السيدة زينب عليها السلام في تاريخ الاسلام

اشارة

السيدة زينب عليها السلام في تاريخ الاسلام / نويسنده: سيد عبدالحسين شرف الدين قدس سره

ناشر: مكتب الإمام الخامنئي في سورية

الطبعه الاولي جمادي الاولي 1426 ه - 2005 م

مشخصات ظاهري: 93 ص

ص: 1

اشارة

السيدة زينب عليها السلام في تاريخ الاسلام / نويسنده: سيد عبدالحسين شرف الدين قدس سره

ناشر: مكتب الإمام الخامنئي في سورية

ص: 2

السيدة زينب عليها السلام في تاريخ الاسلام / نويسنده: سيد عبدالحسين شرف الدين قدس سره

ناشر: مكتب الإمام الخامنئي في سورية

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

تقديم

السيدة زينب عليهاالسلام حفيدة النبي صلي الله عليه و اله، وبنت الوصي الإمام علي عليه السلام، جدّها سيد الأنبياء وأبوها سيد الأوصياء، وأمها فاطمة سيدة النساء عليهاالسلام، وأخواها الحسن والحسين عليهماالسلام سيّدا شباب أهل الجنة، هذه المرأة التي تربّت في هذا البيت الرفيع، فبذلت جُلّ حياتها للإسلام، وشاركت في تحمّل مهام نهضة أخيها الحسين عليه السلام، فساهمت في صنع التاريخ، وإقامة صروح الحق والعدل، ونسف قلاع الظلم والجور، فسجّلت بمواقفها المشرّفة نصراً للإسلام وعزّاً للمسلمين علي امتداد التاريخ.

لقد تجسّدت في هذه السيدة الجليلة جميع الصفات الكريمة، والنزعات الشريفة، فكانت أروع مَثَل للشرف والعفاف والكرامة، ولكل ما تعتز به المرأة وتسمو به في الإسلام.

وكفاها فخراً دورها العظيم في صنع الثورة الحسينية، حيث

ص: 5

شاركت في جميع ملاحمها وفصولها مشاركة إيجابية وفاعلة فأصبحت أسوة للمجاهدين في سبيل الله علي مرّ العصور.

ولم ينجب التاريخ امرأة بعد فاطمة الزهراء عليهاالسلام وخديجة الكبري (رضوان الله عليها) من تضاهي السيدة زينب عليهاالسلام في قوّة شخصيتها، وصلابة عزيمتها، وعظمة إيمانها، فقد شهدت ما حلّ بأهلها من الرزايا والمصائب التي تُهدّ من هولها الجبال، وهي صامدة تسلّحت بالصبر، وسلّمت أمرها إلي الله تعالي.

لقد تجرّعت بنت أمير المؤمنين عليه السلام الغصص والمصائب العظيمة، في سبيل الإسلام، والحفاظ علي مبادئه وقيمه، ومناهضة الظلم والاستبداد. ما جعلها قدوةً فذة لجميع نساء المسلمين، فينبغي أن تُتخذ أسوةً لهن في مقارعة الظلم، ونشر العدل في الأرض.

إننا بحاجة ماسّة لنظرة جديدة في نواحي العظمة لشخصية السيدة زينب عليهاالسلام، تلك المرأة العالمة المجاهدة، بهدف اكتشاف المقوّمات الإسلامية التي صنعت هذه الشخصية العظيمة، وكذلك التعرف علي الصفات التي يجدر بالمرأة المسلمة أن تتحلّي بها من خلال هذه القدوة الحسنة.

ص: 6

وأخيراً نقول:

إنه لمن الصعب الإحاطة الكاملة بحياة وسيرة وعظمة بطلة كربلاء وسيدة بيت النبوة والإمامة، ولكننا حاولنا في هذا الكتاب إضاءة لمحات مهمّة علي بعض الحقائق التاريخية في سيرة حفيدة الرسول صلي الله عليه و اله، والتي قلّما نجدها في الكتب التي دوّنت إلي الآن حول هذه الشخصية العظيمة، والغاية من ذلك كله، تقديم ما هو مفيد للمهتمين بسيرة عقيلة بني هاشم ولاسيّما زوّار مقامها الشريف، ما يزيدهم معرفةً بأحوالها وشخصيتها، لتكون زيارتهم لمقامها عن معرفة بحقها.

ومع ذلك كله، لا نستطيع الادّعاء بأننا حققنا كلّ المطلوب، بل قمنا بمساهمة متواضعة في إجلاء بعض النقاط المهمة في حياة هذه السيدة الجليلة، سائلين المولي القدير أن يأخذ هذا الكتاب طريقه إلي المكتبة الإسلامية، ويضيف إليها جديداً في هذا المجال، بما استند إليه من المصادر التاريخية المعتمدة.

ومن الجدير ذكره في هذا المجال، الإشادة بالدور البارز للمحقق الفاضل الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (دام عزه)، حيث كان له فضل العناية لمشروع هذه الدراسة، ما أسهم في إزالة الكثير من

ص: 7

الغموض عن سيرتها، كما نشكر أعضاء لجنة التحقيق والتأليف التابعة لشؤون الثقافة والتعليم في مكتب الإمام الخامنئي دام ظله، علي ما بذلوه من جهود لإخراج هذا الكتاب في هذه الحلّة فجزاهم الله خير ما جزي عباده المحسنين، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وبعد الانتهاء من العمل علي كتابنا (السيدة زينب عليهاالسلام في تاريخ الإسلام)، تكرّمت مشكورةً اللجنة المشرفة علي مؤتمر تكريم الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (ره)، بإرسال إحدي مؤلفات الإمام (ره) حول السيدة زينب عليهاالسلام، وهي رسالة مختصرة بعنوان (عقيلة الوحي) كان قد كتبها الإمام شرف الدين بمناسبة وصول الضريح الرائع الذي تبرّع به أهل الخير الإيرانيون ليودع في مقام السيدة زينب عليهاالسلام في قرية السيدة زينب عليهاالسلام من ضواحي دمشق وذلك في سنة 1334 ه -.

وهذه الرسالة علي اختصارها تحتوي علي معلومات قيمة عن أحوال السيدة زينب عليهاالسلام وعظمتها وعظمة مواقفها في واقعة كربلاء وما بعدها، كما أشار رحمه الله فيها بالتقدير إلي الموقف المشرّف للإيرانيين تجاه أهل البيت عليه السلام علي مرّ التاريخ، ومنها تبرعهم بهذا الصندوق الشريف لمقام السيدة زينب عليهاالسلام.

ص: 8

ولذلك ارتأينا من المناسب ضمّ تلك الرسالة إلي الكتاب، في محاولة لتعريف القارئ الكريم علي إحدي مؤلفات الإمام السيد شرف الدين قدس سره التي قد تكون مجهولة علي كثير من جمهور القرّاء.

عسي أن تكون هذه المحاولة إسهاماً في تكريم ذلك العالم المجاهد لما قدمه من خدمات جليلة للدين والمذهب، حتي وصفه الإمام الخميني قدس سره بقوله: كان كهشام الحكم في زماننا ونعته الإمام الخامنئي دام ظله بقوله: كان قدس سره شرفاً للدين ومفخرة للمسلمين.

وفقنا الله وإياكم لخدمة الإسلام والمسلمين والعمل بشريعة سيد المرسلين واتباع أهل بيته الطاهرين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

شؤون الثقافة والتعليم

في مكتب الإمام الخامنئي دام ظله - سورية

5 جمادي الأول 1426 ه -

ذكري ولادة السيدة زينب عليهاالسلام

ص: 9

ص: 10

السيدة زينب عليهاالسلام في تاريخ الإسلام

* السيدة زينب عليهاالسلام في المدينة

* السيدة زينب عليهاالسلام في كربلاء

* السيدة زينب عليهاالسلام في الشام

* السيدة زينب عليهاالسلام بعد فاجعة كربلاء

ص: 11

ص: 12

السيدة زينب عليهاالسلام في المدينة

تمهيد:

هذه سطور مضيئة من سيرة بطلة كربلاء وشريكة أخيها الحسين سيد الشهداء عليه السلام في حمل رسالة نهضته المقدسة، السيدة العقيلة الحوراء (زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام)، وكيف لا تأخذ هذه المكانة العالية في تاريخ الإسلام، وهي سليلة بيت النبوة والإمامة، فجدّها محمد المصطفي صلي الله عليه و اله وأبوها علي المرتضي عليه السلام، وأمها فاطمة الزهراء عليهاالسلام.

وقبل التعرّف عليها، نلقي الضوء علي لمحات من سيرة أبويها عليهماالسلام، وذلك في سطور.

أبوها الإمام علي عليه السلام:

ما عسي أن يقول القائل بشأن أمير المؤمنين، وسيد الوصيّين، وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين إلي جنّات النعيم: عليّ بن أبي طالب عليه السلام!

ص: 13

فقد روي عن النبي صلي الله عليه و اله أنه قال فيه: لو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً وأوراقها قرطاساً، والجن والإنس كُتّاباً، لما أحصوا مناقبه(1) ، ونقل سبط ابن الجوزي الحنبليّ الدمشقي، عن مجاهد مولي ابن عباس، أن رجلاً قال لابن عباس: أتظنّ أنّ فضائل عليّ ثلاثة آلاف؟ فقال ابن عباس: لو أن الشجر أقلام والبُحور مداد، والإنس والجنّ كتّابٌ وحُسّاب ما أحصوا فضائل عليّ عليه السلام(2).

وسُئل الإمام محمد بن إدريس الشافعي (م: 304 ه -) عن قوله في علي عليه السلام فقال: ما أقول في حق امرئ كتمت مناقبه أولياؤه خوفاً، وأعداؤه حسداً، ثم ظهر بين الكَتْمين ما ملأ الخافقين.

ونظم قولَه أحدُ علماء جبل عامل شعراً، فقال:

لقد كتمَتْ آثارَ آل محمدٍ محبّوهُم خوفاً وأعداؤهم بُغضا

فأُبْرِزَ من بين الفريقين نَبذةٌ بها ملأ الله السماواتِ والأرضا(3)

وقيل للشاعر الشهير أبي الطيب المتنبي: لِمَ تركت مدح

********

(1) كنز الفوائد للكراجكي 280:1 من القرن الرابع الهجري.

(2) تذكرة الأمة بخصائص الأئمة: 13.

(3) انظر الباب الذهبي لمحمد علي الطبسي النجفي: 523.

ص: 14

علي عليه السلام؟ فأجابه شعراً:

وتركتُ مدحي للوصيّ تعمُّداً إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا

وإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا(1)

أمّها فاطمة الزهراء عليهاالسلام:

وهي من أهل بيت النبّي صلي الله عليه و اله ممن شهد القرآن بعصمتهم في آية التطهير، فقد روي الطبري، في من روي، عن النبي صلي الله عليه و اله من همْدان اليمن، عن أبي الحمْراء الهمْداني: أن النبيّ كان يأتي باب علي وفاطمة عليهماالسلام، لكل صلاة تسعة أشهر فيناديهم: الصلاةَ يرحمكم الله، ثم يتلو الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).

وروي الجزري الموصلي، عن أنس بن مالك: أن النبيّ كان يمرّ علي بيت عليّ وفاطمة عليهماالسلام ستة أشهر لصلاة الصبح يناديهم:

********

(1) ذكرها الكراجكي في كنز الفوائد 281:1، فاستدركها البرقوقي في شرح ديوان المتنبي علي شرح الواحدي.

(2) ذيول تاريخ الطبري: 589 ومثله في المناقب للخوارزمي الحنفي: 60، والآية من سورة الأحزاب: 33.

ص: 15

الصلاةَ يا أهل بيت محمد، ثم يتلو الآية(1).

وروي ابن عبد البَرّ الأندلسي في (الاستيعاب) عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً بالنبيّ من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فرحّب بها وقبّلها، كما كانت هي تصنع به إذا دخل عليها، وما رأيت أحداً أصدق لهجة من فاطمة، فسُئلت: مَن كان أحبّ الناس إليه؟ فقالت: فاطمة، فقيل: فمِن الرجال؟ فقالت: زوجُها(2) ، وكنتُ جالسة عند النبي صلي الله عليه و اله فجاءت فاطمة تمشي كأنّ مِشْيتَها مِشيةُ النبيّ، فقال لها: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها إلي جانبه(3).

ولادة السيدة زينب عليهاالسلام:

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: تزوّج عليّ فاطمة عليهماالسلام في شهر رجب بعد الهجرة بخمسة أشهر(4) وكان ثمرة هذا القران المبارك

********

(1) أسد الغابة: 521:5 وأنس بن مالك كان بوّاب النبيّ وخادمه.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1896:4.

(3) الطبقات الكبري 247:2.

(4) الطبقات الكبري 247:2 لابن سعد (م: 220 ه -).

ص: 16

الحسنان وأم كلثوم وزينب الكبري(1).

ففي منتصف شهر رمضان من السنة الثالثة للهجرة، قبل غزوة أُحُد بشهر تقريباً، وُلد أكبر أبناء عليّ والزهراء: الحسن عليهم السلام.

وفي الثالث من شهر شعبان من السنة الرابعة ولد ثاني السبطين، وثالث الوصيّين: الحسين عليه السلام.

ثم وَلدت الزهراء عليهاالسلام ابنتها أمّ كلثوم، وبعدها زينب الكبري(2). وقد ذكر العُبيدلي النسّابة من علماء القرن الثالث الهجري: وُلدت زينب في حياة جدّها صلي الله عليه و اله(3) ، ولذلك عدّها ابن الأثير الجزري الموصلي في كتابه (أسد الغابة) من الصحابيات، وقال: كانت امرأة عاقلة لبيبة جزلة(4) ، من دون تعيين لتاريخ ميلادها.

********

(1) إن أكبر بنات علي من فاطمة عليهماالسلام هي أم كلثوم وقد دفنت في البقيع، ومن بعدها زينب الكبري بطلة كربلاء عليهاالسلام وإنما لقبت بالكبري تمييزاً لها عن زينب الصغري التي هي من غير فاطمة وأمها أم ولد.

(2) تاريخ أهل البيت عليهم السلام بتحقيق السيد الحسينيّ الجلالي: 53 ط قم المقدسة، وكذلك في المعارف لابن قتيبة: 210، وهو متوفي: 276 ه -.

(3) أخبار الزينبات للعُبيدلي النسّابة.

(4) أسد الغابة، وعنه في سفينة البحار للمحدث القمي 497:3.

ص: 17

ورجّح الشهيد السيد دستغيب قدس سره في كتابه عن حياة السيدة، والشهيد السيد القاضي التبريزي قدس سره في تعليقاته علي كتاب الفردوس الأعلي لأستاذه الشيخ كاشف الغطاء، أن يكون مولدها في الخامس من شهر جُمادي الأولي، وعليه العمل في الجمهورية الإسلامية في إيران(1).

وجاء في كتاب (السيدة زينب) لمؤلّفه حسن محمد قاسم المصري، أنها وُلدت بعد أخيها الحسين عليه السلام بعامين في السنة السادسة للهجرة من شهر شعبان(2) ورجّح بعض العلماء(3) أن يكون عام ولادتها في السنة السابعة للهجرة، بعد وفاة خالتها زينب التي صلّت عليها السيدة الزهراء عليهاالسلام(4) ، فقد كان من عادة كرام العرب، تكريم أمّهات أولادهم، وذلك من خلال إفساح المجال أمامهن لتسمية أولادهم سواء الذكور منهم أو الإناث، ومن الطبيعي

********

(1) يعرف هذا اليوم رسمياً في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ب - (يوم الممرضات) وذلك تخليداً لمواقف تلك السيدة الجليلة.

(2) السيدة زينب بقلم حسن محمد قاسم المصري: 20، وعليه العمل في القاهرة حتي اليوم.

(3) كما عند سماحة الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي.

(4) الاستبصار 485:1 ح 6485، والتهذيب 333:3 ح 1043.

ص: 18

أن تسعي السيدة الزهراء عليهاالسلام لتخليد ذكري أختها أم كلثوم وزينب، وذلك بتسمية بناتها بأسمائهن وفاءً لهنّ.

زينب عليهاالسلام تروي خبر خطبة أمّها الزهراء عليهاالسلام:

عايشت السيدة زينب عليهاالسلام كل الأحداث التي رافقت وفاة جدّها رسول الله صلي الله عليه و اله وما جري بعد الوفاة، ولا نستغرب إدراكها لكل تلك الأحداث، علي صغر سنّها، لنبوغها المبكّر، ولها مواقف تدلّ علي ذلك، منها ما روي:

أنها في طفولتها كانت جالسة في حجر أبيها وهو يلاطفها بالكلام، فقال لها: يا بنيّتي، قولي واحد، فقالت: واحد، فقال لها: قولي اثنين، فسكتت، ثم قالت عليهاالسلام: يا أبتاه، ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد، فضمها عليهاالسلام إلي صدره، وقبّلها بين عينيها(1).

ولا أدَلَّ علي نبوغها من أنّها روت خطبة أمها الزهراء عليهاالسلام ولم تتجاوز الخامسة من عمرها (بناءً علي ما ذكرنا من تاريخ ولادتها).

الخطبة الأولي:

فأمّا خطبة الزهراء عليهاالسلام الأولي في مسجد أبيها رسول الله صلي الله عليه و اله

********

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام: 258، وأصول الكافي 16:2.

ص: 19

بين أصحابه المهاجرين والأنصار، فقد رويت من طُرق عديدة مختلفة، روي بعضها الشيخ أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور الخراساني البغدادي (م: 280 ه -) في كتابه المعروف (بلاغات النساء)، وهو من أقدم المصادر التي بين أيدينا في هذا الموضوع، حيث يقول: التقيت في بلدة الرافعة برجل من أهل ديار مصر يدعي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي بسنده المتصل بأربعة وسائط عن زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، عن عمتّه زينب أخت الحسين عليهماالسلام قالت: لما بلغ فاطمة عليهاالسلام إجماع أبي بكر علي منعها فدكاً لاثت خِمارها، وخرجت في حشد من نسائها ولُمّة من قومها تجرّ أدراعها (ملابسها) ما تخرم مشيتها مِشية رسول الله شيئاً، حتي دخلت علي أبي بكر (في مسجد أبيها) وهو في حشد من المهاجرين والأنصار. ثم أسبلت بينها وبينهم سَجْفاً (سِتراً)، ثم أنّت أنّةً أجهش القوم بالبكاء. فلما سكنت فورتهم قالت: الحمد لله علي ما أنعم، وله الشكر علي ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نِعمٍ ابتداها، وسبوغ آلاءٍ أسداها، وإحسان مِننٍ والاها...(1).

********

(1) للاطلاع علي كامل الخطبة، راجع كتاب بلاغات النساء: 14-18 ط القاهرة لسنة 1461 ه - بتحقيق الشيخ أحمد الألفي.

ص: 20

ثم ذكرتهم بما كانوا عليه في جاهليتهم من الحالة المُزرية والأوضاع الرديئة، وأن الله أنقذهم بأبيها محمد صلي الله عليه و اله بعد (اللتيّا والتي)، وما خاضه من الحروب معهم، ثم مع أهل الكتاب اليهود، وما كان لعلي عليه السلام فيها من دور بارز، كما ذكّرَتْهم بما ظهر فيهم بعد وفاة أبيها من النفاق وعدم الوفاق مع ما أمر به ونهي عنه وحذّره، ثم توجّهت بخطابها نحو الخليفة فاحتجّت عليه بآيات من القرآن الكريم في إرث الأنبياء، ضاربة لهم الأمثلة في ذلك من كتاب الله المجيد، مفنّدة ما زعمه في إرثها من أبيها النبي صلي الله عليه و اله، ثم وصفت للأنصار عظم المصيبة بوفاته صلي الله عليه و اله وعدم رعايتهم لحقه وحقها فأنذرتهم وحذّرتهم، وختمت كلامها بلوم القوم ثانية، والشكوي إلي جهة قبر أبيها في الختام.

وظاهر الخبر حضور زينب عليهاالسلام وسماعها للخطبة، وحفظها لها، وروايتها للخطبة لزيد حفيد أخيها الحسين عليهم السلام، ومن المحتمل أيضاً أنها حفظتها عن أخويها الحسنين عليهماالسلام، أو أمِّها بعد ذلك.

زينب عليهاالسلام والخطبة الثانية لأمها:

لقد كان للخطبة الأولي للسيدة الزهراء عليهاالسلام، تأثير كبير في أوساط المدينة المنورة، بما حملتها من أفكار عظيمة، وقد لعبت

ص: 21

السيدة زينب عليهاالسلام دوراً كبيراً في نقل هذه الخطبة إلينا من خلال حفظها وروايتها، أما الخطبة الثانية للسيدة الزهراء عليهاالسلام والتي ألقتها في جماعة من النساء اللاتي جئن لعيادتها حينما وقعت طريحة الفراش، فليس عندنا نصّ يدلّ علي رواية السيدة زينب عليهاالسلام لهذه الخطبة، ولكن يمكن القول: بما أن زينب عليهاالسلام نقلت الخطبة الأولي العامة في المسجد، فالأوْلي أن تروي الخطبة الثانية في الدار، مع التأكيد مرة أخري علي افتقادنا لنصّ يدل علي روايتها لخطبة أمها الثانية.

وهذه الخطبة أيضاً يرويها الشيخ أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر بن أبي طيفور الخراساني البغدادي (م: 280 ه -) في (بلاغات النساء) بسنده عن التابعيّ عطية العوفي الكوفي من أصحاب الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: لما مرضت فاطمة عليهاالسلام المرضة التي توفّيت بها، دخل النساء عليها لعيادتها، فلما قلن لها: يا بنت رسول الله كيف أصبحتِ من عِلّتك؟ قالت لهن: أصبحت - والله - عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم! لفظتهم بعد أن عجمتُهم، وشَنأتُهم (كرهتُهم) بعد أن سبرتُهم (خبرتُهم) فقبحاً لفلول الحدّ، وخَوَرِ القنا وخطَل الرأي (بعد الجِدّ) و لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ

ص: 22

اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (1) لا جَرَم لقد قلدتهم ربقتها، وشنت عليهم عارها، فجدعاً وعُقراً وبُعداً للقوم الظالمين! ويحهم! أنّي زحزحوها (الخلافة) عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين، الطَبِن (الخبير) بأمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين.. (2) ، إلي آخر خطبتها عليهاالسلام.

ثم عرّجت بعد ذلك علي جوهر خطبتها، حيث استغربت إبعاد زوجها أمير المؤمنين عليه السلام عن الخلافة، وهو أولي بها لما حباه الله من الصفات الجليلة، ولكنها ذكرت العلّة في ذلك بقولها:

... ولكنهم نقموا عليه نكير سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله....

واستنكرت عليهم فعلهم ذلك، فلو سلّموه زمام أمورهم لسار بهم في أيسر السبل، ولم يألُ جهداً في تقديم النصح بإخلاص، لكنهم أبوا ذلك، فجرت علي الأمّة من المصائب والمحن التي أنذرتهم السيدة الزهراء عليهاالسلام منها.

********

(1) سورة المائدة: 80.

(2) بلاغات النساء: 19، 20 ط القاهرة لسنة 1361 ه -.

ص: 23

السيدة زينب بعد وفاة أمّها الزهراء عليهماالسلام:

بعد وفاة السيدة الزهراء عليهاالسلام، عمل زوجها أمير المؤمنين علي تنفيذ كافة وصاياها، ومنها الزواج بابنة أختها زينب وتسمّي (أمامة)، حيث قالت لأمير المؤمنين عليه السلام عندما اشتدّ بها المرض:

.. وأن تتزوج بعدي بابنة أختي زينب (أمامة) تكون لولدي مثلي.. (1) .

وإن دلّ هذا علي شيء، فإنّما يدلّ علي شدَّة حرص الزهراء عليهاالسلام علي عدم حرمان أولادها العطف والحنان الذي كانت توفره لهم السيدة الزهراء عليهاالسلام كما أنّه يدلّ علي المكانة المميّزة التي كانت تحتلها (أمامة) في قلب السيدة الزهراء عليهاالسلام.

وبعد تسع ليال من وفاة السيدة الزهراء عليهاالسلام خطب أمير المؤمنين عليه السلام (أمامة) من الزبير بن العوام الأسدي، فزوّجه إياها(2).

********

(1) كتاب سليم بن قيس 870:2 ومثله في مصباح الأنوار المخطوط (ق 6 ه -) عن الإمام الباقر عليه السلام، وانظر موسوعة التاريخ الإسلامي ج 4 للمحقق الهادي اليوسفي الغروي.

(2) مناقب آل أبي طالب، للحلبي الساروي المازندراني 351:3 عن قوت القلوب للمكي، وقيل: بل كان ذلك بعد خمسين يوماً من وفاة فاطمة عليهاالسلام كما في موسوعة التاريخ الإسلامي 44:3 بالهامش.

ص: 24

وقد كانت تلك المرأة الطيبة لزينب عليهاالسلام وإخوتها مثل أمّهم - كما أشارت إلي ذلك السيدة الزهراء عليهاالسلام - وتجدر الإشارة هنا إلي دور خادمتهم الصالحة فضّة الحبشية.

ولا ننسي، كذلك، ضمن أولئك النساء الصالحات، زوجة أمير المؤمنين عليه السلام الأخري السيدة العظيمة أم البنين الأربعة (فاطمة بنت حزام الكلابية)، وما كان لأولادها من دور كبير في كربلاء إلي جانب أخيهم الإمام الحسين عليه السلام وأختهم الطاهرة زينب عليهاالسلام، وهي التي استقبلت زينب عليهاالسلام عند ورودها مدينة جدّها رسول الله صلي الله عليه و اله بعد وقعة كربلاء وكان لها في ذلك موقف مشهود يدلّ علي شدّة إخلاصها للإمام الحسين عليه السلام.

زواج السيدة زينب عليهاالسلام:

كانت السيدة زينب عليهاالسلام مسمّاة لابن عمّها عبد الله بن جعفر الطيّار، كما جاء في الخبر عن ابن عباس(1).

وقد زوّجها الإمام علي عليه السلام لعبد الله بن جعفر، فولدت له

********

(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي البغدادي 50:12 عن الزّبير في الموفقيّات.

ص: 25

محمداً وعلياً وعباساً وعوناً الأكبر وأمّ كلثوم(1).

وأكبر الظن أن عبّاساً وُلد بعد وفاة عمّهم العباس بن عبد المطلب في أواخر عهد عثمان، فسمّي به وفاءً له وتخليداً لذكره، كما أن أمّ كلثوم ولدت بعد وفاة خالتها أم كلثوم بنت علي عليه السلام، فسمّيت باسمها وفاءً واحتراماً.

عبد الله بن جعفر مع علي والحسن عليهم السلام:

لقد كان أبناء جعفر الطيار ممن ثبتوا علي الحق مع أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و اله، ومنهم زوج السيدة زينب عليهاالسلام عبد الله بن جعفر الطيار، وأمّه أسماء بنت عميس، وقد شارك مع أمير المؤمنين في حروبه في الجمل وصفين، حيث كان عبد الله يتقدم علي عمّه أمير المؤمنين عليه السلام في صفين ليفديه بنفسه(2) ويدفع عنه المكاره.

وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يستشيره في بعض الأمور، ومنها تولية محمد بن أبي بكر (رض) علي مصر، حيث أشار عليه ابن

********

(1) انظر سفينة البحار 497:3 عن أسد الغابة للجزري الموصلي، وفي المعارف لابن قتيبة: 207 ولعُكاشة.

(2) تاريخ الطبري: 148:5 عن وقعة صفين.

ص: 26

جعفر بذلك فعمل أمير المؤمنين عليه السلام بمشورته، وولّي محمد بن أبي بكر عليها.

وبعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام وانتقال الإمامة والخلافة إلي ولده الإمام الحسن عليه السلام، كان عبد الله بن جعفر مع الإمام الحسن عليه السلام في جميع مواقفه، سواءً الحرب علي معاوية أو الصلح معه، وهذا يدلّ علي شدّة ولائه للإمام الحسن عليه السلام.

عبد الله بن جعفر مع الإمام الحسين عليه السلام:

لمّا عزم الإمام الحسين عليه السلام علي الخروج إلي كربلاء، كان لعبد الله بن جعفر موقف عظيم معه، يدلّ علي رسوخ إيمانه وعقيدته في التمسك بخط الإمامة.

وقد بلغ من شدّة حرصه علي حياة الإمام الحسين عليه السلام، أنّه لما علم بحضور الحسين عليه السلام في موسم الحج في مكة المكرمة، ذهب إلي والي الأمويين علي مكة آنذاك (عمرو بن سعيد الأشدق)، وطلب منه أن يكتب للإمام الحسين عليه السلام كتاب أمان يردّه عن الخروج إلي كربلاء، فقبل ذلك الوالي اقتراحه، فكتب عبد الله بن جعفر كتاب الأمان ذاك، ووقَّعه الوالي.

ص: 27

ولكن الإمام الحسين عليه السلام أبي ذلك، وعندها يذكر التاريخ لنا موقفاً مشرِّفاً آخر لعبد الله بن جعفر، حيث أذن لزوجته السيدة زينب عليه السلام بمرافقة أخيها الحسين عليه السلام في مسيره إلي كربلاء، كما أنه أمر ابنيه محمداً وعوناً أن يكونا مع خالهم الحسين عليه السلام، ليكونا عوناً له في نهضته، وقد جاهدا في كربلاء واستشهدا في ملحمة عاشوراء، وأما أمّهما السيدة زينب عليهاالسلام فقد أدت دورها وأتمت رسالتها بعد استشهاد أخيها الحسين عليهاالسلام وذلك عبر خطبها البليغة ومواقفها المشهودة التي خلّدها التاريخ فكانت بحق شريكة الحسين عليه السلام في نهضته المقدسة.

ص: 28

السيدة زينب عليهاالسلام في كربلاء

بطلة كربلاء ليلة عاشوراء:

كانت ليلة عاشوراء من الليالي الصعبة التي مرّت علي السيدة زينب عليهاالسلام، ولاسيما أنها كانت تعلم بما سيجري علي أخيها الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره في يوم عاشوراء، وما سيحلّ بها وبالنساء بعد استشهادهم، ويروي الإمام السجاد عليه السلام وقائع تلك الليلة وما جري بين السيدة زينب عليهاالسلام وأخيها الحسين عليه السلام، بقوله: كنت في الليلة التي قتل أبي في صبيحتها مريضاً، وعندي عمتّي زينب تمرّضني، إذ سمعت أبي يقول:

يا دَهرُ أفٍّ لكَ من خليل كم لكَ بالإشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلي الجليل وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

قال السجّاد عليه السلام: ففهمتها وعرفت ما أراد.. وعلمت أن

ص: 29

البلاء قد نزل، فخنقتني عبرتي ولكني رددتها ولزمت السكوت (لحضور عمتّي زينب)، ولكنّها لمّا سمعتْ ما سمعتُ، لم تملك نفسها ووثبت تجرّ ثيابها حتي انتهت إليه فنادت: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمّي، وَعَلِيُّ أبي، وحَسَنٌ أخي، يا خليفة الماضين وثمال الباقين.

فلما سمعها ورآها الحسين عليه السلام ناداها: يا أُخيّة، لا يذهبنّ بحلمكِ الشيطان. فقالت له: بأبي أنت وأمّي يا أبا عبد الله، أاستَقْتَلتَ نفسي فداك؟.

فترقرقت عيناه، ولكنّه ردّ غصّته، وقال لها: لو تُرك القطا ليلاً لنام.

فقالت عليهاالسلام: أتغتصب نفسَك اغتصاباً؟ فذلك أشدّ علي نفسي، وأقرح لقلبي. ثم خرَّت مغشيّاً عليها.

فلما رأي الحسين عليه السلام ذلك قام إليها بماء فصبّه علي وجهها وقال لها: يا أخيّة اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأنّ أهل السماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وهو

ص: 30

فرد وحده. أبي خيرٌ منّي، وأمّي خير منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة (في الموت). يا أخيّة، إني أقسم عليكِ فأبِرّي قَسمي: لا تشُقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدْعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت، ثم أخذ بيدها وجاء بها حتي أجلسها عندي(1).

زينب عليهاالسلام في يوم عاشوراء:

زحف عمر بن سعد بن أبي وقاص الزُّهري بجيشه صبيحة يوم العاشر من محرم الحرام، علي الإمام الحسين عليه السلام ومن معه من الهاشمييّن وأنصارهم، وقد استشهد الأنصار قبل بني هاشم، وفي مقدمة هؤلاء الهاشميين برز إلي ساحة القتال علي الأكبر ابن الحسين عليه السلام، وقاتل قتالاً شديداً حتي صُرع جريحاً، فخرج إليه أبوه الحسين عليه السلام، وكأن أخته زينب عليهاالسلام رأت أن تسترعي انتباه أخيها الحسين عليه السلام عن مصرع ابنه عليّ إلي نفسها فتصرفه عنه، قال الراوي: خرجت امرأة من الأخبية تنادي: يا أخيّاه، ويا ابن أخيّاه، فجاءت حتي أكبّت علي علي بن الحسين عليه السلام، فقام الحسين إليها،

********

(1) وقعة الطف: 200، 201 عن تاريخ الطبري 42:5، وإرشاد المفيد 93:2، 94.

ص: 31

وأخذ بيدها وردّها إلي الفسطاط(1).

وبعد استشهاد أنصار الحسين عليه السلام وأصحابه بقي وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين، فباشر القتال والدفاع عن نفسه بنفسه، وأقدم شمر عليه بالرجّالة عن يمينه وشماله، وأحاطوا به من كل جانب ومكان، ودنا منه عمر بن سعد، فخرجت الحوراء زينب عليهاالسلام ونادت عمر بن سعد: يا ابن سعد، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فصرف بوجهه عنها!(2).

زينب والعيال إلي الكوفة:

بعد أحداث عاشوراء أقام عمر بن سعد حتي يوم الحادي عشر من المحرّم، ثم أمر العسكر بالرجوع إلي الكوفة، وأمر بحمل بنات الحسين وأخواته، والصبيان وعليّ بن الحسين السجّاد وهو مريض، وعندما مرّت زينب علي جسد أخيها الحسين عليه السلام وهو صريع لم يُدفن نادت: يا محمّداه! يا محمّداه! صلّي عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء! يا محمّداه! وبناتُك سبايا، وذريتك مقتّلة تسفي عليها الصَّبا!.

********

(1) وقعة الطف: 243 عن تاريخ الطبري 446:5، وإرشاد المفيد 107:2 ط قم.

(2) وقعة الطف: 252-254 عن تاريخ الطبري وإرشاد المفيد.

ص: 32

فأبكت كل صديق وعدوّ، وصحن النسوة ولطمن وجوههن(1).

خطبتها عليهاالسلام في الكوفة:

روي المفيد في أماليه، عن المرزباني، عن الجوهري، بسنده عن حذلم بن بشير قال: قدمت الكوفة في المحرم سنة إحدي وستين (61 ه -. ق)، ومنصرف علي بن الحسين عليه السلام بالنسوة من كربلاء مع الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، وهم علي جمال بغير وِطاء، وجعل نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن.

فقالت زينب عليهاالسلام - وكأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام -:

الحمد لله، والصلاة علي أبي رسول الله، أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والخذل، فلا رقأت العَبْرة ولا هدأت الرنّة، فما مثلكم إلا ّ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ (2).

ألا وهل فيكم إلا الصَّلِف النَّطِف والصدر الشَّنِف، خوّارون في

********

(1) المصدر السابق.

(2) النحل: 92.

ص: 33

اللقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة مضيِّعون للذمَّة لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (1) .

أتبكون؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، لقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنَسها عنكم أبداً، فسليل خاتم الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم وأمارة محجتكم، ومدرجة حجتكم خذلتم وله قتلتم، ألا ساء ما تزرون، فتعساً ونُكساً، فلقد خاب السعي وتربت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلة والمسكنة.

ويلكم! أتدرون أي كبدٍ لرسول الله فريتم؟! وأيَّ دَمٍ له سفكتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (2) .

لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء، مِلءَ الأرض والسماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دماً؟! ولعذاب الآخرة أخزي، فلا يستخفّنكم المَهَل،

********

(1) المائدة: 8.

(2) مريم: 90:89.

ص: 34

فإنه لا يحفّزه البدار ولا يُخاف عليه فوت الثار، وإنّ ربّك لبالمرصاد.

قال الراوي: فرأيت الناس حياري قد ردّوا أيديهم في أفواههم ورأيت شيخاً قد بكي حتي اخضلّت لحيته وهو يقول:

كهولهم خير الكهول ونسلهم إذا عُدَّ نسل لا يخيب ولا يخزي(1)

ولمّا أرادوا إدخالهنّ إلي قصر دار الإمارة علي الأمير الأمويّ عُبيد الله بن زياد، لبست زينب عليه السلام أرذل أثوابها لتتنكّر فلا يعرفوها، وأمرت الإماء والجواري أن يحففن حولها لتجلس بينهنّ متنكرة. ولكن الأمير الأموي ابن زياد أراد أن يشهِّر بها فنادي: مَن هذه المتنكرة؟ ثلاث مرات.

فبدرت أمة من إمائها وقالت: هذه زينب، ابنة فاطمة!.

فلما عرفها ابن زياد قال لها: الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وأكذب أحدوثتكم.

فقالت عليهاالسلام: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلي الله عليه و اله، وطهّرنا

********

(1) أمالي المفيد ح 8 م 38 وعنه في أمالي الطوسي ح 51 م 3، وأقدم مصدر بلاغات النساء: 34 ط بيروت.

ص: 35

تطهيراً(1) لا كما تقول أنت، إنّما يفتضح الفاسق ويُكذَّب الفاجر.

قال: فكيف رأيت صُنع الله بأهل بيتك؟

قالت عليهاالسلام: هؤلاء قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا إلي مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتُحاجّون إليه وتُخاصمون عنده.

فغضب ابن زياد واستشاط وقال لها: قد أشفي الله نفسي من طاغيتكِ والعُصاةِ المَرَدَةِ من أهل بيتك!

فبكت، ثم قالت عليهاالسلام: لعَمري لقد قتلت كَهلي، وأبَرْت (قطعت) أهلي، وقطعت فرعي واجتثثت (قلعت) أصلي، فإن يَشفك هذا فقد اشتفيت.

ثم نظر ابن زياد إلي عليّ بن الحسين عليهماالسلام فقال له: ما اسمُك؟

قال: أنا عليّ بن الحسين.

قال: أوَلَم يقتل الله عليّ بن الحسين؟ فسكت (الإمام عليه السلام).

********

(1) تُشير إلي آية التطهير 33 من سورة الأحزاب.

ص: 36

فقال ابن زياد: ما لك لا تتكلّم؟

قال: قد كان لي أخ يقال له أيضاً، علي، قتله الناس.

قال ابن زياد: بل الله قد قتله، فسكت عليّ بن الحسين عليه السلام.

فقال ابن زياد: ما لك لا تتكلّم؟

فتلا الإمام قوله سبحانه في سورة الزُّمر: اَللّهُ يَتَوَفَّي الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها .

فغضب ابن زياد أيضاً، وقال له: أنت -- والله -- منهم، ثم أمر بقتله. فتعلّقت به عمّته زينب، وقالت لابن زياد: يا ابن زياد، حسبك منّا، أما رُويت من دمائنا؟ وهل أبقيت أحداً منّا؟! فإن كنت مؤمناً أسألك بالله إن كنت تقتله لما قتلتني معه.

فنظر إليها ثم قال: عجباً للرّحم، والله لودّت لو قتلته أن أقتلها معه، دعوه(1).

ثم أمر الأمير الأموي ابن زياد بالإمام السجّاد عليه السلام فغُلّ بغُلٍّ من

********

(1) وقعة الطف: 259-263 عن تاريخ الطبري وإرشاد المفيد.

ص: 37

حديد في يديه ورجليه إلي عنقه، وأمر بنساء الحسين عليه السلام وصبيانه، فجُهّزن إلي يزيد بن معاوية الأموي إلي دمشق الشام.

ص: 38

السيدة زينب عليهاالسلام في الشام

زينب عليهاالسلام في مجلس يزيد بالشام:

ولما قدموا بالسيدة زينب عليهاالسلام والإمام السجاد عليه السلام وأهل بيت النبوّة إلي الشام دعا يزيد أشراف أهل الشام وجلس جِلسة عامّة، وأجلس الأشراف حوله، ثم دعا بعليّ بن الحسين عليه السلام، وصبيان الحسين ونسائه فأدخلوهم عليه، والناس ينظرون حتي أجلسوهم بين يديه علي هيئة قبيحة.

وكان من بنات الحسين عليه السلام فاطمة ابنته وهي جارية صغيرة، فظن رجل من أشراف أهل الشام أنهنّ من الإماء والجواري وله أن يطلب من الأمير يزيد أن يهبَ له من شاء منهن، فقام إلي يزيد وقال له: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه. وأشار إلي فاطمة بنت الحسين عليه السلام.

فروي عن السيدة فاطمة هذه أنها قالت: ظننت أن ذلك جائز

ص: 39

لهم، فخفت وأرعدت، وأخذت بثياب عمتّي زينب عليهاالسلام، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون لهم، فقالت عليهاالسلام للرجل: كذبت، والله، ولؤمتَ، ما ذلك لك ولا له.

فلما سمعها يزيد، غضب، وقال لها: كذِبتِ والله، إنّ ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت.

فقالت زينب عليهاالسلام: كلاّ والله، ما جعلَ الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملّتنا، وتدينَ بغير ديننا.

فغضب يزيد واستشاط غيظاً ثم قال: أإياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.

فقالت زينب عليهاالسلام: بدين الله ودين أبي وأخي وجدّي، اهتديت أنت وأبوك وجدّك.

فقال: كذبتِ يا عدوّة الله.

فقالت عليهاالسلام: أنت أمير مسلَّط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك(1) .

فسكت.

********

(1) وقعة الطف: 267-272 عن تاريخ الطبري وإرشاد المفيد.

ص: 40

خطبتها عليهاالسلام في مجلس يزيد:

وروي الخوارزمي بسنده عن رجل من بني تميم من أهل الكوفة قال:

كان رأس الحسين عليه السلام في طشت بين يدي يزيد، وجعل ينكت ثناياه بمخصرة في يده ويقول:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل

فقامت زينب بنت علي عليهماالسلام وقالت: «الحمد لله رب العالمين، وصلي الله علي رسوله وآله أجمعين، صدق الله (سبحانه) حيث يقول: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواي أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأساري. أنّ بنا علي الله هواناً،

ص: 41

وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيت قول الله تعالي: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (1).

أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، يحدو بهنّ الأعداء من بلد الي بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، ليس معهنّ من حماتهنّ حمي، ولا من رجالهنّ ولي؟.

وكيف يرتجي مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟.

وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟ ثم تقول غير مستأثم ولا مستعظم:

********

(1) الروم: 10.

ص: 42

لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل

منحنياً علي ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب. أو تهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت.

اللهم خُذ لنا بحقّنا، وانتقم ممّن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولَتَرِدَن علي رسول الله بما تحمّلت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في ذريته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقهم: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (1).

وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً وبجبرئيل ظهيراً.

********

(1) آل عمران: 169.

ص: 43

وسيعلم من سوّل لك، ومكّنك من رقاب المسلمين بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً (1) أيّكم شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ؟(2).

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبري، والصُدور حرّي، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي، تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدن وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، وإلي الله المشتكي وعليه المعول.

فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها. وهل رأيك إلا فند؟ وأيامك إلا عدد؟ وجمعك إلا بدد؟ يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله علي الظالمين.

********

(1) الكهف: 50.

(2) مريم: 75.

ص: 44

والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل»(1).

ثم سيّرهم يزيد بن معاوية مع النعمان بن بشير الأنصاري إلي المدينة.

********

(1) مقتل الحسين عليهاالسلام للخوارزمي: 71:3-74، بلاغات النساء: 31-33 ط بيروت.

ص: 45

ابيض

ص: 46

السيدة زينب عليهاالسلام بعد فاجعة كربلاء

اشارة

وأما أحوال السيدة زينب عليهاالسلام في المدينة بعد رجوعها من الشام فإنها لما عادت والإمام السجاد وأهل بيته عليه السلام إلي مدينة جدّهم رسول الله صلي الله عليه و اله، بلغ عبد الله بن جعفر زوج زينب مقتل ابنيه محمد وعون مع الحسين عليه السلام، فجلس للعزاء عليهم، وأخذ الناس يدخلون عليه يعزّونه بمصابه بهم، فلما اجتمعوا عنده قال: الحمد لله عزّ وجل علي مصرع الحسين، إن لم تكن يداي واست حسيناً فقد واساه وَلَداي، والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتي أُقتل معه، والله إنه لممّا يُسخي بنفسي عنهما، ويهوّن عليّ المصاب بهما، أنهما أصيبا مع أخي وابن عمّي، مواسين له صابرين معه(1).

********

(1) وقعة الطف: 272-274، عن تاريخ الطبري، 5:466 وإرشاد المفيد 124:2.

ص: 47

ونقل العبيدلي العرجي في كتابه (أنساب آل أبي طالب)(1) بسنده عن مصعب بن عبد الله، قال: لما قام عبد الله بن الزبير بمكة، وحمل الناس علي الأخذ بثأر الحسين، وخلع يزيد، وبلغ ذلك أهل المدينة، خطبت زينب فيهم وصارت تؤلّبهم علي القيام للأخذ بالثأر، فبلغ ذلك الأمير الأموي علي المدينة عمرو بن سعيد الأشدق وكتب إلي يزيد يُعلمه بالخبر.

فكتب يزيد إليه: أن فرّق بينها وبينهم (أهل المدينة).

فأبلغها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء(2).

وخرجت الحوراء زينب عليهاالسلام من المدينة كرهاً، في أواخر شهر ذي الحجة سنة 61 للهجرة أي قبل أن يحول الحول علي قتل أخيها

الحسين عليه السلام ومعها ابنتاه فاطمة وسكينة، قاصدة مصر أو الشام

********

(1) إن أقدم مصدر معتبر لأخبار السيدة زينب عليهاالسلام هو ما كتبه السيد علي بن الحسن العبيدلي الأعرجي، المنسوب إلي عُبيد الله الأعرج بن الحسين بن علي بن الحسين السجّاد عليه السلام، الذي أدرك الإمام الرضا عليه السلام وروي عنه، له كتاب: أنساب آل أبي طالب، ولذا عُرّف بالعُبيدلي النسّابة، وله رسالة أخبار الزينبات، جمع فيه الأخبار التي تخص المسمّيات بزينب المنتسبات إلي بني هاشم منهن، أو من غيرهنّ، ومنهنّ السيدة زينب بنت فاطمة عليهاالسلام، وهي رسالة مطبوعة ومنشورة.

(2) السيدة زينب وأخبار الزينبات للعُبيدلي ص 19-22، نشر حسن محمد قاسم ط المنيرية، بمصر.

ص: 48

بحسب اختلاف روايات المؤرخين.

وبعد مضي سنة توفيت عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوماً مضت من شهر رجب سنة 62 للهجرة، وكما اختُلف في محل إقامتها طوال هذه السنة اختلف في محل دفنها بين المدينة ومصر والشام. وسنتعرض لهذا البحث بشكل موجز فيما يلي.

مراقد الزينبات بنات علي عليهماالسلام:

ذكر السيد العُبيدلي الأعرجي الحسينّي النسّابة (م: 277 ه -) في كتابه (أخبار الزينبات) لأمير المؤمنين علي عليه السلام زينباً أخري لقبّها بالصغري، وقال: أمّها أم ولد، خطبها عقيل أخو علي عليه السلام لابنه محمد، فزوّجه إياها، فولدت له: القاسم، وعبد الله، وعبد الرحمن، وماتت زينب هذه بالمدينة. وذكر له زينباً أخري، ولقبّها بالوسطي(1). وهذه أيضاً دفنت كالسابقة في المدينة، وأمّا زينب الكبري بطلة كربلاء ففي موضع دفنها أقوال ثلاثة:

القول الأول: إنها دفنت في المدينة في مقبرة البقيع وهذا القول

خلاف المشهور.

القول الثاني: أنها دفنت في مصر.

********

(1) السيدة زينب وأخبار الزينبات ص 23، نشر حسن محمد قاسم، ط المنيرية، مصر.

ص: 49

القول الثالث: أنها دفنت في ناحية دمشق الشام.

وقال الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (مع بطلة كربلاء السيدة زينب عليهاالسلام بنت أمير المؤمنين عليه السلام):

ويلاحظ أن علماءنا الذين عليهم الاعتماد، كالكليني والصدوق والمفيد والطوسي والحلي لم يتعرضوا لمكان قبرها، حتي نرجح بقولهم كلاً أو بعضاً أحد الأقوال الثلاثة، فلم يبق إلا الشهرة بين الناس.

وإذا نظرنا في الأقوال الثلاثة ليس من شك أن زيارة المشهد المشهور بالشام، والجامع المعروف بمصر بقصد التقرب إلي الله سبحانه تعظيماً لأهل البيت عليه السلام الذين قربهم الله، ورفع درجاتهم ومنازلهم، حسنة وراجحة، لأن الغرض إعلان الفضائل، وتعظيم الشعائر، والمكان وسيلة لا غاية، وقد جاء في الحديث: نية المرء خير من عمله(1).

وعلي هذا الأساس لابدّ من الاهتمام بزيارتها أينما كانت، وبما أنه لم يذكر العلماء

********

(1) مع بطلة كربلاء السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليهاالسلام، طبعة دار التيار الجديد 91-251.

ص: 50

لزيارتها نصّاً خاصّاً بها، يمكننا أن نزورها بتلك الزيارات العامّة التي يُزار بها أولاد الأئمة عليهم السلام.

والأفضل أن تزار بالزيارة التي وردت للسيدة فاطمة المعصومة عليهاالسلام بتغيير بعض الألفاظ والأسماء، وسوف نذكر نص الزيارتين مع مصادرهما في آخر الكتاب..

سائلين المولي العزيز أن يوفقنا جميعاً لزيارتها في الدنيا وشفاعتها في الآخرة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

****

ص: 51

ابيض

ص: 52

عقيلة الوحي

اشارة

زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

بمناسبة وصول الضريح الذي تبرع به إخواننا الإيرانيون ليودع مقام السيدة زينب عليهاالسلام

في قرية الست عام (1334 ه -)

بقلم

الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره

ص: 53

ص: 54

مقدمة

اشارة

ما برح الإيرانيون مثالاً سامياً في الغيرة علي مساجد الله تعالي ومقامات أهل البيت عليه السلام، لا تكاد تمضي فترة حتي تجود أريحياتهم(1) بما يرفع من شأن هاتيك المساجد والمقامات، كأنما خصّوا بهذه الخدمة يرونها ديناً في أعناقهم إلي الأبد. وليس أدلّ علي ذلك من أننا لو جمعنا تضحياتهم في هذا السبيل لأنافت علي غيرها من التضحيات مجتمعة، وكان آخر ما دفعهم إليه الإيمان الصادق وحب آل البيت الطاهر أنهم توفروا علي صنع ضريح رائع من الأبنوس والموزاييك والعاج، مطعّم بخيوط من الذهب ومرقوم ببعض الآي الحكيم والشعر والنقوش، وخصّوا به مقام السيدة زينب عليهاالسلام، عقيلة الوحي في قرية الست من ضواحي دمشق.

وبهذه المناسبة التمسنا من سماحة المجتهد الأكبر السيد

********

(1) الأريحي: ذو الشهامة النفل.

ص: 55

عبد الحسين شرف الدين، حفظ الله مهجته، أن يتحف الرأي العام بنبذة تاريخية عن السيدة زينب عليهاالسلام، ومن غيره أولي بخوض مثل هذا الموضوع، فتكرَّم بهذه الرسالة ننشرها شاكرين.

الحاج مهدي البهبهاني

ص: 56

بسم الله تعالي

حيّاك الله صفوة المؤمنين ومفخرة الحجاج والمعتمرين التقي النقي الإيماني الحاج مهدي البهبهاني المحترم حفظه الله تعالي.

والسلام عليكم وعلي من إليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه الكلمة التي أردتموها للحفلة التي ستقيمونها إن شاء الله تعالي في مشهد السيدة عقيلة الوحي والنبوة زينب عليهاالسلام بمناسبة الصندوق الشريف فهي تصور مقام أهل بيت النبوة عامة وتفضلهم علي العالمين وتمثل مشاهدهم ولاسيما مشهد السيدة زينب عليهاالسلام زينة للناظرين وفخراً وبهجة للمؤمنين، وتذكر الإيرانيين وبشائر القرآن بهم وثناءه عليهم وتشكرهم علي اهتمامهم بتعظيم شعائر الله عز وجل، ولاسيما مشاهد الأئمة وتذكر في الأثناء صندوقهم الشريف.

وسترون في هذه الكلمة أحوال السيدة زينب عليهاالسلام وعظمتها

ص: 57

وعظمة مواقفها التي ما وقفتها امرأة من بنات حواء، فالأمل أن تبرقوا لنا بتعيين يوم الحفلة، فإذا لم نوفق للحضور، فليتلُ الخطبة ابن العم الأكرم السيد رشيد مرتضي.

والسلام عليه وعليكم ورحمة الله وبركاته..

صور في 20 شعبان 1334 ه -

عبد الحسين شرف الدين

ص: 58

بسم الله الرحمن الرحيم

الله نحمد، استتماماً لنعمته، والحمد فضله، وإياه نشكر، استسلاماً لعزته، والشكر طوله، حمداً وشكراً كما هو أهله، ونسأله تسهيل ما يلزم حمله وتعليم ما لا يسع أحداً جهله، ونستعينه علي القيام بما يبقي أجره، ويحسن في الملأ الأعلي ذكره.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلي الله عليه و اله أفضل نبي أرسله، وعلي الخلاق كلها اصطفاه وفضله صلي الله عليه وعلي الأئمة الاثني عشر من عترته الذين حفظوا ما حمله، وعقلوا عنه من شرائع الله ما عن الله عقله، حتي قرن بينهم وبين محكم الكتاب، وجعلهم قدوة لأولي الألباب، إلي يوم البعث والحساب.

من نصوص الثقلين:

ولذلك قال صلي الله عليه و اله يوم عرفات في حجة الوداع، أثناء خطبته تلك العظيمة التي صدع بها رافعاً صوته لتسمعه تلك الأشهاد المجتمعة من

ص: 59

أقطار المسلمين:

أيها الناس.. لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض.

ثم قال للناس: ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم. قال: اللهم فاشهد..(1).

ثم لما قفل من حجة الوداع راجعاً إلي المدينة بمن كان معه من الحجاج وانتهي في سيره إلي حيث تفترق بهم الطرق إلي بلادهم حط رحله علي غدير في أرض يقال لها خماً. فأرجع إليه من تقدمه من الحجاج، وألحق به من تأخر منهم عنه، فلما اجتمعوا صلي بهم الفريضة، ثم خطبهم عن الله عز وجل فصدع بالنص علي علي باسمه وعلي الأئمة من بعد علي علي سبيل الإجمال فقال رافعاً صوته وهو مشرف عليهم وعلي دونه بمرفقاة:

أيها الناس يوشك أن أدعي فأجيب، وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟.

********

(1) بحار الأنوار 113:37.

ص: 60

قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجاهدت ونصحت فجزاك الله خيراً.

فقال صلي الله عليه و اله: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق وأن ناره حق وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.

قالوا: بلي نشهد. قال صلي الله عليه و اله: اللهم اشهد.

ثم قال صلي الله عليه و اله: يا أيها الناس.. إن الله مولاي وأنا مولي المؤمنين وأنا أولي بهم من أنفسهم. ثم أخذ بيد علي فرفعها قائلاً: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

ثم قال صلي الله عليه و اله: يا أيها الناس.. إني فرطكم وإنكم واردون علي الحوض، حوضاً اعرض مما بين بصري إلي صنعاء، فيه عدد النجوم قد حان من فضة، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله عز وجل وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا. وعترتي أهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا

ص: 61

حتي يردا علي الحوض (1) .

هذا ما اجتمعت الأمة المسلمة كافة علي صحته بلفظه هذا عن رسول الله صلي الله عليه و اله ليس فيها من يرتاب في ذلك علي اختلافهم في المذاهب والمشارب كما فصلناه في مراجعتنا وغيرها من الكتب المنتشرة فلتراجع.

وكان صلي الله عليه و اله قبل ذلك قد صدع بهذا مراراً، لكنه إنما كان في حضور جماعة من الناس خاصة، مرة بعد انصرافه من الطائف، وأخري في البقيع، ومرات عديدة علي منبره الشريف في المدينة، وإليكم نصه الأخير وهو في حجرته علي فراش الموت، والحجرة غاصة بأصحابه إذ قال صلي الله عليه و اله يومئذٍ:

أيها الناس.. يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدمت إليكم القول معذرةً إليكم ألا وإني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي. ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع عليّ حتي يردا عليّ الحوض (2) .

********

(1) بحار الأنوار 121:37.

(2) راجع الأمالي: للطوسي ص 478.

ص: 62

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (1) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ * وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحي * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوي (3) .

وكم له صلي الله عليه و اله من أمثالها سنناً صحيحة صريحة في أهل بيته الطيبين الطاهرين كقوله صلي الله عليه و اله في حديث أبي ذر الغفاري: إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق(4).

وقوله صلي الله عليه و اله في حديث ابن عباس: النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف الحديث(5).

إلي كثير من أمثال هذه نصوصاً تخشع أمامها العيون، وتعنو لها

********

(1) التكوير: 19-21.

(2) التكوير: 40-43.

(3) النجم: 3-5.

(4) بحار الأنوار 105:23.

(5) راجع بحار الأنوار 122:23.

ص: 63

الجباه وتوجب للعترة الطاهرة جلالة من الله عز وجل ورسوله لا يسمو أليها آمل، ومنزلة لا يتعلق بها درك، حيث لا يفوقهم فائق، ولا يلحقهم بعدها لاحق، حتي لا يبقي بر ولا فاجر، ولا مسلم ولا كافر إلا عرّفهم جلالة أمرهم وشرف منزلتهم في الإسلام.

ولا غرو فقد نصحوا لله ولرسوله في السر والعلانية، ودعوا إلي سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلوا أنفسهم في سبيل الله وصبروا علي الأذي قتلاً ومثلة وسبياً في جنبه، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا مؤتمرين به ونهوا عن المنكر منتهين عنه وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، حتي أعلنوا دعوته وبينوا فرائضه، وأقاموا حدوده، ونشروا شرائعه وسنوا سننه، وصاروا في ذلك منه إلي الرضا، وسلموا له القضاء، وصدقوا من رسله من مضي.

مشاهدهم:

وبهذا جعلهم الله سبحانه بعد الموت كما كانوا أيام حياتهم الأولي، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ

ص: 64

وَ الْأَبْصارُ (1) . وجعل صلواتنا عليهم، وما خصنا به من ولايتهم طيباً لخلقنا، وطهارة لأنفسنا، وتزكية لنا، وكفارة لذنوبنا، فكنا مسلمين بفضلهم، ومعروفين بتصديقنا إياهم(2).

مشهد العقيلة:

وهذه أم المصائب عقيلة الوحي والنبوة، وخفرة علي وفاطمة عليهماالسلام؛ زينب عليهاالسلام. بلغ من عناية الله تعالي بها وكرامتها عليه، أن كان مشهدها هذا منذ حلت في رمسه، كل سنة هو أفخم وأعظم منه في سابقتها، حتي بلغ اليوم أوج العظمة والعلاء.

يطوف المسلمون بهذا المشهد، ويعتصمون به، فإذا هو علي الدوام أمل الراغب الراجي عفو ربه عن ذنوبه، وأمن الراهب التائب اللاجئ في ستر عيوبه، يتضرع به إلي الله تعالي في طلب حوائجه الدنيوية والأخروية، منيباً إليه تواباً مخلصاً لله في ذلك ليغفر ذنوبه، ويستر عيوبه، ويقضي حوائجه، متوسلاً إليه تعالي بأم المصائب في سبيله عز وجل.

********

(1) النور: 36-37.

(2) فقرات من دعاء الندبة.

ص: 65

هذا شأن المخلصين لله تعالي في حفظ رسول الله في عترته من بعده، يعظمون شعائرهم لأنها من شعائر الله تعالي وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ (1).

تعلق المؤمنين به:

وإن للمؤمنين في تعظيم شعائر الله عز وجل، بتشييد المعابد والمشاهد والمعاهد، أيادي بيضاء غراء، تستوجب الحمد والثناء، ولاسيما إيران وما أدراك ما إيران، شعب أخلص لله عز وجل في طاعته، وانقطع الي رسول الله وأهل بيته في ولائه، ينهج في الدين سبيلهم، ويقفوا فيه أثرهم، ولا يطبع إلا علي غرارهم، وله في تعظيم شعائرهم ومشاعرهم التي أذن الله أن ترفع بالقيام عليها غاية تتراجع عنها سوابق الهمم، ولاسيما ما كان منها في العراق وخراسان.

وقد حمل الإيرانيون اليوم إلي عقيلة الوحي والنبوة هذا الضريح، يُزري بالعقيان، وبما هو أغلي وأعلي من العقيان والجواهر، بوؤوه ضريحها الشريف، فتبوؤوا بذلك ذروة الشرف،

********

(1) الحج: 32.

ص: 66

ونالوا به من الفردوس أعلي الغرف، جددوا به قديم نعمائهم في جميع المشاهد المشرفة، وجدّد لهم نوابغ القسم، وضاعف لهم هباته المتناسقة، وظاهر عليهم آلاءه المترادفة.

بشائر الذكر الحكيم بهم:

ولعمري إن لهم في الإسلام رتبة بعيدة المرتقي، باذخة الذري، حسبهم ما في الذكر الحكيم من الثناء عليهم، والبشارة بهم في عدة آيات.

إحداها قوله تعالي: فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ (1) ، إذ قيل في تفسيرها - كما في مجمع البيان وغيره - أن رسول الله صلي الله عليه و اله سئل عنهم فضرب بيده علي عاتق سلمان فقال صلي الله عليه و اله: هذا وذووه.

ثم قال صلي الله عليه و اله: لو كان الدين معلقاً بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس(2).

والثانية قوله عز من قائل في سورة محمد صلي الله عليه و اله مخاطباً للمقصرين

********

(1) المائدة: 54.

(2) راجع: بحار الأنوار 22:52.

ص: 67

من مسلمي العرب: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (1) إذ رووا في تفسيرها - كما في مجمع البيان وغيره - إن أناساً من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و اله قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان سلمان الي جنب رسول الله صلي الله عليه و اله فضرب بيده علي فخذ سلمان فقال صلي الله عليه و اله: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس(2).

الثالثة قوله عز وجل في سورة الجمعة: وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (3) إذ رووا في تفسيرها - كما في مجمع البيان وغيره - أن النبي صلي الله عليه و اله قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده علي كتف سلمان وقال صلي الله عليه و اله: لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء.

ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) . ومختصر القول في مؤمني إيران أنهم ممن لا يجاذبهم بحبل الإيمان

********

(1) محمد: 38.

(2) راجع بحار الأنوار 22:52.

(3) الجمعة: 3.

(4) الحديد: 21.

ص: 68

أحد، ولا يكايلهم بصاعه بشر، فطوبي لهم وحسن مآب.

عقيلة الوحي:

أما عقيلة الوحي والنبوة، فأبوها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أخو النبي ووليه ووزيره ونجيبه ووارث علمه ووصيه، وأول الناس إيماناً بالله، وأعلمهم بأحكامه، فتي الإسلام شجاعة وتقي، وعلماً وعملاً وزهداً في الدنيا، ورغبة فيما عند الله.

وأمها فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وخير نساء أهل الجنة وأفضلهن بحكم النص الصريح الصحيح، وإجماع الأمة كافة، آثرها الله عز وجل بذرية نبيه، فإن ذرية كل نبي من صلبه إلا رسول الله صلي الله عليه و اله فإن ذريته إنما هي من علي وفاطمة.

وجدّها لأمها: سيد المرسلين. وخاتم النبيين محمد صلي الله عليه و اله البشير النذير السراج المنير، وكفي بذلك فخراً.

وجدّتها لأمها: خديجة بنت خويلد أم المؤمنين صدّيقة هذه الأمة، وأولها إيماناً بالله، وتصديقاً بكتابه ومواساة لرسوله صلي الله عليه و اله.

قال لها رسول الله صلي الله عليه و اله: يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام عن الله عز وجل، ويبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه

ص: 69

ولا نصب (1) .

فقالت في جوابه: الله عز وجل هو السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام، وعلي رسول الله وعلي جبرائيل السلام، ورحمة الله وبركاته(2).

انفردت برسول الله صلي الله عليه و اله خمساً وعشرين سنة لم تشاركها فيه امرأة ثانية، ولو بقيت ما شاركها فيه أخري، وكانت شريكته في محنته طيلة أيامها معه، تقويه بمالها، وتدافع عنه بكل ما لديها من قول أو فعل، وتعزيه بما يفاجئه به الكفار في سبيل الرسالة وأدائها، وكانت هي وعلي عليه السلام معه في غار حراء، إذ نزل عليه الوحي أول مرة. ولما ماتت خديجة عليهاالسلام وأبو طالب عليه السلام وكانت وفاتهما في عام واحد، حزن رسول الله صلي الله عليه و اله عليهما حزناً شديداً، وسماه عام الحزن. وأوحي الله سبحانه إليه في ذلك العام: أن اخرج فقد مات ناصرك، فكانت الهجرة المباركة.

هاجر وفي قلبه ذكري لصديقته المواسية، فكان يكثر ذكرها وبرها والصدقة عنها، حتي قالت عائشة (رض): ما تذكر من عجوز

********

(1) راجع: العمدة 392.

(2) راجع بحار الأنوار 8:16.

ص: 70

حمراء الشدقين قد هلكت فأبدلك الله خيراً منها؟ فتغير وجه النبي صلي الله عليه و اله ورد عليها غضبان: والله ما أبدلني خيرا منها آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني منها ولداً إذ حرمني من غيرها(1).

وجدّ زينب لأبيها: شيخ الأباطح، وبيضة البلد أبو طالب ابن عبد المطلب عليهماالسلام، عم النبي صلي الله عليه و اله القائم في كفالته مقام أبيه، إذ مات أبوه عبد الله وهو جنين، ثم مات جدّه عبد المطلب عليه السلام، والنبي صلي الله عليه و اله في السابعة من عمره الشريف، فكفله عمه أبو طالب عليه السلام، فكان أفضل أب عطوف، لم يغفل عما يجب له لحظة واحدة، ولم يسلمه إلي طغاة قريش، وقد لجوا في طغيانهم يعمهون، إذ طلبوه منه، ولا سيما إذ سمعوه صلي الله عليه و اله يقول: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أموت دونه(2) ، فيحنو عليه، حنو المرضعات علي الفطيم وهو يقول: اذهب وشأنك فوالله لا أسلمك لشيء أبداً. وهو القائل من قصيدة يخاطب بها طغاة قريش:

********

(1) روضة الواعظين 219:2.

(2) بحار الأنوار 182:18.

ص: 71

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا نعبأ بقول الأباطل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

و يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل

وميزان صدق لا يخيس شعيرة ووزان حق وزنه غير غائل(1)

وقال في قصيدة أخري:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسي خط في أول الكتب

أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبي ويصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب

أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصي بنيه بالطعان وبالضرب(2)

وقال مخاطباً رسول الله صلي الله عليه و اله في قصيدة أخري:

أنت النبي محمد قرم أغر مسود

لمسوّدين أكارم طابوا وطابت المولد

وقد عهدتك صادقاً بالقول لا تتزيد

ما زلت تنطق بالصوا ب وأنت طفل أمرد

أني تضام ولم أمت وأنا الشجاع العربد(3)

********

(1) بحار الأنوار 166:35.

(2) بحار الأنوار 92:35.

(3) بحار الأنوار 164:35.

ص: 72

وكان مما نادي به معلناً:

يا شاهد الله علي فاشهد أني علي دين النبي أحمد

من شك في الدين فإني مهتدي(1)

إلي كثير من أمثال هذه الدُّرر والغرر، الدالة علي علو مكانته في الإيمان، وحسن بلائه في حمايته لرسول الله صلي الله عليه و اله.

وجدّة زينب لأبيها: فاطمة بنت أسد بن عبد مناف بن هاشم زوجة أبي طالب عم رسول الله صلي الله عليه و اله وأول هاشمية ولدت لهاشمي. كانت من السابقات الي الإسلام، فحسن إسلامها، وأوصت الي النبي صلي الله عليه و اله إذا حضرتها الوفاة، فقبل وصيتها، وكفنها بقميصه، وصلي عليها، ونزل في لحدها، فاضطجع معها فيه، فقال له بعض أصحابه: ما رأيناك صنعت بأحد هذا الصنع؟ فقال صلي الله عليه و اله: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب عليه السلام أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسي من حلل الجنة، واضطجعت معها في قبرها ليهون عليها(2).

هذا نسب العقيلة، ولها من الحسب ما يكافئ هذا النسب

********

(1) بحار الأنوار 409:34.

(2) شرح نهج البلاغة 14:1.

ص: 73

شرفاً ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1).

ولدت عليهاالسلام سنة ست للهجرة(2) وهي سنة صلح الحديبية، ونزول سورة الفتح علي رسول الله صلي الله عليه و اله وهو قافل منها إلي المدينة. فكانت في الهاشميات كالتي أنجبتها. تنطق الحكمة والعصمة من محاسن أخلاقها، ويتمثلان وما إليهما من أخلاق في منطقها وأفعالها، فلم يُر أكرم منها أخلاقاً، ولا أنبل فطرة، ولا أطيب عنصراً، ولا أخلص جوهراً، إلا أن يكون جدها واللذين أولداها، وكانت ممن لا يستفزها نزق ولا يستخفها غضب، ولا يروع حلمها رائع، آية من آيات الله في ذكاء الفهم، وصفاء النفس، ولطافة الحس، وقوة الجنان، وثبات الفؤاد، في أروع صورة من الشجاعة والإباء والترفع، وحسبك في ذلك موقفها من الطاغية عبيد الله بن زياد إذ دخلت عليه، وقد حفّ بها إماؤها فأخذت مجلسها دون أن تلقي بالاً إليه، فحدث اللعين بها عينيه، وهي تجلس بادية الترفع، لا تنتظر أن يأذن لها في الجلوس. فكلمها مرتين أو ثلاثاً وهي لا تجيب احتقاراً له، وتكبراً عليه.

********

(1) آل عمران: 34.

(2) في الخامس من جمادي الأولي في المدينة المنورة.

ص: 74

فقال الطاغية مستخفاً من هذه؟ فأجابت إحدي إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب أحدوثتكم.

فقالت عليهاالسلام في جوابه: الحمد لله الذي أكرمنا بنبينا محمد صلي الله عليه و اله وأذهب عنا الرجس أهل البيت وطهرنا تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله(1).

فقال: كيف رأيت صنع الله بأخيك، والعتاة المردة من أهل بيتك؟

فأجابته عليهاالسلام باستعلاء: أولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلي مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة.

فغضب الطاغية وهمّ أن يضربها بقضيب كان في يده، فقال له عمرو بن حريث: مهلاً أيها الأمير إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ في شيء من منطقها. فقال اللعين متشفياً: لقد شفي الله نفسي من طاغيتك.

********

(1) مثير الأحزان: 90.

ص: 75

فردّت عبرتها وقالت عليهاالسلام: لعمري لقد قتلت كهلي، واستأصلت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

فقال: هذه سجاعة، ولقد كان أبوها سجاعاً شاعراً.

فقالت عليهاالسلام: ما لي وللسجاعة إن لي عنها لشغلاً.

فردّ عنها بصره متأملاً في وجوه أسري آل محمد فرأي زين العابدين علي بن الحسين وكان يظنه مقتولاً. فسأله: ما اسمك؟

فقال عليه السلام: أنا علي بن الحسين.

فقال العين: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت الإمام.

فقال الطاغية: مالك لا تتكلم؟

فقال الإمام: كان لي أخ يقال له علياً فقتله الناس.

قال ابن زياد: بل الله قتله. فأمسك الإمام، فاستحثه الطاغية علي الجواب. فقال عليه السلام: اَللّهُ يَتَوَفَّي الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها (1) ،

********

(1) الزمر: 42.

ص: 76

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ (1) .

فانتهره الطاغية قائلاً: أبك جرأة علي رد جوابي؟ ثم أمر به أن يقتل. فاعتنقته زينب وهي تقول: حسبك يا ابن زياد من دمائنا ثم آلت عليه ليدعنّ ابن أخيها أو ليقتلنها قبله فتأملها الطاغية برهة، ثم انثني يقول لجلاديه: عجباً للرحم، إني لأظنها ودّت أن أقتلها قبله، دعوه ينطلق معها.

وسجل التاريخ لها موقفاً مع أهل الكوفة، وقد أحاطوا بها مطأطئ رؤوسهم يبكون حزناً علي ما أصابهم من القتل والسبي. فقالت عليهاالسلام لهم:

أما بعد.. يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون. إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، ومدار حجتكم ومنار محجتكم، وهو سيد شباب أهل الجنة؟ لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء، أتعجبون لو أمطرت دماً؟ ألا ساء ما سولت

********

(1) آل عمران: 145.

ص: 77

لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون. أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي دم له سفكتم، وأي كريمة أبرزتم؟ لقد جئتم شيئاً إداً، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً(1).

قال من سمعها: فلم أرَ والله خفرة أنطق منها، كأنما تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فلا والله ما أتمت حديثها حتي ضج الناس بالبكاء وذهلوا، وسقط ما في أيديهم من هول تلك المحنة.

ولعقيلة الوحي والنبوة مواقف في الشام مع عدوها وعدو الله ورسوله يزيد. شكرها الله ورسوله صلي الله عليه و اله، وأكبرها أولوا الألباب.

أحدها حين أمر يزيد بإدخال سبايا الوحي عليه، فأدخلوهن مربقات وعنده وجوه دمشق، فغضوا أبصارهم احتراماً واستحياءً، ولكن رجلاً من أعوانه ومقوي سلطانه من أجلاف الناس أمعن النظر في فاطمة بنت الحسين فراقه جمالها، فخافت منه، وروعها إذ التهمها بعينيه، فلاذت بعمتها مذعورة ترتعد، فتسمعه العقيلة يقول ليزيد يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. فتقول عليهاالسلام وهي تحتضن

********

(1) راجع اللهوف: 146.

ص: 78

الفتاة: كذبت والله ولؤمت، ما كان ذلك لك ولا له.

فغضب يزيد وقال: كذبت والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت.

قالت عليهاالسلام: كلا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج عن ملتنا، وتدين بغير ديننا. فاستشاط غضباً وقال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.

فأجابته عليهاالسلام: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت يا يزيد أنت وأبوك وجدك إن كنتم مسلمين.

فقال: كذبت يا عدوة الله. فهزت رأسها استخفافاً وهي تقول عليهاالسلام: أنت أمير تشتم ظالماً، وتقهر بسلطانك. فلم يجب واعتراه والحاضرين كلهم وجوم طويل، فعاد الشامي يلتهم فاطمة بعينيه ويقول يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية، فصاح به يزيد اعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً.

ثم كان المشهد الفظيع إذ كشف يزيد عن رؤوس الشهداء فجعل يعبث بقضيب في يده بثنايا سيد الشهداء، وخامس أصحاب الكساء وهو ينشد:

ص: 79

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل(1)

فبكت النسوة والبنيات من ودائع الرسول، وخفرات البتول، غير عقيلتهن فإنها اهتزت واستعلت علي الطاغية تكفّره وتخزيه بقولها عليهاالسلام:

صدق الله تعالي يا يزيد إذ يقول عز من قائل: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواي أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (2) .

أظننت يا ابن الطلقاء، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق إليك كما تساق الأسري، إن بنا علي الله هواناً، وبك عليه كرامة، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله عز وجل: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما

********

(1) الاحتجاج 307:2.

(2) الروم: 10.

ص: 80

نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (1) أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك بناتك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله كالأسري سبايا قد هتكت ستورهن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلي بلد، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم: ليت أشياخي ببدر شهدوا، منحنياً علي ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، تهتف بأشياخك فلتردن وشيكاً موردهم، وتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت.

إلي أن قالت عليهاالسلام: حسبك الله حاكماً، وبمحمد خصيماً وجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك، ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً.

إلي أن قالت عليهاالسلام: ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبري والصدور حري.

********

(1) آل عمران: 178.

ص: 81

وقالت عليهاالسلام: فكد كيدك، واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولن ترحض عنك عارها وشنارها، وهل رأيك إلا فند؟ وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد؟ والويل لك يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله علي الظالمين(1).

ومواقفها كلها تمثلها صابرة محتسبة، منذ أصيبوا بفقد رسول الله صلي الله عليه و اله إلي غير ذلك من المحن والأرزاء، كوفاة الزهراء عليهاالسلام، وفي العين منها قذي، وفي القلب منها شجي، ووفاة سيد الأوصياء، مضمخاً بالدماء، ووفاة أخيها الحسن مظلوماً مسموماً، يتقيأ كبده نصب عينيها في الطست قطعاً قطعاً، ثم منعهم الظالمون من دفنه مع جده رسول الله صلي الله عليه و اله وهو أحد سبطيه وريحانتيه وسيدي شباب أهل الجنة.

وإليك عني لا تقل حدّث بما لاقي الحسين، فإنه عليه السلام لاقي من المحن والأرزاء ما قد طبق الأرض والسماء، علي وجه لم يشتمل التاريخ البشري علي مثله، في كم من العدد، ولا في كيف من الفظاعة.

********

(1) بحار الأنوار 134:45.

ص: 82

وقد شاركتهم عقيلتهم بطلة كربلاء، في كل هذه الأرزاء رابطة الجأش، صلبة العقود، لم تروعها تلك النوائب، ولم تنل من صبرها تلك الملمات، ولها في السبي مقام كريم لا يسامي، تسنمت به ذري المعالي والشرف، ونالت به من الله كل زلفي، حفظت أيامي الوحي والنبوة، اللواتي استشهد رجالهن، وحرست يتامي آل محمد وقد قتل آباؤهم، وقد استماتت بحماية مريضهم بقية أخيها، الإمام زين العابدين، وقد كاد أن يقتله ابن زياد لولا دفاعها عنه ببذل دمها، وبقتله تنقطع سلالة أخيها سيد الشهداء. وقد ورد عليها من سبيها ما استأنف نشاطها، وشرح صدرها لرعاية تلك الأطفال والنسوة وتعزيتهم، فإذا هي في تلك الشدائد طود من الأطواد.

صلوات الله وسلامه عليها، وعلي جدها وأبيها، وعلي أمها وأخويها، وعلي الأئمة، وسادة الأمة من قومها، الذين نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالتي نزلت في الرخاء.

رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد.

***

ص: 83

ص: 84

زيارة السيدة زينب عليهاالسلام

لم يذكر العلماء لزيارتها نصاً خاصاً، وإنما روي السيد ابن طاووس قدس سره في كتابه (مصباح الزائر) زيارتين يُزار بهما أولاد الأئمة عليهم السلام نقتبس منهما ما يلي:

السَّلامُ عَلَي جَدِّكِ المُصْطَفَي، السَّلامُ عَلَي أبِيْكِ المُرْتَضَي، السَّلامُ عَلَي السَّيِّدَينِ الحَسَنِ وَالحُسَيْن، السَّلامُ عَلَي خَدِيْجَةَ أمِّ المُؤْمِنِين، السَّلامُ عَلَي فَاطِمَةَ أمِّ الأئمَّة الطَّاهِرِينْ، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا السَّيدَة الزَّكِيَّةُ، الطَّاهِرَةُ الوَليَّةُ، وَالدَّاعيَةُ الحَفيَّةُ، أشْهَدُ أنَّكِ قُلْتِ حَقّاً وَنَطَقْتِ صِدْقَاً، وَدَعَوْتِ إلي مَوْلايَ وَمَوْلاكِ عَلانِيّةً وَسِرّاً،

ص: 85

فَازَ متَّبِعُكِ، وَنَجَا مُصَدِّقُكِ، خَابَ وَخَسِرَ مُكذِّبُكِ، وَالمُتَخَلِّفُ عَنْكِ، اشْهَدِي لِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لأكُوْنَ عِنْدَكِ مِنَ الفَائِزِينَ بِمَعْرِفَتِكُمْ وَطَاعَتِكُمْ، وَتَصْدِيقِكُمْ وَاتِّبَاعِكُمْ، والسَّلامُ عَلَيْكِ يَا سَيِّدَتي وَابْنَةَ سَيِّدِي، هَا أَنَا أَسْتَوْدِعُكِ دِيْنِي وَأمَانِي وَخَوَاتِيمَ عَمَلِي وَجَوَامِعَ أمَلِي إلي مُنْتَهَي أجَلِي، وَالسَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

ص: 86

ومن الأفضل أن تُزار السيدة زينب عليهاالسلام أيضاً بما يلي(1):

السَّلامُ عَلي آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، السَّلامُ عَلي نُوحٍ نَبِيّ اللهِ، السَّلامُ عَلي إِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ، السَّلامُ عَلي مُوسي كَليمِ اللهِ، السَّلامُ عَلي عيسي رُوحِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا خَيْرَ خَلْقِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا صَفِيَّ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدُ بْنَ عَبْدِ اللهِ خاتَمَ النَّبِيّينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا أميرَ الْمُؤْمِنينَ عَلِيَّ بْنَ أبي طالِب وَصِيَّ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ سَيِّدَةَ نِساءِ

********

(1) وهو النص الذي أورده المرحوم المحدث القمي في كتابه المعروف (مفاتيح الجنان) عن المرحوم العلامة المجلسي (ره) عن بعض كتب الزيارات، لزيارة السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم عليه السلام، وقد أوردها المرحوم فخر المحققين جمال الدين (الخوانساري) في كتابه (المزار) لزيارة السيد عبد العظيم الحسني (ره) كما في أواخر كتاب مفاتيح الجنان.

ص: 87

الْعالَمينَ، السَّلامُ عَلَيْكُما يا سِبْطَي نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَسَيِّدَيْ شَبابِ أهْلِ الْجَّنَةِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا عَليُّ بْنَ الْحُسَيْنِ سَيِّدَ الْعابِدينَ وَقُرَّةَ عَيْنِ النّاظِرينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدُ بْنَ عَلِيٍّ باقِرَ الْعِلْمِ بَعْدَ النَّبِيِّ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا جَعْفَرُ بْنَ مُحَمَّد الصّادِقَ الْبارَّ الأَْمينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُوسَي بْنَ جَعْفَر الطّاهِرَ الطُّهْرَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيُّ بْنَ مُوسَي الرِّضا الْمُرْتَضي، السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدُ بْنَ عَلِيٍّ التَّقِيَّ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيُّ بْنَ مُحَمَّد النَّقِيَّ النّاصِحَ الأمينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا حَسَنُ بْنَ عَلِيٍّ، السَّلامُ عَلَي الْوَصيِّ مِنْ بَعْدِهِ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلي نُورِكَ وَسِراجِكَ وَوَلِيِّ وَلِيِّكَ وَوَصِيِّ وَصِيِّكَ، وَحُجَّتِكَ عَلي خَلْقِكَ.

ص: 88

السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ و خَديجَةَ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ أميرِ الْمُؤْمِنينَ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا أختَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ وَلِيِّ اللهِ السَّلامُ عَلَيْكِ يا أخْتَ وَلِيِّ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا عَمَّةَ وَلِيِّ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ عليّ بنِ أبي طالب وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.

السَّلامُ عَلَيْكِ، عَرَّفَ اللهُ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَحَشَرَنا في زُمْرَتِكُمْ وَأوْرَدَنا حَوْضَ نَبِيِّكُمْ، وَسَقانا بِكَأسِ جَدِّكُمْ مِنْ يَدِ عَلِيِّ اْبنِ أبي طالِب صَلَواتُ اللهِ عَلَيْكُمْ أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُرِيَنا فيكُمُ السُّرُورَ وَالْفَرَجَ، وَأَنْ يَجْمَعَنا وِإِيّاكُمْ في زُمْرَةِ جَدِّكُمْ مُحَمَّد صَلَّي اللهُ

ص: 89

عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَنْ لا يَسْلُبَنا مَعْرِفَتَكُمْ إِنَّهُ وَلِيٌّ قَديرٌ، أَتَقَرَّبُ إِلَي اللهِ بِحُبِّكُمْ وَالْبَراءةِ مِنْ أعْدائِكُمْ، وَالتَّسْليمِ إِلَي اللهِ راضِياً بِهِ غَيْرَ مُنْكِرٍ وَلا مُسْتَكْبِرٍ وَعَلي يَقين ما أتي بِهِ مُحَمَّدٌ وَبِهِ راض، نَطْلُبُ بِذلِكَ وَجْهَكَ يا سَيِّدي، اللّهُمَّ وَرِضاكَ وَالدّارَ الآخِرَةَ. يا زينب اشْفَعي لي في الْجَنَّةِ فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللهِ شَأناً مِنَ الشَّأنِ، اللّهُمَّ إِنّي أَسْاَلُكَ أَنْ تَخْتِمَ لي بِالسَّعادَةِ فَلا تَسْلُبْ مِنّي ما أنَا فيهِ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ الْعَلِيِ الْعَظيمِ، اللّهُمَّ اسْتَجِبْ لَنا وَتَقَبَّلْهُ بِكَرَمِكَ وَعِزَّتِكَ وَبِرَحْمَتِكَ وَعافِيَتِكَ، وَصَلَّي اللهُ عَلي مُحَمَّد وَآلِهِ أجْمَعينَ وَسَلَّمَ تَسْليماً يا أرْحَمَ الرّاحِمينَ.

ص: 90

الفهرس

تقديم 5

السيدة زينب عليهاالسلام في تاريخ الإسلام

(11-52)

السيدة زينب عليهاالسلام في المدينة 13

تمهيد 13

أبوها الإمام علي عليه السلام 13

أمّها فاطمة الزهراء عليهاالسلام 15

ولادة السيدة زينب عليهاالسلام 16

زينب عليهاالسلام تروي خبر خطبة أمّها الزهراء عليهاالسلام 19

الخطبة الأولي 19

ص: 91

زينب عليهاالسلام والخطبة الثانية لأمها 21

السيدة زينب بعد وفاة أمّها الزهراء عليهماالسلام 24

زواج السيدة زينب عليهاالسلام 25

عبد الله بن جعفر مع علي والحسن عليهم السلام 26

عبد الله بن جعفر مع الإمام الحسين عليه السلام 27

السيدة زينب عليهاالسلام في كربلاء 29

بطلة كربلاء ليلة عاشوراء 29

زينب عليهاالسلام في يوم عاشوراء 31

زينب والعيال إلي الكوفة 32

خطبتها عليهاالسلام في الكوفة 33

السيدة زينب عليهاالسلام في الشام 39

زينب عليهاالسلام في مجلس يزيد بالشام 39

خطبتها عليهاالسلام في مجلس يزيد 41

السيدة زينب عليهاالسلام بعد فاجعة كربلاء 47

مراقد الزينبات بنات علي عليهماالسلام 49

ص: 92

عقيلة الوحي

(53-84)

مقدمة 55

من نصوص الثقلين 59

مشاهدهم 64

مشهد العقيلة 65

تعلق المؤمنين به 66

بشائر الذكر الحكيم بهم 67

عقيلة الوحي 69

* **

زيارة السيدة زينب عليهاالسلام 85

الفهرس 91

ص: 93

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.