا قيمة جماهيرية، وقاعدة شعبية، وله صوته الثقافي والفكري المؤثر في الوسط الاجتماعي، وتوعية الأُمة سياسياً وفكرياً(1).

وبهذا أخذ الشيخ كاشف الغطاء يوجّه كلماته الإصلاحية الواعية إلى الخطباء، في استغلال هذه القاعدة الجماهيرية وتوجيهها نحو الإسلام الفعلي الواع(2)، من دون الاكتفاء بذكر ثواب البكاء فقط، أو التركيز عليه وترك الإلحاح على المبادئ الأساسية التي استُشهد من أجلها الإمام الحسين علیه السلام ، فيقول: «إن اللازم على خطباء المنابر والذاكرين لرزية الحسين علیه السلام في هذا العصر الذي ضعفت فيه علاقة (الناس) بالدين وتجرّأ الناس على المعاصي، وتجاهروا بالكبائر أن يفهموا أن الحسين قُتل وبذل

ص: 183


1- عبيد، ظاهر جبار، التجديد والإصلاح في فكر الشيخ كاشف الغطاء، مجلة قضايا إسلامية، العدد ٥: ص٤٨٨ _٤٨٩. هيدان، الفكر السياسي: ص١١٧
2- اُنظر: هيدان، الفكر السياسي: ص١١٧.

نفسه لأجل العمل بشعائر الدين، فمن لا يلتزم بأحكام الإسلام ويتجاهر بالمعاصي فالحسين علیه السلام منه بريء، كبرائته من يزيد وأصحاب يزيد، وأما ذكر أخبار الثواب فقط ففيها أعظم الإغراء»(1).

وقد قوّم الشيخ بعض مراسيم العزاء التي تُقام إحياءً لذكرى الحسين علیه السلام ، ووجد أنها مظهرية أكثر مما هي جوهرية، فارتقى منبر الوعظ وخطب في الناس قائلاً: «سيد الشهداء علَّم كل الدنيا _ لا خصوص الشيعة _ طريقة الإباء والعز، والشرف والشهامة، فعل فعلاً فريداً من نوعه؛ ليُعلِّم شيعته الإباء والتمسك بالمبادئ المقدسة، ولكنا تركنا اللباب وأخذنا القشور، واقتصرنا على النوح واللطم والبكاء. أنا لا أقول: لا تلطموا. بل أقول: لا تقتصروا على القشور والظواهر، وتتركوا اللباب والجواهر»(2).

وقد كان الشيخ يرى أن ذلك جناية عظمى على سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين علیه السلام (3).

وفي هذا المجال نفسه كانت تُوجَّه إليه رحمة الله بعض التساؤلات، لا سيما في شهر محرم الحرام _ الذي يقوم فيه الشيعة بمراسيم العزاء ولطم الصدور حزناً على سيد الشهداء _ وكانت بعض هذه الأسئلة تدور حول جواز هذه المراسيم أو عدم جوازها. وقد كان

ص: 184


1- كاشف الغطاء، محمد حسين، كتاب جنة المأوى، جمعه ورتبه وعلَّق عليه: العلامة السيد محمد علي القاضي الطباطبائي: ص١٣٩
2- كاشف الغطاء، الخطب: ص١٤٩.
3- اُنظر: كاشف الغطاء، جنة المأوى: ص١٣٩.

الشيخ جريئاً شجاعاً(1)، وهو يتعرض لهذه الظاهرة الشعبية المتأصلة نوعاً ما في الوسط الاجتماعي الشيعي، فذكر ما نصه: «مسألة لطم الصدور _ ونحو ذلك من الكيفيات المتداولة في هذه الأزمنة، كالضرب بالسلاسل والسيوف وأمثال ذلك _ إن أردنا أن نتكلم فيها على حسب ما تقتضيه القواعد الفقهية والصناعة المقررة لاستنباط الأحكام الشرعية؛ فلا تساعدنا إلّا على الحرمة، ولا يمكننا إلّا الفتوى بالمنع والتحريم»(2)، ولكنه استدرك مميِّزاً بين ما يجري من تلك الأعمال إخلاصاً لقضية الحسين علیه السلام ، وبين ما يقع منها على نحو المراءاة، فقال: «ولكن هذه الأعمال والأفعال إن صدرت من المكلف بطريق العشق الحسيني والمحبة والوله لأبي عبد الله على نحو الحقيقة والطريقة المستقيمة، وانبعثت من احتراق الفؤاد، واشتعال نيران الأحزان في الأكباد، بمصاب هذا المظلوم ريحانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم المصاب بتلك الرزية؛ بحيث تكون خالية ومبرَّأة من جميع الشوائب والتظاهرات والأغراض النفسانية؛ فلا يبعد أن يكون جائزاً.. وأغلب الأشخاص الذين يرتكبون هذه الأُمور والكيفيات لا يأتون بها إلّا من باب التظاهر والمراءاة والتحامل والمداجات»(3).

وقد كان _ في منظور الشيخ _ أن أحسن الأعمال وأنزهها في ذكرى الحسين علیه السلام

ص: 185


1- كان الشيخ مصلحاً صُلْباً، وقد ظهر ذلك في كثير من مواقفه التي تميزت بالصرامة والصبر على الصعوبات؛ وقد كان يرى أن الشجاعة لا تعني فقط الإقدام في الحروب، واقتحام نيران الوغى، بل إنها مَلَكَةٌ راسخة في النفس فطرية ومكتسبة، ومنها الانتصار للحق، وقول كلمته عند سلطان ظالم، وعدم الرضوخ أمام الباطل.. وما السكوت عن الظلم والقعود عن مقاومة الباطل إلا بفقد مَلَكَة الشجاعة، وهذا هو الداء المنتشر بين المسلمين. اُنظر: كاشف الغطاء، محمد حسين، الميثاق العربي الوطني: ص٨٥
2- كاشف الغطاء، محمد حسين، الفردوس الأعلى، علق عليه: محمد علي القاضي الطباطبائي، صححه واهتم بنشره: السيد محمد حسين الطباطبائي: ص١٩
3- المصدر السابق: ص٢٠_٢١.

هو البكاء والندبة لريحانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، والزيارة له والتبرّي من ظالميه والمشاركين في دمه وقاتليه والراضين بقتله(1).

٣_ كتاب جنة المأوى

يُعدّ كتاب جنة المأوى جمعاً لأبرز الأسئلة التي عُرضت على الشيخ كاشف الغطاء في قضية الإمام الحسين علیه السلام (2) وقضايا إسلامية أُخرى(3)، فضلاً عن بعض مقالاته المنشورة عن سيد الشهداء وفجيعة الطف(4).

زوّد الكتاب بكلمة مطوَّلة حررها الشيخ كاشف الغطاء في بني هاشم وبني أُمية، والحسن علیه السلام ومعاوية، وضمَّنها رأيه في أن العداوة بين هاشم وأُمية هي عداوة جوهرية ذاتية، يستحيل تحويلها، ويمتنع زوالها... والذاتي لا يزول، وليست هي من تنافس على مال أو تزاحم على منصب أو جاه، بل هي عداوة المبادئ، عداوة التضاد الطبيعي، والتنافر الفطري، عداوة الظلام للنور، والضلال للهدى، والباطل للحق، والجور للعدل(5).

وقد وجد الشيخ كاشف الغطاء في شغف النبي صلّى الله عليه وسلّم وحبه الكبير للحسن والحسين علیهماالسلام أبعاداً أُخرى قد تشمل أسراراً وأسباباً هي أدق وأعمق، أسراراً روحية

ص: 186


1- اُنظر: المصدر السابق: ص٢٢.
2- اُنظر: جنة المأوى، ص١٢٤_ ١٢٥، ص١٣٨_ ١٣٩، ص١٤٧، ص١٥٦_١٥٧
3- اُنظر: المصدر السابق: ص١٥٣_ ١٥٤، ص١٦٢، ص٢٤٦_٢٤٧.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص١٣٢_١٣٥، ص١٣٦_١٣٧، ص١٤٠_ ١٤٦.
5- اُنظر: المصدر السابق: ص١٣٢_١٣٥، ص١٣٦_١٣٧، ص١٤٠_ ١٤٦.

فوق الوشائج الجسمية، إذ إن النبي صلّى الله عليه وسلّم _ في نظر الشيخ _ قد أطلَّ بروحيته المقدسة على صحيفة التكوين، فرأى ما كابد ولداه من الدفاع عن دينه، والحماية لشريعته... فالحسين علیه السلام قد استقبل السيوف والرماح والسهام، وجعل صدره ونحره ورأسه وقايةً عن المعاول التي اتخذها بنو أُمية لهدم الإسلام، ونصب نفسه وأولاده وأنصاره هدفاً لوقاية الإسلام من أن تنهار دعائمه، حتى سَلمَ الإسلام وأشرقت أنواره(1).

وقد جعل الشيخ كاشف الغطاء مهمة الحسين علیه السلام الرسالية في الحفاظ على شريعة الإسلام وجهاً من وجوه تفسير الحديث النبوي الشريف: «حسين مني وأنا من حسين»(2) الذي رفعه إليه أحد السائلين، بيدَ أنه جاء بتفسير آخر أعلى وأجل مما يرد في هذا المقام، وتدرَّج إليه بالقول: إن الولادة وانبثاق كائن من كائن تقع في الخارج على ثلاثة أنواع:

الأول: تولُّد جسم من جسم، كتولد إنسان من إنسان. وهذا هو التولُّد الجسماني المحض.

والثاني: تولُّد روح من جسم، كتولُّد أرواح البشر من أجسامها، كما تتكون الثمرة من الشجرة.

والثالث: تولُّد مجرد وروح من روح، كتولُّد النفوس الكلية من العقول الكلية في قوس النزول، وتولُّد العقول الجزئية من النفوس الجزئية في قوس الصعود. وقد

ص: 187


1- المصدر السابق: ص١١٨_ ١١٩.
2- ابن ماجه، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجه: ج١، ص٥١. الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج٥، ص٣٢٤

قرَّر العرفاء الشامخون والحكماء الإلهيون أنه لا تنافي بين أن يتولّد شخص من آخر بالولادة الجسمية، ويكون الوالد متولِّداً من ولده بالولادة الروحانية، فآدم أبو البشر هو أبٌ للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بالولادة الجسمانية، لكنه متولِّد منه صلّى الله عليه وسلّم بالولادة الروحانية، فآباء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالولادة الجسمية كلهم أبناؤه، وهي ولادة حقيقية أحق من الولادة الجسمية، وأن الولاية أوسع دائرةً وأعلى أفقاً وأكثر أثراً من النبوة: هنالك الولاية لله، وهي أول ولاية، أو الولاية الكبرى، وولاية النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي الولاية الوسطى، وولاية أوليائه من سدرة المنتهى وجنة المأوى.

ومن هنا؛ قالوا: إن الولاية أعم من النبوة، وكل نبي ولي ولا عكس، والنبوة تحتاج إلى الولاية، والولاية لا تحتاج إلى النبوة، فمعنى الحديث الشريف: هو حسين مني بالولادة الجسمانية، وأنا من حسين بالولادة الروحانية. فالحسين بوجوده الكلي الخارجي العيني لا الذهني هو الحائز بشهادته الخاصة، وإمامته العامة لمقام الولاية العظمى والفائز بالقدح الأعلى من سدرة المنتهى، وهذه هي مجمع الولايات وغاية الغايات؛ ومنها تتولَّد جميع النبوات؛ فلا جَرَمَ أن محمد النبي من الحسين الولي ونور النبوة ينبثق من نور الولاية ثم يصير النور واحداً(1).

ولعل ما كتبه الشيخ في تفسير جوامع كلم النبي صلّى الله عليه وسلّم في سبطه هو مما تنصرف عن ذكره كثير من الأقلام؛ لأنه مما لا تحتمله عقول الأنام، أو من حديث العارفين الذين لا يرون نشره وذكره(2).

لقد كان الشيخ كاشف الغطاء يرى في موقف الحسين علیه السلام وأصحابه يوم الطف

ص: 188


1- اُنظر: كاشف الغطاء، جنة المأوى: ص١٢٨_١٣١.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١٣١.

عملاً ربوبياً، ودروساً إلهيةً، وتعاليم روحيةً لأعقاب البشرية أملاها أكبر أُستاذ إلهي، مع سبعين نفراً من أهل بيته وخاصته، خاضوا لجج غمرات البلاء، وكانوا شُعلاً نارية _ بل نورية _ تسجل احتقار هذه الحياة مهما كانت شهيةً بهيةً، وتُبرهن على أنها مهما غلت وعزت فهي أرخص ما يُبذَل في سبيل المبدأ، وأهون ما ينبذ في طريق الشرف والكرامة، وسمو العقيدة ونبالة الذكر الخالد والمجد المؤيد، وليست القضية قضية تقابل بين مزاج يعمل للأريحية والنخوة، ومزاج يعمل للمنفعة والغنيمة، بل هو نزاع بين العقائد، عراك بين الكفر والإيمان، وحراب بين الشرك والتوحيد، بل بين الدين والجحود، والروح والمادة، والفضيلة والرذيلة، فإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في حروبه (بدر وأُحُد والأحزاب) قد ظفر بآل أبي سفيان بالغالبية، ففي حرب الحسين علیه السلام ويزيد يوم الطف ظفر الأول بالثاني بالمغلوبية؛ فصار المقتول هو القاتل، والمغلوب هو الغالب(1).

ويُوجِّه الشيخ كاشف الغطاء عِبْرَ هذا النص _ الذي يرى في صراع الحسين علیه السلام صراعاً بين الدين والجحود _ نقداً للعقَّاد، وإن لم يُصرِّح باسمه؛ لأن العقّاد رأى مدار الخلاف في الجولة التاريخية بين الحسين علیه السلام ويزيد بن معاوية هو الفارق بين مزاجين بارزين، هما الأريحية التي كان يمثلها الحسين علیه السلام وأصحابه، والنفعية التي تتجلّى في يزيد وأنصاره(2).

لقد وُجِّه إلى الشيخ كاشف الغطاء سؤالٌ عن الأخبار الواردة بتكلُّم رأس الحسين علیه السلام غير مرة، وهل يمكن أن تقع تلك المعجزة بمرأى الناس دون أن يرتدعوا

ص: 189


1- اُنظر: المصدر السابق: ص١٣٦_١٣٧.
2- اُنظر: العقَّاد، عباس محمود، أبو الشهداء الحسين بن علي: ص٧٧_٨٨.

أو يغالوا؟(1)، وقد جاءت إجابته على تلك الكرامة أنها على تقدير صحة وقوعها لم تقع بمرأى من عامة الناس، وإنما هي خصوصية لبعض الأفراد الناقلين لها لحكمة، إما مجهولة لنا، أو معلومة، وعلى تقدير وقوع شيء من ذلك بين أُمة من الناس وجمهرة من البشر، فلا يلزم من ذلك أن يرتدعوا، فكم وقعت من الأنبياء معجزات بين أممهم فلم يرتدعوا حتى أصابهم العذاب... وقد ورد في الأخبار المعتبرة أن رأس يحيى بن زكريا تكلَّم بعد قتله مع الجبَّار الذي أمر بقتله؛ فالحرص والشهوة والطمع إذا استحكم في النفس وصار لها خلقاً وطبعاً لم يكن شيء من العبر والعظات مؤثراً فيها؛ فإذا شاهدت النفس تلك الغرائب انصرفت عن التفكر فيها وترتيب الأثر عليها، أو تصرَّفت فيها بالتأويلات عن وجه الحقيقة، وإنّ أُمةً تقتل عترة نبيها وتسبي عياله لا يُستبعد عليها جحود معجزة له أو كرامة(2).

لقد رصد الشيخ في جوابه هذا أدلة دينية، واستوحى الواقع الاجتماعي من المثل التاريخي في نبوات الأنبياء، وربط ذلك مع الطبيعة البشرية عندما تتحكَّم فيها الأهواء، ومما يعضد إجابته أن بعض المعجزات النبوية لم يكن ظاهراً لعموم الناس، ولا في كل الأوقات، كتظليل الغمام على رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم ، والتي كانت ظاهرة لبعض الناس دون بعض، ويظهر ذلك واضحاً لمن تتبّع وتأمّل معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيرته(3).

لقد تعجَّب أحد الناس في سؤال رفعه إلى الشيخ كاشف الغطاء من فعل الحسين علیه السلام

ص: 190


1- اُنظر: كاشف الغطاء، جنة المأوى: ص١٤٧.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١٤٨_١٥٢.
3- كما في رؤية بُحيرا الراهب وحده للغمامة التي تُظلل النبي صلّى الله عليه وسلّم . اُنظر: ابن إسحاق، محمد : ص٧٤. الطباطبائي تعليقات على جنة المأوى: ص١٥٠، هامش٢.

مع أصحابه عندما قال لهم: إنكم في حل من بيعتي بينما كان الجهاد معه واجباً(1).

وقد أجاب الشيخ، وهو يعكس الإشكالية إلى محل آخر أكثر عجباً، وهو كيف أباح لهم الحسين علیه السلام الجهاد معه وهو يعلم أنهم لا يستطيعون دفع القتل عنه، مهما جاهدوا واجتهدوا؟! فكيف رضي منهم ذلك؟! ألا يكون جهادهم معه من العبث وإلقاء النفس في التهلُكة بغير فائدة؟! هكذا تساءل الشيخ كاشف الغطاء، وهو يعدُّ السرَّ الغامض الذي يحتاج إلى البحث والنظر(2) ولم يقدم له جواباً.

وقد يكون توقُّف الشيخ عن إعطاء الجواب حول هذه الإشكالية التي طرحها هو نظرته إلى الثورة الحسينية، وأنها مما لا يُحاط بمزاياها وخفاياها وأسرارها، وهو ما دفعه إلى أن يُشبِّه الحسين علیه السلام بكتاب الله، فالقرآن _ على كثرة تفاسيره وشرح دقائقه وغوامضه وبلاغته _ لا يزال كنزاً مخفيّاً، ولا تزال محاسنه تتجدّد وأسراره تتجلّى، ويظهر في كل عصر من إشاراته ومغازيه ما لم يظهر للمتقدِّم، فكأنه يتجدّد ويتطوّر بتطوِّر الزمان، وكذلك الحسين كتاب الله الناطق(3).

ومع ذلك يبدو غريباً ألَّا يُجيب الشيخ عن هذا الإشكال، وهو المعروف بأعلميته العلمية، وقابليته على الاستنباط والتحليل، ناهيك عن أن «التاريخ من صُنْعِ الإنسان أفراداً وجماعات، ولا تجري حوادث التاريخ بصورة عفوية آنية، وبدون ارتباط بالحوادث السابقة، فحوادث التاريخ مترابطة؛ لذلك لا بد في العمل السياسي لأجل الوصول لغاية معينة من العمل المستمر والجهاد المستمر، فالتضحية في سبيل الحق _

ص: 191


1- اُنظر: كاشف الغطاء، جنة المأوى: ص١٥٦.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١٦٢.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص١٣٣.

على اختلافها _ وإن لم تكن ذات فائدة آنية، فإنها تُثمر في المستقبل، خصوصاً الشهادة في سبيل الحق؛ فإنها تُنبِّه الأفكار، وتُهيج النفوس لطلب الثأر ومواصلة الكفاح للوصول إلى الهدف والغاية... وقد ظهرت على مرّ القرون آثار تضحية الحسين علیه السلام وأعوانه...»(1).

إن تَفَرُّدَ أبطال الحق هو انتماؤهم العظيم للتضحية والحق، وقد أوضحت كربلاء شرف التضحية على نحو باهر وجليل، حتى لنظن أن الأقدار إنما أرادت ذلك اليوم بكل أهواله وتضحياته؛ لتؤكد شرف التضحية في وعي البشرية كلها؛ ليضيء بمغزاه العظيم ضمير الحياة؛ من أجل ذلك اختارت لها _ في يوم كربلاء _ نماذج رفيعة بالغة الرفعة، وقضية عادلة، بالغة العدالة، ونضالاً باسلاً بالغ البسالة(2).

٤ _ نبذة من السياسة الحسينية

اندفع الشيخ كاشف الغطاء إلى تأليف هذا الكُتيب، بعد أن عُرِض عليه سؤال لمُشكِّك ناقد، يرى أن الحسين علیه السلام إذا كان عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء وسبي عياله، فقد عرَّض بعِرْضِه إلى الهتك، وليس في تعريضه هذا شيء من الحُسن العقلي المعنوي يوازي قُبح الهتك(3)؟

وقد جاءت إجابة الشيخ مفصِّلةً لجانب واحد، وهو الرد على قول السائل: بأن في

ص: 192


1- الطباطبائي، تعليقات على جنة المأوى، ص١٦٢، هامش١.
2- اُنظر: خالد، خالد محمد، أبناء الرسول في كربلاء: ص١٦١.
3- اُنظر: كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص٢.

السبي هتك لحرم النبوة. فيما ترك رحمة الله الجانب الأول من السؤال، وهو: ما إذا كان الحسين علیه السلام عالماً بقتله في خروجه إلى كربلاء. ولعل ذلك يعود إلى أن الشيخ يعدُّ ذلك من المسلَّمات(1).

وقد ركَّز إجابته في حوالي (٣٧) صفحة(2)، ويُعدّ هذا الكُتيب من أوسع ما كتبه الشيخ كاشف الغطاء حول قضية واحدة مما يُثار حول ثورة الحسين علیه السلام ، حسب ما اطَّلع عليه الباحث ووصل إلى يده.

ومما تجدر الإشارة إليه أن التعريف بهذا الكُتيب قد جاء مغلوطاً في رسالتَيْ ماجستير تخصصَّتا في دراسة شخصية الشيخ كاشف الغطاء وأدواره الوطنية والقومية والإصلاحية؛ فقد قدمه السيد سلمان على أنه: (دراسة تاريخية لثورة الإمام الحسين)(3). وعرضته باحثة أُخرى على أنه إجابة عن (وجه إقدام سيد الشهداء علیه السلام على الشهادة)(4). وكلا التعريفين لم يصب الحقيقة التي ذكرها الباحث آنفاً.

لقد أحال الشيخ كاشف الغطاء الإجابة عن سبي حرم الحسين علیه السلام إلى أحد أولاده، ولمّا وجد الإجابة لا تنقطع بها المسألة تصدّى إلى إملاء الجواب على ولده في أوقات الفراغ، وفي عدّة مجالس(5). وهذا يعني انفساح الوقت لمزيد من التأمل بالرد،

ص: 193


1- تبيَّن ذلك للباحث من إجابة الشيخ على أحد الأسئلة الموجهة إليه والمنشورة في كتاب جنة المأوى: ص١٥٤_١٥٦؛ إذ يقول: «ومن هذا إقدام الإمام الحسين على الشهادة، مع علمه بأنه مقتول لا محالة، ولا شك أنهم سلام الله عليهم كانوا يعلمون بكل ذلك بإخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم وحياً، ولكن يحتملون في أن يتطرَّق إليه البداء...».
2- اُنظر: كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص٧_٣٤.
3- الشيخ كاشف الغطاء: ص٦١.
4- هيدان، الفكر السياسي: ص١٠.
5- كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص٣_٧.

وتشريح البيان، وحشد ما لديه؛ لتزاح به الشبهة.

لقد تسلسل الشيخ في ردّ السائل بأساس الإشكال الذي يقع فيه المتشكك إذا لم يكن على مذهب الإمامية من حيث القول بعصمة الأئمة، وهو أصل لم يُفصّله الشيخ طالما أنه من عقائد الشيعة المدعومة بالحجة والبرهان، وأورد تشبيهاً يسهل فهمه لعصمة الأنبياء، ومن ثم الأئمة، فقال: «فليس مَثَلهم عندنا _ في مناهجهم الخاصة وأعمالهم التي تصدر عنهم طول حياتهم بين البشر _ إلّا كمثل رجل عرف منه الملك تمام الكفاءة، وأحرز منه صدق الطاعة، فأرسله سفيراً إلى قوم... يقوم فيهم بالإرشاد والهداية، وزوّده بمنهاج مخصوص، وألزمه ألّا ينحرف عنه قيد شعرة... وليس له حق السؤال والمراجعة عن الحكمة والمصلحة بعد أن كان من اليقين على مثل ضوء الشمس»(1).

وقد لا يكون هذا التفسير الديني دليلاً للمُشكّك الذي ليست عقيدته في الحسين علیه السلام كما هي عند الإمامية؛ ولذلك افترض أن الحسين علیه السلام _ كما يفترضه السائل _ زعيم من زعماء المسلمين، يرى نفسه أوْلى بالخلافة من يزيد؛ فلا جَرَمَ أن يبذل ما في وسعه لاستعادة حقه، وعلى الأقل أن لا يبايع يزيد مع ما هو معلوم من مجاهرته بإحياء كل رذيلة و«هل من سبيل إلى الكشف عن نفسية يزيد، وخسة طبعه، وعدم أهليته من حيث لؤم عنصره وخبث سريرته وقبح سيرته، مع قطع النظر عن الدين والشرع _ أقرب وأصوب وأعمق أثراً في النفوس عامة والعرب خاصة والمسلمين بالأخص من هتك حرم النبوة وودائع الرسالة، وحملهم أُسارى من بلد إلى بلد، ومن

ص: 194


1- المصدر السابق: ص٨.

قفر إلى قفر، وهل أعظم فظاعة وشناعة من التشفّي والانتقام بالنساء والأطفال بعد قتل الرجال؟! وأيُّ ظَفَر وغلبة على يزيد أعظم من إشهار هذه الجرائم عنه؟»(1).

ويلتفت الشيخ إلى الواقع التاريخي للمجتمع الإسلامي الذي عاصره الحسين علیه السلام من حيث اعتياد القتل، فهو أمر متعارف في البيئة العربية آنذاك، لا يُثير غرابة أو فضاعة، فإن كان يزيد وعبيد الله بن زياد مستعدَّين لتلك الجريمة؛ فإنه أراد أن يُبرزها منهما إلى الوجود(2).

ومما يضاف هنا: أن القتل كان قد أصبح في عهد بني أُمية أمراً ميسوراً للتخلص من المعارضين، دون أن يُثير ذلك حركة واسعة في المجتمع الإسلامي ضدهم، ولعل في قتل حجر بن عدي مثلاً صارخاً لذلك(3).

وقد أكد الشيخ كاشف الغطاء أن وسائل الحسين علیه السلام لفضح يزيد لم تنحصر بحمله للنسوة والأطفال، إلّا أنها كانت إحدى الوسائل التي لها التأثير الكبير في المقصود(4).

ص: 195


1- المصدر السابق: ص١٠_١١.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١١.
3- حجر بن عدي الكندي المعروف بحجر الخير، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، وكان من فضلاء الصحابة وشهد حروب الإمام علي علیه السلام ، قُتل سنة ٥١ه_/ ٦٧١م، بعد أن اعترض على سياسة زياد بن أبيه في الكوفة، وتم إرساله إلى معاوية؛ ليُنفِّذ فيه القتل، مع سبعة من أصحابه ورغم أنها مأساة منكرة إلا أنها لم تُثر أكثر من النقد الكلامي ضد معاوية وأعوانه. اُنظر: البلاذري، أحمد بن يحيى، جمل من أنساب الأشراف: ج٥، ص٢٦٥_٢٦٦. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، أُسد الغابة في معرفة الصحابة: ج١، ص٣٨٥_٣٨٦. التميمي، ثورة الإمام الحسين: ص١٣٢_١٤٢
4- اُنظر: كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص١٢.

ولم يُهمل الشيخ _ وهو يُحشِّد ردوده _ أن يتّجه بالجواب اتجاهاً فقهياً، فإن قال السائل: إنه لا يجوز في الدين أن يُعرِّض الحسين علیه السلام نساءه للهتك مهما كان الأمر؛ فإن هذا ما ينبعث من بساطة التفكير لدى السائل؛ فإن الذي «لا يساعد عليه الدين _ بل ولا تسمح به الغيرة _ هو تعريض الإنسان عرضه للهتك الموجب لما يمسّ الشرف، ويخدش رواق العفة والصيانة، وسرادق النجابة والحصانة، أما الهتك الذي تستحكم به عرى القدس والطهارة والعزة والمنعة؛ ذلك مما لا يُشين ولا يُهين تلك الحرائر (صلوات الله عليهن) مهما سفرن فهنّ محجبات..»(1).

اتجه الشيخ فيما سطّره إلى حشد وجوه عديدة للجواب، فإن لم يقنع بها السائل، كان هناك وجه آخر، حتى أنه حاول أن يستوفي تلك الوجوه مناهج البحث العلمي الرصين، الذي كان له حظه من المصداقية والدقة. فاستخدم المنهج الاستقرائي للوصول إلى حقيقة أُخرى، فأشار إلى حياة الحسين علیه السلام في أدواره وأطواره، وربط ما وصف به من الشمم والشهامة، وعزة النفس والإباء والكرامة مع طريقة خروجه إلى كربلاء، ووصل إلى أمر مفاده: أن نفسه علیه السلام أبت أن يخرج هو وولدانه وغلمانه على ظهور خيولهم خروج المتشرد الخائف، والنافر الفزع، ولم يرضَ لنفسه إلّا أن يظهر بأسمى مظاهر الأُبهة والهيبة والجلال والحشمة، فإن خرج سلام الله عليه من أوطانه وترك عقائله في عقر دارهم لكان خروجه أشبه ما يكون بصعاليك العرب وأهل الغزو والغارات والمتلصصين، وحاشا لسيد الإباء أن يرضى لنفسه بتلك المنزلة(2).

واستدل على ضخامة موكب الحسين علیه السلام مما ذكر في كتب التاريخ من أنه دعا فتيانه

ص: 196


1- المصدر السابق: ص١٢.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١٣_١٤.

إلى سقي الحر الرياحي الذي جاءه محارباً مع١٠٠٠ فارس(1)، فكم كانت سعة موكبه؟ وكم كان يحمل من الماء حيث سقى ألف فارس وألف فرس سوى مَن كان معه من أولاده وعياله وأنصاره؟ وقد قدر الشيخ أن معسكر الحسين علیه السلام كان يحمل ما يروي ستة آلاف نسمة أو سبعة آلاف نسمة، بعد أن قدر أولاده وأنصاره وعيالاتهم بألف نسمة، وحمولة خيامهم وأمتعتهم وما إليها نحو ألفين من الخيل والبغال غير الإبل(2).

وقد سلك الشيخ مسلك المبالغة في عدد مَن يُقتل في معسكر أعداء الحسين علیه السلام بيد أنصاره، وجعل الواحد منهم لا يُقتل حتى يَقتل ألفاً من عدوه(3)، وكأنه أراد أن يُحقّق عبر هذه المقابلة معادلةً ذكرها دون تدقيق، وهي أن أصحاب الحسين علیه السلام كانوا سبعين رجلاً، ومعسكر أعدائه كان سبعين ألفاً(4)؛ إذ ذكرت الروايات التاريخية الدقيقة: أن الجيوش التي أُرسلت إلى الحسين علیه السلام في كربلاء لم تزد على اثني عشر ألفاً(5)، وإذا كانت بعض المصادر بالغت في عدد الحشود التي توجّهت لقتال الحسين علیه السلام فلا يمكن الركون إلى أن الكوفيين تألّبوا جميعاً ضده، لا سيما وأن قسماً من الذين لم يحسبوا في ولائهم على أتباع الحسين علیه السلام قد أظهروا التأثم من القتال، وكرهوا البقاء في الكوفة؛ لئلّا يُجبروا على القتال ضده أو معه(6).

ص: 197


1- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ج٣، ص٣٨٠. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك: ج٦، ص٢١٣
2- اُنظر: كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص١٤_١٥.
3- اُنظر: كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص٢٥.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص٢٣.
5- اُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف: ج٣، ص٣٨٧.
6- اُنظر: المصدر السابق: ج٣، ص٣٨٤. واُنظر المناقشة الدقيقة لذلك: التميمي، ثورة الحسين: ص٢٨٠_٢٨٣

لقد استفاد الشيخ كاشف الغطاء من الاطلاع على التاريخ الإسلامي، وتقاليد العرب قبل الإسلام لتفسير موقف الحسين علیه السلام بأخذ عيالاته معه إلى كربلاء من وجه آخر، وهو ما كانت العرب عليه من أنهم إذا أرادوا أن يستميتوا في الحرب ويصبروا للطعن والضرب جعلوا الحريم خلفهم واستقبلوا العدو، فإما الحتف أو الفتح، ويستحيل عندهم النكوص أو الفرار وترك الحريم للذل والإسار.. ومنها ما وقع لثقيف وهوازن في غزوة حنين، فلعلّه علیه السلام حمل العيال كي يستميت أصحابه دونها، وينالوا درجة من السعادة بالشهادة كما فعلوا(1).

وقد رجح الشيخ من تلك الوجوه العديدة التي قدمها مفسراً بها حمل الحسين علیه السلام نساء بيت النبوة معه، أن الحسين علیه السلام كان يعلم بمصرعه، ومن معه، وأن بني أُمية سيموّهون على خروجه ويصفونه بالباغي الذي خرج على يزيد المُنصّب بالاستخلاف من الخليفة الذي قبله(2). لا سيما وأن الدعاية كان من الممكن أن تشقّ طريقها في ذلك المجتمع الخائف الخاضع لبني أُمية.

من هنا؛ كان لعيال الحسين الدور المهم في إبراز الحقائق وكشف دعايات الأعداء المغرضة.

ومما لا شك فيه أن الشيخ كاشف الغطاء قد تمتع بقوة الاستدلال، واستثمار الحادثة التاريخية التي تمنح الباحث عن الحقيقة رؤية دقيقة للواقع الاجتماعي والسياسي؛ ففي سياق ترجيحه لوقوف الحسين علیه السلام بوجه الدعاية الأُموية كتفسير

ص: 198


1- اُنظر: كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص١٧.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١٧.

أقرب إلى القبول من بين الوجوه التي عرضها، مع ذلك وضّح أنه لم يكن من السهل على أكبر رجل باسل أن يقف ليكشف الحقيقة، ويتعقب القضية، ويخطب في النوادي الحاشدة كما فعل أهل بيت النبوة، كالسيدة زينب’ والإمام زين العابدين علیه السلام ، واستدل على ذلك بما جرى على عبد الله بن عفيف(1)، وزيد بن أرقم(2) لمّا اعترضا على عبيد الله بن زياد في مجلسه؛ إذ مُنعا من الاعتراض ولوحق أحدهما حتى قُتل، بل رغب عبيد الله بن زياد في قتل الإمام زين العابدين علیه السلام . فعلى مَن يعتمد الحسين علیه السلام في تفنيد ضلالة الأُمويين؟ ومَن «يقوم للحسين بهذه المهمة بعد قتله، ومَن ذا يقرع بالحجة، ويوضح المحجة، ويكشف الحقيقة، ويتعقب القضية، ويخطب.. تلك الخطبة البليغة والحجج الدامغة؟»(3).

ثم أيّ رجالات ذلك العصر كان يقدر على القيام بتلك المهمة، ويقوى على النهوض بذلك العبء؟ أليس قصارى أمره مهما كان من البسالة والجرأة أن يقول الكلمتين والثلاث، فيقال: خذوه فاقتلوه. أو اصلبوه في السبخة، أو في الكناسة(4). كما حصل مع ابن عفيف.

لذا؛ فإن الإمام الحسين علیه السلام لم يجد بُدَّاً من حمل نساء بيت النبوة؛ معه لإكمال ذلك

ص: 199


1- من شيعة الامام علي علیه السلام ، ذهبت عينه اليسرى يوم الجمل، وضرب يوم صفين ضربتين على رأسه وحاجبيه فذهبت عينه الأُخرى، فكان لا يفارق المسجد الأعظم في الكوفة يصلي فيه ليلاً، ثم ينصرف. اُنظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك: ج٦، ص٢٤٩
2- الأنصاري الخزرجي، شهد مع الرسول صلی الله علیه و آله سبع عشرة غزوة، سكن الكوفة وابتنى بها داراً في كندة، شهد مع الإمام علي علیه السلام صفين، وهو معدود في أصحابه، توفّي في الكوفة سنة ٦٨ه_/٦٨٧م
3- كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص١٨.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص٢١. واُنظر _ لصلب عبد الله بن عفيف الأزدي في السبخة _: الطبري، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٤٩_٢٥٠

المشروع الذي بذل نفسه ونفوس أعزته في سبيله، وعلم أن بني أُمية مهما بلغوا من هتك الحرمات، والشرائع الإسلامية والتجاوز على الشناشن العربية، لا يقدرون على قتل امرأة مُصابة مفجوعة تكلمت بشيء من الكلام تبريداً لغلتها وتسكيناً للوعتها، ولا يستطيع ابن زياد مهما طغى أن يقتل ساعة السلم امرأة عزلاء أسيرة بين يديه لا تحمل السلاح(1).

كان الشيخ بارعاً في توليد الاستدلال، فالدليل يقود إلى آخر؛ فقد جعل من محاولة عبيد الله قتل زين العابدين علیه السلام _ وهو أسير لا يجوز عليه القتل _ دليلاً على قسوة السلطة الأُموية في قمع بواعث النقمة وكمِّ الأفواه، وعقل الألسن، وإرجاف القلوب، ولكن مشيئة الله وقضاءه، وتعلق السيدة زينب’ به أمام ابن زياد، وإصرارها على أن تُقتل قبله كان سبباً في حفظه، وقد يكون هذا وجهاً آخر من وجوه غاية الحسين علیه السلام من حمل عياله معه إلى كربلاء(2).

لقد اتخذ الشيخ كاشف الغطاء من استعراض خطب السيدة زينب’ بأُسلوب مشوِّق سبيلاً لحمل الشخص السائل إلى الإيمان بأهمية موقفها؛ إذ بيَّنت ذلّة الباطل، وعزّة الحق، وعدم الاكتراث بالقوة والسلطة، أرادت أن تعرّفه والناس جميعاً جميل النظر في العاقبة، وأن الأُمور بعواقبها والأعمال بخواتمها(3).

ولا شك في أن الشيخ أراد هنا أن يُركّز على أهمية الخطابة _ التي تؤثر في العقول وتُثير العواطف _ في تهييج الرأي العام، وتكوين الانقلابات والثورات، وهو أمر آمن

ص: 200


1- اُنظر: كاشف الغطاء، في السياسة الحسينية: ص٢٣.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص٢٠_٢١.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص٣٠.

به الشيخ وجعله الأُسلوب الأول من أساليب العمل ضد الظلم في كتاب آخر(1)؛ ولذلك رأى أنه «ما قلب الفكر على بني سفيان، وانقرضت دولة يزيد بأسرع زمان إلّا من جرَّاء تلك الخطب والمقالات... فقد تسلسلت الثورات... على يزيد من بعد فاجعة الطف إلى أن هلك»(2).

والملفت أن الشيخ كان يرى أن للجنس اللطيف _ كما يُسميه _ القدرة على أن يقوم بأعمال كبيرة، يعجز عنها الجنس الآخر، ولو بذل كل ما في وسعه، وأن له التأثير الكبير في قلب الدول، وتحوير الأفكار، وإثارة الرأي العام(3). وموقف السيدة زينب’ دليل على ذلك.

ولا يفوت الباحث الإشارة إلى أن الشيخ كاشف الغطاء _ وهو يتصدّى لمهمة الإصلاح الاجتماعي _ لم ينسَ دور المرأة الفاعل في نهضة المجتمع، فكان يخاطبها وهو يستلهم دروس الثورة الحسينية: «نقول للحرائر النجيبات: إننا نطلب منهن الشجاعة الأدبية، نطلب منهن الثورة على الظلم والظالمين، وتتابع الصرخات على المستعمرين، ومحاسبة المسؤولين»(4).

ويظهر لقارئ هذا الكتيب الصغير _ جلياً _ قابلية الشيخ كاشف الغطاء على فهم الحدث التاريخي، واستنباط وجوه ذات مداليل متعددة من الحدث الواحد، وعدم الركون إلى التفسير الأُحادي، مع قابلية على الترجيح والربط، واستخدام أكثر

ص: 201


1- اُنظر: كاشف الغطاء، السياسة والحكمة: ص٩١.
2- كاشف الغطاء، في السياسة الحسينية: ص٣٢.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص٣٣.
4- كاشف الغطاء، محاورة الإمام كاشف الغطاء مع السفيرين البريطاني والأمريكي في بغداد: ص٥٧

من منهج كالمنهج العلمي، والاستقرائي، والرياضي، والمقارن، فضلاً عن استخدامه للغة أدبية راقية ومفهومة، يميل فيها أحياناً إلى السجع(1)، والتلوين بأبيات شعرية تخدم مقاصده العلمية(2)، أو بجمل اعتراضية للتعليق والتوضيح(3).

وقد اتّبع أُسلوب الوصف البليغ أحياناً؛ لتجسيد الصورة وتقريب المعنى، مثل وصفه لدخول السبي من آل بيت النبوة إلى الكوفة والشام(4)؛ وتميز بالتبسّط في المحاورة ومحاولة إشراك الناقد والمشكك في النظر إلى الدليل؛ ليشترك معه في الإجابة(5).

٥_ مراثي الشيخ كاشف الغطاء في الحسين علیه السلام

تفجرت ينابيع موهبة الشيخ كاشف الغطاء الشعرية، وله من العمر اثنتا عشرة سنة، ونظم القصائد الطوال وهو في سن الثالثة عشرة، وعلى الرغم من قلّة شعره المنشور؛ فإن ذلك لم يمنع الشيخ من احتلال المكانة البارزة بين شعراء العراق المحدثين، وروّاد النهضة فيه، وأن يدور اسمه على ألسنة الأُدباء والدارسين في المجالس، فهو يُعدّ من الشعراء الذين تصدّوا لسياسة المستعمرين ليس في العراق فحسب، بل في العالم الإسلامي كله(6).

ص: 202


1- اُنظر: كاشف الغطاء، نبذة من السياسة الحسينية: ص٢٥، ص٢٩، ص٣٣.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١٢، ص٢٧، ص٢٩.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص٩، ص١٠، ص١٣، ص١٤، ص١٦، ص١٨، ص٢١، ص٢٤، ص٢٩، ص٣٢
4- اُنظر: المصدر السابق: ص٢٧، ص٢٨.
5- اُنظر: المصدر السابق: ص١٢، ص١٨، ص٢٠_٢١.
6- اُنظر: هيدان، الفكر السياسي: ص١٩.

وكان لسيد الشهداء علیه السلام مكان في مراثي الشيخ، إذ كان له «عشر قصائد في رثاء الإمام الحسين وأهل بيته علیهم السلام »(1)، وقد نُشرت في كتاب مقتل الحسين علیه السلام سبع قصائد شعرية مطولة، اختصت الست الأُوَل منها برثاء الحسين علیه السلام ، وبلغت الأُولى: ٦٩ بيتاً، والثانية:٧٨ بيتاً، والثالثة: ٤٤ بيتاً، والرابعة: ٨٠ بيتاً، والخامسة: ٤٢ بيتاً، والسادسة: ٣٩ بيتاً، بينما كانت السابعة في رثاء علي بن الحسين علیه السلام ، وخص بها الحسين علیه السلام بحوالي: ٢٩ بيتاً؛ فيكون مجموع المنشور له في رثاء الحسين حوالي (٣٨١) بيتاً شعرياً مما ورد في كتابه مقتل الحسين(2).

وقد استطاع عبر هذه القصائد الطوال أن يجمع تفاصيل مأساة الطف، «وما جرى فيها من مصائب وأحداث، بحسب الترتيب الزمني لوقوعها، بصورة تُشبه ما اعتاد عليه خطباء المنبر الحسيني في عرضهم لواقعة الطف، وذكر مقتله الذي كتبه الشيخ في كتاب (مقتل الحسين علیه السلام ) لكي يجمع بذلك فضل ذكر واقعة كربلاء شعراً ونثراً»(3).

فنراه يبدأ بذكر الدوافع التي دفعت الإمام الحسين علیه السلام إلى القيام بثورته وكيفية مغادرته الحجاز وذهابه إلى العراق(4)، حتى وصوله إلى مكان الفاجعة كربلاء؛ ليستوحي من اسمها ما حل بآل النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فقال(5):

ضربوا بعرصة كربلاء خيامهم ***ف__أط_ل ك__ربٌ ف_وقه_ا وبلاء

ص: 203


1- السلامي، عمار عبد الأمير، شعر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء _ دراسة موضوعية فنية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الكوفة: ص٤٠
2- اُنظر: كاشف الغطاء، مقتل الحسين علیه السلام : ص٨٠ _ ١٢٨.
3- اُنظر: السلامي، شعر الشيخ محمد حسين: ص٤٠.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص٤٠ _ ٤١.
5- كاشف الغطاء، مقتل الحسين علیه السلام : ص٨٧.

لله أيّ رزي_ة في ك___رب___لاء***عظمت فهانت دونها الأرزاء

واستذكر شجاعة الحسين علیه السلام ، فقال(1):

ي__طارد منه_م سبعين أل_فاً*** طراد الضاريات ق_طيع شاء

س_ط_ا غ_ض_ب_ان فانهزمت*** نجاء ت_ظن لها نجاة بالنجاء

تطير قلوبهم رع_باً وضرباً***رؤوس_ه_م تط_اير في الهواء

كما وصف استسلام الحسين علیه السلام لقضاء الله(2)، حتى قضى شهيداً تقطّع كبده من العطش، فقال(3):

ت__ف__طّر ق_لب_ه ض_م_أ وت_روى*** ب___ه ع__س_ال_ة الأس__ل الظماء

فوا لهفي خضيب الشيب يُمسي*** ع_لى ض__م_أ غ__ري_ق_اً ب_الدماء

وفي مكان آخر يقول(4):

ظ_ام ت_ف_طّر قلبه ضمأ وبال_*** حملات منه ترتوي الغبراء

تبكي السماء دماً له أفلا بكت م_اءً ل_غ_ل_ة ق_ل_به الأنواء

وقد تلهّف على الحسين علیه السلام وهو يصف بقاءه على الأرض ثلاثة أيام بلا دفن وبلا رداء، فقال(5):

ص: 204


1- المصدر السابق: ص٨٣. واُنظر: ص٨٨ _ ٨٩.
2- المصدر السابق: ص٨٣.
3- المصدر السابق: ص٨٣.
4- المصدر السابق: ص٩٠.
5- المصدر السابق: ص٨٤. واُنظر: ص٩١_١٢٠.

وي__ا له_ف_ي ع_ليك أبا علي*** عن الأهلين والأوطان نائي

ويا لهفي عليك وأنت ملقًى*** ع_لى ال_غ_برا ث_لاث_اً بالعراء

ويا لهفي لجسمك والعوادي*** تجول ع_لي_ه مسلوب الرداء

وتفجّع على ما أصاب عيال الحسين علیه السلام بعد استشهاده من سلب وإضرام نار، وذعر على أيدي أعدائهم، فقال(1):

أأنسى دماءً قد سُفكن وأدمعاً*** سُكبن وأحراراً هُتكن من الحجب

أأنس_ى ب_يوتاً قد نُهبن ونسوةً*** سُ_ل_بن وأك_ب_اداً أُذين من الرعب

أأنسى اقتحام الظالمين بيوتكم*** ن__زوع آل الله ب_الض_رب والنهب

أنسى اضطرام النار فيها وما بها***سوى صبية فرّت مذعرة السرب

وقد صوّر موقف السيدة زينب’ شعراً عندما خرجت مذعورة، تجهش بالبكاء(2)، ويصف فجيعتها التي تُزلزل الرواسي، فيقول(3):

وتنعى فتُسجي الصمّ زينب إذ نعت***وتصدع شكواها الرواسي من الهضب

ثم يُذكّر بما مرّ على بنات الرسالة من أسر وسبي، فيقول(4):

وفي الأسر كم من بنت وحي سروا بها***إلى الشام فوق المزعجات الدلايث

ص: 205


1- المصدر السابق: ص٩٧. واُنظر: ص٩٢، ص٩٨، ص١٠٧، ص١٠٨.
2- المصدر السابق: ص٨٤، ص٩٢.
3- المصدر السابق: ص٩٩. واُنظر: ص١٠٠_ ١٠١.
4- المصدر السابق: ص١١٤.

ولم ينسَ وهو يرثي سيد الشهداء علیه السلام أن يتألم لرأسه الشريف، وهو يُهدى إلى يزيد في الشام، فيقول(1):

ويا مسيح هدى للرأس منه على ال_***رماح معراج قدس راح يعرجه

ويا كليماً هوى فوق الثرى صعقاً***ل_كن محي__اه فوق الرمح أبلجه

وقد كانت نفس الشيخ كاشف الغطاء تذوب وهو يستذكر أن بني أُمية قد نالت من الحسين علیه السلام ، ومثّلت برأسه، فيقول(2):

واح__رّ ق_لبي يا بن بنت محم_د*** لك والعدى بك أنجحت طلباتها

وعلى الثنايا منك يلعب عودها*** وب_رأسك الس__امي تُش__ال قناتها

وقد ظل الشيخ يبثُّ لواعجه على مصائب أهل بيت النبوة، ووعد في إحداها أن يظل نائحاً ما عاش، حتى إذا ما أخذه الموت ورثها وارثه:

ي_م_يناً بني اله__ادي بفرقان جدكم*** وم_ا أن_ا بالفرقان يوماً بح_انث

لقد غُرست أرزاؤك_م في حشاشتي*** من الوجد أفنان الشجون الأثايث

مصائب قد أشجتني وصيرن مقولي*** ينوب لكم من كل رقشاء نافث

مراث تُذيب الصخر إن عشت نحتكم*** بهن وإن أهلك يرثهن وارث(3)

ص: 206


1- المصدر السابق: ص١١٩.
2- المصدر السابق: ص١٠٥_١٠٦.
3- المصدر السابق: ص١١٦_ ١١٧.

لقد جسد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء واقعة الطف وأحداثها بتفاصيل متسلسلة، ركّز فيها على الجانب المأساوي، موضحاً مكانة الإمام الحسين علیه السلام ، وأصحابه ومواقفهم وشجاعتهم وتضحياتهم، وكان الشيخ يجعل من رثاء الإمام الحسين علیه السلام في بعض الأحيان منطلقاً لبثّ ألمه وشكواه ودعوته للنهوض وأخذ الثأر(1).

ص: 207


1- اُنظر: السلامي، شعر الشيخ محمد حسين: ص٤٦.

ص: 208

مقتل الأصبغ بن نباتة التميمي الكوفي أقدم المقاتل الحسينيةالشيخ عامر الجابري

تقديم

أُصيبت حركة تدوين الحديث والتاريخ _ عند عامة المسلمين _ بحالة من الركود والكساد، استمرّت مُدّة تربو على قرن من الزمان بعد رحيل الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ؛ خلقتها حملة ممنهجة تقودها السلطات الحاكمة؛ لأسباب ودواع نضرب عن ذكرها صفحاً؛ ما هيّأ الأرضية لنموِّ ثقافة العزوف عن الكتابة والتدوين، بل كراهية ذلك بين علماء المسلمين الأوائل. رُوي عن الزهري المتوفّى سنة ١٢٤ه_ أنه قال: «كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه السلطان؛ فكرهنا أن نمنعه أحداً»(1). وحتى بعد رفع

ص: 209


1- الدارمي، عبد الله بن الرحمن، سنن الدارمي: ج١، ص١١٠.

الحظر عن الكتابة بقرار حكومي أيضاً لم تأخذ مداها الأرحب؛ لتجذُّر ظاهرة المنع في الذهنية الإسلامية العامة، قال الخطيب البغدادي المتوفّى ٤٦٣ه_: «ولم يكن العلم مدوّناً أصنافاً، ولا مؤلّفاً كتباً وأبواباً في زمن المتقدمين من الصحابة والتابعين، وإنما فعل ذلك من بعدهم»(1).

ولكن نجد هذه الصورة مختلفة تماماً عند أتباع مدرسة أهل البيت علیهم السلام ، المستنيرين بهدي رسول الله وأهل بيته الذين كانوا يحثّون على كتابة العلم وضبطه؛ خوفاً عليه من الدروس والضياع(2)، فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله: «قيّد العلم. قلت: ما تقييده؟ قال: الكتاب»(3)، وعن أبي عبد الله علیه السلام : «اكتبوا؛ فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»(4)؛ فكثرت الكتب والمصنفات التي ألّفها أتباع أهل البيت علیهم السلام وفي مختلف العلوم، كالحديث والتفسير والتاريخ وغيرها؛ ولذا من غير الممكن أن تغيب حادثة في حجم واقعة كربلاء عن ساحة اهتماماتهم، فسارعوا إلى ضبط أحداثها وتفاصيلها، وعُرفت الكتب المؤلفة في هذا المجال بالمقاتل؛ كونها تؤرخ لمقتل الحسين علیه السلام . وأول مَن ألّف في مقتل الإمام الحسين علیه السلام هو الأصبغ بن نباتة التميمي، من أعلام القرن الأول الهجري؛ فلذا يعدّ مقتله أقدم عمل تدويني قام به مؤرخ حول مقتل الحسين علیه السلام وأحداث ووقائع كربلاء، إلّا أنه من المؤسف

ص: 210


1- الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: ج٢، ص٢٨٠.
2- نعم، روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه نهى عن الكتابة، وهي روايات إما مقيدة بزمن معين، أو مورد خاص، وإما أنها موضوعة ؛ لوجود روايات كثيرة عنه صلی الله علیه و آله وعن أهل بيته تأمر بالكتابة، ولانتشار كتابة الحديث وسائر العلوم عند كثير من المسلمين كشيعة أهل البيت علیهم السلام.
3- الطبراني، المعجم الأوسط: ج١، ص٢٥٩.
4- الكليني، الكافي: ج١، ص٥٢.

حقاً أن نقول: إن هذا المقتل قد فُقِدَ واندثر بشكل كامل، ولم يبقَ منه عين ولا أثر.

والأغرب من ذلك كله أنك لا تجد مَن ينقل عن هذا المقتل، بالرغم من بقائه في متناول العلماء مدة تزيد على ثلاثة قرون، كما سنُبيّن من خلال البحث.

والصفحات القليلة التالية هي نتاج ليالٍ وأيام من البحث المستمر، كنت خلالها أحفر في بطون كتب التاريخ وأنقّب فيما وصلنا من نصوص حول الأصبغ ومقتله؛ بغية الوصول إلى بصيص أمل في هذا المجال.

وقد أرغمتنا نُدرة الوثائق التاريخية _ المتوفرة في هذا الجانب _ على التوسع قليلاً في التحليل والاستنتاج؛ لترميم وترقيع الكثير من الجوانب المرتبطة بترجمة الأصبغ ومقتله المفقود؛ لنخرج بصورة مقبولة ومقروءة.

والبحث عن هذا المقتل المفقود يُراد منه _ من وجهة نظرنا_ تحقيق أربعة أهداف على الأقل:

الهدف الأول: هو الهدف النظري البحت، فالتعرف على صاحب أول عمل تدويني حول واقعة كربلاء، هو مطلب علمي يستحق البحث والدراسة، بغض النظر عما سيترتَّب على هذا المطلب من آثار ميدانية وعملية، وقد دأب أصحاب التراجم والرجال على ذكر كل ما يتعلق بالمترجَم له من مؤلفات وغيرها؛ مما له دور في إبراز شخصية صاحب الترجمة علمياً، وإن لم يكن ذلك الكتاب قد وصل إليهم.

الهدف الثاني: هو تقديم الشكر والعرفان لهذا المؤرخ المسلم الإمامي؛ لما بذله من

ص: 211

جهد، وقدّم ما عليه في رصد وملاحقة وجمع وتدوين روايات كربلاء ووقائعها، ولكن الأقدار قد حالت بينه وبين وصول مقتله إلينا، وهل من الإنصاف أن نتنكّر لريادة هذا الرجل وأسبقيته في هذا الميدان؛ بحجة أن لا فائدة عملية مرجوة من هذا العمل؟!

الهدف الثالث: إننا إذا أثبتنا أن هذا المدوّن في المقاتل هو أول مدوّن في تاريخ الإسلام _ كما سيتضح _ فستتعزز المقالة المعروفة بأن الشيعة لهم مساهمة كبرى في تأسيس العلوم الإسلامية.

الهدف الرابع: هو أننا نستطيع أن ندعي أن لهذا البحث أثراً عملياً؛ فإننا نحتمل بأن روايات مقتل الأصبغ لم تُهمل، بل تسلّلت إلى المدونات التاريخية من دون الإشارة إلى أن مصدرها هو مقتل الأصبغ، خصوصاً وأنه قد بقي موجوداً في الأوساط لعدة قرون، وإنا وإن كنا لا نستطيع تحديد تلك المدونات ومواضع نقلها من هذا المقتل، إلّا أن ديدن العلماء في التأليف هو الاستفادة من مؤلفات السابقين، ولا أقل من أن الأصبغ بتأليفه للمقتل قد ألهمَ الآخرين تأليف المقاتل.

وعلى كل حال، ينبغي لنا الآن أن نترجم للأصبغ، ثم نحاول أن نُسلّط الضوء على مقتله، فيقسم البحث على قسمين:

الأول: في ترجمته.

والثاني: في مقتله.

ص: 212

القسم الأول: ترجمة الأصبغ بن نباتة

اسمه ونسبه

هو(الأصبغ) _ ب_الألف واللام، كما هو شائع على الألسن، وكما عنونتْ له الكثير من المصادر(1)، أو (أصبغ) بتعريته منهما، كما هو معنون في مصادر أُخرى(2)_ بن نُباتة بن الحارث، بن عمرو بن فاتك بن عامر(3)، التميمي الحنظلي، الدارمي المُجاشعي، أبو القاسم الكوفي(4).

ص: 213


1- ممن عنون له بالألف واللام من الشيعة: الطوسي في اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج١، ص٢٢٠ برقم (١٦٤). والنجاشي في كتابه رجال النجاشي: ص٦٨ برقم (٥). والطوسي في فهرست الطوسي: ص٥٨ برقم (٩١١). ومعالم العلماء: ص٦٣ برقم (٣٨). والبرقي في كتابه رجال البرقي: ص٦. والعلامة الحلي في إيضاح الاشتباه: ص٨٠ برقم(٢)، وفي الخلاصة: ص٢٤ برقم (٩) أيضاً. وابن داود في كتابه رجال ابن داود: ص٥٢ برقم (٢٠٤). والشيخ حسن صاحب المعالم في التحرير الطاووسي: ص٧٧ برقم (٤٧). والسيّد الخوئي في معجم رجال الحديث:ج٤، ص١٣٢ برقم (١٥١٧). وأما من العامة فنذكر: ابن سعد في كتابه طبقات ابن سعد: ج٦، ص٢٢٩. وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة: ج١، ص٣٤٧ برقم(٤٧١). والنسائي في الضعفاء والمتروكين: ج١، ص١٥٦ برقم (٦٤). وابن شاهين في تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين: ص٨٢ برقم (٦٤٢).
2- ممن عنون له بتعريته من الألف واللام من الشيعة : الطوسي في رجال الطوسي: ص٣٤ برقم (٢) عنونه ب_دون ألف ولام بخلاف ما فعل في الفهرست، وأحمد بن عبد الرضا البصري في فائق المقال في الحديث والرجال: برقم (٥٥). ومن العامة: البخاري في التاريخ الكبير: ج٢، ص٣٥ برقم (١٥٩٥). الرازي في الجرح والتعديل: ج٢، ص٣١٩ برقم (١٢١٣). والعقيلي في كتابه ضعفاء العقيلي: ج١، ص١٢٩. وابن عدي في كتابه الكامل في الضعفاء: ج١، ص٤٠٧. وابن حبان في كتابه المجروحين: ج١، ص١٧٣. والمزي في تهذيب الكمال: ج٣، ص٣٠٨ برقم (٥٣٧). وابن حجر في تهذيب التهذيب: ج١، ص٣٦٢ برقم (٦٥٨). والذهبي في ميزان الاعتدال: ج١، ص٢٧١ برقم (١٠١٤). والعجلي في الثقات: ص٢٣٣برقم (١١٣)
3- اُنظر: ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج٦، ص٢٤٧ برقم٢٢٣٢.
4- اُنظر: المزي، تهذيب الكمال للمزي: ج٣، ص٣٠٨ برقم٥٣٧.

والتميمي: بفتح التاء وكسر الميم وسكون الياء، نسبةً إلى تميم التي تنتسب إليها عدّة من القبائل العربية المعروفة، والمنتسب إليها جماعة من الصحابة والتابعين(1)، ولا زالت هذه القبائل موجودة إلى يومنا هذا، بل في بعض الروايات ما يُشير إلى بقائها إلى زمان ظهور القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف ، حيث ورد في عدة أحاديث: أنّ صاحب راية المهديّ عجل الله تعالی فرجه الشریف رجل من تميم، يقال له: شعيب بن صالح التميم(2).

والحنظلي: بفتح الحاء وسكون النون وفتح الظاء، نسبةً إلى حنظلة، بطن من تميم، وهو حنظلة بن مالك، بن زيد بن مناة، بن تميم(3).

والدارمي: بفتح الدال وكسر الراء، هذه النسبة إلى بني دارم، وهو دارم بن مالك بن حنظلة (4).

والمُجاشعي: بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر الشين، هذه النسبة إلى بني مُجاشِع، وهو مجاشع بن دارم (5).

قال صاحب الاشتقاق: «... واشتقاق الأصبغ من قولهم: فرس أصبغ، والأنثى صبغاء، وهو الذي طرف ذنبه بياض. والصبغ معروف. وثوب صبيغ ومصبوغ. ونُباتة: فُعالة من النبت»(6).

ص: 214


1- اُنظر: السمعاني، أنساب السمعاني: ج١، ص٤٧٨.
2- اُنظر: السيوطي، العرف الوردي في أخبار المهدي: ص٩٩. والمجلسي، بحار الأنوار: ج٥٣، ص٣٥
3- اُنظر: ابن الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب: ج١، ص٣٩٦.
4- اُنظر: المصدر السابق: ج١، ص٤٨٤.
5- اُنظر: المصدر السابق: ج٣، ص١٦٤.
6- ابن دريد، الاشتقاق: ص٢٤٣.

وقد كان الأصبغ من خاصة أمير المؤمنين علیه السلام ، وكان من المعدودين من شرطة الخميس الذين ضمنوا لأمير المؤمنين علیه السلام الذبح وضمن لهم الفتح، «وكان من ذخائر عليٍّ، ممن قد بايعه على الموت، وكان من فرسان أهل العراق، وكان علي علیه السلام يضنُّ به على الحرب والقتال»(1).

ولادته ونشأته

إن مَن طالع كتب السيرة والتاريخ والتراجم يلاحظ أن أكثر المشاهير في التاريخ _ من علماء وأُدباء وملوك وأُمراء وغيرهم _ لا يعرف المؤرخون تواريخ ولادتهم، وغاية ما يتمكنون منه هو تحديد وفياتهم؛ ولذا نجد أن هناك عدداً من المؤرخين قد ألّفوا كُتباً في الوفيات: كوفيات المصريين لأبي إسحاق الحَبَّال (ت ٤١٨ه_)، ووفيات الأعيان لابن خلّكان (ت٦٨١ه_)، والوافي بالوفيات للصفدي (ت٧٦٤ه_)، والوفيات لابن رافع السلامي (ت٧٧٤ه_)، والوفيات لابن قنفذ (ت٨١٠ه_)، بينما لا نجد مَن ألّف في المواليد إلّا نادراً، كمولد العلماء ووفياتهم للربعي (ت٣٩٧ه_).

والسبب في ذلك؛ أن كل شخص من هؤلاء العظماء يولَد كما تولَد ملايين الأطفال من عامة البشر، فلا تُبادر أُسرته أو مجتمعه _ في الأزمنة القديمة _ إلى تسجيل زمان ولادته، فهم لا يعلمون الغيب كي يتنبؤوا بأن هذا الطفل أو ذاك سيكون له شأن أو منزلة رفيعة في المستقبل.

وقد يلجأ بعض الباحثين _ في مثل هذه الحالات _ إلى الاعتماد على بعض القرائن

ص: 215


1- المنقري، وقعة صفين: ص٤٤٣.

والمؤشرات العقلية والتاريخية؛ لتخمين فترة زمنية معينة وقعت فيها ولادة الشخصية المترجَم لها، كما لو عرفنا تاريخ وفاة والدة المترجَم له؛ فإن ولادته ستكون حتماً قبل هذا التاريخ، أو عرفنا تاريخ وفاة والده؛ فإننا سنعلم أن ولادته كانت قبل هذا التاريخ أو بعده بأشهُر؛ لاحتمال أن يكون قد توفِّي والده بعد الحمل وقبل الولادة، وهكذا...

وفيما يخص المترجَم له: فإننا لم نعثر على نص يحدد لنا زمان ولادته بالدقة، غير أننا نستطيع القول: إن ولادته كانت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ، يدلنا على ذلك ما رواه ابن عساكر، بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة أنه قال: «إنا لجلوس ذات يوم عند علي بن أبي طالب علیه السلام في خلافة أبي بكر، إذ أقبل رجل من حضرموت لم أرَ رجلاً قطّ أنكر منه ولا أطول...»(1).

فهذا النص يدل على أن الأصبغ كان رجلاً أو صبياً مميزاً _ على أقل تقدير _ في زمان خلافة أبي بكر، وبما أن خلافته لم تمتد لأزيد من سنتين وعدة أشهُر(2)، فيكون الأصبغ قد أدرك زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ ولذا عنون له ابن حجر في الإصابة في ضوء هذا المؤشر(3).

ومما يدعم ذلك ما وصفه به نصر بن مزاحم المنقري _ بعد إحدى مبارزاته في صفين _ حيث قال: «فرجع الأصبغ وقد خضب سيفه دماً ورمحه، وكان شيخاً ناسكاً عابداً»(4).

ص: 216


1- ابن عساكر، تاريخ ابن عساكر: ج٣٦، ص١٣٨.
2- اُنظر: المصدر السابق: ج٣٠، ص٥٠_٥٣. ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: ج٤، ص١٥٠
3- اُنظر: ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: ج١، ص٣٤٧.
4- المنقري، وقعة صفين: ص٤٤٣.

فإن لفظة الشيخ لا تطلق في اللغة إلّا على من ظهر عليه الشيب، أو تجاوز ال_٥٠ أو ٥١ عاماً(1)، وهذا يعني أنه قد بلغ هذا السن _ أو قاربه أو تجاوزه _ في وقعة صفين التي حصلت سنة ٣٧ه_.

وعلى أيَّة حال، فإن هذا النص الذي أسنده ابن عساكر إلى الأصبغ يرشدنا إلى ملازمته لأمير المؤمنين علیه السلام ، ومتابعته له في مرحلة مبكرة جداً من حياته، قبل توليه الخلافة؛ مما يؤكد إخلاص الأصبغ وعمق ولائه لأمير المؤمنين علیه السلام ، وأنه لم يكن يتحرك بدافع دنيوي أو سياسي أو مصلحي.

وقد بقي الأصبغ _ كما تشير النصوص _ في شرف هذه الصحبة إلى آخر لحظة من لحظات حياة أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد انتقل معه إلى العراق، وشهد معه وقعة الجمل وصفين(2)، وحينما نزل أمير المؤمنين علیه السلام في الكوفة واتخذها عاصمة للدولة الإسلامية، استقر معه فيها، متتلمذاً على يديه، مقتفياً أثره، مستضيئاً بنور علمه، وفي هذا الصدد نُقل عنه أنه قال: «حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلّا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب علیه السلام »(3).

وتُشير بعض النصوص إلى انتقال الأصبغ من الكوفة إلى المدائن في الأيام الأخيرة من ولاية سلمان الفارسي عليها(4)، ولا تُسعفنا النصوص في تحديد المهمّة

ص: 217


1- اُنظر: الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس: ج٧، ص٢٨٦، مادة (شيخ).
2- اُنظر _ حول حضوره الجمل _: المدني، ضامن بن شدقم، وقعة الجمل: ص٤٦. واُنظر _ حول حضوره صفين _: المنقري، وقعة صفين: ص٦٠٤.
3- المجلسي، بحار الأنوار: ج٤١، ص١٤٦.
4- اُنظر: المصدر السابق: ج٢٢، ص٣٧٤. وفيه يقول الأصبغ: «كنت مع سلمان الفارسي رحمة الله وهو أمير المدائن في زمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ».

التي أُنيطت بالأصبغ في المدائن.

وكيفما كان، فالذي يظهر من نصوص أُخرى أن مكثه في المدائن لم يدُم طويلاً؛ إذ وجدناه حاضراً في الكوفة في شهر رمضان من عام ٤٠ ه_، وهو الشهر الذي قُتِل فيه أمير المؤمنين علیه السلام (1)، وقد كان حاضراً في الليلة التي ضُرب فيها أمير المؤمنين علیه السلام معه في بيته (2).

ولا تهدينا النصوص إلى معرفة ما آل إليه أمر الأصبغ بعد رحيل أمير المؤمنين علیه السلام ، ولا نعرف شيئاً كثيراً عن طبيعة علاقته بالأئمة علیهم السلام من بعده، كما أن الأخبار لا تفيدنا بشيءٍ عن نشاطه في الكوفة بعد غياب أمير المؤمنين علیه السلام عنها.

والمظنون أنه قد كرّس جهده _ وما بقي من عمره _ في نشر التشيع وترويج أُصوله وأُسسه ومفاهيمه، من خلال ما سمعه ووعاه من أمير المؤمنين علیه السلام ؛ نتلمس ذلك ونتحسّسه من خلال ما نقله الرواة عنه من أحاديث في العقيدة والفقه، والتفسير والأخلاق، والعرفان و... والذي أعتقده أنه لم يُهاجر من الكوفة بعد استشهاد أمير المؤمنين علیه السلام ، وإنما بقي فيها إلى آخر لحظات عمره.

مكانته العلمية

كان الأصبغ رجلاً فاضلاً _ كما عبر عنه المفيد في الاختصاص(3) _ وهو من

ص: 218


1- اُنظر: المصدر السابق: ج٤٢، ص١٩٣. وفيه يقول الأصبغ: «خطبنا أمير المؤمنين علیه السلام في الشهر الذي قُتل فيه فقال: أتاكم شهر رمضان وهو سيد الشهور...».
2- اُنظر: الطوسي، الأمالي: ص١٢٣.
3- اُنظر: المفيد، الاختصاص: ص٦٥.

الأوصاف التي تُطلق على أهل العلم في عرفهم، وفي معالم العلماء لابن شهرآشوب: «إن أول مَن صنّف فيه [يعني في الإسلام] أمير المؤمنين علیه السلام ... ثم سلمان، ثم أبو ذر، ثم الأصبغ بن نباتة...»(1).

ويمكن أن نلمس الجانب العلمي في شخصية الأصبغ من خلال مروياته الكثيرة في فنون العلم: الفقه والتفسير والحِكَم وغيرها؛ فقد كان كثير الرواية، متقناً في حديثه، وكان أكثر رواياته عن أمير المؤمنين علیه السلام وقد روى عن الصحابة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فضائل علي علیه السلام . وله روايات في فضل الشيعة، كما في اختصاص المفيد وغيره(2).

أما طبقته، فقد عدّه الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، ثم عاد مرّةً أُخرى وعدّه من أصحاب الإمام الحسن علیه السلام (3).

وقد عدَّه ابن حجر من الطبقة الثالثة، المشتملة على أسماء الطبقة الوسطى من التابعين(4)، بل احتمل في الإصابة _ كما ألمحنا _ أن يكون مُدركاً للنبي صلّى الله عليه وسلّم ، وأن تكون له صُحبة.

ووقع الأصبغ في إسناد اثنتين وستين رواية في الكتب الأربعة عدا ما روي في غيرها، فبعنوان (الأصبغ بن نباتة) وقع في إسناد ست وخمسين رواية، وبعنوان (الأصبغ) في إسناد خمس روايات، وبعنوان (أصبغ بن نباتة الحنظل) في إسناد رواية واحدة(5).

ص: 219


1- ابن شهرآشوب، معالم العلماء: ص٣٨.
2- اُنظر: الأبطحي، تهذيب المقال: ج١، ص٩٣ في الهامش.
3- اُنظر: الطوسي، رجال الطوسي: ص٣٤_٦٥.
4- اُنظر: ابن حجر، تقريب التهذيب: ج١، ص١٠٧.
5- اُنظر: الخوئي، معجم رجال الحديث: ج٤، ص١٣٥_١٣٦.

روى عنه أبو الجارود زياد بن منذر، وأبو حمزة الثمالي، وأبو الصباح الكناني، والحارث بن المغيرة، وخالد النوفلي، وسعد بن طريف، وعبد الحميد الطائي، وعبدالله بن جرير العبدي، ومحمد بن داود الغنوي، ومحمد بن الفرات، ومسمع، والأجلح بن عبد الله الكندي، وثابت بن أسلم البناني، ورزين بياع الأنماط، وسعيد بن مينا، وعلي بن الحزور، وفطر بن خليفة، ومحمد بن السائب الكلبي، والوليد بن عبدة الكوفي، ويحيى بن أبي الهيثم العطار، وآخرون(1).

والأصبغ هو مَن روى عهد مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين علیه السلام لما ولاّه مصر، وروى _ أيضاً _ وصية أمير المؤمنين علیه السلام إلى ابنه محمد بن الحنفية، كما ذكر ذلك شيخ الطائفة الطوسي في فهرسته، فقال: «أخبرنا بالعهد ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن، عن الحميري، عن هارون بن مسلم والحسن بن ظريف جميعاً، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين علیه السلام ، وأما الوصية، فأخبرنا بها الحسين بن عبيد الله، عن الدوري، عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج، عن جعفر بن محمد الحسيني، عن علي بن عبدك الصوفي، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي، قال: كتب أمير المؤمنين علیه السلام إلى ولده محمد بن الحنفية بوصيته»(2).

وروى الطوسي عنه أيضاً مقتل الحسين علیه السلام كما سيأتي عما قريب.

وقد روى الأصبغ أيضاً القضايا التي حكم فيها أمير المؤمنين علیه السلام ، وهي برواية

ص: 220


1- اُنظر: الخوئي، معجم رجال الحديث: ج٤، ص١٣٥. المزي، تهذيب الكمال: ج٣، ص٣٠٨ برقم٥٣٧.
2- الطوسي، الفهرست: ص٣٧_٣٨.

إبراهيم بن هاشم القمّي، وتوجد نسخة منه في مكتبة جامعة طهران برقم(٣٩١٥)، وبتاريخ(١٠٦٤ه_)، ونسخة في تركيا مكتبة حميديّة رقم(١٤٤٧)، من ١٤٩ آ _ ١٥٣ آ، وهي بعنوان (أقضية أمير المؤمنين علیه السلام ).

وكانت لدى السيد محسن الأمين العاملي _ صاحب أعيان الشيعة _ نسخة ثمينة من هذا الكتاب، ضمن مجموعة عليها تواريخ سنة(٤١٠ و٤٢٠)، باسم: (عجائب أحكام أمير المؤمنين علیه السلام ومسائله) أدرجها في كتاب ألّفه باسم (عجائب أحكام وقضايا ومسائل أمير المؤمنين علیه السلام )(1).

مذهبه ومعتقده

لا ينبغي التوقف في القول بتشيع الأصبغ وموالاته لأهل البيت علیهم السلام ، بل لا ينبغي التردد في كونه من الناشرين لمذهبهم والمروجين لفكرهم، ويمكن للقارئ الكريم أن يتأكد من ذلك من خلال ما بثّه الأصبغ من روايات تحمل فضائل أهل البيت علیهم السلام ومناقبهم وفضائل شيعتهم ومحبيهم.

ونحن نكتفي هنا بإيراد رواية واحدة، رواها الصدوق رحمة الله بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة أنه قال: «خرج علينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ذات يوم، ويده في يد ابنه الحسن علیه السلام ، وهو يقول: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، ويدي في يده هكذا، وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيدهم أخي هذا، وهو إمام كل مسلم، ومولى كل مؤمن بعد وفاتي. ألا وإني أقول: خير الخلق بعدي وسيدهم ابني هذا،

ص: 221


1- اُنظر: الجلالي، تدوين السنة الشريفة: ص١٤٠.

وهو إمام كل مؤمن، ومولى كل مؤمن بعد وفاتي، ألا وإنه سيُظلَم بعدي كما ظُلمت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وخير الخلق وسيدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين، المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كربلاء، أما إنه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة، ومن بعد الحسين تسعة من صُلبه، خلفاء في أرضه، وحججه على عباده، وأمناؤه على وحيه، وأئمة المسلمين، وقادة المؤمنين، وسادة المتقين، تاسعهم القائم الذي يملأ الله  به الأرض نوراً بعد ظُلمتها، وعدلاً بعد جورها، وعلماً بعد جهلها، والذي بعث أخي محمداً بالنبوة واختصّني بالإمامة، لقد نزل بذلك الوحي من السماء على لسان الروح الأمين جبرئيل، ولقد سُئِل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم _ وأنا عنده _ عن الأئمة بعده، فقال للسائل: والسماء ذات البروج، إن عددهم بعدد البروج، ورب الليالي والأيام والشهور، إن عددهم كعدد الشهور. فقال السائل: فمَن هم يا رسول الله؟ فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على رأسي، فقال: أولهم هذا، وآخرهم المهدي، مَن والاهم فقد والاني، ومَن عاداهم فقد عاداني، ومَن أحبّهم فقد أحبّني، ومَن أبغضهم فقد أبغضني، ومَن أنكرهم فقد أنكرني، ومَن عرفهم فقد عرفني، بهم يحفظ الله  دينه، وبهم يُعمِّر بلاده، وبهم يرزق عباده، وبهم نزل القطر من السماء، وبهم يُخرِج بركات الأرض، هؤلاء أصفيائي وخلفائي، وأئمة المسلمين، وموالي المؤمنين»(1).

والمحتوى العقدي الذي تحمله هذه الرواية _ ونظائرها مما كان ينشره الأصبغ بين الناس _ هو جوهر العقيدة الإمامية ومحورها؛ ومن هنا عبّر عنه الرجاليون بألفاظ دالة على عمق تشيّعه ورسوخ عقيدته في أهل البيت علیهم السلام ؛ فقد عبّر عنه

ص: 222


1- الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: ص٢٥٩_٢٦٠.

النجاشي _ ووافقه على ذلك الطوسي _ بقوله: «كان من خاصة أمير المؤمنين علیه السلام »(1)، وقال عنه المفيد: «وكان من شرطة الخميس»(2)، وهذه العبارة لا تُطلق إلّا على خيار شيعة أمير المؤمنين علیه السلام ، والمقصود بالخميس: الجيش؛ سُمّي به؛ لأنه مقسوم على خمسة أقسام: المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب، وهم ستة آلاف رجل أو خمسة آلاف، وهم أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام الذين قال لهم: «تشرّطوا فأنا أُشارطكم على الجنة، ولست أُشارطكم على ذهب ولا فضة»(3).

روى الكشي عن محمد بن مسعود، قال: «حدثني علي بن الحسين، عن مروك بن عبيد، قال: حدثني إبراهيم بن أبي البلاد، عن رجل، عن الأصبغ، قال: قلت له: كيف سُمّيتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ قال: إنا ضمنا له الذبح، وضمن لنا الفتح»(4).

هذا من زاوية أتباع مدرسة أهل البيت علیهم السلام ، أما من زاوية أهل السنة، فتكاد تتّفق كلمتهم على تشيُّعه ونسبته إلى الشيعة، فهذا ابن قتيبة يعدُّه من رجال الشيعة(5)، وقال ابن سعد: «كان شيعياً»(6)، وقال ابن حجر: «رُمِيَ بالرفض»(7)، وقال العقيلي: «كوفي كان يقول بالرجعة»(8)، وهي من مختصات الشيعة. وقال ابن حبان: «وهو ممن

ص: 223


1- النجاشي، رجال النجاشي: ص٦٨.
2- المفيد، الاختصاص: ص٢.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص٢_٣.
4- الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ص٣٢٠.
5- اُنظر: ابن قتيبة، المعارف: ص٦٢٤.
6- ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج٦، ص٢٤٧.
7- ابن حجر، تقريب التهذيب: ج١، ص١١٣.
8- العقيلي، الضعفاء: ج١، ص١٢٩.

فُتِنَ بحبّ علي علیه السلام »(1)، وقال الخركوشي عنه إنه من الشيعة المحترقين(2).

وثاقته وعدالته

قلنا _ فيما تقدم _: إن الأصبغ من المعدودين من (شرطة الخميس)، وقد تحدثنا عن معنى هذه العبارة وعن دلالتها على تشيُّع من أُطلقت في حقه، ونريد أن نُضيف الآن بأنها قد تدل على الوثاقة _ أيضاً _ كما صرح به صاحب سماء المقال بقوله: «ثم إنه لا يخفى أنها [يعني عبارة شرطة الخميس] تدل على غاية قوة إيمان مَن ذُكِر في حقه... كما أن الظاهر دلالتها على الوثاقة، كما جرى عليه جمع من الطائفة...»(3).

ولا كلام في كون الأصبغ من المعدودين من شرطة الخميس، كما نص على ذلك المفيد، بل نصت على ذلك جملة من المصادر من الفريقين(4)، وإنما الكلام كل الكلام في دلالة هذه العبارة على وثاقة مَن أُطلقت في حقه.

والواقع: أن العبارة لا تدل بذاتها على التوثيق، وإن دلت على التشيع، وإنما اكتسبت هذه الحمولة، وصارت تدل على التوثيق من خلال الروايات المادحة ل_(شرطة الخميس)، وهي بأجمعها ضعيفة كما صرح بذلك السيد الخوئ(5).

ص: 224


1- ابن حبان، المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين: ج١، ص١٧٤.
2- اُنظر: الخركوشي، شرف المصطفى: ج٥، ص٣٥٨.
3- الكلباسي، سماء المقال في علم الرجال: ج٢، ص٢٤٨.
4- ممن نص على ذلك _ بالإضافة إلى المفيد في الاختصاص _: الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ص٣٢٠. ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج٦، ص٢٢٥. المنقري، وقعة صفين: ص٤٠٦
5- اُنظر: الخوئي، معجم رجال الحديث: ج٤، ص١٣٤.

ومن هنا؛ لم ينصّ النجاشي والطوسي على عدالة الأصبغ، واكتفيا بالتعبير عنه بأنه: «من خاصة أمير المؤمنين علیه السلام »، وهذا التعبير لا يدل _ عند الرجاليين _ على أكثر من المدح والحُسْن(1)، ونعته العلامة الحلي في الخلاصة ب_لفظ «وهو مشكور»(2) بعد ما ذكره في القسم المخصص للرواة المعتمد عليهم، وهو من الألفاظ التي تُفيد المدح، كما في الراشحة الثانية عشرة من الرواشح السماوية(3)، واعتبره صاحب نهاية الدراية من ألفاظ المدح من المرتبة الثانية(4)، ومثله ما وصفه به فائق المقال؛ حيث قال عنه: «وكان جليل القدر خيّراً»(5)، وهو من تعابير المدح أيضاً دون التوثيق، وكذا صنع السيد الخوئي؛ إذ وصفه بقوله: «وهو من المتقدمين، من سلفنا الصالحين»(6)، وهذه الكلمات لا تدل على غير المدح أيضاً، كما لا يخفى على مَن تتبّع كُتب وكلمات أرباب الرجال ومصطلحاتهم.

ويتلخص مما تقدم؛ أن المستقر عليه هو أن الرجل من الممدوحين في رجالنا، ولم يُصرِّح أحد منهم بتوثيقه وتعديله، غير أن النفس غير راضية بما قالوه، ونحن نرى وثاقته ونرجح عدالته لوجوه:

ص: 225


1- اُنظر: الغفاري، دراسات في علم الدراية: ص١١٥. قال _ حول دلالة هذا اللفظ _: «وأما قولهم: (خاصي)، فإن أُريد به ما يراد من قولهم من خاصة الإمام الفلاني علیه السلام ، دلّ على المدح المعتدّ به وأفاد الحُسن، وإن أُريد ما قابل قولهم: (عامي) كما هو الأظهر، لم يُفد إلا كونه إمامياً، وعند الإطلاق يكون الأمر فيه مشتبهاً، وتعين الأخذ منه بالقدر المتيقن...».
2- الحلّي، خلاصة الأقوال: ص٧٧.
3- اُنظر: الداماد، الرواشح السماوية: ص٥٣.
4- اُنظر: الصدر، نهاية الدراية: ص٣٩٩.
5- البصري، أحمد بن عبد الرضا، فائق المقال: برقم(١٥٥).
6- الخوئي، معجم رجال الحديث: ج٤، ص١٣٢ برقم(١٥١٧)

الوجه الأول: أن الرجل قد تكرر اسمه في تفسير علي بن إبراهيم القم(کان حيّاً سنة ٣٠٧ه_)، وهذا الوجه حجة على مَن يذهب إلى وثاقة جميع مَن وقع في إسناد هذا التفسير.

الوجه الثاني: ورود اسمه في إسناد كامل الزيارات، فهو أيضاً موثَّق عند مَن يرى وثاقة جميع الواقعين في سلسلة الإسناد.

الوجه الثالث: أننا نرفض القوالب التي وضعها علماء الدراية في تحديدهم لألفاظ الجرح والتعديل، ونقول: بأن عبارة «من خاصة أمير المؤمنين علیه السلام » تدل على التوثيق، بل هي من أرفع عبارات التوثيق، ويتضح ذلك من خلال عرض العبارة على العُرْف العام(1).

الوجه الرابع(2): وهو مبنيٌّ على مسلك (الاطمئنان) المتاخم للعلم الحاصل من ملاحظة مجموع الأوصاف التي وصفها به علماء الرجال والتاريخ، ومجموع ما قيل عنه وما صدر منه.

فإن كل مفردة وإن لم تُفِد الوثوق والاطمئنان النوعي، إلّا أنها بمجموعها قد تُفيد العلم _ أو على الأقل الاطمئنان _ بوثاقته، بل بما هو فوق الوثاقة، أي الدرجات العالية منها.

فلو ضممنا قول النجاشي والطوسي: «كان من خاصة أمير المؤمنين علیه السلام »،

ص: 226


1- وهذا الوجه سمعته من أُستاذنا سماحة السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) في خارج الفقه
2- وهذا الوجه أيضاً من إفادات سماحة السيد الأُستاذ(دام ظله).

وكذا عبارة: «مشكور»، و«كان جليل القدر خيراً»، و«من المتقدمين من سلفنا الصالحين...» وغيرها.

وكذلك وقوعه في إسناد كامل الزيارات، وتفسير علي بن إبراهيم _ وإن لم نقل بوثاقة جميع مَن ورد في إسنادهما على المبنى فرضاً_ ثم ضممنا إلى ذلك كله ما وصفه به علماء الرجال من أهل السنة، كقول ابن حبان: «وهو ممن فُتِنَ بحبّ علي علیه السلام »(1)، وتوثيق العجلي له، بل وابن عدي، رغم أن ذلك على خلاف القاعدة منهم.

وضممنا إلى ذلك أيضاً ما ذُكِرَ له من الأوصاف والأعمال والمواقف: مثل كونه من شرطة الخميس، وكونه راوياً لمقتل سيد الشهداء علیه السلام ، وكونه الراوي لعهد الأشتر عن أمير المؤمنين علیه السلام ، وكونه الراوي لوصية أمير المؤمنين علیه السلام إلى ابنه محمد بن الحنفية، وروايته لمجموعة من الأخبار التي تدل على مكانته وكمال معرفته، كروايته لخبر أُويس القرني ومبايعته لأمير المؤمنين علیه السلام (2)، ورواية أبي الجارود عنه في قوله: «ألا إن سيوفنا على عواتقنا فمَن أُومي إليه [أي مَن أومأ إليه أمير المؤمنين علیه السلام ] ضربناه بها»(3)، وروايته قضية دخول حارث الهمداني على أمير المؤمنين علیه السلام وقوله علیه السلام له: «يا حار همدان مَن يَمُت يرني...»(4).

إذا ضممنا ذلك بعضه إلى بعض؛ فالظاهر أنه يُطمأن _ من دون شك _ بوثاقته سواء قلنا: بأن (الاطمئنان) الشخصي حجة، أم قلنا: بأن الحجة هي للاطمئنان

ص: 227


1- ابن حبان، المجروحين: ج١، ص١٧٤.
2- اُنظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج١، ص٣١٥.
3- المصدر السابق: ص٣٢٠.
4- المفيد، آمالي المفيد: ص٥_٦. الطوسي، آمالي الطوسي: ص٦٢٦_٦٢٧.

النوع(أي: حصول الوثوق النوعي من المجموع، وإن لم يحصل للشخص نفسه اطمئنان شخص) فإن العقلاء، بملاحظتهم مجموع ذلك، يحصل لهم الاطمئنان بوثاقته؛ فحجية هذا الظن الحاصل من المجموع مستندة إلى بناء العقلاء، كما يمكن إسنادها إلى أنها نوع استبانة، بل من أظهر مصاديقها «والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم البينة»، كما تشملها آية النبأ، بلحاظ التعليل فيها.

هذه بعض الوجوه، ولعل المتتبع يجد وجوهاً أُخر يُستفاد منها توثيق الأصبغ.

أما علماء رجال السنة؛ فقد ذهب أكثرهم إلى ردِّ روايته ونكارة حديثه(1)، ولم يوثّقه منهم سوى العجلي الذي قال عنه: «كوفي، تابعي، ثقة»(2)، وتوسّط في أمره ابن عدي؛ فقبل روايته وجعل الإنكار من جهة مَن روى عنه، فقال: «وإذا حدّث عن الأصبغ ثقة، فهو عندي لا بأس بروايته، وإنما الإنكار من جهة من روى عنه؛ لأن الراوي عنه لعله يكون ضعيفاً»(3).

وفي الحقيقة: أن الباحث لو فتّش عن سبب مقنع لتضعيف الأصبغ وجرحه، فلن يجد سوى حُبّه لأمير المؤمنين علیه السلام وعشقه له، ونقله لفضائله ومناقبه، وهذا ما صرّح به ابن حبان جهاراً نهاراً؛ حيث قال: «وهو ممَّن فُتن بحُب علي، أتى بالطامات في الروايات؛ فاستحق من أجلها الترك»(4).

ص: 228


1- اُنظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج١، ص٣٦٢ برقم (٦٥٨).
2- العجلي، ثقات العجلي: ج١، ص٢٣٣ برقم(٢٣٣).
3- ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال: ج١، ص٤٠١.
4- ابن حبان، المجروحين: ج١، ص١٧٤.

فقد تبين السبب إذن؛ فلم يكن الأصبغ تاركاً للصلاة، ولا شارباً للخمر، ولا زانياً ولا ولا... وإنما كان ذنبه الوحيد هو افتتانه بحُب أمير المؤمنين علیه السلام ، ونقله لما يُغيظ ابن حبان ومَن على شاكلته «فالصواب ما قاله العجلي، من أنه ثقة، وأشار إليه إبن عدي بقوله: لا بأس بروايته. وجعل الإنكار من جهة مَن روى عنه، ولا يلتفت إلى قدح مَن قدح فيه؛ لأن الجرح إنما يُقدّم على التعديل إذا لم يكن الجرح مستنداً إلى سبب عُلِمَ فساده»(1).

وفاته

نص النجاشي _ ومن بعده الطوسي _ على أن الأصبع قد عمَّر بعد أمير المؤمنين علیه السلام ، ولكنهما لم يُحدِّدا لنا سنة وفاته(2).

ولا يوجد ما نستند إليه في تحديد سنة وفاة الأصبغ عدا أمرين:

ألف) ذكْر الذهبي له في تاريخه في الطبقة الحادية عشرة _ بحسب تقسيمه للطبقات في هذا الكتاب _ وقد حصر وفيات هذه الطبقة بين عامي ١٠١_١٢٠ه_(3).

ب) وضْع ابن حجر له في تقريب التهذيب في الطبقة الثالثة _ كما تقدم _ وقد صرّح في مقدمة الكتاب بأن المعدودين في الطبقة الثالثة إلى آخر الثامنة كلهم من المتوفَّين بعد المائة الأُولى للهجرة(4).

ص: 229


1- الأمين، أعيان الشيعة: ج٣، ص٤٦٦.
2- اُنظر: النجاشي، رجال النجاشي: ص٨ برقم٥. الطوسي، الفهرست: ص٣٧ برقم١٠٩
3- اُنظر: الذهبي، تاريخ الإسلام: ج٧، ص٧_٢٨.
4- اُنظر: ابن حجر، تقريب التهذيب: ج١، ص٢٦.

وفي ضوء ذلك؛ ذكر الطهراني أن وفاته كانت بعد عام مائة للهجرة، وقد أشار إلى ذلك مرتين: تارة عند ذكره لكتابة الأصبغ عهد أمير المؤمنين علیه السلام إلى مالك الأشتر(1)، وأُخرى عند ذكره لكتابته وصية أمير المؤمنين علیه السلام لابنه محمد بن الحنفية(2).

القسم الثاني: مقتل الحسين علیه السلام للأصبغ بن نباتة

اشارة

يظهر من التتبع أن الأصبغ بن نباتة هو أول مَن كتب في مقتل الحسين علیه السلام ، وكتابه أسبق كتب المقاتل(3)، بل الظاهر أنه أول مؤرخي واقعة الطف على الإطلاق، فكتابه كان يحوي أقدم مادة تاريخية مسجلة عن واقعة الطف؛ لأنه كان معاصراً للواقعة.

الشيخ الطوسي وكتاب مقتل الأصبغ

لعل المصدر الوحيد الذي أشار إلى وجود كتاب باسم مقتل الحسين علیه السلام للأصبغ بن نباتة هو كتاب الفهرست للشيخ الطوسي رحمة الله (ت٤٦٠ه_) _ فبعد أن ذكر أنّ من كتبه عهد أمير المؤمنين علیه السلام لمالك الأشتر، ووصيته إلى محمد بن الحنفية _ قال: «وروى الدوري عنه أيضاً مقتل الحسين بن علي علیه السلام ، عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن أحمد بن يوسف الجعفي، عن محمد بن يزيد النخعي، عن أحمد بن الحسين، عن أبي الجارود، عن الأصبغ، وذكر الحديث بطوله»(4).

ص: 230


1- اُنظر: الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج١٥، ص٣٦٢.
2- المصدر السابق: ج٢٥، ص١٠٥.
3- اُنظر: المصدر السابق: ج٢٢، ص٢٤.
4- الطوسي، الفهرست: ص٣٨.
رجال السند الواقعون بين الشيخ والأصبغ
اشارة

والرواة الظاهرون في سند هذا الحديث ستة رجال:

١_ الدوري.

٢_ أحمد بن محمد بن سعيد.

٣_ أحمد بن يوسف الجعفي.

٤_ محمد بن يزيد النخعي.

٥_ أحمد بن الحسين.

٦_ أبو الجارود.

والدوري أقربهم إلى الشيخ، والشيخ لا يروي عنه مباشرة، بل يروي عنه بواسطة شيخه الحسين بن عبيد الله الغضائري، وإنما لم يصرح بالواسطة لوضوحها في ذهن المتتبع لأسانيد الشيخ، وهذه الطريقة تُسمَّى في فن الرجال ب_ (التعليق).

وعلى أساس ذلك؛ يكون عدد الرجال الواقعين في السند _ بين الشيخ والأصبغ _ سبعة رجال، سنحاول فيما يلي أن نقف على كل واحد منهم والتعريف به تعريفاً مقتضباً؛ تمهيداً لاستنتاج بعض النتائج التاريخية المهمة التي ترتبط بمقتل الأصبغ.

١_ الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري

وهو شيخ النجاشي، فقد ذكره في الرجال قائلاً: «الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري أبو عبد الله، شيخنا رحمة الله »، ثم قال بعد أن ذكر عدداً من كتبه: «أجازنا جميعها

ص: 231

وجميع رواياته، عن شيوخه، ومات رحمة الله في نصف صَفر، سنة إحدى عشرة وأربعمائة»(1).

أقول: وقد ثبت في محله من علم الرجال وثاقة جميع شيوخ النجاش(2).

وهو من مشايخ الطوسي أيضاً، وقد ذكره في رجاله في باب من لم يروِ عنهم علیهم السلام ووصفه بكثير السماع بالرجال، وقال: إن له تصانيف ذكرها في الفهرست(3)، ولكن النسخ الموجودة من الفهرست لا تحتوي على ترجمة للغضائري، وقد احتمل السيد الخوئي سقوطها منها، وأنها كانت موجودة في نسخة الأصل؛ فإن جلالة مقام الشيخ تأبى عن أن يخبر بشيء لا أصل له(4).

أقول: ما ذهب إليه السيد الخوئي من سقوط ترجمة الغضائري من الفهرست يحل لنا إحدى الإشكاليات التي ابتُلينا بها في بعض الرجال الذين لم يُتطرّق إليهم في الموسوعات الرجالية، أعني إشكالية إعراض الأُصول الرجالية عن ترجمة عدد كبير من الرواة والشخصيات العلمية؛ إذ من المحتمل أن تكون قد سقطت تراجمهم من النسخ الأصلية للأُصول، كما سقطت ترجمة الغضائري من رجال الشيخ، وفي ضوء هذا الاحتمال لا يكون عدم الترجمة للراوي _ بالضرورة _ مساوياً للتقليل من شأنه والحط من أهميته.

٢_ الدوري

هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن جُلّين الدّوري. أبو بكر الوّراق (٢٩٩_٣٧٩ه_)،

ص: 232


1- النجاشي، رجال النجاشي: ص٦٩ برقم(١٦٦).
2- اُنظر _ حول ذلك _: الخوئي، معجم رجال الحديث: ج١، ص٥٠.
3- اُنظر: الطوسي، رجال الطوسي: ص٤٧٠ برقم(٥٢).
4- اُنظر: الخوئي، معجم رجال الحديث: ج٧، ص٢٣.

من أهل بغداد(1)، قال فيه النجاشي: «كان من أصحابنا، ثقة في حديثه، مسكوناً إلى روايته. لا نعرف له إلّا كتاباً واحداً، في طرق ردّ الشمس...»(2).

٣_ أحمد بن محمد بن سعيد

وهو المعروف ب_(ابن عُقدة) (٢٤٩_ ٢٣٣ه_)، وهذا رجل جليل القدر، معظّم عند جميع فرق المسلمين، مشهور بالحفظ، وكان كوفيّاً زيديّاً جارودياً بقي على ذلك حتّى مات(3).

قال عنه الطوسي في الفهرست: «وأمره في الثقة والجلالة وعِظم الحفظ أشهر مِن أن يُذكر»(4)، وقال النعماني في غيبته: «وهذا الرجل ممَّن لا يُطعن عليه في الثقة، ولا في العِلم بالحديث والرجال الناقلين له»(5).

٤_ أحمد بن يوسف الجعفي (... _ بعد٢٧١ ه_)

* أحمد بن يوسف الجعفي (... _ بعد٢٧١ ه_)(6)

وهو من أهل الكوفة ومن شيوخ ابن عُقدة، وقد ذكر النجاشي اسمه ونسبه بشكل مفصل في ترجمة (الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائن) قال: «وله [يعني

ص: 233


1- اُنظر_ حول سكناه بغداد وتحديثه بها _: الذهبي، ميزان الاعتدال: ج١، ص١٠٩. ابن حجر، تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: ج٢، ص٥١٠.
2- النجاشي، رجال النجاشي: ص٨٥ برقم(٢٠٥).
3- اُنظر: المصدر السابق: ص٩٤ برقم(٢٣٣).
4- الطوسي، الفهرست: ص٢٨ برقم(٧٦).
5- النعماني، الغيبة: ص٢٥.
6- يدلنا على ذلك ما نقله النجاشي في رجاله: ص١١ في (ترجمة أبان بن تغلب)، عن أبي الحسن أحمد بن الحسين أنه قال: «وقع إلي بخط أبي العباس بن سعيد، قال: حدثنا أبو الحسين أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي، من كتابه في شوال سنة إحدى وسبعين ومائتين».

للبطائني] كتاب فضائل القرآن، أخبرناه أحمد بن محمد بن هارون، عن أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب بن حمزة بن زياد الجعفي القصباني، يُعرف بابن الجلا (الحلا) بعرزم...»(1).

٥_ محمد بن يزيد النخعي

لم يعنون له النجاشي، وهو شيخ أحمد بن يوسف، وتلميذ أحمد بن الحسين، كما يبدو من هذا السند، وقد روى عن سيف بن عميرة، كما في ترجمة أبان بن تغلب من رجال النجاش(2).

أما الشيخ الطوسي، فقد ذكر عشرة أشخاص بعنوان (محمد بن يزيد)، سبعة منهم يمكن تمييز بعضهم عن البعض الآخر، كما يمكن تمييزهم عن المترجم له؛ وذلك من خلال ملاحظة الصفات والأحوال التي ذكرها في تراجمهم(3)، والثلاثة الباقون وإن كان يمكن تمييز أحدهم عن الآخر بوضوح، إلّا أن كل واحد منهم إذا قارناه بصاحبنا فإننا لا نجد ما يميزه عنه، فسواء اعتمدنا على المؤشرات اللفظية، أو المؤشرات الخارجية لا ينفعنا ذلك. وعليه؛ فيمكن القول: إنه مشترك بين هؤلاء الثلاثة(4).

وخلاصة الكلام في محمد بن يزيد النخعي: أنه مشترك بين مجهول الحال ومهمَليَن.

ص: 234


1- اُنظر: النجاشي، رجال النجاشي: ص٣٧.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص١١.
3- اُنظر: الطوسي، رجال الطوسي: ص٣٠٤ _ ٣٠٥ _ ٣٥٩ _ ٣٦٠ _ ٣٦١.
4- اُنظر: المصدر السابق: ص٣٠٤_ ٣٥٩_٣٦١.
٦_ أحمد بن الحسين

لا يوجد له ذكر في الرجال، بل ليس له ذكر في غير هذا الموضع على الإطلاق، وقال الأبطحي في تهذيب المقال: «وأحمد بن الحسين مشترك بين الضعيف وغيره»(1)، إلّا أننا لا نوافقه على ذلك؛ فإن الذين يشتركون مع المترجَم له في اسمه واسم أبيه ممن عنونت لهم الأُصول الرجالية كلهم معروفون بصفات وأحوال ومؤشرات خارجية؛ نستبعد معها احتمال الاتحاد بين المترجَم له وكل واحد منهم.

فالصحيح ما ذكرناه: من عدم عنونة المترجَم له في كتب الرجال، وأخمن أنه كان زيدياً جارودياً من أتباع أبي الجارود، وقد لا يكون له نشاط علمي سوى نقله لهذا المقتل؛ ولهذا السبب أعرضوا عن ترجمته.

٧_ أبو الجارود

وهو زياد بن المنذر الهمداني الكوفي، وإليه تُنسب الزيدية الجارودية، قال عنه النجاشي: «كان من أصحاب أبي جعفر، وروى عن أبي عبد الله علیه السلام ، وتغيّر لما خرج زيدرضی الله عنه»(2).

وهذا الذي ذكره النجاشي يؤكده الطوسي بقوله: «زياد بن المنذر أبو الجارود الهمداني، الحوفي الكوفي، تابعي زيدي أعمى، إليه تُنسب الجارودية منهم»(3).

ص: 235


1- الأبطحي، تهذيب المقال: ج١، ص١٩٦.
2- النجاشي، رجال النجاشي: ص١٧٠.
3- الطوسي، رجال الطوسي: ص١٢٢.

فإن هذا النص الذي نقلناه عن الشيخ وإن لم يُشر إلى إماميته قبل خروج زيد، ولكنه يؤكد على ما ذكره النجاشي من اعتناقه لمذهب الزيدية، ويظهر منهما استمراره على هذا الحال إلى آخر عمره.

وقد أورد الصدوق روايتين تدلان دلالةً واضحة على رجوع أبي الجارود إلى مذهب الإمامية في آخر حياته(1).

نتائج مترتبة على البحث في رجال السند

حينما نتأمل في سلسلة هذا السند نستنتج الأُمور التالية:

١_ أن هذا المقتل قد كُتب في الكوفة، وأملاه الأصبغ فيها؛ حيث تلقاه زياد بن المنذر من الأصبغ، وهو من أهل الكوفة، ومن الغريب ألّا يروي هذا المقتل عن الأصبغ غير هذا الرجل، لا سيما أن القاسم بن الأصبغ بن نباتة كان مهتمّاً _ على ما يبدو _ بموضوع روايات كربلاء كما سنُشير.

٢_ من المرجح أن هذا المقتل قد بقي محبوساً في الكوفة يتوارثه تلاميذ الأصبغ، فمن أبي الجارود إلى أحمد بن الحسين، إلى محمد بن يزيد النخعي، إلى أحمد بن يوسف الجعفي الذي كان حياً عام٢٧١ه_، بمعنى أنه قد بقي حوالي١٧٠عاماً في الكوفة، أي: أربعة أجيال تقريباً.

٣_ أن الذي نقل هذا المقتل إلى بغداد هو ابن عُقدة الذي كان زيدياً جارودياً حتى مات؛ وهذا ما يجعلنا نرجح بأن الواقعين في السند بين أبي الجارود وابن عُقدة

ص: 236


1- اُنظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا علیه السلام : ج٢، ص٥٢ الحديث (٦و٧).

كلهم من الزيدية الجارودية؛ مما قد يفسر لنا عدم النقل عن هذا المقتل خلال تلك الفترة؛ فقد كان هذا المقتل محبوساً في الكوفة عند أتباع أبي الجارود، وهؤلاء بدورهم كانوا مُنشغلين عن نشره بالدفاع عن مذهبهم الذي كان لا يزال فتيّاً في تلك الفترة، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، فإن انتماءهم الفكري والمذهبي سيكون مانعاً من الاتصال بهم لدى الكثير من المؤرخين، ممن يختلف معهم في المذهب.

وعلى أيّة حال، فقد انتقل هذا المقتل إلى بغداد قبل عام٣٣٣ه_، وهي سنة وفاة ابن عقدة، وقد بقي متداولاً هناك إلى أن وصل إلى يد شيخ الطائفة الطوسي (ت٤٦٠ه_).

وكل من قرأ التأريخ يبدو له السبب واضحاً في انتقال هذا المقتل إلى بغداد في هذه الفترة بالذات، ففيها _ وتحديداً عام ٣٢٠ه_ _ كان مبدأ قيام الدولة البويهية الشيعية؛ فكانت لهم السلطة في العراق وبعض بلاد إيران: كفارس، وكرمان، وبلاد الجبل، وهمدان، وأصفهان، والر(1)، وفي هذه الفترة أيضاً أظهر الشيعة ما كان مدفوناً من تراثهم، واستطاعوا أن يُعيدوا الحياة لهذا التراث، وقام العلماء ببذل جهود جبّارة في تنظيم ونشر وترويج فكر أهل البيت علیهم السلام في تلك الفترة.

بقاء مقتل الأصبغ لأكثر من ثلاثة قرون قبل فقدانه

ذكرنا فيما تقدم أن مقتل الأصبغ قد بقي إلى أيام شيخ الطائفة الطوسي

ص: 237


1- اُنظر: السبحاني، أضواء على عقائد الشيعة الإمامية: ص٩٤.

(ت٤٦٠ه_)، أي: ما يزيد على ثلاثة قرون، وقد بقي حوالي نصف هذه المدة في الكوفة، منحصراً بين تلامذة أبي الجارود من الزيدية، ثم نقله ابن عُقدة إلى بغداد في بدايات الحكم البويهي، ثم وصل إلى الدوري، فابن الغضائري، فالطوسي، وربما كانت هناك نسخة من هذا المقتل في المكتبة العامة التي أنشأها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، وكانت من دُور العلم المهمة في بغداد، بناها هذا الوزير الجليل في محلة بين السورين في الكرخ سنة ٣٨١ ه_، على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون العباسي.

قال ياقوت الحموي : «وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة»(1).

وعند مجيء طغرل بيك السلجوقي أُحرقت هذه المكتبة العظيمة في جملة ما أُحرق من محال الكرخ، ثم توسعت الفتنة؛ فدخلوا دار شيخ الطائفة، فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للتدريس(2).

قال ابن الجوزي في حوادث سنة (٤٤٩ ه): «وفي صَفر هذه السنة كُبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة في الكرخ، وأُخذ ما وُجِد من دفاتره وكرسي يجلس عليه للكلام، وأُخرج إلى الكرخ وأُضيف إليه ثلاث مجانيق بيض، كان الزوّار من

ص: 238


1- الحموي، معجم البلدان: ج١، ص٥٣٤.
2- اُنظر: السبحاني، أضواء على عقائد الشيعة الإمامية: ص٥٦.

أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة، فأُحرق الجميع»(1).

من هنا؛ فنحن نرجح أن مقتل الأصبغ قد أُتلِف فيما أُتلِف في الحملة السلجوقية التي تسببت بتدمير عدد هائل من الأُصول الشيعية، وفي مقدمتها الأُصول الأربعمائة التي كانت موجودة في هذه المكتبة.

وقد كان الطوسي _ بعد انتقاله إلى النجف _ منهمكاً بإعادة ما يمكن إعادته من هذا التراث التالف، ولا ريب في أن الشغل الشاغل له هو التركيز على الجانب العقدي والفقهي من هذا التراث، وسيكون التركيز على الجانب التاريخي تركيزاً هامشياً؛ ومما يدعم ذلك أن الطوسي نفسه كان له مقتل، كما صرح بذلك في الفهرست عند ترجمته لنفسه(2)، وقد فُقِد هذا المقتل أيضاً، ولعله أيضاً مما أُتلف في هذه الحملة، إلّا أن الوقت لم يكن يسمح للشيخ الطوسي رحمة الله بإعادة كتابته.

هل بقي شيء من مقتل الأصبغ؟

ذكر السيد محمد طاهر الياسري الحسيني روايتين عن القاسم بن الأصبغ، روى إحداهما الطبري والأُخرى أبو الفرج، واحتمل كونهما مما نقله القاسم عن مقتل والده(3)؛ فتكون الروايتان _ بحسب هذا الاحتمال _ هما بقية هذا المقتل، وسنورد الروايتين ثم نناقش في ذلك:

ص: 239


1- ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم: ج١٦، ص١٧.
2- اُنظر: الطوسي، الفهرست: ص١٦١.
3- اُنظر: الياسري، محمد طاهر، مقدمة في مقتل الحسين علیه السلام (المبحث الأول: مصادر النص التاريخي) النسخة المعتمدة على الموقع الرسمي له.

الرواية الأُولى: روى الطبري، عن هشام الكلبي، بسنده عن القاسم بن الأصبغ بن نُباتة، قال: «حدثني مَن شهد الحسين علیه السلام في عسكره أن حسيناً حين غُلِب على عسكره ركب المسناة يريد الفرات، قال: فقال رجل من بني أبان بن دارم: ويلكم! حُولوا بينه وبين الماء لا تتام إليه شيعته. قال: وضرب فرسه، واتّبعه الناس حتى حالوا بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهم، أظمه. قال: وينتزع الأباني بسهم، فأثبته في حنك الحسين، قال: فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفيه فامتلأت دماً، ثم قال الحسين: اللهم، إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك. قال: فو الله، إن مكث الرجل إلّا يسيراً حتى صب الله عليه الظمأ، فجعل لا يروى. قال القاسم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمَن يروح عنه والماء يُبرَّد له فيه السكَّر وعساس فيها اللبن، وقلال فيها الماء، وإنه ليقول: ويلكم! اسقوني؛ قتلني الظمأ! فيُعطى القلَّة أو العِسّ كان مروّياً أهل البيت فيشربه، فإذا نزعه من فيه اضطجع الهنيهة ثم يقول: ويلكم! اسقوني؛ قتلني الظمأ، قال: فو الله، ما لبث إلّا يسيراً حتى انقدّ بطنه انقداد بطن البعير»(1).

الرواية الثانية: روى أبو الفرج الأصفهاني، عن المدائني، بسنده إلى القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: «رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنت أعرفه جميلاً، شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك! قال: إني قتلت شاباً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلّا أتاني فيأخذ بتلابيبي، حتى يأتي جهنم، فيدفعني فيها؛ فأصيح، فما يبقى أحد في الحي إلّا سمع صياحي. قال: والمقتول العباس بن علي علیه السلام »(2).

ص: 240


1- الطبري، تاريخ الطبري: ج٥، ص٤٥٠.
2- الأصفهاني، مقاتل الطالبيين: ص١١٨.

والمتأمل في سند الروايتين لا يرى وجهاً لما احتمله الحسيني، من كون هاتين الروايتين مما تبقَّى من آثار مقتل الأصبغ بن نباتة رضوان الله عليه.

أما رواية الطبري؛ فهي صريحة في كون منبع الرواية هو أحد الرواة الذين كانوا متواجدين في الطف، وظاهر الرواية أن القاسم يروي عن هذا الراوي مباشرة، ولا علاقة لأبيه بالموضوع، لا من قريب ولا من بعيد.

وأما رواية المقاتل، فهي أشد صراحة في ذلك؛ حيث ذكر فيها أن القاسم هو الراوي المباشر لهذا الخبر.

نعم يمكن أن يقال: إن القاسم نفسه كان أحد المصادر التي اغترف منها الأصبغ في مقتله؛ وحينئذٍ يتّجه هذا الاحتمال، وهو ما يُسمى عند علماء الدراية ب_(رواية الأكابر عن الأصاغر)(1)، ولكن هذا الكلام هو بمثابة ارتفاع المانع لا بمنزلة المقتضي، أي: أنه لا مانع من رواية الوالد عن ولده، وإن كان ذلك نادراً، ولكن وقوع ذلك وتحققه بالفعل يحتاج إلى دليل، وهو مفقود في مورد بحثنا.

ومهما يكن، فإن في هاتين الروايتين إشارة إلى اهتمام آل الأصبغ بجمع أخبار كربلاء، وملاحقتها من منابعها ومصادرها الأُولى.

نتائج البحث

في نهاية المطاف نأمل أن نكون قد أعطينا هذا الموضوع ما يستحقه من البحث والدراسة، ونرجو أن تكون هذه السطور قد أضاءت بعض الزوايا المظلمة المرتبطة

ص: 241


1- اُنظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للسيوطي (النوع الحادي والأربعون رواية الأكابر عن الأصاغر) : ج٢، ص٧١٢.

بالأصبغ ومقتله، وقد كانت أهم النتائج التي توصَّلنا إليها في هذه الجولة هي:

أولاً: أن الأصبغ بن نباتة هو من كبار محدثي الإمامية في القرن الأول وبدايات القرن الثاني، وقد كان له شرف الريادة والمبادرة إلى الكتابة حول واقعة كربلاء.

ثانياً: أن مقتله هو أقدم المقاتل الحسينية، وكان يتضمن أقدم مادة تاريخية حول هذه الواقعة.

ثالثاً: أن هذا المقتل قد بقي إلى منتصف القرن الخامس الهجري، وقد رجّحنا أنه قد أُتلِف في الحملة السلجوقية التي قضت على الدولة البويهية.

رابعاً: أننا لم نعثر على منقولات من هذا المقتل في المدونات التاريخية التي تأخرت عنه؛ مما يعني أن هذا المقتل قد ضاع بشكل نهائي.

ص: 242

أفضل البقاع

(القسم الأول)الشيخ إسكندر الجعفري

اشارة

هناك بقاع فضّلها الله سبحانه وتعالى على غيرها من البقاع؛ وما ذلك إلّا لأنّها تميّزت بما يُوجب لها التفضيل والتعظيم، ككونها محلاً للعبادة وممارسة الشعائر، أو محلاً لقبول الدعاء، أو لاحتضانها أجساد الأولياء علیهم السلام ، من أنبياء وأوصياء وصُلَحاء، أو لغير ذلك من الامتيازات.

وحيث إنَّ هذه المميزات تتفاضل فيما بينها؛ تفاضلت لذلك نفس البقاع التي هي محلٌّ لها، وقد اختلف العلماء في البقعة الأفضل _ هل هي مكة أو المدينة أو كربلاء أو غيرها من البقاع المفضّلة؟_ تبعاً لاختلاف الروايات والأدلّة في ذلك.

وبما أن لمعرفة البقعة الأفضل أهمّية كبيرة؛ لما يترتّب على ذلك من آثار فقهية

ص: 243

وأخلاقية _ من جهة وجوب احترامها وتقديسها أكثر من غيرها، وقصدها لغرض العبادة والدعاء، والإكثار من الطاعات فيها، ونحو ذلك من الآثار والأحكام _ جاء هذا البحث لتسليط الأضواء على تلك البقاع المفضّلة واستكشاف الأفضل منها، بحسب ما يتوفّر لدينا من أدلّة وقرائن وشواهد نقلتها مصادر الحديث عند المسلمين، من العامّة والخاصّة.

ولكي لا يتوسّع البحث كثيراً ويخرج عن الهدف المرسوم له؛ نُحاول تسليط الأضواء فيه على نقطتين أساسيتين:

الأُولى: فضل تربة كربلاء، وهل يمكن إثبات فضلها من كُتب العامّة؟ بعد ثبوته في كُتب الخاصّة بشكلٍ واضح، كما سيتّضح إن شاء الله تعالى.

الثانية: ما هي أفضل البقاع؟ أهي مكة أم المدينة أم كربلاء أم غيرها؟ بعد الفراغ عن كون كربلاء هي إحدى تلك البقاع المقدّسة.

وفي القسم الأول من هذا البحث سنتحدّث عن النقطة الأُولى، ونفصّل فيها الكلام، مع بيان بعض المقدِّمات المرتبطة بالنقطة الثانية. على أمل أن نُتمّم البحث في النقطة الثانية في القسم الثاني منه.

النقطة الأُولى: فضل تربة كربلاء
اشارة

الحديث عن فضل تربة كربلاء ينقسم إلى قسمين:

الأول: الحديث عن فضلها في كتب العامّة.

والثاني: الحديث عن فضلها في كتب الخاصّة.

ص: 244

القسم الأول: فضل تربة كربلاء في كتب العامّة

روى العامّة في جوامعهم الحديثيّة وكتبهم التاريخية، كثيراً من الأحاديث والروايات التي تتحدث عن إخبارات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتل الإمام الحسين علیه السلام ، وعن الأرض التي يُقتل فيها، وأنّ اسمها كربلاء ونينوى، وأرض الفرات وغير ذلك، وأنّ جبرئيل قد أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وأراه تراباً من البقعة التي يُقتل فيها، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أودع من ذلك التراب عند زوجته أُمّ سلمة، وفيما يلي نَعْرض مُهمَّ تلك الروايات، التي يمكن الاستدلال بها على فضل تربة كربلاء وأهميتها، مع بعض المناقشات والإيرادات إن وجُدت.

أ) روى الحاكم النيسابوري في المستدرك حديثاً يمكن أن يُستفاد منه فضل تربة كربلاء، والحديث هو: «أخبَرَناه أبو الحسين علي بن عبد الرحمن الشيباني في الكوفة، حدَّثنا أحمد بن حازم الغفاري، حدَّثنا خالد بن مخلّد القطواني، قال: حدَّثني موسى بن يعقوب الزمعي، أخبرني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: أخبرتني أُمُّ سلمة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اضطجع ذات ليلة للنوم، فاستيقظ وهو حائر، ثمّ اضطجع فرَقَد، ثمّ استيقظ وهو حائر دون ما رأيت به المرّة الأُولى، ثمّ اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يُقبِّلها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل علیه السلام أنَّ هذا يُقتل بأرض العراق _ للحسين _ فقلت لجبريل: أرني تربة الأرض التي يُقتل بها. فهذه تربتها. هذا حديثٌ صحيح على شرط

ص: 245

الشيخين، ولم يُخرجاه»(1).

ومحلُّ الشاهد فيه: «وفي يده تربة حمراء يُقبِّلها».

وقد روى هذا الحديث بهذه الصيغة كلٌّ من:

١_ الطبراني في المعجم الكبير؛ حيث جاء فيه: «تربة حمراء يُقبّلها»(2).

٢_ الذهبي في تاريخ الإسلام؛ حيث جاء فيه: «وفي يده تربة حمراء وهو يُقبّلها»(3).

ولعلّ هناك مصادر أُخرى روتها بهذه الصيغة، يجدها المتتبّع في مظانّها.

وتقريب الاستدلال: إنَّ تقبيل النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه التربة يُفهم منه عُرفاً فضل التربة وقداستها؛ إذ تقبيله صلّى الله عليه وسلّم يدلُّ على رجحان التقبيل، ولا معنى له إلّا كونها مباركة ومقدّسة.

ولعلّ هذا المعنى بهذه القرينة العرفية واضح، ولكن المشكلة في أنّ هذه الرواية قد رُويت في كتب أُخرى بصيغة مغايرة، فقد رواها المقريزي في إمتاع الأسماع وغيره بصيغة «تربة حمراء يُقلّبها»(4).

وعلى هذا الأساس؛ يحتمل كون كلمة (يُقبِّلها) تصحيفاً عن (يقبّلها)، وبهذا الاحتمال نفقد القرينة التي اعتمدناها لفهم التفضيل.

ص: 246


1- الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج٤، ص٣٩٨.
2- الطبراني، المعجم الكبير: ج٢٣، ص٣٠٨.
3- الذهبي، تاريخ الإسلام: ج٥، ص١٠٣.
4- المقريزي، إمتاع الأسماع: ج١٢، ص٢٣٩.

اللّهم إلّا أن يحصل الجزم بأنّ الوارد هو (يُقبِّلها) وأنّ كلمة (يُقلّبها) تصحيف عنها، ولو بقرينة كون الصيغة الأُولى واردة في المصادر الأكثر عدّة وضبطاً واعتباراً، ولكنّ الجزم بذلك شيءٌ غير ميسور.

ب) روى الهيثميّ في مجمع الزوائد عن مسند عليّ علیه السلام ، قال: «دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، وعيناه تفيضان، قلت: يا نبيّ الله، أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبرئيل قبلُ، فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات، فقال: هل لك إلى أن أُشمّك من تربته؟ قلت: نعم. فمدّ يده فقبض قبضةً من تراب، فأعطانيها فلم أملك عينيَّ أن فاضتا». ثُمّ قال الهيثميّ: «رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، ورجاله ثقات...»(1).

ومن خلال التأمل في مفردات هذا الحديث، يتضح شدّة اهتمام جبرئيل علیه السلام بتربة كربلاء؛ فإنّ إشمامها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقَبْضها وإعطاءها له صلّى الله عليه وسلّم يدلّ على ذلك بشكل واضح، ويُلاحظ أيضاً اهتمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذه التربة لمّا قبضها من يد جبرئيل علیه السلام ، ولم يملك نفسه عندما شاهدها أن فاضت عيناه دموعاً، وهذا يكشف عن وجود خصوصيّة لهذه التربة، وإلّا فما معنى هذا الاهتمام المتزايد بها؟! مع أنّ الكثير من الشخصيّات الإسلاميّة التي قُتلت أو ستُقتل _ والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلم بذلك يقيناً _ لم يُعِر أيّة أهميّة للتربة التي قُتلوا عليها أو التي سيُقتلون عليها، ولم يُعِر كذلك جبرئيل لها أيّة أهميّة.

وممّا يؤكد هذه الخصوصيّة، الروايات الكثيرة الدالّة على اهتمامه صلّى الله عليه وسلّم بهذه التربة،

ص: 247


1- الهيثميّ، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج٩، ص١٨٧.

كما في قصة أُمّ سلمة لمّا أراها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تربة كربلاء، وأعطاها إليها وجعلها وديعةً عندها؛ لتحتفظ بها(1).

ومن خلال هذه الروايات؛ يمكن استفادة فضل تربة كربلاء وحرمتها، بعد دلالتها بشكلٍ واضح على وجود خصوصيّة لهذه التربة، ولا معنى لهذه الخصوصيّة سوى فضلها وحرمتها.

ويمكن تأييد فضلها وحرمتها بروايتين رواهما ابن أعثم الكوفيّ في كتابه الفتوح؛ حيث روى بأسانيد كثيرة عن ابن عباس، أنّه روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «لقد رأيت حين هبط جبرئيل علیه السلام في قبيل من الملائكة، قد نشروا أجنحتهم يبكون حزناً منهم على الحسين، وجبريل معه قبضة من تربة الحسين، تفوح مسكاً أذفر...»(2).

وروى أيضاً عن كعب أنّه قال: «وأنَّ البقعة التي يُدفن فيها [أي: الحسين علیه السلام ] خير البقاع بعد ثلاث: مكّة، والمدينة، وبيت المقدس، وما من نبيّ إلّا وقد زارها وبكى عندها»(3).

إذاً؛ من مجموع ما تقدّم من الروايات والقرائن، يحصل لدينا دليل إثباتي في مصادر العامّة، يفيد فضل تربة كربلاء وحرمتها، ولا بدّ من الإشارة إلى الخلاصة التالية:

١_ من مجموع هذه الروايات يُفهم وجود خصوصيّة لتربة كربلاء.

٢_ لا معنى لهذه الخصوصيّة إلّا الفضيلة والقداسة والحرمة.

ص: 248


1- اُنظر: المصدر السابق: ج٩، ص١٨٩.
2- الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج٤، ص٣٢٣.
3- اُنظر: المصدر السابق: ج٤، ص٣٢٧.

٣_ بعض هذه الروايات تامّة سنداً.

ج) ما نقله الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة عن العامّة، أنّهم قد رووا: «أنّ عيسى بن مريم علیه السلام مرَّ بأرض كربلا، فرأى عدّة من الظباء هناك مجتمعة، فأقبلت إليه وهي تبكي، وأنّه جلس وجلس الحواريون؛ فبكى وبكى الحواريون، وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى، فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أي أرضٍ هذه؟ قالوا: لا. قال: هذه أرضٌ يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أُمّي، ويُلحد فيها، هي أطيب من المسك؛ لأنّها طينة الفرخ المُستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، وهذه الظباء تكلّمني وتقول: إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المُستشهَد المبارك، وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض. ثمّ ضرب بيده إلى بَعْر تلك الظباء فشمّها، فقال: اللّهمّ، أبقها أبداً حتى يشمّها أبوه؛ فيكون له عزاء وسلوة. وإنّها بقيت إلى أيام أمير المؤمنين علیه السلام حتى شمّها وبكى، وأخبر بقصّتها لمّا مرّ بكربلاء»(1).

ونقل هذا الخبر ابن حاتم العاملي في الدرّ النظيم مع إضافات؛ حيث قال: «وروى مشيخة المخالفين، عن شيخٍ لأصحاب الحديث بالري، يُعرف بأبي علي بن عبدويه، ويروون عن شيخٍ لهم بأصفهان يُعرف بأبي بكر بن مردويه، بإسناده عن ابن عباس رضی الله عنه، قال: كنت مع علي بن أبي طالب علیه السلام في خَرجته إلى صِفّين، فلمّا نزل نينوى، قال بأعلى صوته: يا بن عباس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت: ما أعرفه. قال: لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي. قال: فبكى طويلاً،حتى اخضلّت لحيته وسالت الدموع على صدره، وهو يقول: أُوه أُوه، مالي ولآل أبي سفيان، ومالي ولآل حرب، حزب

ص: 249


1- الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة: ص٥٣١ _ ص٥٣٢.

الشيطان وأولياء الكفر، صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الذي تلقى منهم، ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوء الصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يُصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأول، إلّا أنّه نعس عن انقضاء كلامه ساعة ثمّ انتبه، فقال: يا بن عباس. فقلت: ها أناذا يا أمير المؤمنين. قال: ألا أُحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي؟ قلت: نامت عيناك ورأيت خيراً. فقال: رأيت كأنّي برجال نزلوا من السماء معهم أعلام بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض، فرأيتها تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخّي قد غرق فيه، يستغيث ولا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض الذين نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آل الرسول؛ فإنّكم تُقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة إليك يا أبا عبد الله مشتاقة. ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِرْ؛ فقد أقرَّ الله عينك به يوم القيامة، يوم يقوم الناس لربِّ العالمين. ثمّ انتبهت هكذا، والذي نفسي بيده، لقد حدَّثني الصادق المصدّق أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم ، قال: وإنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كربٍ وبلاء، وستُذكر كما تُذكر بقعة الحرمين، وبقعة بيت المقدس.

ثمّ قال: يا بن عباس، اطلب لي حولنا بَعْر الظباء، فوالله، ما كَذبت ولا كُذِّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران.

قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي. فقال علي: صدق الله ورسوله. ثمّ قام يُهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال: هي هي بعينها يا بن عباس، تعلم ما هذه البعرات؟ هذه

ص: 250

قد شمّها عيسى بن مريم علیه السلام . ثمّ قال علي علیه السلام : يا ربَّ عيسى بن مريم علیه السلام ، لا تُبارك في قتَلَتِه، والحامل عليه، والمُعين عليه، والخاذل له. ثمّ بكى طويلاً وبكينا معه، حتى سقط لوجهه مغشيّاً عليه، ثمّ أفاق فأخذ البعر وصرّه في ردائه، وأمرني أن أصرّها كذلك.

ثمّ قال لي: إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً؛ فاعلم أنّ أبا عبد الله قد قُتل بها ودُفن. وقال ابن عباس: لقد كنت أحفظها ولا أحلّها من طرف كمّي، فبينا أنا في البيت نائم وقد دخل عشر المحرَّم، إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً، فجلست وأنا باكٍ، وقلت: قُتل الحسين. وذلك عند الفجر، ورأيت المدينة كأنّها ضباب، ثمّ طلعت الشمس وكأنّها منكسفة، وكأنّ على الجدران دماً، فسمعت صوتاً يقول وأنا أبكي:

اصبروا آل الرسول ***قُتل الفرخ النجول

ن_زل الروح الأمين ***ب_ب_ك_اءٍ وع__ويل

ثمّ بكى وبكيت، ثمّ حدَّثت الذين كانوا مع الحسين علیه السلام ، قالوا: لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة، فكنّا نرى أنّه الخضر علیه السلام »(1).

ويمكن أن يُستفاد من هذه الرواية فضل تربة كربلاء من خلال عبارتين، الأُولى موجودة في نقل الشيخ الصدوق، والثانية موجودة في نقل ابن حاتم.

أمّا التي في نقل الشيخ الصدوق، فهي قول عيسى علیه السلام للحواريين: «هي [أيّ كربلاء] أطيب من المسك؛ لأنها طينة الفرخ المُستشهَد». فإنّ (أطيب) فيها دلالة

ص: 251


1- العاملي، يوسف ابن حاتم، الدرّ النظيم: ص٥٣٨_٥٤٠.

واضحة على فضيلتها وقداستها، لاسيّما مع ملاحظة التعليل: «لأنّها طينة الفرخ المُستشهَد». فإنّه يُفيد ذلك.

بل توجد فيها قرينة أُخرى، وهو قوله: «وزعمت [أيّ الظباء] أنّها آمنة في هذه الأرض». والمكان الآمن لا بدّ وأن يكون مكاناً له حُرمة وكرامة أوجبت أن يكون آمناً.

بل يُستفاد من قوله علیه السلام : «وهكذا تكون طينة الأنبياء، وأولاد الأنبياء»؛ لأنّ الطينة التي تحتضن أجساد الأنبياء وأولادهم _ ومنهم أهل البيت علیهم السلام _ طينة مباركة مفضّلة لها قداستها وحرمتها.

هذا كلّه بحسب نقل الشيخ الصدوق.

وأمّا في نقل ابن حاتم العاملي، فهي قول أمير المؤمنين علیه السلام : «وستُذكر [أيّ أرض كربلاء] كما تُذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس». ومقصوده أنَّ المسلمين سيذكرون كربلاء ويقدّسونها ويعظّمونها، كما يذكرون ويقدّسون بقعة الحرمين، وبقعة بيت المقدس.

والحاصل: إذا تمّ النقلُ المذكور سنحصل على دليلٍ واضح، يُستفاد منه الأُمور التالية:

١_ فضيلة أرض كربلاء وقداستها.

٢_ حُرمتها وعظمتها.

٣_ أنّها أرض آمنة.

ص: 252

٤_ فضيلة أرض الأنبياء وأبنائهم، أي: فضيلة الأرض التي دُفن فيها أئمة أهل البيت علیهم السلام ؛ لأنّهم من أولاد الأنبياء.

٥ _ أنّ المسلمين سيذكرون كربلاء ويعظّمونها ويجعلون لها حرمة، كما هو الحال بالنسبة لأرض الحرمين وبيت المقدس.

هذا، ولكنّنا لم نجد للرواية المذكورة أثراً في كتب العامّة، لا في جوامعهم الحديثيّة، ولا في كتبهم التاريخية، ولم أهتدِ إلى مصدر الرواية التي نقلها عنهم الشيخ الصدوق وابن حاتم، ولعلّهما سمعاها من مشايخهما سماعاً عن بعض المخالفين، ولم يأخذاها من كتاب معيّن، أو لعلَّها مذكورة في كتاب لم نطّلع عليه.

وعلى كلّ حال، ما دمنا لم نعثر لهذه الرواية على مصدر في كتب العامّة، ولم نحصّل لها طريقاً وسنداً واضحاً؛ لا نستطيع أن نعتبرها من مروياتهم التي نحتجّ بها عليهم، لإثبات فضل تربة كربلاء.

هذا كلّ ما وجدناه مما يمكن أن يُستدلّ به على المقام من كتب العامّة، وقد اتّضح أنّ العمدة في ذلك هو الرواية الأُولى والثانية، إلّا أنّ الرواية الأُولى تتوقّف على كون كلمة (يُقبِّلها) هي الواردة وليست (يُقلّبها).

ولكن مع ذلك تبقى هذه الرواية دالّة على وجود خصوصيّة لتربة كربلاء، فتضاف حينئذٍ إلى الرواية الثانية مع شواهدها وقرائنها، فتقوّي دلالتها على المطلوب، وهكذا يمكن أن يُستفاد من الرواية الثالثة كمؤيد وليس دليلاً مستقلاً؛ للمشكلة السنديّة المتقدّمة، فيحصل من المجموع الاطمئنان بثبوت فضل تربة كربلاء في كتب العامّة، ممّا لا يدع مجالاً للشك.

ص: 253

القسم الثاني: فضل تربة كربلاء في كتب الخاصّة

طفحت كتب الحديث الشيعية برواياتها الكثيرة حول فضل تربة كربلاء وحرمتها، ولو أردنا أن نستوعب ذلك كلّه لاحتجنا إلى بحثٍ مستقلّ؛ ولخرجنا بذلك عن الهدف المرسوم لهذا البحث، ولكن سنكتفي بالإشارة إلى بعض العناوين التي تحدّثت عن فضل تربة كربلاء، وهي:

١_ إنّها روضة من رياض الجنّة.

٢_ إنّها البقعة المباركة، والربوة ذات قرارٍ ومعين، والمكان الذي وُلد فيه عيسى بن مريم علیه السلام .

٣_ إنّها حرمٌ آمن؛ مَنْ استجار به أُجير.

٤_ أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة، وأنّها لَمِن بطحاء الجنّة.

٥_ يُستحبّ السجود عليها، واتّخاذ مسبحة منها.

٦_ يُستحبّ الاستشفاء بها(1).

إلى غيرها من العناوين التي يجدها المتتبّع في مظانّها.

ص: 254


1- اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: الباب١٣ فضل الفرات والشرب من مائه، والباب٨٨ فضل كربلاء، والباب٨٩. اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج٦، الباب١٠ فضل الكوفة، والباب٢٢ حدّ حرم الحسين علیه السلام وفضل كربلاء. اُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج١٤، ص٥١٣، الباب٦٨ أبواب المزار وما يُناسبه، إلى غيرها من المصادر الكثيرة.

وينبغي الالتفات إلى أنّ ما ذكرناه هو مجرّد عناوين تندرج تحتها الكثير من الروايات، ومع هذه الكثرة لا حاجة إلى البحث عن سندها وطرقها؛ لأنّ الباحث بمجرّد أن يطّلع عليها يحصل له القطع بصدور بعضها، أو على الأقل يحصل له الاطمئنان بفضيلة تربة كربلاء وقداستها؛ وهو المطلوب.

تحرير محلّ البحث

بعد أن اتّضح من خلال ما تقدّم أنّ كربلاء من البقاع المفضّلة والمقدّسة _ ولا أقل في كتب الخاصّة وهذا هو المهمّ _ ننتقل إلى البحث عن أفضل تلك البقاع على حسب ما يتوفّر لدينا من أدلّةٍ وشواهد، ولكن لا بُدَّ أولاً من تحرير محل البحث، فنقول:

إنّ التفضيل الذي نبحثه في هذه المناسبة لا يتناول أشخاص المعصومين علیهم السلام ، وقبورهم المشتملة على رفاتهم؛ لأنّ أجسادهم علیهم السلام ، والحفر التي تتضمنهم، والتراب الذي يلامس أجسادهم الطاهرة، مفضّلة على جميع البقاع وسائر الأماكن، ولا فرق في ذلك بين مكة وغيرها من البلدان؛ لما دلَّ على ذلك من الأحاديث الكثيرة المتضافرة، وإليك بعضاً منها:

١_ ما ورد من أنّ حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة.

فعن المفيد رحمة الله ، عن الحسن بن علي الزيتوني ومحمد بن أحمد بن أبي قتادة، عن أحمد بن هلال، عن الحسن بن محبوب، عن الحسن بن عطية، قال: «كان أبو عبد الله علیه السلام واقفاً على الصفا، فقال له عباد البصري: حديثٌ يُروى عنك. قال: وما هو؟ قال: قلتَ: حرمة

ص: 255

المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية. قال: قد قلتُ ذلك، إنّ المؤمن لو قال لهذه الجبال: أقبلي. أقبلت. قال: فنظرت إلى الجبال قد أقبلت، فقال لها: على رسلك؛ إنّي لم أُردك»(1).

وروى الشيخ الصدوق رحمة الله في الخصال بطريقٍ صحيح، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «المؤمن أعظم حرمةً من الكعبة»(2).

ورُوي أيضاً عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «والله، ما عُبد الله بشيءٍ أفضل من أداء حقّ المؤمن. فقال: إنَّ المؤمن أفضل حقّاً من الكعبة...»(3).

وهناك أحاديث أُخرى بهذا المضمون، وهي تُفيد أنّ حُرمة المؤمن وفضله أعظم حرمةً وفضلاً من الكعبة، وبالأولويّة يثبت ذلك لأجساد المعصومين ورفاتهم علیهم السلام .

وقد أجمع المسلمون _ خاصّة وعامّة _ على أنّ حرمة المؤمن بعد وفاته كما هي في حياته(4)؛ وحينئذٍ لا فرق في حُرمة المؤمن _ وبالأولويّة المعصوم _ بين حياته ووفاته.

٢_ جاء في بعض الروايات أنّ الأئمة علیهم السلام خُلقوا من عشر طينات: خمسة من الجنّة، وخمسة من الأرض.

فأمّا التي من الجنّة، فهي: جنّة عدن، وجنّة المأوى، وجنّة النعيم، وجنّة الفردوس، وجنّة الخُلد.

ص: 256


1- المفيد، محمد بن محمد، الاختصاص: ص٣٢٥.
2- الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص٢٧.
3- البروجردي، السيّد حسين، جامع أحاديث الشيعة: ج١٦، ص١٤٩.
4- اُنظر: المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض القدير: ج٤، ص٧٢٠. والعيني، محمود بن أحمد، عمدة القاري: ج٢٠، ص٦٩. وغيرهما

وأمّا التي من الأرض، فهي: مكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والحائر.

ومن الواضح أنّ المخلوق من مجموع هذه الطينات أفضل من طينة كلّ واحدةٍ منها.

والرواية هي ما رواه الكليني بسنده، عن علي بن رئاب، مرفوعاً إلى أمير المؤمنين علیه السلام ، قال: «قال أمير المؤمنين علیه السلام : إنّ لله نهراً دونَ عرشه، ودون النهر الذي دون عرشه نور نوَّره، وإنَّ في حافَّتي النهر روحَين مخلوقَين: روح القُدُس، وروحٌ من أمره، وإنّ لله عشرَ طيناتٍ: خمسةً من الجنة، وخمسةً من الأرض، ففسّر الجنات وفسّر الأرض، ثمّ قال: ما من نبيٍّ ولا مَلَك من بعده جَبَلهُ إلّا نُفخ فيه من إحدى الروحين، وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم من إحدى الطينتين. قلت لأبي الحسن الأوّل علیه السلام : ما الَجَبْلُ؟ فقال: الخلقُ غيرنا أهل البيت؛ فإنّ الله  خلقنا من العشر طيناتٍ، ونفخ فينا من الروحين جميعاً، فأطيب بها طيباً. وروى غيرُهُ عن أبي الصامتِ، قال: طينُ الجنان: جنة عدنٍ، وجنّة المأوى، وجنّة النعيم، والفردوس، والخُلد. وطين الأرضِ: مكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والحائر»(1).

٣_ ورد في عدّة روايات أنّ النبي والأئمة علیهم السلام هم أفضل الخلق أجمعين.

من ذلك ما رُوي في حديثٍ طويل: «أنّ الله سبحانه وتعالى أمر آدم علیه السلام أن يرفع رأسه وينظر إلى ساق العرش، فلمّا رفع رأسه ونظر إلى ساق العرش وجد عليه مكتوباً: لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله، وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجته سيّدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. فقال آدم: يا ربّ، مَن هؤلاء؟

ص: 257


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج١، ص٣٨٩.

فقال عَزوجَل: هؤلاء من ذرّيتك، وهم خيرٌ منك ومن جميع خلقي، لولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنّة والنار، ولا السماء والأرض، فإيّاك أن تنظر لهم بعين الحسد. فتسلَّطَ الشيطان عليهما حتى أكلا من الشجرة، فأخرجهما الله من جنّته، وأهبطهما عن جواره إلى الأرض»(1).

وهناك روايات أُخر بنفس المضمون أو يقرب منه تركتُ التعرّض لها خوف الإطالة، فمَن أرادها فليطلبها في مظانّها(2).

ويُستفاد من هذه الروايات وأمثالها؛ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته الكرام علیهم السلام هم أفضل الخلق، بما في ذلك البقاع والبلدان، كمكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، وعرفة، وسائر البقاع المقدّسة.

مناقشة مدفوعة

قد يُناقش في هذا الاستدلال بأنّ المستفاد من هذه الرواية: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم والأئمة علیهم السلام أفضل الخلق بالقياس للآدميين، فلا تشمل مثل البقاع والأماكن.

ولكنّها مدفوعة بملاحظة الفقرة القائلة: «ولولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنّة والنار، ولا السماء والأرض». فإنّها تكفي لإثبات المطلوب.

ص: 258


1- الحلّي، حسن بن سليمان، المحتضر: ص٢٦٩.
2- أفرد بعض العلماء باباً خاصاً لاستعراض الروايات الدالّة على أنّ النبي صلی الله علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام هم أفضل الخلق، اُنظر: البحراني، هاشم، حلية الأبرار: ج٢، ص٨، فقد ذكر عدّة أحاديث في الباب(٤٥) تحت عنوان (إنّ أمير المؤمنين علیه السلام وبنيه الأئمة علیهم السلام ، أفضل الخلق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله ).

والحاصل: من مجموع هذه الروايات يحصل للباحث الاطمئنان بأنّهم علیهم السلام أفضل الخلق بما في ذلك البقاع، على الرغم من ضعف بعض أسانيد الروايات المتقدّمة؛ فإنّ ذلك لا يضرّ بعد كثرتها وتعدّدها، يُضاف إليه الاتّفاق الحاصل بين العامّة والخاصّة على تفضيل موضع قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على سائر البقاع، بما في ذلك مكة والمدينة.

كلام الأعلام

أمّا العامّة، فقد نقل القاضي عياض الإجماع على أنّ موضع قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل البقاع(1).

وأمّا الخاصّة، فقد ذكر الشهيد في الدروس: «مكة أفضل بقاع الأرض ما عدا موضع قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم »(2). وهذه العبارة تُوحي بالاتّفاق على تقدُّم موضع قبره صلّى الله عليه وسلّم على سائر البقاع.

وأمّا قبور الأئمة علیهم السلام ، فلم أجد _ حسب تتبّعي _ تصريحاً واضحاً في تقدّمها على سائر البقاع، سوى عبارتين لعلمين من أعلامنا:

الأُولى: للشهيد في الدروس؛ حيث قال: «والأقرب أنّ مواضع قبور الأئمة علیهم السلام كذلك»(3). أي: أفضل من مكة وسائر البقاع.

ص: 259


1- اُنظر: النووي، محي الدين، المجموع: ج٨، ص٤٧٦. الحطّاب الرعيني، محمد بن محمد، مواهب الجليل: ج٤، ص٥٣٣. وغيرها.
2- الشهيد الأول، محمد بن مكي، الدروس: ج١، ص٤٧٠، الدرس (١١٨).
3- المصدر السابق.

الثانية: ما ذكره السيّد شهاب الدين النجفي المرعشي، محقّق كتاب عوالي اللئالي؛ حيث ذكر في هامش التحقيق ما نصّه: «ولا ينبغي الشك في أفضليّة مواضع قبورهم علیهم السلام على أرض البيت الحرام»(1).

هذا ما عثرتُ عليه من كلمات الأعلام، وقد اتّضح منها الأُمور الآتية:

١ _ نقل القاضي عياض من العامّة الإجماع على تفضيل موضع قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على سائر البقاع.

٢ _ عبارة الشهيد الأول من علمائنا توحي باتّفاق الإماميّة على تفضيل موضع قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على سائر البقاع.

٣ _ ما قرأناه من عبارة الشهيد الأول والمحقّق المرعشي، المتقدّمين _ وهما كلّ ما وجدته في كلمات أعلامنا _ حيث يتّضح منهما تفضيل قبور الأئمة علیهم السلام على سائر البقاع.

٤ _ بعد الاطّلاع على الروايات المتقدِّمة بطوائفها المختلفة؛ يحصل الاطمئنان بتفضيل النبي والأئمة علیهم السلام بذواتهم المقدَّسة على سائر البقاع.

ولهذا؛ ينبغي أن يقع الكلام فيما عدا قبورهم علیهم السلام المتضمِّنة لأجسادهم الطاهرة، فيكون البحث في التفضيل فيما زاد على القبر الشريف بينه وبين سائر البقاع، فمثلاً: هل الحائر الحسيني أو كربلاء أفضل من الكعبة والمسجد الحرام وسائر مكة المكرمة أو الأمر بالعكس؟

ص: 260


1- الإحسائي، ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي: ج١، ص٤٣٠.

والأمر الآخر الذي ينبغي تحريره هو: ما المراد من التفضيل المبحوث عنه؟ فهل المراد منه أنّ العامل في تلك البقعة أكثر ثواباً من العامل في سائر البقاع؟ فيكون مرجع التفضيل إلى العامل لا إلى نفس البقعة، أو أنّ المراد منه ما هو الأعم من ذلك، فلا يكون التفضيل حينئذ راجعاً إلى خصوص العامل، بل يرجع أيضاً إلى البقعة نفسها، وإنّها بذاتها أفضل من غيرها؟

ولم أعثر _ حسب تتبّعي _ على مَن تعرّض لهذا الموضوع سوى بعض العامّة وبشكل مختصر، على أنّ بعض كلمات الأعلام قد يُستفاد منها منشأ التفضيل من خلال التعليل، كما سيتّضح ذلك لاحقاً.

معنى التفضيل

التفضيل مشتقّ من (فضل)، وهذه الكلمة تأتي هي أو أحد مشتقاتها بالمعاني التالية:

١ _ الفضل والفضيلة: يأتيان ضد النقص والنقيصة.

٢ _ الفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل.

٣ _ التفاضل: التمايز في الفضل.

٤ _ التفاضل بين القوم: أن يكون بعضهم أفضل من بعض.

٥ _ رجل فاضل: ذو فضل.

ص: 261

٦ _ الإفضال: الإحسان.

٧ _ التفضُّل: التطوُّل على الغير.

٨ _ الفَضْل والفَضْلة: البقيّة من الشيء.

٩ _ الفَضيلة والفُضَالة: ما فضل من الشيء.

١٠_ الفَضْلة: الثياب التي تُبتَذل للنوم؛ لأنّها فضُلَت عن ثياب التصرّف.

١١_ التفضُّل: التوشُّح، وأن يخالف اللابس بين أطراف ثوب على عاتقه(1).

هذا أهمّ ما ذكره اللغويون في معنى (الفضل) ومشتقاته، واتّضح منه ما يأتي:

لعلّ النافع في مقامنا من هذه المعاني هو المعنى الأول والثاني، أي: بمعنى الكمال الذي هو ضدّ النقص، وبمعنى الدرجة الرفيعة، ومعه تكون الأفضلية بمعنى الأكملية، والأرفع درجة.

اللهم إلّا أن يقال: إنّ الأكملية والأرفع درجة راجعان إلى العامل في هذه البقعة، فالذي يعمل في هذه البقعة يكون عمله أكمل وأرفع درجة من العامل في غيرها من البقاع، وهذا المعنى يناسب القول: بأنّ مرجع الأفضلية إلى ثواب العامل فيها.

وعلى كلّ حال، فمرجع الأفضلية في المقام يُحتمل فيه أحد المعاني التالية:

الأول: إنّ مرجع الأفضلية إلى كثرة الثواب الراجع إلى العامل في هذه البقعة

ص: 262


1- اُنظر: ابن منظور، لسان العرب: ج١١، ص٢٢٤. مادة (فضل).

دون غيرها، فالذي يتعبّد في مكة مثلاً، أكثر ثواباً وأجراً من المتعبِّد في المدينة أو الكوفة وغيرهما؛ وبهذا صارت هذه البقعة أفضل من غيرها.

وقد ذهب إلى هذا القول الآبي الأزهري من العامّة في كتابه (الثمر الدان)؛ حيث أفاد _ عند تعرّضه للخلاف الواقع بين العامّة في أفضيلة مكة أو المدينة _ أنّ المراد من التفضيل: «أنّ ثواب العمل في إحداهما أكثر من ثواب العمل في الأُخرى»(1).

ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى كلّ مَنْ استدلّ على تفضيل مكة، بما روي من مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام، وأنّها بعشرة آلاف صلاة، فإنّ الاستدلال بهذه الروايات يكشف عن كون المدار في مسألة التفضيل على زيادة الثواب ومضاعفة الأجر.

وممَّن استدلّ على أفضلية مكة من المدينة _ بما دلّ على مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام _ من الخاصّة: الشيخ الطوسي؛ حيث قال مستدلاً على أفضلية مكة بما نصّه: «دليلنا: إجماع الفرقة، فإنّهم رووا أنّ صلاةً في المسجد الحرام بعشرة آلاف صلاة، وصلاةً في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بألف صلاة؛ فدلّ ذلك على أنّ مكة أفضل»(2).

وقد أشكل بعض العامّة على هذا القول، بأنّ سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل يكون لغيره، كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود(3).

وما يمكن أن يُستدلّ به لهذا الاحتمال هو الروايات الدالّة على أفضلية الصلاة في المسجد الحرام، وأنّها مضاعفة، والروايات في ذلك كثيرة، فمنها:

ص: 263


1- الآبي الأزهري، الثمر الداني: ص٦٥٩.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج٢، ص٤٥١.
3- اُنظر: ابن حجر، فتح الباري: ج٣، ص٥٥.

١ _ ما رواه الشيخ الصدوق قدِّسَ سِرُّه في ثواب الأعمال بسنده: «عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا، عن آبائه علیهم السلام قال: قال الباقر علیه السلام : صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره من المساجد»(1).

٢ _ وروى الصدوق قدِّسَ سِرُّه أيضاً بسنده: «عن مسعدة بن صدقة، عن الصادق جعفر بن محمد علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله : صلاة مسجدي هذا تعدل عند الله عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد، إلّا المسجد الحرام؛ فإنَّ الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة»(2). إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة.

وقد استدلّ بهذه الروايات ونحوها كلّ مَنْ ذهب إلى الأفضلية بمعنى الأكثر ثواباً، والأعظم أجراً.

ولكن الاستدلال المذكور على المدّعى لا يخلو من مناقشات، وهي:

١ _ إنّ الاستدلال بهذه الروايات أخصّ من المدّعى؛ لأنّ المُستدلّ يدّعي ثبوت الأفضلية لتمام البلد، لا لخصوص المسجد الحرام، ومن الواضح أنّ إثبات الأفضلية _ بمعنى كثرة الثواب للعامل _ لتمام البلد بعيد؛ إذ الروايات المذكورة لا تفيد سوى زيادة الثواب للعامل في نفس المسجد الحرام، أمّا ثبوت الزيادة أيضاً للعامل في بقية بقاع البلدة، فلا يُستفاد منها ذلك.

٢ _ الذي استدلّ على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب بهذه الروايات استدلّ أيضاً

ص: 264


1- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج٥، ص٢٧١.
2- المصدر السابق: ج٥، ص٢٧١.

برواية أُخرى، وهي:

ما روي عن ابن عباس وغيره أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا خرج من مكة التفت إليها وقال: «أنتِ أحبُّ البلاد إلى الله تعالى، وأنتِ أحب البلاد إليَّ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منكِ ما خرجت»(1).

وأنت تلاحظ أنّ ذكر هذا الحديث في معرض الاستدلال على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب في غير محله، اللهم إلّا أن يُراد الاستدلال به على الأفضلية بشكل عامّ؛ فيكون ذكره وجيهاً، ولكنّه يصلح _ حينئذٍ _ كقرينة على كون الأفضلية أعمّ من كثرة الثواب، كما هو واضح من سياق الحديث.

الثاني: إنّ الأفضلية راجعة إلى كون المكان أكثر مظنةً لاستجابة الدعاء، والتقرّب إلى الله تعالى، فالبقعة الأفضل هي التي يُستجاب فيها الدعاء أكثر من أيّ بقعةٍ أُخرى.

ويمكن الاستدلال لهذا الاحتمال بما يلي:

١ _ ما روي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال _ في الوقوف بعرفة _: «ما يقف على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلّا استجاب الله له، فأمّا البرّ، فيُستجاب له في آخرته ودنياه، وأمّا الفاجر، فيُستجاب له في دنياه»(2).

٢ _ عن أبي هاشم الجعفري، قال: «بعث إليّ أبو الحسن علیه السلام في مرضه، وإلى محمد

ص: 265


1- البهوتي، كشف القناع: ج٢، ص٥٤٨. الينابيع الفقهية: ج٣٠، ص١٦١. نقلاً عن: الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج١، ص٣٦٠.
2- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج١٣، ص٥٤٥.

بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، فأخبرني محمد ما زال يقول: ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير. فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير؟ ثمّ دخلتُ عليه وقلتُ له: جُعلت فداك! أنا أذهب إلى الحير. فقال: انظروا في ذلك _ إلى أن قال :_ فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع الحير؟ هو الحير، فقدمت العسكر، فدخلت عليه، فقال لي: اجلس. حين أردت القيام، فلما رأيته أنِسَ بي ذكرتُ له قول علي بن بلال، فقال لي: ألا قلتَ له: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يطوف بالبيت، ويُقبِّل الحجر، وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله  أن يقف بعرفة، وإنّما هي مواطن يحبّ الله أن يُذكر فيها، فأنا أُحبُّ أن يُدعى لي حيث يحبّ الله أن يُدعى فيها»(1).

وهناك أحاديث أُخرى يُستفاد منها أنّ هناك بقاعاً يُستجاب فيها الدعاء _ وهي تتفاوت في ذلك _ يجدها المتتبِّع في مظانها.

وهذه الأحاديث _ كما تلاحظ _ تُفيد أنّ هناك بقاعاً يُستجاب فيها الدعاء، وأنّ الله سبحانه يُحبّ أنّ يُدعى فيها، كما دلّ على ذلك صريحاً الحديثُ الثاني، بينما يدلّ الحديث الأول على أنّ الدعاء يوم عرفة فيها يُستجاب حتماً من البرّ والفاجر.

إذاً؛ يمكن أن يكون مرجع التفاضل بين البقاع إلى هذه النكتة، وهي كون البقعة أكثر مظنةً لاستجابة الدعاء.

ولكن هذا الاستدلال لا يتعدّى الاحتمال؛ إذ أقصى ما يفيد احتمال كون النكتة هي ذلك، ولا يُستفاد منه الجزم بأنّ المدار على مظنّة استجابة الدعاء.

ص: 266


1- المصدر السابق: ج١٤، ص٥٣٧.

نعم، هو ينفع في تعميم نكتة الأفضلية، وعدم اختصاصها بكثرة الثواب، كما هو مقتضى الاحتمال الأول.

الثالث: أن تكون الأفضلية راجعة إلى اشتمال البقعة على الأنفس المقدّسة والأجساد المطهّرة، كالمدينة؛ حيث أنّها تضمّنت أطهر الأنفس وأشرفها، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فيكون التفاضل بين البقاع سببه اشتمال البقعة على مزايا توجب تفضيلها.

وهذا الاحتمال قد يُستفاد من بعض كلمات العامّة؛ فقد ذكر أبو البركات في الشرح الكبير ما نصّه: «والمدينة المنورة بأنوار أفضل الخلق، أفضلُ عندنا من مكة _ وهو قول أهل المدينة _ ثمّ مكة، فبيت المقدس...»(1).

وهذا الاحتمال يفتقر إلى الدليل وهو مفقود، لا سيما بعد ملاحظة ما ذكرناه سابقاً عند تحرير محل الكلام، من أنَّ أجساد المعصومين علیهم السلام وموضع قبورهم خارج عن محل البحث؛ لأنّ الكلام في أفضليّة ما يزيد على موضع قبورهم، ومن المعلوم أنّ أفضليّة ما يزيد على موضع القبر لا يُعلم استناده إلى أجسادهم علیهم السلام فقط، فقد تكون الأفضلية مستندة إلى أسبابٍ أُخرى.

ويمكن أن يُؤيد هذا المعنى بما رُوي من أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّما قُبض في أطهر البقاع(2)؛ إذ يُستفاد منه أنّ البقعة التي قُبض فيها هي أطهر البقاع وأفضلها، بقطع النظر عن النبي الأكرم صلّى الله عليه وسلّم .

نعم، النبي صلّى الله عليه وسلّم قد زادها شرفاً وفضلاً، وهذا يعني أنّ الأفضلية لا تستند إلى

ص: 267


1- أبو البركات، الشرح الكبير: ج٢، ص١٧٣.
2- اُنظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج١، ص٢٠٦.

دفنه صلّى الله عليه وسلّم فيها حصراً، بل لعلّ هناك أسباباً أُخرى أوجبت أشرفيتها وأفضليتها.

هذه احتمالات ثلاثة في معنى الأفضلية المبحوث عنها في المقام، ولعلّ المتأمِّل يجد احتمالاتٍ أُخر قد يُستفاد منها تفسيرات أُخر، ولكن المهم عندنا _ بعد عرض هذه الاحتمالات _ ملاحظة ما يقتضيه التحقيق والنظر، من خلال متابعة الأدلّة والبراهين، وجمع القرائن والشواهد.

التحقيق في المقام

اتّضح من خلال عرض الاحتمالات المتقدِّمة _ مع ما يمكن أن يُستدلّ به لها من روايات وشواهد وغيرها _ أنّ المناسب تفسير الأفضلية بمعنى وسيع، وإرجاعها إلى ما يشمل الاحتمالات المتقدِّمة جميعاً، وكلّ ما يمكن أن يُذكر من احتمال آخر غيرها. فيُقال: إن المُراد من الأفضلية الأشرفيّة والأطهريّة، والأعظم حرمةً، والأكثر ثواباً، والأكثر استجابةً للدعاء، إلى غيرها من الاحتمالات والمعاني.

ويمكن أن يُستدلّ لذلك بما يلي:

١ _ عدم الدليل على التضييق؛ إذ ما يمكن ان يُستدلّ به على تضييق دائرة الأفضلية بأحد الاحتمالات المتقدِّمة تبيَّن عدم تماميّته، وحيث إنّ لفظة الأفضلية ذات معنًى وسيع؛ فحينئذ تبقى على عمومها وسعتها.

٢ _ إنّ مراجعة الروايات الدالّة على الأفضليّة نجدها تستعمل ألفاظاً أُخرى غير لفظ (الأفضل) للدلالة على تمييز البقعة وتفضيلها، من قبيل الألفاظ التالية:

ص: 268

(أطيب البقاع)، و(أطهر البقاع)، و(أعظمها حرمة)، و(أحبّها إلى الله تعالى)، إلى غيرها من الألفاظ التي ستطّلع عليها عند استعراض روايات التفضيل.

ومن الواضح أنّ هذه التعابير ذات معان وسيعة وعامّة.

٣ _ جاء في بعض الأحاديث: «أنّ الحطيم الذي هو ما بين الركن والمقام وباب الكعبة، هو أفضل البقاع حرمةً وأعظمها منزلةً، وهو روضةٌ من رياض الجنة»(1). وهو يدلّ بشكل واضح على كون المدار في الأفضلية على (الحرمة) و(المنزلة)، وهذا يعني أنّ البقاع تتفاضل في الحرمة، فكلّما كانت أكثر حرمة كلّما كانت أكثر فضلاً من غيرها، وأعظم منزلة عمّا سواها.

وإذا تمّت هذه الرواية من حيث السند _ ولم نضمّ إليها التعابير الأُخرى الواردة في بقية الروايات _ يمكن أن يستدلّ بها على كون المراد من الأفضلية هو الأكثر حرمة، ولكن بعد ضمّها إلى تلك الروايات يكون معنى الأفضليّة شيئاً وسيعاً، فالبقعة الأفضل هي البقعة الأطهر والأطيب، والأعظم حرمةً، والأكثر محبوبيّةً لله تعالى _ ونحو ذلك من المعاني، ومن الطبيعي أنّ البقعة التي هذا حالها تلازم ما ذُكر من احتمالات متقدِّمة، أي: يلزم أن تكون أكثر مظنّة لاستجابة الدعاء، والعمل فيها أكثر ثواباً من غيرها، وغير ذلك من اللوازم.

وقبل ختام القسم الأول من البحث نودُّ أن نلخّص أهمّ النتائج التي حصلنا عليها لحدّ الآن؛ وهي كالتالي:

ص: 269


1- النمازي، علي، مستدرك سفينة البحار: ج٢، ص١٩٩.

١ _ لا إشكال في فضيلة تربة كربلاء وحرمتها، سواءٌ في كتب العامّة أو كتب الخاصّة، وقد تقدّم تقريب الاستدلال على ذلك، وعرض الروايات والأدلّة ومناقشتها من الناحية السنديّة والدلاليّة.

٢ _ إنّ التفضيل المبحوث عنه لا يتناول أجساد المعصومين علیهم السلام والقبور التي تضمَّنتهم، وإنّما يتناول ما يزيد على قبورهم من البقاع والأماكن.

٣ _ اتّضح من خلال الأدلّة أنّ أجسادهم علیهم السلام وقبورهم هي أفضل البقاع على الإطلاق.

٤ _ إنّ المراد من التفضيل معنى أوسع ممّا ذكره البعض، أو ربما يُحتمل من خلال بعض الأدلّة، فإنّ المراد منه الأشرفية والأطهرية، والأعظم حرمة، والأكثر محبوبية لله تعالى.

٥ _ إنّ ما ذُكر من تفسير الأفضلية بكثرة الثواب، أو نحو ذلك من التفاسير الضيّقة إنّما هو لازم من لوازم الأفضلية، وأثر من آثارها وليس هو نفسها.

هذا أهمّ ما أردنا بيانه في القسم الأول من البحث، وسنتحدَّث في القسم الثاني _ إن شاء الله تعالى _ عن نقطتين مهمّتين بهما يتمّ البحث وهما:

النقطة الأُولى: بيان البقاع المفضّلة التي تدخل في الحساب.

النقطة الثانية: عرض الأدلّة والبراهين الدالّة على الأفضلية، ومناقشتها وتمحيصها، واستحصال النتيجة النهائية منها.

ص: 270

توسعة مرقد الإمام الحسين علیه السلام وإشكالية الأملاك الشخصيةالشيخ مشتاق الساعدي

مدخل

من الموضوعات التي تصب في فقه الشعائر المعاصرة والتي أصبحت مثاراً للاختلاف على المستوى التنظيري والعملي، مسألة توسعة مراقد أئمة أهل البيت علیهم السلام من الجهة الجغرافية، كما حصل من توسعة كبيرة في مرقد الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام في مدينة مشهد المشرفة، وكما حصل من توسعة في مكة المكرمة والمسجد النبوي المعظم لمرات عديدة، وبما أن هذا التوسيع المكاني قد يتصادم مع الملكيات الخاصة المحيطة بالأضرحة المقدسة؛ إذ إن الأضرحة المطهرة _ عادة ما تكون _ محاطة بأسواق وفنادق وبيوت من كل الجوانب والجهات، بل لعل بعض البنايات المحيطة بها يعلو بناؤها على بناء الأضرحة، ويحجب النظر إلى قبة المرقد الشريف في بعض الأماكن المقدسة، كما هو مشاهد لعموم المسلمين.

ص: 271

مبررات توسعة الحرم الحسيني

اشارة

بعد التوسع العمراني والانفتاح الاقتصادي والشعبي من جهة، وانفتاح العراق على العالم الشيعي والإسلامي من جهة أُخرى، وتزايد أعداد الموالين لأهل البيت علیهم السلام في بقاع المعمورة أصبح التوسيع المكاني لأضرحة المعصومين علیهم السلام وخصوصاً مرقد الإمام الحسين علیه السلام ضرورة يفرضها الواقع، ومطلباً إيمانياً ينادي به كل العقلاء من الموالين.

مبررات الخوض في بحث التوسعة

الذي اضطرنا إلى الكتابة بهذا الموضوع هو أننا لم نرَ بحثاً مستقلاً في ذلك، بل ولا تنظيراً فتوائياً، فضلاً عن البحوث الاستدلالية، بالرغم من ابتلائية المسألة وجدليتها ومعاصرتها؛ مما استدعى أن نكتب في هذا الموضوع ما تيسر منه؛ عسى أن يكون باكورة تُولّد بحوثاً أُخرى في هذا المجال من الإخوة المتخصصين في التنظير الفقهي؛ دفعاً لما قد يُثار من إشكالات حول التوسيع، وليزداد الذين آمنوا إيماناً في التوسعة؛ وليشحذوا الهمم في ذلك، بعد أن استوسقت الأُمور وأصبحت العتبات بيد من يؤمَّل منه رفع البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويعظم شأنها مادياً ومعنوياً.

ضرورة إبراز دليلية التوسعة:

بما أن التوسعة التي نتحدث عنها إنما تكون على حساب الأملاك المجاورة للأضرحة المطهرة؛ فيستدعي منا إبراز الأدلة والوجوه الفنية، وبيان التكييف الفقهي لهذه المسألة؛ حلاً لإشكالية التصرف في الأملاك الشخصية المحيطة بالمراقد

ص: 272

على حساب التوسع في العمران والخدمات العامة للمراقد المقدسة.

استعراض الأدلة والمؤيدات لجواز التوسعة
اشارة

هناك مجموعة من الأدلة يمكن الاستعانة بها على إثبات ما نروم تحقيقه في هذا البحث، وسوف نفهرسها على نحو التتابع، ثم نفصّل الكلام في ذلك، ومجمل الأدلة في المقام هي:

١_ الروايات الدالة على أن الأرض ملك للإمام علیه السلام .

٢_ الروايات القائلة: إن الإمام علیه السلام اشترى مساحة من أرض كربلاء.

٣_ ما دل على أن أرض كربلاء مفتوحة عنوة؛ فلا تملك بالملكية الخاصة.

٤_ تعميم علة توسعة مكة المعظمة في زمن الأئمة علیهم السلام إلى توسعة حرم الإمام الحسين علیه السلام .

٥_ الروايات المحددة لحرم الإمام الحسين علیه السلام .

٦_ قاعدة تقديم المصالح العامة على الخاصة.

٧_ ما يُستفاد من قاعدة أداء حقوق أهل البيت علیهم السلام .

٨_ حاكمية العناوين الثانوية على العناوين الأولية.

٩_ الاستفادة من أدلة ولاية الفقيه وصلاحياته.

ص: 273

هذه تسعة أدلة ومؤيدات دالة على جواز توسعة الحرم المقدس للإمام الحسين علیه السلام على حساب الأملاك الخاصة المجاورة، ولا يخفى أن بعضها لا يصل إلى مرحلة الدليلية بمعناها الفني والدقي، وإنما هي بمثابة المؤيدات، أو أنها تصلح كحجج وقرائن انضمامية تجعل الفقيه يطمأن إلى الحكم بجواز التوسعة، إلّا أن بعضها صالح للاستدلال مستقلاً، ومن دون الحاجة إلى أيّ شيء آخر، خصوصاً الأدلة الثلاثة الأُولى.

والغرض من ذكرها جميعاً _ مع تأملنا في بعضها من حيث صلاحية الاستدلال _ إنما هو من باب ذكر كل ما يصلح أن يكون دليلاً أو مؤيداً لهذا الحكم؛ كون المسألة مستحدثة، وإلّا فإن في ذكر بعضها كفاية في إثبات الحكم كما سيتضح.

الدليل الأول: أن الأرض مِلْكٌ للإمام علیه السلام

ورد في جملة من الروايات الكثيرة _ التي تفوق حد الاستفاضة والتامة دلالة _ أن الأرض ملك للإمام علیه السلام ، وقد أفتى بذلك جملة من الأعلام المعاصرين(1)، فضلاً عن المتقدمين، وهذا ما يستدعي أن تكون أرض كربلاء من جملة مملوكاتهم صلوات الله وسلامه عليهم، فلو تعارضت مصلحة التوسعة للمرقد الشريف مع مصلحة مَن تصرف بالأرض بإذن الإمام أو نائبه، فتُقدم مصلحة المالك الأصلي وهو الإمام علیه السلام ؛ إذ إن ملك المجاورين أو جواز تصرفهم في ظل ملك الإمام علیه السلام ، لا أنه مالك لها على نحو الاستقلال.

ص: 274


1- اُنظر: الفياض، محمد إسحاق، منهاج الصالحين: ج٢، ص٣٢٤.

فقد ورد عَنْ أَبِي خَالدٍ الكَابُليِّ:عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام ، قَالَ: «وَجَدْنَا فِي كِتَابِ عَلِيٍّ علیه السلام : إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَالعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِيَ الَّذِينَ أَوْرَثَنَا الأَرْضَ، وَنَحْنُ المُتَّقُونَ، وَالأَرْضُ كُلُّهَا لَنَا؛ فَمَنْ أَحْيَا أَرْضاً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَلْيَعْمُرْهَا وَلْيُؤَدِّ خَرَاجَهَا إِلَى الإِمَامِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَلَهُ مَا أَكَلَ مِنْهَا؛ فَإِنْ تَرَكَهَا أَوْ أَخْرَبَهَا، فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ، فَعَمَرَهَا وَأَحْيَاهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الَّذِي تَرَكَهَا، فَلْيُؤَدِّ خَرَاجَهَا إِلَى الإِمَامِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَلَهُ مَا أَكَلَ حَتّىٰ يَظْهَرَ القَائِمُ علیه السلام مِنْ أَهْلِ بَيْتِي بِالسَّيْفِ، فَيَحْوِيَهَا وَيَمْنَعَهَا وَيُخْرِجَهُمْ مِنْهَا، كَمَا حَوَاهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ، وَمَنَعَهَا، إلّا مَا كَانَ فِي أَيْدِي شِيعَتِنَا؛ فَإِنَّهُ يُقَاطِعُهُمْ عَلىٰ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَيَتْرُكُ الأَرْضَ فِي أَيْدِيهِمْ»(1).

فالواضح من الرواية أن المالك الحقيقي هو الإمام علیه السلام ، والتصرف فيها من الآخرين مرهون برضاه، حتى لو كان التصرف من مواليه وشيعته؛ فيكون ملك الآخرين مترتباً على إذن الإمام في ذلك، فإذا وُجدت مصلحة عامة _ كمصلحة تعظيم مَواطن الطاعة، أو توفير أجواء أرحب للمومنين لممارسة الطاعات _ في إزالة هذا الملك المتزلزل والمعلق فتجوز الإزالة، غاية الأمر أن يحرز رضا الإمام علیه السلام أو يراجع فيه ولي أمر المسلمين ليحكم بذلك(2).

ص: 275


1- الكليني، الکافي: ج١، ص٤٠٧.
2- ونُقرّب الاستدلال أيضاً من خلال ما ذكره المحقّق الشعراني في هامش الوافي؛ حيث قال: «... وإنّما نُعبّر عن كون الأراضي ملكاً للإمام أو للمسلمين؛ لأنّ للإمام أن يأخذ منهم الخراج، فلهم ملك في طول ملك الإمام، لا في عرضه، كما سبق في المفتوحة عنوة، فللأراضي مالكان مترتّبان: أحدهما الإمام، وهو المالك الأوّل يأخذ الخراج ويقسّم البائر بين مَن أراد ويحدّد الحدود، والمالك الثاني هو المتصرّف بإذن الإمام، كما قال رسول الله صلی الله علیه و آله : مَن أحيا مواتاً فهو له. وملكه مترتّب على ملك الإمام، ونظير ذلك في متعارف الناس أن يقال: البصرة ملْك لمَلك العراق، ثمّ كلّ دار وكلّ قطعة أرض في البلد ملْك لأحد من أفراد الرعايا، وهكذا يكون ملْكُ الإمام على الأنفال، وملْكُ المسلمين على الأراضي المفتوحة عنوة ملكاً لا ينافي الأولويّة الحاصلة للناس؛ ولذلك عبّر الفقهاء عنهم بالمالكين، مثلاً قالوا في أحكام المزارعة: إنّ الخراج على المالك لا على الزارع. فعبّروا عن الناس بالمالك مع كون الأرض خراجيّة، وكذلك لا يختلف الفقهاء في أنّ مَن أحيا أرضاً ميّتةً فهي له، وهو مالك لها، مع أنّ الأرض للإمام؛ لكونها من الأنفال؛ إذ يجوز له أخذ الخراج، وإنّما يمتنع جمع المالكيَنِ على ملْك واحد، إذا كانا في عَرْضٍ واحد، لا مثل مالكيّة السلطان لجميع البلاد ومالكيّة الأفراد لكلّ قطعة. ويدلّ على ما ذكرنا أيضاً حكمهم بأنّ المعدن من الأنفال، ثمّ قالوا: تُملَك بالإحياء، وعليه الخمس للإمام». الوافي: ج٨١، ص٣٨٩.

ويعضد هذه الرواية جملة من الأخبار الدالة أيضاً على أن ملكية الأرض لهم علیهم السلام ، وسوف نذكر بعضاً من ذلك وبدون تعليق عليها مراعاة للاختصار:

منها: ما رواه الحُسَيْنُ بن مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْنِ عَبْد اللَّه، عَمَّنْ رَوَاهُ قَالَ: «الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا للهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَلَنَا؛ فَمَنْ غَلَبَ عَلَى شَيْ ءٍ مِنْهَا فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيُؤَدِّ حَقَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلْيَبَرَّ إِخْوَانَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فالله وَرَسُولُهُ وَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْهُ»(1).

ومنها: ما عن مُحَمَّد بْن يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّد بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه الرَّازِيِّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَليِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيه عَنْ أَبِي بَصيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: «قُلْتُ لَهُ: أَمَا عَلَى الإِمَامِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ: أَحَلْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ لِلإِمَامِ يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ وَيَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يَشَاءُ جَائِزٌ لَهُ ذَلِكَ مِنَ اللهِ؟! إِنَّ الإِمَامَ _ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ _ لا يَبِيتُ لَيْلَةً أَبَداً ولله فِي عُنُقِهِ حَقٌّ يَسْأَلُهُ عَنْهُ»(2).

ص: 276


1- الكليني، الکافي: ج١، ص٤٠٨.
2- المصدر السابق.

ومنها: ما عن عَليّ بن مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بن زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّد بن عيسَى، عَنْ مُحَمَّد بْنِ الرَّيَّان، قَالَ: «كَتَبْتُ إِلَى العَسْكَرِيِّ علیه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ! رُوِيَ لَنَا أَنْ لَيْسَ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الدُّنْيَا إلّا الخُمُسُ. فَجَاءَ الجَوَابُ: إِنَّ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم »(1).

ومنها: عن مُحَمَّد بْن يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بن مُحَمَّدٍ، رَفَعَهُ عَنْ عَمْرِو بن شمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَأَقْطَعَهُ الدُّنْيَا قَطِيعَةً، فَمَا كَانَ لآِدَمَ علیه السلام فَلِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ، وَمَا كَانَ لِرَسُولِ اللهِ فَهُوَ لِلأَئِمَّةِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم »(2).

ومنها: عن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعيلَ، عَنِ الفَضْلِ بن شَاذَانَ وَعَليّ بن إِبْرَاهيمَ عَنْ أَبِيه جَميعاً، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَفْصِ بن البَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه علیه السلام ، قَالَ: «إِنَّ جَبْرَئِيلَ علیه السلام كَرَى بِرِجْلِهِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ وَلِسَانُ المَاءِ يَتْبَعُهُ: الفُرَاتَ، وَدِجْلَةَ، وَنِيلَ مِصْرَ، وَمِهْرَانَ، وَنَهْرَ بَلْخٍ، فَمَا سَقَتْ أَوْ سُقِيَ مِنْهَا فَلِلإِمَامِ، وَالبَحْرُ المُطِيفُ بِالدُّنْيَا لِلإِمَامِ»(3).

وغيرها من الروايات التي عقد لها أرباب الحديث أبواباً منفردةً(4).

فيُستفاد من خلال هذه الروايات أن الأرض ملك للإمام علیه السلام ، وأن التصرف المتداول بين الناس إنما يكون على نحو الترخيص من قبله علیه السلام ، فإذا كانت هناك مصلحة في إعادة الملك ورفع التسلط والإباحة التي أعطوها لشيعتهم، وجب إرجاعها ورفع اليد عنها؛ لأن سلطنة الملك أقوى من سلطنة الإباحة، ومتى ما

ص: 277


1- المصدر السابق: ص٤٠٩.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- اُنظر: المصدر السابق: باب أن الأرض كلها للإمام علیه السلام.

تعارضت قُدِّمت(1)؛ فينتج لنا جواز التوسعة على حساب المجاورين مطلقاً، ما دامت المصلحة قائمةً في ذلك، كما أشرنا.

الدليل الثاني: أن الإمام الحسين اشترى أرض كربلاء

من الأُمور التي يمكن أن يُستدل بها على جواز توسعة مرقد الإمام الحسين علیه السلام _ على حساب الأملاك الشخصية المحيطة بالمرقد المقدس _ هو ما دلّ على أن حريم الإمام الحسين علیه السلام يمتد بمساحة أوسع من مساحته الحالية، وأن هذا الحريم هو من أملاك الإمام الحسين علیه السلام التي اشتراها قبل شهادته، والتي جعل بعض الساكنين في كربلاء آنذاك قيمين عليها، بل ملَّكهم إياها بشروط معينة، كما سيتضح ذلك فيما يأتي إن شاء الله.

وسوف نُسلط الأضواء على رواية شراء الإمام الحسين علیه السلام لأرض كربلاء من حيث الدلالة والسند.

فالكلام في محورين
المحور الأول: متن الرواية

فقد روى الشيخ البهائي في الكشكول، عن خط جده محمد بن علي الجباعي، نقلاً من خط ابن طاووس، نقلاً من كتاب الزيارات لمحمد بن أحمد بن داود القمي، عن الصادق علیه السلام أنه قال: «إن حرم الحسين علیه السلام الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة

ص: 278


1- اُنظر: التبريزي، إرشاد الطالب: ج٢، ص٨٨.

أميال، فهو حلال لوُلده ومواليه، حرام على غيرهم ممن خالفهم، وفيه البركة»(1).

وفي الكتاب نفسه قال: «روي أن الحسين علیه السلام اشترى النواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضرية بستين ألف درهم، وتصدّق بها عليهم، وشرط أن يُرشدوا إلى قبره، ويُضيفوا مَن زاره ثلاثة أيام»(2).

وذكر السيد رضي الدين بن طاووس: أن هذه الأرض إنما صارت حلالاً بعد تصدّقه علیه السلام بها عليهم؛ لتخلف الشرط الذي ذكره علیه السلام ؛ لأنهم لم يفوا بذلك، حيث قال: «وقد روى محمد بن داود عدم وفائهم بالشرط في باب نوادر الزيارات»(3).

كما أن الشيخ الطريحي روى الخبر الأول في كتابه مجمع البحرين أيضاً(4).

تقريب الاستدلال

بما أن الرواية المتقدمة دلت على أن الإمام الحسين علیه السلام اشترى مساحة من أرض كربلاء بمقدار أربعة أميال في أربعة؛ فتكون المساحة ستة عشر ميلاً مربعاً، أي: ما يساوي فرسخاً وثلثاً؛ لأن كل ثلاثة أميال تُعادل فرسخاً، فيكون مقدار الأربعة أميال سبعة كيلوات وربع الكيلو متر.

والنتيجة المتحصلة من هذا الكلام هو: أن حاصل ضرب الأربعة أميال في أربعة

ص: 279


1- النوري، مستدرك الوسائل: ج١٠، ص٣٢١.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- اُنظر: الطريحي، مجمع البحرين: ج٦، ص٣٩.

تساوي ٥٢ كيلو متراً مربعاً ونصف كيلو تقريباً.

وصريح الرواية تقول: قد أعطاها لهم بنحو المشارطة، وبما أنهم لم يفوا بالشرط، كما صرح السيد ابن طاووس؛ فيكون الملك باقياً للإمام علیه السلام ولا يصح تملكها إلّا بإذن منه، أو إذن نائبه في عصر الغيبة، مع مراعاة الشروط.

وفي جميع الأحوال، إذا تعارض ملك الناس مع مصلحة توسعة الحرم المقدس؛ فلا ثبات لملك الآخرين إزاء ملك الإمام علیه السلام .

فالرواية تامة الدلالة على أن مساحة ملك الإمام أوسع من المرقد المقدس القائم حالياً، ولا مجال للتمسك بدعوى ملكية الغير إذا عارضت الملكية الأصلية للإمام علیه السلام .

وبذلك يكون جواز التوسعة أمراً طبيعياً؛ لأنه توسيع في دائرة ملْك الإمام علیه السلام ؛ فلا يحتاج إلى إذن من المجاورين.

دفع إشكال

قد يجول في ذهن القارئ تساؤل يرتقي إلى مستوى الإشكال، وحاصله: أن هذه الرواية تنافي الدليل الأول القائل: إن الأرض ملْك للإمام علیه السلام ؛ لأنها لو كانت ملْكَاً له، فما هو السبب الذي دفع الإمام إلى شرائها من الساكنين في ذلك الوقت؟!

إلّا أن الإجابة عن ذلك تكون كالتالي: إن شراءها كان شراءً ظاهرياً؛ لأن الحاكم _ أو المجتمع _ في زمانه يمنع من تصرف الإمام بها؛ إذ إنهم لا يعون معنى كون

ص: 280

الأرض ملكاً له؛ لعدم اعتقادهم بأنه الإمام الشرعي، أو لعدم إيمانهم بأن الأرض ملك له، فيرون أن وجود مَن تملكها يمنعه من التصرف بها؛ ولذا بادر الإمام إلى شرائها؛ ليثبت ملكه ظاهراً، فضلاً عن الثبوت الواقعي؛ لكي لا يحتج عليه أحد بأنه استحوذ على أرض الآخرين، وأنه تصرف في حق وملك غيره.

وعليه؛ فدلالة الرواية واضحة في إثبات ملك الأرض له علیه السلام واقعاً وظاهراً؛ فلا يصح تملكها إلّا بإذنه أو إذن نائبه، فإذا رأى الإمام _ أو نائبه في زمن الغيبة _ مصلحة في عود الملك ورفع يد مَن استخدم الأرض، فلا إشكال في جواز التصرف لأجل مصلحة عامة تعود للدين أو المسلمين.

ومع ذلك كله، فإن للولي الشرعي أن يعوض الناس بسبب التضرر من رفع مبانيهم، وهذا موكول إلى قوله وحكمه.

المحور الثاني: سند الرواية

بعد تمامية الرواية دلالةً يقع الكلام في سندها، وهل هي معتبرة السند؛ بحيث يمكن التمسك بها والاعتماد عليها في الاستدلال على هذه المسألة أم لا؟

واضح مما ذُكر أن الرواية يرويها الشيخ البهائي عن جده عن ابن طاووس، وابن طاووس ينقلها من كتاب الزيارات، وهذا الكتاب مشهور في زمان ابن طاووس، فهو من مؤلفات محمد بن أحمد بن داوود القمي، عالم المذهب وشيخ القميين في زمانه.

ولا إشكال في وثاقة كل هؤلاء وجلالتهم، وإنما الكلام في أن الرواية فيها

ص: 281

إرسال بين محمد بن أحمد بن داوود وبين الإمام علیه السلام ؛ لأن ابن داوود يرويها مباشرة من دون ذكر الوسائط، ولا ندري هل أنه ذكر الوسائط في كتابه أم أنه أرسل الرواية.

ولكن يمكن القول: إن هذا الإرسال لا يضر في اعتبار الرواية؛ لأن المرسل من علماء المذهب الكبار الذين لهم مصنفات في الجرح والتعديل، بل إنه من المتحرجين في النقل عن غير الموثوقين كما هو ديدن القميين(1)، ولا أقل من اعتقاده بصدور الرواية عنهم.

فإذا حصل اطمئنان بالصدور لهذه القرينة؛ فتكون النتيجة هي إمكان الاستدلال بهذه الرواية.

وبذلك يكون ملك الإمام مقدماً على سائر الملكيات الأُخر، وذلك فيما لو كانت هناك مصلحة تعود إلى ضريحه المقدس وعموم شيعته ومواليه، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الانتقال بالتصرف لمَن اشترى منهم لم يحصل؛ لأنهم لم يوفوا بالشروط.

الدليل الثالث :أن أرض كربلاء مِلْكٌ لعامة المسلمين

لقد ثبت في الكتب الفقهية _ الاستدلالية منها والفتوائية _ وكذا في الموسوعات الروائية: أن الأرض المفتوحة عنوة لها أحكام خاصة، تُميّزها عن بقية الأراضي، ومن بين ذلك أنها لا تُملك ملكاً خاصاً، بل هي عامة لعموم المسلمين، وقد ثبت أيضاً أن

ص: 282


1- حيث عُرفت مدرسة قم الحديثية بالتشدد في النقل والتوثيق، وكان زعماؤها يقدمون على إخراج المحدثين والرواة الذين ينقلون عن الضعاف، كما في قصة إخراج البرقي وغيره.

أرض العراق أرض مفتوحة عنوة؛ فهي لا تُملك ملكاً شخصياً...

وكما هو واضح، فإن هذا الدليل يحتوي على صغرى وكبرى:

والكلام تارةً في الكبرى، وهي: أن الأرض المفتوحة عنوة لا تُملك على نحو الملكية الشخصية.

وأُخرى في الصغرى، أي: أن أرض العراق مفتوحة عنوة، ومنها أرض كربلاء.

أما الكبرى: فقد ذهب الأعلام إلى أن الأرض المفتوحة عنوة لا تُملك ملكاً خاصاً؛ ففي ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار _ بعد نقل مسائل في الكلام عن أرض العراق وبيان كونها مفتوحة عنوة _ قال الشيخ رحمة الله : «والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي _ وغيرها من البلاد التي فُتحت عنوة _ يخرج خمسها لأرباب الخمس، وأربعة الأخماس الباقية يكون للمسلمين قاطبة، الغانمين وغيرهم سواء في ذلك، ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين، وما ينوبهم: من سد الثغور، وتقوية المجاهدين، وبناء القناطر، وغير ذلك»(1).

وعليه؛ فهي لا تُملك ملكاً شخصياً، بل تكون على نحو الملكية العامة للمسلمين، والذي له التصرف بها الإمام علیه السلام أو مَن ينوب عنه، وبما أننا في زمن الغيبة؛ فتكون ولاية التصرف للفقيه الجامع للشروط؛ إذ إنه القدر المتيقن في إدارة الأُمور الحسبية؛ بناءً على القول بها، أو أنه نائب عام عن الإمام بناءً على القول بولاية الفقيه المطلقة.

ص: 283


1- المجلسي، ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: ج ٦، ص٤٢.

فللفقيه أن يتصرف في تلك الأراضي مع موافقة ذلك للمصالح العامة للمسلمين، ولا شك في أن التوسعة فيها مصلحة عامة عائدة للمسلمين بصورة عامة، فلا تُعارضها ملكية المجاورين الظاهرية؛ لأنها منافية للملك الواقعي لعامة المسلمين.

وأما الصغرى: فقد وردت روايات تدل على أنّ أرض العراق _ والتي تُسمى بأرض السواد في المصطلح الرائج آنذاك _ ملك للمسلمين؛ لأنها مفتوحة عنوة، ومن تلك الأرض هي أرض كربلاء المقدسة، كما جاء في صحيحة الحلبي، قال: «سئل أبو عبد الله علیه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين، لمَن هو اليوم، ولمَن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمَن لم يُخلق بعد...»(1).

وكذا ما جاء في رواية أبي الربيع الشامي عنه علیه السلام أيضاً، قال: «لا تشتر من أرض السواد شيئاً، إلّا مَن كانت له ذمّة؛ فإنّما هو فيء للمسلمين»(2).

وغيرهما من الروايات الأُخر التي أدرجها أئمة الحديث في موسوعاتهم الروائية(3).

وحيث إنّه يشترط في صيرورة الأرض ملكاً للمسلمين _ بمعنى أنّها ملك للأُمّة على امتدادها التاريخي وأمرها عائد إلى الإمام علیه السلام يقبّلها ممّن يشاء بما يشاء، ثمّ يصرف حاصلها في المصالح العامة _ كونها مفتوحة عنوة وأن يكون الفتح بإذن الإمام، وأن تكون عامرة حين الفتح؛ فيقع الكلام في أنّ أرض السواد متوفّرة على هذه الشرائط أم لا؟

ص: 284


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج١٧، ص٣٦٩.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ج٢٥، ص٤١٧.

الظاهر أنّه لا كلام بين الإمامية في أنّ أرض السواد فُتحت عنوة، وقد حُكي ذلك في التواريخ المعتبرة(1).

ويلحق بالأرض المحياة حال الفتح _ من حيث الحكم _ الأرض الموات حال الفتح، فإنّها ملك الإمام علیه السلام فيملكها مَن أحياها(2).

وبما أن المشاهد المشرّفة وجملة من بلاد العراق الجديدة كذلك، فتكون ملكاً لعامة المسلمين، والذي يديرها وليهم الشرعي.

ومنها الأرض التي باعها الإمام علیه السلام ومَن ينفذ منه البيع؛ لمصلحة راجعة إلى نوع المسلمين.

وهذه أيضاً مصداقها أرض كربلاء؛ فإن الإمام قد وهبها لساكنيها بعد أن اشتراها منهم، بشرط أن يقوموا بمصالح لعامة المؤمنين، كتعهد الزوار ورعايتهم، وتوفير المأوى المجاني لهم، إلّا أن ذلك لم يف به سكان كربلاء آنذاك، كما عبر ابن طاووس؛ فتكون الأرض باقية على ملك الإمام ولا عوض لهم؛ لأنه وهبها هبة مشروطة لم يفوا بشرطها، فتستخدم الأرض بما يعود على مصلحة الزائرين، وهل هناك مصلحة أكبر من مصلحة توسعة الحرم الشريف وبناء مؤسسات خدمية وسكنية ورعائية لعموم الزائرين؟!

فيتم بذلك جواز التصرف بأرض كربلاء، وتوسعة الحريم مطلقاً بإذن الفقيه الجامع للشرائط؛ لكي يقوم على المصالح العامة.

ص: 285


1- نقل ذلك المحقق السبزواري في كفاية الأحكام: ج١، ص٣٨٨.
2- موسوعة الفقه الإسلامي: ج١٠، ص٢١١. بإشراف السيد محمود الهاشمي.
الدليل الرابع : تعميم علة توسعة مكة المعظمة إلى حرم الحسين علیه السلام

من الأدلة التي يمكن أن يُستدل بها على جواز التوسعة للحرم الحسيني هو ما حصل من توسعة لمكة المكرمة في زمن الأئمة علیهم السلام ؛ إذ إنهم جوّزوا ذلك على حساب الملكيات الخاصة للناس، وهذه التوسعة حدثت لمرات عديدة في زمن الإمام الصادق والكاظم علیهماالسلام ؛ حيث عللوا جواز التوسع بسبق مكة على ملكهم؛ فيكون الكلام سارياً لتوسعة الحرم الحسيني في كربلاء؛ وذلك من خلال إبراز وحدة العلة التي من أجلها أجاز الإمام علیه السلام في التوسعة للحرم المكي، وهي أسبقية وجود مكة على مجاوريها، وأسبقية وجود الحرم الحسيني على مجاوريه؛ وذلك لسبق ملك الإمام لأرض كربلاء قبل المجاورين لها اليوم، أو لا أقل لوجود المرقد الشريف قبل وجود كل المجاورين له الآن. وإليك بعض الروايات في هذه الجهة:

الرواية الأُولى: عن عَبد الصّمَدِ بن سَعد، قال: «طَلَبَ أبو جَعفَرٍ [المنصور العباسي] أن يَشتَرِيَ مِن أهلِ مَكّةَ بُيوتَهُم ليَزيدَهُ فِي المَسجِدِ فَأَبَوا، فَأَرغَبَهُم فَامتَنَعوا، فَضاقَ بِذلِكَ، فَأَتى أبا عَبدِ اللهِ علیه السلام فَقالَ لَهُ: إنّي سَأَلتُ هؤُلاءِ شَيئاً مِن مَنازِلِهِم وأفنِيَتِهِم لِنَزيدَ فِي المَسجِدِ وقَد مَنَعوني ذلِكَ، فَقَد غَمّني غَمّاً شَديداً. فَقالَ أبو عَبدِاللهِ علیه السلام : أيَغُمّكَ ذلِكَ وحُجّتُكَ عَلَيهِم فيهِ ظاهِرَةٌ؟! فَقالَ: وبِمَ أحتَجّ عَلَيهِم؟ فَقالَ: بِكِتابِ اللهِ. فَقالَ: في أيّ مَوضِعٍ؟ فَقالَ: قَولُ اللّهِ: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ »(1)، قَد أخبَرَكَ اللهُ أنّ أوّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ هُوَ الّذي بِبَكّةَ، فَإِن كانوا هُم تَوَلّوا قَبلَ البَيتِ فَلَهُم أفنِيَتُهُم، وإن كانَ البَيتُ قَديماً قَبلَهُم فَلَهُ فِناؤُهُ. فَدَعاهُم أبو

ص: 286


1- آل عمران: آية٩٦.

جَعفَرٍ، فَاحتَجّ عَلَيهِم بِهذا، فَقالوا لَهُ: اِصنَع ما أحبَبتَ »(1).

الرواية الثانية: عن الحَسَن بن عَلِيّ بنِ النّعمان، قال: «لَ_مّا بَنَى المَهدِيّ فِي المَسجِدِ الحَرامِ بَقِيَت دارٌ في تَربيعِ المَسجِدِ، فَطَلَبَها مِن أربابِها فَامتَنَعوا، فَسَأَلَ عَن ذلِكَ الفُقَهاءَ، فَكُلّ قالَ لَهُ: إنّهُ لا يَنبَغي أن يُدخِلَ شَيئاً فِي المَسجِدِ الحَرامِ غَصباً. فَقالَ لَهُ عَلِيّ بنُ يَقطينٍ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، لَو كَتَبتَ إلى موسَى بنِ جَعفَرٍ علیه السلام لأَخبَرَكَ بِوَجهِ الأَمرِ في ذلِكَ. فَكَتَبَ إلى والِي المَدينَةِ أن يَسأَلَ موسَى بنَ جَعفَرٍ عَن دارٍ أرَدنا أن نُدخِلَها فِي المَسجِدِ الحَرامِ، فَامتَنَعَ عَلَينا صاحِبُها، فَكَيفَ المَخرَجُ مِن ذلِكَ؟ فَقالَ ذلِكَ لأَبِي الحَسَنِ علیه السلام . فَقالَ أبُو الحَسَنِ علیه السلام : ولا بُدّ مِنَ الجَوابِ في هذا؟ فَقالَ لَهُ: الأَمرُ لا بُدّ مِنهُ. فَقالَ لَهُ: اُكتُب: بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ، إن كانَتِ الكَعبَةُ هِيَ النّازِلَةَ بِالنّاسِ فَالنّاسُ أوْلى بِفِنائِها، وإن كانَ النّاسُ هُمُ النّازِلونَ بِفِناءِ الكَعبَةِ فَالكَعبَةُ أوْلى بِفِنائِها. فَلَمّا أتَى الكِتابُ إلَى المَهدِيّ أخَذَ الكِتابَ فَقَبّلَهُ ثُمّ َ أمَرَ بِهَدمِ الدّارِ، فَأَتى أهلُ الدّارِ أبَا الحَسَنِ علیه السلام فَسَأَلوهُ أن يَكتُبَ لَهُم إلَى المَهدِيّ كِتاباً في ثَمَنِ دارِهِم، فَكَتَبَ إلَيهِ أن أرضَخَ (2) لَهم شَيئاً، فَأَرضاهُم» (3).

فقد أبرز الإمام علیه السلام _ في كلا الروايتين _ الوجه الشرعي للتوسيع، وهو أسبقية وجود مكة المكرمة على وجودهم، على أن الرواية الثانية التي تضمنت في ذيلها أن الإمام كتب لهم عطاء، كان عوضاً عن دارهم لأجل إرضائهم على أن يرحلوا.

تقريب الاستدلال

بما أن العلة التي نصت عليها الروايتان المتقدمتان _ وفي واقعتين مختلفتين _ هي

ص: 287


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج١٣، ص٢١٧.
2- الرَّضْخُ: العطية المقاربة. لسان العرب: ج٣، ص١٩.
3- المصدر السابق.

كون الحرم المكي سابقاً على سكن الناس في تلك الأراضي المجاورة له، فيقع الكلام بعينه في توسعة الحرم الحسيني في كربلاء المقدسة، بعد تسليم وإقرار كل المجاورين على سبق وجود مرقد الإمام علیه السلام على وجودهم ووجود أملاكهم، فالعلة في المقام متحققة، فنوسع الحكم بجواز ضمّ الأملاك المجاورة إلى حرم الإمام أبي عبد الله الحسين علیه السلام من أراضي كربلاء؛ إذ لا خصوصية لأرض مكة المطهرة في هذه العلة، فيصُنع في كربلاء كما صُنع مع أهل مكة؛ فيتم الكلام حول توسعة الحرم الحسيني، غاية ما في الأمر أن أصحاب الأملاك يعوضون عنها لدفع الضرر عنهم.

الدليل الخامس: الروايات المحددة لحرم الإمام الحسين علیه السلام

هناك مجموعة روايات بيَّنت أن هناك حريماً لمرقد الإمام الحسين علیه السلام ، كما ورد عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «حرم الحسين علیه السلام خمس فراسخ من أربع جوانب»(1)، وهذه الروايات وإن اختلفت في تحديد الحريم سعةً وضيقاً(2)_ ولعل الاختلاف ناشئ من تفاوت مقامات البقع قُرباً وبُعداً من مكان الجسد الطاهر _ إلّا أنها مجتمعة على وجود حريم لمرقد الإمام علیه السلام ، وكما هو متعارف بين العقلاء أن هذا الحريم تابع لصاحبه، كما في حريم الدار وحريم البستان، فلا يجوز لغيره أن يتعدّى عليه أو يتصرف فيه.

فمن تلك الروايات ما حددت الحرم بفرسخ من كل جانب، ومنها بخمسة فراسخ، وغير ذلك.

ولا تنافي بين الروايات التي حددت الروضة الحسينية بمساحة أقل من الفرسخ

ص: 288


1- المصدر السابق: ج١٤، ص٥١٠.
2- اُنظر: المصدر السابق.

أو الخمسة فراسخ؛ لأنها في مقام تحديد قبر الحسين علیه السلام وضريحه، وهذا أمر مغاير لعنوان الحرم الذي هو أوسع منه دائرة.

وعليه؛ فنحن نختلف مع من جعل روايات الحرم وروايات موضع القبر جميعاً ناظرة إلى موضوع واحد.

وكيف كان، فإن الروايات المحددة لعنوان الحرم تقتضي تقديم مصلحة صاحب الحرم، إذا ما زاحمتها مصالح الآخرين من المجاورين للمرقد، فيثبت جواز التوسعة لصاحب الحرم على حساب الساكنين هناك.

وكما هو واضح، فإن الروايات المحددة لعنوان الحرم متفاوتة سعةً وضيقاً، إلّا أن أضيقها تحدد الحرم بمساحة أكبر من الحدود الحالية بكثير، وهذا الأمر يُسوّغ لمن يريد توسعة المرقد الشريف وتوابعه بحد الحرم الذي ذكرته الروايات، وهو الفرسخ الواحد على أقل تقدير.

وبذلك يتم جواز التوسعة للمرقد بمساحة فرسخ، أي ما يساوي خمسة كيلوات متر مربع ونصف الكيلو.

الدليل السادس: تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة

من الأُمور المتسالم عليها بين العقلاء هي أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، فلو وقع تعارض بين المصلحة العامة والخاصة، قُدّمت المصلحة العامة على نظيرتها، وكل ذلك يُراعى بجبر ما انكسر من المصلحة الخاصة، وذلك لنكتة الحفاظ على مصلحة وملاك النوع مقابل مصلحة الفرد، وهذا نظير تعارض الحريات العامة

ص: 289

مع الحريات الخاصة؛ فإن حرية النوع تقدم على حرية الفرد(1).

ويمكن تطبيق ذلك على توسعة الحرم المطهر، في مقابل الملكيات الشخصية؛ وذلك لأن التوسعة تعود بالنفع على نوع المؤمنين الذين يَفِدُون إلى زيارة إمامهم، وهذه المصلحة مهمّة جدّاً؛ ولا تقاومها المصلحة الفردية العائدة إلى بعض المؤمنين، خصوصاً وأن حق الفرد محفوظ لا ضياع فيه، من خلال التعويض المناسب لحجم خسارته، كما سبق ذكره في الدليل الرابع، ويكون التعويض لمجاوري الإمام علیه السلام ، بعد تقييم البيوت أو الدكاكين من قِبَل لجان خبيرة بالعقارات.

الدليل السابع: حقوق آل البيت علیهم السلام

من المفاهيم التي أكدها القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو حفظ حقوق الأئمة علیهم السلام ، وأن ذلك فرض في أعناق الأُمة؛ إذ إن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل أجر الرسالة مرتهن بالمودة لهم، وذلك في قوله تعالى:«ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى...»(2)، وليست المودة هي الحب الذي يكون من عمل الجنان والجوانح فحسب، بل إنها تفوقه وتتخطاه إلى الموقف العملي في نصرتهم، ورفع مقامهم بالكلمة والسيف، ورفع الشأن وغير ذلك...

ولعل من أبرز تلك الحقوق هو إعلاء مقاماتهم، وجعلها منارات للهدى في كل آن ومكان؛ إذ بها تكون كلمة الله هي العُليا، كونها بقاعاً مباركة لطاعة الله وتعظيم دينه.

ص: 290


1- اُنظر: الروحاني، زبدة الأُصول: ج٣، ص٨٧.
2- الشورى: آية٢٣.

وهذه الحقوق ثابتة على جميع المسلمين، وبالأخص الموالين منهم، وبما أن المجاورين لمرقد الإمام الحسين علیه السلام من الموالين له؛ فالمفترض منهم أن لا يمانعوا في توسعة الحرم الشريف؛ إذا ما كان توسيع المرقد فيه إعلاء لمقامه وهو محلّ لرضاه ورضى الوافدين إليه.

ولا ريب أن مَن يتفكّر في لبِّه يرى أن من أبسط حقوق الإمام علیه السلام علينا أن نُعظمّه ونرفع البيوت التي أذن الله أن تُرفع؛ ففيها يُذكر اسمه ويعلو دينه؛ كما أن المكلف نفسه بهذه الأفعال التي تدل على ولائه وانتمائه ترتكز عقيدته ويزداد حبه لأوليائه؛ وبذلك ينكسر أعداء الله الذين يحاولون إطفاء نور محمد صلّى الله عليه وسلّم وآل محمد علیهم السلام بكل الأشكال.

الدليل الثامن: حاكمية العناوين الثانوية على العناوين الأولية

لا شك في أن العناوين الثانوية _ والتي يجعلها الشارع المقدس في الحالات التي تحصل فيها ظروف استثنائية لبعض المواضيع _ حاكمة على العناوين الأولية؛ فتكون مقيدة أو مخصصة لها، فإذا توفر عنوان ثانوي: كعنوان الضرر، أو الحرج، أو وجوب تعظيم الشعائر وإبرازها بمظهر لائق يؤكد عزتها وعظمتها، هذه العناوين إذا توافرت فهي حاكمة على الحكم الأوّل(1).

وفي محل بحثنا، إذا أمكن تطبيق ذلك في المقام نقول: إن عنوان دفع الحرج والعسر على الزائرين بسبب ضيق محل الزيارة والعبادة من جهة، وتعظيم المراقد ورفعها من خلال التوسيع من جهة أُخرى هما عنوانان ثانويان، يفوقان مصلحة

ص: 291


1- اُنظر: الإيرواني، الميرزا علي، حاشية المكاسب: ج١، ص١٨٧.

إبقاء الملك الخاص المانع من التوسعة للحرم؛ فيكون عنوان التوسعة للحرم مقدّماً على عنوان إبقاء الملك الخاص.

الدليل التاسع: ولاية الفقيه

هناك نظريات عديدة في حجم سلطة الفقيه وولايته على شؤون المسلمين، ومقدار تصرّفه بتلك الطاقات والموارد في بلدان المجتمع الإسلامي بما يعود على قوة وهيبة الإسلام وأهله وضمن ضوابط محددة لا يتعداها الفقيه نفسه.

وهذه الموضوعة تحتاج إلى بيان واسع، إلّا أننا نأخذها كأصل موضوعي، فلا نخوض البحث فيها.

وبناءً على ثبوت الولاية العامة للفقيه؛ فإذا اقتضت المصلحة أن يتصرف في بعض الأملاك الخاصة، على حساب تقديم مصالح العباد ودينهم؛ فلا ضير في ذلك، والشواهد على ذلك كثيرة: منها تسعير الحاكم على التجّار حال الاحتكار(1)، وفرض الزكاة على الأعيان غير الزكوية، وغير ذلك من الأحكام(2)، فإذا رأى الولي الفقيه مصلحة عامة في توسيع الأضرحة المقدسة على حساب الأملاك الخاصة، مع عدم الإضرار بهم وتعويضهم، فلا مانع من ذلك؛ إعمالاً لولايته على عموم المسلمين.

تتمة: تطبيق الحكم على كل المراقد المطهرة

بعد أن اتضح لنا تمامية بعض الأدلة على جواز التوسعة لمرقد سيد الشهداء علیه السلام

ص: 292


1- الطوسي، المبسوط: ج٢، ص١٩٥.
2- الحائري، كاظم، ولاية الأمر في عصر الغيبة: ص١٢٦.

على حساب الأملاك المجاورة له _ وفق الضوابط والمعايير الخاصة _ نودُّ أن نتطرق إلى هذا الحكم بالنسبة إلى بقية المراقد المطهرة، فهل يمكن التعميم إليها أم لا؟

وفي صدد الإجابة عن هذا السؤال نقول: لا يخفى أن كثيراً من الأدلة المذكورة في المقام عامة، وغير مختصة بموضوعة توسعة الحرم الحسيني، ما عدا الدليل الثاني منها، ولا أقل من القول بتمامية الدليل الأول لكل أضرحة الأئمة في المعمورة، وتمامية الدليل الثالث لكل الأضرحة في العراق، وتمامية الدليل الرابع لكل الأضرحة في المعمورة بعد إلغاء خصوصية مكة المكرمة، وإثبات أسبقية وجود الأضرحة قبل سُكنى الناس بجوارها، كما هو واضح.

فالصحيح هو الحكم بجواز التوسعة للحرم الحسيني وللأضرحة المقدسة أدامها الله تعالى.

ص: 293

ص: 294

دِرَاسَاتٌ دِينِيَّة

اشارة

*قاضي التحكيم _ مشروعية وشروط

*المصطلح واستخدامه في غير معناه

عند الأصوليين (المسوِّغات و المشاکل)

*الهدف من الخلق

قراءة في فكر الشهيدين مرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر

ص: 295

ص: 296

قاضي التحكيم مشروعية وشروط د. فلاح الدوخي

مقدّمة

تعدُّ مسألة القضاء من المسائل التي لها أهميّة واضحة في التشريعات؛ إذ إنّه التقنين الذي ينتصف به المظلوم من الظالم رغم أنفه، ولهذا الباب مسائله الكثيرة التي ما زال بعضها في طور التنقيح، وبالأخصّ تلك المسائل التي فيها طابع المعاصرة التي ترتبط بالإثبات القضائي بوسائله الحديثة، كما أنّ بعض مسائله يولّد تنقيحها تفعيل القضاء لمساحة أكبر بلحاظ شخصية القاضي، كبحث شرطيّة الاجتهاد في القضاء، وبحث مسألة قاضي التحكيم؛ لذا اخترنا مسألة قاضي التحكيم في بحثنا هذا؛ كونها من المسائل الابتلائية والمهملة في ذات الوقت، والتي كان ينبغي التركيز عليها وبحثها بشكل مفصّل، واستجلاء موضوعها.

ص: 297

وهي مسألة تقع على عاتق الفقيه في تحديد وجهة نظر الشارع فيها، خصوصاً بعد أن كان لها أهمّية فائقة في كثير من المجتمعات، وبالأخصّ الشيعة في المناطق التي لا تحظى بحكومة إسلامية مبسوطة اليد.

وتبرز تلك الأهمّية بملاحظة عمق ارتباطها بمسائل الخصومة والخلاف، وهذا الخلاف طبيعة بشرية لا يمكن أن ينتهي أو يُحدَّد بزمنٍ معين، بل إنّ إحدى غايات بعث الأنبياء المهمّة هي رفع الاختلاف بين الأُمّة التي يُبعث لها النبي، قال تعالى:«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا...»(1).

فالحكم بالحقّ بين الناس، ونزع الخلاف المستمر، هو مهمّة الأنبياء، وما أعظمها من مهمّة! حيث لا بدّ أن يكون رائدها نبيّاً أو يحمل معاني النبي، أو يُمارس بعض وظائفه غير المختصّة به.

ثمّ إنّ هذا الخلاف تارة نفترضه خلافاً لاهوتياً وفي دائرة الأحكام والعقائد، وتارة يكون خلافاً يتعلّق بجزئيات حياة الأفراد العادية والشخصية، وبلا شك في الشقّ الثاني سوف تتوسّع دائرته، فما أكثر تلك الجزئيات التي يمكن تصوّرها بين الأفراد بشكل عام!

ومن هنا؛ فإنّ القضاء لحلّ النزاعات يكون من أهمّ الواجبات التي يحكم بها العقل، فضلاً عن الشرع؛ لكي يحفظ بها النظام وتستمر الحياة إلى ما شاء الله لها من بقاء.

ص: 298


1- البقرة: آية٢١٣.

هذا بشكلٍ عام، لكن لو نظرنا إلى المجتمعات الشيعية التي عاصرت حضور الإمام المعصوم علیه السلام ، أو التي فارقته بعد غيبته، نجدها خاضت معارك فكرية وعقائدية كثيرة، نتجت عنها بروز طائفة امتازت بفقهها وعقائدها _ بشكلٍ واضحٍ جداً _ عن بقية الطوائف، فكان يصعب عليها الخضوع لأفكار الطوائف الأُخرى التي تعتبرها خاطئة، بل لا يجوز مجاراتها، إلّا بنوع من التقية.

فكان لا بدّ لتلك الطائفة أن تعيش وفق ما هو مرسوم لها من قيم وأفكار، تراها هي الحقّ والصواب، وهي التي تمثّل الصحيح المأخوذ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن الله تعالى، فكانت تسعى جاهدةً لقيام كيان يسمح لها بتطبيق ما تؤمن به من أفكار؛ فسعت بكلّ قواها إلى تحقيق ذلك، إلّا أنّها مُنعت من ذلك لأسبابٍ معروفة، لعلّ معظمها تتصل بما حدث بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فلم تتمكّن من إقامة ذلك الكيان، ولم تكن الظروف الموضوعية تسمح بذلك؛ لذلك كان لا بدّ من تطبيق تلك القيم والأفكار داخل مجتمعاتهم الشيعية، بشكلٍ منفصل عن أيّ كيانٍ آخر تعتبره مخالفاً لضوابطهم الفقهية.

ومن تلك القيم والأفكار، فكرة القضاء بالعدل، لكنّ العدل بمعناه الشيعي لا من منظور عقيدة أُخرى، فمفهوم العدل له في العقيدة الشيعية معنى يكاد ألّا يخلو من كونه تجلّياً للدين بكلّ أبعاده، فهو يمثّل قيم السماء التي جاء بها النبي؛ لينقل الناس إلى أوج تكاملهم ونضجهم.

ولمّا كان العدل أمراً مهمّاً في حياة الناس؛ لذا نرى تأكيد الأئمة بشكل كبير على ذلك، وكانوا يسعون إلى المحافظة على معناه الأصيل، وعدم تلويثه بقيم أُخرى

ص: 299

هجينة؛ فعمدوا إلى سلخ الجانب الذي يمثّل خطراً على هذا المفهوم النبيل؛ فحرصوا _ ببياناتٍ كثيرة _ على عدم الرجوع إلى القضاء الذي تمثّله الطبقة الحاكمة آنذاك، والتي تعتبر طبقة ظالمة خارجة عن الأُطر الدينية الصحيحة، وكان ذلك الخروج إمّا وفق رؤية المذهب الشيعي، أو وفق القيم الإنسانية بشكل عام، وحثّوا على الرجوع إلى قضاء الحقّ، الذي تتمثل ضوابطه بالمنهج الذي يسير عليه الإمام علیه السلام آنذاك.

ولقد كانت مهمّة القضاء أيسر بوجود الإمام علیه السلام وبحضوره، فقد قام الإمام علیه السلام بدوره وواجباته، فإمّا أن يكون هو القاضي، أو يقوم بتنصيب قُضاة معينين لإجراء المحاكمات، وفضّ النزاعات التي تقع بين شيعته.

لكنّ المشكلة التي كانت تواجه الإمام علیه السلام وشيعته هي مشكلة غيابه وكيفيّة معالجة الأُمور في تلك المرحلة، مرحلة الفراغ، فكان لا بدّ أن يقوم برسم معالم تلك الحلول للمستقبل، من خلال الإيماء إلى أُمور معيّنة تمثّل حلولاً لما بعد رحيله وفقدانه.

فقد بيّن الإمام علیه السلام مواصفات عامّة وشرائط فيما لو توفّرت في شخص، ستكون له القابلية لتولّي الحكم بين الناس، ويمثل الخط الصحيح للفكر الصحيح، فبرزت بيانات تؤكد على أن الفقيه العالم بقضايا أهل البيت علیهم السلام هو مَن يمكن له التصدّي لمقام القضاء.

ومن تلك البيانات: ما هو مشهور عن الإمام علیه السلام في مسألة تولّي القضاء، قال _ بعد أن أكّد على رفض الرجوع إلى حاكم الجور بين المتخاصمين من شيعته _:«ينظران [إلى] مَن كان منكم ممَّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا

ص: 300

فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(1).

وهذا الحديث له دلالة على أنّ الفقيه العارف بالأحكام _ في زمن الغيبة_ له الحقّ في تسلّم مقاليد الحكم والقضاء بشكل عام، وهو ما يُسمّى بالقاضي المنصوب في زمن الغيبة(2).

القضاة في زمن غيبة الإمام علیه السلام

ولم يقف الإمام علیه السلام عند هذا الحد، بل أمضى بيانات في بعض الموارد لا يُفهم منها خصوص القاضي المنصوب، بل يُفهم منها _ كما سوف يتضح لاحقاً_ تشريع قاضٍ من نوعٍ آخر، وفي موارد خاصّة، وهو ما نُسمّيه بقاضي التحكيم، وهذا القاضي يكون باختيار المتخاصمَين، فهما مَن يختارانه ويتعهّدان بنفوذ حكمه.

وهذا النوع من القضاء هو محطّ البحث هنا؛ فكما أشرنا في بداية المقدّمة إلى أنّ هذا النوع من القضاء يكثر في المجتمعات الشيعية، والتي عانت من محاولات فصلها وتفكيكها على مرّ القرون السابقة، بفعل تعاقب النظم الجائرة، فلم تكن هناك حكومات شيعية لها محاكم خاصّة بها، وتكون يد المجتهد فيها مبسوطة؛ لذا التجأ الكثير منهم في أوقات نزاعاتهم إلى القسم الثاني من القضاء، وهو الرجوع إلى شخص يعتقدون بعدالته؛ ليحكم بينهم ويتعهدون بنفوذ حكمه.

ص: 301


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج١، ص٦٧.
2- القاضي المنصوب في زمن الغيبة_ في قبال قاضي التحكيم _: هو الشخص الذي يكون مصداقاً لشروط ومواصفات ذكرها الإمام علیه السلام ، حتى يستحق مرتبة القضاء بين الناس، والمجتهد في زماننا مصداقه الواضح.

ونظراً للزمن الطويل الذي مرّ على غياب المعصوم؛ ولكثرة تعاقب الحكومات الظالمة، قد غفل وجهل الكثير من الشيعة بماهيّة هذا النوع من القضاء، ولم يكونوا على اطّلاع بشروطه وخصائصه، فوقع الكثير _ ممَّن يُرشَّح حاكماً_ بمخالفات شرعية واضحة، لم يكن على علم بها، ولم يكن على علم بمدى الإثم الكبير الذي يرتكبه وهو يمارسها.

فتجد الكثير منهم يحكم بلا علم وبلا ضوابط، بل قد يحكمون بقضايا ليست مختصّة بهم، بل مرتبطة بحقوق الله، من قبيل الحدود والقصاص ونحوها.

لذا؛ كان من الأهمّية بمكان أن نتناول موضوع قاضي التحكيم؛ لنرى مشروعيته في رؤية شيعية، ولنكوّن فكرة عن حدوده وشرائطه.

خطّة البحث ومنهجيته

تمّ تقسيم البحث إلى عدّة جهات:

الجهة الأُولى: وفيها يتمّ التعرّض لمعنى قاضي التحكيم من ناحية لغوية واصطلاحية.

الجهة الثانية: وفيها يتمّ التعرّض لأدلّة مشروعية قاضي التحكيم، وكذلك تتمّ مناقشة بعض الأدلة المذكورة.

الجهة الثالثة: ويتمّ فيها _ بناءً على مشروعيته _ ذكر خصائص وشرائط قاضي التحكيم.

ص: 302

الجهة الرابعة: يتمّ البحث فيها عن نفوذ الحكم، فبعد أن نؤمن بأصل مشروعية القاضي لا بدّ من بحث موارد نفوذ حكمه، وهل ينفذ مطلقاً أم ينفذ في حالة التراضي به، فضلاً عن التراضي بشخصية القاضي؟

الجهة الخامسة: يتمّ البحث فيها عن حدود حكم قاضي التحكيم، وهل له أن يحكم في كلّ الموارد؟

الجهة السادسة: ويتمّ البحث فيها عن شمول تلك المشروعية لعصر الغيبة، أو أنّ دليل المشروعية يقتصر على زمان الحضور، فحين نُقرر مثلاً في الجهة الثالثة أن شروطه هي نفس شروط القاضي المنصوب، عندها قد يُقال: إنّ تصوره في زمن الغيبة غير ممكن.

الجهة السابعة: وتقع في ثمرة البحث في قاضي التحكيم؛ فقد يقال: لا ثمرة من بحثه فيما لو قلنا: إنّ شروطه هي ذات شروط القاضي المنصوب؛ لأنّه مع هذا الفرض سوف لا يكون له مورد مع وجود المجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة.

ثمّ بعد ذلك نعطف البحث في مشروعيته عند أهل السنة؛ للفائدة، ثمّ خاتمة البحث ونعرض فيها مجمل النتائج التي توصلنا إليها.

ص: 303

قاضي التحكيم

اشارة

ويقع البحث فيه من عدّة جهات:

الجهة الأُولى: قاضي التحكيم لغة واصطلاحاً

المعنى اللغوي

القاضي لغةً: مأخوذٌ من القضاء، والقضاء في اللغة: بمعنى فصل الأمر، قولاً كان ذلك أو فعلاً(1).

فهو بمعنى الفصل والحتم والقطع، وكلّها تُشير إلى معنًى واحد، وهذا هو الأصل المشترك لكلّ المعاني التي ذُكرت للقضاء، فقد ذكر صاحب الجواهر عشرة معانٍ له: الحكم، والعلم، والإعلام، والقول، والحتم، والأمر، والخلق، والفعل، والإتمام، والفراغ(2). وكلّها تعود بمناسبة وبأُخرى إلى المعنى الذي ذكرناه.

فالقاضي لغةً: هو مَن يفصل الأمر ويقطعه.

أمّا لفظة التحكيم، فهي مشتقّة من حَكَمَ، وهو بمعنى المنع(3)، يُقال: (حَكَمْتُ) عليه بكذا، إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك(4).

ص: 304


1- اُنظر: الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القران: ص٤٠٦.
2- اُنظر: الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج٤٠، ص٧.
3- اُنظر: الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القران: ص١٢٦.
4- اُنظر: الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير: ج١، ص٤٥.
المعنى الاصطلاحي

أمّا معنى قاضي التحكيم في عرف واصطلاح الفقهاء، فهو مَن يجعله المتخاصمان حكماً بينهما ويرضيان بحكمه، فيفصل بينهما في منازعتهما.

وهذا المعنى يختلف عن القاضي المنصوب؛ فهو القاضي الذي يكون منصوباً من قبل الإمام علیه السلام ، إمّا في زمن حضوره بأن يقوم بتعيينه شخصياً، وإمّا في زمن غيبته بأن يكون قد أحرز مواصفات وشروطاً ذكرها الإمام؛ بحيث إذا اتّصف بها يكون منصوباً من قِبَله. وأهمّ الشرائط أن يكون مجتهداً، فمَن اتّصف بالاجتهاد بضميمة شروطٍ أُخرى يكون مؤهلاً لتصدّيه للقضاء.

وقبل الدخول في أدلّة مشروعية قاضي التحكيم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ مَن رفض مشروعية قاضي التحكيم، فهو قد استند إلى اشتراط الاجتهاد، فالكلام في مشروعية قاضي التحكيم _ كما سيأتي _ إنّما يكون في الشخص الذي لم يكن مجتهداً، وإلّا لو كان مجتهداً، فهو يدخل في القاضي المنصوب، ولا أحد يمنع من مشروعيته.

الجهة الثانية: أدلّة مشروعية قاضي التحكيم

اشارة

ويمكن أن يستدلّ على مشروعيته بعدّة أدلّة، منها:

الدليل الأول: الكتاب الكريم

قد استُدلّ على مشروعيته بآيات قرآنية، من قبيل قوله تعالى:«وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ

ص: 305

النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(1). وقوله تعالى:«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(2).

فقد يُقال: إنّ هذه الآيات يستفاد منها أصل جواز الحكم من قِبَل الناس من دون أن يؤخذ في ذلك أيّ شرطٍ من شرائط القاضي المنصوب، وعلى رأسها شرط الاجتهاد.

وقد استدلّ السيد الخوئي بها على عدم اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم؛ حيث قال في تكملة المنهاج: «وأمّا قاضي التحكيم، فالصحيح أنّه لا يُعتبر فيه الاجتهاد خلافاً للمشهور؛ وذلك لإطلاق عدّة من الآيات، منها قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(3).

مناقشة الدليل الأول

ويمكن مناقشة هذا الدليل: بأنّ هذه الآيات إنّما هي بصدد بيان أنّ الإنسان حينما يحكم يجب أن يكون حكمه عادلاً وأن يحكم بما أنزل الله، وليست هي بصدد بيان شرائط الحاكم، أي: إنّها ناظرة إلى المحكوم به لا إلى شخص الحاكم به(4).

ص: 306


1- النساء: آية٥٨.
2- المائدة: آية٤٤.
3- الخوئي، أبو القاسم، مباني تكملة المنهاج: ج٤١، ص١٢.
4- هذا الجواب ذكره السيد الحائري في كتابه القضاء في الفقه الإسلامي: ص٤٤.
الدليل الثاني: الإجماع

قد ادّعى بعض العلماء أنّ هناك إجماعاً على مشروعيته:

قال الشيخ الطوسي: «دليلنا: إجماع الفرقة على أخبار رووها: إذا كان بين أحدكم وبين غيره خصومة، فلينظر إلى مَن روى أحاديثنا، وعلم أحكامنا، فليتحاكما إليه؛ ولأنّ الواحد منّا إذا دعا غيره إلى ذلك فامتنع منه كان مأثوماً، فعلى هذا إجماعهم»(1).

فقوله: «وعلى هذا إجماعهم». صريح بتحقّق الإجماع.

وقال صاحب مجمع الفائدة والبرهان: «وكان دليل نفاذ حكم مَن يرضى الخصمان به _ بشرط اتصافه بالشرط المذكور_ هو الإجماع أيضاً»(2).

وهذا الإجماع معقده نفوذ الحكم، وهو دالّ بالالتزام على أنّ الإجماع منعقد على أصل المشروعية.

وقال صاحب الكفاية: «والمشهور بين الأصحاب جواز التحكيم، وهو: أن يُحكّم الخصمان واحداً من الناس جامعاً لشرائط الحكم، سوى نصّ مَن له التولية، بل لم يذكروا فيه خلافاً فيما أعلم »(3).

ونفي الخلاف يدلّ على أنّ المسألة إجماعية.

ص: 307


1- الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج٦، ص٢٤٢.
2- المقدّس الأردبيلي، أحمد، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: ج ١٢، ص١٨.
3- المحقق السبزواري، محمد باقر، كفاية الأحكام: ج٢، ص٦٦٥.

وقال في المسالك: «واعلم أنّ الاتفاق واقع على أنّ قاضي التحكيم يُشترط فيه ما يُشترط في القاضي المنصوب»(1).

وهذا الكلام يكشف عن تحقّق الإجماع على مشروعيته، وإن كان يُشترط فيه أن يكون مجتهداً، وبهذا سيختصّ فرضه في زمن حضور الإمام فقط. فأصل مشروعيته مفروغٌ عنها، والكلام في الشرائط أمر آخر سوف نتناوله لاحقاً، من أنّه هل يختص بزمن المعصوم أم لا؟

مناقشة الإجماع المدّعى

إن ما ذُكر من إجماع على فرض تحقّقه لا يبعد أن يكون ناشئاً من الروايات والأدلّة التي سوف نذكرها، فهو إجماع مدركي، وهو ليس بشيء من دون تلك الأدلّة، وعلى أيّة حال، فاحتمال المدركية يكفي في عدم حجّيته.

الدليل الثالث: السيرة العقلائية

هناك سيرة قائمة من العقلاء على قبول ونفوذ حكم القاضي الذي يتراضى به الخصمان، مع كونه غير منصوب من قبل الإمام علیه السلام ، وهذه السيرة لم يردع عنها الشارع؛ فيستكشف الإمضاء. وهذه السيرة وإن كانت قائمة على النفوذ؛ لكنّ ذلك يدلّ بالالتزام على مشروعية قاضي التحكيم عندهم.

ص: 308


1- الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، مسالك الإفهام: ج١٣، ص٣٣٣.
مناقشة دليل السيرة

ويمكن مناقشة هذا الدليل، بأنّ هذا البناء العقلائي ثابتٌ في سيرة العقلاء بعنوان: الالتزام بالوفاء بالشروط، أي: إنّ مصبّ السيرة هو التزام العقلاء بالوفاء بشروطهم، وهذا ما سوف نبحثه كدليلٍ مستقل.

الدليل الرابع: وجوب الأمر بالمعروف

قال الشيخ الطوسي: «ولأنّ الواحد منّا إذا دعا غيره إلى ذلك فامتنع منه كان مأثوماً»(1).

وقال صاحب كشف اللثام: «لو تراضى الخصمان بحكم بعض الرعية، فحكم بينهما جاز عندنا، وإن كان الإمام علیه السلام حاضراً أو هناك قاضٍ منصوب منه؛ لقوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...» الآية، وللدخول في عموم ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).

وقال العاملي في مفتاح الكرامة: «جواز التحكيم لمَن اتّصف بشرائط القاضي المنصوب دليله _ بعد دخوله في عموم ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف، وعموم قوله:«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...» _ الإجماع»(3).

ص: 309


1- الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج٦، ص٢٤٢.
2- الفاضل الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام: ج٢، ص٣٢٠.
3- العاملي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة: ج ١٠، ص٤.
تقرير الاستدلال

إنّ الحكم بين المتخاصمين وحلّ النزاع بينهما من المعروف، فلو دُعي شخصٌ ليكون حكماً، يجب عليه أن يلبّي الدعوة ويكون قاضياً، فوجوب حلّ خلافات المؤمنين من الواضحات؛ فلذا مَن تركه حين يُدعى له يُعدّ مأثوماً.

مناقشة الدليل الرابع

ويمكن مناقشة ذلك: بأنّنا نمنع أن يكون الشخص مأثوماً ومذنباً فيما لو استند إلى دليل يمنع مشروعية قاضي التحكيم، أو لم يكن هناك دليل أصلاً على المشروعية.

فهذا الدليل في طول وضوح دليل المشروعية، فلا يصلح أن يكون دليلاً ابتدائياً على جواز قاضي التحكيم؛ فإنّ أدلة وجوب الأمر بالمعروف هي في طول وجود ووضوح المعروف.

قال صاحب الجواهر: «وأدلّة الأمر بالمعروف لا تقتضي الحكومة»(1)، ومقصوده رحمة الله : أن أدلّة الأمر بالمعروف لا تثبت مشروعية حكومته.

الدليل الخامس: أدلة الوفاء بالشروط والوفاء بالعقود

ويمكن أن يُستدلّ على مشروعيته بأدلّة الوفاء بالشرط والعقد، بأن يُقال: إنّ المتخاصمين قد تشارطا وتعاقدا على قبول حكم القاضي؛ فيجب عليهما العمل بقضائه.

ص: 310


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج ٤٠، ص٢٦.

وهذا الدليل هو دليل مبنائي، أي: إنّه تُفترض صحته لو آمنّا بالمبنى الذي يرى شمول تلك الأدلّة _ أدلّة الوفاء بالشروط _ للشروط الابتدائية، وتوضيح ذلك:

إنّ الشروط على قسمين: فتارة تكون شروطاً ابتدائية، من قبيل أن يشترط شخص على شخص شيئاً من دون أن يكون هذا في عقد ما، وأُخرى يشترط ذلك في ضمن عقد ما، وقد وقع خلاف بين الفقهاء في أن لزوم الوفاء بالشروط هل يعمّ الشروط الابتدائية أم لا؟

وبناءً على القول بالشمول وأنّها كالشروط الداخلة في العقود؛ يكون حال قاضي التحكيم مثل الشروط الابتدائية؛ لأنّ الخصمين حينما ينتخبان قاضياً يرجع ذلك في روحه إلى أنّهما شرطا على نفسيهما الالتزام بما يقضي به، فهناك تعهّد واشتراط من كليهما، وإن لم يُذكر ذلك التعهد بشكل لفظي، والمؤمنون عند شروطهم.

وهذا الدليل تام(1)، لكن على ألّا تكون تلك الشروط مخالفة للشارع، بل لا بد من كونها شروطاً مباحة.

ولا بدّ من ملاحظة أنّ تمامية هذا الدليل إنّما تكون في نفوذ حكم القاضي، لا في أصل مشروعيته، نعم بالملازمة يمكن إثبات أصل المشروعية كما مرَّ سابقاً.

الدليل السادس: الروايات

هناك روايات متعددة يمكن أن يُستفاد منها مشروعية قاضي التحكيم، ونذكر منها:

ص: 311


1- تمامية هذا الدليل مبنية على القول بأعمّية الشرط، للشروط الابتدائية، إمّا عرفاً ولغةً، أو إلحاقاً وتعبداً.

الرواية الأُولى: رواية الكناسي

عن أحمد بن منصور، عن أحمد بن فضل الكناسي: «قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام : أيّ شيءٍ بلغني عنكم؟ قلت: ما هو؟ قال: بلغني أنّكم أقعدتم قاضياً بالكناسة. قال: قلت: نعم، جُعلت فداك، رجل يُقال له: عروة القتّات، وهو رجلٌ له حظٌّ من عقل (نجتمع عنده فنتكلّم ونتساءل) ثمّ يرد ذلك إليكم. قال: لا بأس»(1).

هذه الرواية من ناحية سندية ضعيفة؛ لجهالة الأحمدين معاً.

وأمّا من ناحية دلالية، فلا يبعد أن تكون تامّة الدلالة على المشروعية؛ حيث قال له الإمام علیه السلام : بلغني أنّكم أقعدتم قاضياً. ولم تذكر الرواية وصفاً سوى العقل (له حظٌّ من العقل) كما يُفهم منها: أنّ القاضي المذكور لم يكن منصوباً من قبل الإمام علیه السلام .

وكلمة (قاضياً) صريحة في معناها، وإن كان الذيل(نتكلّم ونتساءل) يخلق إجمالاً في الدلالة، فهو يصرف الرواية عن معنى القضاء المتعارف. لكن يمكن القول: إنّ التعارض يرتفع لو وجد ما هو صريح على رفعه.

وقد نقل الطوسي في اختيار معرفة الرجال الرواية نفسها، لكن باختلاف يسير، قال: «وهو رجل له حظٌ من عقل، يجتمع عنده، فيتكلّم ويتساءل، ثمّ يرد ذلك إليكم. قال: لا بأس»(2).

فقد تكون عبارة: (يجتمع عنده) حالاً للرجل، وقد تكون مبنية للمجهول

ص: 312


1- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج٢٧، ص١٤٧.
2- الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال: ج٢، ص٦٦٩.

بمعنى: أنّ الناس يجتمعون عنده، فيقوم هو بالكلام والمساءلة، ثمّ يردّ ما حكم به إلى أهل بيت العصمة علیهم السلام .

ولا يُتوهم ضعف الدلالة بذيل العبارة؛ حيث قال: ثمّ يرد ذلك إليكم، فقد يُقال: إنّ هذا مختص بحال الحضور، فإنّ معنى يردّه إليهم، أي: يكون وفق ما يراه الأئمة علیهم السلام من عقيدة وأحكام. فالرواية خالية من الإجمال وواضحة الدلالة.

وما ذكره السيد الحائري حفظه الله تعالى، من الإجمال، في كتابه القضاء في الفقه الإسلام(1) لا وجه له؛ حيث قال: «وأمّا من حيث الدلالة، فلئن كان صدر الحديث ظاهراً في إرادة القضاء بالمعنى المقصود لنا، فذيله وهو قوله: نجتمع عنده، فنتكلّم ونتساءل، ثمّ يرد ذلك إليكم. ظاهر في البحث العلمي والفقه؛ وبعد هذا لا أقلّ من الإجمال»(2).

نعم، ربما يُقال: يظهر من الرواية أن عروة القتات قد كان منصوباً بالنصب العام، حيث ذكرت الرواية أنهم أقعدوه قاضياً؛ لكونه عالماً فقيهاً عادلاً، فيكون مستحقاً للقضاء ومنصوباً له من قبل الإمام بالنصب العام. فلا تدل عندئذ على المشروعية لقاضي التحكيم.

لكن في المقابل، قد يُقال: إن ذلك يرتبط بما إذا شخّصنا أن ممارسة عروة القتات للقضاء كانت بعد صدور التنصيب العام من الإمام علیه السلام في الروايات التي أسست لضوابط النصب العام، بحيث كل مَن وُصف بها يكون مستحقاً للقضاء، وإلّا لو

ص: 313


1- الحائري، كاظم، القضاء في الفقه الإسلامي: ص١٥٧.
2- المصدر السابق.

كانت قبل الصدور، فلا يُستفاد ذلك، ولعل استفسار الإمام علیه السلام : بلغني أنكم أقعدتم قاضياً بالكناسة... يشعر بتقدم الحادثة على التنصيب العام.

الرواية الثانية: رواية الحلبي

عن الحلبي، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : «ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء، فيتراضيان برجل منّا، فقال: ليس هو ذاك إنّما هو الذي يُجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط»(1).

والرواية تامّة السند(2).

تقريب الاستدلال

إنّ الإمام علیه السلام قد حصر عدم الجواز فيمَن يجبر الناس بسيفه وسوطه، وهذا دليل مفهومي على جواز الرجوع لغير أولئك، وذلك الغير هو مَن كان مورد السؤال من الراوي، وهو قاضي التحكيم.

وقد يُقال: إنّ الظاهر من قوله: «ليس هو ذاك» كون الكلام مسبوقاً بكلام آخر بين المتخاطبين، لم ينقل لنا، كما لو كان قد حُذف أو سقط، ومعه يُشكل الاعتماد على الرواية.

لكن هذا الاحتمال لا مبرر له؛ إذ لا نقطع بسقوط عبارة معينة، والاحتمال

ص: 314


1- الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج٢٧، ص١٥.
2- الرواية: «عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام ...»، وكلّ رواتها من ثقات الإمامية الأجلّاء.

المذكور ليس له وجهٌ فيما لو استطعنا فهم الكلام متناسقاً فيما بين مفرداته، فإنّ الكلام مفهوم حين نتصور أن عبارة: ليس هو ذاك، أنّ المقصود من (ذاك): هو ما كان معهوداً في ذهن السائل، وأنّ الإمام علیه السلام أشار إلى ما في ذهن السامع، فكأن لسان حاله يقول: ذلك الذي تحمله في ذهنك أنّه حرام، ليس هذا المورد مثله.

هذا بالإضافة إلى إمكان جريان أصالة عدم النقيصة، فيما لو كنّا نحتمل أنّ النقصان جاء من الراوي.

فما ذكره الإمام الخميني رحمة الله لا يخلو من مناقشة.

قال رحمة الله : «وفيه: أنّ الظاهر من قوله: (ليس هو ذاك) كون الكلام مسبوقاً بسابقة بين المتخاطبين غير منقولة إلينا، ومعه يشكل الاعتماد على الإطلاق»(1).

نعم، هناك مَن أشكل في أنّ الرواية في مقام بيان أنّ هذه الحرمة غير ثابتة في الترافع لدى رجلٍ منّا، وليست هي بصدد بيان مدى جواز ونفوذ قضاء هذا الرجل، كي يتمّ الإطلاق.

أقول: هذا الكلام ليس واضحاً جداً، فإنّ الرواية يُفهم منها بوضوح إمضاء ومشروعية ذلك السنخ من القاضي المذكور في الرواية، وهو القاضي الناتج من تراضي طرفين.

فالإمام علیه السلام قد فصّل في الرواية بين ما هو معهود في الذهن من الحاكم الطاغوت، وبين مورد سؤال السائل: «فيتراضيان برجلٍ منّا». فأخبر عن حرمة المعهود في الذهن.

ص: 315


1- الخميني، روح الله، الاجتهاد والتقليد: ص٤٧.

نعم، تحريم هذا فقط لا يعني أنّه ليس ناظراً إلى جواز ما ذكره الراوي، بل بيان حرمة المعهود في طول جواز المورد المذكور من السائل، فهو سبب وداع لبيان حرمة المعهود.

الرواية الثالثة: رواية أبي بصير

ما رُوي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام :«[قال في] رجل كان بينه وبين أخٍ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلّا أن يُرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال الله :«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا»»(1)

وهذه الراوية قد رواها الشيخ الصدوق أيضاً في الفقيه، بإسناده إلى حريز(2)، وكذلك رواها الشيخ الطوسي في التهذيب(3).

وهي راوية تامّة السند(4)، وتامّة الدلالة على المطلوب أيضاً؛ فإنّ الإمام علیه السلام أطلق كلامه، ولم يُقيّد مَن يتحاكم إليه (هؤلاء) بمَن كان منصوباً ومعيّناً منه، ولم يقيّده بأيّ شرط، سوى كونه شيعياً.

ص: 316


1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج٧، ص٤١١. الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج٢٧، ص١٢.
2- الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج٣، ص٤.
3- الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج٦، ص٢٢٠.
4- رُويت بالإسناد التالي: محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن يزيد بن إسحاق، عن هارون بن حمزة الغنوي، عن حريز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله. والجميع إمامية ثقات.

وأيضاً لا يرد إشكال أنّ الإمام علیه السلام ليس في مقام البيان، من ناحية الشروط لكي يتمّ الإطلاق، فهذا جوابه شبيه بما مرَّ في الرواية السابقة.

الرواية الرابعة: المرسل النبوي

رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «مَن حكم بين اثنين تراضيا به، فلم يعدل بينهما، فعليه لعنة الله»(1). وهذا الحديث قد ورد في بعض كتب أهل السنة(2).

وكيفية الاستدلال به بأن يُقال: إنّ لهذا الكلام مفهوماً، وهو أنّ مَن لم يحكم بالعدل بينهما، فهو مذموم، وهذا الذمّ يكشف عن رتبة سابقة من الجواز.

قال الشهيد الثاني في المسالك: «ولو لم يكن لحكمه اعتبار ولزوم لما كان لهذا التهديد معنى؛ ولكان التحذير على فعله لا على عدم العدل؛ ولأنّ التهديد على عدم العدل يدل على أن العلّة عدم عدله، ولو لم يكن جائزاً كان التهديد بالأعم أوْلى»(3).

ولكن لا فائدة في هذه الدلالة مع كون الحديث مرسلاً؛ لذلك قال صاحب الجواهر: «وفيه: أنّ الاستدلال حينئذ بنحو قوله تعالى:«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ»، وغيره ممَّا ورد في الكتاب والسنة أوْلى»(4).

وبهذا يتبيّن أنّ بعض الأدلّة تامّة في دلالتها على مشروعية قاضي التحكيم.

ص: 317


1- الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج٦، ص٢٤٢.
2- اُنظر: ابن قدامة، عبد الله بن أحمد، المغني: ج١١، ص٤٨٤.
3- الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، مسالك الأفهام: ج١٣، ص٣٣٢.
4- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج ٤٠، ص٢٤.

إشكال صاحب الجواهر على أدلّة مشروعية قاضي التحكيم

يقول صاحب الجواهر: إنّ أدلّة المشروعية في فرض تماميتها، فهي محكومة لدليل أصالة عدم مشروعية القضاء، إلّا للنبي أو الوصي المستفادة من آيات قرآنية، وهذه الأدلّة تخصّص تلك المشروعية وتقيّد إطلاقاتها بفرض الإذن من الإمام علیه السلام .

قال رحمة الله : «لكن قد عرفت تقييد تلك العمومات بإذن الإمام علیه السلام ؛ لأنّ الحكومة له، ودعوى أنّ المنصب له لا خصوص الحكم في واقعة مخصوصة رضي المتنازعان فيها بحكم مَن حكّماه _ كما ترى _ منافٍ لظاهر الدليل المزبور المعتضد بقوله تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ»، وبالأمر بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله وأُولي الأمر، الذين هم الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم؛ فإنّهم أدرى باستنباطه من غيرهم»(1).

مناقشة كلام صاحب الجواهر

يمكن أن نسجّل على كلام صاحب الجواهر عدة ملاحظات، وهي:

أولاً: في بعض الآيات التي ذكرها مناقشة؛ فلا تُفيد حصر القضاء بالنبي والإمام كما في آية: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ»، فإنّها ناظرة إلى قضية خارجية قد فُرغ عن تحقّقها، وكذلك آية الرد:«فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا».

ص: 318


1- المصدر السابق: ج٤٠، ص٢٦.

ثانياً: لو سلّمنا الانحصار كما هو مفاد آية:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ »؛ حيث إنّ دلالتها تامّة على الانحصار، لكنّها ناظرة إلى السلطنة العامّة، والولاية المطلقة، فهي تنظر إلى ولاية مثل قاضي البلد، والذي تكون ولايته عامّة، وقاضي التحكيم إنّما قضاؤه في موارد ووقائع خاصّة، فهي منصرفة عنه، فهذه الآيات المانعة للقضاء إنّما عنت القضاء العام وأنّه محصور بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل البيت علیهم السلام .

ثالثاً: يمكن القول: إنّه بناءً على كون الدليل على المشروعية هو أدلّة الوفاء بالشرط أو العقد، فسوف يكون دليل قاضي التحكيم من مقولة أُخرى غير مقولة القضاء، فهو خارج تخصّصاً، وتلك الانحصارية مختصّة بمقولة القضاء.

الجهة الثالثة: شروط قاضي التحكيم

اشارة

ويقع البحث هنا في شروط قاضي التحكيم، وكيفية استفادة تلك الشروط من الأدلّة، وهل أنّ شروطه هي نفس شروط القاضي المنصوب؟

الأقوال في شروط قاضي التحكيم

يوجد ثلاثة أقوال في المسألة:

القول الأول: يُشترط فيه ما يُشترط في القاضي المنصوب، بلا فرق، فما يُشترط هناك من العدالة والاجتهاد ونحوها يُشترط هنا، باستثناء التولية والإذن من الإمام. فشرط الاجتهاد مأخوذ فيه.

ومن هنا يُقال: إنّ ذلك ينحصر بزمن الحضور؛ لأنّ افتراض ذلك في زمان

ص: 319

الغيبة غير ممكن، فإن كان الشخص مجتهداً في زمن الغيبة، فهو منصوب بالنصب والإذن العام.

القول الثاني: يُشترط فيه كلّ الشرائط التي أُخذت في القاضي المنصوب، باستثناء الاجتهاد؛ فهو ليس شرطاً، وباستثناء التولية أيضاً.

القول الثالث: لا يُشترط فيه أيّ شرط من شرائط القاضي المنصوب، إلّا الشرائط العامّة، كالبلوغ والعقل والإسلام ونحوها.

تقييم الأقوال الثلاثة

هذه هي مجمل الأقوال في المقام، وتقييم هذه الأقوال واستظهار أقواها تابع لمراجعة أدلّة مشروعية قاضي التحكيم، فلا بدّ أن نُسلّط الضوء على تلك الأدلّة؛ لنرى هل افترضت تلك الأدلّة شروطاً معينة؟ وما سنخ هذه الشروط؟

وحين الرجوع إلى الأدلّة يظهر أنّ أقوى الأقوال هو القول الثالث؛ وذلك لأنّ أدلّة المشروعية إمّا أن تكون أدلّة لزوم الوفاء بالشرط أو العقود، أو أن تكون الروايات.

أمّا أدلة الوفاء بالشروط أو العقود، فهذه الأدلّة لا تفترض سوى تحقّق الشرط، يتبعه وجوب الالتزام به، والشرط في المقام هو التراضي بالقاضي وبنفوذ حكمه، وليس هناك ما هو أكثر من ذلك، بل قلنا: إنّها ناظرة إلى النفوذ، وبالالتزام استفدنا أصل المشروعية، ونظرها إلى النفوذ خال من الإيماء إلى تلك الشروط.

ص: 320

وأمّا الروايات، فهي أيضاً لا تفترض أكثر من التراضي والشرائط العامّة، فرواية الكناسي ورواية الحلبي لا تتعرّضان لأكثر من التراضي بين الخصمين ووجود العقل عند القاضي؛ حيث عبّرت رواية الكناسي: «رجل له حظٌّ من عقل» والذي يمثّل الشرائط العامة، اللهم إلّا أن يفسر ذلك الحظ بمعنى الاجتهاد، وهو بعيد، ورواية الحلبي لم تفترض غير التراضي، بالإضافة إلى أنّ هذه الروايات لم تكن في مقام التعرّض لذكر الشرائط الخاصّة به أساساً.

وقد تعرّض لهذا المطلب الشيخ صاحب الجواهر رحمة الله ، قال: «(و) فيما ذكروه هنا من أنّه (يُشترط فيه) جميع ما يُشترط في القاضي المنصوب عن الإمام علیه السلام عدا الإذن. فيه إشكال؛ ضرورة أنّه إذا كان المدرك له الإطلاق المزبور، فليس في شيء منه إيماء إلى الشرائط المزبورة، خصوصاً مثل الكتابة والبصر ونحوهما، نعم يتّجه اعتبار ما كان دليله عامّاً لمثله من الشرائط، كالبلوغ والإسلام ونحوهما»(1).

ويوجد في بعض الطبعات سقط، وهو عبارة (فيه إشكال) قبل لفظة (ضرورة)، ومع وجود العبارة يستقيم المعنى، والمقصود من الإطلاق في كلامه هو إطلاق الروايات التي ذُكرت لمشروعية القاضي.

والقضاء بشكل عام ينصرف إلى القاضي المنصوب، والشرائط المذكورة تكون مختصّة به ولا تشمل غيره؛ فيكون قاضي التحكيم خارجاً عن موضوعها تخصّصاً.

وهكذا يتّضح أنّ القول الأوّل ليس تامّاً في نفسه؛ ومن هنا لا مانع من الالتزام

ص: 321


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج٤٠، ص٢٨.

بالقولين الآخرين، لكن في أحدهما مرتبة من الشروط، وفي القول الأخير مرتبة أخفّ منها.

وقد ذهب السيد الخوئي رحمة الله إلى القول الثاني، حسب ما يظهر من كلماته؛ حيث ينفي اشتراط الاجتهاد بالخصوص في قاضي التحكيم، قال في تكملة مباني المنهاج: «وأمّا قاضي التحكيم، فالصحيح أنّه لا يُعتبر فيه الاجتهاد، خلافاً للمشهور؛ وذلك لإطلاق عدّة من الآيات، منها قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»»(1).

ويمكن أن يرد على السيد الخوئي بما ذكره السيد الحائري في كتابه القضاء، قال: «إنّ هذه الآيات إنّما هي بصدد بيان أنّ الإنسان حينما يحكم يجب أن يكون حكمه حكماً بالعدل وبما أنزل الله، أمّا متى يحكم ولمَن يجوز الحكم؟ فليست بهذا الصدد»(2).

الجهة الرابعة: في نفوذ حكمه

وقع خلاف في نفوذ حكمه ومتى ينفذ، فهل يكون حكمه نافذاً في كل الأحوال بعد أن اختاره الخصمان ورضيا به؛ فلا يجوز أن يتراجع أحد الخصمين، أو كلاهما عن قبول الحكم، أو أنه غير ملزم؟

هناك ثلاثة أقوال:

أحدهما: أنّه لازمٌ مطلقاً، حتى لو تراجعا قبل الحكم، وهو الصحيح، كما سوف نُبيّن.

ص: 322


1- الخوئي، أبو القاسم، مباني تكملة المنهاج: ج١، ص٩.
2- الحائري، كاظم، القضاء في الفقه الإسلامي: ص١٦٢.

ثانيهما: ليس لازماً مطلقاً، بل يحقّ لهما رفض الحكم، حتى لو تراجعا فيما بعد.

ثالثهما: التفصيل بين جواز الرجوع بعد التراضي وقبل حكم الحاكم، فيحقّ لهما ذلك، وبين الرجوع بعد الحكم، فلا يجوز.

والصحيح هو الأوّل، وذلك مبنيٌّ على أدلّة النفوذ ومشروعية حكمه، فإن قلنا: إنّ الأدلّة منحصرة بأدلّة الوفاء بالشرط أو العقد. فإنّ اللزوم سيكون واضحاً.

أمّا لو قلنا: إنّ الدليل هو الروايات. فهي أيضاً تدلّ على اللزوم؛ لأنّ الإمام علیه السلام في تلك الروايات يُمضي حكم القاضي بعد تحقّق التراضي بينهما، وهذا الإمضاء يعني لزوم حكمه مطلقاً.

ولكن هناك إشكال، فقد يُقال: إنّ كلام الإمام علیه السلام في الروايات ليس له نظر إلى فرض رجوع المتخاصمين، فلا يمكن التمسّك بإطلاق كلامه.

الجهة الخامسة: في حدود ومتعلَّق حكم قاضي التحكيم

بناءً على مشروعية قاضي التحكيم ونفوذ حكمه، تصل النوبة إلى حدوده، أي: ما هو متعلّق أحكامه؟ وفي أي الموارد يكون حكمه حجة ومقبولاً؟ فنقول:

١_ يختصّ حكمه بأفعال الناس دون حقوق الله تعالى، فهو لا يحكم بإقامة الحدود وإجراء أحكام الزنا مثلاً؛ لأنّ ذلك من خصوصيات القاضي المنصوب، ويحتاج إلى ولاية عامّة من الإمام علیه السلام ، وهو خارج عن حدود ما يتراضى به الخصمان.

٢_ ليست الأفعال المختصّة بالناس على حدّ سواء، بل له أن يحكم في غير موارد

ص: 323

الأفعال التي لها سبب خاصّ، فالزواج مثلاً قد جعل الله تعالى له سبب خاصّ لتحقّقه، وهو رضا الرجل والمرأة وإجراء العقد، فليس من حقّ القاضي أن يزوّج من دون رضا الطرفين، وكذلك الطلاق فقد جعل له الشارع سبباً خاصّاً، وهو رضا الزوج، وهو مختصّ به، فلا يمكن للقاضي أن يطلّق عنه.

٣_ أن لا يكون الحكم مختصّاً بغير المدّعي والمدّعى عليه؛ لأنّ أساس ولاية القاضي هو تراضي الطرفين، وهذا التراضي مختصّ بهما، ولا يكون خارجاً عن نفسيهما.

الجهة السادسة: هل يختص قاضي التحكيم بزمان الحضور؟

هذا البحث مترتّب على الجهة الثانية، فلو كانت النتيجة أنّ شروطه هي نفس شروط القاضي المنصوب، فقد يُقال: إنّ قاضي التحكيم لا يمكن تعقّله في زمان الغيبة؛ وذلك بما ذكره الشهيد الثاني في المسالك: «واعلم أنّ الاتفاق واقع على أنّ قاضي التحكيم يُشترط فيه ما يُشترط في القاضي المنصوب من الشرائط، التي من جملتها كونه مجتهداً، وعلى هذا؛ فقاضي التحكيم مختصّ بحال حضور الإمام علیه السلام ، ليفرق بينه وبين غيره من القضاة بكون القاضي منصوباً، وهذا غير منصوب من غير الخصمين. أمّا في حال الغيبة، فسيأتي أنّ المجتهد ينفذ قضاؤه؛ لعموم الإذن، وغيره لا يصحّ حكمه مطلقاً، فلا يتصوّر حالتها قاضي التحكيم»(1).

وقال صاحب الجواهر: «وربّما احتُمل تصوّره في زمن الغيبة بالمرافعة إلى

ص: 324


1- الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، مسالك الأفهام: ج١٣، ص٣٣٣ _ ص٣٣٤.

المفضول مع وجود الأفضل؛ بناءً على اختصاص النصب له دونه»(1).

وسوف يأتي توضيح ذلك في الجهة السابعة، وهي ثمرة البحث.

وبعد هذا لا بدّ أن نبحث ما هي الثمرة من بحث قاضي التحكيم؟ وهل يمكن تصوُّر ثمرة في عصر الغيبة وزماننا هذا؟ وهذا ما تتكفل الجهة السابعة بالإجابة عنه.

الجهة السابعة: ثمرة البحث في قاضي التحكيم

يمكن تصوير الثمرة في ثلاثة موارد:

المورد الأول: بناءً على القول الثاني والثالث من ماهية شرائط قاضي التحكيم؛ حيث لا يشترط الاجتهاد فيه، أو لا يشترط أكثر من الشرائط العامّة، فإنّ الثمرة تكون واضحة؛ فيجوز لهذا القاضي أن يمارس القضاء في وقائع خاصّة ومحدودة، فالمانع مفقود والمقتضي موجود.

المورد الثاني: فيما لو فرضنا وجود مجتهد جامع للشرائط، وافترضنا أن يده مبسوطة، أي: في فرض إقامة حكومة إسلامية، كما هو الحال في إيران مثلاً، ونفترض أيضاً أنّ ممارسة القضاء من قبل المجتهدين الآخرين _ بعنوان كونهم مجتهدين _ غير جائز؛ لأنّه يؤدي مثلاً إلى الخلل في تنظيم الحياة، أو تشتت الآراء وضعف الدولة.

فهنا حيث يمتنع على المجتهد التصدي للقضاء باستثناء مَن يده مبسوطة، فيجوز عندئذٍ لقاضي التحكيم ممارسة القضاء في وقائع خاصّة بلا إشكال.

ص: 325


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج٤٠، ص٢٩.

وهذه الثمرة ربما يناقش فيها: من أنّه كيف يكون تصدّي المجتهد للقضاء يسبّب خللاً وضعفاً للدولة، بينما تصدّي قاضي التحكيم ليس كذلك؟

إلّا أننا نقول: يمكن تصوير ذلك من حيث الإمكان، فيما لو افترضنا أنّ عنوان الاجتهاد هو ملاك التضعيف، وفيه نظر.

المورد الثالث: أن نفترض صحة المبنى القائل بلزوم أن يكون المجتهد أعلم في النصب العام للقضاء، وبناءً عليه؛ فلو تصدّى الأعلم والأفضل للقضاء لا يجوز عندئذٍ أن يتصدّى غيره من المجتهدين المفضولين؛ لعدم تحقّق الشرط.

ومن هنا؛ يرتفع المانع عن قاضي التحكيم، فيجوز له أن يتصدّى للقضاء في وقائع خاصّة.

مشروعية قاضي التحكيم عند أهل السنة

قبل أن نختم البحث لا بأس بالإشارة إلى مشروعية قاضي التحكيم عند أهل السنة، فقد تعرّض صاحب الجواهر رحمة الله لآرائهم تبعاً لصاحب المسالك، وسوف أكتفي بنقل رأيهم بما قاله ابن قدامة في الشرح الكبير:

«قال الشيخ رحمة الله : وإذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء وحكّماه بينهما، جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة. وللشافعي قولان:

أحدهما: لا يلزمه حكمه إلّا بتراضيهما؛ لأنّ حكمه إنّما يلزم بالرضا به؛ فلا يكون

ص: 326

الرضا إلّا بعد المعرفة بحكمه.

ولنا ما روى أبو شريح: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال له: إنّ الله هو الحَكَم، فلِمَ تُكنّى أبا الحَكَم؟ قال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم فَرَضِيَ عليَّ الفريقان. قال: ما أحسن هذا! فمَن أكبر ولدك؟ قال: شريح. قال: فأنت أبو شريح. أخرجه النسائي.

رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وسلّم) أنّه قال: مَن حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما؛ فهو ملعون، ولولا أنّ حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم؛ ولأنّ عمر وأُبيّاً تحاكما إلى زيد، وحاكم عمر أعرابياً إلى شريح قبل أن يولّيه القضاء، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكونوا قضاة...

والثاني: ليس له ذلك؛ لأنّه يؤدّي إلى أن كلّ واحد منهما إذا رأى من الحَكَم ما لا يوافقه رجع، فبطل المقصود به.

واختلف أصحابنا فيمَن يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنّ تحكيمه يجوز في كلّ ما يتحاكم فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام. وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال خاصّة، فأمّا النكاح واللعان والقذف والقصاص، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنّ لهذه الأحكام مزية على غيرها، فاختصّ حاكم الإمام بالنظر فيها كالحدود.

وذكر صاحب المحرّر فيها روايتين ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين»(1).

ص: 327


1- ابن قدامة، عبد الرحمن، الشرح الكبير: ج١١، ص٣٩٢ _ ص٣٩٣.

وقد علّق صاحب الجواهر على استدلالاتهم، قائلاً: «... إلى غير ذلك ممّا ذكروه في كتبهم، ممّا هو مبني على استحسان، أو قياس، أو مصالح مرسلة، أو رواية غير ثابتة عندنا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : مَن حكم بين اثنين، فتراضيا به، فلم يعدل فعليه لعنة الله تعالى»(1).

خاتمة البحث

يمكن تلخيص نتائج البحث بما يلي:

* قاضي التحكيم لغةً واصطلاحاً: هو مَن يجعله المتخاصمان حكماً بينهما، ويرضيان بحكمه.

* يمكن أن يستدلّ على مشروعيته بعدّة أدلّة، منها: الكتاب الكريم، والإجماع، وسيرة العقلاء، وأدلّة الأمر بالمعروف، وأدّلة الوفاء بالشروط والعقود، بالإضافة إلى الروايات الواردة في هذا الصدد.

* من بين تلك الأدلّة ما هو تام الدلالة على المشروعية، كأدلّة الوفاء بالشروط، وبعض الروايات الصحيحة.

* شروط قاضي التحكيم ليست هي نفس شروط القاضي المنصوب، بل لم يقم الدليل على ذلك، نعم يشترط فيه معرفة الإحكام الشرعية ولو عن تقليد، وكذلك يُشترط فيه الشرائط العامّة، من البلوغ والعقل والإسلام.

ص: 328


1- الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج٤٠، ص٢٥.

* بالنسبة إلى نفوذ حكمه، فهو نافذ على الخصمين حتى لو تراجعا عن قبوله فيما بعد.

* بالنسبة إلى حدوده، فإنّ حكمه مختصّ بأفعال الناس دون حقوق الله تعالى، وكذلك مختصّ بما كان سببه غير خاصّ، فلا يشمل الموارد التي لها سببٌ خاصّ من الشارع، كالطلاق والزواج ونحوها. وكذلك مختصّ بما يكون في دائرة المتخاصمين فلا يتعدّى إلى غيرهما.

* يمكن تصوُّر ثمرة للبحث في موارد متعدّدة مرَّ ذكرها، فلا يختصّ نفعه بزمان الحضور فقط.

ص: 329

ص: 330

المصطلح واستخدامه في غير معناه عند الأصوليين(المسوِّغات والمشاكل)الشيخ صباح عباس الساعدي

تقديم

تعارف بين العلماء في جميع الفنون والتصانيف بأن تكون لهم اصطلاحات خاصة، يستعملونها في العلوم التي تخصَّصوا بها.. وهذه العمليّة معروفة ومتداولة عند الجميع، وفي كافة العلوم، فكل علم له مصطلحات خاصة به يتعاهدها أهل الفن في ذلك العلم، بحيث إذا أُطلق بينهم لفظ من الألفاظ _ التي اتفقوا على إرادة معنى خاص منها _ انصرفت أذهانهم إلى المعنى المراد عندهم فقط، من دون حاجة إلى ذكر ما يدل على ذلك، ولا يفهمون منه معنىً آخر دلَّت عليه اللغة أو استُعمل في علم من العلوم الأُخرى.

وكل مَن أراد أن يدرس علماً من العلوم يتحتَّم عليه _ أولاً _ أن يعرف

ص: 331

المصطلحات الخاصّة بذلك العلم، أو ما يُعبَّر عنها ب_: (المصطلحات التخصّصيّة للعلم)، ومن ثَمَّ يحقّ له أن يحكم على ذلك العلم، وهذا أمر لا إشكال فيه إذا توافرت فيه شروطه، والكل يقبله ويتَّبعه أيضاً.

ويوجد نوع آخر من الاستخدام والاصطلاح عند بعض العلماء، وهو أن تكون لعالم من العلماء مصطلحاته الخاصّة به، بحيث يستعمل لفظاً من الألفاظ المعهودة في معنى معين، ولكنه يريد منه معنى آخر، أو يستعمل ويطبِّق مصطلحاً من المصطلحات على معنى من المعاني الخاصة، وهذا ما يُعبّر عنه بالاصطلاحات الخاصة بالعالم أو الكاتب، وبتعبير أفضل، تسميته ب_: (استعمال المصطلح في معنى آخر).

وكلامنا _ في مقالنا هذا _ ينصبّ على النوع الثاني من الاصطلاح، وليس غرضنا في هذا المقال الحكم على هذه العمليّة بالصحة أو الفساد، وإنما المهم عندنا هو معرفة المبرّر والمسوّغ لهكذا استعمال، وكيفية التعرف على هذه العمليّة، وبيان المشاكل والتبعات التي تُخلِّفها في العلم.

معنى الاصطلاح لغةً واصطلاحاً

لا نُبَعِّد المسافةَ على القارئ بالكلام عن جميع الجوانب _ وهي كثيرة(1) _ المرتبطة بالاصطلاح، والتي نكون في غنىً عنها في هذا المقال، ولكن نذكر كلام أئمة اللغة

ص: 332


1- ويكفي لإثبات هذه الدعوى أن يطالع القارئ ما كتبه الدكتور عبد الله البشير حول المصطلح؛ إذ إنه استوعب أغلب المطالب لا جميعها. ومع ذلك، فإنه ذكر كثيراً منها، ومما ذكره في هذا الكتاب مبحثاً كاملاً تحت عنوان (اهتمام العلماء بتصنيف المصطلحات ودراستها وبيان معانيها). اُنظر: البشير، عبد الله، المصطلحات الأُصولية في مباحث الأحكام وعلاقتها بالفكر الأصولي: ص٩٩.

وأهل الفنّ حول حقيقته ومعناه، وبعض المطالب التي نحتاجها في المقام، ومن بعد ذلك ندخل في صلب الموضوع مباشرة.

يفهم من الكتب اللغوية أن الاصطلاح يأتي بمعنى المصالحة والتصالح، وهذان اللفظان معناهما الاتفاق والتوافق(1).

وأما التعاريف التخصّصيّة _ التي ذكرها المحققون وأهل الاصطلاح _ للفظة المصطلح، فهي كالتالي:

ذكر الجرجاني في كتابه (التعريفات) عدّة تعاريف للاصطلاح، فقال: «الاصطلاح: عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما، يُنقل عن موضعه الأوّل، وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر؛ لمناسبةٍ بينهما.

وقيل: الاصطلاح: اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى.

وقيل: الاصطلاح: إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر؛ لبيان المراد.

وقيل: الاصطلاح: لفظ معيّن بين قوم معيّنين»(2).

ونُقل عن فيلبر أنّه عرّف المصطلح بقوله: «الرمز اللغوي المحدِّد لمفهوم واحدٍ»(3).

وقال الدكتور وليد سَراج: «... لفظ علميّ يؤدي المعنى بوضوح ودقّة، ويعبّر

ص: 333


1- اُنظر: الجوهري، الصحاح: ج١، ص٣٨٤. ابن منظور، لسان العرب: ج٢، ص٥١٧.
2- الجرجاني، علي بن محمّد، التعريفات: ص٨.
3- نقلاً عن مقالة: (في المصطلح العربي، قراءة في شروطه وتوحيده) أ. د. علي توفيق الحمد. من شبكة المنشورات الإلكترونية (الإنترنيت) موقع (صوت العربية).

عن اتفاق طائفة على شيء مخصوص...»(1).

وعرّفه الدكتور علي توفيق الحمد بقوله: «أما المصطلح: فرمز لغويّ محدّد لمفهوم معيّن، أي: إنّ معناه هو المفهوم الذي يدلّ عليه هذا المصطلح، وتعتمد درجة وضوح معناه على دقّة موضع المفهوم، ضمن نظام المفاهيم ذات العلاقة»(2).

وعرّفَتْه إحدى الباحثات بقولها: «المصطلح العلميّ: هو اللفظ الذي يتفق عليه العلماء، على اختلاف مشاربهم وتعدد اختصاصاتهم؛ ليدلّوا به على شيءٍ محدد، ويميّزوا به مفاهيم الأشياء، ويدركوا مستويات الفكر...»(3).

والذي نلمحه _ بوضوح _ في التعريفات المتقدمة أن الاتفاق على المصطلح شيء مهم وأساسي، بحيث لا يتحقق مصطلح من دون تحقق اتفاق عليه.

لكن الدكتور عبد الله البشير اختلف مع المشهور في هذا الشرط، وتفرَّد بذكر تعريف _ مفارق للتعريفات المتقدمة للاصطلاح _ لا يحتوي على اشتراط الاتفاق عليه من قبل جماعة، فقد عرّفه بقوله: «فالأضبط أن يعرَّف، فيقال: هو استقرار تخصيص لفظ أو ألفاظ لمعنى أو لمعانٍ معينة...»(4).

ورأيه هذا غريب؛ فهو مخالف لمعنى الاصطلاح اللغويّ والفنِّي؛ لأن التعريفات

ص: 334


1- د. سراج، وليد، اللغة العربية والاصطلاح العلمي.
2- د. الحمد، علي توفيق، في المصطلح العربي (قراءة في شروطه وتوحيده).
3- د. القنيعير، حسناء عبد العزيز، المصطلح العلمي العربي قراءة في تجربة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية والهيئة العربية السعودية.
4- د. البشير، عبد الله، المصطلحات الأصولية في مباحث الأحكام وعلاقتها بالفكر الأصولي: ص١٦.

والمصطلحات ليست شيئاً بسيطاً يمكن لكل أحد أن يتصرف به، اللهم إلّا إذا كان مقصوده من هذا التعريف توسيع معنى المصطلح تسامحاً، فهو يبغي أن يُدخل بعض الحالات التي يقوم بها بعض العلماء، من استخدام مصطلح في غير معناه، فيريد أن يقول: إنّ هذه العمليّة ترجع إلى الاصطلاح وتدخل تحت معناه.

شروط رواج الاصطلاح ونجاحه

لقد ذكر العلماء والباحثون شروطاً للمصطلح، عند تواجدها في عمليّة استخدام اللفظ في معنى، يتولَّد لدينا اصطلاح ناجح ومقبول، ويكون مرغوباً فيه ومحبباً لدى الآخرين، فيتحتّم على العلماء أن يراعوها في عمليّة وضع الألفاظ للمعاني التي يريدون الاصطلاح عليها، ومن جملة الشروط:

١_ أن يكون المصطلح واضحاً، سهل التلفُّظ، وبسيط الإدراك والفهم عند الجميع.

٢_ أن يكون موجزاً ومختصراً.

٣_ أن تكون هناك علاقة بينه وبين المعنى الذي تمّ اختياره له.

٤_ ألّا يكون مبهماً أو مشابهاً لمصطلح آخر؛ بحيث يوجب الخلط عند القارئ.

ولننقل عبارةً _ عن بعض الباحثين حول المصطلح _ تحمل جميع الشروط المتقدمة، نوثّق بها ما ذكرنا:

ص: 335

قال الدكتور علي توفيق الحمد: «... وقد حدّد علماء المصطلح جملة من الشروط الواجب توافرها في المصطلح المفضّل المقبول، فذكروا أنّ المصطلحات المتّفق عليها يجب أن تكون واضحة، دقيقة، موجزة، سهلة النطق، وأن يشكّل المصطلح الواحد منها جزءاً من نظام مجموعة من المصطلحات، ترمز إلى مجموعة معينة مترابطة من المفاهيم، وعدّوا هذه السمات متطلبات عامّة، يجب أن تتوافر في المصطلح المتّفق عليه... وألّا يلتبس هذا المصطلح بأيّ مصطلح آخر؛ إذ إنّ التفاهم يكون ممكناً فقط (غير ملتبس) عندما يقتصر مصطلح واحد على مفهوم واحد، وبالعكس...»(1).

ومن أهم الشروط التي يجب أن تُراعى في مسألة الاصطلاح _ كما تقدمت الإشارة إليه _ هو أن يحصل اتّفاق بين العلماء الذين يشكّلون الثقل الأكبر في الساحة العلميّة على صحة هذا الاصطلاح ونجاحه، وفي صورة عدم اتفاقهم أو عدم اطلاعهم عليه لا تتحقق الفائدة المرجوة من المصطلح، ويذهب التعب والعناء الذي بذله الواضع أدراج الرياح.

قال الدكتور إبراهيم كايد محمود: «... وقد رأوا أنه لا بد من اتّفاق مجموعة من العلماء عليه... حتى يكون واضح المعنى، محدد الدلالة، مؤدياً الغرض المراد...»(2).

وقال في موضع آخر من بحثه: «ولم تكن عمليّة الاصطلاح هذه مقصورة على شخص بعينه، بل كانت اتّفاقاً بين اثنين أو أكثر»(3).

ص: 336


1- د. الحمد، علي توفيق، في المصطلح العربي (قراءة في شروطه وتوحيده)، (نقلاً عن فيلبر).
2- د. إبراهيم كايد محمود، المصطلح ومشكلات تحقيقه.
3- المصدر السابق.

شروط الشخص المُصطلِح

هناك بعض الشروط للشخص الذي تكون لديه صلاحيّة تَسَنُّم هذا المنصب المهم والخطير، ولنعبّر عنه ب_: (الشخص المُصطَلِح) الذي يختار ألفاظاً خاصّة لمعانٍ معيّنة، وهي:

١_ أن يكون دقيقاً في اختيار الألفاظ المناسبة.

٢_ أن يكون لديه إلمام بجميع جوانب العلم الذي يريد أن يضع ألفاظاً لمفاهيمه.

٣_ أن يكون مطّلعاً على اللغة وأسرارها.

وتجمع هذه الشروط _ كلها _ عبارةٌ ذكرها الدكتور إبراهيم كايد محمود: «إن عمليّة الاصطلاح ليست عمليّة سهلة يمكن أن يقوم بها كل من أراد ذلك، فعمليّة وضع المصطلح يمكن أن يُعبَّرَ عنها بأنها: عمليّة وضع لغة علميّة تتطلب الكثير من الدقّة والوضوح، خاليّة من كل لبس أو خفاء، بعيدة _ كل البعد _ عن الاحتماليّة؛ لذا يجب على كل من نَصَّبَ نفسه للإسهام في بناء اللغة العلميّة أن يكون متخصّصاً في أحد فروع المعرفة، متمكناً من تخصّصه، عالماً بكل دقائقه وخفاياه، كما يجب أن يكون صاحب خبرات متعددة واطّلاع واسع، متقناً للغته الأُم إتقاناً تاماً، مُلِمَّاً بكل أساليبها، عارفاً بكل قواعدها وقوانينها؛ حتى يتمكن من التصرف في ألفاظها وتراكيبها بسهولة ويُسر، وتكون لديه القدرة على اختيار أنسب الألفاظ التي تدل على المفهوم المراد دلالة واضحة دقيقة محددة، وتحدد كل أبعاده واحتمالاته؛ حتى يكون بعيداً عن اللبس المؤدي إلى الاجتهاد والتأويل؛ إذ لا مجال لمثل هذا في المصطلح الذي

ص: 337

يجب أن يكون قوي الدلالة واضحها، محدد الأبعاد...»(1).

ظاهرة استعمال المصطلح في غير معناه

بعد هذه الإطلالة السريعة على المصطلح وشروطه، يتبين لنا أنّ ما يقوم به بعض العلماء من استعمال للمصطلحات في معاني خاصة بهم، لا يمكن أن نسميها اصطلاحاً خاصّاً، وأنها ليست قسماً في قبال المصطلح التخصّصي، وإنما هي استخدام للمصطلح في غير معناه، وما يقوم به بعضهم لتبرير ودفع الإشكالات عمّن يستخدم لفظاً له معناه المعروف بين العلماء في معنى خاصّ به فقط، فيقول: إن هذا مصطلح خاص به. غير صحيح، بل الأفضل له أن يقول: إنه استخدم المصطلح في غير معناه لغرض وهدف يروم إليه.

وهذا الأُسلوب ليس فيه خلل في نفسه، وإنما الخلل والمشكلة من جهة أن بعضهم لم يُشر إلى ما يقصده من معنى بهذا اللفظ؛ لكي لا يحصل الخلط واللبس عند القارئ عندما يمرّ على حالة كهذه.

إلّا أنه قد تقدم في التعريفات أن بعض الكُتَّاب حاول أن يُدخل هذه الاستعمالات في معنى ومفهوم الاصطلاح المتقدم، فقال: «بل التحقيق جواز إطلاق الاصطلاح على التخصيص مطلقاً، ولا يشترط لاستقراره توارد الاتّفاق عليه؛ إذ قد يكون في جماعة محصورة، أو شخص اعتباري ذي منهج فكري منضبط... ومن شواهد ذلك جواز إطلاق الاصطلاح على تخصيص الشارع»(2).

ص: 338


1- المصدر السابق.
2- د. البشير، عبد الله، المصطلحات الأُصولية في مباحث الأحكام وعلاقتها بالفكر الأصولي: ص١٦.

والنتيجة المترتبة على هذا الرأي: أن كل شخص من العلماء إذا كان له منهج فكري منضبط، يحقّ له أن يستعمل ألفاظاً يختصّ بها، ويكوّن مصطلحاته الخاصّة، وعندئذٍ تحصل مشكلة كبيرة، بل يترتب على هذه النتيجة جميع ما سوف يأتي من مشاكل، ولا أتوقع أنّ أحداً من العلماء يرضى بذلك.

استخدام المصطلح في غير معناه عند الأُصوليين

بما أننا نحتاج إلى المصطلح لنعبِّر به عن شيء جديد ليس له اسم في العلم الذي يتخصص به العالم؛ فلا يحقّ لأحد أن يتلاعب بالألفاظ متى يشاء، بل هناك حدود وضوابط يجب مراعاتها في عمليّة وضع المصطلحات كما تقدّم.

ومن هنا يأتي السؤال التالي: لماذا نلاحظ أن بعض علمائنا الكبار يحاول توظيف المصطلحات في غير معانيها المعهودة؛ ليُعبِّر بها عن مقصوده ومراده؟ كما سوف يأتي ذلك في استعمال المشهور وإطلاقهم مصطلح الحكم الشرعي على الدليل والخطاب نفسه(1)، أو استخدام المحقق الخراساني مصطلح العرَض والعرَضي في غير معناهما(2)، فما هو المسوّغ لهذا التكلّف؟

ولنترك الإجابة عن هذا السؤال إلى العنوان التالي، والذي نتعرض فيه لمسوّغات هذه الظاهرة، وعند ذلك يتبين لنا السرّ الذي دعاهم إلى ذلك.

ص: 339


1- سوف تأتي الإشارة إليه في البحث عن المشاكل المترتبة على هذه الظاهرة.
2- اُنظر: الآخوند الخرساني، كفاية الأصول: ص ٣٩.

مسوِّغات استخدام المصطلح في غير معناه

هناك مجموعة من الأسباب دعت العلماء إلى استعمال المصطلح في معانٍ أُخرى:

فمنها: ضيق الألفاظ التي يعبِّر بها عن مراده، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن بعض العلماء لم تكن اللغة التي يكتب بها لغته الأُم؛ فيواجه مشكلة في التعبير عن مقصوده، فيلتجئ إلى المصطلحات التي تُشابه في معناها المصطلح الذي غاب عن ذهنه، ويكون الأمر واضحاً فيما لو كان استخدام المصطلح وارداً في المؤلَّفات التي قُررتْ لدروس علمائنا الأعلام.

ومنها: تقريب الفكرة التي يصعب بيانها من دون التوسل ببعض المفاهيم المعهودة عند القرَّاء.

ومنها: الهروب مما يحمله مصطلح المعنى الذي استعار له مصطلحاً آخر، من مشاكل في أذهان القرَّاء والمتخصصين، كقبح ما يحمله مصطلح القياس من معنى عند الفقهاء والأُصوليين من الشيعة؛ فيلتجئ الكاتب إلى مصطلح مقارب له ليعبر عن فكرته(1).

مشاكل استخدام المصطلح في غير معناه

لقد اتّضح لنا أن تسمية الاستعمالات الخاصّة _ التي يقوم بها بعض علمائنا _ بالاصطلاحات الخاصّة أمر فيه تسامح كثير، فلا وجود للمصطلح الخاص أصلاً؛

ص: 340


1- اُنظر: الصدر، محمد باقر، المعالم الجديدة: هامش ص ١١٠.

لعدم توفر أهم شروط المصطلح فيه، وهو اتّفاق مجموعة من العلماء عليه، فالأفضل أن نعبّر عن هذه العمليّة ب_ (استخدام المصطلح في غير معناه)، وهذه العملية إذا لم تُراعَ فيها الضوابط المطلوبة، سوف تؤدي إلى كثير من المشاكل العلميّة، ومن تلك المشاكل:

أولاً: تأخير عجلة السير العلميّ؛ باعتبار أن القارئ يحتاج إلى فهم المصطلح الخاص بهذا المؤلف، ووجه العلاقة والشبه بينه وبين معناه الأصيل، وهذا الأمر لا فائدة منه بمقدار ما هو عائق عن فهم أصل المطلب الذي يريد القارئ أن يتوصل إليه.

وكمثال على هذا الأمر نذكر ما استخدمه بعض علمائنا الأعلام من مصطلح في غير معناه:

فقد عبَّر المحقق الخراساني _ في كفايته _ عن المعنى الحرفي بالكلي العقل(1)، وهذا الأخير مصطلح له معناه الخاص بين العلماء، وليس المعنى الحرفي من مصاديقه وصغرياته، بل يحتاج توظيفه للدلالة على المعنى الحرفي إلى عناية كبيرة، وهذا العمل منه رحمة الله أجبر الشرَّاح والأساتذة على أن يبيّنوا هذا المصطلح بدايةً، وبعد ذلك يقومون ببيان العلاقة ووجه الشبه بين المعنى الحرفي والكلي العقل(2)، والأمر الذي سوَّغ له

ص: 341


1- قال رحمة الله : «مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها؛ حيث لا موطن له إلا الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد وإلغاء الخصوصية...». الآخوند، كفاية الأُصول: ص١١.
2- قال الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي رحمة الله : «لا يخفى أن الاصطلاح في الكلي العقلي: هو المعنى المتقيد بالكلية، لا كل معنى تقيَّد بأمر ذهني هو كلي عقلي، ولكن الماتن جعل كل متقيد بالذهنية كلياً عقلياً». بداية الوصول في شرح كفاية الأُصول: ج١، شرح ص٣٢. وقال الشيخ علي الغروي الإيرواني: «... ليس كل ما لا موطن له إلا العقل كمفهوم العلم والإرادة _ وكذا كل ما قيد باللحاظ من المفاهيم _ كلياً عقلياً؛ فإن الكلي العقلي إنما هو المفهوم بوصف الكلية الذي لا موطن له إلا العقل وهو _ مع ذلك _ جزئي ذهني، فكل كلي عقلي جزئي ذهني ولا عكس، فإن زيداً الذهني _ أعني الصورة الشخصية الحاصلة منه في الذهن _ جزئي ذهني وليس كلياً عقلياً، وكذلك المعاني الحرفية _ إذا قيل بوضعها لجزئيات الصور الذهنية وأشخاص الروابط الحاصلة في النفس بتبع تصور المتعلقات _ جزئيات ذهنية لا كليات عقلية، (نعم) لا تصدق على كثيرين بعين ملاك عدم صدق الكلي العقلي، ولعل المراد من العبارة أيضاً ذلك، أي: يمتنع صدق المعنى الحرفي على الخارج بعين وجه امتناع صدق الكلي العقلي عليه...». الغروي الإيرواني، علي، نهاية النهاية: ج١، ص١٢.

استعمال مصطلح كهذا في هذا المكان؛ مما زاد هذه المطالب الدقيقة والمعقدة تعقيداً كثيراً، خصوصاً وأن بعض المعلقين على الكفاية أشكل على هذا الاستعمال وتعمّق في بيان إشكاله(1).

ثانياً: الوقوع في النزاعات اللفظيّة؛ حيث ينجرّ البحث في ذلك إلى الأخذ والردّ من دون فائدة، بل لا يجانب الحقيقة مَن يقول: بأن النزاع اللفظي مضرّ بالباحث والبحث العلميّ؛ حيث تُهدَر الطاقات والأعمار في نقاش مطالبٍ ليست مرادة، وإنما يتوهمها القارئ؛ نتيجةً لاستخدام المصطلحات في غير معانيها المتعارفة.

ولعل من أبرز ما يُذكر شاهداً على هذا الكلام هو إطلاق مصطلح الحكم الشرعي على الدليل نفسه؛ حيث عرَّف بعض علمائنا القدامى الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتخيير.

وقد ناقش هذا التعريفَ الكبارُ من علمائنا _ بالإشكالات الكثيرة والدقيقة _ وجاؤوا ببديل له يُغنينا عن الاستعمال الأول(2)، ويخلِّصنا من المشاكل التي يحملها.

ص: 342


1- اُنظر: الحكيم، محسن، حقائق الأُصول: ج١، شرح ص٢٦. والفيروزآبادي، عناية الأُصول في شرح كفاية الأُصول: ج١، ص٢٦.
2- اُنظر: الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأُصول: ج١، ص٥٢.

بَيْدَ أن هناك مَن دافع عن تعريف المشهور، وبيَّن أن الحكم الشرعي بهذا المعنى مصطلح خاص يُطلق ويُراد منه خصوص الخطاب الشرعي، ويُطلق أيضاً على معنى آخر غيره(1)، فهو مصطلح خاص بهم، لا يحقّ لأحد أن يُشكل عليه؛ لأن المصطلح واللفظ لا نقاش فيه(2).

ثالثاً: حصول سوء في فهم المطالب لدى القُرّاء؛ لأن كثرة المطالب التي يواجهها القارئ _ وخصوصاً أن بعضها لم تُستعمل مصطلحاتها في معناها _ يجرُّ إلى الإرباك في أصل المطلب، فيبقى غير واضح، أو يُفهم على غير وجهه الصحيح؛ لما يحمله المطلب من مصطلحات تغطيها الضبابية.

ونُضيف للقارئ شاهداً تقدمت الإشارة إليه، وهو قول الآخوند الخراساني _ في إحدى مسائل المشتق _: «ثم إنه لا يبعد أن يُراد بالمشتق _ في محل النزاع _ مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذات، ومنتزَعاً عنها، بملاحظة اتّصافها بعَرَض أو عَرَضي ولو كان جامداً... »(3).

فإن هذا المطلب _ بالإضافة إلى صعوبته وتعقيد المراد منه _ احتوى على مصطلحين صارا محطّ أنظار المعلِّقِين والشرَّاح لهذا الكتاب، فالمحقق الأصفهاني

ص: 343


1- قال الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي رحمة الله : «والوجه في ذلك أن الحكم قد يُطلق ويُراد به خصوص المجعول الاقتضائي والتخييري... وقد يُطلق الحكم ويُراد به ما يُؤخذ من الشارع...». بداية الوصول في شرح كفاية الأُصول: ج٨، شرح ص٥٩.
2- لقد سجَّل بعض أساتذتنا (حفظه الله تعالى) في درسه هذا الإشكال على مَن اعترض على التعريف المتقدم، وذكر التوجيه الذي بيَّناه فيما تقدم.
3- الآخوند، كفاية الأُصول: ص٣٩.

يرى أن المراد منهما غير معناهما المعروف(1)، بينما رأى بعض العلماء أن المراد منهما نفس المعنى المتعارف عند المنطقيين والفلاسفة، فاكتفى بذكر الأمثلة المعهودة لهذين المصطلحين(2)، وعندما يجد القارئ هذه الرؤى المتفارقة يفقد توازنه الإدراكي تجاه هذا الكمِّ المتلاطم من المعلومات في هذا المطلب المختصر؛ فيبقى أصل المطلب غير مفهوم، أو مفهوماً بالفهم الخاطئ.

رابعاً: تَنَفُّر القارئ وابتعاده عن الدراسات والكتب التي تنتمي إلى الكاتب الذي يستخدم هذه الطريقة، وهذا أمر طبيعي ناتج عمّا يحمله الإنسان بالفطرة، من ابتعاده عمّا يوجب المتاعب، وحبه للراحة؛ فنلاحظ أن ابتعاد الطلاب عن المطالب الدقيقة والصعبة قد صار مشكلة جادة وحسّاسة، وإذا ضممنا إلى جانبها استخدام المصطلحات في غير معناها فسوف يزيد الطين بلَّة.

ص: 344


1- علَّق المحقق الأصفهاني على هذه العبارة بقوله: «... إلا أن حمله مقابلاً للعَرَض قرينة على عدم إرادة العَرَض المقابل للذاتي في كتاب الكليات، لكن لا يخفى أن العَرَض تارة في قبال العَرَضي، كالأبيض بالنسبة إلى البياض، وهذا غير مراد قطعاً؛ إذ لا يُعقل مبدئيّة الأبيض، وأُخرى في قبال الذاتي في كتاب الكليات، وهو لا يُقابل العَرَض، بل العرض بأقسامه داخل في العَرَض، وثالثة في قبال الذاتي في كتاب البرهان، وحيث إن مقسمه الأمر الانتزاعي فيقابل العرض المتأصل لا العرض الذي نحو وجوده بوجود موضوعة كمقولة الإضافة...». نهاية الدراية في شرح الكفاية: ج١، هامش١، ص١١٥. وقال السيد الحكيم في حقائقه: ج١، شرح ص٩٧: «قوله: بعرض أو عرضي. الظاهر من العَرَض الحال مقابل الجوهر كالبياض، ومن العَرضي المشتق منه كالأبيض والأسود؛ إذ الفرق بينهما كالفرق بين المشتق ومبدئه، لكن عليه لا يُناسب جعله في قبال العَرَض، بل يكون المشتق هو العَرضي، وكأن المصنف رحمة الله يريد من الأول العَرَض الحقيقي ومن الثاني الاعتباري بقرينة ما بعده».
2- اُنظر: الروحاني، زبدة الأُصول: ج٢، ص٢٧٣. والفيروزابادي، عناية الأُصول في شرح كفاية الأُصول: ج١، ص١١٩.

نماذج مُثلى لاستخدام المصطلح في غير معناه

ما تقدم من كلام حول استعمال المصطلح في غير معناه لا يعني أن هذه الطريقة خاطئة تماماً، بل يمكن لنا توظيف المصطلحات في معانٍ أُخرى لأغراض مختلفة، ولكن شريطة إيضاح المقصود منها، وإليك بعض الاستعمالات كنموذج للاستخدام الصحيح:

استعمل السيد الشهيد الصدر قدِّسَ سِرُّه كلمة البرهان في غير معناها، ولكنه علّق عليها بمراده، وذكر السبب الذي دعاه إلى هذا الشيء.

قال رحمة الله في الهامش _ تعليقاً على قوله: الدليل البرهاني _: «لا نريد بكلمة البرهان مصطلحها المنطقي، بل نريد بها الطريقة القياسيّة في الاستدلال، غير أنّا تحاشينا عن استخدام كلمة القياس بدلاً عن كلمة البرهان؛ لأن لها معنى في المصطلح الأُصولي يختلف عن مدلولها المنطقي الذي نريده هنا»(1).

وقد كرّر هذا الأُسلوب الناجح مرة أُخرى في بحوثه أيضاً، عندما أطلق مصطلح الفعليّة على معنى خاص يقصده، فجاء بعد ذلك ووضّح مقصوده من هذا المصطلح، فقال قدِّسَ سِرُّه: «... وثالثاً _ الحل _ بأن هذا الاعتراض نشأ من تصورات مدرسة المحقق النائيني قدِّسَ سِرُّه من أن فعليّة المجعول أمر يتحقق وراء مرحلة الجعل، وأن المُنجّز عقلاً إنما هو إحراز المجعول الفعلي، مع أنه قد تقدم أنه لا واقع حقيقي وراء الجعل، وأن مرحلة فعليّة المجعول مرحلة وهميّة تصوريّة، تنشأ من ملاحظة الجعل بمنظار

ص: 345


1- الصدر، محمد باقر، المعالم الجديدة: هامش ص١١٠.

الحمل الأوّلي، وأن التنجيز يكفي فيه إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط؛ لأن وصول الكبرى والصغرى معاً كافٍ لحكم العقل بوجوب الامتثال...»(1).

فإن هذه العبارة التي سجّلها تصدع بمبناه ومراده من مرحلة الفعليّة، وهي أن الفعليّة عنده عبارة عن مرحلة الجعل والاعتبار من قِبل المشرّع بالإضافة إلى توفر شروط التكليف، وهذا الشيء في رأيه قدِّسَ سِرُّه ليس مرحلة رابعة للحكم.

ولا يبقى خافياً علينا موقف المحقق الأصفهاني والميرزا النائيني  في هذه المبادرة الجيدة أيضاً؛ حيث إنهما سبقا الشهيد الصدر في التصريح بما يقصدان من مصطلح الفعليّة.

قال المحقق الإصفهاني قدِّسَ سِرُّه _ بعد أن بيّن المقصود من الفعليّة عند المحقق الخراساني قدِّسَ سِرُّه _: «... وسيجيء _ إن شاء الله تعالى _ ما عندنا، من أن المراد بالفعلي ما هو الفعلي من قِبل المولى، لا الفعلي بقول مطلق...»(2).

وقال الميرزا النائيني رحمة الله : «قد عرفت _ في مبحث الواجب المشروط _ أن فعليّة الحكم في القضايا الحقيقيّة مشروطة بوجود موضوعه خارجاً، ويستحيل تخلفها عنه...»(3).

ولعل هذا التصريح من الميرزا النائيني قدِّسَ سِرُّه هو الذي دعا السيد الشهيد إلى التصريح بمراده من هذا المصطلح؛ فيكون تصريحه لخصوصيّة هذا المصطلح الذي وقع الخلاف في معناه.

ص: 346


1- الصدر، محمد باقر، بحوث في علم الأُصول: ج٦، ص٢٩٠.
2- الأصفهاني، نهاية الدراية في شرح الكفاية: ج٢، ص٣٩.
3- الخوئي، أبو القاسم، أجود التقريرات (تقرير بحث النائيني): ج١، ص٢٠٩.

وبتعبير أوضح: إن تصريحه رحمة الله كان الهدف الأساسي منه هو بيان المشكلة في كلام الميرزا في هذا المطلب والمطالب الأُخرى، وبما أن هذه المشكلة ناشئة من مبناه في مراتب الحكم أُجبِر على توضيحه وإبداء رأيه فيه.

ولكن مع هذه الخصوصيّة تبقى مبادرته _ كمبادرة مَن سبقه من العلماء بالتصريح _ مشكورة، ويبقى موقفه نموذجاً للاستعمال الخالي عن المشاكل المتقدمة، والتي وقع فيها الكثير من الأشخاص الذين أهملوا الإشارة إلى مقصودهم من الاصطلاح في استعمالاتهم، فمع أن بإمكانه رحمة الله أن يكتفي بالتعليق على كلام الميرزا بأنه غير صحيح عندي، ويترك التصريح برأيه حول معنى الفعليّة _ كما هي طريقة وأُسلوب كثير من علمائنا _ وعند ذلك يصبح مصطلح الفعليّة غير واضح لدينا، إلَّا أنه وضح مراده ثم أشكل على كلام الميرزا.

وهناك نماذج أخرى تنفعنا في هذا المجال تركناها رعاية للاختصار.

وفي نهاية هذا المقال نودّ أن نشير إلى أن هذه الجوانب التي تطرّقنا إليها في مقالنا غير مختصة بعلمائنا وكتّابنا، بل هي عامّة في جميع المدارس الإسلامية، كما أن الدراسات قد تعددت من قِبل الباحثين حول المصطلح، وعن القضايا المترتبة عليه الإيجابية منها والسلبية(1)، والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 347


1- اُنظر: د. البشير، عبد الله، المصطلحات الأُصولية في مباحث الأحكام وعلاقتها بالفكر الأُصولي؛ فإنه استوعب الجوانب في هذا الكتاب، كما أنه تطرق للدراسات التي دارت حول المصطلح. هذا بالإضافة إلى المقالات التي نشرت على المواقع في الأنترنت، كموقع (صوت العربية).

ص: 348

الهدف من الخلق قراءة في فكرالشهيدين مرتضى مطهري ومحمد باقر الصدرالشيخ حيدر خماس الساعدي

المقدِّمة

يُعدُّ السؤال عن الهدف من الخلق أحد أهمّ الأسئلة التي شغلت الفكر البشري منذ أمد بعيد، وهو سؤال كثيراً ما يراود الإنسان في حياته وخصوصاً الشباب، ويمثّل هذا الاستفهام منعطفاً أساسياً في الحياة؛ إذ تترتّب على معرفة جوابه بالشكل الصحيح نتائج إيجابية مهمّة، وعلى جهله عواقب وخيمة.

وفي هذا المقال نحاول أن نسلِّط الضوء على معرفة الجواب الحقيقي من خلال تُراثَي المفكرَيْن والشهيدين العظيمين الشيخ مرتضى مطهري والسيد محمد باقر الصدر.

ص: 349

ضرورة البحث عن هدف الخلقة

من أوضح الأُمور التي يعيشها الإنسان _ وقد تكون غير شعورية في بعض الأحيان _ هي مسألة الغاية من فعل الشيء؛ إذ إنّ الإنسان العاقل يفكِّر في الهدف الذي يطلبه من وراء أيّ فعلٍ يفعله، وحتى الأطفال النابهين تراهم يسألون عن الغاية من وراء كثير من الأفعال.

وعلى هذا الأساس؛ كثيراً ما تردّد سؤال في ذهن الإنسان: ما الحكمة من خلق الكون؟ لماذا خلق الله تعالى الإنسان؟ ما الهدف الذي تطلبه الإنسانية؟

وربما ساعدت بعض الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو الفكرية أو غيرها على إعادة هذا السؤال دوماً في بعض الأذهان.

ومع تزايد الأزمات التي يعيشها البشر في بعض الأحيان تشتدّ وتيرة الاستفهام، وتبقى الحياة حينئذٍ وكأنّها عبارة عن مآسٍ وآلام ومصائب، فيرجع السؤال، إذاً لماذا خلقني الله؟ وما هي الحكمة من ذلك؟

وتبلغ الأزمة ذروتها إذا رافق تلك الأزمات فشلٌ حالَ دون بلوغ الأهداف التي يُراد تحقيقها.

وإذا كنّا بعيدين عن كلّ ذلك، فإنّ غريزة حبّ الاطِّلاع تجبرنا على تكرار السؤال المتقدِّم.

وعلى جميع التقادير، فإنّ هذا السؤال سؤال مركزي في الحياة الإنسانية والجواب

ص: 350

عنه هو الذي يحدّد هوية الفرد ووجهته؛ ولهذا يقول الشهيد مطهري: «إنّ هذه المسألة هي إحدى المسائل التي ينبغي أن يركِّز عليها الفكر الإنساني»(1).

تحرير محل البحث

في الواقع إنّ السؤال المتقدِّم له جنبتان:

الأُولى: ما هو الهدف الذي يتوخّاه الله جلّ وعلا لنفسه من وراء الخلق؟

الثانية: ما هو الهدف الذي رسمه الله تعالى للخلق؟

وهناك فرق واضح بين الجنبتين؛ إذ إنّ الهدف في الجنبة الأُولى يرجع إلى الله تعالى، وهو سؤال خاطئ ينمّ عن عدم معرفة سائله بحقيقة الله ، والهدف في الثانية يرجع إلى الإنسان نفسه.

ومحل بحثنا هو في الجنبة الثانية، ولا معنى لأن نقول: بأنّ هناك هدفاً كمالياً فضلاً عن غيره، استهدفه المولى جلّ وعلا لنفسه؛ لأنّ ذلك يُتصور في الناقص الذي يريد الوصول إلى الكمال لا في الحقّ المطلق.

فالهدف الكمالي إنّما هو للإنسان، وقد أشار الشهيد مطهري إلى هذا الأمر في قوله: «ومثل هذا الاستهداف إنّما يُتصور في الفاعلين بالقوّة والمخلوقات، أمّا في الخالق فهو غير متصوَّر، إنّ مثل هذا الاستهداف يرجع إلى الاستكمال، بمعنى أنّ الفاعل يسعى عِبْرَ عمله هذا للوصول إلى شيءٍ يفقده»(2).

ص: 351


1- مطهري، مرتضى، الهدف السامي: ص٧.
2- المصدر السابق.

وهذا التحديد نفسه نراه واضحاً في بحوث الشهيد الصدر التي تناولت هذا الموضوع من قريب أو بعيد، فمثلاً في مجال الاستفادة من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»(1)، يقول: «هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفاً أعلى للإنسان»(2).

فالبحث إذاً عن الهدف الذي رسمه الله تعالى للإنسان حتى يسير عليه، لا الهدف الذي استهدفه الله لنفسه.

وقد نُعبِّرُ عن السؤال ب_تعابير مختلفة فنقول: ما هو الهدف من الخلق؟ أو ما هي الحكمة من الخلق؟ أو ماهي الغاية من الخلق؟ وهو أمر لا يُغيِّر في المعادلة شيئاً.

وقد نبّه على ذلك الشهيد مطهري، حيث يقول: «قد نُعبِّر عن السؤال (ما هي الغاية من خلق الإنسان؟) بالحكمة من خَلق الإنسان، وعلى هذا؛ فلا داعي لأن نبحث بشكل مستقلّ عن غاية الخِلقة الإنسانية وهدفها»(3).

ونقطة مهمّة أُخرى يؤكِّدها المطهري في هذا الصدد بقوله: «ولا مجال للبحث في ماهية الهدف الحياتي لكلّ فرد من الزاوية الفرديّة، فإنّ هدفنا الحياتي هو حسب ما يمكننا أن نكون، وحسب الاستعدادات المتوفِّرة في وجودنا، والتي نستطيع أن نوصلها إلى مرحلة الفعلية»(4). فإنّه يؤكّد على عدم الحاجة إلى البحث عن الهدف

ص: 352


1- الإنشقاق: آية٦.
2- الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية: ص١٤١.
3- مطهري، مرتضى، الهدف السامي: ص٩.
4- المصدر السابق.

المنشود لكلّ فرد على حدة.

ولا بدّ أن نُشير إلى أنّ البحث ليس بحثاً مقارناً بين الشهيدين، بل هو بحث استكشافي يسعى لأن يجد الجواب الواقعي للسؤال من هذين العَلَمين دون مقارنة بين الآراء، كما سيتّضح.

بين عبثيّة الخَلق وإلهيّة المرجع

إنّ البحث عن الهدف المرسوم للإنسانية يتقدَّمه سؤال رئيس، ألا وهو: هل هناك هدف لهذه المخلوقات حتى نبحث عن تعيين الهدف وماهيته؟ حيث آمن البعض بأنّه لا توجد غاية وهدف لهذا الخلق، وما الخلق إلّا نتيجة للعبثيّة، وعلى هذا الأساس؛ فسَّروا الحياة تفسيراً لا يتناسب مع مستوى الإنسانية، بل جُرِّدت من محتواها الواقعي.

والواقع أنّ هكذا تصوّر يرفضه العقل السليم رفضاً قاطعاً، وحتى الذين تبنّوا العبثيّة يناقضون أنفسهم؛ إذ تراهم يطلبون لأبسط الأفعال غايات وأهدافاً، فكيف بهذا العالَم المليء بالعجائب؟! إنّ تفكيراً كهذا لَهو مدعاة للسخرية حقّاً.

وهكذا يرفض القرآنُ هذا النمطَ من التفكير، ويؤكِّد على هدفيّة الخلق في عدّة آيات: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ »(1)، «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ*فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ

ص: 353


1- الأنبياء: آية١٦.

الْكَرِيمِ »(1)، ويصف القرآن الكريم ذوي الألباب ب_:«وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ »(2).

إذاً؛ بعد أن آمنّا بهدفيّة الخَلق يأتي السؤال حينئذٍ: ما هي حقيقة هذا الهدف؟

مقدمات ذات صلة

هناك عدّة مقدِّمات ترتبط بتفسير الهدف من الخَلق، نرى من المناسب بسط الكلام فيها قبل الولوج في صلب البحث:

المقدَّمة الأُولى: إنّ تشخيص الهدف عند أيّ مدرسة فكريّة لا بدّ أن يكون معه ربط واضح بين الهدف والإنسان، بل إنّ أيّ مذهب فكري سويّ لا نستطيع أن نُسمّيه مذهباً ما لم يحصل هناك ربط بين القيم المعنويّة والمبادئ الإيمانية لهذا المذهب مع الإنسان؛ ليسير في مراحل الإيمان، فلا بدّ إذن من امتلاك عنصر الربط، ومعنى ذلك: «أن يمتلك المذهبُ القدرةَ على إيجاد الحُبّ والعلائق القلبيّة الحارّة بين أتباعه وأهدافه والهدف الأسمى الذي يفوق أيّ مصلحةٍ فرديّة وشخصيّة»(3).

وعلى هذا الأساس؛ لا يمكننا قبول بعض الاتّجاهات المادّية في تفسير الحياة وعلاقاتها الاجتماعية، كالتي تؤمن بأنّ الأخلاق هي في الواقع نوع من التعاقد يقوم به الأفراد من أجل حفظ المنافع الفردية، وأنّ الأخلاق لا أساس اجتماعيّ لها، أو

ص: 354


1- المؤمنون: آية١١٥-116.
2- آل عمران: آية١٩١.
3- مطهري، مرتضى، الهدف السامي: ص٣٩.

كالتي تؤمن _ بعد أن لزم من المذهب الفردي الظلم والاستغلال _ بأنّه لا بدّ من إقامة مجتمع خالٍ من الدوافع نحو الظلم؛ وذلك بقلع جذور الملكية من الأساس؛ ليعود الأفراد جميعاً بمستوى واحد، وتكون هناك أهداف مشتركة للجميع وهي الحياة المادّية، ويعود المجتمع شركة واحدة واقعية لا يستطيع أحدٌ التحكّم بها، أو كالتي تبنّت مبدأ المسؤولية، وأنّ الإنسان هو المسؤول عن نفسه، وأنّ عمله يُعتبر نموذجاً يُحتذى به من قِبَل الآخرين، وفسّروا مركز هذه المسؤولية ب_ (الوجدان) أو النفس الإنسانية.

ففي الواقع لا يمكننا قبول هكذا نوع من التفكير؛ إذ إنّه لا يقدِّم لنا مُثلاً عُليا ولا نُظماً تعالج قضايا الروح والمادّة، ولا نوعاً من المعنويات التي يرتبط الإنسان بها؛ لكي يوازن بين مطالب الروح والمادّة.

فليس كلُّ شيءٍ يمكن أن يُحلّ بالمنافع المادّية المشتركة، فالجندي الذي يدخل المعركة ويواجه الموت تنتهي عنده تلك المنافع، ولا بدّ حينئذٍ من أن تلعب المبادئ الحقيقية دورها في توجيه عمله، وكيف يمكن ذلك لاتّجاه خالٍ عن المبادئ الحقيقية، ولا يؤمن بما وراء المادّة؟!

ثمّ إنّ تلك الوجدانيات المطروحة ليست من القوّة بمكان بحيث يمكن بناء منهج تربوي عليها، فكما لا يُضحِّي الإنسان بنفسه من أجل باقة زهور، كذلك هذه الأُمور التي ادُّعي لها الوجدانية(1).

ص: 355


1- اُنظر: المصدر السابق: ص١٩ فما بعد.

وهكذا نرى أنّهم لم يقدِّموا لنا شيئاً يتناسب مع مستوى الإنسانية.

«أمّا النظرة الكونيّة التوحيديّة، فهي لهذا السبب تقدِّم المَثَل السامي، وتزرع المسؤولية، وهي بعد هذا هادية، بمعنى أنّها ترسم الطريق أمام الإنسان، وتوضِّح أُسلوب الوصول إلى الأهداف، وهي بالتالي تبعث الحماس وتُطمئن القلوب، وتبعث نحو التضحية والفداء»(1).

وكلّما تأصَّلت العقيدة الإيمانية في نفس المسلم، «وتركَّزت نظرته التوحيديّة إلى الله... تسامت نفسه وتعمَّق إحساسه بكرامته وحرّيته، وتصلَّبت إرادته في وجه الطغيان والبغي واستعباد الآخرين...»(2).

المقدِّمة الثانية: إنّ جميع المخلوقات إنّما وُجدت لخدمة الإنسان وسُخّرت لغاياته، فهي في الواقع أداة في يد الإنسان، وقد نصّت على ذلك مجموعة من الآيات، منها قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ »(3).

يقول الشهيد مطهري: «إنّه يُلقي المسؤوليةَ على كلِّ ذرّة، ويرى أنّ كلَّ شيءٍ في الخلقة خُلِق لسبيل خاصّ، وكلٌّ مسؤولٌ عن عمل، فالشمس لها عمل ومسؤولية، وهي تقوم بعملها، والسحاب المتحرِّك يقوم بأداء واجبه، فحركته تعني القيام بمسؤوليته، وحركة الهواء تعني القيام بواجبه، وكذلك أن تقوم الشجرة بالأثمار»(4).

ص: 356


1- المصدر السابق: ص٤٦.
2- الصدر، محمد باقر، المدرسة الإسلامية: ص٨٣.
3- سورة لقمان: آية٢٠
4- مطهري، مرتضى، الهدف السامي: ص٣٧.

كلّ هذه المسؤوليات وإن توجّهت لكلّ ذرّة، لكنّ نفعها يعود في صالح الإنسان، فكمالها في قيامها بمسؤولية خاصّة تعود إلى الإنسان، وهذا هو مفهوم التسخير.

المقدِّمة الثالثة: إنّ تكامل الإنسان يمكن أن يُتصور على ثلاثة أنحاء:

١ _ التكامل الطبيعي والمادّي: حيث يرى العلماء أنّ للإنسان تكاملاً طبيعياً... ويقولون: إنّ هذا النوع من التكامل أمر طبيعي يحصل من دون تدخُّل الإنسان فيه، وهو من هذه الجهة لا يختلف عن الحيوان(1).

٢ _ التكامل الروحي والمعنوي: وهو تكامل من نوع آخر، وهو بمعنى نمو المَلَكات الأخلاقية في الإنسان؛ حتى تصل إلى مراحل عالية من التكامل بالتدريج.

٣ _ التكامل الاجتماعي: وهو نوع ثالث من التكامل، لا تدخل فيه الطبيعة البشرية، بل هو تكامل اكتسابي، يحصل عليه الإنسان بنفسه وينقله جيلاً بعد جيل بواسطة التعليم والتعلُّم، بخلاف التكامل الطبيعي الذي ينتقل عن طريق التوارث(2).

المقدِّمة الرابعة: إنّ المنبع الأصلي للجواب عن السؤال الذي طرحناه في بداية البحث هو القرآن الكريم، وحينئذٍ لا بدّ أن نعود إلى القرآن ليحدِّثنا بشكل أكثر تفصيلاً، «إنّنا في الغالب نتحدّث عن المفهوم العامّ، فنقول: إنّ الإنسان خُلِق للسعادة، وإنّ الله لا هدف له من خَلق الإنسان، ولا يصله نفع من ذلك، وإنّما خَلقه ليصل إلى

ص: 357


1- اُنظر: مطهري، مرتضى، التكامل الاجتماعي للإنسان: ص٩_١٠
2- اُنظر: المصدر السابق.

سعادته، منتهى الأمر أنّ الإنسان يقف في مرتبة من الوجود وموضع يجب معه أن يختار سبيله بكل حرية... وهذا أمر صحيح بلا ريب، ولكن أين يشخّص القرآن هذه السعادة الإنسانية؟»(1).

الرؤية الصحيحة كما يقرؤها الشهيدان

تعدّدت الآراء وتنوّعت المذاهب في تفسير الهدف من الخلق، وكلٌّ ذهب في واد، فبين من لا يرون هدفاً للخَلق، وبين مَن يؤمنون بوجود الهدف غير أنّهم مختلفون في تفسيره، فيرى العُرفاء أنّ الهدف هو الفناء في ذات الله والوصول إلى مراتب التجلّي، ويرى الفلاسفة أنّ العالم خُلِق لأكمل موجود وهو الإنسان، وخُلِق الإنسان لكي يستفيد من هذه الإمكانات في الوجود من أجل الوصول إلى الكمال(2)، وكمال الإنسان هو في الحكمة سواء العملية أو النظرية(3)، في حين يرى البعض أنّ الله تعالى خَلق الإنسانَ من أجل أن يعلم ويقدر «فالله تعالى خَلق الإنسان للعلم والمعرفة، وكماله في معرفته الأكثر، كما خلقه للقدرة ليحقق ما يريد، فتقوى إرادتُه ويصبح قادراً على تحقيق ما يشاء»(4).

وهناك مَن يرى أنّ الهدف هو الالتذاذ والاستفادة ممّا حوله في هذه الدنيا، أو أنّ الإنسان خُلِق ليحقق العدالة الاجتماعية(5).

ص: 358


1- مطهري، مرتضى، الهدف السامي: ص٩_١٠.
2- اُنظر: إبراهيميان، سيد حسين، معرفة الإنسان: ص١١٣_١١٤.
3- اُنظر: مطهري، مرتضى، الإنسان الكامل: ص١١٩.
4- مطهري، مرتضى، الهدف السامي: ص١١٧.
5- اُنظر: المصدر السابق.

وهكذا نرى بَوناً شاسعاً بين هذه الآراء، كما ونلاحظ إمكان قبول بعضها دون الآخر. وعلى أيّ الأحوال: نريد أن نرى _ في هذا المقال _ كيف يقرأ الشهيدان مرتضى مطهري، ومحمد باقر الصدر الرؤيةَ الصحيحة في تفسير الهدف من الخَلق؟

الرابطة بين الخالق والمخلوق

نرى في القرآن الكريم _ وبشكل واضح _ التأكيد على رابطة الإنسان بالله تعالى وشدّه إليه، فنجد الآيات تصرِّح في بعض الأحيان بأنّه لولا الرجوع إلى الله تعالى لكان الخَلق عبثاً، كما في قوله :«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(1)، وفي آية أُخرى: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ »(2)، «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(3)، حيث نرى أنّ نبي الله إبراهيم علیه السلام متوجّه بكلّ كيانه نحو الحقّ تعالى، وجعله هو الهدف لا غير، ونرى في آية أُخرى أنّ الهدف هو ربط الإنسان بالله تعالى عن طريق العبودية:«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »(4)؛ حيث إنّ الهدف هنا هو المعبود، وما العبادة إلّا طريق لهذا الهدف، فالعبادة هي الطريق الذي إذا سلكه الإنسان بالشكل الصحيح وصل إلى معبوده، فتكون العبادة حينئذٍ ذات مغزى مهم في حياة الإنسان، وليست العبادة في معناها الواقعي قنطرة تؤدّي بنا إلى مشتهياتنا المادّية، وإنّنا لو فكّرنا كذلك لم نرقَ بالإنسان والإنسانية إلى المستوى والهدف الذي

ص: 359


1- المؤمنون: آية١١٥.
2- الأنعام: آية ٧٩.
3- الأنعام: آية١٦٢.
4- الذاريات: آية٥٦.

أراده الله تعالى له؛ لأنّه حينئذٍ يكون حيواناً يريد أن يُديم حياته في العالَم الآخر، ولم نُعطه كمالاً خاصّاً به.

إنّ العبادة في منطق الأحرار ليست وسيلة إلى التنعُّم المادّي أو الخوف من العقاب، وإنّما هي كما عبَّر سيد العارفين والعابدين الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً، فتللك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً، فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار»(1).

إنّنا إذا نظرنا إلى العبادة من هذه الزاوية فإنّ الأمر يرجع إلى أنّ كمال الإنسان فوق المشتهيات الحيوانية، وهناك يكون للعبادة مفهوم يساوي مفهوم العشق للحقيقة، فيكون الله بنفسه مطلوباً حقيقياً، كما في قول أمير المؤمنين علیه السلام في دعاء كميل: «يا ولي المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، ويا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين»(2)، وحينئذٍ تكتسب العبادة موضوعيّة لنفسها؛ لما ورد عنه علیه السلام : «ما عبدتُك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتُك»(3).

إذن؛ يبقى المركز والهدف الأساس هو المعبود جلّ وعلا، نعم هناك ميزة للعبادة في المستويات النازلة إذا ما قورنت بعدمها، فالعبادة بالنسبة لعدمها تُعدّ كمالاً؛ لأنّ عدمها إخلاد إلى الأرض والمادّة.

ومع كلّ ذلك يبقى الهدف هو تلك المرتبة المركزية التي ترى أنّ عبادة الله لأجل

ص: 360


1- نهج البلاغة: الحكمة٢٣٧.
2- ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال: ج٣، ص٣٣٥.
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٦٧، ص١٨٦.

أنّه مستحق للعبادة، وبهذا يكون تفسير (ليعبدون): ليعرفون(1)، وهي تلك الدرجة من المعرفة الكاملة الشهودية، فالعبادة في الواقع ترجع إلى نظرية الإيمان، والإيمان يرجع إلى الحقّ تعالى؛ فلا بدّ من العمل له تعالى لأجل بلوغ الكمال والمعرفة الحقّة، ولا طريق لذلك إلّا بالاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان والقول باللسان، فتحصل حقيقة العبادة الموصلة إلى الله تعالى، ولا يمكن الاكتفاء بالقلب بلا عمل، كما هو عليه بعض الاتّجاهات الباطنية المنحرفة.

دعوة الإسلام

إنّ الإسلام يدعو إلى الإيمان والعبادة؛ حيث يمتلك الإيمان التحاماً إدراكياً مع الحقيقة، وتلتحم العبادة التحاماً عملياً مع الحقيقة(2).

إذاً؛ في منطق القرآن والإسلام الهدفُ واحد، وهو السير نحو الله تبارك وتعالى، وما أجمل تعبير المطهري في هذا المجال، حيث يقول: «إنّنا نرى أنّ القرآن يرفض أيّ نوع من الشرك وبأي معنى كان، إنّه كتاب توحيد بكلّ معنى الكلمة، توحيدي بمعنى أنّه يرفض وجود أيّ مِثْلٍ لله، التوحيد الذاتي: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ». وهو توحيدي بمعنى أنّه يصف الله بكلّ الصفات التي تُعطي الحدّ الأعلى من الكمال له « لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى»، والأمثال العليا «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى». إنّه كتاب توحيدٍ بمعنى أنّه يرفض أيّ فاعل في قبال الله، ويرى أنّ أيّ فاعل، يأتي بعد الله

ص: 361


1- نصّت مجموعة من التفاسير على هذا المعنى. اُنظر: الفيض الكاشاني، التفسير الصافي: ج٥، ص٧٥. مقاتل بن سلمان، تفسير مقاتل: ج٣، ص٢٨٠. وغير ذلك من التفاسير.
2- اُنظر: مطهري، مرتضى، الهدف السامي: ص٧٣.

وفي طوله، وهذا هو معنى (لا حول ولا قوة إلّا بالله). وهو كتاب التوحيد بمعنى أنّه لا يرى للكائنات هدفاً أساسياً مستقلاًّ ونهائياً إلّا الله.. وخلال كلّ ذلك؛ فهو لا يرى للإنسان _ سواء في حركته التكوينية أو حركته التكليفية والتشريعية _ هدفاً غير الله»(1).

«إنّ إنسان القرآن موجود لا يستطيع تأمين سعادته أحدٌ إلّا الله، بمعنى أنّ الإنسان موجود لا يروي ظمأه إلى السعادة، ولا يؤمِّن له سد الخلأ، ولا يحقّق رضاه الكامل، ولا يقوده في مسيرته الحقيقية إلّا الذات الإلهية «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ »»(2).

ويقول الشهيد الصدر: _ في بيان أنّ الإيمان بالله تعالى هو الهدف المطلق _: «قال الله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»، هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفاً أعلى للإنسانية، والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككلّ، فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى»(3).

«والله سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق، ولكنّه ليس نهاية جغرافية، ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية للطرق الممتدة مكانياً... الله سبحانه وتعالى هو المطلق، هو المَثل الأعلى، أي المطلق الحقيقي العَيني، وبحكم كونه هو المطلق، إذن هو موجود على طول الطريق أيضاً، ليس هناك فراغ منه، ليس هناك انحسار عنه، ليس هناك حدّ له... وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدَّم في الطريق يجد الإنسان مَثَله الأعلى، يلقى الله سبحانه وتعالى أينما توقّف بحجم السيرة، وبحجم تقدِّمه على هذا الطريق.

ص: 362


1- المصدر السابق: ص١٨.
2- المصدر السابق: ص١٩.
3- الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية: ص١٤١.

وبحكم أنّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق، إذن؛ الطريق أيضاً لا ينتهي، هذا الطريق طريق الإنسان نحو الله، هو اقتراب مستمر بقدر التقدُّم الحقيقي نحو الله، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نسبياً، يبقى مجرّد خطوات على الطريق من دون أن يجتاز هذا الطريق؛ لأنّ المحدود لا يصل إلى المطلق، الكائن المتناهي لا يمكن أن يصل إلى اللامتناهي، فالفُسحة الممتدّة بين الإنسان وبين المَثَل الأعلى هنا فُسحة لا متناهية، أي أنّه ترك له مجال الإبداع إلى اللانهاية، مجال التطور والتكامل إلى اللانهاية، باعتبار أنّ الطريق الممتدّ طريق لا نهائي»(1).

وكأنّ الكدح والسير نحو المطلق مسألة عُجِنَت في داخل هذا الإنسان وفطرته، « فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا »(2).

وعلى هذا الأساس؛ نرى القرآن الكريم يؤكّد على أنّ الإنسان غير محدود الطلبات، ولا يرضى بالشيء المحدود أبداً، فدائماً يطلب الكمال المطلق، ولا يقف في حدّ إلّا في الله تعالى: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ »(3).

وهذا ما أكّدته بعض التقارير العلمية الحديثة، من أنّ الإنسان يعيش حالة من الطمأنينة حينما يذكر الله تعالى، وليس هذا الأمر مختصاً بالذين يؤمنون بالله تعالى، بل حتى أولئك الذين لا يعرفون الله، ولا يستطيعون التلفّظ بكلمة لفظة الجلالة (الله) لكنّهم حينما لُقِّنوا طريقة التلفُّظ عاشوا تلك الحالة.

ص: 363


1- المصدر السابق: ص١٤٣_١٤٤.
2- الروم: آية٣٠.
3- الرعد: آية٢٨.

إذاً؛ فماهية وحقيقة التكامل في نظر القرآن الكريم _ كما يقرأها الشهيدان _ هي الله تعالى، فالإنسان يتكامل في سيره نحو الحقّ تبارك وتعالى.

وأمّا الأُمور الأُخرى، كتحقيق العدالة الاجتماعية وبقية الأُمور التكاملية، فهي من لوازم ذلك الهدف أو مقدِّماته.

التكامل الفردي والتكامل الاجتماعي

اشارة

ويمكننا أن نلاحظ السير نحو الله تبارك وتعالى على مستويين: المستوى الفردي، والمستوى الاجتماعي؛ فيكون التكامل تكاملاً فردياً، وتكاملاً اجتماعياً.

التكامل الفردي

إنّنا حينما نقرأ السير نحو المطلق تعالى وأنّ الله هو أُمنية الإنسانية؛ فهذا يعني تفعيل كلّ ما أودعه الله تعالى في هذا المستخلَف من كمالات للسير نحوه جل وعلا؛ ذلك أنّنا قلنا: إنّ الهدف هو الله عز اسمه أولاً وآخراً، وبما أنّ هذا الإنسان مستخلَف من قِبَل الله تعالى، كما أشار القرآن في آيات عديدة، كقوله: «...جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ...»(1)، و«ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ...»(2)؛ إذاً لا بدّ له من أن يُطبّق كلَّ ما أودعه المستخلِف فيه لتنفيذه على الأرض؛ حتى يصل إلى الله تعالى على مستواه الفردي.

فنحن حين نقول: إنّ الهدف هو المولى جلّ وعلا، ليس معنى ذلك الانزواء والاهتمام بالنفس في جانب ارتباطها بالله تعالى، من دون الالتفات إلى الجوانب

ص: 364


1- الأنعام: آية١٦٥.
2- يونس: آية١٤.

الأُخرى، كارتباطه بالناس أو ما تفرضه عليه الحياة الاجتماعية، فليس المقصود أنّ الإنسان يسعى نحو الحقِّ تعالى بواسطة الطقوس العبادية المحضة، التي تعزله عن المجتمع وعمّا يدور حوله، فإنّ ذلك وإن كان مطلوباً؛ لما تخلَّفه من الأثر الفعّال في النفس الإنسانية، لكن لا يصحّ الاقتصار عليه، ولا بدّ من التوجّه إلى الجوانب الأُخرى أيضاً.

فكما أنّ الجانب العبادي مطلوب ومقرِّب، كذلك الجانب الاجتماعي أو العبادة الاجتماعية مطلوبة ومقرِّبة، بل قد تكون أحياناً أكثر قُربيّة، كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد الديني وغيرها، بل لا تديُّن ولا تقرُّب حقيقي وكامل إلّا بالجانبين، فإنّ كلَّ فعلِ خيرٍ يعود نفعه على الفرد أو المجتمع فهو عبادة وطاعة، بشرط قصده لله تبارك وتعالى، وهذا ما يمكن تعميمه على المعاملات الفرديّة والاجتماعية أيضاً: كالبيع، والنكاح وغيرهما، إذا قُصد فيها وجه الله، ولها عظيم الثواب.

وبما أنّ الله تعالى مطلق لا حدّ له ولا زمان ولا مكان، فلا يختصّ السير نحوه في جهة دون أُخرى، ولا يقف في زمان من الأزمان، فيبقى الإنسان الهادف ذلك الإنسان المتجدد يوماً بعد يوم، وإلّا كان مصداقاً للحديث القائل: «مَن اعتدل يوماه فهو مغبون»(1).

والواقع أنّ النظرة الإسلامية تشتمل على خصوصية لا تتوفر عليها أيٌّ من المذاهب الفكريّة الأُخرى، وهي أنّ هذا التكامل إنّما هو أحد الأُمور الملقاة على هذا الخليفة كفرد، وهو أحد أركان العبادة.

ص: 365


1- الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص٤٣٥. والرواية عن الإمام علي علیه السلام .

وحينئذٍ؛ فالتكامل بشتّى أنواعه لا يكون مضاداً لله تعالى أو في سخطه؛ لأنّه لابدّ أن يكون في عين الله تعالى وفي طريقه، فلا يكون التطوّر والتكنلوجيا في الإسلام ضارّة بالإنسانية بأيِّ نحو من الأنحاء؛ لأنّها غير منفكّة عن عين الله تعالى، وهي وسائل تَقرُّبٍ، فلا يمكن أن يُتقرَّب بالأشياء الضارّة بالإنسانية والمدمِّرة لها.

نعم، هكذا خصوصية لا تتوفر في الأنظمة الغربيّة الحديثة، التي جرّت بالويلات على شعوب العالم من تكنلوجيتها المدمِّرة للإنسان.

فالنمو الحقيقي للفرد هو «أن يجسّد المبادئ التي يؤمن بتوحُّدها في الله تعالى من العدل و... فهذه هي الأهداف للإنسان الخليفة، وقد ورد في الحديث الشريف: تخلّقوا بأخلاق الله(1).

وبطبيعة الحال، أنّ هذه القِيَم الإلهية غير محدودة، والإنسان كيان محدّد بحدّ ذاته، فمن الطبيعي أن تتجسّد عملية تحقيق تلك القِيَم إنسانياً في حركة مستمرّة نحو المطلق، وكلّما استطاع الإنسان أن يتقدَّم شوطاً في تحقيق وتجسيد ذلك فقد تقدَّم وسجَّل انتصاراً في مقاييس الخلافة الربّانيّة، التي لا تنتهي إلّا بانتهاء شوط الخلافة في الأرض «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»»(2).

التكامل الاجتماعي

بالإضافة إلى التكامل الذي ستكسبه الإنسانية على مستوى الأفراد في السير نحو

ص: 366


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٥٨، ص١٢٩.
2- الصدر، محمد باقر، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء: ص١٣٣.

ذلك الهدف، هناك تكامل اجتماعي منقطع النظير سوف يحصل على مستوى المجتمع بشكل عامّ، فكما أنّ المقصود بالتكامل على مستوى الفرد تطبيق الأخلاقية الإلهية في الجانب الفردي، كذلك التكامل الاجتماعي يكون تطبيقاً للأخلاقية الإلهية، لكن على مستوى المجتمع والجماعة.

وبتعبير آخر: إن المجتمع يعيش همّاً واحداً، ويكون هو الله تعالى وتطبيق الصفات الإلهية التي ينبغي للمجتمع _ كمجتمع _ أن يتحلّى بها، كالعدل الإلهي الذي يضمن حقوق الجميع تحت راية واحدة؛ ولهذا «لم يكن من الصدفة أن يكون العدل ثاني صفات الله تبارك وتعالى، ويُمَيَّز عن سائر الصفات الإلهية، بل للتأكيد على الدور العملي الذي يلعبه في توجيه مسيرة الأُمّة؛ لأنّ قيام المسيرة الإنسانية على العدل والقسط يُنمِّي كلّ القيم الخيّرة الأُخرى، وبدون العدل يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرُّك تلك القِيَم وبروز الإمكانات الخيّرة»(1). بل إنّ طبيعة الإنسانية _ بما هي مجموع _ قد مُنِحت الخلافة عن الله تبارك وتعالى في الأرض؛ إذاً فلا بدّ أن تُراعي وتُطبِّق ما منحها الله بما هي جماعة ومجتمع.

يقول الشهيد الصدر: «ولمّا كانت الجماعة البشرية هي التي مُنحت _ متمثِّلة في آدم _ هذه الخلافة؛ فهي إذاً مكلَّفة برعاية الكون والسير بالإنسان على طريق الحقّ المرسوم للخلافة الربّانيّة، وهذا يعطي مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشرية في الحكم، وقيادة الكون وإعماره اجتماعياً وطبيعياً؛ وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعيّة ممارسة

ص: 367


1- المصدر السابق: ص١٣٣.

الجماعة البشرية حكمَ نفسها بوصفها خليفة عن الله»(1).

وكما قلنا في التكامل الفردي للإنسان وأن يسير _ بما هو فرد _ نحو الكامل المطلق، كذلك في التكامل الاجتماعي يسير في حركة متجددة يومياً نحو الله تعالى، إلّا أنّ الحركة هنا على مستوى المجتمع ككلّ، وسيكون التكامل الذي يتميَّز به المجتمع تميُّزاً نوعياً لا تحظى به المذاهب الوضعيّة.

شروط الوصول إلى الكمال المنشود

لا بدّ للإنسانيّة التي تريد الوصول إلى الكمال المنشود من أن تضع الله تعالى هدفاً لها، وتكون مُثلها العُليا منحصرة في الله تبارك وتعالى، غير أنّ الوصول إلى هذه المرتبة لا بدّ له من شروط تُحقّق الأرضيّة المناسبة، وتضع الإنسانية في ساحة التخلُّق بتلك المُثُل العُليا.

ويحدد الشهيد الصدر هذه الشروط في أربع نقاط:

أولاً: «الرؤية الواضحة فكرياً وإيديولوجياً لهذا المَثَل الأعلى، وهذه الرؤية الواضحة لهذا المَثل الأعلى هي عقيدة التوحيد على مرّ التاريخ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، التي توحّد بين كلّ المُثل، بين كلّ الغايات، كلّ الطموحات، كلّ التطلعات البشرية، توحّد بينها في هذا المَثل الأعلى.

هذا المَثل الأعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له، تعلّمنا على أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله، لا بوصفها حقائق عينيّة منفصلة عنّا، كما يتعامل فلاسفة

ص: 368


1- المصدر السابق.

الإغريق، وإنّما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائداً عملياً، بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية، بوصفها مؤشّرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه»(1).

ثانياً: «لا بدّ من طاقة روحية مستمدّة من هذا المَثل الأعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمرّاً للإرادة البشرية على مرّ التاريخ، هذه الطاقة الروحية، هذا الوقود الذي يُستمدّ من الله سبحانه وتعالى يتمثّل في عقيدة يوم القيامة، في عقيدة الحشر والامتداد، عقيدة يوم القيامة تعلّم الإنسان أنّ هذه الساحة التاريخيّة الصغيرة التي يلعب عليها الإنسان مرتبطة ارتباطاً مصيرياً بساحات برزخيّة وبساحات حَشْريّة في عالم البرزخ والحشر»(2).

ثالثاً: إنّ المَثل الأعلى الإلهي يختلف عن غيره من المُثُل المنخفضة، لأنّ المُثُل العُليا ليست من صُنع الإنسان؛ لهذا فهي منفصلة عنه و«هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعيّة بين الإنسان وهذا المَثل الأعلى. لا بدّ من صلة موضوعيّة بين هذا الإنسان وبين ذلك المَثَل الأعلى، بينما المُثُل الأُخرى السابقة كانت إنسانية، كانت إفرازاً بشرياً لا حاجة إلى افتراض صلة موضوعية...

وهذه الصلة الموضوعيّة تتجسّد في النبي، في دورة النبوة، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركِّب بين الشرط الأول والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى، بين رؤية إيديولوجية واضحة للمَثَل الأعلى وطاقة روحية مستمدّة من الإيمان بيوم القيامة، يركّب بين هذين العنصرين، ثمّ يجسّد بدور النبوة، الصلة بين المَثَل الأعلى والبشرية؛

ص: 369


1- الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية: ص١٥١.
2- المصدر السابق: ص١٥١.

ليحمل هذا المركّب إلى البشرية بشيراً ونذيراً»(1).

رابعاً: «البشرية بعد أن تدخل مرحلةً يسميها القرآن بمرحلة الاختلاف... سوف لن يكفي مجيء البشير النذير وحده، لا يكفي؛ لأنّ مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المُثُل المنخفضة أو التكرارية، تعني وجود تلك الآلهة المزوّرة على الطريق، وجود تلك الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى.

إذن؛ لا بدّ للبشرية من أن تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة، ضد تلك الطواغيت والمُثُل المنخفضة التي تنصب من نفسها قَيِّماً على البشرية، وحاجزاً وقاطع طريق بالنسبة إلى المسيرة التاريخيّة، لا بدّ من معركة ضد هذه الآلهة، ولا بدّ من قيادة تتبنّى هذه المعركة، وهذه القيادة هي الإمامة، هي دور الإمامة.

الإمام هو القائد الذي يتولّى هذه المعركة، ودور الإمامة يندمج مع دور النبوّة في مرحلة من النبوّة يتحدَّث عنها القرآن... ولكنّه يمتدّ أيضاً حتى بعد النبي، إذا ترك النبي الساحةَ وبَعْدُ لا تزال المعركة قائمة، ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مواصلة هذه المعركة من أجل القضاء على تلك الآلهة، حينئذٍ يمتدّ دور الإمامة بعد انتهاء النبي»(2).

تفعيل أُصول الدين للمسيرة البشرية

إذاً كيف وفّر الإسلام هذه الشروط حتى تدوم المسيرة البشرية بسيرها نحو الحقّ تعالى بشكل فعّال؟

ص: 370


1- المصدر السابق: ص١٥٢.
2- المصدر السابق: ص١٥٢_١٥٣.

يرى الشهيد الصدر أنّ ذلك يتمثّل في أُصول الدين:

«الأصل الأول: التوحيد، هو الذي يعطي الشرط الأوّل، هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكرياً وإيديولوجياً، هو الذي يجمع ويعبّئ كلّ الطموحات وكلّ الغايات في مَثلٍ أعلى واحد، وهو الله سبحانه وتعالى»(1).

«الأصل الثاني: العدل، العدل هو جانب من التوحيد، ولكن إنّما... أُبرز العدل هنا كأصل ثانٍ من أُصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة.

ألسنا قلنا: بأنّ صفات الله وأخلاق الله، علّمنا الإسلام على أن لا نتعامل معها كحقائق عينيّة ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها، وإنّما نتعامل معه كمؤشّرات وكمنارات على الطريق؟ إذن؛ من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية، ولأجل ذلك أُفرز، وإلّا العدل في الحقيقة هو داخل في إطار التوحيد العامّ، في إطار المَثل الأعلى»(2).

«الأصل الثالث: النبوّة، النبوة هي التي توفّر الصلة الموضوعية بين الإنسان وما بين المَثَل الأعلى.

المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنّت المَثَل الأعلى _ الحقّ المنفصل عنها الذي هو ليس من إفرازها ومن إنتاجها المنخفض _ كانت بحاجة إلى صلة موضوعيّة، هذه

ص: 371


1- المصدر السابق: ص١٥٣.
2- المصدر السابق: ص١٥٤.

الصلة الموضوعية يجسّدها النبي صلى الله عليه و آله النبي على مرّ التاريخ. الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين يجسّدون هذه الصلة الموضوعية»(1).

«الأصل الرابع: الإمامة، الإمامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوّة. النبيّ إمام أيضاً. النبي نبي، والنبي إمام، ولكن الإمامة لا تنتهي بانتهاء النبي إذا كانت المعركة قائمة، وإذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة إلى قائد يواصل المعركة. إذن؛ سوف يستمرّ هذا الجانب من دور النبيّ من خلال الإمامة؛ فالإمامة هو الأصل الرابع من أُصول الدين»(2).

«الأصل الخامس: هو الإيمان بيوم القيامة، هو الذي يوفّر الشرط الثاني من الشروط الأربعة التي تقدّمت، هو الذي يعطي تلك الطاقة الروحية، ذلك الوقود الربّاني الذي يجدّد دائماً إرادة الإنسان وقدرة الإنسان، ويوفّر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية.

إذن؛ أُصول الدين _ في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه _ هي كلّها عناصر تساهم في تركيب هذا المَثَل الأعلى وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصيغتها القرآنية»(3).

استخلاص ونتائج

بعد جولة مباركة في رحاب فكرَيّ الشهيدين يمكن أن نستخلص عدّة نتائج:

ص: 372


1- المصدر السابق: ص١٥٤.
2- المصدر السابق: ص١٥٤_١٥٥.
3- المصدر السابق: ص١٥٥.

أولاً: إنّ مسألة الهدف من الخلق مسألة أساسية ومركزية في الفكر البشري.

ثانياً: إنّ الأهداف التي تُذكر في هذا المجال أغلبها لا تُعبِّر عن رؤية ناضجة في أذهان متبنِّيها.

ثالثاً: إنّ التشخيص الدقيق للرؤية الإسلامية الصحيحة يتمّ عن طريق التفحُّص الدقيق والتأمّل العميق في آيات الذِكر الحكيم.

رابعاً: الرؤية القرآنية في هذا المجال تقول: بأنّ الهدف المرسوم للإنسانية هو السير نحو الحقّ المطلق تعالى بالبيان الذي قدَّمناه.

خامساً: إنّ أُصول الدين هي المُفعِّل للمسيرة الإنسانية نحو الله جلّ وعلا.

سادساً: تميَّزت الرؤية الإسلامية في نظرتها للهدف المرسوم بخصائص لا تحتويها بقية الأنظمة الوضعية، ويمكن أن نذكر منها بعض الخصوصيات:

الخصوصية الأُولى: إنّ الهدف المرسوم يتناغم مع ألحان الفطرة.

الخصوصية الثانية: إنّ الهدف المرسوم يعتمد على أُسس منطقية رصينة منسجمة؛ ولهذا فإنّ الرؤية الإسلامية تُحدِث ارتباطاً بين الإنسان وتلك المبادئ.

الخصوصية الثالثة: إنّ الهدف معلوم ومشخَّص، إلّا أنّ منطقة التكامل مفتوحة أمام البشرية، «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(1).

ص: 373


1- المطففين: آية٢٦.

الخصوصية الرابعة: إنّ السير وفق الرؤية الإسلامية يُحدِث تغييراً كمّياً ونوعياً في الحياة البشرية:

التغيير الكمّي: وهو أنّ الطريق إلى المَثل الأعلى يكون طريقاً غير متناهٍ، أي: إنّ مجال التطوّر والإبداع والنمو قائم أبداً ودائماً، ومفتوح للإنسان باستمرار من دون توقُّف.

التغيير الكيفي: وهو إعطاء الحلّ الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني، للتناقض الإنساني، إعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان.

سابعاً: فيما يخصّ الإنتاج العلمي لكلٍّ من الشهيدين في مجال الإجابة عن هذا السؤال، نرى الدقّة والموضوعيّة هي السِّمة الغالبة التي طغت على إجابتهما.

وفي حدود تقديرنا: أنّ ما قدَّمه الشهيدان في هذا المجال كان أحدهما مكمِّلاً للآخر، فأكّد كلٌّ من الشهيدين على جوانب خاصّة في البحث، وبضم بعضها إلى البعض الآخر نخرج برؤية واضحة، وعلى هذا النمط سرنا في رحاب فكرهما النيِّر. والحمد لله رب العالمين.

ص: 374

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.